منهم في حولي صار بينهما بالتسوية.
ولو قال: على أن لي (أن) أحرم من شئت منهم، فهو كما قال، وله أن يحرم من شاء منهم. ولو حرم الكل لا يعمل تحريمه قياساً (حصته) لكلمة (من) . وفي الاستحسان: يعمل كما مر. وقيل: هو قياس قول أبي يوسف ومحمد كما ذكرنا من مسألة «الجامع» ، وإذا عمل تحريم الكل استحساناً كان الغلة للفقراء؛ لأن قوله: صدقة موقوفة يقتضي أن يكون للفقراء. ولو قال: حرمتهم سنة يكون تلك السنة للفقراء، ثم بعدها يكون لهم.
ولو قال: حرمت فلاناً أو فلاناً فالبيان إليه، وإذا مات لا يكون البيان إلى الورثة. قال هلال: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به إذا أوصى بثلث ماله لفلان أو فلان ومات الموصي كان البيان للورثة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: مسألة الوصية على الخلاف: روي عن أبي حنيفة أن الوصية باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وعن أبي يوسف أن الوصية لهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وبهذا الطريق قلنا: إن من أعتق أحد عبديه ومات قبل البيان شاع العتق فيهما. وعند محمد: الوصية صحيحة، والبيان للورثة. وفرق محمد بين الوصية وبين الوقف. والفرق: أن الوقف يزول عن ملك الواقف بنفس الايقاف، فحين مات لم يكن الوقف على ملكه ليخلفه وارثه في الملك، ثم ثبت له البيان بناء عليه.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على زيد وعمرو ما عاشا، ومن بعدهما على المساكين على أن يبدأ بزيد، فيعطى من غلته في كل سنة ألف درهم، ويعطى عمرو قوته لسنة، فهو جائز على ما قال، فإن فضل بعد ذلك من الغلة شيء كان بينهما، وإن لم تكن غلته لسنة إلا ألف درهم يعطي ذلك زيداً، إذا كان أقل من ألف، فذلك كلها لزيد، فإن مات زيد ثم جاءت غلة سنة يعطى عمرو قوته لسنة، فإن كان الغلة ثلاثة آلاف درهم، وقوت عمرو لسنة ألف درهم وقع إليه ألف درهم، ويكون له تمام نصف الغلة، وذلك خمسمائة (والباقي) للمساكين، فإن لم يمت زيد، ومات عمرو أعطي زيدٌ ألف درهم الذي سمي له وتمام نصف الغلة، ويكون الباقي للمساكين.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد وخالد وعمرو، يبدأ بزيد فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش، ثم لعمرو فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش ينفد ذلك على ما ذكر من تقديم بعضهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للفقراء والله أعلم.
الفصل الخامس: الإقرار بالوقف
رجل في يده أرض، أقر في صحته أنها صدقة موقوفة، ولم يزد على ذلك جاز إقراره وهو وقف. ويجب أن يعلم بأن قول من الأرض في يده: هذه الأرض وقف إقرار بالوقف، وليس بابتداء وقف، حتى لا يشترط له شرائط الوقف، وهذا لأن قوله: أرضي(6/129)
هذه دعوى الأرض (6ب3) لنفسه وإنه من تصرف الملاك، واليد عند تصرف الملك دليل الملك، وإذا ثبت الملك له، كان قوله صدقة موقوفة ابتداء وقف، ولا كذلك هذا الأرض، ألا ترى أن من قال لعبد في يده: عبدي حر، كان ابتداء إعتاق؟ ولو قال: هذا العبد حر، كان إقراراً بالعتق، كذا ههنا، قال هلال البصري في «وقفه» : ولا يجعل المقر هو الواقف لها وغيره، وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن قوله: هذه الأرض صدقة موقوفة يتعرض لأصل الوقف، أما لا يتعرض للواقف، وكما يجوز أن يكون هو الواقف يجوز أن يكون الواقف غيره، فحكمنا بأصل الوقف؛ لأنه لا احتمال فيه ولم نحكم بكونه واقفاً، ولا يكون غيره واقفاً لمكان الاحتمال، قال هلال: إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر فيجعل المقر هو الواقف، وهو كرجل في يديه عبد، أقر أنه حر وشهد الشهود أن العبد كان له حين أقر بهذا الإقرار جعلت الولاية له، وإن لم يشهدوا بذلك جعلنا العبد حراً باقراره، ولم أحكم له في الولاء بشيء.
ذكر الخصاف الأنصاري في «وقفه» : إذا قال: هذه الأرض التي في يدي صدقة موقوفة ويجعل كأنه هو الذي وقفها، ألا ترى أنه لو قال لعبد في يديه: إنه حر كان ولاؤه للمقر وجنايته على عاقلته؟ قال الشيخ الإمام أبو العباس: فعلى قياس هذا: إذا شهد الشهود أن الأرض في يديه هي وقف على الفقراء، ولم يذكروا من وقفها ينبغي أن يحكم أنها وقف من الذي هي في يديه وأنه هو الواقف.
قال بعض مشايخنا: قول هلال إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر، فيجعل المقر هو الواقف مشكل، وهذا لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد خصومة صحيحة، وعلى من يصح الخصومة هذا حتى يشهد الشهود أنها كانت في ملك يوم المقر.
والجواب: يحتمل أن الخصومة وقعت بعد وفاته بأن كانت قرابته فقراء، فيقيمون البينة حتى يثبت أنه هو الواقف، فيكون صرف الغلة إليهم أولى، أو يحتمل أن في حال حياته تغلب عليها غيره، وزعم أنه هو الواقف، فيحتاج المقر إلى أن يقيم البينة أنه هو الواقف حتى ينزعها من يده والولاية له استحساناً، حتى يقسم الغلة بين الفقراء، ولكن ليس له أن يوصي إلى غيره، وهذا لأن يد المقر على الأرض حجة ظاهراً، إن كان يده هو الواقف كان يده بحصته، وإن كان الواقف غيره فكذلك لأنا نجعل كأن ذلك العين ولاه أمرها، فإن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد، واذا كانت يده محقة من حيث الظاهر، لا يجوز إبطالها عليه الحجة.
رجل في يده أرض أقر أنها صدقة موقوفة من قبل فلان فهذا على وجهين: إما يكون الاضافة إلى غيره بحرف من أو بحرف عن، وإما أن يضيفه إلى والده أو إلى رجل أجنبي، وإذا أضافه إلى الأجنبي إما أن يسمي ذلك الرجل بعينه أو لم يسمه بعينه.
فأما إذا أضافه إلى والده فإن أضافه إليه بحرف من بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من والدي، كان هذا إقراراً بالملك لأبيه لأن كلمة من تستعمل في العرف غالباً(6/130)
(للملك) ، فقال: ادن مني فقد قرب الأرض الموقوفة إلى أبيه وتقريب عين من الأعيان إلى إنسان يكون للملك حقيقة؛ لأنه هو المقرب الكامل، فهو معنى قولنا: أقر بالملك لأبيه وأقر بالوقف عليه، فينظر إن كان على الأب دين أو أوصى بوصية وليس له مال آخر، فإنه يباع من الأرض قدر الدين والوصية، فيقضي الدين وينفذ الوصية من الثلث؛ لأن إقرار الوارث في حق الغريم أو الموصى له غير معتبر.
ثم في الباقي ينظر هل للميت وارث سواه أو لم يكن، فإن لم يكن بعد إقرار الباقي من الأرض وقفها على الفقراء؛ لأنه أقر على نفسه بحق الفقراء ظاهراً؛ لأن الملك له في الظاهر، ثم ينظر إن لم يدع الولاية لنفسه، فلا ولاية له، وللقاضي أن يولي آخر من شاء، وإن ادعى الولاية قبل قوله استحساناً حملاً لأمره على الصلاح، وأما إذا كان معه وارث آخر فإن أقر الآخر بجميع ما أقرَّ به هذا الوارث كان الجواب كما قلنا، وإن أنكر الوقف كان نصيب المنكر ملكاً له يتصرف فيه كما شاء ونصيب المقر وقف.
وأما إذا قال: هذه الأرض صدقة موقوفة عن والدي، فإنه يكون هذا إقراراً بالملك في الأرض لوالده ولا (يكون إقراراً) هو الواقف؛ لأن كلمة (عن) استعمل للتبعيد، ويكون معناه: وقفت هذه الأرض بسبب والدي، ولا (أقر) أنه لوالدي كما يقال: فلان تصدق عن والده كذا وفلان أعتق عن والده بكذا، واذا لم يكن هذا إقراراً بالملك لوالده لا يقبل منازعة وارث آخر أياً كان، ولكن صح إقراره أن الأرض وقف على الفقراء؛ لأنه أقر بما في يده أنه حق الفقراء ولا يجعل الواقف هو ولا غيره على ما مر، وكانت الولاية له استحساناً كما ذكرنا قبل هذا.
فأما إذا أضاف الوقف إلى رجل أجنبي، فان ذكر رجلاً معروفاً سماه بعينه وكانت الإضافة بحرف (من) فإن كان ذلك الرجل في الأحياء وكان حاضراً يرجع إليه؛ لأنه أقر بالملك له وشهد عليه بالوقف. فإن صدقه في جميع ذلك (يثبت) بتصادقهما، وإن صدقه في الملك، وكذبه (في الوقفية) يثبت (الملك) بتصادقهما ولم تثبت الوقفية لكون الشاهد واحداً.
وإن كان ميتاً، فالأمر إلى ورثته في التصديق والتكذيب على ما ذكرنا، فإن صدقه البعض في جميع ذلك وكذبه البعض في الوقفية، فنصيب المصدق وقف ونصيب الجاحد ملك له يتصرف فيه كما شاء. وأما الولاية ففي حال تصديق الورثة له استحساناً، فإذا صدقه البعض في الوقفية، وكذبه البعض، فلا ولاية له قياساً. قال هلال: وبالقياس نأخذ في هذه الصورة، وكذلك إذا صدقوه في الوقف وكذبه البعض في الولاية فلا ولاية له قياساً، قال: هلال آخذ فيه بالقياس؛ لأن حال تصديقهم إنما أثبتنا له الولاية لانعدام المنازع وقد وجد المنازع هاهنا فلا ولاية له لهذا. قال: إلا أن يشهد شاهدان بالولاية على الجاحدين، وشهادة الوارثين في ذلك مقبولة؛ لأنه لا تهمه في شهادتهما؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما منفعة ولا يدفعان عن أنفسهما غرامة، وإن كانت الإضافة بحرف (عن) فهذا ليس بإقرار بالملك لفلان على نحو ما بينا.
وأما إذا كانت الإضافة إلى أجنبي لم يسمه بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من(6/131)
فلان أو عن فلان صار وقفاً؛ لأنه أقر بما في يده للفقراء، فيصح كما لو لم يضفه إلى أحد، فإن سمى بعد ذلك رجلاً لم يصدق إذا كان مفصولاً وكانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأنه لو صدق أدى إلى إبطال حق الفقراء بعد ثبوته؛ لأن ذلك الرجل ينكر الوقف ويعتبر إنكاره؛ لأن المقر بالوقف ما أقر له بالملك في هذه الصورة، والولاية له بعد الإقرار الثاني يريد به إذا كانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأن الإقرار الثاني كما لم يعتبر جعل كالسكوت، فلا يصير به ما كان قبله.
ولو أقر (7أ3) بالوقف وسكت عن ذكر الموقوف عليه ثم ذكره بعد ذلك أن الموقوف عليه فلان وفلان فالقياس أن لايقبل قوله الثاني؛ لأن بالكلام الأول صارت الغلة حقاً للفقراء، فلا يصدق في صرفها إلى غيرهم. وفي الاستحسان يقبل؛ لأن العادة جرت بذكر الأوقاف دون الموقو ف عليه إلا عند الاستثناء وعن الموقوف عليه.
ولو أقر أنها صدقة موقوفة على وجه سماها ثم بين بعد ذلك وجهاً آخر لا يقبل قوله الثاني قياساً واستحساناً، ويكون ما بين أولاً لأن في الوجه الأول الحاجة إلى البيان ما بينه، فيقبل قوله في البيان. وفي الوجه الثاني لا حاجة إلى البيان فلا يقبل وهذا أصل كبير في كتاب الإقرار أن البيان إنما يعتبر عند مساس الحاجة إليه.
أرض في يدي رجل قال صاحب اليد: هذه الأرض ولايتها للقاضي فلان وهي صدقة موقوفه لم يصح إقراره؛ لأن كما قال: ولايتها للقاضي فلان هذا أقر باليد وبحق التصرف كذلك للقاضي ثم ادعى الانتقال إليه، فلا يثبت ذلك إلا بحجة، ولكن إن كان الوقف العتق يتلوم القاضي في ذلك زماناً، فإن صح أمرها وإلا جوّز إقراره وألزمه قسمة الغلة على نحو ما أقر، قال هلال: أستحسن ذلك حتى لا يؤدي إلى إبطال الوقوف في العتق، ولو قال: هذه الأرض ولايتها (للقاضي والدي) ثم توفي والدي وأوصى إلي وهي صدقة موقوفه على كذا لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: هذه الأرض كانت في يد والدي أو قال: كانت في يد فلان، فأوصى بها إليَّ وهي صدقة موقوفة لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: كانت في يد فلان وقد أوصى إلي، وكانت في يد فلان آخر قبل ذلك وقد أوصى بها إلى فلان الذي أوصى بها إلي لا يقبل قوله ويؤمر بالتسليم إلى وارث فلان الذي أقر أنها كانت في يده وأوصى إلى ذلك الذي أوصى بها؛ لأنه أقر باليد له ثم شهد بزوال اليد.
قال الخصاف في «وقفه» : لو أن رجلاً قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد بن عبد الله وولده وولد ولده ونسله وعقبه أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فقال زيد: إن الواقف جعل هذه الوقف علي وعلى ولدي وولد ولدي وعلى عمرو، فإنه يصدق على نفسه ولا يصدق على غيره، فينظر إلى الغلة عند قسمتها فيقسم على زيد وعلى من كان موجوداً من ولده وولد ولده ونسله، فما أصاب زيداً منها دخل عمرو معه في ذلك، فيكون حصة زيد بين زيد وبين عمرو أبداً ما كان زيد في الأحياًء، فإذا مات زيد بطل إقراره ولم يكن لعمرو حق في هذه الصدقة.
وكذلك لو كان الواقف وقفها على زيد ومن بعده على المساكين، فأقر زيد لعمرو على نحو ما بينا كان لعمرو أن يشارك زيداً في غلة(6/132)
الوقف ما دام زيد في الأحياء فإذا مات كانت الغلة كلها للمساكين.
وكذلك لو أن زيداً أقر أن الواقف وقف هذه الأرض كلها على عمرو وحده، فهو على ما أقر، فإذا كانت الغلة كلها للمساكين.
وفيه أيضاً: رجل في يديه أرض أو دار ادعاها رجل عند القاضي إنها له، والذي في يديه يقول: هذه الأرض وقف وقفها رجل حر من المسلمين على المساكين، ودفعها إلي، فإن القاضي يجعل الأرض وقفها على ما أقر به، ولكن لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بذلك، حتى أن المدعي لو قال للقاضي: حلفه ما هذه الأرض لي، فإن القاضي يحلفه، فإن نكل عن اليمين أو أقر بها لهذا الرجل، فالقاضي يضمنه قيمة الأرض ولا يبطل ما مضى به من الوقف، فإن كان الذي في يديه الدار قال: هذه الدار وقف، وقفها رجل حر من المسلمين على فلان وفلان وعلى أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وقال هؤلاء الذين أقر المقر أنها وقف عليهم: إن هذه الدار لهذا المدعي، وإنها لم تكن للذي وقفها علينا، قبل قولهم على أنفسهم في غلة الدار، فيكون غلتها للمدعي إن لم يكن لهم أولاد وأولاد أولاد، فإن مات هؤلاء المسمون كانت الغلة للمساكين، فلو أن الذي في يديه الدار بعد ما أقر أنها وقف على فلان وفلان وأولادهم ومن بعدهم على المساكين إن أقر أن الدار للمدعي، ثم إن هؤلاء المسمون حضروا وكذبوا صاحب اليد في إقرار وقف لم يكن بينة على المدعي، كان له أن يستحلف هؤلاء المسمين على دعواهم، فإن أقروا بالدار للمدعي ونكلوا عن اليمين، كان إقرارهم جائزاً على أنفسهم دون أولادهم وأولاد أولادهم والمساكين وكذا لا يجوز على الرقبة.
في «فتاوي الفضل» سئل عمن أقر بوقف صحيح، وأنه أخرجه من يده، ووارثه أخرجه من يده، ووارثه يعلم أنه لم يكن أخرجه من يده قال: إقراره على نفسه جائز والوقف صحيح.
رجل في يديه دار وأقر الذي في يديه الدار أن هذه الدار وقف وقفها رجل من المسلمين في أبواب البر وعلى المساكين ودفعها إليه وولاه القيام بها، ثم جاء رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، وقال: أنا وقفت هذا الوقف على هذه الوجوه والسبل ودفعتها إلى هذا ووليته القيام بأمرها، وأراد أن يقضيها من يدي الذي هي في يديه، ينظر إن كان الذي في يديه صدقه أنه هو الذي وقفها، فله أن يقضيها منه، وإن كان هذا الرجل الذي جاء قال: أنا مالك هذه الأرض وما وقفتها وإنما دفعتها إليه وديعة، وصاحب اليد يقول: إنها كانت له، إلا أنه وقفها على هذه الوجوه التي ذكرتها، فإن القاضي لا يقبل قول صاحب اليد لأن هذه الأرض لهذا المدعي؛ لأنه لو قبل قوله صار ملكاً لهذا الرجل فيبطل الوقف فيها.
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن من مات وترك ابنين وفي يد أحدهما ضيعة يدعي أنه وقف عليه من أبيه والابن الآخر يقول: هي وقف علينا، كان(6/133)
القول قوله، وهي وقف عليهما هو المختار؛ لأنهما تصادقا على أنها كانت في يد أبيهما فلا ينفرد أحدهما باستحقاقها إلا بالحجة.
الفصل السادس: في الولاية في الوقف
ذكر هلال رحمه الله: إذا وقف الرجل أرضه، ولم يشترط الولاية لنفسه ولا لغيره إن الوقف جائز والولاية للواقف، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه. قال هلال: وقد قال قوم: إن الواقف لو شرط الولاية لنفسه كانت الولاية له، وإن لم يشترط فلا ولاية له، قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد؛ لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط صحة الوقف، فإذا سلم لا يبقى له ولاية، وجه هذا القول: أن ولايته كانت بحكم الملك وبالوقف أزال ملكه فتزول ولايته، وجه ما ذكر هلال: أن الواقف أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، ألا ترى أن المعتق أولى الناس بالمعتق؛ لأنه أقرب إليه؟
وفي «فتاوي أبي الليث» إذا وقف أرضاً وسلمها (7ب3) إلي المتولي ثم أراد أن يأخذها منه، فإن كان شرط في الوقف أن له العزل والإخراج من يد المتولي فله ذلك، وإن لم يكن شرط ذلك، فعلى قول أبي يوسف: له ذلك، وعلى قول محمد: ليس له ذلك بناء على ما قلنا.
واذا كان الوقف على الفقراء وشرط الواقف الولاية لنفسه، وكان هو منهما غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده؛ لأن القاضي نصب ناظراً للفقراء لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وبالوقف زال ملكه وثبت الحق فيه للفقراء، فإذا كان متهماً كان للقاضي أن يخرجه نظراً للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظراً للصغار.
وكذلك لو ترك العمارة وفي يده من غلته ما يمكنه أن يعمره فالقاضي يجبره على العمارة، فإن فعل وإلا أخرجه من يده.
ولو شرط الواقف ولايتها لنفسه وأن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهماً دافعاً للضرر عن الفقراء.
ولو جعل الواقف ولاية الوقف لرجل، كانت الولاية له كما شرط الواقف، ولو أراد الواقف إخراجه كان له ذلك، ولو شرط الواقف أن ليس له إخراج القيم فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن القوامة وكالة والوكالة ليست بلازمة، ولو جعل إليه الولاية في حال حياته وبعد وفاته كان جائزاً فكان وكيلاً في حال حياته وصياً بعد الموت، ولو قال: وليتك هذا الوقف فإنما له الولاية حال حياته لا بعد وفاته.H
ولو قال: وكلتك بصدقتي هذه في حياتي وبعد وفاتي فهو جائز، وهو وكيله في حياًته ووصيه بعد وفاته.(6/134)
و (إن) لم يشترط الواقف الولاية لأحد وحضره الموت فقال لرجل: أنت وصيي، ولم يزد على هذا فهو وصي في ماله وولده وفيما كان في يده من الوقوف؛ لأنه أطلق الوصاية ولم يخص، ولو أوصي إليه في الوقف خاصة قال محمد: هو وصي في الوقف خاصة على قولنا وقول أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة: هو وصي في الأشياء كلها، هكذا ذكر هلال، والمشهور أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: هو وصي في الأشياء كلها، وعلى قول محمد: هو وصي فيما خص له، وما ذكر هلال فذاك جواب «النوادر» وهو المذكور في «مختصر الكرخي» ، فأما في «ظاهر الرواية» : فقول أبي يوسف كقول أبي حنيفة، وجه قول محمد: أن الوصي يتصرف بحكم التفويض، فإنما تصرف بقدر ما فوض إليه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن تصرف الوصي ليس بحكم التفويض، ألا ترى أنه لو أوصى إليه ولم يبين مقصوده صح؟ ولو كان تصرفه بحكم التفويض يشترط بيان مقصوده كما في التوكيل، ولكن الموصى به خلافه، وأقامه الموصي مقام الموصى والخلف يعمل الأصل على العموم كالجد لما كان خلفاً عن الأب قائماً مقامه عمل على العموم، وعلى هذا لو أوصى إلى رجل في الوقف، وأوصى إلى آخر في ولده أو أوصى إلى رجل في وقف نفسه وأوصى إلى آخر في وقف آخر بعينه كانا وصيين فيهما جميعاً وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الوصايا.
ولو وقف أرضه وجعل ولايتها إلى رجل، ذكر هلال عن محمد: أن الوصي يشارك القيم في أمر الوقف فكأنه جعل ولاية الوقف إليهما، فالأصل عند محمد هو قول هلال وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: أن الخاص لا يشارك العام فيما وراء ما خص به والعام يشارك الخاص فيما يخصه وهو مقدر فيما وراءه، وعند أبي حنيفة، وأظهر الروايات عن أبي يوسف الوصاية لا تقبل التخصيص، فالعام والخاص فيه سواء.
ولو جعل ولاية الوقف بعد وفاته إلى رجلين أحدهما (قبل) ذلك ولم يقبل الآخر، فينبغي للقاضي أن يجعل مع الذي حل رجلاً يقوم مقام الذي لم يقبل، فإن كان الذي حل موضعاً لذلك عند القاضي ووضع ذلك القاضي إليه فهو جائز.
ولو قال الواقف: ولاية هذا الوقف إلى الأفضل فالأفضل من ولدي وإذا فضل القبول فالقياس: أن يقيم القاضي غير الأفضل مقام الأفضل مادام الأفضل حياً، فإذا مات الأفضل صرف الولاية إلى من يليه في الفضل، وفي الاستحسان: الولاية لمن يليه في الفضل؛ لأن إباء الأفضل بمنزلة موته، ولو ولى القاضي أفضلهم ثم صار في ولده من هو أفضل منه، فالولاية إليه اعتباراً لشرط الواقف، وإذا استوى الاثنان في الصلاح، فالأعلم بأمر الوقف أولى، ولو كان أحدهما أميناً ورعاً وصالحاً، والآخر أعلم بأمر الوقف فالأعلم أولى بعد أن يكون بحال يؤمن خيانته.
ولو جعل الولاية إلى عبد الله حتى يقدم زيد فهو كما قال، فإذا قدم زيد فكلاهما واليان عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يحجر على عبد الله بعد وقد قدم زيد، وعلى قول هلال: تحولت الولاية إلى زيد ولا يبقى عبد الله والياً.(6/135)
وإذا جعل الولاية إلى رجل ومات ذلك الرجل حال حياة الواقف، فالأمر في نصب القيم إلى الواقف يقيم من أحب؛ لأن العين في الصدقة الموقوفة، وإن زال عن ملكه حقيقة فهو باقٍ على ملكه حكماً، ألا ترى أنه جعل متصدقاً شرعاً بكل ما يحدث من الغلة كأنها حدثت على ملكه، وجعل هو متصدقاً لها صدقة جديدة؟ فدل أنها مبقاة على ملكه حكماً فيعتبر بما لو كانت مبقاة على ملكه حقيقة وهناك التدبير في التصرف وفي نصب المتصرف إليه لا إلى القاضي كذا ههنا، هكذا ذكر المسألة في «أصل الوقف» وفي «السير الكبير» وقال محمد رحمه الله: القاضي أولى بنصب قيم آخر، وإن مات القيم بعدما مات الواقف، فإن كان القيم قد أوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته، وإن كان لم يوص إلى غيره فولاية نصب القيم للقاضي، ولا يجعل القيم من الأجانب ما دام يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك لأنه أشفق على الوقف من الأجنبي به، وإن لم يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك، جعل القيم من الأجانب في هذه الصورة ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الوقف، وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم: أنه لا يصرف إليه إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف.
المتولي إذا أراد أن يفوض إلى غيره عند الموت بالوصية يجوز، بمنزلة الوصي عند الموت، وللوصي أن يوصي إلى غيره، وإذا أراد أن يقيم غيره مقام نفسه (في) وصيته وصحته، لا يجوز إلا إذا كان التفويض إليه على سبيل العموم.
الفصل السابع: في تصرف القيم في الأوقاف
وهو أنواع: منه (ما) رجع إلى عمارة الوقف: رجل وقف أرضاً له على المساكين وقفاً صحيحاً ولم يذكر عمارتها في غلة هذه الأرض فهذا القيم أو لا من الغلة بعمارتها وما يصلحها (8أ3) وما فضل من ذلك يقسم على الفقراء، وهذا لأن العمارة وإن لم تكن مشروطة في الوقف نصاً فهي مشروطة اقتضاء، لأن مقصود الواقف إدرار الغلة مؤبداً على المساكين، وهذا المقصود إنما يحصل بإصلاحها وعمارتها، فهي معنى قولنا: إن العمارة مشروطة اقتضاء ثابت بطريق الضرورة والضرورة تندفع بشرط العمارة من غلة هذه الأرض، فلهذا كانت العمارة في غلة هذه الأرض، فإن كان في أرض الوقف نخلة فخاف القيم هلاكها كان له أن يشتري من غلتها فصلاً فيغرسه، لأن النخل بنسله على امتداد الزمان فتهلك فينقطع ثمرها فكان إبقاؤها بالغرس مكانها حتى يبقى خلفاً عن سلف، وهو نظير الدار الموقوفة كرم ما استرم منه بإدخال خشبته ولبن ونحوها حتى لا يخرب، فإن كانت قطعة من هذه الأرض سبخة لا تنبت شيئاً فيحتاج الي كشح وجهها وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيم أن يبدأ من غلة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء.(6/136)
قال: إذا أراد القيم أن يبني فيها قرية ليسكن أهلها وحفاظها ويحرز فيها الغلة لحاجته إلى ذلك كان له أن يفعل ذلك، لأن هذا من جملة مصالح الوقف، وهذا كالخان الموقوف على الفقراء إذا احتيج فيه إلى خادم يكشح الخان ويفتح الباب ويسده، فسلم المتولي إلى رجل بعض البيوت بطريق الأجرة له ليقوم بذلك فهو جائز وطريقه ما قلنا كذا ههنا.
وإن أراد أن يبني فيها بيوتا يصلها بالإجارة فهذه المسألة في الحاصل على وجهين: إن كانت أرض الوقف متصلة ببيوت المصر يرعب في استئجار بيوتها ويكون غلة ذلك فوق غلة الأرض والنخل كان له ذلك، وإن كان أرض الوقف بعيداً عن المصر، ولا يرغب في استئجار بيوتها بأجرة تزيد منفعتها علي منفعة الزراعة فليس له ذلك والوجه في ذلك أن الواقف ما عين جهة الاستغلال نصاً لكن عين الاستغلال بالزراعة فيجب العمل بهذا الظاهر ما لم يوجد جهة أخرى في حق الفقراء؛ لأنا نعلم قطعاً أن غرض الواقف من الوقف إنفاع الفقراء، ففي الوجه الأول وجدنا جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فتركنا هذا الظاهر تحصيلاً لغرض الواقف بأبلغ الوجوه، وقد روي عن محمد ما هو أبعد من هذا، فإنه قال: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضاً أخرى هي أكثر ريعاً كان له أن يبيع هذه الأرض وثم يشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً، فأما في الوجه الثاني لم نجد جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فعملنا فيه بالظاهر، فلم يكن القيم في هذه الصورة مأذوناً بالبناء والاستغلال بالإجارة، فلا يكون له أن يفعل ذلك.
وإذا قال: داري هذه صدقة موقوفة على الفقراء على أن سكناها لفلان ما عاش، فإذا مات فلان سكانها لفلان آخر ما عاش، فإذا مات فلان فعلى الفقراء، فهذا وقف صحيح، وإذا صح الوقف واحتيج إلى العمارة (فالعمارة) على من يستحق الغلة كما في الباب الأول إلا أن في الباب الأول المستحق للغلة الفقراء، وهم قوم كثر لا يمكن مطالبتهم بالعمارة، فقلنا: بأن القيم يبدأ من الغلة بالعمارة، وههنا المستحق للغلة شخص معين يمكن مطالبته بالعمارة وهو الأول ما عاش وبعده الثاني، فلا يحبس شيء من الغلة لأجل العمارة بل تصرف كل الغلة إلى الأوقاف ويطالب بالعمارة، وله أن يعمرها من أي مال شاء، وإنما المستحق العمارة بقدر ما يبقى الوقت على الصفة التي وقفه المالك، ولا يطالب بالزيادة إلا أن يرضى فلان بالزيادة فحينئذ يكون تبرعا بالزيادة وله ذلك.
ولو كانت الغلة مصروفة إلى الفقراء وكان في زيادة العمارة زيادة في الغلة، ورأى القيم أن يزيد في العمارة لتزيد الغلة، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا له ذلك وقاسوه بمسألة هذا أن أرضي أوقفت على الفقراء إذا كانت متصلة ببيوت المصر، فأراد القيم أن يبني فيها بيوتاً يستغلها بأجر فله ذلك وفيه صرف الغلة إلى زيادة العمارة من غير ضرورة، ومنهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن صرف الغلة إلى العمارة ثبت ضرورة في الزيادة فوجب صرف الغلة إلى مصرفها وهو الفقراء، وهذا لأن المستحق على القيم العمارة بقدر ما تبقى(6/137)
الأرض موقوفة أو الدار على الصفة التي وقفها المالك ولا ينقص لأنها بصفتها صارت غلتها مستحقة الصرف إلى الفقراء، فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة للفقراء، فلا يجوز صرف غلة مستحقة إلى جهة غير مستحقة، والدليل عليه أن المتولي لو أراد أن يشتري بالغلة داراً أخرى أو أرضاً أخرى ليضمها إلى الأول، فيستغلها للفقراء ليس له ذلك، فأما بناء البيوت للغلة في أرض الوقف فليس ذلك من باب الزيادة إنما ذلك تبديل جهة الاستغلال إلى جهة خير من الأولى، فأما المستغل واحد والجهتان فيه مختلفان، فكان ذلك بمنزلة أصل العمارة لا بمنزلة الزيادة ولكن الإشكال قائم، فإنه لا ضرورة في صرف الغلة إلى تبديل جهة الاستغلال كما لا ضرورة في الزيادة ههنا.
قال: فإن احتاج الوقف إلى العمارة في مسألتنا فلأن الذي شرط له الغلة ما عاش إما للأول، وأما الثاني إلى العمارة فإنه لا يجبر على العمارة لأن في العمارة إتلاف ماله ولكن لو أجر هذا الوقف من غيره بقدر ما ينفق من غلتها في العمارة، فإذا حصلت العمارة تصرف الغلة إليه وهذا لأنه لابد من العمارة كما مر، ويقدر خبرة هذا الرجل على العمارة، فحصلت العمارة في الغلة كما في باب الفقراء، وهذا الذي ذكرنا أنه لو أجر الدار من ماله وأبى البعض قال: من أراد العمارة عمر بحصته ومن أخر حصته وصرفت غلته إلى العمارة إلى أن يحصل العمارة ثم يعاد إليه، ويعتبر لكل بعض حكم نفسه فإن كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ماعاش بشرطه على فلان مرمتها وإصلاحها فيها كأن لا بدّ لها منه فالوقف جائز مع هذا الشرط لأن هذا الشرط يقتضيه مطلق العقد، وإنما أورد المسألة بهذا الشرط لنوع أشكال أنه لما شرط له السكنى وشرط عليه المرمة كان بمنزلة الإجارة والأجرة مجهولة فينبغي أن يفسد، والجواب أن مع اشتراط المرمة عليه لا يصير إجارة؛ لأن المرمة لا تصير مستحقة عليه بالشرط، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة، فإن خربت الدار الموقوفة ورمها الذي شرط له السكنى من ماله ثم مات فالبناء (8ب3) ميراث لورثته (فيقال لهم) ارفعوا بناءكم، فإن رفعوه ... له أن ملكوه الوقوف عليه بعد ذلك بالقيمة جاز بتراضيهم؛ لأن تمليك مال بمال بالتراضي، وإن أبى أحد الفريقين ذلك لا يجبر عليه؛ لأن الإنسان لا يجبر على البيع والشراء. ونظيره: من غصب ساحة وبنى عليها ثم مات وهناك الجواب كما قلنا فكذا في الوقف، فإن كان المشروط له السكنى أدار حيطان الدار الموقوفة بالآجر وجصصها أو أدخل فيها..... ثم مات ولا يمكن نزع شيء من ذلك إلا بضرر بالبناء، فليس لورثته أخذ شيء من ذلك صيانة لبناء الدار الموقوفة، ولكن يقال للمشروط له السكنى بعده اضمن لورثة الميت قيمة البناء ولك السكنى، فإن أبى أوخرب
الدار فصرفت الغلة إلى ورثة الميت فقدر قيمة البناء، فإذا توفر عليه ذلك أعيدت السكنى إلى من له السكنى.
واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما ذكرنا بمسألة فقال: ألا ترى أن من عمر داراً(6/138)
دخل بغير إذنه لا يخلص مرمتها إلا بضرر بالدار فإنه ليس للذي عمر الدار أن يأخذ مرمتها، ويقال لصاحب الدار: ضمن له قيمة مرمته كذا هنا، إلا أنَّهُ فرّق بين المسألتين أن في مسألتنا من له سكنى الدار إذا رضي أن يأخذ ورثة الميت، أماهم لا يصح رضاهم، وفي تلك المسألة إذا رضي صاحب الدار أن يأخذ الثاني مرمته صح رضاه، وقيل للآجر: خذ مرمتك، والفرق بينهما أن صاحب الدار مالك رقبة الدار، فإذا رضي بلحوق الضرر بملكه عمل رضاه، وفي باب الوقف الموقوف عليهم الفقراء وإنما صار السكنى لهؤلاء باستثناء السكنى بهم من سكنى الفقراء فيكون الضرر برفع البناء عائداً إلى الفقراء فلا يصح رضاه، وإن كان ما رم الأول قبل تجصيص أو تطيين سطوح أو ما أشبهه ثم مات الأول، فليس لورثته أن يرجع بشيء من ذلك على الثاني، لأنها مستهلكة لها، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى داراً وجصصها أو طين سطوحها ثم استحقت الدار لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الجص وإنما يكون له الرجوع على البائع بقيمة ما يمكن أن يهدمه ويسلم إليه.
ومن هذا الجنس
ذكر في «فتاوي أبي الليث» : حانوت موقوف على الفقراء وله قيم بنى رجل في هذا الحانوت بناء بغير إذن القيم ليس له أن يرجع بذلك على القيم، فبعد ذلك ينظر إن كان أمكنة رفع ما بنى من غير (أن) يضر بالبناء القديم فله رفعه، وإن لم يمكنه رفع ما بنى من غير أن يضر بالبناء القديم فليس له رفعه ولكن يتربص أن يتخلص ماله إن لم يرض هو بتملك القيم البناء للوقف، وإن اصطلح مع الوصي على أن يجعل البناء للوقف ببدل يجوز لكن ينظر إلى قيمته مبنياً وإلى قيمته منزوعاً، فأيهما كان أقل لا يجاوز ذلك، قال المشروط له السكنى لا يؤاجر كالموصى له بالسكنى؛ لأنه ملك المنفعة بغير بدل.
وأما المشروط له الغلة والموصى له بالغلة هل له أن يسكن مكان أبو بكر بن سعيد يقول: لا يسكن.
وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن فيه ضرراً بالميت، فربما يظهر على الميت دين، فتصرف هذه الغلة إلى قضائه وبالسكنى يبطل ذلك، وكان أبو بكر الاسكاف يقول: له أنه يسكن، وقال: ما يسقط من البناء فللقيم أن يبيعه لأن الوقفية زالت حكماً بأن فصار منقولاً، وهذا إذا لم يمكن إعادته إلى موضعه. فأما إذا أمكن أعيد إلى موضعه؛ لأنه من رقبة الوقف؛ لأن الثمن بدل ما سقط، وكذلك ما تناثر من البناء من تراب فللقيم بيعه وصرف ثمنه إلى المرمة، ولا يصرف من ثمن ما أسقط إلى الفقراء؛ لأنه بدل البعض والبعض من جملة تربة الوقف ولا حق للفقراء في تربته، وإنما الحق لهم في غلته ولا يصرف شيء من ذلك للفقراء، وإنما يصرف إلى المرمة وما فضل من ذلك عن المرمة يمسكه القيم إلى وقت الحاجة إلى المرمة، وإن كان المشروط له السكنى قبل الفقراء إنما شرطت له غلة سنة، فليس عليه شيء من العمارة؛ لأن العمارة لا تفيد إلا في السنين المستقبلة، فمنفعتها لا تصل إلى صاحب السنة، وكذلك إذا شرط له غلة سنين، فلا شيء عليه من العمارة، وأما المشروط له الغلة في ثلث سنين يؤخذ بالعمارة؛ لأن منفعة العمارة تعود إليه.(6/139)
قال: ويجوز أن يقال في المشروط له غلة سنين إذا حدث صورتين في الوقف يؤمر بعمارة قليلة مقدار ما تبقى الدار الموقوفة إلى السنة الثانية نحو تطيين الحائط الذي أخذ في الخراب قدر ما يمنع السقوط في السنة الثانية ونحو سدر ما والسطوح والحيطان قدر ما يمنع الخراب في السنة الثانية، وإذا خرب أرض الوقف، وأراد القيم أن يبيع بعضاً منها ليرم الباقي بثمن ما باع ليس له ذلك؛ لأنا لو أطلقنا ذلك له أدى إلى أن يبطل الوقف كله، فإنه كلما خرب شيء منها باع بعض الباقي وعمر الباقي إلى أن لا يبقى الوقف، وليس بيع بعض الوقف كبيع بعضه وكبيع نخلة في أرض الوقف قد سقطت؛ لأن التربة أصل في الوقف، ولا يجوز إبطال أحد الأصلين لأجل الأصل الآخر، فأما البناء والنخل منع سبب الاتصال، فإذا سقط سقوطاً لا يمكن إعادته إليه صار منقولاً وزالت الوقفية إلى بدله، فإن باع عن عينه فاحلنا الوقفية إلى بدله.
فإن باع القيم شيئاً من البناء لم ينهدم ليهدم او نخلة حية لتقطع فالبيع باطل؛ لأنه ما دام متصلاً بالأصل فالوقفية ثابته له بحكم الاتصال، فإن هدم المشتري البناء أو حرق النخل ينبغي للقاضي أن يخرج القيم عن هذا الوقف؛ لأنه صار خائناً، ولا ينبغي للقاضي أن يأتمن الخائن بل سبيله أن يعزله ثم القاضي إن شاء ضمن له قيمة ذلك البائع وإن شاء ضمن المشتري؛ لأن كل واحد منهما متعد في استهلاك ما استهلك فيضمن كل واحد منهما، فإن ضمن البائع نفذ بيعه، وإن ضمن المشتري بطل بيعه، وهذا عرف في كتاب الغصب.
نوع منه: يرجع إلى العقود
وإذا وقف داره على الفقراء فالقيم يؤاجرها؛ لأنه استغلال الوقف ولا بد للوقف منه، ويبدأ من غلتها بعمارتها وما فضل يصرف إلى الفقراء، وليس للقيم أن يسكن فيها أحداً بغير أجر؛ لأنه إتلاف منافع الوقف بغير عوض، وإن مات القيم بعد ما أجر لا تبطل الإجارة، وإن كان الواقف هو الذي أجر ثم مات ففيه قياس واستحسان، القياس أن تبطل الإجارة وبه أخذ أبو بكر الإسكاف؛ لأن الواقف بمنزلة المالك ليس لأحد حجره ومنعه، والمالك لو أجره ومات انتقضت الإجارة، وفي الاستحسان لا تنقض الإجارة؛ لأنه أجرها لغيره وهو الفقراء كالوكيل والقيم (9أ3) إذا أخذ ثم مات، وهذا لأن الإجارة إنما تنقض بموت المالك؛ لأن الملك بالموت ينتقل إلى الوارث، فلو لم يبطل حصل استيفاء المنافع على ملك غير الأجر، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى معدوم ههنا بهذا الطريق لم تنتقض الإجارة بموت الوكيل ولم تنتقض بموت الموكل.
وبهذا الطريق قلنا: الوصي إذا أجر دار اليتيم ومات الوصي لا تنقض الإجارة. ولو مات الصبي تنتقض، ولم يذكر القياس والاستحسان في الوكيل بالاستئجار إذا مات؛ لأن الوكيل بالاستئجار حاله كحال الوكيل بشراء العين؛ لأن المنافع لها حكم الأعيان؛ فيصير الموكل كأنه يملك من جهة الوكيل فيكون للوكيل حكم المالك، فأما الوكيل(6/140)
بالإجارة فليس له حكم المالك؛ لأن المنافع إنما تتولد من دار هي للموكل فكان على الوكيل في العقد لا غير، وقد فرغ منه.
في «واقعات الناطفي» القاضي إذا أجر الدار الموقوفة ثم عزل قبل انقضاء المدة لا تبطل الإجارة؛ لأنه بمنزلة الوكيل عن الفقراء. وفيه أيضاً دار موقوفة أجرها الوصي مدة معلومة ثم مات بعض الموقوف عليهم قبل تمام المدة لا تبطل الإجارة، فالإجارة لا تبطل بموت الموقوف عليه؛ لأنه ليس بمالك الرقبة، إنما حقهم في الغلة ثم ما وجب من الغلة إن مات هذا الميت تصرف إلى ورثته، وما وجب بعد موته فهو لمن بقي. وكذا لو مات بعضهم بعد موت الأول ثم، فهو على هذا القياس وسيأتي تمام ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف، ولو احتيج إليها فالوجه في ذلك أن يعقدوا عقوداً مترادفة كل عقد على سنة فيكتب استأجر فلان بن فلان كذا بثلاثين عقدا كل عقد على سنة فيكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز، ويكون العقد الثاني غير لازم لأنه مضاف.
وإن أجر متولي الوقف داراً موقوفة أو أرضاً موقوفة أكثر من سنة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها سنة وكانت إجارتها أكثر من سنة أدر على الوقف وأنفع لا يجوز إجارته أكثر من سنة؛ لأن شرط الواقف مراعى، فإن كان قد شرط أن يؤاجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء فحينئذ تجوز إجارته أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيراً للفقراء، وإن لم يشترط في الوقف أن لا يؤاجر أكثر من سنة، روي عن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول في الدور: لا تؤاجر أكثر من سنة، وهذا لأن المدة إذا طالت أدت إلى إبطال الوقف عسى أنه متى تصرف فيه بتصرف الملاك على طول الزمان، وكل من لقيه يظن أنه متصرف في ملكه، فمتى أنكر المستأجر الوقف وادعى الملك فهؤلاء الذين لقوه يتصرف ويشهدون له بالملك.
وأما في الأرض فإن كانت الأرض تزرع في كل سنة مرة فكذلك، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة أو في كل سنين مرة، فيزرع في كل سنة طائفة منها، فينبغي أن يشترط في المدة ذلك القدر الذي يتمكن به المستأجر من زراعة الكل على العادة؛ لأنه لو آجرها سنة والحالة هذه المستأجر يزرع كل الأرض، فيؤدي إلى تخريب الأرض.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو جعفر البخاري يجيز في الضياع ثلاث سنين؛ لأن مصلحة الوقف في ذلك؛ لأن المستأجر لا يرغب في أقل من ذلك، وكان لا يجيز في غير الضياع أكثر من سنة واحدة، وكان الفقيه أبو الليث يجيز ذلك في ثلاث سنين في الضياع والدار وغيرها.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : المختار أن يفتي في الضياع الجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وهذا أمر يختلف باختلاف الموضع واختلاف الزمان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا ينبغي للمتولي أن يؤاجر أكثر من ثلاث سنين، ولو فعل جازت الإجارة وصحت، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحيلة التي ذكرناها في الإجارة الطويلة.(6/141)
رجل له دار فيها موضع مقدار بيت هو وقف لا يصل إلى الموقوف عليه شيء من غلته، فأراد صاحب الدار أن يستأجره مدة طويلة، فإن (كان) لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم لا يجوز لأنه لو جاز يندرس الوقف، وإن (لم) يكن لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم (فإنه يجوز) .
إذا استأجر أرض وقف ثلاث سنين بأجرة معلومة، هي أجر المثل حتى جازت الإجارة فرخصت أجرتها لا تفسخ الإجارة، وإن ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة على رواية «فتاوى سمرقند» بأن لا يفسخ العقد، وعلى رواية «شرح الطحاوي» يفسخ، ويجدد العقد، وإلى وقت الفسخ يجب المسمى لما مضى، ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها بأن كان فيها زرع لم يستحصد بعد قال: وقت زيادته يجب المسمى بقدره وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر سنة وزيادة الأجر يقيم إذا نهاه عند الكل.
هذه الجملة في مزارعه «شرح الطحاوي» حانوت وقف عمارته لآخر، أبى صاحب الوقف أن يؤجره بأجر مثله فهذا على وجهين، أما إن كانت العمارة لو رفعت يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه كلف رفع العمارة ويؤاجر من غيره، لأن النقصان عن أجر المثل من غير ضرورة لا يجوز، وأما إن كانت العمارة إذا رفعت لا يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه لا يكلف رفع العمارة ويبقى سنة في يده بذلك الأجر؛ لأن فيه ضرورة.
في «فتاوي أبي الليث» في وقف الخصاف: إذا أجر الوقف إجارة طويلة إن كان يخاف على رقبتها التلف بسبب هذه الإجارة، فللحاكم أن يبطلها، وكذلك أجرها من رجل يخاف على رقبتها من المستأجر ينبغي للحاكم أن يبطل الإجارة.
في «فتاوي أهل سمرقند» خان أو رباط سبيل، أراد أن يخرب يؤاجر وينفق عليه فإذا صار معموراً لا يؤاجر؛ لأنه لو لم يؤاجر يندرس فيه.
وفيه أيضاً: قيم على عمارة وقف استأجر أجيراً بدرهم ودانق، وأجر مثله درهم، فاستعمله في عمارة الوقف ونقد الأجرة من مال الوقف يضمن جميع ما نقد لأن الاجارة وقعت له.
متولي الوقف إذا أسكن رجلاً بغير أجر ذكر هلال أنه لا شيء على الساكن، وعامة المتأخرين من المشايخ أن عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن، صيانة للوقف وعليه الفتوى. وكذلك قالوا فيمن سكن دار الوقف بغير أمر القيم وبغير أمر الواقف كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ، وكذا قالوا في أهل الجماعة: إذا رمموا الوقف حتى لم يصح أو سكنه المرممون يجب أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم (9ب3) تكن.
وكذلك قالوا في متولي مسجد باع منزلاً موقوفا على المسجد، فسكنه المشتري ثم عزل القاضي هذا المتولي وولى غيره فادعى هذا الثاني على المشتري المنزل أن البيع(6/142)
باطل وأبطل القاضي البيع وسلم إلى المتولي الثاني، فعلى المشتري أجر مثل هذا المنزل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن.
وإذا أجر القيم الدار بأقل من أجر المثل قدر ما لا يتغابن الناس فيه حتى لم تجز الإجارة لو سكنه المستأجر كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ على ما اختاره المتأخرون من المشايخ، وكذلك إذا أجره إجارة فاسدة، إذا أجر القيم دار الوقف من نفسه لا يجوز، كذا ذكر هلال في «وقفه» ، وكذا (لو) أجره من عبده أو مكاتبه لا يجوز كما لو أجره من نفسه على قياس الوكيل إذا أجر من نفسه؛ لأن كل واحد منهما يتصرف بتفويض من جهة غيره. وقيل: ينبغي أن يكون هذا على قياس الوصي إذا باع مال الصبي من نفسه، إن كان فيه منفعة للوقف يجوز عند أبي حنيفة.
ولو أجر من ابنه أو أبيه، هو على الاختلاف في الوكيل عند أبي حنيفة لا يجوز، وعندها يجوز، ومن مشايخنا من قال هنا: يجوز وقاسه على المضارب إذا أجر من هؤلاء، فإنه يجوز بلا خلاف، وكذلك الوصي؛ لأنهما عاما التصرف بخلاف الوكيل. ومن مشايخنا من قال: لو فرق إنسان بين المضارب والوصي وبين والي الوقف لأبي حنيفة جاز، فإن والي الوقف ليس بعام الولاية، وإن كان وصياً في الوقف، ألا ترى أنه لا يتجاوز أمر الواقف وشرطه؟
إذا أجر القيم الدار الموقوفة بعرض من العروض جاز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بالدارهم والدنانير، وذكر هذه المسألة في الإجارات، وأجاب بالجواز من غير ذكر الاختلاف، والمتأخرون من مشايخنا قالوا: إنما لم يذكر محمد رحمه الله الخلاف؛ لأنه لم يكن في الأجرة تعارف في زمنهم، وذكر هلال الخلاف؛ لأنه كان الأجر تعامل كما في الثمن. قال الفقيه أبو جعفر: وفي زماننا في الأجر تعامل كما في الثمن، وبعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز في الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ما تعارفه الناس أجرة وثمناً في الاجارات والبياعات مثل الحنطة والشعير، فأما العبيد فلا يجوز بالإجماع.
والأب والوصي إذا أجر دار اليتيم بعرض يجوز بلا خلاف؛ لأنهما يملكان شراء العرض له، فأما قيم الوقف فشراؤه العرض على الوقف لا يجوز فكان كالوكيل، ثم إذا جاز إجارة الوقف بالعرض على قول من قال بالجواز فالقيم يبيع العرض الذي هو أجره ويجعل في سبيل الوقف.
إذا أجر القيم الوقف وشرط المرمة على المستأجر بطلت الإجارة؛ لأن المرمة مجهولة إلا أن يسمي دراهم معلومة ويأمره بأن يصرفها في المرمة، وإذا كان الوقف على معينين فأجر القيم الوقف من الموقوف عليهم جاز؛ لأنه لا حق لهم في الرقبة إنما حقهم في الغلة، فصار في حق الرقبة كالأجانب إلا أنه يسقط حصة المستأجر من الأجر؛ لأنه لو أخذ منه استرد ثانياً فلا يفيد الأخذ.
والموقوف عليهم لو أرادوا أن يؤاجروا لا يجوز لما ذكرنا أنه لا حق لهم في الرقبة ولا ملك قال الفقيه أبو جعفر: إذا كان الأجر كله له بأن كان الواقف لا يحتاج إلى(6/143)
العمارة كالحوانيت والدور وليس معه شريك في الوقف حينئذ جازت الإجارة، وأما في الأرض إن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن وما فضل فللموقوف عليهم فليس لهم إجارته؛ لأن فيه إبطال (لشرط) الواقف البداية بالخراج والمؤن.
بيانه: أن إجارة الموقوف عليه إنما تجوز على معنى إجارته ملك نفسه لا على اعتبار إجارته للوقف؛ لأنه ليس بمتول للوقف، وإذا كان جواز إجارته على اعتبار إجارته ملك نفسه لنفسه كان الأجر له ليس فيه خراج ولا شيء فهو على معنى قولنا: إن فيه إبطال شرط الواقف، وأما إذا لم يشترط بداية الخراج والمؤن يجب أن تجوز إجارته ويكون الخراج والمؤنة عليه، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف في أرض الوقف إذا كان الموقوف عليهم اثنين أو ثلاثة فتقاسموا وأخذ كل واحد منهم أرضاً يزرعها بنفسه قال أبو يوسف: إن كانت الأرض عشرية جاز منها ما يأتهم، وإن كانت الأرض خراجية لا يجوز قال: لأن العشر صدقة، وما وقف عليهم كالصدقة عليهم، فصارت الجهة في جميع الغلة واحدة فأشبه سكنى الدار.
إذا كان الموقوف عليهم نفراً فبدالهم أن يقتسموا وأن يسكن كل واحد منهم ناحية منها على سبيل التهايؤ إذ ليس فيه تعين شرط إذ ليس سبيل العشر أن يبدأ كما يبدأ بالخراج والمؤن، وأما في الأرض الخراجية، فإن عادة الواقفين شرطهم بداية الخراج من الغلات، ونحن لو أخرنا التهايؤ لم يكن الخراج في الغلة، بل يكون في ذمة الموقوف عليهم إذ (الحال) صورة التهايؤ، وأن يخص كل واحد منهم بما يخصه، ولما صار بالمنفعة مختصاً كان المالك، فيكون الخراج في ذمته كالمالك، فيكون فيه تعيين شرط الواقف،؛ لأن الواقف شرط أن يكون الخراج في الغلة.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وقد احتال بعض الصكاكين في زماننا في الصكوك في إجارة الوقف لما كان الفتوى على أن إجارة الوقف لا تجوز في السنين الكثيرة فذكروا في الصك أن الواقف وكل فلان بإجارة هذه الضيعة من فلان كل سنة بكذا وهي ما أخرجه من الوكالة فهو وكيل. وأرادوا بذلك بقاء الوقف في يد المستأجر أكثر من سنة. قال الفقيه أبو جعفر: إلا أنا نبطل هذه الوكالة في الوقف، وإن كان القياس تجويزه تحرياً بإصلاح الوقف كما تبطل الإجارة.
وقد اختلف نصير بن يحيى ومحمد بن سلمة في الوكالة بهذه الصفة قال نصير: يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يجوز، قال الفقيه أبو جعفر: إنما اختلفا لاختلافهما في معنى قولهما: مهما عزلتك فأنت وكيلي، قال محمد بن سلمة: معناه كلما عزلتك فأنت وكيلي بالوكالة السابقة، وهذا مخالف للشريعة؛ لأنهما قصدا أن لا يرد على هذه الوكالة العزل، ومن حكم الشرع أن الوكالة يرد عليها العزل. وقال نصير معناه: كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مشايعه، ولو صرح بهذا يصح؛ لأن الوكالة يصح تعليقها بالشروط، فيصح تعليقها بشرط العزل قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبطل هذه الوكالة في الوقف؛ لأنه أصلح للوقف.(6/144)
استأجر أرضاً موقوفة وبنى فيها حانوتاً وسكنها، فأراد غيره أن يزيد في الغلة ويخرجه من الحانوت ينظر إن آجره مشاهرة، فإذا جاء رأس الشهر كان للقيم فسخ الإجارة إذا كانت مشاهرة ينعقد رأس كل شهر، فبعد ذلك ينظر إن كان رفع البناء لا يضر بالوقف رفعه إن شاء؛ لأنه ملكه، وإن كان رفع البناء يضر بالوقف، فبعد ذلك المسئلة على وجهين: إن كان المستأجر يرضى أن يتملك القيم بناء الوقف بقيمته مثبتا أو منزوعاً أيهما كان أقل يملك القيم ذلك، وإن كان لا يرضى (10أ3) لا يتملك؛ لأن تملك ماله بغير رضاه لا يجوز فيبقى إلى أن يتخلص ملكه.
في «فتاوى أبي الليث» في «فتاوى الفضلي» : فقير يسكن وقف الفقراء بأجر فترك له بحساب الفقراء ما وجب عليه من الأجر يجوز، فالرواية محفوظة عن علمائنا أن من له حق في مال بيت المال إذا ترك عليه خراج أرضه لمكان حقه في بيت المال جاز، هكذا قال في «فتاوى أبي الليث» .
قيم وقف أجر دار الوقف فله أن يحتال بالغلة على مديون المستأجر إذا كان مليئاً، واذا كان أخذ كفيلاً فذاك أولى؛ لانه إذا أخذ كفيلاً فكان المطالب بالأجر اثنان.
في آخر إجارات «فتاوى أبي الليث» : إذا باع الأشجار التي في أرض الوقف ثم أجر منه الأرض، فإن باع الأشجار بعروقها دون الأرض يجوز إذا لم تكن الإجارة طويلة؛ لأن الأرض لا تكون مشغولةً بملك الغير فيصح التسليم، وإن باع الأشجار من وجه الأرض لا تجوز إجارة الأرض؛ لأن الأرض مشغولة بملك الغير وهو عروق الأشجار فلا يصح التسليم، وإن كان قد وقع الأشجار منه معاملة سنة أو سنتين أو ما أشبه ذلك، ثم أجر الأرض منه بأجر المثل، فعلى قول أبي حنيفة لا تجوز إجارة الأرض عنده للعاملة غير الجائزة فتبقى الأرض مشغولةً بحق الأجر فلا تجوز الإجارة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المعاملة جائزة فجازت الإجارة والاحتياط: أن يبيع الأشجار بعروقها ثم يؤاجر الأرض ليكون متفقاً عليه.
وإذا أراد أن يستأجر أجراء ليعملوا في أرض الوقف جاز؛ لأن فيه منفعة راجعة إلى الوقف، مزارعة يجوز إذا لم يكن فيه محاباه راجعة إلى الوقف قدر ما لا يتغابن الناس فيها؛ لأنه إن كان البذر من قبل القيم فهو مستأجر العامل ليعمل في الوقف، وإن كان البذر من قبل العامل فقد أجر الأرض منه ببعض الخارج، وكذلك لو دفع ما فيها من النخيل معاملة يجوز، فإن مات القيم قبل انقضاء مدة المزارعة والمعاملة، وإن مات المزارع والمعامل، فإن المزارعة والمعاملة تبطلان.
وإن دفع القيم أرض الوقف مزارعة سنين معلومة فهو جائز، إذا كان ذلك أنفع وأصلح في حق الفقراء جوز المزارعة سنين معلومة من غير التقدير بالثلاث، والمعنى الذي لأجله استحسن المشايخ أن لا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف هو أن لا يؤدي إلى إبطال الوقف، عسى لا يتأتى في المزارعة يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى.
وإذا دفع أرض الوقف مزارعة أو دفع نخيل الوقف معاملة ولا حظّ فيه للواقف لا(6/145)
يجوز على الوقف ويصير غاصباً الأرض، فإن سلمت الأرض من النقصان فلا ضمان، وإن نقصت فالضمان واجب إن شاء على الآخذ ولا شيء للموقوف عليهم من الخارج من الأرض، وأما الثمار فهي للموقوف عليهم؛ لأنها تخرج من النخيل ولا شيء للمدفوع إليه من الثمار، إنما حقه في آخر عمله على الدافع في ماله خاصة ولا يرجع به على أحد ذكره هلال في «وقفه» .
في «فتاوى أهل سمرقند» أرض وقف بدرعم وهي ناحية من نواحي سمرقند، استأجره رجل من حاكم درعم بدراهم معلومة وزرعها، فلما حصلت الغلة طلب المتولي الحصة من الغلة كما جرى العرف بالمزارعة بدرعم على النصف أو على الثلث، فقال الرجل عليَّ الأجر، كان للمتولي أن يأخذ الحصة؛ لأن تولية القاضي لهذا المتولي إن كان قبل تقليد الحاكم ثم دخل ذلك تحت تقليده إن كان بعد تقليده خرج عن ولاية تلك الأرض فلم يصح إجارته، فإذا زرعها وقد جرى العرف بالمزارعة على النصف أو على الثلث صار كأن المتولي دفعها إليه مزارعة على ذلك.
في «فتاوى أبي الليث» : وقف ضيعة له على بنيه، فأراد أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد، وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعه، وإنما ذلك للقيم.
قال: أرض الوقف إذا كانت عشرية دفعها القيم مزارعة ومعاملة فعشر جميع الخارج في نصيب الدافع، وهذا على قول أبي حنيفة، فإن عنده في الإجارة بالدراهم العشر على الأجر كالخراج، وعندها: يجب في الخارج فكذلك في المزارعة؛ لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض، فهو مستأجر للعامل، فالعشر كله عليه، وإن كان البذر من قبل الزارع فالقيم يؤاجر الأرض فكان العشر عليه، وكان ينبغي أن لايجب العشر في أرض الوقف في الحاصل على الفقراء إنما وجب؛ لأن الآخذ مختلف؛ لأن حق أخذ العشر للسلطان، وله فيه حق العمالة، وإنما الوقف، فالقيم هو الذي يتصرف فيه. وهو نظير المال المنذور بالتصدق بها إذا حال الحول عليها يجب الزكاة فيها، فيؤدي صاحب المال الخمسة زكاة ويتصدق بالباقي، وإن كان المصرف في كلا الحقين واحداً.
وإذا كانت الدار موقوفة على قوم أحدهما القيم فمات بعضهم قد ذكرنا قبل هذان الإجارة لا تنتقض بموت الموقوف عليه وذكرنا أيضاً أن ما وجب من الأجر قبل موت من مات منهم، فذلك ميراث لورثته وما وجب بعد موته فهو كله للباقين، فإن عجلت الأجرة واقتسمها الموقوف عليهم ثم مات أحدهم فالقياس أن تنقض القسمة ويكون للذي مات حصته من الأجرة مقدار ما عاش؛ لأن المنفعة التي تحدث بعد موته لا يتظهر ملكه ولكنا نستحسن، ولا ينقض القسمة؛ لأن القسمة قد صحت ووقع الملك لكل واحد منهم في نصيبه، فما حدث من السبب المغير في القسمة لا يقدح في القسمة الماضية كرجل مات وترك ألف درهم وعليه لرجل ألف درهم ولرجل ألفان فاقتسما الألف أثلاثاً ثم إن صاحب الألف أبرأ الميت لا تبطل القسمة كذا هنا.
قال: وكذلك على هذا الشرط(6/146)
تعجيل الأجرة؛ لأن الأجرة كما تملك بالتعجيل تملك باشتراط التعجيل.
قال: إذا أجر الدار الوقف سنة بمائة درهم والموقوف عليهم ثلاثة نفر ثم مات أحدهم بعد مضي ثلث (السنة ثم مات الثاني بعد مضي ثلث) آخر من السنة وبقي الثالث، فإن الثلث الأول من الأجرة بين ورثة الميت الأول وبين ورثة الميت الثاني وبين الباقي أثلاثاً، والثلث الثاني بين ورثة الثاني والباقي نصفان والثلث الثالث كله للباقي، فتخرج المسئلة من ثمانية عشر، قال هلال في «وقفه» : إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيم ما يعمرها، فليس له أن يستدين عليها،؛ لأن الدين لا يجب ابتداء في الذمة وليس للوقف والفقراء.، وإن كان لهم ذمة إلا أن لكثرتهم لا يتصور مطالبتهم فلا يثبت الدين باستدانة القيم إلا عليه لا يملك قضاؤه من غلة هي للفقراء، وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن القياس هذا، لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون (10ب3) في أرض الوقف زرع يأكله الجراد ويحتاج القيم إلى النفقة بجميع الزروع أو طالبه السلطان بالخراج جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورات أن يستدين بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحكم أعم في مصالح المسلمين من ولايته، فيكون أنفى لشبهة عدم ثبوت الدين، ألا (أن) يكون بعيداً من الحاكم ولا يمكنه الحضور، فلا بأس بأن يستدين بنفسه. وهذا إذا لم تكن السنة غلة، فأما إذا كانت يصرف القيم الغلة على المساكين ولم يمسك للخراج شيئاً، فإنه يضمن حصة الخراج؛ لأن قدر الخراج وما يحتاج إليه الوقف من العمارة والمؤنة مستثنى من حق الفقراء، فإذا دفع القيم ذلك ضمن، وهذا الذي روي عن الفقيه أبي جعفر مشكل؛ لأنه جمع بين أكل الجراد الزرع وبين الخراج ويتصور الاستدانة في أكل الجراد الزرع مال الفقراء، وهذا الدين إنما يستدان لحاجتهم فأمكن إيجاب الدين في مالهم، فأما في باب الخراج فلا يتصور؛ لأنه إن كان في الأرض غلة فلا ضرورة إلى الاستدانة؛ لأن الغلة تباع ويؤدى منه الخراج، وإن لم يكن في الأرض
غلة فليس هنا إلا الرقبة، الوقف ليس للفقراء ولا يستقيم إيجاب دين يحتاج إليه الفقراء في مال ليس لهم، فهذا الفصل مشكل من هذا الوجه إلا أن يكون تصوير المسألة فيما إذا كان في الأرض غلة وكان معه متعذراً للحال وقد طولب بالخراج ثم ما روي عن الفقيه أبي جعفر في الخروج يدل على فضل العمارة أن الوقف إذا كان محتاجاً إلى العمارة وصرف القيم الغلة على الفقراء ولم يمسك للعمارة شيئاً ينبغي أن يضمن. وإذا لم يكن للوقف غلة وقد اشتدت حاجة الوقف إلى العمارة وخيف عليه ضرر بين وقد تحقت الضرورة كما في الزرع بأكل الجراد، وكما في الخراج إذا طولب به، قالوا: وليس قيم الوقف في الاستدانة على الوقف كالوصي في الاستدانة على القيم؛ لأن القيم له ذمة صحيحة وهو ملوم فيتصور مطالبته، ألا ترى أن للوصي أن يشتري لليتيم شيئاً نسيئة من غير ضرورة.(6/147)
وفي «فتاوى أبي الليث» قيم وقف طلب منه الجنايات والخراج وليس في يده من مال الوقف شيء، فإن أراد أن يستدين، فهذا على وجهين: إن أمره الواقف بالاستدانة فله ذلك، وإن لم يأمره بالاستدانة فقال: اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: والمختار ما قاله الفقيه أبو الليث إنه إذا لم يكن من الاستدانة بد يرفع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة ثم يرجع في الغلة؛ لأن للقاضي هذه الولاية.
وفي «واقعات الناطفي» المتولي إذا أراد أن يستدين على الوقف ليجعل ذلك في ثمن البذر إن أراد ذلك بأمر القاضي فله ذلك بلا خلاف؛ لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فيملك المتولي ذلك أيضاً بإذن القاضي، وإن أراد ذلك بغير أمر القاضي ففيه روايتان.
متولي الوقف إذا رهن الوقف بدين لا يصح؛ لأن فيه تعطيل منافع الرهن، فإن سكن المرتهن فيه فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ سواء كان معداً للاستغلال أو لم يكن نظراً للوقف. وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم.
في «فتاوي أبي الليث» : أرض موقوفة في يدي أكار وكان فيه قطن فسرق القطن فوجده الأكار في منزل رجل فأخذ صاحب المنزل وخاصمه، فقال صاحب المنزل: ضمنت لك أن أعطيك مائة من القطن أيحل للقيم أن يأخذ ذلك؟ فهذا على ثلاثه أوجه: إما أن يعلم أن صاحب المنزل يعطي خوفاً من هتك الستر، أو أن يعلم أنه سرق ذلك المقدار أو أكثر أو أقر بذلك، أو علم أنه سرق لكن مما يعطي، ففي الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ؛ لأنها رشوة، وفي الوجه الثاني جاز؛ لأنه أخذ بناء عليه، وفي الوجه الثالث لا يجوز إلا مقدار ما يعلم يقيناً أنه سرق؛ لأن الدين لم يكن فإذا وقع الشك فيه لا يثبت.
وفي «فتاوى سمرقنديان» : أكار تناول من مال الوقف فصالحه المتولي على شيء، فهذا على وجهين: أما إن كان الأكار غنياً أو فقيراً، ففي الوجه الأول: لا يجوز الحط من مال الوقف، وفي الوجه الثاني: يجوز إذا لم يكن فيه غبن ظاهر.
وفي «فتاوى أبي الليث» : أرض وقف خاف عليها القيم من سلطان أو وارث أن يغلب عليها، يبيعها ويتصدق بثمنها، وكذا كل قيم خاف شيئاً من ذلك فله أن يبيع ويتصدق بالثمن. قال الصدر الشهيد: والفتوى على أن لا يبيع؛ لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يحتمل البيع.
في «فتاوى أهل سمرقند» : شجرة وقف في دار وقف خربت الدار ليس للمتولي أن يبيع الشجرة ويعمر الدار لكن يكرى الدار ويعمرها ويستعين بالأجر على عمارة الدار لا بالشجرة؛ لأنه إذا باع الشجرة لا تبقى. وإذا أجر الدار نبقى كلها.
في «فتاوي الفضلي» : الأشجار الموقوفة إن كانت مثمرة لم يجز بيعها إلا بعد القلع؛(6/148)
لأنها بمنزلة البناء الموقوف، وبيع بناء الوقف لا يجوز قبل الهدم، ويجوز بعد الهدم، وكذا باب الوقف لا يجوز بيعه إلا بعد الرفع كذا هذا، وإن كانت الأشجار غير مثمرة جاز بيعها قبل القلع؛ لأنها بمنزلة الغلة وقد مر مسألة الشجرة قبل هذا من غير تفصيل.
وفي «فتاوى أبي الليث» : قرية وقف على أرباب مسمين في يدي المتولي، باع المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأنه بمنزلة الغلة، فلو أراد المشتري قطع قوائم الشجرة يمنع؛ لأنها ليست بمبيعة، ولو امتنع المتولي من بيع المشتري عن قطع القوائم كان ذلك حسابه منه.
في «فتاوى أبي الليث» : متولي الوقف إذا اشترى بغلة الوقف ثوباً ودفعه إلى المساكين لا يجوز ولكن يعطي الدراهم؛ لأن المشترى وقع للقيم بقي حق المساكين في الدراهم.
ومما يتصل بهذا الفصل: ما ذكر الخصاف في «وقفه» قال: قلت في رجل وقف وقفاً صحيحاً وجعل ولايتها إلى رجل وجعل إليه القيام بأمرها في حال حياته، وبعد وفاته (جعل) لهذا الرجل من غلة هذا الوقف في كل سنة مالاً معلوماً، لقيامه بأمر هذا الوقف فما الذي يجب على هذا الرجل القيم من العمل؟ قال: ليس ذلك على ما يتعارفه الناس من القيام عمارة الضيعة واستغلال ذلك وبيع غلاته وينفق ما يجتمع من غلاته في الوجوه التي سبلها فيه، أرأيت إن لم يباشر الرجل هذا بنفسه؟ قال: إنما يكلف من هذا ما يجوز أن يفعله مثله، ولا ينبغي أن يقصر في ذلك، وأما ما كان يفعله الوكلاء والأجراء فليس ذلك عليه، ألا ترى أنه لو جعل ذلك إلى امرأة أكان عليها ما يعمله الوكلاء؟ فإن حدث بهذا القيم علة مثل خرس أو عمى أو ذهاب عقل أو الفالج هل يكون هذا الأجر قائماً له؟ قال: إذا دخل علة من ذلك شيء يمكنه مع ذلك الكلام والأمر والنهي والأخذ فالأجر قائم، فإن تعطل عن الحفظ والتدبير قطع عنه الأجر، قلت: فما تقول إن طعن عليه في الأمانة، فرأى الحاكم أن يدخل معه غيره في الوقف أو رأى الحاكم إخراج الوقف من يده وتسليمه إلى غيره، قال: أما الإخراج (11أ3) من يد هذا الرجل، فليس ينبغي أن يكون ذلك إلا لجناية ظاهرة، فإذا صح ذلك أو استحسن إخراج الوقف من يده قطع عنه ما أجرى له الواقف، وإن رأى أن يدخل معه آخر ويكون له بعض هذا المال فلا بأس بذلك، وإن كان هذا المال الذي سمى
قليلاً ضيقاً فرأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخل معه رزقاً من غلة الوقف، فلا بأس بذلك.، فإن كان الواقف جعل له للقيام بأمر هذا الوقف مالاً معلوماً في كل سنة، وكان المال الذي سماه الواقف لهذا الرجل أكثر من أجر مثله على القيام به فهو جائز، ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله، قلت: وإن كان الواقف جعل لهذا الرجل القيم في كل سنة مالاً، وجعل له أن يوكل بالقيام بأمر هذا الوقف في حياته، ويجعل لمن يوكله من هذا المال في كل سنة....... قال: هذا(6/149)
جائز، فإن وكل فيه وكيلاً وجعل في ذلك المال شيئاً فله إخراج الوكيل والاستبدال، فإن وكل القيم وكيلاً في حياته، أو جعله وصيه في ذلك بعد وفاته، وجعل المال الذي جُعِل له أو بعضه، ثم إن القيم الذي كان جعله الواقف جن جنوناً مطبقاً، أو ذهب عقله من أذى أو غير ذلك، قال: تبطل الوكالة التي كان جعلها إليه ويبطل المال وكذلك الوصية تبطل إلى من أوصى إليه ويبطل المال ويرجع ذلك إلى غلة الوقف، فإن جعل القيم في كل سنة مالاً ولم يشترط للقيم أن يجعل هذا المال لغيره، قال: وليس لهذا القيم أن يوصي بهذا المال ولا شيء منه إلى غيره أن يوصي بالقيام بأمر هذا الوقف.
ولو زال عقله سنة وعجز عن القيام به ثم رجع إليه عقله وصح، يعود إلى ما كان من القيام بأمر هذا الوقف، وإن صح عند الحاكم أن هذا القيم لا يصلح للقيام بأمر هذا الوقف فأخرجه وجعل مكانه آخر ثم جاء حاكم فادعى أن الحاكم الذي كان قبل ذلك، إنما أوصى عن القيام بأمر هذا الوقف حتى له القيام بذلك، فإن صح عند هذا الحاكم أنه موضع لذلك رده، وأجرى ذلك المال له من غلة هذا الوقف.
ولو أن القاضي أخرج هذا القيم بوجه من الوجوه وأقام غيره مقامه، فينبغي للقاضي أن يجري لهذا الرجل شيئاً بالمعروف ورد الباقي إلى غلة الوقف، فإن كان الواقف أراد أن يكون هذا المال جارياً لهذا القيم، فإن أخرجه القاضي لم يبطل عنه ذلك المال ينبغي أن يشترط في وقفه أن هذا المال جار لهذا القيم أبداً ولا يقول لقيامه بأمر الوقف، فيكون ذلك كله (له) .
في «فتاوي أبي الليث» : رجل وقف على مواليه وقفاً صحيحاً، ومات الواقف (والوقف) في يد القيم، وجعل له عشر غلاته في الوقف.
طاحونة في يدي رجل بالمقاطعة، لا حاجة لها إلى القيم وأصحاب الطاحونة يقضون عليها لا يجب عشر غلة الطاحونة؛ لأن بمنزلة الأجير، والأجير مستحق الأجر بإزاء العمل فلا عمل له في الطاحونة.
في «مجموع النوازل» : متولي وقف بتقليد القاضي امتنع عن العمل في ذلك بنفسه ولم يرفع الأمر إلى القاضي ليعزله ويقيم غيره مقامه، هل يخرج عن كونه متولياً؟ قال نجم الدين رحمه الله: فإن امتنع عن القاضي ما على المتغلبين زماناً ولم يقبضه هل يأمر بذلك؟ قال نجم الدين: لا، فإن هرب بعض المتغلبين بعدما اجتمع عليه مال كثير من حق القتالة هل يضمن المتولي؟ قال نجم الدين: لا.
الفصل الثامن: في الوقف على نفسه وما يتصل به
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على نفسي قال هلال: لا يجوز؛ لأن الواقف لو شرط لنفسه أن يأكل من غلته على قول أبي يوسف: يجوز، على ما مر، وليس عن محمد(6/150)
رواية ظاهرة في هذه الصورة، واختلف المشايخ على قوله. بعضهم قالوا: لا يجوز عنده؛ لأن عنده الإخراج عن يده والتسليم إلى متولٍ شرط، وإذا كان الوقف على نفسه كان المتولي قابضاً للواقف فكأنه لم يخرج من يده. وبعضهم قالوا على قول محمد يجوز فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف إذا وقف على أمهات أولاده يجوز، والوقف على أمهات الأولاد كالوقف على نفسه. وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يجيز أن يشترط لنفسه الأكل، فيقول: على أن آكل منها ولا يجيز الوقف على نفسه، وكان يقول: الوقف على نفسه خرج مخرج الفساد فبطل، وشرط الأكل لنفسه خرج بعد خروج الوقف على وجه الصحة، فوجه قول أبي يوسف: أن قوله أرضيَّ صدقة موقوفة وقف صحيح تام على الفقراء فبفوات معنى الصدقة في الاستثناء لا يبطل أصل الوقف كما لو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة على فلان، وجه قول هلال: أن الإنسان لا يكون متصدقاً على نفسه كما لا يكون واهباً من نفسه؛ لأن كل واحد منهما تمليك والتمليك من نفسه لا يتصور، فذهب معنى القربة فينبغي الحبس مطلقاً، ومَاْلُه يكون محبوساً عليه قبل الوقف، فلا معنى للاستغلال بالحبس على نفسه بخلاف الغني؛ لأن التمليك منه متصور، وفيه نوع قربة ولكن دون قربة الفقراء؛ فأما هنا فأصل التمليك لا يتصور.
وكان ينبغي على قول هلال أن يلغي ذكر نفسه ويجعل وقفاً على الفقراء كما لو قال: أرضي صدقة موقوفة على الموتى، فإنه يكون وقفاً صحيحاً على الفقراء، ويلغوا ذكر الموتى، والفرق بينهما على قول هلال أن الميت في نفسه ليس من أهل التمليك، فلغت الإضافة إليه، أما نفسه من أهل التمليك في الجملة ولكن تمليكه من نفسه لا يتصور، فمن حيث إنه أهل التمليك في الجملة اعتبرت الإضافة، ومن حيث إن تمليكه من نفسه لا يتصور لا تعتبر الإضافة، عند الوقف.
فإذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على أمهات أولادي، أو قال: على عبيدي فالوقف باطل، وهذا إنما يتأتى على قول هلال؛ لأن الوقف على أمهات أولاد والعبيد كما (لو) وقف على نفسه، ولو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة عليَّ ومن بعدي على فلان كان باطلاً، وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على فلان ثم من بعده عليَّ كان باطلاً على قول هلال، بخلاف ما إذا قال: أرضي صدقة موقوفة عليَّ وعلى فلان حيث يصح نصفه وهو حصة فلان؛ لأن في الفصل الأول أثبت الغلة كلها لفلان في زمان ولنفسه في زمان، وشرط الكل لنفسه في زمان مبطل الوقف، وفي هذه المسألة ما أثبت الغلة كلها لنفسه في زمان بل أثبت الحصة بين نفسه وبين فلان في الغلة في جميع الأزمان.
ولو أفرد الوقف على نفسه لا يصح ولو أفرد على غيره يصح، فإذا جمع بينهما كان بينهما وكان لكل واحد حكم نفسه. وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على نفسي وولدي ونسلي كان الوقف كله باطل؛ لأن حصة النسل مجهولة وهذا على قول هلال أيضاً.(6/151)
الفصل التاسع: في الوقف على ولده وولد ولده ونسله وما يتصل بذاك
إذا وقف الرجل أرضه على ولده ومن بعده على المساكين وقفاً صحيحاً، فإنما يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم وجود الغلة سواء كان موجوداً (11ب3) يوم الوقف أو وجد بعد ذلك وهذا قول هلال. وبه أخذ مشايخ بلخ، وقال يوسف بن خالد السمتي: يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم الوقف، وأراد بهذا الوجود: الخلق، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، قال: لأن الحق إنما يملكه في الوقف يوم الوقف بدلالة أن الواقف لا يقدر على الرجوع منه على قول مجيزي الوقف، ولا يملك إدخال غيرهم عليهم ويعتبر شرط يوم الوقف فصار يوم الوقف كيوم موت الموصي في الوصية. ومن أوصى لولد عبد الله، ننظر إلى ولد عبد الله يوم موت الموصي في الوصية كذلك ههنا.
ووجه قول هلال أن الموقوف عليه لا يملك الرقبة، بل يملك الغلة، والغلة معدومة يوم الوقف والمعدوم لا يملك، وإنما يملك الموجود، فصار في حق الموقوف عليه يوم وجود الغلة كيوم موت الموصي في حق الموصى له وفي حق الواقف رقبة الوقف تزول عن ملكه يوم الوقف فروعي شرطه يوم يزول ملكه.
ولو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي من الولد، فإذا انقرضوا فعلى المساكين، فالجواب عليه كالجواب في الفصل الأول، وهو أنه ينظر إلى ولده يوم وجود الغلة؛ لأن قوله وعلى من يحدث لي من الولد شرط لو لم يذكر لكان معتبراً، فإنه لو حدث له ولد بعد الوقف قبل الغلة يشاركهم، فإذا شرط كان الشرط تأكيداً لمقتضاه لا تغييراً.
(ولو) قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد، فإنه يجوز، فإذا أدركت الغلة قسمت على الفقراء، فإن أحدث له ولد بعد ذلك فلاحظ له من هذه الغلة؛ لأن أوان استحقاق هذه الغلة سبق حدوث هذا الولد، ولكن الغلة التي توجد بعد ذلك تصرف إلى هذا الولد ما بقي، فإذا لم يبق له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة تكون وقفاً على الفقراء، وذكر الولد لاستثناء الغلة من الفقراء فصار كأنه قال: أرضي موقوفة على الفقراء إلا أنه إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي، فإن ولدت امرأته الحرة أو أم الولد الولد بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر يشركهم هذا الولد في هذه الغلة؛ لأنه كان موجوداً وقت مجي الغلة.
وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا لم يشركهم؛ لأن استحقاقهم ثابت ظاهراً، ووجوده في ذلك الوقت مشكوك فيه لجواز أنه حدث من بعد، فلا تثبت مزاحمته بالشك، ولو كان له أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم وجدت الغلة فادعاه يثبت نسبه منه، ويكون ابنه ولا يدخل في هذه الغلة، ويدخل فيما يأتي بعد ذلك من الغلات، ولا يصدق على هذا الرجل على أن يدخل مع أولاده الذين استحقوا هذه الغلة ولد لا يعرف إلا بقوله، فإن مات الواقف ساعة جاءت الغلة فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من الساعة(6/152)
التي جاءت فيها الغلة شرك الأولاد في الغلة؛ لأن المتوفى عنها زوجها إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين وقت الوفاة يثبت النسب على ما عرف في كتاب الطلاق فإن عاش بعد إدراك الغلة من الوقت ما يمكنه الوصول إلى أهله فمات فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من وقت إدراك الغلة لاحق لهذا الولد في هذه الغلة لعلمها بوجوده حين مجيء الغلة، ولو كان الموت قبل مجيء الغلة بيوم أو بيومين ثم جاءت بولد ما بينها و (بين) سنتين من وقت الموت كان لهذا الولد حصته، في هذه الغلة؛ لأن الموت لو كان وقت مجيء الغلة كان للولد حصته فإذا كان قبله أولى؛ لأنه أدلُّ على وجود الولد عند الغلة، وكان النسب ثابتاً فلهذا يستحق.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على ولدي الذين يسكنون البصرة، فالغلة لساكني البصرة من ولده دون غيرهم فيثبت الاستحقاق لولده بصفة أن يكون ساكن البصرة، فتعلق الاستحقاق بالولادة وسكنى البصرة جميعاً، ويعتبر ساكني البصرة يوم وجود الغلة على ما مر من ولده، ولو قال: أرضي صدقه موقوفة على ولدي العور والعميان، فالوقف لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنه علق الاستحقاق بصفة العور وصفة العمى فيتعلق بهما. ويعتبر العور والعميان من ولده يوم الوقف لا يوم الغلة.
وكذلك إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أصاغر ولدي، يعني ولدي الصغار، فالوقف للصغار دون الكبار، ويعتبر الاستحقاق من كان صغيراً وقت الوقف لا وقت الغلة، وأما العور والعميان فلأن العور والعمى وصف لازم لا يزول، وقد ذكره لزيادة التعريف، فجرى مجرى اسم العلم، ولو ذكر باسم العلم بأن قال: أرضي صدقة موقوفة على فلان ولدي اختص فلان بالاستحقاق من جملة أولاده، فلو ولد بعد ذلك له ولد آخر وسماه بذلك الاسم لم يشارك الثاني الأول في الاستحقاق، فكذلك في العور والعمى. وأما الصغر، وإن كان مما يزول بالكبر ولكنه يزول زوالاً لا يعود بخلاف الفقراء وساكني البصرة؛ لأن الفقر يزول عن الإنسان ويعود، فتارة يستغني، فلم يكن الثبوت تاماً ولا الزوال. وكذلك السكنى.
فصار الحاصل أن الاستحقاق إذا كان ثابتاً بصفة لا تزول أو تزول ولكنها لا تعود بعد الزوال، يعتبر في الاستحقاق قيام تلك الصفة وقت مجي الغلة، فعلى هذا الأصل يدور جنس هذه المسائل.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على ولد فلان، وليس لفلان ولد لصلبه وله ولد الولد يريد به ولد الابن كانت لولد الابن. ولو كان لفلان ولد لصلبه وولد الولد فلا شيء لولد الولد. وكذلك هذا في ولد الواقف وولد ولده، وهذا؛ لأن اسم الولد عند الاطلاق يتناول ولد الصلب ولا يتناول ولد الولد؛ لأن المطلق من الأسامي يتناول المطلق من المسميات، وولد الانسان مطلقاً ولد لصلبه؛ لأنه يولد منه بلا واسطة، أما ولد الولد يولد منه بواسطة فكان ولداً مقيداً. والمقيد لا يدخل تحت المطلق إلا لدليل، ففيما إذا لم يكن له ولد لصلبه وجد دليل، وهو صيانة تصرفه؛ لأنه إذا لم يكن له ولد لصلبه لو لم يحمل(6/153)
على ولد الابن يلغوا تصرفه، ومثل هذا الدليل لم يوجد فيما إذا كان له ولد لصلبه.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي انصرف إلى البطن الأول يريد به ولد صلبه ولا يشارك البطن الثاني البطن الأول يريد بالبطن الثاني ولد الابن، فما دام واحد من البطن الأول فالغلة له، وإن لم يبق واحد من ذلك البطن فالغلة للفقراء ولا يصرف إلى البطن الثاني، فإن لم يوجد البطن الأول ووجد البطن الثاني وهو ولد الابن، فالغلة للبطن الثاني ولا يشاركه من دونه من البطون، وجعل الحال في حق ما بين البطن الثاني ومن دونه من البطون كالحال في حق ما بين البطن الأول والثاني ولو عدم البطن الأول والثاني ووجد البطن الثالث والرابع ومن دونه اشترك البطن الثالث ومن دونه من البطون، وإن كثرن البطن (12أ3) الثالث قد فحش بعده كالبطن الرابع والخامس، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى الأب الأعلى بذكر الوسائط، فتقول ولد ولد ولد فلان فتذكر ثلاثة أباء والثلاث جمع صحيح؟ فثلاث إلى النسبة بعيد والبعيد إذا فحش يتعلق الحكم بنفس الانتساب، كما لو أوصى لبني تميم، أو لبني هاشم، أو لأولاد أبي بكر انصرف إلى منتسبهم، ويستوي فيه من بعدت ولادته ومن قربت كذا ههنا، فأما في البطن الثاني فالبعد غير متفاحش، ألا ترى أنك إذا نسبته إلى الأب الأعلى بذكر واسطتين؟ فتقول هذا ولد ولد فلان فلا يتعلق الحكم بنفس الانتساب؟ وكل جواب عرفته في الوقف على ولده فهو الجواب في الوقف على ولد فلان.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي اختص به البطن الأول، و (لو) لم يذكر غيره اختص به البطن الأول، فإذا ذكرهما اختصا به، لو قال: على ولدي وولد ولدي فالقياس أن يختص به البطون الثلاث كما قلنا في البطنين. وفي الاستحسان إن اشترك البطون كلها، وإن سفلوا، لما ذكرنا أن البعد إذا فحش يعتبر مجرد النسبة ويسقط اعتبار الأقرب.
وإذا وقف أرضه على ولده وليس له ولد لصلبه وله ولد الابن صرفت الغلة إلى ولد الابن، فإن وجد له ولد لصلبه بعد ذلك صرفت الغلة المستقبلة إلى الولد لصلبه؛ لأن كل غلة تدرك، فإنما ينظر إلى مستحقها وقت الإدراك، ولا ينظر إلى ما مضى لما مر، فإذا وجد وقت الإدراك من سماه الواقف، صرفت الغلة إليه سواء كان موجوداً يوم الوقف أو حدث بعده. ألا ترى أن من جعل أرضه صدقة موقوفة على ولده وليس له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؟ فإن حدث له بعد ذلك ولد صرفت الغلة المستقبلة إليه كذا ههنا.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله ابنان فصاعداً استحقا جميع الغلة، وإن حصل الإيجاب بلفظ الجمع؛ لأن في المثنى معنى الجمع من وجه يضم الواحد إلى الواحد، ألا ترى أن في باب الوصية أعطى المثنى حكم الجمع؟ وكذا في الوقف نظير الوصية، ولو لم يكن له إلا ابن واحد، كان للابن نصف الثلث والنصف الآخر للفقراء، ألا ترى أن من أوصى بثلث ماله لبني فلان وليس لفلان إلا ابن واحد كان للابن نصف الثلث؟ والثلث الآخر يكون لورثة الموصي وليس اسم الابن كاسم الولد، فإنه إذا وقف(6/154)
على ولده وله ولد واحد كان جميع الغلة له، ولو كان له أولاد قسمت الغلة بينهم؛ لأن الولد بصيغته اسم وجدان وبمعناه اسم جنس؛ لأن معنى الولادة يعم الجنس واحداً كان أو جماعة فيصح صرفه إلى الواحد بصيغته وإلى الجمع بمعناه بخلاف قوله بني؛ لأنه اسم جمع بصيغته وبمعناه حتى لو قال: أرضي صدقة موقوفة على ابني وله ابن واحد كان له جميع الغلة؛ لأن الابن اسم وجدان بصيغته، فإنما أوجب الغلة للواحد.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله بنون وبنات قال هلال: هم جميعاً في الوقف سواء؛ لأن البنين والبنات عند الاجتماع تسمى بنين، وهكذا ذكر الحصاف في «وقفه» ، ورواية عن أبي حنيفة وعن يوسف بن خالد السمتي فيمن أوصى بثلث ماله لبني فلان وله بنون وبنات فالثلث لهم جميعاً وهم فيه سواء، فكذا الوقف. قال هلال: وروى يعقوب عن أبي حنيفة أن ذلك للبنين دون البنات، علل فقال: ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان؟ بعض مشايخنا على أن مسألة روايتان عن أبي حنيفة وبعضهم وفق بين الروايتين، فقال: ما روي أنه يدخل فيه البنين والبنات مجعول على ما إذا كان فلان أب قبيلة، كبني تميم، وما روى أنه لا يدخل فيه البنات، مجعول على ما إذا كانوا بني أب يحصون، وقد أشار في التعليل إلى ما قلنا، حيث قال: لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان، وهذا إنما يستقيم فيما إذا كانوا بني أب يحصون صح ذلك، فإنه يستقيم أن يقال: هذه المرأة من بني تميم، ونحوه. روي عن أبي يوسف في الوصي، فإنه قال: الثلث للبنين دون البنات، إلا في كل أب يحسن أن يقال هذه المرأة من بني فلان مثل فخذ أو قبيلة.
ولو قال: على بني وليس له بنون وله بنات فالغلة للفقراء ولا شيء للبنات؛ لأن اسم البنين لا يتناول البنات المفردات، وكذلك إذا قال: على بنات وله بنون فالغلة للفقراء ولا شيء للبنين، ولو كان الوقف باسم الولد دخل فيه البنون والبنات؛ لأن الولد اسم مشتق من الولادة، وهذا المعنى يوجد في الفريقين.
ولو قال: على ولدي وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل فيه ولد الابن بلا خلاف وقد مر هذا، وهل يدخل فيه ولد البنت؟ ذكر هلال أنه لا يدخل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» .h
وفي شروط «الخصاف» أن ولد البنت يدخل في هذا، الوقف فصار في المسألة روايتان وفي كتاب الحج على أهل المدينة لمحمد بن الحسن رحمه الله في قوله ولد الولد أنه يدخل فيه ولد الابنة عند أصحابنا رحمهم الله، وفي «مسائل علي الرازي» جمعها في الحسابيات: إذا وقف على أولاده وأولادهم دخل فيه ولد الابن وولد الابنة.
وفي «السير الكبير» : إذا استأمنوا على أولادهم دخل فيه ولد الابن، وهذا؛ لأن ولد الولد حقيقة اسم لابن ولده وولده، وابنته ولده، فمن ولديه ابنته، يكون ولد ولده حقيقة بخلاف ما لو استأمنوا على أولادهم؛ لأن أولاد الرجل في الحقيقة من ولدهم هو ومن حيث الحكم من يكون منسوباً إليه بالولادة، وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات.(6/155)
وإذا وقف على نسله دخل فيه ولد الابن وهل يدخل فيه ولد الابنة؟ ذكر هلال أن فيه روايتين عن أصحابنا، وإذا وقف على ولده ونسله وله أولاد الصلب وأولاد الأولاد، وإن بعدت ولادتهم، فأولاد الصلب يدخلون تحت اسم الولد وتحت اسم النسل، وأولاد الأولاد يدخلون تحت اسم النسل، ولواقف على ولده ونسله وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل ولد الولد في الوقف باسم الولد والنسل، فإن حدث له ولد لصلبه دخل في الوقف أيضاً باسم الولد والنسل.
ولو قال: على ولدي المخلوقين ونسلي، دخل الولد الحادث لصلبه في الاستحقاق بلفظ النسل إلى نفسه والولد الحادث من نسله، بخلاف ما إذا قال: على ولدي المخلوقين ونسلهم حيث لا يدخل في الاستحقاق ما حدث له من ولد الصلب؛ لأنه أضاف الاستحقاق في حق أولاده لصلبه إلى المخلوقين، والمعدوم لا يكون مخلوقاً، وفي حق النسل أضاف الاستحقاق إلى النسل المضاف إلى أولاده.
وكذلك إذا قال: على ولدي المخلوقين وعلى أولادهم لا يدخل في الاستحقاق من حدث له (21ب3) ولد لصلبه ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم ونسلهم دخل أولاد المخلوقين فيه وأولادهم أبداً ما تناسلوا، وهذا؛ لأن قوله: أولاد أولادهم، إن كان خاصاً في أولاد الأولاد، فالنسل عام، فيدخل في الاستحقاق أولاد أولاد الأولاد بالنسل، ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم وسكت؛ لم يكن لولد ولده شيء؛ لأنه يثبت الاستحقاق لأولاده القيام ولأولاد أولادهم، فلا يكون لولد الولد شيء.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهم دخل عبد الله في الاستحقاق وزيد وعمرو وأولادهم أبداً ما تناسلوا؛ لأنه نص على الأصول الثلاثة وعلى نسل المضاف إليهم. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسله دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ومن حصل من أولاد عمرو خاصة؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن واحد منهم والكناية تنصرف إلى أقرب المكني ذكراً وأقربهم هنا عمرو.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهما دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ودخل أولاد زيد وعمرو؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن اثنين، فينصرف إلى اثنين وهما عمرو وزيد، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.
ولو قال: على ولد عبد الله وعلى ولد زيد، وليس لزيد ولد كانت الغلة كلها لولد عبد الله، وهو نظير الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله ولولد زيد وليس لزيد ولد كان الثلث كله لولد عبد الله.
ولو قال: على بني فلان ثم من بعدهم على المساكين وليس لفلان إلا ابن واحد، فله نصف الغلة. ولو قال: على ولد فلان ثم من بعدهم على المساكين، وليس لفلان إلا ولد واحد، فالغلة كلها له، وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
ولو قال: على ولدي وولد ولدي الذكور، فإنه يدخل في الاستحقاق بنوه وبنو بنيه(6/156)
وبنو بناته، وهذا على الرواية التي قال: ولد البنت يدخل في هذا الباب، فقد جعل قوله الذكور راجعاً إلى الولد الأول والثاني ذكراً، ولم يجعل راجعاً إلى الولد الآخر ذكراً، وإن كان الولد الآخر ذكراً أقرب إلى لفظ الذكور إذ لو جعل كذلك دخل في الوقف البنون والبنات من صلبه؛ لأن البنين والبنات من ولده، ولم تدخل البنات في هذا الوقف، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من ذكر الذكور تعريف المستحقين، والمستحقون الولد وولد الولد، فيرجع نعت الذكور إليهم، كأنه قال: على ولدي الذكور وعلى الذكور من ولد ولدي. ولو قال: على ولدي وأولاد الذكور من ولد ولدي كان هذا وقفاً على البنين والبنات من بنيه؛ لأن الذكور هنا مضاف إليهم والمضاف إليهم في أولاد أولادهم إلا ما دون المستحقين.
إذا قال في صحته: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على ولدي وولد ولدي وأولاد أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا، فإنه يدخل في هذه الصدقة كل ولد كان له يوم وقف هذا الوقف، وكل ولد يحدث له بعد هذا الوقف قبل حدوث الغلة وولد الولد أبداً، ومن مات منهم قبل حدوث الغلة سقطت حصته، ومن مات بعد ذلك استحق سهمه ويكون ذلك لورثته، والبطن الأعلى والبطن الأسفل في ذلك على السواء، إلا إذا قال في وقفه: على أن يبدأ في ذلك بالبطن الأعلى منهم، ثم بالبطن الذي يلونهم.، فإن قال على هذا الوجه، فمات البطن الأعلى وبقي ولده كانت الغلة كلها لهذا الباقي وحده دون البطن الذي يليه.
المحيط البرهانى
وإن قال: على أن يبدأ بالبطن الأعلى من الذين يلونهم على أن ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فجاءت الغلة والبطن الأعلى ولا أنثى معهم، أو إناث لا ذكور معهن، فذلك كله بينهم على السواء، وهذا بخلاف الوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لولد زيد بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكان لزيد ثلاث بنين، فالثلث بينهم يقسم عليهم، وعلى بنت لو كانت معهم، فما أصاب الابنة من الثلث يرد على ورثه الموصي؛ لأن ما يبطل من بالوصية يعود إلى التركة ويكون ميراثاً والوقف لا يكون كذلك.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي أبداً ما تناسلوا ولم يقل بطناً بعد بطن، لكنه قال: كلما مات أحد كان نصيبه من هذه الغلة لولده، فالحكم قبل موت بعضهم ما ذكرنا أن الغلة تكون لجميع ولده وولد ولده ونسله بينهم بالسوية.
وإن مات بعض ولد الواقف لصلبه وترك ولدا ثم جاءت الغلة، فالغلة تقسم على عدد القوم على الولد وولد الولد، وإن سفلوا، وعلى الذي مات من ولد الصلب، فما أصاب الميت من الغلة كان ذلك لولده ويصير لولد هذا الميت سهمه الذي جعله له الواقف وسهم والده.
وهذا بخلاف الوصية.، فإن قال: أوصيت لفلان بألف درهم، وأوصيت بثلثي لقرابتي وكان الموصى له بألف من قرابته، فإنه ينظر إلى ما يصيبه من الثلث إذا كان من القرابة وما يصيبه من الألف من جملة الثلث، فيعطى الأكثر من ذلك ويعطى من وجه واحد ولا يجمع ذلك له.(6/157)
ولو قال: على ولدي وولد ولدي ونسلهم وأولادهم أبداً ما تناسلوا على أن يبدؤوا في ذلك بالبطن الأعلى ثم بالبطن الذين يلونهم إلى آخره بطناً بعد بطن، فكلما حدث الموت على واحد منهم وترك ولدا كان نصيبه من الغلة لولده وولد ولده ونسله أبداً ما تناسلوا على أن يقدم الأعلى، وكلما حدث الموت على واحد منهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا نسلاً ولا عقباً كان نصيبه من هذه الصدقة مردودة إلى أصل هذه الصدقة، فقسمت الغلة سنين على البطن الأعلى فمات البعض بعد ذلك وترك ولداً وولد ولد، فإن الغلة تقسم على أولاد الواقف من كان موجوداً وقت الوقف، من حدث بعد ذلك، فما أصاب الأحياء من ذلك أخذوه، وما أصاب الموتى كان لولد من مات منهم على ما شرط الواقف من تقديم البطن الأعلى اعتباراً لشرط الواقف.
ولو لم يترك الميت من البطن الأعلى ولداً لصلبه، وإنما ترك ولد ولد، فإن نصيب الميت من الغلة لولد ولده وهو من البطن الثالث، وكذلك إن كان أسفل من الثالث؛ لأن الواقف كذا شرط، وإن كان عدد البطن الأعلى عشرة أنفس، فمات منهم اثنان ولم يتركوا ولدا ولا ولد ولد فتنازعت الأربعة الباقون من البطن الأعلى وولد الابنين الميتين قسمت الغلة يوم يأتي على هؤلاء الأربعة وعلى الميتين الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين لم يتركوا أولاداً هذه المسألة وأجناسها في وقف الخصاف في باب قبل باب الوقف.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة للمساكين على أن يبدأ ولدي لصلبي فيجري غلة هذا الوقف عليهم، ثم بعدهم على أولادهم ونسلهم، فإنه تكون الغلة لولده وولد ولده على ما شرط، ثم على المساكين. وكذلك إذا قال: غلة صدقتي هذه للمساكين لا تخرج عنهم، وقال مع هذا: وعلى أن يجري غلة هذه (31أ3) الصدقة على قرابتي ما بقي منهم أحد، فإن غلة هذه الصدقة تكون لقرابته أبداً، ثم من بعدهم على المساكين.
ولو قال: على أن تكون غلتها لعبد الله بن جعفر ولولد زيد أبداً ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا، فهي على المساكين، فإن الغلة تقسم على عدد ولد زيد وعلى عبد الله، فإن كان ولد زيد خمسة يقسم على ستة أسهم، وعلى هذا القياس جنس هذه المسائل في هذا الباب أيضاً.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على ولدي وولد ولدي ونسلي ثم مات، فإن الوقف على ولده لصلبه لا يجوز؛ لأن الوصية للوارث لا تجوز، وعلى ولد ولده تجوز؛ لأنهم لا يرثونه ولا يكون الكل لهم ما دام ولد الصلب حياً؛ لأنه لم يجعل الكل لهم فيقسم الغلة في كل سنة على عدد رؤوس ولد الصلب وعلى عدد رؤوس ولد الولد، فما أصاب ولد الولد فهو لهم وقف، وما أصاب ولد الصلب، فهو ميراث بين جميع الورثة حتى يشاركهم الزوج والزوجة وغيرهما؛ لأن الميراث لا يختص به بعض الورثة دون البعض، فإن مات بعض ولد الصلب، فالغلة تقسم على عدد رؤوس ولد الولد(6/158)
وعلى الباقي من ولد الصلب، فما أصاب الباقي من ولد الصلب يكون بين جميع ورثة الميت الأحياء والأموات، كل من كان حياً منهم عند موت الواقف لما ذكرنا أن ولد الصلب إنما يستحق ذلك بطريق الإرث، فلا ينصرف ثبوته، بل يكون لكل من كان وارثاً عند موت الواقف، ثم من مات منهم تكون حصته لورثته، فمن كان ولد ولد الصلب للميت يستحق لوجهين ما يصيبه بالقسمة يستحقه بالوقف، وما يصيب أبوه يستحق بالإرث من جهة ابنه
الفصل العاشر: في الوقف على فقراء قرابته
إذا قال: أرضي هذه صدقة على فقراء قرابتي، أو قال: على فقراء ولدي ثم من بعدهم على المساكين، فهذا الوقف صحيح والمستحق للغلة من كان فقيرا يوم مجيء الغلة عند هلال، وبه نأخذ.
ولو قال: على من افتقر من قرابتي، فهذا على من افتقر بعد الغناء، وعند محمد وقال غيره: هذا من كان فقيراً يوم مجيء الغلة سواء كان فقيراً من الأصل أوكان غنياً ثم افتقر كقوله: على من احتاج من قرابتي، فهو على من كان محتاجاً من الأصل أو كان غنياً ثم احتاج، وكقوله: على من يسكن البصرة من قرابتي يعتبر سكناه بالبصرة يوم مجيء الغلة سواء كان ساكناً بالبصرة من الابتداء أو لم يكن ساكناً، وإنما سكن الآن ثم من له المسكن لا غير أو كان له مسكن وخادم، فهو فقير في حق الزكاة والوقف.
وكذلك إذا كان له مع ذلك ثياب كفاف لا فضل فيها، وكذلك إذا كان مع ذلك متاع البيت ما لا غنى عنه؛ لأن هذه الأشياء من جملة ما (لا) بد منه، وإن كان له مائتا درهم أو عشرين مثقال ذهب، فلا حظ له من الوقف؛ لأنه غني، ألا ترى أنه وجب عليه الزكاة، وإن كان له فضل من متاع البيت أو الثياب، وذلك الفضل يساوي مائتي درهم فصاعدا فهو غني لا يحل له الزكاة ولا الوقف، وإن كان له مسكنان أو خادمان والمسكن الفاضل والخادم الفاضل يساوي مائتي درهم فهو غني في حق خدمة الزكاة والوقف، وإن لم يكن غنياً في حق وجوب الزكاة، وهذا مذهب أصحابنا رحمهم الله.
وإن كان له أرض تساوي مائتي درهم وليس تخرج له ما يكفيه قال أبو يوسف: هو غني لا يعطي من الزكاة والوقف، وهو قول هلال، وقال محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل الرازي: هو فقير، وقال الفقيه أبو جعفر: إذا كان لا يخرج من الغلة ما يكفيه لنقصان في الأرض فهو فقير، وإن كان نقصان الغلة بقاء هذه الأرض وقصوره في القيام عليها فهو غني، فإن كان له مال غائب عنه أو كان على الناس ديون وهو لا يقدر على أخذه حل له الزكاة والوقف، وإن كان يقدر على الاستقراض، فالاستقراض له خير من متولي الزكاة والوقف ومع هذا لوصل الزكاة والوقف والحالة هذه لا يكره؛ لأنا جعلنا(6/159)
مال الغائب والدين الذي لا يقدر على أخذه كأن لم يكن له مال، وهو يقدر على الاستقراض فلم يستقرض وأخذ الزكاة والوقف أليس انه لا يكره كذا هنا.
والفقير الكسوب لا بأس أن يأخذ من غلة الوقف، وإن كان لا يحل له الزكاة؛ لأن باب الوقف واسع، ألا ترى أنه لا يجوز أخذ الزكاة لفقراء بني هاشم، ويجوز لهم أخذ غلة الوقف إذا سموا في الوقف، وإن كان له دين على مفلس فهو فقير، وإن كان على مليء وهو مقر به فهو غني، وإن كان منكراً وله نية فكذلك، وإن لم يكن له نية فهو فقير.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي وفيهم رجل فقير يوم مجيء الغلة فاستغنى قبل أن يأخذ حصته فهذه حصته؛ لأن الملك قد وجب له يوم مجيء الغلة. ألا ترى أن من مات بعد مجيء الغلة قبل أخذ نصيبه لا يبطل نصيبه، وإنما لا يبطل لما قلنا، فإن ولدت امراة من قرابته ولداً بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر فلا حصة لهذا الولد في هذه الغلة؛ لأن الاستحقاق بصفة الفقراء مع صفة القرابة، وصفة الفقر غير ثابتة للحمل؛ لأن الفقر هو الحاجة ولا حاجة للحمل إلى شيء، وإنما يثبت له صفة الفقر بالانفصال عن الأم فهو كواحد من قرابته كان غنياً يوم مجيء الغلة ثم افتقر بعد ذلك لا يستحق من هذه الغلة شيئاً كذا ههنا.
ولو قال: على من كان فقيراً من نسل فلان، وليس في نسل فلان إلا فقير واحد، فله جميع الغلة؛ لأن كلمة (من) جهة تصلح كناية عن الجماعة وعن الواحد، قال الله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} (الأنعام: 25) ذكر الاستماع بلفظة الوحدان ثم قال: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (الأنعام: 25) يفقهوه بخلاف ما لو قال: على فقراء بني فلان أو قال: على فقراء آل فلان، وليس فيهم إلا فقير واحد، فله نصف الغلة؛ لأنه نص على صيغة الجمع هنا وأقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في هذا الباب المثنى، فصار موجباً لهذا الواحد نصف الغلة.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف رجل آخر أرضه على مثل ذلك وفي أولاد عمر فقراء فأي الغلتين أدركت فهي لهم، وإن أدركت إحدى الغلتين فأصاب كل واحد منهم تلك مائتا درهم فصاعداً ثم أدركت الغلة الأخرى وعندهم ذلك فلا حقَّ لهم في الأخرى؛ لأن صفة الفقر قد بطلت قبل مجيء الغلة الأخرى، ولو أدركت الغلتان معاً كانتا لهم، وإن كان يصيب كل واحد رجل منهم من كل غلة ما يصير به غنياً؛ لأن صفة الفقر قائمة عند الغلتين وهو نظير ما (لو) أوصى رجلان كل واحد منهما بثلث ماله لفقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوقع على الرجلين بيت وماتا قبلت كل واحد منهما لفقراء ولد عمر، وإن كان كل واحد منهما يغنيهم.
كذلك لو كان الواقف رجلاً واحداً وقد وقف وقفين أرضين في وقتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الوقف من رجلين إخوان الأب والأم وقفا على فقراء قرابتهما، فجاء بفقير واحد من القرابة ينظر إن كانا وقفا أرضاً مشتركاً بينهما (13ب3) يعطى هذا الفقير قوت واحد،؛ لأن هذا وقف واحد.(6/160)
وإن وقف كل واحد أرضاً على حدة يعطى من كل واحد على حدة، والمراد من القوت في جنس هذه المسائل الكفاية، فإن كان الوقف أرضاً يعطى كفاية سنة بلا إسراف ولا تقتير؛ لأن غلة الأرض إنما يحصل بالسنة، وإن كان الوقف حانوتاً يعطى كفاية شهر،؛ لأن غلة الحانوت يحصل كل شهر، وإذا وقف على فقراء قرابته، فجاء رجل يدعي الغلة ويدعي أنه قريب الواقف، وإنه فقير كلف إقامة البينة على القرابة وعلى أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد يلزمه نفقته، والقياس أن لا يكلف إقامة البينة على الفقر؛ لأن الأصل الفقر؛ لأنه خلق عديم المال استحساناً.
وقلنا: يكلف إقامة البينة على ذلك؛ لأن الاستحقاق بالفقر الأصلي بالظاهر واستصحاب الحال، وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق، ثم شرط مع إقامة البينة على الفقر إقامة البينة على أنه ليس له أحد يلزمه نفقته؛ لأنه يعتبر غنياً ببقاء المنفق في حق حكم الوقف، وفيه كلمات كثيرة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن أقام البينة على أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد تلزمه نفقته أدخله القاضي في الوقف، واستحسن هلال أن لا يدخله حتى يسأل عنه في السر، قال مشايخنا: وإنه حسن، وقال أيضاً إن الخامسة على ما قلنا، ويسأل القاضي في السر أيضاً، ووافق خبر السر البينة أنه فقير، وليس له أحد تلزمه نفقته، فالقاضي لا يدخله في الوقف حتى يستحلف بالله مالك مال، وأنك فقير. قال مشايخنا: وإنه حسن أيضاً؛ لأن مال الغير لا يقف عليه غيره في الحقيقة وهو يعلم ذلك، فيستحلف عليه، وكذلك يستحلف على قول هلال بالله مالك أحد تلزمه نفقتك، وإنه حسن أيضاً، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه.
وإن شهد شاهدان على فقره وأخبره عدلان في السر أنه غني، فخبر الغنى أولى؛ لأنه مثبت، ولأن المخبر عن الغني يعلم الآخر قال هلال: والخبر في هذا الباب والشهادة سواء؛ لأن هذا ليس بشهادة على الحقيقة بل هو خبر، وإن شهد الشهود أنا لا نعلم له أحداً تلزمه نفقته يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول بأنه ليس له أحد ينفق عليه كما في الميراث إذا شهدوا أنا لا نعلم له وارثاً غيره يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول أنه ليس له وارث غيره.
وإذا أراد الرجل إثبات قرابة ولده وفقره في الوقف، فله ذلك إن كان صغيراً؛ لأنه له ولاية عليهم، ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، فإن لم يكن لهم أب ولا وصي الأب ولهم أم أوأخ أو عم أو خال، فلهؤلاء إثبات قرابة الصغير في حجره استحسانا؛ لأن هذا محض منفعة في حق الصغير فصار كقبول الهبة، ولهؤلاء قبول الهبة على الصغير في حجره إلا أن بين قبول الهبة وبين إثبات القرابة نوع فرق، فإن غير الأب يقبل الهبة على الصغير، وإن كان الأب حياً، ولا يثبت قرابة الصغير وفقره إذا كان الأب حياً.
والفرق أن الهبة ربما تفوت لو انتظر مجيء الأب بأن يرجع الواهب عما أوجب أو يقوم من يجلسه، فيبطل الهبة لو انتظر حضور الأب، وهنا لو انتظر حضور الأب لا يفوت على الصغير شيء؛ لأن الأب إذا حضر يثبت قرابة الصغير وفقره في الأزمنة الماضية،(6/161)
فيستحق الغلات الماضية، ثم إن كانت الأم أو العم أو الأخ موضعاً لوضع الغلة في أيديهم فما قبض الصغير من الغلة يدفع إليهم ويؤمرون بالإنفاق عليه، وإن لم يكن موضعاً لذلك يوضع في يدي رجل ثقة يؤمر بالنفقة عليه.
في «النوازل» : إذا وقف على فقراء قرابته، فأراد بعض الفقراء من قرابته أن يحلف البعض بأنهم أغنياء إن ادعوا عليهم دعوى صحيحة بأن ادعوا عليهم مالاً يصيرون به أغنياء كان لهم أن يحلفوهم؛ لأنهم ادعوا عليهم معنى لو أقروا بذلك يلزمهم، فإن كان القيم يمثل إليهم، فأراد هؤلاء أن يحلفوا القيم بالله ما يعلم أن هؤلاء أغنياء ليس لهم ذلك؛ لأن القيم لو أقر بذلك لم يلزم أولئك شيء، فإذا أنكروا لا يستحلف.
وإذا ثبت الرجل قرابته وفقره عند قاضى ثم جاء يطلب وقفاً آخر لا يكلف إعادة البينة على الفقر؛ لأنه ثبت فقره في وقف، ومن كان فقيراً في وقف كان فقيراً في كل وقف. وكذلك لو أثبت قرابته من الواقف في وقفه ثم جاء يطلب وقف أخيه لا يكلف إعادة البينة على القرابة إذا كان الثاني أخ الأول لأبيه وأمه؛ لأنه إذا كان أقرب أحد الأبوين كان قرب الأخ الآخر ضرورة. وكذلك لو جاء أخ المقضي له لأبيه وأمه لا يكلف إعادة البينة على القرابة من الواقف؛ لأن ذلك ثابت ضرورة بثبوت قرابة الأول، وكذلك لو أثبت رجل في وقف أنه من بني العباس لا يحتاج إلى إثبات نسبه في وقف آخر وكذلك على هذا سائر القرابات.
ولو أقام رجل بينة عند القاضي أن القاضي الذي كان قبله قضى بقرابته وفقره قبل هذا ثم استحقت الغلة (قبلت) ، وإن طالت المدة في القياس؛ لأن الفقر قد ثبت فنحن على ذلك حتى يحدث غيره استحسنا، وقلنا: إن القاضي يسأله إعادة البينة إذا طالت المدة على أنه فقير، وهذا لأن الإنسان لا يبقى على حالة واحدة زماناً طويلاً هذا هو الظاهر، وإنما يعتبر الفقر في كل سنة عند حدوث الغلة، فمن كان فقيراً قبله استحق تلك الغلة، ومن افتقر بعد ذلك لا يستحق من تلك الغلة إنما يستحق من غلة أخرى.m
فإذا قضى القاضي أنه فقير ثم جاء بعد ذلك بطلت الغلة وهو غني وقال إنما استغنيت بعد حدوث الغلة، وقال شركاؤه: لا، بل استغنى قبل حدوث الغلة، فالقياس أن يكون القول قوله؛ لأنا عرفنا فقره، فكان الغنى في حقه حادثاً فحال به على أقرب الأوقات، وفي الاستحسان: القول قول الشركاء ويجعل المال حكماً على ما مضى على ما عرف في كثير من المسائل.
ولو لم يكن القاضي (قضى) بفقره، فجاء بطلت الغلة ويدعي أنه فقير وقال الشركاء: إنه غني وأرادوا استحلافه فلهم ذلك، ويحلفه القاضي بالله ها هو القوم غني عن الدخول في هذا الوقف مع فقرائهم وعن أخذ شيء من عليه، وإذا شهد الشهود على فقره، وكان ذلك بعد حدوث الغلة لم يدخل في تلك الغلة، وإنما يدخل في الغلة الثانية إلا أن يوقنوا فقره وكان الفقر قبل حدوث الغلة فحينئذ ثبت حقه في تلك الغلة.
ولو أن رجلاً أثبت فقره عند القاضي في وقف، فجاء رجل وعليه دين وأراد حبسه(6/162)
عند القاضي، فقال القاضي: إنك قد قضيت لفقري فلا تحبسني، فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك؛ لأن فقر الوقف دون إعدام الدين، فإن من كان له سكن وخادم وثياب البدن يستحق الوقف، وفي الدين مثل هذا لا يكون معدماً، ولو ثبت إعدامه في الدين، فجاء يطلب الوقف، فالقاضي لا يكلفه البينة على الفقر؛ لأن الإعدام فوق الفقر وثبوت الأعلى يغني عن إثبات الأدنى، وإذا شهد القرابة بعضهم لبعض في الوقف لا يقبل إذا شهد كل فريق لصاحبه؛ لأنهم يثبتون مالاً مشتركاً، وإن كان الشهود (14أ3) أغنياء شهدوا لرجل من قرابتهم بقرابته وفقره ذكر الخصاف في «وقفه» في باب الوقف على فقراء قرابته أنهم إذا لم يجروا إلى أنفسهم منفعة بشهادتهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم بذلك مضرة قبلت شهادتهم في (ذلك) ذكر هو في باب قبل هذا الباب متصل به لو شهد رجلان من صحب قرابتهما لرجل أنه قرابة الواقف وفسروا قرابته أن ذلك جائز، فإن لم يعدل شهادتهما فرد القاضي شهادتهما، فللذي شهدا له بقرابة الواقف أن يدخل معهما فيما يصل إليهما من مال الواقف، ويشاركهما في ذلك.
ذكر هلال في «وقفه» : إذا شهد رجلان أجنبيان بقرابة رجل من الواقف، وشهد قومان بفقره قبلت شهادتهما من غير تفصيل. قال هلال رحمه الله في وقفه: لو أقر رجل من القرابة أنه كان غنياً ثم جاء يطلب الوقف. وقال: أنا فقير، وإنما افتقرت قبل حدوث الغلة لا يقبل قوله، وإن كان فقيراً للحال؛ لأنا قد علمنا غناه ولم نعلم فقره بعد ذلك قبل حدوث الغلة مجرد قوله ولا يجعل الحال حكماً؛ لأن تحكيم الحال عمل بنوع ظاهر، والظاهر لا يستحق به شيء.
وإن شهد الشهود أنه أتلف ماله قبل حدوث الغلة استحق الغلة، وإن قالوا:.... أو أبهم القاضي بالتلجئة لا يعطيه إذا كان لم تلجئه تصل يده إليه. وإذا كانت امرأة فقيرة ولها زوج غني لا تعطى من الوقف؛ لأن نفقتها على زوجها والزوج إذا كان فقيراً يعطى من الوقف، وإن كانت امرأته غنية لا نفقة للزوج على المرأة، فلا يعد غنياً إذا كان أقربه ولد كبير لا زمانة به وهو فقير، ولهذا الولد أولاد صغار فقراء، فإنه لا يعطي أولاد الولد من الوقف؛ لأن أفرض نفقتهم في مال جدهم، وأما أبوهم وهو ولد القريب لصلبه، فله حظ له في الوقف؛ لأنه لا نفقة على ابنه؛ لأنه كبير لا زمانة به. وإذا كان للرجل ابن غني وهو فقير لا يعطى من الوقف؛ لأن نفقته على ابنه.
ثم الأصل في جنس هذه المسائل إن كان من وجبت نفقته على غيره بالإجماع يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف كالوالدين والمولودين، وكل من كان في وجوب نفقته اختلاف لا يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف هذا هو عبارة بعض المشايخ، وعبارة بعضهم أن كل من وجب نفقته في مال إنسان وله أن يأخذ ذلك من غير قضاء ولا رضا ويقضي القاضي بالنفقة في ماله حال غيبته ومنافع الأملاك متصلة(6/163)
بينهما حتى لا يقبل شهادة أحدهما لصاحبه يعد غنياً يعني المنفق في حكم الوقف، وذلك كالوالدين والمولودين والأجداد، وكل من وجب نفقته في مال غيره بفرض القاضي ولا يأخذ النفقة من ماله إلا بقضاء أو رضا، والقاضي لا يقضي بالنفقة في ماله في حال غيبته ومنافع الأملاك متميزة حتى يقبل شهادة أحدهما لصاحبه لا يعد غنياً يعني المنفق في حق حكم الوقف، وذلك كالإخوة وسائر المحارم، على هذا الأصل تدور المسائل.
الفصل الحادي عشر: في الرجل يقف أرضه على قرابته
قسمت الغلة على قرابته على عدد رؤوسهم الصغير والكبير والغني والفقير فيه سواء؛ لأن اسم القرابة يتناولهم على السواء والاستحقاق بهذا الاسم، فإن جاء رجل يدعي أنه من قرابة الواقف، فإن كان الواقف حياً فهو خصمه يثبت عليه قرابته منه؛ لأن الوقف والغلة في يده، فالمدعي يدعي عليه لنفسه حقاً فيما في يده ويمنعه عنه، فينتصب خصماً له، وإن كان الواقف ميتاً فخصمه وصيه الذي الوقف في يده وجعله فيما عليه لما ذكرنا، ولأن القيم قائم مقام الميت بإقامة الميت إياه مقام نفسه، فينتصب خصماً للمدعي كالميت.
وإن كان له وصيان أو أكثر فادعى على أحدهم جاز، ولا يشترط اجتماعهم ولا يكون وارث الميت خصماً للمدعي في ذلك إلا أن يكون متولياً، وكذلك أرباب الوقف لا يكون خصماً للمدعي أما أرباب الوقف؛ لأنه لا ملك لهم إنما لهم مجرد الحق؛ ألا ترى أن المرتهن لا ينتصب خصماً لمن يدعي غير الرهن، وإنما لا ينتصب؛ لأنه لا ملك له في غير الرهن، وأما الوارث فلأنه لا ملك له في عين الوقف ليس في يديه، فإن حضر القيم وجاء بشاهدين شهدا على أنه قريب هذا الواقف، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى شهدا بنسب معلوم، فيشهدا أنه ابنه أو أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه، والجواب في هذا نظير الجواب في فصل الميراث إذا شهد الشهود بوراثة رجل، وكذلك على هذا إذا وقف على نسله، فجاء رجل يدعي أنه من نسل الواقف، فأقام على ذلك بينة لا يقبل شهادتهم ما لم يثبتوا أنه ولده لصلبه أو ولد ابنه أو ولد ابنته أو ما أشبه ذلك، فإن فسروا القرابة، وقالوا: لا نعلم له قريباً آخر سوى هذا القريب، فالقاضي يعطيه الغلة، وإن لم يقولوا ذلك فالقاضي يتأنى ويتلوم زماناً، فإن طال ذلك ولم يظهر له قريب آخر قال: أستحسن أن أعطيه الغلة وآخذ منه كفيلاً، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه كفيل كما في الميراث، فإن قال الشهود: له قرابة غيب، فالقاضي يفرز أنصباءهم، فإن قال الشهود: لا ندري عددهم كم هم ينبغي للقاضي أن يقول لهم: احتاطوا ولا تشهدوا إلا بما تتيقنوا به فتقولوا لا نعلم له قرابة أخرى سوى كذا وكذا، وإن أقام يدعي القرابة شاهدين شهدا أن فلانا القاضي قضى أن هذا قريب الواقف، وإنه من قرابته قال هلال: ينبغي للقاضي أن يسألهما عن تفسير القرابة، فإن فسروا قرابة يستحق بها الوقف(6/164)
أعطاه وإلا فلا يعطيه شيئاً، وإن لم يفسر الشهود وقد ماتوا أو غابوا، فالقاضي يسأل المدعي ويستفسره القرابة، فإن ذكر قرابة لا يستحق بها الغلة لا يعطيه شيئاً، إن ذكر قرابة يستحق بها
يعطيه وليس هذا بقضاء للقاضي الأول؛ لأن القاضي الأول قضى بكونه قريب الواقف فقط، ولا ينقض هذا القضاء، ولكن ليس كل قريب يستحق الوقف حتى لو قضى القاضي له بالغلة أو قضى بأنه موقوف عليه، فإن القاضي الثاني يمضية ويعطيه الغلة.
وإن لم يفسر المدعي القرابة أيضاً أو كان صبياً قال هلال: القاضي يعطيه الغلة ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة وعلى أنه قضى بقرابة يستحق بها، وقاسه على مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» : أن (من) يدعي الميراث إذا أقام بينة عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بأني وارث فلان الميت، ولم يزد الشهود على هذا، فهذا القاضي يجعله وارث الميت ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة كذا هنا، هذا جملة ما أورد هلال في «وقفه» .
وذكر الخصاف في «وقفه» أن شهود المدعي إذا شهدوا أن قاضي بلد كذا قضى أن هذا قريب الواقف أستحسن أن أجيز هذا وأحمله على الصحة ولم يذكر سؤال الشهود ولا سؤال المدعي، قال الفقيه أبو جعفر: وعندي أنه لا يقضي له بالغلة وليس هذا مسألة «الزيادات» ؛ لأن الوراثة متى تثبت يستحق بها الإرث على كل حال، فأما القرابة متى تثبت قد يستحق بها الغلة وقد لا يستحق (14ب3) فلا تكون القرابة نظير الوراثة.
رجل أثبت قرابته عند القاضي وقضى القاضي بها ثم جاء آخر وادعى أنه قريب الواقف، فلم يجد الوصي، فأراد أن يخاصم المقضي له الأول، فإن كان الأول قد أخذ شيئاً من الغلة فهو خصم للثاني، وإن لم يكن أخذ شيئاً من الغلة لم يكن خصماً للثاني، سواء قدمه إلى القاضي الذي قضى به للأول أو قدمه إلى قاض آخر، وهذا الاستحسان ذهب إليه هلال.
والقياس أنه إذا قدمه إلى القاضي للأول أن يجعل خصماً كما في مسألة الوصية بالثلث إذا أقام شهوداً أن الميت أوصى له بالثلث وقضى القاضي له بذلك، فأعطاه شيئاً من التركة، فجاء رجل وادعى أن الميت أوصى له بثلث ماله فلم يجد الوارث قدم هذا الموصى له، فهو خصم للثاني؛ لأنه يدعي شيئاً فيما في يده، وإن كان الأول لم يأخذ شيئاً من التركة، فإن قدمه الثاني إلى قاض آخر لا يكون خصماً له، وإن قدمه إلى القاضي الأول جعله خصماً له، يجب أن يكون الجواب في القرابة كذلك.
استحسن هلال وفرق بين المسألتين، ووجهه أن الموصى له شريك الوارث، فإذا قدمه إلى قاض علم بكونه شريك الوارث صار كما لو قدم الوارث، فأما الموقوف عليه ليس شريك الوارث والثاني لا يدعي على الأول شيئاً إنما يدعي على الواقف أنه قريبه والموقوف عليه ليس بنائب عن الواقف فلهذا لا يكون خصماً.
ولو أن رجلاً أثبت قرابته من الواقف وفسر القرابة وقضى القاضي له بالغلة جاء آخر وأقام بينة أنه ابن المقضي له الأول، فإنه يقضي له بالغلة ولا يحتاج أن يفسر قرابته من الواقف؛ لأن الأول أثبت قرابته من الميت، فإذا أثبت الثاني أنه ابن الأول كان ابن(6/165)
الأول بتلك القرابة ضرورة، وكذلك لو كان المقضي له الأول امرأة وباقي المسألة بحاله.
وإن أقام الثاني بينة أنه أخ المقضي له لابنه، فالقاضي إن قضى الأول بقرابته من قبل أبيه قضى للثاني، وإن قضى للأول بقرابته من قبل أمه كان الثاني أجنبياً عن الواقف، وعلى هذا يخرج جنس هذه الشهادة وشهادة ابني الواقف أن هذا الرجل قريب وَالدِنا مع تفسير القرابة مقبولة؛ لأنه لا تهمه في هذه الشهادة.
ولو ادعى قوم أنهم قرابة الميت وشهد بالقرابة بعضهم لبعض بأن شهد ابنان لابنين منهم أنهما قرابة الواقف لا يقبل شهادتهم؛ لأن كل فريق شهد للفريق الآخر بما له فيه شركة؛ لأن ما (من) جزء من أجزاء المال يثبت لأحد الفريقين إلا وللفريق الآخر فيه من الشركة، وإن كان القاضي قضى بشهادة الشاهدين الأولين ثم شهد المقضي لهما للشاهدين لا يقبل شهادتهما للشاهدين الأولين؛ لأنها لو قبلت تقع الشركة بين المشهود لهما وبين الشاهدين، وشهادة الشاهدين للأول ماضية على حالهما؛ لأنها تأكدت بالقضاء، فلا تبطل، بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بشهادة الشاهدين الأولين حيث لا يقبل شهادتهم جملة؛ لأن هناك شهادة واحد أحد الفريقين لم يتأكد، أما هنا بخلافه.
وإذا وقف أرضه على قرابته فجاء رجل وادعى أنه من قرابته وأقر الواقف بذلك وفسر القرابة وقال: هذا ممن وقفت عليه، فإن كان للواقف قرابة معروفون لا يصح إقراره؛ لأن الوقف قد ثبت للمعروفين، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال حق المعروفين في البعض، فلا يصدق كالمريض إذا أقر أن هذا أخي أو عمي وله ورثة معروفون، فإنه لا يصح إقراره كذا ههنا، وهذا إذا كان الإقرار من الواقف بعد عقد الوقف، فأما إذا أقر بذلك في عقد الوقف بأن قال في عقد الوقف: هذا ممن وقفت عليه قبل ذلك منه؛ لأن حق الغير لم يثبت بعد فلم يكن هذا الإقرار مبطلاً حقاً على أحد بخلاف ما إذا كان الإقرار من الواقف (بعد) عقد الوقف، أما إذا لم يكن له قرابة معروفون فالقياس أن لا يصح إقراره؛ لأن الحق قد ثبت للفقراء فلا يقبل قوله في تنقيص حقهم وفي الاستحسان يقبل قوله؛ لأن الحق لم يثبت لشخص بعينه، وهو نظير المريض إذا لم يكن له ورثة معروفون، فقال لرجل: هذا أخي لأبي وأمي صح إقراره، وإن كان فيه إبطال حق يثبت المال، والمعنى ما ذكرنا أن الحق أثبت لشخص بعينه، وإذا عرفت الجواب في إقرار الوقف بالقرابة ينبني عليه مسألة الشهادة على إقرار الوقف بالقرابة، ففي كل موضع صح إقراره قبلت الشهادة على إقراره.
قال: وإذا وقف على ولده ونسله ثم أقر رجل أنه ابنه، فإنه لا يصدق في الغلات الماضية؛ لأنها صارت حقاً للمعروفين ويصدق في الغلات المستأنفة؛ لأن النسب يثبت بإقراره فعند الاستحقاق هو وسائر الورثة على السواء في النسب.
وإذا وقف على قرابته وجاء رجل يدعي أنه من قرابته وأقام بينة فشهدوا أن الواقف كان يعطيه مع القرابة في كل سنة شيئاً، لا يستحق بهذه الشهادة شيئاً وكذلك لو شهدوا أن(6/166)
قاضي فلان كان يدفع إليه مع القرابة في كل سنة شيئاً فلا يكون دفع القاضي حجة يحتمل أن القاضي قضى على بعض قرابة الواقف بإقراره له.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة قرابة الواقف الذين يستحقون الوقف: قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبيه، وكل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أمه المحرم وغير المحرم، والقريب والبعيد، والجمع والفرد في ذلك سواء، فإذا وقف على قرابته أو ذي قرابته أو على أقربائه أو على ذوي قرابته دخل هؤلاء تحت الوقف عندهما. وقال أبو حنيفة: إن حصل الوقف بلفظ الوحدان نحو قوله: على قرابتي على ذي قرابتي دخل تحت الوقف من كان أقرب إلى الواقف من محارمه، وإن حصل الوقف بلفظ الجمع نحو قوله: على ذي قرابتي على أقربائي يعتبر مع ما ذكرنا الجمع حتى ينصرف اللفظ إلى المثنى فصاعداً، وتكلم المشايخ في معنى قوله أقصى أب له في الإسلام قال بعضهم: معناه أقصى أب أسلم وقال بعضهم: معناه أقصى أب أدرك الإسلام أو لم يسلم، وثمرة هذا الاختلاف يظهر في العلوي إذا وقف على قرابته، فعلى قول من يشترط إدراك الاسلام أول أب أدرك الاسلام أبو طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد عقيل وأولاد جعفر وأولاد علي، على قول من شرط نفس الإسلام أول أب أسلم علي، فيدخل تحت الوقف أولاد علي ولا يدخل أولاد عقيل وأولاد جعفر.
وقال هلال: القرابة إلى ثلاثة آباء، فمن انتسب إلى واحد من الآباء الثلاث يدخل في الوقف وما لا فلا وقال قوم: القرابة إلى أربع آباء، وإنما اعتبر أبو يوسف ومحمد أقصى أب له في الإسلام؛ لأنه لا وجه إلى صرف الوقف إلى القرابة العامة؛ لأنه (15أ3) يدخل تحت الوقف من كان في الجاهلية؛ لأن جميع الناس أقرباؤه؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام، فلو دخلوا تحت الوقف لا يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، ونحن نعلم أن قصد الواقف إنفاع الموقوف عليه، أما لو اعتبرنا أقصى أب في الإسلام يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، فلهذا اعتبرنا ذلك، وإنما سوينا بين القريب والبعيد والمحرم؛ لأن الاستحقاق باسم القريب وهذا اسم يتناول الكل، وإنما سوينا بين الجمع والفرد؛ لأن الاستحقاق باسم القرابة والقريب، وإنه اسم جنس، واسم الجنس ينصرف إلى الواحد مع احتمال الجمع، وأما أبو حنيفة رحمه الله إنما اعتبر الجمع فيما إذا حصل الإنفاق بلفظه الجمع، عملاً بحقيقة اللفظ، وإنما اعتبر القرابة المحرمة للنكاح؛ لأن مقصود الواقف صلة القرابة، فالظاهر أنه يريد به قرابته بفرض وصلها، وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب؛ لأن القرابة سبعة من القرب فمن كان أقرب كان أولى يصرف اللفظ إليه.
بيان جملة ما ذكرنا إذا كان للواقف عمان وخالان وقد حصل الإنفاق بلفظ الجمع، فعلى قول أبي حنيفة الغلة للعمين؛ لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب، وقرابة العم أقرب من قرابة الخال، ولهذا كان الميراث للعم دون الخال، واسم الجمع ينطلق عليهما، وعندهما: الغلة للعمين والخالين أرباعاً؛ لأنهما لا يعتبران الأقرب لما ذكرنا أن اسم القرابة يتناول الكل.(6/167)
ولو كان له عم واحد وخالان فعلى قول أبي حنيفة للعم نصف الغلة والنصف بين الخالين نصفين؛ لأن أبا حنيفة يعتبر الأقرب، وقرابة العم أقرب فكأن العم انفرد، إلا أن العم الواحد لا يستحق أكثر من نصف الغلة إذا كان الإنفاق بلفظ الجمع عنده؛ لأن استحقاق الكل عنده في هذه الصورة معلق بوجود الجمع والواحد ليس بجمع لا بد، وأن ينقص من الكل شيئاً، وأعلى ما يستحق الواحد وغيره النصف، وإنما اعتبرنا الأعلى وهو النصف؛ لأنه إنما ينقص حقه عن النصف إذا كثر المزاحم ولا نهاية لما زاد على الواحد، فلا يعتبر المزاحم أكثر من الواحد، وإذا أخذ العم نصف الثلث خرج هو من البين وصار الواقف في النصف الباقي كأنه لا عم له، فيكون بين الخالين، وعلى قول أبي يوسف ومحمد الغلة بين العم والخالين بالسوية لما قلنا: إنهما لا يعتبران الأقرب ولا يعتبران الجمع.
ثم اختلف المشايخ على قول أبي يوسف ومحمد، بعضهم قالوا: إنما يصح الوصية لقرابة إذا كان من يجمعه وأقصى أب له في الإسلام لا يخرجون عن حد الإحصاء.
وعامة المشايخ على أن الوقف صحيح على كل حال، ولأن هذا وقف أريد به وجه الله تعالى وهو صلة القرابة فيصح على كل حال.
فبعد ذلك إن كانوا يحصون، فالغلة بينهم على السوية لا يفضل البعض، وإن كانوا لا يحصون صار كأنه وقف على الفقراء، فعلى قول أبي يوسف جاز صرف جميع الغلة إلى الواحد منهم بناء على أن الفقراء عنده اسم جنس، وعند محمد لا يجوز أن يعطي دون الاثنين بناء على أن عنده الفقراء اسم جمع وأقل الجمع في هذا الباب المثنى أصل هذا الاختلاف في الوصايا: قال الله تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين} (البقرة: 180) عطف القريب على الوالد والشيء لا يعطف على نفسه ولأن اسم القريب يبنى عن القرب وبين الوالدين والمولودين بعضه، وإنما يبنى عن الإيجاد دون القرب.
ودخل تحت هذا الوقف الجد والجدة وولد الولد؛ لأن اسم القريب ينطلق عليهم.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يدخلون، والذي ذكرنا في قوله لأقربائه ولذوي قرابته فكذا في قوله يدخل لأرحامه ولأنسابه ولذوي أنسابه؛ لأن المعنى يجمع الكل.
ولو وقف على ذي قرابته أو على قرابته فالقياس أن تكون الغلة لواحد من قرابته حتى إذا كان له عم وخالان، فالغلة كلها للعم؛ لأن اللفظ فرد بصيغته وفي الاستحسان الوقف عليهم؛ لأنه يراد به الجنس، فإنه يراد به التودد، فكأنه عمهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه المسألة يجب أن تكون على الخلاف على قياس مسألة الوصية إذا أوصى بثلث ماله لهذا ولهذا أو لأحد من بني فلان، فعلى قول أبي حنيفة الوصية باطلة؛ لأنها وقعت لمجهول وعلى قول محمد الوصية جائزة وللورثة الخيار؛ لأنهم قائمون مقام المورث وعلى قول أبي يوسف الثلث لهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فعلى قياس تلك المسألة يجب أن تكون الغلة للكل على قول أبي(6/168)
يوسف، وعلى قول محمد يجوز إعطاؤها للواحد، وعلى قول أبي حنيفة يجب أن يكون كقول محمد؛ لأنه جعل الوصية للواحد حتى قال: الوصية وقف للمجهول.
ولو كان وقف على ذوي قرابته أو أقربائه أو أنسابه أو أرحامه الأقرب فالأقرب فإنه يدخل تحت الوقف الأقرب، فالأقرب ولا يعتبر الجمع بلا خلاف؛ لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيراً لصدر الكلام، فيكون العبرة له، وإنه اسم فرد، فيتناول الواحد عند أبي حنيفة والأقرب عندهما.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً إذا وقف على أقرب الناس منه أو إليه ومن بعده على المساكين وله ابن وأب دخل تحت الوقف على أقرب الناس من قرابته لا يدخلان تحت الوقف؛ لأن في الفصل الثاني اعتبر الأقرب من قرابته وابنه وأبوه ليسا من قرابته وفي الفصل الأول اعتبر الأقرب إليه والابن أقرب إليه، وإن كان له ابن وأبوان، فالغلة للابن؛ لأن الابن أقرب إليه كذلك الابنة، فإذا مات الابن أو الابنة كانت الغلة للمساكين، ولا يكون للأبوين؛ لأنه جعل ذلك للأقرب ولم يجعل الأقرب فالأقرب، وإن كان له أبوان لا غير كانت الغلة بينهما نصفان، فإن مات أحدهما كان للحي النصف والنصف الآخر للمساكين، وإن كان للواقف أم وأخوة كانت الغلة للأم دون الأخوة.Y
وكذلك إذا كان للواقف أم وجد، فالأم أقرب من الجد ومن الأخوة، والأب أيضاً أقرب، وإن كان جد أب وأخوة، فالغلة للجد في قول من يداه بمنزلة الأب وفي قول الآخر للأخوة دون الجد، فإن كان له ثلاثة أخوة متفرقين فالغلة للأخ لأب وأم، فإن كان له أخ لأب وأخ لأم، فالغلة لهما جميعاً، ولا ينظر في ذلك إلى الوارث وعند أبي حنيفة الأخ لأب أولى.
ولو كان له أب وابن ابن، فالغلة للأب دون ابن الابن، فإن كانت له بنت بنت وله ابن ابن أسفل من هذه كانت الغلة لبنت البنت، وكذلك الوصية في هذا كله. ولو كان له أخت لأب وأم وبنت بنت فبنت بنت البنتان أولى؛ لأنها من صلبه والأخت من صلب أبيه ولا يعتبر الإرث، ألا ترى أنه لو كان له موالي العتاقة، فبنت البنت أولى في الوقف، وإن كان مولى العتاقة مقدماً على بنت البنت في الميراث.
فالحاصل أنه يبدأ بولد الواقف ثم بولد الأب ثم بولد الجد، فإن كان له أب الأم وبنت الأخ له أم ولأب أو لأب وأم، فعند أبي حنيفة الجد أولى، وعندهما بنت (15ب3) الأخ أولى، ولو كان مكان بنت الأخ بنت البنت فهي أولى بالاتفاق، ولو كان له ابن أخ لأب وأم وأخ لأب أو لأم فالغلة للأخ، وإن كان له ابن أخ لأب وابن أخ لأم فعند أبي حنيفة الغلة لابن الأخ، وعندهما الغلة بينهما وجنس هذه المسائل في «وقف الخصاف» في باب الرجل يقف أرضه على قرابته يبدأ بأقربهم.
ولو قال: أرضي صدقة في القرابة أو على القرابة ولم يقل قرابتي قال: هما سواء ويكون ذلك لقرابته وكذلك لو قال: للأقارب والأنساب أو لذوي الرحام ولم يضف إلى نفسه يكون ذلك لقرابته لمكان العرف، ولأن معهود كل إنسان قرابته، والألف واللام لتعريف المعهود، ولو كان (قال) على قرابتي من قبل أمي وأبي أو على قرابتي من قبل أمي(6/169)
فهو على ما قال، وتقسم الغلة عليهم على عدد رؤوسهم يستوي فيه من كان من قبل أبيه ومن كان من قبل أمه، ولا تترجح قرابته من قبل أبيه وأمه.
ولو قال: بين قرابتي من قبل أبي وبين قرابتي من قبل أمي، فنصف الغلة تكون لقرابته من قبل أبيه، ونصفها يكون لقرابته من قبل أمه. قال: ألا ترى أن من قال أوصيت بثلث مالي بين زيد وبين عمرو، فاذا أحدهما ميت فللحي منهما نصف الثلث.
ولو قال: أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو فإذا أحدهما ميت فللحي منهما كل الثلث. ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف على قرابته الأقرب فالأقرب وبعدهم على المساكين، فالغلة كلها لأقرب قرابته منه واحداً كان أقربهم أو أكثر من ذلك ويقسم عليهم على عدد رؤوسهم، فإن قال بعضهم: لا أقبل هذا أو قبل بعضهم كانت الغلة لمن قبل منهم وسقط من لم يقبل منهم، فإن مات هؤلاء الذين كانوا أقرب إليه كانت الغلة لمن يلي هؤلاء بطناً بعد بطن. وكذا لو قال: يعطي غلة هذا الوقف أقرب الناس إلي نسباً ورحماً ثم الأقرب فالأقرب بعد ذلك، وكذلك لو قال: الأولى فالأولى وكذا إذا وقف على فقراء قرابته الأقرب فالأقرب بدئ بالأقرب فالأقرب، هكذا ذكر الخصاف وهلال عن أبي يوسف أن القريب والبعيد في هذا سواء إلا أن يقول: الأقرب ثم الأقرب ثم على ما ذكر هلال والخصاف إذا وجبت البداية بالأقرب يعطي مائتي درهم ولا يعطي أكثر من مائتي درهم، أما إعطاء المائتين؛ لأن المقصود من هذا الوقف الأغنياء عرف ذلك بذكر الفقراء والغناء لا يقع بأقل من المائتين ولا يعطي أكثر من المائتين؛ لأن الإغناء بقدر المائتين، فلا حاجة إلى الزيادة، فإن أعطى مائتي درهم وبقي من الغلة شيء يعطي الذي يليه مائتي درهم، فإن أعطى كل واحد منهم مائتي درهم وبقي من الغلة شيء، فالقياس أن يكون ذلك كله للأقرب فالأقرب، وهناك يعطي الأقرب كل الغلة، فهنا بذلك.
وفي الاستحسان: يقسم بينهم بالسوية؛ لأن الأصل كان مقسوماً بالسوية، فكذا الفضل يؤخذ حكمه من الأصل كما قلنا في المواريث ما فضل من السهام يرد عليهم على قدر الأصول، ذكر هلال المسألة على القياس والاستحسان، والخصاف في جنس هذه المسالة لم يذكر القياس والاستحسان، وصورة ما ذكرها الخصاف إذا كان أقربهم إليه جماعة قسمت بينهم بالسوية إذا كان الذي يصيب كل واحد منهم مائتا درهم أو أقل، وإن كان في الغلة ما يصيب كل واحد من البطن الأعلى مائتا درهم وفضل عنهم، قال: يقسم الفاضل بينهم، قال: وكذلك يكون الحال في كل بطن منهم، وقال أيضاً: إذا كان قال: يبدأ بالأقرب فالأقرب مني يعطي من غلة هذه الصدقة ما يصيبه، قال: يبدأ بأقربهم فيعطى مائتا درهم يليه ثم يعطي الذي يليه مثل ذلك حتى ينتهي إلى آخرهم، فإن فضل شيء من غلة هذه الصدقة كان ذلك لهم.
ولو قال: على فقراء قرابتي على أن يبدأ، فيعطي جميع الغلة الأقرب فالأقرب يعطي الأقرب كل الغلة؛ لأنه هكذا أوجب، وإنما كنا نعطيه مائتي درهم بدلالة ذلك الفقراء، ولا قوام للدلالة إذا جاء الصريح بخلافها.(6/170)
ولو قال: على فقراء قرابتي يعطي منها الأقرب فالأقرب، يعطي الأقرب مائتي درهم ولا يعطي جميع الغلة؛ لأن الهاء في قوله: منها كناية عن الغلة، فقد أوجب بعض الغلة الأقرب فلا يعطي جميعاً.
ولو قال: على أن ما أخرج الله تعالى من غلاتها يعطي الأقرب فالأقرب من قرابتي، يعطي الأقرب جميع الغلة؛ لأن (من) هنا راجع إلى الأرض دون الغلة؛ لأن الخارج يكون من الأرض، فلا يوجب تنقيصاً في الغلة.
الفصل الثاني عشر: في الوقف على أهل البيت والآل والجنس والعصب والجيران وأشباه ذلك
وإذا وقف أرضه على أهل بيته دخل تحت الوقف كل من يتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، يستوي فيه المسلم والكافر والذكر والأنثى والمحرم وغير المحرم والقريب والبعيد وهذا لأن المراد من البيت المذكور هنا بيت النسب لا بيت السكنى، فكل من يجمعه وآباؤه بيت نسبه دخل تحت الوقف، ونسب الإنسان من قبل أبيه، فكل من اتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، فهو من أهل بيته ولا يدخل تحت الوقف الأب الأقصى لو كان حياً؛ لأنه مضاف إليه لا يدخل تحت الإضافة ويدخل تحت الوقف وكذا الوقف؛ لأن ولد الواقف يضاف إلى أب الواقف الأكبر، وكذلك ولده يدخل تحت هذا الوقف لما قلنا، ولا يدخل تحت هذا الوقف أولاد البنات، وأولاد الأخوات؛ لأنهم لا ينسبون إلى أب الواقف الأكبر إنما ينسبون إلى آبائهم فصاروا من أهل بيت آخر، وكذلك لا يدخل أولاد من سواهن من الإناث لما قلنا.
إذا كان زوجها من بني أعمام الوقف وعشيرته فحينئذٍ يدخلون؛ لأنهم من أهل بيت نسبه، والجواب فيما إذا وقف على جنسه كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الإنسان من جنس قوم أبيه.
والجواب فيما إذا وقف على آله كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الآل وأهل البيت يستعملان استعمالاً واحداً، فإذا وقفت امرأة على أهل بيتها أو على جنسها أو على آلها لا يدخل تحت الوقف والديها؛ لأن والديها لا ينسب إلى أبيها الأكبر الذي هو صاحب بنت نسبها، وكذلك ولدها لا يدخل لهذه العلة.
واذا وقف على أهله فالقياس أن يدخل تحته امرأته لا غير، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثمة، وذكر هلال في وقفه قول أبي حنيفة ولم يذكر القياس، وفي الاستحسان يدخل تحت الوقف كل من في عياله ونفقته....... هذا هو المتعارف، ولا يدخل(6/171)
تحت الوقف مماليكه؛ لأن مماليكه خدام الأهل، وما يجب لهم فهو للمولى والمولى لم يدخل (16أ3) تحت الوقف.
وأما العيال فكل من كان في نفقة إنسان فهو من جملة عياله سواء كان في منزله أو غير منزله.
وأما الحشم فقد ذكر هلال أن الحشم بمنزلة الأعيال، ورواه عن أصحابنا وقد قيل: إن الحشم أعم، يقال للسلطان هم كثر؛ لأن صاحب الكتاب وضع المسألة في أواسط الناس وأواساط الناس لا يجمعون الجنوس، فلهذا سوى بين العيال والحشم.
وإذا وقف على جيرانه، فعلى قول أبي حنيفة الجار يستحق الشفعة، وشرط هلال والخصاف أن يكون ملازقاً لداره والالتزاق ليس بشرط أنه يستحق الشفعة ملازقاً كان أو غير ملازق، ثم في ظاهر مذهب أبي حنيفة السكنى، مالكاً كان الساكن أو غير مالك، وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط هو الملك دون السكنى، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. وقال أبو يوسف ومحمد: الجار كل من يجمعهم مسجد المحلة، وفي «الزيادات» : أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان.
والصغير والكبير والمسلم والكافر في ذلك على السواء؛ لأنهم في استحقاق اسم الجار على السواء. والعبيد والإماء لا يدخلون في هذا الوقف، بخلاف المكاتبين؛ لأن الجوار بالسكنى وسكنى المكاتب مضاف إليه بخلاف سكنى العبيد والإماء، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة، والعبد والأمة لا يستحقان الشفعة؟ قال بعض مشايخنا: اختيار ما ذكر من الجواب في العبيد محمول على ما إذا كانوا مع الموالي، فإذا كانوا منفردين بأن كانوا مأذونين يدخلون تحت الوقف؛ لأن سكناهم في هذه الصورة تضاف إليهم، ألا ترى أن العبد المأذون يستحق الشفعة كالمكاتب، ومن انتقل من جوار الوقف بعد الوقف أو استغنى لم يكن له من الوقف شيء، وإنما ينظر في هذا إلى مكان جار الوقف يوم تقع قسمة الغلة لا يوم حدوث الغلة قال هلال: بخلاف القرابة؛ لأن الجوار يزول وينقطع بخلاف القرابة. ولو وقف على جيرانه، وله دار فيها ساكن، فانتقل منها إلى دار قرابته وسكنها بأجر إلى أن مات، فالغلة لجيران الدار التي انتقل إليها ومات فيها.
ولو وقف على جيرانه ثم خرج إلى مكة ومات فيها، قال: إن كان اتخذها داراً، فالغلة لجيرانه بمكة؛ لأن جوار هذه قد انقطع، وإن خرج حاجاً أو معتمراً فالغلة لجيران بلده؛ لأن جوارهم لم ينقطع.
ولو كان له داران وهو يسكن في إحداهما والأخرى للغلة، فإن الغلة لجيران الدار التي يسكن فيها، وإن كان له في كل واحد منهما زوجة، فالغلة لجيران الدارين، وكذلك لو كانت إحداها بالبصرة والأخرى بالكوفة وله في كل واحد منهما زوجة.
ولا يدخل في هذا الوقف ولد الواقف وإن كان جاراً، وولد الولد يدخل إذا كان جاراً قياساً على القرابة ولا يدخل استحساناً؛ لأنه لا يسمى جاراً عرفاً، وكذلك زوجته لا تدخل، وأما أخوه وعمه وخاله يدخلون؛ لأن اسم الجار يقع عليهم، ولو وقف على فقراء جيرانه ومات، فباع ورثته تلك وانتقلوا إلى ناحية أخرى، فالغلة لجيرانه يوم مات ولا يلتفت إلى بيع الورثة.(6/172)
ولو وقف على فقراء الجيران ولم يضف الجيران إلى نفسه بأن لم يقل على فقراء جيراني، فهذا وما لو قال: على فقراء جيراني سواء لما قلنا في القرابة، وإن كان حين مرض حوله ابنه إلى محلة أخرى أو قرية ثم مات، فالغلة لجيرانه الأولين وليس هذا بانتقال.
ولو أن امرأة كانت تسكن في دار فوقفت على جيرانها وقفاً ثم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها وماتت فيها، فجيرانها جيران زوجها؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فانقطع جوارها الأول، قالوا: إن كان متاعه في داره فالغلة للأولين؛ لأن جوارهم لم ينقطع، وإذا وقف على جيرانه، فأعطى الوصي بعضهم دون البعض ضمن؛ لأنهم هنا يخصون، فكانوا متعينين فقد دفع حقاً مستحقاً لقوم معينين إلى غيرهم فيضمن، بخلاف ما إذا وقف على الفقراء؛ لأن هناك المستحق ليس معين.
وإذا وقف على فقراء جيرانه، فالأرملة تدخل إذا كانت جاراً، وذات البعل لا تدخل؛ لأن سكنى الأرملة مضاف إليها فكانت جاراً حقيقة بخلاف ذات البعل؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فلم يكن سكناها مضافاً إليها، فلم يكن جاراً حقيقة.
وإذا وقف على أيتام قرابته، فاليتيم صغير أو صغيرة مات أبوه ولم يدرك حياة الأم (لا) يخرجه من أن يكون يتيماً، كذلك حياة الجد لا يخرجه من أن يكون يتيماً، وإذا أدرك الصغير أو الصغيرة فقد خرج أن يكون يتيماً، وإدراك الغلام بالاحتلام وأدرك الجارية بالحبل أو الحيض، وإن لم يكن شيء من ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، ففي المسألة اختلاف والمسألة معروفة، وإن احتلم الغلام بعد مجيء الغلة وحاضت الجارية بعد مجيء الغلة، فحصته ثابتة له من هذه الغلة؛ لأنه استحقاق قد ثبت حين جاءت الغلة، وهو لم يدرك، فلا يبطل الإدراك بعد ذلك.
فإن تنازعوا في ذلك فقال سائر المستحقين: إنما احتلمت قبل مجيء الغلة، وقال هؤلاء: بل احتلمت بعد مجيء الغلة، فالقول قوله. وكذلك إذا وقع الاختلاف في حيض الجارية، وهذا لأن الاحتلام أمر حادث، والحيض كذلك، والأصل في الحوادث أن يحال حدوثها على أقرب الأوقات يوضحه: أن حاصل اختلافهم في خروجه عن الاستحقاق، فيكون القول قوله.
وإذا وقف على عقب فلان فاعلم بأن عقب الإنسان كل من يرجع بآبائه إليه، ولا يدخل فيه ولد البنات إلا إذا كان أزواج البنات من ولد فلان، وكذلك أولاد من بنيهن من الإناث لا يدخل في هذا الوقف إلا إذا كان أزواجهن من ولد فلان، ولو وقف على زيد وعقبه ولزيد أولاد وزيد حي لا يكون للأولاد شيء من الوقف؛ لأن ولد الرجل لا يسمى عقبه إلا بعد موته، وإذا وقف على أهل بيته دخل تحت الوقف من كان موجوداً من أهل بيته ومن يأتي بعد هؤلاء من أولادهم، وأولاد أولادهم.
ولو أوصى بثلث ماله لأهل بيته، فإن الوصية لمن كان موجوداً وقت موت الموصي ولمن كان يولد من أهل بيته لأقل من ستة أشهر من يوم مات الموصي، والفرق أن الوصية لا تجوز لمن لم يخلق، والوقف يجوز.(6/173)
ولو قال: وقف على فقراء أهل بيتي أو قال: على من افتقر من أهل بيتي، قال الخصاف: أنظر في هذا إن كان فقيراً يوم تقع القسمة ولا أعتبر وقت طلوع الغلة، وكذلك في كل موضع كان الوقف على الفقراء، فالخصاف لا يعتبر يوم طلوع الغلة، قال: لأن الواقف إذا ذكر الفقراء صار الوقف كالزكاة لا ينظر إلى يوم الوجوب إنما ينظر إلى يوم الأداء، فكذا هذا.
وفرق هلال بينما إذا كان الوقف على الفقراء والمساكين، وبينما إذا كان الوقف على فقراء قرابته فقال: إذا كان الوقف على الفقراء (16ب3) والمساكين يعتبر الفقير يوم القسمة لا يوم طلوع الغلة، وفيما إذا كان الوقف على فقراء القرابة يعتبر يوم طلوع الغلة حتى لو استغنى بعد ذلك يعطى نصيبه، وإذا مات يورث نصيبه، ولو كان غنياً يوم طلوع الغلة ثم افتقر لا يعطى شيئاً.
والفرق أن في الوقف على الفقراء والمساكين الحق غير ثابت للمعين في الغلة يوم حدوثها. ألا ترى أن للقيم أن يعطي من شاء ويحرم من شاء، وألا ترى أن شهادة الفقيرين على الوقف على الفقراء مقبولة، وإنما يجب الحق بالقسمة فيعتبر يوم القسمة، فأما في الوقف على فقراء قرابته الحق قد وجب لهم بأعيانهم، ألا ترى أن القيم لو منع حصة أحدهم ضمنها له، وألا ترى أنه لا يقبل شهادة الشاهدين من القرابة على هذا الوقف فعلم أن الحق قد ثبت في الغلة يوم حدوثها، فلا يبطل هذا الحق بالموت أو بالاستغناء بعد ذلك.
الفصل الثالث عشر: في الرجل يقف أرضه على الفقراء، فيحتاج أحدمن ولده أو يحتاج هو في وقف نفسه
إذا جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين، فاحتاج بعض قرابته وأراد أن يعطى من تلك الغلة بأن هنا مسألتان: إحداهما إذا احتاج الواقف بنفسه والحكم فيها أن لا يعطى من تلك الغلة شيء، هكذا ذكر هلال في وقفه. قال الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله: هذا الجواب على مذهب هلال صحيح، فإن من مذهبه أن الواقف لو شرط أن يأكل بنفسه مادام حياً لا يصح، ولا يحل له الأكل، فكذا إذا احتاج بعد ذلك لا يحل له الأكل اعتباراً للانتهاء بالابتداء، فأما على قول أبي يوسف يصح؛ لأن على قوله لو شرط في ابتداء الوقف أن يأكل بنفسه صح الشرط له الأكل، فكذا يحل له الأكل في الانتهاء إذا احتاج إليه بعد ذلك، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا الجواب صحيح على قول الكل؛ لأن على قول أبي يوسف إذا شرط في ابتداء الوقف أن يأكل إنما يحل له الأكل؛ لأنه بالشرط استثنى الغلة عن حق الفقراء، فلم يزل الغلة عن ملكه إنما زالت الرخصة عن ملكه، فيصير آكلاً ملك نفسه، أما ههنا الغلة زالت عن ملكه وثبت فيها حق(6/174)
الفقراء، فلا يصير آكلا ملك نفسه لو حل له الأكل حل بطريق الصدقة، ولا وجه إليه؛ لأنه يصير متصدقاً على نفسه، وقال الفقيه أبو جعفر: يجوز أن يفرق بين الابتداء وبين الانتهاء، فيقال في الابتداء: إنما يستحق بالشرط؛ لأن الشرط خرج على وجه الفساد، وهذا الوقف قد صح بإضافته إلى الفقراء، فيجوز له التناول بحكم فقره، وهذا كما قال محمد في «السير» إذا قال الأمير: إن قتلت هذا الكافر فلي سلبه ثم قتله لا يستحق السلب؛ لأن كلامه خرج على وجه الفساد.
وبمثله لو قال: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل الإمام بنفسه كافراً استحق السلب؛ لأن كلامه خرج على الصحة، فيستحق السلب عند وجود نسبته منه.
المسألة الثانية: إذا احتاج بعض قرابته، فإن كان الوقف في حالة مرض الموصي لا يعطي؛ لأن هذا في معنى الهبة للوارث في مرض الموت لا يجوز، وكذا إن كان الوقف في حالة الصحة، ولكن يضاف إلى ما بعد الموت بأن قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على المساكين، وهي تخرج من الثلث؛ لأن هذه الوصية والوصية للوارث باطلة، ويعطي ولد ولده إن لم يكن وارثاً ذكر هلال في وقفه، وذكر الخصاف في «وقفه» أنه إذا أوصى الواقف أن يجعل أرضه صدقة موقوفة لله أبداً بعد وفاته على المساكين، فاحتاج ولده أعطاهم غلة هذه الصدقة، وليس هذا بوصية، وأجاب عن قول هلال؛ لأن هذا وصية، فقال: هذا من طريق الايجاب، وإن كان الوقف في حالة الصحة ولم يكن مضافاً إلى ما بعد الموت، ذكر في «واقعات الناطفي» : أن الصرف إلى ولد الواقف أفضل، ثم إلى قرابة الواقف ثم إلى مولى الواقف ثم إلى أهله حضره أيهم أقرب من الواقف منزلاً، وذكر هلال في وقفه أن يعطي أقل من مائتي درهم، وهو أولى من سائر الفقراء.
ولو رأى القيم أن لا يعطيه كان له ذلك وهو قول الفقيه أبي بكر الأعمش رحمه الله مقصود الواقف من الوقف الثواب، والتصدق على فقراء القرابة أكثر ثواباً، وإليه أشار عليه (الصلاة والسلام) في قوله لامرأة عبد الله بن مسعود حين أرادت أن تتصدق على زوجها «لك أجران أجر الصدقة (وأجر القرابة) » والدليل عليه أن في باب الزكاة على قرابته الذين دور الدفع إليهم أولاً ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل بلده، ولكن يعطى أقل من مائتي درهم، ولو أعطى مائتي درهم يجوز، ويكره كما في الزكاة، وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: لا يعطي لأحد من قرابة الواقف شيء من هذا الوقف؛ لأنه إن أعطى صيروه ملكاً بمرور الزمان، فيؤدي إلى إبطال الوقف، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: إن طلب وخاصم وباع القيم لا يعطى؛ لأنه إذا خاصمه في ذلك أن قصده التملك وإبطال الوقف بخلاف ما إذا لم يخاصم ولم ينازع، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن خاصم القيم ونازعه لا يعطى، وإن لم يخاصمه ولم ينازعه يعطى وهو أولى، ولكن لا يصرف إليه كل الغلة، فإنما يصرف في بعض الأزمان دون البعض؛(6/175)
لأن في صرف الكل إليهم على الدوام إبطال الوقف عسر؛ لأنه ربما يقع عند الناس أنه ملكهم فيشهدون له بالملك عند دعواه ذلك لنفسه، هذا إذا وقف على الفقراء أو احتاج إليه بعض قرابته، فأما إذا وقف على فقراء قرابته تصرف جميع الغلة إليهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم أكثر من مائتي درهم؛ لأن الواقف أوجب ذلك، وأما إذا وقف على الأفقر فالأفقر من قرابته، فهنا لا يعطي الكل إنما يعطي أقل من مائتي درهم.
قال هلال: إذا وقف على الفقراء جاز صرفه إلى ولده إذا احتاج إليه، وفرق بين الوقف وبين الزكاة، فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى ولده، والفرق أن بوجوب الزكاة لم يزل ملك المالك عن قدر الزكاة، فكان الواجب على المالك الإخراج والتمليك من كل وجه، ولا يتحقق ذلك فيما بين الوالدين والمولودين؛ لأن منافع الأملاك بينهما متصلة، أما الوقف قد زال عن ملك الواقف بنفس الإنفاق، فليس عليه الإخراج والتمليك من كل وجه، وإنما عليه إعانة الفقراء على أخذ حقهم، والإعانة على أخذ الحق يتحقق بين الوالدين والمولودين.
ولو وقف أرضه على أن نصف غلتها للمساكين ونصفها للفقراء من قرابته فاحتاج قرابته وكان الذي سمي لا يكفيهم يعطيهم (17أ3) ما جعل للفقراء لفقرهم قال هلال: وهو قول أبو يوسف بن خالد السمتي، وقال إبراهيم بن يوسف البلخي: وعلي بن أحمد الفارسي والفقيه أبو جعفر الهندواني يعطون من نصيب الفقراء؛ لأنهم فقراء وفقراء قرابته يستحقون بالجهتين جميعاً كمن وقف أرضاً على قرابته وأرض جيرانه وبعض جيرانه قرابته يستحقون من الوقفين، وجه قول هلال: أنه لما بين نصيب كل فريق فقد قطع الشركة وشرط لكل فريق بعضه فيجب رعاية شرطه.h
وعن أبي يوسف أن الواقف إن شرط في الوقف أن لفقراء قرابته كذا وللمساكين والفقراء كذا، يعطي فقراء القرابة من نصيب الفقراء، وبه أخذ محمد بن سلام البلخي رحمه (الله) وجعلا هذا نظير الوصية، فإن أوصى ببعض الثلث لقرابته وببعضه للفقراء استحق القريب من نصيبه الفقراء إذا كان فقيراً، وبمثله لو أوصى ببعض الثلث لقرابته والباقي للفقراء لا يستحق القريب من نصيب الفقراء كذا هنا.
لو جعل أرضه صدقة موقوفة على الغارمين وله قرابة محتاجون، فإنهم لا يعطون منها شيئاً إلا أن يكونوا غارمين اعتباراً للشرط، وكذلك إذا قال في ابن السبيل: لا يعطي قرابته منها شيئاً إلا أن يكون في قرابته ابن السبيل، وكذا إذا قال: في سبيل الله قال: وسبيل الله الغزو والجهاد، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهما قالا: جميع وجوه الخير والبر سبيل الله، ولو جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء فاحتاج قرابته فرفع ذلك إلى القاضي فأعطاهم منها القوت أيكون هذا حكماً لهم من القاضي بالأقوات؟(6/176)
قال هلال: لا، وإنما هذا بمنزلة الفتوى وليس بقضاء حجة، حتى لو عزل بطل، وكذا لو رجع بنفسه عمل رجوعه، ولو أعطى القيم غيرهم لم يضمن، ولو قال حكمت أن لا يعطى قرابته نفذ حكمه حتى ليس لقاضٍ آخر أن يبطله، ولو أعطى القيم غير القرابة ضمن، هكذا ذكر هلال في وقفه، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا ينفذ حكمه، وجه قوله في ذلك أن هذا حكم بخلاف ما يقتضيه الشرع؛ لأن الواقف ما وقف على القرابة إنما وقف على الفقراء وحال ما وقف لم يكن هؤلاء ليدخلوا تحت الوقف من حيث إنهم فقراء، وجه ما ذكر هلال: أن مقصود الواقف الآخر الثواب، وفي الصرف إلى القرابة أكثر فكان قضاؤه موضع الاجتهاد فينفذ.
لو وقف أرضاً له على فقراء قرابته وأرضاً له أخرى على فقراء المساكين ووقف القرابة لا يكفيهم، فإن كان ذلك في عقد واحد لا يعطون كأنه وقف واحد، وقد قطع الشركة حتى يبين كل واحد نصيباً، فأما إذا كان في عقدين فلم يقطع الشركة، فإذا اجتمع الوصفان استحق بهما، ويجب أن يكون ما ذكر من الجواب فيما إذا كان العقد واحداً على قول هلال و (أبي) يوسف بن خالد على نحو ما بينا قبل هذا.
وإذا وقف أرضه على الفقراء والمساكين فاحتاج بعض قرابته إلى ذلك فأعطي من الغلة مائتي درهم فأنفقها وصار فقيراً وقد بقي من الغلة شيء، فإن كان يعلم أن إنفاقه في غير فساد وأنه أنفقها فيما لابد منه أوصى من يعطي من النفقة ما يكفيه، وإن علم أنه أسرف أو أنفق في فساد لا يعطى؛ لأنه يكون إعانة على الفساد، وكذلك هذا الجواب في الزكاة ويصير هذا الفصل رواية في أن الفقير إذا كان يعلم أنه ينفق في معصية أو سرف، أنه لا ينبغي.
وإذا وقف على فقراء قرابته وله قرابة من غير أهل البلد الذي الواقف إلى تلك البلدة يقسم على فقرائهم في هذه البلدة، وإن بعث القيم إلى تلك البلدة، فلا ضمان وهو بمنزلة الزكاة.
ومما يتصل بهذا الفصل، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة أبداً على زيد وولده وولد ولده أبداً ماتناسلوا، ومن بعدهم على المساكين على أنه إن احتاج قرابتي رد عليهم هذا الوقف، فكانت غلته لهم فكانت قرابته جماعة، فاحتاج بعضهم وبعضهم أغنياء رد هذا الوقف على من احتاج من قرابته، وكذلك لو قال: إن احتاج موالي فاحتاج بعضهم، ولو قال: على أن ولد زيد إن ماتوا ردت غلة هذا الوقف على عمرو، فمات بعض ولد زيد وبقي البعض لم ترد الغلة حتى يموت كل ولد زيد، هكذا ذكر الخصاف قال: ولا يشبه هذا الباب الأول؛ لأن في الأول قصد إلى الرد على المحتاجين منهم.
قال هلال في «وقفه» : إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد موتي على الفقراء، فمن احتاج من ولدي وولد ولدي أعطي ما يكفيه، كان كما قال فإن احتاج أحد من ولد(6/177)
صلبه ينظر إلى ما يكفيه فيكون ذلك ميراثاً لجميع الورثة؛ لأنه لا يستحق بالوقف؛ لأنه بمنزلة الوصية لا يجوز للوارث، فلا يختص هو به، وإن احتاج بعض ولد الولد أعطي له ما يكفيه، ويكون ذلك بالوقف؛ لأن الوصية له جائزة، فإن احتاج ولد الصلب وولد الولد أعطيا، ثم ما يصيب ولد الصلب يكون بين الورثة وما يصيب ولد الولد يكون له، و (إن) احتاجوا جميعاً يقسم على عدد الرؤوس ثم الحكم ما ذكرنا من الإرث والوقف، وإن استغنى المحتاج لا يعطى له وهذا ظاهر، وإن قصرت الغلة عما يسمى لكل فقير وكان يكفي لأحدهما، فإنه يبدأ بولد الولد؛ لأن حقه قوي يجوز من غير إجازة، وحق ولد الصلب لا يثبت إلا بإجازة الورثة والبداية بالاقوى أولى.
الفصل الرابع عشر: في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك
إذا وقف الرجل أرضه على مواليه وهو رجل من العرب، فالغلة لكل من أعتقه هذا الرجل قبل الوقف ولكل من يعتقه بعد الوقف ولكل من يعتق بعد موته من جهته كمدبرته وأمهات أولاده، فرق بين الوقف والوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لمواليه وله مدبرون، وأمهات الأولاد فمات الموصي وعتق هؤلاء بموته، فإنه لاحظ لهم من الوقفية، والفرق وهو أن وجوب الوصية يوم يموت الموصي وولاء المدبر وأم الولد يثبت بعد الموت؛ لأنهم يعتقون بعد الموت فوقت وجوب الوصية لا ولاء، فلا يستحقون الوصية وقت وجوب الوقف (و) يوم حدوث الغلة الولاء ثابت فيستحقون ذلك، وروي عن أبي يوسف في «النوادر» : أن أمهات الأولاد والمدبرين وصية أيضاً، وكذلك يدخل في هذا الوقف كل من له أوصي بعتقه بعد موته، وكذلك لو كان أوصي أن يشترى به رقيق بعد وفاته فيعتقون، دخلوا في هذا الوقف، فإن كان لهذا الرجل مولى أعتقهم هذا الرجل وموالي الموالي، فالغلة لمواليه، كما في الولد مع ولد الولد، وهذا لأن مواليه ينسبون إليه بلا واسطة، وموالي الموالي ينسبون إليه بواسطة فكان الاسم لمواليه حقيقة ولموالي الموالي مجازاً، ولو كان له موليان فالغلة لهما بكمالها (17ب3) لأن اسم الموالي ينطلق عليهما، ولو كان له مولى واحد فله نصف الغلة والنصف للفقراء، ولو كان له موال وموليات، فالغلة للكل هكذا ذكر الخصاف وهلال، ومن المشايخ من قال: يجب أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: لا يكون للموليات شيء، كما لو وقف على بنيه وله بنون وبنات ومنهم من قال: هذا بالإجماع، فيحتاج أبو حنيفة على قول هذا القائل إلى الفرق بين مسألة البنين وبين مسألة الموالي، والفرق: أن اسم الموالي ينطلق على الموليات عند الإنفراد، فإنه يقال: إن موالي فلان جاز أن يشركن (ف) عند الاختلاط أولى.(6/178)
لقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : إذا استأمن الحربي على مواليه وله موالى وموليات دخلوا في الأمان، وكذلك إذا أوصى لمواليه دخلوا جميعاً في الوصية وأولاد الموالي يدخلون في هذا الوقف لأنهم ينسبون إليه بلا واسطة، وأما أولاد الموليات هل يدخلون في هذا الوقف؟ ذكر الخصاف في «وقفه» : أنهم إن كانوا يرجعون بولاء آباءهم إلى الواقف يدخلون، وإن كان ولاء آبائهم إلى قوم آخرين لم يدخلوا فيه، وإن كان له موالي عتاقة فالغلة لموالي العتاق؛ لأن ولاء العتاقة أقوى؛ لأنه متفق عليه وولاء الموالاة مختلف فيه، وسبب ولاء العتاقة لا يحتمل القسم، وسبب ولاء الموالاة يحتمل القسم قبل العقد، وإن لم يكن له إلا موالي موالات، صرفت الغلة إليهم استحساناً لأنه ليس ههنا من هو أولى منهم والضعف والقوة إنما تظهر عند المقابلة، والقياس: أن يكون الغلة للفقراء، وإن كان له موالي ولأبيه موال قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، فالغلة لمواليه فلا يكون لموالي ابنه شيء، وكذلك إذا لم يكن له إلا موالي ابنه، لا يكون لهم من هذه الغلة شيء، وهذا قياس وهو قول محمد رحمه الله قول نفسه في «الجامع الكبير» : فيما إذا أوصى لمواليه وله موالي أبيه قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، وعن أبي يوسف وهو لهلال: أنه يصرف إلى موالي أبيه وإنه استحسان، ويرجع الاستحسان إلى العرف، فإن الناس في عرفهم وعادتهم يستجيزون إضافة ولاء من أعتقهم أبناؤهم إلى أنفسهم.
ولو وقف على مواليه وأولادهم ونسلهم فهو على ما قالوا لا يدخل في الوقف، وأولاد بنات مواليه إذا لم يرجعوا بولاء آبائهم إلى الواقف قال: لأنه أثبت بولاء من جملة مواليه فولد الابنة يكون ولد مواليه فيدخل تحت هذا الوقف، قال هلال: ولو كان الواقف قال في عقد الوقف: ونسلهم الذين يرجع ولاءهم إليّ لا يكون لأولاد البنات شيء، لأنه لا يرجع ولاءهم إلى الواقف.
ولو قال: على موالي وموالي موالي وموالي موالي موالي، دخل الفريق الرابع ومن هو أسفل منهم على قياس مسألة الولد، وهي: ما إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده دخل في الوقف الفريق الرابع وهو أسفل.
وإذا وقف على مواليه ثم أقر لإنسان بعد ذلك أنه مولاه قد أعتقه وصدقة الرجل في ذلك دخل في الوقف؛ لأنه ثبت ولاؤه بإقراره؛ لأن إقراره صحيح؛ لأنه يملك إثبات الولاء وإنشاءه بأن يعتق عبداً، فيملك الإقرار به. قالوا: وما ذكر من الجواب مستقيم في الغلة الجائية غير مستقيم في الغلات التي حدث قبل هذا الإقرار لأن ذلك صار ملكاً لمواليه المعروفين، فلا يصدق في إقراره في حق إبطال ملكهم عليهم،، فإن كان هذا الرجل من الموالي وله موال اعتقوه وموال أعتقهم، فإنه لا يعطي الفريقين من الغلة شيئاً وتكون الغلة للفقراء، وهكذا روي عن أصحابنا في الوصية إذا أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم، فالثلث يرد على الورثة ولا يعطي الفريقين منه شيئاً.
واذا وقف على أمهات أولاده وله أمهات أولاد باقيات عنده، وأمهات أولاد قد(6/179)
كان اعتقهن، وأمهات أولاد لم يعتقهن ولكن زوجهن دخل تحت الوقف أمهات أولاد اللاتي لم يعتقهن من كن عنده ومن كان زوجهن، ولا يدخل تحت الوقف من أعتقهن وهو قول محمد، وعن أبي يوسف أنه قال: القياس في هذا على وجهين أحدهما ما قال محمد، والثاني أن الثلث لهن جميعاً من كان أعتقهن ولم يعتقهن؛ لأن الكل أم ولد، وكذلك الجواب فيما إذا وقف على أمهات أولاد زيد ومدبراته دخل تحت الوقف أمهات أولاده ومدبراته اللاتي لم يعتقهن دون من كان أعتقهن.
وإن قال على أمهات أولاد زيد وعلى مولياته، ولزيد أمهات أولاد قد كان أعتقهن وأمهات أولاد لم يعتقهن قسمت الغلة بين أمهات أولاده وبين مولياته اللاتي كان أْتقهن ويدخل اللاتي لم يعتقهن.
ولو وقف أرضه على سالم غلام زيد ومن بعده على المساكين، فباع زيد سالماً فالغلة لسالم تدور معه كيف دار، فإن ملك الواقف سالماً بطل الوقف عن سالم. ولو قال: على سالم مملوكي ومن بعده على المساكين فالغلة للمساكين ولا يكون لسالم ولا للواقف من ذلك شيء. ثم فرق بينما إذا وقف على مملوكه فلم يجوزه وبينما إذا وقف على أمهات أولاده ومدبراته فجوزه وهن من مماليكه، وأشار محمد إلى الفرق فقال: لأن فيهن ضرباً من العتق.
الفصل الخامس عشر: في وقف المريض
إذا وقف الرجل أرضه في مرضه على الفقراء والمساكين فالوقف جائز من الثلث؛ لأنه تبرع والتبرع من المريض بمنزله الوصية المضافة إلى ما بعد الموت، فيعتبر من الثلث، كما لو أوصى بأن توقف أرضه بعد وفاته، فإنه يعتبر من الثلث كذا هاهنا، فإن كانت الأرض الموقوفة لا يخرج من الثلث بأن لم يكن له مال يخرج سوى هذه الأرض يجوز الوقف في ثلث الأرض، ويبطل في الثلثين إلا أن يجيز الورثة. وفرق بينه وبين العتق إذا لم يخرج العبد من الثلث لا يرد شيء من العبد إلى الرق ولكن يسعى في الباقي؛ لأن العتق لا يمكن فسخه ورفعه بخلاف الوقف؛ لأنه يمكن فسخه بعد موته، فجاز أن يبطل في الباقي.
وإذا جعل أرضه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على ولده وولد ولده ونسله أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن كانت هذه الأرض تخرج من الثلث صارت موقوفة تشتغل ثم تقسم غلتها على جميع الورثة على سهام الميراث حتى أنه إذا كان له زوجة وأولاد يعطى لها الثمن، ولو كان له زوجة وأولاد يعطى لهما السدسان،(6/180)
ويقسم الباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه استثنى الغلة من الفقراء وجعلها لولده والاستثناء صحيح، أما ما يجعل للولد غير صحيح؛ لأنه لا وصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة، فكان استحقاق الغلة في حقهم بحكم الإرث، فتكون القسمة على سهام الميراث، وهذا إذا كان له أولاد لصلبه ولم يكن معهم أولاد، فإن كان معهم أولاد الأولاد، والباقي (18أ3) بحاله، فإنه يقسم الغلة على عدد رؤوس أولاد الصلب وعلى عدد رؤوس أولاد الأولاد، فما أصاب أولاده لصلبه من ذلك قسم بين ورثته على فرائض الله تعالى نحو ما بينا، وما أصاب أولاد الأولاد يقسم بينهم بالسوية؛ لأنه صح جعله لولد الولد؛ لأن الوصية لهم صحيحة، فيستحقون نصيبهم بحكم الوقف وفي الوقف لا تفضيل للبعض على البعض، فاذا انقرض أولاد الصلب قسمت الغلة على أولاد أولاده ونسله ولا يكون لزوجه ولا لأبويه من ذلك؛ لأنهم يستحقون بحكم الوصية والوقف لا بحكم الإرث، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من الثلث، فإن أجازت الورثة جاز وتكون الغلة بينهم بالسوية لا يفضل الذكر على الأنثى؛ لأن في هذه الصورة صح جعل الوقف للأولاد؛ لأن الوصية للوارث صحيحة إذا أجاز باقي الورثة ذلك فيستحقون الغلة في هذه الصورة بحكم الوقف، فيكون بينهم بالسوية؛ لأنه لا تفضيل في الوقف، ولا يكون للأبوين والزوجة من ذلك شيء؛ لأن الوصية وقعت للأولاد لا غير، وإن لم يجيزوا الوقف جاز الوقف من الثلث وصار ثلث الرقبة وقفاً للفقراء، وتقسم الغلة بين جملة الورثة على فرائض الله؛ لأن جعل الغلة للأولاد لم يصح لما لم يجز الورثة
الوقف، أما استثناء الغلة من الفقراء قد صح، فتقسم الغلة بحكم الميراث فتقسم على سهام الميراث، وهذا الذي ذكرنا قول هلال والقاضي أبي بكر الخصاف والفقيه أبي بكر الاعمش والفقيه أبي بكر الإسكاف. وقال محمد بن سلمة ونصير بن يحيى رحمهما الله: إذا لم يُجْيزوا الوقف كانت الغلة للفقراء. ووجه ذلك: أن الأرض صارت وقفا للفقراء، والغلة تبع للأرض إلا أنه آثر بالغلة ولم يصح الإيثار لعدم الإجازة، فصار وجود هذا الإيثار والعدم بمنزلة فيكون للفقراء.
وقال علي بن أحمد الفارسي وأبو نصر بن محمد بن سلام رحمهما الله الغلة تكون للفقراء وإن أجازت الورثة الوقف؛ لأن إجازة الورثة إنما يعمل في إبطال حقهم لا في إبطال حق الفقراء وقد صارت الغلة حقاً للفقراء تبعاً للأرض، فلا يعمل إجازتهم في حقهم، ألا ترى أنه لو عدمت الإجازة كانت الغلة للفقراء، فلا يبطل حقهم بإجازة الورثة، ألا ترى أن حق الموصى له لا تبطل بإجازة الورثة حتى إن من أوصى بثلث ماله وأوصى لوارثه مع ذلك وأجازت الورثة لا يعمل إجازتهم في حق الموصي لها بالثلث، فكذا في حق الفقراء.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله إذا أجازوا ينبغي أن يكون ثلث الغلة للفقراء والثلثان للأولاد؛ لأن قدر الثلث حق للفقراء تبعاً للأرض في حق الورثة، والإجازة فيما وراء الثلث لاقت حق الورثة لاحق الفقراء فتعمل إجازتهم فيه، ويكون ذلك للأولاد.(6/181)
وإن وقف أرضه على قرابته، فإن كانت قرابته ورثة له، فهذا وما لو كان الوقف على الولد سواء، وإن لم يكونوا ورثة لهم جاز الوقف عليهم ويستحقون الغلة بجهة الوصية، وإن وقف على بعض ورثته دون البعض، فإن أجازوا (جاز) لما قلنا، وإن لم يجيزوا صارت الأرض وقفاً للفقراء من الثلث وتكون الغلة على قول هلال ومن تابعه للورثة على قدر مواريثهم، فإن مات الوارث الموقوف عليه، فالغلة للفقراء؛ لأن استثناء الغلة من الفقراء قد بطل بموت الموقوف عليه فعادت الغلة إلى الفقراء تبعاً للأرض، وإن مات بعض ورثة الواقف لأن الوارث الموقوف عليه حي فالغلة لجميع الورثة، ومن مات فنصيبه يصير ميراثاً لورثته.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي، وآخره للفقراء، وأوصي بذلك والأرض تخرج من ثلث المال، فإن أجازوا قسمت الغلة بين الولد وبين ولد الولد على عدد رؤوسهم، فما أصاب ولد الولد يقسم بينهم بالسوية، وما أصاب ولد الصلب فهو ميراث بين جميع الورثة لما مر. وإن هلك بعض ولد الصلب وبعض ولد الولد ينظر إلى عددهم يوم تحدث الغلة ما أصاب ولد الصلب يقسم على جميع ورثة الواقف يوم مات الواقف على قدر ميراثهم ثم حصة الميت منهم تكون لورثته؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة في حق أولاد الصلب بحكم الميراث، فينظر إلى من كان موجوداً يوم موت الواقف، فإن انقرض ولد الصلب كلهم، فالغلة لولد الولد والنسل ولا شيء لسائر الورثة؛ لأن الاستحقاق في ولد الولد والنسل بحكم الوقف ولا حصة لسائر الورثة من هذا الوقف.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من احتاج من ولدي ونسله ما تناسلوا وأخره للفقراء فهو جائز من الثلث، فإن كانوا جميعاً أغنياء فالغلة للفقراء، وإن كان ولد الولد فقيراً فالغلة له واحداً كان أو اثنين أو أكثر، فإن كان ولد الصلب فقيراً كانت الغلة بين جميع الورثة على فرائض الله، وإن كان بعض ولد الصلب فقيراً وبعض ولد الولد فقيراً قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم ثم حصة ولد الصلب تكون ميراثاً بين ورثة الواقف جملة، وحصة ولد الولد تكون له.
ولو وقف أرضه في مرض موته وأوصى بوصايا قسمت ثلث ماله بين الوقف وبين سائر الوصايا فيضرب لأهل الوصايا ولأهل الوقف بقيمة هذه الأرض، فما أصاب أهل الوصايا أخذوه وما أصاب قيمة أرض الوقف أخرج من الأرض بذلك المقدار فصار ذلك وقفاً على من وقف عليهم ولا يكون الوقف المبعد أولى.
ولو كان مكان الوقف عتقاً موقعاً في مرضه، بأن أعتق عبيداً له في مرضه وأوصى بوصايا أو كان له مدبرون حتى عتقواً بموته، فإنه يبدأ بعتق من أعتق من عبيده ويعتق من كان مدبراً، فيخرج قيمتها من ثلث ماله ويصرف ما بقي من الثلث إلى أصحاب الوصايا.
ولو قال: أرضي هذه صدقة على قرابتي بعد وفاتي يكون وصية بغير الأرض لقرابته. ولو قال: موقوفة على قرابتي بعد وفاتي تكون وصية بغلة الأرض لقرابته، والفرق(6/182)
أن الصدقة توجب زوال ملك الرقبة، والوقف لا يوجب زوال ملك الرقبة. فإذا قال: موقوفة أن قضي أن يكون باقية على ملكه ونصرف عليها إلى القرابة، بخلاف ما إذا قال: صدقة.
ولو قال: أرضي هذه تعطى غلتها بعد وفاتي لولد عبد الله ونسله وتكون وصية بالغلة، ولو قال: أرضي بعد وفاتي موقوفة على المساكين أوحبس على المساكين، فهذا الوقف جائز ومن بعدهم جعل الغلة للورثة فالغلة تكون للقوم الذين جعل لهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للورثة على قدر مواريثهم، فإذا ماتوا كانت الغلة للفقراء، هكذا ذكر هلال في «وقفه» ، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: يجب أن تكون الغلة بعد ذلك القوم للفقراء،؛ لأنه قال: ومن بعدهم للورثة ولم يبين أن المراد ورثة القوم أو ورثه نفسه، فوقع الشك (18ب3) في الاستحقاق: للورثة فلا يثبت الاستحقاق والجواب أن الواقف ذكر الورثة بالألف واللام، وإنه لتعريف العهد، ومعهود الواقف ورثته وقد مر جنس هذا.
و (لو) قال: أرضي هذه بعد وفاتي صدقة يتصدق بعينها أو يباع ويتصدق بثمنها؛ لأنه نص على الصدقة، والصدقة للفقراء، فلا يكون فيها جهالة.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على الفقراء أوصى بذلك بعد موته والأرض لا يخرج من الثلث حتى جاز في ثلث الأرض وبطل في الثلثين على ما مر، ثم ظهر للميت مال يخرج الأرض من الثلث بأن كان قيمة الأرض ألف درهم وظهر للميت ألفا درهم صار كل الأرض وقفاً، وإن ظهر له ألف درهم صار ثلثا الأرض وقفاً وبطل الثلث؛ لأنه يظهر أن ثلث ماله ثلثا الأرض، وإن كان القاضي حين أبطل الوقف في الثلثين تصرف الورثة؛ لأنه في الثلثين بالبيع أو الهبة ثم ظهر للميت مال ذكر هلال في «وقفه» أن بيع الورثة جائز ولا ينقض، هكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ، وعلل فقال: من قبل أن القاضي أطلق لهم (التصرف) بهذين الثلثين وملكهم إياه، فكان تصرفهم بناء على الملك والإطلاق الشرعي، ولكن الورثة يغرمون قيمة الثلثين فيشترى بها أرضٌ أخرى توقف، لا أنهم استهلكوا ذلك بتصرفهم فيضمنون، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: ينبغي أن ينقض بيع الورثة؛ لأنه إنما ينفذ بيعهم في الثلثين على تقدير أنه ملكهم، فإن الوقف فيه لم يصح وقد ظهر أن الوقف قد صح فيه.h
واستشهد الخصاف في «وقفه» لإيضاح قوله بمسألة الوصية فقال: ألا ترى أن رجلاً لو أوصى بأرض له لرجل وليس له مال ظاهر غيره هذه الورثة وأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فرفعوا إلى القاضي ورد القاضي الثلثين على الورثة، ثم إن الورثة باعوا ذلك ثم ظهر للميت مال يخرج كل الأرض من الثلث، فإنه لا يرد بيعهم ويضمنون للموصى له قيمة ثلثي الأرض كذا هنا، هذا إذا ظهر للميت مال، ولو حصل للميت مال بأن قتل الواقف(6/183)
عمداً ثم إن الورثة صالحوا القاتل على مال لا ينقض البيع بالإتفاق إذ لا يتبين أن الملك لم يكن للورثة في الثلثين، ولو كان باع بعض الورثة دون البعض فما لم يبع يعود وقفاً وما بيع يشترى بقيمته أرض ويوقف اعتباراً للبعض بالكل، ولو كان على الواقف دين فباع القاضي الأرض بالدين ثم يظهر للميت مال كثير،، فإن بيع القاضي لا يرد ولكن يؤخذ من المال الذي ظهر مقدار الثمن الذي باع القاضي الأرض به، ويشتري بذلك أرضاً أخرى، لقد اعتبر الثمن، ولم يعتبر القيمة حتى لو كانت قيمة الأرض ألف درهم، أو أقل أو أكثر، والقاضي باع الأرض بألف درهم وخمسمائة، يؤخذ من المال الذي ظهر قدر ألف وخمسمائة، وفي حق الورثة اعتبر القيمة ولم يعتبر الثمن.
والفرق: أن القاضي لا يلحقه العهدة فلا يمكن إيجاب القيمة؛ لأنه ينقل حق أرباب الوقف عن العين إلى الثمن، بولاية شرعية فصح النقل بخلاف الورثة؛ لأن إيجاب القيمة عليهم ممكن، روى المعلى عن أبي يوسف: أنه يعتبر القيمة في الموضعين جميعاً؛ لأنه ظهر أنه استهلك على الأرباب أرضهم كالورثة إلا أنه تعذر إيجاب ضمان القاضي فيجب في المال الذي ظهر.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي فمن هلك من ولدي لصلبي فما كان نصيبه بالإرث فهو وقف على ولد ولدي فهو جائز ويقسم الغلة على عدد رؤوس ولد الولد وعلى عدد رؤوس ولد الصلب الأحياء ومن هلك بعد موت الواقف فما أصاب الميت من ولد الصلب يكون وقفاً على ولد الولد؛ لأنه وقف عليهم فالوصية لهم صحيحة ثم ما يصيب الأحياء يقسم بينهم وبين الأموات فما أصاب الأموات يكون لورثتهم بالإرث عنهم، فإن أرادا الواقف أن يجعل ذلك وقفاً على ولد الولد ونسله فقال: وما يصيب الميت منهم من حصة ولدي الأحياء فهو وقف على ولد ولدي فهذا لا يجوز؛ لأنا لوجوزنا ذلك فما يصيبه يصير وقفاً ويخرج من أن يكون ميراثاً وقد بقي في يد الأحياء شيء من الميراث فلا يختصون به فيؤخذ منهم شيء من ذلك ثم يصير ذلك وقفاً فيرجع في الباقي حتى لا يبقى في أيديهم شيء، وذلك لا يجوز.
إذا قال في مرضه: أرضي هذه صدقة موقوفة على ابني فلان، فإن مات فهي موقوفة على ولد ولدي فلم يجز الورثة ذلك فهو ميراث بين جميع ورثته ما دام الابن الموقوف عليه حياً،، فإن مات صار كله للنسل؛ لأنه وقف عليهم والوقف عليهم صحيح إلا أنه إنما وقف عليهم بعد موت الابن فلا يستحقون شيئاً حال حياة الابن، إذا وقف أرضه في مرضه على ولده وولد ولده ولا مال له سوى الأرض فثلث الأرض وقف على ولد الولد أجازت الورثة أو لم يجيزوا؛ لأن ولد الولد أهل الوصية والوصية إن هو أهل للوصية صحيحة بقدر الثلث أجازت الورثة أو لم يجيزوا، وإما الثلثان، فإن لم يجز الورثة ذلك فذاك ملك الورثة، وإن أجازوا فذاك بين ولد الصلب وبين ولد الولد.
إذا وقف أرضه في مرضه وقفاً صحيحاً، وله مال يخرج هذه الأرض من ثلثه فتلف المال قبل موته ثم مات ولا مال له غير هذه الأرض،، فإن ثلثها وقف وثلثاها لا، وكذلك إن مات الواقف والمال قائم فتلف المال قبل أن يصل إلى الورثة، فإنه يجوز ذلك(6/184)
من الثلث، والثلثان يكون للورثة قال الخصاف في وقفه: إذا أوصى أن يكون أرضه صدقة موقوفة بعد وفاتي فحدث في الأرض ثمرة قبل وفاته، ثم توفي فإن الثمر تكون ميراثاً والأرض يكون وقفاً، فإن حدثت الثمرة بعد وفاته، فإن كانت الأرض والثمرة يخرجان من الثلث، فذلك كله وقف عليه، ولو وقف الأرض في مرضه وقفاً صحيحاً وحدث فيها ثمرة قبل وفاته، فإن الثمرة يكون وقفاً مع الأرض، ولو كان فيها ثمرة يوم وقفها وهو مريض فالثمرة ميراث لورثته.
وإذا قال المريض: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى، أبداً على زيد وولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن احتاج ولدي أو ولد ولدي كانت غلة هذه الأرض لهم دون غيرهم، وكانوا أحق بها ما كانوا محتاجين إليه، فإن احتاج إليه ولد لصلبه بعد وفاته وجميع الغلة إليهم ودخل فيها سائر الورثة فيقسم الغلة عليهم جميعاً، وإن مات بعض ورثة الواقف مثل زوجه أو أمه ثم احتاج ولده لصلبه ردت الغلة إليهم، وقسمت بين المحتاجين من ولده وبين من كان باقياً من الورثة ولا ينظر إلى من مات منهم، فإن كان له مال، فإن احتاج أحد من ولد الصلبي أجري على من احتاج من غلة هذه الصدقة مقسوماً بين أهل الوقف فهو جائز، فإن احتاج خمس أنفس من ولده نظر إلى ما يسعهم لنفقاتهم سنة إلى إدراك (19أ3) الغلة المستقبلة
فإن بلغ ذلك مثلاً مائة دينار تقسم هذه المئة بينهم، ومن سائر ورثة الواقف، فإذا قسمنا ذلك أصاب المحتاجين منهم أقل مما يسعهم لنفقة سنة ويرد عليهم من غلة هذا الوقف ما يصيبهم من ذلك مقدار مئة دينار، ثم لا بد من بيان مقدار نفقاتهم قال الخصاف: ينظر إلى ما يحتاج النظر إليه منهم لطعامه وطعام ولده وخادمه وزوجته وإدامهم وكسوتهم لسنة فيجعل ذلك الغلة لهم والله أعلم.
الفصل السادس عشر: في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم غلة
إذا وقف أرضه صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، فالغلة لهما ولو ماتا كانت الغلة كلها للفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله وزيد استثنى الغلة لهما ما عاشا فإذا ماتا بطل الاستثناء وعادت الغلة إلى الفقراء، وإذا مات أحدهما، فإن النصف للفقراء اعتباراً للبعض بالكل، وإن سمى جماعة قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم، فإن مات حصته للفقراء والباقي لمن بقي منهم.
ولو قال: على ولد عبد الله ولم يسمي فما بقي من ولد عبد الله أحد لم يكن للفقراء؛ لأن اسم الولد عام يتناول الواحد والجماعة فما بقي أحد فالاسم يتناوله فتكون الغلة له بخلاف ما لو قال: على ولد عبد الله فلان وفلان وفلان فمات أحدهما كان نصف الغلة للفقراء؛ لأن الكلام إذا تعقبه تفسير كان الحكم له فصار كأنه وقف على فلان، ولو قال: على زيد وعمرو لزيد ثلثه كان لزيد الثلث ولعمرو الثلثان؛ لأن في(6/185)
الابتداء أوجب لهما وأنه يحتمل المثالثة والمناصفة وتأخر الكلام بين أنه أراد المثالثة إذا سمي ثلثه وبين نصيب الاثنين وسكت عن الثالث كان الباقي للثالث، وكذلك إذا سمى جماعة وذكر لبعضهم أرزاقاً معلومة، فإنه يعطي ما سمى إن سمي، والباقي إن لم يسم، ولو سمى زيداً وعمراً وجعل النصف لزيد والثلثان لعمرو، فإنه يقسم على سبعة على طريق العول لزيد ثلاثة ولعمرو أربعة على قياس الفرائض، ولو قال: لزيد النصف ولعمرو الثلث يعطى لكل واحد ما سمى، والباقي بينهما نصفان؛ لأنه في الابتداء أضاف إليهما على السواء فيقتضي التسوية بينهما إلا بقدر ما وجد التفصيل يعتبر الإضافة السابقة فيكون بينهما، وكذلك إن سمى جماعة وسمى لكل واحد منهم شيئا،، فإن زادت الغلة على (ما) سمى كانت الزيادة بينهم على التسوية، وإن نقصت يتضاربون بما سمى لهم.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فزادت الغلة فالغلة الزائدة تكون للفقراء ولا يكون بينهما بخلاف المسألة الأولى؛ لأنه أطلق الوقف حيث قال: أرضي صدقة موقوفة، لو اقتصر عليه كانت الغلة للفقراء فلما قال: لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فقد استثنى هذ القدر عن حق الفقراء فما بقي يبقى على أصل الوقف، أما في المسألة الأولى جعل الوقف على عبد الله، وزيد ثم فضل أحدهما على الآخر فما بعد التفضيل يصرف إليهما على السواء قضية للإيجاب واعتبر هذا بالوصية، فإن من قال: أوصيه بثلث مالي لزيد وعمرو، ولزيد منه مئة ولعمرو مئتان وثلث ماله خمس مئة يعطي زيداً مئة وعمرو مئتان وما بقي يكون بينهما.
ولو قال: أوصيت لزيد بمئة من ثلث مالي ولعمرو بمئتين، وثلث ماله خمس مئة كان الباقي للورثة إلا أن فرق بين الوصية والوقف أن الباقي في الوصية يصرف إلى الورثة وفي الوقف يصرف إلى الفقراء، أما فيما عدا ذلك يستويان، ولو قال: صدقة موقوفة على أن لزيد مئة ولعمرو ما بقي فلم يكن الغلة إلا مئة فلا شيء لعمرو؛ لأن نصيب زيد معلوم ومسمى (ونصيب) عمرو مجهول ولا معارضة بين المعلوم المسمى وبين المجهول. ولو قال: صدقة موقوفة لعبد الله نصفها ولزيد منها مئة يعطى عبد الله نصفها ويعطى زيد من النصف الباقي والفضل للفقراء، ولو لم تكن الغلة كلها لزيد ولا شيء لعبد الله، لو كانت الغلة مئتا درهم فلعبد الله مئة ولزيد مئة ولا شيء للفقراء لو كانت الغلة مئة وخمسين فلزيد مئة وما بقي فلعبد الله؛ لأنه لو قال: على عبد الله وزيد لزيد مئة كان زيد مقدماً على عبد الله؛ لأن نصيب زيد معلوم ونصيب عبد الله مجهول وكما أن الكل مجهول فالنصف أيضا مجهول، فإذا قال لزيد: مئة ولعبد الله نصفها بأن زيداً مقدم أيضاً قال هلال رحمه الله: وفي المسألة قول آخر إذا قال لعبد الله: نصفها ولزيد مئة والغلة مئة فزيد يضرب بمئة وعبد الله بخمسين فيقتسمان كذلك حتى يكون ما يصيب زيداً مئة فحينئذٍ يعطى زيد مئة وعبد الله النصف والفضل يكون للفقراء، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي يعطى كل واحد منهم في طعامه وكسوته ما يكفيه بالمعروف قال: ويتحاصون في ذلك يضرب كل واحد منهم بما يكفيه، وهذا لأن الكفاية في نفسها(6/186)
مختلفة، من الناس من يكفيه القليل ومنهم يكفيه الكثير، ومنهم من له عيال، فإن وفى الغلة بكفايتهم يعطى كل واحد منهم كفايته، وإن نقصت يتضاربون بذلك، وإن فضلت الغلة على كفايتهم كان الفضل مقسوماً بينهم على عدد رؤوسهم ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها أعطي من ذلك كل فقير من قرابته في كل سنة ما يكفيه من طعامه وكسوته بالمعروف
ففضلت الغلة على ذلك، فالفضل يكون للفقراء بخلاف الفصل الأول؛ لأن الفصل الأول وقف على فقراء قرابتيه، وفي الفصل الثاني أطلق الوقف لو اقتصر على قوله صدقة موقوفة كانت الغلة للفقراء وقد قررنا هذا الفرق في أول هذا الفصل.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما يخرج من غلاتها فلزيد وعبد الله ألف درهم، لعبد الله من ذلك مئة فخرج من غلاتها ألف درهم كان لعبد الله مئة والباقي لزيد؛ لأنه جعل الألف لهما ثم بين نصيب أحدهما فيكون ذلك بياناً أن الباقي للآخر، فإن خرجت خمس مئة قسمت الخمس مئة بينهم على عشرة أسهم؛ لأنه أوجب الألف لهم على عشرة لما بين لزيد مئة.
ولو قال: ما أخرج الله تعالى من غلاتها يخرج منها كل سنة ألف درهم يعطى منها عبد الله مئة ولزيد ما بقي فنقصت الغلة عن ألف يبدأ بعبد الله فيعطى منها مئة، فإن بقي شيء كان لزيد وإن لم يبق شيء لزيد؛ لأنه في هذه الصورة جعل لزيد الباقي بخلاف الفصل الأول، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها فهو لعبد الله والفقراء والمساكين فعلى قول أبي يوسف وهو قول هلال النصف لعبد الله (19ب3) والنصف للفقراء والمساكين عندهما جنس واحد، واسم الجنس يقع على الواحد فكأنه وقف على عبد الله وزيد، وأما قول أبي حنيفة يكون ثلث الغلة لعبد الله والثلث للفقراء والثلث للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان مختلفان واسم الجنس يقع على الواحد، فكأنه وقف على ثلاثة نفر، وأما عند محمد فالغلة تكون على خمسة (أسهم) ، سهم لعبد الله، وسهمان للفقراء وسهمان للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان كل واحد منهما اسم جمع، وإن قل ما ينطلق عليه اسم الجمع في الوصايا المثنى.
والوقف نظير الوصايا أصل المسألة ما ذكر في «الجامع الصغير» : إذا أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده ومن ثلثه للفقراء والمساكين فعلى قول أبي حنيفة يقسم ثلث ماله على خمسة (أسهم) ، سهم للفقراء وسهم للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده وعلى قول أبي يوسف يقسم ثلث ماله على أربعة أسهم سهم للفقراء والمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده، على قول محمد يقسم ثلث ماله على سبعة أسهم، سهمان للفقراء وسهمان للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده.
ثم لا بد من تفسير الفقراء والمساكين على قول من يقول بأنهما جنسان وقد اختلفوا فيه بعضهم قالوا: الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل وقال بعضهم: على عكس هذا وقال بعضهم: الفقير الذي له شيء والمسكين الذي لا شيء له وقال بعضهم: الفقير(6/187)
الذي به زمانه والمسكين الذي لا زمانة له ولو قال فما أخرج الله تعالى من الغلة فلقرابتي والمساكين، فعلى قول أصحابنا يضرب كل واحد من القرابة بسهم؛ لأنهم معينون ويضرب المساكين بسهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهلال وعند محمد يضرب كل واحد من الجيران من الموات بسهم والمساكين بسهم وعند محمد بسهمين.
ولو قال: للفقراء والغارمين وفي سبيل الله وفي الرقاب يضرب كل فريق من هؤلاء بسهمين عند محمد وعند أبي يوسف، ولو قال: صدقة موقوفة في وجوه الصدقات الأصناف المذكورة في كتاب الله تعالى في آية الزكاة إلا أن في الوقف لا يعطى العاملين لا ما يأخذه العامل عمالة ولا عمالة في الوقف والمؤلفة قلوبهم قد ذهبوا فيقتسم الآن على الفقراء والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل وفي الرقاب
الفصل السابع عشر: في الرجل يقف أرضه على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض أو يكون بعضهم حياً وبعضهم ميتا
إذا قال: أرضي هذه صدقة على عبد الله فقال عبد الله: لا أقبل فالوقف جائز والغلة للفقراء قد ذكرنا غير مرة أن بقوله: أرضي صدقة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله جعل الغلة حال حياته بطريق الاستثناء عن مخرج حق الفقراء فإذا لم يقبل عبد الله بطل حقه وبطل الاستثناء فبقية الغلة للفقراء بأصل الوقف.
ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فأبى رجل من ولد عبد الله أن يقبل فالغلة لمن قبل منهم، ويجعل من لم يقبل بمنزلة الميت هكذا ذكر هلال والخصاف، وذكر الخصاف بعد هذه المسألة مسألة تناقضها من حيث الظاهر فقال: ولو قال: على زيد وعمرو ما عاشا ومن بعدهما على المساكين فقال: زيد قبلت وقال عمرو: لا أقبل قال لزيد: نصف الغلة والنصف الآخر للمساكين وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون كل الغلة لزيد.
ووجه التوفيق: أن في المسألة الأولى سمى ولد عبد الله واسم الولد ينطلق على من قبل فجاز، أن يكون كل الغلة له، وفي المسألة الثانية سمى رجلين واسم الرجلين لا ينطلق على قبله، قال هلال في «وقفه» عقيب المسألة التي ذكرها: فرق بين الوقف وبين الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله فمات الموصي وولد عبد الله أربعة فلم يقبل واحد منهم عادت حصته إلى ورثة الموصي قال بعض مشايخنا: ولا فرق بين المسألتين من حيث الحقيقة، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وضع المسألة في الوصية فيما إذا رد واحد منهم بعد الموصي، وبعد موت الموصي وجب الحق لهم لما عرف أن وجوب الحق في باب الوصية يوم موت الموصي فيعمل رد الراد ويبطل حقه ويعود حصته إلى الورثة، ومسألة الوقف محمول على ما إذا رد واحد منهم قبل حدوث الغلة، وقبل(6/188)
حدوث الغلة حق الموقوف عليه غير ثابت، وإنما يثبت بعد ثبوت الغلة فلا يعمل رد من رد بل يجعل كالميت فتكون الغلة للباقي، فهذا القائل يقول: لو ردَّ بعد حدوث الغلة يكون حصته للفقراء كما في الوصية لو رد بعد موت الموصي يكون حصته للورثة، وهذا القائل يقول: لو رد أحد الموصى لهم الوصية قبل موت الموصي لا يعمل ولا يكون حصته للورثة كما في الوقف إذا رد قبل حدوث الغلة، فإذاً على قول هذا القائل لا فرق بين الوصية وبين الوقف.
ومن المشايخ من فرق بين الوصية والوقف فقال في الوقف: وإن رد بعد حدوث الغلة كانت الغلة للذي قبل بكمالها بخلاف الوصية والفرق ما ذكر من وجه التوفيق، ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فلم يقبلوا جملة كانت الغلة للفقراء، ولو حدث له ولد بعد ذلك فقبل كانت الغلة له، لأن رد من رد لا يعمل في حقه واسم الولد يقع عليه فتكون الغلة له، فإن أخذ الغلة سنة ثم قال: لا أقبل ليس له ذلك ولا يعمل، رده قال الفقيه أبو جعفر: الجواب صحيح في حق الغلة المأخوذة؛ لأنها صارت ملكا له فلا يملك رده، فأما الغلة التي تحدث بعد هذا فلا ملك له فيها إنما الثابت فيها مجرد الحق، ومجرد الحق يقبل الرد وإن قال: أقبل سنة ولا أقبل فيما سوى ذلك فهو كما قال: ويكون بمنزلة الوصية بالإعتاق إذا قبلها في البعض دون البعض.
الفصل الثامن عشر: في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين فتزول تلك الصفة عن كلهم أو بعضهم
ذكر في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا وقف وقفاً على أمهات أولاده إلا من يتزوج، فإنه لا شيء لها فتزوجت واحدة منهن فلا شيء لها، فإن طلقها زوجها بعد ذلك فلا شيء لها أيضاً؛ لأنه استثنى من تزوج منهن إلا إذا شرط أن من تزوجت فطلقها زوجها فلها أيضاً؛ لأنه استثنى من هذا المستثني والاستثناء من النفي إثبات.
وكذلك لو وقف على بني فلان إلا من خرج من هذه البلدة فخرج بعضهم ثم عاد فهو على هذين الوجهين أيضاً وكذلك لو وقف على بني فلان فمن يتعلم العلم فترك بعضهم ثم اشتغل فهو على هذين الوجهين.
وفيه ايضاً: رجل وقف أرضه على ساكني مدرسة كذا ولم يقل من طلبة العلم فكذلك الجواب أيضاً؛ لأنه هو المتفاهم حتى لم تكن مدرسة كذا (20أ3) من غير طلبة العلم شيء، فيه أيضاً المتعلم إذا كان لا يختلف إلى الفقهاء فهو على وجهين إما إن كان في المصر أو خرج من المصر، فإن كان في المصر إن اشتغل بكتابة شيء من الفقه لنفسه فيما يحتاج فلا بأس بأن يأخذ الوظيفة؛ لأنه يشتغل بالتعلم؛ لأن هذا من جملة التعلم،(6/189)
وإن اشتغل بشيء آخر لا يأخذ الوظيفة، وإن خرج من المصر إن خرج إلى مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً لا يأخذ وظيفة ما مضى وإن خرج إلى بعض القرى دون مسيرة ثلاثة أيام إن أقام ثمة خمسة عشر يوماً فصاعداً لا بأس أن يأخذ لما مضى؛ لأن هذه مدة طويلة، وإن أقام دون ذلك إن كان خروجاً لا بد له منه كالخروج لطلب القوت فله أن يأخذ، وإن كان خروجاً له منه بد، فإنه لا يأخذ ولا يأخذ منه إذا كانت عنده غلة شهرين أو ثلاثة، فإن زاد على ذلك جاز لغيره أن يأخذ منه.
في «فتاوي الفضل» : امرأة أخذت نصيبها من الوقف على وجه الحاجة ثم استغنت إن استغنت قبل حدوث الغلة فعليها أن ترد وإن استغنت بعد حدوث الغلة لا ترد وإن كان ذلك قبل الإدراك؛ لأن الحق إنما يثبت عند حدوث الغلة.
في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا وقف على أقاربه المقيمين في قرية كذا وجعل آخره للفقراء فانتقل أقاربه من تلك القرية إلى قرية أخرى أو انتقل بعضهم،، فإن كانوا يحصون لا ينقطع وظيفتهم بالانتقال؛ لأنهم مستحقون بأعيانهم فصار كما لو قال لهذا الشاب: فشاخ وإن كانوا لا يحصون تنقطع وظيفتهم بالانتقال فبعد ذلك إن انتقل الكل فالغلة للفقراء، (وإن) انتقل البعض فالغلة كلها لمن لم ينتقل، فلو أنهم رجعوا إلى القرية مقيمين تعود وظيفتهم؛ لأنه أثبت الحق للمقيمين من أقاربه مطلقأ وهو بهذه الصفة، وكذلك إذا وقف على أقربائه في قرية كذا ولم يقل المقيمين وجعل آخره للفقراء فتحول بعضهم إن كانوا يحصون لا ينقطع، وإن كانوا لا يحصون انقطع وظيفة من يحول وتكون الغلة لمن لم يتحول، وإن تحولوا فالغلة للفقراء.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ومن يأخذ الأجرة من طلبة العلم في يوم لا درس فيه أرجو أن يكون جائزاً. وسئل الفقيه أبو بكر عن الوقف العلوية الساكنين ببلخ، فإن من غاب عنهم ولم يبع مسكنه ولم يتخذ مسكناً آخر فهو من سكان بلخ، ولم تبطل وظيفته ولا وقفه.
الفصل التاسع عشر: في المسائل التي تتعلق بالصك وما قدره
في «مجموع النوازل» سئل شيخ الإسلام: عن رجل وقف داراً له على أولاده وكتب في الصك وقف فلان على أولاد فلان وفلان بكذا وقفه عليهم وتصدق به عليهم في حال حياته وبعد وفاته قال: هذا يوجب إلغاءه؛ لأن هذا وصية للوارث والوصية باطلة قال: وينبغي أن يحتاط في ذلك فيكتب في حياته وصحته قال: وكذا سمعته عن السيد الإمام الأجل الأستاذ أبو شجاع وهذا الجواب صحيح فيما إذا كان له وارث أخر سوى هؤلاء الذين وقف عليهم، غير صحيح إذا لم يكن له وارث آخر لأن الوصية للوارث إنما لا تجوز لحق باقي الورثة ألا ترى أن باقي الورثة إن أجازوا الوصية كانت الوصية صحيحة.(6/190)
h
وسئل أيضاً: عن ذكر وقف كان فيه وقف فلان كذا على مواليه ومدرس مدرسة معلومة، وكان فيه بيان المقادير وشرائط الصحة وجعل آخره للفقراء فأجاب أنه غير صحيح؛ لأنه ذكر الموالي مطلقاً ولم يبين الأعلى والأسفل وكذا لم يبين التركي والهندي والرومي.
في «فتاوي أبي الليث» سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب صكاً وشهد الشهود على ما في الصك ثم قال الواقف: إني وقفت على أن يكون.... فيه جائزاً وإن لم أعلم أن الكاتب لم يكتب ذلك ولم أعلم ما في الكتاب قال: إن كان الواقف رجلاً فصيحاً يحسن العربية وقرئ عليه الصك وكتب في الصك وقف صحيح وأقر هو بجميع ما فيه لا يقبل قوله والوقف صحيح وإن كان الواقف أعجميا لا يعرف العربية، فإن شهد الشهود أنه قرئ عليه بالفارسية وأقر بجميع ما فيه لا يقبل قوله أيضاً، وإن لم يشهدوا بذلك قبل قوله إذا عرفت هذا في صك الوقف فكذا في صك البيع والإجارة إذا قال الآجر والبايع: ما علمت المكتوب في الصك.
وفيه أيضاً: سئل الفقيه أبو جعفر عن امرأة قال لها جيرانها اجعلي هذه الدار وقفاً على أنك متى احتجت إلى بيعها تبيعها فأجابت فكتبوا صكاً بغير هذا الشرط وقالوا: قد فعلنا وأشهدت عليها قال: إن قرأ الصك عليها بالفارسية وهي تسمع وأشهدت على ذلك صارت الدار وقفاً، وإن لم يقرأ عليها لا تصير الدار وقفاً؛ لأنها إنما رضيت بالوقف بشرط البيع والوقف بشرط البيع باطل، وما ذكر من الجواب في المسألتين إنما يتأتى على قول محمد؛ لأن على قول محمد الوقف بشرط أن يبيع باطل، أما لا يتأتى على قول أبي يوسف؛ لأن قوله الوقف بشرط أن يبيع صحيح، وقد ذكرنا المسألة في صدر «الكتاب» في الفصل الرابع.
سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب بذلك صكاً وأخطأ الكاتب في حدين فكتب حدين كما كانا وكتب حدين بخلاف ذلك قال: إن كان الحدان اللذان غلط في ذكرهما يوجد في ذلك الموضع لكن بين الحدين وبين هذه الضيعة الموقوفة أرض أو كرم أو دار لغير هذا الواقف جاز الوقف ولا يدخل ملك الغير في الوقف؛ لأنه وقف ملكه وملك غيره فصح وقف ملكه ولم يصح وقف ملك غيره، وإن كان الحدان غلط في ذكرهما، لا يوجد في ذلك الموضع أصلاً ولا بالبعد منه فالوقف باطل إلا إذا كانت الضيعة مشهورة مستغنية عن التحديد لشهرتها فيجوز الوقف.
وسئل أبو نصر عمن أراد أن يقف جميع ماله من الضيعة في قرية كذا وأمر بكتابة الصك في مرضه فنسي الكاتب أن يكتب بعض أمره من الأرض والكروم ثم قرئ الصك على الواقف فكان في الصك أن فلاناً وقف ماله من الضياع في هذه القرية وهو كذا فرسخاً على وجه كذا وبين الحدود ولم يقرأ عليه الفراسخ الذي نسي الكاتب لم يصر(6/191)
ذلك وقفاً إلا إذا أخبر الواقف أنه أراد بذلك جميع ماله المذكور وغير المذكور وذلك معلوم فيصير الكل وقفاً.
وفي «مجموع النوازل» سئل شيخ الاسلام رحمه الله عن صك المتولي والموصي إذا لم يذكر فيه جهة وصايته وتوليه أنه لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون وصي الأب وقد يكون وصي القاضي وأحكامهم مختلفة والمتولي قد يكون من جهة الواقف وقد يكون من جهة القاضي وأحكامهما مختلفة، فإن كتب أنه أوصي من جهة الحكم متولي من جهة الحكم ولم يسم القاضي الذي ولاه جاز؛ لأنه صار جهة توليته معلومة، وكذلك إذا كتب أنه وصي من جهة الحكم قال الصدر الشهيد في «واقعاته» على هذا القياس، إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات نحو الوقف وإجارة المشاع، ونحو ذلك فكتب وقد قضي بصحته وجوازه فاقتضى من قضاة المسلمين ولم يسم ذلك القاضي جاز، وإن لم يكن قضى بذلك قاضٍ والكاتب كتب كذلك لا شك أنه يكون (20ب3) كذباً ولكن لا بأس به فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف ما يدل عليه، فإنه ذكر إذا خاف الواقف أن يبطله قاضي، فإنه يكتب، وهذا لأن التصرف صحيح في نفسه ولكن يبطل بقضاء القاضي ببطلانه فالكاتب بهذه الكتابة يمنع القاضي عن الإبطال فلا يكون به بأساً.
وذكر الخصاف في «أدب (القاضي) » الشهادة على الحقوق، وإن شاهدين شهدا عند القاضي لرجل فقالا: نشهد أن قاضياً من القضاة أشهدنا أنه قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم أو بحق من الحقوق وسموه يعني سموا ذلك الحق إن قالوا: نشهد أن قاضي الكوفة أشهدنا بذلك ولم يسموا القاضي لم ينفذ القاضي هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي حكم وينسبوه لأن القضاء عقد من العقود فلا بد من تسمية العاقد لبيانه، قال الخصاف: وليس هذا في هذا الموضع وحده بل في جميع الأفاعيل إذا شهدوا على فعل ولم يسموا الفاعل لا تقبل الشهادة، واختلف المشايخ فيما إذا شهد الشهود على أن هذا وقف على كذا، ولم ينسبوا الواقف هل تقبل هذه الشهادة؟ بعضهم قالوا: تقبل وإليه أشار الخصاف في كتابه.
وصورة ما ذكر الخصاف: إذا قال القاضي المعزول: هذا وقف على كذا، وصدقه ذو اليد أنفذه القاضي المولى ولا يسأل المولى عن المعزول من وقفها، وبعضهم قالوا: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف على أصل أبي حنيفة حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالغلة المعدومة، فإذا شهد الشهود بالوقف، فقد شهدوا بملك الواقف، فلا بد من ذكره ليمكن إثبات الملك؛ لأن إثبات الملك للمجهول متعذر، هذا القائل يقول: بأن ما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» لا يصح دليلاً؛ لأن ثمة إنما قبل قول القاضي لضرورة مخالفاً للدليل، وهذا لأن (قول) القاضي المعزول: إن هذا وقف وسؤاله عن الواقف ربما يؤدي إلى بطلان الوقف، فإن القاضي المعزول لو قال: وقفها فلان، وجحد ورثة فلان الوقفية، يحتاج إلى إثبات الوقفية وعسى لا يقدر الإثبات، فيؤدي إلى إبطال الوقفية عني، فإنما اكتفي بالإجمال ثمة لهذه الضرورة وهذه الضرورة معدومة في حق(6/192)
الشهادة وقد رأيت في حدود «الأصل» عن محمد أن تسمية الفاعل شرط لقبول الشهادة فيتأمل عند الفتوى.
في «فتاوي أهل سمرقند» استأجر رجل من المتولي أرضاً هي وقف على أرباب معلومين، وكتب في الصك استأجر فلان بن فلان من فلان بن فلان المتولي في الأوقاف المنسوبة إلى فلان المعروف بكذا ولم يكتب اسم أب الواقف وجده ولم يعرف جاز؛ لأنه لو كتب من فلان بن فلان المتولي في كذا، وهو وقف على أرباب معلومين جاز وإن لم يذكر الواقف فهذا أحق.
وسئل الفقيه أبو جعفر عمن في يديه ضيعة، جاء رجل وادعى أنها وقف، وجاء بصك فيه خطوط عدول وحكام قد انقرضوا، وطلب من الحاكم القضاء قال: لا يعتمد الحاكم على الخطوط ولا ينبغي أن يحكم بذلك، وكذلك لو كان لوح مضروب على أرباب دار ينطق بالوقف لا يقضي بها ما لم يشهد الشهود بالوقف.
الفصل العشرون: في المسائل التي تتعلق بالدعاوى والخصومات والشهادة في باب الوقف
هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في المسائل التي تعود إلى الاستيلاء على الوقف قال الخصاف في وقفه: إذا أنكر والي الوقف: أي قيم الوقف الوقف فهو غاصب ويخرج من يده، فإن نقص منها بعد الحجر فهو ضامن، ذكر الضمان من غير ذكر الخلاف، بعض مشايخنا قالوا: هذا على قول من يرى ضمان العقار بالغصب، وهو محمد وأبو يوسف أولاً، وبه أخذ الخصاف وهلال بن يحيى، ومنهم من قال: هذا قول الكل لأن أبا حنيفة وأبا يوسف آخراً إن كانا لا يريان ضمان العقار بالغصب يريان ضمانه بالجحود، ومنهم من قال: إنهما كما لا يريان ضمان العقار بالغصب لا يريان ضمانه بالجحود، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن: في «المبسوط» و «النوادر» في وجوب ضمان العقار بالجحود، عن أبي حنيفة روايتان، وكذلك إن غصبها رجل أجنبي من القيم أو من الواقف، ثم ردها وقد انتقصت يضمن النقصان، وهذا قول محمد وأبي يوسف أولاً قال: ولا يفرق ذلك على أصل الوقف يعني ما أخذ من الغاصب من ضمان النقصان لا يصرف إلى الموقوف عليهم، وإنما يصرف إلى مرمته؛ لأن حقهم في الغلة لا في المرمة وهذا الضمان بدل الرقبة، فإن زاد الغاصب فيها زيادة من عند نفسه، فإن كان شيئا هو ليس بمال ولا له حكم المال، فإن القيم يأخذها بلا شيء، وإن كان مالاً قائماً نحو الأغراس والبناء أمر الغاصب برفع البناء وقلع الأشجار، إلا إذا كان يضر بالوقف بأن كان يخرب الأرض بقلع الأشجار أو يخرب بناء الوقف بسبب رفع بنائه فحينئذٍ لا يؤمر الغاصب به بل يمنع عنه لو أراد أن يفعل ذلك،(6/193)
ويضمن القيم قيمته من الوقف،، فإن كان عنده غلة فيه كفاية أدى من ذلك، وإن لم يكن مؤاجراً الوقف ويؤدي أجرته، وإن أراد الغاصب قلع الأشجار من أقصى موضع لا يخرب الأرض، كان له ذلك؛ لأنه ينقض ملك نفسه ولا يضر بغيره، ثم يضمن القيِّم له قيمة ما بقي في الأرض الموقوفة، إن كان الوقف أرضاً فكراها الغاصب وحفر أنهارها لا
يرجع بشيء من ذلك ذكره الخصاف في وقفه.
وإن غصب الأرض الموقوفة رجل وقيمتها ألف درهم ثم غصبها من الغاصب رجل آخر بعد ما صار قيمتها ألفي درهم فالقيم لا يبيع الغاصب الأول وإنما يبيع الثاني إذا كان الثاني مليئاً يريد به إذا غصبها رجل آخر من الغاصب الثاني وتعذر استردادها من يد الثالث والوقف يفارق الملك في هذا، وإنما كان هكذا؛ لأن إتباع الثاني انفع في حق الوقف ويختار في الوقف ما هو أنفع وأصلح للوقف، وإن كان الأول أملأ من الثاني يبيع الأول؛ لأن إتباع الأول أنفع لا يصل إلى المال في الحال، وإذا اتبع القيم أحدهما بالضمان برئ الآخر كما في الملك، وإذا أخذ القيمة من أحدهما ثم ردت عليه الأرض رد القيمة وكانت الأرض وقفاً على حالها وليس للغاصب حبسها إلى أن تصل إليه القيمة، والأصل أن مالا يجوز رهنه لا يحبس بالدين، ألا ترى أن من غصب مدبراً أو أبق من يده وضمن قيمته للمالك ثم عاد من الإباق رد الغاصب المدبر على المالك واسترد منه القيمة وليس للغاصب أن يحبس المدبر بالقيمة بخلاف ما إذا كان المغصوب قناً وأبق من يد الغاصب وأخذ المالك الضمان بزعم الغاصب ثم عاد من الإباق حتى كان للمالك أن يرد القيمة ويأخذ المغصوب كان للغاصب أن يحبسه حتى يستوفي، القيمة وإن ضاعت القيمة في يد القيم قبل أن يشتري بها أرضاً أخرى ثم ردت الأرض الوقف عليه كانت وقفاً وضمن القيمة التي أخذها من مال نفسه، ثم يرجع القيم بذلك في غلات الوقف استحساناً؛ لأن القيم كان عاملاً لأرباب الوقف في أخذ القيمة فما لحقه من الضمان بسبب ذلك يكون على أرباب الوقف كما في الوكيل (21أ3) إذا باع وقبض الثمن في يده ثم هلك المبيع قبل التسليم حتى انفسخ البيع وضمن الوكيل الثمن للمشتري يرجع بما يضمن على الموكل كذا هنا، ولكن يرجع في غلة الوقف ولا يرجع على الموقوف عليهم في أحوالهم سوى غلة الوقف؛ لأنه إنما جعل أميناً في غلة الوقف لافي
سائر أمواله وهو نظير المزارع إذا غاب فأنفق رب الأرض على الزرع في سقيه وما يحتاج إليه يرجع بذلك في نصيب المزارع لا في سائر أمواله كذا هنا، ولو كان القيم حين أخذ القيمة اشترى بها أرضاً أخرى للوقف ثم ردت الأرض الأولى عليه كانت وقفاً على حالها وخرجت الأرض الأخرى عن الوقفية وكان للقيم أن يبيعها ويوفي من ثمنها القيمة التي قبضها، فإن كان فيها نقصان كان ذلك على القيم في ماله ولا يرجع بذلك غلات الوقف قياساً واستحساناً بخلاف ما تقدم؛ لأن في هذا الفصل لما عادت الأرض الأولى إليه وقفاً ظهر أن القيم اشترى الأرض الأخرى لنفسه وقد نقد القيمة في ثمن ما اشترى لنفسه وصار مستهلكاً القيمة في منفعة نفسه فلا يرجع بنقصان ذلك في غلة الوقف، ولو كان الواقف شرط(6/194)
الاستبدال بها فباعها القيم وقبض الثمن فضاع عنده ثم ردت الدار الأولى عليه بعيب بقضاء قاضٍ ضمن القيم الثمن من مال نفسه ثم يبيع الأرض الوقف التي ردت عليه الثمن الذي غرم؛ لأن الواقف شرط بيعها عند العذر وهذا عذر حيث غرم نسبة بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك القيم عاجز عن بيعها؛ لأنها وقف لم يشترط بيعها والاستبدال بها.
إذا غصب الدار الموقوفة أو الأرض الموقوفة فهدم بناء الدار وباع الأشجار كان للقيم أن يضمنه قيمة الأشجار والنخيل والبناء إذا لم يقدر الغاصب على ردها ويضمن قيمة البناء مبنياً وقيمة الأشجار والنخيل نابتاً في الأرض؛ لأن الغصب ورد هكذا، فإن ضمن الغاصب قيمة ذلك ثم ظهرت الدار والأرض والنقض والأشجار معنى قوله ظهرت الدار قدر الغاصب على رد الدار والنقض والأشجار فالغاصب يرد العرصة على الواقف، وأما النقض والشجر فيكون للغاصب ويرد القيم على الغاصب حصة العرصة ليست بمحل النقل من ملك فلا يملكها الغاصب بالضمان، وأما البناء والأشجار، فإنما لم تكن محلاً للنقل تبعاً للأرض وقد زالت التبعية فعادت محلاً للنقل فيملكها بالضمان، ألا ترى أن البناء لو انهدم ولم يصلح النقض للعمارة كان للقيم أن يبيع النقض ممن رآى بيعه فكذا هنا، وإذا كان في أرض الوقف نخيل وأشجار استغلها الغاصب سنتين يعني الأشجار والنخيل ثم أراد رد الأرض والنخيل والأشجار والغلة معها إن كانت قائمة بعينها، وإن كانت مستهلكة ضمن مثلها وليس هذا كالزرع؛ لأن الزرع ملكه بخلاف غلة النخيل والأشجار وعليه نقصان الأرض وما أخذ من الغاصب من بدل الغلة فرق الوجوه التي سبلها عليه وما أخذ من نقصان الأرض يصرف في عماراتها.
غصب أرض الوقف وفيها نخيل وأشجار فقلع الأشجار والنخيل رجل من يد الغاصب فالقيم بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة الأشجار والنخيل نابتاً في الأرض، وإن شاء ضمن القالع ذلك،، فإن ضمن الغاصب يرجع بذلك على القالع (وإن ضمن القالع) لم يرجع بذلك على الغاصب، وإن لم يضمن القيمة أحدهما حتى الغاصب القالع وأخذ منه قيمة ما قلع فجاء القيم وأرد تضمين القالع ليس له ذلك، لأن القالع رد القيمة على الذي كانت الأشجار في يده يوم قلعها والله أعلم.
في «فتاوي أبي الليث» رجل وقف ضيعة فغصبها منه إنسان فأقام الواقف البينة قبلت بينته وردت الضيعة عليه بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لا يقول بصحة الوقف إلا إذا كان يوصي به، أو كان مضافاً إلى ما بعد الموت ولم يوجد فبقيت على ملكه، وأما على قول أبي يوسف، فلأن الوقف عنده صحيح، وإن لم يخرجه من يده وهو أولى بإصلاحها والتولية فيها.
وفيه أيضاً: وقف على نفر ليستولي عليه ظالم ولا يمكن انتزاعه من يده، وادعى بعض الموقوف عليه على واحد منهم أنه باع من هذا الظالم وسلم إليه وأراد تحليف المدعى عليه فلهم ذلك؛ لأنهم ادعوا عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن نكل قضي عليه قيمتها، وكذلك إذا قامت لهم بينة وهو قول أبي يوسف(6/195)
ومحمد والفتوى في غصب الموقوف على الضمان نظراً للوقف، كما أن الفتوى في غصب منافع الوقف على الضمان نظراً للوقف، فظن بعض مشايخ ديارنا أن هذه المسألة دليل على أن دعوى الموقوف عليه أن هذا وقف عليه صحيح، وليس الأمر كما ظنوا وهذه المسألة لا تصلح دليلاً؛ لأن الدعوى هنا ما وقع في الوقفية وإنما وقع في غصب الوقف، وإتلافه رجل وقف موضعا في حياته وصحته وأخرجه من يده فاستولى عليه غاصب وحال بينه وبينه، يؤخذ من الغاصب قيمته ويشتري به موضع آخر فيوقف على شرائط؛ لأن الغاصب لمَّا جحد صار مستهلكاً والشيء المسبل إذا صار مستهلكا يجب الاستبدال به كالفرس المسبل في سبيل الله إذا (صار) مستهلكاً فهذا استحسان أخذ به المشايخ.
رجل وقف ضيعة له ثم إن الواقف زرعها وأنفق فيها وأخرجت زرعاً والبذر من قبل الواقف فقال: أنا زرعتها لنفسي ببذري وقال أهل الوقف: إنما زرعتها للوقف فالقول قول الواقف الزارع، والزرع من قبل أن البذر له، فإن سأل أهل الوقف من قبل القاضي أن يخرجها من يده، وإذا كان قد زرعها لنفسه ولم يكن له ذلك لايخرجها من يده ولكن يتقدم إليه في زراعتها للوقف، فإن احتج بأنه ليس للوقف عنده مال ولا بذر قال له القاضي: استدن على الوقف واجعل ما تستدين به في البذر والنفقة على الزرع، فإن قال: لا يمكنني ذلك قال لأهل الوقف استدينوها: أنتم ما تشترون به بذراً وما يكون في النفقة على ذلك حتى يأخذوا ذلك مما يجيء من الغلة، فإن قالوا: لا نأمن أن نستدين نحن ونشتري البذر وما صار في يد الواقف جحد ذلك ولكن نحن نزرع، فإنه لا ينبغي أن يطلق؛ لأن الذي وقف أحق بالقيام إلا أن يكون مخوفاً عليه لايؤمن أن يبلغه،، فإن زرع الواقف الأرض وأنفق عليه فأصاب الزرع آفة من غرق أو غير ذلك وذهب الزرع فقال الواقف: استدنت وزرعت هذا الزرع الذي أعطت للوقف وجاءت غلة أخرى فأراد أن يأخذ من هذه الغلة ما ذكر أنه استدانه لذلك، وقال أهل الوقف إنما زرع ذلك لنفسه فالقول في ذلك قول الواقف وأن يأخذ هذه الغلة ما استدان لهذا الزرع، فإن قال الواقف: الزارع استدنت ألف درهم واشتريت بها بذراً وانفقت عليه، وقال أهل الوقف: إنما أنفق من ثمن البذر والنفقة على الزرع خمس مئة قال تصدق الواقف (21ب3) في مقدار ما ينفق على مثل ذلك، فإن اختلف والي الوقف يعني القيم وأهل الوقف في الزرع فقال الوالي: زرعتها لنفسي ببذري ونفقتي وقال أهل الوقف: بل زرعته لنا فالقول قول الوالي والله أعلم.
نوع منه في المسائل التي يعود إلى الدعوى في الوقف:
رجل باع أرضًا ثم قال: إني كنت وقفتها أو قال: هو وقف علي، فإن لم يكن له بينة وأراد تحليف المدعي عليه ليس له أن يحلفه؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض، وإن أقام البينة قال الفقيه أبو جعفر: قبلت البينة وينقض البيع؛ لأن أكثر ما فيه أن الدعوى لم تصح بقيت الشهادة بلا دعوى إلا أن الشهادة على الوقف مقبولة من غير(6/196)
دعوى كالشهادة على عتق الأمة وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقال بعض الناس: لا تقبل البينة لكنا لا نأخذ به.
في «فتاوى النسفي» ادعى مشتري الأرض على بائعه أن هذه الأرض وقف وقد بعتها من بائعه بغير حق قال: ليس له هذه المخاصمة إنما ذلك إلى المتولي وإن لم يكن ثمة متولي فالقاضي ينصب متولياً فيخاصمه ويثبت الوقفية فإذا ثبت ذلك ظهر بطلان البيع فيشتري المشتري الثمن من بائعه.
وفيه أيضاً: رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها وقف على من لم يسمع الدعوى منه، وإنما يسمع من المتولي وهذا؛ لأن الوقف عليه مصرف الغلة ولا حق له في الرقبة فلا تصح منه الدعوى في الرقبة، وأشار الخصاف في «وقفه» في مسائل: أن دعواه صحيحة فمن جملة تلك المسائل قال: إذا كانت الأرض في يد الغاصب أقام أهل الوقف بينة أن فلاناً وقفها عليه وأنه مات وهو مالكها لم أقضِ بأنها وقف وإنما أقضي بأنها ملك، علل فقال: لا يجوز إن ملكها بعد وقفها إذ يجوز أنه وقفها ولم يكن يملكها علل بهذه العلة لبيان أن لا يقضي بأنها وقف لا بعلة أنه ليس له ولاية الدعوى.
ومن جملة ذلك قال: قوم ادعوا أرضاً في يدي رجل وقالوا: وقفها فلان علينا والذي في يديه يقول الأرض لي فأقاموا البينة أن فلاناً وقف هذه الأرض عليهم لا يستحقون بهذه البينة شيئاً علّل فقال: لأن الإنسان قد يقف مالا يملك ولم يقل: لأنه ادعى ما ليس له أن يدعي، وكذلك لو أقاموا بينة أنه وقف علينا ومن بعدنا على المساكين وكانت في يده يوم وقفها لا يستحقون بهذا شيئاً، وكذلك لو شهد الشهود أنه أقر عندنا وأشهدنا على نفسه أنه وقف هذه الأرض وقفاً صحيحاً وأنها كانت في يده حتى مات فالقاضي لا يقضي بالوقف، ولو شهد الشهود أن فلانا أقر عندنا أنه وقف هذه الأرض وجددها وإن كان ملكها في وقت ما وقفها، قضينا بأنها وقف من قبل الوقف وأخرجناها من يدي الذي هي في يده، وحلّ المسألة صريح أن الدعوى من الموقوف عليه صحيحة إذا لو لم تكن صحيحة كانت الشهادة في حقوق العباد بدون الدعوى لا تقبل فينبغي أن لا تقبل الشهادة في هذه المسألة.
صاحب الأوقاف إذا أراد أن يسمع الدعوى في أمور الأوقاف ويقضي بالنكول وبالبينة أن ولاه السلطان ذلك نصاً أو عرف ذلك دلالة جاز؛ لأنه كالقاضي المولى، وإن لم يكن شيء من ذلك لا يجوز.
في «فتاوى أبي الليث» ضيعة في يدي رجل وضيعة أخرى في يدي رجل آخر ادعى رجل أن هاتين الضيعتين وقف عليه حده على أولاده وأولاد أولاده أبداً ماتناسلوا وأحد الرجلين غائب، فأقام المدعي البينة على الحاضر، إن شهد الشهود أنهما ملك الواقف حقهما جميعاً وقفاً واحداً، وذكر شرائط الوقف قضى القاضي الحاضر بكون الضيعتين وقفاً؛ لأن الحاضر هنا ينتصب خصماً عن الغائب فصار كأحد الورثة، وإن شهدوا أنه وقف وقفين متفرقين يقضى بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر فحسب لأن الحاضر هنا لا(6/197)
ينتصب خصما عن الغائب وفي المسألة نوع إشكال وينبغي أن يقضي بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر في الوجهين جميعاً؛ لأنه ألحق هذا بآخذ الورثة.
وذكر في «الجامع» أن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الباقين للمدعي في غير في يد ذلك الوارث، حتى أن من ادعى عيناً في تركة الميت وأحضر وارثا واحداً ليس العين المدعى في يده، وأقام بينة على دعواه لا تسمع بينته، وفي مسألتنا هذه إحدى الضيعتين في يد الغائب فكيف يقضي بوقفتيهما على الحاضر؟ وعلى قول من يقول بجواز القضاء بوقفية الضيعتين شرط ذكر حدود الضيعة التي في يد الغائب.
ادعى كرماً في يدي رجل وأقر المدعى عليه أنه وقف الكرم وقفاً صحيحاً بشرائطه للمدعي بينة، وأراد تحليف المدعى عليه إن أراد تحليفه ليأخذ الكرم لو نكل عن اليمين لايحلف؛ لأنه لا يصل إلى ذلك فلا يكون في التحليف فائدة وإن أراد أن يأخذ القيمة لو نكل عن اليمين يحلف؛ لأنه يصل إليه لو نكل ففي التحليف فائدة.
رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته ثم مات فجاء إنسان وادعى أن الضيعة له وأقر الورثة بذلك لم يبطل الوقف؛ لأن إقرارهم في حق بطلان الوقف غير صحيح ويضمنون قيمة الضيعة من تركة الميت، وهذا الجواب يجب أن يكون قول الكل لا قول محمد خاصة؛ لأنه لا خلاف في ضمان الضيعة بالإتلاف، وإنما الخلاف في وجوب الضمان بالغصب وهذا إتلاف وليس بغصب، وإن أنكر الورثة ذلك فأراد المدعي أن يحلفهم يقال له: تريد تحليفهم لتأخذ الضيعة إن نكلوا أو ليأخذوا القيمة إن نكلوا، فإن قال لآخذ الضيعة فلا يمين له عليهم؛ لأنه لا يصل إلى الضيعة إن نكلوا لما ذكرنا في فصل الإقرار، وإن قال: لآخذ القيمة فله عليهم اليمين؛ لأنه يصل إلى القيمة إن نكلوا فكان التحليف مقيداً.
في «فتاوى الفضل» بيت فوقه بيت وهو متصل بالمسجد يتصل صف المسجد نصف البيت الأسفل ويصلي في البيت الأسفل في الصيف والشتاء، اختلف أهل المسجد وأرباب البيت الذي يسكنون العلو قال الأرباب: إن ذلك ميراث لنا فالقول قولهم؛ لأن العلو في أيديهم والقول قول صاحب اليد فثبت بقولهم أن العلو ملك لهم لا يصير السفل مسجد؛ لأنه لا يتحقق الشرط وهو الخلوص وسيأتي جنس هذه المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى.
نوع منه فى المسائل التي تعود إلى الشهادة والوقف
إذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف أرضه ولم يحدها الشاهدان فالشهادة باطلة، وكذلك إن حدها أحدهما دون الآخر كانت الشهادة باطلة، وكذلك لو شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا لو قالا: لم يحدها لنا فالشهادة باطلة قال الخصاف: إلا أن تكون أرضاً مشهورة يعني شهرتها عن تحديدها، فإن كان كذلك قضيت بأنها وقف، وإن حداها بحدين فالمشهور عن أصحابنا أنه لا تقبل ومن أصحابنا من قال: إذا ذكر حدين متقابلين(6/198)
يقبل؛ لأن ما بينهما يصير معروفاً بمعرفتهما إذا كان طرفاها مستويان، وإن حداها بثلاث حدود قبلت الشهادة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله إقامة للأكثر مقام الكل، سئل الخصاف فقيل إذا قبلنا هذه الشهادة (22أ3) بثلاثة حدود كيف يحكم بالحد الرابع؟ قال: أجعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى ابتداء الحد الأول أي بإزاء الحد الأول.
وإن شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا، وحدها لنا إلا أنا نسينا لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة. وإن قالا: حدها لنا ولكنا (لا) نعرف الحدود ذكر هلال أن القاضي لا يقبل شهادتهما قال: القاضي الإمام الأستاذ الكبير أبو زيد رحمه الله تأويل هذا أنهما لم يبينا للقاضي أما إذا بيناه وعرفاه يقبل، وذكر الخصاف رحمه الله في هذه الصورة أني أجيز الشهادة وأقضي بالدار والأرض بحدودهما وقفاً وأقول للشهود: سموا الحدود فأقضي بما يسموني ويحدوني. قال هلال: وكذلك لو قالا: لم يكن في المصر إلا تلك الأرض لم تقبل، فأما إذا قالا: أشهدنا أنه وقف هذه الأرض وهو فيها ولم يحدها لنا فالشهادة جائزة إذا كانا يعرفانها. قال القاضي الإمام: تأويل هذا إذا بينا للقاضي وعرفاه، فأما إذا لم يبينا لا يقبل شهادتهما.
وإن شهدا أنه حدها لنا ولكنا لا نذكر الحدود التي حدها لنا فالشهادة باطلة، وإن كانا يعرفان الحدود لكنهما لا يعرفان الأرض؛ لأنهما كانا غائبين عنها يقبل شهادتهما، ويكلف القاضي مدعي الوقف أن يقيم شاهدين آخرين يشهدان أن هذه الأرض بحدودها هي تلك الأرض التي يشهد الشهود بوقفيتها، فإن شهدا أنه إذا.... حدودها وقفنا عليه ولكن لم يسم لنا حدودها قبلت شهادتهما.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف حصته من هذه الأرض أو من هذه الدار ولا يدريان ما حصته، فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة على قياس مسألة البيع، وهو ما إذا باع حصته من هذه الدار ومن هذه الأرض ولم يعلم المشتري حصته لا يجوز البيع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: يجوز البيع وإن لم يعلما حصته، والهبة لا يجوز إذا لم يعرف حصة الواهب بلا خلاف، فالوقف على قول أبي يوسف: لا يجوز قياساً على الهبة ويجوز استحساناً كالبيع. وجه القياس: أن الوقف إزالة الملك بغير بدل فصار كالهبة. وجه الاستحسان: أن الوقف لو لم يصح إنما لا يصح لعدم التمييز ولا وجه إليه؛ لأن وقف المشاع عنده صحيح.
وإن شهدا أنه أقر عندهما أنه جعل حصته من هذه الأرض التي في موضع كذا حدودها كذا صدقة موقوفة لله تعالى وهي ثلث جميع هذه الأرض على كذا وجعل آخره للمساكين، فنظر الحاكم فوجد حصته من هذه الأرض نصفها أو ثلثيها، قال الخصاف: يجعل جميع حصته وقفاً على الوجوه التي سبلها.
قال رحمه الله: وقد قال أصحابنا في رجل قال لآخر: بعتك جميع حصتي من هذه(6/199)
الأرض وهي ثلثها بألف درهم، فإذا حصته نصفها، فليس للمشتري إلا الثلث الذي سماه له. وقالوا فيمن أوصى لرجل فقال: أوصيت لك بثلث مالي وهو ألف درهم، فإذا ثلث ماله أكثر من ألف، فللموصى له جميع الثلث، قال الخصاف: وعندي أن الوقف نظير الوصية؛ لأنه ليس بعقد معاوضة.
وإن جعل غلة ذلك على قوم سماهم ومن بعدهم على المساكين، فصدقة القوم الذين وقف عليهم، وقالوا: إنما قصد وقف الثلث علينا، قال: تصديقهم وسكوتهم في ذلك سواء، وأقضي بجميع حقه وقفاً وأجعل للقوم الذين سماهم بأعيانهم غلة الثلث من ذلك، وأجعل فضل ما بين الثلث إلى النصف للمساكين.
وإذا شهدا على رجل أنه وقف واختلفا فيما بينهما، فشهد أحدهما أنه وقف أرضه في موضع كذا، وشهد الآخر أنه وقف أرضه في موضع كذا، وسمى موضعاً آخر لا تقبل الشهادة؛ لأنه ما شهد على وقفية كل أرض إلا شاهد واحد. ولو شهد أحدهما أنه وقف تلك الأرض وحدها، وشهد الآخر أنه وقف تلك الأرض وأرضاً أخرى قبلت الشهادة على ما اتفقا عليه.
ولو شهد أحدهما أنه وقف هذه الأرض كلها وشهد الآخر أنه وقف نصفها قبلت الشهادة على النصف، وقضي بوقفية هذه الأرض، هكذا ذكر هلال والخصاف، قيل: هذا الجواب مستقيم على مذهبهما غير مستقيم على مذهب أبي حنيفة كما لو شهد أحد الشاهدين على تطليقة وشهد الآخر على نصف تطليقة، فإن هناك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وعندهما لا يقبل على نصف تطليقة، ومنهم من قال: هذا على الإتفاق؛ لأن الأرض حصة، فصار كما لو شهد أحدهما على طلاق امرأة وشهد الآخر على طلاقها وطلاق أخرى. ولو شهد أحدهما أنه جعل له ثلث الغلة وشهد الآخر أنه جعل له نصفها قبلت الشهادة على الثلث عندهما، وإن شهد أحدهما أنه وقف نصفها مشاعاً وشهد الآخر أنه وقف نصفها مقسومة فالشهادة باطلة.
ولو شهد أحدهما أنه وقفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه وقفها يوم الجمعة قبلت الشهادة؛ لأن الوقف تصرف قولي، والقول يعاد ويكرر، فلا يضره اختلاف الزمان والمكان كالبيع، قيل: هذا على قول أبي يوسف، أما على قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف وإن كان قولياً إلا أنه يتضمن فعلاً وهو التسليم، فإن التسليم عند محمد شرط صحته وكل قول يتضمن فعلاً كالنكاح، واختلفا فيه في الزمان والمكان لا تقبل الشهادة.
ولو شهد أحدهما أنه وقفها وقفاً صحيحاً في صحته وشهد الآخر أنه وقفها بعد موته لا يقبل الشهادة؛ لأن أحدهما شهد بالوقف والآخر بالوصية. ولو شهد أحدهما أنه وقفها صحيحاً في صحته وشهد الآخر أنه وقفها في المرض قبلت الشهادة، وتكون جميع الأرض وقفا إن كان يخرج من الثلث، وإن كان لا يخرج من الثلث يصير ثلثها وقفاً؛ لأنهما اتفقا على وقف الأرض واختلفا في الوقت إن كانت الأرض تخرج من الثلث،(6/200)
وإن كانت الأرض لا تخرج من الثلث، فقد اختلفا على ثلثها واتفقا فيما وراء ذلك، فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما.
ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على المساكين قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا على الفقراء، فإن من قال: أرضي صدقة موقوفة كانت على الفقراء، فقد اتفقا على كونهما وقفاً على الفقراء، فيثبت ذلك ويبطل ما تفرد به أحدهما. والحاصل: أنهما إذا اتفقا على كونهما صدقة موقوفة وتفرد أحدهما بزيادة شيء لا يثبت الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وكونهما وقفاً على الفقراء. وعن هذا قلنا: إذا شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على زيد تكون وقفاً على الفقراء؛ لأنهما اتفقا على جعلها صدقة موقوفة.
وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه وقفها على الفقراء حكم عليه بالوقف للفقراء في قول حسن بن زياد من قبل أنه قال للفقراء والمساكين لهم سهم واحد قال: ومن قال: للفقراء والمساكين بينهما أن يجعل نصفها وقفاً للفقراء ويبطل النصف، قال: وهذا القول ما رواه محمد بن الحسن في «الجامع الصغير» .
ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، وشهد الآخر أنه جعلها على عبد الله خاصة (22ب3) قضيت بالنصف لعبد الله والنصف الآخر للفقراء، أما القضاء لعبد الله؛ لأنهما اتفقا على عبد الله، وأما القضاء بالنصف؛ فلأنهما اتفقا على النصف له واختلفا في النصف الآخر، (ولو) شهد أحدهما به لعبد الله وشهد الآخر به لزيد، فما اتفقا عليه يثبت وما اختلفا فيه لا يثبت ويجعل ذلك كالسكوت عنه ويكون للفقراء بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى اتفقا على كونه لعبد الله وزاد أحدهما لولده من بعده، فلم يثبت هذه الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وهو كونه لعبد الله. قال مشايخنا: وما ذكر من الجواب أنه يقضي لعبد الله بالنصف يجب أن يكون قول الكل؛ لأنهما لم يختلفا في لفظ الشهادة لعبد الله، وإنما زاد أحدهما حصة زيد فلم يثبت ذلك بمجرد قول فيكون للفقراء.
وإذا شهد أحدهما أنه جعل لعبد الله مائة درهم في كل سنة من غلات هذه الأرض وشهد الآخر أنه جعل له مئتي درهم لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة، كما لو شهد أحدهما لرجل بمئة درهم وشهد الآخر بمئتي درهم.
ولو قال أحدهما جعل له من الغلة في كل سنة مئة درهم، وقال الآخر: في سنة واحدة، فإنه يثبت في السنة الأولى عندهم؛ لأنهما اتفقا عليه. قال الخصاف في «وقفه» : لو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأبواب البر تقبل هذه الشهادة؛ لأن جميع ذلك من أبواب البر الأولى، لو أوصى رجل بثلث ماله في أبواب البر ففرقه القاضي في الفقراء والمساكين إن ذلك جائز.(6/201)
قال: ولو شهد أحدهما أنه جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وفقراء قرابته قال: هذا لا يشبه أبواب البر؛ لأن الذي يشهد لفقراء قرابته لم يشهد بجميع الغلة للفقراء والمساكين. ألا ترى أن رجلاً لو أوصى بثلث ماله للفقراء والمساكين وفقراء قرابته أني أنظر إلى عدة فقراء قرابته يوم مات، فأضرب لهم في الثلث بعددهم وأضرب الفقراء والمساكين بسهمين، فإن كان فقراء قرابته عشرة كان لهم عشرة أسهم وللمساكين سهمان، فكذلك في الوقف أنظر إلى فقراء القرابة وأنظر كم يصيب الفقراء، فأجعل ذلك وقفاً عليهم.
إذا شهد شاهدان أنه جعل هذه الأرض صدقة موقوفة علينا يجب أن يبطل قوله: علينا ويبقى قوله: صدقة موقوفة، فيقضى للفقراء كما لو اقتصرا على قولهما صدقة موقوفة، ألا ترى أنا ذكرنا قبل هذا أنهما لو شهدا أنه جعل أرضه صدقة موقوفة، فقال أحدهما: على عبد الله، وقال الآخر: على زيد، يبطل قولهما: على زيد وعبد الله، ويبقى على قولهما: صدقة موقوفة، قلنا: في تلك المسألة الكلام خرج مخرج الصحة؛ لأنه شهادة كله فيثبت ما اتفقا عليه لتمام الحجة ويبطل ما اختلفا فيه لعدم الحجة، وهنا الكلام خرج مخرج الفساد؛ لأنه خرج على وجه الدعوى، فيبطل كله كما لو شهدا أنه أبرأنا وفلاناً عن الدين أو شهدا أنه قذف أمنا وفلاناً بكلام واحد أو خاطب أختين فأجاب أحدهما لم يجز لما قلنا.
ولو شهدا أنه وقف أرضه علينا وعلى قوم آخرين فذلك كله باطل ولا يجوز للشركاء سواهم؛ لأن الكلام خرج على وجه الفساد. وكذلك إذا قالا: على قرابته وهما من قرابته، أو قالا: على نسله، أو قالا على آل عباس وهما من آل عباس، ولو قالا: علينا وعلى قوم آخرين معلومين، فأردنا أن لا تبطل شهادتهما، فلم يقبل ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه تمحض كلاً منهما شهادة وانعدمت التهمة وصار كالصغير إذا شهدا بالبيع وقالا: سلمنا الشفعة قبلت شهادتهما، ولو شهدا لقرابة الواقف وهما من قرابته وقالا: لم يقبل ذلك لم يقبل شهادتهما؛ لأن أولادهما من قرابتهما وردهما في حق الأولاد ولا يعمل فصارا شاهدين لأولادهما، وكذلك إذا لم يكن لهما أولاد؛ لأنه ربما يخلق لهما، فيستحقون بهذه الشهادة فصارا شاهدين لأولادهما مؤجلاً والبيع المؤجل والمعجل في منع قبول الشهادة على السواء.
إذا وقف الرجل كراستة على مسجد لقراء القرآن أو على أهل مسجد وهم يحصون حتى جاز الوقف، فشهد أهل ذلك المسجد على وقف الكراست فهذه الشهادة نظير مسألة شهادة مدرسته على وقف تلك المدرسة أو شهادة أهل محلة على وقف تلك المحلة والمشايخ فصلوا الجواب فقالوا في شهادة أهل المدرسة: إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن كانوا لا يأخذون تقبل وكذلك قالوا في أهل المحلة: من(6/202)
شهد وهو ممن يأخذ من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذ تكون هذه شهادة جار معهم وكذلك الشهادة على وقف مكتب وللشاهد صبي في المكتب.
وقيل في هذه المسائل: يقبل الشهادة على كل حال؛ لأن كون الفقيه في المدرسة وكون الرجل في المحلة وكون الصبي في المكتب ليس بأمر لازم بل ينتقل الرجل من مدرسة إلى مدرسة ومن محلة إلى محلة، والصبي من مكتب إلى مكتب، وعن هذا قلنا: إذا شهدا أنه وقف على فقراء جيرانه وهما من فقراء جيرانه أو شهدا أنه وقف على فقراء هذا المسجد أو شهدا أنه وقفها على فقراء أهل السجن بالبصرة أو على فقراء أهل مصر كذا، وهما من ذلك تقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا أنه وقف على فقراء القرابة وهما من فقراء القرابة حيث لا تقبل شهادتهما؛ لأن الجوار لا يدوم بل يتحول وينقطع، فإنما يستحق بالجوار وقت القسمة وذلك غير ثابت وقت الشهادة، فلم يكن شاهداً لنفسه فلا يمنع قبول الشهادة، فأما القرابة فإنها تدوم ولا تنقطع، فإنما يستحق بهذه القرابة ألا ترى أن فقراء القرابة، تعين يوم حدوث الغلة وفي فقراء الجيران، وهذه المسائل تعتبر وقت قسمة الغلة بجوار يثبت الاستحقاق في الجوار وقت القسمة، وذلك ليس بموجود للحال وسبب الاستحقاق في القرابة هو القرابة قبل القسمة وهو موجود في الحال.
أرض في يدي رجل يزعم أنها ملكه، فادعى قوم أن هذا الرجل وقف هذه الأرض علينا وقفاً صحيحاً وذو اليد منكر، فأقاموا بينة على ما ادعوا قبلت بينتهم وحكمت عليه بالوقف وأخرجتها من يده، وهذه المسألة تصريح أن الدعوى من الوقف عليه صحيح. وكذلك إذا ادعى رجل على رجل أنه وقف هذه الأرض على المساكين وهو يجحد ذلك، وأقام بينة على إقراره بذلك حكمت عليه بالوقف للمسلمين، وأخرجت الأرض من يده تقبل الشهادة على أهل الوقف بالشهرة وعلى الشرائط لا (تقبل) ، هو المختار ويقبل الشهادة على الشهادة في الوقف، وكذا شهادة النساء مع الرجل.
نوع منه: رجل جاء إلى قاضي بلدة (فقال:) إني كنت أميناً للقاضي الذي كان قبلك هنا وفي يدي صدقة كانت لرجل يقال له فلان بن فلان وقفها على قوم معلومين سماهم قبل قوله إذا لم يكن للواقف ورثة ولم يعلم من أمر هذه الصدقة غير ما أقر به هذا الرجل، وإن كان له ورثة، فقال: هو ميراث بيننا، وليس بوقف فالقول قولهم ويكون ميراثاً بينهم (23أ3) وإن قالت الورثة: هي وقف علينا وعلى نسلنا ومن بعد ذلك على المساكين، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء والمساكين دونكم، فالقول قول الورثة، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء ولم يقل وقفها فلان، وقال قوم: هو وقف علينا وعلى نسلنا وقفها أبونا، فالقاضي يقضي بالوقفية ولا ينظر إلى قول الورثة هذه الجملة (في) «أجناس الناطفي» الوقف الذي تقادم أمره ومات الشهود الذين يشهدون عليها تنازع فيها قوم، قال فريق: هي وقف علينا وقفها فلان يعني ذلك الرجل الذي ادعى الفريق الأول الوقف من جهته، فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: إذا كان للواقف ورثة أحياء وفي هذا الوجه يرجع إلى الورثة؛ لأنهم قائمون مقام الواقف يرجع(6/203)
إليهم سواء كان لها رسوم في دواوين القضاة يعملون عليها أو لم يكن، فأي فريق عينه الورثة، فالقاضي يجعل الوقف له، وإن لم يكن للواقف ورثة أحياء فهذا على وجهين أيضاً: إن كان لهذه الأوقاف رسوم في دواوين القضاة يعملون، فإذا تنازع فيها أهلها، فإنها تجري على الرسوم الموجودة في دواوينهم؛ لأنهم دليل ظاهر وليس هنا دليل فوقه، وإن لم يكن في دواوين القضاة رسوم يعملون عليها، فالقاضي يجعلها موقوفة فمن أثبت في ذلك حقاً قضى له به؛ لأنه لا دليل هنا أصلاً في «واقعات الناطفي» فإن اصطلح الفريقان على الشجأ فيما بينهم، فالقاضي ينفذ ذلك ويقسم الغلة عليهم بينهم.
وإذا كان الأرض في يدي رجل وهو يقول: إنها كانت لفلان وقفها على كذا، وقالت الورثة: بل وقفها الميت علينا وعلى نسلنا ومن بعدنا على المساكين والذي قالت الورثة خلاف ما قاله الرجل، فإن القاضي يمضيه على ما أقر به الورثة إذا لم يجد القاضي في ديوان الحكم الذي قبله كتباً من الصك فيها رسوم الوقف، وإن لم يكن الوقف في يد الأمناء بل وجد أمران من في يده، فأما إذا كان الوقف في يد الأمناء ولها رسوم في ديوان من مثله، فإنه لا يقبل قول الورثة فيما ليس في أيدي (الأمناء) .
سئل شيخ الاسلام عن وقف مشهور اشتبهت مصارفه وقدر ما يصرف إلى مستحقيه، قال: ينظر إلى المعهود من حاله فيما سبق من الزمان أن قوّامها كيف يعملون فيه؟ وإلى من يصرفونه؟ وكم يعطون؟ فيبني ذلك (على الظاهر) ؛ لأن الظاهر أنهم كانوا يفعلون ذلك على موافقة شرط الواقف وهم الظنون بحال المسلمين فيعمل على ذلك.
في «فتاوى الفضلي» : وقف في يد صاحب الأوقاف فوجد في صك ذلك الوقف أن الفاضل من نفقته يصرف إلى فقراء أهل السكة الموجودين يوم الوقف، يضرب لكل واحد منهم بسهم ولسائر الفقراء بسهم وكل من مات منهم سقط سهمه وقسم بين الباقي منهم على ما وصفت، فإذا انقرض فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف كان فقراء أهل السكنة ومن سواهم من فقراء المسلمين في ذلك سواء؛ لأن فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف استحقوا بأعيانهم فصار للكل سهم واحد.
في وقف «الخصاف» : رجل وقف ضيعة له، فقال: قد جعلت ضيعتي المعروفة بكذا وهي مشهورة مستغنية لشهرتها عن تحديدها صدقة موقوفة على وجوه سماها وجعل آخرها للمساكين جاز، فإن ادعى الواقف أن فراخاً منها لم يدخل في هذا الوقف قال: إن كانت حدود هذه الضيعة مشهورة معروفة وكان هذا الفراخ داخلاً في حدودها فهو داخل في الوقف، وكذا إن كانت هذه الضيعة معروفة عند الصلحاء من جيرانها وكان الفراخ منسوباً إليها معروفاً أنه منها فهو داخل في الوقف، فإن لم يكن الأمر على ما بينا، فالقول قول الواقف ولا يكون هذا الفراخ داخلاً في الوقف وكان القياس أن يقبل قول الواقف فما أقربه كان وقفاً صحيحاً وما جحد كان مشكلاً كان القول فيه قول الواقف. وأما الدار(6/204)
يقفها الرجل ولها حجر، فقال الواقف: إن بعض الحجر لم يدخل في الوقف قال: ما كان من هذه مما يشتمل عليه حدود الدار، فهي داخلة في الوقف، والدار لا يشبه الضياع من قبل أن جيران الدار والملاصقين بها لا يكاد يشكل عليهم أمرها وحدودها، فإن كان أشكل ذلك على الجيران حتى لا يعرفوها، فالقول قول الواقف.d
ولأهل الوقف أن ينازعوه وأن يستحلفوه على ما أنكر من ذلك.
فإن لم يكن وقفها على قوم وإنما وقفه على وجوه البر من يكون الخصم فيه؟ قال: من نازعه في ذلك من المسلمين وقدمه إلى الحاكم ينظر، فإن كان المنازع في ذلك رجلاً من أهل الستر والصلاح تطوع بالقيام لذلك ليس ممن يشاكل الناس وما رأى الحاكم أن يجعله خصماً في ذلك فعل ما هو أصلح.
وقف في يد الواقف يصرف الأموال على القرابة ومواليه يفضل البعض على البعض ويضع فيمن شاء، ثم مات هذا الواقف، وأوصى إلى آخر ولم يبين كيف كان سبيل الواقف، فالثاني يصرف إلى من يصرف إليه الأول؛ لأن الظاهر أن الأول إلى من كان يصرف الزيادة عرف قراباته ومواليه يصرفه إلى الفقراء.
الفصل الحادي والعشرون: في المساجد وهو أنواع
نوع منه الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية ليست بشرط لصيرورة المكان مسجداً صحة ولزوماً عند أبي حنيفة بخلاف سائر الأوقاف على مذهبه، وقول أبي حنيفة في المسجد في أنه لا يشترط الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية كقولهما، وأما القبض والتسليم شرط لصيرورته مسجداً عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف ليس بشرط حتى إن عنده يصير مسجداً بمجرد البناء، وعندهما لا يصير مسجداً بمجرد البناء ما لم يوجد القبض والتسليم، وبالصلاة بجماعة يقع القبض والتسليم بلا خلاف حتى إنه إذا بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه فصلى فيه جماعة، فإنه يصير مسجداً ويشترط مع ذلك أن تكون الصلاة بأذان وإقامة جهراً لا سراً حتى لو صلى جماعة بغير أذان وإقامة سراً لا جهراً لا يصير مسجداً عندهما ولا يقع القبض والتسليم بالصلاة وحده عند محمد، وعن أبي حنيفة روايتان في رواية الحسن لا يقع القبض والتسليم وفي رواية غيره يقع القبض والتسليم.
فإن جعل مؤذناً وإماماً وهو رجل واحد، فأذن وأقام وصلى وحده صار مسجداً بالاتفاق؛ لأن أداء صلاته كالجماعة، ألا ترى أن أصحابنا قالوا: مؤذن مسجد إذا أذن وأقام وصلى وحده ليس لمن يجيء بعد ذلك أن يصلي بالجماعة في ذلك المسجد.
في «فتاوي سمرقند» فإن كان هذا الرجل الذي جعل مسجداً صلى فيه بنفسه يصير مسجداً، ذكر هلال في «وقفه» ما يدل على أنه يصير مسجداً، فإنه قال: كان أبو حنيفة(6/205)
يقول: لا يكون مسجداً حتى يصلى فيه وقوله يصلى فيه على ما لم يسم فاعله، فهذا دليل على أن صلاته وحده وصلاة غيره فيه سواء.
وروى (23ب3) الحسن عن أبي حنيفة: أن يشترط صلاة غيره وبقبض المتولي هل يصير مسجداً من غير أن يصلى فيه؟ فقد اختلف المشايخ فيه ويكتفى بصلاة واحدة بالجماعة لصيرورته مسجداً ذكره في «الوقف» للحسن بن زياد. وفي «وقف هلال» البصري والخصاف قال أبو حنيفة: لا يكون مسجداً حتى يصلى فيه جماعة بإذنه.
قال في آخر صلاة «الإملاء» : رواية بشر بن الوليد قال أبو حنيفة: لا يصير مسجداً حتى يقول: صلوا فيه جماعة أبداً، ولو أمر القوم أن يصلوا فيه جماعة صلاة أو صلوات يوماً أو شهراً لا يكون مسجداً حتى يقول ما بيناه من القول.
وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب العين من كتاب الهبة والصدقة رجل له أرض ساحة لا بناء فيها، أمر قوماً أن يصلوا فيها بجماعة، فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أمرهم بالصلاة فيها أبداً نصاً بأن قال: صلوا فيها أبداً أو أمرهم مطلقاً ونوي الأبد وفي هذين الوجهين صارت الساحة مسجداً لو مات لا يورث عنه، وأما إن وقت الأمر باليوم أو الشهر أو السنة وفي هذا الوجه لا تصير الساحة مسجداً لو مات تورث عنه.
في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو جعفر عن وقف بجنب المسجد والوقف على المسجد، فأرادوا أن يرفدوا في المسجد من ذلك الوقف قال: يجوز وينبغي أن يفعل ذلك بإذن الحاكم؛ لأن الولاية للحاكم. وسئل أبو القاسم عن أهل مسجد أراد بعضهم أن يجعلوا المسجد رحبة أو الرحبة مسجداً أو نجد موالٍ له باباً أو يحولوا بابه عن موضعه، فأبى البعض ذلك، فإذا اجتمع أكثرهم وأفضلهم على ذلك، فليس للأقل منعهم عنه.
وفي قسمة «فتاوي أبي الليث» الطريق إذا كان واسعاً فبنى فيه أهل المحلة مسجداً للعامة ولا يضر ذلك بالطريق فلا بأس به؛ لأن الطريق لهم والمسجد لهم أيضاً، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا أشياء من الطريق في دورهم نص في «العيون» أنه ليس لهم ذلك، وإن كان لا يضر ذلك بالطريق؛ لأن الطريق للمسلمين والدور لأربابها خاصة.
وإن أرادوا أن يجعلوا شيئاً من المسجد طريقاً للمسلمين، فقد قيل: ليس لهم ذلك وإنه صحيح. وفي كراهية «فتاوي أهل سمرقند» قوم بنوا مسجداً واحتاجوا إلى مكان ليتسع وبجنبه طريق المسلمين، فأخذوا شيئاً من الطريق وأدخلوه في المسجد إن كان لا يضر بأصحاب الطريق رجوت أن لا يكون به بأساً، ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهاً منه صح عن عمر وكثير من الصحابة وصفهم أنهم أخذوا أرضين بكره من أصحابها، وزادوا في المسجد الحرام حين ضاق بهم.
وفي «فتاوي النسفي» : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن متولي مسجد جعل منزلاً موقوفاً على المسجد مسجداً وصلى فيه الناس سنين ثم ترك الصلاة فيه، فأعيد منزلاً مستعملاً ينفق عليه على ذلك المسجد كما كان، قال: يجوز، قيل: فهل صح جعل المتولي المنزل مسجداً؟ قال: لا.(6/206)
في «فتاوي أبي الليث» سلطان أذن لأقوام أن يجعلوا أرضاً من أرض الكورة في مسجدهم ويزيدوا فيه ويتخذوا حوانيت موقوفة على مسجدهم، قال الفقيه أبو بكر: إن كانت البلدة فتحت عنوة يجوز أمره إذا كان ذلك لا يضر بالمارة، وإن كانت فتحت صلحاً لم يجز أمره؛ لأنها إذا فتحت عنوة صارت ملكاً للغزاة، وللسلطان فيها تدبير، فإن له الخيار في الأراضي التي فتحت عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء من على أهلها برقابهم وأراضيهم، وإن شاء دفع البعض إلى الغانمين وترك البعض على أهلها، وإذا كان للسلطان تدبير فيها صح أمره فيها. أما الأرض التي فتحت صلحاً بقيت على ملك ملاكها ولا تدبير للإمام فيها، فلم يصح أمر الإمام فيه.
وفي «الجامع الصغير» رجل جعل داره مسجداً تحته سرادب وجعل باب المسجد إلى الطريق وعزله، فإنه لا يصير مسجداً حتى لو مات يورث عنه، وله أن يبيعه حال حياته؛ لأن المسجد لا يكون لله تعالى (إلا) خالصاً، وفي هذين الفصلين لا خلاص؛ لأن الأرض أو السطح من هذا المسجد لا يكون لله تعالى.
وفي «المنتقى» : اتخذ من داره مسجداً أشرعه وجعل على الظلل منه غرفة ومسكناً، فهذا ملك له وله أن يبيعه، وكذلك الصحن الذي عليه بناء ولا تحته مسكن يريد أنه كما لا يثبت لما تحت المسكن حكم المسجد لا يثبت للباقي، وهو الصحن حكم المسجد لما أشار إليه في «الكتاب» أن هذا مسجد واحد، وعن أبي يوسف أنه أجاز أن يكون الأسفل مسجداً والأعلى ملكاً؛ لأن الأسفل أصل عن محمد أنه حين دخل الري ورأى ضيق الأمكنة جوز ذلك.
وإن جعل وسط داره مسجداً وأذن للناس بالدخول فيه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه. وفي «الأجناس» في «نوادر هشام» : قال سألت محمد بن الحسن عن نهر قرية كثير أهلها لا يحصى عددهم وهو نهر قناة أو نهر وادي لهم خاصة أراد قوم أن يعمروا بعض هذا النهر ويبنوا عليه مسجداً ولا يضر ذلك بالنهر ولا يعرض لهم أحد من أهل النهر، قال محمد رحمه الله: يسعهم أن يبنوا ذلك المسجد للعامة والمحلة. ولو كان مسجد في محلة ضاق على أهله ولا يسعهم أن يزيدوا فيه فسألهم بعض الجيران أن يجعلوا ذلك المسجد له ليدخل هو داره ويعطيهم مكانه عوضاً ما هو خير له فيتسع فيه أهل المحلة، قال محمد: لا يسعهم ذلك.
إذا أراد إنسان أن يتخذ تحت المسجد حوانيت غلة يلزمه المسجد أو فوقه ليس له ذلك.
في «الحاوي» وفي «المنتقى» : إذا بنى الرجل مسجداً وبنى فوقه غرفة وهو في يده فله ذلك، وإن كان حين بناه خلى بينه وبين الناس ثم جاء بعد ذلك بنى لا يترك.
في «الفتاوي» : سئل أبو القاسم عمن أراد أن يهدم مسجداً ويبنيه أحكم من بنائه الأول، قال: ليس له ذلك، تأويل هذه المسألة: إذا لم يكن هذا الرجل من أهل هذه المحلة، فقد ذكر في «الواقعات» عن أبي حنيفة رحمه الله: لأهل المسجد أن يهدموا المسجد ويجددوا بناءه ويضعوا الحباب ويعلقوا القناديل، ولو أصاب من قنديلهم رأس(6/207)
رجل لا ضمان عليهم، ولو علق أهل محلة أخرى ضمنوا، وهذا إذا أراد أهل المحلة أن يعلقوا ذلك من مال أنفسهم، فأما إذا أرادوا أن يعلقوا ذلك من الوقف ليس لهم ذلك إلا أن يأمر القاضي؛ لأن هذا تصرف بالوقف وليس لهم هذه الولاية.
نوع منه
إذا جعل أرضاً له مسجداً وشرط من ذلك شيئاً لنفسه لا يصح بالإجماع، فرق بين هذا وبينما إذا وقف أرضاً له على الفقراء وشرط بعض الغلة لنفسه، فإنه يصح، والفرق يخرج على ما ذكرنا في تلك المسألة يعرف ذلك بالتأمل إن شاء الله تعالى، ومعنى آخر للفرق: أن في الوقف يصير شارطاً لنفسه من ملك الغير؛ لأن الغير بالوقف يزول ملكه إلى الله تعالى؛ لأنه لا يشترط لنفسه شيئاً من العين إنما يشترط من الغلة والمنفعة، وإذا زال العين عن ملكه فالمنافع تحدث على ملك الله تعالى فصار شارطاً لنفسه من ملك الغير فيصح، وفي المسجد يصير شارطاً لنفسه بعض ملك نفسه فلا يصح.
وفي «وقف الخصاف» : إذا جعل أرضه مسجداً وبناه وأشهد أن له إبطاله وبيعه فهو شرط باطل ويكون مسجداً ولا يشبه الوقف، وأشار إلى الفرق فقال: ألا ترى لو بنى مسجداً لأهل محلة وقال: جعلت هذا المسجد لأهل هذه المحلة خاصة كان (24أ3) لغير أهل تلك المحلة أن يصلي فيه، وفي الوقف لا يرجع إلى غير من شرط له.
إذا جعل أرضه مسجداً فخرب ما حول المسجد من المحلة واستغنى أهل المحلة عن ذلك المسجد عاد إلى ملك صاحبه إن كان حياً وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً عند محمد رحمه الله.
وفي «السير الكبير» : إذا خرب القرية التي فيها المسجد وجعلت مزارع وخرب المسجد فلا يصلي فيه أحد فلا بأس بأن يأخذه صاحبه ويبيعه ممن يجعله مزرعة أو يجعله مزرعة لنفسه، وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: لا يعود إلى ملك الثاني إن كان حياً ولا إلى ورثته إن كان ميتاً وهو مسجد أبداً على حاله فمحمد يقول: إنه أزال ملكه بجهة وقد بطلت تلك الجهة لو بقيت الإزالة كانت الإزالة مطلقاً، وبهذا الطريق لو كفن ميتاً ثم افترسه السبع عاد الكفن إلى ملك صاحبه، وكذا إذا علق قنديلاً وبسط حصيراً أو بواري في المسجد ثم خرب المسجد واستغنى عنه عادت هذه الأشياء إلى ملك صاحبها، وأبو يوسف يقول: هو أزال ملكه بجهة ولكن لم يبطل تلك الجهة؛ لأن ما جعلها مسجداً ليصلي فيه أهل هذه المحلة لا غير، وإنما جعلها مسجداً ليصلي فيه العامة؛ لأن للعامة حق إقامة الصلاة في المساجد، والصحيح من مذهب أبي يوسف في فصل الحصير أنه لا يعود إلى ملك صاحبه بخراب المسجد بل يحول إلى آخر ويبيعه قيم المسجد للمسجد. وأما فصل الكفن قلنا: تكفين الميت ليس بإزالة للعين عن ملكه بل هو تبرع بالمنفعة لحاجة الميت، فكان بمنزلة العارية حالة الحياة وقد وقع الاستغناء للمستعير، فتعود المنفعة إلى المعير كما في حالة الحياة، وقال محمد في الفرس: إذا جعله الرجل حبيساً في سبيل الله، فصار لا يستطاع أن يركب أنه يباع ويصير ثمنه لصاحبه أو ورثته على حسب ما قال في المسجد.(6/208)
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن من جعل جنازة وملأة ومغتسلاً الذي يقال بالفارسية: حوض مسين وقفاً في محلة، فمات أهلها كلها لا يرد إلى الورثة بل يحمل إلى مكان آخر، قال رحمه الله: فرق محمد رحمه الله بين هذا وبين المسجد إذا خرب ما حوله أن يصير ميراثاً، وفي هذه الفصول نوع إشكال، وينبغي أن يعود إلى الوارث على قياس مسألة الحصير والبواري، وإن صح هذا من محمد تصير هذه المسائل رواية في الحصير والبواري أنه لا يعود إلى الوارث.
في «المنتقى» : في مسجد يريد أهل المحلة أن يحولوه إلى موضع آخر، فإن ترك هذا حتى لا يصلى فيه، فللناس أن ينتفعوا به ويجعلون المسجد في غير هذا الموضع بمنزلة الخراب، وتأويل هذا إذا لم يعرف للمسجد بانٍ على ما نبينه إن شاء الله، فأما إذا لم يترك كما وصفت لك، فإنه لا يبيعونه ولا يتخذونه مسكناً، وهذه المسألة على هذا التفصيل إنما تتأتى على قول محمد.
وفي «الأجناس» : إذا خرب المسجد ولا يعرف بانيه وبنى أهل المسجد مسجداً آخر ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه في ثمن المسجد الآخر فلا بأس به. قال أبو العباس الناطفي في «الأجناس» : فقياسه في وقف هذا المسجد أنه يجوز صرفه إلى عمارة مسجد آخر إذا لم يعرف الواقف ولا وارثه، فأما إذا عرف للمسجد بان فليس لأهل المسجد أن يبيعوه؛ لأنه لما خرب ووقع الاستغناء عنه عاد إلى ملك بانيه أو ورثته، فلا يكون لأهله أن يبيعوه وما ذكر من الجواب، أما لم يعرف بانيه قول محمد لا قول أبي يوسف هو مسجد أبداً، فلا يكون لأهل المسجد أن يبيعوه، وعن أبي سلمة السهمي، قال محمد: في مسجد إذا خرب فلا يعرف بانيه فحكمه حكم الأرض عامرة لا يعرف لها رب، فيكون أمرها إلى الإمام.
قال أبو العباس الناطفي في «الأجناس» : اختلفت الروايات في تولية بيع المسجد والأوقاف إذا خرب ذكر في «نوادر هشام» في باب الوصايا في الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين، فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه آخر، ولا يجوز بيعه إلا للقاضي في قول محمد.
وفي «جامع الكيساني» : إذا جعلت امرأة مصحفاً حبيساً في سبيل الله وتحرق المصحف وبقيت الفضة التي عليه دفع ذلك إلى القاضي حتى يبيعه ويشتري مصحفاً مستقبلاً، فيجعله حبيساً، ولو جعل فرساً حبيساً في سبيل الله فأصابه عيب لا يقدر على أن يغزو عليه لا بأس للوكيل أن يبيعه يريد به القيم ثم يشتري بثمنه فرساً آخر يغزو عليه، وبيع الوكيل جائز في ذلك بغير أمر القاضي، وهو بمنزلة المسجد إذا خربت القرية كان لصاحبه أن يأخذه ويبيعه.
فرع على مسألة المصحف
لو صار المصحف لا يعطي ثمنه مصحفاً يرد ذلك على الورثة، فاقتسموا على فرائض الله تعالى قال الكسائي: وهو قول أبي يوسف ومحمد. وفي وصايا «الإملاء»(6/209)
رواية بشر بن الوليد: إذا جعل أرضه صدقة موقوفة بما فيه من الرقيق والبقر والآلة فتغير عن حاله حتى لا ينتفع به في الصدقة ليس له بيعه إلا بأمر القاضي.
نوع منه في ذكر المسائل التي تعود إلى ما في المسجد في «المنتقى» وفي «الوصايا» لابن سماعة عن محمد رحمهما الله: رجل اشترى بواري المسجد لم يكن له أن يأخذها، ولو اشترى قناديل المسجد وحباباً فوضع في المسجد كان له أن يأخذ ذلك، فقد فرق على هذه الرواية بين البواري وبين القناديل والحباب.
ذكر في «المنتقى» أيضاً بعد هذه المسألة بمسائل إبراهيم عن محمد عن أبي حنيفة إذا أخرج الرجل البواري في المسجد فليس بميراث وهو قول محمد. وكذلك قال محمد في القناديل سوى في رواية ابراهيم بين القنديل وبواري المسجد إذا صارت حلقاً واستغنى أهل المسجد عنها وقد طرحها إنسان، فإن كان الذي طرحها حياً فهي له؛ لأنها لم تزل عن ملكه، هكذا ذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» وهذا التعليل ليس بصحيح، فإن أحداً من العلماء لم يقل بأن البواري لا يزول عن ملكه، وإنما اختلفوا في عودها إلى ملكه عند وقوع الاستغناء عنها على ما مر قبل هذا، وإن كان الذي قد طرحها ميتاً ولم يدع وارثاً آخر جوابه لا بأس بأن يدفع أهل المسجد إلى فقير وينتفعوا بالثمن في شراء حصير آخر للمسجد. قال الصدر الشهيد: هكذا ذكر الفقيه أبو الليث في فتاويه، قال: والفتوى على أنه لا يجوز إذا فعلوا ذلك من غير أمر القاضي.
وفي «المنتقى» بواري المسجد: إذا خلقت فصار لا ينتفع بها، فأراد الذي بسطها أن يأخذها ويتصدق بها ويشتري مكانها فله ذلك، وإن كان هو غائبا، فأراد أهل المحلة أن يأخذوا بواري فيتصدقوا بها بعد ما خلقت لم يكن لهم ذلك إذا كان لها قيمة فلا بأس بها.
في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو بكر عن حشيش المسجد يخرج عن المسجد أيام الربيع، قال: إن لم يكن له قيمة فلا بأس بطرحه خارج المسجد ولا بأس برفعه والانتفاع به، وفي كراهية «فتاوي أهل سمرقند» قال مثل ذلك، قال في «فتاوي أهل سمرقند» : حشيش المسجد إذا كان له قيمة، فلأهل المسجد أن يبيعوا، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب إلي، وكذا الجنازة والنعش إذا فسد فلأهل المسجد أن يبيعوهما، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب قال الصدر (24ب3) الشهيد رحمه الله: والمختار للفتوى أنهم لا يبيعون إلا بأمر الحاكم؛ لأن البيع يعتمد الولاية، ولا ولاية لهم.
في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا رفع من حشيش المسجد وجعله قطعاً ... فهو ضامن له؛ لأن له قيمة حتى حكي عن الشيخ أبي حفص السنكردري: أنه أوصى في آخر عمره بخمسين درهماً لحشيش المسجد.(6/210)
في «فتاوي أبي الليث» : سئل أبو بكر عن سراج المسجد هل يجوز أن يتركه في المسجد؟ فاعلم بأن هنا ثلاث مسائل:
أحدها: إذا تركوها من وقت المغرب إلى وقت العشاء والحكم فيها أنه لابأس بها.
الثانية: إذا تركوها كل الليل وإنه لا يجوز إلا في موضع جرت العادة بذلك المسجد كبيت المقدس والحرم ومسجد رسول الله عليه السلام.
المسألة الثالثة: إذا تركوها بعض الليلة وإنه جائز إلى ثلث الليل؛ لأن لهم تأخير العشاء إلى ثلث الليل بل يستحب لهم ذلك، وإنما يسرج في المساجد لأداء الصلاة، ويجوز ترك السراج في المسجد إلى وقت أداء الصلاة إذا كان في الدهن متسع يقبل له الجواز أن يدرس في المسجد لضوء سراج المسجد فقال: إن وضعوا السراج لأجل الصلاة يجوز، وإن وضعوا لا لأجل الصلاة بأن فرغوا من الصلاة وذهبوا وتركوا السراج في المسجد، فإن تركوا إلى ثلث الليل جاز التدريس بضوئه فلا بأس يبطل هذا الحق بالتعجيل، وإن أخذوا أكثر من ثلث الليل لا يجوز التدريس بضوئه إذ ليس لهم تأخير الصلاة إلى هذا الوقت، فلو جاز التدريس بضوئه جاز مقصودا وإنه لا يجوز.
سئل أبو القاسم عن شراء الدهن أو الحصير للمسجد أيهما أفضل؟ قال: هما سواء، قال الفقيه (أبو) الليث: إن كان المسجد محتاجا إلى أحدهما فشراؤه أفضل، وإن كانا سواء في الحاجة إليهما كانا في ثواب الآخرة سواء أيضاً، وسئل نصير عن ديباج الكعبة إذا خلق قال: لا يجوز أخذه ولكن للسلطان أن يبيعه ويستعين به على أمر الكعبة.
نوع منه فى المسائل التي تعود إلى الوقف على المسجد وما يتصل به
سئل الفقيه أبو القاسم عمن أراد أن يقف أرضاً له على المسجد في عمارته وما يحتاج إليه من الدهن وغيره كيف يفعل حتى يكون آمناً عن البطلان، قال: يقول: وقفت أرضي التي في موضع كذا أحد حدودها كذا، والثاني والثالث والرابع كذا بحقوقها وقفاً مؤبداً في حياتي وبعد وفاتي على أن يستغل بوجوه غلاتها ويبدأ من غلاتها بما فيه من عمارتها، وأجر القوام عليها، ويدفع من غلاتها ما يحتاج إليه من الثواب فما فضل من ذلك يصرف إلى عمارة المسجد بموضع كذا ويصرف للمسجد ودهنه وحصيره وما فيه مصلحة المسجد على أن للقيم أن يتصرف على ما يرى فيه، وإذا استغنى هذا المسجد صرفت الغلة إلى فقراء المسلمين، وإن أراد أن يزيد في الاحتياط يرفع بعد ما سلم إلى المتولي حتى يخاصمه عند القاضي، فيقضي القاضي بجواز البيع ولزومه وبطلان رجوعه.
إذا وقف الرجل أرضاً له على المسجد ولم يجعل آخره للمساكين كان محمد بن سلمة رحمه الله يقول: يجب أن يكون هذا الفصل على الاختلاف، وعند محمد: لا يصح؛ لأن عنده إذا خرب ما حول المسجد بطل المسجد وعاد ملكاً له أو ميراثاً لورثته، فلا يكون الوقف مؤبداً، وعلى قول أبي يوسف: يصح؛ لأن عنده المسجد لا يبطل بخراب ما حوله، فكان الوقف مؤبداً إن قلنا: إن التأبيد عنده شرط كيف وإن في اشتراط(6/211)
التأبيد على قوله اختلاف المشايخ على ما مر، وكان أبو بكر الإسكاف يقول: ينبغي أن لا يصح الوقف عندهم جميعاً، أما عند محمد لما ذكرنا، وأما عند أبي يوسف؛ فلأن الوقف على المسجد وقف على عمارته والمسجد اسم للبقعة لا تعلق له بالبناء والصلاة فيها ممكن بدون البناء، فلا يكون بناؤه قربة حقيقة فلا يصح الوقف، وكان أبو بكر بن سعيد يقول: ينبغي أن يصح الوقف بلا خلاف؛ لأن البناء إن لم يكن مسجداً حقيقة ولكن وصل بالمسجد يصير تبعاً له ويصير منه حكماً، ألا ترى أن البناء يستحق بالشفعة، وإذا كان كذلك صار بناء المسجد من طريق الحكم كجزء من المسجد، فيصير الوقف على عمارته بمنزلة جعل الأرض مسجداً أو بمنزلة زيادة في المسجد، فيكون فوقه مسجد وما يتوهم من الانقطاع بخراب ما حوله عند محمد لا يمنع صحة الوقف كما لا يمنع صحة جعل داره مسجداً، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: هذا القول أحب إلي، وعلى هذا القياس فقهاء الأمصار، ولو كان الوقف على المساجد صح؛ لأن جنس هذه القربة لا ينقطع ما دام الإسلام باقياً.
وفي «الأجناس» وفي «جامع يزيد الطبري» : سمعت محمد بن الحسن يذكر عن أبي حنيفة، لو جعل أرضاً وقفاً على المسجد جاز. في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو جعفر رحمهما الله عمن (قال) : جعلت حجري لدهن سراج المسجد، ولم يزد على هذا صارت الحجرة وقفاً على المسجد بما قال ليس له الرجوع ولا له أن يجعل لغيره، وهذا إذا سلمه للمتولي عند محمد وليس للمتولي أن يصرف عليها إلى غير الدهن؛ لأن الواقف وقفها على دهن المسجد.
وفيه أيضاً: لو قال: هذه الشجرة للمسجد لا يصير للمسجد حتى يسلم إلى قيم المسجد؛ لأن قوله: هذه الشجرة إن كان هبة لا يعمل إلا بالتسليم عند الكل، فإن كان وقفاً لا يعمل إلا بالتسليم عند محمد وعليه الفتوى.
في «الأجناس» وفي «صلاة الإملاء» : لو تصدق بدار على المسجد لا يجوز ويكون ميراثاً؛ لأن المسجد لا يتصدق عليه، وكذلك لو تصدق على طريق المسلمين، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب الواو: إذا تصدق على المسجد وعلى طريق المسلمين تكلموا فيه، والمختار أنه يجوز كالوقف.
وفي «الأجناس» أيضاً: إذا وقف أرضه على قرية مسجد كذا وبمن يوارثه ورثته قناديل وقال: إن استغنى عنه المسجد كانت الغلة للمساكين حتى جاز بالإجماع، واجتمعت الغلة والمسجد لا يحتاج إلى مرمة للحال إلا أنهم (إن) خافوا تعطل الغلة وحاجة المسجد إلى المرمة، فلا بأس بأن يحبسوا ذلك إلى أن يحتاج إليه المسجد، قال: إلا أن يكون الغلة داره فيفرق ما يفضل من الغلة على المساكين، ولو انهدم هذا المسجد فاحتاج أهله أن يبنوه، وقد حصل من غلة هذا المسجد ما يكفي لبنائه، فإنه لا يصرف هذه الغلة إلى البناء؛ لأن الواقف جعل الوقف على مرمته نظر سطحه واجماع يدخل في وقفه وما أشبهه، أما ما جعل الوقف على البناء.(6/212)
وفي «نوادر هشام» إذا قال: أوصيت بثلث مالي للمسجد، قال أبو يوسف: هو باطل إلا أن يقول: ينفق على المسجد، وقال محمد: يجوز ويصرف إلى عمارته، كذلك إذا قال: لبيت المقدس جاز، وينفق على بيت المقدس في سراجه ونحوه، قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: فعلى قياس هذا في المسألة الأولى يجوز أن يصرف إلى دهن المسجد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد إذا قال: أوصيت بثلث مالي بسراج المسجد لا يجوز، وحتى يقول يسرج بها في المسجد، وهو نظير ما لو أوصى بثلث ماله لدواب فلان لا يجوز. ولو أوصى لتعلفة دواب فلان يجوز.
وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن رجل قال: وقفت داري على مسجد كذا، ولم يزد على هذا وسلمها إلى المتولي صح، ولم يشترط التأبيد ولم يجعل آخره للفقراء، قال: وهذا يكون تمليكاً للمسجد وهبة، فيتم بالقبض (52أ3) وإثبات الملك للمسجد على هذا الوجه يصح، فإن المتولي إذا اشترى من غلة دار المسجد يصح، وكذا من أعطى دراهم في عمارة المسجد ونفقة المسجد أو مصالح المسجد يصح، وكذا إذا اشترى المتولي عبداً لخدمة المسجد يصح كل ذلك، فيصح هذا بطريق التمليك بالهبة، وإن كان لا يصح بطريق الوقف، قال: والمحفوظ من مشايخي وأستاذي أن المريض مرض الموت إذا قال: وقفت داري على مسجد كذا ولم يزد على هذا ولم يسلم الدار يصح ذلك ويكون وصية؛ والوصية بغير قبض يكون تمليكاً، فكذا هنا غير أن فرق ما بينهما أن الحاصل في مرض الموت وصية؛ والوصية تصح بغير تسليم والحاصل في حالة الصحة هبة فلا يتم إلا بالتسليم.
في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: سئل أبو القاسم عمن أوصى بشيء من ماله لعمارة المسجد، قال: عمارة المسجد في بنائة دون ترميمه، قيل له: المنارة، قال: ذلك من بناء المسجد، فيجوز أن تبنى به المنارة.
في هذا الكتاب أيضاً: سئل أبو بكر عن بناء المنارة من غلة المسجد قال: إن كان البناء مصلحة للمسجد * وتفسير المصلحة أن يكون أسمع للقوم * يجوز، وإن لم يكن في البناء مصلحة للمسجد * وتفسيره أن يكون المسجد في موضع يسمع جميع أهله الأذان من غير المنارة * لا يجوز. وسئل أبو بكر عمن وقف أرضاً له على عمارة المسجد، وشرط أن ما فضل من عمارته يصرف إلى الفقراء، فاجتمعت الغلة والمسجد غير محتاج إلى العمارة في الحال، قال: تحبس الغلة؛ لأنه ربما يحدث حدث بالمسجد والأرض يصير بحال وهكذا كان يقول الفقيه أبو جعفر، وقد ذكرنا هذه المسألة قبل هذه الصحفة، قال الفقيه أبو الليث: والصحيح عندي أنه إذا اجتمع من الغلة مقدار ما لو احتاج المسجد والأرض إلى العمارة يمكن العمارة منها، ويبقى زيادة شيء من الغلة يصرف الزيادة إلى الفقراء على ما شرط الواقف. وسئل أبو نصر (إن) كان الوقف على مرمة المسجد هل للقيم شراء السلم من ذلك إن بقي على السطح وتطيينه؟ وهل يعطي من غلته للذي يخرج السطح(6/213)
ويكنسه ويخرج ما اجتمع فيه من التراب، قال: للقيم أن يفعل ما في تركه خراب المسجد. وسئل أبو بكر عمن أوصى بثلث ماله لأعمال البر هل يجوز أن يسرج المسجد؟ قال: يجوز، قال: ولا يجوز أن يزاد على سراج المسجد سواء كان في شهر رمضان أو غيره؛ لأن فيه إسراف، قال: ولا يزين به المسجد، وسئل الفقيه أبو جعفر عن مسجد بابه على مهب الريح فيصيب المطر باب المسجد، فيضره ويبتل داخل المسجد وخارجه، ويشق على الناس الدخول في المسجد أيجوز أن يتخذوا من غلة المسجد ظلة؟ قال: إن لم يضر بأهل الطريق يجوز في «وقف الخصاف» .
نوع منه في المسائل التي تعود إلى قيم المسجد وما يتصل به في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو القاسم عن قيم مسجد جعله القاضي قيماً على غلاتها وجعل له شيئاً معلوماً يأخذ كل سنة حل له الأخذ إن كان مقدار أجر مثله؛ لأن للقاضي أن يستأجر أجيراً بأجر مثله لذلك وإن لم يشترط الواقف.
ولو نصب خادماً للمسجد والباقي بحاله إن كان الواقف شرط ذلك في الوقف حل له الأخذ، وإن لم يكن شرط ذلك في الوقف لا يحل له؛ لأنه إذا لم يشترط الواقف ذلك لا يحل للقاضي نصب الخادم بالأجر فلا يحل للخادم القبض أيضاً هكذا ذكر، وفيه نظر يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى، وقد مر نصب الخادم في الخان الموقوف في الفصل السابع من هذا الكتاب.
في «فتاوي أبي الليث» أيضاً: مسجد له مستغلات وأوقاف، فأراد المتولي أن يفرش الآجر أو يشتري الحصير والدهن للمسجد أو ما أشبهه، أما فرش الأجر فله ذلك؛ لأنه من باب البناء، وأما شراء الدهن والحصير فلا، فحينئذ من ثلاثة أوجه: أما إن وسع الواقف ذلك على القيم بأن قال: يفعل القيم ما يرى من مصلحة المسجد وبنائه، وفي هذا الوجه له ذلك، وأما إن لم يوسع عليه وجعله لعمارة المسجد وبنائة وفي هذا الوجه ليس له ذلك، وأما إن لم يعرف شرط الواقف وفي هذا الوجه ينظر إلى من قبله إن كانوا يشترون منه الدهن والحصير والخشب له أن يفعل وما لا فلا، وقيل: ذكر المصلحة والعمارة وتركه سواء، ولا يتمكن المتولي من شراء الدهن والحصير.
وإذا أراد أن يصرف شيئاً من ذلك إلى إمام المسجد، فليس له ذلك إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف على إمام المسجد يصرف إليها غلتها وقت الإدراك فأخذ الإمام الغلة وقت الإدراك عن تلك القرية هل يسترد منه بعض ما أخذ منه حصته ما بقي من السنة؟ قالوا: لا يسترد وهو نظير موت القاضي في خلال السنة وقد أخذ الرزق، وهل يحل للإمام أكل حصته ما بقي من السنة؟ إن كان فقيراً يحل وكذلك الحكم في طلبة العلم يعطون في كل سنة أشياء مقدراً من الغلة وقت الإدراك، فأخذ واحد منهم قسط وقت الإدراك وتحول عن تلك المدرسة.
قال هلال في «وقفه» في باب الرجل: يقف الأرض والدار على قوم معلومين وسقط شيء من بناء الدار؛ ولو أن بناء مسجد إنهار ولم يمكن إعادته بعينه إلى البناء فباع أهل(6/214)
المسجد البعض يجوز ويصرف ثمنه إلى عمارة المسجد لما ذكرنا، وقوله فباع أهل المسجد يحتمل أن يكون المراد منه باعه قيم المسجد إلا أنه أضيف بيعه إليهم؛ لأن القاضي ولاه ذلك باختيارهم، فصار فعل مختارهم كفعلهم، ويحتمل أن يكون المراد منه أهل الجماعة وهذا هو الظاهر.
وروي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله قال: إن كان أصحاب الخطة أحياء، فتدبير ذلك النقص إليهم؛ لأن تدبير المسجد إليهم؛ لأن الظاهر أن أصحاب الخطة يبنون المسجد بأموالهم فما بقي واحد منهم، فالتدبير في المسجد إليهم دون السكان، فإذا انقرضوا ولم يكن لهم ولد بالغ، فالتدبير إلى السكان، واعتبر هذه الفصول بالقسامة.
قيم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد وفي فنائه لا يجوز، أما المسجد: فلأنه إذا جعل مسكناً يسقط حرمة المسجد، أما الفناء: فلأنه يتبع المسجد.
مسجد له أوقاف مختلفة لا بأس للقيم أن يخلط غلتها كلها، أو خرب حانوت منها فلا بأس بعمارته من غلة حانوت آخر؛ لأن الكل سواء، كان الواقف واحداً أو كان مختلفاً؛ لأن المعنى يجمعهما.
متول عليه مشرف ليس للمشرف أن يتصرف في الوقف؛ لأن المفوض إلى المشرف الحفظ لا غير. في «فتاوي أبي الليث» : أهل المسجد إذا باعوا غلة المسجد أو نزل المسجد أو أمروا رجلاً ببيعه أو باعوا بعض المسجد إذا استغنى المسجد عن ذلك، أو أمروا رجلاً بالبيع على وجهين: أما إن فعلوا بأمر القاضي أو لا بأمره ففي الوجه الأول يجوز؛ لأن للقاضي هذه الولاية، وفي الوجه الثاني ذكر هنا أنه يرجى أن يجوز، قال الصدر الشهيد: والفتوى على أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية.
في «فتاوي أبي الليث» : مسجد بجنبه نهر ماء، فانكسر حائط المسجد من ذلك الماء ينبغي لأهل المسجد أن يرفعوا الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي أهل النهر بإصلاحه حتى إذا لم يصلحوا انهدم حائط المسجد ضمنوا قيمة ما انهدم؛ لأنهم صاروا متسببين للتلف بترك الإصلاح، وهذا التسبب نفذ لما كان (25ب3) بعد الإشهاد.
وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في نفقاته عن مشايخ بلخ: أن المسجد إذا كان له أوقاف ولم يكن لها متولي، فقام واحد من أهل المحلة في جميع الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش وغير ذلك لا ضمان عليه فيما فعل استحساناً فيما بينه وبين الله تعالى، فأما إذا أخبر الحاكم بذلك وأمر به عنده ضمنه الحاكم الفاضل من وقف المسجد، وهل يصرف إلى الفقراء؟ قيل: لا يصرف وإنه صحيح ولكن يشتري به مستغلا للمسجد.
وفي «الفتاوي الأصغر» : متولي إذا أنفق على قناديل المسجد من وقف المسجد جاز، وقد ذكر قبل هذا بخلافه في الوقف في «الواقعات» للصدر الشهيد وقف صحيح على مصالح مسجد فمات فاجتمع أهل المسجد وجعلوا رجلاً متولياً بغير أمر القاضي، فقام(6/215)
هذا المتولي مدة ذلك وصرف من غلاته وأنفق على المسجد بالمعروف، فتكلم المشايخ في جواز هذه التولية، قال الصدر الشهيد: المختار أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية ولا يضمن هذا المتولي ما أنفق من مال نفسه؛ لأنه لما آجر الدار والدار وقف ولا ولاية له عليها صار بالإجارة غاصباً فتكون الأجرة له. متولي المسجد إذا اشترى بمال المسجد حانوتاً أو داراً ثم باعها جاز إذا كان له ولاية الشراء، وهذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن متولي المسجد إذا اشترى من غلة المسجد داراً أو حانوتاً فهذه الدار وهذه الحانوت يلتحق بالحوانيت الموقوفة على المسجد؛ ومعناه أنه هل يصير وقفاً؟.
اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: المختار (أن) يلتحق ولكن يصير مستغلاً للمسجد، وهذا لأن صحة الوقف والشرائط التي يتعلق بها لزوم الوقف لا يجوز فسخه ولا بيعه، ولم يوجد شيء من ذلك هنا فلم يصر وقفاً فيجوز بيعه.
في «فتاوي الفضلي:» المتولي إذا اشترى منزلاً من الدراهم التي اجتمعت من أوقاف المسجد للمسجد ودفع المنزل إلى المؤذن ليسكن فيه يكره للمؤذن السكنى إذا علم بذلك؛ لأن المنزل صار من مستغلات المسجد، وفي نسخة أخرى إن لم يضف الشراء إلى الدراهم يحل ولا يكره، في «مجموع النوازل:» سئل شيخ الإسلام عن أهل مسجد اتفقوا على نصب رجل متولياً لمصالح مسجدهم فتولي ذلك باتفاقهم هل يصير متولياً مطلق التصرف في مال المسجد على حسب ما لو قلده القاضي؟ قال: نعم قال: ومشايخنا المتقدمون يجيبون عن هذه المسالة ويقولون: نعم الأفضل أن يكون ذلك بإذن القاضي، ثم اتفق مشايخنا المتأخرون وأستاذنا أن الأفضل أن ينصبوه متولياً ولا يعلموا به القاضي في زماننا، لما عرف من تجميع القضاة في أموال الوقف.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن أهل مسجد تصرفوا في أوقاف المسجد، يعني أجروا المستغل وله متولي قال: لا يصح تصرفهم ولكن الحاكم يمضي ما فيه مصلحة المسجد. قيل: هل يفترق الحال بين أن يكون المتصرف واحداً أو اثنين؟ قال: لا بعد أن يكون التصرف من الأماثل رئيس المحلة ومتصرفها.
في «فتاوي أبي الليث» : رجل بنى مسجداً في السكة فنازعه في عمارته أو في نصيب الإمام أو المؤذن، ففي العمارة الثاني أولى؛ لأن العمارة من البناء وهو الثاني وفي نصيب الإمام والمؤذن تكلموا، قال الصدر الشهيد: المختار أن الثاني أولى إلا إذا كان القوم يريدون من هو أصلح فمن يريد الثاني فحينئذ هم أولى، وفي آخر كتاب كراهية إملاء أبي يوسف في رجل بنى مسجداً أو جعل له مؤذناً هو فيه وكرهه أهل المسجد وقالوا: يجعل مؤذن غيرك فليس ذلك لهم، إنما الأمر في ذلك إلى الذي بناه قبل إن كان فاسقاً، وكذلك إن أقام لهم إماماً.
في «فتاوي النسفي» : استأجر أرضاً موقوفة على مصالح مسجد من متوليه سنة بكذا، ثم دفعها إلى آخر مزارعة بالنصف ففعل، ثم إن أهل المحلة زعموا أن الآجر لم يكن متولياً قال: يثبت المستأجر بالبينة كون الآجر متولياً، فإن لم يجد فالغلة تكون(6/216)
للمستأجر وعليه أجر المثل للمسجد. وفيه أيضاً: متولي المسجد استصنع محراب المسجد إلى البحار في حسب معلوم وعمل وصناعة معلومة، قال: لا يصح؛ لأنه لا تعارف في هذا الاستصناع، وكذا في الأبواب والسلاليم والسور، والوجه فيه: أن يوصف له فيعمل ما إذا.... منه بما أنفقوا عليه فيصح.
وفيه أيضاً: عن أهل محلة باعوا وقف المسجد لأجل عمارة المسجد قال: لا يجوز بأمر القاضي وغيره قيل: إن كان أهل المسجد اشتروا عقاراً بغلات المسجد للمسجد هل لهم بيعه لعمارة المسجد؟ قال: فيه اختلاف المشايخ؛ لأنه لا ولاية لأهل المحلة في شراء العقار للمسجد فلم يصح شراؤهم أصلاً فلا يصح بيعهم بخلاف مسألة المتولي.
الفصل الثاني والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياض والطرق والسقايات
قال محمد رحمه الله: إذا جعل أرضه مقبرة للمسلمين جاز وليس له أن يرجع فيها بعد تمامها أن يقبر فيها إنسان واحد بإذنه أو أكثر من ذلك، وهل يتم بالتسليم إلى المتولي؟ فلا رواية عن أصحابنا رحمهم الله، وقد اختلف المشايخ فيه، وكذلك إذا جعلها خانا للمار من المسلمين وخلي بينهم وبينها، فإذا نزلها بإذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها، وإن مات لم يكن شيء من ذلك ميراثاً، وإذا سلمها إلى المتولي يتم القبض، ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» فعلى قول من قال في مسألة المقبرة أن القبض لا يتم بالتسليم إلى المتولي يحتاج إلى الفرق بين المقبرة والخان.
والفرق: أن المقبرة لا يكون لها متولي في العادة فلا يعتبر قبضه بخلاف الخان، وكذلك السقاية يجعلها في أرضه فيسقون ويشربون ويتوضؤن، فشرب منها إنسان أو سلمها إلى المتولي فليس له أن يرجع بعد ذلك عنه، وكذلك الحوض والبئر يجعله في أرضه قال: ولا بأس بأن يشرب منه ويسقي دابته وبقره ويتوضأ منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إنما أجاب عن حياضهم وبئرهم، أما السقاية التي تكون في بلادنا إذا جعلها للشرب فأراد إنسان أن يتوضأ بها اختلف المشايخ فيه وأجمعوا أنه إذا وقف للوضوء أنه لا يجوز الشرب منه، وكذلك إذا جعل داره سكنى للمساكين ودفعها إلي والي يقوم بذلك فليس له أن يرجع فيها، وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها ويسكن فيها من رأى ليس له أن يرجع فيها، وكذلك إذا جعل داره في ثغر سكنى للغزاة والمرابطين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها فليس له أن يرجع فيها، وإن مات لم يكن ميراثاً عنه، وإن لم يسكنها أحد. والحاصل:(6/217)
أن التسليم على قول من يشترط التسليم وهو محمد يكون بأحد طريقتين: إما بإثبات اليد للقيم عليها أو بحصول المقصود وذلك بالسكنى في مسألة الدار، وبالنزول في مسألة الخان، وبالدفن في مسألة المقبرة وما أشبهه ذلك.
وعند أبي يوسف: التسليم ليس بشرط فلا يشترط إثبات يد القيم في هذه المسائل ولا حصول المقصود بالدفن أو النزول أو الشرب، ويكتفي بالإشهاد على ذلك، وقال أبو حنيفة رحمه الله: وجميع ما ذكرنا فيه يبطل ما صنع فيه، قال محمد عقيب ذكر هذه المسائل: فأما السكنى فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير، يريد به: إذا جعل داره سكنى للغزاة أو سكنى للحاج والمعتمرين يجوز في الغزاة، وللحاج أن يسكنها كما يجوز للفقير، كذلك نزول الخان والدفن في المقبرة يستوي فيه الغني والفقير، فأما غلة الدار والأرض إذا حصلت للعزاة فلا يعجبني أن يأخذ منهما إلا من هو محتاج (26أ3) علل فقال: لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكنى، وحقيقة الفقه في العرف: أن الغني مستغني عن مال الصدقة بمال نفسه غير مستغني عن النزول في الخان والسكنى في الدار والدفن في المقبرة بماله، ولا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما استأجره، ولأجل المعني سوينا بين الفقير والغني في ماء السقاية والحوض والبئر. قال الخصاف في «وقفه» : إذا جعل الرجل داره سكنى للغزاة فسكن بعض الغزاة بعض الدار والبعض فارغ لا يسكنها أحد ينبغي للقيم بأمر هذا الوقف أن يكون من هذه الدار ما لا يحتاج إلى سكناه ويجعل أجر ذلك في عمارة هذه الدار، فما فضل بعد ذلك فرقه على الفقراء والمساكين.
وفي «النوادر» : إذا بنى خاناً واحتاج إلى المرمة، روي عن محمد: أنه يعزل منها ناحية بيتاً أو بيتين فيؤاجر وينفق من غلتها عليها، روي عن محمد رواية أخرى: أنه يؤذن للناس بالنزول سنة ويؤاجر سنة أخرى ويرم من أجره، وهكذا إذا جعل فرسه حبساً فإن كان ترك عليه مجاهد يركبه وينفق عليه، وإن لم يركبه أحد يؤاجر وينفق عليه من أجرته؛ قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: قياسه في المسجد أن يجوز إجارة سطحه لمرمته.
قال الخصاف في «وقفه» : إذا جعل داره بمكة لسكنى الحاج فليس للمجاورين أن يسكنوها، وإذا مضى أيام الموسم أكريت وينفق عليها في مرمتها، وما فضل بعد ذلك فرق على المساكين والفقراء. وفي «المنتقى» : إذا جعل فرسه حبساً يحبس في الرباط ويغزي عليه، فإذا استغنى عنه يؤاجره الإمام بقدر علفه، فإن لم يوجد من يستأجره يبيعه الإمام ويوقف ثمنه حتى إذا احتيج إلى ظهر يشتري بثمنه فرساً ويغزو عليه.
في «فتاوي أبي الليث» : رجل بنى رباطاً للمسلمين على أن يكون في يده مادام حياً فليس لأحد أن يخرجه من يده مالم يظهر منه أمر يستوجب الإخراج من يده كشرب الخمر أو ما أشبه ذلك من الفسوق الذي ليس فيه رضا الله تعالى؛ لأن شروط الواقف يجب اعتبارها ولا يجوز تركها إلا لضرورة، وفيه أيضاً: رباط المختلعة إذا كان فيها سكان فانهدم الرباط فبني أراد الساكنون الذين كانوا فيها أن يسكنوها، وأراد غيرهم ذلك(6/218)
فهذا على وجهين:
أما إن انهدم بعضها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها أحق من غيرهم؛ لأن سكناهم باقي، وكذلك إذا لم ينهدم أصلاً كان زيد فيه أو نقص عنه فالذين كانوا فيها أحق من غيرهم لما ذكرنا، وأما إن انهدم كلها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها وغيرهم في السكنى على السواء، لان سكناهم قد بطل وهذا ابتداء السكنى.
وفيه أيضاً: رجل جعل قطعة أرضه مقبرة ودفنوا فيها، ثم أن رجلاً من أهل تلك القرية بنى فيها بناء لوضع اللبن وأدّاه الغير واحتبس فيه رجلاً يحفظ المتاع بغير رضا الباقين من أهل القرية فهذا على وجهين: إن كان في أرض المقبرة سعة لا يحتاج إلى ذلك المكان اليوم لا بأس به، وإن لم يكن في أرض المقبرة سعة واحتاجوا إلى ذلك المكان اليوم يرفع البناء ويدفن، فيه أيضاً: رجل أوصى بأن يخرج ثلث ماله فيعطي ربع الثلث لفلان وثلاثة أرباعه لأقربائه وللفقراء ثم قالوا: لا يتركوا حظ الرباطيين وهم فقراء يسكنون في رباط بعينه، فهذا على وجهين:
f
إن كان قرابته؛ يجعل كل واحد منهم جزؤاً ويجعل الفقراء جزؤاً ويجعل للرباطيين جزؤاً حتى لو كان قرابته عشرة أسهم للقرابة وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا يحصون كانت الوصية لهم بأعيانهم، وإن كانت قرابته لا يحصون جعل ثلاثة الأرباع على ثلاثة أسهم؛ سهم للقرابة، وسهم للفقراء، وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا لا يحصون كانوا بمنزلة الفقراء.
قال هلال في وقفه: إذا اشترى الرجل موضعاً وجعله طريقاً للمسلمين وأشهد عليه فإنه يصح ويشترط لتمامه مرور واحد من المسلمين على قول من يشترط التسليم في الأوقاف، وعلى قول أبي حنيفة: لا يصح ويكون له حق الرجوع، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه لا رجوع في المقبرة في الموضع الذي دفن؛ لأنه يؤدي إلى نبش الميت، وأنه صحيح وله الرجوع فيما بقي.
وحكي عن الحاكم الملقب بالمهرون إن قال وحدث في «النوادر» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه أجازوا وقف المقبرة والطريق، فهذه الرواية استفيدت من جهته، قال هلال: وكذلك القنطرة ينظرون فيها، لا يكون بناؤها ميراثاً للورثة وصار وقفاً، فقد خص بناء القنطرة الميراث فيها، وهذا يدل على أن موضع بناء القنطرة لم يكن ملكاً للثاني وهذا هو الظاهر، فإن الإنسان إنما يحتسب بناء القنطرة على نهر العامة، فتدل هذه الرواية على جواز وقف البناء دون أصل البقعة وقد ذكرنا الكلام فيه فيما تقدم، مقبرة كانت للمشركين أرادوا أن يجعلوها مقبرة للمسلمين فهذا على وجهين:
إن كانت آثارهم فقد اندرست فلا بأس بذلك، وإن بقي آثارهم بأن بقي شيء من عظامهم فإنه ينبش ويقبر ثم يجعل مقبرة للمسلمين، ألا ترى أن موضع مسجد رسول الله عليه السلام كان مقبرة للمشركين فتبقى والحد مسجداً. رجل له دار أراد أن يجعلها رباطاً للمسليمن ويبيعها ويتصدق بثمنها أو يبيعها عبداً فيعتقه أيُّ ذلك أفضل؟ حكي عن عليّ بن أحمد رحمه الله: إن جعلها رباطاً أفضل؛ لأن منفعة الرباط أدوم. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعلها رباطاً وجعل لها وقفاً لعمارتها فجعلها رباطاً أفضل، وإن لم يجعل(6/219)
لعمارتها وقفاً فالأفضل أن يبيعها ويتصدق بثمنها؛ لأنه إذا لم يكن للرباط وقف يخرب ويصير مأمناً للسراق وفي ذلك ضرر بالمسلمين، فيبيعها ويتصدق بثمنها، ودون ذلك في الفضل أن يشتري بثمنها عبداً فيعتقه.
الميت بعد ما دفن لا يخرج من غير عذر، ألا ترى أن كثيراً من الصحابة دفنوا في أرض الحرب ولم يحولوا؛ لأنه لا عذر (في) إخراجه بعذر، والعذر يظهر أن الأرض مغصوبة أو أخذها الشفيع بالشفعة. رباط كبرت دوابه وغلت مؤنتها هل للقيم أن يبيع شيئاً منها وينفق ثمنها في علفها أو مرمة الرباط؟ فهذا على وجهين: إن بلغ سن البعض إلى حد لا يصلح لما ربطت له فله ذلك وما لا فلا، ولكن تمسك في هذا الرباط مقدار ما يحتاج إليها، وربط مازاد على ذلك في أدنى رباط إلى هذا الرباط.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن مسجد لم يبق له قوم وخرب ما حوله واستغنى الناس عنه هل يجوز جعله مقبرة؟ قال: لا، وسئل هو أيضاً عن المقبرة في القرى إذا اندرست ولم يبقَ منها أثر الموتى لا العظم ولا غيره هل يجوز زراعتها واستغلالها؟ قال: لا ولهما حكم المقبرة، وسئل هو أيضاً عن رجل وقف أرضاً على المقبرة أو على صوفي خانة بشرائطه هل يصح؟ قال: لا.
في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: امرأة جعلت قطعة أرض لها مقبرة وأخرجتها من يدها ودفن فيها ابنها وتلك القطعة لا تصلح للمقبرة لغلبة الماء عندها فيصيبها فساد فأرادات بيعها، فإن كانت الأرض بحال لا يرغب الناس في دفن الموتى فيها لقلة الفساد ليس لها البيع؛ لأنها صارت مقبرة، وإن كان يرغب الناس عن دفن الموتى فيها لكثرة الفساد فلها البيع؛ لأنها لم تصر مقبرة (26ب3) فإذا باعتها للمشتري أن يأمرها برفع ابنها عنها؛ لأنها صارت ملكاً للمشتري.
فيه أيضاً: حفر قبراً في مقبرة وقفاً، فأراد آخر أن يدفن فيها ميتة فإن كان في المكان سعة لا يدفن؛ لأنه يوحش صاحبه الذي حفر، وإن لم يكن فيه سعة يدفن، ونظير هذا من بسطة المصلي في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر، فإن كان في المكان سعة لا يزاحم الأول، وإن لم يكن فيه سعة يزاحمه، ثم إذا كان في المكان سعة ومع هذا دفن فيه غير الحافر لا يكره، هكذا قال الفقيه أبو الليث قال: لأن الذي حفر لا يدري بأي أرض يموت، في آخر غصب «فتاوي أهل سمرقند» : حفر قبراً فدفن فيه غيره ميته؛ لا ينبش القبر لكن يجب قيمة حفره حتى يحفر آخر فيدفن فيه ولم يزد به؛ لأن الحفر كان في ملك الحافر؛ لأن في هذه الصورة ينبش القبر يصوغ ملك المالك، وإنما أراد به أن الحفر كان في غير ملكه بأن كان في أرض مباح أو في مقبرة يجيء ذكره في آخر كراهية «واقعات الناطفي» فقال: إذا حفر قبراً في غير ملكه ليدفن فيه ميتاً له، فدفن غيره ميته لا ينبش القبر ولكن ضمن قيمة حفره وكان فيه رعاية الحفر.
وإن دفن الميت في أرض غيره بغير إذن المالك فالمالك بالخيار إن شاء أمر بالإخراج وإن شاء سوى الأرض وزرع فوقها؛ لأن الأرض ملكه ظاهرها وباطنها، فكان(6/220)
له أن يستخلص الظاهر والباطن وله أن يترك الباطن وينتفع بالظاهر، في «فتاوي أبي الليث» مواضع موات على شط جيحون عمرها أقوام واستولوا؛ كان للسلطان أن يأخذ العشر من غلاتها، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد؛ لأن ماء الجيحون عنده عشري والمؤنة تدور مع الماء، فلو أباح السلطان من ذلك للرباط شيئاً فأراد المتولي أن يصرف من ذلك إلى مؤذن الرباط فله ذلك وإن كان المؤذن فقيراً لا يحل صرفه إلى الرباط، فإن صرف العشر للفقراء وإن أرادوا الحيلة في ذلك أن يصرف إلى الفقراء ثم الفقراء يصرفون إلى الرباط، وكذلك من عليه الزكاة إلى بناء المسجد أو القنطرة لا يجوز وإن أرادوا الحيلة فالحيلة أن يتصدق المتولي على الفقراء ثم الفقير يدفعه إلى المتولي يصرف ذلك.
رباط فيه ثمار فإن كان ثماراً لا قيمة لها نحو الثوب وما شاكل ذلك فلا بأس للنازلين أن يتناولوا منها، وإن كانت ثمار لها قيمة فالاحتراز عن ذلك أحوط لدينه؛ لأنه يحتمل أنه جعل ذلك وقفاً للفقراء دون النازلين فيها، وهذا إذا لم يعلم أنه وقف على الفقراء، أما إذا علم ذلك لا يحل لغير الفقير أن يتناولوا منها. في «فتاوي أبي الليث» : رجل دفع إلى خادم دار عمران * وهي دار يسكنها الفقراء * درهماً وأمره أن يشتري بها خبزاً ولحماً وينفق على المقيمين فيها، فلم يحتج الخادم ذلك اليوم إلى الخبز واللحم وقد كان اشترى قبل ذلك الخبز واللحم بالنسيئة، فقضى ذلك الذي بيده الدراهم ضمن لأنه خالف أمره.
الفصل الثالث والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك
في «فتاوي أبي الليث» : مقبرة فيها أشجار فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن تكون الأشجار نابتة قبل اتخاذ الأرض مقبرة، وأنه على وجهين أيضاً: إن كانت الأرض مملوكة لها مالك فالاشجار بأصلها على ملك رب الأرض يصنع بالأشجار وأصلها ما شاء؛ لأن موضع الأشجار من الأرض لم يصر مقبرة؛ لأنه مشغول بملك صاحب الشجر، وإن كانت الأرض مواتاً لا مالك لها واتخذها أهل القرية مقبرة؛ فالأشجار بأصلها على حالها القديم.
الوجه الثاني: إذا نبتت الأشجار بعد اتخاذ الأرض مقبرة وإنه على وجهين أيضاً: إن علم لها غارس فهي للغارس لأنها ملك، وإن لم يعلم لها غارس فالحكم في ذلك إلى القاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها إلى عمارة المقبرة فله ذلك؛ لأنه إذا لم يعلم لها غارس كانت في حكم الوقف، ألا ترى أن الشجرة إذا نبتت في ملك إنسان ولا يعرف لها غارس كانت الشجرة لصاحب الملك فكذا.
فيه أيضاً: إذا غرس شجراً في المسجد فاعلم بأن هذا الجنس أربع مسائل:(6/221)
إحداها هذه، والحكم فيها أن الشجر للمسجد فإنه بمنزلة البناء للمسجد.
المسألة الثانية: إذا غرس شجراً في أرض موقوفةٍ على الرباط، والحكم فيها: أن الغارس إن ولي تعاهد هذه الأرض الموقوفة على الرباط فالشجرة للوقف؛ لأن هذا من جملة التعاهد فيكون غارساً للوقف ظاهراً، وإن لم يلها هذه الأرض فالشجرة له وله رفعها.
المسألة الثالثة: إذا غرس شجراً في طريق العامة، والحكم فيها: أن الشجرة للغارس؛ لأنه ليس له ولاية جعل للعامة.
المسألة الرابعة: إذا غرس شجراً على شط نهر العامة أو على شط حوض القرية، فالحكم فيها كالحكم في المسألة الثالثة، فيه أيضاً: رجل جعل أرضه مقبرة وفيها أشجار، فأراد ورثته أن يعطوا الأشجار فلهم ذلك؛ لأن موضع الأشجار لم يصر وقفاً؛ لأنه مشغول، وكذلك لو جعل داره مقبرة فموضع البناء لا يدخل فيه؛ لأنه مشغول في «فتاوي أهل سمرقند» : أوقف شجراً على حوض قرية ثم قطعها بعد ذلك فنبت من عروقها أشجار فهي للغارس؛ لأنها نبتت في ملكه.
في نوع «فتاوي أبي الليث» : أشجار على حافتي نهر في الشارع اختصم فيها السارية ورجل يجري هذه النهر مقابل داره ولم يعرف الغارس، فإن كان الموضع الذي ينبت فيه الأشجار ملك السارية فالأشجار لهم لأنها تنبت في ملكهم، وإن لم يكن ذلك الموضع ملك السارية وإنما هو للعامة، والسارية في سبيل الماء؛ إن لم يعلم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار فالأشجار لصاحب الدار؛ لأن الأشجار في حجره، وإن علم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار لا يكون له؛ لأنه إنما صارت في حجره بعد ما نبتت.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن تكون الأشجار في حجره، رجل وقف شجرة بأصلها، صح سواء كانت الشجرة منتفعة بثمارها أو بأوراقها أو كانت منتفعة بذاتها؛ لأنه وقفها مع الأرض، فبعد ذلك ينظر إن كانت منتفعة بثمارها وأوراقها لا يقطع أصلها إلا إذا فسدت أغصانها، وإن كانت منتفعة بذاتها يقطع أصلها ويتصدق بثمنها؛ لأن طريق الانتفاع بها في هذه الصورة هذا.
إذا وقف شجرة بأصلها على مسجد فيبست أو يبس بعضها فيقطع اليابس ويترك الباقي؛ لأن اليابس لا ينتفع به إلا بالقطع بخلاف غير اليابس. أراض موقوفة على الفقراء استأجرها رجل من المتولي وطرح فيها السرقين وغرس الأشجار، ثم مات المستأجر فالأشجار ميراث للورثة؛ لأنها ملك المورث يؤمرون بقلعها؛ لأن الإجارة قد انفسخت بموت المستأجر، فلو أراد الورثة أن يرجعوا في الوقف بما زاد السرقين في الأراضي ليس لهم ذلك، رجل غرس أشجاراً في الشارع ثم مات الغارس وترك ابنين فجعل أحدهما حصته للمسجد لا يكون للمسجد؛ لأن حصته شائعة في المنقول، رجل ميز أشجاراً له في ضيعة وقال لإمراته في صحته: أما إذا مت فبيعي هذه الأشجار واصرفي(6/222)
ثمنها في كفني وثمن الحر للفقراء، وثمن الدهن لسراج المسجد الذي في كذا، ثم مات وترك امرأته هذه وورثة كبارا فاشترى (27أ3) الورثة الكفن من الميراث وجهزوه، تباع الأشجار ويحط من ثمن الأشجار مقدار الكفن، يعني يدفع من الثمن هذا المقدار وتصرف المرأة الباقي إلى الحر ودهن السراج؛ لأن الزوج أمرها بصرف الثمن في ثلاثة أشياء فيجب قسمته على هذه الأشياء الثلاثة.
رجل وقف ضيعة له على بناته وأولادهن أبداً ما تناسلوا وآجر ذلك للفقراء ثم غرس الواقف فيها شجراً، فإن غرس من غلة الوقف فالشجر للواقف، وإن غرس من مال نفسه فإن قال عند الغرس: إنه للوقف فهو للوقف، وإن لم يذكر شيئاً فهو ميراث عنه.
قرية وقفت على أرباب مسلمين في يد متولٍ، باع هذا المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأن هذا بمنزلة الغلة، ولو أراد المشتري قطع قوائم هذه الأشجار يمتنع، في «مجموع النوازل» : سئل نجم الدين عن أشجار في مقبرة هل يجوز صرفها في عمارة المسجد؟ قال: نعم إن لم تكن وقفا على وجه آخر، قيل له: فإن بدا عيب حوائط المقبرة إلى الخراب إنصرف اليها أو إلى المسجد قال: إلى ما وقفت عليه إن عرف وإن لم يكن للمسجد متولي ولا للمقبرة فليس للعامة التصرف فيها بدون إذن القاضي.
وسئل هو أيضاً عن رجل غرس بألة في مسجد فكبرت بعد سنين فأراد المتولي أن يصرف هذه الشجرة إلى عمارة بئر في هذه السكنة والغارس يقول: هي لي فإني ما وقفتها على المسجد قال: الظاهر أن الغارس جعلها للمسجد فلا يجوز صرفها إلى البئر ولا يجوز للغارس صرفها إلى حاجة نفسه. في «فتاوي أهل سمرقند» (مسجد) فيه شجر تفاح يباح للقوم ان يفطروا بهذا التفاح، قال الصدر الشهيد والمختار: أنه لا يباح؛ لأنه صار للمسجد فلا يصرف إلا إلى مصالح المسجد.
الفصل الرابع والعشرون: في الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل بها من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر
في «فتاوي أبي الليث» : بئر بنيت بالآجر في قرية فخربت القرية وانقرض أهلها وعند هذه القرية قرية أخرى فيها حوض يحتاج إلى الآجر يجوز أن يؤخذ الآجر من تلك البئر وينفق في الحوض فهذا على وجهين:
إما أن يعرف الثاني وفي هذا الوجه لا يجوز ذلك إلا بإذن الثاني. وأما إن لم يعرف الثاني، وفي هذا الوجه ينبغي أن يتصدق بالآجر على فقير ثم الفقير ينفق في الحوض؛ لأنه بمنزلة اللقطة، قال: ولو أراد القاضي أن ينفق من غير هذا الطريق لا بأس به، وهذا التفصيل الذي ذكرناه يأتي على قول محمد، أما(6/223)
على قول أبي يوسف على ما ذكرنا. قيل: هذا في مسألة الحصير الملقى في المسجد أنه لا يعود على ملك متخذه بخراب المسجد بل يحول إلى مسجد آخر لا يتأتى، وينبغي للقاضي أن يصرف الآجر في عمارة الحوض على قوله.
رباط وعلى باب الرباط قنطرة على نهر لا يمكن الإنتفاع بالرباط إلا بمجاورة القنطرة لكبر النهر خرب القنطرة وليس للقنطرة غلة يمكن عمارة القنطرة بها. هل يجوز عمارة القنطرة من غلة الرباط؟ فهذا على وجهين:
إن شرط الواقف في الوقف أن يصرف غلة الرباط إلى الرباط وإلى ما فيه مصلحة الرباط جاز صرف غلة الرباط إلى عمارة القنطرة، وإن لم يشترط ذلك لا يجوز، وهذا إذا كان الرباط بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة لا يخرب الرباط، أما إذا كان بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة بخراب الرباط يستحسن في ذلك؛ لأن الرباط ووقفه حق العامة والقنطرة أيضاً حق العامة، ويجوز التصرف في حق العامة لمنفعة تعود إليهم، ألا ترى إلى ما روي عن محمد في مسجد ضاق عن أهله وعن طريق العامة أنه لا بأس بأن يلحق بالمسجد من الطريق إذا كان لا يضر بأصحاب الطريق؛ لأن كليهما حق عامة المسلمين كذا هنا في «فتاوي أبي الليث» .
وفيه أيضاً: قوم جمعوا الدراهم لعمارة قنطرة واشتروا ببعضها الطعام للعمل فاجتمع هناك من لا يعمل، فدعاهم العمال إلى الطعام فهذه المسألة على وجهين: إن حضر هؤلاء لهداية العمال وإرشادهم والبعث على العمل، وفي هذه الوجه وسع للعمال أن يدعوهم ووسع لهؤلاء أن يجيبوهم؛ لأنهم كالعمال، فإن حضروا إلا لما قلنا بل لأجل النظارة، فإن كانوا قليلاً لا يتمكن بأكلهم نقصان فيما جمع للقنطرة فكذلك الجواب أيضاً، وإن كانوا كثيراً لا يسعهم ذلك، ولو فضل من الحسب ونحوه شيء فهو على وجهين:
إن كان يقدر على أربابها يشاورهم القيم في ذلك، وإن كان لا يقدر على أربابها فللقيم أن يفعل به ما يرى. أوقاف على قنطرة يبس الوادي وصار الماء إلى جهة أخرى من أرض تلك المحلة، واحتيج إلى عمارة قنطرة للوادي الجديد هل يجوز صرف غلة القنطرة الأولى إلى الثانية للعامة وليس هناك قنطرة أخرى للعامة أقرب إلى القنطرة الأولى؟ جاز لما ذكرنا قبل هذا، سئل شمس الأئمة الحلواني عن مسجد وحوض خرب ولا يحتاج إليه لتفرق الناس، هل للقاضي أن يصرف أوقافه إلى مسجد آخر؟ قال: نعم ولو لم يتفرق الناس ولكن استغنى الحوض عن العمارة وهناك مسجد يحتاج إلى العمارة أو على العكس، هل يجوز للقاضي صرف وقف ما استغني للعمارة إلى ما هو محتاج إلى العمارة؟ قال: لا.
رباط استغني عنه وله غلة فإن كان بقربه رباط صرفت الغلة إلى ذلك، وإن لم يكن بقربه رباط يرجع إلى ورثة الذين بنوا الرباط، هكذا ذكر المسألة في «فتاوي أبي الليث» قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : وفيه نظر فيتأمل عند الفتوى، وقيل: إن عرف من بناه فالتصرف له وإن لم يعرف فالتصرف للقاضي.(6/224)
في «فتاوي النسفي» : سئل شيخ الإسلام عن أهل قرية تفرقوا وتداعى مسجد القرية إلى الخراب وبعض المتغلبة يستولون على حسب المسجد وينقلون إلى ديارهم هل لواحد من أهل القرية ان يبيع الحسب بأمر القاضي ويمسك الثمن ليصرفه إلى بعض المساجد وإلى أهل المسجد؟ قال: نعم، وحكي أنه وقع مثل هذه الواقعة في زمن السيد الإمام الأجل في رباط في بعض طرق سعد، ولا ينتفع المارّ به وله أوقاف عامرة فسئل هل يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع الناس به؟ قال: نعم؛ لأن الواقف غرضه من ذلك انتفاع المارة ويحصل ذلك من الثاني.
رجل (وقف) دابة أو سيفاً في رباط وقفاً على الرباط فخرب الرباط واستغنى الناس عنها، يربط في رباط آخر هو أقرب الرباط إليه، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا اجتمع في يد القيم غلة وقف الفقراء وظهر له وجه من وجوه البر يخاف فواته إن لم يبادر إليه.... الوقف فإنه ينظر إن لم يكن في تأخير مرمة الوقف إلى الغلة الثانية ضرر بيّن بالوقف للخراب فإنه يصرف الغلة إلى وجه ذلك البر ويؤخر العمارة إلى الغلة الثانية؛ لأن الجمع بينهما ممكن، وإن كان في تأخير العمارة ضرر بيّن فإنه يصرف العمارة إلى مرمة الوقف وما فضل صرف إلى ذلك البر؛ لأن عمارة الوقف أهم من إدراك ذلك البر؛ لأن الوقف إذا خرب انقطعت....، وإذا عمر يصير ممكناً إدراك الآخر إن فات هذا البر، وإن المراد من وجه البر هنا ما يكون فيه تصدق بالغلة على نوع من الفقراء نحو فكّ أسارى المسلمين أو إعانة منقطع من الغزاة أو ما أشبه ذلك؛ (27ب3) لأن هذا الوقف على الفقراء والأسراء والمنقطعة فقراء، فكانوا من أهل التصدق عليهم، فأما عمارة مسجد أو رباط ونحو ذلك مما ليس بأهل للتملك فلا يجوز صرف هذه الغلة إليه؛ لأن التصدق عبارة عن التملك فلا يتصدق إلا فيمن هو أهل للملك والله أعلم.
في «فتاوي أهل سمرقند» : علو وقف انهدم وليس له من الغلة ما يمكن عمارة العلو؛ بطل الوقف ورجع حق البناء إلى الواقف إن كان حياً وإلى ورثته إن كان ميتاً، هكذا ذكر هنا في هذه المسألة، وجنس هذه المسألة قال الصدر الشهيد رحمه الله: فيه نظر؛ لأن الوقف بعدما صح بشرائطه لا يبطل إلا في مواضع مخصوصة.
ومن هذا الجنس قال: حوض في محلة خرب وصار بحيث لا يمكن عمارته واستغنى أهل المحلة عنه، إن كان يعرف واقفه يكون له إن كان حياً ولورثته إن كان ميتاً، وإن كان لا يعرف واقفه كاللقطة في أيديهم يتصدقون على فقير ثم يبيعه الفقير فينتفع بالثمن، ومن هذا الجنس قال: حانوت هو وقف صحيح احترق السوق والحانوت وصار بحال لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء إليه يخرج من الوقفية، ومن هذا الجنس قال: الرباط إذا احترق يبطل الوقف ويصير ميراثاً. ومن هذا الجنس قال: منزل موقوف وقفاً صحيحاً على مقبرة معلومة فخرب هذا المنزل وصار بحال لا ينتفع به فجاء رجل وعمره وبنى فيه(6/225)
بناء من ماله بغير إذن أحد، فالأصل لورثة الواقف، والبناء لورثة الثاني.
ومن هذا الجنس قال: وقف صحيح على أقوام مسلمين فخرب ولا ينتفع (به) وهو بعيد من القرية لا يرغب أحد في عمارته بطل الوقف ويجوز بيعه، فهذه الجملة من هذا الجنس، في «فتاوي أبي الليث:» رجل جمع مالاً من الناس لبقعة في بناء المسجد فأنفق في حاجته من تلك الدراهم ثم رد بدلها في نفقة المسجد لا يسعه أن يفعل ذلك، فإن فعل فإن عرف صاحب ذلك المال رد عليه أو سأله تجديد الإذن؛ لأنه دخل في ضمانه فلا يبرأ عنه إلا بالرد إلى المالك وإلى بانيه ولم يوجد، وإن لم يعرف صاحب المال استأمر الحاكم فيما يستعمله، وإن تعذر عليه ذلك رجوت له في الاستحسان أن ينفق مثل ذلك من ماله على المسجد فيجوز ذلك، هذا واستئمار الحاكم يجب أن يكون في دفع الوبال، أما الضمان فواجب، فإنه ذكر في وكالة «المبسوط» أن الوكيل بقضاء الدين إذا صرف مال الموكل إلى قضاء دين نفسه ثم قضى دين الموكل من ماله ضمن وكان متبرعاً في قضاء دينه، ولهذا المعنى فسدت أمور الساعين والسماسرة، ويبنى على هذا مسائل بها أهل العلم والصلحاء، منها:
العالم إذا سأل الفقير أشياءً واختلط بعضها ببعض يصير ضامناً بجميع ذلك، وإذا أدى صار مؤدياً من مال نفسه ويصير ضامناً لهم، ولا يخرجهم من غير ركوبهم، فيجب أن يستأذن الفقير ليأذن له بالقبض فيصير خالطاً ماله بماله ومنها مال مرد إذا قام وسأل الفقير بغير أمره فهو أمين، فإن خلط مال البعض بمال البعض يصير مؤدياً من مال نفسه ويصير ضامناً لهم، ولا يخربهم عن ركوبهم فيجب أن يأمر الفقير أولاً بذلك؛ لأنه إذا أمره صار وكيلاً بقبضه وبالتصرف له فيصير خالطاً ماله بماله.
في «فتاوي الفضلي» مال موقوف على سبيل الخير والفقراء ومرعياتهم ومال موقوف على المسجد الجامع، فاجتمعت من عليها ثم بانت للإسلام بائنة مثل حادثة اليوم، واحتيج إلى النفقة في تلك الحادثة، أما المال الموقوف على المسجد الجامع إن لم يكن للمسجد حاجة للحال فللقاضي أن يصرف في ذلك على وجه القرض فيكون ديناً في مال الفيء، وأما المال الموقوف على الفقراء فإن صرف إلى المحتاجين أو إلى الأغنياء من أبناء السبيل جاز لا على وجه القرض؛ لأنه صرف إلى المصرف، بخلاف المال الموقوف على المسجد الجامع؛ لأنه صرف إلى غير المصرف فلا يجوز إلا بطريق القرض.
وإن صرف إلى الأغنياء من غير أبناء السبيل فإن رأى قاضٍ من قضاة المسملين جواز ذلك جاز الصرف لا بطريق القرض لأن فيه اختلاف العلماء. نحن وإن قلنا: إنه لا يجوز ولكن لما رأى قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك وصرف كان قضاء في موضع الخلاف، وإن لم يره قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك يصرف على وجه القرض فيصير ديناً في مال الفيء والله أعلم.(6/226)
الفصل الخامس والعشرون: في وقف الكفار
في «فتاوي أبي الليث» : نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء كما هو الرسم، فأسلم بعض أولاده يعطى له؛ لأن الوقف حصل باسم الأولاد، وهذا الاسم باقي بعد الإسلام، فيه أيضاً: نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا فعلى فقراء المسلمين، فهذا الوقف جائز لأن هذا مما يتقرب به أهل الذمة، فالوقف على ما هو قربة عندنا وعندهم جائز، وكذلك إذا قال: فإذا انقرضوا فعلى الفقراء جاز، فإذا انقرضوا صرف إلى المسلمين؛ لأن حق فقراء المسلمين أقوى بشرف الإسلام فيتعينون عند الاطلاق، ولو قال: إذا انقرضوا فعلى فقراء النصارى لا يجوز هذا الوقف؛ لأنه وقف على فقراء النصارى والوقف على فقراء النصارى لا يجوز، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه لا يرى الوقف إلا بطريق الوصية أو مضافاً إلى ما بعد الموت ولم يوجد ذلك هنا، وأما على قولهما؛ فلأن هذا معصية في حقنا.
وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف الرجل من أهل الذمة نصرانياً كان أو مجوسياً أرضاً له أو داراً له على ولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا، ومن بعدهم على المساكين فهو جائز، فإن لم يسم الواقف المساكين؛ فأي المساكين فرق ذلك منهم؛ مساكين المسلمين أو مساكين أهل الذمة جاز، وإن قال: على مساكين أهل الذمة ففرق القيم في مساكين اليهود أو النصارى أو المجوس جاز ذلك، وإن قال: على فقراء النصارى فهو جائز ويفرق على فقراء النصارى، ولو فرق القيم في فقراء المجوس أو اليهود فهو مخالف ضامن، وإن كان الواقف نصرانياً وقال: تجعل غلة هذا الوقف في فقراء اليهود والمجوس فهو جائز وهو على ما قال، فما ذكره الخصاف في هذه المسائل بخلاف المذكور في «الفتاوي» .
وقد ذكر في كتاب «الوصايا والزيادات» : أن وصايا أهل الذمة أنواع: نوع هو معصية عندهم قربه عندنا، وأجاب أن الوصية باطلة إلا إذا حصلت لأقوام بأعيانهم ويكون ذلك تمليكاً منهم، ونوع هو قربة عندهم معصية عندنا، وهذا الوصية صحيحة عند أبي حنيفة على كل حال، وعندهما باطلة إلا إذا حصلت الأقوام بأعيانهم، والوقف نظير في الوصية، فما ذكره الخصاف في الوقف يكون قول أبي حنيفة على قياس مسألة الوصية، وما ذكر في الفتاوي يكون قولهما على قياس مسألة الوصية، ولو جعل الذمي داره بيعة (28أ3) أو كنيسة أو بيت نار في صحته ثم مات يصير ميراثاً لورثته، هكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ، وهكذا ذكر محمد في «الزيادات» وهذا لا يشكل على قولهما؛ لأنه معصية عندنا، ولهذا لو أوصى به لا يصح فكذا إذا فعل في حياته، وإنما يشكل على أبي حنيفة لا يعامل معهم بناء على اعتقادهم، ألا ترى لو أوصى به صح عند أبي حنيفة رحمه الله.(6/227)
والفرق: أن البناء ليس بمزيل للملك لو زال الملك، وإنما يزول إذا تعين فيه جهة القربة مطلقاً وهذا الفعل ليس بقربة مطلقاً، خرج على هذا المسلم إذا اتخذ داره مسجداً؛ لأن ذلك قربة مطلقاً، فأما الوصية فمزيلة للملك فلا يشترط جهة القربة فيها مطلقاً للإزالة، بل يكتفي فيها بجهة القربة بناء على زعمهم واعتقادهم.
قال الخصاف: إذا جعل الذمي داره مسجداً للمسلمين وبناه كما يبتني المسلم وأذن للمسلمين بالصلاة فيه وصلوا فيه ثم مات؛ يصير ميراثاً لورثته، وهذا على قول الكل؛ لأنه معصية عندهم ألا ترى أنه لو أوصى أن يبني داره مسجداً بعد موته كانت الوصية باطلة، ولو أوصى أن يبني داره مسجداً لقوم بأعيانهم قال الخصاف: أستحسن أن هذا لا هذه وصية لقوم بأعيانهم. قال: ولو وقف الذمي داره على بيعة أو كنيسة أو بيت نار فهو باطل، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لم توجد الوصية أو الإضافة إلى ما بعد الموت، ولو قال: يجري غلتها على بيعة كذا فإن خربت هذه البيعة كانت الغلة للفقراء وللمساكين، ولا ينفق على البيعة شيء، قال: فإن وقف ذمي أرضا وقفاً صحيحاً وأن يفرق غلتها في أبواب البر فأبواب البر عندهم عمارة البيع والكنائس والصدقة على المساكين، وإنما يفرق غلة هذه الصدقة على الفقراء والمساكين، وأبطل ما سوى ذلك.
وإن قال: تفرق عليها في جيران مسلمين وجيران نصارى ويهود ومجوس، وجعل آخره للفقراء فالوقف جائز ويفرق الوقف في جيرانه المسلمين والنصارى وغيرهم، وإن قال الذمي: يجعل غلتها في أكفان الموتى أو في حفر القبور فهو جائز ويصرف الغلة في أكفان موتاهم وحفر قبور فقرائهم. قال: وسبيل الذمي في الوقف على قرابته وأهل بيته كسبيل المسلمين، وإن قال الذمي: أجعل غلة هذه الصدقة في سراج بيت المقدس وثمنها فهو جائز؛ لأنه قربة عندنا وعندهم.
وإذا وقف نصراني وقفاً على ولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وشرط أن كل من أسلم من ولده أو ولد ولده أبداً ما تناسلوا فهو خارج عن هذا الوقف فهو جائز وهو على ما شرط والله أعلم.
نوع منه: إذا ارتد المسلم ثم وقف وقفاً في حال ردته، فإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم القاضي بلحاقه يبطل وقفه وتكون الأرض ميراثاً. والمحفوظ عن أبي يوسف فيما إذا اشترى شيئاً أو باع أو آجر أو عامل في ماله بشيء أنه جائز، ولم يرو عنه فيما يتقرب (به) إلى الله تعالى، وعلى قول محمد: يجوز منه ما يجوز من القوم الذين انتقل إليهم، وأما إذا وقف وقفاً صحيحاً وجعل أجرته للمساكين ثم ارتد الواقف بعد ذلك فقتل على ردته، أو مات بطل الوقف ويصير ميراثاً لورثته من قبل أن عمله قد حبط، فإن رجع إلى الإسلام؛ فإن وقف بعد ما رجع جاز، وإن لم يفعل لم يجز ذلك.
نوع منه: ذمي في يديه أرض أقر في صحته أن هذه الأرض وقفها رجل مسلم وكان يملكها وقفاً صحيحاً على أبواب البر وبناء المسجد أو ما أشبهه ذلك مما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى فإقراره جائز، وكذلك إن أقرَّ به في مرضه وهذه الأرض يخرج(6/228)
من الثلث فإقراره جائز، وإن كان الذمي أقر بأن هذا المسلم وقف هذه الأرض في الوجوه التي لا يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى نحو الوقف على البيع والكنائس لم يصح إقراره وتخرج الأرض من يد الذمي وتجعل لبيت مال المسلمين، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من ثلث ماله فمقدار الثلث يجوز إقراره فيه فيما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى لا يجوز ويكون لبيت المال.
وإن أقر هذا الذمي أن ذمياً كان يملكها جاز إقراره فيما يجوز أوقاف أهل الذمة، وبطل إقراره فيما لا يجوز أوقافهم وتخرج الأرض من يده ويجعل لبيت مال المسلمين؛ لأنه لم يسم مالكها.
الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات
إذا اشترى أرضاً شراءً فاسداً ووقفها المشتري على الفقراء والمساكين بعدما قبضها فهو جائز على ما وقفها عليه، وإن جاء البائع وخاصم المشتري فقيمتها يوم قبضها ولا يرد الوقف، ولو وقفها قبل أن يقبضها لا يجوز، قال: ألا ترى أنه لو باعها بعد القبض يجوز، أشار إلى أن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض ويفيده بعد القبض، فقبل القبض؛ الوقف لم يصادف ملكه وبعد القبض صادف ملكه، ثم إذا وقفها بعد القبض وخاصم البائع المشتري في ذلك ذكر أن المشتري يضمن قيمتها للبائع يوم القبض؛ لأنه أتلفها بالوقف، ألا ترى أن المشتري لو باعها أو وهبها ضمن قيمتها للبائع فكذا إذا وقفها.
ولا ينقض الوقف كما لا ينقص البيع إذا باعها المشتري من رجل؛ لأنه بتسليط البائع، ولو اشترى أرضاً شراءً فاسداً فقبضها واتخذها مسجداً وصلى الناس فيه؛ ذكر هلال في وقفه أنه مسجد وعلى المشتري قيمتها ولا يرد إلى البائع، قال هلال: هذا قول أصحابنا في المسجد والوقف على قياسه، وذكر في «كتاب الشفعة:» إذا اشترى أرضاً شراءً فاسداً واتخذها مسجداً وبنى فيها بناء أنه يضمن قيمتها عند أبي حنيفة ويصير مستهلكاً بالبناء، وعندهما: ينقض البناء وترد الأرض على البائع، فاشتراط البناء على رواية كتاب الشفعة دليل على أنه إذا لم يبنَ لا يصير مسجداً بمجرد اتخاذه مسجداً بلا خلاف بدون البناء.
قال الحاكم الشهيد: رواية محمد في «كتاب الشفعة» أصح من رواية هلال، ووجه ذلك: أن المسجد ما يكون لله تعالى خالصاً وينقطع عنه حق العباد، وههنا حق العبد وهو البائع باق قبل البناء فلا يصير مسجداً، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يقول في الوقف روايتان أيضاً أنه هل يصير وقفاً قبل البناء كما في المسجد؟ ولقائل أن يقول: يصير وقفاً قبل البناء على الروايتين ويفرق هذا القائل بين المسجد وبين الوقف(6/229)
على رواية «كتاب الشفعة» ووجهه: أن الوقف إيجاب حق العباد فصار نظير المبيع والهبة، ثم قيام حق البائع لا يمنع نفاذ البيع والهبة حتى إن المشتري (اشترى) شراءً فاسداً إذا وهب أو باع يجوز ولا ينقض بعد ذلك، فكذا بخلاف المسجد؛ لأن المسجد ما يكون لله تعالى خالصاً وقيام حق البائع الخلوص لله تعالى.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يفرق بين الوقف على الفقراء وبين الوقف على أقوام بأعيانهم ويقول: إذا وقف على الفقراء كان في صيرورته وقفاً قبل البناء باتفاق الروايات؛ لأن الوقف على الفقراء يطلب منه وجه الله تعالى (28ب3) لا إيجاب بالحق للعباد فأشبه المسجد، بخلاف الوقف على قوم بأعيانهم؛ لأنه إيجاب الحق للمعين فصار نظير البيع والهبة، ولو اشترى أرضاً شراء صحيحاً وقبضها ووقفها على الفقراء ثم وجد بها عيباً لا يردها ولكن يرجع بنقصان العيب، بخلاف ما إذا اشترى أرضاً واتخذها مسجداً ثم وجد بها عيباً فإنه لا يرجع بنقصان العيب، وجعل المسجد نظير البيع والوقف نظير العتق، وإذا رجع بنقصان العيب كان النقصان له يصنع به ما شاء؛ لأنه ليس ببدل عن الوقف؛ لأن الفائت بالعيب لم يدخل تحت الوقف، فسلم المشتري من آخر أرضاً بعبد وتقابضا ووقف الأرض ثم استحق العبد فالوقف جائز وعلى مشتري الأرض قيمة الأرض يوم قبضها، وإنما جاز الوقف؛ لأن الأرض بدل المستحق، وبدل المستحق مملوك ملكاً فاسداً فيصح وقفه لما مر، وبمثله لو وجد العبد حر أبطل الوقف؛ لأن بدل الحر ليس بمملوك فلا يصح وقفه.
وإذا اشترى أرضاً من رجل ووقفها على المساكين بعد ما قبضها ثم استحقها رجل وأجاز البيع فالبيع جائز والوقف باطل. قيل: هذا على قول من يقول: بأن المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع أن العتق لا ينفذ، وهو قول محمد وزفر وهلال، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: ينبغي أن ينفذ الوقف كما ينفذ العتق قبل أيضاً، ويجوز أن يفرق بين العتق والوقف فيقال: العتق من حقوق الملك وأحكامه، بدليل أنه يؤكد الملك ويقرره حتى جعل قبضا، والقبض يؤكد الملك فجاز أن يتوقف بتوقفه وينفذ بنفوذه بخلاف الوقف.
قال: ولو أن المستحق ضمن الغاصب وهو البائع القيمة نفذ الوقف كما ينفذ العتق بلا خلاف؛ لأنه ملك بالضمان من وقت الغصب السابق فينفذ بيعه؛ لأنه باع ملكه، وينفذ وقف المشتري كما ينفذ عتقه، قيل: غاصب الدور والعقار لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، فكيف يستقيم هذا التفريع على قولهما؟، وقيل: إن ضمن المشتري القيمة أينقص الوقف كما ينقص العتق لأن الملك حصل له بالضمان، والوقف كان قبل ذلك بهذا الطريق لم ينفذ العتق، وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف بيتاً من دار فإن وقفه بطريقه جاز الوقف، وإن لم يقفه بطريقه لم يجز الوقف؛ لأنا إن آجرنا الوقف ماذا يصنع به إذا كان لا يمكن أن يكري ولا يسكن؛ لأنه لا طريق له، وإذا شرط في وقفه أنه ليس لوالي هذه الصدقة أن يؤاجر هذا الوقف لأشياء منه، وإن أجرها واليها أو واحد أن تصير(6/230)
ولايتها إليه فالإجارة باطلة وهو خارج عن ولاية هذه الصدقة.
قال الخصاف: هو على ما شرط من ذلك، وكذلك لو شرط أن لا يدفع بعامله وإن فعل ذلك أخذ من ولاء هذه الصدقة فهو خارج عن ولاية هذه الصدقة لفلان فهو جائز على ما شرط الواقف، وكذلك لو شرط أن من نازع فلاناً وطالبه بحصة من غلة هذه الصدقة فهو خارج عن هذه الصدقة فهذا على ما شرط الواقف. في «فتاوي أبي الليث» : قيم وقف جمع الغلة وقسمها على أربابها وحرم واحداً منهم وصرف نصيبه إلى حاجة نفسه، فلما خرجت الغلة الثانية أراد المحروم أن يأخذ من الغلة الثانية نصيبه في السنة الأولى فهذا على وجهين:
إن اختار المحروم تضمين القيم ليس له أن يأخذ من الغلة الثانية ذلك؛ لأنه لما اختار تضمين القيم سلم للشركاء ما أخذوا من جهة القيم ولم يتبين أنهم أخذوا من نصيب هذا المحروم شيئاً، وإن اختار إتباع الشركاء والشركة فيما أخذوا كان له أن يأخذ ذلك من نصيب الشركاء من الغلة الثانية؛ لأنه لما اختار إتباع الشركاء تبين أنهم أخذوا نصيبه فله أن يأخذ من أنصابهم مثل ذلك؛ لأنه جنس حقه، فماذا أخذ رجعوا جميعاً على القيم بما استهلك القيم من حصته المحروم في السنة الأولى؛ لأنه بقي ذلك حقاً للجميع، وفيه أيضاً: رجل أوصى أن يوقف من ماله كذا كذا درهماً لدين يظهر عليه، فالوصية باطلة إن لم يؤقت؛ لأنه لم يؤمن بشيء للحال، وكل مال خلا عن الوصية والدين فهو مال الوارث، فإن قال إن رأى الوصي ذلك الآن توقف ذلك من ثلث ماله؛ لأنه لما قال: إن رأى الوصي ذلك وقفاً فكأنه قال: يعطى الوصي ذلك القدر من شاء، ولو تصح على هذا يصح.
رجل في يديه أرض وماء للفقراء ففضل الماء في النهر عن الأرض، لا يعطي أحداً بل يرسله في النهر ليصل إلى الفقراء أو إلى كل من يصل؛ لأن القيم أمر بصرف الماء إلى أرض الفقراء لا غير، فإذا استثنى الأرض أرسل الماء.
مريض قال: إني كنت متولي حانوت وقف على الفقراء وكنت استهلكت عليه، أو قال: لم أؤد زكاته فأدوا ذلك من مالي بعد موتي، فإن صدقه الورثة في ذلك يعطى الوقف من جميع المال والزكاة من الثلث؛ لأن في الوقف يؤخذ ذلك من تركته من غير إقراره، فلم يكن الأخذ مضافاً إلى إقراره، وفي الزكاة لا يؤخذ من تركته، وإن كذبه الورثة يعطى الوقف والزكاة من الثلث، وللوصي أن يحلف الورثة على العلم، يريد بالوصي قيم الوقف بالله يعلمون أن من أقرّ به حق؛ لأنه يدعي عليهم معنىً لو أقروا به يلزمهم فإذا أنكروا يستحلفون، فإن حلفوا جعل ذلك كله من الثلث كما قبل الحلف، وإن نكلوا جعل الزكاة من الثلث والوقف من الجميع كما لو أقر به الورثة ابتداءً.
قيم الوقف أدخل جذعاً في دار الوقف ليرجع في غلتها فله ذلك، فإن أراد الاحتياط ينبغي أن يبيع الجذع من آخر ثم يشتري منه الرجل الوقف ثم يدخلها في دار الوقف، رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته وأخرجه من يده ثم قال لوصيه عند الموت: أعطِ من غلة تلك الضيعة كذا لفلان وقد كان قال لوصيه: افعل ما رأيت من(6/231)
الصواب، فجعل لأولئك باطل؛ لأنه صار حقاً للفقراء فلا يملك تغيير حقهم إلا إذا شرط في الوقف أن يصرف عليها إلى من شاء، رجل وقف ضيعة له على امرأته وأولاده فماتت المرأة لم يكن نصيبها لابنها خاصة إذا لم يكن في الوقف شرط من مات منهم رد إلى أولاده، بل يكون على جميع الورثة.
مريض قال: أخرجوا نصيبي من مالي يخرج من الثلث من ماله لأن ذلك نصيبه، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، حانوت وقف ماله إلى حانوت آخر، ومال الثاني إلى الثالث وتعطلت الحوانيت وأبى قيم الوقف العمارة، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون حانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها، والحكم فيه لصاحبي الحانوت أن يأخذ القيم برد ما مال عنه إلى حد الوقف؛ لأنهما تضررا بذلك (29أ3) وإنه هو المتعين لدفع هذا الضرر.
الوجه الثاني: أن لا يكون لحانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها وفي هذا الوجه: يرفعان الأمر إلى القاضي ليأمر القيم بالاستدانة على الوقف لإصلاحه؛ لأن الأمر بالاستدانة هنا يعين لدفع الضرر، والقاضي هو المتعين لدفع الضرر.
حائط بين دارين أحدهما وقف انهدم ذلك الحائط فبناه صاحب الدار الوقف كان للقيم أن يأخذه ببعضه؛ لأنه يصرف في الدار الموقوفة، فلو أراد القيم أن يعطي قيمة بنائه ليكون المبني للوقف ليس للقيم أن يجبره على ذلك، وقد مر جنس هذا فيما تقدم وسيأتي بعد هذا إن شاء الله.
وإن أراد أن يعطيه قيمة البناء برضاه لم يجز أيضاً؛ لأنه لو أجاز لما ضاع ما وراء هذا الحائط من دار الوقف فيكون المتعين هو النقص، رجل وقف أرضاً على حفدته من كان منهم فقيراً وله حفده عنده فرس يساوي مئتي درهم فإن أمسك الفرس للجهاد أو للركوب لما أن به زمانة يعطى من الوقف؛ لأنه فقير، وإن أمسكه مسرفاً لا يعطى إذا لم يكن عليه دين ولا مهر؛ لأنه عفي.
رجل عليه ديون وله ضيعة تساوي عشرة آلاف درهم وشرط صرف غلاتها إلى نفسه قصداً منه إلى المماطلة وشهدت الشهود على إفلاسه جاز الوقف وجازت الشهادة، أما جواز الوقف فلمصادفته ملكه، وجواز الوقف مع هذا الشرط قول أبي يوسف على ما مر قبل هذا.
أما جواز الشهادة فلأنها صدق؛ لأن الرقبة خرجت عن ملكه، فإن فضل من قوته شيء من هذه الغلات فللغرماء أن يأخذوا منه؛ لأن الغلات بقيت على ملكه.
القاضي إذا أطلق بيع وقف غير مسجد هل يكون ذلك منه حكماً ببطلان الوقف؟(6/232)
ينظر إن أطلق لوارث الواقف يكون حكماً ويجوز البيع، وإن أطلق لغير وارث الواقف لا يكون حكماً ولا يجوز البيع، وهذا لأن الوقف لو بطل يعود إلى ملك وارث الواقف، وبيع مال الغير لا يجوز، سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن باع محدوداً قد وقفه وكتب القاضي الشهادة على الصك لا يكون ذلك قضاءً بصحته، وهذا صحيح ظاهر؛ لأن للقضاء شرائط من الشهادة والدعوى وغير ذلك ولم يوجد ذلك ههنا.
سئل شمس الإسلام الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى؟ قال: نعم، قيل: إذا لم يتعطل ولكن يوجد بثمنها ما هو خير منها هل له أن يبيعها؟ قال: لا، ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، وكذا لم يجوز الاستبدال بالوقف، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخي رحمه الله في فصل العمارة إذا ضعفت الأراضي الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضاً أخرى هي أكثر ريعاً أن له أن يبيع هذه الأرض ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً.
وفي «المنتقى» : قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول في الوقف: إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، وليس ذلك إلا للقاضي. في «واقعات الناطفي» : رجل جعل فرساً حبساً في سبيل الله فليس لأحد أن يؤاجره؛ لأنه أعد لأمر آخر إلا إذا احتيج إلى نفقتها فتؤاجر بقدر ما ينفق عليها.m
قال الناطفي رحمه الله: هذه المسألة دليل أن المسجد إذا احتاج إلى النفقة يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه، فيه أيضاً: متولي الوقف إذا أخذ الغلة ومات ولم يبين ماذا صنع لم يضمن، فالإمارة باب ينقلب مضمونه بالموت عن تجهيل إلا في مسائل معدودة، من جملتها هذه المسألة، وقد ذكر مهامها في الوديعة.
في «فتاوي الفضلي» : رجل وقف ضيعة بلفظة الصدقة على ولديه، فإذا انقرضا فعلى أولادهما وأولاد أولادهما أبداً ما تنسلوا، فإذا انقرض أحد الولدين وخلف ولداً يصرف نصف الغلة إلى الولد الباقي والنصف إلى الفقراء، فإن مات الولد الثاني من ولدي الواقف صرفت الغلة كلها إلى أولادهما؛ لأن شرط الواقف مراعى في صحته، جعلت داري صدقة موقوفة على المحتاجين من ولدي وليس في ولده إلا محتاج واحد فله النصف من غلة الأرض والنصف الآخر للفقراء عملاً بقوله: صدقة موقوفة، أراد المتولي أن يفرض ما فضل من غلة الوقف.
ذكر في «فتاوي أبي الليث» رجوت أن يكون ذلك واسعاً إذا كان أصلح وأحرز للغلة من إمساك الغلة، ولو أراد أن يصرف فضل الغلة إلى حوائجه على أن يرده إذا احتيج إلى العمارة فليس له ذلك، وينبغي أن يتنزه غاية التنزه، فإن فعل مع ذلك ثم أنفق في العمارة رجوت أن يكون ذلك ميراثاً لا له عما وجب عليه. وفي «فتاوي الفضلي» : أنه براء عن الضمان مطلقاً، ولو جاء بمثل ما أنفق في حاجته وخلط بدراهم الوقف صار ضامناً للباقي؛ لأنه صار مستهلكاً، فلو أراد أن يبرأ عن الضمان يفعل أحد الوجهين: إما أن(6/233)
ينفق ذلك كله في مصلحة المسجد إن كان الوقف على المسجد، وإن كان الوقف على شيء آخر ينفق على ذلك المسجد أو يرفع الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي رجلاً بقبض ذلك منه للوقف ثم يدفعه إليه، رجل وقف بعد وفاته وقفاً صحيحاً فله أن يرجع منه؛ لأن الوقف بعد الوفاة وصية وللموصي أن يرجع في وصيته.
سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله عن وقف ثم افتقر وأراد أن يرجع فيه قال: يرفع الأمر إلى القاضي حتى يفسخ القاضي الوقف، رجل وقف ضيعة له نصفها على امرأته ونصفها على ولد له بعينه على أنه إن ماتت المراة صرفت نصيبها إلى أولاده، وأجرة للفقراء ثم ماتت المرأة يكون للابن الموقوف عليه من نصيبها نصيب؛ لأن الواقف شرط نصيبها لأولاده، والابن الموقوف عليه من أولاده، وإذا كان الوقف على أرباب معلومين يحصى عددهم فنصب هؤلاء الأرباب متولياً بدون استطلاع رأي القاضي. ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» : أنه يصح إذا كانوا من أهل الصلاح، وقاسوا هذه المسالة على ما إذا نصبه أهل المسجد متولياً بغير أمر القاضي، وقد ذكرنا تلك المسألة فيما تقدم. وذكرنا اختيار الصدر الشهيد في تلك المسألة أنه لا يصح إلا بأمر القاضي.
ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف ضيعة مع رقيق يعملونها فقتل بعضهم وأخذ القيم قيمته من قاتله ينبغي أن يشتري بها عبداً آخر مكان المقتول يعمل في هذه الصدقة، وإن جنى أحدهم جناية ينبغي أن ينظر القيم أيهما أصلح بأمر هذه الصدقة دفع الحال اقتداءً بأرش الجناية، ويعمل بما هو أصلح بأمرها، فإن فداه الوصي بأرش الجناية من غلة هذه الصدقة وكان أرش الجناية أكثر من قيمته فهو متطوع، في الفصل هنا من هو ليس إلى أهل الوقف من الدفع والفداء شيء، فإن فداه أهل الوقف كانوا متطوعين وكانوا خائنين في الصدقة على ما كان عليه، ومسألة الخيانة عند الوقف صارت واقعة في زماننا وأفتى بعض المشايخ أنها (29ب3) في مال الوقف؛ لأنها صارت..... الدفع بفعله فصار كجناية المدبر.
متولي الوقف إذا قام إلى عمارة الوقف وأراد أن يأخذ لكل يوم إخراجيتها ليس له ذلك. لرجل جعل أرضه مقبرة أو خاناً للغلة أو مسكيناً؛ سقط عنها الخراج لأن السبب وجوب الخراج الأرض الباقية الصالحة للزراعة والله أعلم بالصواب.(6/234)
كتاب الهبة والصدقة
هذا الكتاب يشتمل على اثني عشر فصلاً:
1 * في ألفاظ الهبة، وما يقوم مقامها به.
2 * فيما يجوز من الهبة وما لا يجوز.
3 * فيما يتعلق بالتمليك، وما يتصل به.
4 * في هبة الدين فيمن عليه دين.
5 * في الرجوع في الهبة.
6 * في الهبة من الصغيرة.
7 * في العوض في الهبة.
8 * في حكم الشرط في الهبة.
9 * في اختلاف الواهب والموهوب له، والشهادات في ذلك.
10 * في هبة المريض.
11 * في المتفرقات.
12 * في الصدقة.(6/235)
الفصل الأول: في ألفاظ الهبة وما يقوم مقامها
ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا كان لرجل عبد في يدي رجل قال المودع لمولى العبد هبة فقال: هو لك فقال: لا أقبل فهو هبة، فقد جعل الهبة نظير النكاح لا نظير البيع، إذا قال لغيره هذه الجارية لك فهي هبة جازت، رواه ابن سماعة عن أبي يوسف، وفي هبة إذا قال: هي لك فاقبضها فهي هبة، وفي الأصل جعلت هذه الدار لك فاقبضها فهي هبة؛ لأن معنى كلامه ملكتك هذه الدار، ألا ترى أن في التمليك يعدل لفظ الجعل ولفظ التمليك سواء، فكذا في التمليك يبدل، وفي الفتوى عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله، إذا قال لغيره: أين ترى فهذه هبة لا يجوز إلا بالقبض، ولو قال: (أين تراست) فهذا إقرار، وسئل أبو نصر عمن قال جميع ما أملكه لفلان قال: هذا هبة لا يجوز إلا بالقبض
وسئل أبو بكر عن رجل له ابن صغير غرس كرماً وقال: اغرسه باسم ابني فهذا لا يكون هبة، قيل: إن قال: جعلته لابني قال: لا شك في هذا أنه هبة. في «الأصل» إذا قال: عمرتك هذه الدار أعطيتك هذا الثوب عطية كسوتك هذا الثوب فهذا كله هبة. وفي «البقالي» إذا قال: أعطيته وهو في يده فقال: أعطيتك فهذا هبة، وإن كان في يد صاحبه فهو وديعة. في «الأصل» إذا قال: منحتك هذه الدراهم أو هذا الطعام، ولو قال: منحتك هذه الأرض، هذه الجارية فهو عارية فالأصل: أن لفظ المنحة إذا أضيفت إلى ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو هبة، وإذا اضيفت إلى ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو عارية.
وإذا قال: أعطيتك هذه الأرض فهو عارية. ولو قال: أطعمتك هذا الطعام، فإن قال فاقبضه فهو هبة، وإن لم يقل فاقبضه يكون هبة أو عارية؟ فقد اختلف المشايخ في شروحهم.
في «الأصل» إذا قال: داري لك عمرى سكنى فهو عارية وليس بهبة. إذا قال: هي لك هبة عارية أو قال: عارية بهبة فهذا كله عارية. ولو قال: داري هذه لك عمرى يسكنها فهو هبة؛ لأن قوله يسكنها ليس بتفسير لقوله عمرى؛ لأن الفعل لا يصلح تفسيراً للاسم بل هو مشورة، فإن شاء قبل مشورته، وإن شاء لم يقبل، بخلاف قوله عمرى سكنى؛ لأن قوله سكنى يصلح تفسيراً لقوله عمرى؛ لأن كل واحد منهما اسم والكلام إليهم إذا تعقبه تفسير فالعبرة للتفسير.
إذا قال: هذه الدار هبة لك ولعقبك من بعدك فهي هبة، وذكر العقب لغو. وكذلك(6/237)
إذا قال: أسكنتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعد موته فهذه عارية له حياته ولعقبه بعد موته، وذكر العقب لا يكون لغواً، والفرق: أن قوله هي هبة لك تمليك العين منه، وبعد مالك العين لا يبقى له ولاية الإيجاب لغيره فكان كلامه عارية في حقه وفي حق عقبه بعده، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا قال: لفلان نصف مالي لفلان ربع مالي نصف عبدي هذا فهذا هبة.
وفي «فتاوي النسفي» : إذا قال: لغيره هذه الجارية لك حلال فهذا على أنه أحل فرجها له فلا يجوز إلا أن يكون قبله كلام يستدل على أنه وهبها له، ولو قال: وهبت لك فرجها فهو هبة إذا قبضها.
الفصل الثاني: فيما يجوز في الهبة وما لا يجوز
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا تجوز الهبة إلا محوزة مقسومة مقبوضة يستوي فيها الأجنبي والولد إذا كان بالغاً، وقوله لا يجوز: لا يتم الحكم، فالجواز ثابت قبل القبض باتفاق الصحابة، والقبض الذي يتعلق به تمام الهبة؛ القبض بإذن الواهب وذلك نوعان: صريح، ودلالة ففيما إذا أذن له بالقبض صريحاً يصح قبضه في المجلس وبعد الافتراق عن المجلس ويملكه قياساً واستحساناً، ولو نهاه عن القبض بعد الهبة لا يصح قبضه لا في المجلس ولا بعد الافتراق عن المجلس ولا يملكه قياساً، ولو لم يكن أذن له بالقبض ولم ينهه عنه إن قبضه في المجلس صح قبضه استحساناً ولم يصح قبضه قياساً، وإن قبضه بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً، ولو كان الموهوب غائباً فذهب وقبض، فالجواب فيه وفيما إذا كان حاضراً وقبضه بعد الافتراق عن المجلس سواء إن كان القبض بإذن الواهب جاز استحساناً لا قياساً، وإن كان بغير إذنه لا يجوز قياساً واستحساناً. وفي «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال: اقبضه فقال: قبضت والموهوب حاضر جاز إذا لم يشرح الموهوب قبل قوله فقبضت، ولا يكفي قول قبلت، وإذا لم يقل اقبضه، فإنما القبض أن يقبله، فإذا لم يقل قبلت لم يجز وإن يقل إلا أن تكون الهبة....
في «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا وهب جارية في البيت وليست بحضرتهما فقالت: قبلت لم يجز إلا أن يكون بحضرتهما، وقد ذكرنا أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، والقبض نوعان: حقيقي وأنه ظاهر، وحكمي وذلك بالتخلية؛ لأنها إذا كانت بحضرتهما فقد تمكنت من قبضها حقيقة، وهو تفسير التخلية، وهذا قول محمد خاصة، وعن أبي يوسف: التخلية ليست بقبض في الهبة الصحيحة، فأما في الهبة الفاسدة فالتخلية ليست بقبض بلا خلاف، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا وهب غلامه من رجل والغلام بحضرتهما ولم يقل له الواهب، فذهب الواهب وترك الغلام فليس له أن يقبضه حتى يأمره بقبضه.(6/238)
في «المنتقى» أيضاً: رجل وهب لرجل غلاماً فلم يقبضه الموهوب له حتى وهبه الواهب من رجل آخر ثم أمرهما بالقبض فقبضاه فهو للثاني، وكذلك لو أمره الأول بالقبض فقبضه كان باطلاً؛ لأن الهبة من الثاني أبطلت الهبة من الأول.
وفيه أيضاً: وهب لرجل ثوباً في صندوق مقفل عليها ودفع الصندوق إليه قال: هذا ليس بقابض لما وهب له؛ لأن في الفصل الأول لم يصر مخلياً بين الموهوب والموهوب له، بخلاف «الفصل الثاني في المشاع» فيما يحتمل القسمة من رجلين أو من جماعة، عندهما صحيحة، وعند أبي حنيفة رحمه الله فاسدة وليست بباطلة حتى تفيد الملك عند القبض، فالشيوع من الطرفين مانع صحة الهبة وتمامها بالإجماع، ومن طرف الموهوب له مانع عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأن الشيوع من طرف الموهوب له لا يلحق ضماناً بالمتبرع، وهو المانع من تمام الهبة في الشيوع من الطرفين، وإنما يشترط كون الموهوب مقسوماً ومفرزاً وقت القبض والتسليم لا وقت الهبة بدليل أنه لو وهب نصف الدار شائعاً وسلم ثم وهب النصف الثاني وسلم لا يجوز، وعلى أصل أبي يوسف ومحمد: إذا وهب الدار من رجلين وسلم إليهما جملة يجوز ولو سلم إلى (30أ3) كل واحد منهما نصف الدار لا يجوز فهذا سر لك أن العبرة بحالة القبض، واختلف المشايخ في بيان معنى ذلك بعضهم قالوا: بأن هبة المشاع عندنا غير فاسدة إلا أنها غير تامة لعدم القبض على وجه التمام بسبب الشيوع، فإذا انعدم الشيوع قبل القبض زال المانع من تمام القبض فعملت الهبة الشائعة عملها، وبعضهم قالوا: إن التسليم في معنى شطر العقد في باب الهبة فإذا زال الشيوع قبل القبض صار كأن العقد وقع على المفرز وعلى المقسوم، ولهذا إذا وهب النصف ولم يسلم حتى وهب النصف الآخر وسلم الكل جاز وجعل كأن العقد واحد ضرورة اتحاد الشطر وهو القبض والتسليم بخلاف ما إذا تفرق التسليم؛ لأن هناك تفرق العقد، وكل عقد ليس بتام لانعدام تمام القبض الذي هو شطر العقد، وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال لرجلين: وهبت لكما هذه الدار لهذا نصفها ولهذا نصفها جاز؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا تفسير لحكم العقد على هذا التقدير لا يتمكن الشيوع في العقد وهو المانع من تمام الهبة، وهكذا روى ابن
سماعة عن محمد، ولو قال لأحدهما: وهبت لك نصفها ولهذا نصفها لم يجز لأنه أثبت الشيوع في العقد، لو قال: وهبت لكما هذه الدار لك ثلثها ولهذا ثلثاها على قول محمد: يجوز، وعلى قول أبي يوسف: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا تفسيراً؛ لأن مطلق العقد لا يقتضي المثالثة فكان لإثبات الشيوع في العقد.
وعنه أيضاً: في رجل وهب نصف دار غير مقسوم ودفع الدار إليه فباع الموهوب له ما وهب له لا يجوز، قال: بمنزلة من باع هبة لم يقبضها، وهذا بناء على ما قلنا: إن الهبة لا تفيد الملك قبل القبض، والشيوع لا يحتمل القبض بصفة الكمال إلا بالقسمة فلا(6/239)
يفيد الملك قبل القسمة فهو معنى ما قال: وهو بمنزلة من باع هبة لم يقبضها. ذكر محمد في «الأصل» هبة الدار من رجلين وعطف عليها الصدقة فقال: وكذلك الصدقة وهذا يدل على أنه إذا تصدق ما يقسم على رجلين إنه لا يجوز عند أبي حنيفة كالهبة.
وفي «الجامع الصغير» قال: لو تصدق بعشر دراهم على فقيرين يجوز، قال الحاكم الشهيد: يحتمل أن يكون المراد من قوله: وكذلك الصدقة على عسر فيكون ذلك بمنزلة الهبة؛ لأنه جعل الهبة من الفقير صدقة فتكون الصدقة على الغني هبة، والأظهر أن في المسألة روايتين: فعلى رواية «الجامع الصغير» فرق بين الهبة والصدقة، وفي «الجامع الصغير» أيضاً: لو وهب عشرة دراهم من فقيرين جاز وجعل الهبة من الفقير كالصدقة، وأما إذا وهب عشر دراهم من غنيين عند أبي حنيفة لا يجوز؛ لأنه هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في شرح كتاب الهبة: إذا وهب الرجل لرجل نصف درهم صحيح من الدراهم المعدلة أنه يجوز هو الصحيح، وجعل هذا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة.
وذكر أصلاً فقال: كل ما يوجب قسمته نقصانا، فإنه مما لا يحتمل القسمة وإذا لم يوجب نقصانا فهو مما يحتمل القسمة، فعلى هذا يقول: إن كان الدرهم الواحد ينتقص بالقسمة يجوز هبة نصفه، وإن كان لا ينتقص لا يجوز هبة نصفه، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الباء: إذا وهب لرجلين درهما صحيحا تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن تنصف الدرهم لا يضر فكان مشاعا يحتمل القسمة، قال: والصحيح أن يجوز؛ لأن الدرهم الصحيح لا يكسر عادة فكان مشاعا لا يحتمل القسمة. في «المنتقى» ابن مالك عن أبي يوسف في رجل معه درهمان فقال لرجل: وهبت لك درهما منهما قال: إن كانا مشاعاً مستويين لم تجز الهبة إلا أن يفرز له أحدهما؛ لأن الهبة تناولت أحدهما وهو مجهول، وإن كانا مختلفين فالهبة جائزة؛ لأنهما إذا كانا مختلفين فالهبة قدر درهم منهما وهو مشاع لا يحتمل القسمة.
قال: وأما في المقطعة لا يجوز ذلك حتى يفرزه، ولو قال: وهبت لك أحد هذين الدرهمين وهما مختلطان وهما مما يميز أو لا يميز فالهبة باطلة؛ لأن الموهوب مجهول وسبب التمليك لا ينعقد في محل مجهول، وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة إذا دفع درهمين إلى رجلين فقال أحدهما: لك هبة لم يجز كانا في الوزن سواء أو مختلفين؛ لأن الموهوب مجهول، ولو قال: نصفهما لك، وإن كانا في الجودة والوزن سواء لم يجز، وإن كان أحدهما أدون من الآخر وأردى جاز؛ لأنه إذا قال: نصفها لك صار الموهوب معلوماً وهو النصف لو امتنع عمل الهبة إنما يمتنع لمكان الشيوع، فإذا كان في الوزن والجودة سواء يتمكن الشيوع، وإن كان أحدهما أردأ أو أدون فلا شيوع فيجوز. في «فتاوي أبي الليث» رجل قال لحر: بالفارسية ان رهزترا فذهب وزرعها إن كان قال: الحر عندما قال: هذه المقالة قبلت صارت الأرض له وإن لم يقل قبلت لا شيء له، وقد ذكرنا في أول هذا الفصل ما يخالف هذا، وإذا وهب نصف عبده أو ثلثه وسلم يجوز؛ لأن هذا مما لا يحتمل القسمة.(6/240)
وكذلك إذا وهب عبده رجلين أو وهب رجلان عبداً لهما من رجل، وكذلك لو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف ثوبين أو نصف عشرة أثواب مختلفة زطي وهروي؛ لأن مثل هذه الهبات لا يقسم قسمة واحدة، فكان واجبا لقضية بنصف كل ثوب، وكل ثوب ليس بمحتمل القسمة في نفسه، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان ذلك من نوع واحد يقسم قسمة واحدة، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان من نوع واحد لم يجز هبته إلا مقسوماً؛ لأن الهبات إذا كانت من نوع واحد يقسم واحدة الدواب، كذلك إنما وهب النصف مشاعاً فيما يحتمل القسمة وذلك جائز أو إن وهب نصيباً له في حائط أو طريق أو حمام وسمي وسلط فهو جائز؛ لأنه غير محتمل للقسمة؛ لأنه إذا قسم لا يمكن الانتفاع على الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة مالا يحتمل القسمة.
نوع منه: رجل وهب لرجل داراً فيها متاع الواهب ودفعها إلى الموهوب له فالهبة باطلة، هكذا ذكر في «الزيادات» ومعناه إنه غير تامة وفي «البقالي» يقول: في الدار متاع الواهب أو إنسان من أهله، الأصل في جنس هذه المسائل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام الهبة، لما ذكرنا: أن القبض شرط تمام الهبة، واشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام القبض من الموهوب له، وهذا لأن الموهوب ما دام يملك الواهب كان يد الواهب قائمة على الموهوب لقيامها على ما هو شاغل للموهوب، وقيام يد المواهب.... يمنع تمام الموهوب له، فأما اشتغال ملك الواهب بالموهوب لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الموهوب فارغ لا مانع من تمام القبض؛ لأن اشتغال ملك الواهب للموهوب لا يوجب يد للواهب على الموهوب له فلا يمنع تمام الهبة.
جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: الموهوب وهو الدار مشغولة بملك الواهب فيمنع تمام القبض وهو المعني من البطلان المذكور. في «الكتاب» ألا ترى أنه لو فرغ الدار وسلمها إليه فارغة تمت الهبة فيها، كذلك لو وهب لرجل آخر جراباً أو جولقاً فيه طعام الواهب فالهبة غير تامة لما ذكرنا، لو وهب مافي الدار من المتاع فالهبة تامة (30ب3) لأن الموهوب ههنا شاغل بملك الواهب وليس بمشغول بملكه وذلك لا يوجب يداً للواهب على الموهوب، أكثر ما فيه أن يد الواهب قائمة على الدار والجوالق والمتاع والطعام فيها إلا أن هذه الأشياء مانعة دالة تحفظ ما فيها، وقيام اليد على البيع لا يوجب قيام اليد على الأصل ولا كذلك المسألة الأولى، نظير هذا: إذا وهب جارية لرجل عليها حلي وهب الجارية وسلمها فالهبة تامة؛ لأن الموهوب شاغل بملك الواهب.
وبمثله لو وهب الحلي دون الجارية وسلم الجارية فالهبة تامة، وكذلك إذا وهب دابة وعليها سرج أو لجام وهب الدابة دون السرج واللجام وسلمها إليه فالهبة تامة، ولو وهب السرج واللجام دون الدابة فالهبة غير تامة، والمعنى ما ذكرنا، ولو أن الواهب أودع(6/241)
المتاع والطعام من الموهوب له ثم وهبه الدار والجوالق منه وسلم الكل إليه أو أودع المتاع والطعام بعدما وهب الدار والجراب والجوالق وسلم الكل إليه تمت الهبة في الدار؛ لأن بالإيداع تثبت يده على المتاع حقيقة، فلا تبقى يد الواهب على الشاغل حقيقة.
وفي «فتاوي أبي الليث» : وهبت المرأة دارها من رجل هو زوجها وهي ساكنة فيها ولها أمتعة فيها والزوج ساكن معها يصح؛ لأنها مع ما في يدها من الدار في يد الزوج فكانت الدار في يد الواهب معنى فصحت الهبة.
وفي «المنتقى» : رجل وهب عبده من رجل وعلى عنق العبد شيء يحمله جازت الهبة في العبد، ولو وهب حماراً عليه حمل وهب الحمار دون الحمل لا يجوز وهو بناء على ما ذكرنا، وهب رجل أرضاً فيها زرع ونخيل أو نخيلاً فيها تمر أو وهب زرعاً أو نخيلاً في أرض أو تمراً على نخل لم تجز الهبة؛ لأن الموهوب متصل بغير الموهوب اتصال خلقة فكان بمنزلة مشاع يحتمل القسمة. والطرفان في حق هذا المعنى على السواء، وهب داراً وسلمها إلى الموهوب له وفي الدار متاع الواهب، ثم وهب المتاع منه بعد ذلك وسلمه إليه جازت الهبة في المتاع ولا تجوز في الدار. لو وهب المتاع أولاً وسلمه إليه ثم وهب الدار منه وسلمها إليه جازت الهبة فيهما، كذلك إذا وهب الجراب والجوالق ولم يسلم حتى وهب الطعام وسلم جملة جازت الهبة في الكل؛ لأنه مانع من تمام الهبة حالة التسليم.
وهب من آخر دار فيها متاع الواهب، وهب الدار والمتاع جملة بعقد واحد وسلمها إلى الموهوب له ثم جاء مستحق المتاع، فالهبة تامة في الدار؛ لأن بالاستحقاق لا يتبين أن الدار كانت مشغولة بملك الواهب وهو المتاع من تمام الهبة في المسألة الأولى، كذلك لو وهب جوالقاً بما فيه من المتاع وسلمها إلى الموهوب له ووهب جراباً بما فيه من الطعام ثم استحق المتاع والطعام كانت الهبة تامة في الجراب والجوالق.v
ولو وهب أرضاً بما فيها من الزروع وسلمها أو وهب نخيلاً بما فيها من التمر وسلمها ثم استحق الزرع والتمر بدون النخيل والأرض فالهبة باطلة في الأرض والنخيل؛ لأن باستحقاق الزرع ظهر الشيوع المقارن بالهبة على وجه يحتمل القسمة إنه يبطل الهبة بخلاف مسألة الجوالق والجراب والدار.
في «المنتقى» قال لغيره: وهبت لك هذين البيتين وأحدهما مشغول لا تجوز الهبة في واحد منهما، ولو قال: وهبت لك هذا البيت وحصتي من هذا البيت الآخر جازت الهبة في البيت؛ لأن في الفصل الأول العقد في البيتين حصل بلفظين، فبطلان أحدهما لا يوجب بطلان الآخر، وفيه أيضاً: إذا وهب داره من ابنين له أحدهما صغير في عياله والآخر كبير قال: إن قبض الكبير جازت الهبة لهما، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أن الهبة فاسدة وهو الصحيح، ولا شك في فساد هذه الهبة عند أبي حنيفة، وإنما الشك على مذهبهما، فإنه لو وهب من كبيرين يجوز عندهما، وإذا كان أحدهما صغيراً قال: لا(6/242)
يجوز، وهكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» والفرق: إنه إذا كان أحدهما صغيراً فالهبة للصغير انعقدت للحال لقيام قبض الأب مقام قبضه، والهبة من الكبير احتاجت إلى قبض الكبير مانعة معنىً ففسدت كلها بالإتفاق.
قال «البقالي» : الحيلة أن يسلم الدار إلى ابنه الكبير ثم يهب الدار منهما. الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا أعطاه نصف داره صدقة عليه ونصفها هبة له وقبل ذلك الرجل وقبضها فهو جائز، وله أن يرجع في نصفها الذي وهبه، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن الهبة مع الصدقة يختلفان حكماً، فإنه لا رجوع في الصدقة، وفي الهبة رجوع، وباختلاف الحكم يتحقق الشيوع فينبغي أن لا تجوز الهبة.
نوع منه: إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وسلطه على القبض جاز ذلك استحساناً، والقياس: أن لا يجوز وبه أخذ زفر؛ لأن الدين ليس بمال، والهبة وضعت لتمليك المال، فالهبة أضيفت إلى غير محلها فلا يصح، وإنما جاز هبة الدين فيمن عليه الدين بطريق الكناية عن الإبراء والإسقاط، ولنا: أن الواهب لما أمره بالقبض فقد جعله نائباً عن نفسه في القبض فيقع قبض الموهوب للواهب أولاً ثم لنفسه أو أن عمل الهبة ما بعد القبض وبعد القبض هو مال محل للتمليك بخلاف البيع؛ لأن أوان عمله للحال فهو في الحال ليس بمحل التمليك.
وإذا وهب ما على ظهر غنمهم من الصوف أو في ضرعها من اللبن لم يجز، فإن أمره بجز الصوف وحلب اللبن ففعل وقبض جاز استحساناً، وعلى هذا زرع الأرض وثمر الأشجار إذا أمره بجزاز وحصاد كذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا وهب ما في بطن جاريته لرجل وسلط على قبضه إذا وضعت فوضعت وقبضها الموهوب له لم يجز، وكذا دهن السمسم قبل أن يعصر، والزيت في الزيتون، ودقيق الحنطة. من أصحابنا من يقول: على قياس هبة الدين ينبغي أن يجوز ههنا أيضاً إذا سلطه على القبض، والأصح أن لا يجوز، أما الولد الذي في البطن فلأنه يتيقن بوجوده في البطن، وبعد الوجود لا يتيقن بحياته، ودهن السمسم وزيت الزيتون ودقيق الحنطة لا بد لوجودها في السمسم من العصر، وفي الحنطة من الطحن والعصر والطحن آخرهما وجوداً، فيضاف وجود الدهن والدقيق إلى العصر والسمسم فلم يكن موجوداً وقت الهبة، فلهذا لا يجوز.
وفي «فتاوي البقالي» عن محمد: إنه يجوز في الدهن، وكذلك في قوله: إن أدرك التمر وقد طلع أو إذا كان عسر. في «الفتاوي لأبي الليث» : رجل صلب منه لولده فوجهها لرجل وسلطه على قبضها وطلبها فطلبها وقبضها قال أبو يوسف: الهبة باطلة؛ لأن في قيامها وقت الهبة خطر، وقال زفر: الهبة جائزة، ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا وهب المضاربة للمضارب وبعضها على الناس وبعضها في يده جازت الهبة فيما في يدها، وأما ما كان على الناس، فإن قال: اقبضها فهو جائز، وإن كان في يد المال ربح فلا يجوز قال: لأنها هبة غير مقسومة، أما هبة في يد المضارب فهو هبة عين هو أمانة في يد(6/243)
المضارب، وأما هبة على الناس فهو هبة الدين من غير من عليه الدين، وهبة الدين من غير من عليه الدين إذا سلطه على القبض وقبض صحيحة استحساناً، وأما الربح فهو هبة المشاع فيما يحتمل القسمة.
الفصل الثالث: فيما يتعلق بالتحليل وما يتصل به
في «فتاوي أبي الليث» : (31أ3) في رجلٍ قال لآخر: أنت في حلٍ مما أكلت من مالي فله أن يأكله، ولو قال: من أكل من مالي فهو حل لا يحل لأحد أن يأكل، هذا قول ابن زياد حكى عنه نصير قال نصير: وسألت محمد بن سلمة عن ذلك فقال: كل من أكل فهو في حل، قال نصير أيضاً: سألت محمد بن مقاتل عن رجل له شجرة فقال: من أكل منها فهو حل، ولا بأس أن يأكل منها الغني والفقير.
إذا قال لآخر: حللني من كل حق لك علي ففعل وأبرأه من غير أن يعلم ما عليه قال أبو يوسف: برئ مما عليه حكما وديانة، وقال: محمد في الحكم كذلك، وفي الديانة لا يطيب له ما لم يعلم صاحب الحق بما عليه. في «فتاوي القاضي» والصحيح قول أبي يوسف؛ لأن الإبراء إسقاط، وجهالة الساقط لا تمنع صحة الإسقاط، وعن نصير قال: سألت الحسن بن زياد عن رجل قال لآخر: أنت في حل مما أكلت من مالي، أو قال: أخذت أو قال: أعطيت قال: لا يحل أن يأخذ وأن يعطي إلا الأكل.
وسئل أبو بكر عمن قال لآخر: جعلتك في حل الساعة أو قال في الدنيا، قال نصير في حل الدارين، ولو قال: لا أخاصمك ولا أطلبك فيما لي قبلك قال هذا ليس بشيء وحقه عليه على حاله، وسئل أبو القاسم عمن سيب دابته لعلة فأخذها إنسان وأصلحها لمن تكون قال: إن سيبها وقال: من شاء فليأخذها فأخذها رجل فهي له، قال الفقيد أبو الليث: الجواب هكذا، إذا قال لقوم معينيين عند القبض، وإن لم يقل ذلك لقوم معينيين أو لم يقل ذلك أصلاً فالدابة على ملك صاحبها أين وجدها، وفي «الفتاوي» ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما. إذا قال: ذلك القول أو قال مطلقا، وسئل أبو بكر عمن قال أبحت مالي لفلان أن يأكل، والمباح له لا يعلم بذلك يباح له الأكل؛ لأن الإباحة إطلاق والإطلاق لا يعلم قبل العلم، وسئل هو أيضاً عن عبد مأذون دفع من مال مولاه أو من تجارته شيئاً لإنسان هبة هل يسعه أن يقبل منه؟ قال: إن دفع شيئاً أو بلغ مولاه كره ذلك لا يسعه أن يقبل، وإن دفع شيئاً لو بلغ مولاه لا يكره ذلك وسعه أن يقبل منه. إذا وهب للصغير شيء من المأكول هل يباح لوالديه أن يتناولا من ذلك؟ روي عن محمد نصا أنه يباح، رجل اتخذ وليمة للختان وأهدى الناس هدايا ووضعوا بين يدي الولد فهذا على وجهين:
إما قال هذا للولد أو لم يقل، والجواب في الوجهين واحد، فنقول: المسألة على(6/244)
قسمين: أما إن كانت الهدية تصلح للصبي كالدراهم والدنانير ومتاع البيت والحيوان ففي القسم الأول الهدية للصبي؛ لأن هذا تمليك من الصبي عادة، وفي القسم الثاني ينظر إلى المهدي، فإن كان من أقرباء الأم أو من معارفها فهي للأم؛ لأن التمليك منها عرفاً، هكذا روي عن الشيخ أبو القاسم عن أبي الليث، فالحاصل: أن التعويل على العرف حتى لو وجد سبب أو وجه يستدل به على غير ما قلنا معتمد على ذلك، وكذلك إذا اتخذ وليمة لزفاف ابنته إلى بيت زوجها فأهدى أقرباء الزوج أو أقرباء المرأة، وهذا كله إذا لم يقل المهدي: أهديت الأب أو الأم في المسألة الأولى، وللزوج أو المرأة في المسألة الثانية؛ بأن تعذر الرجوع إلى قول المهدي، أما إذا قال: فالقول قول المهدي؛ لأنه هو المملك.
وفي «فتاوي سمرقند» بأن رجل قدم من السفر وجاء بهدايا إلى من نزل عنده، وقال له: اقسم هذه الأشياء بين امرأتك بين أولادك وبين نفسك، إن كان المهدي قائماً يرجع في البيان إليه، وإن لم يكن فما يصلح للنساء فهو للنساء، وما يصلح للصغار من الإناث فهو لهن، وما يصلح للصغار من الذكور فهو لهم، وما يصلح له فهو له، وإن كان يصلح للرجل وللمرأة جميعا ينظر إلى المهدي بحيث إن كان من أقارب الرجل أو من معارفه فله، وإن كان من أقارب المرأة أو من معارفها فلها، فإذاً التعويل على العادة.
وفي «الفتاوي لأبي الليث» : رجل أهدى إليه جاره شيئاً من المأكولات في إناء فأراد أن يأكل في ذلك الإناء هل يباح له ذلك؟ قال: إن كانت الهدية ثريداً ونحوه يباح له التناول من الإناء؛ لأنه مأذون فيه دلالة؛ لأنه لو جعل في إناء آخر ذهبت الذمة، وإن كانت الهدية مثل الفاكهة ونحوها، فإن كان بينهما انبساط مثل هذا يباح له التناول لمكان الإذن، وإن لم يكن بينهما انبساط في مثل هذا لا يباح لانعدام الإذن، سئل أبو مطيع عن رجل قال الآخر: ادخل كرمي وخذ من العنب كم يأخذ؟ قال: عنقوداً واحداً، وإن قال: خذ من البرتقال، يأخذ مقدار منوين؛ لأن المنوين يجوز في كفارة اليمين. قال الفقيه أبو الليث: يجوز له أن يأخذ من العنب مقدار ما يشبع إنسانا؛ لأن هذا أذن بأخذ ما يحتاج إليه في الحال عادة.
الفصل الرابع: في هبة الدين ممن عليه الدين
ذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح كتاب الهبة أن هبة الدين ممن عليه لا تتم من غير قبول والإبراء يتم من غير قبول، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء، وعن زفر رحمه الله: أنه سوى بينهما وقال: تتم الهبة والإبراء بدون القبول، وهذا الذي ذكر اختياره، وذكر في بيوع «الواقعات» فصل الهبة كما ذكره شمس الأئمة أنه لا يتم من غير قبول، وذكر عامة المشايخ في شرح كتاب الكفالة وفي شرح كتاب هبة الدين ممن عليه: والإبراء يتم من غير قبول ويريد بالرد وابراؤه يتم من غير قبول ولا يرد، وإن وهب الدين الذي عليه الأصل أو أبرأه فمات قبل الرد فهو بريء؛ لأن البراءة تتم من غير قبول،(6/245)
فإن رد الوارث هذا الإبراء يعمل ردّه ويقضى المال، وقال محمد: لا يعمل رده والبراءة ماضية على حالها.
فوجه قول محمد: أن الإبراء وقع للميت؛ لأن الدين على الميت فلا يعمل رد الوارث، كما لا يعمل رد الكفيل بإبراء الأصيل، وكما لا يعمل رد الوكيل بقضاء الدين إبراء الموكل، ولأبي يوسف أن الإبراء وقع للوارث معنى؛ لأن الدين انتقل إلى الوارث في حق أحكام الدنيا، ألا ترى أن المطالب بالدين هو الوارث بخلاف الوكيل بقضاء الدين والكفيل؛ لأن الإبراء للأصيل؛ لأنه حي يطالب به وينتفع بالإبراء فلا يعمل رد الكفيل ورد الوكيل أما هنا بخلافه.
ولو وهب الغريم الدين من الوارث صح بلا خلاف؛ لأن الإبراء وقع له، ولو كان لرجل دين على عبد الغير فوهب الغريم الدين لمولاه صح سواء كان على العبد دين أو لم يكن.
في كتاب الهبة: وهب عبداً لتاجر، فإن رده المولى هل يرد برده؟ قيل: هو على الخلاف الذي تقدم في رد الوارث، وقيل: بأن هذا يرد إجماعا.
إذا كان الدين بين شريكين فوهب أحدهما نصيبه من المديون صح، ولو وهب نصف الدين مطلقا ينفذ في الربع ويتوقف في الربع كما لو وهب نصف العبد المشترك، من عليه الدين إذا وهب مالا من رب الدين يملكه رب الدين بالهبة لا بالدين. في «الزيادات» في آخر باب الحوالة في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال المولى لمكاتبه: وهبت لك ما لي عليك فقال المكاتب: لا أقبل عتق المكاتب والمال دين عليه وهذا بناء على ما قلنا: إن هبة الدين ممن عليه الدين تصح من غير قبول وترد بالرد فلا يظهر انتقاض الهبة في حق انتقاض العتق.
وفيه أيضاً: سئل أبو بكر عن شريكين قال أحدهما لصاحبه: وهبت لك حصتي من الربح فرد علي رأس المال فرده عليه، ثم أراد أن يطالبه بالربح قال: إن كان (31ب3) المال قائماً غير مستهلك ولم يقسمها حتى وهبة فالهبة باطلة والله أعلم.
الفصل الخامس: في الرجوع في الهبة
الهبة أنواع: هبة الأجنبي، وهبة لذي محرم، وهبة لذي رحم ليس بمحرم أو محرم ليس بذي رحم، وفي جميع ذلك للواهب حق الرجوع قبل التسليم؛ لأنه بالرجوع قبل التسليم يمتنع إتمام العقد، وبعد التسليم ليس له حق الرجوع في ذي الرحم المحرم سواء كان أحدهما كافراً، وفيما سوى ذلك له حق الرجوع إلا مانع أخذ العوض، وأن يزداد الموهوب في يديه زيادة متصلة حتى إن زيادة الشعر لا تمنع الرجوع، وكذلك الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع في الأصل لما يأتي بعد هذا، وأن يخرج الموهوب عن ملك(6/246)
الموهوب له، وأن يموت الواهب أو الموهوب له، وأن يهلك الموهوب، وأن يتغير الموهوب من جنس إلى جنس الموهوب حكماً بصيرورته شيئاً آخر.
ذكر في باب العطية من هبة الأصل: إذا وهب لرجل عبد مريضاً به جرح فداواه الموهوب له حتى برء فليس للواهب أن يرجع فيها الزيادة الصفة الحاصلة عند الموهوب له، وكذلك لو كان أصماً أو أعمى فسمع وأبصر، أما إذا مرض في يد الموهوب له فداواه حتى برء كان للواهب أن يرجع فيه، وإن كان الموهوب داراً أرضاً فبنى في طائفة منها بناء أو غرس شجراً فلا رجوع، وهذا إذا كان ما بني يعدّ زيادة، وإن كان لا يعد زيادة.... أو يعد نقصاناً كالسور في الكاسان لا يمنع الرجوع، فالمانع من الرجوع الزيادة في المالية بزيادة في العين، كذا ذكره شمس الأئمة السرخي رحمه الله، والنقصان في الهبة فعل الموهوب له أو لا بفعله لا يمنع الرجوع.
الحسن بن زياد في «المحرر» عن أبي حنيفة، إذا وهب لرجل ثوباً فصبغة فله أن يرجع فيه، قال ابن أبي مالك: كان أبو يوسف أولاً يقول في هذه المسألة بقول أبي حنيفة ثم رجع وقال: ربما أنفق على السواد أكثر مما أنفق على الأصباغ فأدى إلى زيادة فليس له أن يرجع. من المشايخ من رجح قول أبي يوسف لما أشار إليه من المعنى، ومن المشايخ من قال: إن أبا حنيفة ما قال بانقطاع حق الرجوع في سواد يزيد في قيمة الثوب، وإنما قال ذلك في سواد ينقص قيمة الثوب، ومنهم من قال: فتوى أبي حنيفة في مطلق السواد؛ لأن السواد آخر الألوان لا يقبل الثوب لوناً آخر بعده، فصار السواد نقصاناً من حيث إنه لايقبل لوناً آخر.
في «المنتقى» : ذكر هشام عن محمد: رجل وهب لرجل جارية أعجمية فعلمها القران والكلام والكتابة، فللواهب أن يرجع فيها في قولهم، وكذلك لو علمها عملاً آخر، ذكره بعد هذا يريد بقوله في قولهم في قول عامة العلماء سوى قوله، قال: لأنهم يقولون: ما أنفق عليها في ذلك لا يضعه على رأس المال في بيع المرابحة، يشير إلى (أن) هذا ليس بزيادة على الحقيقة إذ لو كان زيادة لكان ما أنفق عليها في ذلك مضموماً إلى رأس المال.
قال محمد رحمه الله: وله أن يبيعها عليه مرابحة عندنا وقد أشار إلى أن هذا زيادة على الحقيقة فلا تكون للواهب أن يرجع فيها، ثم ذكر محمد لنفسه أصلاً فقال: كل ما زاد صلاحاً في العين فليس للواهب أن يرجع فيها، وما كان بغير فعل أحد أو غلا سوقه فله أن يرجع فيه، وهذا لأن ما زاد صلاحاً بفعل الغير فهو زيادة معنوية تبدل الأعراض بإزائها فيصير نظير الصبع المتصل بالثوب، ولا كذلك ما إذا أراد صلاحاً بغير فعل أحدٍ، وأبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما من العلماء يقولون: حق الرجوع حق أثبته الشرع لفوات عرض وهو العرض فلا يؤثر في قطعه إلا زيادة لها غير قائم متصل بتعذر الفسخ بحكم الرجوع، ويصير المحل لمكان الزيادة في حكم الهالك.
وذكر بعد هذا عن الحسن بن زياد عن أبي يوسف إنه لا رجوع فيه. قال: ثمة روى(6/247)
أبو يوسف عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، ذكر الحاكم إذا ولدت الجارية الموهوبة ولداً فله أن يرجع فيها إذا استغنى الولد عنها. في «فتاوي أبي الليث» وهب من آخر كرباساً فقصره الموهوب له فليس أن يرجع فيه فرق بين هذا وبين الغسل، وفيه أيضاً: وهب من آخر عبداً كافراً فأسلم في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع فيه؛ لأن الإسلام زيادة فيه، وعن محمد أن له أن يرجع. في «فتاوي أبي الليث» : رجل وهب لرجل ثم أسلم فحمل الموهوب له التمر إلى يده ليس للواهب أن يرجع فيها. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : من وهب لرجل جارية في دار الحرب إلى دار الإسلام ليس للواهب أن يرجع فيها؛ لأنه ازداد زيادة متصلة.
وفي «المنتقى» محمد عن أبي حنيفة: في رجل وهب من آخر ثياباً هروية بهراة فحملها إلى العراق ووهب طعاماً في العراق فحمله الموهوب له إلى مكة، فليس للواهب أن يرجع، قال: لأنها زيادة، قالوا: وهذا إذا كان قيمته في المكان المنقول إليه أكثر، فأما إذا كان أقل أو كان على السواء فللواهب أن يرجع. وفي «البقالي» ذكر الزيادة في وضع المسألة فقال: لو حمل الثياب إلى بلد وزاد قيمتها أو كان أنفق في النقل ما لو أبان في الكرا مالاً، وذكر القاضي الإمام علي السغدي في شرح «السير» في باب الأنفال: إذا كانت الهبة شيئاً لا حمل له ولا مؤنة فحمله الموهوب له أي إلى بلدة يعرفها ويعلو سعرها فلا رجوع فيها، ولو حمل إلى بلدة لا يعرفها وكان السعر في البلدتين على السواء ثم عزّ وغلا سعره فللواهب الرجوع كما لو وهب سعره في بلده. ولو نقطه المصحف فأعرب فلا رجوع، وكذا قيل في تحديد السكين.
وللواهب أن يرجع في بعض الهبة إن شاء، وكذلك لو وهب عبداً لرجلين أو جعله لإحدهما صدقة، وكذلك لو وهب رجلان لرجل هبة وقبضها الموهوب له ثم أراد أحدهما أن يرجع في هبته فله فلك، وإذا حبلت الجارية الموهوبة، فإن كان الحبل قد ازداد فيها حسناً ليس له أن يرجع فيها، وهذا لأن حال النساء مختلف فمنهن من إذا حبلت سمنت وحسن لونها، ومنهن من إذا حبلت أصفرّ لونها ودق ساقها، والزيادة تمنع الرجوع، والنقصان لا يمنع فينظر في ذلك.
في «المنتقى» : رجل وهب لرجل وظيفاً فشب عند الموهوب له وكبر وطال، فأراد الواهب أن يرجع فيه وقيمته الساعة أقل من قيمته حين وهبه فليس له أن يرجع فيه؛ لأنه زاد من وجه وانتقص من وجه آخر، وحين زاد سقط حق الرجوع فلا يعود بعد ذلك، ولو كان طويلاً يوم وهبه فطال عند الموهوب له وكان ذلك الطول نقصان لا زيادة بل كان أسمج له وكان ينقص ثمنه، فهذه الزيادة ليست بزيادة حقيقة فلا يمنع الرجوع، وقد يكون الشيء زيادة ونقصاناً معنى كالإصبع الزايدة، وإذا وهب لرجل حديدة فضربها سيفاً أو وهب دفاتر فكتب فيها لم يكن (له) أن يرجع في ذلك.
أما تبدل العين أو الزيادة في العين إذا وهب له جذعاً فكسرها وجعلها حطباً أو وهب له لبنا فجعله طيناً فله أن يرجع فيها وإن أعادها لبنا لم يرجع فيها، ولو وهب له(6/248)
عنباً فجعله خلاً لم يرجع فيه، ولو وهب له حماماً فجعله مسكناً أو وهب له بيتاً فجعله حماماً، فإن كان البناء على حاله لم يزد فيه شيئاً فله أن يرجع، وإن كان زاد فيه بناء أو علق عليه باباً أو جصصه أو أصلحه أو طينه فليس له أن يرجع فيه؛ لأن هذا كله زيادة في العين، ولو وهب له شاة فله أن يرجع فيها وهذا بلا خلاف، وكذا لو ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة (32أ3) لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع فيها وتجزئه الأضحية والمتعة ولم يقف على قول أبي حنيفة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه كقول أبي يوسف، وقال بعضهم: إنه كقول محمد وهو الصحيح.
وهب لرجل هبة وقبضها الموهوب ثم وهبها الموهوب له لرجل آخر، ثم رجع فيها الواهب الثاني بهبة أو صدقة أو إرثاً أو وصية أو شراء أو ما أشبه ذلك لم يكن للواهب الأول أن يرجع فيه، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة على رواية «الجامع» فسخ عند محمد سواء كان الرجوع بقضاء أو بغير قضاء، وكذلك على رواية «الأصل» أن رواية أبي حفص وعلى رواية «الأصل» من رواية أبي سليمان فسخ إذا كان بغير قضاء فهو عقد جديد، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال، وقد ذكرنا المسألة بتمامها مع ما فيها من اختلاف المشايخ في زكاة «الجامع» ، فما ذكر من الجواب في الفصل الأول فيما إذا كان الرجوع بغير قضاءٍ فهو يوافق رواية أبي حفص ورواية «الجامع» على قول محمد بن سماعة عن أبي يوسف.
ويجوز تصرف الموهوب له في الهبة ما لم يحكم القاضي بنقضها، فإذا حكم فلا يجوز تصرفه، وكذلك قول محمد وأبي حنيفة، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة لا يصح إلا بقضاء أو برضا، إما لأن الرجوع مختلف فيه بين العلماء فكان في أصل ثبوته نوعها، أو لأن فيه قطع الملك على الموهوب له، وقطع الملك على الإنسان من غير قضاء ولا رضا لا يجوز، فقبل قضاء القاضي، وقبل رد الموهوب له الهبة على الواهب باختياره تصرف الموهوب له حصل في ملك نفسه فيصح، وبعد ما قضى القاضي أو رد الموهوب له الهبة بإختياره صار الموهوب ملكاً للواهب فلا يصح تصرف الموهوب له، وإن مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي به لم يكن للواهب أن يضمنه؛ لأن أصل القبض لم يكن ضمان، فكذا الدوام عليه إلا أن يكون منعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب، فحينئذ يصير متعيناً فيضمن، ولو لم تزداد الهبة بعد الرجوع ولم يحكم به الحاكم حتى وهب الموهوب له الهبة من الواهب فهو بمنزلة رده أو رد الحاكم؛ لأن الرد بعد الرجوع مستحق على الموهوب له فيقع عن جهة المستحق، وإن دفعه الموقع بجهة أخرى عرف ذلك في موضعه، وإذا قضى القاضي بإبطال الرجوع لمانع ثم زال المانع عاد الرجوع.d
بيانه: إذا بنى في الدار الموهوبة له وأبطل القاضي رجوع الواهب بسبب البناء فهدم الموهوب له البناء وعادت كما كانت فله أن يرجع فيها، وهذا بخلاف ما لو اشترى عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فحينئذٍ العبد في مدة الخيار وخاصم المشتري البائع في الرد وأبطل حقه بسبب الحمي ثم زال الحمي في مدة الخيار وليس له أن يرد، وهب لامرأة ثم(6/249)
تزوجها فله أن يرجع فيها، ولو وهب لامرأته هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها؛ لأن في الوجه الأول الهبة انعقدت موجبة للرجوع، وفي الوجه الثاني انعقدت غير موجبة للرجوع، والبقاء يكون على نهج الانعقاد، وهبت لعبد رجل أشياء فالقبول والقبض إلى العبد وبعد القبول والقبض فالملك للمولى، فبعد ذلك ينظر إن كان العبد ومولاه كل واحد منهما أجنبياً عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد ذا رحم محرم من الواهب بأن كان أخاه والمولى أجنبي عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد أجنبياً من الواهب ومولاه ذو رحم محرم من الواهب بأن كان مولى العبد أخاً للواهب فللواهب حق الرجوع فيها عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن كان العبد ومولاه وواحد منهما ذو رحم محرم من الواهب فعلى قولهما ليس للواهب حق الرجوع، أما على قول أبي حنيفة قال الكرخي: قال محمد: قياس قول أبي حنيفة أن له حق الرجوع، وقال الفقيه أبو جعفر: ليس له حق الرجوع.
وإذا كان للرجل دين فوهب المولى العبد من رب الدين وسلمه إليه حتى سقط دينه ثم رجع المولى في العبد قال أبو يوسف: يعود الدين، وقال محمد: لا يعود. هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الحاكم في «المنتقى» قول أبي يوسف كقول محمد، حكي عن البلخي أن أبا يوسف استحسن قول محمد فقال: أرأيت لو كان الدين لصبي على عبد رجل وهب مولى العبدِ العبدَ من الصبي وقبله الوصي وقبض العبد وسقط الدين ثم رجع الواهب في الهبة لو قلنا: لا يعود الدين ملك الوصي تصرفاً صار بالصبي وإنه فاحش.
في «العيون» صبي له على مملوك وصية دين، وهب الوصي المملوك من الصبي جاز وبطل الدين، فلو أراد الوصي أن يرجع في هبته؛ روى هشام عن محمد أنه ليس له ذلك. قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «واقعاته» : هذا الجواب خلاف ظاهر الرواية. قيل: ويجوز أن محمداً رحمه الله إنما أبطل حق الرجوع في هذه الصورة دفعاً للضرر عن الصبي، فإن من مذهبه أن الدين الساقط بسبب الهبة لا يعود بفسخ الهبة، المعلى عن أبي يوسف: رجل وهب لرجل شجرة وقطعها وأنفق في قطعها فله الرجوع؛ لأن القطع نقصان، فإنه ينقطع به......
الفصل السادس: في الهبة من الصغير
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : كل شيء وهبه لابنه الصغير وأشهد عليه وذلك الشيء معلوم في نفسه فهو جائز، والقبض منه أن يعلم ما وهبه له وأشهد عليه، والإشهاد ليس بشرط لازم، فإن الهبة تتم بالإعلام، ولكن ذكر الإشهاد احتياطاً تحرزاً عن الجحود إذا كبر الولد، وإذا أرسل غلامه في حاجته ثم وهبه لابن صغير له صحت الهبة؛ لأن(6/250)
العبد بعد الإرسال في حاجته في يد المولى حكماً، فلو لم يرجع العبد حتى مات الوالد فالعبد للولد، ولا يصير ميراثاً عن الوالد؛ لأن الأب بنفس الهبة صار قابضاً للابن؛ لأن قبض الهبة قبض أمانة، وقبض الإنسان مال نفسه أيضاً قبض أمانة، فثبوت ما للأب من القبض عن قبض الهبة، وكذلك إذا وهب عبداً آبقا له من ابنه الصغير فما دام متردداً في دار الإسلام جازت الهبة؛ لأنه ما دام متردداً في دار الإسلام فهو في يد المولى حكماً، فيصير قابضاً لابنه بنفس الهبة، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا تصدق بعبد آبق له على ابنه الصغير لا يجوز، وروى المعلى عنه أنه يجوز فحصل عنه روايتان.
وإذا كان العبد في يدي رجل رهنا أو غصبا أو شراء فاسداً فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير لا يجوز، ولم يجعل الأب قابضاً لابنه الصغير بقبض هؤلاء، ولو كان العبد وديعة في يدي رجل فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير يجوز، وجعل الأب قابضاً لابنه بيد مودعه، والفرق: أن يد المودع مادام مشتغلاً بالحفظ يد صاحب الوديعة حكماً، فباعتبار اليد الحكمي يصير قابضاً لولده، أما يد هؤلاء ليست يد صاحب العبد فلا يصير الوالد قابضاً عن ولده بيد هؤلاء.
فإن قيل: أليس أن المودع إذا وهب الوديعة من المودع يجوز ويصير المودع قابضاً بنفس الهبة، ولو كان يد المودع لم يكن قابضاً لنفسه بحكم ذلك اليد.
قلنا: اليد للمودع حقيقة ولكن جعل ذلك اليد يد المودع حكماً لكونه عاملاً له في الحفظ، وذلك يكون قبل التمليك من المودع بالهبة، فأما بعد ذلك فالمودع عامل لنفسه في الإمساك فيصير قابضاً للهبة بيده لا بيد المودع. وفي «فتاوي أبي الليث» رجل وهب لابنه الصغير داراً والدار مشغولة بمتاع الواهب جاز؛ لأن الشرط قبض الواهب، وسيأتي بعد هذا عن أبي (23ب3) حنيفة وأبي يوسف يخالف هذا، وفي «المنتقى» عن محمد: رجل وهب دارا لابنه الصغير وفيها ساكن آخر قال: لا يجوز، ولو كان بغير أجر وكان هو فيها يعني الواهب فالهبة جائزة؛ لأن الساكن إذا كان بأجر بيده على الموهوب بائن بصفة اللزوم فيمنع قبض غيره فيمنع تمام الهبة، بخلاف ما إذا كان ساكنا بغير أجر، وكون الواهب في الدار لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الشرط في هذه الصورة قبض الواهب، وكون الواهب فيها يتعذر قبضه ولا ينفيه، وعن أبي يوسف لا يجوز للرجل أن يهب لامرأته، أو أن تهب لزوجها ولأجنبي داراً وهما فيها ساكنان، كذلك الهبة للولد الكبير؛ لأن الواهب إذا كان في الدار فيده بائن على الدار، وذلك يمنع تمام يد الموهوب له، قال: ولو وهبها لابنه الصغير وهو ساكن فيها يعني الواهب جاز وقد مر، وعن أبي يوسف برواية ابن سماعة أن هبته لابنه الصغير في هذه الصورة لا تجوز كهبته لابنه الكبير، وهكذا روي عن أبي حنيفة، وعنه أيضاً في رجل تصدق بأرض قد زرعها على ولده الصغير جاز، وإن كان الزرع لغير الأب فأجازه لا يجوز؛ لأن يد المستأجر بائن على الأرض بصفة اللزوم، وإنها تمنع القبض للصغير بخلاف يد الأب.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في رجل تصدق بداره على ابنه الصغير وله فيها متاع أو(6/251)
هو ساكنها أو كان فيها ساكناً بغير أجر جازت الصدقة، وإن كان في يدي رجل بإجازة لم تجز الصدقة، قيل: جوابه في الصدقة فيما إذا كان فيها ساكناً بأجر أو بغير أجر يوافق جوابه في الهبة، وجوابه في الصدقة فيما إذا كان هو الساكن أو كان فيها متاعه بخلاف جوابه في الهبة، والمروي عنه في الهبة إذا كان الواهب في الدار وكان فيها متاع الواهب أنه لا يجوز، وكانت الهبة تفتقر إلى القبض فالصدقة تفتقر إلى القبض فيكون في المسألتين روايتان عنه.
قال في «الأصل» : وقبض الأب والجد الهبة على الصغير جائز سواء كان الصغير في عيالهما أو لم يكن، وكذلك قبض وصيهما على الصغير جائز سواء كان الصغير في عياله أو لم يكن، فأما غير الأب والجد نحو الأخ والعم والأم وسائر القرابات؛ القياس: أن لا يجوز وقبض الهبة على الصغير وإن كان الصغير في عيالهم. وفي الاستحسان: يملكون إذا كان الصغير في عيالهم، وكذلك وصي هؤلاء، وكذلك الأجنبي الذي يعول اليتيم وليس لليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه استحساناً، ويستوي في هذه المسائل التي ذكرنا إذا كان الصبي يعقل القبض أو لا يعقل، وهذا كله إذا كان الأب ميتاً أو حياً لكن غائباً غيبة منقطعة، فأما إذا كان حاضراً حياً والصبي في عيال هؤلاء الذين ذكرناهم هل يصح قبض هؤلاء الهبة على الصغير؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» إلا إنه ذكر في الأجنبي إذا كان يعول اليتيم وليس لهذا اليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه، وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح قبض هؤلاء إذا كان الأب حاضراً.
وذكر في الجد أيضاً: أنه لا يملك القبض على الصغير إذا كان الأب حياً، ولم يفصل بينهما إذا كان الصغير في عياله أو لم يكن، فظاهر ما أطلقه يقتضي أن لا يصح، وذكر في «الأم» إذا وهبت له عبداً أو شهدت على ذلك وأبوه ميت جاز قبضها وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح، وذكر في الصغيرة التي يجامع مثلها وهي في عيال الزوج أنه إن قبضت هي أو الزوج جاز القبض، وهذا الإطلاق يقتضي أن يصح القبض من الزوج حال حضرة الأب، فمن المشايخ من سوى بين الزوج والجد والأم والأخ الذي يعوله وقالوا: يصح القبض من هؤلاء على الصغير، وإن كان الأب حاضراً، وما ذكر من الشرط وقع اتفاقاً في الكتب وإليه ذهب الشيخ الإمام الأجل الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي ومنهم من فرق بين الزوج وغيره، وقال: يصح قبض الهبة عليها من الزوج حال حضرة الأب ولا يصح قبض غيره حال حضرة الأب وإن كان الصغير في عياله، وإليه ذهب الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخي، وجه ما ذهب إليه فخر الإسلام: أن الزوج إنما ملك القبض حال حضرة الأب بسبب العول موجود في حق هؤلاء. وجه ما ذهب إليه شمس الأئمة: أن قبض الهبة من باب الحفظ، وولاية حفظ مال الصغير للأب أو لمن أقامه الأب مقام نفسه، والأب أقام الزوج مقام نفسه في حفظها، أو حفظ مالها إذا رماها، أماماً أقام غيره مقام نفسه في ذلك فلا يثبت للغير هذه الولاية، بخلاف ما إذا مات الأب؛ لأن بالموت انقطعت ولايته، وكذلك بالغيبة المنقطعة فجاز أن يثبت الولاية لمن يعوله، ثم شرط في الصغيرة إذا كانت يجامع مثلها فمن أصحابنا من قال: إذا كانت لا بجامع مثلها لم يجز قبض الزوج عليها؛ لأنها إذا كانت بهذه الصفة لا يكون نفقتها على الزوج فلا يعولها، والعول شرط، والصحيح أنه إذا كان يعولها وهي لا يجامع مثلها جاز قبضه عليها، وإنما شرط ذلك لبيان أن العول لا يجب عليه إذا كانت لا(6/252)
يجامع (مثلها) ، فأما إذا عالها مع ذلك جاز قبضه عليها، والصغيرة إذا لم يبن الزوج بها
لا يجوز قبض الزوج الهبة ويجوز قبض الأب الهبة عليها، وإن كانت في عيال الزوج، وإن كان الصغير قد قبض الهبة بنفسه جاز قبضه استحساناً إذا كان يعقل، وهذا قول علمائنا الثلاثة.
الفصل السابع: في العوض في الهبة
رجل وهب لرجل عبداً على أن يعوضه ثوباً بعينه واتفقا على ذلك فلم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله ذلك، وإن تقابضا جاز بمنزلة البيع، وليس لواحد منهما أن يرجع فيه بعد ذلك، يجب أن يعلم بأن الهبة بشرط العوض تنعقد تبرعاً وتصير معاوضة عند اتصال القبض، وهذا لأن اللفظ لفظ الهبة والمعنى معنى المعاوضة، فإن شرط العوض من خصائص المعاوضات ويجب اعتباراً للفظ كما يجب اعتبار المعنى؛ لأن الألفاظ قوالب المعنى، فاعتبرناه تبرعاً ابتداء عملا با للفظ وقلنا: لا يفيد الملك قبل القبض ولا يصح في المشاع ويرجع كل واحد منهما عنه، واعتبرناه معاوضة عند اتصال القبض عملاً بالمعنى فقلنا: لا يرجع واحد منهما بعد ذلك، وتجب به الشفعة للشفيع، ولكل واحد منهما أن يرد ما في يده بعيب يوجد فيه، ولو استحق ما في يد أحدهما يرجع على صاحبه بما في يده إن كان قائماً، وبقيمته إن كان هالكاً كما هو الحكم في البيع.
قال في «الأصل» : إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضاً وقبضه الواهب فليس للواهب أن يرجع في هبته بحصول مقصوده، وكذا ليس للموهوب له أن يرجع في عوضه بحصول مقصوده وهو تأكيد الملك في الموهوب، ويشترط أن يضيف الموهوب له العوض إلى الموهوب فيقول: هذا عوض من هبتك أو بدلها أو مكانها وما أشبهه من الألفاظ حتى إن الموهوب له إذا وهب للواهب شيئاً ولم يقل هذا عوض هبتك وما أشبهه من الألفاظ لا يصير عوضاً بل يكون هبة مبتدأة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع في هبته، والملك لا يثبت للواهب في العوض إلا بالقبض بعد القسمة؛ لأن العوض في معنى هبة مبتدأة، فالتعويض من الأجنبي صحيح يبطل به حق الرجوع للواهب في الهبة؛ لأنه تصرّف منه في ملكه ليسقط به حق الواهب في الرجوع، ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الأجنبي مع صاحب الدين عن دينه على غيره (33أ3) بمال نفسه، وإذا صح التعويض من الأجنبي لا يكون للواهب حق الرجوع في هبته، ولا يكون للمعوض حق الرجوع لا في العوض ولا في المعوض عنه سواء عوض عنه بأمره أو بغير أمره، وإذا استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه إن كان قائماً، وإن كان هالكاً ضمنه قيمته إلا رواية عن أبي يوسف رواها بشر أن العوض لا يضمن إذا استحقت الهبة(6/253)
والعوض مستهلك، وإن استحق العوض كان للواهب أن يرجع في هبته إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة فليس له أن يضمن الموهوب له قيمتها، وإن استحق نصف الهبة فللموهوب له أن يرجع بنصف العوض، وإن كان العوض قد هلك رجع بنصف قيمته.
فإن قال الموهوب له: أرد ما بقي من الهبة وأرجع بجميع العوض لم يكن له ذلك، وإذا استحق بعض من يد الواهب فأراد الواهب أن يرجع ببعض الهبة ليس له ذلك، ويكون ما بقي عوضاً عن الكل، فإن شاء أمسك الباقي من العوض ولا شيء له غير ذلك، وإن شاء رد ما بقي ورجع بجميع الهبة ألف درهم والعوض نصف ألف منها، أو كانت الهبة داراً والعوض بيت منها لم يكن عوضاً، وكان للواهب أن يرجع في الهبة استحساناً، كذلك إن كانت الهبة دراهم وثوباً فعوضه الدراهم أو الثوب عن كل الهبة لم يكن عوضاً استحساناً.
الحاصل: أن عقد الهبة إذا كان واحداً لا يصير بعض الموهوب عوضاً عن البعض، وأما إذا وهب له بيتين في عقدين مختلفين فعوضه أحدهما عن الآخر كان عوضاً.
قال في «الكتاب» : أخذ فيه بالقياس، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يكون عوضاً في الوجهين، ذكر قول أبي يوسف في «المنتقى» قال أبو يوسف: لنفسه أصلاً كل هبة من الواهب يكون له أن يرجع فيها، فإن ما لا يكون عوضاً عن شيء وهبه معها أو قبلها أو بعدها وإن رضي بها، فإن كانت قد تعين بزيادة كانت هبة أي عوضاً لم يكن له أن يرجع فيها، ولو وهب له حنطة وطحن بعضها وعوضه دقيقاً من تلك الحنطة كان عوضاً، وكذلك لو وهب له ثيابا وصنع منها ثوباً معصفراً أو خاطه قميصاً وعوضه إياه كان عوضاً، وكذلك لو وهب له سويقا فلتّ بعضه وعوضه.
عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة وعوضه الموهوب له من هبته فلكل واحد منهما أن يرجع في الذي له والهبة باطلة، وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال الصغير شيئاً وعوضه الموهوب له؛ لأن هذا تعويض عن هبة باطلة، وكذلك إذا وهب رجل للصغير هبة وعوضه الأب من مال الصغير لم يجز العوض وللواهب أن يرجع في هبته؛ لأن الاب ملكه العوض مقابلاً بتأكيد ملك الابن في الهبة لا مقابلاً بأصل الملك فكان العوض في جانب الصغير معاوضة من وجه دون وجه، والأب إنما يملك في مال ابنه ما هو معاوضة من كل وجه لا ما هو معاوضة من وجه دون وجه فبطل التعويض وكان للواهب أن يرجع في هبته.
الفصل الثامن: في حكم الشرط في الهبة
في «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال لغيره: هذه العين لك إن شئت ودفعه إليه فقال: شئت يجوز، وعن محمد في التمر إذا طلع فقال صاحب التمر: أدرك أو قال: إذا كان عشر فهو جائز بخلاف دخول الدار. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رجل قال(6/254)
لغيره: وهبت لك هذه الأمة على أن تعوضني ألف درهم فدفع إليه الأمة فوطئها وولدت له قال: آمره أن يدفع العوض الذي شرط أو القيمة، وإنما كان كذلك؛ لأن الجارية صارت مملوكة للموهوب له بالقبض، والواهب لها رضي بتملكه إياها بعوض مقدر، وتعذر الجبر على أداء العوض؛ لأن الجبر على أداء العوض من حكم المعاوضة، والهبة بشرط العوض تنعقد معاوضة في الحال، فبقيت الجارية في يد الموهوب له مملوكة بعوض لا يمكن الجبر عليه فشابه المملوكة بملك فاسد، فإن دفع العوض الذي شرط عليه وإلا قضي عليه بالقيمة.
في «فتاوي أبي الليث» : سئل أبو نصر عن رجل قال لآخر: برأتك عن الحق الذي عليك على أني بالخيار جازت الهبة وبطل الخيار، فالبراءة أولى؛ لأن الهبة تحتاج إلى القبول، والبراءة لا يحتاج فيها إلى القبول. في «فتاوي أبي الليث» امرأة قالت لزوجها: وهبت منك مهري على أن كل امرأة تتزوجها تجعل أمرها بيدي فهذا على وجهين:
إما أنه لم يقبل أو قبل، ففي الوجه الأول: لا تصح الهبة، وفي الوجه الثاني: تصح، فبعد ذلك المسألة على وجهين:
إما أن يجعل أمرها بيدها أو لم يجعل، فإن جعل فالهبة ماضية، وإن لم يجعل فكذلك. ذكر هاهنا الشيخ أبو بكر الإسكاف هكذا في آخر الكتاب.
إذا قالت المرأة لزوجها: وهبت مهري منك علي أن لا تظلمني فقبل..... صحت الهبة، فلو ظلمها بعد ذلك فالهبة ماضية، ذكره عن الشيخ أبي بكر الإسكاف والشيخ أبو القاسم الصفار.
وفي «المنتقى» : امرأة قالت لزوجها تصدقت عليك بالألف الذي عليك على أن لا تتسرى علي أو قالت: على أن لا تتزوج ففعل ثم تزوج أو تسرى فلا رجوع، وذكر في كتاب النكاح من «فتاوي أبي الليث» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أبرئيني عن مهرك حتى أهب لك كذا فأبرأته ثم أبى الزوج أن يهبها يصير يعود المهر عليه كما كان. وكذا في كتاب الحج امرأة تركت مهرها للزوج على أن يحج بها، قال محمد بن مقاتل: مهرها عليه على حاله، فإذا اختلف المشايخ في هذا الفصل قال الصدر الشهيد والمختار: للفتوى ما قاله نصير ومحمد بن مقاتل: إنه يعود؛ لأن الرضا بالهبة كانت بشرط العوض، فإذا انعدم العوض انعدم الرضا، والهبة لا تصح بدون الرضا، وسيأتي ما يؤكد هذا بعد هذا، في هذا الموضع أيضاً امرأة قالت لزوجها: إنك تغيب عني كذا، فإن مكثت معي ولا تغيب فقد وهبت لك الحائط الذي في مكان كذا، فمكث معها زماناً ثم طلقها فالمسألة على وجوه:
الوجه الأول: إذا كانت هذه منها لاهبة للحال، وفي هذا الوجه لا يكون الحائط للزوج؛ لأن العدة لا توجب الملك.
الوجه الثاني: إذا وهبت له وسلمت إليه ووعدها أن يمكث معها، وفي هذا الوجه الحائط للزوج؛ لأن الهبة مطلقة، وإن لم يسلم الحائط إلى الزوج لا يكون الحائط له.
الوجه الثالث: إذا وهبت على شرط أن يمكث معها وسلمت إليه وقبل الزوج، وفي هذا الوجه الحائط للزوج، وهكذا ذكر عن الشيخ أبي القاسم، وعلى قول نصير ومحمد بن مقاتل وهو المختار لا يكون الحائط للزوج.
الوجه الرابع: إذا قالت: إن مكثت معي، وفي هذا الوجه لا يكون(6/255)
الحائط للزوج؛ لأن الصلح باطل، وفي «فتاوي الفضلي» : امرأة وهبت مهرها لزوجها لقول زوجها إنه يقطع لها ثوباً كل حول مرتين فقدرها وقد انقضى حولان ولم يفعل، إما أن لا يكون ذلك شرطاً في الهبة أو كان، ففي الوجه الأول: لا يعود مهرها، وفي الوجه الثاني: يعود؛ لأن الهبة حصلت بشرط العوض ولم يحصل، وكذلك المرأة إذا وهبت مهرها لزوجها على أن يحسن كانت الهبة باطلة لما قلنا، وهذا يؤيد ما اختاره الصدر الشهيد حسام الدين من القول في جنس هذه المسألة فيما تقدم، وفي جنس هذا الموضع أيضاً امرأة وهبت لزوجها ضيعة على أن يسكنها ولا يطلقها ثم طلقها بعد ذلك فهذا على وجهين: إما أن تشترط (33ب3) الإمساك وترك الطلاق وقتاً مؤقتاً أو لم تشترط، وفي الوجه الأول إذا طلق قبل مضي الوقت فالهبة باطلة؛ لأنه ما وفى بالشرط، وفي الوجه الثاني الهبة صحيحة؛ لأنه وفى بالشرط.
فرق بين هذه المسألة وبين ما إذا تزوج امرأة ونقص من مهرها على أن لا يخرجها من البلدة فأخرجها، فإنه يبلغ تمام مهرها، والفرق هو: أن بين المسألتين لا فرق من حيث المعنى؛ لأن الشرط في هذه المسألة عدم الإخراج ما دام على النكاح ولم يفِ بهذا الشرط، وفي المسألة الإمساك.... هو الإمساك ما دام على النكاح وعدم الطلاق مطلقاً، فإذا أمسك ساعة ثم طلقها فقد وفى بذلك الشرط، وفي «الجامع الأصغر» وهبت مهرها من زوجها على أن يطلقها وفعل الزوج قال خلف: الهبة صحيحة والشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، سئل الفقيه أبو جعفر عمن منع امرأته عن المسير إلى أبويها وهي مريضة فقال لها: إن وهبت لي مهرك بعثتك إلى أبويك فقالت المرأة: أفعل ثم قدمها إلى الشهود فوهبت بعض مهرها وأوهبت بالبعض على الفقراء وغير ذلك، وبعد ذلك لم يبعثها إلى أبويها ومنعها قال: الهبة باطلة قال الفقيه: لأنها بمنزلة المكرهة.
الفصل التاسع: في اختلاف الواهب والموهوب له
عين في يدي رجل ادعى أن صاحب اليد وهبه له وسلمه إليه وجحد صاحب اليد ذلك، فجاء المدعي ببينة وشهد على إقرار الواهب بالهبة والقبض، كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه شهادة خالفت الدعوى؛ لأن المدعي(6/256)
ادعى معاينة القبض، والشهود شهدوا على إقرار الواهب بذلك الواهب، ثم رجع وقال: يقبل وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى هذا الخلاف الرهن والصدقة، ولو كان هذا الاختلاف بين الشاهدين يمنع قبول الشهادة بلا خلاف بأن شهد أحد الشاهدين على معاينة القبض، وشهد الآخر على إقرار الواهب بذلك.
وجه قوله الآخر: أن هذه الشهادة قامت على بعض ما تناولته الدعوى؛ لأن الموهوب له ادّعى معاينة القبض، وما يدعيه المدعي يعتبر ثانياً في حق قبول الشهادة بنفس الدعوى فيتضمن دعوى معاينة القبض دعوى إقرار الواهب بالقبض؛ لأن الثابت بالإقرار دون الثابت معاينة، فكانت الشهادة قائمة على بعض ما تناولته الدعوى بخلاف ما إذا وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين؛ لأن معاينة القبض لا تثبت بشهادة شاهد واحدٍ حتى يثبت ما دونه؛ وهو إقرار الواهب بالقبض؛ لأن المشهود به لا يثبت بشهادة الشاهد الواحد فلم يوجد اجتماع الشاهدين لا على معاينة القبض ولا على إقرار الواهب بالقبض؛ ونظيره ما قال أبو حنيفة رحمه الله في رجل ادعى على آخر ألف درهم وشهد له شاهدان بخمس مئة تقبل شهادتهما ويضمن دعوى الألف دعوى خمس مئة، وبمثله لو شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بالألف خمس مئة لا تقبل الشهادة.
ولو كان العبد في يد الموهوب له فشهد الشهود على إقرار الواهب بالقبض جازت الشهادة على قوله الأول والآخر، وإن كان الواهب أقر بذلك عند القاضي والعبد في يده أخذ بإقراره، هكذا ذكر المسألة ههنا، ولم يذكر لأبي حنيفة قول أول وآخر، وذكر في «كتاب الإقرار» الأول قال مشايخنا: ما ذكر ههنا أصح؛ لأن أكثر ما في الباب أن إقرار الواهب خالف دعوى المدعي؛ لأن المدعي ادعى معاينة القبض، والواهب أقر بالقبض، إلا أن الإقرار لا يبطل مخالفة دعوى المدعي.
على إنسان ألف درهم وأقر له المدعى عليه بمئة دينار صح إقراره، إذا استودع رجل رجلاً وديعة ثم وهبها له وحجد وشهد عليه بذلك شاهدان ولم يشهدا بالقبض فهذا جائز؛ لأن الهبة تثبت بالشهادة، وكون الموهوب في يد الموهوب له ثبت بتصادقها، وهذا كما في إتمام الهبة؛ لأن قبض الوديعة ينوب عن قبض الهبة، فإن حجد الواهب أن يكون في يده.... للمدعي وشهد الشهود على الهبة ولم يشهدوا معاينة القبض ولا على إقراره الواهب بالقبض والهبة في يد الموهوب له يوم خاصم إلى القاضي فإنه يجوز، وإذا كان ميتاً فشهادتهما باطلة، رجل وهب لرجل عبداً وقبضه الموهوب، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه كان اشتراه من الواهب قبل القبض والهبة أبطلت الهبة؛ لأن الشراء يوجب الملك بنفسه فتبين أنه وهب وسلم ما لا يملك، وإن لم يشهدوا على الشراء قبل الهبة إنما شهدوا على الشراء لا غير فهو للموهوب له، وكذلك إن أرخ شهود الشراء شهراً أو سنة، وإن كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب له الثلثة أنه وهبه له وقبضه قبل الشراء، وأقام(6/257)
المشتري البينة أنه اشتراه قبل الهبة وقبض منه فالعبد لصاحب الشراء.
رجل وهب لرجل متاعاً ثم قال: إنما كنت استودعتك فالقول لصاحب المتاع مع يمينه، فإذا حلف أخذ المتاع، وإن وجده هالكاً، فإن كان هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فالمستودع ضامن القيمة؛ لأن التملك بالهبة لم يثبت بقوله، فبعد ذلك إن كان المتاع وديعة في يده فجحود الوديعة سبب الضمان، وإن لم يكن وديعة في يده فأخذ مال الغير على وجه التملك سبب للضمان إلا أن يثبت التملك من صاحبه ولم يثبت، وإن كان الهلاك قبل دعوى الهبة فلا ضمان. في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف اتفق الواهب والموهوب له أن الهبة كانت بشرط العوض، ولكن اختلفا في مقدار العوض فقال الواهب: ألف وقال الموهوب له: خمس مئة، والعوض لم يقبض بعد والموهوب قائم بعينه فللواهب الخيار إن شاء قبض، وإن شاء رجع في الهبة، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته إن شاء، وهذا بناء على أن الهبة من.... موجبة الرجوع والعوض والرضى به من جهة الواهب قاطع حق الرجوع، فإن شاء رضي العوض الذي عينه الموهوب له وترك حقه في الرجوع، وإن شاء لم يرض به ومال إلى الرجوع، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته؛ لأن الرضا بالقبض كان بشرط العوض المقدر، ولم يسلم فبقي قبضه قبض ضمان فيرجع بقيمته لهذا.
وإن اختلفا في أصل العوض فقال الموهوب له للواهب: ما شرطت لك العوض أصلاً فالقول قوله؛ لأنه ينكر شرطاً زائداً يستغني عنه تمام الهبة، ويكون للواهب الرجوع إذا كان الموهوب قائماً، وإن كان مستهلكاً فلا شيء على الموهوب له؛ لأن العوض لم يثبت لما جعلنا القول فيه قول الموهوب له والحكم في الهبة الخالية عن شرط العوض أن الموهوب ما دام قائماً فللواهب الرجوع، فإذا هلك فلا ضمان ولكن يحلف الموهوب له ههنا على دعوى الواهب بالله ما شرط العوض، يريد به: إذا كان الموهوب مستهلكاً؛ لأن الواهب يدعي القيمة في هذه الصورة فيحلف عليه.
في «الأصل» وإذا أراد الواهب الرجوع في الهبة فقال الموهوب له: أنا أخوك أو قال عوضتك، أو إنما تصدقت به عليّ وكذبه الواهب، وكذلك إن كانت الهبة خادمة فقال: وهبتها لي وهي صغيرة فكبرت عندي وازدادت سعراً، وكذبه الواهب فالقول قول الواهب وهذا استحسان، والقياس: أن يكون القول قول الموهوب له. ولو كان الموهوب أرضاً وفيها بناءً أو شجرا أو سويقا وهو ملتوت أو ثوبا وهو مصبوغ أومخيط فقال الموهوب له: وهبتها لي فبنيت فيها وغرست، وهبته لي وهو غير ملتوت وغير مصبوغ فلتُتُه أنا وصبغته وخطته أنا، وقال الواهب: لا بل وهبته كذلك، فالقول قول الموهوب له، وكذلك إذا اختلفا في بناء الدار وحلية السيف.
في «المنتقى» إذا أراد الواهب الرجوع في الهبة وادعى الموهوب له أنها هلكت فالقول قول الموهوب له ولا يمين عليه، فإن عين الواهب شيئاً وقال: هذا هو الهبة حلف(6/258)
الموهوب له عليه. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد في رجل وهب جارية من رجل وقبضها الموهوب له (34أ3) وأولادها ثم أقام الواهب بيّنة أنه كان دبرها قبل أن يهبها قال: يأخذها ويأخذ عقرها وقيمة أولادها؛ لأنه تبين أنه وهبها وهي مدبرة، والمدبرة لا تقبل النقل، ويأخذ عقرها؛ لأنه تبين أن الموهوب له وطء ملك الغير وتعذر إيجاب الحد لصورة الهبة....... ويأخذ قيمة الولد؛ لأن الموهوب له صار مغرورا؛ لأنه استولدها بناء على أنها ملكه، وولد المغرور حر بالقيمة فالمغرور بحكم الهبة يساوي المغرور بحكم الشراء في حق هذا الحكم وهو حرية الولد بالقيمة، ويفارقه في حق الرجوع بقيمة الولد على الغار وإنما كان كذلك؛ لأن حرية الولد المغرور بالقيمة؛ لأن المغرور لم يرضَ برق مائه، وفي حق هذا المعنى لا فرق بينهما إذا كان المغرور في عقد الهبة أو في عقد البيع، أما الرجوع على الغار في فصل الشراء؛ لأن البائع ضمن له السلامة؛ لأن عقد المعاوضة يقتضي السلامة؛ لأنه عقد تبرع.
وكذلك لو مات الواهب وأقامت الأمة بينة أن الواهب قد كان دبرها قبل أن يهبها من هذا الرجل كان الجواب كما قلنا، في «البقالي» : ويجوز الرجوع فيما وهب للعبد بغيبة المولى إن كان مأذونا له، ويصدق الواهب أنه مأذون ولا يقبل بينة العبد على أنه محجور إلا أن يكون على إقرار الواهب، ويحلف الواهب عند عدم البينة على العلم، ولو مات العبد والهبة في يده فلا خصومة مع المولى، وإن كانت في يده فهو الخصم إذا صدقه أو قامت عليه البينة.
الفصل العاشر: في هبته المريض
قال في «الأصل» : لا يجوز هبة المريض ولا صدقته إلا مقبوضة، فإذا قبضت جازت من الثلث، وإذا مات الواهب قبل التسليم بطلت.
يجب أن يعلم بأن هبة المريض هبة عقد وليست بوصية واعتبارها من الثلث ما كانت؛ لأنها وصية، ولكن لأن حق الورثة يتعلق بمال المريض وقد تبرع بالهبة فيلزم تبرعه بقدر ما جعل الشرع له وهو الثلث، فإذا كان هذا التصرف هبة عقد اشترط له سائر شرائط الهبة، ومن جملة شرائطها قبض الموهوب له قبل موت الواهب.
مريض وهب داره من رجل وسلمها إليه ثم مات ولا مال له غير الدار ولم يجز الورثة الهبة ونقصت في الثلثين لم تبطل الهبة في الثلث الباقي، وهذه المسألة تبين أن ملك الورثة واستحقاقهم يثبت بسبب مقصور على حالة الموت ولا يستند إلى أول المرض، إذ لو استند لتبين أن الهبة وجدت وثلثا الدار ملك الورثة، فصار المريض واهبا(6/259)
بثلث الدار شائعا، وهبته بثلث الدار شائعا لا يجوز، وذكر محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب «الجبر والمقابلة» في كتابه: أن المريض إذا وهب جاريته من رجل وسلمها إلى الموهوب له فوطئها الموهوب له ومات الواهب ولا مال له غير الجارية ولم يجز الورثة الهبة ويعصب في الثلثين كان على الموهوب له ثلثا عقر الجارية للورثة، وهذا يشير إلى أن حق الورثة يستند ولا يقتصر على حالة الموت، ذكر جواب المسألة على هذا الوجه ولم يسنده إلى أصحابنا، فإن كان ما ذكر هو صحيحاً لبطلت الهبة في الثلث الباقي في مسألتنا لكن لا يكاد يصح؛ لأنه مخالف لجواب سائر كتب أصحابنا أن حق الورثة وملكهم لا يستند بل يقتصر، وإن العقر لا يجب.
قال في «الجامع» : مريض وهب عبداً قيمته ثلثمائة درهم من رجل صحيح على أن يعوضه الموهوب له عبداً يساوي مئة درهم وتقابضا ثم مات المريض من ذلك المرض ولا مال له غير العبد وأبى الورثة أن يجيزوا ما صنع الواهب كان للموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الموهوب كله وأخذ العوض، وإن شاء رد ثلثي العبد الموهوب على الورثة وسلم ثلثاه له ولم يأخذ (من) العوض شيئاً، فإن قال الموهوب له: أريد في العوض بقدر الزيادة فمن المحاباة على الثلث لم يكن له ذلك، ولو كان المريض وهب كرتمر فارسي يساوي ثلثمائة على أن يعوضه كرتمر يساوي مئة وتقابضا ثم مات المريض ولا مال له سوى ذلك فللموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الكر الموهوب وأخذ كره، وإن شاء أخذ نصف الكر الموهوب ورد نصفه واسترد نصف الكر الذي هو عوض.
في «المنتقى» : رجل وهب عبده من مريض ورجع فيه بغير حكم ورده إليه المريض قال: يجوز من الثلث، ولو رجع فيه بقضاء فأدى جاز ولا شيء لورثة الموهوب له، فيه قد ذكرنا أن الرجوع في الهبة بقضاء فسخ من كل وجه، وذكرنا اختلاف الروايات في الرجوع بغير قضاء عن محمد، فما ذكرنا من الجواب في هذه المسألة يوافق رواية أبي سليمان، فإنه اعتبر الرجوع بغير قضاء عقداً جديداً في حق الورثة.
وفيه أيضاً: مريض وهب جاريته لمريض فردها الموهوب له على الواهب بهبته منه فهو جائز بمنزلة ارتجاعه منه هبته، وليس لورثة الموهوب له أن يرجعوا في شيء مما وهب فقد اعتبر الرجوع في هذه المسالة فسخا من كل وجه، وإنه يوافق رواية أبي حفص عن محمد.
وفيه أيضاً: مريض وهب عبده لرجل وعليه دين محبط بقيمته ولا مال له غير العبد فأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب جاز، ولو أعتقه بعد موته لا يجوز؛ لأن بالموت يتبين أن لهذا المريض مرض الموت، وإن لهذا الاعتاق حكم الوصية والوصية لا تعمل حال قيام الدين. فيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رجل وهب عبدا له في المرض(6/260)
ولا مال له غيره وأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب وهو معسر نفذ عتقه، وإذا مات الواهب بعد ذلك فلا سعاية على العبد.
وفي «فتاوي أبي الليث» : مريض وهب لرجل جارية فوطئها الموهوب له ثم مات الواهب وعليه دين مستغرق يرد الهبة ويجب على الموهوب له العقر، قال الصدر الشهيد رحمه: هو المختار قال: لأن الجارية ههنا مضمونة على الموهوب له بالقيمة فجاز أن يكون المستوفي بالوطء مضمونا، أيضاً في «الأصل» مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له، فإن العبد يسعى في ثلثي قيمته لورثة الواهب، ويسعى في ثلثي الباقي لورثة الموهوب له؛ لأن عتق المولى له في مرض الموت بمنزلة الوصية، والوصية مؤخرة عن الدين، وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له، فإنه أتلف عليهم حقهم في ثلثي العبد بالاعتاق، فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم، فإنما بقي مال الموهوب له ثلث رقبة العبد، فيسلم العبد بطريق الوصية ثلث هذا الثلث، ويسعى في ثلثي هذا الثلث، فصار العبد على تسعة سلم للعبد منه سهم وسعى في ثمانية أتساعه.
الفصل الحادي عشر: في المتفرقات
وذكر في «العيون» : إذا قال لغيره: وهبت لك هذه الغرارة الحنطة أو هذا الزق (من) السمن دخل تحت الهبة الحنطة والسمن دون الغرارة والزق، وبمثله لو قال: وهبت لك غرارة الحنطة أو زق السمن دخل تحت الهبة الغرارة والزق دون الحنطة والسمن.
في «المنتقى» قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره: جعلت لك هذه الدار عمرى أو قال: عمرك أو قال: حياتي أو قال: وحياتك فإذا مت فهو رد علي قال: هذه هبة جايزة وهذا الشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر. في «مجموع النوازل» رجل وهب لرجل شيئاً وقبضه الموهوب له ثم اختلسه منه الواهب واستهلكه غرم قيمته للموهوب له؛ لأن الهبة على ملك الموهوب له ما لم يرجع الواهب وقضى القاضي بالرجوع وردّ الموهوب له الهبة على الواهب باختياره ولم يوجد شيء من ذلك (34ب3) ولو وهب لرجل شاة وقبضها الموهوب له ثم ذبحها الواهب بغير أمره، أو وهب له ثوباً ثم قطعه الواهب بغير أمره، ففي الشاة يأخذ الموهوب له الشاة المذبوحة ولا يغرم الواهب له شيئاً، وفي الثوب يأخذ الموهوب له الثوب ويغرم الواهب له ما بين القطع والصحة،(6/261)
فسئل عن الفرق فقال: لأنه يكره لحم بلحم وزيادة وفي الثوب لا بأس.
في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال لغيره على وجه المزاح: هب لي هذا الشيء، وقال الآخر: قبلت وسلم إليه جاز؛ لأن هذه هبة تامة مستحقة شرائطها. في «مجموع النوازل» رجل له على رجل ألف درهم ... وألف درهم غلة فقال: وهبت منك إحدى هذين الألفين يجوز، والبيان إليه قال في «الأصل» : الوكيل في باب الهبة في معنى الرسول حتى يجعل العاقد هو الموكل دون الوكيل، وفيه أيضاً: إذا وكل الواهب رجلا بالتسليم وغاب، ووكل الموهوب له رجلا وغاب جاز، فإن امتنع وكيل الواهب عن التسليم خاصمه وكيل الموهوب له. في «فتاوي النسفي» : سئل نجم الدين عن امرأة أعطت زوجها مالاً.... له ليتوسع بالصرف فيه في المعيشة فظفر بالزوج بعض غرماء الزوج واستولى ذلك المال، للمرأة أن تأخذ ذلك من ذلك الغريم؟ قال: إن كانت وهبته من الزوج أو أقرضته منه فلا؛ لأنه ملك الزوج، وإن كانت أعطته ليتصرف على ملكها فلها ذلك؛ لأنه مالها، وسئل أيضاً عن رجل له ثلاثة بنين كبار وكان دفع لواحدٍ منهم في صحته مالاً ليتصرف فيه، ففعل وكبر ذلك الابن اختص به هذا الابن ويكون ميراثاً عنه بينهم؟ قال: إن أعطاه هبة فالكل له، وإن دفع إليه ليعمل فيه الأب فهو ميراث.
في «الحاوي» : قال محمد في «السير الكبير:» رجل قال لقوم: إني قد وهبت جاريتي هذه لأحدكم فليأخذها من شاء وأخذ منهم كانت له. وفيه أيضاً: قال رجل أديب للناس من مر بخيلي فمن أخذ شيئاً فهو له فبلغ الناس فأخذوا منه كان لهم، وفي «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو بكر عن المرأة أرادت أن تهب مهرها من زوجها ولا يبرأ زوجها عن ذلك ماذا تصنع؟ قال: تصالح عن مهرها مع رجل على لؤلؤة أو على شيء آخر من زوجها، ولا ينظر إلى ذلك الشيء، فإذا فعلت برء زوجها، ثم يهب مهرها من الزوج ثم ينظر إلى اللؤلؤة فيردها....... فيعود المهر على حاله، وسئل هو أيضاً عن امرأة وهبت مهرها الذي لها على زوجها لابن صغير وقبل الأب قال: أنا في هذه المسألة واقف، إذ يحتمل الجواز كمن كان عبده عند رجل وديعة فأبق العبد ووهبه مولاه من أب المودع، فإنه يجوز.
وسئل مرة أخرى عن هذه المسألة فقال: لا يجوز؛ لأنها هبة عن مقبوضة؛ لأنها في حكم المستهلكة. قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. في «العيون» : رجل دفع ثوبين إلى رجل وقال: أيهما شئت فهو لك أو لآخر أو لأبيك فلان، هذا على وجهين: إما أن يبين الذي له قبل أن يفترقا عن المجلس، أو لم يبين. ففي الوجه الأول: جاز؛ لأن ارتفاع الجهالة في آخر المجلس كارتفاعها في أول المجلس وفي الوجه الثاني: لا يجوز؛ لأن الجهالة لم ترتفع، وعلى هذا لو وهب من آخر غلاما على أن الموهوب له بالخيار ثلاثة أيام، إن اختار الهبة قبل أن يتفرقا جازت الهبة، وإن لم يختر حتى يتفرقا لم تجز.
في «فتاوي سمرقند» بأن رجل أقرّ أنه وهب من فلان عبدا، كان هذا إقرار لهبة(6/262)
صحيحة؛ لأن الصحة أصل، ويكون إقراراً بقبض الموهوب له؛ لأن قبض الموهوب له بمنزلة الركن والإقرار بالركن، وذكر في «العيون» : أن من قال لآخر: وهبت لي ألف درهم ثم قال بعد ما سكت: لم أقبضها فالقول قوله؛ لأن الهبة هبة بدون القبض، والإقرار بالهبة لا يكون إقرارا بالقبض، وهذا الذي ذكر في «العيون» أشبه بالفقه وأقرب إلى ما ذكر في أيمان «الجامع» في «فتاوي سمرقند» بأن عبد بين رجلين وهب أحدهما شيئاً لهذا العبد فهذا على وجهين:
إن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة لا تصح الهبة أصلاً، لما لم تصح في نصيب الواهب حصل في نصيب غير الواهب مشاع يحتمل القسمة، وفي الوجه الثاني: يصح في نصيب صاحبه؛ لأن حصل مشاعا لايحتمل القسمة، اشترى من آخر دارا ووهبها من غيره لم يجز في قول أبي يوسف، وعند محمد: يجوز. فرّق بين الهبة وبين الإجارة والبيع. في القدورى في كتاب البيوع في «الأصل» : وإذا وهب جاريتين فولدت إحداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له أن يرجع في واحد منهما؛ لأنه عوضه ملك نفسه، ولم يرد عليه الهبة أصلاً.
وفيه: وهب لمكاتب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فله ذلك، وفيه نوع إشكال؛ لأن المكاتب فقير، والهبة من الفقير صدقة لا رجوع فيها، والجواب: المكاتب فقير ملكاً لا إما غني غنياً يداً والهبة لا تنفك عن قصد العوض بمال إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد، فإذا لم يحصل له العوض كان له الرجوع، فإن عجز المكاتب أو عتق فله أن يرجع فيها إذا عتق ولا يرجع فيها إذا عجز، وهذا قول محمد، وقال أبو يوسف له: أن يرجع في الوجهين جميعاً.
قال في «الأصل» أيضاً: رجل عتق ما في بطن جاريته ثم وهب الجارية من رجل وسلمها إليه جازت الهبة في الأم، ولو باعها لم يجز، قال في «الكتاب» : ألا ترى لو باع جارية حاملا واستثنى ما في بطنها لم يجز البيع، ولو وهبها واستثنى ما في بطنها جازت الهبة في الأم والولد.
ووجه الاستشهاد: أن الولد في مسئلتنا صار مستثنيا عن البيع، والهبة شرعاً، فيعتبر ما كان مستثنياً، واستثناء الولد شرط يبطل البيع ولا يبطل الهبة فكذا استثناؤه شرعاً، إذا أودع الرجل رجلا شيئاً من الأشياء لقيه فوهبه إليه، وليس الشيء بحضرتهما فالهبة جائزة. إذا قال الموهوب له: قبلت، ولا يحتاج فيه إلى قبض جديد، وكذلك هذا في العارية والإجارة فقد اعتبر قبض الوديعة نائباً عن قبض الهبة ولم يعتبره نائباً عن قبض المشتري، والأصل فيه: أن القبضين إذا تجانسا ينوب أحدهما عن الآخر، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى ولا ينوب الأدنى عن الأعلى، قلنا: وقبض الوديعة مع قبض الهبة تجانسا؛ لأن كل واحد منهما قبض أمانة، أما قبض الوديعة مع قبض الشراء تغايرا؛ لأن أحدهما قبض أمانة والآخر قبض ضمان، وقبض العارية والإجارة كل واحد منهما قبض أمانة والله أعلم.(6/263)
الفصل الثاني عشر: في الصدقة
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والصدقة بمنزلة هبة في المشاع وغير المشاع في حاجتها إلى القبض؛ لأنها تبرع كالهبة، قال: إلا أنه لا رجوع في الصدقة إذا تمت، فقد بقي الرجوع في الصدقة مطلقا من غير فصل بينهما إذا كان المتصدق عليه غنيا أو فقيرا، واختلفا المشايخ فيه، فمنهم من قال: ما ذكر من الجواب محمول على ما إذا كان المصدق عليه فقيرا، أما إذا كان غنيا كان للمتصدق حق الرجوع؛ لأن الصدقة على الغني هبة كما أن الهبة من الفقير صدقة، ومنهم من سوّى بين الفقير والغني. فظاهر الإطلاق في «الكتاب» يدل عليه، وذكر في «المنتقى» أنه لا رجوع في الصدقة سواء كانت الصدقة على فقير أو غني، قال أئمة القياس في الصدقة: على الغني الرجوع استحساناً، وقلنا: بأنه لارجوع؛ لأن التتصيص على الصدقة دليل على أن غرضه الثواب، قال عليه السلام «: الصدقة ما يبتغى به وجه الله» والصدقة على الغني قد تكون شيئاً في الثواب كأن كان له نصاب وعيال لا يكفيه فيكون في الصدقة عليه ثوابان، أما إذا وهب الفقير شيئاً فلا رجوع فيه استحساناً ذكر المسألة في «الأصل» مطلقاً، وذكر في بعضها: إذا وهبها منه وهو محتاج على وجه الصدقة، وذكر في بعضها إذا وهبها من الفقير وهو عالم بحاله قال في «الأصل» وكذا إذا أعطى سائلاً أو محتاجاً على وجه الحاجة (35أ3) ولم ينص على الصدقة، فلا رجوع فيها استحساناً.Y
في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه له الصدقة فأقاله لم يجز حتى يقبض؛ لأنها هبة مستقبلة، كذلك الهبة إذا كانت لذي رحم، وقال: كل شيء لا يفسخه القاضي إذا اختصما إليه فهذا حكمه، وكل شيء فسخه القاضي إذا اختصما إليه فأقاله الموهوب فهو مال للواهب، وإن قبض.
يجب أن يعلم بأن الصدقة لا تقبل الإقالة والفسخ، فنجعل إقالة الصدقة تمليكاً مبتدءاً وهبة مبتدأة؛ لأن في الإقالة معنى التمليك فيجعل إقالة الصدقة مجازاً عن معناها وهو التمليك المبتدأ عن تعذر العمل بالحقيقة، والهبة ابتداء لا تعمل قبل القبض، وكذلك الوجه في كل هبة لا يفسخها القاضي إذا اختصما إليه، أما كل هبة يفسخها القاضي إذا اختصما فيها إليه فالعمل بحقيقة الإقالة فعملنا بحقيقتها، وفي الإقالات لا حاجة إلى القبض كما في باب البيع، فتعود العين إلى ملك الواهب بنفس الإقالة من غير أن يحتاج فيه إلى القبض.
وفيه أيضاً: إذا تصدق بداره على امرأته وعلى ما في بطنها وهي حامل لم يجز شيء من الصدقة. قال: وليس ما في بطنها بمنزلة الربح والحائط والميت ومن لا يملك بوجه من الوجوه لتكون الصدقة كلها للمراة، وكذلك لو قال لها: تصدقت عليك وعلى الرجل الذي في باب البيت، ففتح الباب فإذا ليس فيه أحد إنما هذا بمنزلة رجل قال: تصدقت بهذه الدار على بني الصغار الثلاثة وهو يرى أنهم أحياء وكان بعضهم ميتا قال هذا القائل وهو لا يعلم فالصدقة باطلة، ولو قال: هذا وهو يعلم بموت الميت منهم جازت الصدقة كلها للحي منهم، أشار إلى أن الإيجاب إذا وقع لمن يملك ومن لا يملك بوجه(6/264)
من الوحوه كان الإيجاب بكماله لمن يملك، وعند ذلك لا يمكن الشيوع أصلا فيجوز الإيجاب، وإذا وقع الإيجاب لشخصين كل واحد منهما ممن يملك بوجه من الوجوه فالإيجاب يكون لهما، وعند ذلك يتمكن من الشيوع من أحد الجانبين، فيمتنع جواز الإيجاب على قول من يرى الشيوع من أحد الجانبين.
إذا تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه، والمتصدق وارثه، فورث تلك الصدقة فلا بأس عليه فيها، كذا في هبة الأصل. وفيها أيضاً: إذا قال: جعلت غلة داري هذه صدقة في المساكين، أو قال: داري هذه صدقة في المساكين، فما دام حيا يؤمر بالتصدق، فأما إذا مات قبل تنفيذ الصدقة فالدار والغلة ميراث عنه؛ لأن هذا منه نذر بالتصدق عرفا، ولو نذر بالتصدق صريحا كان الجواب كما قلنا ههنا.
وفيها أيضاً: إذا قال: جميع مالي صدقة في المساكين فهذا على الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومالا زكاة فيه لا يدخل استحساناً، وكذلك جميع ما أملك عند بعض المشايخ، وعند بعضهم يدخل جميع ما يملك قياساً واستحساناً. في «الحاوي» إذا قال: لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم فتصدق بغيره أجزأه، وإن لم يتصدق حتى هلك في يده فلا شيء عليه، وفي «الفتاوي» قال الفقيه أبو بكر: إذا كان الرجل محتاجا فالإنفاق على نفسه أفضل من الصدقة، قال الفقيه أبو الليث: إذا كان يعلم أنه لو أنفق يصبر على الشدة فالإنفاق على غيره أفضل.
وفيه أيضاً: لا بأس بالتصدق على المكذبين الذين يسألون الناس إلحافاً ويأكلون ما لم يظهر للمتصدق أن ما يتصدّق عليه ينفق في المعصية، وعن الحسن البصري فيمن يخرج كسرة إلى مسكين فلم يجده قال: يضعها حتى يجيء آخر، فإن أكلها أطعم مثلها، وقال إبراهيم النخعي مثله، وقال عامر الشعبي: هو بالخيار إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها، لا تجوز الصدقة إلا بالقبض، وقال مجاهد: من أخرج صدقة فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء لم يمض، وعن عطاء مثله. قال الفقيه أبو الليث: وهو المأخوذ، تم كتاب الهبة.(6/265)
كتاب البيع
هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلاً:
1 * فما يرجع إلى انعقاد البيع به.
2 * وفي الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول، وفي الحوادث التي تمنع صحة قبول المشتري.
3 * في قبض البيع بإذن البائع وبغير إذنه، وفي تصرف أحد العاقدين في البيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم البيع، وفي تسليم الثمن.
4 * في المسائل التي تتعلق بالثمن.
5 * فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحاً، وفيما يدخل تحته من غير ذكره.
6 * وفيما يجوز بيعه وما لا يجوز.
7 * وفي الشروط التي تفسد البيع والتي لا يفسد.
8 * وفي بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسدز
9 * وفي شراء الفضولي وبيعه وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضولين على التصرف في محل واحد، ويدخل فيه بعض مسائل بيع الغصب.
10 * وفي الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري.
11 * وفي الزيادة في الثمن والمثمن وازديادها، وفي الحط والإبراء عن الثمن، وفي هبة الثمن من المشتري به.
12 * في البيع بشرط الخيار.
13 * في خيار الرؤية.
14 * وفي العيوب.
15 * وفي بيع المرابحة والتولية والوضيعة.
16 * في الاستحقاق وبيان حكمه.
17 * وفي الاستبراء.(6/267)
18 * وفي بيع الأب والوصي والقاضي ومال الصبي وشرائهم له.
19 * وفي كراهية التفريق بين الرقيق.
20 * وفي الإقالة.
21 * في الدعاوى والشهادة في البيع.
22 * في السلم.
23 * وفي القروض.
24 * وفي الاستصناع.
25 * في البياعات المكروهة، والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة.
26 * وفي المتفرقات.(6/268)
الفصل الأول: فيما يرجع إلى انعقاد البيع
قال أصحابنا رحمهم الله: كل لفظين بلسان عن التمليك والتملك على صيغة الماضي والحال ينعقد بهما البيع، وذلك نحو أن يقول أحدهما ويقول الآخر: اشتريت وقبلت، وكذلك كل لفظين يؤديان معناهما، ولو قال البائع: ابتعك فقال المشتري: اشتريت بمعنى بعت لا ينعقد البيع بينهما، وفرق البيع والنكاح، فإن الرجل إذا قال للمرأة: تزوجيني فقالت: تزوجت ينعقد النكاح، والفرق قد عرف في موضعه.
ولو قال لغيره: بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري: اشتريت ولم يسمع البائع كلام المشتري لا ينعقد البيع بينهما، فسماع المتعاقدين كلامهما في البيع شرط انعقاد البيع بالإجماع، فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول: لم أسمع ولا وقر في أذنه لا يصدق البائع؛ لأن الظاهر يكذبه، وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد فقال المشتري: أجرب ينعقد البيع بينهما، ذكره في «الأمالي» .
وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد وقال الآخر: قبلت قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يكون بيعاً، وقال الفقيه أبو جعفر: لا يكون بيعاً، وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
رجل قال لغيره: عبدي هذا لك إن أعجبك فقال: أعجبني فهذا بيع، وكذلك إذا قال: إن أردت فهو سلف بعت، فهذا كله بيع في الجواب، وأما في الابتداء فلا يلزمه.
إذا قال الآخر: إن أديت إليّ كذا كذا درهماً ثمن هذا الثوب فقد بعته منك، فأدى الثمن في المجلس يكون بيعاً صحيحاً استحساناً ذكره في «السير» وكذا إذا قال: «فروختم جون بها بن ربيد» فأعطاه الثمن في المجلس فهذا بيع صحيح استحساناً. وفي «النوازل» إذا قال الآخر: بعت منك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: قد فعلت فهذا بيع؛ لأن هذا تحقيق، ولو قال: نعم لا يكون بيعاً، فقد فرق بين قوله فعلت وبين قوله نعم، واستشهد فقال: ألا ترى من قال لامرأته اختاري نفسك فقالت: قد فعلت فهذا اختيار، ولو قالت نعم فهذا ليس باختيار.
وذكر في «فتاوي أهل سمرقند» أن من قال: لغيره اشتريت عبدك هذا بألف درهم فقال البائع قد فعلت (35ب3) أو قال: نعم أو قال: هات الثمن صح البيع بينهما؛ لأن هذا جواب، وسوى بين قوله فعلت وبين قوله نعم فكان فيه قولان والأصح أنه ينعقد البيع، وإذا قال لغيره بالفارسية: ابن خانه وآخر يدي ازمن بجندين فقال: اخر يدم ولم يقل المخاطب بعد ذلك فروختم. حكى الإمام الأجل ظهير الدين عن عمه شمس الإسلام الأوزجندي عن أستاذه الإمام شمس الأئمة السرخي: أنه ينعقد البيع؛ لأن قوله فروختم(6/269)
مضمر في قول البائع معناه خريدي كه فروختم، وإذا قال: بعت فلانا الغائب فحضر في المجلس فلان، وقال: اشتريت يصح، وإذا قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم فقبضه المشتري ولم يقل شيئاً ينعقد البيع بينهما ذكره شيخ الإسلام في بيوعه في باب.... في البيع، وإذا قال لغيره: كل هذا الطعام بدرهم لي عليك، فأكل كان هذا بيعاً وكان ما أكل حلالاً له، ذكره شمس الأئمة السرخي في شرح كتاب الاستحسان، وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: اشتريت منك بألفي درهم فالبيع جاز، فإن قيل: الزيادة في المجلس البيع بألفي درهم؛ لأنه أمكن تصحيحه بأن يقل كأن المشتري قال: قبلت البيع بألف درهم ورددتك ألفاً أخرى.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» رجل قال لغيره: اشتريت منك هذا بألفين فقال ذلك الغير: بعته منك بألف فهو جائز، ويجعل كأن البائع بالغير قال حططت عنك ألفاً، وإذا قال لغيره: جعلت عبدي لك هذا بألف درهم وقال ذلك الغير قبلت هل ينعقد البيع بينهما؟ اختلف المشايخ فيه، وقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على أنه ينعقد. وصورتها: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وعلى الميت لرجل ألف درهم دين فأعطى القاضي الغريم بدينه وقال هذا العبد: بيع لك بدينك أو قال: جعلته لك بدينك وبنى على اللفظين أحكام البيع، قال شمس الأئمة السرخي: وهذا هو الصحيح؛ لأنهما بمعنى البيع إن لم يأتيا بلفظ البيع، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، وهذه المسألة أيضاً دليل على أن من قال لغيره: هذا العبد بيع لك بدينك فقبل ذلك الغير، إنه ينعقد البيع بينهما.
وفي «طلاق النوازل» : إذا قال لغيره: هذا العبد عليك بألف درهم فقال الآخر: قبلت يكون بيعاً، قال: ألا ترى أنه لو قال لامرأته ثلاث تطليقات عليك إنه يقع الثلاث عليها، وإذا قال لغيره بعد ما جرى بينهما مقدمات البيع: بعت هذا العبد بألف وقال المشتري: اشتريت يصح، وإن لم يكن البائع قال: بعت منك. وفي «فتاوي أهل سمرقند» إذا قال لغيره: بعت هذا الثوب مني فقال ذلك الغير: بعت فقال المشتري: لا أريده فله ذلك؛ لأن البيع لم يتم بعد. ومثله لو قال المشتري: اشتريت منك طعامك هذا بألف فتصدق به على المساكين ففعل ولم يتكلم جاز؛ لأن هذا دلالة القبول.
وفي «فتاوي أهل بلخ» سئل أبو الليث الكبير رحمه الله عمن قال لآخر: بكم هذا الوقر من الحطب؟ فقال: بدرهم فقال: سق الحمار قال: يكون بيعاً ما لم يسلم الحطب وينقد منه الثمن، وقد قيل: لو قال قائل إن هذا بيع لا ينفذ؛ لأن قوله سق الحمار رضا بالبيع، فإذا ساقه البائع فقد ساعده على ذلك الرضا، فظهر تراضيهما بالبيع، وسئل أبو زيد الكبير أيضاً عمن قال لآخر خذ هذا الثوب بعشرة ليس له أن يمتنع بعد قوله أحد يسأله وقال خلف: سألت أسداً عمن قال في السوق: من عنده ثوب هروي بعشرة فقال له(6/270)
رجل: أنا، فأعطاه قال: هذا ليس ببيع إلا أن يقول حين أخذه: أخذته بعشرة فاذهب وانظر إليه. وسألت الحسن عن هذا فقال: البيع جائز ولكل واحد منهما حق نقض هذا البيع، وإذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: هو حر. ذكر شيخ الإسلام والصدر الشهيد في دعوى الجامع أن هذا جواب ويعتق العبد، وذكر في «العيون» أنه ليس بجواب ولا يعتق العبد، ولو قال: فهو حر فهو جواب وعتق العبد وعليه ألف درهم.
وروى إبراهيم عن محمد في رجل قال لغيره: بعني غلامك هذا بألف درهم فقال: بعت فقال: اشتريت هو حر، قال: قال أبو حنيفة قوله هو حر قبض منه له وعتق عليه، قال: إبراهيم وقال محمد رحمه الله لا يعتق ولا يكون قابضاً بالعتق.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لآخر: بعتك هذا العبد فقال الآخر: هو حر أو قال: هو مدبر فذلك سواء في قولي، وليس هذا ببيع حتى يأخذه ثم يعتقه. قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا قال: هو حر يعتق عليه. وفي «فتاوى الأصل» إذا قال لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم، وهبت لك الألف منك، فقال المشتري: اشتريت صح البيع ولا يجوز....؛ لأن الثمن لم يجب بعد. وفي «مجموع النوازل» أن البيع لا يصح في هذه الصورة؛ لأن هذا في معنى البيع بلا ثمن.
وفي «الفتاوي» : سئل أبو القاسم عمن ابتاع من آخر ثوباً بتسعة فقال: ربُّ الثوب بالفارسية: يده درهم يسند بدي بدين فقال المشتري: رضيت لا يجب به البيع حتى لو امتنع البائع عن تسليمه لا يجبر عليه، إذ ليس في هذه اللفظة ما ينبؤ عن إيجاب البيع.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» رجل جاء إلى قصاب وقال: كم يعطي من هذا اللحم بدرهم فقال: منوين فقال الرجل زن منوين فوزن القصاب ودفعه إلى الرجل وأخذ الدرهم ولم يقل القصاب بعت ولا قال المشتري اشتريت وتفرقا عن ذلك فهو بيع جائز، ويعيد بذلك الوزن؛ لأنه يثبت البيع بينهما مقتضى الوزن سابقاً عليه، فيكون الوزن بعد البيع فيعتدُّ به، رجل قال: من أين أهب خورا با اسب نو عرض كردم، فقال الآخر: وأنا فعلت أيضاً فهذا بيع، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي.
رجل قال: لآخر بعت هذا العبد من فلان فبلغه، فبلغه الرسول وقال المشتري: اشتريت فهو بيع، ولو لم يقل بلغه فبلغه وقال المشتري: اشتريت لا يصح؛ لأن شطر البيع لا يتوقف على ما وراء المجلس، ولو قال: بعته منه فبلغه، فبلغه رجل آخر جاز؛ لأنه حين قال: فبلغه فقد أظهر من نفسه الرضا بالتبليغ فكل من بلغه كان التبليغ برضاه، فإن قال: صح البيع وهذا شيء يحفظ جداً، وإذا قال لآخر: بعت منك هذا العبد بكذا، فقال الآخر لرجل آخر: قد اشتريت، فقال الرجل: اشتريت، ينظر إن أخرج الأخر الكلام مخرج الرسالة صح الشراء، وإن أخرج مخرج الوكالة لا يصح.(6/271)
وفي «مجموع النوازل» : رجل له على آخر دين فطالبه فجاء المطلوب بشعير قدرا معلوماً وقال للطالب: خذه بسعر البلد قال: إن كان سعر البلد معلوماً وهما يعلمان ذلك كان بيعاً تاماً، وإذا لم يكن سعر البلد معلوماً وهما يعلمان ذلك كان بيعاً تاماً، وإذا لم يكن سعر البلد معلوماً إلا أنهما لا يعلمان ذلك لا يكون بيعاً. رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد ثم قام أحدهما عن المجلس، إما البائع أو المشتري ثم قبل الآخر لا يصح قبوله، هذا هو المذكور في عامة المواضع، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الباب الثاني من «شرح الجامع» أنه إذا باع وهو قاعد ثم قام البائع، إلا إنه لم يذهب عن ذلك المكان حتى قبل المشتري صح قبوله، وهكذا كتب في هذا الباب أيضاً، لو كانا يمشيان فقال أحدهما: بعت وقال الآخر بعدما مشيا خطوة أو خطوتين: قبلت، رأيت في موضع من المواضع أنه لا يجوز في ظاهر الرواية، وفي رواية يجوز، ورأيت مكتوباً على ظهر الجزء الثاني (36أ3) من شرح البيوع: شرحه الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد فمشيا مكانا ثم قبل المشتري، إن في انعقاد هذا البيع وصحته اختلاف المشايخ، وسئل نصير بن يحيى عمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد وفي يدي المشتري قدح ماء فشربه ثم قال: اشتريته كان بيعاً تاماً، وكذا لو أكل لقمة ثم قال: اشتريت لا ينعقد البيع بينهما؛ لأن المجلس قد تبدل.
قال لآخر: اشتريت منك هذا الثوب بكذا فاقطعه قميصاً لي، فقطعه فهذا بيع بينهما، في فتاوي شمس الأئمة السرخي رحمه الله، وفي نوادر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أبعتني عبدك بألف استفهام فقال: نعم فقال: قد أخذته فهذا بيع لازم، فإن كان قد اشتراه بالأمس شراءً فاسداً ثم لقيه اليوم فقال: أليس قد بعتني عبدك هذا بألف درهم قال: بلى قال: قد أخذته، فهذا باطل؛ لأن هذا على ما كان أمس، وإن كان ماكراً بيع أمس فهذا اليوم جائز، ولو كان قال له أمس: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فإن لم تجئني اليوم بالثمن فلا بيع بيني وبينك فقبل المشتري ذلك ولم يجىء بالثمن اليوم ولقي البائع من الغد وقال له: قد بعتني عبدك بألف درهم فقال: نعم قد أخذته فهذا شراء الساعة ولا أبطله بما كان منه أمس؛ لأن ذلك الشراء قد انتقض حين ما يأته بالثمن أمس قال: ولا يشبه هذا الشراء الفاسد.
رجل قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف فقال المشتري: اشتريت وقال البائع: رجعت وخرج قول البائع رجعت مع قول المشتري اشتريت معاً لا يصح البيع؛ لأنه قارن البيع ما يمنع صحته وهو رجوع البائع، كتب رجل إلى رجل: بعت عبدك هذا مني بكذا، فكتب المكتوب إليه: بعت منك عبدي هذا فهذا ليس ببيع، ولو كتب الأول اشتريت عبدك فلاناً بكذا، فكتب المكتوب إليه: إني قد بعت فهذا بيع، والفرق: أن البيع لابد له من الركنين، ففي الفصل الأول لم يوجد أحد الركنين، وفي الفصل الثاني وجد الركنان، وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل قال لغيره: بعت منك هذا الثوب بعشرة والمشتري قال: أخذته بتسعة وتقابضا قال: هو بتسعة؛ لأنه ينظر إلى آخرهما كلاماً فيحكم بذلك.(6/272)
وفي «العيون» عن محمد رجل ساوم رجلاً فقال البائع: أبيعه بخمسة عشر وقال المشتري: لا آخذه إلا بعشرة، فإن كان الثوب بيد المشتري حين ساومه فهو بخمسة عشر لما ذهب به، وإن كان الثوب في يد البائع وقت المساومة فدفعه إلى المشتري فهو بعشرة؛ لأن البائع رضي بعشرة لما دفع الثوب إلى المشتري، وعنه أيضاً: رجل ساوم رجلاً بثوب فأخذه على المساومة أو دفعه إليه وهو يساومه وقال: هو بعشرة فذهب به المشتري، قال: هو على الثمن الذي قاله البائع يرده عليه أن يقول المشتري: لا آخذه إلا بتسعة لا أرضى إلا بتسعة، وعن أبي يوسف رجل أخذ ثوباً من رجل فقال البائع بعشرين، وقال المشتري: لا أزيدك على عشرة فذهب بالثوب وضاع فهو بعشرين.
وفي «الواقعات» رجل قال لآخر: بكم هذا الثوب فقال: بعشرين فقال المشتري: لا أريده بعشرين، فذهب ثم جاء وأخذ الثوب وذهب به فهو بعشرين؛ لأنه رضي به وأخذ من الرجل ثوباً، وقال: اذهب به، فإن رضيته اشتريته فذهب به وضاع الثوب فلا شيء عليه، ولو قال: إن رضيت أخذته بعشرة فضاع فهو ضامن قيمته بناء على أن المقبوض على سوم الشراء إنما يكون مضموناً إذا كان الثمن مسمى. عن أبي يوسف في رجل ساوم رجلاً بثوب فقال صاحب الثوب: هو بعشرة فقال المساوم: هاته حتى أنظر إليه فدفعه إليه على ذلك فضاع لم يلزمه شيء علل فقال: لأنه أخذ على النظر، أشار إلى أنه ليس بمقبوض على سوم الشراء، إن أخذه على غير النظر ثم قال: انظر إليه فضاع لم يخرجه قوله انظر إليه عن الضمان، وهو على ما أخذه عليه أول مرة. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أيضاً.
وصورة ما روي عنه: رجل قال لغيره: هذا الثوب لك بعشرة فقال ذلك الرجل: هاته حتى أنظر إليه، فأخذه على هذا فضاع منه فلا شيء عليه، ولو قال: هاته، فإن رضيته أخذته فضاع فهو على ذلك الثمن، رجل قال لغيره: إن الناس يشرون كرمك هذا بألفي درهم فلم لا تبيعه فقال له صاحب الكرم: بعته منك بألف درهم فقال المشتري: اشتريته بها صح البيع إن لم يكن على طريق الهزل، وإن اختلفا فالقول قول البائع أنه أراد به الهزل بأن يكون قوله بعت بألف درهم رد الكلام ذلك الرجل، وإن كان المشتري أعطاه شيئاً من الثمن وأخذه ثم ادعى الهزل لا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن قبض الثمن علامة الجد، وينعقد البيع بلفظ السلم بالإتفاق، وفي انعقاد السلم بلفظ البيع روايتان وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
وينعقد البيع بالتعاطي بدون لفظة الإيجاب والقبول، على هذا اتفقت الروايات، والأصل فيه عرف الناس وعاداتهم. وصورة ذلك ما مر قبل هذا: رجل قال لقصاب: بكم يعطي من هذا اللحم بدرهم؟ فقال منوين فقال الرجل: زن منوين فوزن ودفع الرجل درهماً إلى القصاب وذهب باللحم فهذا بيع، وإن لم يتلفظا بلفظة البيع والشراء.
وذكر في «النوازل» : وضع فلساً عند بقال وأخذ رمانة برضاه ولم يتكلما شيئاً فهذا بيع ثم اختلف المشايخ فيما بينهم، بعضهم قالوا: إنما ينعقد البيع بالتعاطي في الأشياء(6/273)
الخسيسة نحو البقل والرمانة والخبز وأشباه ذلك، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وعامتهم على أنه ينعقد في جميع الأشياء الخسيسة والنفيسة في ذلك على السواء، وفي الكتاب مسائل تدل على هذا القول وهو الصحيح، واختلف المشايخ أن الشرط في بيع التعاطي: الإعطاء من الجانبين، أو الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وأشار محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن تسليم المبيع يكفي، وفي مسائل الوكيل مسألتان: أحدهما: تدل على أنه يشترط الإعطاء من الجانبين، والأخرى: تدل على أن الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وستأتي صورتهما في موضعهما، وسيأتي في فصل الإقالة نص أن الشرط هو الإعطاء من الجانبين، وكان الشيخ الإمام شمس الحلواني يشترط الإعطاء من الجانبين وكان يقول: إذا وجد قبض البدلين في المجلس ينعقد البيع بالتعاطي ومالا فلا، وبعض مشايخنا اكتفوا بالإعطاء من أحد الجانبين وهذا القائل شرط بيان الثمن لانعقاد هذا البيع بتسليم البيع، وهكذا حكى فتوى الشيخ الإمام أبو الفضل الكرماني.6
وفي «المنتقى» : رجل ساوم رجلاً بشيء أراد شراءه منه ولم يكن معه وعاء يأخذه منه، ثم جاء بالوعاء بعد ذلك وأعطاه الدراهم فهذا جائز، فقد حكم بجواز البيع بإعطاء الدراهم، فهذا يدل على انعقاد البيع بالتعاطي من أحد الجانبين، وعن أبي يوسف في رجل قال لغيره: كيف بيع الحنطة؟ فقال كل قفيز بدرهم فقال كل لي خمسة أقفزة فكال فذهب بها، قال: هذا بيع وعليه خمسة دراهم، وهذه المسألة دليل على انعقاد البيع بالإعطاء من أحد الجانبين أيضاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال للقصاب: زن لي ما عندك من اللحم أو قال: زن لي من هذا الجنب أو قال من هذا الرجل على حساب ثلاثة أرطال بدرهم، فوزن له فلا خيار له، وفي «المجرد» عن أبي حنيفة إذا قال للحام: كيف بيع اللحم؟ قال: كل ثلاثة أرطال بدرهم فقال: قد أخذت منك زن لي، ثم بدا للحام أن لا يزن، فقبل قبض المشتري كان لكل واحد الرجوع، فإن قبضه المشتري أو جعله البائع في وعاء المشتري بأمره تم البيع وعليه درهم. وهذه المسألة دليل أيضاً (36ب3) على انعقاد البيع بإعطاء من أحد الجانبين.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قطع القصاب اللحم ووزن والمشتري ينظر أن يقبض له ذلك حتى يقول: رضيت أو يقبض. رجل اشترى وقرين من آخر بثمانية دراهم ثم قال البائع: أنت تؤمر آخر بهذا الثمن والغد ههنا، فجاء البائع بوقر آخر والعين في ذلك الموضع فهذا بيع، وله أن يطالب الأخر بثمانية دراهم.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة المبيع والثمن؛ لأن البيع لا بد له من المبيع والثمن. قال القدوري في كتابه: ما يتعين بالعقد فهو مبيع، وما لا يتعين فهو ثمن إلا أن يقع عليه لفظ البيع ثم قال: الدراهم والدنانير أثمان أبداً؛ لأنها في الأصل خلقت ثمن الأشياء وقيمتها قال الله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} (يوسف: 20) عين الثمن بالدراهم، وقال القدوري في «كتابه» الثمن: ما يكون في الذمة والدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات على أصلنا، وإنما ينعقد على مثلها ديناً في الذمة، فجعلوا(6/274)
الدراهم والدنانير أثماناً لهذا، والأعيان التي ليست من ذوات الأشياء مبيعةً أبداً، والمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة بين مبيع.... فإن كان مقابلها الدراهم والدنانير فهي مبيعة، وإن كان مقابلها عين، فإن كانت المكيلات والموزونات معينة فهي مبيعة وثمن؛ لأن البيع بدل من مبيع وثمن، وليس لأحدهما بأن يجعل مبيعاً بأولى من الآخر؛ لأن المكيل والموزون يتقينان في البياعات كالعروض، فجعلنا كل واحد منهما مبيعاً على وجه ثمناً من وجه.
وإن كانت المكيلات والموزونات غير معينة، فإن استعملت استعمال الأثمان فهي ثمن نحو أن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة ونحو ذلك، وإن استعملت استعمال المبيع كان مبيعاً بأن قال: اشتريت منك بكذا كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح شهادات «الجامع» أن المكيل والموزون إذا لم يكن معينا فهو ثمن، دخل عليه حرف الباء أو لم يدخل؛ لأن المكيل والموزون من ذوات الأمثال حتى يضمنا بالمثل في الإتلاف، فصار نظير الدراهم والدنانير، والدراهم والدنانير أثمان دخل عليها حرف الباء، أو لم يدخل، والفلوس بمنزلة الدراهم والدنانير في أنها لا تتعين بالتعيين، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: الدراهم والدنانير يتعينان في العقود ولا يتعينان في التسليم، ويستدل بمسألة ذكرها محمد في «الجامع» .
وصورتها: إذا قال الرجلان: بعت هذا العبد بهذا الكر وبهذه الألف فهما في المساكين صدقة، فباع العبد بهما لزمه التصدق بالكر دون الألف، ولم تتعين الدراهم في العقد، ولا يجب التصدق بشيء؛ لأن شرط وجوب التصدق البيع بالكر المعين والدراهم المعينة، فإذا كانت الدراهم لا تتعين في العقود كان البيع واقعا بكر معين والدراهم في الذمة فكان الموجود نصف الشرط، وبوجوب نصف الشرط لا ينزل الجزاء.
والجواب عن هذا الإشكال وهو وجه تخريج هذه المسألة: أن شرط وجوب التصدق وجود البيع مضافا إلى الكر وإلى الدراهم وتسميتها في البيع، فأما تعيين الدراهم فليس من الشرط في شيء؛ لأنه ليس من صنع العبد، فصار في التقدير كأنه قال: إن بعت هذا العبد بيعا مضافا إلى هذا الكر وإلى هذه الألف فهما في المساكين صدقة، فإذا أضاف البيع إليهما وسماها في البيع فقد وجد شرط وجوب التصدق فيلزمه التصدق.
وإذا عرفت المبيع والثمن فنقول من حكم المبيع إذا كان منفعة أن لا يجوز بيعه قبل القبض، ورد الأثر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولأنه تمكن في هذا العقد غرر يمكن التحرز عنه، ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام «عن بيع فيه غرر» .(6/275)
بيانه: أن المشتري الأول لو قبض المبيع بعدما باع يتم البيع الأول ويصير بائعا ملك نفسه، ومتى لم يقبض حتى هلك في يد البائع الأول فيفسخ البيع الأول ويعود العبد إلى ملك البائع الأول، فيصير المشتري الأول بائعا ملك الغير، فأما إذا كان لا يدري أنه يقبضه أو لا يقبضه لا يدري أن يكون بائعا ملكه فيصح، أو يكون بائعاً ملك غيره فلا يصح، فكان فيه غرر من هذا الوجه، وكل جواب عرفته المشتري فهو الجواب في الأجرة إذا كانت الأجرة عينا وقد شرط تعجيلها لا يجوز بيعها قبل القبض، وكذلك بدل الصلح عن الدين إذا كان عينا لا يجوز بيعه قبل القبض؛ لأن النص وإن ورد في البيع ولكن المعني الغرر فكان غير ملك يعقد، وينفسخ العقد فيه بهلاكه قبل القبض إن كان فيه غرر فيكون النص واقعا فيه دلالة، فأما المهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد.
إذا كان عينا فبيعها جائز قبل القبض وهم الغرر بانفساخ العقد في هذه الأشياء منتف فلا يكون النص ورادا في هذه الأشياء والمطلق للتصرف موجود وهو الملك، فجاز بيع هذه الأشياء قبل القبض، وما لا يجوز بيعه قبل القبض فكذا لا يجوز إجازته.
ولو تصدق بالمنقول المشتري قبل القبض وبما هو في معنى الشراء نحو الأجرة وبدل الصلح عن دعوى الغير فعلى قول أبي يوسف لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، وعلى هذا إذا وهبه، فأبو يوسف اعتبر معنى العود على نحو مابينا في البيع وأشباه ذلك، ومحمد يقول: تمام هذه التصرفات بالقبض، فكانت العبرة بحالة القبض، ولهذا كان الشيوع وقت القبض مانعا جواز الهبة ولم يكن وقت العقد مانعا. قلنا: والمانع زائل وقت القبض فيصح، ويصير الموهوب له وغيره مما ذكرنا عنه في القبض، فيصير قابضا لنفسه بخلاف البيع والإجارة؛ لأن ذلك مما يلزم بنفسه، وعند ذلك المانع قائم والقرض والوصية على هذا الخلاف أيضاً. هذا إذا تصرف المشتري في المنقول قبل القبض، فأما إذا تصرف فيه مع بائعه فإن باعه منه لم يجز بيعه أصلاً قبل القبض، وإن وهبه له لا يصح إقالة والبيع لايصح أصلاً.
الفرق: وهو أن لفظة الهبة تستعمل مقام لفظة الإقالة يقول الرجل: اللهم هب لي ديوني كما يقول: أقلني عثرتي، فعند تعذر العمل بحقيقته يجعل مجازا عن الإقالة.
وفي «فتاوي الفضلي» : اشترى دارا ووهبها لغير البائع قبل القبض جاز بالاتفاق. فرق محمد بين الهبة لا تتم إلا بالقبض، فمتى أمر المشتري الموهوب له بالقبض صح الأمر؛ لأنه صادف ملكه، وصار الموهوب له وكيل المشتري في القبض فصار قبضه كقبض المشتري، فصار هبة للحال، وهو ما بعد قبض الموهوب فيكون هبة بعد القبض، فأما تمام البيع فبالإيجاب والقبول لا بالقبض، فلا يمكن أن يجعل تبعاً من الثاني للحال وهو ما بعد قبضه ليكون تبعاً بعد القبض.
وذكر الكرخي في «مختصره» : إذا قال المشتري للبائع قبل القبض: بعه لنفسك فهو نقض البيع؛ لأنه لا يتصور بيعه لنفسه إلا بعد فسخ الأول فالأمر به من جهة المشتري وقبول البائع ذلك يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه لي لا يكون نقضا، لو باعه لم يجز(6/276)
بيعه؛ لأن هذا أمر بما هو باطل فلا يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه ولم يقل: لي أو لنفسك فقبل فهو نقض للأول وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: لا يكون نقضا. وجه قول أبي يوسف: أن قوله بعْ ينصرف إلى البيع للأمر (37أ3) ؛ لأن الملك له، فكأنه قال: بعه، وجه قولهما؛ لأن الأمر بالبيع للأمر لا يصح للمأمور بواسطة انفساخ البيع الأول للمأمور، ويتضمن ذلك انفساخ الأول كما لو قال: بعه لنفسك، ولو قال المشتري للبائع قبل القبض أعتقه فأعتقه البائع جاز العتق عن البائع وينفسخ البيع الأول، ولا يقع العتق عن المشتري عند أبي حنيفة؛ لأن بالعتق يصير المشتري قابضا والبائع لا يصلح قابضا للمشتري بطريق النيابة عنه فيقع العتق عن البائع، وطريقه: أن ينفسخ البيع الأول فيعود إلى ملك البائع، وعند أبي يوسف: العتق باطل؛ لأنه لا يقع عن المشتري لما قاله أبو حنيفة، ولا يقع عن البائع لعدم الملك، ولو ملك المنقول بالوصية أو بالميراث يجوز بيعه قبل القبض، أما في الميراث فلأن يد الورثة يد المورث؛ لأنهم خلفا عنه فكان هذا بيع المقبوض، وأما الوصية فلأنهما أحب الميراث فكان حكمها حكم الميراث، وأما مسألة العقار فنقول: العقار إذا ملك بالبيع أو الإجارة أو الصلح عن الدين لا يجوز التصرف فيه قبل القبض عند محمد وزفر والشافعي لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف لانتفاء الغرر إذ العقار لا يتصور هلاكه، والحديث خاص في المنقولات؛ لأن القبض حقيقة يتصور في المنقول دون العقار فينصرف الحديث إليه.
وفي «النوازل» : إذا اشترى دارا وأوقفها قبل القبض وقبل نقد الثمن فالأمر موقوف إن أدى الثمن وقبضها جاز الوقف قيل: هذا على قول من لا يوقف صحة الوقف على التسليم إلى المتولي، هذا هو الكلام في طرف المبيع، جئنا إلى طرف الثمن فنقول: التصرف في الأثمان قبل القبض والديون استبدالا سوى السلم والصرف جائز عندنا، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الثمن بيع المنقول قبل القبض إنما لا يجوز لمكان الغرر وهو انفساخ البيع الأول بالهلاك، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب الثمن فيجوز التصرف فيه عملا بالمطلق، وبعضهم قالوا: لأن الثمن واجب في الذمة، والقبض لا يرد عليه حقيقة، وإنما طريق قبضه أن يقبض مثله عينا مضمونا عليه معاً فيلتقيان قصاصاً، وإذا كان طريق القبض هذا لا يقع التفرقة بين أن يكون المقبوض من جنسه أو من خلاف جنسه؛ لأنه مضمون بمعناه، والمقاصة تقع به وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع ونأخذ مكان الدراهم الدنانير ومكان الدنانير الدراهم، وكان يجوزه رسول الله عليه السلام..... بخلاف السلم؛ لأنه وإن كان دينا لكن الشرع جعل المقبوض في السلم غير المستحق بالعقد؛ لأن الأصل فيه أن يكون مبيعاً، والاستبدال فيه بالقبض لا يجوز، وذكر الطحاوي أنه يجوز التصرف في القرض قبل(6/277)
القبض قال: لأنه لا يجوز تأجيله فلا يجوز التصرف فيه أيضاً، وهذا منه إشارة إلى أن الاستبدال إنما يصح في الديون المطلقة؛ لأن طريق قبض الديون قبض أمثالها لا أعيانها.
وفي باب القرض الواجب رد العين؛ لأنه إعارة فيصير كأنه انتفع بالعين وردّه، ومن هذا الوجه لم يجز التأجيل؛ لأن التأجيل في العواري لا يلزم فلا يصح الاستبدال عنه أيضاً. قال القدوري في «كتابه» : هذا سهو والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن الواجب بالقرض رد المثل لا رد العين، وأقيم رد المثل مقام رد العين فكان طريق رده ماهو الطريق إيفاء الديون فيصح الاستبدال.
ومما يتصل بهذه المسائل: إذا اشترى من آخر عبدا بدراهم وتقابضا ثم تقايلا ولم يقبض البائع العبد بحكم الإقالة حتى باعه ثانيا من المشتري صح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وبمثله لو اشترى رجل من آخر عبدا وباعه قبل القبض من بائعه أو من أجنبي لا يجوز، ففي بيع المنقول المشتري قبل القبض سوى بين البيع من بائعه وبين البيع بين أجنبي، وفي مسألة الإقالة فرق بين البيع من المشتري وبين البيع من الأجنبي، والوجه في ذلك: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق الثالث، ففي حق المتعاقدين يعود إلى البائع قديم ملكه وأنه مقبوض، فإذا باعه من المشتري فقد باع ماهو مقبوض في حقهما، وفي حق الثالث لما كان عقداً جديداً جعل في حق الثالث كأن البائع اشتراه ثانياً من المشتري ولم يقبضه بحكم الشراء، فكان هذا البيع المنقول قبل القبض، فوقع الفرق في مسألة الإقالة من هذا الوجه.
وفي مسألة الشراء هذا بيع المنقول قبل القبض في حق الكل فاستوى فيه البيع من البائع والبيع من الأجنبي، ولو اشترى غلاماً من رجل بألف درهم بشرط الخيار للمشتري ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري العقد بخيار الشرط فلم يردها على البائع حتى اشتراه منه ثانيا صح، ولو اشتراه أجنبي صح أيضاً.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن في كل موضع انفسخ البيع بين البائع والمشتري في المنقول بسبب هو فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فباعه البائع قبل أن يقبضه من المشتري أو من أجنبي، وفي كل موضع انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، ولو باعه من المشتري يصح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وهذا أصل جنس كبير أشار إليه محمد رحمه الله في «بيوع الجامع» وفي «المنتقى» رواية مجهولة: رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه ثم أقاله البيع ثم باعه من الذي هو بيديه قبل أن يقبضه فالبيع ... حتى يقبض.(6/278)
الفصل الثاني: في الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول وفي الحوادث التي تمنع صحة القبول
المشتري إذا أوجب البائع البيع في سنتين أو ثلاثة وأراد المشتري أن يقبل العقد في أحدهما دون الآخر فهذا على وجهين: إن كانت الصفقة واحدة ليس له ذلك، وإن كانت متفرقة فله ذلك، وهذا لأن الصفقة إذا كانت واحدة فالمشتري بقبول العقد في أحدهما يريد تفريق الصفقة على البائع وذلك ضرر بالبائع؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم يضمون الرديء الى الجيد في البياعات وينقصون أشياء عن ثمن الجيد لترويج الرديء بالجيد، فلو جاز قبول العقد في أحدهما فالمشتري يقبل العقد في الجيد ويترك الرديء على البائع فيزول الجيد عن ملك البائع بأقل من ثمنه، وفيه ضرر بالبائع، وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد فقال المشتري: قبلت في نصفه لم يصح؛ لأن فيه ضرر عيب الشركة فالشركة في الأعيان عيب.
قال القدوري في «الكتاب» : إلا أن يرضى البائع في المجلس نحو أن يقول: بعتك هذين القفيزين بعشرة فيقول المشتري: قبلت في أحدهما فيرضى به البائع ويكون ذلك من المشتري في الحقيقة استئناف إيجاب القبول، فإذا رضي به البائع في المجلس فيجوز، قال: وإنما يصح مثل هذا إذا كان للتبعيض الذي قبل المشتري حصة معلومة من الثمن على نحو ما ذكرنا من المثال في القفيزين؛ لأن الثمن ينقسم عليهما باعتبار الأجزاء فيكون حصة كل قفيز معلومة، فأما إذا كان الثمن ينقسم باعتبار القيمة نحو إن أضاف العقد إليه عبدين أو ثوبين فلم يصح العقد إذا قبل المشتري في أحدهما؛ وإن رضي البائع به؛ لأن القبول من المشتري لما جعل بمنزلة ابتداء الإيجاب (37ب3) ، فإذا لم يكن حصة كل واحد مسمى لو جاز البيع في الذي قبل كان هذا ابتداء العقد بالحصة وإنه لا يجوز.
ثم لا بد من بيان معرفة اتحاد الصفقة وتفرقها فنقول: إذا اتحد البيع والشراء والثمن بأن ذكر الثمن جملة والبائع واحد والمشتري واحد فالصفقة متحدة قياسا واستحساناً، كذلك لو تفرق الثمن بأن سمى لكل بعض من المبيع ثمنا على حدة واتحد الباقي، بأن قال البائع: بعتك هذه الأثواب العشرة كل ثوب منها بعشرة، كانت الصفقة متحدة أيضاً، وكذلك إذا كان البائع والمشتري اثنين بأن قال البائع لرجلين: بعت منكما بكذا، وقال المشتريان: اشتريناها منك بكذا، كانت الصفقة متحدة، هذا هو الكلام في الاتحاد، وأما الكلام في جانب التفرق فنقول: إن تفرقت التسمية بأن سمى لكل بعض ثمناً على حدة وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري اثنان وكان أحدهما اثنين فالصفقة متفرقة، وكذلك إذا تفرق الثمن وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري واحد، بأن قال البائع لرجل: بعت منك هذه الأثواب، بعتك هذا بعشرة، بعتك هذا بخمسة، أو قال المشتري:(6/279)
اشتريت منك هذه الأثواب، اشتريت هذا بعشرة، اشتريت هذا بخمسمائة كانت الصفقة متفرقة بالاتفاق، وأما إذا تفرق الثمن إلا أنه لم يتكرر لفظ البيع والشراء واختلف العاقدان بأن كان بأمر أحد الجانبين أو كان من كل جانب اثنين ذكر في بعض المواضع أنها صفقة واحدة، وذكر في بعض المواضع أنها صفقتان قيل: الأول: استحساناً، والثاني: قياس وقيل: الأول قول أبي حنيفة، والثاني قول صاحبيه، ذكر الصدر الشهيد هذه الجملة في بيوع «الجامع» .
وذكر شيخ الإسلام في شرح «صلح المبسوط» في باب اختلف الشراء والصلح إذا كان العبد بين رجلين فباعاه من رجل.... على أن نصيب الآخر ألف وجعل الصفقة متفرقة حتى قال: لو قبل المشتري البيع في نصيب أحدهما جاز، وعلل فقال: لأن كل واحد منهما بين لنصيبه ثمنا لا تقتضيه الواحدة؛ لأن الصفقة الواحدة تقتضي (أن) يكون الثمن بينهما نصفين على قدر ملكهما، فإذا سميا على التفاوت فقد غير حكم الصفقة الواحدة، وذكر حكم صفقتين فصارت الصفقة الواحدة في حكم صفقتين متفرقتين، بخلاف ما إذا سميا الثمن على المساواة بأن سمى كل واحد منهما لنصيبه خمسمائة، حيث تكون الصفقة متفرقة؛ لأن كل واحد منهما سمى لنفسه مقدار ما تقتضيه الصفقة الواحدة فيكون ذلك تقديرا لموجب الصفقة الواحدة لا تغيرا لها، فكانت الصفقة حقيقة وحكما متحدة وينبني على اتحاد الصفقة وتفرقها ما إذا اشترى شيئين أو أشياء مختلفة أو شيئاً واحدا ونفد بعض الثمن، وأراد أن يقبض بعض المبيع، فإن كانت الصفقة متفرقة فله ذلك.
بيان هذه الصورة فيما ذكر محمد رحمه في «الجامع» : وصورته: رجل اشترى من آخر عشرة أثواب يهودية كل ثوب بعشرة دراهم وبعث المشتري عشرة دراهم وقال: هذه العشرة ثمن هذا الثوب بعينه وأراد أن يقبض ذلك ليس له؛ لأن الصفقة متحدة، وفي الصفقة الواحدة ضم الرديء إلى الجيد في البيع والحط عن بعض ثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز له قبض أحدهن يقبض الجيد ولا يتسارع إلى قبض الرديء، وربما يهلك الرديء قبل القبض وينفسخ العقد فيه ويسلم للمشتري الجيد بأقل من ذلك، وفي ذلك ضرر على البائع،.... المشتري عن ثمن أحد هذه الأثواب بعينه فقال المشتري: أنا أجد ذلك الثمن لم يكن له ذلك اعتبارا للبراءة الحاصلة بالاستيفاء، وكذلك لو أخر البائع عن المشتري ثمن ثوب بعينه سهوا لم يكن له أن يقبض ذلك الثوب اعتبارا للبراءة المؤقتة بالبراءة المؤبدة، وكذلك لو أبراه عن جميع الثمن إلا درهما، وكذلك لو كان الثمن مائة وللمشتري على البائع سبعون درهماً، فصار ذلك قصاصا بما وجب على المشتري قبض شيء من الثياب حتى تنفذ العشرة اعتباراً للبراءة الحاصلة بالمقاضاة بالبراءة الحاصلة بالإيفاء باليد، وكذلك إذا كان ثمن أحد الأثواب بعينه عشرة دنانير،(6/280)
وثمن الباقي مائة درهم فنقد الدنانير أو نقد الدراهم لم يقبض شيئاً منها، وكذلك لو وقع الشراء على أن ثمن ثوب منها بعينه حالا وثمن الباقي مؤجلاً لم يكن له أن يقبض شيئاً حتى ينفذ المال.
ومما يتصل بهذه المسائل: رجلان اشتريا من رجل عبداً بألف درهم فغاب أحدهما وحضر الآخر فليس له أن يقبض شيئاً من العبد ما لم ينقد الثمن جملة؛ لأن الصفقة متحدة، فلا يملك الحاضر تفريقها، فإن أوفى جميع الثمن قبل القبض قبض كله، ولا يكون متطوعاً، وإذا حضر الغائب ليس له أن يقبض حصته حتى يدفع الى الحاضر ما نقده من حصته، فإذا فعل ذلك قبض نصيبه، فإن هلك العبد في يد الذي قبضه قبل أن يحضر الغائب أو بعد ما حضر قبل أن يطلبه هلك أمانة حتى حضر الغائب رجع الأول عليه بحصته، وإن حضر الأول وطلب نصيبه فمنعه حتى يستوفي ما نقده عنه ثم هلك هلك بما نقد عنه، بمنزلة المبيع يهلك في يد البائع، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يقال للحاضر: ليس لك أن تقبض شيئاً من العبد حتى تنقد جميع الثمن، فإذا نفذت جميع الأثواب لم تقبض إلا نصيبك وكتب متطوعا مع ذلك عن الشريك.o
فوجه قول أبي يوسف: أن الغائب لم يرض بقبض الحاضر نصيبه فلا يصح قبضه عليه، وإنما يقبض نصيب نفسه إلا أنه لا يمكنه قبض نصيب نفسه ما لم ينقد جميع الثمن لما قلنا، فإذا نقد جميع الثمن ملك قبض نصيبه؛ لأن البائع لما رضي بتسليم الكل عند تسليم جميع الثمن كان أرضى بتسليم النصف عند قبض جميع الثمن، ويكون متبرعا إذ لا يجيء بما أدى للغائب ملكا ولا يداً.
وجه قولهما: أن الحاضر محتاج إلى قبض نصيبه ولا يمكنه قبض نصيبه إلا بقبض الكل كيلا يؤدي الى تفريق اليد على البائع، ولا يمكنه قبض الكل، فكان مضطرا في أداء ما على الغائب، والمضطر لا يكون متبرعا، فكان بمنزلة الوكيل وكان له حبسه بما أدى كالوكيل، فإذا هلك عنده بعد البيع صار كالبيع يهلك في ضمان البائع، وعن أبي يوسف في «النوادر» : أنه يدفع نصف الثمن ويأخذ نصف المبيع؛ لأن المستحق عليه نصف الثمن وقد أدى، فلو توقف حقه في قبض نصيبه لتوقف على أداء ما على صاحبه، وحق الإنسان لا يتوقف على أداء ما على غيره، ولو كان البائع أبرأ أحد الشريكين عن حصته من الثمن أو أخر عنه شهرا لم يكن له أن يقبض حصته من العبد حتى ينقد الآخر حصته من الثمن؛ لأن البراءة الحاصلة بالإبراء أو بالتأخير لا تكون أعلى حالا من البراءة الحاصلة بالإيفاء، وهناك ليس له أن يقبض لنفسه ما لم يوفِ كل الثمن كذا ههنا، ولو أن المشتريين اشترى كل واحد منهما نصفه بخمسمائة بأن قال: كل واحد منهما للبائع، اشتريت منك نصف هذا العبد بخمسمائة فقال البائع: بعت ثم نقد أحدهما حصته فله أن يقبض نصيبه من العبد؛ لأن الايجاب وإن كان متحداً (38أ3) فالقبول متفرق، فرجحنا التفرق بحكم تفرق التسمية، وكذلك لو أن البائع أبرأ أحدهما حصته أو أخر أحدهما عن حصته كان له قبض نصيبه، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.(6/281)
الفصل الثالث: في قبض المبيع بإذن البائع وبغير إذنه في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين في المؤونة في تسليم المبيع، وفي تسليم الثمن
قال أصحابنا رحمهم الله: وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان الثمن مالاً؛ لأن البائع عين حق المشتري في المبيع، فيجب على المشتري تعيين حق البائع في الثمن تحقيقا للتساوي بينهما، ثم تعيين النقود بالقبض، فيجب تقديم القبض في الثمن تعييناً لحق البائع، ولو وقع البيع عينا بعين أو دينا بدين سلما معا؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن كان الثمن مؤجلا لم يمكن له حق الحبس؛ لأن حق الحبس إنما يثبت للبائع تحقيقا للتسوية بينهما، وقد سقط حق البائع في المساواة بحكم التأجيل، فيسقط حقه في الحبس ضرورة، ولو كان بعض الثمن حالا وبعضه مؤجلا فله حبسه حتى يستوفي الحال اعتبارا للبعض بالكل، ولو بقي من الثمن شيء قليل كان له حبس جميع المبيع؛ لأن حق الحبس لا يتجزأ، ولو دفع بالثمن هنا أو كفل به كفيلاً لم يسقط حق البائع لأنه وثيقة، والوثيقة توجب تأكيد الأصل، فكان حق البائع في الثمن قائما قبل المشتري فيبقى له حق الحبس، ولو أحال المشتري البائع على غريم له بالثمن لا يبطل حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع غريماً من غرمائه على المشتري حوالةً مقيدة بالثمن يبطل حقه بالحبس، هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» : ووجه ذلك أن سقوط حق البائع بالحبس يتعلق بسقوط حقه عن المطالبة بالثمن لا ببراءة المشتري عن الثمن، بدليل أن الثمن إذا كان مؤجلا سقط حق البائع في الحبس؛ وإن بقي الثمن في ذمة المشتري، فإذا أحال المشتري البائع على غريم من غرمائه لم يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن، ولكن عين المشتري في حق تحمل هذه المطالبة، فلهذا لا يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن فيسقط حقه في الحبس.
وفي «القدوري» : إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان أو أحال البائع رجلا على المشتري سقط حق البائع في الحبس في قول أبي يوسف، وقال محمد: إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان لم يسقط حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع رجلا سقط حقه. وتبين لما ذكر «القدوري» أن ما ذكر في «الزيادات» قول محمد وأبي يوسف إلى جانب ابني المشتري، وقال: ذمة المشتري برئت عن الثمن بالحوالة فتعتبر بالأداء، ومحمد نظر إلى جانب البائع، وقال: إن حق البائع إنما ثبت في الحبس لتعيين حقه في الثمن، فما دام حقه في المطالبة فإنما يبقى حقه في الحبس، فإذا أحال البائع رجلا على(6/282)
المشتري فقد سقط حق البائع في المطالبة فيبطل حقه بالحبس، أما إذا أحال المشتري الباقي على رجل فحق المطالبة للبائع قائم، لكن المشتري أقام غيره مقامه في حق تحمل المطالبة فلا يبطل حق البائع في الحبس.
وفي «المنتقى» رواية مجهولة: لو أحال البائع غريما من غرمائه على المشتري بالثمن مؤجلا فلم يقبض المشتري حتى حل الأجل كان له قبضه قبل نقد الثمن وليس للبائع منعه؛ لأن حق البائع في الحبس سقط بالتأجيل والساقط متلاشي لا يقبل العود، ولو أحله بالثمن سنة غير معينة فلم يحضر المشتري حتى مضت السنة فالأجل سنة من حين يقبض المبيع في قول أبي حنيفة، وإن كانت سنة بعينها صار الثمن حالا، وقال أبو يوسف ومحمد: الثمن حال في الوجهين؛ لأن مطلق الأجل ينصرف إلى ما يلي العقد كمدة الإجارة، فاستوى المعين وغير المعين، ولأبي حنيفة رحمه أن التأجيل إنما شرع نظراً للمشتري لتتأخر عنه المطالبة بالثمن مع حصول الانتفاع له بالبيع والتصرف في المبيع في مدة الأجل ليؤدي الثمن عند مضي الأجل ويستفصل لنفسه أشياء.
وهذا المعنى إنما يحصل باعتبار الأجل من وقت القبض فيجب اعتباره ما أمكن، وقد أمكن اعتباره إذا كانت السنة غير معينة، فأما إذا كانت معينة فلأنها إذا كانت معينة فأتت لو بينا التأجيل في سنة أخرى كان هذا إثباتاً للحكم في غير المحل الذي تناوله اللفظ وهذا لا يجوز، بخلاف ما إذا لم تكن السنة معينة، ولو كان في المبيع خيار لهما أو أحدهما والأجل مطلق فابتداؤه من حين يلزم العقد، وأما في خيار الرؤية فالأجل يعتبر من حين العقد؛ لأن التأجيل لتأخير المطالبة إلى وقت مضي الأجل، وذلك إنما يكون في موضع يجب البدل لولا التأجيل، وذلك من وقت لزوم العقد، فأما خيار الرؤية فلا يمنع وجوب الثمن ولا يوجب المطالبة بالثمن، فاعتبر التأجيل من وقت العقد، وتسليم البيع: هو أن يحل بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكن المشتري من قبضه من غير حائل، كذا التسليم في جانب الثمن، وقال الشافعي رحمه: التخلية ليست بقبض والصحيح مذهبنا؛ لأن التسليم مستحق على الإنسان يجب أن يكون له طريق الخروج عن عهدته بنفسه، لو قال لوقف ذلك على وجود الفعل من غيره، وذلك الغير مختار في الفعل يبقى هو في عهدة الواجب، وإذا اشترى حنطة بعينها وخلى البائع بينها وبين المشتري في بيت البائع فعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يصير المشتري قابضا حتى لو هلكت هلكت من مال البائع، وعلى قول محمد يصير المشتري قابضاً حتى لو هلكت هلكت من المشتري، وعلى هذا الخلاف إذا اشترى خلا في دن وخلى البائع بين المشتري وبين الدن في بيت البائع وختم المشتري على الدن صار المشتري قابضا للحال عند محمد خلافا لأبي يوسف.
حجة محمد أن التخلية من البائع قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة البائع يده، وقد زالها حين خلى بينه وبين الطعام، فيجب أن يصير قابضا، كما لو خلى في غير بيت البائع، ولأبي يوسف أن صحة التخلية بزوال يد البائع إن زالت حقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن البيت وما فيه في يد البائع حكماً.(6/283)
وفي «العيون» : إذا اشترى من آخر حنطة في بيت ودفع البائع المفتاح إلى المشتري وقال: خليت بين الحنطة وبينك فهذا قبض، ولو دفع المفتاح إليه ولم يقل: خليت بينها وبينك فهذا ليس بقبض، ولو قال: خذ لا يكون قبضاً، ولو قال: خذه فهو قبض إذا كان يصل إلى أخذه ومرآه.
في «أجناس الناطفي» وفي «فتاوي الفضلي» إذا قال لغيره: بعت منك هذه السلمة وسلمتها إليك فقال ذلك الغير: قبلت لم يكن هذا تسليما حتى يسلمه بعد البيع، فإنما يعتبر بعد تمام البيع، ثم لاخلاف أن بالتخلية يقع القبض إذا كان المعقود عليه يقربهما، فأما إذا كان يبعد عنهما فقد ذكر الناطفي في «أجناسه» وهشام في «نوادره» فيمن باع من آخر دارا غائبه فقال البائع للمشتري: سلمتها إليك، وقال المشتري: قبضتها كان ذلك قبضا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان يقدر على دخولها وأعلامها كان قبضا.
قال في «العيون» : وكذلك الهبة والصدقة وأشار الخصاف في «شرح الحيل» أن التخلية تقع بالقبض وإن كان المعقود عليه يبعد عنهما، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في «النوادر» أن الرجل إذا باع ضيعته وخلى بينها وبين المشتري إن كانا بقرب من الضيعة يصير المشتري قابضا، وإن كانا ببعد عنها لا يصير قابضا، قال محمد رحمه الله: والناس عن هذا غافلون، فإنهم يشترون الضيعة في السواد ويقرون (38ب3) بالقبض والتسليم في المصر، وذلك مما لا يصح به القبض إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: ولا يؤخذ بتلك الرواية ولا يعمل بها، وفي «فتاوي الفضلي» : إذا باع دار إنسان ببلدة أخرى ولم يسلمها إليه إلا باللفظ ثم امتنع المشتري عن تسليم الثمن كان له ذلك؛ لأن تسليم الثمن إنما يجب عند قدرة البائع على تسليم المبيع، والبائع في هذه الصورة غير قادر على تسليم المبيع في الحال، فهذه المسألة دليل أن بالتحلية لا يقع القبض إذا كان المعقود عليه يبعد من المتعاقدين، وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة وهي مشدودة بخيط في الماء فقبضها المشتري، كذلك ثم ناول الخيط البائع وقال: احفظها فجاءت سمكة وابتلعت المشدودة، فالتي ابتلعت المشدودة للبائع إذا كان البائع هو الذي مد الخيط وأخرجها؛ لأنه هو الذي صادها، وأما المشدودة فهي للمشتري، فإن كانت المشدودة هي ابتلعت الماسة فهما جميعاً للمشتري سواء كان المشتري قبض المشدودة أو لم يقبضها؛ لأن الماسة كسب ملكه، وإن كان المشتري لم يقبض المشدودة فابتلعت الماسة المشدودة فالمشتري بالخيار: إذا خرجت المشدودة من بطن الذي ابتلعتها وقد ضرب بها لمن شاء، وإن شاء ترك.
وفي «كتاب العلل» قال: إذا أخذ البائع الآكلة وسلم المشدودة إلى المشتري جاز، وإن عجز عن تسليم الآكلة فقد عجز عن تسليم المبيع صح المشتري، كما لو أبق العبد المشترى قبل القبض، وإن كان المشتري قبض السمكة المشدودة ثم قال للبائع: أمسكها(6/284)
لتصيد بها فما كان من ذلك فهو للمشتري، زاد في «كتاب العلل» وإن بيد البائع الخيط وكان البائع كالعون له؛ لأن المشتري إنما ترك المشدودة ليصطاد بها، فهو بمنزلة ما لو نصب شبكة ووقع صيد فقال الآخر: مد فم الشبكة ففعل.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر داراً بالكوفة وهما ببغداد وقبض الثمن ولم يسلم الدار، خاصمه المشتري فيها فإن القاضي يأمر بائع الدار أن يوكل وكيلاً يشخص مع المشتري إلى الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلاً من البائع بنفسه، ويوكل المشتري ههنا وكيلاً بخصومة البائع، ثم يخرج المشتري إلى الدار مع الوكيل ويكتب: قاضي بغداد له إلى قاضي الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلاً بخصومة البائع بما استقر عنده من أمرها، فإن كتب قاضي الكوفة إلى قاضي بغداد أن الوكيل لم يسلم الدار، يعني جحد الوكالة وأعادها لنفسه حبس القاضي البائع في السجن حتى يسلم وكيله الدار.
وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا باع داراً وسلمها إلى المشتري وفيها متاع قليل للبائع لا يصح التسليم حتى يسلمها إليه فارغة؛ لأن يد البائع قائمة، وقيام يد البائع تمنع صحة التسليم، وإن أذن البائع للمشتري بقبض الدار والمتاع صح التسليم؛ لأن المتاع صار وديعة عند المشتري، فزالت يد البائع عن الدار، وكذلك إذا باع أرضاً فيها زرع البائع وسلم الأرض إلى المشتري لا يصح التسليم، ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير:» إذا ولى الإمام رجلاً بيع المغانم فجعل ذلك الأرماك في حظيرة وباع رمكة منها وقال للمشتري: ادخل الحظيرة واقبض الرمكة فخليت بينك وبينها، فدخل الرجل الحظيرة لقبض الرمكة، فعالجها فأفلتت منه وخرجت من باب الحظيرة وذهبت ولا يدري أين ذهبت، ينظر في ذلك إن كان المشتري لا يقدر على أخذها فالهلاك على البائع؛ لأن المشتري لم يصر قابضاً لها لا حقيقة وهذا ظاهر، ولا حكماً لأنه لم يتمكن من قبضها، إذا كان لا يقدر على أخذها، وإن كان المشتري يقدر على أخذها فالهلاك على المشتري؛ لأنه صار قابضاً لها حكماً، ثم في هذا الوجه يستوي الجواب بينهما إذا كان يقدر المشتري على أخذها من غير كلفة ومشقة وبين ما إذا كان يقدر على أخذها بكلفة ومشقة، ففي الحالين جميعاً يصير قابضاً لها بالتخلية؛ لأن المعتبر في هذا الباب التمكن من القبض لا غير. ألا ترى أن من اشترى من آخر صبرة عظيمة مشاراً إليها وخلى البائع بينها وبين المشتري صار قابضاً لها، وإن كان لا يقدر على قبضها إلا بكلفة ومشقة وإن كان المشتري لا يقدر على أخذها وحده ويقدر على أخذها لو كان معه أعوان أو له فرس ينظر إن كان الأعوان أو الفرس معه يصير قابضاً.
وإن كانت الرمكة في يد البائع وهو يمسك لها فقال المشتري: هاك الرمكة فأثبت المشتري يده عليها أيضاً حتى صارت الرمكة في أيديهما والبائع يقول للمشتري: خليت بينها وبينك وأنا أمسكها منعاً لها، وإنما أمسكها حتى يضبطها فانفلتت في أيديهما فالهلاك على المشتري؛ لأن المشتري قابض لنصفها حقيقة ولنصفها حكماً لتمكنه منه؛ لأن البائع لا يمنعه من ذلك، فإن قيل: الرمكة في يد البائع حقيقة، وقيام يد البائع عنها يمنع بثبوت يد غيره عليها، قلنا: قيام يد الإنسان على المحل يمنع ثبوت يد غيره عليه على طريق تمكين المشتري وإعانته عليه إياه على تقدير يده، فلا يمنع ذلك صحة قبض المشتري.
وإن كانت الرمكة في يد البائع ولم تصل إليها يد المشتري فقال البائع للمشتري: خليت(6/285)
بينها وبينك فاقبضها، فأبى إنما أمسكها لك فانفلتت من يد البائع قبل أن يقبض المشتري وهو يقدر على أخذها من يد البائع وضبطها كان الهلاك على البائع، بخلاف ما إذا كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنعها من المشتري فانفلتت فإن هناك الهلاك على المشتري.
والفرق: أن المشتري لا يصير قابضاً للمشترى ما لم يزل قبض البائع، ومتى كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنع فقد زال قبض البائع حكماً؛ لأن يد المشتري ثابتة على أحد النصفين حقيقة، وعلى النصف الآخر حكماً، إنما يد البائع ثابتة على أحد النصفين لا غير، فكان قبض البائع حكماً دون قبض المشتري فيرتفع بقبض المشتري، وأما إذا كانت الرمكة كلها في يد البائع فلم يزل قبض البائع حكماً؛ لأن جميع الرمكة في يد البائع حقيقة، ويد المشتري ثابتة عليها حكماً، إذا كان لا يمنعها البائع عن المشتري فكان قبض المشتري دون قبض البائع فلا يرتفع به قبض البائع، ومع قيام قبض البائع لا يعتبر قبض المشتري، وبخلاف ما إذا لم تكن الرمكة في يد البائع ولا في يد المشتري وهو قريب من البائع، والمشتري بحيث لو أراد المشتري قبضها أمكنه ذلك، فقال البائع للمشتري: خليت بينك وبينها فانفلتت في هذه الحالة كان الهلاك على المشتري؛ لأن الثابت لكل واحد منها، أعني البائع والمشتري في هذه الصورة التمكين من القبض لا القبض الحقيقي، فكان يد كل واحد منهما مثل يد صاحبه، فجاز أن تزول يد البائع بيد المشتري، فإن كانت الرمكة ببعد عن المشتري والبائع فقال البائع للمشتري: خليت بينها وبينك فهذا لا يكون قبضاً، وقد مر هذا في فصل الضيعة والدار.
وسئل شمس الإسلام الأوزجندي: عن فرس بين اثنين وهو في المرعى، باع أحدهما نصيبه من صاحبه وقال للمشتري: اذهب واقبضه وهلك الفرس من قبل أن يذهب المشتري إليه قال: الهلاك عليهما؛ لأن المشتري لم يقبض المشترى حقيقة ولا حكماً، وكان الهلاك على المشتري، ووقعت في زماننا أن رجلاً اشترى بقرة من رجل وهي في المرعى فقال له البائع: اذهب واقبض البقرة فأفتى بعض مشايخنا: أن البقرة إن كانت بمرأى العين بحيث يمكن الإشارة إليها فهذا قبض وما لا فلا، وهذا الجواب ليس بصحيح (39أ3) والصحيح أن البقرة إن كانت بقربهما بحيث يتمكن المشتري من قبضها لو أراد فهو قابض لها بدليل المسألة التي ذكرناها، ولو كان المشتري اشترى الأرماك(6/286)
كلها في الحظيرة وخلى البائع بينها وبين المشتري والأرماك بحيث لا يقدر على الخروج إلا بفتح الباب، ففتح المشتري باب الحظيرة ليدخل فلعله يأخذ بعض الرماك فعليه الرماك وخرجت من الحظيرة وذهبت فالهلاك على المشتري والثمن لازم، سواء كان المشتري يقدر على أخذها لو دخل الحظيرة أو لا يقدر، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري صار قابضاً لها لما تمكن من قبضها، مشكل فيما إذا كان لا يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري لم يقبضها لا حقيقة باليد ولا حكماً بالتمكن من القبض، فينبغي أن يكون الهلاك على البائع في هذه الصورة. ألا ترى لو فتح غير المشتري الباب، ولو كان المشتري لا يقدر على أخذ الرماك لو دخل الحظيرة فانفلتت رمكة وخرجت لا يكون الهلاك على المشتري لم يصر قابضاً لها لما لم يكن متمكناً من قبضها، والجواب أن الجواب صحيح في الوجهين؛ لأن المشتري إذا كان لا يقدر على قبض الرماك إن كان لا يصير قابضاً لها بالتمكن من القبض يصير قابضاً لها بالإتلاف. والقبض كما يتحقق من المشتري بالتمكن من القبض يتحقق منه بالإتلاف. ألا ترى أن من اشترى عبداً والعبد يبعد منه بحيث لا يتمكن من
قبضه لو أراد قبضه فأعتقه يصير قابضاً حتى يتأكد عليه الثمن وما صار قابضاً لتمكنه من القبض؛ لأن العبد يبعد منه، وإنما صار قابضاً بالإتلاف كذا هنا، وبيان الإتلاف أن فتح الباب سبب خروج الرمكة وإتلافها، فيقام مقام مباشرة الإخراج والإتلاف.
وخرج على هذا ما إذا كان فاتح الباب غير المشتري ولا يلزم أبا حنيفة وأبا يوسف ما إذا فتح الرجل باب قفص إنسان أو باب اصطبل إنسان فطار الطير أو خرجت الدابة من فور ذلك؛ فإنه لا يضمن الفاتح عندهما مع أنه سبب لإخراج الدابة والطير بالفتح؛ لأن هناك لو فتح الباب ضمن الفاتح إنما يضمن ضمان غصب؛ لأنه لم يوجد منه عقد ضمان في حق الطير والدابة، والمشتري في فعل الرمكة لو ضمن بفتح الباب ضمن ضمان العقد؛ لأنه وجد منه عقد ضمان في حق الرمكة، وقد جرى في بعض ضمان العقد من السهولة ما لم يجر في ضمان الغصب. ألا ترى أن المشتري قابض بحكم العقد وضامن بالتمكن من قبض ما اشترى، ولا يثبت الغصب بمجرد التمكن بالقبض فكذا هنا.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى طيراً في بيت والباب مغلق فهبت الريح بالباب وفتح الباب وطار الطير لا يصح التسليم، وإن فتح المشتري الباب وطار الطير صح التسليم، وهذا الجواب ليس بصحيح،...... أن المشتري إذا كان بحال يمكنه قبض المشترى بيده من غير أعوان أو مع أعوان إلا أن الأعوان معه يصير قابضاً حتى لو انفتح الباب وطار الطير ذهب من مال المشتري سواء انفتح الباب بفتح المشتري أو بهبوب الريح أو بفعل أجنبي، وإن كان بحال لا يمكنه الأخذ أصلاً أو كان يمكنه بعون إلا أن الأعوان ليسوا معه، فإن فتح الباب بفتح المشتري وذهب الطير ذهب من مال(6/287)
المشتري، وإن انفتح الباب بهبوب الريح أو بفتح الأجنبي ذهب من مال البائع بدليل مسألة الشراء.
اشترى من آخر دهناً معيناً ودفع إليه قارورة ليزنه فيها، فوزن بحضرة المشتري صار قابضاً، وإن كان في دكان البائع أو بيته لا وزن البائع هنا منقول من المشتري؛ لأن الأمر به قد صح، وإن وزن بغيبة المشتري ذكر بعض المتقدمين في شرح «الجامع الصغير» أن المشتري لا يصير قابضاً، والصحيح أنه يصير قابضاً لما ذكرنا.
ولو أن البائع حين صب رطلاً انكسرت وهما لا يعلمان بذلك، فما صب قبل الانكسار يهلك على المشتري وما صب بعد الانكسار يهلك على البائع، في القارورة شيء بعد الانكسار، فما وزن قبل الانكسار فصب البائع في القارورة رطلاً حتى خرج الكل عن القارورة، فالبائع يصير ضامناً للمشتري مثل ما بقي في القارورة بعد الإنكسار، وإن دفع المشتري القارورة منكسرة إلى البائع ولم يعلما بذلك فصب فيه بأمر المشتري فذلك كله على المشتري.m
ولو أن المشتري أمسك القارورة بنفسه ولم يدفعه إلى البائع والمسألة بحالها كان الهلاك في جميع ما ذكرنا على المشتري.
وفي «المنتقى» : لو دفع القارورة إلى البائع منكسرة ولا يعلم به المشتري والبائع يعلم وكاله فيه فتلف فالبائع متلف فيه ولا شيء على المشتري ولو لم يعلم به البائع أو كانا يعلمان به وكاله فيه، فالمشتري قابض له.
قال هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن رجل اشترى من آخر شيئاً وأمره المشتري أن يجعله في وعاء المشتري، فجعله فيه ليزنه عليه، فانكسر الإناء وتوي ما فيه فهو من مال البائع؛ لأنه إنما جعله في إناء المشتري ليزنه فيعلم وزنه لا للتسليم إلى المشتري، فإن وزنه ثم انكسر الإناء فهو من مال البائع أيضاً، وإن وزنه في شيء للبائع ثم جعله في إناء المشتري ثم انكسر فهو من مال المشتري.
(قال) للبائع: زن لي في هذه الإناء كذا وكذا وابعث به مع غلامك أو قال مع غلامي ففعل، فانكسر الإناء في الطريق، قال: هو من مال البائع حتى يقول: ادفعه إلى غلامك أو قال: إلى غلامي، فإذا قال ذلك فهو وكيل، فإذا دفعه إليه فكأنه دفعه إلى المشتري.
وفي «مجموع النوازل» : إذا اشترى من قروي وعاء هديل، وأمره أن يذهب به إلى منزله، فسقط في الطريق وهلك، فالهلاك على البائع إن لم يقبضه المشتري.
رجل باع من آخر ثوباً وأمره أن يقبضه فلم يقبضه حتى أخذ إنسان الثوب، فإن كان حين أمره البائع بالقبض أمكنه القبض من غير قيام صح التسليم، وإن كان لا يمكنه القبض إلا بقيام لا يصح التسليم.
في «فتاوي أبي الليث» وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر دابة والبائع راكبها، فقال له المشتري: احملني معك فحمله معه، فهلكت الدابة هلكت من مال المشتري؛ لأن ركوب(6/288)
المشتري قبض منه. وقيل: إن كان المشتري ركب على السرج والبائع رديفه يصير قابضاً وما لا فلا، وإن لم يكن عليه سرج فهو قابض كيف ما كان، ولو كانا راكبين فباع أحدهما من صاحبه لا يصير قابضاً بمنزلة ما لو باع داراً والبائع والمشتري في الدار.
رجل اشترى من آخر حنطة بعينها، ثم قال للبائع: أعرني جوالقك هذا، أو قال جرابك هذا، وكل لي ما اشتريت منك حتى أرجع فاحمله، فذهب المشتري ففعل البائع ذلك وضاعت الحنطة، فهذا ليس بقبض حتى يدفع إليه المشتري آنية له يكيل فيها الطعام أو يقبض منه المشتري وعاءه التي استعارها ويدفعها إليه، فإذا كان كذلك فهو قبض هكذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمهما الله.
وذكر عمرو بن أبي عمرو عن محمد إذا قال المشتري للبائع: أعرني جوالقك هذا كله فيه، ففعل صار المشتري قابضاً، ولو قال: لم هذا والباقي بحاله لا يصير.
وفي «القدوري» : وقال أبو يوسف: إذا استعار المشتري من البائع جوالق أو أمره أن يكيل فيها، فإن كانت الجوالق بعينها صار المشتري قابضاً بالكيل فيه، وإن كانت بغير أعيانها نحو أن يقول: أعرني جوالق أو كِلْ فيها ففعل فإن كان المشتري حاضراً فهو قبض، وإن كان غائباً لم يكن قبضاً، وقال محمد رحمه الله: لا يكون قابضاً في المعينة في الوجهين حتى يقبض الجوالق منه ثم يسلمها إليه، فإذاً على ما ذكره القدوري بينهما اتفاق أن المشتري إذا لم يعين الغرائر لم يصر المشتري قابضاً بكيل البائع حال غيبة المشتري، وهذا لأن البائع بالكيل عامل لنفسه من وجه من حيث إنه يميز ملكه عن ملك المشتري، وعامل المشتري من وجه من حيث إنه يميز ملك المشتري فينتقل (39ب3) فعله إلى المشتري من وجه دون وجه، فلا يثبت القبض بالشك بمجرد الأمر بالكيل بخلاف ما لو دفع إليه غرائر نفسه حيث يصير قابضاً بجعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل وجه، ويصير كأن المشتري هو الذي جعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل (وجه) ويصير كأن المشتري هو الذي جعل الغرائر بعد الكيل والتمييز ولأن الاستعار مع الجهالة لا يصح، فقبل التعيين لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، فلا يحصل الجعل في غرائر المشتري، وبدون الجعل في غرائر المشتري (لا يصير) قابضاً، وأما إذا عين الغرائر وأمره بالكيل بها ففعل بعينه المشتري، فعلى قول محمد لا يصير قابضاً؛ لأن العارية لا تتم بدون القبض، وما لم يتم العارية لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، وقال أبو يوسف: يصير قابضاً؛ لأن استعارة الغرائر غير مقصودة لعينها وإنما يثبت حكماً لتصحيح القبض، فكانت قصدية من
وجه حكمية من وجه، فشرطنا التعيين لكونها قصدية ولم يشترط القبض لكونها حكمية.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا اشترى من آخر كراً بعينه وله على البائع كر دين، فأعطاه(6/289)
جوالق وقال: كلها فيه، فإن كان العين أولاً ثم الدين صار المشتري قابضاً لهما، أما للعين فظاهر، وأما للدين فلأن البائع خلطه بمال المشتري بأمره، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلطه الجنس بالجنس بسبب ملك، وإذا كان هذا سبب ملك كان المشتري أمر للبائع أن يباشر له بسبب ملك، فيكون عاملاً للمشتري بأمره كما لو أمره بالشراء فاشترى، وإن كان الدين أولاً ثم العين لم يصر قابضاً للدين وكانا شريكين، فهذا على قول محمد و (على) قول أبو يوسف يصير قابضاً لهما؛ لأن خلطه الجنس بالجنس استهلاك، فإذا خلطه الدين بملك المشتري بأمره صار المخلوط ملكاً للمشتري، فصار قابضاً له لاتصاله بملكه.
وجه قول محمد: أن المشتري لو صار قابضاً الدين، إما أن يصير قابضاً بالكيل أو يجعل المكيل في غرار المشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن الكيل لم يصر منفعة لا إلى المشتري؛ لأن أمره بالكيل لم يصح؛ لأن الكيل يلاقي ملك المديون، فلا يصير المكيل منقولاً إلى المشتري كما قبل الأمر، ولا وجه إلى الثاني، وإن صح الأمر من المشتري بجعل الحنطة في غرائره من حيث إنه يصرف في الغرائر ملك المشتري؛ لأن جعل المديون الدين في غرائر المشتري لا يصير منقولاً إلى المشتري؛ لأن المديون في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المديون، وقد أذن له المشتري أن يجعلها في غرائره، فصار معير الغرائر من المديون، والمستعير في الانتفاع بالعارية عامل لنفسه وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان على المستعير، وإذا صار عاملاً لنفسه فيما صح الأمر به لم يصر فعله منقولاً إليه لا في حق الكيل ولا في جعله في الغرائر، صار الحال بعد الأمر كالحال قبله، وقبل الأمر لا يصير قابضاً فكذا ههنا، بخلاف شراء العين؛ لأن هناك فعل البائع وهو الكيل وجعل الحنطة في غرائر المشتري صار منقولاً إلى المشتري؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائر المشتري عامل للمشتري؛ لأنه يضع ملكه ومنفعة ذلك له فكان عاملاً له، فانتقل فعل البائع إلى المشتري حكماً، وصار المشتري فعل ذلك بنفسه، فلهذا صار قابضاً، وعن هذا قلنا: إن في فصل العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير المشتري قابضاً، وفي الدين لا يصير؛ لأن الأمر بالطحن من المشتري قد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعته تعود إليه، فانتقل فعل البائع إليه. أما الأمر بالطحن من رب الدين فلم يصح؛ لأنه لاقى ملك المديون فلم ينتقل فعله إلى رب الدين.
وإذا ثبت من مذهب محمد أن المشتري لم يصر قابضاً للدين في هذه الصورة بقي دين المشتري على البائع حاله، وبقي الكر في الجوالق على ملك المديون لكن صار البائع خالطاً ملك المشتري بملك نفسه بأمر المشتري، فكانا شريكين فيه.
ولو أحدث المشتري في المبيع عيباً أو أخذ البائع بأمره فهو قبض من المشتري، أما إذا أحدث المشتري فلأن هذا لا يتأتى إلا بالاستيلاء على المحل، وذلك فوق القبض حقيقة في إثبات القدرة على المحل. وأما إذا فعل البائع بأمره فلأن فعل غيره بأمره كفعله بنفسه.(6/290)
وكذلك لو أعتقه المشتري أو دبره أو أقر أن الجارية أم ولد له فهو قبض من المشتري، أما الإعتاق فلأنه إبطال المحل حكماً فيعتبر بالإتلاف حقيقة، وما عدا الإعتاق من التدبير والإقرار.... منه الولد ينقبض حكماً، فيعتبر بالقبض حقيقة وهو الصلت.
ولو زوج المشتري الأمة المشتراة قبل القبض من إنسان، فالقياس: أن يكون قابضاً بنفس النكاح، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وفي الاستحسان: لا يصير قابضاً ما لم يطأها الزوج، وهذا لأن النكاح ليس بتعييب من حيث إتلاف الملك وتنقيص المالية بل هو تعييب حكمي من حيث...... الناس، فهو في معنى نقصان السعر بخلاف الإعتاق والتدبير؛ لأن ذلك إتلاف الملك وتنقيص المال، فلهذا افترقا، فإذا وطئها الزوج الآن يصير قابضاً؛ لأن الوطء استيلاء على المحل وقد فعل الزوج بتسليط المشتري فيعتبر بما لو فعل المشتري بنفسه.
فرع على مسألة النكاح
في «المنتقى» فقال: رجل اشترى من رجل جارية وزوجها قبل القبض وماتت الجارية قبل أن يدخل بها الزوج ينتقض البيع ويموت من مال البائع بناء على ما قلنا: إن المشتري بنفس النكاح لم يصر قابضاً، فإذا ماتت فقد ماتت قبل القبض، وهلاك المبيع قبل القبض يوجب انتقاض البيع ثم قال: ويكون المهر الذي على الزوج للمشتري وعليه حصته من الثمن يقسم على المهر من الثمن لزمه، ويتصدق بالفضل إن كان في المهر فضل. قال: والمهر في هذا بمنزلة الولد، ولا يشبه المهر الهبة لو وهب للجارية هبة، فإن الهبة لا حصة لها من الثمن قال: لأن المهر من الجارية، ألا ترى أن الجارية المرهونة إذا وطئت كان المهر رهناً معها، لو وهب هبة كانت الهبة للراهن ولم يكن رهناً.
قال ثمة أيضاً: رجل اشترى من رجل عبداً لجارية فلم يتقابضا حتى زوج المشتري الجارية من إنسان بمئة درهم ثم مات العبد في يد البائع قبل أن يدفعه إلى مشتري العبد، فإن العقد ينتقض فيما بينهما ورجعت الجارية التي كانت له مهرها، ويرجع الذي كانت الجارية له على مشتريها بقدر النقصان. قال: ولا يكون نكاح المشتري إياها قبضاً منه لها، وإن كان هذا عيباً فليس بعيب في يديها. ألا ترى أن المشتري لو أقر بدين عليها في يد البائع قبل القبض جاز إقراره عليه، وإن كان ذلك عيباً أخذته فيها ولم يصر به قابضاً لها ما كان الطريق إلا ما قلنا: وذكر هذه المسألة في موضع آخر من «المنتقى» وزاد في وصفها فقال: رجل اشترى من رجل جارية بعبد، فقبل أن يقبض المشتري الجارية زوجها المشتري من رجل بمئة درهم، وقد كانت الجارية تساوي قبل التزويج ألفي درهم، فنقصها التزويج خمسمئة ثم وطئها الزوج في يد (40أ3) البائع ثم مات العبد قبل التسليم إلى مشتريه، قال: المهر للذي باعها ويكون الخيار إن شاء أخذ جاريته ناقصة ولا(6/291)
شيء له غيرها، وإن شاء ضمن مشتريها قيمتها يوم وطئها الزوج؛ لأن بموت العبد قبل القبض فسد البيع في الجارية، والمبيع بيعاً فاسداً مضمون على المشتري بقيمته يوم القبض، ويوم قبض المشتري يوم وطء الزوج إياها.
ولو كان المشتري زوجها من البائع قبل القبض فوطئها الزوج ثم مات العبد قبل التسليم، فإن بائع الجارية إن شاء يسلم الجارية لمشتريها منه وضمنه قيمتها يوم وطئها هو بحكم النكاح من قبل أن المشتري صار قابضاً لها بوطء الزوج، ولا يغرم البائع مهر مثلها للمشتري، وإن شاء بائع الجارية نقض المبيع فيها وأخذ جاريته من المشتري وفسد النكاح وبطل المهر، والخيار في نقض البيع وتركها إلى بائعها دون مشتريها وينتقض البيع (وإن لم) ينقضه القاضي، ألا ترى أن في البيع الفاسد إذا قبض البائع الجارية من المشتري ونقض البيع فيها انتقض البيع، وإن لم ينقضه القاضي.
وإن كان المشتري زوجها إياه بعدما قبضها بأمره والباقي بحاله لم يكن للبائع سبيل على الجارية من قبل أنه وجب المهر بعد القبض، ولا يستطيع بائعها أن يأخذها ويأخذ معها مهراً لم يكن في البيع ويضمن المشتري قيمتها يوم قبضها وسلم هي للمشتري ويكون المهر على البائع والنكاح صحيح.
ولو كان المشتري قبضها بغير أمر البائع ثم لقي البائع فزوجها إياه وقد علم البائع نقضه لها أو لم يعلم، فإن هذا لا يكون تسليماً عن البائع للمشتري؛ لأن تزويجه إياها قبل القبض صحيح، فإن وطئها البائع بعد ذلك في يد المشتري بحكم النكاح، فإن هذا تسليم من البائع لقبضه، فإن مات العبد قبل التسليم لم يكن للبائع على الأمة سبيل من قبل أنه وجب لها في يدي المشتري مهر؛ لأن قبضه الأول قد سلم له.
وفي «العيون» : اشترى من غيره فصاً في خاتم بدينار، فدفع البائع الخاتم إليه، فهلك في يده فإن أمكن نزع الفص من غير ضرر، فعليه ثمن الفص لا غير؛ لأن التسليم قد صح، فيتأكد الثمن وهو في الخاتم أيسر وإن لم يمكن نزع الفص إلا بضرر لا شيء عليه؛ لأنه لا يصح التسليم.
وفي «القدوري» : لو باع قطناً في فراش وحنطة في سنبل وسلم كذلك، فإن كان المشتري لا يتمكن إلا بفتق الفراش ودق السنبل لم يصر قابضاً؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في ملك البائع والفتق والدق تصرف في ملك البائع، فلم يكن مملوكاً للمشتري، فلم يصر المشتري متمكناً من المبيع، فلم يصر قابضاً.
قال: ولو باع التمر على الشجر وسلمه كذلك صار قابضاً؛ لأنه لا يحتاج في قبض المبيع إلى إحداث فصل تلك البائع، فلا يمتنع صحة التسليم.
نوع آخر منه
إذا قبض المبيع بغير إذن البائع كان للبائع أن يسترده منه حتى يستوفي حق الإنسان لا يبطل من غير رضاه، ولو تصرف المشتري في ذلك تصرفاً يلحقه النقض بأن باع أو وهب أو رهن أو آجر أو تصدق نقض التصرف، وإن كان لا يلحقه الفسخ كالعتق والتدبير والاستيلاء لم يملك البائع رده إليه والفرق وهو أن تصرف المشتري حصل في ملكه(6/292)
والنقض عليه لحق البائع، ولكن إنما يجب رعاية حق البائع عند الإمكان تصرف المشتري قابلاً للنقض، فالإمكان ثابت، ولا كذلك ما إذا لم يكن تصرف المشتري قابلاً للنقض، ولو نقده الثمن، فوجده البائع ... أو مستحقاً أو وجد بعضه كذلك كان للبائع منعة، فإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع بعد ما نقد الزيوف أو الستوق فللبائع أن ينتقض قبضة. ولو تصرف فيه المشتري بعض تصرفه؛ لأن ما نقد ليس حق البائع، فصار وجوده والعدم بمنزلة، فصار كأنه قبض بغير إذن البائع قبل نقد الثمن، وهناك قد ذكرنا أن للبائع أن ينقض قبض المشتري وتصرفه إذا كان تصرفاً يحتمل النقض فكذا هنا.
ولو قبض بأمره ثم وجد الدراهم المقبوضة زيوفاً لم يكن للبائع أن يسترده، وقال زفر له أن يسترده وهو قول أبي يوسف الأول، ووجه ذلك: أن البائع إنما سلم المبيع بناء على أن المقبوض من الثمن حقه، وقد تبين أنه لم يكن حقاً له؛ لأن حقه في الجياد والمقبوض زيوف، فلم يتم رضاه بالتسليم فكان له أن يعيده إلى يده بمنزلة الرهن، فإن الراهن إذا سلم الدين وقبض المرهون بإذن المرتهن ثم وجد المرتهن المقبوض زيوفاً كان له أن يرد المقبوض ويسترد الرهن كذا هنا. ولنا: أن الزيوف من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم يجوز إلا أن بها عيباً، والعيب لا يبدل الجنس حقه، فإذا أذن له بالقبض بناء على ما وجد من الاستيفاء، وذلك يصلح أن يكون استيفاء يسقط حقه في الجنس، وعمل إذنه والساقط لا يتحمل العود بخلاف الرهن؛ لأن ما ثبت للمرتهن من ملك اليد والجنس لا يبطل، وإن وجد قبض الرهن بإذن المرتهن ألا ترى أن المرتهن لو سلم الرهن إلى الراهن بطريق الوديعة أو العارية كان له أن يسترده، وإنما المقسط لحقه وصول كمال حقه إليه ولم يوجد، ولو وجد المقبوض رصاصاً أو ستوقاً أو(6/293)
مستحقاً كان له أن يسترد المبيع، وإن قبضه المشتري بإذنه بخلاف الزيوف، والفرق: أن إذن البائع في القبض كان بناء على ما يوجد من الاستيفاء وقبض الستوق والرصاص لا يصلح للاستيفاء؛ لأن الستوق ليس من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز، فإذا لم يصلح استيفاء والإذن كان بناء على الاستيفاء صار وجود الإذن والعدم بمنزلة، وكذلك قبض المستحق موقوف على إجازة المالك، فإذا لم يجز انتقض القبض فيه من الأصل، فصار الحكم فيه بعدم الإجازة نظير الحكم في الستوق والرصاص، فإن لم يجد البائع شيئاً مما ذكرنا في الثمن حتى باع المشتري العبد أو أجره أو رهنه وسلم، ثم إن البائع وجد في الثمن شيئاً مما ذكرنا، فجميع ما صنع المشتري في العبد جائز لا يقدر البائع على رده ولا سبيل له على
العبد، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا وجد الثمن زيوفاً أو نبهرجة وذلك حق البائع في الجنس قد بطل حتى لم يكن له أن ينقض قبض المشتري قبل وجود التصرف من المشتري، فلا يكون له نقض تصرفه أيضاً كما لو أذن له في القبض مرسلاً أو استوفى الثمن بتمامه مشكل مما إذا وجد الثمن رصاصاً أو ستوقاً أو مستحقاً؛ لأن حق البائع في الجنس في هذه الصورة لم يسقطه إلا أن له أن ينقض قبض المشتري، فكان له أن ينقض تصرفه أيضاً كما لو قبض بغير إذنه. والجواب: أن قبض المشتري في هذه الصورة وقع فاسداً؛ لأن شرط صحته أن يكون بإذن البائع من كل وجه، وهنا قبض المشتري حصل بغير إذن البائع من وجه باعتبار المعنى، وبإذنه من وجه باعتبار الحقيقة، فيعتبر القبض الفاسد، وفي البيع الفاسد إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع كان له أن ينقض قبضه بحكم الفساد، وكان له أن ينقض تصرفه؛ لأنه لم يحصل بتسليطه، فكذا ههنا حتى كان القبض فاسداً، وقد حصل بإذن البائع كان للبائع نقض قبضه بحكم الفساد، ولا يكون نقض تصرفه وهو حصل بغير إذن البائع كان للبائع نقض قبضه ونقض تصرفه أيضاً.
وإن كان البائع حين علم بقبض المشتري بغير إذنه في هذه الصورة سلم ذلك ورضي به والباقي بحاله كان هذا مثل إذنه في القبض في الابتداء؛ لأن الإجازة في الانتهاء (40ب3) بمنزلة الإذن في الابتداء، ودلت المسالة على أن الإجازة تلحق الأفعال كما تلحق العقود.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا اشترى الرجل مصراعي باب..... أو دهليز، فقبض أحدهما بغير إذن البائع ولم يقبض الآخر حتى هلكت ما كان عند البائع، فلم يجعل قبض أحدهما قبضاً للآخر، وقال: خير في المقبوض، فقد جعلهما في حق الخيار كشيء واحد.
ولو قبض أحدهما فاستهلكه أو عيبه صار قابضاً للآخر حتى لو هلك الآخر عند البائع قبل أن يحدث البائع فيه حبساً أو بيعاً هلك (على) المشتري، ولو منعه البائع بعد ذلك ثم هلك هلك على البائع حتى سقط من الثمن بحصته، فجعلها كشيء واحد في الاستهلاك والتعييب، وفي حق الاسترداد جعلهما بمنزلة العبدين والثوبين حتى لم يجعل استرداد البائع أحدهما كاستردادهما.
ولو جنى البائع على أحدهما بإذن المشتري صار قابضاً لهما حتى لو هلكا بعد ذلك هلكا من مال المشتري، ولو منع البائع أحدهما بعد ذلك أو منعهما كان عليه قيمة ما هلك. ولو أذن البائع للمشتري في قبض أحدهما كان إذناً في قبضهما حتى لو قبضها ثم استرد البائع أحدهما ليحبسه بالثمن صار غاصباً.
ولو رأى المشتري أحدهما فرضيه لم يلزمه حتى لو رأى الآخر كان له أن يردهما بخيار الرؤية.
ولو أحدث بأحدهما عيباً لم يكن له أن يرد الآخر بالعيب ولا يختار الرؤية ولو جاء أجنبي واستهلك أحدهما كان لصاحبهما أن يدفع إليه الآخر ويضمنه قيمتهما.
والأصل في هذه المسائل أن القبض فعل حقيقي يلاقي الصورة، والمعنى فيه تابع، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فأما الخيار فإنما يثبت باعتبار نقصان في مالية القائم، فإن(6/294)
هلاك أحدهما يوجب نقصاناً في مالية القائم، والهلاك كان في ضمان البائع، فجعل كأن انتقاض مال القائم حصل في ضمان البائع، والتعييب ينتقص المالية، والاستهلاك يفوت المالية، وهما في المالية كشيء واحد، فأوجب ذلك تعييباً في الآخر مقبوضاً، فصار بحكم التعييب، واسترداد البائع يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين، والإذن في قبض أحدهما إنما كان لإيصال المشتري إلى منفعة ملكه، وهما فيه كشيء واحد؛ وجناية البائع بإذن المشتري بمنزلة جناية المشتري بنفسه لكن برضا البائع، وجناية المشتري بنفسه على أحدهما بإذن البائع؛ لأن ذلك تعييب أو إتلاف للمالية، وهما في ذلك كشيء واحد، فيوجب ذلك قبض الآخر وبطلان حق الحبس لرضا البائع بقبضهما، فكذا جناية البائع بإذن المشتري على أحدهما، فإذا منع البائع بعد ذلك صار غاصباً والغصب يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فلم يصر غصب أحدهما غصباً للآخر وخيار الرؤية إنما يثبت باعتبار الجهل بأوصاف المعقود عليه، فإنما يبطل بالعيان الذي يدرك به معرفة الأوصاف، والعيان يلاقي الصورة فاعتبرا فيه بالثوبين، وإذا أحدث عيباً بأحدهما، فذلك يوجب نقصاناً في مالية الآخر، فيبطل خيار العيب والرؤية فيهما؛ لأن شرط الرد بخيار الرؤية على الوجه الذي خرج عن ملك البائع واستهلاك الأجنبي أحدهما يوجب نقصاناً وخللاً في مالية الآخر، فكان بمنزلة من عيب دابة غيره أو ثوب غيره عيباً فاحشاً، وهناك كان لصاحبه أن يضمنه قيمة الكل ويسلم إليه المعيب كذا ههنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من رجل جارية بألف درهم ولم ينقد ثمنها حتى قبضها بغير إذن البائع وباعها من رجل بمئة درهم وتقابضا وغاب المشتري الأول وحضر بائعه، وأراد استرداد الجارية من المشتري الآخر، فإن أقر المشتري في الآخر أن الأمر كان وضعه البائع كان للبائع الأول أن يستردها منه؛ لأن المشتري الآخر أقر بثبوت حق الاسترداد للبائع في ملكه فصح إقراره، وإذا استردها بطل البيع الثاني؛ لأن البيع الأول أبطل قبض المشتري الأول بحق سابق على قبضه فانتقض قبضه من الأصل.
وإن كذب المشتري الآخر البائع الأول فيما قال أو قالت: لا أدري أحق ما قال أو باطل لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب؛ لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري الآخر والبائع الأول مقر بذلك ثم هو يدعي على البائع حقاً، فلا يصدق إلا بحجة والحجة لا تسمع على الغائب إلا إذا كان عن خصم حاضر، والمشتري الثاني ليس بخصم عن الأول، فإن حضر الغائب وصدق البائع الأول فيما قال لا يصدق على المشتري الآخر، وإن كذبة يقال للبائع الأول: أقم البينة على أنه ما غيب، فإن أقام البينة بمحضر من المشتري الأول والثاني ردها القاضي على البائع الأول وانتقض البيع الثاني لما مر، إلا أن ينقد المشتري الأول الثمن قبل الرد على البائع الأول، فحينئذ لا يردها القاضي على البائع الأول؛ لأن حق البائع الأول في الاسترداد، إنما يثبت له حق الاسترداد حبساً للجارية بالثمن، فإذا سلم له الثمن لو بقي له حق الاسترداد يبقى مقصوداً وهذا مما لا وجه له.(6/295)
وإن نقد المشتري الأول الثمن بعدما أخذها البائع الأول سلمت الجارية للمشتري الأول، ولم يكن للمشتري الآخر عليها سبيل؛ لأن شراءه قد انتقض على ما مر، فلا يعود إلا باستحقاق جديد ولم يوجد.
ولو ماتت الجارية في يد المشتري الآخر كان للبائع الأول أن يضمن المشتري الآخر قيمتها؛ لأن للبائع الأول على الجارية يداً مستحقة لأجل الحبس، فصار المشتري الثاني بقبضه خائناً على البائع الأول فصار كالغاصب، وهكذا المشتري الأول؛ لأن قبض المشتري الأول أوجب تأكيد الثمن عليه للبائع الأول، فلا يوجب القيمة عليه، أما قبض المشتري الآخر لا يوجب الثمن عليه للبائع الأول ليمكن إيجاب القيمة عليه للبائع الأول، وتكون القيمة المردودة على البائع الأول قائمة مقام الجارية حتى لو هلكت عند البائع الأول انتقض البيعان ويرجع المشتري الآخر على المشتري الأول بما يعدله من الثمن كما لو هلكت الجارية بعد الاسترداد في يد البائع الأول، ولو لم تهلك والقيمة في يد البائع الأول حتى نقد المشتري الأول الثمن أخذ القيمة من بائعه، ولم يكن للمشتري الثاني على القيمة سبيل لما لم يكن له على الجارية في هذه الصورة سبيل، ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بالثمن الذي نقده. وإذا سلمت القيمة للمشتري الأول ينظر إن كان من غير جنس الثمن لا يتصدق بالفضل إن كان ثمة فضل.
قال في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من رجل ثوباً بعشرة ولم يقبضه حتى أحدث فيه عيباً يعني المشتري صار قابضاً على ما مر ثم هلك الثوب في يد البائع، فإن هلك قبل أن يمنعه البائع هلك من مال المشتري، وإن هلك بعد ما منعه البائع هلك من مال البائع، وهذا لأن المشتري صار قابضاً للثوب، وإنما ينتقض قبضه بالاسترداد كون المال في يد البائع لا يصير البائع مسترداً ألا ترى أنه لا يصير غاصباً بهذا القدر، فكذا لا يصير مسترداً فبقي قبض المشتري على حاله، فإذا هلك يهلك من مال المشتري. فأما إذا منعه البائع فقد صار مسترداً. ألا ترى أنه يصير غاصباً مال الغير بمجرد المنع عنه، فكذا يصير مسترداً فانتقض قبض المشتري وعاد الثوب إلى ضمان البائع، فإذا هلك تهلك من مال البائع وبطل الثمن على المشتري إلا قدر ما انتقص بفعل المشتري، فإن ذلك القدر ينفرد على المشتري؛ لأنه لم يوجد الاسترداد لذلك القدر لكونه هالكاً.
وإن كان الثوب على عاتق البائع وفي حجره فعيبه المشتري ثم هلك من غير فعل أخذ به البائع هلك على المشتري؛ لأن (41أ3) كون الثوب على عاتقه أو في حجره لا يصلح أن يكون غصباً، ولهذا لو هبت الريح بثوب إنسان ألقته على عاتقه أو في حجره لا يصير غاصباً، فلا يصير البائع مسترداً، وكذلك لو كان البائع ممسكاً الدابة؛ لأن مجرد إمساك الدابة لا يصلح غصباً، ولهذا جاز للبائع أن يفعل ذلك في المبيع، ولو كان أمسك الثوب أو ركب الدابة فأحدث المشتري فيه عيباً ينقصه ثم لم يمنعه البائع حتى هلك هلك من مال البائع؛ لأن دوام الركوب واللبس يصلح غصباً، ولهذا لو استعار ثوباً يوماً، فدام على اللبس بعد ما مضى اليوم يصير ضامناً، وكذا دوام الركوب على هذا فصار البائع مسترداً للدابة والثوب.(6/296)
ولو كانت دار فهدم المشتري حائطاً منها حتى يصير قابضاً، ثم إن البائع سكن الدار بعد ذلك لا يصير البائع مسترداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر؛ لأن السكنى لا يصلح غصباً موجباً للضمان عندهما، فلا يصير البائع به مسترداً. وعند محمد وهو قول أبي يوسف الأول: السكنى تصلح غصباً للعقار، فيصير البائع مسترداً فبطل الثمن عن المشتري إلا حصة ما هدم.
وصار الحاصل أن المشتري إذا قبض المبيع بغير إذن البائع فإنما يصير البائع مسترداً؛ بما يصير به غاصباً مال الغير حتى أن مجرد التمكن والتخلية لا يصير مسترداً، وهذا بخلاف المشتري، فإن المشتري بمجرد التمكن والتخلية يصير قابضاً.
والفرق: أن التسليم مستحق على البائع، فيجب تعليقه بما في وسعه وهو التمكين والتخلية حتى لا يبقى في العهدة المستحق، أما التسليم غير مستحق على المشتري بعد ما قبض المبيع بغير إذن البائع لما عرف أنه ليس للبائع يد مستحقة على المبيع إنما على المشتري تسليم الثمن، فلو علقنا التسليم بحقيقة الأخذ لا يبقى المشتري في عهدة المستحق.
نوع آخر
إذا باع الرجل من غيره شيئاً هو في يد ذلك الغير: الأصل في هذا النوع من المسائل أن البيعان إذا تجانسا تناوبا؛ لأن التجانس دليل التشابه والمتشابهان ينوب كل واحد منهما عن صاحبه، وإذا تغايرا ناب الأعلى عن الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة، فوجد القبض المحتاج إليه وزيادة شيء، والأدنى لا ينوب عن الأعلى؛ لأن الأدنى من الأعلى قدر بعضه والمحتاج إليه كله، والقبض المستحق بالشراء أن يقبض المشتري لنفسه قبضاً موجباً ضمان نفسه وهو قيمة العين، أما القبض لنفسه؛ لأنه متملك بالشراء، والمتملك في القبض يكون قابضاً لنفسه وأما موجباً ضمان نفسه؛ لأنه ملك بعقد المعاوضة فيكون بعوض، والعوض الأصلي للعين قيمته إلا أنه يصار إلى المسمى قطعاً للمنازعة، ويكون المسمى قيمة اصطلاحية قائمة مقام قيمة العين كما في باب النكاح، فإن منافع البضع مضمون بمهر المثل بقضية الأصل وإنما يصار إلى المسمى قطعاً للمنازعة كذا ها هنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل غصب من آخر جارية أو إناء فضة ووضعه في بيته ثم لقيه واشتراه منه بمئة دينار ونقده الثمن وليس الإناء بحضرتهما صار المشتري قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يصل المشتري إلى بيته هلك من مال المشتري قبل الشراء كان لنفسه، وإنه موجب ضمان نفسه وهو قيمة العين، وكان مجانساً للقبض المستحق بالعقد فناب عنه.
ولو أراد البائع أن يسترد الجارية من المشتري ليحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما أوجب العقد مع علمه بقيام قبض ينوب عن القبض المستحق وذلك يسقط حقه عن العين صار راضياً بسقوط حقه عن العين القبض.(6/297)
ولو كانت العين وديعة في يد المشتري أو عارية فاشتراه لا يصير قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يقبضه المشتري هلك من مال البائع؛ لأن قبض الوديعة والعارية قبض أمانة، وقبض المشتري قبض ضمان فكانا متغايرين، وقبض الأمانة أدنى ولا ينوب عن قبض الشراء. ومعنى آخر يخص الوديعة أن المودع قابض لغيره والمشتري قابض لنفسه، والقبض الواقع للغير كيف ينوب عن المستحق لنفسه، وبه فارق قبض الغصب، فإن ذهب المودع أو المستعير إلى العين أو انتهى إلى مكان يتمكن من أخذه الآن يصير المشتري قابضاً له بالتخلية، فإذا هلك بعد ذلك يهلك من مال المشتري، فإن فعل المشتري في فصل الوديعة والعارية ما يكون قبضاً ثم أراد البائع أن يحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما باعه منه مع علمه أن المبيع في بيت المشتري وهو يتمكن من القبض يصير راضياً بقبض المشتري دلالة، وقبض المشتري برضا البائع يسقط حقه في الحبس، فإن أخذها البائع من بيت المودع قبل أن يصل إليه يد المودع كان له ذلك؛ لأن البائع إنما يصير راضياً بقبض المشتري بطريق الدلالة، والإذن دلالة لا يمكن إثباته مع المنع صريحاً.
ولو كان المبيع بحضرتهما فباعه منه لم يكن للبائع حبسه؛ لأن بيعه منه رضا منه بالقبض دلالة، فمتى كان المبيع بحضرته، وذلك يصلح قبضاً جديداً يثبت القبض بحكم الشراء برضا البائع، فلا يكون للبائع حق الحبس، ولو كان العين رهناً في يد المشتري فالمشتري لا يصير قابضاً له بنفس الشراء؛ لأن قبض الرهن في حق العين قبض أمانة، والضمان الذي يثبت ضمان استيفاء الدين، فإن المرتهن بعقد الرهن يصير مستوفياً الدين بالعين في حق ملك اليد والحبس والاستيفاء يعتمد المجانسة ولا مجانسة بين العبد والدراهم من حيث العين، وإنما المجانسة بينهما من حيث المالية، فكان القبض في حق العين، فلا ينوب قبض الرهن عنه، فلا يصير قابضاً بنفس الشراء، فإذا ذهب إلى بيته وانتهى إلى مكان يتمكن من قبضه حقيقة الآن يصير قابضاً بالتخلية.
وإذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وقبض المشتري الإبريق ولم ينقد الدنانير حتى افترقا وبطل الصرف لعدم قبض أحد البدلين في المجلس كان على المشتري رد الإبريق على البائع، فإن وضع المشتري الإبريق في بيته ولم يرده حتى لقي البائع واشترى الإبريق منه..... مستقبلاً بدنانير ونقد الثمن ثم افترقا فالبيع جائز ويصير قابضاً الإبريق بنفس الشراء؛ لأن الإبريق بعد بطلان عقد الصرف مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك قبل التسليم إلى البائع يهلك مضموناً بالقيمة، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض المشتري، فحصل الافتراق بعد قبض البدلين فلا يبطل الصرف.
ولو اشترى رجل من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا (وتقا) يلا ثم إن المشتري(6/298)
اشتراه ثانياً من البائع قبل أن يسلمه إلى البائع صح الشراء على ما مر لا يصير المشتري قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يحدد المشتري قبضاً يهلك بالعقد الأول ويبطل الإقالة والبيع الثاني لا بعد الإقالة العين في هذه الصورة مضمون على المشتري بالثمن حتى لو هلك في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع يبطل الإقالة ويعود حكم العقد الأول حتى يلزمه الثمن ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء.
ولو اشترى رجل من رجل غلاماً بجارية وتقابضا وجعل كل واحد منهما ما اشترى في منزله ثم تقايلا، ثم اشترى أحدهما من مال صاحبه ما أقاله إياه قبل أن يدفعه إليه حتى جاز الشراء صار المشتري قابضاً له بنفس الشراء حتى لو هلك أحدهما قبل الرد لا تبطل الإقالة، وكان على الذي هلك في يده قيمته، وهذا لأن في بيع العرض بالعرض يصح ابتداء الإقالة بعد هلاك أحدهما (41ب3) وإذا لم تبطل الإقالة بهلاك أحدهما لا يعود حكم العقد الأول فبقي مضموناً ضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا اشترى بدراهم؛ لأن هناك محل الإقالة والتصرف لا يبقى بعد فوات محله، فتبطل الإقالة بهلاك العبد ويعود حكم العقد الأول، فكان العبد مضموناً بالثمن أما ههنا بخلافه، هذا إذا تقايلا العبد مع الجارية قائمين.
فأما إذا تقايلا العقد بعدما هلك العبد بعد التقابض صحت الإقالة، ووجب على مشتري العبد قيمة العبد. فإن اشترى من في يده الجارية في هذه الصورة الجارية من بائعها قبل أن يدفعها إليه وليست الجارية بحضرتهما ثم ماتت الجارية بعد الشراء الثاني قبل أن يحدد المشتري لها قبضاً هلكت بالشراء الأول وبطلت الإقالة والشراء الثاني؛ لأن الجارية بعد هلاك العبد مضمونة على المشتري بغيرها وهو قيمة العبد حتى لو هلكت بعد الإقالة قبل الشراء الثاني هلكت بقيمة العبد ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء.
ولو كانا قائمين بعد الإقالة ثم اشترى كل واحد منهما من صاحبه ما في يده بدراهم ثم هلكا معاً أو على التعاقب هلك كل واحد منهما من مال من اشتراه؛ لأن كل واحد منهما مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك أحدهما بعد الإقالة قبل الشراء تجب قيمته، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء. ولو اشترى جارية بدراهم على أن المشتري بالخيار فيه ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري البيع بخيار الشرط، فلم يردها على البائع حتى اشترى منه شراء مستقبلا صح؛ لأن الرد بحكم خيار الشرط فسخ في حق الناس كافة، وكذلك ينبغي أن يصح شراء الأجنبي من البائع قبل قبض البائع؛ لأن الرد بخيار الشرط فسخ في حق الناس كافة فلو هلكت الجارية قبل أن يصل إليها يد المشتري بطل الشراء الثاني والفسخ وهلك بحكم الشراء الأول؛ لأن المبيع في خيار الشرط بعد الفسخ مضمون على المشتري بضمان غيره وهو الثمن؛ ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء. وإذا هلكت الجارية هلكت بالشراء؛ لأن المشترى بشراء الخيار للبائع مضمون على المشتري بضمان نفسه وهو القيمة قبل الفسخ وبعد الفسخ، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء.(6/299)
والجواب في الرد بخيار الرؤية وبخيار العيب نظير الجواب فيما إذا كان البيع بشرط الخيار للمشتري؛ لأن هذا الخيار لا يمنع زوال ملك البائع كخيار المشتري فيكون الجواب عنهما على السواء.
وإذا أرسل الرجل غلامه في حاجته ثم باعه من ابن صغير له حي جاز العبد حتى مات مات من مال الأب؛ لأن قبض الأب أمانة ولأنه قبض لنفسه فلا يقع عن قبض مضمون لغيره، فإن لم يمت الغلام حتى رجع إلى الولد وتمكن من القبض صار قابضاً له عن ولده، وإذا لم يرجع العبد حتى بلغ الغلام ثم رجع العبد إلى الولد لم يصر قابضاً للولد حتى لو هلك هلك على الولد وانتقض البيع فيكون القبض في هذا إلى الولد.
فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى الوالد لولده الصغير من غيره ثم بلغ قبل القبض، فإن القبض وتسليم الثمن يكون إلى الوالد واستفاء الحقوق يكون له أيضاً، وفي شراء الوالد لولده من نفسه ترجع الحقوق إلى الولد متى بلغ. والفرق: أن الاب إذا اشترى من نفسه، فالعقد في حق الحقوق ما وقع للأب؛ لأن الأب هو المملك، فلا يجوز أن يثبت له على نفسه حقاً، وكانت الحقوق ثابتة للصغير على الأب يستوفيه بحكم النيابة عن الصغير، فإذا بلغ وصار أهلاً للاستيفاء بنفسه بطلت النيابة وعاد إلى الأصل، فأما إذا اشترى من غيره فالعقد في حق الحقوق وقع للأب؛ لأنه لم يوجد المانع من ذلك، والقبض من حقوق العقد، وبعد البلوغ لم يوجد ما يغير العقد فلا يتغير حقوقه فبقي حق القبض واقعاً للأب والله أعلم.
نوع آخر في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض
إذا أمر المشتري البائع أن يعمل في المبيع عملاً، فإن كان ذلك العمل لا ينقصه مثل القصارة والغسل بأجر أو بغير أجر لم يصر قابضاً والأجرة واجبة، وإن كان ذلك العمل مما ينقصه فهو قبض، والفرق وهو أن العمل إذا كان ينقصه فهو استهلاك الجزء من المبيع وذلك غير مملوك للبائع، فإذا حصل بأمر المشتري صار كأن المشتري فعل بنفسه فيصير قابضاً، فأما إذا كان لا ينقصه الفعل المأمور به، فذلك الفعل مملوك للبائع؛ لأنه فيما يرجع إلى نفس الثوب إمساك، وما يحدث في الثوب من الوصف يفعله من قصارة أو غير ذلك، فذلك وصف زائد يتصل بالمبيع حصل بإذن المشتري فبقي تصرفه في المبيع إمساكاً، فيكون مقصوراً على الفاعل، فلا يصير به قابضاً إلا أنه يجب الأجر؛ لأن هذا العمل غير مستحق على البائع فصح ذكر البدل في مقابلته، هكذا ذكر في «شرح القدوري» .
وفيه أيضاً: لو أرسل المشتري العبد في حاجته صار قابضاً؛ لأنه صار مستعملاً له (و) بالاستعمال تثبت يد المستعمل على المحل. ألا ترى أن الأجنبي يصير به غاصباً وطريقه ما قلنا.
وكذلك لو أعاره المشتري أجنبياً أو أودعه أجنبياً يصير قابضاً؛ لأنه أثبت يد غيره على المحل فيصر كما لو أثبت يد نفسه، وهناك يصير قابضاً فكذا ههنا. ولو أعاره(6/300)
المشتري البائع أو أودعه إياه أو آجره منه، فإن المشتري لا يصير قابضاً به؛ لأن يد البائع ثابتة على المحل للحبس، فلا يتصور ثبوتها بجهة أخرى مع قيام الأولى كما كانت صار الحال بعد هذا التصرفات والحال قبلها سواء.
في «الجامع» : إذا قال المشتري للبائع: قل للعبد يعمل لي كذا، فأمره البائع فعمل صار المشتري قابضاً؛ لأنه جعل البائع رسولاً ينتقل إلى المرسل، فكأن المشتري قال للعبد: اعمل كذا فعمل، وهناك ينتقل المشتري قابضاً كذا ههنا. ولو كان المشتري أجره من البائع شهراً فاستعمل البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر؛ لأن هذه إجارة فاسدة، وفي الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد التسليم هنا إلى المستأجر إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائباً عن المشتري في القبض، فلم يتحقق التسليم، فكيف يجب الأجر؟.
في «النوازل» : إذا اشترى عبداً بثمن معلوم فلم يقبضه حتى أمر البائع أن يؤاجره من إنسان معين، فأجره جاز ويصير المشتري قابضاً له، والغلة التي يأخذها البائع تجب من الثمن؛ لأن الأمر من المشتري قد صح؛ لأنه صادف ملكه والمستأجر ينتصب نائباً عنه في القبض ثم يصير قابضاً لنفسه بحكم العقد.
وفي «العيون» : إذا اشترى غلاماً فلم يقبضه حتى وهبه لرجل أو رهنه وأمره بالقبض فقبض جاز، ولو آجره وأمر المستأجر بالقبض لم يجز والفرق أن الهبة والرهن إنما تصح بعد التسليم، وعند التسليم يصير قابضاً فيكون الرهن والهبة نافذاً بعد قبض المشتري، ولا كذلك الإجارة.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر كر حنطة بعينه وكر شعير بعينه، فلم يقبضه المشتري حتى خلطهما البائع، قال: يقوم كر من هذا أي من المخلوط ويقوم الحنطة قبل الخلط ثم يقسم ثمن الحنطة عن المشتري ما دخل الحنطة من النقصان ويأخذ (42أ3) المشتري الكر ويأخذ الشعير بثمنه. وكذلك لو باعه رطلاً من زنبق ورطلاً من بنفسج، فخلطهما. ولو باعه (رطلاً) من زنبق ومئة رطل من زيت وخلط الزنبق بالزيت فقد بطل في الزنبق البيع؛ لأن البائع استهلكه وللمشتري أن يأخذ الزيت إن أحب، فيأخذ مئة رطل ولا خيار فيه وإن كان ذلك لم ينقصه.
و (لو) أن رجلاً كان في خابيته زيت عشرة أرطال، فاشتراها منه رجل فلم يقبضها حتى خلطها البائع بما في الخابية كان المشتري في أخذه بالخيار؛ لأن البائع خلطها بمتاعه.
رجل باع من رجل عبداً بألف درهم فلم يقبضه المشتري، باعه البائع من رجل آخر ودفعه إليه فمات في يد المشتري الثاني أو وهبه له ودفع إليه ومات في يده، أو أعاره إياه ودفعه إليه فمات في يده، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء نقض البيع واسترد الثمن إن كان قد دفع الثمن، وإن شاء أمضى البيع وضمن المشتري الثاني قيمة العبد يوم قبضه،(6/301)
وكذلك في الهبة والعارية، ولا يرجع الموهوب له ولا المستعير على البائع بشيء، وإن اختار الأول نقض البيع ونقضه، فللبائع أن يُضَمِّن المشتري الثاني قيمته يوم دفعه إليه، وكذلك في الهبة والعارية؛ لأن العبد إنما صار له بعد قبض المشتري الأول وبيعه.
ولو كان البائع آجره من رجل أو أودعه إياه فمات في يده انتقض البيع ولا سبيل للمشتري على تضمين واحد منهما؛ لأنه إن ضمنه رجع به على البائع، وإذا كان كذلك صار كأنه مات في يد البائع والرهن نظير الإجارة والوديعة رواه هشام عن محمد رحمه الله. وعن أبي يوسف: إذا أودع البائع العبد المبيع قبل التسليم إلى المشتري من رجل ودفعه إليه أو أعاره إياه أو أجره ودفعه إليه، فمات عنده من غير عمله، فلا ضمان عليه ولا على البائع.
ولو مات عبد المستعير من عمله المودع فمات من ذلك، فإن شاء المشتري أمضى البيع واتبع المستعير والمستودع بالقيمة، وإن شاء نقض البيع وكان للبائع أن يضمن المستودع القيمة؛ لأنه استعمله بغير أمره وليس له أن يضمن المستعير؛ لأنه استعمله بأمره، وأما المستأجر فإن عطب من عمله فليس للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه رجع على البائع؛ لأن البائع غره وليس على المستعير غرر.d
ولو كان البائع أجر رجلاً أن يقتله فقتله فالمشتري بالخيار إن شاء ضمن القاتل قيمته ودفع الثمن إلى البائع، وإن شاء نقض البيع، فإن ضمن القاتل فالقاتل لا يرجع على البائع؛ لأن القتل ليس فيه غرر، ولو كان مكان العبد ثوباً فقال البائع لخياط: اقطعه لي قميصاً بأجر أو بغير أجر لا يكون للمشتري أن يضمن الخياط؛ لأن الخياط يرجع بالقيمة على البائع.
رجل باع شاته من رجل وأمر البائع رجلاً حتى ذبحها، فإن كان الذابح يعلم بالبيع فللمشتري أن يضمن الذابح ولا يرجع الذابح به على الآمر، وإن كان الذابح لا يعلم بالبيع لم يكن للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه يرجع به على البائع الآمر، فيصير كأن البائع ذبح بنفسه.
نوع آخر
فيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم المبيع والثمن: الأصل أن مطلق العقد يقتضي تسليم المعقود عليه وقت العقد، ولا يقتضي تسليمه في مكان العقد، هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا، حتى إنه لو اشترى حنطة وهو (في) المصر والحنطة في السواد يجب تسليمها بالسواد. ومن الناس من قال: يجب تسليمها حيث عقدا العقد قبيل باب السلم. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: أن من اشترى تمراً على نخل، فجزه على المشتري. في «المنتقى» : أنه إذا باعه مجازفة فالجواب كذلك، وإذا باعه مكايلة فعلى البائع أن يقطعه ويكيله، وكذلك الجز والقطع والتسليم على المشتري، وكذلك قلع البصل هكذا ذكر في رواية ابن سماعة. وذكر في «المنتقى» أن على البائع قلع أنموذج قدر ما برأه المشتري، فإذا رضي به كان القلع على المشتري. وفي «المنتقى» : إذا اشترى(6/302)
حنطة في سعفه فالإخراج على المشتري، وكذلك إذا باع حنطة في جراب أو ثوباً في جراب باع الحنطة والثوب دون الجراب ففتح الجراب على البائع، والإخراج من الجراب على المشتري وأجرة الكيال والوزان والذراع والعداد على البائع إذا باعه مكايلة أو موازنة أو مذارعة؛ لأن الكيل والوزن فيما باع مكايلة أو موازنة من تمام التسليم، والتسليم على البائع فما يكون من تتمته يكون عليه.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً رحمه الله عمن اشترى شيئاً بدراهم فعلى من الانتقاد وقد زعم المشتري أن دراهمه جياد قال: القول له؛ لأن الدراهم كلها جياد حتى يتبين لنا غير ذلك، فإن قال البائع هي رديئة فالقول قول المشتري وعلى البائع أن يجيء بالناقد والأجرة عليه.
وعن إبراهيم عن محمد أن الانتقاد على المستوفي والوزن على الموفي، يريد أن انتقاد الثمن على البائع ووزن الثمن على المشتري. وفي «العيون» : أن أجرة وزان الثمن والناقد على المشتري، وكان الصدر الشهيد يقول بأن أجرة الناقد على المشتري ونفتي به.
وروي عن محمد أنه جعل أجرة الناقد على من عليه الدين إلا أن يقتضي دينه رب الدين ثم يدعي أنه من غير نقده، فيكون الأجر على رب الدين.
والفرق بينهما قبل القبض وبينهما بعد القبض على هذه الرواية: أن الواهب على المديون إيفاء دراهم مقدرة جيدة، فكان النقد قبل القبض لإيفاء الحق في الجودة كما أن الوزن لإيفاء الحق في القدر، ثم أجرة الوزان على المديون، فكذا أجرة الناقد، فأما إذا قبض رب الدين فقد دخل في ضمانه، فإذا ادعى أنه على خلاف حقه كان النقد محتاجاً إليه ليتمكن من الرد، وذلك يقع لرب الدين فيكون الأجر عليه.
ولو اشترى وقد دخل في المصر فحملها إلى بيت المشتري على البائع، ولو هلك في الطريق من مال البائع. ولو اشترى حنطة في سنبلها فتخليصها بالكدس والتذرية على البائع؛ لأن التسليم لا يتهيأ بدون ذلك وصبها في وعاء المشتري على البائع بحكم العرف، وصب الماء من القربة على البائع أيضاً بحكم العرف.
ولو اشترى داراً وطلب من البائع أن يكتب صكاً على الشراء لا يجبر البائع عليه وإن كتب المشتري الصك من مال نفسه وأمره بالإشهاد لا يجبر على الخروج إلى الشهود، وإن أبى الشهود يجبر على إشهاد شاهدين، وهو أن يقر بين شاهدين، فإن أبى البائع يرفع المشتري الأمر إلى القاضي، فإن أقر بين يد القاضي كتب له سجلاً وأشهد عليه.
الفصل الرابع: في المسائل التييْتعلق بالثمن
قال محمد رحمه في كتاب الصرف: إذا اشترى الرجل من آخر شيئاً بألف درهم أو بمئة دينار ولم يسمِ شيئاً، فهذا على وجهين:(6/303)
الأول: أنه يكون في البلد نقد واحد معروف في هذا الوجه جاز العقد، وينصرف إلى نقد البلد بحكم العرف؛ لأن الناس يتبايعون بنقد البلد والمعروف كالمشروط.
الوجه الثاني: إذا كان في البلد نقود مختلفة، وإنه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الكل في الرواج على السواء ولا صرف لبعضها على البعض، وفي هذا الوجه جاز العقد، وإن كان الثمن مجهولاً إذ لم يصر نقد من النقود معلوماً لا بحكم العرف ولا بحكم التسمية إلا أن هذه (42ب3) جهالة لا توقعهما في منازعة مانعة من التسليم والتسلم، وإن كان لبعضها صرف على البعض والكل في الرواج على السواء كما في العطارف العدال في الزمان السابق لا يجوز البيع؛ لأن الجهالة ههنا توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم، وإن كان لبعضها فضل على البعض إلا أن واحداً منهما أروج، فإنه يجوز لأن العقد ينصرف إلى الرواج.
في «كتاب الصرف» أيضاً: إذا اشترى الرجل مئة فلس بدرهم فنقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس: أن لا ينقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدراهم كما لو تعيب المبيع قبل القبض، وبالقياس أخذ زفر. وجه ذلك: أن بالكساد لم يهلك ما تعلق العقد به قبل القبض بل تعيب؛ لأن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن؛ لأن الفلوس صارت ثمناً باصطلاح الناس، وبالكساد لم تزل الثمنية من كل وجه؛ لأن بعد الكساد يباع وزناً والموزون ثمناً، وإذا بقيت الثمنية من وجه بقي ما تعلق به العقد لكنه صار معيباً من حيث إنه لم يبقَ ثمناً باعتبار العدد، والعيب لا يوجب انتقاض المبيع إنما يوجب الخيار كما لو تعيب المبيع قبل القبض.
وكما لو اشترى شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوانه فهذا هو وجه القياس، وفي «الاستحسان» : ينتقض العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض. بيانه: أن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن باعتبار العدد وبالكساد بطلت الثمينة باعتبار العدد، فإن بعد الكساد يباع وزناً لا عدداً، وقولنا بلا خلاف انتباه إلى أن بعد الكساد وإن كانت تباع وزناً، والموزون يصلح ثمناً؛ لأن الثمنية من حيث الوزن لم تحدث بالكساد حتى يجعل حلها عن الثمنية من حيث العدد، وإنما زالت الثمنية من حيث الوزن بالاصطلاح على الثمنية من حيث العدد، فإذا زالت بالاصطلاح على العدد عادت الثمنية باعتبار الوزن الذي كان في الأصل بسبب الكساد، وليس كالمبيع إذا هلك وجب القيمة؛ لأن هناك القيمة وجبت بسبب القتل؛ لأنها لم تكن واجبة قبل القتل بل وجبت ابتداءً بمقابلة المبيع، فكانت خلفا عن المبيع بخلاف الرطب إذا انقطع أوانه؛ لأن هناك ما تعلق به العقد لم يهلك؛ لأن العقد متعلق بالرطب من حيث إنه ثمن، وثمنية الرطب من حيث إنه مكيل وقد بقي مكيلا بعد الانقطاع، إلا أنه لا يوجد في أيدي الناس والشراء بثمن ليس عنده حالة العقد ولا عند آخر جائز، فإنه لو اشترى برطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، فلأن يبقى أولى.(6/304)
وإذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع؛ لأنها هلكت، وإن كانت تروج ولكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع، وليس للبائع إلا ذلك؛ لأنها لا تهلك.
وفي «عيون المسائل» : إن عدم الرواج إنما يوجب فساد البيع إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى البيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة ويروج في غيرها، فلا يفسد المبيع؛ لأنه لم يهلك ولكنه يعيبه، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعط مثل النقد الذي عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمته ذلك دنانير، قالوا: وما ذكر في «العيون» مستقيم على قول محمد رحمه الله، أما لا يستقيم على قولهما إذ يكتفي لفساد المبيع في كل بلدة بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين عندهما يجوز اعتباراً لاصطلاح بعض الناس، وعند محمد رحمه الله: لا يجوز اعتباراً لاصطلاح الكل، والكساد يجب أن يكون على هذا القياس أيضاً.
وذكر في كتاب الصرف: إذا اشترى بدراهم ونقد الثمن ولم يقبض الفلوس حتى كسدت بطل البيع استحساناً، وإن كان قبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى كسدت الفلوس، فالبيع جائز والدراهم دين على حالها؛ لأن العقد قد انتهى في الفلوس بالقبض، فهلاكها بالكساد لا يؤثر في العقد.
ولو اشترى بفلوس فاكهة أو غيرها وقبض ما اشترى ولم ينقد الفلوس حتى كسد بطل استحساناً.
وفي «القدوري» في باب استقراض الفلوس: إذا اشترى بفلوس وكسدت قبل القبض فسد العقد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يفسد العقد وفي «المنتقى» : إذا كسدت الفلوس قبل القبض فعلى المشتري قيمة الفلوس في قول أبي يوسف، وهذه إشارة إلى أن العقد لا يفسد على قوله.
وذكر محمد في كتاب الرهن مسألة تدل على أن البيع لا ينتقض بهلاك الفلوس قبل القبض، وصورتها: رجل رهن من آخر فلوساً تساوي عشرة بعشرة، فكسدت فهي رهن على حالها حتى لو هلكت هلكت بالعشرة، ولو كان الكساد بمنزلة الهلاك لسقط الدين بمجرد الكساد، والمشايخ اختلفوا في هذه المسألة، بعضهم قالوا: ينتقض البيع كما ذكر في كتاب الصرف، وبعضهم قالوا: لا ينتقض، واستدلوا بمسألة الرهن. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يصحح رواية كتاب الصرف، وشيخ الإسلام يصحح رواية الرهن، وهذا القائل يقول معنى قول محمد في كتاب البيع يبطل البيع أنه يخرج من أن يكون لازماً حتى لا يجبر البائع على القبض دفعا للضرر عنه، أما لو اختار البائع الأخذ فله ذلك.
وعن أبي يوسف أنه إذا اشترى فلوساً بدراهم أو دنانير وكسدت الفلوس قبل القبض بطل البيع، وإذا اشترى بالفلوس شيئاً فاكهة أو عرضاً وكسدت الفلوس قبل القبض لا يبطل البيع، والفرق: أن الفلوس الرائجة ثمن بيع الفلوس والشراء بها بيع الثمن والشراء،(6/305)
وبالكساد تصير مبيعة بمقابلة الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان من كل وجه، فلو اتقينا ذلك البيع اتقينا على المبيع، وإنه ما ورد على المبيع فبطل ضرورة، فأما بمقابلة العرض والفاكهة يمكن أن يجعل الفلوس الفاسدة ثمناً؛ لأن العرض والفاكهة مبيع والفلوس بمقابلة المبيع يمكن أن تجعل ثمناً باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى فلوساً بدراهم وبمد من دقيق بعينه، فقبض المد والدراهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت فسد البيع في قياس أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: ينتقض البيع في حصة الدراهم ويجوز في الدقيق بحصته وعليه قيمة الفلوس تلك الحصة من الدراهم أو الفلوس هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت بأن ازدادت قيمتها، فالبيع على حاله ولا يخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العنان الذي كان وقت البيع.
وفي «المنتقى» : إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف رحمه الله: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرنا من الجواب في الكساد فهو الجواب، والانقطاع إذا انقطعت الدراهم عن أيدي الناس قبل القبض فسد المبيع عند أبي حنيفة، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة في البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في يد الصيارفة فهو ليس بمنقطع، والأول أصح وسيأتي جنس هذه المسائل في مسائل السلم (43أ3) إن شاء الله.
وفي «المنتقى» : قال أبو حنيفة: كل ما يكال أو يوزن إذا كان ثمناً بغير عينه وقد انقطع عن أيدي الناس أن الطالب بالخيار إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة بيعه، فقد حكم بفساد العقد حتى أوجب قيمة المبيع، وقال أبو يوسف: إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة الثمن قبل انقطاعه بلا فضل، ولأبي يوسف في هذا قول آخر أن عليه قيمة الثمن يوم وقع البيع وهو قوله وعليه الفتوى. وكذلك الدراهم والفلوس إذا انقطع عن أيدي الناس قبل القبض، فللبائع قيمة الدراهم والفلوس يوم وقع البيع في قول أبي يوسف الآخر وعليه الفتوى.
وروى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» في رجل اشترى من عبده شيئاً بألف درهم غلة، والغلة يوم اشترى طبرية ويزيدية، فكسدت الطبرية فإن عليه أن يعطيه غلة سوى الطبرية ما يقع عليه اسم الغلة، وإن أبى واحد منهما أجبر عليه. ولو باع سلعة بكذا ديناراً حتى كان له نقد الناس، فكسد صنف من الدنانير ما كان يجوز مثله فله نقده من الدنانير التي تجوز بين الناس، ولو باع شيئاً بدراهم مسماة مكروهة فكسد صنف من المكروهة أي المكحلة، فإن عليه أن يعطيه الصنف الباقي منها، ولو باعه بألف درهم طبرية والطبرية على صنفين صنف غلة وصنف نقد بيت المال كان له الطبرية الغلة الجائزة بين الناس. ولو كسدت لم يكن له من الطبرية المقدسي، وإنما له قيمة الكاسدة من الذهب، وهذا قول أبي يوسف فقد أشار إلى أن البيع لا يفسد بالكساد إذ لو فسد لوجب قيمة المبيع، ثم(6/306)
إذا فسد البيع بالكساد أو بالإنقطاع على قول من يقول به، فإن لم يكن المبيع مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وإن كان مقبوضاً إن كان قائماً رده على البائع، وإن كان مستهلكاً أو هالكاً يرجع البائع عليه بقيمة المبيع إن لم يكن المبيع مثلياً وبمثله إن كان مثلياً.
دلال باع متاع الغير بإذنه بالدراهم واستوفى الدراهم فقبل أن يدفعها إلى صاحب المتاع كسدت الدراهم، فليس للدلال على المشتري سبيل؛ لأن حق القبض للدلال؛ لأنه هو العاقد وقد قبض.
وفي «النوازل» : رجل باع من آخر شيئاً بألف درهم فوزن له المشتري ألفاً ومئتي درهم فقبضها البائع ثم ضاعت من يده فهو مستوف للثمن ولا ضمان عليه؛ لأنه بقدر الألف استوفى حقه، وفيما زاد فهو مؤتمن فيه، فإن ضاع نصفها فالنصف الباقي على ستة أسهم، فالأصل أن المال المشترك إذا هلك منه شيء، فالهالك يهلك على الشركة، فلو عزل منها مئتي درهم، فضاعت المئتان يردها كان الألف بينهما على ستة أسهم لما قلنا. ولو ضاعت الألف فللبائع أن يرجع في المائتين بخمسة أسداسها.
وإذا باع جارية بألف درهم، فدفع إليه المشتري كيساً على أن فيه ألف درهم فذهب به البائع إلى المنزل، فإذا فيه دنانير فحمل الدنانير ليردها فضاعت في الطريق فلا ضمان عليه؛ لأنه أخذ بإذن فكان أميناً.
وإذا اشترى شيئاً وأعطى دراهم صحاحاً فكسرها ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف عليه مالاً، وكذا إذا دفع إليه إنسان لينظر.
في «فتاوي أبي الليث» وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا باع بدراهم جياد ودفع المشتري الدراهم، فأراها البائع رجلاً فأنقدها فوجد فيها قليل نبهرجة، فاستبدل وأراد أن يصرف في شراء الحوائج فلم يأخذها آخذ، وقالوا: كلها نبهرجة إن كان أقر البائع أنها جياد لا يرد؛ لأنه مناقض إلا إذا صدقه المشتري، وإن لم يكن أقر بذلك يرد؛ لأنه مناقض.
الفصل (الخامس) : فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحاً، وما يدخل تحته من غير ذكره صريحا
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منها قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى منزلاً فوقه منزل فليس له الأعلى إلا إذا قال بكل حق هو له، أو قال بمرافقه، أو قال قليل أوكثير هو فيه أو منه وعلم بأن ههنا ثلاث مسائل مسألة في بيع الدار، ومسألة في بيع المنزل، ومسألة في بيع البيت، ففي المنزل الجواب ما قلنا. وبيع الدار يدخل العلو تحت البيع وإن لم يذكر كل حق هو لها أو ما أشبه ذلك، كما يدخل السفل وإن لم يذكر كل حق هو لها أو(6/307)
ماأشبه ذلك، وفي بيع البيت لايدخل العلو تحت (البيع) إلا بالتنصيص عليه، وهذا لأنَّ العلو بمنزلة البناء من وجه، وبمنزلة بيت آخر من وجه من حيث إن قوام العلو بالسفل هو بمنزلة البناء؛ لأن قوام البناء بالأرض، ومن حيث إنه يبنى لينتفع بنفسه لايصير السفل منتفعاً به فهو كبيت آخر، بخلاف البناء فإنه لا يبنى على الأرض لينتفع بنفسه، وإنما يبني ليصير داخل البيت منتفعاً بالبيت، فكان البناء تبعاً للأرض قواماً وانتفاعاً، فإذا كان العلو بينهما كان يجب أن يوفر على الشبهين حظهما في المسائل كلها فيجعل العلو منزلاً بين منزلين في المسائل كلها، فيقال: متى ذكر الحق يدخل العلو وإن لم يذكر العلو نصاً كالبناء يدخل من غير ذكره ومتى لم يذكر الحق لا يدخل كبيت آخر، إلا أن العمل بالشبهين على هذا الوجه متعذر في المسائل أجمع لما فيه من التسوية بين اسم الدار والبيت والمنزل في الاستتباع ولا يجوز التسوية بين هذه الأسماء في الاستتباع؛ لأن معاني هذه الأسماء متفاوتة في العموم والخصوص، فإن اسم الدار أعم من اسم البيت والمنزل من حيث المعنى، فإن الدار مشتقة من الدوران في موضع أدير عليه، فكان الاسم مأخوذاً من الدوران من إدارة الحائط، وفي الدوران نزول كما في المنزل، وبيتوته كما في البيت؛ لأن الدوران يكون بالنهار والمنزل أخص من الدار؛ لأنه مأخوذ من النزول دوران أما فيه بيتوته إلا أنه أعم من البيت؛ لأن البيت موجود من البيتونة عبارة عن
المقام ليلا ونهاراً، فكانت الدار أعم من المنزل، والبيت أخص من الدار والمنزل جميعاً، فألحق العلو بالبناء في الدار حتى يظهر اسم الدار وإنه أعم زيادة رتبة في الاستتباع ليس ذلك للمنزل، قلنا: إن ذكر الحق يستتبع العلو، وإن لم يذكر لا يستتبع العلو حتى يظهر نقصان رتبة المنزل في الاستتباع عن رتبة الدار، وفي البيت قلنا: لا يدخل العلو إلا بالتنصيص عليه.
وذكر محمد بن مقاتل الرازي في شروطه أن العلو إنما يدخل في بيت المنزل بذكر الحقوق أو المرافق أو بذكر كل قليل وكثير هو فيها ومنها إذا كان طريق الصعود إلى العلو في منزل الأسفل، فأما إذا كان في غيره فلا أعرف عن أصحابنا لهذا رواية، ويحتمل أن لا يدخل.
ويدخل الكنيف الشارع في الدارفي بيع الدار، وإن لم يذكر بكل حق هو لها؛ لأن الكنيف من حقوق الدار؛ لأن قراره على الدار، ولأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط والحائط أدير على الكنيف، فيكون الكنيف من الدار، فيدخل تحت بيع الدار من غير ذكر.
وأما الظلة التي تكون على الطريق وهي الساباط التي أحد طرفيه على جدار هذه الدار والطرف الآخر على جدار دار أخرى أو على الأسطوانات خارج الدار لا يدخل تحت بيع الدار إلا بذكر كل حق هو لها وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل وإن (43ب3) لم يذكر كل حق لها إذا كان مفتحها إلى هذه الدار؛ لأن قرار الظلة في الدار كانت بمنزلة العلو والكنيف، ولأبي حنيفة أن قرار أحد طرفي الظلة لما كان(6/308)
بالأسطوانات خارج الدار وبدار أخرى كانت الظلة تبعاً للدار المبيعة من وجه دون وجه، فلكونها تبعاً للدار المبيعة لا يشترط التنصيص عليها لدخولها في بيع الدار، ولكونها تبعاً للدار المبيعة اكتفينا بذكر الحقوق لدخولها في بيع الدار عملاً بالشبهين، وإذا ذكر الحقوق.
والمرافق يدخل الظلة عند أبي حنيفة في البيع إذا كان مفتحها إلى الدار المبيعة، وإن لم يكن مفتحها إلى الدار المبيعة لا يدخل، وإن ذكر الحقوق أو المرافق، قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي في «شرح الجامع الصغير» : هذا الذي ذكر محمد في «الكتاب» من الفصل بين الدار والمنزل والبيت في الجواب عرف أهل الكوفة، فأما في عرف بخارى يدخل العلو من غير ذكر اسم، سواء باع باسم الدار والمنزل والبيت؛ لأن في ديارنا المسقف بسقف واحد قلما يكون، وكل مسكن يسمى خانة سواء كان كبيراً أو صغيراً إلا دار السلطان، والعلو يدخل من غير ذكر على كل حال.
ويدخل في بيع الدار المخرج والمربط والمطبخ والبئر ذكروا المرافق أو لم يذكروا، وفي بيع منزل من الدار وبيت من الدار لم تدخل هذه الأشياء إلا بذكر؛ لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط، فكل ما هو داخل في بيع الدار، فأما اسم المنزل من النزول واسم البيت من البيتوتة وهذه الأشياء سوى البيت في معنى النزول والبيتوتة فيها على السواء، فتكون هذه الأشياء منازل وبيوتاً باعتبار الاسم، وهو إنما ذكر في البيع منزلاً واحداً وبناء واحداً فلا تدخل هذه الأشياء تحت البيع.Y
والبئر لا يتأتى فيه النزول والبيتوتة فلا يدخل تحت اسم المنزل والبيت، ويشترط التنصيص على هذه الأشياء ولا يكتفى بذكر الحقوق والمرافق؛ لأن حقوق الشيء ما يقصد إليه لأجل ذلك الشيء لا بعينه، وهذه الأشياء مقصودة بنفسها من غير المنزل والبيت فلا تكون من حقوقها ومرافقها.
والحاصل أن الحق في العادة يذكر فيما هو تبع للمبيع ولابد للمبيع منه، ولا يقصد إليه إلا لأجل المبيع كالشرب والطريق في الأرض، والمرافق عبارة عما يرتفق به ويختص بما هو من التوابع كالشرب للأرض ومسيل الماء وقوله: كل قليل أو كثير يذكر على وجه المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وما هو متصل بالمبيع، وهذا إذا كان المخرج والمربط في الدار المبيعة. فأما إذا كان في دار أخرى متصلاً بالدار المبيعة لا تدخل هذه الأشياء تحت بيع الدار.
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى بيتاً في دار أو منزلاً لا يدخل الطريق ومسيل الماء من غير ذكر، وكذلك إذا اشترى أرضاً لا يدخل الشرب في الشراء من غير ذكر، وفي الإجارة تدخل هذه الأشياء من غير ذكر، والفرق: أن الإجارة تعقد للانتفاع، ولهذا لا يجوز إجارة ما لا ينتفع به في الحال كالمُهْر الصغير والأرض السبخة ولا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء إلا بالطريق ومسيل الماء والشرب للمستأجر لا يشتري هذه الأشياء عادة ولا يجد ليستأجر، ولو استأجر الطريق الذي لصاحب الدار لا يجوز، فتدخل هذه الأشياء في الإجارة تصحيحاً لها، فأما البيع فلا يعقد للانتفاع عيناً بل يعقد للانتفاع،(6/309)
وتحصيل العين المتقوم ممكن بدون الطريق فلا ضرورة إلى إدخاله في البيع، فلا يدخل إلا بالتنصيص أو بذكر الحقوق أو بذكر المرافق، وأراد بالطريق الذي لا يدخل في بيع الأرض والدار من غير ذكر الطريق الخاص.
والطريق ثلاثة: طريق إلى الطريق الأعظم، وطريق إلى سكة غير نافذة، وطريق خاص في ملك إنسان، فالطريق الخاص في ملك الإنسان لا يدخل في البيع من غير ذكر إما نصاً وإما بذكر الحقوق والمرافق، والطريقان الآخران يدخلان في البيع من غير ذكر، وكذا مسيل الماء في ملك خاص وحق إلقاء الثلج في ملك خاص لا يدخل في البيع إلا بالذكر إما نصاً أو بذكر الحقوق والمرافق.
وإذا باع بيتاً من دار ولم يذكر الطريق ولا الحقوق ولا المرافق حتى لم يدخل الطريق في البيع، فللمشتري أن يزداد قال: يرد، أو قال: ظننت أن لي..... إلى الطريق هكذا ذكر في «المنتقى» يريد به أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم حتى لا يمكنه أن يقع البيت بابًا إليه، وقال: وقت البيع أن البيت يلي الطريق الأعظم ويمكنني أن افتح باباً إليه فله أن يرد البيت، وفي بعض الكتب لم يذكر الخيار، وإنما ذكر أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم لا يبطل البيع وله أن يستأجر أويستعير من صاحب الأرض، ثم الطريق الذي يدخل في البيع بذكر الحقوق والمرافق الطريق وقت البيع لا الطريق الذي كان قبل البيع حتى أن من سد طريق منزله وجعل طريقاً آخر وباع المنزل بحقوقه دخل تحت بيع المنزل الطريق الثاني دون الأول.
وإذا باع داراً وفيها بستان ذكر في «فتاوى أبي الليث» أنه إذا كان البستان في الدار يدخل في البيع من غير ذكره صغيراً كان البستان أم كبيراً؛ لأنه من جملة الدار. وإن كان البستان من خارج الدار إلا أن مفتاحه إلى الدار اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يدخل، وبعضهم قالوا: إن كان البستان أصغر من الدار يدخل من غير ذكر، وإن كان مثل الدار أو أكبر لا يدخل، وبعضهم قالوا: يحكم الثمن.
وفي بيوع «المنتقى» : قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى داراً، وفيها بستان إن البستان ليس بداخل في بيع الدار إلا أن يسميه إلا أن يكون البستان في وسط الدار والدار محدودة، قال هشام: ذاكرت أبا يوسف مرة أخرى فيمن باع داراً وفيها بستان، قال: البستان منها، قلت: فإن كان للبستان بابان أحدهما في الدار والآخر خارج منها، قال: هو منها.
وفي «العيون» : إذا اشترى داراً وفيها رحاء الإبل وقد اشتراها بحقوقها ومرافقها لا يكون الرحاء ولا متاعها للمشتري؛ لأن هذا ليس من حقوق الدار وهذا بخلاف ما لو(6/310)
باع ضيعة وفيها رحاء باعها بكل حق هو لها حيث كان الرحاء المشتري؛ لأن هذا من عمارة الضيعة وصلاحها، فكان من حقوقها وفي الدار من خراب الدار فلم يكن من حقوقها، وكذلك دولاب الضيعة للمشتري بمنزلة الرحاء والدالية للبائع؛ لأنها معلقة بغير بناءٍ وكذلك جذعها.
وروى إبراهيم بن رستم عن محمد رحمه الله فيمن اشترى بيتاً وفيها رحا بكل قليل أو كثير هو فيه، فله الأسفل والأعلى، وكذلك إذا كان فيه قدر نحاس موصولاً بالأرض.
وفي «فتاوي الفضلي» دار فيها بيوت باع صاحب الدار بعض البيوت بمرافقها، ثم أراد أن يرفع باب الدار الأعظم وأبى المشتري ليس لصاحب الدار أن يرفعه؛ لأنه باع الأبيات بمرافقها والباب الأعظم من مرافقها، وكذلك لو كان باع البيوت بمرافقها من حقوقها؛ لأن الطريق دخل في البيع بقوله من حقوقها، فيدخل الباب أيضاً؛ لأنه منصوب على الطريق.
وفيه أيضاً: إذا اشترى بيتاً من منزل بحدوده وحقوقه وصاحب المنزل يمنعه عن الدخول ويأمره بفتح الباب إلى السكة ينظر: إن كان البائع بين له طريقاً معلوماً ليس له منعه، وإن لم يبين اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له منعه؛ لأن بقوله بحقوق هذا البيت في السكة حتى لا يمنع عن المرور في السكة العظمى، ومنهم من قال: ليس له منعه؛ لأن الباب الأعظم دخل يذكر الحقوق على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار.
وفي «العيون» : إذا باع داراً لا بناء فيها، وفيها بئر ماء ومخرج وآجر مطوي في البئر وأشياء أخر كلها متصلة بالبئر دخل تحت البيع.
وفي «النوازل» : إذا باع دار فيها بئر وعليها بكرة ودلو وحبل، فإن باعها بمرافقها دخل الحبل والدلو في البيع؛ لأنهما من مرافق الدار، وإن لم يذكر المرافق لا يدخلان والبكرة يدخل على كل حال؛ لأنها مركبة والأصل أن ما كان في الدار من البناء أو ما كان (44أ3) متصلاً بالبناء يدخل في بيع الدار من غير ذكر بطريق التبعية، وما لا يكون متصلاً بالبناء لا يدخل في بيع الدار من غير ذكر إلا إذا كان شيئاً جرى العرف فيه فيما بين الناس أن البائع لا يضن به ولا يمنعه عن المشتري، فحينئذ يدخل، وإن لم يذكره في البيع.
وعن هذا أن الغلق وفارسيته: كليدان يدخل في البيع من غير ذكر لكونه متصلاً بالبناء، والمفتاح يدخل استحساناً ولا يدخل قياساً؛ لأنه غير متصل بالبناء، فصار كثوب موضوع في الدار إلا أنا استحسنا وقلنا بالدخول بحكم العرف؛ لأن العرف فيما بين الناس أن بائع الدار لا يمنع المفتاح عن المشتري ويسلمون الدار بتسليم المفتاح، فإنما دخل المفتاح من غير ذكر بحكم العرف والقفل ومفتاحه لا يدخل، والسلم إن كان متصلاً بالبناء يدخل سواء كان من خشب أو مدر، فإن كان غير متصل بالبناء لا يدخل، والسرر نظير السلاليم.(6/311)
وإذا اشترى رحا ماء يدخل في البيع من آلاته ما كان متصلاً بالبناء من غير ذكر؛ لأنه كالبناء فعلى هذا الحجر الأسفل يدخل تحت البيع من غير ذكر؛ لأنه متصل بالبناء، فكان كالبناء، والحجر الأعلى لا يدخل قياساً؛ لأنه غير مركب بالبناء ألا ترى أنه يمكن رفعه من غير أن يحتاج فيه إلى نقض شيء من البناء. وفي «الاستحسان» يدخل؛ لأن الرحا اسم لبيت فيه حجر دوارة، فالدوارة فيه الحجر الأعلى، فإذا كان اسم الرحى ثبت بالأعلى كان الأعلى وما يديره من البكرة داخلاً تحت اسم الرحى.
وعلى هذا إذا اشترى طاحونة، فالحجر الأسفل يدخل من غير ذكر، والأعلى لا يدخل قياساً واستحساناً. وإذا كان درج في الدار من خشب أو ساج أصلها في البناء، فإنها تدخل في بيع الدار من غير ذكر، ولو لم يكن في بناء........... فهو للبائع وهذا مثل السلم. ولو كان في البيت باب موضوع لا يدخل في البيع من غير ذكر.
في «المنتقى» وفي «العيون:» اشترى داراً واختلفا في بيت منها، فإن كانت الدار في يد المشتري، فالقول فيه قوله سواء كان الباب معلقاً أو موضوعاً، وإن كانت الدار في يد البائع، فإن كان الباب موضوعاً فيه فالقول قول البائع، وإن كان معلقاً فالقول قول المشتري.
وفي «النوازل» : إذا اشترى داراً واختلفا في باب الدار فقال البائع: لم يدخل في البيع، وقال المشتري: دخل، فإن كان الباب متصلاً بالبناء، فالقول قول المشتري سواء كان الدار في يد البائع أو في يد المشتري؛ لأن الباب من جملة الدار، وإن كان غير متصل بالبناء بل كان موضوعاً في الدار، فالقول قول من كان الدار في يده؛ لأن الباب ليس من جملة الدار ههنا. بقي الاختلاف في الملك، فيكون القول قول صاحب اليد، وهذه المسألة غير مسألة «العيون» .
وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: بعتك هذا البيت وما أغلق عليه بابه من المتاع للمشتري، وهذا يقع على حقوقه كأنه قال: بعتك بحقوقه، قال هشام: قلت لأبي يوسف: إن قال له: بعتك بما فيه من شيء، قال: هذا على حقوقه أيضاً، وإن قال على ما فيه من المتاع، فهذا جائز على ما فيه من المتاع.
نوع آخر
باع من آخر حانوتاً وباب الحانوت من.... يغلق ويفتح وينزع..... دخل الألواح تحت البيع، سواء باع الحانوت بمرافقه أو لم يبعه بمرافقه؛ لأن ألواح الحانوت مركبة بالحانوت معنى، هكذا ذكر في «المنتقى» .
ولو كان على الحانوت ظلة في السوق كما يكون في الأسواق، فإن كان باع الحانوت بمرافقه دخل الظلة؛ لأن الظلة من مرافقه، وإن كان باعه مطلقاً فالظلة لا تدخل.(6/312)
وذكر في «العيون» : إذا اشترى حانوتاً فالألواح للبائع، والصحيح ما ذكرنا أن الألواح للمشتري ويدخل مفتاح الحانوت في البيع من غير ذكر استحساناً لما قلنا في مفتاح الدار.
وكوز الحداد للمشتري وكوز الصائغ للبائع؛ لأن الأول مركب، والثاني لا، قال في «المنتقى» : وكوز الحداد بمنزلة أتون الأجر وورق الحداد الذي منع فيه للبائع، وقدر من النحاس يطبخ فيه الحنطة السويق أو للصباغين يطبخ فيه الصبغ، أو للقصارين يوضع فيها الثياب للبائع، هذا كان معلاه السواقين من طين دخلت في البيع، وقد ذكرنا قبل هذا رواية محمد رحمه الله في القدر من النحاس إذا كان موصولاً بالأرض أنه يدخل في بيع البيت.
والصندوق المثبت في البناء أو حالهم و.............. أو المنفعة في البناء لا يدخل، وليست هذه الأشياء من متاع الدار ولا من حقوقها، وكذلك جذع القصار الذي زيد عليه الثوب لا يدخل في البيع؛ لأن هذا ليس من حقوق الحانوت ويستوي في هذه المسائل إن ذكر الحانوت مطلقاً أو بمرافقه أو حقوقه؛ لأن هذه الأشياء ليست من حقوق الحانوت ومرافقه، إنما هذا من حقوق التجارة أو الفعلة والعمال. وقدر الحمام يدخل في البيع من غير ذكر، والقصاع لا تدخل، وإن ذكر الحقوق ... ألقي على الأولاد ليست في البناء للبائع.
وإذا اشترى حانوتاً أو داراً ووجد في جذع منه دراهم فإن قال البائع: إنها لي فالقول قول البائع؛ لأنا عرفناها في يده، وإن قال: ليس لي فحكمها حكم اللقطة؛ لأنه لم يعرف لها مالك.
ومن هذا الجنس إذا اشترى داراً أو حانوتاً فانهدم حائط منها فوجد فيه رصاصاً أو صاجاً أو خشباً إن كان من جملة البناء كالخشب الذي تحت الجدار يوضع ليبتنى عليه ويسمى سبح بالفارسية فهو للمشتري، وإن كان مودعاً فيه فهو للبائع.
نوع آخر
إذا باع أرضاً أو كرماً ولم يذكر الحقوق ولا المرافق ولا ذكر بكل قليل أو كثير، فإن يدخل تحت البيع باركب للتأبيد.... والأشجار والأبنية؛ لأن هذه الأشياء بمعنى الأرض إذ ليس لنهايتها مدة معلومة، وما يعلم مدة نهايته فهو للتأبيد كالأرض، فإنها ذات نهاية ولكن لما لم يكن لنهايتها مدة معلومة..... كانت للتأبيد، فإذا كانت هذه الأشياء للتأبيد كانت كالأرض من كل وجه، فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، فأما الزرع والثمر لا يدخلان في البيع. والقياس: أن يدخل متصل بالأرض اتصال قوام والثمر متصل بالشجر إيصال قوام، فكان كالأشجار مع الأرض إلا أنا استحساناً وقلنا: بأنهما لا يدخلان لقوله عليه السلام: «من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع» والزرع مثل(6/313)
التمر من حيث إن لكل واحد منهما غاية معلومة، فالنص الوارد في الثمر يكون وارداً في الزرع دلالة، والمعنى في ذلك: أن لقطعهما غاية معلومة وما لنهايته غاية معلومة.
وإن ذكر في بيع الأرض الحقوق أو المرافق لا يدخل الزرع والثمار أيضاً؛ لأنهما ليسا من جملة حقوق الأرض ومرافقه، وإن قال: بعتها بكل قليل وكثير هو منها وفيها، إن قال: في أثرها من حقوقها، أو قال: من مرافقها، فالثمار والزرع لا يدخلان، وإن لم يقل: في آخرها من حقوقها ومرافقها يدخلان في البيع، وذكر الحاكم أحمد السمرقندي في «شروطه» : أنه إذا ذكر في بيع الضيعة والنخيل كل حق يدخل الزرع والثمر في البيع قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يذكر كل قليل وكثير، وهكذا ذكر الناطفي أن بذكر الحقوق والمرافق يدخل الزرع والثمر في بيع الأرض.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف برواية ابن سماعة عن محمد: أن الثمر والزرع لا يدخل بذكر الحقوق والمرافق. وإذا قال: بكل قليل أو كثير هو منها أو فيها يدخل استحساناً. وروى ابن أبي (44ب3) مالك عن أبي يوسف أنه يدخل الزرع والثمر في الألفاظ كلها، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح المزارعة الكبيرة أنه إذا قال في بيع الضيعة: بكل قليل وكثير فيها على رواية كتاب الشرب لا يدخل الزرع والثمر في البيع. وهكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد؛ لأن الزرع ليس من الأرض، وعلى رواية كتاب الشفعة والمزارعة يدخل.
وإن قال بكل قليل وكثير هو فيها يدخل جميع ما فيها من الثمر والزرع والبقل والرياحين وغير ذلك، وإن كان فيها زرع قد حصدت أو ثمار قد جزت لا يدخل في البيع، قال ابن أبي مالك: سمعت أبا يوسف قال: هما سواء، ويدخل الثمر في البيع.
وفي «شرح القدوري» وشرح القاضي الإمام الإسبيجابي: أن الزرع إنما لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، إذا لم يثبت بعد، وصار له قيمة يدخل، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر أن الشجرة تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ولم يفصل بين المثمرة وغير المثمرة، ولا بين الصغيرة والكبيرة، فمن مشايخنا من فصل بين المثمرة وغير المثمرة، فقال: المثمرة تدخل من غير ذكر وغير المثمرة لا تدخل، وذهب في ذلك إلى أن غير المثمرة بمعنى الزرع لنهايتها مدة معلومة كما للزرع، فأما المثمرة فليس لنهايتها مدة معلومة، فكان مؤبداً، فكان كالأرض، ومنهم من قال: الشجرة الكبيرة إذا كانت مثمرة تدخل من غير ذكر، وإذا كانت غير مثمرة لا تدخل، والصغيرة لا تدخل إلا بالذكر مثمرة كانت أو غير مثمرة؛ لأن الصغير لقطعها مدة معلومة عند الناس مثمرة كانت أو غير مثمرة، فإنها تقلع وتنقل من موضع إلى موضع، ولمدة ذلك وقت معلوم بين الناس، وكذلك الكبيرة المثمرة هي مثمرة لقلعها مدة معلومة بين الناس، فصار كالزرع بخلاف الكبيرة المثمرة، ومنهم من قال: الكل يدخل من غير ذكر وهذا أصح؛ لأن غير المثمرة ليس لنهايتها مدة معلومة بل تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتاً فاحشاً صغيرة كانت أو كبيرة بمعنى الكبيرة المثمرة.(6/314)
وأما قوائم الخلاف هل يدخل في بيع الأراضي من غير ذكر؟ من المشايخ من قال: لا يدخل وألحقها بالثمرة؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، ومنهم من قال تدخل؛ لأن مدة نهايتها تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتاً فاحشاً، فصار بمنزلة الأشجار المثمرة وهو الأقيس.
وأما الورد والآس لا يدخلان في البيع من غير ذكر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة لا تتفاوت إلا يسيراً، فصارت كالثمرة، فأما أصلهما (فيدخل) في البيع من غير ذكر؛ لأنه ليس لنهايتها مدة معلومة، فكانت بمنزلة سائر الأشجار، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة. وفي «العيون» : أن أصل الآس لا يدخل؛ لأنه بمنزلة الثمر؛ لأنه يقطع كذلك.
وأما القطن فلا يدخل في البيع من (غير) ذكر وهو كالثمرة. وأما أصلها فقد قالوا: لا يدخل وهو الصحيح؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، فإن بعد ما فرغ من القطن يقطع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن مدة قطعها يتفاوت بتفاوت الأراضي، فإن في بلاد الحر لا يقطع إلا بعد سنين وفي بلادنا يقطع في كل سنة.
وشجرة الباذنجان لا تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، هكذا ذكر الحاكم أحمد السمرقندي في «شرحه» ، وعلى قياس مسألة القطن يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ. وأما الكراث والقت وفارسية: تيبست والرطبة فما كان على وجه لا يدخل في البيع من غير ذكر كالزرع والثمر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، وأما أصول هذه الأشياء وهي ما كان مغيباً في الأرض، فمنهم من قال: لا يدخل؛ لأن لنهاية الأصول مدة معلومة فيما بين الناس فصار كالزرع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن نهاية هذه الأشياء تتفاوت تفاوتاً فاحشاً بتفاوت الأراضي، فصار كالأشجار وصار الأصل أن ما كان لقطعه مدة معلومة ونهاية معلومة فهو بمنزلة الشجر فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر.
والزعفران لا يدخل من غير ذكر وكذلك أصله، ذكر في «العيون» لأنه يقطع كذلك وصار كالثمرة، والقصب لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط، والفرو يدخل؛ لأن الفرو شجر؛ لأن له ساق ولا يقطع أصله حتى كان شجراً يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، وما لم يكن بهذه الصفة لا يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر؛ لأنه بمنزلة الثمرة.
وإذا باع أرضاً وفيها حطب ثابت لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ذكره في «العيون» وفي «البقالي» عن أبي حنيفة في الخلاف والحطب والقصب والطرف وأنواع الخشب أنها للمشتري. وروى بشر عن أبي يوسف أن القصب للبائع. وفي «المنتقى» : أن الشوك لمن أخذه بخلاف الحطب، ذكر شيخ الإسلام في شرح المزارعة الكبيرة أن الشجر الذي ذكره محمد في الكتاب أنه يدخل في بيع الأرض من غير ذكر شجر يغرس للبقاء، أما الشجر الذي يغرس للقطع كشجر الحطب وغيره لا يدخل في البيع من غير ذكر.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى أرضاً وفيها أشجار تقطع في كل ثلاث سنين(6/315)
إن كان يقلع من الأصل فهو للمشتري؛ لأنه شجر وهو الشجر الصغير الذي يباع في السوق في فصل الربيع، وإن كان يقطع من وجه الأرض فهو للبائع؛ لأنه بمنزلة الثمر.
ولا يدخل في بيع الأرض شربه وطريقه إلا إذا ذكر ذلك نصاً أو دلالة بأن قال: بجميع حقوقها أو قال بمرافقها، وإذا اشترى أرضاً ونخلاً وليس لها شرب وهو لم يعلم بذلك فله الخيار، هكذا ذكر في «المنتقى» .
وفي «العيون» : اشترى نخلة في أرض بطريقها في الأرض ولم يبين موضع الطريق وليس إليها طريق يعني من ناحية معروفة. قال أبو يوسف: الشراء جائز ويأخذ إلى النخلة طريقاً من أي ناحية أحب؛ لأن هذا مما لا يتفاوت حتى (إن) كان متفاوتاً كان البيع باطلاً، وعن محمد رحمه الله: أن البيع باطل ما لم يبين الطريق لمكان الجهالة. وفي «فتاوي الفضلي» : إذا اشترى اشترى أرضاً ... وبين والأرض مسناة وعلى المسناة أشجار، وجعل أحدهما حدود الأرض إلا قذف دخل المسناة وما عليها من الأشجار تحت البيع؛ لأنه جعل المسناة في البيع فيكون من جملة المحدود.
وقال في «المنتقى» : وإذا (اشترى) نخلة فهذا على الجذع، ولا يكون بأرضها واعلم بأن شراء الشجرة من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها للقلع بدون الأرض، وفي هذا الوجه يؤمر المشتري بقلعها بعروقها، وأصلها يدخل في البيع، وليس له أن يحفر الأرض إلى ما يتناهى إليه العروق، ولكن يقلعها على ما عليه العرف والعادة إلا إذا شرط البائع القلع على وجه الأرض أو يكون في القلع مضرة للبائع، نحو أن يكون بقرب الحائط أو ما أشبه ذلك، فحينئذ يؤمر المشتري أن يقطعها على وجه الأرض، فإن قلعها أو قطعها ثم نبت من أصلها أو عرقها شيء، فالنابت للبائع، وإن قطع من أعلى الشجرة فما نبت يكون للمشتري.
وأما إذا اشتراها مع قرارها من الأرض، فإنه لا يؤمر المشتري بقلعها، ولو قلعها فله أن يغرس مكانها أخرى.
وأما إذا اشتراها ولم يشترط شيئاً، فعند أبي يوسف رحمه الله: الأرض لا تدخل في البيع، وعند محمد: تدخل، وله الشجرة مع قرارها من الأرض هذه الجملة في بيوع «شرح الطحاوي» .g
وأجمعوا أن ما تحت الشجرة من الأرض يدخل في القسمة.
وفي «كتاب العيون» : في باب بيع الشجرة قبل كتاب الرهن: أن دخول الأرض في الوصية الشجرة على الاختلاف الذي ذكرنا في البيع. قال: والهبة والصدقة كالوصية.
وذكر شيخ الإسلام في كتاب القسمة: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في الإقرار والقسمة والبيع، وذكر في «المنتقى» أيضاً: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في بيع الحائط، والمذكور في «المنتقى» إذا باع حائطاً من دار فهذا بأرضه، قال: لأن(6/316)
الحائط (45أ3) بغير الأرض لا يسمى حائطاً.
وفي «المنتقى» أيضاً: وقال أبو حنيفة في الحائط: هو له بأصله، وفي النخلة يقلعها بأصلها في البيع والهبة كل شيء، وقال أبو يوسف: مثل ذلك إلا أنه قال أستحسن في الشجرة أن له بأصلها فصار حاصل الجواب في الشجر أن على قول أبي حنيفة لا تدخل الأرض في بيع الشجرة، وعند محمد تدخل، وعن أبي يوسف روايتان، قال الصدر الشهيد: والفتوى في مسألة البيع على أن الأرض تدخل، وفي أي موضع دخل ما تحت الأرض من الشجر، فإنما يدخل بقدر غلظ الشجرة وقت مباشرة ذلك التصرف، حتى لو ازدادت الشجرة غلظاً تحت الأرض كان لصاحب الأرض أن يسحب ولا يدخل تحت الأرض ما يتناهى إليه العروق والأغصان وعليه الفتوى.
وفي «المنتقى» إذا قال لغيره: بعت منك هذه المبطخة فهذا على البطيخ إذا كان فيه بطيخ، وكذلك المنقلة إذا كان فيه نقل، وكذلك هذه الرطبة ولو قال بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل، فهذا على الأرض. قالوا: وأراد بالنخيل البستان أو الذي يقال له بالفارسية در خبيان.
فقد حكينا قبل هذا رواية «المنتقى» : أن من اشترى نخلة فهذا على الجذع ولا يكون بأرضها، وإذا قال: بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل وفيه تمر أو عنب فإني أنظر إلى الثمن فإن كان ثمناً للعنب أو التمر فهو على العنب (والتمر) ، وإن كان ثمناً للنخيل والكرم (فهو على النخيل والكرم) ذكره في «المنتقى» : ولم ينسبه إلى أحد.
وهو نظير ما ذكر في دعوى «العيون» : إذا اشترى الرجل من آخر مزبلة بمائة درهم ثم اختلفا قال المشتري: إنما اشتريت منك الأرض وقال البائع: بعتك الكناسة بحكم الثمن إن كان مثل ذلك الثمن يكون للأرض قضيت ببيع المزبلة دون الأرض.
في «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف إذا قال لغيره: بعتك كرمي هذا، أو قال: بستاني هذا فهذا على الكرم بأصله والبستان بأرضه، فإن كان في البستان أو النخيل أو الكرم تمر فهذا كله على تمر البستان والنخيل والكرم ولم يقل ينظر إلى الثمن كما في المسألة المتقدمة.
وفي «المنتقى» : رواية مجهولة إذا قال لغيره: بعتك قريتي التي يقال لها كذا وكذا ولم يسم حدودها فهو على موضع القرية البناء والبيوت دون المحرث.
ولو باع قرية أخرى بجنبها فقال بعتك هذه القرية أحد حدودها أو الثاني أو الثالث أو الرابع قرية البائع تدخل أرض هذه القرية التي لم يبعها في أرض القرية التي باعها مما يليها، وإن قال: أحد حدود هذه القرية أرض قرية كذا لم تدخل فيه أرض القرية التي لم يبعها.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى كرماً وفيه ورق التوت والورد وذكر حقوقها لا يدخل ذلك في البيع؛ لأنه بمنزلة الثمر، وقد ذكر الكلام في دخول الثمر في البيع بذكر الحقوق وما فيه من الاختلاف ففي ورق التوت والورد يكون كذلك.(6/317)
وفيها أيضاً: اشترى شجرة بعروقها وقد نبت من عروقها أشجار، فإن كانت الأشجار النابتة بحيث لو قطعت شجرة الأصل يبست صارت مبيعة وإلا فلا؛ لأنها إذا كانت تيبس بقطع الشجرة كانت نابتة من هذه الشجرة، فكانت مبيعة.
ذكر في «النوازل» وفي «فتاوي الفضلي» : أن من اشترى أشجاراً وعليها ثمار إلا أنها بحال لا قيمة لها فإنها للمشتري. وذكر فيه أيضاً: علة المسألة فقال: لأن بائعها لو قصد بيعها على الإنفراد لا يجوز، وفي الجواب نظر وفي التعليل كذلك، وينبغي أن تكون الثمار للبائع لما ذكرنا قبل هذا، وبيعها على الانفراد جائز هو الصحيح على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل باع كرماً بمجرى مائة وكل حق له، ومجرى مائة في سكة بينه وبين رجلين وعلى ضفة النهر أشجار، فإن كان المجرى ملك البائع فالأشجار للمشتري؛ لأن رقبة المجرى دخلت تحت البيع، فدخلت الأشجار تبعاً، وإن لم يكن المجرى ملك البائع لكن له حق المسيل، فالأشجار للبائع؛ لأن رقبة المجرى لم تدخل تحت البيع فلا تدخل الأشجار تبعاً لو دخلت دخلت أصلاً باسمها ولم يوجد.
نوع آخر
اشترى من آخر جارية وعليها ثيابها التي يباع مثلها دخل الثياب تحت البيع بحكم العرف وإنما تدخل ثياب مثلها إن شاء البائع أعطاها الذي عليها، وإن شاء أعطاها غير ذلك؛ لأن الدخول بحكم العرف والعرف في كسوة مثلها لا بعينها هكذا ذكر المسألة في «العيون» .
وليس معنى قوله: دخل الثياب تحت البيع أنه يصير للثياب حصة من الثمن بل لا يصير حتى لو استحق شيء من الثياب من يدي المشتري أو وجد المشتري بالثياب عيباً لا يرجع بشيء من الثمن في فصل الاستحقاق ولا يرد الثياب بالعيب في فصل العيب، وإنما معناه أن للمشتري أن يطالب البائع بذلك.
وكذلك إذا وجد بالجارية عيباً ردها، وإن لم يجد بالثياب عيباً، وذكر هذه المسألة في «النوازل» ووضعها في الغلام، فقال: إذا باع غلاماً وعليه ثياب دخل الثياب في العقد، ولو استحق ثياب الغلام لا يرجع المشتري على البائع؛ لأن الثياب لم تدخل تحت البيع حتى يصير له حصة من الثمن، فيردها بالعيب ويرجع ببعض الثمن عند الاستحقاق، ولكن للمشتري مطالبة البائع بذلك؛ لأن البائع صار مملكاً ذلك من المشتري تبعاً للبيع عرفاً، ولو وجد بالغلام عيباً رده؛ لأن الثياب ليست بمبيعة ليمتنع رد الجارية بالعيب.
وفي «النوازل» أيضاً: إذا باع حماراً دخل العذار وهو الذي بالفارسية فسار في البيع بحكم العرف، وإذا باع حماراً موكفاً دخل الإكاف والبردعة في البيع بحكم العرف، وإذا لم يكن عليه بردعة ولا إكاف دخل البردعة والإكاف أيضاً، كذلك اختاره الصدر الشهيد، وإذا كان موكفاً ودخل الإكاف والبردعة لا يكون له حصة من الثمن على نحو ما ذكرنا في(6/318)
ثياب الجارية والغلام وبعض المشايخ قالوا: إذا كان على الحمار إكاف وبردعة دخل الإكاف، وإذا كان عرياناً لا يدخل شيء من ذلك في البيع.
وهذا القائل يفرق بين الحمار والجارية، والغلام والجارية، والغلام إذا بيع ليس عليه ثياب يدخل ثياب مثله في العقد؛ لأن الغلام والجارية لا يباعان عرياناً عادة بخلاف الحمار، فإنه يباع عرياناً عادة كما يباع مع البردعة والإكاف.
ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا باع فرساً وعليه سرج، قيل: وينبغي أن لا يدخل السرج في البيع إلا بالتنصيص عليه أو يكون الثمن شيئاً كثيراً لا يشترى ذلك الفرس عادة بمثل ذلك الثمن (إلا) مع مثل ذلك السرج؛ لأن العادة ما جرت ببيع الفرس معه ولا كذلك ببيع الحمار وبيع الغلام والجارية.
قال هشام: سألت أبا يوسف: عن رجل باع جاريته وعليها قلب فضة أو قرطان ولم يشترط ذلك والبائع ينكر، قال: لا يدخل شيء من الحلي فهو لها، وإن سكت عن طلبه وهو يراه فهو بمنزلة ما لو سلم ذلك.
وفي صلح «فتاوي الفقيه أبي الليث» رحمه الله: عبد له مال باعه المولى مع ماله قال: إن لم يسم ماله، فالبيع فاسد، قوله: إنه باع العبد مع ماله ولكن لم يبين مقداره، وأما إذا باع العبد وسكت عن ذكر المال، فالبيع يكون جائزاً ويكون المال للبائع وهو الصحيح، ولو كان باعه مع ماله وسمى أي سمى مقدار ماله ينظر إن كان ثمن العبد من جنس ماله بأن كان مال العبد دراهم وثمن العبد أيضاً دراهم أو كان مال العبد دنانير وثمن العبد دنانير لابد، وأن يكون الثمن زائداً على مال العبد ليكون بإزاء مال العبد من الثمن قدره والباقي (45ب3) يكون بإزاء العبد، فأما إذا كان ثمن العبد أقل من مال العبد أو مثله لا يجوز وإن كان ثمن العبد من خلاف جنس مال العبد بأن كان ثمن العبد دراهم ومال العبد دنانير أو على العكس يجوز كيف ما كان ثمن العبد، ولكن يشترط قبض حصة الصرف في المجلس، فإن افترقا قبل القبض بطل العقد بحصة الصرف وبقي بحصة العبد، ولو كان مال العبد ديناً أو كان بعضه ديناً فالعقد فاسد.
وفي «القدوري» : إذا اشترى سمكة فوجد فيها لؤلؤة فهي للمشتري.
ولو اشترى دجاجة فوجد فيها لؤلؤة فهي للبائع.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا اشترى سمكة فوجد في بطنها سمكة أخرى فهما جميعاً للمشتري، ولو وجد في بطنها لؤلؤة فهي للبائع؛ لأن هذا مما لا يأكل السمك، قالوا: أراد بقوله فهي للبائع يأخذها وتكون لقطة في يده.
قال: ولو وجد في بطنها صدف فيه لحم وفي اللحم لؤلؤة كما يكون في الأصداف فهي للمشتري؛ لأن هذا مما يأكل السمك له. قال: ألا ترى أنه لو اشترى رجل من رجل أصدافاً ليأكل ما فيها من اللحم فوجد في بطنها لؤلؤة في اللحم أن ذلك له؛ لأنها خلقة في اللحم من الصدف قال: ولا يشبه هذا اللؤلؤة المنزوعة في بطن السمك.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عمن باع الصدفة كما هو قال: البيع جائز(6/319)
واللؤلؤة يعني للبائع ما لم يسم اللؤلؤة، وإن اشتراها بدرهم وهي ثمن أكثر من ألف درهم وهذا يخالف رواية ابن سماعة رحمه الله.
وعن محمد رحمه الله برواية ابن رستم: لو اشترى سمكة ووجد في بطنها عنبرة فهي للمشتري؛ لأنها طعامها وهي حشيش يأكل السمك في البحر والله أعلم.
الفصل السادس: فيما يجوز وما لا يجوز بيعه
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع من ذلك في بيع الدين بالدين وبيع الأثمان، وبطلان العقد بسبب الافتراق قبل القبض فنقول: بيع الدين بالدين جائز إذا تفرقا عن المجلس بعد قبض البدلين حقيقة أو بعد قبض البدلين حكماً، سواء كان عقد صرف أو لم يكن، أما بعد قبض البدلين حقيقة بأن اشترى من آخر ديناراً بعشرة دراهم حتى كان صرفاً أو لم تكن الدنانير والدراهم بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز.
فكذلك إذا اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن صرفاً ولم يكن بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز، وأما بعد قبض البدلين حكماً بأن كان لرجل على آخر بعشرة دراهم وللآخر عليه دينار فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه كان العقد صرفاً أو لم يكن صرفاً بأن كان على آخر فلوساً أو طعاماً، وللآخر عليه دراهم فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه وتفرقا كان العقد جائزاً، وهذا فراق بعد قبض البدلين حكماً، وأما بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة، والآخر حكماً بأن كان لرجل على رجل عشرة دراهم، فاشترى من عليه الدراهمُ الدراهمَ بدينار نقد الدينار وتفرقا عن المجلس فالعقد جائز، وهذا افتراق بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً.
وكذلك إن كان لرجل على رجل حنطة فاشترى من عليه الحنطةُ بالدراهم ونقد الدراهم في المجلس جاز.
وذكر في صلح «الفتاوى» مسألة الحنطة وقال: لا يجوز البيع وإن نقد الدراهم في المجلس قالوا: وما ذكر في صلح «الفتاوى» محمول على ما إذا كانت الحنطة مسلماً فيها؛ لأن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، أما إذا كانت الحنطة قرضاً أو ثمن بيع جاز البيع على ما ذكرنا، وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين في بيع الدين بالدين إن حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حقيقة جاز في غير الصرف.
بيانه: فيمن اشترى ديناراً بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً فقبض الدينار ولم يسلم العشرة حتى تفرقا أو سلم العشرة ولم يقبض الدينار حتى تفرقا كان البيع فاسداً.
ولو اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة كان العقد جائزاً وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً كان(6/320)
العقد فاسداً سواء كان عقد صرف أو غير عقد صرف.
بيانه: فيما إذا كان له على رجل دينار، فاشترى الدينار الذي عليه بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً، أو تفرقاً قبل نقد العشرة كان باطلاً.
وكذلك إذا كان عليه فلوس أو طعام فاشترى ما عليه بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا قبل نقد الدراهم كان العقد باطلاً، وهذا افتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً؛ لأن ما في ذمة أحدهما مقبوضة وهذا فصل يجب حفظه والناس عنه غافلون.
فإن العادة فيما بين الناس إن كان له على آخر حنطة أو شعير أو ما أشبه ذلك فصاحبها يأخذ ممن عليه عند غلاء الشعير حطاً بالذهب أو بالفضة ويسمون ذلك فيما بينهم كندم رابها كردن، فإنه فاسد لكونه افتراقاً عن دين بدين، وإنما جاز هذا العقد بعد قبض البدلين حقيقة أو حكماً لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: إني أكري الإبل من البقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانيراً أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، فقال عليه السلام: «لا بأس بأن تأخذ بسعر يومها وقد افترقتما وليس بينكما عمل» معناه إذا افترقتما ولا يبقى أحد البدلين ديناً لأحدكما في ذمة الآخر بعد ما تفرقتما، فقد جوز رسول الله عليه الصلاة والسلام بيع الدين بالدين وإن كان صرفاً إذا تفرقا وليس بينهما عمل على التفسير الذي قلنا، وإذا جاز هذا في الصرف جاز فيما ليس بصرف من الطريق الأولى وصار هذا البيع مستثنياً عن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أي: الدين بالدين.
وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة فإن كان صرفاً، فالعقد باطل؛ لأنهما افترقا وقد بقي بينهما عمل فإن أحد البدلين بقي ديناً لأحدهما على صاحبه فيحتاج إلى قبضه بعد ما تفرقا عن المجلس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جوز بيع الدين بالدين في الصرف إذا افترقا وليس بينهما عمل لم يكن داخلاً تحت المجوز، فيكون داخلاً تحت المحرم وهو النهي عن بيع الدين بالدين.
وإن لم يكن صرفاً فالعقد جائز؛ لأن البدل المقبوض صار عيناً بالقبض فيكون هذا افتراقاً عن عين بدين وإنه لا يفسد العقد في غير الصرف وعلى هذا جميع بياعات الناس، وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حكماً لا يجوز سواء كان عقد صرف أو غير صرف؛ لأنهما افترقا عن دين بدين وإنه يفسد العقد صرفاً كان أو غير صرف.
وإذا اشترى دراهم بيضاء فأعطاه البائع مكانه سوداء ورضي به المشتري جاز؛ لأن السود دراهم ولكن مع العيب فكان الجنس واحداً، فإذا رضي المشتري بسقوط حقه عن(6/321)
الجودة كان مستوفياً لا مستبدلاً فيجوز، والمراد من السود المضروب من النقرة السوداء لا الدراهم التجارية حتى لو قبض مكان الدراهم البيض درهماً تجارياً لا يجوز؛ لأن الجنس مختلف فيكون هذا استبدالاً فلا يجوز.
وإذا أعطى البيض مكان السود ذكر شمس الأئمة السرخسي والشيخ أبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه يجبر على القبول وإليه أشار عصام في «مختصره» .
وإذا باع فلساً بفلسين حالة الرواج، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: (46أ3)
أحدها: أن يبيع فلساً بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما، وفي هذا الوجه البيع فاسد لوجهين:
أحدهما: أن هذا بيع الدين بالدين.
والثاني: أن الجنس بانفراده محرِّم للنساء عندنا على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما وفي هذا الوجه البيع جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز.
وجه قوله: أن الفلوس أثمان حتى لا يتعين بالتعيين وبيع الأثمان واحداً باثنين لا يجوز كبيع الدراهم والدنانير واحداً باثنين، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن ثمنية الفلوس إنما تثبت باصطلاح الناس، فإذا عيناه فقد أبطلا جهة الثمنية فعادت سلعة كما كانت فيجوز البيع متساوياً متفاضلاً.
فإن قيل: الثمنية تثبت باصطلاح الكل، فلا يبطل باصطلاحهما على خلاف ذلك.
قلنا: الثمنية في حقهما يثبت باصطلاح غيرهما عليهما، وإن قلنا: إن الثمنية لا تبطل إلا أن ربا النقد إنما يجري بالجنس والقدر وهو الكيل أو الوزن وههنا إن وجد الجنس لم يوجد القدر، أما الكيل فظاهر.
وأما الوزن؛ فلأن الناس تعارفوا بيع الفلوس عدداً إلا وزناً، ولهذا قلنا: إذا باع فلساً بعينه وأحدهما أثقل من الآخر وزناً إنه يجوز، ولو كان موزوناً لكان لا يجوز كما إذا باع درهماً بدرهم أثقل من الآخر وزناً وههنا لما جاز علمنا أن الوزن ساقط الاعتبار في الفلوس فلم يوجد إلا لجنس فلا يجري الربا.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: وكل جواب ذكرناه في الفلوس فهو في الدراهم التجارية أعني بها العطارف من جملة الفلوس؛ لأنها صفر كالفلوس، وكذلك الجواب في الرصاص والستوقة قالوا: ويجب أن يكون في العدلي كذلك؛ لأن الصفر فيه غالب فصار بمنزلة الفلوس.
الوجه الثالث: إذا كان أحد البدلين عيناً والآخر ديناً وفي هذا الوجه إن كان ما في الذمة مؤجلاً لا يجوز البيع لما ذكرنا أن الجنس بانفراده يحرم النسّاء عندنا، وإن كان ما في الذمة غير مؤجل لا شك أن على قول محمد: لا يجوز؛ لأن عنده لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما لا يجوز، فإذا كان أحد البدلين بغير عينه أولى.
وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يجوز؛(6/322)
لأن الفلوس عندهما تصير بمنزلة العرض حال مقابلته بجنسه، قالوا: لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما يجوز كما لو باع قمقمة بقمقمين، فإذا صار الفلس المعين على مذهبهما بمنزلة العرض كان بمنزلة ما لو باع عرضاً بعينه بفلسين في الذمة.
ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن الفلس عندهما إنما تتعين بالتعيين حال تعيين أحد البدلين فلا (يجوز) ؛ وهذا لأن الفلوس الرائجة لها حكم العرض من وجه.
ولهذا قال في ظاهر الرواية: يجوز السلم في الفلوس، والسلم إنما يجوز في المثمنات لا في الأثمان، فمن هذا الوجه الفلوس بمنزلة العروض ولها حكم الأثمان من وجه.
ولهذا قالوا: إذا قوبلت بخلاف جنسه لا يتعين كالدراهم والدنانير حتى لو هلكت الفلوس المشار إليها لا يبطل العقد، وإذا كان للفلوس حكم العروض من وجه وحكم الأثمان وفرنا على الشبهين حظهما فلشبهها بالعروض قالا: بالتعين حال تعين البدلين إلحاقاً لها بالعروض ولشبهها بالدراهم قالا: بعدم التعين حال تعيين البدلين إلحاقاً لها بالدراهم، وإذا ألحقاها بالدراهم في هذه الحالة كان بمنزلة ما لو باع درهماً بعينه بدرهمين بغير أعيانها.
ثم إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما حتى جاز العقد عند أبي حنيفة، هل يشترط التقابض في المجلس؟ ذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في صرف «الأصل» ولم يشترط التقابض فهذا دليل على أن التقابض ليس بشرط، وذكر في «الجامع الصغير» : ما يدل على أنه شرط.
فإنه قال: إذا باع فلساً بفلسين يجوز يداً بيد إذا كان بعينه من مشايخنا من لم يصحح ما ذكر في «الجامع الصغير» : لأن التقابض مع العينية إنما يشترط في الصرف وهذا ليس بصرف، ومن مشايخنا من صحح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن الفلوس لها حكم العروض من وجه وحكم الأثمان من وجه، فمن حيث إن لها حكم العروض جوزنا بيع واحد باثنين إذا كان عينين كما لو باع سيفاً بسيفين، ومن حيث إن لها حكم الدرهم شرطه التقابض في المجلس صح العينية عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
وذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع الفلس بالفلس وقبض أحدهما ما اشترى ولم يقبض الآخر حتى تفرقا، أو تقابضا ثم استحق ما في يد أحدهما بعد الافتراق، فالعقد صحيح على حاله.
وكذا لو باع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير فقد اكتفى بقبض أحد البدلين لصحة هذا العقد ولبقائة على الصحة فهذا دليل أن التقابض ليس بشرط.
وروى هشام عن محمد: فيمن اشترى فلوساً بدراهم وقبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى افترقا فهو جائز قال: ألا ترى أني أسلم الدراهم في الفلوس فقد اكتفى بقبض الفلس لصحة العقد.k
ووجه ذلك من أحدهما: أن الفلوس في الأصل عرض وليست بأثمان وإنما يثبت لها وصف الثمنية بعارض، فيجب إثبات هذا الوصف على وجه لا ينعدم المعنى(6/323)
الأصلي، فاكتفينا بقبض أحد البدلين كما في العروض إذ به يخرج من أن يكون ديناً بدين، فأما قبض البدلين إنما يعين فيما هو أثمان بقبضه الأصل، وهذا ليس بهذه الصفة.
والثاني: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين في المجلس، وإن كان العقد صرفاً ولكن عرفنا اشتراط التقابض في عقد الصرف بالنص، والنص الوارد في بيع الصرف لا يكون وارداً في بيع الفلس؛ لأن ثمنية الفلس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس إلى ما يقضتيه القياس.
ذكر القدوري في «شرحه» أيضاً: قال محمد رحمه الله: فإذا اشترى فلوساً على أن كل واحد منهما بالخيار وتقابضا وتفرقا عن ذلك فالبيع فاسد؛ لأن الخيار يمنع الملك وصحة القبض، فكأنهما افترقا من غير قبض، ولو كان أحدهما بالخيار فالبيع جائز. ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على أصلهما: خيار المشتري لا يمنع ثبوت الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض فينعدم القبض المستحق من أحد الجانبين.
والقبض إنما يعتبر فيهما لا في أحدهما، أما على قول أبي حنيفة يؤمر من الجانبين، فإنه كما لا يملك على المشروط له الخيار البدل الذي من جانبه عند أبي حنيفة لا يملك هو البدل الذي من جانب صاحبه، فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع صحة القبض وتمامه فيهما جميعاً.
قالوا: وينبغي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما بشرط الخيار أن يجوز البيع؛ لأنهما بمنزلة العروض في هذه الحالة عندهما فلم يكن القبض شرطاً.
ولو اشترى بفلوس كاسدة في موضع لا ينفق فإن كانت بأعيانهما جاز، وإن لم تكن معينة لا يجوز؛ لأنها بعد الكساد تعود عرضاً، وشرط صحة العقد في العروض التعيين.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا استقرض الرجل كراً من طعام وقبضه ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي له عليه بمائة درهم (صح شراؤه) ؛ لأن المستقرض صار ملكاً للمستقرض بنفس القبض ووجب عليه للمقرض كراً مثله، فيصح شراؤه بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الكر حيث لا يجوز؛ لأن هناك الحاجة إلى التسليم ولا يمكنه للتسليم إلا بالقبض، فكان عاجزاً عن التسليم في الحال (46ب3) وههنا لا حاجة إلى التسليم؛ لأن المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته، وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس فالشراء ماض على الصحة، وإن افترقا من غير قبض بطل الشراء، وهذا بخلاف ما لو وجب للمستقرض على المقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما اشترى ما عليه لصاحبه عليه وتفرقا حيث يجوز؛ لأن في المسألة الأولى الافتراق حصل بعد قبض أحد البدلين حكماً، وفي المسالة الثانية حصل بعد قبض البدلين حكماً.
قالوا: وهذا الجواب الذي ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما المستقرض يصير ملكاً للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله ديناً في الذمة فيصح الشراء، أما على قول أبي يوسف: المستقرض لا يصير ملكاً للمستقرض إلا بالاستهلاك(6/324)
بعد القبض فلم يجب في ذمة المستقرض للحال شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه الآن يصح الشراء بلا خلاف.
ثم إذا نقد المشتري وهو المستقرض المائة في المجلس ثم وجد بالكر القرض عيباً لم يرده؛ لأنه لا وجه إلى رده حكم الشراء لم يتناوله ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛ لأن القرض ينزع لا يوجب السلامة عن العيب لكن يلزم المستقرض مثل المقبوض ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب فكذا ما وجب بدلاً عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر العيب بالمبيع وتعذر رده؛ لأنه كان ديناً في ذمة المستقرض وقد سقط عن ذمته كما اشتراه وهلك فهو بمنزلة ما لو اشترى عبداً وهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به.
ولو كان القرض المقبوض مستهلكاً كان الجواب كما قلنا إلا أن الفصل الأول يكون مختلفاً، والفصل الثاني يكون مجمعاً، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضاً.
ولو كان المستقرض اشترى الكر الذي عليه بالقرض بكر مثله جاز، إذا كان ديناً لا يجوز إلا إذا قبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض (عيباً) لم يرده ولم يرجع بنقصان العيب بخلاف الفصل الأول.
والفرق: أن في هذا الفصل لو رجع بنقصان العيب يرجع ببعض الكر الذي دفع المستقرض فيكون هذا مبادلة كل كر من طعام بأقل من الكر وذلك ربا، أما في الفصل الأول لو رجع بنقصان العيب يرجع بنقصان الدراهم التي دفع المستقرض عوضاً من الكر المستقرض فيكون هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم وذلك جائز.
وإذا اشترى المستقرض الكر المستقرض بعينه وهو مقبوض لم يصح شراؤه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه صار ملك المستقرض بنفس القبض، فإنما اشترى ملك نفسه وعلى قول أبي يوسف يصح؛ لأنه صار ملك المقرض.
فإن قيل: لم لا يقدم فسخ القرض تصحيحاً لما قصدا كما تقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين تصحيحاً لما قصدا.
قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد الفسخ مقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطاً للشيء لا يسقط اعتباره، وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء.
ونظير هذا ما قال أبو حنيفة فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا يثبت الهبة بطريق الاقتضاء؛ لأن القبض شرط لها، وإنه فعل فلا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض شرطاً للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة مقتضى غيره وهو الإعتاق عن الأمر كذا ههنا.
ولو اشترى المقرض من المستقرض غير القرض صح (عند) أبي حنيفة؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه بقي على ملك المقرض.(6/325)
رجل أقرض رجلاً ألف درهم على أنها جياد فقبضها ثم اشتراها المقرض ما عليه بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم ديناً في الذمة بنفس القبض، وأما على قول أبي يوسف: فلأن العقد لا يتعلق بالدراهم المعينة بالإشارة، فلا يتعلق في الدراهم التي في الذمة بالإضافة إليها بل يتعلق بمثلها، ويصير هو بائعاً الدنانير بمثل تلك الدراهم فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة والعدم بمنزلة، بخلاف مسألة الطعام؛ لأن العقد يتعلق بالطعام المعين بالإشارة إليه، فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء.
ثم إذا صح الشراء ههنا بالاتفاق فإن لم ينقد الدنانير في المجلس وافترقا بطل العقد، وإن قبض الدنانير في المجلس فالعقد ماض على الصحة؛ لأن في الوجه الأول افترقا بعد قبض أحد البدلين حكماً.
وفي الوجه الثاني: افترقا بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً، فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفاً أو نبهرجة لم يردها على ما ذكرنا، ولا يرجع بنقصان العيب ههنا أيضاً بخلاف مسألة شراء الكر (يرجع) عليه بالدراهم.
والفرق: أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض بالاضافة، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشترياً الكر بأقل من المائة، وإنه ليس بربا. أما العقد لا يتعلق بالدراهم التي في ذمة المستقرض بدلاً عن الدنانير وللمقرض على المستقرض ألف درهم مثل ذلك بزعمهما فالتقيا قصاصاً وصار المستقرض قاضياً ما كان للمقرض بما وجب للمستقرض في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع عليه بنقصان العيب يسلم له ألف درهم وشيء بمقابلة ألف درهم وهو الربا.
وإذا ادعى رجل على غيره شيئاً مما يكال أو يوزن أو يعد فاشتراه المدعى عليه من المدعي بمائة دينار ثم تصادقا أنه لم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء فالعقد باطل تفرقا أو لم يتفرقا؛ لأن العقد يتعلق بالكر في الذمة بالإضافة، فإذا تبين أنه لم يكن في الذمة تبين أنه باع المعدوم وبيع المعدوم باطل.
ولو ادعى دراهم أو دنانير أو فلوساً فاشتراها المدعى عليه بدراهم ونقد الدراهم ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء، ففي مسألة الدراهم والدنانير إن لم يتفرقا ورجع بمثل ما اشترى في المجلس يصح العقد؛ لأن العقد لم يتعلق بالمسمى في الذمة فيجعل كأنه وجد مطلقاً، فلا يبطل بتأخير القبض إلى آخر المجلس.
ولو تفرقا عن المجلس بطل العقد لافتراقهما عن المجلس قبل أخذ البدلين حقيقة في الفلوس لا يبطل العقد، وإن تفرقا عن المجلس قبل قبض ما اشترى؛ لأن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين حقيقة؛ لأنه ليس بصرف على ما ذكرنا.
ولو اشترى الرجل من غيره شيئاً بدراهم على المشتري وهما يعلمان أنه لا شيء للبائع على المشتري لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة الشراء بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يتصور ثمناً.(6/326)
وإذا باع درهماً كبيراً بدرهم صغير أو درهماً جيداً بدرهم صغير رديء يجوز؛ لأن لهما فيه غرضاً صحيحاً.
فأما إذا كانا مستويين في القدر والصفة فبيع أحدهما بالآخر هل يجوز وهل يصير مثله ديناً في الذمة؟ واختلف المشايخ قال بعضهم: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» : وبه كان يفتي الحاكم الإمام أبو أحمد.
وإذا اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار ونقد مشتري الدراهم الدينار ولم ينقد بائع الدراهمِ الدراهمَ وقد كان لبائع الدراهم (47أ3) على مشتري الدراهم ألف درهم دين قبل عقد الصرف، فقال بائع الدراهم لمشتري الدراهم: اجعل الألف التي وجب لك علي بعقد الصرف بالألف التي لي عليك ورضي به المشتري جاز، وهذا استحسان.
والقياس: أن لا يجوز. ولقب المسألة أن المتصارفين إذا تقاصّا بدل للصرف بدين وجب قبل عقد الصرف جاز استحساناً؛ لأنهما لما قصدا وقوع المقاصة فقد حولا عقد الصرف إلى ذلك الدين، ولو أضافا إليه العقد في الابتداء بأن اشترى بالعشرة التي له ديناراً وبقبض الدينار في المجلس يجوز، فكذا إذا حولا العقد إليه في الانتهاء، وهذا لأنهما قصدا تصحيح هذه المقاصة وتحويل الصرف إلى ذلك الدين. طريق تصحيح هذه المقاصد وما يتوصل به إلى المقصود يكون مقصوداً لكل أحد.
ولهذا شرطنا التراضي منهما على المقاصة وإن كان في سائر الديون يقع المقاصة بدون التراضي؛ لأن هذا تحويل العقد إلى ذلك الدين والعقد قديم بهما، فالتصرف فيه بالتحويل لا يكون إلا بتراضيهما، وأما المقاصة بدين وجب بالشراء بعد عقد الصرف بأن اشترى رجل من رجل دراهم بدينار ونقد الدينار ولم يقبض الدراهم حتى اشترى مشتري الدراهم من بائع الدراهم ثوباً بدراهم، فقال بائع الدراهم: اجعل الدراهم التي عليك بالدراهم التي لك علي بعقد الصرف، وتراضيا عليه؛ ذكر في رواية أبي سليمان أنه يجوز، وإليه أشار في «الزيادات» . وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يجوز وهو الأصح.
وجه ذلك: أنهما يملكان تحويل العقد إلى ما كان يصح منهما إضافة العقد إليه في الابتداء، وذلك في الدين (الذي) سبق وجوبه على عقد الصرف لا في الدين الذي تأخر وجوبه عن عقد الصرف.
قال محمد رحمه في «الجامع» : وإذا بيعت الدراهم المغشوشة بالفضة الخالصة فهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تكون الفضة فيها مغلوبة بأن كان ثلثا هذه الدراهم صفراً وثلثها فضة فبيع بعض هذه الدراهم بالفضة الخالصة وزناً بوزن، فإن كان وزن الفضة الخالصة مثل وزن هذه الدراهم المغشوشة يجوز؛ لأن قدر ما في الدراهم المخلوطة من الفضة يقابله من الفضة الخالصة مثل وزنه، والباقي من الفضة الخالصة بإزاء الصفر الذي في الدراهم، فيقع الأمن عن الربا. وإن كانت الفضة الخالصة مثل وزن ما في الدراهم المخلوطة من الفضة كان باطلاً؛ لأن الصفر لا يقابله شيء من هذه الصفرة فيكون ربا، وكذلك إن كانت(6/327)
الفضة الخالصة أقل وزناً من الفضة التي في الدراهم لا يجوز من الطريق الأولى.
وكذلك إذا كان لا يدرى أي الفضتين أكثر الخالصة منهما أو المخلوطة أو هما سواء لا يجوز؛ لأن هذا البيع يجوز بجهة واحدة وهي أن يكون الفضة الخالصة أكثر، ولا يجوز من وجهين وهو أن تكون الفضة المخلوطة أكثر أو كانا سواء، فكان ما يوجب الفساد غلب فيرجح جانب الفساد.
الوجه الثاني: أن تكون الفضة في الدراهم المغشوشة غالبة بأن كان ثلثاها (فضة) وثلثها صفراء فبيعت الفضة الخالصة لم يجز إلا سواء بسواء؛ لأن الصفر إذا كان أقل كان مغلوباً مستهلكاً فلم يعتبر وصار تحت الفضة فاعتبر بيع الزيوف بالجياد، وقد جاءت السنة في هذا أن جيدها ورديئها سواء، فلم يعتبر الصفر حال كونه مغلوباً بل أهدره.
وفرق بين الصفرة والفضة حيث اعتبر الفضة وإن كانت مغلوبة، ولم يجعلها هدراً.
والفرق بينهما: هو أن الفضة وإن كان أقل فهي قائمة للحال حقيقة، فإنها ترى وتشاهد، فإن اللون لون الفضة ومتى أذيبت تخلص الفضة وتخرج بيضاً خالصة ولا تحترق وإنما يحترق الصفر، وما أمكن تحصيله لا يكون مستهلكاً، فكانت الفضة قائمة باعتبار الحال والمآل، هذا من جهة الحقيقة، وأما من جهة العرف فلأن الفضة لا يجعل في الصفر ليصير خلطاً للصفر بل لترويج الصفر بالفضة ولهذا سموه دراهم، ولهذا جعلوا الفضة ظاهراً والصفر باطناً، فكانت الفضة معتبرة وإن كان أقل من الصفر، فأما الصفر إذا كان أقل، فإنه مستهلك باعتبار الحال؛ لأنه لا يشاهد في الدراهم وكذا باعتبار المآل فإن الصفر يحترق عند التمييز؛ لأنه أضعف جوهراً من الفضة فكان أشد احتراقاً على ما يقوله أهل هذه الصنعة وهم السباكون، فلم يكن به عبرة هذا من جهة الحقيقة، وكذا من جهة العرف، فإن الصفر إنما يحصل في الفضة ليكون خلطاً للفضة ورداءة لها عن الجودة إلى الرداءة، فصار بمنزلة جيد الفضة فسقط اعتباره وصار هذا البيع بمنزلة بيع فضة جيدة بفضة رديئة فيعتبر فيه المساواة على ما مر.
وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا كانا على السواء بأن كانت الدراهم المخلوطة نصفها فضة ونصفها صفر، فبيعت بالفضة الخالصة.
قال في «الكتاب» : هذا على وجهين: إما إن كانت الفضة التي في الدراهم غالبة على الصفر أو لم تكن فإن كانت الفضة هي الغالبة، فهذا والوجه الثاني من الباب سواء لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا وزناً بوزن، وإن لم تكن الفضة هي الغالبة بل كانا على السواء فهو بمنزلة الأول من الباب فيكون على التفصيل الذي مر.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل؟ إن الفضة التي في الدراهم إما أن تكون أغلب من الصفر التي فيها أو على السواء، وقد وضع المسألة فيما إذا تساويا.
قلنا: معنى هذا الكلام ما حكي عن العلماء من الصيارفة أن الصفر والفضة إذا دخلا في النار، فالصفر أشدهما احتراقاً وأسرعهما ذهاباً فيجوز أن يكون النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار للذوب وبعدما حملا إلى النار وأذيبا واختلطا(6/328)
يحترق شيء من الصفر قبل أن يذوب شيء من الفضة، فتصير الفضة في النار غالبة على الصفر، فإنما أراد بقوله النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار.
وما فصل من الجواب فقال: إذا كانت الفضة غالبة أو كانا على السواء أراد بذلك بعدما أذيبا فربما ينتقص الصفر فيصير الفضة غالبة وربما لا ينتقص فيبقيان على السواء، فإن كانت الفضة هي الغالبة كان نظير الوجه الثاني من الباب، وإن كانا نظير الوجه الأول من الباب فيكون على التفاصيل الذي مر.
ولم يذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة ما إذا كان الصفر غالباً على الفضة، وإنما لم يذكر؛ لأنه وضع هذه المسألة فيما إذا كانت الفضة والصفر سواء حال حملهما إلى النار، ويعتبر الغلبة بعد الذوب والاختلاط وعليه الصفر بعد الذوب إذا كانا سواء مثل ذلك لا يكون بحال؛ لأن الصفر أكثر احتراقاً من الفضة على ما مر.
فإنما لم يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، لهذا قال في «الجامع» أيضاً: وإذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة فاشترى بها رجل متاعاً وزناً جاز على كل حال ولا تتعين تلك الدراهم، وإن اشترى بدراهم مسماة من هذه الدراهم يعتبر عينها عدداً وهي بينهم وزناً فلا خير في ذلك؛ لأن قوله: اشتريت بكذا درهماً انصرف إلى الوزن؛ لأنهم متى تعاملوا الشراء بها وزناً لا عدداً تقررت الفضة الأصلية للدراهم وهي الوزن وصارت العبرة للوزن، والثمن إذا كان موزوناً فإنما يصير معلوماً بأحد أمرين إما بذكر الوزن، وإما بالإشارة إليها ولم يوجد شيء من ذلك (47ب3) فكان الثمن مجهولاً وهذا جهالة يوقعها في المنازعة؛ لأن فيها الخفاف والثقل معتبر عند الناس متى تعاملوا الشراء بها وزناً، فلهذا لم يجز.
وإن اشتراها بعينها عدداً فلا باس وإن كان تعامل الناس المبايعة بها وزناً؛ لأن جهالة الوزن في المشار إليه لا يمنع جواز البيع فيصح، ويصير معتبراً لبيان النقد والمقدار، فيصير كأنه قال: اشتريت بمثل وزن هذه الدارهم، فبعد ذلك إن أدى من غيرها يحتاج إلى وزن هذه الدارهم المشار إليها ليمكنه معرفة قدرها بالوزن، فيتمكن من أداء غيرها بمثل وزن هذه الدارهم، وإن أدى عينها صح من غير وزن كما في الدراهم الخالصة.
ولو عين هذه الدراهم وسماها وقال: اشتريت منك هذا المتاع بهذه الدراهم وهي كذا وكذا درهماً، أراد به تسمية الوزن وكانت تباع فيما بين الناس وزناً وقع ذلك على الوزن؛ لأن تقدير كلامه اشتريت منك هذا العرض بهذه الدارهم على أنها ألف أو على أنها مائة، ولو قال هكذا وجب على المشتري أن يوفيها وزن الذي يكون في بلادهم كذا ههنا.
هذا إذا كان بينهم وزناً، وإن كان بينهم عدداً، فاشترى بها يعتبر عينها عدداً جاز، وإن كان فيها الخفاف والثقال؛ لأن الناس تعاملوا الشراء بها عدداً لا وزناً، فالجهالة من حيث الثقل والخفة لا يوقعها في المنازعة فلا يمنع الجواز.(6/329)
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهي بمنزلة الدراهم الزيوف والنبهرجة إن اشترى بها إن لم يكن مشاراً إليها لا يجوز الشراء إلا وزناً كما لو كان الكل فضة زيفاً، ولهذا لم يجز استقراضها إلا وزناً، وإن كان مشاراً إليها يجوز الشراء بها من غير وزن كما في الدراهم الزائفة، وإن كانت الدراهم نصفها صفراً ونصفها فضة، فالجواب فيما إذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة سواء عند الاستواء لا تصير الفضة تبعاً للصفر، فلا يجوز الشراء في حق الفضة إلا بطريق الوزن، فكذا في حق الصفر.
ولو اشترى رجل من آخر ثوباً بدراهم بعينها من التي ثلثاها صفر وهي عندهم وزناً أو عدداً فلم يتفرقا حتى ضاعت لم ينتقض البيع حتى يعطيه مثلها؛ لأنها إن كانت تباع عدداً فهي بمنزلة الفلوس الرائجة، وأيهما كان لا يتعين بالتعيين فهلاكها لا يوجب انتقاض البيع، وهذا إذا علم عددها أو وزنها حتى يتمكن المشتري من اعطاء مثلها عدداً أو وزناً كما قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : أما إذا لم يعلم ينتقض البيع؛ لأن الثمن يصير مجهولاً فلا يتهيأ للمشتري رد مثل المشار إليه والحالة هذه.
وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهو بمنزلة الدراهم النبهرجة والزيوف لا ينتقض البيع بهلاكها ويرد مثلها وزناً إن علم وزن المشار إليه، فإن لم يعلم وزن المشار إليه ينتقض البيع، وكذلك الجواب فيما إذا كان نصفها فضة ونصفها صفراً؛ لأنه إذا كان هكذا فهو بمنزلة فضة ضم إليها فلس رائج فلا يتعين أيضاً، وإن كانت الدراهم ثلثاها صفر بيعت وزناً كالسلع يجب أن تتعين بالتعيين، فيبطل البيع بهلاكها قبل التسليم، كذا قاله مشايخنا رحمهم اللَّه.
وإذا كانت الدراهم صنوفاً مختلفة منها ما ثلثها فضة، وثلثها صفر، ومنها ما نصفها صفر فلا بأس ببيع إحدى هذه الصنوف بالصنف الآخر متفاضلاً يداً بيد ولا خير في ذلك نسيئة يريد به أنه لا بأس ببيع ما كان الصفر فيه غالباً بما كان الصفر فيه مغلوباً وببيع ما كان الصفر فيه مغلوباً بما كان الصفر والفضة فيه على السواء، وعلى العكس يداً بيد وإن كان متفاضلاً؛ لأنه تصرف فضة هذا إلى صفر ذلك وصفر ذلك إلى فضة هذا، وجعل بمنزلة ما لو باع صفراً وفضة بصفر وفضة فإنه يجوز كيف ما كان، ولكن بعد أن كان يكون يداً بيد، وأما لا خير فيه نسيئة؛ لأن الوزن يجمعهما وهما ثمنان فيحرم النَّساء.g
فأما إذا باع جنساً منها بذلك الجنس متفاضلاً ففيما إذا كانت الفضة غالبة لا يجوز؛ لأن المغلوب ساقط الاعتبار، فكان الكل فضة فلا يجوز إلا مثلاً بمثل، وفيما إذا كان الصفر غالباً أو كانا على السواء يجوز متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الصفر معتبر والفضة كذلك، فأمكن صرف الجنس إلى خلاف الجنس، ويشترط أن يكون يداً بيد باعتبار صورة الفضة.
وعلى قياس هذه المسألة قالوا: إذا باع من العدليات في زماننا واحداً باثنين يجوز بعد أن يكون يداً بيد هذه الجملة من «الجامع الكبير» وفي «نوادر ابن سماعة» سئل أبو يوسف عن بيع درهم بخاري بدرهمين وقد يكون في بعض البخاري من النحاس دانقين(6/330)
ونصف وفي بعضها دانقين قال: لا يجوز من قبل أن الفضة غالب فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً (بوزن) قال: ولو كان النحاس غالباً لا يجوز أيضاً إلا مثلاً بمثل، وفي زمن العطارف ببخارى أكثر المشايخ كانوا يفتون بجواز بيع عطريفة بعطريفتين يداً بيد وكانوا يقولون: في كل عطريفة سدس فضة فإن بيع منها الثنتان أو ثلثه أو أربعه أو خمسه بدرهم فضة خالصة يجوز، ويجعل من الفضة الخالصة بمثل الفضة التي في العطارف والفضل بإزاء النحاس.
وسئل أبو حنيفة عن الدراهم البخارية إذا كان الغالب فيها النحاس فقال: هي بمنزلة الفلوس، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي بجواز بيع العطارف واحداً باثنين، وكان يقول: تقررت العطارف ثمناً في بلادنا بحيث لا تتبدل ولا تتغير فالتحقت بالدراهم الجياد.
وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان النحاس هو الغالب على الفضة في الدراهم وكل واحد منهما يتخلص على حدة إن خلص لم يجز أن يشتريها إلا بأكثر من الفضة التي فيها، وإن كان يحترق الفضة ويبقى النحاس فهو نحاس كله لا بأس بأن يشتريها بأقل من الفضة التي فيها، وهي بمنزلة الفلوس لا تحتسب بالفضة التي تحترق فلا يبقى. وإن كانت الفضة تبقى والصفر تحترق بل تحتسب بالصفر وعومل به كما يعامل بالفضة، ثم قال: كل شيء من ذلك يحترق فيذهب ويذوب لم يحتسب به.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر ديناراً بعشرين درهماً وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتري الدينار دينار مثله؛ لأن بالافتراق قبل قبض الدراهم بطل عقد الصرف، فوجب على المشتري رد ما قبض من الدينار وقد عجز عن رد عينه، فيلزمه فلم يحكم بانتقاض الهبة ببطلان عقد الصرف.
وروى بشر عن أبي يوسف: أن البيع باطل والهبة باطلة؛ لأنها بناء على البيع وقد بطل البيع بالافتراق ولا شيء على المشتري لبائع الدينار؛ لأن بانتقاض الهبة رجعت الهبة إلى بائعها بحكم قديم ملكه فلا شيء له غير ذلك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له على رجل كر حنطة فباعه إياه بعشرة دراهم على أن مشترى الكر فيه بالخيار إلى أجل مسمى وقبض الدراهم قال: هذا فاسد؛ لأن مشتري الكر لم يملك الدراهم حين شرط الخيار لنفسه في الكر. فهذا دين بدين؛ لأنه اشترى الكر وهو دين بعشرة دراهم وهو دين حين لم يملكها من بائع الكر واللَّه أعلم.
(48أ3) نوع آخر
في بيع الأشجار وفي بيع الثمار والكرم والأوراق والمبطخة وفي بيع الزرع والرطبة والحشيش: ذكر في «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله فيمن اشترى أشجاراً ليقطعها من وجه الأرض، فلم يفعل حتى أتى على ذلك مدة وجاء أوان الصيف فأراد المشتري أن يقطعها، فهذا على وجهين:(6/331)
الأول: أن لا يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه له أن يقطعها؛ لأنه يتصرف في ملكه.
الثاني: أن يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه ليس له أن يقطع دفعاً للضرر عن صاحب الأرض والأشجار.
وإذا لم يكن للمشتري ولاية القطع في هذه الصورة ماذا يصنع؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفع صاحب الأشجار قيمة الأشجار إلى مشتريها وتصير الأشجار له، واختلفوا فيما بينهم أنه يدفع قيمتها مقطوعة أو قائمة.
عامتهم على أنه يدفع قيمتها قائمة؛ لأنه يتملكها قائمة وهو الصحيح، وبعضهم قالوا: ينتقض البيع بينهما في الأشجار ويرد صاحب الأرض على المشتري ما دفع إليه من ثمن الأشجار؛ لأنه عجز عن التسليم معنى، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر الهندواني، واختاره الصدر الشهيد في «واقعاته» : وهكذا كان يفتي في جنس هذه المسألة نحو بيع الأوراق وغير ذلك.
في «فتاوي أهل سمرقند» : طلب الرجل من آخر أن يبيع منه أشجاراً في أرضه للحطب، فاتفقا على رجال من أهل البصر لينظروا إلى أشجار بعينها أنها كم وقراً تكون من الحطب، فاشتراها بثمن معلوم، فلما قطعها كانت أكثر من خمسة وعشرين وقراً، فأراد البائع أن يمنع الزيادة ليس له ذلك؛ لأن هذا وصف الشجر فيطيب للمشتري كالزيادة في الثوب.
وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل (عنده) مشجرة جعل على بعض الأشجار علامة، فباع المشجرة إلا الأشجار التي عليها العلامات، فقطع المشتري الأشجار ثم ادعى البائع على المشتري أنك قطعت بعض الأشجار التي عليها العلامة، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر.
وإن ادعى البائع أنه كسر أغصان الأشجار التي عليها العلامة، وقال المشتري: لم أتعمد ذلك ولكن لم يكن منه بد إذا قطعت أشجاري، فإن كان ذلك مما يمكن التحرز عنه فعليه ضمان النقصان؛ لأنه غير مأذون من جهة البائع في ذلك، وإن كان ذلك مما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان؛ لأنه مأذون من البائع في ذلك دلالة.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا باع شجراً وعليه ثمرة قد أدرك أو لم يدرك جاز، وعلى البائع قطعه من ساعته؛ لأن المشتري يملك الشجرة فيجبر البائع على تسليمها فارغة، وكذلك لو أوصى بنخلة لرجل وعليه تمر ثم مات الموصي أجبر الورثة على قطع التمر وهو المختار من الرواية.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : شجرة جوز أصلها واحد ولها فرعان باع صاحبها أحد الفرعين جاز إن عين موضع القطع ولم يكن في القطع ضرر؛ لأن هذا بيع استجمع شرائطه، باع نصيباً له من الشجرة بغير إذن شريكه وبغير رضا، فإن كانت الأشجار قد بلغ أوان قطعها فالبيع جائز؛ لأن المشتري لا يتضرر بالقسمة، وإن لم يبلغ أوان قطعها لم يجز؛ لأن المشتري يتضرر بالقسمة.(6/332)
وفي «العيون» : اشترى رجل نخلة فيها تمر وتواضعا على أن لأحدهما النخلة وللآخر الرطب، فالبيع جائز ويقسم الثمن على قيمتها؛ لأن كل واحد منهما تفرد بالبيع.
وكذا لو اشترى أرضاً فيها نخيل على أن لأحدهما الأرض وللآخر النخيل جاز، ولصاحب الشجر أن يقلعه، فإن كان في قلعه ضرر بيّن فهو بينهما؛ لأنه حينئذ بمنزلة الفص مع الخاتم، والحلية مع السيف، ويجوز شراء الشجرة بشرط القلع، وأما شراؤها بشرط القطع فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز.
في شفعة شيخ الإسلام في شفعة الأرضين والأنهار: وأما بيع الثمار على الأشجار فهو على وجهين:
الأول: أن يبيعها قبل الطلوع أي قبل الظهور، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع.
الوجه الثاني: أن يبيعها بعد الطلوع وإنه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتفعاً بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعلف الدواب، وفي هذا اختلاف المشايخ ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: لا يجوز، وذكر الشيخ أبو الحسن القدوري والقاضي الإمام الإسبيجابي أنه يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الزكاة في باب الغرر في «الجامع» في كتاب الإجارات.
والحيلة في ذلك: حتى يجوز البيع على قول الكل أن يبيعه مع أوراقه بأن يبيع الكمثرى في أول ما يخرج من ورده مع أوراقه، فيجوز في الكمثرى تبعاً للبيع في الأوراق، ويجعل كأنه ورق كله حتى يجوز البيع.
الوجه الثاني: إذا باعه بعدما صار منتفعاً به، وتناهى عظمه، ولا شك أن في هذا الوجه يجوز البيع إذا باعه مطلقاً أو بشرط القطع.
وإن باع بشرط الترك فالقياس: أن لا يجوز، وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف، وفي الاستحسان: يجوز، وبه أخذ محمد.
وجه ما ذهب إليه محمد رحمه اللَّه: أن شرط الترك لو أوجب فساد العقد في هذه الصورة، إما أن يوجب من حيث إنه بيع شرط فيه إجارة أو عارية ولا وجه إليه؛ لأن إجارة النخل وإعارته لا تتحقق، أو من حيث إنه شرط فيه زيادة مال يحصل للمشتري من ملك البائع سوى المبيع ولاوجه إليه أيضاً؛ لأنه تناهى عظمه بخلاف ما إذا لم يتناه عظمه؛ لأن فيه اشتراط زيادة من مال البائع سوى المبيع.
فأما أبو حنيفة وأبو يوسف: ذهبا في ذلك إلى أنه شرط في هذا البيع ما لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أنه إن كان لا يثبت بهذا الشرط إجارة أو عارية أو زيادة مال من مال البائع سوى المبيع يحصل للبائع زيادة وطراوة وللمشتري فيه منفعة، والبيع لا يقتضي هذا، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع.
الوجه الثالث: إذا باعه بعدما صار منتفعاً إلا أنه لم يتناه عظمه وفي هذا الوجه البيع(6/333)
جائز إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع شرط فيه مالا يقتضيه البيع، ولأحد العاقدين فيه منفعة.
بيانه: أن المشتري شرط لنفسه زيادة مال يحصل له سوى ما دخل تحت البيع من مال البائع، وهذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة، ومثل هذا يوجب فساد البيع لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ثم إذا جاز البيع إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع: إذا ترك المشتري حتى أدرك هل يطيب له الزيادة؟ إن ترك بإذن البائع أو استأجر منه الأشجار يطيب له الزيادة؛ لأن الزيادة إنما استفادها المشتري من مال البائع بإذنه، فيطيب له ذلك.
وإذا اشترى ثمار بستان على ما هو العرف ويقال بالفارسية: برباغ وبعض الثمار قد خرج وبعضها لم يخرج بعد، هل جاز هذا البيع؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك، وكان يزعم عن أصحابنا رحمهم الله، وهكذا عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه كان يفتي بجواز هذا البيع، وكان يقول: أجعل الموجود أصلاً في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعاً، ولهذا (شرط) أن يكون الخارج أكثر؛ لأن الأقل يجعل تابعاً للأكثر، أما الأكثر لا يجعل تابعاً للأقل.
وقد روي عن محمد رحمه الله في بيع الورد على (48ب3) الأشجار أنه يجوز، ومعلوم أن الورد لا يخرج جملة، ولكن يتلاحق البعض بالبعض. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يجوز؛ لأن المصير إلى هذا الطريق إنما يكون عند تحقيق الضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يبيع أصول هذه الأشياء مع ما فيها من الثمرة؛ وما يتولد بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، وعلى هذا نص في «القدوري» .
وإن كان البائع لا يعجبه بيع الأشجار، فالمشتري يشتري الثمار الموجودة ببعض الثمن فيؤخر العقد في الباقي إلى وقت وجوده، أو يشتري الموجود بجميع الثمن، ويحل له البائع الانتفاع بما يحدث، فيحصل مقصودهما بهذا الطريق، فلا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم.
وإذا اشترى الكرم وبعض الثمار صار منتفعاً لاشك أن هذا الشراء جائز على قول من قال بجواز شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً، ومن قال بأن شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً لا يجوز اختلفوا فيما بينهم. قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح عندي أنه لا يجوز، وطريقه ما قلنا.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى أنزل الكرم وبعضه ني وبعضه قد أنضج، فإن كان كل نوع بعضه ني وبعضه قد أنضج جاز، وإن كان بعض الأنواع نياً والبعض قد أنضج لا يجوز، قال: لأن المجوز العرف ولا عرف ههنا، والصحيح أنه يجوز في الوجهين جميعاً.
وإذا باع الكل فإن باع البعض وبعضها ني وبعضها قد أنضج، أو الكل ني لا(6/334)
يجوز. وكذلك إذا كان مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه وبعضه ني أو الكل ني لا يجوز؛ لأنه يحتاج إلى القسمة والمنتفع يقسم وغير المنتفع لا يقسم.
هذا إذا باع من أجنبي، فإن باع من شريكه أفتى ركن الإسلام السغدي أنه لا يجوز، وبعضهم قالوا: لو باع من العامل لا يجوز، ولو باع العامل من رب الكرم يجوز كما في الزرع على ما يأتي بياناً بعدُ إن شاء الله تعالى.
فأما إذا باع من الأجنبي لا يجوز ولكن لا لما قالوا: إنه يجوز ولكن لما قالوا: إنه يحتاج إلى القسمة وغير المنتفع؛ لأن بعض الثمار ينتفع قبل النضج انتفاع أعلاف الدواب بها، ومع هذا لا يجوز البيع في الكل.
ولكن الوجه في ذلك أنه يحتاج إلى القسمة ولا تتأتى القسمة إلا بالقلع وفي القلع ضرر للمشتري.
وفي «متفرقات شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله: أن بيع الثمار على رؤوس الأشجار قبل أن يبدو صلاحها وبعدما بدا صلاحها يجوز وفسد بدو الصلاح بصيرورته منتفعاً.
قال: ولا يشترط النضج إلا في الكمثرى والجوز والخوخ؛ لأن هذه الأشياء غير منتفع بها من حيث الأكل قبل النضج، وهذا (ليس ب) صواب في الكمثرى؛ لأن قبل النضج يصير منتفعاً من حيث أعلاف الدواب.
وفي «صلح فتاوى أبي الليث» : إذا باع الثمار قبل أن يدرك أن كان الثمار حصرماً أو تفاحاً أو ما أشبه ذلك يجوز، وإن كان خوخاً أو كمثرى لا يجوز إلا أن يكون قد أدرك بعضها فيجوز فيما أدرك وفيما لم يدرك على تلك الشجرة إذا لم يشترط الترك، وهذا كما قال أبو يوسف: فيمن باع الفيلق وبعضها دود لم يصر فيلقاً جاز البيع في الكل، والجواب الذي ذكر غير مستقيم في الكمثرى لما مر.
ولو باع نزل الكرم والعنب كالمج إن عبر بعبارة العنب لا يجوز البيع، وإن صار عنباً لا ينقلب البيع جائزاً، وإذا لم يعبر بعبارة العنب لا يجوز البيع في الحال؛ لأنه لا ينتفع به أصلاً، وإذا باع عنباً فذلك البيع جائز.
وإذا باع الثمر على الشجر والبعض قد خرج ثم خرج الباقي، فإن حلل له البائع جاز.
ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان يعرف الحادث فالعقد صحيح على حاله، ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان قبل التخلية فسد البيع؛ لأنه تعذر التسليم بسبب الاختلاط فيعتبر بما لو تعذر بسبب الهلاك. وإن كان بعد التخلية لا يفسد العقد؛ لأن تمام العقد بالتسليم وقد وجد فانتهى نهايته فلا يفسد بالاختلاط وقد اختلط ملك أحدهما بالآخر، فإن كانا شريكين فيه فالقول قول المشتري في قدر ذلك؛ لأنه في يده.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها وصلاح الباقي يتقارب وشرط الترك جاز عند محمد؛ لأن المعتاد أن الثمرة يدرك أكثرها ويتلاحق فصار كما لو(6/335)
كان الكل مدركة فصح شرط الترك عنده، وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخراً كثيراً فالبيع جائز فيما أدرك ولم يجز في الباقي، وهذا إنما يكون في العنب غالباً؛ لأن بلوغ الأسود منه يتقدم ويتأخر كثيراً، فيصير كالجنسين إذا بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر، فيجوز بيع ما قد بلغ عنده بشرط الترك دون ما لم يبلغ لما عرف من أصله.
وإذا اشترى الرجل عنب كرم على أنه ألف منٍ فلم يخرج منه إلا قدر تسعمائة، فللمشتري أن يطالب البائع بحصة مائة مَنَ من الثمن؛ لأن البيع بقدر المائة المَنَ لم يصح لمكان العدم وصح بقدر التسعمائة المَنِّ فيطالب البائع بحصة ما لم يصح فيه البيع.
قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يفسد العقد في الباقي؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد وهو العدم، والأصل عنده: أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد العقد في الباقي، وكان القاضي أبو الحسين قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة في جنس هذا أن العقد فاسد في الكل، وبه كان يقول شمس الأئمة الحلواني وعليه كثير من المشايخ، وكان شمس الأئمة السرخسي يقول: بأن العقد فيما وجد صحيح عند الكل؛ لأن البائع ما ضم المعدوم إلى الموجود في البيع بل باع الموجود، وظن أنه مقدار معين وتبين أنه لم يكن ذلك المقدار، ولهذا لا يصير بائعاً، وسيأتي جنس هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وفي «النوازل» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك عنب هذا الكرم (كل) وقر بكذا، والوقر معروف لهم، فهذا على وجهين: أما إن كان العنب من جنس واحد، وفي هذا الوجه يجوز البيع في الكل ذكر مطلقاً من غير ذكر خلاف.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن يكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز في وقر واحد، وعلى قولها: يجوز في الكل بناء على مسألة الصبرة إذا قال لغيره: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على قول أبي حنيفة: يجوز في قفيز واحد، وعندهما: يجوز في الكل، قال رحمه الله: والفتوى على قولهما تيسيراً للأمر على الناس، وإن كان العنب أجناساً مختلفة فعلى قول أبي حنيفة ينبغي ألا يجوز أصلاً، وعلى قولهما: يجوز في الكل.
وفي «النوازل» أيضاً: وإذا باع أوراق الشجرة وقد ظهرت على الشجر بثمن معلوم وقبض الثمن ولم يأخذ المشتري الأوراق حتى ذهب وقتها، فأراد الرجوع بالثمن، فإن كانت الأوراق بأغصانها وكان موضع القطع معلوماً ليس له الرجوع؛ لأنه قادر على قبض المشترى بالقطع إلا أنه إذا كان في القطع فساد الشجر تخير البائع: إن شاء رضي بالقطع، وإن شاء نقض البيع.
قال الصدر الشهيد: وهذا هو المختار في مسألة بيع الاشجار التي تقدم ذكرها، فإن كان اشترى الأوراق بدون الأغصان كان له الرجوع بالثمن؛ لأنه لما بقي إياماً يفسد البيع؛ لأنه لا بد وأن يخرج شيء من الأوراق في هذه المسألة، فيتخلط المبيع بغير المبيع وكذلك بيع ثمار الاشجار على هذا.(6/336)
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى أوراق التوت (49أ3) على أن يقطعها من ساعته يجوز، وإن اشتراها على أن يأخذ شيئاً فشيئاً لا يجوز؛ لأنه يزداد فيختلط المبيع بغير المبيع، وإن اشتراها ولم يشترط شيئاً، فإن أخذها في اليوم جاز، وإن مضى يوم فسد البيع؛ لأنه يزداد ويمكن التحرز عنه.
والحيلة في ذلك أن يشتري الشجرة بأصلها، ويأخذ الأوراق ثم يبيع الشجرة من البائع.
وأما بيع المبطخة: رجل أراد بيع مبطخة على وجه يصح البيع بالاتفاق ينبغي أن يبيع الحشيش وأشجار البطيخ ببعض الثمن الذي اتفقا عليه حتى أن ما يحدث بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، ثم يؤاجر الأرض من المشتري ببقية الثمن ليتمكن المشتري من إبقاء الحشيش والأشجار، فيحصل مقصودهما.
في «فتاوي الفضلي» : إذا باع من آخر شجرة البطيخ قبل أن يخرج الحدجة بهذه اللفظة: أين خيار زار بتوفر وختم؛ جاز لأن البيع يقع على شجرة البطيخ دون ما يخرج من الحدجة، ثم (ما) يخرج من الحدجة يخرج على ملكه.
وفي هذا الموضع أيضاً: مبطخة بين شريكين باع أحدهما نصيبه من إنسان لا يجوز (قلعه لأن) في قلعه ضرر يلحق غير البائع، والإنسان لا يجبر على عمل الضرر، وإن رضي به فينبغي أن يشتري كل المبطخة من الشريكين ثم يفسخ البيع في النصف، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عن بيع الغاليين قبل أن يظهر شيء قال: لا يجوز.
وأما بيع الزرع والحشيش: إذا باع الزرع وهو بقل إن باعه على أن يقطعه المشتري أو على أن يرسل دابته فيها لتأكل جاز؛ لأنه شرط ما يقتضيه العقد، وإن باعه على أن يتركه حتى يدرك لا يجوز؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وكذلك إذا باع رطبة وفارسيته سبست زار، فهو على التفصيل الذي ذكرنا هو المختار، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله.
في «فتاوي أبي الليث» : أرض بين رجلين فيها زرع لهما، باع أحدهما نصف الزرع الذي هو نصيبه من غيره بدون الأرض فهذا على وجهين: إن كان الزرع مدركاً يجوز؛ لأنه لا يتضرر بهذا البيع صاحبه؛ لأن أكثر ما فيه أن المشتري يقلع الزرع ليمكنه أخذ النصف إلا أنه لا ضرر على صاحبه في ذلك إن كان مدركاً، وإن كان غير مدرك لا يجوز إلا برضا صاحبه باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك لا يجوز وإن رضي به صاحبه، أما إذا باع بشرط الترك إنما لا يجوز وإن رضي به صاحبه؛ لأن هذا بيع شرط فيه شرط فاسد، وإنه لا يوجب الفصل بين الرضا.f
وأما إذا باع مطلقاً وبشرط القطع إنما لا يجوز إذا رضي به صاحبه؛ لأنه ضمن(6/337)
إلحاق الضرر بصاحبه؛ لأنه لا يمكن للمشتري قلع النصف وإبقاء النصف باعتبار مساحة الأرض؛ لأن الزرع في أطراف الأرض يتفاوت قد يكون في بعضها مبلغاً ولا يكون في البعض كذلك، فتتعذر القسمة باعتبار مساحة الأرض، فيجب اعتبار القسمة باعتبار المقلوع، فإذا قلع الكل يتضرر به صاحبه إذا لم يكن مدركاً، وأحد الشريكين إذا تصرف في المحل المشترك تصرفاً يتضرر به صاحبه وإنه يقبل الرد لا يجوز تصرفه إلا برضا صاحبه، هذه الجملة من صلح شيخ الإسلام رحمه الله.
ومسألة المبطخة التي تقدم ذكرها مع تعليلها أن الإنسان لا يجبر على تحمل الضرر وإن رضي به دليل أن بيع نصف الزرع بدون الأرض لا يجوز وإن رضي به صاحبه.
ولو باع أحدهما نصف الزرع مع نصف أرضه جاز، وقام المشتري مقام البائع، ثم في الفصل الأول إذا لم يجز بيع نصف الزرع أو لم يفسخ العقد حتى أدرك الزرع انقلب العقد جائزاً؛ لأن المانع من الجواز قد زال ويعلم من هذه المسألة كثير من المسائل، فإذا كان الزرع كله لرجل باع نصفه من رجل بدون الأرض إن كان الزرع مدركاً يجوز، وإن لم يكن مدركاً لا يجوز؛ لأن هذا البيع يتضمن إلحاق الضرر بالبائع في غير ما تناوله البيع، فيكون فاسداً كبيع الجذع في السقف.
وإذا كان الزرع من الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الزرع من شريكه بدون الأرض لا يجوز إذا لم يكن الزرع مدركاً؛ لأن هذا هذا بيع يضمن إلحاق الضرر بالمشتري فيما ليس بمعقود عليه؛ لأن البائع يأمر المشتري بقلع ما اشترى منه ليفرغ أرضه وعلى هذا القطن وسائر أنواع الزرع إذا كان مشتركاً بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه بدون الأرض، وأما إذا باع نصف الزرع مع نصف الأرض من شريكه أو من أجنبي بغير رضا شريكه جاز في شفعة شيخ الإسلام.
وفي «الأجناس» : إذا باع النصف من الزرع المشترك من شريكه يجوز في ظاهر الرواية، وروى هشام عن محمد أنه لا يجوز.
وإذا كان الزرع بين رب الأرض وبين الأكار، فباع رب الأرض نصيبه من الأكار لا يجوز، ولو باع الأكار نصيبه من رب الأرض جاز؛ لأنه لا يحتاج في التسليم إلى القسمة فلا يتضرر به أحدهما.
في الباب الأول من بيوع «الواقعات» : ولو كان مدركاً جاز بيع كل واحد منهما نصيبه من صاحبه، ومن مزارعة «الجامع الأصغر» قال: يصير مزارعاً بالثلث، باع نصيبه من الزرع من رب الأرض أو غيره لا يجوز. وفي «نوادر إبراهيم بن رستم» عن محمد: رجل دفع أرضه مزارعة ثم باع الأرض بزرعه يعني بنصيبه من الزرع والزرع بقل، فأجاز المزارع فهو جائز، وإن أجاز على أن يكون نصيبه في الأرض مزارعة فهذا فاسد.
قال في «البقالي» : وإذا استحصد الزرع وقد كان سمى الزرع في البيع جاز البيع وقسم الثمن على قيمة الأرض ونصيب البائع، فأحاله إلى كتاب المزارعة.
وفي «المنتقى» : رواية مجهولة: إذا اشترى الرجل أرضاً فيها زرع للبائع والحراب لمشتري الأرض بنصيب البائع من الأرض، فإن طلب تسليم الأرض لم يجز، وإن قال:(6/338)
أنا أسكت حتى تستحصد الأرض جاز؛ ولا يتصدق المشتري بشيء من الزرع؛ لأنه زاد في أرضه.
وفي «البقالي» : إذا كان الأرض بين رجلين فزرعها أحدهما ونبت الزرع فتراضيا على أن يعطيه الأجر مثل نصف البذر، ويكون الزرع بينهما ولا يجوز قبل أن ينبت. ولو طلب الآخر القطع قسمت الأرض ويؤمر الزارع بقلع ما في نصيب الشريك، ويغرم نقصان نصيب الشريك إن كانت الزراعة قد نقصت الزرع.
ومن اشترى أرضاً وزرعها فأشرك غيره في الأرض والزرع جاز، ولو أشركه في الزرع دون الأرض لا يجوز، ذكره محمد رحمه الله في النصاب.
وإذا اشترى أرضاً وفيها زرع والزرع بقل، فقبل أن يقبض الأرض دفعها مزارعة إلى البائع بالنصف لا يجوز؛ لأنه يصير بائعاً الزرع وهو منقول قبل القبض، وإذا باع الأرض مع نصف الزرع أشار في كتاب المزارعة في باب العذر في المزارعة أنه لا يجوز ثم بيع نصف الزرع بدون الأرض، وإنما لا يجوز في موضع كان لصاحب الزرع حق القرار بأن زرع في ملكه، أما إذا لم يكن له حق القرار بأن كان متعدياً في الزراعة كالغاصب جاز بيع نصف الزرع؛ لأنه إذا لم يكن لصاحب الزرع حق القرار كان القلع مستحقاً عليه ومستحق القلع كالمقلوع، ولو كان مقلوعاً حقيقة جاز بيع نصفه كذا ههنا. وعلى هذا إذا باع نصف (49ب3) البناء بدون الأرض إن (كان) محقاً في البناء لا يجوز، وإن كان متعدياً جاز؛ ذكر هذه الجملة شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة في باب الفروض.
وإذا اشترى الفضل فهذا على وجهين:
الأول: أن يشتريه قبل أن يصير منتفعاً وفي جوازه اختلاف على نحو ما بينا في الثمار.
الثاني: إذا يشتريه بعد ما صار منتفعاً به يصلح لعلف الدواب، فإن اشتراه بشرط القطع أو أطلق الكلام فالبيع جائز، وإن اشتراه بشرط الترك فالعقد فاسد.
ثم إذا جاز بأن اشتراه بشرط القطع أو مطلقاً، فاستأجر المشتري الأرض مدة معلومة جاز، وفي الثمار لو استأجر الأشجار مدة معلومة في مثل هذه الصورة لا يجوز.
وفرق آخر بينهما: أن ههنا لو استأجر الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل، ولو استأجر الأشجار إلى وقت إدراك الثمر في مثل هذه الصورة يطيب له الفضل ولا يلزمه شيء من الأجر.
والفرق: أن الإجارة في مسألة النخيل أضيف إلى غير محلها وهي الأشجار؛ لأن الحادث من الأشجار زيادة في التمر والزيادة في التمر عين وليس بمحل الإجارة، فالتصرف المضاف إلى غير محله لا جواز له ولا انعقاد، فيبقى مجرد الإذن بالترك من غير عقد ولا فساد فيه، فيطيب الفضل ولا يجب الأجر.
أما في مسألة الفضل: الإجارة أضيفت إلى محلها وهو الأرض. والحاصل من الأرض منفعة ... فأما الزيادة في الحب يحصل من الفضل؛ لأن الفضل للحب(6/339)
كالشجر للتمر لما وجدنا ههنا أصلاً بحصول زيادة العين إليه كان الحاصل من الأرض مجرد منفعة ... فتنعقد الإجارة عليها بوصف الصحة عند بيان المدة، وبوصف الفساد عند ترك بيان المدة، فما حصل من الزيادة بسبب خبيث وهو العقد الفاسد فيجب التصدق مع أجر المثل.
وإذا باع جزة من الكرات بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز؛ لأن البيع إنما ينعقد على ما هو موجود، وقد غلا وهي الجزة الأولى، أما الجزة الثانية والثالثة معدومة لم يثبت بعد فلا يجوز البيع، وكذلك هذا في سائر البقول إذا باع منه جزة بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز.
وكذلك في الفضل إذا باعه بعدما غلا ليفضل في الحال يجوز البيع، وكذلك هذا في الأشجار إذا باعها وهي نابتة ليقطع أو ليقلع في الحال فهو جائز، وأما قوائم الخلاف وسعف النخيل فقد اختلف المشايخ في جواز بيعها، ونص الكرخي في «كتابه» على الجواز ورواه عن أصحابنا.
ولو باع حشيشاً في أرضه إن كان صاحب الأرض هو الذي أنبت بأن سقاها لأجل الحشيش، فنبت بتكلفه جاز؛ لأنه ملكه ألا ترى أنه ليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه، وإن نبت بنفسه لا يجوز؛ لأنه ليس بمملوك له، بل هو مباح الأصل، ألا ترى أن لكل أحد أن يأخذه فلهذا لم يجز بيعه، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «القدوري» : ولا يجوز بيع الكلأ في أرضه، وكذا لا يجوز بيع الكمأة في الأرض، قال ثمة: ولو ساق الماء إلى أرضه وبحصة موته حتى خرج الكلأ لم يجز بيعه، قال: لأن الشركة في الكلأ ثابتة بالنص، وإنما تنقطع الشركة بالحيازة، وسوق الماء إلى أرضه ليس بحيازة للكلأ على الشركة فلا يجوز بيعه. وما ذكر القدوري رحمه الله يخالف ما ذكر في «النوازل» .
نوع آخر
في بيع المرهون والمستأجر والمغصوب والآبق وأرض القطيعة والأخاد والإكارة: اختلفت عبارة الكتب في بيع المرهون وقع في بعض (الكتب بيع) المرهون فاسد ووقع في بعضها أن البيع موقوف، من مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، وعامتهم على أن الصحيح أن البيع موقوف إن قضى الراهن المال أو أبرأه المرتهن منها ورد الرهن عليه ورضي به تم البيع وإن لم يجز المرتهن بيعه وطلب المشتري من القاضي التسليم، فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وهذا لأن البيع صدر من المالك، وللمرتهن حق في المحل، وكما يجب مراعاة حق صاحب الحق وإنما يصير الحقان مراعاً إذا قلنا بالتوقف.
ومعنى قوله في بعض الكتب: أن بيع المرهون فاسد أنه لا حكم له، فكان فاسداً في حكم الحكم؛ وهذا لأن البائع مالك للغير وتأثير حق الغير في دفع الحكم لا في إفساد العقد في نفسه كبيع مال الغير وبيع المستأجر نظير بيع المرهون موقوف عند عامة(6/340)
المشايخ وهو الصحيح، وللمشتري الخيار إذا لم يعلم وقت الشراء أن المشترى مرهون أو مستأجر لتأخر التسليم بحق المرتهن والمستأجر، وإن (كان) عالماً به وقت الشراء فكذلك عند محمد يثبت له الخيار؛ لأن كون المشترى مرهوناً أو مستأجراً عند محمد بمنزلة الاستحقاق.
ومن اشترى من غيره مال غيره والمشتري يعلم أن المشترى مال الغير كان للمشتري حق النقض، والرجوع على البائع بالثمن، وعند أبي يوسف: ليس له حق نقض الشراء؛ لأن كون المشترى مستأجراً أو مرهوناً عنده بمنزلة العيب.
ومن اشترى شيئاً معيباً وعلم بكونه معيباً وقت الشراء فلا خيار له في فسخ العقد، وذكر شمس الأئمة الحلواني الخلاف على هذا الوجه في شرح «حيل الخصاف» وأحاله إلى «النوادر» ، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» : أنه إذا كان يعلم بكونه مرهوناً أو مستأجراً فله الخيار في ظاهر الرواية.
وذكر القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : أنه إذا كان عالماً به، فلا خيار له في ظاهر الرواية، وكذلك إذا اشترى أرضاً ولها إكار فهو على هذين الوجهين يعني في حق ثبوت الخيار للمشتري.
إذا علم وقت الشراء أن لها أكاراً، أو لم يعلم، ذكره الصدر الشهيد، وليس للمستأجر حق فسخ البيع بلا خلاف؛ لأن حقه في المنفعة والبيع صادف الرقبة، فأما المرتهن هل له حق فسخ هذا البيع؟ اختلف المشايخ فيه منهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن حقه في اليد لا في الرقبة، والبيع لا يصادف الرقبة، ومنهم من قال: له حق الفسخ؛ لأن البيع يبطل ملك الرقبة، وهو وسيلة إلى استيفاء الدين منه عند الهلاك، وليس للراهن الآخر حق فسخ هذا البيع؛ لأن هذا البيع ينعقد صحيحاً في حقهما نص عليه الخصاف في أدب ما لا يجب فيه اليمين، وإنما التوقف في حق المستأجر والمرتهن.
وفي رهن «المنتقى» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من المرتهن جاز البيع من المرتهن، وهو نقض للبيع الأول.
وفي الباب الأول من رهن «الجامع» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من رجل آخر بغير إذن المرتهن أيضاَ، ثم أجاز المرتهن أحد العقدين نفذ البيع الذي لحقته الإجازة واليمين للمرتهن يستوفي منه حقه، وروي عن أبي يوسف إن البيع الأول نفذ، وإن أجاز البيع الثاني ينفذ البيع الثاني، ولو كان مكان البيع الثاني رهناً أو إجارة، وأجاز المرتهن الرهن أو الإجارة ينفذ البيع ويبطل الرهن والإجارة.
والآجر إذا باع المستأجر من رجل بغير إذن المستأجر، ثم باعه من المستأجر جاز البيع من المستأجر، وهو نقض للبيع الأول.
وأما بيع المغصوب فقد ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه موقوف إن أقر به الغاصب تم البيع ولزم، وإن جحد وكان للمغصوب منه بينة عادلة، فكذلك (50أ3) الجواب، وإذا لم يكن بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض البيع، بعض مشايخنا قالوا: قول محمد في «الكتاب» وإن لم يكن للمغصوب منه بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض(6/341)
البيع بظاهره غير صحيح، وينبغي أن لا ينقض البيع ههنا إلا أن يختار المشتري النقض.
فكان تأويل قول محمد: انتقض إذا اختار المشتري النقض، وبعضهم قالوا: قول محمد بظاهره صحيح، وينتقض البيع من غير اختيار المشتري النقض؛ لأن الغاصب هي ضمن القيمة بملك المغصوب من وقت الغصب، وبيع المولى كان بعد ذلك، فيظهر أنه كان بائعاً مال الغير، وهو الغاصب بخلاف ما لو قبل بعد البيع أو غصب؛ لأن القيمة هناك وجبت بعد البيع، فمتى بقي البيع لا يؤدي إلى أن يصير بائعاً مال الغير.
وفي «نوادر بشر» : قال: سألت محمداً عمن اشترى المغصوب منه، وهو في يد الغاصب، والغاصب جاحد له، قال: يجوز، ويقوم المشتري في دعواه ذلك مقام المالك قال: وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: أنه قال: قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه من غير الغاصب، وقلت أنا: هو جائز.
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل غصب من آخر طعاماً وتصدق به، وكان قائماً في يد المساكين حتى اشتراه الغاصب من المغصوب منه جاز شراؤه ويرجع في صدقته، ولا يجزئه عن كفارة يمينه، وإن استهلك المساكين الطعام بعد الشراء ضمنوا، ولو لم يشتر وضمن قيمته جازت صدقته وأجزأت عنه ولم يرجع فيها، ولو كان الطعام مستهلكاً حال ما اشتراه الغاصب من المغصوب منه في أيدي المساكين، فالشراء باطل إلا أن يقول: أشتري منك ما لك علي من الطعام، فيجوز الشراء وجازت الصدقة للمساكين.
قال محمد في «الجامع» : رجل غصب من آخر عبداً، ثم أن الغاصب أمر رجلاً حتى يشتريه له من مولاه، فاشترى صح الشراء، وصار الآمر قابضاً له بنفس الشراء؛ لأنه في يده مضمون بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء، فكأن الآمر جدد القبض، أكثر ما في الباب أن حق القبض للوكيل لا للموكل، ولكن هذا لا يمنع صحة قبض الموكل، بالبيع ليس له حق قبض الثمن من المشتري مع هذا لو قبض صح كذا ههنا.
وكذلك لو أمر رجل أجنبي الغاصب أن يشتريه له، ففعل صح، وصار الآمر قابضاً بنفس الشراء؛ لأنه وجد في حق المأمور، وهو الغاصب قبض ينوب هو عن قبض الشراء، فصار هو قابضاً، وقبض المأمور بمنزلة قبض الآمر، فصار الآمر قابضاً من هذا الوجه.
قال في «الجامع» أيضاً: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل من رب الجارية عبداً، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه كان باطلاً؛ لأن الإجازة إنما تعمل في العقد الموقوف لا في العقد الباطل، وهذا العقد وقع باطلاً؛ لأن البيع تمليك بتملك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله.
توضحه: أن الإجارة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينفذ، فإذا فعلا بغير إذنه لا يتوقف أيضاً، ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما، وأجازا كان جائزاً، وصارت الجارية لغاصب الغلام، والغلام لغاصب الجارية،(6/342)
هذا لأن كل واحد منهما صار مشترياً ما في يد صاحبه بما في يده بائعاً ما في يده بما في يد صاحبه، ولا يوقف في الشراء، فقد عرف إن شراء الفضولي لا يتوقف على إجازة بل ينفذ على المشتري، وإنما التوقف في البيع، فصار شراء كل واحد منهما واقعاً لنفسه كأن كل واحد من المالكين قال لغاصبه: اشترِ مملوك فلان لنفسك بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يفيد الملك للمشتري، ولكن عند إجازة المالك، وعلى صاحب الغلام قيمة الغلام لمولاه، وعلى صاحب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن كل واحد منهما صار مستقرضاً ما غصب حتى يكون البدل على من يثبت له الملك في المبدل.
واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل ابتداءً، والاستقراض منهما حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع فيصير مشروعاً بشرعته، والمستقرض فيما لا يصل مضمون بالقيمة، فيوجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب من هذا الوجه.
وفيه أيضاً: لو أن رجلاً غصب من رجل مائة دينارٍ وغصب آخر من رب الدينار ألف درهم، ثم تبايعا الدراهم بالدنانير يعني الغاصبان وتقابضا وتفرقا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه جاز.
فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة، والفرق: أن ههنا العقد ما ورد على الدراهم والدنانير بأعيانهما، وإنما وقع على مثلهما ديناً في الذمة، فلم يقع على مالين لمالك واحد، فصح البيع بلا توقف.
ألا ترى أن مالك الدراهم والدنانير لو لم يجز وأخذ دراهمه ودنانيره، ولم يتفرقا حتى نفذ كل واحد منهما من مال نفسه يجوز، ولا يفسد البيع، فعلم أن العقد وقع على مثلهما دينا في الذمة إلا أن كل واحد منهما صار قابضاً ما وجب في ذمته بما غصب، فإذا أجاز المالك، وجاز صار مقرضاً، أما في المسألة المتقدمة العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما بينا، والفلوس في هذا نظير الدراهم والدنانير؛ لأنهما لا يتعينان بالتعيين.
وفيه أيضاً: رجل غصب من رجل جارية، وغصب رجل من صاحب الجارية مائة دينار، فباع غاصب الجارية الجارية من غاصب الدنانير بتلك الدنانير، فبلغ المالك، فأجاز صح؛ لأن الجارية إن تعينت في العقد فالدنانير لم تتعين، فلم يقع العقد على مالين لواحد، بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن بيع الجارية قد توقف على إجازته؛ لأنه يملك الإذن ببيع جاريته بالدنانير، فيملك الإجازة فيه إذا غصب علم المغصوب منه أنه نفذ من ماله، ويصير هو مقرضاً الدنانير من مشتري الجارية؛ وهذا لأن الشراء لمّا تعلق بدنانير في الذمة صار مشتري الجارية بنقد الدنانير المغصوبة قاضياً ما عليه بمال غير متوقف على إجازته.
فإذا جاز النقد أيضاً يلزم ذلك قرضاً للدنانير على ما مر، فصارت الدنانير ملكاً لمشتري الجارية(6/343)
بالقرض مقتضى القضاء، وصار المشتري قاضياً دنانير نفسه، وقد نفذ بيع الجارية على مالكهما بالإجازة، وتثبت الوكالة بالإجازة، فيصير بائع الجارية قابضاً الدنانير لمالك الجارية بحكم الوكالة، فإن بقيت الدنانير في يد بائع الجارية فهي للمغصوب منه، وإن هلكت في يده فلا ضمان؛ لأنها هلكت في يد الوكيل.
وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، وإن كان النقد بعد الإجازة، وهلكت الدنانير في يد بائع الجارية، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن بائع الجارية، وإن شاء ضمن مشتري الجارية، وهذا لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد فليس الجارية ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجوداً، ولا يدري هل ينقد المغصوب أو لا ينقد؟ فلم تعمل الإجازة في حق النقد، فصار مشتري الجارية يأخذ دنانير المغصوب منه بغير إذنه، وصار هو غاصباً بالنقد، وصار بائع الجارية غاصباً لها بالقبض.
فإذا هلكت كان للمالك الخيار في (50ب3) تضمينها، فإن ضمن مشتري الجارية ظهر انه ملك الدنانير من وقت القبض السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح النقد، وصار بائع الجارية قابضاً دنانير مشتري الجارية بإذنه فكان أميناً فيها، وإن ضمن بائع الجارية رجع البائع على المشتري؛ لأن قبض البائع لم يسلم ثمناً له لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري، كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده.
وإذا ادعى رجل أرضاً في يدي رجل، وأقام البينة على ما ادعى، وقضى القاضي بالأرض له، فباعها من رجل، ثم ظهر أنه قد كان باع هذه الأرض قبل أن يدعيها عند القاضي من رجل آخر، فالجائز هو البيع الأول؛ لأنه يتبين أنه باع المغصوب وله بينة، فجاز الأول، ومن ضرورة جواز الأول بطلان الثاني، فأما بيع الآبق، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجوز، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الآبق» ؛ ولأنه معجوز التسليم، والقدرة على التسليم شرط جواز البيع، وهذا بخلاف ما لو باع عبداً أرسله في حاجته؛ لأن القدرة على التسليم هناك ثابتة وقت العقد حكماً واعتباراً؛ لأن الظاهر عوده إلى المولى، ولا كذلك الآبق، فإن عاد من الإباق وسلمه إلى المشتري روي عن محمد: أنه يجوز، به أخذ الكرخي وجماعة من مشايخنا، وهكذا القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : والمذكور في «شرحه» : إذا ظهر الآبق وسلمه إلى المشتري يجوز البيع، وأيهما امتنع إما البائع عن التسليم، أو المشتري عن القبض يجبر عليه، ولا يحتاج إلى بيع جديد إلا إذا كان المشتري رفع الأمر إلى القاضي، وطلب التسليم من البائع، وظهر عجزه عند القاضي، وفسخ القاضي العقد بينهما، ثم ظهر العبد حينئذ يحتاج إلى بيع جديد، وهذا لأن المانع من الجواز العجز عن التسليم بسب الإباق، وقد ارتفع العجز حين ظهر من الإباق.(6/344)
h
وروي عنه رواية أخرى: أنه لا يجوز البيع، ويحتاج إلى بيع جديد، وبه أخذ جماعة من مشايخنا، وبه كان يفتي أبو عبد الله البلخي، وهكذا ذكر شيخ الاسلام رحمه الله في شرح كتاب البيوع الفاسدة؛ لأن شرط جواز العقد، وهو القدرة على التسليم كان فائتاً وقت البيع فلا يجوز البيع، وإن وجد من بعد.
وصار كما لو باع خمراً، فصار خلاً في المجلس وتسلمه، أو باع طيراً في الهواء، أو سمكاً في الماء، أو وحشاً في الفضاء، ثم أخذه، وسلم في المجلس فإنه لا يجوز البيع، وطريقه ما قلنا، ومن أخذ بهذه الرواية الأولى أنهما تراضيا عليه عند العبد، فينعقد بينهما بالتعاطي.
إما أن يقال: بأن ذلك العقد يجوز فلا، وإن جاء رجل إلى مولى الآبق، وقال: إن عبدك الآبق عندي، وقد أخذته فبعه مني، فباعه جاز، ولو قال: عود هو عبد فلان قد أخذه فبيعه، فباعه لا يجوز.
الفرق: أن فساد بيع الآبق عرف بالأثر، والأثر ورد في الآبق المطلق، وهو الآبق في حق أحد المتعاقدين، وفيما إذا قال الذي يريد شراءه: هو عبدي قد أخذته، فهذا ليس بآبق في حق المشتري، فلا يكون آبقاً مطلقاً، وفيما إذا قال: هو عبد فلان، فهو آبق في حق البائع والمشتري، فكان آبقاً مطلقاً؛ ولأن في الصورة الأولى العبد غير معجوز التسليم في حق المشتري، ولا كذلك في الفصل الثاني، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن بيع الآبق جائز ذكر القدوري هذه الرواية.
وكان أبو الحسن الكرخي يقول: بيع الآبق فاسد إلا أن يرضي المشتري أن ينتظر حتى يتمكن البائع من التسليم، وفاسد بيع المرهون والمستأجر.
وفي «المنتقى» : رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا باع الآبق، والمشتري يعلم بمكانه جاز، فإن باعه وقبضه، ثم اختلفا فقال المشتري: لم أعلم بمكانه حين بعتني، وقال البائع: لا بل علمت، فالقول قول البائع وهو الصحيح، وإن باعه ولا يعلم أحدهما بمكانه لم يجز، وأما بيع أرض القطيعة جائز، وهي التي أقطعها الإمام لقوم وخصهم بها؛ لأنهم ملكوها بالقطيعة فيجوز بيعهم، وأما بيع أرض الإجارة والإكارة، فالإجارة هي الأرض الخراب يأخذها إنسان بأمر صاحبها فيعمرها ويزرعها، وإن كانت الأرض التي في يد الأكرة، فنقول: إن باعها صاحبها جاز؛ لأنه مالك رقبتها، وإن باع الذي له أجارتها وآكارتها لا يجوز البيع؛ لأن له العمارة لا غير، وإنه مال متقوم، وإذا باع الأرض وهي في عقد مزارعة أخرى، قال شمس الآئمة الحلواني: المزارعة أولى في مدته من أيهما كان البذر، فإن أجاز المزارع البيع فلا أجر لعمله.
في «مجموع النوازل» : إن أجاز المزارع يكون كلا النصيبين للمشتري يريد به إذا كان في الأرض غلة، وإن لم يجز لا يجوز البيع، وكذا في الكرم سواء ظهر الثمار، أو لم يكن هذا الفصل في الزتدويستي.
وقيل: الجواب على التفصيل إن كان البذر من المزارع لا يجوز في حقه؛ لأن مستأجر الأرض، وكذا في الكرم إن لم يظهر الثمار، ويجوز البيع، وبه كان يفتي ظهير الدين رحمه الله.(6/345)
نوع آخر في بيع الحيوانات
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا يجوز بيع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منها إذا كن لا يؤخذن إلا بصيد، وإن كن يؤخذن بغير صيد جاز البيع، والمشتري بالخيار إذا رآهن، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن اجتمعن فيها باحتياله واصطيادهن، ثم أرسلهن في الحظيرة، وفي هذا الوجه إن كان لا يقدر على أخذهن من غير احتيال جاز بيعهن؛ لأن ملكهن بالاصطياد، فقد باع ملكه، وهو قادر على التسليم، فيصح كما لو باع عبداً له قد أرسله في حاجته، وإن اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده لا يجوز بيعهن أمكن أخذهن من غير اصطياد واحتيال، أو لم يمكن؛ لأنه لم يحرزهن فلم يملكهن، فقد باع ما ليس بمملوك له.
فرع على هذا الفصل
وهو ما إذا اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده، فقال: لو سد موضع دخول الماء، فصرن بحالة لا يستطعن الخروج عنها لا يجوز البيع عند بعض المشايخ؛ لأنه لم يملكها؛ لأن هذا القدر ليس بإحراز فهو بمنزلة طير طار في بيت إنسان، فسد الباب والكوة، وهناك لا يصير محرزاً له بهذا القدر ما لم يأخذه كذا ههنا، ولا ملك بدون الإحراز، فإنما باع ما لا يملك فلا يجوز.
وعند بعض المشايخ: يجوز البيع إذا أمكن أخذهن من غير اصطياد؛ لأنه بما فعل صار آخذاً لهن حكماً، فصرن ملكاً له بمنزلة ما لو وقع في شبكته، فيجوز بيعه، وهذا الخلاف إذا لم يهيء الحظيرة لاصطياده، فأما إذا هيأها ملكهن بلا خلاف، فيجوز بيعهن.
وفي كل موضع جاز بيع السمك في الماء، فإذا قبضه المشتري ورآه فله الخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، وإذا أخذ سمكة وجعلها في حب ماء فالجواب فيه على التفصيل الذي قلنا في الحظيرة: إن كان يقدر على أخذها من غير اصطياد جاز بيعه، وإن كان في الحظيرة سمك وقصب باع السمك والقصب جملة، فإن كان لا يمكن أخذ السمك إلا بصيد، فالبيع فاسد في الكل اصطاد السمكه قبل ذلك أولا، أما في السمك؛ فلأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، وأما في القصب فلجهالة الثمن؛ لأن قيمة السمك مجهولة لا يدرى إذا كان لا يؤخذ بغير صيد، وجهالة قيمة السمك توجب جهالة حصة القصب، فيفسد البيع في القصب بجهالة الثمن، وإن كان يمكن أخذ السمك من غير صيد إن لم يكن اصطاد السمك قبل ذلك فالبيع فاسد في السمك وهل يفسد في القصب؟ قالوا: (51أ3) على قياس قول أبي حنيفة: يفسد؛ لأن قبول العقد في السمك يصير شرطاً لقبوله في القصب إذا كانت الصفقة واحدة، وقبول العقد في السمك شرط فاسد، فيفسد العقد في القصب، وعلى قياس قولهما لا يفسد؛ لأن قيمة السمك معلومة إذا كان يؤخذ بغير صيد، فيكون حصة القصب معلومة.(6/346)
والصحيح: أن على قولهما يفسد في القصب؛ لأن حصة القصب تصير معلومة بالحرز والظن إذ الصفقة متحدة وما يعرف بالحزر يكون مجهولاً، فهو نظير ما لو اشترى عبدين بألف درهم، فإذا أحدهما حر، وإن كان اصطاد السمك قبل ذلك يجوز البيع في الكل عندهم جميعاً.
ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في شرح كتاب الشفعة قبيل باب تسليم الشفعة، وإذا أراد الرجل أن يبيع برج حمام مع الحمام إن باع ليلاً جاز؛ لأن في الليل يكون الحمام بجملته داخل البرج، ويمكن أخذه من غير احتيال، فيكون بائعاً ما يقدر على تسليمه.
وفي النهار بعضه يكون خارج البرج لا يمكن أخذه باحتيال، فيكون بائعاً ما لا يقدر على تسليمه. قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: ولا يجوز بيع النحل وقال: إنما النحل بمنزلة الزنبور وهو قول أبي يوسف.
وقال محمد رحمه الله: يجوز بيعه إذا كان مجموعاً، وجه قول محمد: إن هذا حيوان ينتفع به ويتمول فيصح بيعه، وإن لم يؤكل كالحمار والبغل، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن النحل لا ينتفع بعينه، وإنما ينتفع بما يحدث، فقبل الحدوث لا يكون منتفعاً، والعين إنما يصير مالاً بكونه منتفعاً به، ولأنه من جملة الهوام، فلا يجوز بيعه كالزنبور.
وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان في كوارتها عسل، فاشترى الكوارة بما فيها من النحل جاز عند أبي حنيفة، ويدخل النحل في البيع تبعاً للعسل، وأنكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله: جواز بيع النحل مع العسل، فقال: إنما يدخل الشيء في العقد تبعاً لغيره إذا كان من حقوقه كالشرب مع الأرض، وهذا ليس من حقوقه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى العلق الذي يقال له بالفارسية مرنمك يجوز، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله لحاجة الناس، فإن الناس يحتاجون إليه ويتمولونه.
وفي «القدوري» : ويجوز بيع دود القز إن ظهر القز فيه، وإن لم يظهر لا يجوز، هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يجوز البيع، وإن لم يظهر فيه القز لما قلنا في النحل، قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : والفتوى على قول محمد، وأما بيع دود القز فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأنه غير منتفع باعتبار ذاته بل باعتبار غير معدوم، وعندهما: يجوز اعتباراً للعادة؛ ولأنه يتولد منه ما هو منتفع به، فصار كبذر البطيخ، فيجوز بيعه، والصدر الشهيد في «واقعاته» : اختار قولهما.
ولا يجوز بيع هوام الأرض كالحية والعقرب والوزغ، وما أشبه ذلك؛ لأن لانتفاع بهذه الأشياء حرام ومحليته يعتمد جواز الانتفاع بها، ولا يجوز بيع ما يكون في البحر كالصفد والسرطان وغيره إلا السمك، وما يجوز الانتفاع بجلده أو عظمه، والحاصل: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بيع الكلب وأشباهه فقد ذكر في «القدوري» : بيع كل ذي ناب من السباع وذو مخلب من الطير جائز معلماً كان، أو غير معلم، وفي رواية «الأصل» ولا شك في جواز بيع الكلب المعلم؛ لأنه آلة الحراسة والاصطياد، فيكون محلاً للبيع.
ألا ترى أنه جاز بيع البازي المعلم والصقر المعلم، وإنما جاز؛ لأنه آلة الاصطياد؛ وهذا لأنه إذا كان آلة(6/347)
الحراسة والاصطياد كان منتفعاً حقيقة وشرعاً، فيكون مالاً؛ لأن المال غير الأدمي خلق لمنافع الأدمي والمال محل للبيع، وأما بيع كلب غير المعلم.
فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي: أنه إذا كان الحال يقبل التعليم يجوز بيعه قال رحمه الله: هو الصحيح من المذهب، وهذا لأنه إذا كان يقبل التعليم كان منتفعاً به، فيكون محلاً للبيع، الدليل عليه أنه ذكر في «النوادر» : ولو باع الجرو وجاز بيعه؛ لأنه يقبل التعليم، فهذا يبين لك أن غير المعلم إذا كان يقبل التعليم، فهو والمعلم سواء في حق محلية البيع، وإنما لا يجوز بيع العقور والذي لا يقبل التعليم ولا يصطاد به لا يجوز البيع، والفهد والبازي يقبلان التعليم على كل حال، فيجوز بيعهما.
وأما القرد فقد اختلفت الروايات فيه عن أبي حنيفة روى الحسن عنه: أنه يجوز بيعه، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز بيعه، وبيع الفيل جائز؛ لأنه منتفع به حقيقة وشرعاً، فهو كسائر الحيوانات، وأما الهرة فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير» : أنه يجوز بيعها، سئل عطاء بن رباح عن ثمن الهرة فقال: لا بأس به.
نوع آخر في بيع المحرمات
بيع المحرم الصيد لا يجوز، وكذلك بيع صيد الحرم لا يجوز، وإن كان المتبايعان حلالين، وهما في الحرم، والصيد في الحل جاز ذلك في قول أبي حنيفة.
وقال محمد: إن قوام العقد بالعاقد والمحل، ثم المحل إذا كان في الحرم لا يجوز بيعه، فكذا إذا كان العاقدان في الحرم، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن المحرم.
وهذا ليس صيد الحرم، ولهذا لو أمر إنساناً بإتلافه جاز، ولا شك أن الأمر بالإتلاف فيما يرجع إلى التعويض للصيد دون العقد عليه، فإذا لم يحرم ذلك لكون الصيد خارج الحرم، فكذا العقد، ولو أحرم وفي يده صيد لغيره، فباعه مالكه، وهو حلال جاز، ويجبر على التسليم، وعليه الجزاء إن تلف، وهذا لأن البائع عقد البيع على ملك نفسه، وهو حلال فصح، وإحرام الذي هو في يديه لا يمنع رد الوديعة، فيجب الرد إلا أنه صار مضموناً عليه بالإمساك وهو محرم، فلا يبرأ من الضمان مع بقاء الإحرام إلا بالإرسال، ولو وكل محرم حلالاً ببيع صيد فباعه، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع باطل، والخلاف في هذا نظير الخلاف في المسلم إذا وكّل ذمياً ببيع الخمر وشرائه، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو وكل الحلال محرماً ببيع الصيد أو شرائه لا يجوز، وهذا إذا تبين لك أن المعترف العاقد، ولو وكل رجل رجلاً ببيع صيد فأحرم الآمر، وباع المأمور، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وعندهما البيع باطل، وهذا لأن الوكالة ليست بلازمة، وما ليس(6/348)
بلازم، فلدوامه حكم إنشاء الوكالة بعد الإحرام، وإنه على الخلاف، فهذا بناء عليه.
ولو اشترى حلال من حلال صيداً، فلم يقبضه حتى أحرم أحدهما انتقض البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد، فيجعل المقارن للعقد، ألا ترى أنه لما نزلت آية الربا أبطل رسول الله عليه السلام ما لم يقبض من الربا، وأجاز ما قبض.
ولا يجوز بيع ذبيحه المجوسي والمرتد وغير الكتابي، وكذلك لا يجوز بيع ما تركت التسمية عليه عمداً، ويجوز بيع ذبائح أهل الكتاب، وهو بناء على ما قلنا: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، ولا يحل الانتفاع بهذه الأشياء، فلا يجوز بيعها.
وفي «العيون» : لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره من الميتة؛ لأن الموت لا يحل العظام ولا دم فيه، فلا يتنجس، فيجوز بيعه إلا عظم الأدمي والخنزير، فإنَّ بيعها لا يجوز، وهذا إذا لم يكن على عظم الفيل وأشباهه (51ب3) دسومة، فأما إذا كان فهو نجس، فلا يجوز بيعه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا ذبح كلبه، وباع لحمه جاز، وكذا إذا ذبح حماره وباع لحمه جاز، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بناء على اختلاف في طهارة هذا اللحم بعد الذبح، واختيار الصدر الشهيد على طهارته.
ولو ذبح الخنزير، وباع لحمه لا يجوز؛ لأن لحم الكلب المذبوح والحمار منتفع به؛ لأنه يجوز أن يطعم به لسؤره؛ لأنه طاهر، ولا كذلك لحم الخنزير؛ لأنه ليس له أن يطعم به لسوره؛ لأنه نجس، وفرق بين الكلب والحمار بين ما إذا كانا مذبوحين، وبينما إذا كانا ميتين، فلم يجز بيع لحمهما إذا كانا ميتين؛ لأن لحم الميت ليس بمنتفع إذ ليس له أن يطعم به سؤرة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» .
وأما لحوم السباع فقد ذكر القدوري: أنه لا يجوز بيعها من غير فصل، وروي عن أبي حنيفة: أنه يجوز بيعها إذا ذبحت.
وفي «الفتاوي» : إذا كان السبع ميتاً لا يجوز بيع لحمه بلا خلاف، وإن كان مذبوحاً، ففيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: لا يجوز وبه أخذ الفقيه أبو جعفر والفقيه أبو الليث؛ لأن على قولهما: هذا اللحم نجس وقال بعضهم: يجوز؛ لأن هذا اللحم طاهر، وهو اختيار الصدر الشهيد، وروى إسماعيل بن حماد وابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه لا يجوز بيعها وإن كانت مذبوحة.
وأما جلود السباع والحمير والبغال، فما كانت مذبوحة أو مدبوغة جاز بيعها، وما كان بخلافه لم يجز، وهذا بناء على أن الجلود كلها تطهر بالذكاة أو بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وإذا طهرت بالدباغ أو بالذكاة جاز الانتفاع به، فيكون محلاً للبيع، وحكي عن شمس الأئمة الحلواني: أن هذه الجلود إنما تطهر بالذكاة إذا كانت الذكاة مع(6/349)
التسمية، أما بدون التسمية لا يطهر، ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأن الخنزير عينه نجس بجميع أجزائه منع الشرع عن الانتفاع به إهانة لعينه واستقباحاً لذاته، وفي البيع إعزاز له إلا أن رخص للخراز الانتفاع به من حيث الخرز؛ لأجل الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، وعن أبي يوسف أنه كره الانتفاع به للخرازين؛ لأنه نجس ولا ضرورة في الانتفاع به؛ لأن الخرز يحصل بغيره، وعن بعض السلف أنه لا يلبس مكعباً ولا خفاً أخرز من شعر الخنزير.
وشعر الميتة وعظمها وصوفها وقرنها لا بأس بالانتفاع بها، وبيع ذلك كله جائز؛ لأنه لا حياة في هذه الأشياء، فلا يحلها الموت فلا يتنجس.
وأما العصب ففيه روايتان: من رواية جاز الانتفاع به وبيعه؛ لأنه طاهر، فقد صح أن رسول الله عليه السلام استعمله في اصطلاح القوس، وشعر الأدمي طاهر، ولا يجوز الانتفاع به.
ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع بها، وأما العذرة فلا يجوز الانتفاع بها ما لم يخلط بالتراب ويكون التراب غالبا، وهذا لأن محلية البيع بالمالية، والمالية بالانتفاع، والناس اعتادوا الانتفاع بالبعر والسرقين من حيث الإلقاء في الأرض لكثرة الريع، أما ما اعتادوا الانتفاع بالعذرة ما لم يكن مخلوطاً بالتراب، ويكون التراب هو الغالب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال، فلا بأس بأن يبيعه وتبين ذلك، ولا بأس بالانتفاع به كالفأرة تقع في السمن والعجين، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته.
وكذلك الزيت إذا وقع فيه ودك الميت، فإن كان الزيت غالباً جاز بيعه، وإن كان الودك غالباً لم يجز، والمراد من الانتفاع حال عليه الحلال الانتفاع في غير الأبدان، وأما في الأبدان فلا يجوز الانتفاع به، ويجوز بيع البربط والطبل والمزمار والنرد، وأشباه ذلك في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشياء.
وجه قولهما: إن هذه الأشياء أعدت للمعصية حتى صارت بحال لا يستعمل إلا في المعصية، فسقطت ماليتها والتحقت بالعدم، ومن شرط جواز البيع المالية.
ولأبي حنيفة: إن هذه الآلات ليست بمحرمة العين، وكونها آلة المعصية إنما يوجب سقوط التقوم والمالية إذا كانت متعينة للمعصية، وهذه الأشياء لم تتعين آلة للمعصية؛ لأن الانتفاع بهذه الأشياء ممكن بوجه حلال بأن يجعل النرد صنجات الموازين، والبربط والطبل والدف ظروف الأشياء، وإذا لم تكن متعينة للمعصية تقومها كالمعيبة فإنه لما تصور الانتفاع يعينها بطريق حلال لا يسقط تقومها وماليتها حتى جاز بيعها كذا ههنا.
وذكر أبو الحسن في «الجامع الصغير» المنسوب إليه: ذبيحة المجوسي، وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالخنق والضرب حتى يموت فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف، ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة، وليس كالميت حتف أنفه.
وقال محمد: هو في الميت حتف أنفه سواء؛ لأن الذكاة فعل شرعي، فإذا لم يكن(6/350)
الفاعل من أهله صار الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء، ولأبي يوسف: أنهم يتمولونه كما يتمولون الخمور، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم، وان نتركهم وما يدينون، فظهر حكم ديانتهم في حقهم بخلاف الميت حتف أنفه، لأنه ليس بمال في حق أحد.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الأشربة المحرمة كلها إلا الخمر، وعلى مستهلكها الضمان.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيعها ولا يجب الضمان على مستهلكها؛ لأنه حرم شربها وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى إذا حرم شربه حرم بيعه وأكل ثمنه» ، أوجب تحريم البيع عند تحريم الشرب، وفيه إشارة إلى سقوط التقويم، وذلك شرط وجوب الضمان.
ولأبي حنيفة: أن حرمة هذه الأشربة ما يثبت على طريق النص، بل بالاجتهاد الذي يوجب العمل دون العلم، فلا يوجب سقوط التقوم اللذان كانا من قبل، والحديث منصرف إلى ما يثبت فيه الحرمة مطلقا وهو الخمر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة في العصير: إذا ذهب ثلثه، واشتد أنه يجوز بيعه بخلاف المنصف، ولا يجوز بيع المكاتب والمدبر وأم الولد ومعتق البعض.
أما المكاتب؛ فلأنه استحق يداً على نفسه ومكاتبه، وبالبيع يبطل ذلك، فيجب صيانته برد البيع إذا باع المكاتب بغير رضاه، وإن باعه برضاه، ذكر المشايخ في كتبهم: أنه يجوز البيع وتنفسخ الكتابة، وحكي عن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: لا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله نصاً، وإنما هذا شيء يقوله مشايخنا المتأخرون وقد أشار إليه محمد في «الجامع» : إلى أنه لا يجوز ولا ينفسخ الكتابة.
فقد قال في «الجامع» : إذا أمر الرجل مكاتبه أن يتزوج على رقبته حرة جاز، وكان على المكاتب أن يسعى في قيمته، ولم تنفسخ الكتابة مقتضى جعل الرقبة مهراً إذ لو انفسخت الكتابة لتعلق النكاح برقبتها، ويفسد النكاح؛ لأنها تملك رقبة زوجها، ولا يفسد النكاح حتى وجبت عليه السعاية في قيمته علم أن الكتابة لم تنفسخ، وقد رضي المولى والمكاتب بانفساخ الكتابة؛ لأنهما رضيا بضرورة رقبت مهر المولي بالأمر بالتزوج على رقبة والمكاتب بالأقدام على التزوج على رقبته، ولن تصير رقبته مهراً إلا بفسخ (52أ3) الكتابة، وهذا لم يفسخ الكتابة، ولم تصر رقبته مهراً، فقياس هذه المسألة أن لا يجوز بيع المكاتب برضاه، ولا تنفسخ الكتابة ههنا مقتضى جعل رقبته مهراً هذا جملة ما نقل عن الكرخي.
ومن مشايخنا من فرق بين المسألتين فقال: الكتابة لو انفسخت في هاتين الصورتين(6/351)
إنما تنفسخ تصحيحاً للنكاح للبيع في مسألتنا، وليس في فسخ الكتابة تصحيح النكاح ثمة، فإن الكتابة إذا انفسخت يصير رقبته مهراً، وتملك المرأة رقبة زوجها مقارناً للنكاح، فلم يكن في فسخ الكتابة فائدة.
وأما معتق البعض؛ فلأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، وعندهما بمنزلة آخر عليه دين.I
وأما أم الولد فلقوله عليه السلام في حقها: «لا تباع ولا توهب» وهو حر من جميع المال.
وأما المدبر فهو نوعان: مقيد ومطلق، فجواز بيعه مجمع عليه، وإن كان مطلقاً فعدم جواز بيعه مذهبنا، والمسألة معروفة، وأولاد الإماء من ذلك بمنزلة الأصول؛ لأن الأصل إن ما يثبت في الأصل يتعدى إلى الفروع لهذا كان ولد الحرة حراً، وولد الأمة رقيقاً، وكذلك الولد المشترى في حالة الكتابة والولدان، وأما من سواهم من ذوي الأرحام، فلا يدخلون في الكتابة، ويجوز بيعهم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بناء على أن الكل يدخلون في الكتابة عندهما، فيمتنع بيعهم كما يتبع بيع الأولاد والولدان، والمسألة معروفة في كتاب المكاتب.
نوع آخر في بيع الجنس بالجنس
قال أبو حنيفة رحمه الله: ويجوز بيع التمر بالرطب متساوياً كيلاً، ولا يجوز متفاضلاً، وعندهما بالآخر متساوياً كيلاً ومتفاضلاً، فالأصل أن كل مكيل أو موزون قوبل بجنسه إن كانت المجانسة بينهما ثابته من كل وجه يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، عرف ذلك بالحديث المعروف، وهو قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل كيلاً بكيل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل وزناً بوزن» قيد الجواز بالمماثلة إذا كانت المجانسة قائمة للحال من كل وجه.
بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد: التمر جنس الرطب من وجه دون وجه، فإن بعض معانيه فائت بالجفاف، والبعض باقي، فلا يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، وأبو حنيفة رحمه الله قال: المجانسة بين الرطب وبين التمر قائمة من كل وجه؛ لأنها كانت ثابتة من كل وجه قبل الجفاف، ولاتحاد الاسم ولاتحاد المنفعة، وبعد الجفاف الاسم متحد؛ لأن الرطب يسمى تمراً وبالجفاف لا يزول جنس المنفعة بأصلها، فإنه يجيء من التمر جميع ما يجيء من الرطب إنما يتمكن من نقصان، والمجانسة إذا كانت ثابتة من كل وجه إذا فات جنس منفعة بأصلها كما في الحنطة مع الدقيق، فإنه بالطحن يزول جنس منفعة أصلاً، وهي منفعة الزراعة، واتخاذ الهريسة وكما في المقلية مع غير المقلية، فإن بالقلي يفوت جنس منفعة بأصلها وهي منفعة الزراعة وهاهنا لم يفت جنس منفعة بأصلها،(6/352)
فكانت المجانسة ثابتة من كل وجه، فيكتفي بها جواز البيع.
وأما بيع الرطب بالرطب يجوز إذا تساويا كيلاً عند علمائنا رحمهم الله، وكذلك بيع ما يلي الرطب أما بيع البسر بالتمر، فلا ذكر له في الكتب.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح بيوعه: أنه يجوز بالإجماع إذا تساويا كيلاً يداً بيد، وأما بيع العنب بالزبيب، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز إذا تساويا كيلاً هكذا ذكر في «نوادر هشام» .
وذكر في موضع آخر أن على قول أبي يوسف إنما يجوز هذا البيع على سبيل الاعتبار، وتفسيره: أن يكون الزبيب أكثر حتى يكون الزبيب بالزبيب من العنب، والباقي بإزاء الماء العالمة للحال، وعلى قول محمد: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة السرخي في «شرحه» : أن بيع العنب بالزبيب نظير بيع التمر بالرطب على قول أبي حنيفة يجوز إذا تساويا كيلاً، أو على قولهما: لا يجوز، فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخي لا يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين بيع العنب بالزبيب، وبين بيع الرطب بالتمر، وعلى ما ذكره هشام يحتاج الى الفرق.
والفرق: أن الرطوبة التي في الرطب من أجزاء التمر، ولهذا ينطلق عليه اسم التمر، ولو كانت الرطوبة شيئاً آخر وأجزاء التمر شيئاً آخر لكان لا ينطلق على الرطب اسم التمر كما لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، فإذا اعتبرت الرطوبة من أجزاء التمر كانا شيئاً واحداً إلا أن المجانسة بينهما قائمة من وجه دون وجه، والمماثلة في الحال في مثل هذا لا يكتفي بجواز البيع، فأما الرطوبة التي في العنب ليست من أجزاء الزبيب ولهذا لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، بل هما شيئان ماء وتفل فكانا كالسمسم مع الدهن.
وإذا باع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز هكذا ذكر في «الأصل» قال شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : إن الرواية محفوظة عن محمد أن بيع الحنطة اليابسة بالمبلولة إنما لا يجوز إذا ابتل وانتفخ، أما إذا لم ينتفخ بعد ولكن بل من ساعته يجوز بيعه باليابسة إذا تساويا كيلاً.
قال محمد رحمه: وهذا نظير زبيب يابس بزبيب قد بل بالماء عند أبي حنيفة يجوز هذا البيع إذا لم ينتفخ، وإذا انتفخ لا يجوز، وأما بيع الحنطة الرطبة بالحنطة اليابسة، ذكر بعض مشايخنا أنه على الخلاف المذكور في بيع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة.
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز، وبعضهم ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة مع قول محمد، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين بيع المبلولة باليابسة وبيع الرطبة باليابسة.
والفرق: أن المبلولة مع اليابسة جنس واحد من كل وجه؛ لأن بالبل لم يزل الاسم ولا جنس منفعة، فإن المبلولة تصلح للطحن والزراعة كاليابسة إلا أنه يمكن فيه نوع نقصان، فإذا بقيت المجانسة من كل وجه كان الشرط جواز البيع المماثلة في الحال وقد وجدت.(6/353)
وأما الرطبة مع اليابسة جنسان من وجه، وفي مثل هذا المماثلة لا تكفي، وأما بيع الحنطة المبلولة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وكذا الزبيب المنقع بالزبيب المنقع والتمر المنقع، وفي بيع المقلية اختلاف المشايخ، والأصح إن تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما فائته من وجه؛ لأن بالقلي يفوت جنس المنفعة بأصلها، وهي منفعة الزراعة والجنس والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكفي للجواز.
وأما بيع المقلية بالمقلية: فيجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، ويكتفي بجواز البيع بالمماثلة الخالية، ولا فرق في بين الحنطة بالدقيق متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن المجانسة بين الحنطة والدقيق ثابتة من وجه دون وجه؛ لأن أثر الطحن في تفريق الأجزاء لا غير، والمجتمع لا يصير شيئاً آخر بالتفريق، ولهذا بقي حرمة ربا الفضل بين الحنطة والدقيق، وأما فائتة من وجه بدليل اختلاف الاسم والصورة والمعنى، والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكتفي للجواز.
وبيع الدقيق بالدقيق يجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، والاتفاق في القدر ثابت، فيجوز البيع عند التساوي كيلاً، كبيع الحنطة، وكبيع الدقيق بيان المجانسة ظاهر بيان الاتفاق في القدر أن الدقيق كيلي، فإنَّ الناس اعتادوا بيعه كيلاً، ولهذا جاز السلم فيه كيلاً، ويجوز بيعه في الذمة كيلاً، وكذا يجوز استقراضه كيلاً.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أن بيع الدقيق بالدقيق إذا تساويا كيلاً إنما يجوز إذا كانا مكبوسين، وإذا باع الحنطة بالحنطة وزناً لا يجوز، والأصل: أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، كالحنطة بالحنطة، وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وكيلاً كالدراهم (52ب3) بالدراهم كيلاً، وكالدنانير بالدنانير كيلاً، وما لا نص فيه، ولكن عرف كونه كيلاً على عهد رسول الله عليه، فهو مكيل أبداً، وإن اعتاد الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في ذلك الوقت، فهو موزون أبداً، وما لا يعرف حاله على عهد رسول الله عليه يعتبر فيه عرف الناس، فإن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو وزني، وإن تعارفوا كيله ووزنه، فهو كيلي ووزني، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد.
فأما على قول أبي يوسف: المعتبر في جميع الأشياء العرف سواء عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أو موزوناً.
قال الشيخ الإمام: وأجمعوا على أن ما يثبت كيله بالنص إذا بيع وزناً بالدراهم يجوز، وكذا ما يثبت وزنه بالنص إذا بيع كيلاً بالدراهم يجوز.
وعن محمد في «المنتقى» في باب صفة تسليم الثمن بالثمن إن شراء البر وزناً لا يجوز، فإن أخذه رد مثله بكيل، فإن أكله قبل أن يكيله فالقول قوله أنه كذا كذا قفيراً مع يمينه، قال: وأستحسن في الثمن أن يجوز بيعه وزناً، أو كان الثمن بعينه، فيقول: أبيعك منه كذا رطلاً بدرهم.
وفي «المنتقى» أيضاً: في باب السلم الصحيح والفاسد رواية إبراهيم عن محمد لا تجوز الحنطة في السلم وزناً، وفي آخر هذا الباب، وقال أبو يوسف: لا بأس بالسلم في الحنطة بالوزن، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف: إذا أسلم في التمر وزناً جاز استحساناً، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة لا يجوز.
وفي «المنتقى» أيضاً: في باب القرض وصحته وبطلانه عن محمد: لا(6/354)
تجوز الحنطة أن تقرض وزناً، فإن أخذه وأكله قبل أن يكيله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزاً، وقال هشام: قلت لمحمد: إن التمر بالذي يباع وزناً، فما نقول فيمن أقرضه وزناً؟ قال: لا يصح ذلك؛ لأن أصله كيل.
وفي باب الربا من «المنتقى» : إذا باع تمراً بتمر كيلاً بكيل مثلاً بمثل، ويتفاوت الوزن يجوز، وإن كان وزناً بوزن مثلاً بمثل والكيل يتفاوت، ذكر في موضع من هذا الباب أنه يجوز؛ لأن التمر يكال، وذكر في موضع آخر من هذا الباب أنه لا يجوز، وفي هذا الباب أيضاً: إذا بيع رطل من سمن الغنم كيلاً برطل من سمن الغنم وزناً بالميزان، فالبيع باطل حتى يعلما قبل البيع أنهما سواء لا يختلفان لا كيلاً ولا وزناً.
والعسل والسمن والزيت على الوزن بالميزان إذا اتفق جاز، وإن كان يختلف في كيل الرطل، وفي هذا الباب أيضاً: وكل ما يوزن وما يكال فلا بأس ببيعه بجنسه كيلاً ووزناً وفي «الأصل» : ولا خير في بيع الحنطة بالحنطة مجازفة، قالوا: وهذا إذا كانت الحنطة بحيث يكال، فأما إذا كانت قليلاً يجوز بيع البعض بالبعض مجازفة.
وكذلك الجواب في كل مكيل أو موزون، وإن بيعت الحنطة بالحنطة مجازفة، ثم كيلاً بعد ذلك فكانا متساويين لا يجوز، فالأصل: أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطاً بجواز العقد بشرط العلم بالمماثلة في المعيار وقت مباشرة العقد، ويجوز بيع الفضة بالفضة الكفة بالكفة، وإن لم يعلم مقدار كل واحد منهما؛ لأنا تيقنا بالتساوي في الوزن، وإن لم يعلم مقدار ذلك.
وفي «الأصل» : إذا باع قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود لا يجوز، وبهذه المسألة تبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز، وذكر شمس الأئمة السرخي في باب الصرف في شرح الأجارات: أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع، وذلك مدّان، حتى لو باع مدّين من الحنطة بثلثه أيضاً من الحنطة فصاعداً لا يجوز ذلك، لكن إذا باع منوين بمنون من الحنطة، ومنوين من الشعير بمنوين من الشعير يجوز.
وكذلك لو باع نصف مَنّ الحنطة بمنوين فصاعداً يجوز.
وقد صح عن عبادة بن الصامت: أنه قال في خطبته بالشام: أيها الناس إنكم أحدثتم نوعاً لا يدري ما هي ألا وإن الحنطة بالحنطة مدين بمدين، وإن الشعير بالشعير مدين بمدين، وذكر في التمر والملح مثل ذلك، ثم قال: فمن زاد أو استزاد فقد أربى بهذا، تبين أن ماذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن أدنى مال الربا من الحنطة نصف قفيز أن المراد منه نصف صاع، أو يكون في المسألة روايتان، وإذا باع حنطة بحنطة، وفي كل واحد من الجانبين حبات شعير أنه لا يجوز إلا متماثلاً؛ لأن الشعير مغلوب فكان مستهلكاً.(6/355)
في «الجامع» : في باب الدراهم المخلوطة، وذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح «الزيادات» : في باب الوصية بعد باب المهر قبل باب الحيض: إذا بيع شعير بالحنطة إن كان مثل ما يكون في الشعير يجوز، وإذا باع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز كما لا يجوز بيع الحنطة بالحنطة وزناً، وبيع السويق بالسويق، وبيع النخالة بالسويق نظير بيع الدقيق بالدقيق.
وإذا باع دقيقاً منخولاً بدقيق غير منخول جازا تساوياً؛ لأنهما جنس واحد إلا أن أحدهما أجود، وبيع الحنطة بالسويق نظير بيع الحنطة بالدقيق، وبيع الدقيق بالخبز، وبيع الحنطة بالخبز يجوز متساوياً ومتفاضلاً بعد أن يكون يداً بيد، وهذا لأن المجانسة بين الخبز والحنطة، وإن كانت قائمة من وجه؛ لأن الخبز أجزاء دقيق قد طبخت، فالإتفاق في القدر فائت من وجه؛ لأن أحدهما كيلي والآخر عددي.
وفي مثل هذا لا يجرى الربا فالأصل أن الربا النقد لا يحرم إلا بوصفين، وهو القدر والجنس، ونعني بالقدر الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، فإذا انفق البدلان جنساً وكيلاً، أو وزناً يحرم الفضل، وما لا فلا، وبيع أحدهما بالآخر مسألة من مسائل السلم نذكره في فصل السلم إن شاء الله تعالى.
وبيع الدقيق بالنخالة لا يجوز إلا على طريق الاعتبار عند أبي يوسف.
وتفسير الاعتبار، أن يكون النخالة الخالصة أكثر من النخالة التي في الدقيق، وقال محمد: لا يجوز إلا إذا تساويا كيلاً، أو تفاضلا، وعندهما يجوز تساوياً بعد أن يكون يداً بيد.
وإذا باع الزيت بالزيتون فهو على أربعة أوجه:
إما إن كان الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في الزيتون، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل الدهن الذي في الزيتون بمثله من الدهن الخالص، والباقي من الدهن الخالص بإزاء التفل، وإن كان الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع؛ لأن الدهن يصير بمثله، ويبقى التفل خالياً عن العوض فيكون الربا.
قالوا: وهذا إذا كان التفل في الآخر شيئاً له قيمة، وإن لم يكن له قيمة جاز البيع في هذا الوجه إذ لا يؤدي إلى الربا، وإن كان الدهن الخالص أثقل من الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع إذ يبقى بعض الدهن خالياً عن العوض، وإن كان لا يدري لا يجوز لجواز أن الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون أو أقل، والبيع، قال: الربا عند مقابلة الجنس بالجنس كما يبطل بفضل موهوم، ألا ترى أن بيع الحنطة بالحنطة مجازفة لا يجوز، وإنما لا يجوز بفضل موهوم.
وإذا باع دهن السمسم بالسمسم، أو العصير بالعنب، أو التمر الذي فيه نوى بالتمر الذي ليس فيه نوى، أو الرطب بالدبس، أو اللبن بالسمن، أو المحلوج بالقطن، أو لب الجوز بالجوز، فهو على ما ذكرنا في بيع الزيت بالزيتون، وهذا الذي ذكرنا قول علمائنا.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز البيع، وإن كان المقدار أكثر في المسائل كلها،(6/356)
والصحيح مذهب علمائنا؛ لأن في الزيتون والسمسم شيئين حقيقة الدهن والتفل، فيمكننا تجويز هذا البيع متى كان الخالص أكثر بأن يجعل ما في الزيتون زيت، والسمسم بمثله من الخالص (53أ3) والباقي بإزاء التفل كما بعد التميز، وكان القياس فيما إذا باع الزيتون بالزيتون، أو السمن بالسمن، أو الحنطة بالحنطة، أو التمر بالتمر متفاصلاً أن يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس؛ لأن في الزيتون تفل ودهن في الجانب الآخر كذلك، وفي التمر تمر ونوى وفي الحنطة دقيق ونخالة إلا أنا تركنا هذه الحقيقة بالنص، فإن النص لما أثبت الربا في هذه الأموال علمنا أنه أسقط اعتبار الحقيقة، وجعل الكل شيئاً واحداً؛ لأن الربا لا يتصور مع اعتبار هذه الحقيقة، وإذا اعتبر الكل شيئاً واحداً لا يجوز مع التفل بالزيادة من الخالص إلا باعتبار المماثلة؛ لأن التفل دهن حكماً لما اعتبر التفل مع الزيت شيئاً واحداً، ولم توجد المماثلة بين الزيادة، وبين الخالص، وبين التفل، فلا يجوز.
قلنا: والنص الوارد بإسقاط هذه الحقيقة في تلك الصورة لايكون وارداً فيما تنازعنا فيه؛ لأن فيما تنازعنا فيه تحقق الربا مع اعتبار هذه الحقيقة في جنس الأموال بأن يكون الدهن الخالص مثل الدهن الذي في السمسم أو أقل، وإذا كان الربا في المتنازع فيه تحقق في بعض الأموال مع اعتبار هذه الحقيقة لا ضرورة إلى إسقاط اعتبار هذه الحقيقة، فإذا لم يسقط اعتبار هذه الحقيقة حصل بيع الدهن الخالص بجنسه وبالتفل فالتقريب ما مر.
وفي «المنتقى» : ولا خير في القطن المحلوج بالقطن الذي فيه حبّ إلا مثلاً بمثل، وكذلك التمر بالتمر المشقوق، وإذا كان اشترى تمراً بنوى تمر لا يجوز إلا إذا كان في التمر من النوى أقل.
وكذا إذا اشترى قطناً بحب قطن، وكذا إذا اشترى دقيقاً غير منخول بنخالة، وإذا باع السمن بالزبد، فعن أبي حنيفة أنه أفسده على كل حال؛ لأن الزبد إذا حمل إلى النار انتقص.
قيل: لم لا تعامل الفضل بتفل الزبد إذا كان السمن الصافي أكثر؟ قال: لأن له قيمة، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وذكر المعلى عن أبي يوسف أنه كان يكره التمرة بالتمرتين، وكان يقول: كل شيء حرم منه الكثير فالقليل منه حرام، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في «المجرد» في مئة جوزة بمائتي جوزة يداً بيد بأعيانهما يجوز.
وفي «الأصل» : لو باع تمرة بتمرتين، أو جوزة بجوزتين، أو تفاحة بتفاحتين، فالبيع جائز عندنا من غير ذكر خلاف.
فإن قيل: الجوز والبيض جعلا مثالاً في ضمان المستهلكات، فينبغي أن لا يجوز بيع الواحد باثنين.
قلنا: لا مماثلة بينهما حقيقة للتفاوت صغراً أو كبراً إلا أن الناس اصطلحوا على إهدار التفاوت، فيعمل بذلك في حقهم، وهو ضمان العدوان دون الربا الذي هو حق الشرع عليهم.(6/357)
وإذا باع شاة بلحم، فإن كانت الشاة مذبوحة مسلوخة جاز إذا تساويا وزناً؛ لأن كل واحد منهما موزون، فقد باع موزوناً بجنسه متساوياً فيجوز، وأراد بالمسلوخة غير المفصولة عن السقط، وإن كانت مذبوحة غير مسلوخة لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار بأن يكون اللحم المفصول أكثر؛ ليصير بعضه بإزاء السقط، وإن كانت حية فالقياس: أن لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار، وهو قول محمد.
وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز من غير اعتبار؛ لأن الشاة مع اللحم المفصول جنساً مختلفاً عرفنا ذلك بالنص فإن الله تعالى قال: {فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون: 14) أي: بعد نفخ الروح، فعلمنا أن الحي جنس آخر غير الجماد، فجعلنا الشاة الحية مع اللحم جنسان نصاً، فيجوز بيع أحدهما بالآخر كما لو كانا جنسين حقيقة بأن باع لحم البقر بالشاة وما أشبهه.
وإذا باع ثوبا منسوجاً بالذهب الخالص لابد لجوازه من الاعتبار، وهو أن يكون الذهب المنفصل أكثر، وكان ينبغي أن يجوز البيع من غير اعتبار؛ لأن الذهب الذي نسج في الثوب خرج من أن يكون وزنياً، ولهذا لا يباع وزناً، وربا الفضل يعتمد المجانسة والمعيار، والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل أن الناس متى تركوا الوزن في شيء للتعذر لا يخرج ذلك الشيء من أن يكون موزوناً.
ألا ترى أنه لو باع لبّ الجوز بالجوز لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، والجوز عددي، واللب موزون، فينبغي أن يجوز البيع من غير الاعتبار، ولكن مثل اللب الذي في الحب موزون، وإن ترك الناس وزنه؛ لأنهم إنما تركوا للتعذر بسبب اتصاله بالقشر، فلم يخرجه من أن يكون موزوناً، فقد باع الموزون بجنسه وبشيء آخر فيشترط الاعتبار، ومتى تركوا الوزن في شيء مع الإمكان، فإنه يخرج من أن يكون موزوناً، فإنه لو باع قمقمة من حديد أو صفر ونحاس بقمقمتين من جنسها، وتلك القمقمة لا يباع وزناً، فإنه يجوز يداً بيد؛ لأن الناس تركوا وزنها مع الإمكان، وتركوا الوزن مع الإمكان ينسخ الاصطلاح على الوزن في هذه الأشياء ثبت باصطلاحها بخلاف قمقمة من ذهب أو فضة بقمقمتين من ذلك لا يجوز، وإن تعارفوا بيعاً عدداً؛ لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص عليها، فلا يتغير ذلك بالعرف، ولا يخرج من أن يكون موزوناً بالعادة.
إذا ثبت هذا فنقول: الذهب المنسوج لا يوزن لمكان التعذر، فترك الوزن فيه لا يخرجه من أن يكون مال الربا، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وفي «البقالي» : أن في الاعتبار الذهب في السقف روايتان، ولا يعتبر العلم في الثوب، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يعتبر وإذا اشترى شاة حية على ظهرها صوف بصوف منفصل لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، أطلق محمد رحمه الله الجواب في المسألتين في «الأصل» .
قال الطحاوي رحمه الله: ما ذكر محمد من الجواب في المسألتين قوله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز هذا البيع من غير صفة الاعتبار، وجعلت هذه المسألة فرع مسألة بيع اللحم بالشاة؛ لأن الصوف ما دام على ظهر الشاة، واللبن في ضرعها،(6/358)
فهو من أوصافها نظير اللحم الذي في الشاة، ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في المسألتين قول الكل، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه.
وفي «نوادر هشام» : قال: أخبرني محمد أن أبا يوسف قال: لا خير في صوف الشاة على ظهرها بصوف إلا أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة، فأما في اللبن فهو جائز؛ وإن كان اللبن أقل مما في ضرعها؛ لأن اللبن مكنون ليس بظاهر.
ذكر المعلى عن أبي يوسف في اللبن أنه لا يجوز أيضاً، وقال هشام: سألت أبا يوسف عن دورق عصير بدورق خل قال: لا بأس به، وأما دورق عصير بدورق.... لايجوز؛ لأن العصير لاينتقص إذا صار خلاً وينتقص إذا صار.... وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في بيع العصير على خلاف رواية هشام، وذكر أبو سليمان في كتاب الحج عن محمد لابأس بالخبز قرص بقرصين يداً بيد، وإن كان بعض ذلك أكثر من بعض؛ لأن ذلك قد خرج من الكيل، وليس مما أصله الوزن.
ذكر أبو الحسن الكرخي أن ثمار النخيل كلها جنس واحد، قال عليه الصلاة والسلام: «التمر بالتمر» ، وهذا عام؛ ولأن الأصل متحد، والمقصود كذلك، وأما بقية الثمار، فثمرة كل نوع من الشجر جنس واحد كالعنب كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك الكمثرى كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك التفاح كلها جنس واحد حتى لم يجز بيع نوع من العنب متفاضلاً، وعلى هذا التفاح والكمثرى، ويجوز بيع الكمثرى بالتفاح متفاضلاً، وكذا بيع (53ب3) التفاح بالعنب متفاضلاً.
واللحوم معتبر بأصولها، فالبقر والجواميس جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الغنم جنس واحد ضأنها ومعزها.
وزاد في «المنتقى» : والضأن والمعز جنس واحد في اللبن واللحم، ولو باع لحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً يجوز عندنا اعتباراً بالأصول، وكذلك لو باع لبن الغنم بلبن البقر متفاضلاً يجوز، ويعتبر في اللبن الأصول أيضاً كما في اللحم.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في لبن المخيض مع لبن الحليب إذا كان المخيض اثنان والحليب واحداً لا بأس به، وإن كان المخيض واحداً، والحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.(6/359)
وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.
وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان إن كان الحليب بحيث لو أخرج زبده نقص من رطل فهو جائز، وإن كان لا ينقص فلا خير فيه.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن الزبيب جنس واحد، وإن اختلفت ألوانه وأجناسه، وفيه أيضاً: لحوم الطير وما لا يوزن من اللحمان فلا بأس به واحد باثنين؛ لأنه لا يوزن، فإن كان في جنس منه يوزن فلا خير فيما يوزن منه إلا مثلاً بمثل، قال: وكل يصير لا يوزن فيه بأس بأن يباع هناك طابق بطابقين إنما أنظر إلى حال بلده في ذلك.
والحديد والرصاص والصفر والشبه أجناس لاختلاف المقاصد والاسم والصورة والمروي مع المروي جنسان مختلفان لاختلاف المقصود والصورة.
وكذلك الثوب المتخذ من القطن مع الثوب المتخذ مع الكتان، إما لاختلاف الأصل أو لاختلاف الصنعة على وجه أوجب اختلاف الاسم والمقصود، وكذلك الزبد مع الوداري جنسان مختلفان، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح بيوعه، والمعنى ما ذكرنا.
وفي «المنتقى» : ولا يصلح غزل قطن ابن بغزل قطن حسن إلا مثلاً بمثل القطن سواء، وإنما نفرق بينهما بالنسج، ولا بأس بغزل قطن بغزل قطن كتان واحداً باثنين يداً بيد.
وكذلك غزل خز بغزل قطن، وكذلك شعر بغزل صوف لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والإلية واللحم جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الإلية وشحم البطن جنسان وشحم الجنب من جنس اللحم وهو مع الألية، وشحم البطن جنسان، ولا يجوز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً؛ لأن القطن ينقص بالغزل.
فهو نظير الحنطة مع الدقيق، والخل مع الزيت جنسان لاختلاف أصلها، وإذا كان أصلهما واحداً، واختلف المضاف إليه كانا جنسين كالبنفسج مع.... ويجوز بيع قفيز سمسم مربى بقفيزي سمسم غير مربى، والزيادة بإزاء الرائحة؛ لأن الرائحة بمنزلة الزيادة في عينها، وقال أبو يوسف: إنما يعتبر الرائحة إذا كانت تزيد في وزنه بحيث لو خلص نقص؛ لأنه إذا كان بحال ينقص لو خلص نقص؛ لأنه علم أن ذلك زيادة في عينه، أما إذا كان لا ينقص لو خلص لم يكن ذلك زيادة في عينه فلا يعتبر.
وفي «المنتقى» : وإذا باع مكوك سمسم مربى ببنفسج بخمس مكاييل سمسم غير مربى يداً بيد يجوز، وإن كان المربى مثله في الكيل لا يجوز وكذلك سويق ملتوت بسمن أو محلى بسكر بسويق غير ملتوت وغير محلى.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أن الصوف والمرعزي جنسان لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والصوف مع الشعر جنسان أيضاً، والقز مع الابريسم كالدقيق مع الحنطة،(6/360)
وعن محمد جواز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز إلا إذا كان القطن أكثر، وعلى هذا بيع الصوف بغزله.
وفي «البقالي» : عن أبي حنيفة جواز التفاضل في الماء، وعن محمد خلافه، وعن أبي يوسف لا خير في الجبن باللبن؛ لأن الجبن لم يخرج عن حد الوزن كما خرج الخبز من حد الكيل والفلوس من حد الوزن، ولا بأس بالسمن بالجبن.
وفي «الأصل» : وإذا باع حنطة قد أدرك في سنبلها بحنطة منقاة خرصاً لا يجوز.
قال شيخ الاسلام في «شرحه» : إذا كانت الحنطة المنقاة مثل الحنطة في سنبلها أكثر أو أقل، أو لا يدري، أما إذا كانت أكثر يجوز قال عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار» ؛ والمراد من الماء المذكور في الحديث الماء الذي في الآبار والأنهار؛ لأن هذا الماء وجد بإيجاد الله تعالى في مكانه، فبقي على الإباحة على أصل الخلقة حتى يؤخذ في الجرار، فإذا أخذه وجعله في جرة، أو ما أشبهها من الأوعية، فقد أحرزه فصار أحق به، فيجوز بيعه وتصرفه فيه كالصيد الذي يأخذه، فأما بيع ما جمعه الإنسان في حوضه من الماء ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في شرح كتاب الشرب: أن الحوض إذا كان مجصصاً، أو كان الحوض من نحاس أو صفر جاز البيع على كل حال، فكأنه جعل صاحب الحوض محرزاً الماء بجعله في حوضه، ولكن بشرط أن ينقطع الجري حتى يختلط المبيع بغير المبيع، وإن لم يكن الحوض من الصفر أو النحاس، ولم يكن مجصصاً، فقد اختلف فيه على حسب اختلافهم في الجمد في المجمدة في الصيف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
قال رحمه الله: والمختار في هذه المسألة أنه إن سلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم جاز، وإن باع أولاً ثم سلم لا يجوز؛ لأن الحوض ينصب شيئاً من الماء، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل القبض، فتسقط حصته من الثمن، وقدر الهلاك مما لا يعرف، فتكون حصة الباقي من الثمن مجهولة، وإنها توجب فساد العقد.
ورأيت في موضع آخر إن كان صاحب الحوض ملأ الحوض من ساحة نهر لا يجوز بيعه؛ لأنه لم يصر محرزاً له بحوضه فإنما باع ما لم يملك وإن كان ملأه ماء بجرة، أو بالقربة جاز البيع؛ لأنه ملكه بالإحراز بالجرة أو بالقربة، فقد باع ما ملكه فجاز.
وأما بيع الجمد في المجمدة إن كان البيع في الشتاء وكان الجمد بحيث لا يذوب في ذلك الوقت ولا ينتقص يجوز، وإن كان البيع في الصيف، فقد أنكره بعض مشايخ بلخ، وقال: لا يجوز على كل حال.
وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف: إن يسلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم(6/361)
يجوز البيع، وإن باع أولاً، ثم سلم لا يجوز؛ لأنه في زمان الصيف يذوب بعض الجمد، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل التسليم، ولا يدري قدر الهلاك حتى يسقط حصة من الثمن، فيكون ثمن الباقي مجهولاً، وإنها توجب فساد المبيع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان التسليم أولاً.
كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يفتي بالجواز على كل حال لتعامل الناس، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد سلام البلخي يقول: يجوز البيع بعد التسليم وقبل التسليم إذا لم يتخلل بين البيع والتسليم مدة طويلة بأن سلم بعد البيع بيوم أو يومين، أما لو سلم بعد ثلاثة أيام لا يجوز؛ لأن قدر ما يذوب في المدة القصيرة ساقط الاعتبار فيما بين الناس، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعلى هذا أكثر مشايخ ما وراء النهر.
ثم إذا جاز البيع يثبت للمشتري خيار الرؤية إذا رآها حين وقع التسليم، فإن رآها بعد ما وقع التسليم، فإن وقع التسليم لتمام ثلاثة أيام لم يكن له خيار الروية، وإن وقع التسليم بعد ذلك يبقى خيار الرؤية إلى تمام ثلاثة أيام من وقت العقد.
ذكر الصدر الشهد رحمه الله في الباب الأول من بيوع «واقعاته» وفي كتاب الشرب: إذا باع الشرب وحده لا يجوز، وإذا باع الشرب (54أ3) مع الأرض يجوز، إذا باع أرضاً مع شرب أرض آخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل، وحكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه يجوز.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «الكتاب» : ولو قال: بعت منك هذه الأرض بألف درهم، وبعت منك شربها هل يجوز بيع شرب؟ اختلف المشايخ فيه، في شرب شيخ الإسلام: وإذا اشترى كذا كذا قربة من الفرات جاز استحساناً، فإذا كانت القربة نفسها لتعامل الناس قيل: إنما يجوز إذا تبين مكان رفع نحو ما فكاه كنش؛ لأن.... أو أشباه ذلك.
وذكر الحسن بن زياد في «المجرد» عن أبي حنيفة في رجل اشترى من سقّا كذا وكذا قربة بدرهم من ماء دجلة على أن يوفيها في منزله كان جائزاً، إذا كانت قربة بعينها، وكذلك إذا قال: بعني كل راويتين من ماء دجله بدرهم على أن يوفيها في منزلي، وروى ابن أبي مالك عن أبي حنيفة أن هذا البيع فاسد لوجهين:
أحدهما: أن الماء ليس عنده.
والثاني: أن القربة وعاء إذا ضاعت لا يعرف ما مقدارها، وإذا قال لغيره: اسق دوابي كذا شهراً بدرهم لم يجز، ولو قال: كل شهر كذا قربة فهو جائز إذا أراه القربة، ولو قال لغيره: أسقيك ملاء قرابك ماء ففتح له من نهره وسقاه فلا شيء له، ولو قال: اسقِ دوابك من نهري، أو من حوض كذا فذلك جائز.(6/362)
نوع آخر في جهالة المبيع أو الثمن
جهالة المبيع أو الثمن مانعة جواز البيع إذا كان يتعذر معها التسليم، وإن كان لا يتعذر لم يفسد العقد كجهالة كيل الصبرة بأن باع صبرة بعينه، ولم يعرف قدر كيلها، وكجهالة عدد الثياب المعينة بأن باع أثواباً معينة، ولم يعرف عددها، وهذا لأن الجهالة ما كانت مانعة لعينها، بل للإفضاء إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسليم ينعدم عند ذلك ما هو فائدة العقد، فإذا لم يكن مانعة من التسليم والتسليم، فقد انعدم المعنى الذي لأجله صارت الجهالة مفسدة للعقد، فينعدم الفساد.
قال محمد في «الجامع الصغير» : رجل اشترى من آخر ثوباً كل ذراع بدرهم، ولم يعلم قدر جملة ذرعان الثوب، فاعلم بأن ههنا أربع مسائل:
إحداها: في العدديات المتفاوتة كالأغنام والبناءات.
وصورة المسألة فيها: إذا أشار الرجل إلى قطيع من الغنم أو إلى جراب هروي قال: بعتك كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك كل ثوب منها بعشرة، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يبين جملة عدد الأغنام والثياب، ولم يبين جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذا القطيع، وهي مئة شاة كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب، وهي مئة ثوب كل ثوب بعشرة، ولم يبين جملة الثمن بأن لم يقل: بألف، وفي هذا الوجه يجوز البيع بإجماع؛ لأن المبيع صار معلوماً بالإشارة والتسمية وجملة الثمن أيضاً معلوم حالة العقد؛ لأنها لما بينا عدد الأغنام مئة وبينّا لكل غنم عشرة فكأنهما قالا: بعتك هذه الأغنام، وهي مئة بألف درهم كل غنم بعشرة، فالبيع معلوم، والثمن معلوم فيجوز.
الوجه الثاني: أن يبين جملة الثمن، ولم يبين عدد الأغنام بأن قال: بعتك هذه الأغنام بألف درهم كل غنم منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب بألف درهم كل ثوب منه بعشرة، وفي هذا الوجه يجوز البيع أيضاً؛ لأن جملة الثمن صارت معلومة بقوله: ألف، وكذلك ثمن كل شاة صار معلوماً بقوله: كل شاة بعشرة، والمبيع صار معلوماً بالإشارة حيث قال: بعتك هذه الأغنام، فالاشارة إلى المبيع، أو إلى مكان المبيع كافية للأعلام، وإن كان لا يعلم ما هو وما مقداره كما لو قال: بعتك جميع ما في هذا البيت، بعتك جميع ما في كفي، فإن هذه الصورة يجوز البيع، ويصير المبيع معلوماً بالإشارة.
الوجه الثالث: إذا لم يبين جملة الثمن، ولا جملة الأغنام أو الثياب، وإنما بين حصة كل ثوبٍ بأن قال: بعتك هذا القطيع كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب كل ثوب منها بعشرة، وفي هذا الوجه لا يجوز العقد أصلاً أن يعلم عدد الأغنام في المجلس، فينقلب العقد جائزاً، وكان للمشتري الخيار إن شاء أخذ بما ظهر له من الثمن، وإن شاء ترك، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: العقد جائز في الكل، ولا خيار للمشتري إن كان قد رآه.(6/363)
المسألة الثانية: في المكيلاًت والموزونات: صورتها: إذا أشار إلى صبرة وقال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بعشرة، فهو على ثلاثة أوجه أيضاً: إن بين عدد القفزان وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين جملة الثمن، أو بين جملة الثمن، وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين عدد جملة القفزان بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز بالإجماع.
وإن بين ثمن كل قفيز ولم يبين عدد جملة القفزان ولا جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز عند أبي حنيفة في قفيز واحد، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، فيجوز البيع في الكل، وكان للمشتري الخيار، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: البيع جائز في الكل.
المسألة الثالثة: في العدديات المتقاربة: والجواب فيها كالجواب في المكيلات والموزونات.
لأن العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيلات والموزونات، وصورتها: إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذه الجوزات كل جوزة بفلس.
(المسألة) الرابعة: في الذرعيات صورتها: إذا قال لغيره: بعت منك كل ذراع من هذه الدار بدرهم، أو قال: من هذا الثوب بدرهم، والجواب فيها كالجواب في الأغنام؛ لأن الذرعان من الدار الواحدة مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، وكذلك الذرعان من الثوب الواحد مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، فإن الذراع من مقدم البيت والثوب يكون أكثر قيمة من الذارع من مؤخر البيت أو الثوب، فصار الجواب فيها كالجواب في الأغنام من هذا الوجه.
فوجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لو لم يجز هذا البيع إنما لم يجز؛ لأن جملة الثمن ليست بمعلومة الحال إلا أن طريق تحصيل العلم قائم بالرجوع إلى عدد الأغنام من غير مشقة، فإنه إذا عد الأغنام يصير جملة الثمن معلومة، والجهالة إذا كانت مشتركة يمكن رفعها من غير مشقة لا يفسد العقد كما لو باع بوزن هذا الحجر ذهباً.
ولأبي حنيفة: إن كلمة كل إذا دخلت على ما لا يعلم نهايته يتناول الواحد من تلك الجملة كما في قوله: أجرتك هذه الدار كل شهر، وكما في قوله لامرأة الغير: كفلت لك عن زوجك نفقة كل شهر، وإذا تناول واحداً من الجملة صار بائعاً شاة واحدة من القطيع وثوباً من الجراب وذرعاً واحداً من الثوب أو الدار وقفيزاً واحداً من الصبرة وجوزاً واحداً من الجوزات الكبيرة، إلا أن بيع شاة واحدة من القطيع، وبيع ثوب واحد من الجراب، وبيع ذراع من الثوب أو من الدار لا يجوز بيع قفيز واحد من الصبرة يجوز فكذا ههنا.
وعبارة بعض مشايخنا لأبي حنيفة في المسألة: أنه لا وجه إلى تجويز البيع في الكل في العدديات المتفاوتة، وما ألحق بها؛ لأن ثمن الكل مجهول في الحال، ولا وجه إلى تجويز في واحدة منها، وإن كان ثمن الواحدة منها مجهولة في نفسها لكونها (54ب3) متفاوتة.
ألا ترى أنه لو باع واحدة من القطيع أو واحداً من الجراب لا بعينها لم يجز.
فأما في المكيلاًت والعدديات المتقاربة إن تعذر تجويز البيع في الكل؛ لأن ثمن الكل مجهول أمكن تجويز البيع في واحدة؛ لأن ثمنها معلوم بالقسمة والواحدة منها معلوم(6/364)
أيضاً؛ لأنه غير متفاوت في نفسه؛ لأنه من ذوات الأمثال.
ألا ترى لو باع قفيزاً من الصبرة في الابتداء بثمن معلوم جاز ذلك كان القياس أن يجوز البيع في الثاني والثالث من القفزان مما لا يتفاوت في نفسها لكن تركنا القياس فيما زاد على الواحدة؛ لأنا لو عملنا بالقياس، وجوزناً البيع في الثاني والثالث لزمنا تجويزه في الكل إذ ليس الثاني والثالث بأولى من الرابع والخامس؛ لأن الثاني والثالث تبع للكل كالرابع والخامس، فيؤدي إلى تجويز البيع في الكل مع أن ثمن الكل مجهول.
أما تجويز البيع في الواحد لا يؤدي إلى تجويز البيع في الثاني والثالث؛ لأن الأول يتصور بدون الثاني والثالث فتجويز البيع في الواحد لا يؤدي تجويز البيع في الكل فلهذا افترقا، وليس كما لو كان الثمن دراهم مشار إليها؛ لأن المشار إليه معلوم من كل وجه بالإشارة كما في جانب البيع.
ألا ترى أنه يمكن للمشتري أخذ المشار إليه من غير رجوع إلى شيء، ولا يمكن للبائع أخذ جميع الثمن ههنا إلا بعد الرجوع إلى عد الأغنام، وكذا إذا أشار الحجر لأن الحجر معيار للدراهم؛ لأنها يوزن به فصارت الإشارة إلى معيارها كالإشارة إليها، وهاهنا لم وجد الإشارة الى جملة الثمن، ولا الى معيار؛ لأن القطيع ليس معياراً للثمن؛ لأنه لا يوزن به، ولم يوجد تسمية جملة الثمن، فبقي جملة الثمن مجهولة إلا أن هذه جهالة يتوهم زوالها بعد الأغنام، فقلنا بفساد العقد للحال و.... علم عدد الأغنام في المجلس فأثبتنا الخيار للمشتري؛ لأن الثمن كان مجهول القدر عنده، وإنما صار معلوماً بعد الأغنام، فيخير كما لوكان المبيع مجهول الوصف، وزالت الجهالة بالرؤية، ويسمى هذا خيار بكشف الحال لو رضي به المشتري، فليس للبائع أن يأبى، ثم شرط في «الكتاب» بجواز هذا العقد إن علم عدد الأغنام في المجلس؛ لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة واحدة في حق العقد، فصار كأنها إنشاء العقد في الحال، فكان طريق تجويز العقد طريق رافع للفساد، فأما ساعات بعد الافتراق عن المجلس مع ساعات المجلس ليس لها حكم ساعة واحدة ليجعل كأنها إنشاء العقد، فكان طريق تجويز العقد طريق رفع الفساد، ورفع الفساد إنما يجوز في موضع كان الفساد بسبب شرط في العقد كأجل مجهول، أو خيار يزيد على الثلاث لا في موضع الفساد في صلب العقد، والفساد ههنا في صلب العقد.
وبعض مشايخنا قالوا: إن عند أبي حنيفة إذا علم عدد الأغنام في المجلس، أو بعد الافتراق عن المجلس ينقلب العقد جائزاً على كل حال، وهذا القائل يقول: ذكر المجلس في الباب وقع اتفاقاً.
وقال شمس الأئمة الحلواني: الأصح عندي أن على قول أبي حنيفة، وإن علم عدد الأغنام في المجلس ينقلب العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع دائماً على رضاه ورضي به(6/365)
المشتري ينعقد بينهما عقد مبتدأ بالتراضي.
وسيأتي مثل هذا فيما إذا باع شيئاً برقمه هذا الذي ذكرنا إذا قال: كل شيء بعشرة، أو قال: كل ذراع، أو قال: كل قفيز، فأما إذا قال: كل شاتين بعشرة، ففي الأغنام، وما أشبهها من العدديات المتفاوتة لا يجوز البيع عندهم في الوجوه الثلاث بأن بين عدد الأغنام، أو لم يبين جملة عدد الأغنام ولا جملة الثمن، وإنما قال: كل شاتين بعشرة، وهذا لأن ثمن كل شاة ههنا غير معلوم بنفسها بل يحتاج إلى ضم شاة أخرى إليها، ثم يقسم العشرة إلى قيمتها ولا يعرف كيفية الضم أنه ضم الجيد إلى الجيد أو الرديء إلى الجيد والوسط، فيبقى ثمن كل واحدة مجهولاً، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذ وجد بشاة أو ثوب عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة، ويتمكن المنازعة بينهما في ثمنه، وكذا إذا هلك أحدهما قبل القبض أو تقايلا البيع في واحدة، أو استحق واحد، فعرفنا أن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة، فيفسد العقد بينهما.
وفي المكيل والموزون وما ألحق بهما من العدديات المتقاربة إن بين جملة عدد القفزان، ولم يبين جملة الثمن أو بين جملة الثمن، ولم يبين جملة عدد القفزان، فالبيع جائز عندهم جميعاً؛ لأن أكثر ما فيه أن كل قفير مبيع لا يعرف ثمنه إلا بانضمام غيره إليه إلا أن القفيز الذي يضم إليه مما لا يتفاوت في نفسه بخلاف الشاة على ما بينا.
ألا ترى أنه لو باع قفيزين من صبرة بعشرة كان جائزاً، ولو باع شاتين من قطيع بعشرة لا يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما، ولكن قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيزين منها بعشرة بحيث أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: يجوز البيع في قفيزين منها بعشرة، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في الكل كما لو قال: كل قفيز منها بدرهم، وعلى هذا إذا قال: كل ثلاثة بكذا.
ولو أشار إلى نوعين حنطة وشعير، وقال: أبيعك بهاتين الصبرتين كل قفيز منها بدرهم صح العقد على قفيز واحد منهما في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الصبرتين.
وفي «المنتقى» : رجل قال لآخر: بعتك هذه السفين الآجر كل ألف بعشرة دراهم، فالبيع فاسد؛ لأن البيع وقع على جميعه ولا يدري إن أصاب ببعضها عيب ما حصته؛ لأن الآجر متفاوت، ولو قال: أبيعك منه ألفاً بعشرة، فإن عد له الألف ثم البيع فيها، ولكل واحد منهما أن يمنع من البيع ما لم يعد له.
وفي «نوادر ابن سماعة» : قال: سألت محمداً عن رجل دنى إلى وقر بطيخ وقال: بكم عشر بطيخات من هذه البطيخات بغير عينها، فقال: بكذا، فاشترى، ثم عزله البائع بعشر بطيخات وحملها المشتري ومضي على ذلك القول، والبطيخ متفاوت قال: هو جائز استحساناً بمنزلة رجل قال للقصاب: بعني من هذا اللحم كذا، فباعه منه وقطع له منه واحدة على ذلك، فالبيع جائز.(6/366)
وكذلك الرمان وهذا لأن البائع لما عزل كان ذلك منه بمنزلة ابتداء العقد فان قبل المشتري، ثم البائع إلا أن قال: ثمة ولو أتى إلى مائة شاة وقال لصاحبها: بكم عشرة منها قال: بكذا، فاشترى فالبيع باطل.
قالوا: وعلى قياس مسألة البطيخ والرمان يجب أن يقال: إذا عزل البائع عشرة منها وحملها المشتري ومضى على ذلك أنه يجوز، وعلى قياس مسألة الشهادة يجب أن يقال في البطيخ والرمان: إذا لم يعزل البائع أو عزل، ولكن لم يقبل المشتري أنه لا يجوز، فإذاً لا فرق بين هذه المسائل.
وفي «المنتقى» : رجل معه درهم قال لغيره: اشتريت منك هذا الثوب مثلاً بهذا، وأشار إلى ما معه من الدرهم، فباعه فوجده زيوفاً، فالبيع فاسد، رجل قال لغيره: بعت منك هذه المئة الشاة بهذه المئة الشاة كل شاة منها بشاة فالبيع فاسد.
رجل قال لآخر: بعت منك هذه البقرة، وهي حية كل رطل بدرهم، فقبضها فضاعت منه ضمن قيمتها أشار الى فساد هذا البيع، وعند محمد فيمن قال لآخر: بعتك هذه الشاة كل ثلاثة أرطال بدرهم توزن حية، فالبيع باطل؛ لأنها تنقص وتزيد، وكذلك إذا قال: وزنها خمسون رطلاً، فاشترى منه كل ثلاثة أرطال بدرهم، وكذلك إذا قال: بعت منك هذه الرمانة؛ لأنها قد تنقص.
وفي «القدوري» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذا اللحم كل رطل بكذا، فالبيع فاسد في الكل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز في الجميع، ولا خيار له.
والخلاف في هذا نظير الخلاف فيما إذا قال: بعت (55أ3) منك هذا القطيع كل شاة منها بدرهم، وإنما لم يجز البيع في رطل واحد عند أبي حنيفة بخلاف مسألة الصبرة؛ لأن القفزان من الصبرة لا يختلف، فيمكن تجويز العقد في قفيز واحد؛ لأن ثمنه معلوم، أما موضع اللحم من الشاة مما يختلف، فلا يمكن تجويز العقد في رطل واحد، ولو باع شيئاً بربح ده يازده، فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع.
وهذه رواية ابن رستم عن محمد، وهذا لأن الثمن مجهول عند المشتري جهالة يمكن بإعلام فقيل بالفساد في الحال لمكان الجهالة وقيل: الجواز إذا زالت الجهالة عملاً بالأمرين.
وروى ابن سماعة عن محمد: أن البيع جائز وتأويله أنه موقوف يحكم بالجواز عند ارتفاع الجهالة بدليل ما فسر أنه لو هلك ذلك الشيء، أو باعه، فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، فهذا الدليل على أن العقد محكوم بفساده الى أن تزول الجهالة.
وقال أبو يوسف: إن مات البائع قبل أن يرضى المشتري، وقد قبض أو لم يقبض انتقض العقد؛ لأن رضى المشتري ههنا بمنزلة الإجازة في العقد الموقوف، ثم في(6/367)
الإجازة يشترط قيام المتعاقدين والمعقود عليه كذا ههنا.
ولو قبض المشتري أو باعه قبل العلم، أو مات المشتري، فالعتق والبيع جائز وعليه القيمة، أما جواز العتق والبيع فلحصولهما في ملك المعتق والبائع، أما وجوب القيمة فلتقرر الفساد، وبإزالة العتق عن ملكه قبل العلم بالثمن، ولو أعتق بعدما علم برأس المال، فعليه الثمن؛ لأن الجهالة زالت، فزال الفساد إلا أن المشتري كان له الخيار، وقد يسقط خياره بالإعتاق فلزمه الثمن.
ولو كان عتق عليه بحكم القرابة، ولم يكن علم بالثمن حتى قبضه، فعليه القيمة؛ لأنه لا فرق بين الإعتاق والعتق عليه فيما يرجع إلى فوات المحل فيقرر الفساد.
وفي «الأصل» : إذا قال: أخذت هذا منك بمثل ما يبيع الناس فهو فاسد، ولو قال بمثل ما أخذ به فلان من الثمن، فإن علما مقدار ذلك وقت العقد فالبيع جائز، وإن لم يعلما فالعقد فاسد، فإن علما بعد ذلك إن علما وهما في المجلس ينقلب العقد جائزاً، أو يتخير المشتري؛ لأن ما يلزم المشتري من الثمن إنما يظهر للحال وهذا خيار يكشف حاله.
وقد مر نظير هذا فيما تقدم، وإذا اشترى شيئاً برقمه، فالعقد فاسد، فإن علم بعد ذلك إن علم في المجلس جاز العقد، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يقول: وإن علم بالرقم في المجلس ينقلب ذلك العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع على ذلك الرضا ورضي به المشتري ينعقد بينهما عقد ابتداء بالتراضي.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل له على رجل عشرة دراهم، فقال لمن عليه العشرة: بعني هذا الثوب ببعض العشرة وبعني هذا الآخر بما بقي، فقال: نعم قد بعتك، فهو جائز، وإن قال: هذا ببعض العشرة قال: لا يجوز.
وقيل: ينبغي أن لا يجوز في الوجهين؛ لأن ثمن كل واحد منهما مجهول، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذا وجد بأحدهما عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة ويتنازعان في ثمنه.
وفي «المنتقى» : إذا باع عدل بز برقمه، ثم باعه البائع قبل أن يتبين الثمن الأول، فبيعه جائز من الثاني، ولو أخبره بالثمن، فلم يختر أخذه حتى باعه البائع من غيره لم يجز بيعه الثاني، وأشار إلى الفرق، فقال: لأن في الفصل الثاني أوجب البيع الأول، وهو فيه بالخيار يعني الأول، يريد بهذا أن البيع قد صح من الأول لما أخبر البائع الأول بالرقم إلا أنه له خيار يكشف الحال، وإذا صح البيع من الأول صار العدل ملكاً للأول، فالبيع الثاني صادف ملك الأول، فلم يصح قال: وفي الفصل الأول لم يتبين له الثمن، فكان له الخيار، يريد به أنه إذا لم يتبين الثمن الأول فاسداً، فيكون للبائع خيار نقضه، والبيع الثاني نقض الأول مقتضاه سابقاً عليه، فكان البيع الثاني مصادفاً ملك البائع فيصح.
ثم قال عقيب هذه المسألة: ألا ترى لو استهلكه بعدما أخبره كان عليه الثمن، ولو استهلكه قبل أن يخبره بالثمن، فعليه القيمة، ثم قال: كل بيع يكون على المشتري فيه القيمة فللبائع أن ينقضه وأن يبيعه قبل أن يسلمه، وكل بيع يكون على المشتري فيه الثمن،(6/368)
ويكون له فيه الخيار، فليس للبائع أن ينقضه، وإذا كان البيع بالتولية أو برقمه، ولا يعلم رأس ماله فهو بمنزلة البيع الفاسد في حكم الضمان، وفي حكم النقض إلا أنه يخالف البيع الفاسد من وجه. وفي البيع الفاسد إذا قال البائع: لا أتم البيع لا يجبر عليه فهاهنا لو قال البائع: لا أخبرك بالثمن يجبر عليه.
وفي «الإملاء» عن أبي حنيفة: إذا قال لغيره: بعتك هذا الطعام كل كر بمئة درهم، فإنما وقع البيع في كر فإن كال المشتري أو البائع الطعام، وعرف المشتري كيله كله فله أن يرضاه ويأخذه كله كل كر بمئة درهم، وليس للبائع أن يمتنع منه، وهذا رواية محمد عن أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز العقد فيما زاد على الكر الا بتراضيهما؛ لأن العقد لما وقع فاسداً لجهالة الثمن أوجب ذلك خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يلزم إلا بتراضيهما، وإن لم يرضَ به المشتري بعد ما علم بكيله باع البائع ما بقي من الطعام من رجل آخر، ثم قال المشتري الأول بعد ذلك: رضيت بالطعام كله لم يلتفت إلى رضاه، وكان له من الطعام كر والباقي للمشتري الآخر.
وإذا باع جراباً من بر قال: بعتك هذا الجراب بخمسين درهماً، فالبيع فاسد في الكل، فإن عد البائع الثياب، وعرف المشتري عددها فقال: رضيته بذلك، فليس للبائع أن يمتنع عنه، وجاز البيع للمشتري.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر مئة جوزة كبيرة بثمن معلوم، فلما عدها له البائع قال: لا أرضى، فليس له في ذلك، ولو اشترى من قصاب كذا رطلاً من لحم بدرهم، فقطع القصاب اللحم ووزنه، وهو ساكت حين قطعه ووزنه، ثم قال: لا أرضى فله ذلك حتى يقول بعد الوزن: رضيت، قال: ولا يشبه هذا الجوز وأشار إلى العلة فقال: لأن الجوز شيء واحد والله أعلم.
روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره: بعتك نصيبي من هذا الطعام، ولم يبين كم هو فالبيع باطل، وإن بيّنه بعد ذلك، وهو قول زفر.
وفي «المنتقى» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره:(6/369)
بعتك نصيبي من هذه الدار، ولم يبين النصيب، وقول أبي حنيفة: أنه فاسد، وقال أبو يوسف: هو جائز والمشتري بالخيار إذا علم إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، قال الحاكم أبو الفضل: قول محمد هاهنا بخلاف ما ذكر في «الأصل» ، وروى الحسن ابن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف يقول عن أبي حنيفة: إذا باع نصيبه من هذه الدار، ولم يبين النصف، فالبيع فاسد إلا أن يتصادقا أنهما كانا يعرفان كم هو فيجوز، قال ابن أبي مالك: وهو قول أبي يوسف قال: وكان أبو حنيفة أولاً يقول: بيع نصيبه جائز؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن كان مجهولاً عندهما.
ألا ترى أنه إذا ولاه ما اشترى ولم يخبره فالبيع جائز، وإن كان مجهولاً عندهما لما كان معلوماً في نفسه، ثم رجع أبو حنيفة رحمه فقال: بيع النصف فاسد، وهو قول أبي يوسف، ثم رجع أبو يوسف عن هذا القول، وقال: هو جائز بمنزلة التولية.
ذكر الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا قال الرجل لغيره: أبيعك من هذا البيض عشرة بكذا أن القياس فيه أن البيع فاسد مثل الرمان وأشباهه، ولكن أستحسن تجويزه.
وروى ابن مالك عن أبي (55ب3) أبي يوسف أيضاً: أن من قال لغيره: بعتك كر طعام، وعنده كر طعام، فالبيع على الكر الذي عنده، وكذلك إذا قال: بعتك جارية، وعنده جارية، فإن كان عنده جارية فالبيع فاسد، وفي شرح كتاب العتق إذا قال لغيره: بعت منك عبداً لي بكذا، وله عبد واحد، إن قال: عبداً لي في مكان كذا جاز البيع، وإن لم يقل: في مكان كذا قال شمس الأئمة الحلواني: عامة المشايخ على أنه لا يجوز البيع، قال رحمه الله: وهو الصحيح، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العتاق.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : وإذا اشترى الرجل من آخر عشرة أذرع من مئة ذراع من الحمام، أو من الدار، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز إذا كانت الدار مئة ذراع.
وإذا اشترى عشرة أسهم من مئة سهم من الدار جاز البيع عندهم جميعا، ذكر الخصاف في هذه المسألة أن فساد البيع عند أبي حنيفة بجهالة الذرعان، فأما إذا عرف مساحتها يجوز عنده، وجعل هذه المسألة على قياس ما لو باع كل شاة من القطيع بعشرة إن كان عدد جملة الشياه معلومة يجوز عنده، وإن لم يكن معلوماً لايجوز، وذكر أبو زيد الشروطي أن على قول أبي حنيفة البيع فاسد، وإن علما ذرعان الجملة، وهكذا ذكر شيخ الاسلام في شرح بيوع «الأصل» وهو جواب «الجامع الصغير» ، وهذا أصح مما قاله الخصاف.
فوجه قولهما: أن عشرة أذرع من مئة ذراع عشر الدار وربع عشر الدار جائز بالاتفاق كما لو باع عشرة أسهم من مئة سهم من الدار، فاللفظ مختلف، أما المعنى لايختلف، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المبيع مجهول؛ لأن الذراع حقيقة اسم لخشبة تذرع بها الممسوحات ولكن يستعار لما يحله مجازاً، وما يحله عين؛ لأن الخشبة محل العين، أما لا يحل الشائع فلم يصح أن يستعار هذا لاسم الشائع، فكان الداخل تحت العقد موضعاً معيناً، فإذا لم يبين ذلك الموضع أنه من مقدم الدار أو من مؤخره وجوانب الدار متفاوتة في القيمة كان المعقود عليه مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف السهم؛ لأنه اسم بجزء شائع، ألا ترى أن ذراعاً من مئة ذراع، وذراعاً من عشرة أذرع سواء، وسهم من عشرة أسهم لايساوي سهما من مئة سهم فيظهر الفرق.
وذكر في بيوع «الأصل» : إذا قال: بعتك ذراعاً من عشرة أذرع من هذه الدار، وجعله على الخلاف الذي ذكرنا قال شيخ الإسلام: وأجمعوا على أنه لو باع سهماً من عشرة أسهم من هذه الدار أنه يجوز، ولم يذكر ما إذا باع عشرة أذرع من هذه الدار، ولم يقل: من مئة أذرع كيف الجواب فيه؟
على قولهما من مشايخنا من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن المعقود عليه، وإن كان مجهولاً إلا أن هذه جهالة مستدركة يمكن رفعها بأن يذرع الدار بأسرها،(6/370)
فإن كانت مئة ذراع علم أن المبيع عشرها، وإن كان خمسين ذراعاً علم أن المبيع خمسها.
ولو قال: بعتك ذراعاً من هذه الدار إن عين موضعه بأن قال: من هذا الجانب إلا أنه يميزه بعد، فالعقد منعقد غير نافذ حتى لا يجبر البائع على التسليم؛ لأنه باع مالاً معلوماً إلا أنه لايقدر على التسليم إلا بضرر يلحقه في غير ماتناوله العقد، وإن لم يعين موضع الذراع، على قول أبي حنيفة: لايجوز أصلاً.
وعلى قولهما: يجوز ويذرع الدار، فإن كانت عشرة أذرع صار شريكاً بمقدار عشر الدار، هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن على قولهما اختلف المشايخ، والأصح: أنه لايجوز، وإذا باع سهماً من الدار، ولم يعين موضعه ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه لايجوز إجماعاً، فعلى هذا يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الذراع والسهم.
والفرق: أن المعقود عليه مجهول في الفصلين جميعاً إلا أن في الذراع رفع الجهالة ممكن بذرع جملة الدار، أما في السهم غير مستدركة، فلا يجوز إجماعاً، وإذا قال: بعتك ذراعاً من هذا الثوب ولم يبين موضعه، أو قال: من هذه الخشبة ولم يعين موضعه، ذكر بعض مشايخنا: أنه على الخلاف الذي في مسألة الدار، وذكر بعض المشايخ: أنه لايجوز بالإجماع، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الدار وبين الثوب.
وأشار شيخ الإسلام إلى الفرق فقال: في مسألة الدار الذراع أضيف إلى غير محله من حيث العرف والعادة؛ لأن الدار لاباع ذراعاً عرفاً وعادة، فلا يمكن العمل بحقيقة اسم الذراع في الدار، فيجعل كناية عن السهم من حيث الذراع اسم مقدار كالسهم، فصار كما لو باع سهماً من هذه الدار، فأما في مسألة الثوب الذراع أضيف الى محله عرفاً وعادة، فأمكن العمل بحقيقة اسم الذراع، فلا يجعل كناية عن غيره.
قلنا: والذراع اسم للخشبة حقيقة ولما يحله مجازاً وما يحله يميز، فإذا لم يعين موضعاً يبقى المعقود عليه مجهولاً على نحو ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله فلم يجز لهذا.
وفي «المنتقى» : إذا باع ذراعاً من خشبة أو ثوب من جانب معلوم، فالبيع فاسد، فان قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف أن البيع جائز، وللمشتري الخيار إذا قطعه البائع إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى داراً على أنها ألف ذراع بألف درهم، فوجدها أكثر فهي له كلها، وإن كان قال: كل ذراع بكذا، فوجدها أكثر، فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أخذها، وزاد في الثمن بحساب ذلك، وإن وجدها أنقص، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
أصل هذا أن الذراع فيما يذرع يشبه الأوصاف، فإن الاسم لا يتغير بزيادة الذرع ونقصانه، بل يتغير وصفه، فيصير أطول وأقصر، ولكنه غير منتفع به يزداد القيمة بزيادته، فمن هذا الوجه أصل، فيجب العمل بالشبهين في حالين، وإذا لم يقابل الثمن بالذرعان يراعي فيه شبه الأوصاف، فيستحق تبعاً(6/371)
لاستحقاق الأصل، وإن لم يتناوله العقد كفناء الدار يستحق من غير ذكر.
وكجمال الجارية يستحق من غير ذكر، وإذا اعتبر وصفاً، فإن زاد سلم المشتري من غير خيار، وإن انتقص تخير المشتري، ولكن لا يحط شيء من الثمن كمالو سقط أطراف المبيع، فإن هناك يتخير المشتري، ولا يسقط شيء من الثمن كذا ههنا.
وإذا قابل الثمن بالذرعان بأن قال: كل ذراع بكذا يراعي فيها شبه الأصالة، ويصير كل ذراع بمنزلة مبيع على حدة، فإن ازداد يخير المشتري؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن ازداد المبيع يلزمه زيادة ثمن، فيتخير المشتري، وإن انتقص تخير المشتري أيضاً؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن انتقص المبيع.
وعلى هذا إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع بكذا، ولم يبين حصة كل ذراع، أو بين ووجده أزيد بأن وجده أحد عشر ذراعاً، أو وجده تسعة أذرع، فالعقد جائز على كل حال غير أنه إذا لم يبين حصة كل واحد من الذرعان ووجده زايداً سلمت له الزيادة مجاناً، ولو وجده ناقصاً لايسقط شيء من الثمن، ولكن تخير المشتري، وإن تبين حصة كل ذراع، ووجده زائداً فله الخيار، إن شاء أخذه ولزمه حصة الزيادة، وإن شاء نقض العقد، والجواب (56أ3) في الخشب والأرض نظير الجواب في الأرض والدار؛ لأنه مذروع كالثوب، والدار.
في «المأذون الكبير» : في باب بيع الكيل والوزن إذا قال: أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف ذراع فوجدها كما قال، أو أكثر، فالبيع جائز؛ لأن المذروع في هذه الحالة شبيه الأوصاف، فكأنه اشتراها على أنها ضيقة، ومن اشترى داراً على أنها ضيقة فوجدها كذلك، أو وجدها واسعة كان البيع جائزاً كذا ههنا.
ومن هذه الجنس مسائل
مسألة الذرعيات: وهي هذه، ومسألة في الكيليات والوزنيات.
وصورتها: رجل باع من آخر صبرة على أنها خمسون قفيزاً مثلاً، أو اشترى زيتاً على أنه خمسون مَنّاً، فوجده أزيد بأن وجده إحدى وخمسين أو أنقص بأن وجده تسعة وأربعين، فالبيع جائز، بين حصة كل قفيز ومَنّ، أو لم يبين؛ لأنه متى وجده أحداً وخمسين والداخل تحت العقد خمسون صار مشترياً خمسين قفيزاً من أحد وخمسين قفيزاً، وذلك جائز سمي لكل قفيز ثمناً أو لم يسم؛ لأن الحنطة من ذوات الأمثال حتى يضمن مستهلكاً المثل من جنسها والحادي والخمسون الذي لم يدخل تحت العقد مما لا يتفاوت في نفسها حتى يصير الباقي مجهولاً، ومتى وجده تسعة وأربعين ولذلك البيع جائز؛ لأنه لو لم يجز لجهالة ثمن الباقي، وثمن الباقي معلوم، أما إذا تبين لكل قفيز ثمناً فظاهر، وأما إذا لم يبين؛ فلأن القفزان لا تتفاوت في أنفسها فيقسم الثمن باعتبار عدد القفزان، فيصير حصة الذاهب معلوماً بيقين، وإذا صار حصة الذاهب معلوماً كان حصة الباقي معلوماً، ولهذه المسألة تفريعات لم يذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» ولا في بيوع «الأصل» .(6/372)
فمن جملتها إذا قال لغيره: أبيعك هذه الحنطة بكذا على أنها أقل من كر، فاشتراها على ذلك، فوجدها أقل من كر، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة، ووجده على شرطه الذي سماه، والثمن معلوم بالتسمية فيجوز، وإن وجدها كراً، أو أكثر من ذلك فالبيع فاسد؛ لأن البيع يتناول بعض الموجود، وهو أقل من الكر كما سمي وذلك مجهول؛ لأنه لا يدري أن المشترى أقل من الكر بقفيز أو قفيزين، وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة.
وكذلك إذا قال: على أنها أكثر من كر، فوجدها أكثر من الكر بقليل أو كثير، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأنه وجدها على شرطه، والبيع يتناول جميعها، وإن وجدها أقل من كر أو كراً فالبيع فاسد؛ لأنه لا بد من إسقاط حصة النقصان من الثمن، وذلك غير معلوم وتشتبه تقع المنازعة، ولو قال: على أنها كر أو أقل من كر، فوجدها كراً أو أقل من كر فهو جائز، ولو وجدها أكثر من كر، فكذلك البيع جائزاً؛ لأنه يصير مشترياً كراً من صبرة وذلك جائزاً، ولزم المشتري كر بجميع الثمن، والزيادة على الكر للبائع؛ لأنه لم يدخل تحت البيع.H
ولو قال: على أنها كر أو أكثر، فالبيع جائز وجدها أكثر منه، أو أقل غير أنه إن وجدها كراً أو أكثر، فذلك سالم للمشتري بجميع الثمن ولا خيار له، وإن وجدها انقص فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لو قسم الثمن على الركام، وإن شاء ترك.
والوجه في ذلك أن البائع أدخل كلمة، أو بين مقدارين، فكان المراد أحدهما، فإذا وجده أنقص من كر لم يوجد واحد من المقدارين حتى يتعين مراداً لابد لنا من إثبات أحد المقدارين، إما الكر أو الأكثر، فنقول: إثبات الكر أولى من إثبات أكثر من الكر؛ لأن في إثبات الكر تجويز العقد.
فإن اشترى من أخر حنطة على أنها كر، فوجدها أقل من الكر يجوز وفي إثبات الأكثر إفساد العقد فإن من اشترى من آخر حنطة على أنها أكثر من الكر، فوجدها أقل من الكر يفسد العقد، والعقد متى احتمل الصحة والفساد يحمل على وجه الصحة، فأثبتنا المقدار الذي منه يجوز العقد وهو الكر، وصار كأنه اشتراها على أنها كر، فوجدها أقل، وهناك يقسم الثمن على الفائت والقائم فكذا ههنا هذه الجملة في «المأذون الكبير» في باب بيع الكيل والوزن، ولم يذكر ما إذا اشتراها على أنها كر، وينبغي أن يجوز البيع سواء وجدها كراً أو أقل من الكر أو أكثر غير أنه إذا وجدها كراً لزم المشتري ذلك من غير خيار، وإذا وجدها أكثر من الكر لزم المشتري قدر الكر من غير خيار ويرد الزيادة، وإذا وجدها أنقص يتخير المشتري إن شاء أخذ الموجود بحصته، وإن شاء ترك.
وعلى قياس هذه المسائل يخرج ما إذا اشترى عيناً معيناً في كرم معين على أنه كذا مناً، فوجده كذلك، أو أقل أو أكثر، ومسألة في العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيل والموزون في ضمان الاستهلاك حتى ضمن مستهلكاً المثل من جنسها كالأغنام والثياب.(6/373)
وصورتها: رجل اشترى عدل زطي على أنه خمسون ثوباً، أو اشترى قطيعاً من الغنم على أنه خمسون شاة بكذا، فوجدها زايداً بأن وجدها واحداً وخمسين، أو وجد ناقصاً بأن وجدها تسعة وأربعين، فإن وجدها زايداً، فالبيع فاسد سمي لكل واحد ثمناً على حده بأن قال: كل ثوب بكذا، أو لم يسم؛ لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة؛ لأن المبيع خمسون ثوباً، فما زاد على ذلك يجب رده على البائع، ولا يدري أي ثوب يرد على البائع، ولذا كان المردود مجهولاً.
وإن وجدها أنقص من ذلك إن لم يسمِ لكل ثوب ثمناً فالبيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وإن حصة الذاهب يوجب جهالة حصة الباقي، وهذا لأنه إذا لم يسمِ لكل واحد ثمناً، فالثمن ينقسم باعتبار القيمة، ولا يدري قيمة الذاهب بيقين؛ لأنه لا يدري إن كان جيداً أو وسطاً أو رديئاً، فكان حصة الذاهب مجهولاً والتقريب ما ذكرنا، فإذا سمى لكل واحد ثمناً بأن قال: كل ثوب مثلاً بعشرة كان البيع جائزاً في الثياب الموجودة، وهي تسعة وأربعون؛ لأن المبيع معلوم والثمن.
كذلك أكثر مشايخنا على ما ذكر في «الكتاب» : أن البيع جائز في الثياب الموجودة قولهما أما على قول أبي حنيفة، فالعقد فاسد في الكل؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن، وهو العدم والأصل عند أبي حنيفة أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد في الباقي، وكان أبو الحسن قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الكل في هذا الفصل وقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على هذا.
وصورتها: رجل اشترى ثوبين على أنهما مرويان كل ثوب بعشرة، فإذا أحدهما هروي والآخر مروي، وذكر أن البيع فاسد في الهروي والمروي جميعاً عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في الهروي، والفائت في مسألة «الجامع» الصفة لا أصل الثوب، فإذا كان فوات الصفة في أحد البدلين يوجب فساد العقد في الكل على مذهبه، ففوات أحدهما من الأصل لا يوجب فساد العقد في الكل عنده أولى، بعض مشايخنا قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب قول الكل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، قال شمس الأئمة الحلواني: الصحيح عندي أن على قول أبي حنيفة: يفسد العقد في الكل، قال محمد رحمه الله: وعلى هذا إذا اشترى حنطة على أنها كر، فوجدها ببعض قفيراً يفسد العقد في الباقي عند أبي حنيفة هو الصحيح قال رحمه الله: (56ب3) وعلى هذا إذا اشترى مئة جوزة كل جوزة بفلس، فوجد بعض الجوز خاوياً، فإن العقد لا يجوز.
في «الحاوي» : ويتعدى الفساد إلى الباقي عند أبي حنيفة، ثم إذا جاز البيع في الثياب الموجودة ذكر أن المشتري تخير إن شاء أخذ كل ثوب بما سمي، وإن شاء ترك، وذلك لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإنه يوجب الخيار.
وذكر في «النوادر» أن من اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فوجده عشرة ونصفاً، أو تسعة ونصفاً أخذه بأحد عشرة درهماً إن شاء، وعلى قول أبي(6/374)
حنيفة إن شاء رده، وقال محمد: إن وجده عشرة ونصفاً أخذه بعشرة ونصف إن شاء، وإن وجده تسعة ونصفاً أخذه بتسعة ونصف، وما قال محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن من ضرورة مقابلة كل درهم بكل ذراع مقابلة نصف درهم بنصف ذراع، وأبو يوسف يقول: لما صح الشرط صار كل ذراع في حكم المقابلة كثوب على حدة بيع على أنه ذراع، فإنه إذا وجده أنقص أسقط شيء من الثمن، ولكن يثبت الخيار كذا ههنا، وما قاله أبو حنيفة أصح؛ لأن الذراع وما دونه في حكم الصفة على ما مر.
وإنما يعتبر أصلاً بقضية مقابلة الثمن، والمقابلة مقدرة بذراع، فإذا عدم الذراع لم يثبت جهة الأصالة، فبقيت العبرة لكونها صفة، فصار زيادة نصف ذراع بمنزلة زيادة صفة الجودة، فيسلم له من غير شيء، وصار نقصان نصف ذراع بمنزلة تسعة أذرع جيدة فيتخير.
ومن المتأخرين من قال: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» في فصل الثوب في القميص والسراويل والعمائم والأفنية أما إذا اشترى كرباساً لا يتفاوت جوانبها على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم، فإذا هو أحد عشر لا يسلم له الزيادة؛ لأن هذا الكرباس في معنى الموزون والمكيل، وإن كان متصلاً بعضها ببعض لكن ليس في الفصل ضرر، فيصير بمنزلة اعتبار خفيفة كالموزون لما كان لا يتمكن فيه العيب بتميز البعض عن البعض اعتبر كل قفيز أصلاً فكذا ههنا، وعلى هذا إذا باع ذراعاً من هذا الكرباس، ولم يعين موضعه يجوز كما في الحنطة إذا باع قفيزاً منها.
قال محمد في «الجامع» : إذا اشترى الرجل من غيره زق زيت بمائة درهم على أن له الزق وما فيه من الزيت على أن وزن ذلك كله مئة رطل، فوزن ذلك فوجد كله تسعين رطلاً الزق من ذلك عشرون رطلاً، والزيت سبعون، فإن النقصان من الزيت خاصة، فيقسم الثمن على قيمة الظرف، وعلى قيمة ثمانين رطلاً من زيت، فما أصاب الزيت يطرح ثمنه، ويجب الباقي، فكان للمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذ بما قلنا، وإن شاء بما ترك، فقد جعل النقصان من الزيت خاصة.
وعلل في «الكتاب» : مما يزيد وينقص، والزق مما لا يزيد ولا ينقص، ومعنى هذا الكلام أن الزيت لما كان يزيد وينقص لو صح صرفنا النقصان إلى الزيت احتمل كلامه الصدق بأن يجعل كأن الزيت وقت البيع كان ثمانين رطلاً، والزق عشرين، فجملته مائة، ثم انتقص من الزيت عشرة أرطال قبل القبض، أما لو صرفنا النقصان إلى الزق، وأنه لا يحتمل الزيادة والنقصان لا يمكن حمل كلامه على الصدق إذ لا يمكن ان يجعل كأن الزق ثمانون رطلاً، ثم صار عشرين فصرفنا النقصان إلى الزق حملاً لكلامهما على الصحة، قال أكثر: مشايخنا ينبغي أن يفسد العقد في الكل عند أبي حنيفة.
وقيل: لا يفسد عنده أيضاً، وقد مر ذلك من قبل، وإن وجد المشتري الزق ستين رطلاً، والزيت أربعين رطلاً، فإن الزق لا يبلغ ذلك القدر في مبايعات الناس كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ الكل بكل الثمن، وإن شاء ترك الزق إذا لم يبلغ ذلك المقدار في مبايعات(6/375)
الناس يتمكن الخلل في الرضى فيثبت له الخيار لتمكن الخلل في الرضا.
وإن وجد المشتري الزق مئة رطل، والزيت خمسين رطلاً كان البيع فاسداً؛ لأنه باع الزق مع ما يكمل مئة رطل من الزيت، وذلك الزيت معدوم عند كون الزق مائة، وهذا الجواب لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده فساد العقد في البعض بمفسد مقارن يوجب فساد العقد فيما بقي، وإنما يشكل على قولهما.
والوجه لهما: أنه لما قابل الثمن بالزق وبما يكمل مئة رطل من الزيت لا بد وأن يضم إلى الزق شيئاً من الزيت لا لإدخاله في العقد لكن ليقسم الثمن عليهما حتى يظهر حصة الزق، والقليل يصلح لذلك، والكثير يصلح أيضاً، وليس البعض أولى من البعض، فكان ثمن الزق مجهول الثمن يوجب فساد العقد.
ولو وجد وزن الزق عشرين رطلاً، ووزن الزيت مئة رطل لزم المشتري الزق، وثمانون رطلاً من الزيت بجميع الثمن، ويرد الباقي على البائع؛ لأنه اشترى الزق، وقدر ما يكمله مئة رطل من الزيت وذلك قدر ثمانون، والوزن في الزيت معتبر، فكانت الزيادة على مال البائع، فيرد عليه كما لو اشترى الزيت وحده على أنه ثمانون رطلاً فوجده مئة رطل.
وكذلك لو كان الزق على حدة، والزيت على حدة، فاشتراها جملة كان الجواب كما قلنا؛ لأنا صرفنا الزيادة والنقصان إلى الزيت للمعنى الذي ذكرنا، وذلك المعنى لا يتفاوت بينما إذا كان الظرف وعاء لما ضم إليه من الزيت أو لم يكن.
ولو اشترى زيتاً في ظرف، وسمناً في ظرف آخر، فاشتراهما بغير ظرف على أن يكون ذلك كله مئة رطلاً، والزيت ستين، فإنه يرد من الزيت على البائع عشرة أرطال، ويطرح من ثمن السمن مقدار عشرة أرطال من السمن، وإنما كان هكذا؛ لأنه أضاف الوزن إليهما، وكل واحد منهما يحتمل الزيادة والنقصان، وانقسم عليهما نصفين، فإذا وجد أحدهما أزيد، والآخر أنقص، رد الفضل، وسقط حصة النقصان من الآخر بخلاف المسألة الأولى، فإن الوزن وإن أضيف إلى الزق والزيت إلا أن أحدهما قابل للزيادة والنقصان، وهو الزيت، والوزن فيه معتبر، فكان صرف النقصان إلى ما يحتمله، وهو موزون حكماً أولى.
وكذلك إذا اشترى حنطة في جوالق، وشعيراً في جوالق آخر بغير الجوالق على أن الكل مئة مَنّ فهو على هذا، وكذلك إذا أضاف المئة إلى ثلاثة أصناف المكيلاًت دخل تحت العقد من كل صنف ثلث المئة لما قلنا والله أعلم.
نوع آخر في بيع الأشياء المتصلة بغيرها، وفي البيوع التي فيها استثناء
قال محمد: ولا يجوز شراء ألبان الغنم في ضرعها كيلاً ولا مجازفة بدراهم، أو غير ذلك إن كان مجازفة فلوجهين:(6/376)
أحدهما: أن فيه غرر، فإنه لا يدري ما في الضرع أنه لبن أو دم أو ريح.
والثاني: أن البيع يتناول اللبن الموجود حالة العقد لا ما يحدث، فإنه يحدث ساعة فساعة فما يحدث بعد البيع يختلط بالمبيع خلطاً يتعذر تمييزه، فيصير قدر المبيع مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة مكايلة، فالمعنى الأول، وكذلك لا يجوز بيع الولد في البطن؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يدري أن ما في البطن ريح أو ولد، وكذلك لا يدري (57أ3) أنه حي أو ميت.
ولو باع الحنطة في سنبلها جاز بخلاف الولد في البطن واللبن في الضرع، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأن وجود الحنطة في السنبل ثابت من حيث الظاهر، وإذا لم يكن بالسنبل آفة، وكذا وجود الولد في البطن، ووجود اللبن في الضرع ثابت من حيث الظاهر إذا لم يكن الانتفاخ لعلة.
وإنما جاز الفرق؛ لأن في الوصفين الموجود وإنما كان ثابتاً إلا أنه بعد ما يثبت الوجود من حيث الظاهر تمكن في الولد واللبن غرراً آخر، وهو العذر في كونه مالاً، فإنه لا يدري أن الذي في البطن حي أو ميت، ولا يدري أن في الضرع لبن أو دم، وفي السنبلة متى يثبت الوجود من حيث الظاهر لا يتمكن العذر في كونه مالاً أو غير مال؛ لأن الحنطة على أي صفة ما كانت كان مالاً.
هذا إذ باع حنطة في سنبلها، فأما إذا باع حنطة مكايلة، وله حنطة في سنبلها جاز البيع أيضاً؛ لأن الحنطة أيضاً موجودة في ملكه.
ولو اشترى تبن تلك الحنطة قبل الكدس لا يجوز، وكذا بيع الصوف على ظهر الغنم لا يجوز؛ لأن فيه غرراً؛ لأنه يحدث ساعة فساعة، وما يحدث ملك البائع، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر التمييز ولا يدري قدر ما دخل تحت العقد، فيصير المعقود مجهولاً، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب قول محمد أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن يجوز البيع على قياس مسألة ذكرها في كتاب الصلح.
صورتها: إذا ادعى الرجل في يد رجل غنماً، فصالح من في يديه الأغنام على صوف على ظهرها جاز الصلح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد، ومنهم من قال: ما ذكر من الجواب في البيع قول الكل، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين مسألة البيع وبين مسألة الصلح.
والفرق: أن طريق جواز الصلح في تلك المسالة استيفاء بعض الحق وترك البعض، فأمكن تجويز هذا الطريق؛ لأن الصلح يجوز بدون الحق، وإنما يتحقق التجوز بدون الحق باستيفاء البعض وترك البعض، فأما البيع فتمليك ابتداء، والصوف على ظهر الغنم لا يقبل التمليك ابتداء.
وقد ذكرنا قبل هذا أن بيع شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل بطريق الاعتبار جائز بلا خلاف، وبدون الاعتبار على الخلاف عند بعض المشايخ، وإنما قوائم الخلاف، وسعف النخل، اختلف المشايخ فيه منهم: من لم يجوز بيعه، ومنهم: من جوز بيعه، وذكر أبو الحسن الكرخي في كتابه جوازه، وروي الحسن بن زياد عن أصحابنا(6/377)
جوازه، ومن لم يجوزه من المشايخ اختلفوا فيما بينهم في العلة، بعضهم قالوا: لأنه يزيد ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر تمييزه، فكان نظير بيع الصوف على ظهر الغنم، وبعضهم قالوا: لأن موضع القطع مجهول، ومن جوز بيعه من المشايخ يجيب عن الأول ويقول: بأن القوائم تزيد من الأعلى.
ألا ترى أنا إذا جعلنا على موضع القطع علامة، فإذا مضى زمان فالعلامة لا تعلو بل يبقى في موضعه، فتكون الزيادة حاصلة من ملك المشتري بخلاف الصوف؛ لأن الصوف ينمو من أسفله، ألا ترى أنك إذا حصفت أسفله، ومضى زمان فالحصاف يعلو، فالزيادة إنما يحدث من ملك البائع، فيكون للبائع وقد اختلط بالمبيع، ولا يدري قدره، فيصير قدر المبيع مجهولاً، ويجيب عن الثاني، ويقول: إن كان موضع القطع مجهولاً، فهذه جهالة لا توقعهما في المنازعة، وإذا باع الصوف على ظهر الشاة، ثم إن البائع جز الأصواف، واختار المشتري أخذها بالبيع، روى بشر عن أبي يوسف أنه ليس ذلك له إلا أن يستقبل البيع عن تراض بينهما.
وروى هشام عن محمد هذه المسألة بعبارة أخرى فقال: إن ينفذه البائع دفعه إلى المشترى لم يجز، ولا يجوز بيع الؤلؤة في الصدف.
وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز؛ لأن الصدف لا ينتفع به إلا بالشق، فأمكن تسليم المعقود عليه من غير ضرر، وجه ظاهر الرواية: أنه لا يمكن المعقود إلا بالشق، والشق شيء زائد لم يوجبه العقد، وإذا باع حب قطن في قطن بعينه، أو باع نوى تمر لا يجوز، وأشار أبو يوسف إلى الفرق بين هذا وبينما إذا باع الحنطة في سنبلها، فقال: لأن الغالب في السنبل الحنطة ألا ترى أنك تقول: هذه حنطة وهي في سنبلها، ولا يقول: هذا حب وهو في القطن؟ وإنما يقول: هذا قطن وكذلك في التمر.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا باع البذر الذي في البطيخ ممن يريد البذور، ورضي صاحب البطيخ أن يقطع له البطيخ، فالبيع باطل.
وكذلك إذا باع خد السمسم وزيت الزيتون لا يجوز، فإن سلم البائع ذلك لم يجز هكذا ذكر القدوري في «شرحه» قال: ولا يشبه هذا الجذع، يريد به أن من باع الجذع في السقف لا يجوز، ولو نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز البيع.
والفرق: أن الجذع غير مال في نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره تعارض إلا أنه عد عاجزاً حكماً لما فيه إفساد بناء غير مستحق بالعقد وفيه ضرر، فإذا قلع والتزم الضرر زال المانع، فأما خد السمسم وزيت الزيتون فهو معدوم، فلا يكون محلاً للبيع وبذر البطيخ والنوى في التمر، وإن كان موجوداً إلا أنه متصل به اتصال خلقة، فكان بائعاً له فكان العجز عن التسليم هناك معنى أصلياً؛ لأنه اعتبر عاجزاً حكماً لما فيه من إفساد شيء غير مستحق بالعقد.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سألت محمداً عمن باع فصاً في خاتم أوجذعاً في سقف، وذلك لا ينتزع لا بضرر أيملك المشتري، أو هو موقوف لا يملكه المشتري ما دام للبائع فيه خيار إن شاء سلم، وإن شاء لم يسلم، أشار الى ما قبل القلع، فإذا صار(6/378)
بحال لا يقدر البائع فيه على الامتناع من دفعه ملكه المشتري، فإن لم يخاصم المشتري في ذلك حتى باع البائع الخاتم بأسره، أو باع البيت بأسره من إنسان آخر، ودفعه إليه، قال محمد رحمه الله: بيع البائع ثانياً ينقض بيعه أولاً.
قلت: أرأيت إن باعني رجل فصاً في خاتم، أو مسمار في باب، أوجذعاً، ثم دفع إلي الخاتم بأسره، أو دفع الباب، أو البيت بأسر، هـ فهلك في يدي، قال محمد: القياس: أن لا يكون قابضاً لما أشرت، ويهلك من مال البائع، ولا أعلمه إلا قول أبي يوسف: أنه لا يكون قابضاً حتى يدفعه إليه مفصولاً مخلصاً.
وذكر في «المنتقى» : أصلاً من جنس هذه المسائل قال: كل شيء كنت أجبر البائع على دفعه الى المشتري فقبضه على ذلك، فضاع لزمه وكل ما لم أجبره على دفعه اليه لا يكون قابضاً، ولا ضمان عليه إذا هلك.
بيانه: مسألتنا هذه إذا كان الفص لا ينزع إلا بضرر لا يجبر البائع على دفعه، فإذا دفعه إليه مع الحلقة وضاع فلا ضمان، وإذا كان الفص ينزع من غير ضرر يجبر على دفعه إليه مع الحلقة، ثم ضاع من يده، فقد لزمه البيع، وعليه ثمنه، ولا ضمان عليه في الحلقة، وكذلك أجناسه.
قال ابن سماعة: قلت لمحمد: أرأيت إن اغتصبت جذعاً فسقفت به بيتاً أو اغتصبت آجراً فبنيت به، أو اغتصبت مسماراً فجعلته في باب، ثم أني بعت البيت، أو الباب، أو الدار، يجوز البيع في ذلك، وإذا علم المشتري بذلك أيكون له الخيار في رد الدار والبيت والباب؟ قال: البيع جائز، وليس (57ب3) للمشتري فيه خيار؛ لأن المغصوب منه لا يقدر على ذلك.
روى إبراهيم عن محمد في رجل إذا نظر إلى ألف مَنٍ قطن، فقال: قد اشتريت من حليج هذا القطن مئة مَنّ قال: هذا فاسد.
وعنه أيضاً: فيمن اشترى ذراعاً من خشبة، أو من ثوب من جانب معلوم أن البيع فاسد، فإن قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله، وله أن يفسخ البيع قبل أن يسلم إليه البائع، وعن أبي يوسف في هذه الصورة إن البيع جائز والمشتري بالخيار، إذا قطع البائع ذلك له إن شاء أخذه، وإن شاء ترك.
وعن محمد رواية ابن سماعة إذا اشترى الرجل من آخر نصف الثوب من أحد الطرفين، أو نصف الخشبة من هذا الرافض أنه فاسد، فإن قطعه البائع فهو جائز ويدفعه إلى المشتري، وله أن يمتنع.
قال هشام: قلت لمحمد: إن كان لرجل شاة مذبوحة، فاشترى رجل كروشها، أو مسلخوها فهو جائز، والسلخ وإخراجه على البائع وللمشتري الخيار إذا رآه، ولو كانت بطيخة مكسورة كانت بمنزلة الشاة المذبوحة يجوز بيع بذرها.
وفي «الأصل» : إذا اشترى من آخر كذا قيماناً بعينه.
من هذه الصبرة لا يعرف قدره بأن قال: اشتريت منك من هذه الصبرة بهذا الزنبيل، ولا يعرف كم يسع في الزنبيل، أو(6/379)
قال: بوزن هذا الحجر، ولا يعرف وزن الحجر جاز يداً بيد شرط في «الأصل» أن يكون يداً بيد.
وفي «القدوري» لم يشترط ذلك وجعل الجواب جواب المشهور من الرواية.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر طعاماً على أن يكيله بزنبيله، أو إناء يشبه الزنبيل ليس بمكيال، فقال: اشتريت منك ملأ هذا من هذه الصبرة بكذا أن ذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هذا الإناء لا يعرف مملوءه كما يعرف المكيال، فليس هذا بمكايلة ولا مجازفة، معناه: ليس هذا بيع مكايلة ولا بيع مجازفة قال ثمة: وكذلك إذا اشترى شيئاً موزوناً، واشترط وزن صخرة أو حجر لا يعرف وزنه، فهو مثل هذا الإناء، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: إذا كان الإناء لا يتسع إذا حشي فيه الشيء الذي يكال به أنه يجوز.
وروى إبراهيم عن محمد: إذا اشترى ملأ هذا الجراب بدرهم لم يجز؛ لأن الجراب مما يتسع ويضيق، وكذلك الزنبيل قال: إلا أن يكون الزنبيل معراً يابساً لا يتسع، فيجوز البيع به وقيل: ما ذكر في «الأصل» ، وفي «القدوري» محمول على ما إذا كان الإناء من خزف، أو حديد، أو خشب، أو ما أشبه ذلك مما لا يحتمل الزيادة والنقصان، أما إذا كان مما يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجراب والغرارة لا يجوز البيع.m
مسائل الاستثناء: ذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع حمله واشتثنى منه شيئاً، فإن استثنى ما جاز إفراده بالعقد جاز الاستثناء نحو أن يستثني جزءاً مشاعاً، وما لا يجوز إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه كما لو استثنى عضواً من الشاة، وهذا لأن الاستثناء استخراج ما تناوله الكلام في حق الحكم، فإنما يصح في محل يمكن إثبات حكم الكلام فيه مقصوداً.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار إلا طريقاً فيها من هذا الموضع إلى باب الدار وصف طوله وعرضه، وشرط ذلك لنفسه أو لغيره، فالبيع جائز، والثمن الذي سمى كله ثمن ما بقي من الدار سوى الطريق؛ لأنه هذا شيء استثناه من المبيع لا حصة له في الثمن.
قال ثمة: ألا ترى أن من قال لآخر: أبيعك هذا العبد على أن لي ربعه، فقبل المشتري البيع كان له ثلاثة أرباع العبد بثلاثة أرباع الثمن، ولو قال في بيع الدار: على أن للبائع فيها طريقاً، ووصف طوله وعرضه لا يجوز ذكر هذا الفصل في «العيون» .
وفيه أيضاً: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف درهم على أن لي هذا البيت، فالبيع فاسد، ولو قال: إلا هذا البيت جاز البيع بجميع الثمن، وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب القسمة أن بيع زفت الطريق على أن يكون للبائع حق المرور فيه جائز البيع بخلاف بيع حق المرور في رواية فإنه لا يجوز، وبيع السفل على أن يكون للبائع حق قرار العلو جائز.
وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه بخمسمائة درهم، فالبيع جائز في جميع العبد بألف وخمسمائة، وكذلك لو قال: إلا(6/380)
نصفه بمائة درهم، فالعبد كله للمشتري بألف درهم ومائة درهم.
الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف عن أبي يوسف وزفر إذا قال لغيره: بعتك هذه الدار بألف درهم إلا مائة ذراع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا علم ذراع الدار، فإن شاء كان البائع شريكاً معه في الدار بالمائة الذراع، وإن شاء ترك.
ولو قال: أبيعك هذا الطعام بألف إلا عشرة أقفزة منها فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا عزل منه العشرة الأقفزة، فإن شاء أخذ ما بقي بما سمي من الثمن، وإن شاء ترك.
وروى بشر عن أبي يوسف: إذا قال لغيره: أبيعك هذه المائة الشاة بمائة درهم على أن لي هذه الشاة لشاة بعينها فالبيع فاسد، وكذلك لو قال: ولي هذه الشاة، ولو قال: إلا هذه الشاة، كان ما بقي مائة درهم، ولو قال: هذه المائة لك بمائة درهم إلا نصفها، فإن النصف بمائة درهم، ولو قال: لي نصفها كان النصف بخمسين درهماً.
وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال: له بعتك هذا العبد بألف درهم أن لي نصفه بثلثمائة درهم، أو أو بستمائة درهم، أو قال: بثلث الثمن، أو قال: بمائة دينار، فالبيع فاسد في هذا كله، وهذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بيعاً منك بثلثمائة درهم، أو بمائة دينار، أو قال: بحصة من الثمن، فالبيع جائز في جميع العبد، ويكون نصفه بتسعمائة، ونصفه بثلثمائة.
وكذلك لو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا لك بثلاثمائة، أو قال: على أن هذا بثلاثمائة درهم، فالبيع جائز منهما بألف درهم، والعبد الذي عنيه بثلاثمائة هو بثلاثمائة، والعبد الآخر بباقي الألف.
ولو قال: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بمائة دينار، أو قال: على أن نصفه لك بيعاً بمائة دينار، وإنما هذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد على أن نصفه مردود علي أني لابيع فيه، والنصف المردود بيع لك بمائة دينار.
ولو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا العبد بعينه منهما لك بمائة دينار، ففي قياس من قول أبي حنيفة البيع فيهما جميعاً باطل؛ لأن حصة الباقي من الألف مجهول، وقال محمد: يجوز البيع في الذي سمي بمائة دينار، ولا يجوز البيع في الآخر والله أعلم.
نوع آخر
في البيع على شيئين أحدها لا يجوز البيع فيه إذا جمع بين عبدين في البيع، ثم ظهر أن أحدهما حر، فإن لم يبين حصة كل واحد منهما من الثمن، فالعقد فاسد في الكل بالإجماع، وإن بين حصة كل واحد منهما من الثمن، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الثمن.(6/381)
وكذلك لو اشترى دنين من خل، ثم ظهر أن أحدهما خمر، إن لم يبين حصة كل دن من الثمن، فالعقد فاسد في الكل وإن بين، فكذلك عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الخل، وكذلك إذا اشترى مسلوخين (58أ3) وثم ظهر أن أحد المسلوخين ميتة، فهو على التفصيل والخلاف الذي ذكرنا، فوجه قولهما أن الفساد موجب المفسد، فيتقدر بقدر المفسد، وأكد ذلك بمسائل منها:
أنه إذا باع عبده وعبد غيره بألف درهم كل عبد بخمسمائة، ولم يجز ذلك الغير البيع في عبده، فإن البيع يجوز في عبد البائع؛ لأن سبب الفساد وجد في البعض، وهو الاستحقاق، وإذا باع عبدين، وأحدهما مدبر، أو مكاتب، أو أم ولد، وسمى لكل واحد ثمناً، فالبيع جائز في العبد، وإذا اشترى عبدين، وقبض أحدهما، ولم يقبض الآخر حتى باعهما جميعاً بألف على أن كل واحد بخمسمائة جاز البيع فيما قبض، ولم يجز فيما لم يقبض.
وكذلك إذا اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد، ولم ينقد الثمن حتى باعه مع عبدٍ آخر له من البائع ألف درهم كل واحد منهما بخمسمائة، فإنه يجوز البيع في عبده، ولا يجوز في العبد الذي اشتراه؛ لأن سبب الفساد وهو بيع ما اشترى بأقل مما اشترى قبل من نقد الثمن وجد في البعض، ولا يلزم على ما قلنا إذا لم يبين حصة كل واحد من العبدين حتى ظهر أن أحدهما حر، فإن العقد يفسد في الكل؛ لأن سبب الفساد هناك وجد في جميع العقد في حصة العبد والحر جميعاً، أما في حصة الحر فظاهر، وأما في حق العبد فجهالة الحصة ابتداء؛ لأن الحر بدله غير داخل تحت العقد أصلاً بدليل أنه لو قبض الحر لا يملكه ولا بدله، وإنما دخل في العقد العبد مع بدله لا غير، فيصير مشترياً القن بما يخصه من الألف ابتداء لو قسم الألف عليه وعلى الحر، وجهالة الحصة ابتداءً يوجب فساد العقد.
ألا ترى أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى هذ الحر، فإن البيع لا يجوز، وإنما لا يجوز لما قلنا، فأما إذا بين حصة كل واحد منهما، فسبب الفساد وجد في حق الحر لا غير؛ لأن سبب الفساد في حق القن حالة الإجهال جهالة حصته من الثمن، والجهالة ترتفع عند بيان حصة كل واحد منهما، ولا يلزم بيع الدرهم بالدرهمين؛ لأن هناك سبب الفساد وجد في حق الكل؛ لأن الدرهم الواحد قوبل بالدرهمين، فيجب قسمتها على الدرهمين.
وإذا قسمناه على الدرهمين يتمكن الربا في الدرهمين جميعاً؛ لأنه يصير كل واحد منهما بنصف درهم، ولا يلزم إذا اشترى عبداً بألف درهم ورطل من خمر، فإنه يفسد العقد في جميع العبد، أما في حصة الخمر فظاهر، وأما في حصة الألف؛ فلأن ما يخص الألف من العبد مجهول جهالة مقارنة من وجه إن كانت طارئة من وجه؛ لأن الخمر لا يدخل تحت العقد حتى يملك بدله بالقبض، فباعتبار البدل تكون الجهالة طارئة، وباعتبار الغير تكون الجهالة مقارنة يوجب الفساد، والطارئة لا توجب، فرجحنا ما يوجب الفساد على ما يوجب الجواز احتياطاً، فقد وجد بسبب الفساد في جميع العقد، أما في حصة الحر(6/382)
فظاهر وأما في حصة القن، فهو اشتراط الربا.
بيانه: أن بدل الحر صار مشروطاً في حصة القن من حيث المعنى؛ لأن الصفقة الواحدة إذا أضيفت إلى شيئين موجودين، فقبول العقد في كل واحدة منهما يصير شرطاً لصحة القبول في الآخر حتى لو قبل المشتري العقد في أحدهما لا يجوز، وإذا صار قبول العقد في الحر شرطاً لقبول العقد في القن من حيث المعنى صار بدله مشروطاً في حصة القن، وبدل الحر ربا؛ لأنه مال متقوم شرط في العقد من غير عوض أصلاً، فيكون رباً وقد صار مشروطاً في حصة القن غير مقابل بالقن فيصير رباً كما لو قال: بعتك هذا العبد بخمسمائة على أن تسلم إلي خمسمائة أخرى بغير شيء، وأما إذا باع عبده وعبد غيره.
قلنا: هناك لم يوجد بسبب الفساد في حصة عبده، وهو اشترط الربا؛ لأن قبول المستحق مع بدله، وإن صار شرطاً في عبده إلا أن بدله في نفسه ليس بربا؛ لأنه مقابل بما يصلح عوضاً، وهو المستحق، والربا عبارة عن مال ملك بالبيع بغير عوض أصلاً، أو بعوض لا يصلح عوضاً عنه بوجه ما.
فإن قيل: إن لم يوجد سبب الفساد في حصة عبده من هذا الوجه وجد من وجه آخر، وهو جهالة الحصة.
قلنا: ليس كذلك؛ لأن المستحق مع بدله دخلا تحت العقد، فكان البدل في الابتداء جميع المسمى وهو ألف درهم، وإنه معلوم، وإنما يصير بالحصة بعد ذلك إذا لم يجزه المستحق، فتكون جهالة طارئة من كل وجه، وإذا جمع بين عبدين، وأحدهما مكاتب، أو مدبر، أو أم ولد.
قلنا: هناك لم يتمكن بسبب الفساد في حصة القن، وهو اشتراط الربا؛ لأن هؤلاء دخلوا في العقد مع القن لقيام المالية فيهن، وبدلهم ملك بمقابلة ما يصلح عوضاً عنه، فإنه مقابل المال، فلا يكون بدل الحر على ما مر.
وأما مسألة الجراب: فقد ذكرنا قبل هذا عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الثياب الموجودة عند أبي حنيفة على رواية قاضي الحرمين، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، واستشهد بمسألة «الجامع» ، ومن قال من المشايخ أن على قول أبي حنيفة يجوز البيع في الثياب الموجودة، ففرق لأبي حنيفة بين مسألة «الجامع» وبين مسألة الجراب.
ووجه الفرق: أن الإضافة إلى الثوبين في مسألة «الجامع» قد صحت لوجود الخصاف إليه من حيث الحقيقة، وصار قبول العقد في المروي شرطاً بقبول العقد في الهروي، وصار بدله مشروطاً في الهروي أيضاً وبدله رباً؛ لأنه بدل معدوم، فإنه أشار وسمي، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، والمسمى معدوم، وبدل المعدوم رباً كبدل الحر.
وأما في مسألة الجراب: فالإضافة إلى الثوب الخمسين لم يصح أصلاً؛ لأنه لا بد من صحة الإضافة من مضاف إليه موجود، فإذا كان معدوماً لم تصح الإضافة أصلاً، ولم(6/383)
يصر قبول العقد في المعدوم شرطاً لقبول العقد في الموجود، ولم يصر بدل المعدوم الذي هو ربا مشروطاً في الموجود، فخلت حصة الموجود عن شرط الربا.
وإذا باع عبدين أحدهما مقبوض، والآخر غير مقبوض، ففي حق المقبوض لم يوجد اشتراط الربا؛ لأن بدل غير المقبوض من البيع لا يكون رباً؛ لأن الربا عبارة عن فضل مال ملك بالبيع لا يقابله عوض وقد قابله عوض، وأما مسألة شراء ما باع بأقل مما باع قلنا: هناك لم يوجد سبب الفساد في العبد الذي لم يشتر، وهو اشتراط الربا لما ذكرنا أن الربا فضل مال خالي عن العوض، ولم يوجد هذا فيما اشترى.
وذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف: فيمن باع جارية في عنقها طوق بألف درهم نساءً أن البيع باطل في الجميع في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوع أبي يوسف في هذه المسألة رجوعاً في جميع ما هو من هذا الجنس من المسائل.
وإذا اشترى ضيعة، وفيها قطعة من الوقف كان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: البيع فاسد في الوقف والملك كما لو جمع بين عبد وحر، وكان القاضي إمام الإسلام أبو الحسن علي السغدي يقول: البيع جائز (58ب3) في الملك كما لو جمع بين عبد ومدبر، ثم رجع شمس الأئمة إلى قول ركن الإسلام.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا باع كرماً فيه مسجد قديم، وقد أطلق العقد هل يفسد البيع في الكرم؟ ينظر إن كان المسجد عامراً يفسد؛ لأن المسجد لا يدخل تحت البيع بالإجماع فكان الفساد قوياً، فيظهر في حق الباقي كما لو جمع بين حر وبين عبد، وإن كان المسجد خراباً لا يفسد العقد الباقي؛ لأن في دخول المسجد تحت البيع إذا خرب واستغنى عنه أهله خلاف.
فعند بعض العلماء المسجد إذا خرب واستغني عنه أهله يعود إلى ملك الواقف إن كان حياً، وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً، فلم يكن الفساد قوياً، فصار كما لو باع عبداً ومدبراً، والذي ذكرنا في الوقف، فكذلك في المقبرة.
وإذا كان الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما جميع الأرض من صاحبه كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول بفساد البيع، وكذا كان يقول: فيما إذا صالح المدعى عليه مع المدعي عن دعواه على دار مشتركة بينهما، وكان يشير إلى المعني أن ملك المشتري ليس بمحل للبيع في حق المشتري، فكان بمنزلة ما لو جمع بين حر وعبد في البيع ولكن فيه نظر؛ لأن نصيب المشتري محل للبيع في الجملة، فيكون بمنزلة ما لو جمع بين مدبر وعبد.
والدليل عليه: أن رب المال إذا اشترى من المضارب شيئاً من مال المضاربة بعدما ظهر الربح يجوز، وإن كان المشتري ملك المشترى، وإذا كان الفساد بسب الافتراق لا لمعنى في نفس العقد، فإنه يبطل بقدره خاصة.
وذلك أن يسلم عشرة دراهم في شيء خمسه دين نقد، وكذلك في باب الصرف إذا قبض البعض دون البعض فسد بقدر ما لم يقبض خاصة، ولو اشترى عبداً بخمسمائة نقد(6/384)
وخمسمائة له على فلان أو بخمسمائة إلى العطاء فسد البيع في الكل ذكره القدوري في «شرحه» .
وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً أو طريقاً من طرق المسلمين محدودة معلومة يعني جمع بين الدار وبين طريق المسلمين في البيع، فاستحق بعدما قبضهما المشتري، فإن شاء المشتري رد الدار، وإن شاء أمسكها إذا كان الطريق مختلطاً بالدار، فإن كان مميزاً لذمته الدار بحصتها ولم يكن له الخيار، وإن كان الطريق ليس بمحدود لا يعرف قدره فسد البيع، ولو كان مكان الطريق مسجد خاص يجمع فيه، فالقول فيه مثل الطريق المعلوم، وإن كان مسجد جماعة فسد البيع كله؛ لأن بيع المسجد الجامع لا يجوز ولا يحل، وكذلك إذا كان مهدوماً أو أرضاً ساحة لا بناء فيها بعد أن يكون الأصل مسجد جامع.
نوع آخر في شراء ما باع بأقل مما باع
يجب أن يعلم أن شراء ما باع الرجل بنفسه أو بيع له بأن باع وكيله بأقل مما باع ممن باع أو ممن قام مقام البائع كالوارث قبل نقد الثمن لا يجوز إذا كانت السلعة على حالها لم ينتقض بعيب، وكذلك إن بقي عليه شيء من ثمنه وإن قل، أما إذا اشترى ما باع بنفسه، فللحديث المعروف، ولأجل شبهة الربا؛ لأن بين الثمن الثاني وبين الثمن الأول شبهة المقابلة من حيث إن العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول كان بعرض السقوط بالرد وهذه العرضية تزول بالبيع الثاني.
فهو معني قولنا: إن البيع الثاني يوجب تأكيد الثمن الأول، وللمؤكد حكم الموجب حتى أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا ضمنوا نصف الصداق؛ لأنه كان بعرض السقوط بالفرقة الجائية من قبلها، فهم بإضافة الفرقة إلى الزوج أزالوا تلك العرضية وأكدوه، فكانوا كالموجبين له كذا ههنا، وإذا ثبت أن البيع الثاني مؤكد للثمن الأول، وللتأكيد حكم الإيجاب كان وجوب الثمن الأول مضافاً إلى العقد الثاني موجباً الثمن الأول حكماً، والثمن الثاني حقيقة، فكان بينهما شبهة المقابلة من حيث إن وجوبها مضاف إلى عقد واحد في حالة واحدة، ولو ثبت بينهما حقيقة المقابلة يثبت شبهة الربا بخلاف ما بعد قبض الثمن؛ لأن هناك العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول صار موكداً بالقبض، ولم يبق له عرضية السقوط قبل العقد الثاني، فلم يكن تأكيداً له.
وأما إذا اشترى ما بيع له بأن باع وكيله لا يجوز أيضاً، فقد جعل الموكل بائعاً بيع الوكيل حتى لم يجز شراؤه ما باع وكيله بأمره بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وأبو حنيفة رحمه الله لم يجعل الموكل مشترياً بشراء الوكيل حتى قال: لو باع الرجل شيئاً بنفسه، ثم وكل رجلاً بأن يشتري له ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فاشتراه الوكيل، فإنه يجوز عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
والفرق لأبي حنيفة: أن شراء الموكل منعقد ونافذ بدون التوكيل، ولهذا اشترى بدون التوكيل نفذ عليه، وصار الملك له، فلم يكن التوكيل محتاجاً إليه لانعقاد شراء(6/385)
الوكيل ولا لنفاذه، فلم يكن شراء الوكيل مضافاً إلى الموكل لا انعقاداً ولا نفاذاً، فلم يصر الموكل مشترياً بشراء الوكيل أصلاً؛ لأن بعد ما تم شراء الوكيل ونفذ عليه ينتقل الملك إلى الموكل بشراء حكمي ينعقد بينهما، فلأجل ذلك احتيج إلى التوكيل، فيصير الوكيل مشترياً لنفسه، ثم بائعاً من الموكل حكماً.
ولو اشتراه لنفسه حقيقة من غير توكيل، وباع حقيقة من البائع الأول جاز ههنا كذلك، فأما بيع الوكيل لا ينفذ بدون التوكيل إن كان ينعقد بدون التوكيل، فكان التوكيل محتاجاً إليه لنفاذ بيعه، فصار بيعه مضافاً إلى الموكل فيما يرجع إلى النفاذ إن لم يصر مضافاً إليه فيما يرجع إلى الانعقاد، فصار الموكل بائعاً ببيع الوكيل فيما يرجع إلى النفاذ، فإذا اشترى بعد ذلك صار مشترياً من وجه ما باع بأقل مما باع، فرجحنا جانب الفساد احتياطاً.
وكذلك الجواب فيما إذا اشترى من وارث من باع منه بأقل لا يجوز، فقد جعل الشراء من وارث من باع منه بمنزلة الشراء ممن باع منه، ولم يجعل محمد رحمه الله شراء البائع حتى قال: لو مات البائع فاشترى وارثه ما باع بأقل مما باع جاز، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في الفصلين جميعاً؛ لأن وارث كل واحد منهما مقامه.
وجه الفرق لمحمد: أن وارث البائع ما قام مقام البائع في هذا الشراء بحكم الإرث صار شراؤه وأجنبي آخر سواء، فأما وارث من بيع منه وهو المشتري قام مقام المشتري في هذا البيع بحكم الإرث، فإنه كان لا يملك البيع حال حياته مورثه؛ لأنه ملك موروثه، ولما قام الوارث مقام المشتري في بيع هذا الغير بحكم الإرث صار بيع الوارث وبيع الموروث سواء، فكما لا يجوز بيع المشتري، فكذا لا يجوز بيع وارثه.
بعض مشايخنا قالوا: قول أبي حنيفة فيما إذا كان المشتري وارث البائع نظير قول أبي يوسف: إذا كان وارثاً تقبل شهادته له، أما إذا كان وارثاً لا تقبل شهادته له كالوالد ومن بمثابتهما لا يجوز شراؤه عند أبي حنيفة؛ لأن على قوله ولد البائع ووالده، وكل من لا تقبل شهادته له لو اشتراه في حال حياة البائع لنفسه لا يجوز خلافاً لهما؛ لأن منافع الأملاك بينهم متصلة، فصار شراء هؤلاء واقعاً للبائع، فكأن البائع اشترى بنفسه، فكذا بعد وفاته.
وبعضهم قالوا: على قول أبي حنيفة: يجوز شراء وارث البائع على كل حال سواء كان وارث البائع ممن نقبل شهادته له، أو ممن لا تقبل شهادته له كما هو قول محمد، وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين حال حياة البائع وبينما بعد موته.
والفرق: أن حال حياة البائع إنما لا يجوز شراء والده وولده وجميع من لا نقبل (59أ3) شهادته له باعتبار أن منافع الأملاك متصلة بينهم، فيصير شراء هؤلاء بمنزلة شراء البائع بنفسه، وهذا المعنى قد انقطع بالموت، وإنما شرطنا أن تكون السلعة قائمة على حالها لم تنتقص بعيب؛ لأن بعدما انتقص لا يتأتى شبهة الربا؛ لأن نقصان الثمن يجعل بمقابلة ما فات بالعيب، فيصير مشترياً ما باع بمثل الثمن الأول معنى وذلك جائز،(6/386)
ولو رخص سعر السلعة من غير أن حدث بها عيب، فلا ينبغي أن يشتريها بأقل مما باع؛ لأن رخص السعر غير معتبر في حق الأحكام إذا بقي العين على حاله كما في حق الغاصب وأشباه ذلك، فيجعل وجوده كعدمه.
ولو باع المشتري المشترى من رجل، ثم إن البائع الأول اشتراه من المشتري الثاني بأقل مما باع جاز، فإن عاد المشتري إلى المشتري الأول إن عاد بسبب هو فسخ في حق الناس كافة لا يجوز للبائع الأول أن يشتريه بأقل مما باع، وعاد إليه بسبب هو فسخ في حقهما بيع جديد في حق الثالث كان للبائع أن يشتريه بأقل مما باع.
وكذلك لو أن المشتري وهب السلعة من إنسان، ثم أن البائع اشتراه من الموهوب له بأقل مما باع جاز، وكذلك لو وهبه الموهوب له من الواهب، وهو المشتري بعد ذلك، ثم إن المشتري باعه من البائع بأقل جاز.
وكذلك لو أن المشتري باع العبد من إنسان، ثم اشتراه، ثم باعه من البائع بأقل جاز، ولو أن المشتري وهبه من إنسان وسلمه، ثم رجع في الهبة، ثم باعه من البائع بأقل لا يجوز؛ لأن الرجوع في الهبة من كل وجه فسخ سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، فيعود إلى المشتري قديم ملكه المستفاد من جهة البائع وصار كأنه لم يهب حتى باعه من بائعه بأقل لا يجوز فههنا كذلك.h
ولو كان المشتري أوصى بهذا العبد لرجل وقبل الموصى له الوصية، ثم مات الموصي فباع الموصى له العبد من بائع الموصي بأقل جاز؛ هكذا ذكر في «الزيادات» وفرق بين الموصى له من وجهة المشتري وبين الوارث المشتري، فإن وراث المشتري لو باعه من بائع موروثه بأقل لا يجوز.
والفرق: وهو أن ملك الوارث غير ملك المورث، ولهذا كان للوارث أن يرد على بائع مورثه، ويصير الوارث مغروراً من جهة بائع مورثه كما يصير الموروث مغروراً، فكان بيع الوارث كبيع المورث، فأما ملك الموصى له غير ملك الموصي، ولهذا لا يرد على بائع الموصي بالعيب ولا يصير مغروراً من جهة، فأشبه المشتري والموهوب له، ثم المشتري من المشتري وهو الموهوب له من جهة المشتري لو باع من البائع الأول بأقل يجوز فكذا الموصى له.
وقد كتبت في «السير» أن مسألة الوصي على خلاف ما ذكر في «الزيادات» وإذا وكلّ الرجل رجلاً ببيع عبد له بألف درهم فباع الوكيل، ثم أن الوكيل أراد أن يشتري العبد بأقل مما باع لنفسه أو لغيره بأمره قبل نقد الثمن لا يجوز إما شراؤه لنفسه؛ لأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه.
والثابت من وجه في باب الحرمات كالثابت من كل وجه، وأما لغيره بأمره، فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فيكون هذا شراء ما باع لنفسه من وجه، وكما لا يجوز للبائع أن يشتري ما باع بأقل مما باع، فكذا لا يجوز لعبده أن يشتري ما باع بأقل سواء كان على العبد دين أو لم يكن، أما إذا لم يكن عليه دين، فلأن شراء العبد إذا لم يكن عليه دين يوجب الملك للمولى في المشترى على الحقيقة، فصار شراء العبد كشراء المولي بنفسه.(6/387)
دوأما إذا كان على العبد دين، أما على قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن دين العبد عندهما لا يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد، فكان شراء عبده في هذه الحالة كشرائه بنفسه، وأما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شراء العبد إذا كان عليه دين إن كان يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد حقيقة لا يمنع ثبوت حق الملك له في كسبه، فكان شراء عبده في هذه الحالة بمنزلة شراء به من وجه، وكذا لا يجوز شراء مكاتبه؛ لأن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك، فيكون شراء مكاتبه كشرائه بنفسه من وجه.
ولو باع المدبر أو العبد أو المكاتب لم يكن للمولى أن يشتري ما باع بأقل، ولو اختلف جنس الثمن جاز الشراء، وإن كان الثمن الثاني أقل؛ لأن المانع في الجنس الواحد شبهة الربا، والربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس، قال: إلا أن يكون أحدهما دراهم والآخر دنانير، والثاني أقل قيمة من الأول، فيكون البيع فاسداً استحساناً؛ لأن الدراهم والدنانير جنس واحد معنى لكونها ثمن الأشياء وقيمتها، فاكتفينا بالمجانسة المعنوية احتياطاً.
وفي «القدوري» ولا يجوز أن يبيع سلعة بثمن حال، ثم يشتريها بذلك الثمن إلى أجل؛ لأن هذا في معني شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الأجل يمكن نقصاناً في المالية؛ لأن المؤجل أنقص من الحال.
ولو باعه بألف درهم نسيئة سنة، ثم اشتراه بألف درهم نسيئة سنتين لا يجوز؛ لأن هذا في معنى شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الزيادة في الأجل يمكن نقصاناً في المالية، وإن زاد على الثمن درهماً أو أكثر جاز، ويجعل الزيادة في الثمن الثاني بمقابلة النقصان المتمكن بزيادة الأجل، فينعدم النقصان معني.
نوع آخر في صور البيوع الفاسدة والباطلة
فمن جملة صورة الفاسدة أن يبيع بخمر أو خنزير، ومن جملة ذلك بيع الدين من غير من عليه الدين، ومن جملة ذلك صفقتان في صفقة نحو أن يقول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، ومن جملة ذلك بيعان في بيع نحو أن يقول: بعتك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير.
ومن جملة ذلك شرطان في بيع نحو: إن أعطيتني الثمن حالاً فبكذا.
وإن كان مؤجلاً فبكذا، ومن جملة ذلك إذا باع وسكت عن الثمن؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، فيصير البدل مذكوراً بذكر البيع، ولكن يجعل المذكور هو القيمة؛ لأن الأصل في الأشياء هو القيمة، وإنما عدل عنها عند وجود التسمية وصحتها، ولم يوجد التسمية، وإذا صارت القيمة مذكورة صار كأنه قال: بعت بالقيمة، والبيع بالقيمة بيع فاسد، وأما إذا باع على أن لا ثمن له ففيه روايتان:
في رواية لا ينعقد أصلاً بخلاف ما إذا سكت عن ذكر الثمن أمكن أن يجعل تبعاً(6/388)
بذكرالعوض دلالة وعند بقاء الثمن لا يمكن أن يجعل تبعاً بذكر الثمن دلالة إذ لا قوام للدلالة عند وجود الصريح بخلافها.
وفي رواية قال: ينعقد؛ لأن النفي منه لم يصح؛ لأنه نفي حكم العقد فصار وجود هذا النفي والعدم سواء، فكأنه سكت عن ذكر الثمن، ولو باع بالميتة أو الدم أو الربح، فالبيع باطل، وروي عن محمد إذا قال: أبيعك بما ترعى إبلي في أرضك أو بما تشرب من ماء بئرك أنه بيع منعقد؛ لأنه سمى شيئاً متقوماً، فإنه لو قطع الحشيش أو استقى الماء في إناء وباعه يجوز، ولكون المسمى ماء قلنا بالانعقاد، ولكونه مجهولاً قلنا بالفساد، وبخلاف الفصل الأول؛ لأن المسمى هناك ليس بمال أصلاً.
وكذلك لو باع عبد الجارية من جواري المشتري، ولم يبينها فهو بيع منعقد، ولو قال: أبيعك بالكعبة فهو بيع باطل؛ لأن المسمى ليس بمال، وإذا باع شيئاً بمكاتب أو مدبر أو أم ولد فهو بيع منعقد؛ لأن المالية ثابتة في هذه المحال، وإنما حرم بيعها بحق محترم لا لانعدام المالية وإنه لا يمنع انعقاد العقد بوصف الفساد والله أعلم.
الفصل السابع: في الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسد
يجب أن يعلم بأن (59ب3) الشرط الذي يشترط في البيع لا يخلو إما إن كان شرطاً يقتضيه العقد، ومعناه أن يجب بالعقد من غير شرط وأنه لا يوجب فساد العقد كشرط تسليم المبيع على البائع، وشرط التسليم الثمن بالثمن على المشتري، وهذا لأن اشتراط ما يجب بالعقد من غير شرط له؛ ولأنه لا يفيد شيئاً، فصار وجوده كعدمه، فكأنه لم يشترط شيئاً فيجوز البيع، وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد على التفسير الذي قلنا؛ إلا أنه يلائم العقد، ونعني به أنه يؤكد موجب العقد إذ تأكيد موجب الشيء يلائم ذلك الشيء، وذلك كالبيع بشرط أن يعطي المشتري كفيلاً بالثمن، والكفيل معلوم بالإشارة أو التسمية حاضر مجلس العقد، فقبل الكفالة، أو كان غائباً عن مجلس العقد، فحضر قبل أن يتفرقا وقبل الكفالة جاز البيع استحساناً، والكفالة إن لم تكن من مقتضيات البيع إلا أنها تؤكد موجب العقد، فما يؤكدها يكون ملائماً للعقد، فلا يؤثر في فساد العقد.
وكذلك البيع بشرط أن يعطي المشتري بالثمن رهناً والرهن معلوم بالإشارة أو التسمية جاز البيع استحساناً، وإن لم يكن الرهن من مقتضيات العقد؛ لأن الرهن يؤكد موجب العقد؛ لأن الرهن شرع وعقد وهو مؤكد لجانب الاستفاء، ولهذا اختص جوازه بالأموال القابلة للاستيفاء الثمن موجب العقد فما يؤكده يلائم موجب العقد.
قال الشيخ الإمام شيخ الاسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : فرّق محمد بين الكفيل وبين الرهن، فشرط حضرة الكفيل مجلس البيع، وقبول الكفالة بجواز البيع، ولم يشترط حضرة الرهن بجواز البيع وإنما شرط العلم به.(6/389)
وفي «القدوري» شرط أن يكون الرهن معيناً، وهكذا شرط في «المنتقى» : وإن لم يكن الرهن معيناً، ولكن كان مسمى إن كان عرضاً لم يجز البيع، وإن كان مكيلاً أو موزوناً موصوفاً فهو جائز، وإن لم يكن الرهن معيناً ولا مسمى، وإنما شرطا أن يرهنه بالثمن رهناً فالبيع فاسد؛ لأن جهالة الرهن يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم فالمشتري يعطيه رهناً، والبائع يطالبه برهن آخر.
قال في «المنتقى» : إلا إذا تراضيا على تعيين الرهن في المجلس، ودفعه المشتري إليه قبل أن يتفرقا، أو يعجل المشتري الثمن ويبطلان الأجل، فيجوز البيع استحساناً، وكذلك إذا لم يكن الكفيل معيناً ولا مسمى، فالعقد فاسد؛ لأن جهالة الكفيل يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم؛ لأن الناس يتفاوتون في قضاء الدين وملاء الذمة، وإن كان الكفيل حاضراً في مجلس العقد وأبى أن يقبل الكفالة، أو لم يأتِ ولكن لم يقبل حتى افترقا، أو أخذا في عمل آخر، فالبيع فاسد استحساناً قبل بعد ذلك، أو لم يقبل.
وشرط الحوالة في هذا الباب نظير شرط الكفالة، يريد به إذا وقع البيع بشرط أن يحيل المشتري البائع على غريم من غرمائه، أما لو وقع البيع بشرط أن يحيل البائع على المشتري غريماً من غرمائه فالعقد فاسد قياساً واستحساناً.
وفي «المنتقى» : رواية ابن سماعة: إذا كان الرهن معيناً في العقد بأن اشترى رجل من آخر داراً بألف درهم على أن يعطيه بالثمن عبده هذا رهناً، فلما قبض الدار امتنع عن تسليم الرهن لم يجز عليه، ولكن يقال للمشتري: ادفعه أو افسخ العقد، أو عجل الثمن قال: ثمة وهو قول محمد.
وفي «القدوري» يقول: ولكن يقال للمشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو يفسخ العقد؛ وهذا لأن الرهن من جانب الراهن محض تبرع؛ لأن الحق يبقى عليه بعد الرهن كما كان قبل الرهن، ولا خيار على التبرعات ولكن يخّير المشتري على نحو ما ذكرنا؛ لأن البائع ما رضي بزوال ملكه عن المبيع إلا بثمن مستوثق، فإذا فاتت الوثيقة فات وصف مرغوب، فيثبت له حق النقض إلا إن يفي المشتري بالشرط أو يدفع القيمة على ما ذكره «القدوري» ؛ لأن يد الاستيفاء للبائع إنما يثبت على المعنى وهو القيمة، فالاستيفاء في باب الرهن يقع عن معنى الرهن الا من عينه.
قال في «المنتقى:» وإن كان المشتري باع الدار أمر به أن يدفع العبد أو يعجل الثمن؛ لأن بعد البيع تعذر فسخ البيع، فيخير بين دفع العبد أو تعجيل الثمن قال ثمة: وإن مات العبد أمر به أن يدفع إليه رهناً يساوي قيمة العبد، أو تعجيل الثمن، وإن كان العبد لم يمت فقال المشتري أعطه رهناً آخر سوى العبد، فللبائع أن يمتنع منه.
وإن أراد المشتري أن يعطيه قيمة العبد دراهم أو دنانير، فليس للبائع أن يمتنع منه، ولو اشترى عبداً على أن يعطي البائع المشتري كفيلاً بما أدركه من أدرك، فهو على ما ذكرنا إن كان الكفيل مجهولاً، فالعقد فاسد، وإن كان معيناً ظاهراً وقيل، أو كان غائباً، فحضر قبل أن يفترق العاقدان وقيل، فالعقد جائز استحساناً.(6/390)
وإن كان الشرط شرطاً يلائم العقد إلا أن الشرع ورد بجوازه كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع بجوازه، ولكنه متعارف كما إذا اشترى نعلاً وشراكاً على أن يحدوه البائع جاز البيع، وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن التعارف والتعامل حجة يترك به القياس، ويخص به الأثر.
وروى هشام عن محمد: أنه إذا اشترى من رجل نعلاً على أن يحدوه البائع أن البيع فاسد، وإن كان الشرط شرطاً لم يعرف ورود الشرع بجوازه في صورة، وهو ليس بمتعارف إن كان لأحد المتعاقدين فيه منفعة، أو كان للمعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير فالعقد فاسد.
وتفسير المنفعة المعقود عليه ما قال في «الكتاب» : إذا باع عبداً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه ولا يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه، ففي هذا الشرط منفعة المعقود، فإن المملوك يسره أن لا تتداوله الأيدي، وإذا وافقهم في موضع لا يحبون البيع وبمثل قلبهم إلى ذلك الموضع، فالبيع بهذا الشرط لا يجوز عند علمائنا رحمهم الله.
وتفسير منفعة المتعاقدين: أن يقول للبائع: بعني هذا العبد على أن أهب لك كذا أو أقرضك كذا، فالمبيع بهذا الشرط فاسد، ثم إذا شرط منفعة المعقود عليه إنما يفسد العقد إذا كان المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير وذلك الرقيق، فأما سوى الرقيق من الحيوانات التي لايستحق على الغير حقاً، فاشتراط منفعة لا يفسد العقد حتى لو اشترى شيئاً من الحيوان سوى الرقيق بشرط أن لا يبيعه، أو لا يهبه، فالبيع جائز، وفي هذا الشرط منفعة للمعقود عليه.
فإن الناس يتفاوتون في الإحسان في حق دوابهم، فالمشتري وبما يكون أكثر تعاهداً بالمشترى من غيره، وإنما جاء الفرق؛ لأن المعقود عليه إن كان من أهل الاستحقاق، فالشرط يفسد وجوب المشروط في حقه أوضح، والشرط متى أفاد وجوباً يجب اعتباره، فالمشروط يطالب بحكم الشرط والمشروط عليه يمتنع بحكم الشرع، فإن الشرع نهى عن بيع وشرط مطلقاً إلا أن شرطاً يقتضيه العقد، أو يلائم موجب العقد، أو ورد الشرع بجوازه، وكان متعارفاً صار مخصوصاً عن قضية النهي، فبقي ما وراءه داخلاً تحت النهي فتقع المنازعة (60أ3) بينهما في إبقاء المشروط، وكل عقد يفضي إلى المنازعة يحكم بفساده، فأما إذا لم يكن المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير، فالشرط لا يغير وجوب المشروط، فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فكان البيع حاصلاً من غير شرط معنىً، وإن كان شرط المنفعة جرى بين أحد المتعاقدين وبين أجنبي بأن اشترى على أن يعوض البائع فلأن الأجنبي كذا وقبل المشتري ذلك.
ذكر الصدر الشهيد في «شرح الجامع» : في باب الزيادة في البيع من غير المشتري أن العقد لا يفسد. وذكر القدوري: أن العقد يفسد، وصورة ما ذكر القدوري إذا قال المشتري للبائع: على أن تعوضني، أو على أن تعوض فلاناً، وذكر أن العقد فاسد.
وفي «المنتقى» : قال محمد رحمه الله: كل شيء يشترط المشتري على البائع يفسد(6/391)
به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو باطل من ذلك إذا اشترى من غيره دابة على أن يهب له فلان الأجنبي عشرين درهماً فهو باطل، كما لو شرط على البائع أن يهب له عشرين درهماً، وكل شيء يشترط على البائع لا يفسد به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو جائز، وهو الخيار.
من جملة ذلك إذا اشترى من آخر عبداً بمائة على أن يحط فلان الأجنبي عشرة دراهم عنه، فالبيع جائز وهو بالخيار إن شاء أخذها به، وإن شاء ترك.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يهب البائع لابن المشتري أو لفلان الأجنبي من الثمن ديناراً فالبيع فاسد، وإن كان شرطاً لم يكن لأحد المتعاقدين ولا للمعقود عليه منفعة، بل فيه لأحد المتعاقدين مضرة بأن باع ثوباً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه.
ذكر في آخر المزارعة ما يدل على أن البيع جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن البيع فاسد، وهو قول أبي يوسف.
وجه الجواز لأبي حنيفة ومحمد: أن المشروط إن كان منفعة في حق أحد المتعاقدين إنما يوجب فساد العقد؛ لأن المشروط له يطالب بحكم الشرط، والآخر يمتنع بحكم الشرع، فيتنازعان ولا مطالبة في موضع الضرر، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى من آخر دابة أن لا يبيع ولا يهب، أو جملاً على أن لا يعلفه، فالبيع جائز، وكذلك إذا قال: على أن ينحره، وإن قال: على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يبيعه منه فالبيع فاسد.
وإن اشترى على أن يبيعه أو يهبه، ولم يقل: من فلان، فالبيع جائز.
قال في «المنتقى:» وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وإن اشترى على أن لا يبيع إلا بإذن فلان فالبيع فاسد أيضاً، وإن كان شرطاً ليس منه منفعة ولا مضرة نحو أن يبيع طعاماً بشرط أن يأكله، أو ثوباً بشرط أن يلبسه فالبيع جائز.
وإذا باع جارية بشرط أن يطأها المشتري، أو بشرط أن لا يطأها قال أبو حنيفة: البيع فاسد في الموضعين، وقال محمد: البيع جائز في الموضعين، وقال أبو يوسف: إن باعها بشرط أن يطأها فالبيع جائز، وإن باع يشرط أن لا يطأها فالبيع فاسد.
وإذا اشترى جارية بشرط أن لا يستخدمها، فعن أبي يوسف أن البيع فاسد، وكذا عن أبي يوسف: فيما إذا اشترى طعاماً بشرط أن لا يأكله ولا يطعمه أن العقد فاسد.
المعلى عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يعطي الثمن فلان، فالبيع جائز سواء كان حاضراً أو غائباً.
وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب المكاتب» في الباب الثاني منه أن من باع على أن يعطي ثمنه من مال فلان، فقد اختلف المشايخ في جواز هذا البيع.
وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: أبيعك بألف درهم لك على فلان فصار مني لك عن فلان فالبيع جائز، وهو متطوع عن فلان.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: إذا باع الرجل عبداً له من رجل بالدين الذي(6/392)
للمشتري على فلان، وهو ألف، ورضي به فلان فهو جائز، والمال للبائع على الغريم الذي عليه الدين؛ لأنه لو قال لمولى العبد: بع عبدك فلاناً بماله علي من الدين فهذا جائز، ولمولى العبد ألف على الغريم كأنه دفع عبده إلى الغريم ليبيعه بما للطالب عليه من الدين.
وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لغيره: أشتري منك هذا بالمائة التي على فلان فهو فاسد، وقال زفر: صحيح، وعليه خرجت تلك المائة أو لم تخرج، وإن قال: أبيعك ثوباً لك على فلان على أن تبرئ فلان الغريم عما عليه لك فهو جائز، وإذا قال لغيره: أبيعك هذه الجارية على أن تشتريها لنفسك فالبيع فاسد، هكذا ذكر في «المنتقى» .
وفي «البقالي» : عن أبي يوسف جوازه بخلاف قوله: على أن لا يشتريه، وإذا اشترى عبداً وشرط الخيار لنفسه شهراً على أنه عرضه على بيع أو استخدمه فهو على خياره فالبيع فاسد، وإذا كان لرجل على رجل دينار، فاشترى منه ثوباً على أن لا يقاضه فالبيع فاسد.
وإذا باع عبداً بشرط أن يعتقه المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية أصحابنا حتى لو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ عتقه، ولو قبضه، ثم أعتقه ينقلب البيع جائزاً حتى يلزمه القيمة، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قولهما.
وجه قولهما: أنهما شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف فيما بين الناس، وللمعقود عليه فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو باع بشرط أن يدبر المشتري أو يكاتبه، أو باع جارية بشرط أن يستولدها المشتري.
وإنما قلنا: لا يقتضيه العقد؛ لأن البيع لا يوجب العتق على المشتري في غير القريب ولا يلائمه؛ لأن في العتق إزالة ملك المشتري عن العبد، والبيع يوجب الملك فما يزيله لا يكون ملائماً للبيع ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف؛ لأن الشراء بهذا الشرط لا يكثر وجوده، والمتعارف ما يكثر وجوده فيما بين الناس كشراء النعل بشرط أن يحدوه البائع، وكان الاستصناع، وفيه منفعة للمعقود عليه، وإنه ظاهر أيضاً، والتقريب ما مر.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الشراء بهذا الشرط متعارف من وجه من حيث إن الناس يبيعون المملوك بهذا الشرط، وغير متعارف من وجه من حيث إنه لا يكثر وجوده، فلكونه غير متعارف من وجه أفسدناه في الابتداء، ولكونه متعارفاً من وجه جعلناه جائزاً بعد العتق، أو نقول: هذا الشرط إذا كان متعارفاً من وجه دون وجه كان المفسد موجوداً من وجه دون وجه، فحكمنا بالفساد على سبيل التوقف لا على سبيل الثبات، فإن استهلك بوجه آخر يتقرر الفساد لكونه غير متعارف ويلزمه القيمة، وإن أعتقه يتقرر الجواز لكونه متعارفاً، ويلزمه الثمن.
وجه آخر لأبي حنيفة: إن هذا الشرط يلائم البيع، ولا يلائمه من وجه، من حيث إن فيه إزالة الملك لا يلائم البيع، ومن حيث إنه ينهي الملك ولا يقطع، وفي الإنهاء تقرير وإتمام يلائمه.(6/393)
ولهذا قلنا: إن المشتري إذا أعتق العبد، ثم اطلع على عيب به كان له الرجوع بنقصان العيب كما لو مات حتف أنفه، فمن حيث (60ب3) إنه لا يلائم العقد حكمنا بفساد العقد في الحال، ومن حيث إنه لائم العقد حكمنا بجوازه إذا أعتق، ويمكن أن يقال: إذا كان شرط العتق يلائم البيع من وجه، ولا يلائمه من وجه حكمنا بفساد العقد على سبيل التوقف آخر ما ذكرنا.
وروى أبو شجاع عن أبي حنيفة: أن المشتري إذا أعتقه قبل القبض جاز، وهذا دليل على أن الفساد غير متقرر؛ إذ لو كان متقرراً كان لا يثبت الملك للمشتري قبل القبض وبدون الملك لا يصح إعتاقه، وهذا بخلاف شرط التدبير والاستيلاد والكتابة، والتدبير والاستيلاد شرط لا يلائم العقد بوجه؛ لأن هذه التصرفات إنهاء الملك؛ لأن إنهاء الملك إنما يتحقق إذا وقع الأمن عن الزوال عن تملك المشتري إلى ملك غيره كما في العتق والموت، وبهذه التصرفات لا يقع الأمن عن زوال الملك بجواز أن يباع فيقضي القاضي بجواز البيع في المدبر وأم الولد، ويجيز المكاتب بيع نفسه، وإذا لم تكن هذه التصرفات إنهاء للملك لا محالة لم يكن ملائماً للعقد بوجه ما.l
وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف برواية بشر: رجل اشترى داراً على أن يتخذها مسجداً للمسلمين فالبيع فاسد، قال: لأن المسجد يخرج عن ملك متخذه، وكذلك لو باع منه طعاماً يتصدق به.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى جارية على أن يحسن إليها أو على أن يسيء إليها فالبيع جائز رواه عن الحسن.
وفي «البقالي» : إذا باع عبداً، وشرط أن يطعمه خبيصاً لم يجز.
وفي «المنتقى» : أيضاً رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى جارية على أن يكسوها القز، أو على أن يضربها فالبيع فاسد.
إذا اشترى من أحد داراً على أن يسلم البيع له وعلم أن لفلان فيها شيئاً، أو لم يعلم فالبيع فاسد. وقال الحسن: إن علم أن له فيها شيئاً فإن سلم المبيع جاز وإلا كان بالخيار في حصة البائع، فإن شاء أجازه، وإن شاء أبطله.
وفي «المنتقى» : إذا كان قال للمشتري: اشترِ هذا الثوب بكذا وأنت بريء، فاشترى فهو بريء.
وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر عيناً بكذا على أن يحط من ثمنه كذا أو على أنه حطه من ثمنه كذا فالبيع جائز، والحط جائز ويكون البيع بما وراء المحطوط، قال ثمة: وقوله: على أن يحط، مثل قوله: حططت، ألا ترى أنه لو قال لمديونه: صالحتك مما لي عليك على كذا على أن أحط لكنه كذا، فهذا حطه جائز ولو قال: بعتك هذا العبد بكذا على أني قد وهبت لك من ذلك كذا وهو حط.
وفي «فتاوي أبي الليث» : لو قال: علي أن أهب لك من ثمنه كذا لا يجوز وذكر في «المنتقى» : أنه يجوز.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل قال لغيره: بعتك هذا الغلام(6/394)
بألف درهم على أني قد بعتك هذا الآخر بمائة دينار، فقال المشتري: قبلت البيع في ذلك، فالبيع جائز على الغلامين جميعاً.
وعن محمد برواية هشام أيضاً: إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم على أن أبيعك هذا الآخر بمائة دينار إن هذا باطل، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وعلى أن تقرضني عشرة جاز البيع، ولا يعتبر قوله: وعلى أن تقرضني شرطاً؛ لأنه ذكر بحرف الواو، فكان معطوفاً على الأول لا شرطاً.
ومثله لو قال: على أن تقرضني عشرة يعتبر ذلك شرطاً حتى يفسد البيع، وهو نظير ما لو كان لرجل أرض بيضاء فيها نخيل، فقال: دفعت إليك النخيل معاملة على أن يزرع الأرض البيضاء فسدت المعاملة، واعتبر قوله: أن يزرع شرطاً للمزارعة في المعاملة، ولو قال: وعلى أن يزرع الأرض البيضاء لا يفسد المزارعة ولم يعتبر ههنا شرطاً، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل.
ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده هاتين المسألتين في صلح «المبسوط» : في باب الصلح عن الدين، وإذا قال المشتري: زدتك في الثمن مائة على أن تبيعني بألف درهم، ففعل جاز البيع، وكان البيع بألف درهم ومائة، وكذلك إذا قال: أهب لك زيادة في الثمن.
رجل قال لغيره: بع عبدك هذا من فلان على أن أجعل لك مائة درهم جُعلاً على ذلك، فباعه من فلان بألف، ولم يكن في عقده البيع شرط فالبيع جائز، والجعل لا يلزم، وإن كان بعده فله أن يرجع فيه من قبل أن الجعل ليس في الثمن، ولو شرط ذلك في عقد البيع فالبيع فاسد، قال: وكذلك الهبة، كذا ذكر المسالة في «المنتقى» عن أبي يوسف.
وفي «المنتقى» : إذا قال: جعلت لك مائة درهم على أن تبيعني عبدك هذا بألف درهم، ففعل بطل البيع للشرط الذي فيه؛ لأن الجعل ليس من الثمن، وكذلك إذا قال: أهب لك، والمسألة بحالها، وكذلك أرشوك مائة درهم على أن تبيع من فلان بألف درهم فقال: نعم، ثم باع هو فلان، ولم يكن فيه ... يؤخذ الدين........ بالرشوة.
ولو باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم سحتاً، أو رشوة فالبيع جائز.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يدفعه إلى المشتري الثمن فالبيع فاسد.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل قال لغيره: بعتك عبدي هذا بكذا على أن تعطيني عبدك هذا، أو قال: على أن تجعل لي عبدك هذا فالبيع فاسد؛ لأن هذا عبدي على الهبة، فقد شرط في الهبة بيعاً، فيوجب فساد البيع إلا أن يقول: على أن تعطيني عبدك هذا زيادة فيجوز، ويكون العبد زيادة في البيع، وإذا قال: أبيعك هذا العبد على أن تبيعه وتعطيني ثمنه فالبيع فاسد، وإذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم وعلى أن يخدمني سنة أو قال: على أن يخدمني سنة فهذا باطل، وكذلك لو قال: أبيعك عبدي بثلاثمائة درهم ويخدمنك سنة، أو قال: أبيعك عبدي لخدمتك سنة فهو كله باطل.(6/395)
نوع آخر
إذا باع برذوناً على أنه هملاج فالبيع جائز، وإذا اشترى شاة على أنها حامل، أو اشترى ناقة على أنها حامل، فالبيع جائز ذكره الحسن في بيوعه؛ لأن المشروط صفة من أوصاف البيع؛ لأن الولد ما دام في البطن في حق التصرفات المضافة إلى الأم ألحق بسائر أوصافها من اليد والرجل، فصار اشتراط أنها حامل كاشتراط أنها ذات يد وذات رجل.
وفي ظاهر الرواية لا يجوز؛ لأن الحبل في البهائم زيادة، ولا يدري وجودها وقت البيع، فكان فيه غرراً، فيفسد به البيع كما لو باع معها، وكذا بخلاف ما لو باع برذوناً على أنه هملاج؛ لأن الوقوف على المشروط ممكن وقت البيع بالسر، أما ههنا بخلافه.
ولو باع شاة على أنها حلوب فالبيع جائز كذا ذكره الحسن في «المجرد» وكذا ذكر الطحاوي في اللبون؛ لأن المشروط صفة من أوصاف المبيع، ويمكن الوقوف على وجوده وقت البيع، فصار كما لو باع برذوناً على أنه هملاج، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله. وذكر الكرخي أن البيع فاسد، وهكذا روي ابن سماعة في «نوادره» ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله.
وإذا اشترى جارية على أنها ذات لبن، فهذا وما لو اشترى شاة على أنها لبون سواء.
ووجه ذلك: أن المشروط وإن كان من أوصاف المبيع إلا أن هذا (61أ3) وصف لا يدري وجوده وقت البيع، فكان في البيع غرر فيكون فاسداً، ولو باع شاة على أنها تحلب كذا كذا، فالبيع فاسد باتفاق الروايات؛ لأن المشروط ليس بصفة بهذه الصورة، فإنه لم يقل: على أنها حلوب، وإنما قال: على أنها تحلب كذا كذا، فيكون اشتراط اللبن المحلوب، وإنه مجهول على خطر الوجود فاشتراطه يوجب غرراً في العقد، فيوجب الفساد.
وكذلك لو اشتراها على أنها تضع بعد شهر فالعقد فاسد، وكذلك لو اشترى سمسماً وزيتوناً على أن فيه كذا من الدهن فالعقد فاسد.
وإذا اشترى دابة على أنها ذات أسنان لبن فالشراء جائز؛ لأن المشروط صفة من أوصاف، المبيع والموقوف عليه ممكن وقت البيع.
فهو بمنزلة ما لو اشترى فرساًعلى أنه هملاج، ولو اشترى جارية على أنها حامل، فقد ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في جواز العقد، بعضهم قالوا: لا يجوز كما لو اشترط الحمل في البهائم، وهذا القائل يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيع: إذا باع جارية وتبرأ من الحمل يجوز، فإنما حكم بجواز البيع في الجارية إذا تبرأ من الحمل، فهذا دليل على أنه إذا اشترط الحمل يفسد، وهذا لأن المشروط مما لا يوقف عليه وقت البيع، وقال بعضهم: البيع جائز.
قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وهذا القول أصح عندي من قبل أن الحمل في ثبات أدم بعد نقصاناً لا زيادة، فإنه يوجب ضعفاً فيها واشتراط الحمل يكون تنبهياً من العيب، ولا يكون اشتراطاً كقولك: بعتك هذه الجارية على أنها عوراء أو عرجاء،(6/396)
فالشراء عن العيب كما يثبت بلفظ البراءة يثبت بالشرط.
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن اشتراط الحمل إن كان من جهة البائع، فهو تبري عن العيب، ولا يفسد العقد، وإن كان من جهة المشتري، فهو شرط على الحقيقة، والمشروط خطر العدم فيفسد العقد، من المشايخ من قال: اشتراط الحمل في الجارية إن كان لأجل الزيادة، بأن كان يشتريها ليتخذها ظئراً يفسد البيع، وإن كان لاتخاذها ظئراً، فاشتراط الحمل على وجه التبري، فيكون البيع جائزاً، وقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمهما الله ما هو قريب من هذا، فإنه روى أنه قال: البيع جائز إلا أن يظهر المشتري أن لا يشتريها للظؤورة لا يجوز البيع.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: أن الجارية إن كانت نفيسة فالبيع جائز؛ لأن الحبل منها عيب، وإن كانت خسيسة بحيث يشتري ليتخذ ظئراً فالعقد فاسد؛ لأن الحبل في مثلها يعد زيادة، وإذا اشترى جارية على أنها تحيض، فوجدها لا تحيض لسبب الإياس كان له الرد؛ لأنه اشتراها للحبل، والآيسة لا تحبل.
ولو اشترى جارية على أن البائع لم يكن يطأها، ثم ظهر أنه قد كان وطئها ليس له أن يردها، وإذا باع جارية على أنها مغنية، أو باع قمرياً أو غيره، وشرط أنه يضع، أو طيراً بشرط أن يجيء من المواضع البعيدة، أو كبشاً نطاحاً، أو ديكاً مقاتلاً، فالبيع فاسد، في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن هذه الجهات محظورة لكونها جهات محظورة فإدخالها في البيع يوجب فساد البيع.
وإن صياح القمري وصياح الديك وأشباه ذلك عسى لا يوجد، والإجبار عليه غير مكن، فكان المشروط شيئاً لا يقدر على تسليمه، فيوجب فساد البيع.
وروي عن محمد: إنه إذا باع قمرياً على أنها تصوت فصوتت جاز؛ لأن هذه خلقة فيها، فيمكن تسليم المشروط، فلهذا قال على هذه الرواية في المحرم: إذا قتل القمرية المصوتة إنه يضمن قيمتها مصوتة بخلاف ما لو قتل صيداً يجيء من المواضع البعيدة، فإن هناك لا يعتبر قيمة الصفة في الضمان؛ لأن ذلك ليس بخلقة هكذا ذكر القدروي.
وذكر في «المنتقى» : عن محمد: إذا باع فاختة أو قمرية على أنها تصوت، ولم يكن يذكر فصوتت، وأجاب بأنه يجوز، وذكر في «المنتقى» عن محمد: فيما إذا اشترى حمامة يجيء من الصالحين أن شريحا ضمنه حمامة يجيء من الصالحين وأنا ضمنه مثل ذلك ولا أجوزه في البيع، وإذا باع بازياً على أنه يصيد قال أبو يوسف: البيع جائز، وعن محمد روايتان، وإذا باع جارية على أنها مغنية على وجه التبري من العيب فهو جائز؛ لأنها كونها مغنية عيب فالتبري عن العيب في البيع لا يفسد البيع.
وفي «الأصل» : إذا باع كلباً على أنه عقور أو حمامة على أنها دوارة لا يجوز إلا أن يبين ذلك على وجه العيب، فعلى هذا في كبش النطاح والديك المقاتل إذا ذكر الصفة على وجه العيب.
وذكر في «المنتقى» : عن محمد: وإذا باع جارية على أنها مغنية أن الشراء جائز،(6/397)
ولم يشترط ذكر ذلك على وجه العيب، قال ثمة: ولا أرد البيع إن كانت تغني أو لا تغني؛ لأن هذا عيب تبرأ منه.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر عبداً على أنه كاتب أو خباز فالبيع جائز، فإن قبضه المشتري فوجده كاتباً أو خبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا يكون له حق الرد بوجود المشروط، فإن المستحق بمطلق العقد أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا النهاية في الجودة كذا ههنا.
وقوله: أدنى ما ينطلق عليه اسم الكتابة والخبز، معناه أن يفعل من ذلك ما يسمى الفاعل به خبازاً وكاتباً، وهذا لأن كل واحد في العادة لا يعجز من أن يكتب على وجه يبين حروفه وأن يخبز مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، وبذلك لا يسمى كاتباً وخبازاً بشرط الإتقان بأدنى ما ينطلق عليه اسم الكاتب والخباز باعتباره لهذا، قال: وإن وجد الحسن الكتابة والخبز، ومعناه أنه لا يعرف من ذلك مقدر ما يسمي الفاعل به كاتباً وخبازاً كان للمشتري الرد، فإن امتنع الرد بسب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن، فيقوم العبد كاتباً وخبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم إذ هو المستحق بالشرط، ويقوم غير كاتب وخباز.
فينظر إلى تفاوت ما بين ذلك، فإن كان مثلاً العشر يرجع على البائع بعشر الثمن كما في خيار العيب، وإن كان التفاوت مثلاً الخمس يرجع على البائع بخمس الثمن، وسيأتي الكلام فيه في مسائل العيب إن شاء الله تعال.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه ليس للمشتري أن يرجع على البائع ههنا بشيء؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري إنما كان بالشرط لا بالعقد، وتعذر الرد في خيار الشرط للمشتري لا يوجب الرجوع للمشتري على البائع بشيء، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري ههنا ما كان بحكم الشرط، وليس أثر الشرط في إثبات الخيار للمشتري، بل أثره في صيرورة المشروط مستحقاً بالعقد، ثم ثبوت خيار لعجز البائع عن تسليم صفة السلامة، فإن وقع الاختلاف بين المشتري وبين البائع في هذه الصورة بعد ما مضى حين من وقت البيع فقال المشتري: لم آخذه كاتباً ولا خبازاً، وقال البائع: إني سلمته إليك كاتباً وخبازاً، ولكنه نسي عندك، وقد ينسى في مثل تلك المدة، فالقول قول المشتري، هكذا ذكر المسألة في «بيوع الجامع» : لأن الاختلاف وقع في وصف عارض؛ لأن الأصل عدم الكتابة والخبز، فيكون القول قول المنكر لهذا الوصف، وهو المشتري.
قال في «الجامع» أيضاً: وكذلك لو قال البائع: هو الساعة كما شرطت، وقال العبد: أنا كذلك إلا أني لا أفعل كان القول قول المشتري، ولا يعتبر قول العبد أما؛ لأنه لا شهادة له، ولأنه شهادة فرد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن المشتري إذا زعم أن العبد ليس بخباز، فإني أسأل العبد فإن قال: لست بخباز رددته.
وإن اشترى جارية بغير شرط طبخ ولا خبز وهي تحسن ذلك فنسيت (61ب3) في يد البائع ردها؛ لأن الجارية بالعقد صارت مستحقة على الصفة الموجودة وصار(6/398)
الاستحقاق بحكم الوجود كالاستحقاق بحكم الشرط في «القدوري» .
وكذلك اشترى جارية على أنها بكر، فإذا هي غير بكر عرف ذلك بإقرار البائع كان للمشتري الخيار لما مر، فلو امتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصة البكارة من الثمن، فتقوم وهي بكر أو تقوم وهي غير بكر، فيرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن، ولو شرط الثيابة فوجدها بكراً، فهي له ولا خيار للبائع.
في «القدوري» وإن وقع الاختلاف بين البائع والمشتري، وكان الاختلاف بعد قبض المشتري الجارية، فقال المشتري: لم أجدها بكراً، وقال البائع: كانت بكراً لكن ذهبت البكارة عندك، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن البكارة صفة أصلية في النساء، فكان المدعي لوجودها وقت التسليم، وهو البائع متمسكاً بالأصل لكن يحلف البائع إليه بالله لقد باعها وقبضها المشتري وإنها بكر.
وليس المراد من قول المشتري: لم أجدها بكراً الامتحان بالوطء فإن الوطء مانع من الرد بالعيب، ولكن معناه إني علمت أنها ليست ببكر بخبرها أو تحيرها، وهذا إذا وقع الاختلاف بعد قبض الجارية.
فأما إذا وقع الاختلاف قبل قبض مشتري الجارية، فقال المشتري: هي ليست ببكر، وقال البائع: هي بكر، فالقاضي يريها النساء بخلاف الوجه الأول؛ لأنه هناك اتفقا على عدم البكارة وقت الخصومة، إنما اختلفا فيما مضي، ورؤية النساء للحال لا يفيد العلم فيما مضى، أما هنا اختلفا في قيام البكارة للحال، ورؤية النساء في الحال يفيد العلم في الحال.
فإن قلن: هي بكر، ذكر في «الجامع» : أنه يلزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادة النساء ههنا تأيدت بمؤيد، فإن البكارة أصل في بنات أدم، وشهادة النساء هي تأيدت بمؤيد صارت كشهادة النساء مع الرجل، ولو قامت شهادة النساء مع الرجال على البكارة لزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع كذا ههنا.
ونظير هذا ما قال في كتاب «الاستحسان» : إن امرأة العنين إذا ادعت أنها بكر بعد مضي المدة، وادعى الزوج الوصول إليها، فالقاضي يريها النساء فإن قلن: هي بكر يجبر من غير يمين الزوج، فقد أثبت الفرقة بشهادتهن من غير يمين الزوج لما تأيدت شهادتهن بمؤيد فههنا كذلك، وإن قلن: إنها ليست ببكر يلزم المشتري مع يمين البائع بالله إنها لبكر، ولا ينتقض البيع؛ لأنا جعلنا في الابتداء القول للبائع، فلو ردت الجارية عليه إنما ترد بشهادة النساء بانفرادهن، وشهادة النساء بانفرادهن إذا لم تتأيد بمؤيد غير معتبرة لبناء الأحكام عليها، وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله ظاهر؛ لأن عنده شهادة النساء حجة ضرورية الثيابة الرد بجواز أنها كانت بنتاً وقت البيع، وعلم المشتري بذلك، ورضي به، فلم تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الرد.
فأما على قولهما: فشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال حجة مطلقة، فينبغي أن يثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ، وقد روي عن محمد في «النوادر» في هذا الفصل أنه تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ على قياس قولهما، فعلى هذا يحمل ما ذكر ههنا على أنه قول أبي حنيفة، وفائدة شهادة النساء ههنا على قول أبي حنيفة بوجهين: بوجه(6/399)
اليمين على البائع، فإن قبل شهادتهن كان لا يتوجه اليمين على البائع والآن يتوجه.
والوجه في هذا: أن دعوى المشتري الثيابة على البائع لم يعتبر في حق توجيه اليمين على البائع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه عارض دعوى المشتري ما يبطلها، وهو كون البكارة أصلاً في بنات آدم، وقد بطل اعتبار هذا الأصل بمعارضة شهادة النساء بقي دعوى المشتري معتبراً في حق توجيه اليمين على البائع، فإن نكل البائع ردت الجارية عليه، وإن حلف انقطعت الخصومة، ولزم المشتري الجارية.
أما قبل شهادة النساء لم يبطل كون البكارة أصلاً، فبقيت المعارضة بينهما وبين دعوى المشتري، فلا يعتبر دعوى المشتري في حق توجه اليمين على البائع، فإن لم يكن بحضرة القاضي من النساء من يثق بقولها ألزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع لما ذكرنا أن دعوى المشتري من غير شهادة النساء غير معتبر في حق توجيه اليمين على البائع.
ولو كان المشتري اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، فلم يقبضه المشتري حتى قال: ليس هذا كما شرطت لا يجبر على قبضه، ولو اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري قبل القبض: ليس هذا كما شرطت لي يجبر على قبضه؛ لأن في الفصل الأول القول قول المشتري، فلا لعبد يجبر على القبض.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى قوصرة تمر على أنه فارسي، فإذا هو دقلاً ثبت له حق الرد لو امتنع الرد بسبب من الأسباب يقوم فارسياً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم دقلاً على هيئة، ويرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن.
وكذا إذا اشترى قوصرة تمر فارسي على أنه جيد، فإذا هو رديء، وقد امتنع العيب بسبب من الأسباب يقوم فارسياً جيداً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم ردياً كما هو، فيرجع بفضل ما بينهما، وإذا اشترى أرضاً على أن خراجها على البائع أبداً، فهذا على وجهين:
إما إن شرط جميع الخراج على البائع، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأنه شرط قضاء دين المشتري، والعقد لا يقتضيه ولا يلائمه، وإنه غير متعارف، وللمشتري فيه منفعة، فيوجب فساد العقد.
وإما إن شرط بعض الخراج على البائع وأنه على وجهين أيضاً: إن كان المشروط على البائع ما هو من أصل الخراج، فالعقد فاسد لما قلنا، وإن كان المشروط على البائع ما هو زائد على أصل الخراج فالبيع جائز؛ لأنه شرط في البيع أن لا يجب عمل الظلم على المشتري، وهذا ثابت بدون الشرط.
وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا اشترى ضيعة مع خراج درهم وخراجها ثلاثة دراهم، فإن كان المشتري عالماً بأن خراجها ثلاثة دراهم فالعقد فاسد؛ لأن هذا بيع شرط أن(6/400)
يجب الخراج على البائع، وهذا شرط فاسد لما مر، وإن لم يعلم المشتري بذلك فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، إن شاء قبلها بخراجها، وإن شاء تركها.
وقد قيل: إذا كان المشتري يعلم أن خراجها في الأصل درهم، وزيد عليه بعد ذلك درهمان يجب أن لا يفسد العقد كما في المسألة الأولى؛ إذ المعنى لا يوجب الفصل.
وفي «فتاوى الفضل» : إذا باع أرضاً خراجها درهم فإذا خراجها ثلاثة دراهم، فالعقد فاسد ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما، إذا علم المشتري أن خراجها ثلاثة دراهم، أو لم يعلم، ويجب أن تكون المسألة على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة «فتاوى أبي الليث» .t
ولو اشترى أرضاً بغير خراج والأرض خراجية فالبيع فاسد، وهذا إذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فأما إذا لم تكن خراجية في الأصل، ثم وضع عليها الخراج ظلماً، فالبيع يكون جائزاً، وإذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فإنما يفسد العقد إذا علم المشتري أنها خراجية على ما ذكرنا.
وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن أرض خراجها عشرة، فباعها مالكها مع خراج خمسة عشر زاد عليها من خراج أرض أخرى، قال: البيع فاسد، وكذا في جانب النقصان هكذا أجاب، والجواب في جانب النقصان يؤل وتأويله ما ذكرنا، فسئل: وإن لم يعلم بمقدار أصل الخراج على هذه الأرض، واختلف البائع والمشتري في المقدار، فادعى المشتري أقل، وادعى البائع (62أ3) أكثر هل ينظر إلى خراج مثل هذه الأرض في تلك القرية؟ وإن أراد المشتري أن يحلف البائع ما يعلم أن أصل الخراج كذا له ذلك، قال: الخصم في الخراج نائب السلطان.
فسئل وما قوله إذا كانت البلدة خراجية إلا أنه لا يعلم كيف وضع أصل الخراج غير أنهم يوزعون الخراج على الشرب بذلك جرى العرف بينهم في القديم، فباع رجل أرضاً بغير خراج، أو بخراج قليل هل يجوز؟ قال: هذا مخالف لحكم الشرع.
إذا اشترى أرضاً على أنها حرة عن النوائب، فاذا طالب المشتري بالنوائب، فله أن يردها على البائع إن كان حياً وعلى ورثته إن كان ميتاً، وكذلك إذا اشتراها على أن قانونها نصف دانق، فإذا هو أكثر، فله أن يردها، ثم هذا البيع جائز.
بخلاف ما إذا اشترى الأرض على أنه لا خراج عليها، أو على أن خراجها درهم، فإذا هو أكثر فالعقد فاسد؛ لأن الخراج حق دين كسائر الديون، فقد شرط المشتري قضاء دين المشتري، فأما المؤنات والجنايات فالمشتري شرط في العقد أن لا يتحمل الظلم، وهذا ثابت بدون الشرط، فإذا باع أرضاً على أنها منظور عن القانون، أو على أنها مشفوع عن الخراج، وعلى أن لا يوجد منه الخراج فالعقد فاسد، كما إذا باع على لا يغصبه غاصب.
إذا باع من آخر حانوتاً على أن عليها عشرون، فإذا هي خمس عشر، فإن أراد بذلك أنها كانت تعمل فيما مضى كذا، فهذا شرط لا ينتفع به أحد، فلا يفسد به العقد، وإن(6/401)
أراد بذلك أنها يعمل في المستقبل عشرين، فالعقد فاسد؛ لأن هذا شرط بشيء هو منتفع، وفي وجوده غرر، وإن أطلق ولم يفسر، ولم يرد به شيئاً فالعقد فاسد، وهو محمول على المستقبل؛ لأن مراد الناس من هذا في عرفهم وعاداتهم المستقبل فيحمل عليه.
وفي «فتاوي أهل سمرقند» : اشترى من آخر سكنى له في حانوت مركباً بمال معلوم، وقد أجبره بائع السكنى أن آجره هذا الحانوت بسنة، فإذا ظهر أن أجرته عشرة ليس له أن يرد على البائع، وإن لم يسلم له شرطه؛ لأنه إنما لم يسلم له شرطه في غير المشتري، قال: وللمالك أن يكلف المشتري رفع السكنى، وإن كان على المشتري ضرر؛ لأنه شغل ملكه.
قال محمد رحمه في «الأصل» : إذا اشترى الرجل من آخر طعاماً بطعام أو بغيره مما يكال أو يوزن، واشترط عليه أن يؤمن إياه في منزله، أو شرط عليه أن يحمله إلى منزله فهذا على وجهين:
إما إن اشتراه في المصر أو خارج المصر، وقد اشتراه بمثله من جنسه، أو بخلاف جنسه، وفيما إذا شرط عليه الحمل إلى منزله، فإن البيع يفسد اشتراه في المصر أو خارج المصر اشتراه بجنسه وبخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن حمل البائع المبيع إلى منزل المشتري ليس من قضايا البيع.
ألا ترى أن بدون الشرط لا يوجب على البائع الحمل إلى منزل المشتري؟ وإنما يجب عليه التسليم في مكان العقد إذا كان المبيع فيه.
فهو معنى قولنا: إنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وللمشتري فيه منفعة، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع، وإن شرط الإيفاء في منزله أن اشتراه خارج المصر، ومنزله في المصر، فالعقد فاسد سواء اشتراه بجنسه أو بخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن البيع يقتضي التسليم في مكان المبيع إذا كان المبيع فيه، ومتى كان العقد خارج المصر لا يكون منزله في المصر مكان العقد في حق الإيفاء لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأن خارج المصر لم يجعل كمكان واحد في حق الإيفاء شرعاً.
ألا ترى أن في باب السلم لو شرط الإيفاء في المصر، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المصر ليس له ذلك، ولا يجبر رب السلم على القبول، فأما إذا اشتراه في المصر، وشرط الإيفاء في منزله في المصر، إن اشتراه بجنسه بأن اشتراه بحنطة، فإن العقد فاسد لقوله: عليه الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل والفضل رباً فقد جعل الفضل على المماثلة من حيث الكيل رباً بلا فصل بين فضل وفضل، فهو على الكل وقد شرط المشتري فضلاً لنفسه وهو الإيفاء في منزله.
فأما إذا اشتراه في المصر بخلاف جنسه وشرط الإيفاء في منزله، ومنزله في المصر، القياس: أن يكون البيع فاسداً، وبالقياس أخذ محمد رحمه الله.
وفي الاستحسان: أن البيع جائز وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف.
وجه القياس في ذلك: أنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو اشتراه خارج المصر، أو اشتراه في المصر بجنسه، أو شرط الحمل إلى منزله بيان العقد يقتضي تسليم البيع في مكان البيع إذا كان المبيع فيه(6/402)
منزل المشتري ليس مكان العقد حقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك حكماً؛ لأن خارج المنزل مع المنزل لم يجعل في حكم مكان واحد في حق الإيفاء شرعاً.
ألا ترى أن باب السلم لو شرط الإيفاء في منزل رب السلم، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المنزل ليس له ذلك، فكان اشتراط الإيفاء في منزله اشتراط الإيفاء في غير مكان العقد والعقد لا يقتضيه ذلك.
وجه الاستحسان: أن شرط في البيع ما يقتضيه البيع؛ لأن شرط الإيفاء في مكان البيع والمصر مع اختلاف أماكنها جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، أصله مسألة السلم، فإن في باب السلم إذا شرط الإيفاء في المصر جاز، وإن لم يبين محله من المصر، وهذا تبين لك أن المصر كله جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، واذا صار هكذا صار منزله مكان العقد حكماً في حق الإيفاء، واشتراط الإيفاء في مكان العقد مما يقتضيه العقد، وأما إذا شرط الحمل إلى منزله، فهناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن العقد لا يوجب الحمل إلى منزل المشتري.
وأما إذا اشترى خارج المصر هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأنه الإيفاء في غير مكان العقد على ما مر، وأما إذا اشتراه بجنسه قلنا: هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن منزله ليس مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بجنسه، وهذا لأن منزله مكان العقد في حق الإيفاء حكماً لا حقيقة؛ لأن العقد لم يوجد في منزله حقيقة فاعتبرنا مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بخلاف الجنس عملاً بالحكم، ولا يعتبر مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بالجنس عملاً بالحقيقة، وإنا فعلنا هكذا؛ لأنا لو عملنا بالحقيقة متى حصل الشراء بالجنس وبينا الربا يلزمنا العمل بالحقيقة متى حصل الشراء بخلاف الجنس؛ لأن اختلاف الجنس أنفى للربا من اتفاق الجنس، فحينئذ يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا ليمكننا العمل بالشبهين.
وفي «الزيادات» : إذا اشترى وقر حطب في المصر، فعلى البائع أن يأتي به إلى منزله للمشتري، ولو هلك في الطريق يهلك من مال البائع، وإنما يجب على البائع ذلك؛ لأن الإتيان به إلى منزل المشتري مشروط عرفاً، ولكن يجعل المشتري شارطاً الإيفاء في منزله لا شارطاً الحمل؛ لأن شرط الحمل يفسد العقد، وشرط الإيفاء لا يفسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله أن التفاوت بين لفظة الحمل والإيفاء في العربية، فأما في الفارسية فلا تفاوت ففي كل موضع جاز شرط الإيفاء بالعربية يجوز شرطهما بالفارسية، ولو اشترى حطباً في قرية من رجل شراءً صحيحاً، وقال: موصولاً بالشراء من غير شرطه في الشراء: احمله إلى منزلي لا يفسد العقد؛ لأن هذا ليس بشرط في البيع بل هو كلام ابتداءً بعد تمام البيع، فلا يوجب فساد البيع.
في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى حصانه حرف على أن يحرزه البائع جاز؛ لأنه عمل الناس، وكذا اشترى من خلقائي ثوب، وبه خرق على أن يخيطه، ويجعل عليه(6/403)
الرقعة (62ب3) لما ذكرنا، وإذا اشترى من كرباسي كرباساً على أن يقطعه قميصاً، أو يخيطه لا يجوز؛ لأنه لا يعامل في هذا، وإذا اشترى داراً، وشرط مع الدار الفناء ذكر في «الواقعات» أن البيع فاسدٌ؛ لأن الفناء لا يصير مملوكاً للمشتري، فكان هذا شرطاً فاسداً في بيع الدار.
وفي «بيوع المنتقى» : إذا باع الرجل داراً وكتب بحقوقها وقفاً بها قال أبو حنيفة: العقد فاسد، قال ابن سماعة: إن البيع جائز، قال: وليس هذا عندنا على معنى التمليك منه للفناء، وقد علم الناس لا يبيعه الرجل من داره.
نوع آخر في شرط الأجل
إذا شرط الأجل في المبيع.... المواضع أجمع لكونه مغيراً لمقتضى العقد، وإنما جوزناه تيسيراً للأمر على الناس، وتخفيفاً عليهم ليكتب من له الأجل في مدة الأجل، فيؤدي عند محل الأجل، وهذا المعنى يتحقق في الديون لا الأعيان، فبقي الأجل في الأعيان على أصل القياس، وإنما كان الأجل المجهول في الدين مفسداً للعقد؛ لأن الجهالة في الأجل يفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم، ومثل هذه الجهالة تفسد العقد، والأجل المجهول أن يبيع إلى الحصاد والدياس؛ لأن وقت الحصاد والدياس يتقدم في البلدان، ويتأخر في البعض، فالبائع يطالب المشتري بالثمن محتجاً عليه بدخول وقت الحصاد في بعض المواضع، والمشتري يمتنع عن الأداء محتجاً بعدم دخول وقت الحصاد في بعض المواضع فيتنازعان، وكذا إذا باعه إلى وقت قدوم الحاج؛ لأن قدوم الحاج قد يتقدم وقد يتأخر؛ لأن ذلك فعلهم.
وكذلك إذا باعه إلى وقت خروج العطاء؛ لأن خروج العطاء قد يتقدم وقد يتأخر، وما روت عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تخير إلى خروج العطاء، فتأويله عندنا أن الخلفاء في زمانها كانوا لا يخلفون الميعاد، فكان لا يتقدم خروج العطاء ولا يتأخر حتى أن في زماننا لو لم يتقدم ولم يتأخر نقول بالجواز أيضاً.
وكذلك إذا باع إلى صوم النصارى؛ لأن صومهم قد يتقدم وقد يتأخر، فإن كانوا دخلوا في الصوم، فباع إلى فطرهم جاز؛ لأنه لما عرف ابتداء وقت الصوم ومدته معلوم صار الأجل معلوماً، وهذا كله إذا حصل البيع إلى هذه الآجال، أما إذا باشر البيع مطلقاً، ثم أن البائع أجل المشتري في الثمن إلى هذه الآجال صح التأجيل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، فصار نصاً، وهذا لأن الأجل إذا لم يكن مشروطاً في البيع لا يكون من نفس البيع، وكان تأثير الأجل في تأخير المطالبة إلى هذه الآجال، وتأخير المطالبة إلى هذه الآجال صحيحة في الكفالة، وإن أجله إلى شهر الريح فهو باطل، وإن قال في رجب: أجلتك إلى رجب القابل، وإن قال: إلى انسلاخه قال: انسلاخ هذا الرجب.(6/404)
ثم في باب البيع من له الأجل إذا أسقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس انقلب العقد جائزاً استحساناً عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر والشافعي، وعلى هذا الاختلاف إذا باع بشرط الخيار إلى الأبد حتى فسد العقد بلا خلاف، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً عند أبي حنيفة، وعندهما في أي وقت أسقط الخيار ينقلب العقد جائزاً، وعلى هذا إذا باع بشرط الخيار أربعة أيام حتى فسد العقد عند أبي حنيفة، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً، واختلفت عبارة المشايخ في جنس هذه المسائل.
فعبارة أهل العراق أن العقد فاسد، ويرتفع الفساد بحذف الشرط، ويرفع المفسد، وعبارة أهل خراسان أن العقد موقوف، فإذا مضى جزء من اليوم الرابع في مسألة الخيار، أو دخل وقت الحصاد في بعض البلدان يفسد، وذكر أبو الحسن الكرخي نصاً عن أبي حنيفة في مسألة الخيار أن البيع موقوف على إجازة المشتري في المدة، وأثبت للبائع حق الفسخ قبل الإجازة، ومعنى هذا أن الخيار للمشتري، فيكون ولاية الإلزام له، ولكن لما كان العقد موقوفاً يتمكن البائع من الفسخ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يتمكن في فسخ العقد الموقوف.
وأجمعوا ما إذا باع بألف ورطل من خمر، أو باع إلى أن يهب الريح، أو إلى أن تمطر السماء، ثم إن من له الخمر، ومن له الأجل إلى سقط الخمر والأجل لا ينقلب العقد جائزاً، هذا هو المذكور في عامة النسخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في باب البيوع: إذا كان فيها شرط أنه إذا باع بألف ورطل من خمر، ثم اتفقا على إسقاط الخمر أن العقد ينقلب جائزاً، ولكن لا ينفرد أحدهما بالإسقاط بل يشترط اتفاقهما على الإسقاط وفي البيع إلى أجل مجهول ينفرد من له الأجل بالإسقاط.
ومن جملة الآجال المجهول أن يبيع إلى النيروز والمهرجان، وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة النيروز والمهرجان في «الجامع الصغير» : وأجاب بالفساد مطلقاً.
وذكر في «الأصل» : وقال: إن كان لا يعرف بأن كان يتقدم ويتأخر لا يجوز كما في الحصاد والدياس، وإن كان معروفاً بالأيام بحيث لا يتقدم ولا يتأخر يجوز، وقد ذكر الكرخي في كتابه قريباً مما ذكر في «الأصل» : فإنه قيد الجواب بالفساد بما إذا كان المتعاقدان لا يعرفان، وفيه وله أحدهما، والصحيح من الجواب في هذه المسألة: أنهما إذا لم يبينا نيروز المجوس أو نيروز السلطان، فالعقد فاسد، وإذا بينا أحدهما وكانا يعرفان وفيه لا يفسد العقد، والبيع إلى الميلاد، فالبيع فاسد، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : فإن كان المراد ميلاد البهائم، فالجواب على ما أطلق في الكتاب؛ لأنه مما يتقدم ويتأخر، وإن كان المراد ميلاد عيسى عليه السلام، فما ذكر من الجواب محمول على ما إذا لم يعرفا.
وفيه: إذا باع من آخر شيئاً بألف درهم، وهما ببخارى على أن يوفيه الثمن بسمرقند مثلاً لا يجوز، ولو باعه بألف درهم إلى شهر على أن يوفيه الثمن بسمرقند يجوز سواء كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة أو كان شيئاً لا حمل له ولا مؤونة.(6/405)
ولو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى على أن يوفيه مثلها بسمرقند، أو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى إلى شهر على أن يوفيه مثلها بسمرقند لا يجوز، فقد فرق بين الاستقراض وبين البيع فيما إذا شرط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً.
والفرق: أن الأجل في القرض لا صحة له، معلوماً كان الأجل أو مجهولاً، فصار ذكر الأجل وعدمه بمنزلة، ولو لم يشترط الأجل في القرض، وشرط أن يوفيه بسمرقند لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة، وفي باب البيع الأجل المعلوم صحيح، وبيان مكان الإيفاء مع الأجل لا يفسد العقد.
والفقه: أنه إذا ذكر أجلاً معلوماً مع بيان مكان الإيفاء لا يكون شرط الإيفاء في ذلك المكان على وجه التأجيل، وإنما يكون تخصيص القبض بذلك المكان، فلا يفسد العقد، وأما إذا لم يذكر مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً كان ذكر بيان الإيفاء على وجه التأجيل، وإنه يفسد العقد؛ لأنه أجل مجهول؛ لأنه لا يدري في أي قدر من المدة يأتي سمرقند، فيكون أجلاً مجهولاً، ثم إذا صح العقد مع الأجل المعلوم، وحل الأجل، فإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء باتفاق الروايات.
وإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة، فعلى ما أشار إليه في بيوع «الأصل» وهو رواية الطحاوي عن أصحابنا لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء، وعلى رواية كتاب الأجارات وكتاب الصرف يطالبه في أي مكان شاء، ويلغو شرط الإيفاء في ذلك المكان؛ لأنه إنما يراعي من الشرائط ما لا يفسد، ولا يفيد وتعيين مكان الإيفاء إذا لم يكن له حمل ومؤونة.
فإن قيل: على رواية كتاب الأجارات (63أ3) وكتاب الصرف إذا لغى هذا الشرط إذا لم يكن للثمن حمل ومؤونة ينبغي أن يصح البيع إذا لم يشترط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً.
قلنا: يجب بهذا الشرط شيئان تأخير المطالبة إلى أن يأتي سمرقند، وتعيين سمرقند مكان الإيفاء لا يفيد فيما ليس له حمل ومؤونة، فأما في أن يتأخر المطالبة إلى أن يأتي سمرقند مفيد، فإن من عليه ينتفع به، فيعتبر هذا الشرط في حق تأخير المطالبة إن لم يعتبر في حق تعيين مكان الإيفاء.
وفي «القدوري» : إذا لم يذكر في الثمن أجلاً فسد العقد، وفي قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن القياس أن يجوز العقد؛ لأن هذا الكلام عادة يذكر لتخصص القبض بمكان لا للتأجيل، فإذا أمكن الحمل على وجه الصحة لا يحمل على وجه الفساد، ولكنه استحسن فيما له حمل ومؤونة أن يفسد العقد؛ لأن الثمن لا يجب في غير ذلك المكان، فيعتبر في معنى التأجيل، فأما فيما ليس له حمل ومؤونة لا يفسد العقد؛ لأن فيما لا حمل له ولا مؤونة يطالبه حيث شاء، فلا يصير شرط التسليم في مكان معين في معنى التأجيل بل يلغو ذكر الشرط، ويصير كأنه أطلق العقد.(6/406)
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن اشتراط إيفاء الدراهم في حق عقد البيع في بلد آخر لا حكم له إن كان له حمل ومؤونة، أو لم يكن، وله أن يأخذه بها إذا حل أجلها حيث تعين وللمطلوب أن يقتضيه حيث تعين، وإن كره ذلك الطالب، وإن لم يكن للمال أجل فهو سواء في القياس غير أني أستحسن إذا فسد البيع إذا كان له حمل ومؤونة للشرط الذي فيه من الحمل والمؤونة.
وفي «مجموع النوازل» : رجل باع من آخر ثوباً بعينه ببغداد على أن يوفي المشتري الثمن أخ البائع بسمرقند، فالبيع فاسد؛ لأنه توهم اشتراط الثمن لغير البائع، وهو الأخ، واشتراط الثمن لغير البائع، أو على غير المشتري يوجب فساد البيع، وإن صورنا المسألة فيما إذا كان الثمن للبائع، والأخ وكيله بالقبض فالبيع فاسد أيضاً؛ لأن فيه أجلاً مجهولاً على نحو ما بينا.
وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بألف درهم على أن ينقده خمسمئة عند مضي شهر، فقال البائع: أنا أطلب منك جميع الثمن قال: البيع فاسد لجهالة الأجل؛ لأنه لا يدري ماذا يمكنه تسليم عند كل أسبوع؟ وفيه نظر؛ لأن هذا بمنزلة ما لو باع على أن نصف الثمن مؤجل إلى شهر، والنصف بعد ذلك جائز فهاهنا كذلك.
وفي «المنتقى» : إذا باع عبداً على أن يؤدي ثمنه يوم القيامة، فقال المشتري: أودي الثمن في الحال جاز البيع.
نوع آخر
إذا باع من آخر شخصاً على أنها جارية، وأشار إليه، فإذا هو غلام فلا بيع بينهما، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله.
والقياس: أن ينعقد البيع، ويكون للمشتري الخيار، الأصل في هذه المسالة وما يجانسها أن الإشارة مع التسمية وإذا اجتمعتا في العقد فوجد المشار إليه على خلاف المسمى إن كان الخلاف من حيث الجنس، فالبيع باطل حتى إن من باع من آخر فصاً على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج كان البيع باطلاً؛ لأن المشار إليه من خلاف جنس المسمى؛ لأن الزجاج من خلاف جنس الياقوت، وإنما كان البيع باطلاً في هذه الصورة؛ لأن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى وتلغو الإشارة، فإذا كان المسمى معدوماً كان المبيع معدوماً، والبيع على المعدوم باطل، وإنما كانت العبرة بالتسمية في هذه الصورة إذ لا يتمكن العمل بالإشارة والتسمية معاً في هذه الصورة؛ لأن الإشارة توجب تعلق العقد بالمشار إليه، وهو الزجاج، والتسمية توجب تعلق العقد بالمسمى وهو الياقوت، والعقد الواحد لا يجوز أن يتعلق بالياقوت والزجاج بكل واحد منهما على الإنفراد في وقت واحد، فلابد من العمل بأحدهما، وإلغاء الأخرى، فنقول: العمل بالتسمية وإلغاء الإشارة أولى من العمل على العكس؛ لأن الإشارة مع التسمية إن استويا من حيث إن التسمية كما يقطع الشركة بين المسمى وغيره من خلاف الجنس، ومن حيث إن التسمية إن كانت تعرف الماهية، والإشارة لا تعرفها،(6/407)
فالإشارة تقطع الشركة بين المشار إليه وغيره من جنسه، والتسمية لا تقطع الشركة بين المسمى وبين غيره من جنسه، فاستويا من هذا الوجه؛ إلا أن ما في التسمية من تعريف الماهية فوق ما في الاشارة من التعريف بقطع الشركة بين المشار إليه، وبين غيره من جنسه؛ لأن الماهية مقصودة لعينها.
وقطع الشركة بين المشار إليه وبين غيره من جنسه مقصود لا مكان التسليم لا لعينه، ولا شك أن المقصود لعينه فوق المقصود لغيره، فترجحت التسمية على الإشارة من هذا الوجه، فوجب العمل بها دون الإشارة عند تعذر العمل بهما والتقريب ما ذكرنا.
وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنه يخالفه في الصفة، فالعقد جائز، وللمشتري الخيار إذا رآه كما لو اشترى فصاً على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو ياقوت أصفر، فالبيع جاز، وللمشتري الخيار، إذا رآه؛ لأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة؛ لأن المسمى وجد في المشار إليه، وهو المقصود من التسمية وهو تعريف الماهية قد حصل؛ لأن المشار إليه ياقوت كالمسمى، فصار حق التسمية بعضاً بقيت الإشارة لتعيين الذات؛ لأن المسمى شائع في الجنس، والإشارة تعينه، فكان في الإشارة زيادة تعريف في هذه الصورة، فكانت العبرة للإشارة حال اتفاق الجنس، وتلغو التسمية، فكأنه أشار في البيع، ولم يسم، وهناك ينعقد على المشار إليه فهاهنا كذلك إلا أنه يثبت للمشتري الخيار؛ لأنه شرط له زيادة وصف في المشار إليه حيث قال: على أنه أحمر كأنه قال من الابتداء: بعتك هذا على أنه أحمر، فإذا وجده أصفر، فقد فات الوصف المذكور في المشار إليه، فلهذا كان له الخيار، وصار كما لو قال: بعتك هذا على أنه كاتب أو خباز، ولم يسم العبد فوجده غير كاتب، وغير خباز، وهناك يجوز العقد، ويكون للمشتري الخيار، وكذا هاهنا إذا ثبت هذا، جئنا إلى بيان مسألتنا، وأنها على القياس والاستحسان.
وبيان وجه الاستحسان: أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان؛ لأن اختلاف المجانسة بين الشيئين باختلاف الصورة، والمقصود في بني آدم مختلفة، وهذا ظاهر كذلك المقصود مختلف، فإن ما ينبغي من الذكر من الزراعة والجهاد لا ينبغي من الأنثى من الغزل والطبخ والاستفراش لا ينبغي من الذكر، وصار كالمروي مع الهروي، وكان كالزندنجي مع الوداري اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف الصورة والمقصود، وكذا هاهنا، وإذا ثبت أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان يتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم فكان البيع باطلاً.
ولو اشترى شاة على أنها نعجة، فإذا هي ضأن فالبيع جائز؛ لأن الذكر مع الأنثى في البهائم جنس واحد؛ لأن الصورة، وإن كانت مختلفة فالمعنى واحد؛ لأن ما ينبغي من الذكر من العمل والأكل ينبغي من الأنثى، وفي منفعة الولاد يشتركان والمقصود راجح على الصورة، فترجح ما يوجب اتحاد الجنس، فجعلنا الجنس واحداً، وقد ذكرنا أن في الجنس الواحد العبرة للإشارة كأنه أشار ولم يسم، وهناك ينعقد العقد كذا هاهنا، ثم ما(6/408)
ذكرنا أن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى (63ب3) فذلك إذا لم يعلم المشتري والبائع أن المشار إليه من خلاف جنس المسمى، فأما إذا علما بذلك، فالعقد يتعلق بالمشار إليه.
ألا ترى أن من قال لغيره: بعتك بعت منك هذا الحمار، وأشار إلى عبد قائم بينهما ينعقد العقد على العبد؟ وكذلك إذا قال لغيره: اشترِ لي بهذه الألف درهم جارية، وأشار إلى الدنانير وفي «الزيادات» ذكر مسألة الوكالة، وشرط لتعليق الوكالة بالمشار إليه، فعلم الوكيل والموكل بالمشار إليه، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه بحال المشار إليه.
ومن هذا الجنس
لو باع داراً على أن بناءها آجر، فإذا هو لبن فالبيع باطل، الأغراض والمقاصد تتفاوت تفاوتاً فاحشاً فيلتحق بالجنس المختلف، فيتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم، ولو باع داراً على أن فيها بناء، فإذ لا بناء فيها فالبيع جائز، والمشتري بالخيار، ويأخذها بجميع الثمن إن شاء، وفي المسألة نوع إشكال، فإن انعدام الوصف أقوى من اختلاف الوصف، ثم اختلاف الوصف في المسألة الأولى منع انعقاد البيع، وعدم الوصف في المسألة الثانية لم يمنع.
والوجه في ذلك: أن في المسألة الأولى بين الموجود والمذكور تفاوت فاحش في الأغراض، وباعتبار فحش التفاوت التحقا بالجنسين المختلفين، فلا يدخل الموجود تحت المذكور، فلو أوجبنا العقد في الموجود، فقد أوجبناه في غير ما تناوله الذكر، وإنه لا يجوز، فأما اسم الدار فيتناول العرصة بانفرادها أيضاً، فإذا انعدم البناء لو أوجبنا العقد في العرصة، فقد أوجبناه فيما تناوله الذكر، فلهذا افترقا، فهذا غاية ما قيل في الفرق بين المسألتين ولم يتضح لنا وجه.
وذكر الخصاف: إذا اشترى داراً على أنها مبنية بالجص أو منتفعة بالساج، فكان بخلافه، أو كان معدوماً، فالبيع جائز، وكذا النخل على أنه دقل بخلاف الزرع على أنه حنطة، فإذا هو شعير، ولو باع جبة على أن ظهارتها كذا، وبطانتها كذا، أو حشوها كذا، فوجد الظهارة على ما شرط والبطانة والحشو على خلافه فالبيع جائز، ويتخير المشتري، وهذا لأن الجبة ينسب إلى ظهارتها ويعرف بها فهي الأصل، والبطانة والحشو تبع، فإذا وجد الظهارة على خلاف ما سمي جنساً كان المسمى معدوماً، فيقع العقد باطلاً، وإذا كانت الظهارة على وفاق ما سمي جنساً لم يكن المسمى منعدماً، فجاز أن ينعقد العقد.
وروي أن الظهارة إذا كانت أقل قيمة مثل أن يكون البطانة وبراً أو سموراً، والظهارة من كرباس، أو ما أشبهه، أن العقد لا يبطل، وإذا باع قباء على أن بطانته هروي، فإذا هي مروي، فالبيع جائز، ويتخير المشتري؛ لأن البطانة تبع، فالاختلاف يوجب الخيار، ولا يمنع الانعقاد، وكذا إذا قال: على أن حشوه قز، فإذا هو قطن، ولو باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو مصبوغ بزعفران فالبيع باطل؛ لأن الأغراض تتفاوت بتفاوت اللون تفاوتاً فاحشاً، فاختلفتا كالجنس المختلف.(6/409)
ذكر القدوري المسألة على هذا الوجه، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وأشار محمد إلى العلة فقال: لأنه باع مافي الثوب من الصبغ كما باع الثوب وشرط ذلك الصبغ عصفر، وتبين أنه غيره وهو شيء قائم في الثوب.
وفي «المنتقى» : إذا باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو أبيض فالبيع جائز، ويتخير المشتري إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
في «البقالي» : وهذا بخلاف بيعه أبيض، فإذا هو مصبوغ حيث لايجوز.
قال في «البقالي» : وكذلك شراء الدار على أن لا بناء فيها، فإذا فيها بناء يريد أن هذا وبيع الثوب على أنه أبيض، فإذا هو مصبوغ سواء حتى لايجوز، وإذا باع أرضاً على أن فيها نخيلاً وأشجاراً، فإذا ليس فيها نخيل وأشجار فالبيع جائز، ويتخير المشتري كما لو باع داراً على فيها بناء، فإذ لا بناء فيها، وإذا باع أرضاً بنخيلها وأشجارها فهذا وما لو باعها على أن فيها نخيلاً وأشجاراً سواء، وكذا إذا باع داراً بسفلها وعلوها، فإذ لا علو لها كان للمشتري الخيار؛ لأنه قال: بسفلها وعلوها، فكأنه قال: على أن لها علواً، وهناك للمشتري الخيار كذا هاهنا.
وإذا قال: بعتك هذه الدار بأخداعها وأبوابها وخشبها، فإذا ليس فيها أخداع ولا أبواب ولا خشب فهو بالخيار، وإن كان فيها بابان أو خدعان، فلا خيار له؛ لأن اسم الجمع يتناول اثنين فصاعداً، فقد وجد أدنى ما ينطلق عليه الاسم أنه كاف لإسقاط الخيار، ولو كان فيه باب واحد وخدع واحد فله الخيار؛ لأن اسم الجمع لا ينطلق على الواحد.
ولو قال: بعتكها بما فيها من الأخداع والأبواب والخشب والنخل، فلم يجد شيئاً من ذلك فلا خيار له؛ لأن في هذه الصورة لم يشترط هذه الأشياء في البيع، ولا جعلها صفة للبيع بل أخبر على وجودها فيه، وانعدام ما ليس بمشروط في البيع ولا صفة للمبيع لايوجب الخيار، أما في قوله: بأخداعها وأبوابها جعل هذه الأشياء صفة للدار، فالبيع يتناول الموصوف بصفة، فإذا لم يجده بتلك الصفة يثبت الخيار ضرورة هذه الجملة من «المنتقى» .
وفيه أيضاً: إذا اشترى أرضاً على أن فيها كذا نخيلاً، أو اشترى داراً على أن فيها كذا بيتاً، أو اشترى سيفاً على أنه محلى بمئة درهم فضة، أو اشترى نعلاً على أنها مشركة بشراك، أو خاتماً على أن له فصاً من ياقوت، أو فصاً على أنه مركب في حلقة، فإذا لا نخيل ولا شراك ولا بيوت إلخ أفكانت هذه الأشياء كما شرطت، فاحترق النخيل، وانهدمت البيوت، وتلف الشراك وأشباه ذلك قبل القبض، فالمشتري بالخيار في هذه الصورة إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء ترك إلا في خصلة، وهو ما إذا اشترى فصاً على أنه مركب في حلقة ذهب، فلم توجد الحلقة، فإن هذه الصورة للبيع فاسد؛ لأن(6/410)
للحلقة حصة من الثمن، ولا يعرف الحصة أما فيما عدا ذلك، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
والجملة في ذلك أن كل شيء يباع، ويدخل غيره في البيع تبعاً من غير ذكر ذلك الغير، فإذا بيع ذلك الشيء وشرط ذلك الغير معه في البيع، ووجد ذلك الشيء، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك الشيء بجميع الثمن، وإن شاء ترك، بيانه في النخيل مع الأرض، فإن النخيل يدخل في البيع في بيع الأرض من غير ذكر تبعاً للأرض، فإذا شرط النخيل مع الأرض، ولم يوجد النخيل، فالمشتري يأخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكل شيء يباع ولا يدخل غيره في بيعه تبعاً له من غير ذكر، فإذا بيع ذلك الشيء، وشرط غيره معه في البيع، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري يأخذ ذلك الشيء بحصته.
وذلك نحو أن يشتري أرضاً فيها نخيل، وشرط الثمن مع النخيل، فإذا لا تمر في النخيل، أو كان فيها تمر إلا أنه هلك قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض والنخيل بحصتها من الثمن وعن هذا قلنا: إذا اشترى أرضاً فيها زرع، وشرط الزرع، فاحترق الزرع قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض بحصتها من الثمن.
وإذا قال: بعتك هذا الثوب القز أو الخز فكان مختلطاً، فإن كان السدى ناشر مما شرط واللحمة من غيره، فالبيع باطل، وإن كانت اللحمة مما شرط فالبيع جائز، وتخير المشتري في فصل القز، وهذا لأن الثوب إنما يصير ثوباً بتركيب اللحمة بالسدى واللحمة آخرهما، فيضاف الثوب إلى اللحمة على خلاف المشروط كان المسمى معدوماً، فلا يصح العقد، فأما إذا كانت اللحمة من جنس المسمى كان المسمى موجوداً، ولكن اختلفت الصفة (64أ3) فانعقد البيع لوجود المسمى وثبت الخيار لفوات الصفة، وفي الخز لا خيار للمشتري إذا كانت اللحمة خزاً، والسدى من غيره؛ لأن الخز لا يوجد إلا بهذه الصفة.
قال بشر: سألت أبا يوسف: عن رجل اشترى من آخر ثوباً على أنه كتان، فإذا ثلثه قطن فله أن يرده، وإن قطعه لم يرجع بشيء، ولو كان أكثره قطناً فالبيع فاسد، وإذا اشترى عبداً على أنه فحل، فإذا هو خصي، فللمشتري أن يرده، وإذا اشتراه على أنه خصي، فإذا هو فحل روى الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا خيار له قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: الخصى في العبد عيب، فإذا شرط فإنما يبرأ عن العيب، وقال أبو يوسف الخصى في ثمنه أفضل من الفحل لرغبة الناس فيهم؛ لأنهم لا يمتنعون عن دخولهم كما يمتنعون عن دخول الفحل، قال: وهو في القيمة زيادة.
ولو اشتري على أنه فحل، فإذا هو خصي، وقد مات عند المشتري، أو حدث به عيب عنده، وقد اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وقيمته فحلاً ألف درهم، قال محمد رحمه الله: في قياس أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يلزمه شيء؛(6/411)
لأن الخصي هاهنا أفضل قيمة من الفحل، وقال محمد: إن شاء البائع أعطاه قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وأخذ منه عشرة آلاف درهم الثمن، معناه إن رضي البائع أن يأخذ من المشتري قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم أعطاه المشتري ثلاثة آلاف درهم، وهذا لأن العبد لو كان قائماً كان للمشتري أن يرده على البائع، ويسترد منه الثمن، فإذا كان هالكاً رد قيمته ليكون رد للعبد معنىً غير أنه يشترط رضى البائع؛ لأن البيع ورد على صورة العبد بمعناه وتعذر رد الصورة.
وفي «نوادر بشر عن أبي يوسف» : إذا اشترى سفينة على أنها من ساج، فإذا فيها غير الساج، قال: إن كان شيئاً لا بد من أن يكون، فلا خيار له وهو بجميع الثمن، يريد بهذا: أنه إذا استعمل فيها شيء من غير الساج لا يصلح ذلك الشيء إلا من غير الساج، ولو كان كل السفينة غير الساج فلا بيع بينهما.
وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً: في رجل قال لغيره: بكم هذا الثوب الهروي والثوب مصبوغ صبغ الهروي؟ فقال: بكذا فبايعه، قال أبو حنيفة: هو مثل الشرط أنه هروي، وهو قول أبي يوسف، يريد بهذا أنه لو تبين أنه مروي كان البيع باطلاً قال أبو يوسف: ألا ترى أنه لو قال لغيره: بكم هذا الغلام، وهو مشكل فبايعه، فإذا هو جارية أنه لا يقع بينهما بيع، وعن شريح أنه لم يجعله شرطاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة على أنها عشرة أرطال وزنها على المشتري، فوجد في بطنها حجراً وزنه ثلاثة أرطال ونحو ذلك، والسمكة على حالها، فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان قد شواها قبل أن يعلم بذلك، فإني أقوم السمكة على أنها عشرة أرطال وأقومها وهي سبعة أرطال، فيجمع بحصته ما بينهما من الثمن، فقد اعتبر محمد نقصان الوزن في السمكة بالعيب حتى قال: يقوم السمكة عشرة أرطال، ويقوم سبعة أرطال وهذا هو ذات العيب، ولم يعتبر نقصان العيب بنفسه إذ لو اعتبر ذلك لقال: يرجع بثلاثة أعشار الثمن، وعن أبي يوسف أنه قال في هذه الصورة: المشتري لا يرجع على البائع بشيء وإن وجد في بطنها طيباً أو ما أشبهه ذلك مما يأكل السمك، فإن ذلك مما يأكل السمك لزمه البيع، ولا خيار.
وقال محمد فيمن اشترى طشتاً على أنه عشرة أمناء فقبضه، فإذا هو خمسة أمناء فهو بالخيار، وإن شاء أمسكه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، قال: وهذا بمنزلة العيب، وإن كان حدث بها عيب عند المشتري، وأبى البائع قبوله لأجل العيب، فإنه ينظر إلى الطشت، فإن كان قيمة الطشت على عشرة أمناء عشرون، والعيب ينقصه على قيمة خمسة أمناء درهم، فإنه يرجع على البائع بنصف الثمن لنقصان الوزن، ويرجع أيضاً بعشر الثمن لأجل العيب، وذلك درهم؛ لأن العيب قد ينقصه درهماً.
وإذا قال لغيره: أبيعك هذا الزق وهذا الزيت الذي فيه على أن الزق خمسون رطلاً، وعلى أن الزيت خمسون رطلاً كل رطل منها درهم، فوجد الزق ستين رطلاً،(6/412)
والزيت أربعين رطلاً، فإن الثمن ينقسم على قيمة الزيت، وعلى قيمة الزق، ثم يزاد على الثمن حصة العشرة الآرطال التي وجدها ناقصة عن الزيت، ثم يقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع؛ لأن الزق قد وقع البيع على جميعه.
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى مسكاً وزناً، فوجد فيها رصاصاً، فهو بالخيار إن شاء رد الرصاص وحط عن الثمن بقدر وزن الرصاص، وإن شاء ترك، وإذا اشترى سمناً وزناً، فوجد فيه زبأ، قال محمد: إذا كان زبأ يوجد مثله في السمن، ولا يعد عيباً لزمه بجميع الثمن، وإن كان يعد عيباً، فإن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان زبأ لا يكون مثله في السمن، فإن شاء أخذ بحصته، وإن شاء ترك.
وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في الثمار التي في السلال، وفي أسفلها الحشيش: إن الحشيش إذا كان قدر ما يوضع في مثله أنه لاخيار له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: في الزيت يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري الطين، أو المسك يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري رصاصاً إن المشتري بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وقال ابن أبي ليلى: يرد الرصاص والطين وما أشبه ذلك بحسابه، وكذلك قال أبو يوسف في الرصاص والطين؛ لأن الرصاص ليس من المسك، والطين ليس من الزيت، فيردهما وأمثالهما بالحساب، وأما السمن يبيعه الرجل فيجد فيه زبأ يكون ذلك عيباً فيه، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك؛ لأن هذا منه، وكذلك العود يشتريه الرجل على أنه هندي، فإذا هو غير هندي، قال: ولا أنظر في هذا إلى اليسير منه، وإنما أضع هذا على الكثير، فإذا كان في الكثير لايجب عليه أن يرده لم أمض عليه ذلك في اليسير.
وفي «الإملاء» عن محمد: إذا باع الفص دون الفضة وقلعه يضر بالفص دون الفضة أو يضر بهما، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بحصته من الثمن على قيمته غير ناقص وعلى قيمته ناقصاً لم يبطل عن المشتري حصة النقصان من الثمن، ويكون المشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بما بقي من الثمن، وإن شاء ترك، قال: ولا يشبه هذا شراء الفص والفضة جميعاً إذا صار قلع أحدهما يضر بالآخر، أو يضر بهما؛ لأن ذلك صرف إذا بطل بعضه بطل كله، والأول ليس بصرف إنما باعه الفص وحده، وإنما بطل البيع فيه بالضرورة، فإذا اندفعت الضرورة، أو رضي صاحبها جاز البيع.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى من رجل خشبة في حائط يضر قلعها بالبائع إن يقلعها، وإن يبطل البيع، فإن لم يبطله حتى قلع البائع الخشبة سلمت الخشبة للمشتري إلا أن يكون القلع ينقصها ويضر بها، فيكون المشتري بالخيار على ما وصفت لك بالقبض في الفص.
إذا اشترى كفرى فصار تمراً قبل أن يقتضيه، أو اشترى بيضاً فخرج هاهنا فرخ قبل القبض، فهو بالخيار.
قال رحمه الله: إذا قال للقصاب: زن لي من هذا اللحم ثلاثة أرطال بكذا، فقطعه ووزنه فللمشتري الخيار؛ لأن هذا ليس بشيء معلوم ومعناه أن موضع اللحم يتفاوت،(6/413)
فكان أن لايرضى بهذا، وإن قال: زن لي من هذا الجنب، أو من هذه الرجل ثلاثة أرطال بكذا، فوزن له منه، فلا خيار له؛ لأن اللحم من موضع معين من الشاة قلما يتفاوت، فهو بمنزلة ما لو اشترى قفيزاً من صبرة.
ولو قال: زن لي ما عندك من هذا اللحم على (64ب3) حساب ثلاثة آرطال بدرهم، فهو جائز، ولا خيار له قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في هذه المسالة مثل ما قال محمد.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد: رجل اشترى من آخر جراب ثياب هروي أو غيرها، أو اشترى قوصرة تمر فلم يقبضها حتى عمد البائع، وأخرج الثياب من الجراب، وأخرج التمر من القوصرة، ثم باع الجراب أو القوصرة، وترك التمر أو الثياب، أو لم يبع الجراب والقوصرة، ولكنه انتفع بها قال: المتاع والتمر لازم للمشتري وليس له أن يمتنع عن الثياب والتمر لمكان الجراب والقوصرة.
اشترى جارية بكراً ولم يسم البائع أنها بكر، فزالت بكارتها في يد البائع، فللمشتري الخيار، وقد ذكرنا وجه ذلك في فصل الخبازة.
وإذا اشترى من آخر رمان على أنها حامضة، فقال بعد الشراء من غير أن يكسرها: إنها حلوة وقال البائع: إنها حامضة، فالقول قول البائع؛ لأن الرمانة قد يكون حلوة وقد يكون حامضة، وروي في الحلو بخلاف هذا، فقد روي أن من اشترى من أخر رمانة على أنها حلوة، ثم اختلفا فيه، فالقول قول المشتري، وعلى البائع أن يوفيه شرطه، والمسألتان في بيوع «المنتقى» .
إبراهيم عن محمد: إذا اشترى من آخر من بر، فإذا فيه وكان عظيم أو باع بئراً من بر وقال: إنه كذا كذا ذراعاً، فإذا هو أقل من ذلك، وقد أكل بعض البر، فنقول: حكم المسألة قبل أكل شيء من البر أن المشتري بالخيار، وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك، وبعد أكل شيء من البر للمشتري أن يرد الباقي ومثل ما أكل، ويرجع بجميع الثمن، وروي هشام عن أبي يوسف مثل ماروي إبراهيم عن محمد.
قال: ولو كان طعاماً في قفيز أو في حب، فباعه بعشرة دراهم، فإذا نصفه بين قال: يأخذه بالثمن وأشار إلى الفرق، فقال: لأن القفيز والحب وما يكال بهما، ألا ترى لو قال: بعت منك ملاء هذا القفيز أو ملاء هذا الحب يجوز والبيت والبئر ما يكال بهما ولا يشتري بهما.
وإذا باع داراً على أنها ألف ذراع فكانت تسعمائة، فباعها المشتري قال: إن لم يرجع على الأول فالأول لا يرجع على صاحبها، وإن رجع الآخر عليه رجع هو أيضاً.
قيل: يجب أن يكون تأويل المسألة: أن المشتري باعها قبل أن يعلم أنها تسعمائة، أما لو علم أنها تسعمائة وباعها كذلك، فلا رجوع له على صاحبه، وإن رجع المشتري الآخر عليه.
وعلى هذا إذا اشترى طشتاً أو ملئها، اشترى حبة لؤلؤة وشرط لها وزناً وتقابضا،(6/414)
ثم وجدها ناقصة وقد استهلكها، قال: لا يرجع عليها بشيء في قياس قول أبي حنيفة، ولكنه استقبح ذلك قياسه فيه؛ لأن نقصان اللؤلؤة يحط من الثمن شيئاً كثيراً، وجعل له أن يرجع بالنقصان.
إذا اشترى بستاناً فيه نخل وشجر وشرط له أنه عشرة أجربة وقبضه بغير مساحة، وأكل ثمره سنين، ثم وجد تسعة أجربة لم يرد، ولم يرجع الباقى في قياس قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يقوم هذا الجرب الناقص أرضاً بيضاء مثل بقية أرض البستان، ويقوم النخل والتمر والشجر، ثم يقسم الثمن على ذلك، فما أصاب الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص يقوم مراحاً ولا يغير النخل والشجر في التقويم، روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة أيضاً: أنه لا يرجع بشيء، وذكر بعد هذا محمد فيمن اشترى أرضاً فيها نخل وكرم على أنها عشرة أجربة، وأكل ثمرها سنين، ثم تبين أنها خمسة أجربة قال: يقوم هذه الأرض وهي خمسة أجربة بكم تساوي، ولو كانت عشرة أجربة في مثل حالها بكم تساوي، فيرجع بفضل ما بينهما.m
وإذا اشترى أرضاً بزرعها، فحصد المشتري الزرع، ثم وجد الأرض انقص جراباً مما اشترى أنه يرد الأرض بحصتها.
رجل معه قفيزان من حنطة في زنبيل، فباع قفيزاً من رجل بدرهم، ولم يبقض حتى باع من آخر قفيزاً منه بدرهم، ثم هلك أحد القفيزين، فالمشتريان بالخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف القفيز الباقي بنصف الثمن، وإن شاء ترك أحدهما حصته، فإن أراد الآخر أن يأخذ القفيز كله بدرهم، فليس له ذلك إلا إن شاء البائع من قبل أنه كان وجب للثاني قيمة نصفه، فإن قبض المشتري الآخر قفيزاً، أو لم يقبض الأول شيئاً، يريد به إذا لم يهلك أحد القفيزين، ثم إن المشتري الآخر رد ذلك القفيز على البائع بعيب بقضاء قاضي، فليس للمشتري الأول في القفيز المردود شيء إنما له أن يأخذ القفيز الثاني، أو يترك، فإن خلط البائع أحد القفيزين بالآخر انتقض بيع الأول من قبل أن البيع صار له في الباقي، وقد صار البائع له مستهلكاً حين خلطه بغيره، وإن لم يخلطه البائع، وقد كان قد رد عليه بعيب بقضاء قاضي، وليس بالقفيز الباقي عيب، فأراد المشتري الأول أن يأخذ القفيز الباقي دون المردود، فأبى البائع إلا أن يأخذ نصف كل واحد منهما، فذلك للبائع من قبل أن القاضي يقضي البيع فيه.
فصار بمنزلة ما لم يبع، فلو هلك القفيز الباقي عنده، وبقي المردود الذي به عيب، فأراد المشتري الأول تركه، فذلك له من قبل أن الهالك لم يكن به عيب، وإن أراد أخذه كله فله ذلك، وإن شاء أن يأخذ نصفه فعل، ولو كان القفيز الهالك هو المردود الذي به عيب، والقفيز الباقي هو الأول الذي لم يكن به عيب، فللمشتري أن يأخذ نصفه، وليس له أن يأخذ كله، وإن سلم البائع كله فللمشتري أن يمتنع.(6/415)
رجل عنده كر حنطة، فباع نصفه من رجل، ثم باع النصف الباقي من رجل، ثم قبض الأول منه مختوماً، ثم هلك نصفه وبقي نصفه، فالمختوم الذي قبض الأول له إن شاء، ويأخذ مما بقي بحصة ذلك، والآخر بحصة ما بقي يضرب فيه الأول بنصف كر المختوم ويضرب الآخر بنصف كر، ولا بيع شركة للثاني في المختوم الذي قبضه الأول.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل اشترى من آخر جارية على أنها عذراء، وقبضها وماتت في يده، ثم علم أنها لم تكن عذراء لا يرجع على البائع بشيء سواء كان ذلك ينقصها أو لا ينقصها، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقدر نقصانها.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً: رجل اشترى من آخر داراً على ألف ذراع بألف درهم، فوجدها تنقص قال: له أن يردها، فإن كانت قد انهدمت في يده، أو باعها، ثم علم أنها تنقص لم يرجع بشيء من النقصان، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بالنقصان، فيقوم الدار على ما فيها من البناء، ويقوم الذراع الناقص على قيمة مراحاً.
اشترى أرضاً بحقوقها أو بشربها وللبائع أراضي مثلها، فإنه يقسم الشرب بينهم بالحصص، وإن لم تكف هذه الأرض ما يصيبها، فللمشتري الخيار إن شاء أخذ هكذا ذكر في «المنتقى» .
وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر حنطة واكتال بعضه، فرأى في البقية اختلاط وليس بعيب إلا أنه (65أ3) ينقص ذلك من الثمن قال أبو يوسف: هو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، فإن استهلك منها شيء لم يكن له أن يرد.
وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا اشترى خمسمئة قفيز حنطة، فوجد فيها تراباً، فإن كان التراب مثل ما يكون في الحنطة ولا يعده الناس عيباً ليس له أن يرد ولا يرجع بنقصان العيب، وإن كان التراب مثل ما لا يكون في الحنطة، ويعده الناس عيباً كان له أن يرد كل الحنطة مع التراب، فإن ميز التراب عن الحنطة فإن أمكنه أن يرد كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله الرد، وإن كان لا يمكنه ذلك انتقص بالتنقية ليس له الرد، وكذا الجواب فيما كان نظير الحنطة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل اشترى من آخر ثوباً، ثم جاء يرده وقال: اشتريت على أنه هروي وليس بهروي وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع؛ لأن المشتري قد أقر بالبيع، فلا يصدق على ما يرد به البيع.
وكذلك لو اشترى دهناً في إناءٍ بعينه، ثم جاء يرده، وقال: اشتريته على أنه جري وهو ينفسخ، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع، ولو قال: اشتريت على(6/416)
أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، وإنما بعتك كما هو، فإنهما يتحالفان.
رجل اشترى طعاماً على أنه كر فمات المشتري قبل أن يكتاله فاكتاله الوارث فنقص قال: الورثة بالخيار إن شاءوا أخذوه، وإن شاءوا تركوه، قال أبو العباس: وروي عن محمد: أن الوارث بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك.
رجل اشترى أرضاً بشربها، فإذ لا شرب لها، فأراد المشتري أن يأخذ الأرض بحصتها، ويرجع على البائع بحصة الشرب من الثمن، فإن له ذلك، وإذا باع شجرة بأصلها وفي قلعها ضرر على البائع، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما فوق الأرض منها بقيمته، وإن شاء ترك. وعن محمد أنه قال: للبائع أن لا يسلمها، فإن قلعها المشتري ضمنها له.
الحسن بن زياد في الاختلاف: مسلم اشترى من مسلم شاة فماتت في يد البائع، فسلخها البائع ودبغ جلدها، قال أبو يوسف رحمه الله: المشتري بالخيار إن شاء أخذ الجلد بحصته من الثمن، وإن شاء ترك، وقال: يقسم الثمن على قيمة اللحم لو كان ذكياً، وعلى قيمة الجلد ذكياً غير مدبوغ، ولا ينظر إلى ما زاد الدباغ في قيمته.
نوع آخر إذا حصل البيع بشرط الكيل أو الوزن أو الذرع
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل طعاماً مكايلة، وقبضه، فإنه لا يأكله، ولا يبيعه، ولا ينتفع به حتى يكيله، وكذلك إذا كان البائع ابتاعه واكتاله من بائعه بحضرة المشتري لم يجز له أن يقتصر على ذلك الكيل ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً، هذا هو لفظ القدوري، يريد بهذا أن من اشترى طعاماً مكايلة، وباعه من آخر مكايلة، واكتال البائع الثاني من بائعه بحضرة المشتري الثاني لا يجوز للمشتري الثاني أن يقتصر على ذلك الكيل، ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً.
والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري» والمعنى فيه: أن الكيل جعل من تمام القبض شرعاً فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في المعين مقصود عليه فيما بيع مكايلة.
ألا ترى أنه لو وجده أزيد مما سمى من القدر لا يسلم له الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا يدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت العقد، ولو وجده انقص ينقص عنه حصته من الثمن، وإذا ثبت أن القدر معقود عليه فيما يرجع بيع بشرط القدر، فنقول: القدر غير متعين قبل الكيل يجوز أن يكون مثل الكيل المشروط وأزيد منه وأنقص منه،(6/417)
وإنما يتعين بالكيل فكان للكيل حكم القبض؛ لأن الكيل تعين ما ملك غير متعين بالعقد إنما يكون بالقبض، وإذا كان الكيل يعمل هذا العمل كان للكيل حكم القبض، فكان الكيل من تمام القبض من هذا الوجه، ثم في هذه المسائل يحتاج إلى قبضين قبض البائع وقبض المشتري، فكذا يحتاج إلى كيلين.
فإن قيل: إنما أعطي الكيل حكم القبض؛ لأنه تعين ما ملك بالعقد غير متعين وهذا التعين حاصل بكيل البائع لنفسه بحضرة المشتري الثاني، فكان يجب أن لا يحتاج المشتري الثاني إلى كيل آخر كما لو استفاد من أرضه وباعها من آخر مكايلة وكان بحضرة المشتري لا يحتاج إلى كيل آخر.
والجواب عنه أن يقال: بأن الكيل أعطي له حكم القبض فيما بيع مكايلة، وإذا أعطي له حكم القبض يعتبر بالقبض الحقيقي، ففي كل موضع يحتاج إلى قبضين ولا ينوب أحد القبضين عن الآخر لا ينوب أحد الكيلين عن الآخر، وفي كل موضع يكتفى بقبض واحد يكتفى بواحد، وفيما يحتاج إذا استفاده من أرضه لا يحتاج فيه إلى أصل القبض بجواز التصرف، فلا يحتاج فيه إلى الكيل أيضاً.
وإذا اشترى من آخر حنطة مجازفة وباعه بعد ما قبضها من غيره مكايلة، فإنه يكتفى فيه بكيل واحد، وكذا إذا استقرض من رجل كر حنطة على أنه يكتفي بكيل المشتري، وأما كيل البائع المستقرض بحضرة المشتري، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراها مجازفة وباعها من غيره مكايلة؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق البائع الثاني لصحة تصرفه؛ لأن الكيل ليس بشرط لتمام القبض، فأما إذا اشترياه مجازفة؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه لا المقر له وإنه متعين قبل الكيل، وإنما يشكل فيما إذا استقرض من آخر حنطة على أنها كر، ثم باعها من غيره بشرط الكيل ويجب أن يحتاج فيه إلى كيلين؛ لأن الاستقراض يملك بعوض، فكان بمنزلة الشراء فيصير القدر معقوداً عليه متى استقرض بشرط الكيل كما لو اشتراه مكايلة.
والجواب: أن الغرض إن كان مبادلة صورة فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن ما يرد المستقرض غير المقبوض حكماً لا بدله، إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا مبادلة الشيء بجنسه لشبه وإنه حرام، وإن كان رد البدل قائماً مقام رد العين المقبوض من حيث الحكم كان الفرض تمليكاً بغير بدل من حيث الحقيقية كالهبة والوصية لم يحتج فيه إلى الكيل فكذا ههنا، بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكماً.
والشرع جعل الكيل من تمام القبض فيما ملك تبعاً بشرط المكايلة، فلهذا احتيج في الشراء إلى الكيل، ولم يحتج إلى الكيل في الاستقراض.
ولو اشترى حنطة مجازفة وباعها من غيره بعدما قبضها مجازفة أو..... حنطة من أرضه أو بالهبة وباعها مجازفة أو ملك حنطة ثمناً على أنه كر وقبضها وباعها مجازفة قبل(6/418)
الكيل فهو جائز، كذا رواه ابن سماعة عن محمد، أما إذا اشتراها مجازفة فلا إشكال فيها؛ لأن الكيل في هذه الصورة لم يجعل من تمام القبض؛ لأن المعقود عليه عين مشار إليه لا المعيار بخلاف ما إذا اشتراه مكايلة؛ لأن الكيل هناك جعل من تمام القبض، وأما إذا استفاد من أرضه أو بالهبة ولأنه ملك بغير عوض والشرع إنما اعتبر الكيل لاباحة التصرف بخلاف القياس، فيرد التبرع إلى ما يقتضيه القياس فأما إذا ملكه ثمناً، فلأن الكيل شرع لتمام القبض لإباحة التصرف فيما يحتاج فيه إلى أصل القبض لإباحة التصرف، وفي الثمن أصل القبض ليس بشرط لإباحة التصرف، فلا يكون الكيل الذي جعل من تمام القبض شرطاً لإباحة التصرف، وأما إذا اشترى مكايلة وباعه من غيره مجازفة لا قبل أن يكيله هل (65ب3) يجوز ظاهر ما أطلق محمد رحمه الله في «الأصل» يدل على أنه لا يجوز.
وذكر ابن رستم في «نوادره» : أنه إذا باعه مجازفة قبل أن يكيله جاز، ولو باعه مكايلة قبل أن يكيله لا يجوز، فصار في المسألة روايتان.
وجه رواية ابن رستم: أن القدر كما هو معقود عليه فالعين المشار إليه أيضاً معقود عليه، فمتى باعه مجازفة فقد باع العين دون القدر، والعين مقبوض فصار بائعاً ما تم قبضه فيه فيجوز، ومتى باعه مكايلة فقد باع القدر مع العين والقدر غير مقبوض قبل الكيل.
وجه ما ذكر في «الأصل» : أن القدر معقود عليه والعين معقود عليه وأحدهما مما يختار عن الآخر؛ لأن القدر صفة للعين لا يوجد بدونه، فإذا باعه مجازفة فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض؛ لأن العين الذي اشتراه مقبوض والقدر ليس بمقبوض فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض صفقة واحدة فلا يجوز البيع في الكل. وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» خلافاً في هذا الفصل بين أبي يوسف ومحمد فقال على قول أبي يوسف لا يبيعه حتى مكايلة لنفسه.
وعلى قول محمد: يبيعه من غير (أن) يكتاله لنفسه. وقد اختلف المشايخ في فصل، وهو ما إذا اشترى طعاماً مكايلة وكاله البائع بحضرة المشتري وسلمه إليه، فمنهم من قال: ليس للمشتري أن يكتفي بذلك الكيل ويكيل مرة أخرى، قال شمس الأئمة السرخسي: الأصح أنه يكتفي بذلك الكيل وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزنات؛ لأن الوزن في الوزنيات متى بيع بشرط الوزن يصير معقوداً عليه، كالكيل في المكيلات، فكل جواب عرفته في المكيلات في الترتيب الذي ذكرنا، فهو الجواب في الوزنيات.
وأما الكلام في الذرعيات: إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كان له أن يبيعه، وأن يتصرف فيه قبل الذرع في الذرعيات متى لم يجعل بإزائه لمن سلك به مسلك الأوصاف حتى لا يقسم الثمن على عدد الذرعان حتى لو وجد أحد عشر في مسألتنا فالزيادة تسلم له، ولو وجده أنقص من عشرة لا يسقط شيء من الثمن لكن يجز المشتري، كما لو اشترى ثوباً على أنه صفيق فوجده رقيقاً، وإذا سلك به مسلك الصفة لم يصر الذرع معقوداً عليه، وكان المعقود عليه الثوب المشار إليه، وأنه متغير من غير ذرع.(6/419)
وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة مجازفة على أنها جيد وقبضها قبل أن يعلم بأنها جياد بأن كانت في الجوالق ويصرف فيها وهناك التصرف منه جائزاً ههنا.
وأما الكلام في العدديات: إذا اشترى من أخر عددياً بشرط العقد فهل يجب إعادة العد، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتب الظاهرة، قالوا: وقد ذكر الكرخي: أن على قول أبي حنيفة: يشترط إعادة العد لإباحة التصرفات إلحاقاً للعدديات بالكيليات والوزنيات، وعلى قولهما لا يشترط إلحاقاً بالذرعيات.
وفي «شرح القدوري» : وأما المعدودات فيجب إعادة العد فيها في رواية لا يجب، وصحح القدوري هذه الرواية؛ لأن العد في العدديات بمنزلة الذرع في المذروعات، ألا ترى أن الربا لا تجري بين العدديات كما لا يجب بين المذروعات، ثم في المذروعات لا يجب إعادة الذرع، فكذا في المعدودات لا يجب إعادة العد.
وفي «القدوري» : في باب بيع المبيع قبل القبض: إذا اشترى طعاماً مكايلة أو موازنة شراء فاسداً وقبض بغير كيل، ثم باعه وقبضه المشتري فالبيع الثاني جائز، وإنما يعتبر إعادة الكيل في البيعين الصحيحين؛ لأن المستحق القدر المذكور، ويتصور التفاوت بين المذكور والموجود فيعتبر إعادة الكيل لإزالة ذلك الوهم احتياطاً، وهذا المعنى لا يوجد في البيع الفاسد، فإن الملك في البيع الفاسد، إنما يثبت بالقبض فصار المملوك قدر المقبوض لا قدر المذكور في البيع، فلا يتصور التفاوت بين المستحق.
ولو اشترى طعاماً مكايلة بإناء بعينه، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقد مر هذا، فإن كاله بذلك الإناء ورضي به المشتري بعد الكيل جاز، وقد مر هذا أيضاً من قبل، فإن باعه المشتري بعد ذلك قبل أن يعيد الكيل جاز؛ لأن هذا في معنى البيع مجازفة لا يحتاج إلى إعادة الكيل؛ لأن المستحق هو المشار إليه فلا يتصور فيه التفاوت.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: إذا كان الثمن شيئاً مما يكال أو يوزن بغير عينه فأخذه البائع بغير كيل وصدق المشتري في كيله ووزنه، فله أن ينتفع به قبل أن يكيله.
إذا كان الثمن ثياباً موصوفة مؤجلة، فليس له أن يبيعها منه قبل أن يقبضها، وقال في الصرف: ليس له أن يشتري بأخذ اليد شيئاً حتى يتوازنا، وإن تفرقا قبل الوزن في الصرف، وكل واحد منهما مصدق لصاحبه في الوزن فالبيع فاسد، وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا كان كل واحد منهما مصدقاً لصاحبه في الوزن إن البيع جائز.
الفصل الثامن: في بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد
البيع الفاسد منعقد عندنا والملك موقوف على وجود القبض، ويشترط أن يكون القبض بإذن البائع نص عليه القدوري في «كتابه» ، ولفظ القدوري وما قبضه بغير إذن البائع في البيع الفاسد فهو كما لم يقبض، قال ثمة: وهذه الرواية هي المشهور.(6/420)
وفي «الزيادات» : إذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد من غير إذن البائع ويهبه، فإن قبض في المجلس يصح القبض استحساناً ويثبت الملك فيه للمشتري، وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً ولا يثبت الملك للمشتري، وإذا أذن له بالقبض فقبض في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس صح قبضه ويثبت الملك قياساً واستحساناً.
وفي «البقالي» : لو كان وديعة عنده وهي حاضرة ملكها، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: يجب أن يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذنه إذا كان أدى الثمن، والتخلية في البيع الفاسد ليست بقبض يثبته في شرح «الزيادات» .
وذكر في «الجامع» مسألة تدل على أنها قبض.
وصورة ما ذكر في «الجامع» : إذا اشترى الرجل شراءً فاسداً والعبد وديعة عند المشتري إلا أنه ليس بحاضر عند الشراء فأعتقه المشتري كان عتقه باطلاً؛ لأن الملك في الشراء الفاسد لا يثبت بدون القبض وما وجد من القبض لا ينوب عن قبض الشراء؛ لأنه قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء، وبدون الملك لا يثبت العتق فأرجع المشتري إلى العبد وقبضه حقيقة، أو يخلي به بحيث يكون قابضاً له، ثم أعتقه صح الإعتاق؛ لأنه يصير قابضاً بإذن البائع حتى لا يكون للبائع ولاية الاسترداد فههنا كذلك، وإذا صار قابضاً بإذن البائع صار المبيع ملكاً له بالعقد السابق، والإعتاق صادف ملك نفسه.
ألا ترى أن محمداً رحمه الله: أثبت الملك للمشتري في هذه الصورة إذا تخلى بالعبد حتى جوّز إعتاقه، والملك في البيع الفاسد لا يثبت بدون القبض، ثم إن الملك وإن كان يثبت في البيع الفاسد عند اتصال القبض به عندنا إلا أن هذا الملك يستحق النقض إعداماً للفساد، ولأن إعدام الفساد واجب حقاً للشرع.
ولأجل ذلك قلنا: أنه يكره للمشتري أن يتصرف فيما اشترى شراءً فاسداً بتمليك أو انتفاع؛ لأن الفسخ مستحق إعداماً للفساد، وفي التصرف تقرر الفساد، مع هذا لو تصرف فيه تصرفاً نفذ تصرفه لمصادفته ملكه، ولا ينقض تصرفه ويبطل به حق البائع في الاسترداد سواء كان تصرفاً يحتمل البعض بعد ثبوته كالبيع والإجارة والرهن، أو لا يحتمل البعض بعد ثبوته كالإعتاق والتدبير وأشباه ذلك إلا الإجارة والنكاح فإن هذه (66أ3) التصرفات لا تبطل حق البائع في الاسترداد على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله، فلم يحمل البائع بيعاً فاسداً حتى تنقض تصرفات المشتري فيما ينوي الإجارة والنكاح مع أن البائع حقاً في المشترى شراءً فاسداً، وهو حق الأخذ وجعل للشفيع حق نقض جميع التصرفات المشتري لما أن له في الدار المشفوعة حقاً.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان الفرق بعضهم قالوا: الحق في المشتري شراء فاسداً للبائع وهذه التصرفات من المشتري حصل عند تسليط البائع؛ لأن البائع، أوجب له الملك المطلق لهذه التصرفات فتكون هذه التصرفات حاصلاً عن تسليط فيكون راضياً به فيظهر نفاذها في حقه فلا يكون له إبطالها بعد ذلك.(6/421)
فأما الحق في الدار المشفوعة للشفيع وهذه التصرفات لم تصدر بتسليط الحق في الدار المدفوعة للشفيع من جهة الشفيع حتى يكون راضياً بذلك؛ لأن التسليط إنما يثبت بالأذن نصاً أو بإثبات الملك المطلق للتصرف، ولم يوجد واحد منهما من الشفيع فكان له حق النقض.
ولأجل هذا المعنى وقع الفرق في الشراء الفاسد بين البيع والهبة والرهن وبين الإجارة؛ لأن الإجارة تصرف في المنافع مقصوداً؛ لأنها موضوعة لتمليك المنافع والتسليط من البائع في حق المنفعة ما ثبت مقصوداً؛ لأن البيع لإيجاب ملك الرقبة مقصوداً، ولا يجاب ملك المنفعة تبعاً، والتصرف من المشتري في المنفعة حصل مقصوداً فلم يكن حاصلاً بتسليط البائع فكان له حق النقض، كما كان للشفيع أن ينقص جميع تصرفات المشتري لما لم يكن حاصلاً بتسليط.
فإما الرهن والبيع والهبة فهذه تصرفات.... حصلت في العين مقصوداً، والتسليط من البائع في حق تصرف يرد على العين ثابت مقصوداً؛ لأن التسليط بإيجاب الملك والملك ثبت له في الرقبة مقصوداً.
وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : وهذا عذر في الإجارة يريد بالعذر هذا، وهو أن الإجارة لم تحصل بتسليط البائع فكان للبائع نقضه.
وبعضهم قالوا: فسخ البيع بحق الله تعالى إعلاماً للفساد، وهذه التصرفات يتعلق حق العبد بالمحل وحق العبد مع حق الله تعالى إذا اجتمعا، ترجح حق العبد على (حق) الله تعالى لحاجة العبد وغنى الله تعالى، إلا أن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وفساد الشراء عذر في فسخها فينفسخ ويسترد المشتري إعداماً للفساد، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» من يفسخ الإجارة.d
وذكر في «النوازل» : أن القاضي هو الذي يفسخ، وكأنه مال إلى أن فسخ الإجارة بالعذر مختلف فيه، فيعتبر فسخ القاضي لتصير المسألة متفقاً عليها والتزويج يشبه الإجارة ولوروده على المنفعة والبيع يرد على ملك الرقبة، والفسخ يرد على ملك الرقبة أيضاً فيتعلق حق الزوج بالمنفعة لا يمنع الفسخ على الرقبة، والنكاح على حاله.
ولو أوصى بالعبد، ثم مات بطل حق الفسخ ولا يشبه هذا الوارث.
والفرق: وهو أن ملك موصى له ملك متحدد لثبوته بسبب متشابه ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه فأشبه ملك المشتري وما أشبهه فانقطع به حق الفسخ، فأما ملك الوارث في حكم عين ما كان للمورث ولهذا يرد بالعيب ويرد عليه بطل حق الفسخ؛ لأن هذه المعاني لو وجدت من الغاصب انقطع به حق المالك مع أن حق العبد إبطاء سقوطاً؛ فلأن يسقطه بهذه المعاني حق الله تعالى، وإنه أسرع سقوطاً أولى، ولو صبغ الثوب فقد روي عن محمد رحمه الله: أن البائع بالخيار أخذه وأعطاه ما زاد لصبغ فيه إن شاء ضمنه قيمته كما في الغضب، وأطلق أبو الحسن الجواب في الصبغ، إنه ينقطع به حق البائع في(6/422)
الفسخ، وهو محمول على التفصيل الذي ذكرنا، ولو كان الجواب كما أطلق.
فوجهه: أن حق الفسخ هاهنا أسرع سقوطاً من حق الاسترداد في الغصب، ولهذا يسقط بالبيع والهبة ونحو ذلك فجاز أن يسقط بهذا بخلاف الغصب.
ولو كان للمشتري داراً فبنى المشتري فيها بناء بطل حق الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأخير، وفي قوله الأول وهو قول محمد لا يبطل اعتباراً بالغاصب إذا بنى في المغصوب بناءً حيث لا ينقطع به حق المغصوب منه، ولهما أن النقض في البيع الفاسد ما كان لحق البائع، وإنما كان حقاً للشرع لينعدم به الفساد، وقد ذكرنا أنه إذا تعلق به حق آخر يمنع، إلا إذا بنى المشتري في الدار بناء، والعقد لم يتناول البناء صار ثبوت حقه في البناء بمنزلة حق ثابت في البيع الثاني بل أولى؛ لأن الضرر الذي يلحق المشتري بنقض البناء فوق الضرر الذي يلحق الثالث بنقص شرائه، فإذا لم ينقص لحق ثالث في البيع الثاني؛ فلأن لا ينقض لحق المشتري في البناء كان أولى.
بخلاف ما لو صبغ المشتري الثوب المشترى شراء فاسداً؛ لأن حق المشتري لا يبطل بالنقض بل ينتقل إلى القيمة، وههنا يبطل حق المشتري في البناء إذا نقض البناء، وبخلاف الغصب؛ لأن حق النقص كان لحق المغصوب منه وحق المغصوب منه في العرصة قائم من كل وجه فرجحنا جانب المغصوب منه، إما؛ لأن العرصة أصل والبناء تبع؛ أو لأن الغاصب متعدي والمغصوب منه مظلوم.
بخلاف ما إذا غصب ساحة وأدخلها في البناء حيث ينقطع حق المغصوب منه ثمة صار هالكاً من وجه وحق الغاصب قائم من كل وجه وحق المغصوب منه يفوت إلى بدل وحق الغاصب يفوت إلى بدل فرجحنا حق الغاصب لهذا، بخلاف ما تقدم.
وفي كل موضع تعذر ردّ المشترى شراء فاسداً على البائع فعلى المشترى المثل فيما هو من ذوات الأمثال.
والقيمة فيما ليس من ذوات الأمثال، والأصل: أن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقيمة فيما لا مثل له وبالمثل له وبالمثل فيما له مثل؛ لأن المقبوض في العقد الفاسد مضمون بجهة القبض فصار كالمغصوب؛ وهذا لأن الأصل في الضمانات القيمة؛ لأنها هي العدل، وإنما يصار إلى المسمى في موضع صحت التسمية تحرزاً عن المنازعة والتسمية، هنا لم تصح فبقي الضمان الأصلي وهو القيمة.
ثم في كل موضع تعذر على البائع فسخ البيع واسترداد المبيع لمانع، ثم زال ذلك المانع بأن فك المشتري الرهن ورجع في الهبة أو عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة أو رد المشترى على المشتري بالعيب في المبيع بعد القبض نقصاً كان للبائع حق الاسترداد إذا لم يكن القاضي قضى على المشتري بالقيمة؛ لأن المانع زال بسبب هو فسخ من كل وجه في حقهما وفي حق الثالث فصار، كأن هذه العقود لم توجد حتى لو زال المانع بسبب هو عقد جديد في حق الثالث بأن كان الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي لا يكون للبائع حق الاسترداد، ويجعل في حقه كأن المشتري اشترى ثانياً.(6/423)
وهذا كله إذا لم يقض القاضي على المشتري بالقيمة، فإن كان قد قضى عليه بالقيمة لا يكون للبائع حق الاسترداد في الوجوه كلها؛ لأن القاضي أبطل حق البائع عن العين ونقله إلى القيمة بسبب أطلق له ذلك فلا يعود حقه إلى العين بعد ذلك، وإن ارتفع السبب كما لو قضى القاضي على الغاصب بقيمة المغصوب بسبب الإباق، ثم عاد العبد من الإباق لا يعود حق المالك إلى العبد كذا ههنا.
ولو زاد المشترى في يد المشتري لا يمتنع الفسخ في الأحوال كلها إلا إذا (66ب3) كانت بزيادة من جهة المشتري بأن كان المشترى ثوباً فصبغه المشتري بصبغ يريد به قيمة فيه، أو كان سويقاً فلته بسمن أو عسل فحينئذٍ يمتنع الفسخ بحق المشتري حتى لو رضي المشتري بالفسخ واسترداد المشترى مع الزيادة كان للبائع حق الاسترداد وإذا لم ينقص المشترى في يد المشتري بفعل نفسه أو بآفة سماوية أو يفعل المشتري والبائع مع أرش النقصان وليس له أن يترك المبيع على المشتري ويضمنه تمام القيمة إزالة للفساد، وإن كان النقصان بفعل أجنبي، فللبائع أن يأخذ الأرش من المشتري إن شاء أخذه من الجاني؛ لأنه وجده في حق كل واحد منهما بسبب ضمان النقصان في حق المشتري القبض؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقبض، والأوصاف تضمن بالقبض، وفي حق الجاني الخيانة فكان للبائع الخيار وصار كما لو انتقص المغصوب في يد الغاصب بفعل أجنبي كان للمالك في أخذ الأرش الخيار لما ذكرنا كذلك ههنا.
ولو قتل أجنبي المبيع في يد المشتري، فللبائع أن يضمن المشتري وليس له أن يضمن القاتل، فرق بين ضمان القتل وبين ضمان النقصان.
والفرق: إن ما وجب على القاتل بالقتل بدل ملك المشتري؛ لأن الجارية قتلت على ملك المشتري فلا يكون للبائع عليه سبيل إلا بعد فسخ البيع في المبيع، وتعذر فسخ العقد في المبيع بسبب الهلاك بخلاف ضمان النقصان؛ لأن هناك العقد انفسخ فيما بقي من المبيع بالاسترداد فيصير الفسخ في حق الجزء الفائت حكماً لانفساخ البيع في الأصل، وإذا اعتبر البيع منفسخاً في حق الجزء الفائت بدلاً عن ملك البائع، فكان للبائع حق الأخذ من الجاني فلهذا افترقا.
وبما ذكر من المعنى ظهرت التفرقة بين المشتري شراءً فاسداً وبين المغصوب، فإن المغصوب إذا قتل في يد الغاصب كان للمالك أن يضمن القاتل إن شاء؛ لأن ما وجب على القاتل بقتل المغصوب بدل ملك المالك؛ لأن المغصوب باقي على حكم ملك المالك فكان للمالك أن يأخذ ذلك من القاتل، ولا كذلك المشتري شراءً فاسداً على ما بينا قد ذكرنا أن البيع الفاسد يستحق النقض والفسخ إعداماً للفساد وإزالة للحرام.
قال القدوري في «كتابه» وأيهما فسخ البيع قبل القبض ففسخه جائز على صاحبه، إذا كان بمحضر من صاحبه أي بعلم صاحبه؛ لأن الفسخ يستحق بحق الشرع، فانتقى اللزوم عن العقد فكان بمنزلة البيع الذي فيه الخيار للمتعاقدين فيكون كل واحد منهما تسييل من فسخه بغير رضى الآخر لكنه توقف على علم الآخر؛ لأنه إلزام موجب للفسخ فلا يلزمه إلا بعمله.(6/424)
وإذا قبض المبيع فكل بيع لا يصح حذف المفسد عنه مثل البيع بالخمر والخنزير فهو على ما ذكرنا قبل القبض؛ لأن وجوب الفسخ بحق الشرع، وإنه متحتم فكان كل واحد منهما تسييل منه، وإن كان الفساد بسبب شرط يقبل الحذف فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لكل واحد من المتعاقدين الفسخ، وقال محمد: إن وجد الفسخ ممن له منفعة في الشرط صح، وإن فسخ الآخر لم ينفسخ وذلك مثل الشراء بأجل مجهول إلى العطاء وما أشبه ذلك.
وكذلك الخيار الفاسد وجه قول محمد: أن منفعة الشرط إذا كانت عائدة إليه كان قادراً على تصحيح العقد بإسقاط الأجل، فإذا فسخ الأجر فقد أبطل حقاً ثابتاً لغيره فلا يجوز وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان: بأن الفسخ مستحق حقاً للشرع فانتقى اللزوم عن العقد إذا كان غير لازم، فكل واحد من المتعاقدين يتمكن من فسخه. أكثر ما في الباب أن من له الخيار قادر على التصحيح بالحذف، ولكن الكلام قبل الحذف وهو بمنزلة الإيجاب إذا وجد من البائع كان المشتري تسييل من القبول، ثم البائع لو رجع قبل قبول المشتري صح ولا يقال: بأن رجوعه يتضمن إبطال حق القبول على المشتري كذلك ههنا.
وإذا كان المشترى جارية فاستولدها المشتري حتى وجبت القيمة هل يغرم العقر؟ ذكر في كتاب البيوع: أنه لا يغرم، وذكر في كتاب الشرب: أنه يغرم.
قال شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : ما ذكر في كتاب الشرب تأويله أن المشتري وطئها ولم يعلقها، وما ذكر في كتاب البيوع تأويله إذا أعلقها قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرحه» : إذا لم يعلقها يجب العقر باتفاق الروايات، وإذا أعلقها ففيه روايتان.
وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه» وهو الصحيح: يجب أن يعلم بأن من اشترى جارية شراءً فاسداً لا يكون له أن يطأها، إما لأن الثابت له بالشراء الفاسد ملك حرام والملك الحرام لا يبيح الوطء كما لا يبيح الأكل والشرب واللبس، أو لأن الملك غير ثابت في حق الوطء لكون السبب فاسداً فأوطأها ولم يعلقها كان للبائع أن يستردها؛ لأن الجارية قائمة بعينها كما قبل الوطء، وإذا استردها ضمن المشتري عقرها للبائع، فرق بين هذا وبين الموهوب له إذا وطء الجارية، ثم رجع الواهب، فإنه لا يضمن للواهب عقراً، وههنا قال: يضمن.
ووجه الفرق بينهما: وهو أن الموهوب له حين وطء ملك نفسه ملكاً حلالاً، فإن الملك ثابت للموهوب له بوصف الحل لكون السبب صحيحاً، ولهذا حل له الوطء وبالرجوع لم يظهر أن الملك لم يكن له وقت الوطء؛ لأن الرجوع لا يسند إلى وقت العقد بل يقتصر على حال وجوده؛ لأنه فسخ العقد، وإذا اقتصر على حال وجوده صار واطئها ملك نفسه فلم يكن عليه عقرها، فأما ههنا فالملك في حق الوطء غير ثابت لكون السبب فاسداً.
ولهذا لم يحل له الوطء وإذا لم يثبت الملك في حق الوطء كانت الجارية في حق الوطء كالمغصوبة، فإذا لم يجد الشبهة وجب العقر هنا كما في الغصب، هذا الذي ذكرنا(6/425)
إذا لم يعلقها فأما إذا أعلقها يضمن قيمتها؛ لأنه بالإعلاق صارت أم ولد له فعجز عن ردها فكان عليه رد قيمتها، كما لو أعتق، إذا وجب القيمة هل يجب عليه العقر، فعلى قول شمس الأئمة السرخسي: لا عقر رواية واحدة وعليه يحمل رواية كتاب البيوع، وعلى ما ذكره في المسألة روايتان على رواية كتاب البيوع لا عقر عليه، وعلى رواية كتاب الشرب عليه العقر.
وجه ما ذكر في كتاب الشرب: أن الجارية وإن كانت ملكاً للمشتري وقت الوطء إلا أن للبائع حق الاسترداد جميع الجارية، وبالوطء أبطل على البائع حق الاسترداد فيما استوفى بالوطء فيضمن قيمة ما استوفى كما لو أن المستوفي ملك البائع؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة.
وجه ما ذكر في كتاب البيوع إن حق البائع في المستوفي لا يكون أكثر حالاً من حقيقة الملك للغير، وإذا تقرر عليه الضمان لم يضمن العقر كما في الغصب فههنا أولى.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: اشترى من آخر جارية شراءً فاسداً وقبضها وولدت في يده أولاداً وماتت، ثم إن البائع ضمن قيمة الجارية يوم قبضها، فإن البائع يأخذ من المشتري أولادها ولا يجعل المشتري مالكاً للجارية يوم قبضها يعني مالكاً صحيحاً مما يحكم به في أولادها، قال الحاكم أبو الفضل: خالف بين المشتري شراء فاسداً وبين المشتري من الغاصب، فإن الجارية إذا ولدت في يد المشتري من الغاصب، ثم تم البيع فيما يتضمن البائع، فإن هناك يتم البيع من جميع الجهات.
وفي «المنتقى» : في باب حكم الشراء الفاسد في أوله: رجل اشترى من آخر جارية شراء فاسداً، ثم إن (67أ3) المشتري وطئها وولدت منه أولاداً، ثم استحقها رجل يأخذها وولدها وعقرها وولدها، ولا يرجع المشتري على البائع إلا بالثمن؛ لأنه ليس بمغرور، ألا ترى أنها لو ولدت من غير المشتري كان له أن ينقض البيع ويأخذها من المشتري.
وذكر في هذا الباب عن أبي يوسف: أن المشتري يرجع بقيمة ... البائع، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في باب الاستحقاق من «المنتقى» .
وفي باب حكم الشراء الفاسد عن محمد في «المنتقى» : اشترى من آخر شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج وقد كانت بكراً، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فالنكاح جائز والمهر للبائع، فإن كان فيه وقائماً نقصها من ذهاب العذرة فلا شيء على المشتري، وإن كان النقصان أكثر من المهر رجع به على المشتري.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر أمة شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فعلى المشتري الأكثر من مهر مثلها ومما نقصها التزويج وللمشتري على الزوج مهرها الذي سمى الزوج، وإن كان فيه فضل تصدق به فالنكاح على حاله.(6/426)
وكذلك إن طلقها طلاق الرجعة، وإن طلقها واحدة بائنة فعليه مهر مثلها ولا نقصان عليه، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» مرة أخرى وذكر أن على المشتري مهر مثلها وما نقصها التزويج.
وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل اشترى من آخر غلاماً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه واستهلكه، قال: أخبرني أن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله قال: عليه قيمته يوم قبض، وقال محمد فيما أظن: قيمته يوم استهلكه، هذا إذا كانت الزيادة من حيث السعر، وإن كانت من حيث العين فعليه في قول محمد أيضاً قيمتها يوم قبض.
وفي بيوع «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً شراءً فاسداً وقبض المشتري بإذن البائع ونقده الثمن، ثم أراد البائع أن يأخذ عبده كان للمشتري أن يحبس العبد منه إلى أن يستوفي الثمن؛ لأن الفاسد من العقود يلحق بالجائز في حق الأحكام.
وفي البيع الجائز إذا تفاسخا العقد بعد القبض كان للمشتري حق حبس المشتري إلى أن يستوفي الثمن من البائع، وهذا لأن المشتري إنما قبل العقد مقابلاً بما نقده فصار كالرهن به عند ارتفاع السبب بالفسخ فكان له حق الحبس به كما في الرهن، فإن مات البائع ولا مال له غير العبد كان المشتري أحق بالعبد من غرماء البائع؛ لأنه كان أحق به من البائع في حال حياة البائع فيكون الحق به من غرمائه بعد وفاته فيباع العبد بحقه، فإن كان الثمن الثاني في مثل الثمن الأول أخذه المشتري فضل الثمن الثاني على الثمن الأول فالفضل لغرماء البائع، فإن كان الثمن أقل كان هو لسائر غرماء البائع يضرب هو منهم ببقية حقه فيما يظهر من التركة، فإن مات العبد في يد المشتري كان عليه قيمته لما ذكرنا فيتقاصان ويترادان الفصل إن كان ثمة فضل.
ولو كان المشتري اشترى العبد بألف درهم دين كان للمشتري على البائع قبل الشراء اشتراه بذلك شراء فاسداً وقبضه بإذن البائع، ثم إن البائع أراد استرداد العبد بحكم فساد البيع وأراد المشتري حبسه بما كان عليه من الدين لم يكن له ذلك.
فرق بين هذا بينما لو كان البيع جائزاً في هذه الصورة فإن هناك للمشتري أن يحبس العبد إلى أن يستوفي ما على البائع من الدين ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الحكم في البيع الجائز، وإنما ذكر مسألة الإجارة بدين سابق للمستأجر على الآخر.
وفرق فيها بين الإجارة الجائزة والإجارة الفاسدة في حق حكم الحبس بالدين السابق، فقال: في الإجارة الجائزة للمستأجر حق حبس المستأجر بما كان له على الآخر، وقال: في الإجارة الفاسدة ليس له حق الحبس بذلك.
قال مشايخنا: ولا فرق بين الإجارة من الدين وبين البيع الجائز فالرواية في الإجارة يكون رواية في البيع.
والفرق بين البيع الفاسد: أن العقد في البيع الجائز لا يتعين بغير ذلك الدين بل بمثله ديناً في ذمة المشتري، ثم يلتقيان قصاصاً لا يستوفيهما قدراً ووصفاً، فيصير البائع(6/427)
مستوفياً الثمن بحكم المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، وهناك للمشتري حق حبس المبيع بعد الإقالة إلى أن يستوفي الثمن، فكذا إذا صار مستوفياً الثمن بحكم المقاصة، فإما في البيع الفاسد إن كان لا يتعلق العقد بغير ذلك الدين أيضاً، ولكن لا يجب مثل ذلك ديناً في ذمة المشتري، وإنما يجب قيمة المبيع عند القبض والقيمة غير متقررة قبل الهلاك فإنها تحتمل السقوط في كل ساعة وزمان بالفسخ، فأما دين المشتري على البائع متقرر فلم يتفقا وصفاً، وإذا لم تقع المقاصة لم يصر البائع مستوفياً الثمن بالمقاصة لتعيين ذلك بالاستيفاء حقيقة.
فإن مات البائع وعليه ديون كثيرة والعبد عند المشتري ففيما إذا وقع الشراء فاسداً لا يكون المشتري أحق بالعبد حال حياة البائع حتى لم يكن له حق حبس العبد فلا يكون أحق به بعد وفاة البائع، فيباع العبد ويقسم الثمن بين غرماء البائع المشتري من جملتهم.
وفيما إذا وقع الشراء جائزاً يجب أن يكون المشتري أحق بالعبد؛ لأنه كان أحق بالعبد حال حياة البائع حتى كان له حق حبسه من البائع فيكون أحق به بعد وفاته أيضاً.
وفي «الجامع الصغير» : أيضاً: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً على أن البائع فيه بالخيار وقبض المشتري العبد في مدة الخيار بإذن البائع فأعتقه في مدة الخيار لا ينفذ إعتاقه؛ لأن الفاسد من العقود ملحق بالخيارين في حق الأحكام، وخيار البائع في العقد الجائز يمنع ثبوت الملك للمشتري فكذا في العقد الفاسد، وإنما صح الخيار في البيع الفاسد غير لازم؛ لأن فيه فائدة حتى يمنع انعقاده في حق الحكم وهو الملك، فإن البيع فاسد العاري عن شرط الخيار ينعقد في حق الحكم، ولهذا يفيد الملك عند إيصال القبض به، ومع شرط الخيار لا يفيد الملك عند إيصال القبض به فكان شرط الخيار في البيع الفاسد مفيداً.
ولو أعتقه المشتري بعدما سقط الخيار بإسقاطهما أو بمضي المدة صح إعتاقهما؛ لأن عند زوال الخيار يثبت الملك للمشتري بالسبب السابق ولا يحتاج فيه إلى تجديد القبض؛ لأن قبضه الأول موجب ضمان القيمة فكان مضموناً بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء الصحيح فينوب عن قبض الشراء الفاسد.
قال في «المنتقى» : رجل اشترى من آخر شراء فاسداً بألف درهم وتقابضا، ثم إن البائع استرد العبد بحكم فساد العقد كان للمشتري أن يأخذ ألفه إن وجدها بعينها، ولا يكون للبائع أن يمنعه منها.
قال ثمة: ألا ترى أن البائع لو مات كان المشتري أحق بألفه فهذا إشارة إلى أن الدراهم والدنانير تتعينان في البيوع الفاسدة، وهكذا ذكر في كتاب الصرف.
ووجه ذلك: المقبوض بحكم العقد الفاسد يشبه المغصوب؛ لأن أول القبض يلاقي ملك، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير ملكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع (67ب3) فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض، كما(6/428)
في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للمشتري عند تمام القبض والدراهم والدنانير تتعينان في الغصب، فكذا في العقد الفاسد.
قال هشام: سألت محمداً: عن رجل اشترى من رجل غلاماً شراءً فاسداً بألف درهم وقبضه المشتري، ثم اشتراه منه البائع بمائة درهم شراء صحيحاً، قال: إن قبضه البائع فهو فسخ للبيع الأول، وإن لم يقبضه فليس بفسخ له.
بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه من غيره، ثم تقايلا البيع ورد المشتري الثاني في العبد على المشتري الأول، ثم جاء البائع الأول وخاصم المشتري الأول في البيع الفاسد فلا سبيل له عليه؛ لأن الإقالة بيع مستقبل في حق الثالث فصار نظير بالعيب بعد القبض بغير قضاء وقد صح فيه.
ولو باعه من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إليه، فإن خاصم البائع الأول المشتري الأول ضمنه القاضي قيمتها، وإن لم يخاصمه حتى خاصم المشتري الأول المشتري الآخر في البيع وفسخه القاضي، ثم خاصمه الأول، فإنه يرد عليه.
الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل اشترى من رجل جارية شراء فاسداً وقبضها وولدت في يد المشتري ولداً من غير المشتري، فإن كان في ولدها وفاء بنقصان الولادة لم يغرم نقصانها، وإن لم يكن بالولد وفاء بالنقصان أخذ البائع تمام النقصان، فإن زاد الولد بعد ذلك زيادة وفاء بالنقصان، فإن المشتري يرجع على البائع بما ضمن من نقصان الولد، فإن نقص الولد بعد ذلك لا يلزمه شيء، والحكم فيما بين الغاصب والمغصوب منه إذا ولدت الجارية عند الغاصب وليس بالولد وفاء بنقصان الولادة نظير الحكم فيما بين البائع والمشتري في الشراء الفاسد، وهذا شيء يجب أن يحفظ.f
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً فلم يقبضه حتى قال للبائع: أعتقه فأعتقه عنه كان العتق عن البائع، ولا يكون للمشتري.
ولو اشترى حنطة شراءً فاسداً فأمر البائع أن يطحنها فالدقيق للبائع، وكذلك لو كانت شاة فأمر بذبحها.
ولو اشترى قفيز حنطة شراء فاسداً وأمر المشتري البائع حتى خلطه بطعام المشتري، مثله رجل اشترى مسلاً أو قضبان كرم أو قضبان شجر شراء فاسداً وقبضه وغرسه فأطعم، أو كان غاصباً قال أبو حنيفة رحمه الله: هما سواء، وعلى المشتري والغاصب قيمة ذلك؛ لأنه قد تغير الشجر الصغير.
ولو كان غصب نخلاً قد أطعم فغرسه ست وأطعم عنده، أو كان ذلك شراء فاسداً قلع في الغصب ورد على صاحبه؛ لأنه عين ماله، وأما في الشراء الفاسد فعلى المشتري قيمته ولا يقلع في قول أبي حنيفة مثل قوله: في الأرض إذا بناها، وقال أبو يوسف: إن كان قلعه ينقص الأرض لم أقلعه في الشراء الفاسد مثل قوله في الثوب إذا قطعه وخاطه وحشاه، وإن كان قلعه لا ينقص الأرض قلعه مثل قوله في البناء أنه يهدم؛ لأن هدمه لا ينقص الأرض، وفي الغصب أقلعه وإن نقص الأرض.(6/429)
ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل اشترى عبداً شراء فاسداً وقبضه وزوجه امرأة حرة على مهر مسمى فدخل بها ولم ينقد المهر، ثم خاصم البائع المشتري في فساد البيع، فإن القاضي ينظر فيما لزمه من النفقة لما مضى والمهر، فإن بلغ ذلك قيمة العبد فالبائع بالخيار إن شاء أخذ القيمة وسلم العبد للمشتري، وإن شاء أخذ عبده ولم يرجع بشيء، وإن لم يبلغ ذلك قيمته أخذ العبد وأخذ ما نقصه يقوّم على هذه الحالة ويقوم وليس عليه دين والنكاح جائز على كل حال والمهر الذي في رقبته العبد فالمشتري ضامن للمرأة على كل حال؛ لأنه عاد لها، فإن لزم العبد دين عبد البائع بعد ما نقص البيع من نفقة امرأته لم يرجع بذلك على المشتري.
ولو عمي العبد عند المشتري، فإنه ينقض البيع ويرد المبيع على البائع، وللبائع أن يضمنه ما نقصه العمي، وإن شاء ترك العبد على البيع وضمنه القيمة، وهذا كله قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قياس قول أبي حنيفة إذا أخذ البائع العبد فلا شيء له.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً، ثم إن المشتري أذن له في التجارة فلحقه دين، ثم إن البائع خاصم المشتري في استرداد القيمة، فإنه يرد العبد عليه ولا سبيل للغرماء عليه ويضمن المشتري الأقل من قيمة العبد ومن الدين يعني للغرماء.
وعنه أيضاً: فيمن اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها المشتري وزوجها من رجل، ثم فسخ البيع بينهما يحكم بالفساد وأخذها البائع مع ما نقصها التزويج، ثم إن الزوج طلقها قبل الدخول بها كان على البائع أن يرد على المشتري ما أخذ من النقصان، قال: ألا ترى أنه لو لم يكن تزويج ولكن ابيضت إحدى عينيها في يدي المشتري، ثم إن المشتري ردها ورد معها نصف القيمة، ثم ذهب البياض وعادت إلى الحالة الأولى، فإن البائع يرد على المشتري ما أخذ من نصف القيمة وطريقه ما قلنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل قال لغيره: اشتريت منك عبدك هذا بهذا السمن في هذا الزق فباعه إياه بذلك الزق بحضرتهما ففتحه، فإذا لا شيء فيه وقد قبض المشتري العبد وأعتقه فالعقد جائز كأنه اشتراه بالسمن ولم يسم ما هو، وكذلك لو قال: اشتريته منك بهذا الثوب وأشار إلي يريد أن ثوبه وهما يعلمان أنه ليس في ذلك الموضع ثوب.
قال محمد في «الجامع» : رجل اشترى من أخر جارية شراء فاسداً وقبضها بإذن البائع فأراد البائع أن يستردها بحكم فساد البيع فأقام المشتري بينة أنه باعها من فلان بكذا، فإن صدقه البائع فيما قال ضمنه قيمتها؛ لأنهما تصادقا على أنه تعذر ردها لخروجها عن ملك المشتري، وإن كذبه البائع فيما قال: كان للبائع حق استرداد الجارية؛ لأن حق البائع قد ثبت في الاسترداد بحكم فساد البيع.
فلو امتنع الاسترداد إنما يمتنع بحكم هذه البينة وتعذر القضاء بهذه البينة لما فيها من القضاء على الغاصب من غير أن يكون عنه خصم حاضر، فإن استرد البائع الجارية، ثم حضر الغائب وصدق المشتري فيما قال كان للذي حضر أن يسترد الجارية من البائع الأول؛ لأن التصديق يستند إلى وقت الإقرار؛ لأن ذلك الإقرار وقع صحيحاً؛ لأنه حصل المعلوم.(6/430)
وإذا استند التصديق إلى وقت ذلك الإقرار ظهر أن استرداد البائع الأول وقع باطلاً، فكان للذي حضر أن يأخذ الجارية البائع الأول، فإن كان البائع الأول صدق المشتري فيما قال وأخذ القيمة، ثم حضر الغائب لم يكن للبائع الأول استرداد الجارية سواء صدق الذي حضر المشتري أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن البائع الأول أقر ببطلان حقه في الاسترداد وإقرار كل إنسان حجة في حقه فلا يعود حقه في الاسترداد وبتكذيب البائع.
ولو قال المشتري بعتها من رجل ولم يسمه وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها؛ لأنه لو أقر لمعلوم وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها، فإذا أقر لمجهول أولى، فإن استرد البائع، ثم جاء رجل فقال للمشتري: إنما عنيت هذا فإن كذب ذلك الرجل المشتري فلا استرداد ما من وإن صدقه فكذلك؛ لأن الإقرار حال وجوده وقع باطلاً لحصوله لمجهول إلا أن بعد الاسترداد هو مصر على إقراره فيلتحق التصديق بهذا الإقرار، وصار كأنهما تصادقاً بعد استرداد البائع وبه لا يبطل بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الإقرار وقع صحيحاً لوقوعه لمعلوم واستند (68أ3) التصديق إليه ومن ضرورته بطلان الاسترداد.
قال في «الكتاب» : وهو نظير ما لو قال المشتري إنها ليست لي لا يبطل به حق البائع في الاسترداد، ولو قال: إنها لفلان، فإن صدقه البائع في ذلك بطل حق البائع في الاسترداد، وإن كذبه البائع في ذلك استردا العبد، فإن حضر المقر له وصدق المشتري أخذ الجارية وبطل استرداد البائع، وإن كذبه فالاسترداد ماضٍ والله أعلم.
الفصل التاسع: في حكم شراء الفضولي وبيعه
وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضوليين على التصرف في محل واحد ويدخل فيه بعض مسائل الغاصب، وإذا اشترى الرجل شيئاً لرجل بغير أمره كان ما اشترى لنفسه، وإن أجاز الذي اشتراه له.
وصورته: إذا قال البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بكذا، فقال المشتري: اشتريت ونوى بقلبه الشراء لفلان، وهذا بناء على أن أصل أن شراء الفضولي إنما يتوقف على الإجازة إذا لم (يوجد) على المشتري كما لو كان المشتري عبداً محجوراً عليه أو صبياً محجوراً عليه، أما إذا وجد نفاذاً على المشتري ينفذ ولا يتوقف وقد وجد نفاذاً على المشتري ههنا فينفذ عليه ولم يتوقف، فلا تعمل إجازة المشتري له فيه، وهذا إذا أضاف العقد إلى نفسه فأما إذا أضيف العقد إلى المشترى له فهو على وجوه.
أحدها: أن يقول البائع بعت هذا العبد من فلان، وقال الفضولي: اشتريت لفلان قبلت لفلان، أو قال: اشتريت قبلت ولم يقل لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ويعمل إجازة المشترى له فيه.(6/431)
الثاني: أن يقول الفضولي لصاحب العبد: بع هذا من فلان بكذا، فقال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت لفلان، أو قال: اشتريت لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ولا ينفذ على المشتري.
والثالث: أن يقول صاحب العبد للفضولي: قبلت أو اشتريت أو يقول الفضولي لصاحب العبد: اشتريت هذا العبد لأجل فلان فيقول صاحب العبد: بعت، وفي هذا الوجه ينفذ العقد على المشتري ولا يتوقف، هذه الجملة من بيوع «شرح الطحاوي» ، ورأيت في موضع آخر لو قال صاحب العبد للفضولي: بعت منك هذا العبد بكذا، وقال الفضولي: قبلت اشتريت لفلان بدأ الفضولي فقال: اشتريت منك هذا العبد لفلان وقال صاحب العبد: بعت منك، وذكر أن الصحيح أن العقد يتوقف ولا ينفذ على الفضولي.
وفي «شرح الطحاوي» أيضاً: الفضولي إذا باع مال الغير فهو على وجهين: إن باعه بثمن لا يتعين بالتعيين فإنما تلحقه الإجازة بقيام الأربعة البائع والمشتري والمالك والمبيع، ولا يشترط لصحة الإجازة قيام الثمن في يد البائع، فإن أجاز المالك البيع في حال قيام الأربعة جاز البيع ويكون البائع كالوكيل للمجيز، والثمن للمشتري إن كان قائماً، وإن هلك في يد البائع هلك أمانة، وإن باعه بثمن يتعين بالتعين يشترط ذلك قيام الثمن لصحة الإجازة، ثم إذا صحت الإجازة في هذا الوجه، وهو ما إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعين وكان الثمن قائماً فالثمن يكون للبائع دون المجيز؛ لأن البائع صار مشترياً للثمن إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعيين والشراء ينفذ على المشتري ولا يتوقف، ويرجع المجيز على البائع بقيمة ماله إن كان من ذوات القيم وبمثله إن كان من ذوات الأمثال.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا باعه متاع غيره بغير إذنه، ثم مات فأجاز صاحب المتاع البيع لا يجوز، وإنه موافق لما ذكره الطحاوي فرق بين هذا وبين النكاح.
والفرق: أن البيع إذا جاز يصير البائع وكيلاً لما عرف أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فترجع إليه الحقوق، والميت لا يصلح وكيلاً ولا كذلك النكاح، فإن هناك لا ترجع الحقوق إلى الوكيل.
وفي «نوادر ابن سماعة» قلت لمحمد: رأيت رجلاً غصب من آخر حيواناً وباعه من آخر فأجاز المغصوب منه البيع ولا يعلم ما حال المغصوب، قال محمد رحمه الله: البيع جائز حتى يعلم أنه تلف، قال: وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع ببغداد وقال: البيع فاسد حتى يعلم حياته، فإن قال المشتري: المبيع كان هالكاً وقت الإجازة وقال البائع: إنما مات بعد الإجازة فالقول قول البائع.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل باع ثوب غيره بغير أمره فقبضه المشتري وصبغه، ثم أجاز رب الثوب البيع لم يجز؛ لأن المبيع قد هلك من وجه وصار شيئاً آخر، ألا ترى أن الغاصب إذا فعل ذلك مَلَكه.
وفي «نوادر ابن سماعة» : إذا باع أحد الشريكين نصف الدار مشاعاً ينصرف إلى نصيبه، ولو باع فضولي نصف الدار المشترك بين رجلين ينصرف البيع إلى نصيبهما، فإن أجاز(6/432)
أحدهما صح البيع في النصف الذي هو نصيب المجيز، وهذا قول أبي يوسف، وقال محمد وزفر: البيع جائز في ربعها، ولو وهب نصيبه من الدين المشترك للمديون جازت الهبة في نصيبه، ولو وهب نصف الدين مطلقاً تنفذ الهبة كما لو قال: وهب نصف العبد المشترك.
هشام عن محمد في غلام بين رجلين ليسا بشريكين في الأشياء قال: أحدهما لصاحبه وقد وكلتك ببيع نصيبي من هذا الغلام، فباع المأمور نصف هذا الغلام بعد هذا القول ولم يبين أي النصفين هو، ثم مات العبد بعد تسليم المبيع منه، فقال البائع بعد موته: قد بعت نصيبي فالقول قوله.
قال في «الجامع الكبير» : رجل باع عبد غيره بغير أمر صاحب العبد بألف درهم ومثله المشتري، وباعه أخر من رجل بألف درهم بغير أمر صاحب العبد فقبله المشتري الثاني توقف العقدان؛ لأنه لا مزاحمة في التوقف، وإذا بلغ المولى ذلك فأجازهما بنصف العقدان؛ لأن البيعين تعارضا في الحكم، وليس أحدهما بأولى من الآخر والمحل قابل للتنصيف فينصف، فكان لكل واحد من المشترين الخيار؛ لأن كل واحد منهما إنما أقدم على السواء عنه في الكل، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف.
وكذلك لو وكل المولى رجلين كل واحد منهما ببيع العبد فباعه كل واحد منهما من رجل على حدة ووقع البيعان جميعاً معاً يحكم بالتنصيف؛ لأنا نعتبر الإذن في الابتداء بالإجازة في الانتهاء بالبيعين بنصف البيعان، فكذا إذا وجد الإذن في البيعين في الابتداء ويخير المشتريان لما قلنا.
وكذلك لو كان الذي ولي البيع فضولياً واحداً والمشتري أهان بأن باع العبد من رجل بألف بغير أمر المولى وباع من آخر كذلك، فبلغ المولى فأجازهما ينصف العقدان، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: تأويل المسألة فيما إذا أخرج البيعان معاً بأن قال الذي ولي البيع: بعت من كل واحد منكما جميع هذا العبد من هذا بألف ومن هذا بألف فقبلا جميعاً، ثم أجاز المولى البيعين، فأما إذا حصل ذلك على وجه التعاقب، فالثاني ببعض الأول؛ لأن الفضولي ملتزم العهدة والناس يتعاونون في الوفاء بموجب المعاملة فصار إقدامه على البيع الثاني فسخاً للعقد الأول، والفضولي يملك فسخ العقد الموقوف قبل إجازة المالك، ولهذا لو فسخه صريحاً ينفسخ فيتضمن إقدامه على البيع الثاني فسخاً للبيع الأول، وصار كما لو كان المباشر للبيع الثاني هو المالك، وصار كما لو كان المشتري (68ب3) واحداً، وأكثر مشايخنا على أن ما ذكر في «الكتاب» : أصح.
ووجهه: أنه لم يوجد من الفضولي فسخ العقد الأول لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلا شك وكذلك دلالة لما قلنا: أنه لا مزاحمة في التوقف بخلاف ما إذا كان المباشر للعقد الثاني هو المالك أوجب حكم العقد وبين الحكمين تنافي فانتقض الأول ضرورة، وبخلاف ما إذا كان المشتري واحداً؛ لأن الشراء الثاني لازم في حق المشتري وإنما امتنع النفاذ من الجانب الآخر لحق المولى، فصار إقدام المشتري على الشراء الثاني فسخاً للأول، وهو يملك فسخ البيع الأول، فأما ههنا إن وجد من المشتري الثاني دلالة الفسخ إلا أنه لا يملك فسخ العقد الأول، والفضولي وإن ملك الفسخ لم يوجد منه دلالة الفسخ فلهذا لا ينفسخ العقد الأول.(6/433)
ولو باع فضولي أمة رجل بألف درهم وزوجها آخر من رجل بمائة دينار فبلغ المولى فأجازهما جاز البيع وبطل النكاح؛ لأن البيع أقوى إذ يستفاد بملك النكاح وهو ملك المتعة وملك النكاح ولا يستفاد به شيئاً يترتب عليه ما يستفاد بالبيع وهو ملك الرقبة.
ولهذا لو طرأ البيع على النكاح الموقوف لا يبطله ولو استويا كان ترجيح البيع أولى؛ لأنه يقبل التنصيف، والنكاح ولا يقبل التنصيف ولو أعتقها رجل بغير أمره أو كاتبها وباعها الأخر فأجازهما المولى معاً جاز العتق؛ لأن البيع يقبل البطلان والعتق والكتابة لا يقبلان الثبوت في أحد النصفين مع قيام البيع في النصف الآخر فوجب ترجيح العتق والكتابة لهذين الوجهين، ولهذا قلنا لو وكل رجل غيره بإعتاق عبده أو بكتابة عبده، ووكل آخر ببيع هذا العبد أيضاً ففعلا معاً فالعتق والكتابة أولى فههنا كذلك.
ولو أن رجلاً وهب عبد رجل لرجل بغير أمره وسلمه المولى الموهوب له وباعه آخر من رجل فبلغ المولى، فأجازهما جميعاً جاز كل واحد منهما في النصف؛ لأن الهبة مع القبض تساوي البيع في حق إفادة الملك، وكل واحد منهما قابل للتنصيف، فإن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة تامة، ويخير المشتري ولا يخير الموهوب له، فإن اختار المشتري الإنصاف فالأمر ماضي، وإن اختار الرد لا يرد ذلك النصف على الموهوب له؛ لأن القاضي لما قضى بينهما نصفان فقد صار الموهوب له مقضياً عليه في ذلك النصف، والإنسان متى صار مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً عليه في ذلك النصف إلا بسبب جديد.
وقد قال في كتاب الدعوى: في رجلين تنازعا في عين ادعى أحدهما الملك بالشراء والأخر بالهبة والقبض بإذن المالك وأقاما البينة على ذلك أن الشراء أولى، فقد رجح الشراء في مسألة الدعوى دون مسألتنا.
والوجه في ذلك: أن في مسألة الدعوى ثبت العقدان بالبينة وجهل التاريخ، والأصل في العقد إذا تساويا، وجهل التاريخ أن يجعلا كالمقترنين.
ولو اقترنا كان البيع يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك ما لم يوجد القبض فيثبت ملك المشتري أولاً، وظهر أن الموهوب له قبض ملك المشتري إذ القبض وجد بعد العقدين فلم يثبت الملك للموهوب له، فأما ههنا القضاء يقع بالعقدين جميعاً عند الإجازة وحالة الإجازة الهبة مقبوضة للموهوب، والهبة مع القبض تساوي البيع إفادة الملك وقبول التنصيف، فلهذا يقضي بالعقد بينهما نصفين.
ولو كان مكان العبد في مسألة «الكتاب» : داراً والباقي بحاله جاز البيع دون الهبة؛ لأن البيع قابل للتنصيف والهبة ههنا غير قابلة للتنصيف؛ لأن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة غير صحيحة، فرجحنا البيع على الهبة.
ومن هذا الجنس
رجل وهب دار رجل لرجل وسلم، ووهبها رجل آخر لرجل آخر وسلم أيضاً فأجاز صاحب الدار العقدين معاً بطلا عند أبي حنيفة، وجاز عندهما؛ لأنه لما أجاز العقدين صار كأنه وهبها من رجلين نصفين إذ قضية الاستواء التنصيف، وهبة الدار من رجلين(6/434)
نصفين باطلة عند أبي حنيفة جائزة عندهما فههنا كذلك، وكذلك الهبة والصدقة لاستوائهما في المعنى.
ولو باعها رجل من رجل ورهنها أخر من رجل بدين له فأجاز صاحبها ذلك كله جاز البيع وبطل الرهن؛ لأن البيع أقوى؛ لأنه يوجب ملك الرقبة والرهن لا يوجب ملك الرقبة؛ ولأن البيع قابل للتنصيف والرهن لا يقبل التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح سواء كان مشاعاً يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة، فلهذا رجحنا البيع، ولو كان أحدهما صدقة أو هبة والأخر رهناً، فإن كان في العبد والهبة والصدقة أولى لما قلنا في البيع مع الرهن، وإن كان في الدار بطل إذ لا يمكن تصحيح كل واحد منهما في نصف الدار شائعاً.
فإن قيل: ينبغي أن تترجح الهبة والصدقة؛ لأنه أقوى منهما، فإن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة والرهن لا يفيد ملك الرقبة.
قلنا: الهبة إن كانت أقوى من هذا الوجه فالرهن أقوى من وجه آخر، فإن الرهن عقد ضمانٍ، والهبة عقد تبرع فوقعت المعارضة بين قوة الرهن من هذا الوجه وبين قوة الهبة من الوجه الذي قلتم، فثبتت المساواة بينهما فكان الحكم هو التنصيف وواحد من ذلك لا يقبل التنصيف.
ولو كانا رهنين في دار أو عبد فذلك كله باطل لتعذر الترجيح وتعذر التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح على كل حال ولم يجعل هذا بمنزلة الرهن من رجلين؛ لأن هناك لا يتحقق الشيوع، فإن العقد واحد والكل يصير رهناً عندهما، ولا يصير عند كل واحد منهما نصفه رهناً فلم يتمكن من الشيوع، أما هنا العقدان توقفا ليعيد كل واحد منهما في الكل عند زوال المزاحمة وفي النصف عند بقائها وقد بقيت المزاحمة فيعيد كل عقد في النصف دون النصف فيتمكن الشيوع.
وإذا اجتمع البيع والإجارة في العبد أو الدار فالبيع أولى؛ لأن البيع أقوى، فإنه يفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء عليه، أما الإجارة لا تفيد ملك الرقبة؛ ولأن البيع يحتمل التنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف فترجح البيع عند أبي حنيفة بعلتين، وعندهما بالعلة الأخرى.
وإذا اجتمعت الهبة والإجارة فالهبة أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها تفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء وتبعاً والإجارة لا تفيد ملك الرقبة والهبة قابلة للتنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف عند أبي حنيفة، وهذا إذا كان الدعوى في العبد، فإن كان في الدار فالهبة أولى أيضاً عند أبي حنيفة لكن للعلة الأولى دون الثانية، وعندهما الترجيح في الدار والعبد للعلة الأولى دون الثانية لما مر.
وإذا اجتمع الرهن مع الإجارة فالإجارة أولى في الدار والعبد جميعاً.
قيل: هذا على قولهما؛ لأن الإجارة تقبل التنصيف عندهما والرهن لا يقبل، فأما عند أبي حنيفة فهما سواء فينبغي أن يبطل.
وقيل: لا بل هذا قول الكل؛ لأن الشيوع في الرهن أشد تأثيراً منه في الإجارة؛ لأن رهن المشاع باطل لا حكم له، وإجارة(6/435)
المشاع فاسدة لها حكم وهو أجر المثل عند استيفاء المنافع، ورهن المشاع من الشريك لا يجوز إجارة المشاع من الشريك جائزة في المشهور من الرواية فكان الشيوع أشد تأثيراً في إبطال الرهن فلهذا صارت الإجارة أولى، ولأن الإجارة أقوى من الرهن؛ (69أ3) لأن الإجارة توجب ما يوجبه الرهن وهو الجنس ويوجب ملك المنفعة أيضاً وهو عقد معاملة، والرهن لا يوجب ملك المنفعة وليس بمعاوضة فلهذا كان الترجيح للإجارة.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل باع ثوباً لرجل من ابن نفسه بغير أمر صاحبه والابن صغير مأذون أو باعه من عند نفسه والعبد مأذون له في التجارة وعليه دين أو لا دين عليه، ثم إن البائع أعلم رب الثوب أنه قد باع ثوبه ولم يعلمه ممن باعه لا يجوز ذلك إلا في عبده الذي عليه الدين من قبل أنه لو أمره ببيعه مبتدئاً من أحد من هؤلاء إلا من عبده الذي عليه الدين.6
قال: امرأة جاءت بألف درهم إلى رجل وقالت: اشتر والد ذلك فالدار للمشتري والإجارة باطلة.
رجل قال لأخر: قد اشتريت عبدك هذا من نفسي بألف درهم والمولى حاضر وقت هذه المقالة فقال: قد أجزت وسلمت قال: أجعله بيعاً الساعة منه بألف درهم، ولو قال: هذا في شيء ماض كان باطلاً.
ولو قال: اشتريت عبدك هذا من نفسي، ومن فلان بألف درهم يعني أمس فقال المولى: قد رضيت لم يجز في شيء؛ لأنه لا بيع واحد بثمن واحد، ولو قال: اشتريت عبدك هذا أمس اشتريت نصفه من نفسي بخمسمائة ونصفه من فلان بخمسمائة درهم فهو جائز في النصف الذي اشتراه من فلان يعني إذا قال المولى: قد أجزت.
إذا اشترى عبداً وقبضه فادعاه رجل أنه عبده وأقام البينة وقد علم بالبيع فقضى له القاضي وقبضه، ثم أمضى العقد فإمضاؤه جائز، وكذلك إذا قضاه قبل أن يقضي له القاضي بالعبد جاز إمضاؤه.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت أبا يوسف: عن رجل غصب من رجل عبداً وباعه، ثم جاء المغصوب منه وأجاز البيع، قال: إن كان يقدر المغصوب منه على أخذ العبد فإمضاؤه جائز وإلا فإمضاؤه باطل، وهذا قول أبي يوسف الأخر، وقد مرت هذه المسألة قبل هذا.
وإبراهيم عن محمد: رجلان بينهما صبرة من طعام باع أحدهما قفيزاً منه، ثم كاله لصاحبه فأجازه الآخر أو لم يجزه فالبيع جائز والثمن كله للبائع، وإن ضاع ما بقي من الطعام فللشريك على البائع نصف قفيز ولا سبيل له على المشتري، ولو عزل قفيراً من الصبرة أولاً، ثم باعه فأجازه الشريك فالثمن بينهما نصفان ولم يجزه وأخذ نصفه فأراد المشتري أن يرجع عليه من تمام القفيز فليس له ذلك، وهو بالخيار وإن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء شارك.(6/436)
إذا قال لغيره: بعتك من هذه الحنطة وهو مكيلها بمائة درهم فإن ههنا يقع البيع، وكذلك السمن والزيت وما يكون له نموذج، فأما الثياب فليس لها نموذج.
وإذا باع من آخر جراباً على أنه أربعون، فإذا هو واحد وأربعون، ثم باعه المشتري على أنه واحد وأربعون فأجاز البائع الأول ذلك فله من هذا الثمن جزؤه من واحد وأربعين، ويقسم الثمن على عدد الثياب.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل غصب من آخر عبداً وباعه الغاصب من رجل وسلمه المشتري، ثم إن الغاصب صالح مولاه منه على شيء، قال: إن صالحه على القيمة دراهم أو دنانير جاز بيع الغاصب وهذا بمنزلة ضمان القيمة، وإن صالحه على عرض من العروض فهذا بمنزلة بيع المستقبل، والبيع الأول باطل.
وفي «المنتقى» : رجل باع عبد رجل بغير أمره، ثم إن البائع اشتراه أقام بينة أنه اشتراه من مولاه بعد البيع قبل ذلك هكذا قاله محمد رحمه الله.
وفيه أيضاً: رجل باع عبد رجل بغير أمره، فقال له صاحب العبد: أحسنت وأصبت ووفقت فهذا لا يكون إجازة للبيع، وله أن يرده؛ لأنه قد يكون هذا على التعجب والاستهزاء، ولكن إن قبض الثمن فهو إجازة للبيع.
وكذلك إذا قال: قد كفيتني مؤنة البيع وأحسنت فجزاك الله خيراً لم يكن ذلك إجازة؛ لأنه قد يجيء هذا على وجه الاستهزاء.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: في رجل باع جارية رجل بغير أمره فلقيه رب الجارية فقال: أحسنت أو وفقت فالبيع جائز استحساناً، فصار في المسألة روايتان.
وفي «المنتقى» : أن قوله بئس ما صنعت إجازة، وكذلك قبض الثمن إجازة.
بشر عن أبي يوسف: رجل باع عبد رجل بغير أمره فبلغه الخبر فقال للبائع: قد وهبت لك الثمن أو قال: تصدقت به عليك فهذا إجازة للبيع إن كان قائماً.
وعنه أيضاً: اشترى رجل أمة رجل من غيره ووقع عليها وعلقت منه وولدت فأجاز المولى جاز، وليس في الولد قيمة ولا عقر على المشتري.
ابن سماعة عن محمد: رجل باع بغير إذنه فجاء المشتري إلى مولاه وأخبره أن فلاناً باع عبده منه، قال: إن باعك بمائة درهم فقد أجزت، فقال: إن كان باعه بمائة أو أكثر من الدراهم جاز، وإن كان بأقل من مائة لا يجوز وإن باعه بألف دينار لا يجوز، وإنما ينظر في هذا إلى النوع الذي وصفه.
وكذلك إن كان قال: إن باعك بمائة دينار فهو جائز فهو على (ما) وصفت لك، وإن قال: إن كان باعك بمائة أجرت ذلك فهذا عبده وإذا غصب عبداً وباعه من غيره، ثم أبق العبد من يد المشتري، ثم أجاز المالك البيع جاز عند أبي حنيفة خلافاً لزفر.(6/437)
الفصل العاشر: في الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منها في الاختلاف في صحة العقد وفساده، هذا النوع ينبني على عبارتين.
أحديهما: أن المتعاقدين إذا ادعى صحة العقد وادعى الآخر فساده، فإن كان مدعي الفساد يدعي الفساد ولا يدفع إستحقاق مال عن نفسه لا يصدق في دعوى الفساد، وهذا لأن مدعي الفساد إذا كان لا يدفع عن نفسه استحقاق مال بقي من جانبه مجرد دعوى الفساد لا يقبل؛ لأن الظاهر شاهد لمدعي الجواز وهو ظاهر عقله ودينه؛ لأن عقل الإنسان ودينه يمنعانه عن مباشرة العقد الفاسد وعن دعوى الجواز كاذباً، وظاهر عقل مدعي الفساد ودينه إن كان يمنعانه عن دعوى الفساد كاذباً يمنعانه عن مباشرة العقد الفساد فظاهر عقل مدعي الفاسد ظاهر له من وجه وعليه من وجه وظاهر عقل مدعي الجواز شاهد له من كل وجه.
والقول قول من يشهد له الظاهر، فمن كانت شهادة الظاهر له أكثر كان قوله أولى بالقبول، أما إذا كان مدعي الفساد بدعوى الفساد يدفع استحقاق مال عن نفسه لو جعلنا القول قول مدعي الجواز بشهادة الظاهر له فقد جعلناه مستحقاً مالاً على صاحبه بشهادة الظاهر والظاهر لا يصلح حجة الاستحقاق، ومتى جعلنا القول قول من يدعي الجواز بشهادة الظاهر لدفع صفة المعصية عن فعلهما والمعاصي أبداً تدفع عن المسلمين بشهادة الظاهر.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسائل: فنقول في بيع العين: إذا ادعى أحد المتعاقدين الفساد بأن ادعى شرطاً فاسداً فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن بيع العين عقد معادلة من الجانبين؛ لأنه بيع بالمثل من الجانبين، فإن مبنى البيع على المساواة والمعادلة من الجانبين فمدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق شيء من حيث المعنى؛ لأنه يحصل له مثل ما استحق عليه متى جاز العقد الاستحقاق فكأنه لم يستحق عليه فبقي مجرد دعوى الفساد من غير دفع الاستحقاق فيكون القول (69ب3) قول الجواز على ما مر.
وفي باب النكاح إذا ادعى أحد الزوجين الصحة والآخر الفساد، بأن ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود وادعى الآخر أنه كان بشهود، أو ادعى أحدهما أن النكاح كان في عقد الغير وادعى الآخر أنه كان بعد انقضاء العدة فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن عقد النكاح معادلة من الجانبين؛ لأن من الجانب الزوج المهر وأنه عين ومن جانب المرأة منافع البضع ومنافع البضع في حكم الأعيان، فصار كبيع العين.
وللمضارب إذا ادعى فساد العقد بأن قال لرب المال: شرط لي نصف الربح إلا عشرة ورب المال يدعي جواز المضاربة بأن قال: شرطت لك نصف الربح فالقول قول(6/438)
رب المال؛ لأن المضارب بدعوى الفساد لا يدفع الاستحقاق عن نفسه وإن كان مستحق على المضارب بعد عقد المضاربة شيء؛ لأن المستحق له جوّز من الربح إنه عين مال والمال خير من المنفعة والاستحقاق بعوض هو خير كلا الاستحقاق فلم يكن المضارب بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه الاستحقاق فلا يقبل قول رب المال إذا ادعى فساد المضاربة بأن قال رب المال للمضارب: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة والمضارب ادعى جواز المضاربة فالقول قول رب المال؛ لأن رب المال بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق لرب المال منفعة المضارب وما يستحق على رب المال عين مال وهو جزء من الربح والعين خير من المنفعة، وإذا كان ما يستحق على رب المال خير أكان المال بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه استحقاق زيادة قال: فكان القول قوله.
وإذا ادعى رب المال السلم لأجل والمسلم إليه لواحد منهما فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن المسلم فيه على تقدير ثبوت الأجل وجواز العقد لا يصير مستحقاً للحال فلا يكون المسلم إليه بدعوى الفساد عن نفسه استحقاقاً فلا يقبل قول، ويكون القول قول من يدعي الجواز وهو رب المسلم بشهادة الظاهر له.
العبارة الثانية: أن العاقدين إذا اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فالقول قول من يدعي الصحة.
كما في بيع العين إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى اشتراط فاسد والآخر يدعي الجواز فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على عقد واحد؛ لأن البيع باشتراط شرط فاسد لا يصير عقداً آخر بل يكون بيعاً فاسداً، فقد اتفقا على عقد واحد واختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب النكاح: إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى أن النكاح كان بغير شهود أو ما أشبه ذلك، وادعى الآخر أن النكاح كان بشهود فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على وجود عقد واحد؛ ولأن النكاح بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر أنما اختلفا في صحته وفساده.
وكذلك في باب السلم إذا ادعى رب السلم الأجل وأنكر المسلم إليه الأجل فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن السلم بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر فقد اتفقا على وجوده عقد واحد واختلفا في صحته وفساده، فكان القول قول من يدعي الجواز.
وفي باب المضاربة: إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال؛ لأن هناك ما اتفقا في وجود عقد واحد بل اختلفا فيه؛ لأن رب المال يدعي الإجازة؛ لأن المضاربة إذا فسدت تصير إجازة فاسدة، فإذا جازت كانت شركة فقد اختلفا في العقد الذي باشر المضاربة.
ادعى الشركة وأنكرها رب المال وأقرّ له بالإجازة فيكون القول قول رب المال، كما لو أنكر المضاربة ولم يقر بالإجازة.
فإن قيل: هذا القدر الذي قلتم في فصل المضاربة يشكل ما إذا قال رب المال(6/439)
للمضارب: شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة، وقال المضارب: شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب، وقد اختلفا في نوع العقد.
قلنا: هناك اتفقا على عقد واحد ابتداء وهو الشركة، فإن المضارب ادعى ذلك ورب المال أقر له بذلك ابتداء المال شرطت لك نصف الربح؛ لأن قوله: وزيادة عشرة مقطوعة عن أول الكلام فلا يتوقف أول الكلام عليه، فكان هذا من رب المال دعوى عقد آخر بعد الإقرار بوجود عقد واحد فلا يصدق في دعواه، بخلاف قوله إلا عشرة؛ لأن هذا استثناء أول الكلام يتوقف على الاستثناء.
فأما إذا اختلف الزوجان في النكاح باشراه بأنفسهما أنه كان في حالة الصغر أو بعد البلوغ فيه، كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر؛ لأن هناك ما اتفقا على وجود العقد بل اختلفا في وجوده؛ لأن عبارة الصغير فيما يضره أو يتردد بين الضرر والنفع ملحق بالعدم.
كعبارة المجنون، فكان المدعي للنكاح في حالة الصغر منكراً وجود النكاح فكان القول قوله. وإن كان بمنزلة ما لو قالت: تزوجتني قبل أن أحلق، أو قال الرجل: تزوجتك قبل أن أحلق، وقال الآخر: لا بل بعد الحلق، أما ههنا اتفقا على وجود النكاح، فإنهما اتفقا أنهما كانا من أهل العقد حال ما باشرا العقد، وإنما اختلفا في صحته وفساده.
ذكر في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل ادعى عبداً في يدي رجل لي اشتريته من صاحب اليد بألف درهم، وقال صاحب اليد: بعته منه بألف درهم وشرطت عليه أن لا يبيعه أو ما أشبه ذلك من الشروط التي تفسد البيع فالقول قول المشتري، وإن كان مدعي الشرط هو المشتري فالقول قول البائع؛ لأنهما اتفقا على وجود العقد واختلفا في صحته وفساده ومدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق مال على العبارة الأولى، وعلى العبارة الثانية اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فيكون القول قول من يدعي الصحة.
فإن قال مدعي الشراء: اشتريت عبدك هذا بعبدي هذا وقال البائع: بعته منك بألف درهم ورطل من خمر، أو قال: بألف درهم وخنزير فأقاما البينة فالبينة بينة البائع، وإذا ادعى للبائع أن الثمن كله خمر أو خنزير فأقاما البينة فالبينة بينة المشتري.
والحاصل: أنه إذا اتفقت بينة البائع والمشتري على ذكر ما يصلح ثمناً وأثبت أحديهما شرطاً زائداً يفسد به البيع، كما إذا اتفقا أن البيع كان بألف درهم وزادت أحديهما خنزيراً أو رطلاً من خمر فالبينة بينة الفساد، وإذا اختلفا في ذكر ما يصلح ثمناً فأثبت أحديهما ما يصلح ثمناً بأن قال: كان البيع بألف درهم أو بهذا العبد، وأثبتت الأخرى ما لا يصلح ثمناً بأن قالت: الثمن كله خمر أو خنزير فالبينة بينة الصحة.
وذكر المعلى عن أبي يوسف: رجل باع من آخر داراً، ثم قال: بعتها بيعاً صحيحاً فاسداً، وقال المشتري: اشتريتها شراء صحيحاً فإني أقول للبائع: كيف بعته فإني أقول(6/440)
للمشتري: كيف اشتريته، فإن قال: اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن حلفت البائع على ذلك فإن حلف قلت للبائع: كيف بعته؟ فإن قال: بعته على أن مسمى طعاماً اربح فيه، حلفت المشتري ما اشتراه بهذا الشرط، فإن حلف كان البيع صحيحاً، وإن قال البائع: بعتها بخنزير فالقول قوله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد بألف درهم ورطل خمر وقال المشتري: اشتريته بألف درهم لا غير، قال: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في مثل هذا: أن القول (70أ3) قول من يدعي الصحة، وأما أنا فأرى أن يجعل القول قول البائع.
ولو قال: بعتك بألف درهم حالة وقال المشتري: بألف درهم إلى العطاء فالقول قول البائع: وإن أقاما البينة (فالبينة) بينة المشتري.
وعن أبي يوسف: في رجل باع آخر متاعاً وسلمه إلى المشتري، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريته بألف درهم، وقال البائع: بعته بألف درهم، أو قال: بمائة دينار وزاد في دعواه أمراً يفسد به البيع إما شرطاً أو لمن حرم يفسد به البيع، فإن البائع يحلف على دعوى المشتري وينتقض البيع إن حلف، وليس على المشتري يمين بدعوى البائع؛ لأن دعوى البائع لو أقر أنه جميعاً لم يلزم بها البيع.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد قال في مجلس آخر بعد هذا في رجل باع عبداً من آخر وقد أقرا جميعاً أنه كان آبقاً، فقال البائع: بعتك في أيامه وقال المشتري: لعينيه بعدما أخذته فالقول قول الذي يدعي صحة البيع أنهما كانا، وكذلك في نظائره، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي الصحة.
رجل باع من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إلى المشتري، ثم إن البائع باعه من غيره بيعاً صحيحاً وقبضه المشتري الثاني، فقال البائع للمشتري الثاني: بعتكه قبل أن أقبضه من المشتري الأول وقبل أن ينفسخ البيع بيني وبينه، وقال المشتري الثاني: لا بل بعته بعد ما قبضه وفسخت البيع الأول فالقول قول المشتري الثاني، ولا يصدق البائع على إبطال البيع الثاني وقد انفسخ البيع الأول بقبض المشتري الثاني.
إبراهيم عن محمد: في رجل اشترى ألف مَنّ من القطن، ثم اختصم البائع والمشتري بعد ذلك وفي يد البائع والمشتري بعد ذلك، وفي يد البائع ألف مَنّ من القطن يوم الخصومة، فقال البائع: لم يكن في ملكي يوم البيع قطن أصلاً أو قال: قد كان وقد بعت ذلك القطن ولم يكن هذا القطن في ملكي يوم البيع، وإنما أحدث بعد ذلك فالقول قول البائع أنه لم يبع هذا القطن.
رجل قال لأخر: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال ذلك الرجل: لم اشتره منك فسكت البائع حتى قال: المشتري في ذلك المجلس أو بعده هي تلي قد اشتريته منك بألف درهم فهو جائز. قال: وكذلك في النكاح وفي كل شيء يكون لهما جميعاً فيه حق إذا رجع المنكر إلى التصديق قبل أن يصدقه الأخر على إنكاره فهو جائز، وكل شيء يكون الحق فيه لواحد مثل الهبة والصدقة والإقرار فلا ينفعه إقراره له بعد إنكاره، هذه المسألة من «المنتقى» .(6/441)
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبد غيره بغير أمره وسلمه إلى المشتري ومات في يد المشتري فجاء المولى بعد ذلك بطلت يمينه وقال: قد كنت أجزت البيع لا يقبل قوله إلا ببينة، ولو قال: كان باعه بأمري قبل قوله.
نوع آخر في الاختلاف الواقع بينهما في الثمن
يجب أن يعلم أن البائع مع المشتري إذا اختلفا في جنس الثمن أنه دراهم أو دنانير، أو في قدره أنه ألف أو ألفان، أو في صفته أنه صحاح أو جياد أو زيوف كسرة والسلعة قائمة بعينها أنهما يتحالفان.
اختلفا قبل قبض المشتري المبيع أو بعده؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» لا يجب الفضل، غير أن هذا الاختلاف إذا كان قبل (قبض) المبيع فالتحالف موافقه القياس؛ لأن المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع بالثمن الذي ادعاه، والبائع ينكر ويدعي على المشتري زيادة ألف في الثمن والمشتري ينكر، فكان كل واحد منهما مدعياً ومنكراً واليمين حجة المنكر في الشرع فكان التحالف قبل القبض على موافقة القياس.
وإن كان هذا الاختلاف بعد قبض (المبيع) فالتحالف على مخالفة القياس.
والقياس: أن لا يحلف البائع وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المشتري لا يدعي على البائع شيئاً ينكره البائع؛ لأن حق المشتري في المبيع رقبة وتصرفاً وذلك سالم للمشتري، الرقبة بحكم إقرار البائع والتصرف بالقبض فكان ينبغي أن لا يحلف البائع لكن حلفناه بالنص، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: أن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما بعد القبض لا يتحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص تناول المتبايعين وهذا الاسم لا يتناول الورثة.
وأما على قول محمد: فالتحالف بعد القبض على موافقة القياس وبه أخذ بشر بن غياث والكرخي؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه، البائع يدعي على المشتري العقد بألفين والمشتري ينكر، والمشتري يدعي على البائع العقد بألف والبائع ينكر، والعقد بألف غير العقد بألفين.
فكان كل واحد منهما منكراً من هذا الوجه فكان التحالف بعد القبض على موافقة القياس، ولهذا قال محمد رحمه الله: بأن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما قبل القبض أو بعد القبض يتحالف فيما بين المتعاقدين على موافقة القياس لكونهما منكرين فيمكن قياس ورثتهما عليهما.
وإذا وقع الاختلاف في المبيع فالتحالف قبل نقد الثمن على موافقة القياس وبعد نقد الثمن على مخالفة القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف بدلالة النص الذي رويناه، والأقضية القياس أن لا يحلف المشتري؛ لأنه مدعي لكن أوجبنا عليه اليمين بدلالة النص(6/442)
الذي روينا؛ لأنه أوجب اليمين على المدعي، متى اختلفا في أحد بدلي العقد وهو الثمن، فكذا إذا اختلفا في البدل الآخر، ثم أوجب التحالف كيف يتحالفان.
ذكر في «الأصل» : أن كل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه، يحلف البائع بالله ما بعته بألف كما يدعيه المشتري، ويحلف المشتري بالله ما اشتريته بألفين كما يدعيه البائع، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه.
وذكر محمد في «الزيادات» : في باب السلسلة أن كل واحد منهما يحلف على دعوى نفسه وعلى دعوى صاحبه يحلف البائع بالله: ما بعته بألف كما ادعاه المشتري ولقد بعته بألفين كما ادعيت أنت، ويحلف المشتري بالله: ما اشتريته بألفين كما ادعى البائع ولقد اشتريته بألف كما ادعيت أنت.
وكان أبو يوسف أولاً يقول يبدأ بيمين المشتري وهو قول زفر ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهما الله؛ لأن المشتري أشدهما إنكاراً؛ لأنه منكر صورة ومعني والبائع عندهما غير منكر أصلاً.
وعند محمد منكر صورة؛ لأن المشتري وإن كان يدعي على البائع البيع بألف فإنما يدعيه صورة لا معنى؛ لأن المقصود من العقد الذي يدعيه المشتري ملك الرقبة والتصرف وكل ذلك سالم له فكان مدعياً صورة فكان البائع منكراً صورة فهو معنى قولنا: المشتري أشدهما إنكاراً فلهذا كانت البداية بيمينه أولى، ثم إذا تخالفا ذكر في كتاب الدعوى أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين كما يدعيه المشتري؛ لأن البيع بأقل الثمنين ثابت باتفاقهما، وفي الاستحسان يترادان العقد لظاهر قوله عليه السلام: «تحالفا وترادا» فهذا أمر عرف بالنص بخلاف القياس، ويحتاج إلى فسخ القاضي أو إلى فسخهما لينفسخ العقد إما بدون ذلك لا ينفسخ العقد بينهما.g
وفي مسائل السلم يقول: فيما إذا اختلفا في المسلم فيه أو في مقدار رأس مال السلم وحلفا فالقاضي يقول لهما ماذا تريدان، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وإن قالا: لا نفسخ العقد تركهما القاضي رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه سيمضيان في البيع.
وفي كتاب البيوع للحسن بن زياد إذا حلف كل واحد منهما على دعوى الآخر فقبل أن يفسخ القاضي العقد (70ب3) بينهما فللبائع أن يقول أنا ألزمه المشتري بألف درهم وللمشتري أن يقول أنا آخذه بألفي درهم وبعد ما فسخ القاضي بينهما فليس لأحدهما كلام وأنهما ما نكل عن اليمين لزمه ما ادعاه صاحبه لصيرورته مقراً بما يدعيه صاحبه عند نكوله، وأيهما أقام بينة قبلت بينته.
وإن أقاما بينة فالبينة بينة البائع؛ لأن فيها زيادة إثبات هذا وقع الاختلاف بين المتبايعين، فإن وقع الاختلاف بين ورثتهما أو بين ورثة أحدهما وبين الحي، فإن كانا قبل(6/443)
قبض السلعة يتحالفان بالإجماع، وإن كانا بعد القبض فكذلك عند محمد، وعلى قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يتحالفان، وقد ذكرنا هذا إذا اختلفا في الثمن مقصوداً، وأما إذا اختلفا في الثمن مقتضى اختلافهما في شيء آخر.
وصورته: رجل اشترى من آخر سمناً في زق ووزنه مائة رطل، ثم جاء بالزق ليرده ووزنه عشرون، فقال البائع: ليس هذا زقي، وقال المشتري: هو زقك فالقول قول المشتري، سمي لكل رطل ثمناً بأن قال: كل رطل بدرهم أو لم يسم وجعل هذا اختلافاً في مقدار المقبوض والقول قول المشتري في أصل القبض فكذا في مقدار المقبوض.
ثم هذا اختلاف في الثمن؛ لأن بزيادة وزن الزق ينتقص الثمن، وبنقصان وزن الزق يزداد الثمن، فالبائع يدعي زيادة في الثمن والمشتري ينكر، ولم يعتبر هذا الاختلاف في إيجاب التحالف؛ لأن الاختلاف في الثمن إنما وقع مقتصى اختلافهما في الوزن، فصار الأصل أن الاختلاف في الثمن إنما يوجب التحالف إذا كان الاختلاف واقعاً فيه مقصوداً، وههنا شيئاً آخر وكلمات كثيرة تأتي في آخر هذا النوع إن شاء الله تعالى، هذا إذا كانت السلعة قائمة بعينها لم يتغير عن حالها، فأما إذا كانت قد تغيرت عن حالها فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون التغير من حيث الزيادة وإنه على وجهين أيضاً: فإن كانت الزيادة من حيث السعر وقد اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض أو بعض القبض فإنهما يتحالفان، وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان أي: زيادة ما كانت متصلة أو منفصلة متولدة من العين كالولد أو بدل العين كالأرش أو بدل المنفعة كالكسب والغلة، وهذا لا يوجب التحالف الفسخ والزيادة من حيث السعر لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ على كل حال فكذا بالتخالف، وكذا الزيادة من حيث العين الحادثة قبل القبض لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف إلا أن الزيادة المنفصلة إذا كانت متولدة من عينها كالولد أو بدل العين(6/444)
كالأرش، والعقر وقد تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما، فإن الزيادة تصير للبائع عندهم جميعاً، كما لو حصل الفسخ بالإقالة أو بالرد بالعيب.
وإن كانت الزيادة المنفصلة كالكسب والغلة إذا تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما أو تفاسخا، فإن الكسب والغلة تكون للمشتري عند أبي حنيفة، وعلى قولهما يكون للبائع، كما لو حصل الفسخ بالإقالة قبل القبض أو بالرد بالعيب أو بالهلاك، فإن هناك الزيادة تكون للمشتري عند أبي حنيفة.
وعندهما: تكون للبائع فالأصل عند أبي حنيفة أن الكسب الحادث قبل القبض إنما يكون لمن كان الأصل له يوم الكسب، وعلى قولهما لمن صار له ملك الأصل هذا إذا حدثت الزيادة قبل القبض.
فأما إذا حدثت بعد القبض، إن كانت الزيادة كالثمن والحال فعلى قولهما: لا(6/445)
يتحالفان إلا أن يرضى المشتري أن يرد العين مع الزيادة المتصلة الحادثة بعد القبض عندهما يمنع الفسخ إلا برضى من له الحق في الزيادة، ولهذا قالا: بأن الصداق إذا أراد زيادة متصلة بعد القبض، ثم ورد الطلاق قبل الدخول، فإن الصداق لا يتنصف إلا برضاء المرأة، والصداق قبل الدخول إنما يتنصف بحكم الفسخ على ما يعرف في كتاب الطلاق، ثم امتنع التنصيف لما كانت الزيادة المتصلة عندهما إلا برضاء المرأة فكذا يمنع الفسخ ههنا إلا برضاء المشتري، وعلى قول محمد يتحالفان؛ لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض كالولد لا يمنع التحالف على مذهبه، فالمتصلة أولى وإذا وجب التحالف على مذهبه وتخالفا، فإذا ترادان لم يذكر هذا في «الكتاب» .
وقد اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: بأنهما يترادا العين رضي المشتري بذلك أم سخط، وقاسوا هذه المسألة على الصداق، فإن الصداق يتنصف عند محمد رحمه الله رضيت المرأة بذلك أم سخطت فكذلك ههنا المشتري يرد العين على البائع مع الزيادة..... ومنهم من يقول بأيهما يترادان القيمة إلا أن يشأ المشتري أن يرد العين مع الزيادة.
فهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الصداق على مذهب محمد رحمه الله.
وجه الفرق له في ذلك: وهو أن تنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثابت على موافقة القياس أن الطلاق قبل الدخول فسخ للنكاح معنى من حيث إن جميع المعقود عليه عاد إلى المرأة كما خرج عن ملكها من غير سبب جديد وهذا معنى الفسخ، وهو قطع للملك الثابت بالنكاح من حيث الحقيقة، فإن الطلاق موضوع للقطع لا للفسخ، ولهذا صح بعد الدخول وإن كانت لا تثبت معنى الفسخ بعد، تبدأ الدخول فكان فسخاً معنى قطعاً حقيقية..... الشرع على الشبهين خطهما بقدر الإمكان فجعل للزوج النصف عملاً بالمعنى وبقي النصف للمرأة بالحقيقة، وإذا كان كذلك كان ثبوت حق الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول على موافقة القياس لولا الزيادة فلم يجز أن يبطل حقه بالزيادة المتصلة؛ لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل ولا يجوز إبطال الأصل بالتبع.
وأما الفسخ بعد التحالف ثابت على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لما ذكرنا أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين؛ لأنه متفق عليه إلا إن اثبتنا حق الفسخ بخلاف القياس مراعاة لحق البائع حتى يعود إلى رأس ماله إذا لم يصل إليه ما ادعى من البدل، وإذا كان الفسخ ثابتاً له على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لا يكون له الفسخ على وجه يكون فيه إبطال حق على المشتري وفي الفسخ على العين إبطال حق على المشتري وهو الزيادة المتصلة.
فلهذا قلنا بأنهما يترادان القيمة ههنا إلا أن يرضى المشتري برد العين مع الزيادة هذا إذا كانت الزيادة متصلة، فأما إذا كانت منفصلة متولدة عن عيبها كالولد أو بدل العين كالأرش والعقر بعد القبض فإنهما يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويكون القول قول المشتري مع يمينه رضي المشتري برد الزيادة أو لم يرض؛ لأن هذه الزوائد تمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا يمنع الفسخ بالتحالف ومتى امتنع الفسخ على مذهبهما لا يجب التحالف كما بعد هلاك السلعة على مذهبه على القيمة.
وإن كان الفسخ على العين متعذر فكذلك لا يمنع الفسخ بالتحالف على القيمة ألا ترى أنه بعد هلاك العين يتحالفان هذا وإن كانت الزيادة بدل المنفعة فإنهما يتحالفان بالإجماع؛ لأن هذه الزيادة لا تمنع فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف كان الكسب للمشتري عندهم جميعاً كما لو حصل الفسخ بالرد بالعيب بعد القبض وبالإقالة بعد القبض، فإنه يبقى الكسب للمشتري عندهم جميعاً وبعيبه ورد النص فكذلك هذا، هذا (71أ3) إذا تغيرت من حيث الزيادة.
أما إذا تغيرت من حيث النقصان كان النقصان من حيث السعر، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً حصل قبل القبض أو بعده؛ لأن النقصان من حيث السعر لا يمنع فسخ العقد بسائر الأسباب حصل قبل القبض أو بعده فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف أيضاً.
فأما إذا كان النقصان من حيث العين إن كان لفوات وصف إن كان قبل القبض، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الصفة قبل القبض لا يمنع الفسخ بالعيب ويختار الرؤية والشرط، وإن كذَّبه البائع فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض لا يمنع الفسخ بحكم العيب ويختار الرؤية والشرط وإن كره البائع ذلك فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً.
وإن حصل بعد القبض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه ناقصاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض يمنع الفسخ بحكم العين ويختار بالشروط والرؤية لا برضاء البائع بالإجماع، وإذا امتنع الفسخ امتنع التحالف عندهما.
وفي قول محمد: يتحالفان؛ لأن امتناع الفسخ لفوات الصفة لا يكون أكثرها لا من امتناع الفسخ بسبب الهلاك وذلك لا يمنع التحالف على مذهبه على القيمة فكذا ههنا يتحالفان، ويتردان القيمة على مذهبه إلا إن رضي البائع أن يأخذ العين ناقصاً كما في الصداق، فأما إذا كان النقصان بفوات بعض المبيع إن كان قبل القبض، فإنهما يتحالفان على القائم عندهم جميعاً، وإن كان بعد القبض فالقول قول المشتري مع اليمين عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» وعلى رواية «الأصل» إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.
وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحالفان في القائم ويترادان القائم والقول قول المشتري في حصة الهلاك من الثمن، وقال محمد رحمه الله: يتحالفان عينهما، ثم يترادان البيع في الحي على العين، وفي الهالك على القيمة.
وصورتها: رجل اشترى عبدين صفقة واحدة وقبضهما، ثم مات أحدهما واختلفا(6/446)
في الثمن فقال المشتري: اشتريتهما بألف درهم، وقال البائع: اشتريتهما بألفي درهم فهو على الاختلاف الذي ذكرنا يجب أن يعرف أولاً حكم المسألة فيما إذا كان المشتري عبداً واحداً وقبضه المشتري ومات واختلفا في الثمن.
وفي تلك المسألة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يتحالفان ويكون القول قول المشتري مع يمينه، وقال محمد: يتحالفان ولقب المسألة أن هلاك السلعة هل يمنع التحالف عندهما خلافاً لمحمد رحمه الله قوله عليه السلام: «إذا اختلفا المتبايعان تحالفا وترادا» من غير فصل بينهما إذا كانت السلعة قائمة أو كانت هالكة؛ ولأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه فيتحالفان كما في حال قيام السلعة، ولهما قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» شرط قيام السلعة لإيجاب التحالف، وقد ذكرنا أن إيجاب التحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص شرط لذلك قيام السلعة يبقي على أصل القياس؛ ولأن حكم التحالف الفسخ بعد صحة البيع والهلاك لا يقبل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف، وهذا إذا هلكت السلعة بعد القبض.
فأما إذا هلكت بعد القبض فقد انفسخ العقد حين هلكت السلعة فلا معنى لاختلافهما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً، وإذا عرفت حكم التحالف في العبد..... إلى العبدين وفيه اختلاف على ما ذكرنا فأبو حنيفة مرَّ على أصله فيقول التحالف بعد القبض عرف بخلاف القياس بالنص، والنص أوجب التحالف شرط قيام السلعة من كل وجه، فإن النبي عليه السلام قال: و «السلعة قائمة» ذكر السلعة مطلقاً ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، فما بعد هلاك بعض السلعة يبقى على أصل القيام فلا يشرع التحالف بعد هلاك بعض السلعة ويكون القول فيه قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر زيادة الثمن.
وقول أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» ، أو لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً على رواية «الأصل» تكلم المشايخ فيه أن هذا الاستثناء ينصرف إلى مادي وأن البائع بأي طريق يأخذ القائم قال مشايخ بلخ: هذا الاستثناء ينصرف إلى يمين المشتري والبائع يأخذ القائم بطريق الصلح عما ادعى قبل المشتري، وهذا لأن حق البائع قبل المشتري في الثمن لا في العبد القائم بعينه، فإذا أخذ منه هذا العبد ولم يأخذ من ثمن الميت شيئاً، أو لم يأخذ معه شيئاً أصلاً، فكأنه صالحه من الثمن على العبد القائم.
وصار نقداً تقدير ما قال: في «الكتاب» على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة ويكون القول قول المشتري مع يمينه إلا أن يأخذ البائع العبد القائم ولا يأخذ شيئاً آخر فلا يحلف المشتري؛ وهذا لأن المشتري إنما يحلف إذا أنكر شيئاً يدعيه البائع، وإذا أخذ البائع العبد القائم صلحاً عن جميع ما ادعاه على المشتري سقط دعوى المشتري البائع فلا حاجة إلى تحليف المشتري.(6/447)
وغيرهم من المشايخ قالوا: هذا الاستثناء منصرف إلى التحالف والبائع يأخذ القائم على جهة التحالف ويصير تقدير ما قال في «الكتاب» : على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد القائم، ولا يأخذ من ثمن الميت فيتحالفان، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه واختلفوا فيما بينهم في المعنى بعضهم قالوا: إنما لا يجب التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله نظراً للبائع؛ لأنه خرج عن ملكه عند إذٍ والأن يعود إليه عند واحد والعرف جرى بين الناس أنهم يضمون الرديء إلى الجيد لترويج الرديء إلى الجيد وعسى كان الهالك هو الجيد، فلو قلنا: إنهما يتحالفان تضرر به البائع غير أنه إذا رضي أن يأخذ الحي فقد رضي بلحوق الضرر بنفسه فيترك وذاك هذا الرجل اشترى عبداً وقبضه فاطلع على عيب كان عند البائع فقبل أن يرده حدث عنده عيب آخر، فأراد أن يرده ليس له ذلك، فإن البائع إن قبل له ذلك، كذلك ههنا.
وبعضهم قالوا: شرط التحالف عند أبي حنيفة قيام جميع المعقود عليه، وما بقي العقد على الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف لفوات شرطه ومالم يرض البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً لا يمكننا فسخ العقد في الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف، فأما إذا رضي أن يأخذ ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أمكننا فسخ العقد في الهالك فيعتبر العقد في الهالك ففسخنا حكماً قبل التحالف من حيث الإعتبار؛ لأنه شرط صحته فيكون القائم جميع المعقود عليه فيتحالفان، ويجوز أن يعتبر العقد منفسخاً في الهالك متى رضي البائع أن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.
وإن كان الهالك ما لا يقبل الفسخ؛ لأنه ينفسخ حكماً لا مكان التحالف في القائم، وقد يجوز أن يثبت الفسخ في الهالك تبعاً لغيره وإن كان لا يثبت مقصوداً، ثم شرط لصحة الفسخ في الهالك ومن البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أو لم يعتبر رضى المشتري وذلك؛ لأنَّا لو أوجبنا التحالف من غير رضى البائع وفسخنا العقد في الميت قبل التحالف من حيث الإعتبار بطل حق البائع في الهالك أصلاً من غير رضاه؛ لأنه يسقط حقه في الثمن الهالك من غير أن يعود إليه ما يصلح عوضاً عنه لإمكان التحالف في القائم (71ب3) ومن حكم التحالف فسخ العقد على وجه لا يبطل حق كل واحد منهما بغير عوض، فشرط رضى البائع أن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئاً، حتى إذا اعتبر العقد منفسخاً في الهالك يكون فوات حقه في ثمن الهالك من غير عوض يحصل له برضاه، ولم يشترط رضى المشتري، وإن كان متى تحالفا ينفسخ العقد في القائم والهالك جميعاً بغير رضاه؛ لأن حقه إنما يزول عنها بعوض فإن الحي إن زال عنه سلم له ثمنه والميت كذلك، والفسخ بالتحالف على هذا الوجه صحيح من غير رضاء المشتري، كما لو كانا قائمين فتحالفا، وطلب البائع الفسخ، فإنه يفسخ العقد فيهما وإن أبى المشتري ذلك فكذلك هذا.
وقال بعضهم: المانع من التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله هلاك أحد العبدين بعد(6/448)
القبض، فإنه لو كان هلك أحدهما قبل القبض وقبض المشتري الآخر، ثم اختلفا كانا يتحالفان؛ لأن المانع من التحالف عند أبي حنيفة إذا هلك أحدهما بعد القبض تعذر الفسخ في الحي بالتحالف؛ لأن الفسخ بالتحالف نظير الفسخ بخيار الرؤية وبخيار الشرط، ولا يملك المشتري الفسخ في القائم بعد هلاك أحد العبدين في يده بخيار الشرط وبخيار الرؤية، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، فكذا بالتحالف، فأما متى كان أحدهما مالكاً في يدي البائع قبل القبض أمكن المشتري رد ما قبض بخيار الرؤية وبخيار الشرط، فأمكنه الفسخ بالتحالف.
وإذا ثبت هذا فنقول: متى رضي البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً فقد جعل ما هلك في يد المشتري كالهالك قبل القبض؛ لأن من حكم هلاك المبيع قبل القبض أن لا يكون على المشتري ثمنه ويأخذ الحي لا غير، فصار للهالك في يد المشتري بهذه الصفة كالهالك قبل القبض من حيث الحكم.
ولو هلك أحدهما قبل القبض حقيقة يتحالفان في الحي، فكذلك إذا جعل هالكاً قبل القبض حكماً لما رضي البائع أن يأخذ الحي، ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً.
وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أيضاً، فإن من أصله أن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف وقد هلك بعض المعقود عليه وبقي البعض فيمتنع التحالف في الهالك ويكون القول قول المشتري في حصة الهالك لا في القائم هذا كما قلنا في الإجارة، وإذا اختلفا في مقدار الأجر بعد استيفاء بعض المنفعة دون البعض يتحالفان فيما لم يستوف من المنفعة وفيما استوفى وهلك جعل القول قول المستأجر مع يمينه فكذلك هذا؛ وهذا لأن المقصود من التحالف الفسخ ليعود كل واحد منهما إلى رأس ماله وانفسخ، إن تعذر في الهالك لم يتعذر في القائم.
ألا ترى أنه لو وجد بالقائم عيباً رده، ولو وجد بالهالك عيباً لا يرده فكذا هذا.
ثم ذكر في «الكتاب» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول المشتري في حصة الميت، ويتحالفان ويترادان في العبد القائم، ولم يذكر لغيبة التحالف على مذهبه فمن مشايخنا من قال: يقسم الثمن أولاً على قيمة العبدين فيخص الحي ألف درهم على زعم البائع، وعلى زعم المشتري خمسمائة، وإذا كان قيمتهما سواء فيحلف المشتري بالله ما اشتريته بألف درهم كما يدعيه البائع، فإن نكل ثبت ما ادعاه البائع وإن حلف لم يثبت، ثم يحلف البائع بالله ما بعته بخمسمائة كما يدعيه المشتري، فيتحالفان في القائم على حصته ولا يتحالفان في جملة الثمن، فإذا تحالفا فسخ العقد على الحي إن طلبا أو طلب أحدهما ذلك، ورد المشتري الحي على البائع، وسقط عن المشتري حصته.
ثم يحلف المشتري على حصة الهالك بالله ما اشتريته بألف درهم، فإن نكل لزمه ما ادعاه البائع من حصة الهالك وذلك ألف درهم، وإن حلف لزمه ما أقرّ به وذلك خمسمائة درهم، ومن المشايخ من قال: لا بل يتحالفان في جملة الثمن فيحلف البائع بالله ما بعتهما بألف درهم كما يدعيه المشتري ويحلف المشتري، بالله ما اشتريتها بألفي(6/449)
درهم كما يدعيه البائع، قالوا: وهكذا ذكر في «الجامع الكبير» : وهذا لأن المقصود من التحالف النكول، وإنما يحصل هذا المقصود إذا حنث الحالف في يمينه، ومتى حلف كل واحد منهما في حق الحي على حصته لا غير لا يحنث واحد منهما؛ لأن المشتري يحلف بالله ما اشتريته بألف فيحلف ولا يحنث في يمينه وإن اشتراهما بألفين؛ لأنه لم يشتر الحي على الإنفراد بألف وإنما اشترى عبدين بألف.
وكذلك البائع إذا حلف بالله ما بعت الحي بخمسمائة يحلف في يمينه، وإن كان باعهما بألف كما يدعيه المشتري؛ لأنه لم يبع الحي على الانفراد وبخمسمائة إنما باع العبدين بألف درهم يبقى هذا القدر أن التحالف في الميت غير مشروع، والجواب أن التحالف عنده في الميت غير مشروع لأجل الفسخ؛ لأن الفسخ في الهالك مقصوداً متعذر والتحالف في الهالك ههنا عند أبي يوسف ما كان للفسخ فيه، وإنما كان لإمكان التحالف في القائم.
وإذا تحالفا في جملة الثمن يترادان العقد في القائم على العين، وفي الميت لا يفسخ العقد ويكون القول قول المشتري في مقدار ثمنه ويجب أن يكون كيفية التحالف على قول أبي حنيفة على هذا الوجه متى رضي البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت.
فعند بعض المشايخ يتحالفان في حصة الحي من الوجه الذي ذكرنا، وعند بعضهم يتحالفان في جملة الثمن، ثم إذا تحالفا يفسخ العقد في الحي فيرد الحي على البائع ولا يأخذ البائع من ثمن الميت شيئاً هذا إذا تصادقا أن قيمتها يوم العقد ويوم القبض على السواء.
فأما إذا اختلفا في قيمتهما يوم العقد ففي حق الحي ينظر إلى قيمته للحال، ويجعل الحال حكماً ويكون القول من يوافق قيمته للحال، وأما في الهالك إذا اختلفا في قيمته فقال المشتري: كانت قيمته يوم القبض خمسمائة وقيمة القائم ألف درهم، وقال البائع على عكس ذلك لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب نصاً.
وروى أصحاب «الأمالي» : عن أبي يوسف: أن القول قول البائع وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الأصل» : في مسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله؛ وهذا لأن المشتري لزمة ضمان الثمن كله بالقبض فهو بما يدعي يريد براءة نفسه عن بعض الثمن فلا يصدق إلا ببينة، ومحمد رحمه الله مر على أصله أيضاً: فإن هلاك جميع السلعة عنده لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى فيتحالفان ويرد القائم ويفسخ العقد في الهالك على قيمته.
وكيفية التحالف على محمد ظاهر يحلف المشتري أولاً بالله ما اشتريتهما بألفين كما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه ألفان وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بألف كما يدعيه المشتري، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري. وإن حلف البائع أيضاً لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما من الثمنين، فإن اتفقا وطلب أحدهما أو كلاهما الفسخ فسخ القاضي العقد بينهما ويأمر المشتري برد القائم وقيمة الهالك، وإن اختلفا في قيمة الهالك(6/450)
فالقول قول المشتري مع يمينه لإنكاره الزيادة.
وقد ذكر محمد رحمه الله في إقرار «الأصل» : في باب الإقرار بالبيع إذا خرج بعض المبيع عن ملك المشتري بأن باع مثلاً نصف العبد أو ما أشبهه، ثم اختلفا في الثمن فإنهما لا يتحالفان لا فيما باع ولا فيما بقي على قول أبي يوسف القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه، فإذا رضي بذلك فحينئذٍ يتحالفان على ما بقي في ملك المشتري بحصة ما خرج (72أ3) عن ملكه على قول المشتري، وقال محمد: يتحالفان على قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلكه المشتري منه فحينئذٍ يتحالفان في القائم على العين وفيما باع على القيمة.
فكلهم فرقوا بين مسألة كتاب الإقرار وبين مسألة كتاب البيوع، فإن في مسألة البيوع أبي حنيفة التحالف إلا بشرط أن يأخذ البائع الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً، وفي مسألة كتاب الإقرار أن التحالف مطلقاً غير معلق بشرط، فإنه لم يقل لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن لا يأخذ من ثمن ما خرج عن ملكه شيئاً، وفي المسألتين جميعاً اختلفا في الثمن بعد ما خرج بعض المعقود عليه.
وأبو يوسف رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان في القائم رضي البائع أو كره، وفي مسألة الإقرار قال: لا يتحالفان فيما بقي إلا أن يشاء البائع أن يأخذ النصف الباقي، ومحمد رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان على القائم على العين وعلى الهالك على القيمة رضي البائع أو كره، وههنا شرط الإيجاب التحالف في النصف الباقي رضي البائع بأخذ النصف الباقي. والفرق مكتوب في....
وفي «المنتقى» : إذا اشترى جراب مروي واستهلك منه ثوباً أو هلك، ثم اختلفا في الثمن قال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً ولكن يأخذ الثمن الذي أقر به المشتري، وقال أبو يوسف: في المستهلك قول المشتري بالحصة وفي البقية يرده إلا أن يرضى المشتري أن يأخذها بما ادعاه البائع وعلى كل واحد منهما اليمين على دعوى صاحبه.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هلاك الثوب من الجراب من غير فعل أحد وبين موت أحد العبدين، فقال: في موت أحد العبد للبائع أن يأخذ الحي معه شيئاً، وقال ههنا: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً قال: وكذلك الثياب كلها والبقر والغنم والرقيق والدواب والكيل والوزن أيضاً.
واختلف قول أبي يوسف فيما إذا اختلفا في قيمة الثوب الهالك فقال في موضع القول فيها قول البائع، وكذلك قال: في موت أحد العبدين القول قول البائع في الهالك.
وفي «الأصل» : إذا اشترى عبدين وقبض أحدهما ومات في يده ومات الآخر في يد(6/451)
البائع، ثم اختلفا في ذلك، فقال المشتري للبائع: قبضت عبداً يساوي ألف درهم ومات عبدك عبد يساوي ألفي درهم، وقال البائع: لا بل قبضت عبداً يساوي ألفي درهم والذي مات عندي يساوي خمسمائة ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه.
وإنما وضع المسألة فيما إذا مات العبدان جميعاً المقبوض وغير المقبوض وذلك؛ لأن أحدهما متى كان قائماً لا يلتفت إلى اختلافهما في مقدار قيمة ما هلك عند البائع؛ لأنهما تصادقا على أن قيمة أحدهما أكثر وقيمة الآخر أقل، فمتى كان أحدهما حياً وقوم وظهر قيمته نظير قيمة الميت أنه كان أقل أو أكثر فلا يلتفت إلى اختلافهما.
فوضع المسألة فيما إذا ماتا جميعاً حتى لا يعرف قيمة واحد منهما من حيث العيان والمشاهدة، ثم إنما جعل القول قول المشتري؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار ما ورد عليه قبض المشتري أو في مقدار ما تأكد على المشتري من الثمن؛ لأن البائع بما يدعي يقول: قبضت أنها المشتري أربعة أخماس المبيع وتأكد عليك أربعة أخماس الثمن، والمشتري يقول: لا بل قبضت ثلث المبيع وتأكد على الثلث الثمن وأربعة أخماس خمسة أكبر من الثلاثة فالبائع يدعي زيادة فيما قبضه المشتري ويدعي زيادة تأكد في الثمن ينكر تلك الزيادة، ولو أنكر القبض أصلاً.... وقال: ما قبضت شيئاً منك كان القول قوله فكذا إذا أقر بقبض البعض وأنكر قبض البعض ولا يتحالفان.
وإن اختلفا في صفة الثمن وهو التأكد والثمن دين وذلك؛ لأن الاختلاف في صفة الدين إنما يوجب التحالف إذا تصور صيرورة الدين سنين إذا عين الدين على الوصفين اللذين اختلفا فيه كما لو اختلفا في الجودة والرداءة، فإذا عين ألف جيد وألف رديء كانا غيرين، كان الاختلاف في صفة الثمن اختلفا في أصل الثمن وصفة التأكد ليست بصفة ليختلف الدين باعتباره متى عين؛ لأنه ليس بموصوف صنف قائم في الدراهم حتى يختلف الدين بسببه فكان بمنزلة اختلافهما في صفة العين، وذلك لا يوجب التحالف ما لم يختلف العين بسبب اختلاف الصفة فكذا هذا.
ولو كان المشتري قبض العبدين، ثم مات أحدهما وجاء المشتري بالآخر يرده بعيب فاختلفا في قيمة الميت، فقال: البائع كان قيمته ألفاً، وقال المشتري كان قيمته خمسمائة كان القول قول البائع مع يمينه.
فرق بين هذا وبين المسألة الأولى وهو ما إذا لم يقبض أحد العبدين حتى هلك غير المقبوض في يد البائع وهلك الذي قبضه المشتري، ثم اختلفا في قيمة غير المقبوض، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه، وإنما كان كذلك؛ لأن المنكر في المسألة الأولى هو المشتري والمدعي هو البائع اعتبرنا حال المعقود عليه أوحال الثمن؛ لأن البائع يدعي على المشتري قبض زيادة من المعقود عليه وهو ينكر ويدعي على المشتري تأكد زيادة في الثمن وهو ينكر فأي الأمرين ما اعتبرنا كان البائع مدعياً من كل وجه والمشتري منكراً من(6/452)
كل وجه، فجعلنا القول قول المشتري.
فأما في المسألة الثانية فالمشتري مدعي من كل وجه اعتبرنا حال المعقود عليه أم حال الثمن؛ لأنه يدعي على البائع ردّ زيادة من المعقود عليه والبائع ينكر ويدعي سقوط زيادة من الثمن والبائع ينكر فجعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت، ولا يتحالفان (في) الاختلاف في قيمة الميت اختلافاً في مقدار ثمن الحي وذلك؛ لأنهما لم يختلفا في أصل الثمن وإنما اختلفا في كيفية انقسام الثمن، فالبائع يدعي الانقسام مثلاً نصفان والمشتري يدعي أثلاثاً.
وقد ذكرنا أن التحالف حال اختلافهما في مقدار الثمن بعد القبض ثابت نصاً بخلاف القياس فلا يقاس عليه الاختلاف في الانقسام، والنص الوارد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في مقدار الثمن لا يكون وارداً دلالة إذا اختلفا في الانقسام؛ لأن الاختلاف في الانقسام دون الاختلاف في أصل الثمن.
فإذا جعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت إذا حلف البائع، فإنه يقوّم الحي قيمة عدل غير معيب، فإن كان قيمة الحي غير معيب ألف درهم وقيمة الميت ألف كما يقول البائع ظهر أن الثمن انقسم نصفان فيرد الحي بنصف الثمن ويبقى عليه النصف، وإنما اعتبرنا قيمة الحي غير معيب وذلك؛ لأن الثمن إنما ينقسم على المستحق بالعقد، والمستحق بالعقد للمشتري عبد سليم عن العيب حتى لو وجد به عيباً كان له الرد بالعيب، وإذا كان المستحق للمشتري بالعيب عبد سليم وجب قسمة الثمن عليهما باعتبار السلامة.
وإذا اختلفا في الثمن وقد خرجت السلعة عن ملك المشتري لا يتحالفان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري مع يمينه، وعلى قول محمد: يتحالفان ويتردان القيمة كما في فصل الهالك، فإن عادت السلعة إلى ملك المشتري، ثم اختلفا في الثمن، فإن عادت بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بخيار الرؤية أو خيار (72ب3) الشرط أو العيب قبل القبض أو بعده بقضاء تحالفا، وإن عادت بسبب جديد من كل وجه نحو الإرث أو الصداقة أو الشرب لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وكذلك إذا عادت بسبب جديد في حق الثالث وبالفسخ في حق المتعاقدين كالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء والإقالة لا يتحالفان عندهما.
وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر غلاماً وجارية بمائة دينار قيمة الغلام ألف درهم وقبضهما ولم ينقد الثمن حتى اختلفا فقال المشتري: اشتريتهما صفقة واحدة بمائة دينار فالعبد بثلثي المائة الدينار والجارية بثلثها، وقال البائع: بعتكهما بمائة دينار على أن كل واحد منهما بخمسين ديناراً فالقاضي لا يلتفت إلى هذا الاختلاف؛ لأنه لا فائدة في هذا الاختلاف في الحال، فإن طعن المشتري بعيب في العبد وأقام بينة على أن العيب كان عند البائع حتى يثبت له حق الرد فكذلك الاختلاف إلا بعبد فيعتبر ويرد المشتري العبد بالعيب ويأخذ من البائع خمسين ديناراً في الحال أقر له بهذا القدر وكان ينبغي أن يرد العبد بثلثي المائة؛ لأن القول قول المشتري اشتراهما(6/453)
صفقة واحدة؛ لأن البائع يدعي زيادة شرط وتسمية في هذه الصفقة والمشتري ينكر ذلك فيكون القول قول المشتري.
والجواب إنما لم يجعل القول قول المشتري في الحال؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود وهو العبد اختلاف في ثمن القائم وهي الجارية، والاختلاف متى(6/454)
وقع في ثمن القائم يوجب التحالف؛ لأنا لو جعلنا القول قول المشتري في الحال وأخذ بمقابلة العبد بثلثي المائة، فإذا حلفناهما على الجارية فعلى تقدير أن يحلف البائع وينكل المشتري يثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً ويجب على المشتري رد الزيادة على الخمسين على البائع فلاحتمال ردّ الزيادة على الخمسين على تقدير نكول المشتري.
قلنا: أن يأخذ في الحال قدر ما اتفقا عليه بمقابلة العبد وذلك خمسون ديناراً حتى لا يلزمنا نقض قضاء القاضي في الزيادة على الخمسين؛ لأن صيانة قضاء القاضي عن النواقض واجبة ما أمكن، ثم اختلافهما على الجارية، فإن حلفا ترادا ويرجع المشتري على البائع ونكل المشتري ثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حين ردّ العبد أخذ العبد من البائع خمسين ديناراً لا سبيل له على البائع ولا للبائع عليه، وإن كان أخذ زيادة على الخمسين رد الزيادة على البائع وإن حلف المشتري ونكل البائع ثبت أن ثمن العبد ثلثا المائة فيرجع المشتري على البائع إلى تمام ثلثي المائة، ثم إن محمداً رحمه الله أوجب التحالف في الجارية من غير ذكر خلاف، وإنه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن العقد ههنا انعقد على الجارية وعلى العبد وقد زال العبد عن ملك المشتري.
ومن مذهب أبي حنيفة: أن العقد إذا انعقد على شيئين وزال أحدهما عن ملك المشتري بالبيع أو الهلاك واختلفا في مقدار الثمن لا يتحالفان في الباقي، والجواب عن هذا أن يقال: خروج بعض المبيع عن ملك المشتري إنما يمنع التحالف في الباقي عنده إذا كان الخروج لا إلى ملك البائع؛ لأن الفسخ بالتحالف مانع تمام الصفقة والرؤية ثبتت لجهالة أوصاف المبيع فكان في فسخ العقد في أحدهما بالتحالف تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى لا يتأتى في مسألتنا؛ لأنهما عادا جميعاً إلى ملك البائع.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أن على قول أبي حنيفة: لو هلك أحد العبدين في يد البائع قبل القبض، ثم اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان في الباقي؛ لأن الأول هلك على ملك البائع فلو ورد الأمر عليه بسبب الفسخ بالتحالف لا يؤدي إلى تفريق الصفقة فههنا كذلك، ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل أن يتحالفا يحلف المشتري ما ادعى البائع من ثمن الجارية فقد جعل القول قول المشتري ولم يوجب التحالف، وهذا على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن عندهما هلاك السلعة يمنع التحالف.
فأما عند محمد فالتخالف يجري عند هلاكهما فعند هلاك أحدهما أولى، ثم إذا حلف المشتري عندهما إن حلف ثبت أن ثمنها ثلث المائة وثمن العبد ثلثا المائة، ولو نكل المشتري عن اليمين ثبت أن(6/455)
ثمن الجارية خمسون ديناراً وثمن العبد كذلك وقد سلمت الجارية للمشتري فلزمه ثمنها ويرد العبد على البائع بحصته من الثمن وذلك خمسون ديناراً.
وعند محمد يتحالفان في الكل، فإن نكل المشتري رجع بخمسين ديناراً، وإن نكل البائع رجع المشتري بثلثي المائة وإن حلفا فسخ القاضي العقد بينهما في الجارية على القيمة فيرد المشتري قيمة الجارية ورجع على البائع بجميع المائة؛ لأن العقد انفسخ في الكل في الجارية بالتحالف وفي العبد بالرد، وكذلك لو لم يجد بالعبد عيباً لكن استحق العبد كان الجواب في استحقاق العبد ما هو الجواب في الرد بالعيب.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى عبدين أحدهما بألف حالة والآخر بألف إلى سنة في صفقة أو صفقتين فوجد بأحدهما (عيباً) فرده، ثم اختلفا فقال البائع: رددت علي الذي كان ثمنه مؤجلاً وبقي عبدك الذي كان ثمنه حالاً فعليك أداء ثمنه، وقال المشتري: رددت عليك الذي كان ثمنه حالاً فالقول قول البائع سواء كان الباقي قائماً في يد المشتري أو مستهلكاً؛ لأن الأجل يستفاد من جهة البائع وما يستفاد من جهة إنسان كان القول قوله في بيانه؛ ولأن اختلافهما في المردود غير معتبر في ثمن المردود؛ لأن ثمن المردود سقط بالرد أي شيء كان، وإنما اعتبر في ثمن ما بقي في يد المشتري فالمشتري يدعي أنه اشتراه بألف مؤجلاً والبائع يدعي أنه اشتراه بألف حالة.
والأصل: أن المتبايعين متى اختلفا في الأجل في الثمن وحلوله كان القول قول من يدعي الحلول؛ لأن من يدعي الحلول يتمسك بالأصل؛ لأن الحلول في الديون أصل؛ لأنه ثبت من غير شرط والأجل عارض والقول قول من يدعي الأصل، ولا يتحالفان؛ لأن الاختلاف وقع فيما ليس من نفس العقد وهو الأجل وجريان التحالف عرف بالنص فيما إذا كان الاختلاف واقعاً في نفس العقد ولم يوجد.
وكذلك لو كان أحدهما حبشياً والآخر سندياً وقد اشترى الحبشي بألف درهم مؤجلة واشترى الهندي بألف درهم حالة، ثم رد أحدهما، ماتا جميعاً وقد اختلفا على ما قلنا في المسألة الأولى كان القول قول البائع لما مر، وشرط في هذه المسألة موت العبد ولم يشترط في المسالة الأولى؛ لأن في هذه المسألة لو كان أحدهما أمكن للقاضي معرفة صدق أحدهما وكذب الآخر بأن ينظر في لون الباقي فيعرف أنه حبشي أو سندي، وإذا عرف الباقي يعرف الآخر ضرورة، وهذا المعنى لا يتأتي في المسألة الأولى فلهذا لم يشترط موتهما في المسألة الأولى.
ولو كان الثمنان مختلفين بأن كان ثمن أحدهما بعينه ألف درهم وثمن الآخر بعينه مائة دينار فرد أحدهما بالعيب، ثم اختلفا فقال المشتري: رددت عليك الذي ثمنه ألف درهم، فإن هلك أو هلك غير المردود وقد قبض البائع الثمنين جميعاً فالقول قول المشتري مع يمينه، إن ادعى المشتري على البائع استرداد الدينار لما كان الثمن مقبوضاً ينكر مع هذا جعل القول قول المشتري؛ لأن ثمن المردود أي شيء كان سقط بالرد بقي الاختلاف بينهما في جنس ثمن غير المردود وهو هالك في يد المشتري، والاختلاف متى وقع في جنس الثمن والسلعة هالكة في يد المشتري لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولكن يكون القول قول المشتري مع يمينه، ولم يذكر محمد رحمه الله هنا حتى ظن بعض مشايخنا: أن الاختلاف في المسالة المعروفة (73أ3) فيما إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن دون ما اختلفا في جنس الثمن والصحيح أن الكل على الخلاف.
ولو كان العبدين قائمين بأعيانهما تحالفا وترادّا بالإجماع واسترد المشتري الثمنين من البائع جميعاً؛ لأن العقد قد انفسخ في أحدهما بسبب الرد وفي الآخر بسبب التحالف، ولو كان اشتراهما جميعاً بمائة دينار صفقة واحدة فمات أحدهما عند المشتري الباقي بالعيب، واختلفا في قيمة الهالك فقال البائع كانت ألفي درهم وقيمة المردود ألف درهم فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن البائع استحق جميع الثمن بالبيع، وتم ذلك الاستحقاق بتسليم العبدين إلى المشتري بعد ذلك تنازعا فيما بطل استحقاقه برد المعيب فالمدعي زيادة فيه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، وإن أقام البينة (فالبينة) بينة البائع أيضاً؛ لأنها تثبت زيادة في قيمة ما هلك في يد المشتري.
فإن قيل: ببينة المشتري تثبت الزيادة أيضاً: في ثمن المردود بالعيب فوقع التعارض.
قلنا: المنازعة بينهما إنما هو وقع بسبب البيع فإنما يعتبر اختلافهما في قيمة ما بقي فيه العقد والذي بقي فيه العقد غير المردود، فيعتبر اختلافهما في قيمة غير المردود وبينة البائع تثبت زيادة في ذلك؛ ولأن بينة البائع تثبت الزيادة فيما بقي فيه العقد وتثبت الزيادة فيما بقي مستحقاً له من الثمن فكانت أولى بالقبول، ولو قال البائع كان ثمنها واحداً وكان ألفي درهم وقال المشتري كان الثمن الهالك خمسمائة وثمن المردود ألف وخمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لا منازعة بينهما في ثمن المردود بالعيب؛ لأن ذلك قد سقط بالرد وإنما المنازعة في ثمن الهالك في يد المشتري والمنازعة فيه وإنما وقع من وجهين:
أحدهما: في كون ثمنه مسمى والآخر في مقدار ثمنه والاختلاف متى وقع في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويكون القول قول المشتري مع يمينه وعند محمد يتحالفان بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك تصادقا أن ثمن الهالك لم يكن مسمى على حدة فكان الاختلاف في قيمة الهالك والاختلاف في مقدار القيمة لا يوجب التحالف بالاتفاق، ويكون القول قول من ينكر الزيادة في السقوط وهو البائع.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية بمحضر من الحاكم بثمن من الورق، ثم مات ونسي الحاكم كم كان الثمن فخاصم البائع الورثة إلى الحاكم وأنكروا ذلك وأراد البائع أخذ الجارية، قال محمد رحمه الله: القاضي يقول للبائع كم كان الثمن، فإذا ادعى شيئاً عنه الورثة إن كانوا كباراً، فإن كذبوه في ذلك حلفهم على دعواه بالله ما تعلمون أباكم اشترى الجارية بذلك، ويقول للورثة ادعوا أنتم الثمن، فإذا ادعوا شيئاً حلف القاضي البائع إليه، فإن حلف ردّوا البيع، وإن كانت الورثة(6/456)
صغاراً نظر القاضي لهم فإن ادعى البائع ثمناً ورأى القاضي أخذ الجارية بذلك الثمن خيراً لهم أخذ الجارية بذلك وأعطاه الثمن من جميع المال، وإن لم يرد ذلك خيراً لهم، استحلف البائع ما كان الثمن أقل من هذا على مقدار الجارية بذلك المقدار خيراً لهم فإن حلف رد الجارية عليه، وإن كان فيهم كبير وأقر بما قال البائع وأبى أن يحلف على علمه لزمه لحصته زيادة الثمن فيما بين ما ادعى إلى ما كان خيراً للصغير، وإن كان فيهم كبار غيب انتظرت بهم اليمين أو كتبت إلى القاضي الذي هم بحضرته يستحلفهم على دعواه إن طلب ذلك البائع وكذلك إن لم يكن البيع بحضرة القاضي وادعى الفريقان البيع واختلفا في الثمن، وإن ادعى الورثة وأقاموا البينة على البائع بالبيع بلا تسمية الثمن، فإن شهادتهم باطلة ويستحلف البائع ويرد عليه الجارية وإن كان البائع هو المدعي والورثة يجحدون الشراء استحلفوا على علمهم، فإن حلفوا بطل البيع وردت الجارية على البائع.k
رجل في يديه عبد ادعى رجل عليه أنه باع هذا العبد من الذي في يديه، ومن رجل آخر بعينة بمائة دينار وأقام الذي في يديه العبد بينة أنه اشترى كله منه بألف درهم فالعبد للذي في يديه بخمسمائة درهم وخمسين ديناراً، إذا أقام البائع على إقرار المشتري أنه اشترى العبد منه بألفين وأقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه بألف أخذ المشتري بألفين، وإن أقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه منه بألف درهم، وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فليس على المشتري إلا ألف وهذه براءة من الألف الآخر.
قال هشام عن محمد: إذا أقر المشتري بثمن يسير والسلعة مستهلكة وهي ثمن دراهم كسرة فإن أبا يوسف كان يقول: القول قول المشتري، ثم فحشنا عليه فرجع وقال: إذا كان من ذلك شيء بيعاً من الناس في مثله قبلت قوله.
قال محمد رحمه الله: وأما أنا فأرى أن ألزمه قيمة ذلك، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في غير هذه الصورة أنه إذا أقر المشتري بما لا يتعاين الناس في مثله إلا أقبل ذلك منه وأقضي عليه بقيمة المبيع، قال: فإن كنت إنما أردت أن أقضي عليه بالقيمة يرجع وأقر بشيء يتغابن الناس فيه قبلت ذلك، وإن كنت قد قضيت عليه بالقيمة لم أقبل رجوعه بعد القضاء.
قال هشام: وسألت عنه محمداً عن رجل اشترى ثوباً فقال المشتري: اشتريته بعشرين وقال البائع: بعته بثلاثين صحاح بالثوب وهو في أيديهما فتخرق وانقطع وصار بعضه في يد البائع وبعضه في يد المشتري، ولم يكن المشتري نقد الثمن قال: يتحالفان، فإذا حلفا فالبائع بالخيار إن شاء سلم الثوب للمشتري بالعشرين ويحط من المشتري نصف ما نقص الثوب من العشرين؛ لأن كل واحد منهما قد مد فصار حانثاً قلت لو كان أمسكه أحدهما ولم يجد به وجد به الأخر أكان الضمان كله على الحادث قال: نعم، قال: وهذا الجواب على قياس قول أبي حنيفة وهو الجواب على قول أبي يوسف.
ولو اشترى ثوبين وقبضهما واستهلك أحدهما والأخر قائمه في يده فقال البائع: بعتك الثوبين بثلاثين درهماً وقال المشتري: بعشرين درهماً، قال محمد: قال أبو حنيفة:(6/457)
يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالبائع بالخيار إن شاء أمضى البيع وأخذ العشرين وإن شاء أخذ الثوب القائم ولا شيء له من ثمن الثوب المستهلك.
سأل هشام محمداً رحمه الله: عن قياس قول أبي حنيفة فيمن اشترى ثوباً وشقه بنصفين وصبغ نصفه والنصف الأخر في يده أبيض، ثم اختلفا في الثمن قال: إن شاء البائع أخذ هذا النصف الأبيض ولا شيء له غيره ولا سبيل له على المصبوغ، وإن شاء تركه وأخذ ما أقر به المشتري من الثمن.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا اشترى من آخر جارية وقبضها وماتت في يده واختلفا في ثمنها فقال المشتري اشتريتها منك بألف درهم وبهذا الوصف وقال البائع: بعتها بألفي درهم ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقسم الجارية على ألف درهم وعلى قيمة الوصف خمسمائة كان القول قول المشتري في ثلثي الجارية بألف ولا يتحالفان، وفي ثلث الجارية وهي حصة الوصف يتحالفان.
الأصل في هذا: إن المتبايعين متى اختلفا في مقدار الثمن أوجبه بعد ما هلكت السلعة في يد المشتري وكان الثمن دراهم أو دنانير فالقول قول المشتري مع يمينه، ولا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يتحالفان ويفسخ العقد على قيمة قد مر هذا فيما تقدم.
وإن كان الثمن عرضاً والمسألة بحالها فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويفسخ العقد على القائم مقصوداً وعلى الهالك حكماً (73ب3) وتبعاً للقائم باعتبار القيمة؛ لأن فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ جائز باعتبار القائم فكذا بالتحالف. فأما إذا ادعى أحدهما أن يبدل السلعة كان ثمناً، وادعى الأخر أنه كان عرضاً إن كان مدعي العرض المشتري، فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويغرم المشتري قيمة السلعة يوم قبضها لصاحبه، وإن كان مدعي العرض البائع، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان، ويغرم المشتري الثمن الذي أقر به للبائع؛ لأن البيع قابل للفسخ في زعم أحدهما غير قابل في زعم الأخر فيجب التحالف من وجه دون وجه فعلمنا بهما من الوجه الذي بينا، إلا أنا عملنا بما يوجب التحالف متى كان المشتري مدعياً للعرض؛ لأنَّا لو عملنا بما يوجب التحالف متى كان البائع مدعياً للعرض لا يمكننا تحليف البائع؛ لأن البائع إنما يحلف بدعوى المشتري والمشتري لا يدعي عليه يميناً ومتى كان للعرض المشتري أمكننا تحليف البائع بدعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي يمينه في هذه الحال، فإنه يزعم أن البيع قابل للفسخ، وإن الثمن واجب على البائع فأمكن تحليف البائع بدعوى المشتري بدعوى البائع فيجعل العمل بما يوجب التحالف وبما يمنع.
فأما إذا إدعى أحدهما أن بدل السلعة كان ثمناً وعرضاً، وادعى الأخر أنه كان ثمناً كله، إن كان المدعي للعرض المشتري، فإنه يقسم السلعة على الثمن الذي أقر به المشتري وعليه قيمة العرض فيما يخص السلعة من الثمن، فالقول قول المشتري فيه مع يمينه عندهما ولا يتحالفان عندهما، ثم يغرم قيمة حصة العرض من السلعة للبائع.(6/458)
وإن كان المدعي للعرض البائع فالقول قول المشتري في الكل ولا يتحالفان عندهما اعتباراً للبعض بالكل، وعند محمد في جميع ذلك يتحالفان؛ لأن تعذر الفسخ عند هلاك السلعة لا يمنع التحالف إذا ثبت هذا.
جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرها محمد فبقوله: المشتري ادعى أن بدل الجارية بعضه ثمن وبعضه عرض، فيكون لكل بعض حكم نفسه فإن تخالفا على ثلث الجارية وفسخ القاضي العقد على ثلث الجارية كان على المشتري أن يرد ثلث الجارية، على البائع وقد عجز عن ردها بسبب الهلاك فكان عليه رد ثلث قيمة الجارية وعلى قول محمد: يتحالفان في الكل ويغرم جميع قيمة الجارية للبائع وعلى هذا يقاس جنس هذه المسائل.
قال هشام: سألت محمداً عمن اشترى من آخر حنطة بعينها فقال المشتري اشتريتها منك على أنها مائة قفيز بعشرة دراهم، وقال البائع: بعتكها حراماً، أو أقام البينة والحنطة قائمة قال البينة بينة البائع؛ لأنهما ثمنان وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه منه بأربعة دنانير وعشرة دراهم وأمام البائع بينة أنه باعه منه بخمسة دنانير فالبينة بينة البائع، وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه بخمسة دنانير وعشرة دراهم على أنه مائة قفيز فوجده خمسين قفيزاً وأقام البائع بينة أنه باعه منه بخمسمائة جزافاً فالبينة بينة المشتري وله الخيار، إن شاء أخذه بحصته من الثمن وهو ديناران ونصف وخمسة دراهم؛ لأنه ثمن واحد؛ لأن المشتري وافق البائع على خمسة دنانير.
وقال أبو سليمان: سمعت أبا يوسف يقول في رجل باع طعاماً بعينه بعشرة دراهم فقال البائع: بعتكها جزافاً بعشرة وقال المشتري: اشتريت مكايلة بعشرة قال: يتحالفان ويتردان.
وكذلك كل ما يوزن ولو كان هذا في ثوب فقال البائع: بعتكه ولم أسم ذراعه وقال المشتري: اشتريت مذارعة فالقول قول البائع؛ لأن الثوب إن نقص لم انقص من الثمن.
وروى عمرو بن أبي العلاء عن محمد: رجل قال لآخر: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم زيوفاً أو نبهرجة أو ستوقة أو رصاصاً قال ذلك موصولاً وقال المقر له بالجياد فالقول قول المقر له في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد في الزيوف والنبهرجة يتحالفا ويتردان البيع وأما في الستوقة والرصاص فالقول قول البائع عند أبي يوسف؛ لأن المشتري لا يصدق على فساد البيع وقال محمد: القول قول المشتري؛ لأنه لم يقر أو لا بيع فاسد.
رجل ادعى على رجل أنه باعه منه هذه الجارية بألف درهم إلى سنة وأقام بينة وأقام مولى الجارية بينة أنه باعه الجارية بألفي درهم، فعلى المشتري ألف حالة وألف إلى سنة؛ لأنه أخذت بينة البائع في الثمن وأخذت بينة المشتري في الأجل، وهذه ألف المؤخرة ليست من الألف التي أقر بها المشتري أنها هي الثمن ولكنها من الألفين جميعاً من ألف خمسمائة ولو قال بعينها بألف درهم إلى ثلاث سنين كل سنة ثلث ألف وقال البائع: بل(6/459)
بعتكها بألفي درهم إلى سنتين كل سنة ثلث ألف وهذا الثلث المؤخر إلى السنة الثالثة من الألفين فيؤدي في السنة الأولى أسداس ألف درهم، فإن مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وفي السنة الثانية كذلك وفي السنة الثالثة يؤدي ثلث الألف، هذه المسألة من «المنتقى» .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل أنه باعه هذا الثوب بمائة درهم إلى خمسة أشهر كل شهر عشرين درهماً، وأقام على ذلك بينة وأقام المدعي عليه بينة أنه اشتراه بخمسين درهماً إلى عشرة أشهر وكل شهر خمسة، قال: إن ربَّ الثوب قد أقام البينة على فصل خمسين درهماً فأقبل بينته فيه وقد زعم أن له من المائة كل شهر عشرين وقد أقر المدعى عليه له بخمسة في كل شهر، فأدفع إلى المدعي في الشهر الأول خمسة أقر له بها المدعى عليه وخمسة عشر من دعوى المدعي من فصل الخمسين الذي بينه بالبينة وكذلك في الشهر الثاني والثالث فيأخذ في ثلاثه أشهر ستين درهماً خمسة عشر بحكم الإقرار عليه وخمسة وأربعين بحكم دعواه المؤكد بالبينة، فإذا أخذ ذلك بقي له من الخمسين التي أقام عليها البينة خمسة يأخذ ذلك في الرابع بحكم البينة ويأخذ خمسة أخرى أيضاً في الشهر الرابع بإقرار المدعى عليه وما بقي بعد ذلك ويأخذ في كل شهر خمسة حتى يتم المائة على الأجل الذي أقام البينة المدعى عليه البينة.
وروري عن أبي يوسف بخلاف هذا، فإنه يقول الخمسين التي أقام عليها المشتري البينة من المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الخمسين على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة، بقيت خمسون بزعم المدعي فأقضي للمدعي بعشرة من هذه الخمسين في كل شهر؛ لأن المدعي ادعى العشرين من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الخمسين عشرة وقد عزلت خمسين من المائة على دعوى المشتري على أجلها فيأخذ المدعي في الشهر الأول خمسة المدعى عليه مقر له بها، ويأخذ عشرة من الخمسين الفاضلة عشرة فيأخذ خمسة عشر في خمسة أشهر وذلك خمسة وسبعون بقي هناك خمسة وعشرين يأخذ منها في كل شهر خمسة فيحصل الاستيفاء في عشرة أشهر.
قال محمد رحمه الله: ما ذكر من الجواب فذلك في الثوب والعبد والدار يختلفان في ثمنه وأشباهها، فأما إذا قام رجل بينة على رجل بدين مائة درهم أن له عليه مائة درهم في خمسة أشهر في كل شهر عشرين وأقام الأخر عليه البينة أن له عليه خمسين في عشرة أشهر في كل شهر خمسة فهما مالان فأقضي عليه بدعوى المدعي بمائة درهم في خمسة أشهر.
وفيه أيضاً عن محمد: رجل أقام (74أ3) بينة على رجل أني بعت منك هذا الثوب بمائة درهم تؤديها إلي في عشرة أشهر كل شهر عشرة وأقام المدعى عليه بينة أنه اشتراه منه بستين درهماً في عشرين شهراً في كل شهر ثلاثة، فإني أقبل بينة البائع على فصل الثمن وأقبل بينة المشتري على الأجل فيأخذ منه البائع كل خمسة أشهر عشرة؛ لأن المشتري مقر له بثلاثة كل شهر، فيأخذ منه البائع في خمسة أشهر ثلاثة كل شهر بإقراره، ويأخذ سبعة من الأربعين الذي ادعاها البائع فضلاً على الستين، فإذا أخذ منه خمسة(6/460)
أشهر عشرة، فقد بقي للبائع من الأربعين الفاضلة خمسة فيأخذها منه في الشهر السادس، وثلاثة أخرى فقد أقر بها المشتري، ثم يأخذ منه بعد ذلك كل شهر ثلاثة حتى يستوفي المائة فيأخذ المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة.
وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في المسألة الأولى يقول هذه الستون الذي أقام عليه المشتري البينة من جميع المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الستين على الأجل الذي أقام عليه المشتري البينة، بقي هناك أربعون بزعم المدعي بأربعة من هذه الأربعين في كل شهر؛ لأنه ادعى العشرة في كل شهر من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الأربعين أربعة في كل شهر فأقضي له بذلك ببينته وأقضي له من الستين الذي للمشتري يقر بها في كل شهر بثلاثة فيأخذ من جميع المائة في كل شهر سبعة فيأخذ هكذا سبعة، سبعة في عشرة أشهر يبقى هناك إلى تمام ثلاثون فيستوفيها في عشرة أشهر ثلاثة، ثلاثة فيحصل استيفاء المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي ادعاه المشتري.
قال محمد رحمه: لا أجعل الخمسين في المسألة الأولى من المائة كلها ولا الستين في المسألة الثانية من المائة كلها، ألا ترى أن البائع لو قال: بعته بألفين بألف حالة وبألف إلى شهر، وقال المشتري: اشتريته بألف إلى شهرين وأقام جميعاً البينة إلى أحد منه ألفاً الساعة وألفاً إلى شهرين. قال هشام: (قال) مشايخنا: وعلى قياس قول أبي يوسف تجعل الألف المؤخرة إلى شهرين من الألفين من النقد والتأخير فيحصل خمسمائة حالة وخمسمائة إلى شهر وألفاً إلى شهرين.
رجل أقام بينة على رجل أنه اشترى منه هذا الثوب بخمسة عشرة درهماً إلى شهر وأقام الذي في يديه الثوب بينة أنه باعه نصف هذا الثوب بعشرة دراهم حالة مال يدفع إليه الثوب وله خمسة عشر درهماً إلى شهر، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا الثوب بألف حالة وأقام بينة وأقام الآخر بينة أنه اشترى هذا العبد مع هذا العبد الآخر بألف إلى سنة أنهما له بألف إلى سنة.
نوع آخر في الاختلاف في الثمن، وفيه بعض مسائل الاختلاف في الثمن
وإذا وقع الاختلاف في المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم وقال البائع لا بل بعت منك هذه الجارية بألف درهم فلا يخلو إما إن كانا في يد البائع أو في يد المشتري أو كان العبد في يد ثالث، فإن كانا في يد المشتري فلا يخلو إما إن قال البائع للمشتري: العبد ملكك لم أبعه منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ولي عليك ألف درهم ثمن الجارية، وفي هذا الوجه إلا ألف لازم على المشتري والعبد سالم له؛ لأنهما اتفقا على سلامة العبد له، وكذلك اتفقا على وجوب الألف عليه ولكن اختلفا في جهته والاختلاف في الجهة في مثل هذا لا يضر.
كمن قال لآخر: لك علي ألف درهم من ثمن متاع وقال الآخر: لا بل من قرض، وإن قال البائع للمشتري: العبد ملكي ما بعته منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ذكر(6/461)
هذه المسألة في كتاب الإقرار في موضعين فأجاب في أحدهما: أن القول في العبد قول البائع؛ لأن المشتري أقر له بملك العبد حيث ادعى الشراء منه إلا أنه ادعى التملك عليه وهو أنكر التملك عليه والقول قول المنكر في الشرع.
وإذا حلف البائع على العبد أخذ العبد ولا شيء على المشتري؛ لأن المشتري إنما أقر له بألف على نفسه عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد فكان له أن لايعطيه الألف، وأجاب في الموضع الآخر إنهما يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً غير العقد الذي ادعى صاحبه عليه؛ لأن العبد غير الجارية فكان العبد الذي يدعيه صاحبه فيتحالفان كما لو اختلفا في جنس الثمن.
وإن كانا في يد البائع فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا كانا في يد المشتري، وإن كان العبد في يد ثالث إن صدق صاحب العبد المشتري فيما قال، أمر بالتسليم إليه، ثم الحكم فيه ماذكرنا فيما إذا كان العبد في يد المشتري، وإن قال صاحب اليد: العبد ملكي فالقول قوله مع اليمين ولا شيء على المشتري؛ لأنه ما أقر بالألف على نفسه لا عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد.
وإن قال صاحب اليد: العبد للبائع كالأمر بالتسليم إليه والحكم فيه بعد ذلك ماذكرنا فيما إذا كانا في يد البائع، وإن قال المشتري: اشتريت منك هذا العبد مع هذه الجارية بألف درهم، وقال البائع: بعت منك هذه الجارية لاغير بألف درهم، فالجواب في هذه المسألة على التفاصيل التي مرت في المسألة المتقدمة.
وإذا اشترى من آخر جراب هروي وقبضه فوجد فيه أحد عشر ثوباً فقال البائع: بعتك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمائة درهم، وقال المشتري: اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوباً وأراد كل واحد منهما استحلاف صاحبه.
فالقاضي يحلف البائع على دعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي البيع في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر والقول قول المنكر، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري، وإن حلف رد المشتري الجراب ولم يحلف المشتري، إما رد المشتري؛ فلأن البائع لما حلف فسد العقد؛ لأنه لم يثبت البيع في الثوب الحادي عشر وإنه مجهول فصار المبيع مجهولاً وجهالة المبيع توجب فساد العقد، والعقد الفاسد واجب الرد، إما لايحلف المشتري؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار، والمشتري لو أقر بما ادعاه البائع كان العقد فاسداً لما مر، فلا يفيد تحليف.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل القول قول المشتري في هذه المسألة؛ لأنه يدعي جواز العقد.
قلنا: بدعوى الجواز يدعي استحقاق الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، وإن اختلفا في وصف من أوصاف المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد على أنه كاتب أو على أنه خباز وقال البائع: لم أشترط لك شيئاً فالقول قول البائع ولا يتحالفان، وفيما إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين يتحالفان؛ لأن الدين يختلف باختلاف الأوصاف فكان(6/462)
الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل الثمن فكان كل واحد مدعياً على صاحبه عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه، أما المبيع عين والعين لايختلف باختلاف الصفة فلم يكن كل واحد منهما مدعياً عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه عليه، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري: اشتريت منك هذه الجارية بخمسين ديناراً ولا بينة لهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن أقاما البينة يقضي بالعقدين عندهم جميعاً يقضي على البائع ببيع العبد والجارية ويقضي على المشتري بألف درهم وخمسين ديناراً.
أما على قول محمد؛ فلأن الأصل عنده القضاء بعقدين مع إمكان القضاء بعقد واحد فعندما تعذر القضاء بعقد واحد أولاً، وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأن الأصل عندهما القضاء بعقد واحد الا إذا تعذر فحينئذٍ يقضي بالعقدين وقد تعذر القضاء بعقد واحد منهما؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد إنما يثبت بأحد طريقين إما بإمكان رد إحدى البينتين أو بإمكان القضاء بكل واحد من البينتين بإثبات (74ب3) الزيادة في عقد واحد على ما يأتي بيانه في مسائل السلم، وههنا رد إحدى البينتين غير ممكن؛ لأن كل واحدة منهما قامت على إثبات ما هو محتاج إليه وتعذر القضاء بهما من حيث القضاء بإثبات الزيادة في كل واحد من البدلين؛ لأن العبد لايتصور زيادة في الجارية في العبد ولا الدراهم في الدنانير، وإذا فات إمكان القضاء بعقد واحد وجب القضاء بعقدين ضرورة.
ولو قال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسين ديناراً وأقام البينة (فالبينة) بينة البائع؛ لأنها أكثر أماناً ويقضي بعقد واحد؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن المبيع عين والعين الواحدة متى صار مستحقاً للمشتري بالشراء لايتصور أن يصير مستحقاً له بالشراء مرة أخرى ما لم يعد إلى البائع بسبب من الأسباب، ثم يشتري منه ثانياً والشهود لم يشهدوا بالعود إلى البائع فكان القضاء بالعقدين متعذر، ولو قال المشتري: بعتني مع هذه الجارية وصيفا بخمسين ديناراً، وقال البائع: بعتك الجارية وحدها بمائة دينار، وأقاما البينة فإنه يقبل بينة كل واحد منهما فيما ادعى من إثبات الزيادة لنفسه؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الجارية باتفاقهما صارت مستحقة للمشتري من جهة البائع بالشراء، فلا يتصور استحقاقها بالشراء من جهة مع شيء آخر إلا بعد عود الجارية إلى البائع، والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وليست إحدى البينتين بالقبول بأولى من الأخرى؛ لأن كل واحدة قامت على إثبات زيادة ادعاها صاحبها قبولهما في إثبات ماقامت عليه لكل واحد منهما، فيقبل بينة البائع في إثبات الزيادة في الثمن فيقضي على المشتري بمائة دينار، ويقبل بينة المشتري في إثبات الزيادة في المبيع فيقضي على البائع بالجارية والوصيف.
قال محمد رحمه في «الجامع» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وقبضه ووهب البائع عبداً آخر للمشتري وسلمه إليه فمات أحد العبدين فجاء المشتري يرد الباقي بالعبد فقال البائع: لم أبعك هذا العبد الذي فات وهذا العبد وهبته منك وقال المشتري:(6/463)
لا بل هذا الحي هو الذي اشتريته منك بألف درهم ولا بينة لواحد منهما كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي فسخ البيع في العبد الحي والبائع ينكر، ولأن المملك هو البائع فيكون القول قوله في بيان سبب الملك أني ملكت هذا العبد بالهبة ولو لم يجد المشتري بالعبد عيناً ولكن أراد البائع الرجوع في الهبة وقال: إن الحي هو الذي وهبته وأنكر المشتري فالقول قول البائع لما قلنا من المعنى الثاني، وإذا رجع فيه كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن الذي نقده لأنا إنما جعلنا القول قول البائع في كيفية تمليك العبد باعتبار أن تمليك العبد استفيد من جهته وتمليك الثمن وجد من جهة المشتري فوجب أن يقبل قوله كيفية تمليك الثمن أيضاً.h
وفي زعم المشتري أنه إنما ملكه الثمن بإزاء العبد الحي ولم يسلم له العبد الحي فلا يسلم للبائع أيضاً الثمن بخلاف المسألة الأولى، حيث لايرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن هناك في زعم المشتري، أن العبد الذي بمقابلته الثمن سلم للمشتري لما امتنع الرد فجاز أن يسلم للبائع الثمن في زعم المشتري أما ههنا فبخلافه على مامر.
وإذا رجع البائع على المشتري بقيمة العبد الذي مات في يده؛ لأن البائع يقول إنما ملكت ذلك الذي مات عوضاً عن هذا الثمن الذي استحقه وقول البائع في ذلك أيضاً مقبول فإذا لم يسلم الثمن للبائع وجب على المشتري رد المبيع وتعذر رده صورة بسبب الموت، فيجب رده معنى، وذلك برد القيمة ولكن هذا كله بعد أن يتحالفان، فيحلف البائع بالله ما بعت هذا القائم، فإذا حلف اعتبر القائم موهوم في حقه فيرجع فيه، فيحلف المشتري بالله مااشتريت من الذي مات.
وإذا حلف رجع على البائع بالثمن، ثم إنما وجب التحالف ههنا؛ لأن البائع يدعي الرجوع في الهبة والمشتري ينكر، والمشتري يدعي الرجوع بالثمن والبائع ينكر فلهذا جرى التحالف، ثم أوجب التحالف في هذه المسألة ولم يوجب الحلف على المشتري في المسألة الأولى، البائع لايدعي على المشتري شيئاً؛ لأنه لايرجع في الهبة.
أما في المسألة الثانية: البائع مع المشتري كل واحد منهما يدعي صاحبه شيئاً على مامر فيجري التحالف، ثم أوجب التحالف في المسألة الثانية، وإن كان العبد هالكاً بخلاف ما إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن والسلعة هالكة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هناك اتفق العاقدان أن التمليك حصل بجهة واحدة وهو البيع، بقي الاختلاف في مقدار الثمن، فيكون القول قول من ينكر الزيادة وهو المشتري، أما ههنا اختلفا في جهة التمليك فالبائع ادعى التمليك الهالك بالبيع والمشتري ينكر، والمشتري يدعي تمليك الهالك بالهبة والبائع ينكر فوجب التحالف لهذا.
ولو اشترى أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار كل واحد منهما صفقة على حدة وتقابضا فمات أحدها عنده، ثم جاء بالباقي يرده بالعيب، واختلفا في ثمنه قال البائع ثمنه ألف درهم وقال المشتري: لا بل مائة دينار كان له أن يرد بالعيب؛ لأن حق الرد لايختلف باختلاف الثمن ولا يبطل بجهالته، وإذا رده بقي الاختلاف بينهما في ثمن(6/464)
المردود وتمليك الثمن استفيد من جهة المشتري فيكون القول قوله أنه ملكه بإزاء هذا العبد ولا يتحالفان؛ لأن المقصود من التحالف الفسخ وقد حصل ذلك بالرد بالعيب، وكذلك يكون القول قول المشتري في ثمن الهالك عند أبي حنيفة وأبي يوسف مع يمينه.
وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري قيمة الميت وكان على البائع رد الثمنين جميعاً؛ لأن العقد انفسخ في العبدين في أحدهما بالرد بالعيب، وفي الآخر بالتحالف، ولو كانا عين والمسألة بحالها رد المشتري العبد المعيب بالثمن الذي ادعاه من غير تحالف لحصول ماهو المقصود من التحالف وهو الفسخ في المردود بسبب الرد تحالفا وترادا في الباقي؛ لأنهما اختلفا في الثمن الباقي ضرورة اختلافهما في ثمن المردود والسلعة قائمة فيتحالفان ويترادان ويرجع المشتري على البائع بالثمنين جميعاً لانفساخ العقد في العبدين على ما مر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع من آخر ثوباً مروياً فقبضه أو لم يقبضه حتى اختلفا فقال البائع بعته على أنه ست في سبع، وقال المشتري: اشتريته على أنه سبع في ثمان، فالقول قول البائع مع يمينه.
وفي «نوادر هشام» : إذا اشترى من آخر ثوباً وقال: اشتريته منك بثمانية أذرع وهو سبع في سبع وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم لك ذراعاً فالقول (قول) البائع، وفي قول أبي يوسف ومحمد: ولو كان المشتري قال: اشتريته على أنه ثمانٍ في ثمان كل ذراع بدرهم، وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم ذراعاً فالقول قول المشتري ويتحالفان ويتردان على قولهما.
قال هشام: سألت محمداً عن رجل له أجمة تساوي ألفاً وفيها قصب يساوي ألفاً فاشترى رجل منه الأجمة بعشرة آلاف درهم واختلفا فقال البائع: بعتك القصب، وقال المشتري: إنما وقع الشراء على الأصل قال أفسد البيع.
روى إبراهيم عن محمد: رجل اشترى بيتاً في موضعين بكذا درهم وقبض أحدهما وذهب الريح بالموضع الآخر في مقدار ما قبض وما ذهب، فإن كان ماقبض فإنما تخالفا وترادان كان مستهلكها، فالقول قول المشتري في قياس قول أبي حنيفة، وقال محمد: (75أ3) يتحالفان ويرد المشتري مثل ما أخذ بالشرط والقول فيه قوله.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر سرجاً، ثم اختلفا فقال البائع: بعتكه بغير زكاته، وقال المشتري: لا بل مع زكاته واشترى خاتماً، ثم اختلفا في فصه، فقال البائع: بعته بغير فصه، وقال المشتري: لا بل مع فصه فإنهما يتحالفان ويترادان.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل اشترى كباسة بمائة درهم، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريت منك ومن الأرض وقال البائع: إنما بعتك الكباسة التي(6/465)
عليها قال ينظر إلى الغالب من الثمن فإنهما كان الغالب جعلتها به، وكذلك هذا في شراء الأجمة والمبطخة والمنقلبة، وكذا في شراء النخلة مع الرطب ينظر إلى الغالب.
وفي «البقالي» : إذا اختلفا في الثياب والجراب والراوية والماء ونحوها على أنهما وقع البيع اعتبر مقدار الثمن وإن استوى الأمران في العادة لم يجز.
قال أبو يوسف وقال أبو حنيفة: في رجل اشترى عبداً بألف درهم وقبضه ونقده الثمن، ثم ادعى المشتري أنه كان مع العبد أمة يبيعها في البيع وجحد البائع ذلك فالقول قول البائع ولا يرد شيئاً من الثمن بعد أن يحلف بالله ما باعه هذه الأمة مع (العبد) .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم وأقام البينة وقال المدعى عليه: اشتريته منك وهذا العبد الآخر بألف درهم وأقام البينة فإني أجعلهما جميعاً بألف، ولو قال المشتري: اشتريتها منك هذا بخمسمائة وهذا بخمسمائة وقال البائع: بعت هذا وحده منك بألف درهم وأقام البينة، فإني أجعل عليه الألف للعبد الذي أقام عليه البائع بينة أنه باعه بالألف، وأجعل عليه خمسمائة للعبد الآخر، قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا قال المشتري اشتريتهما منك بألف درهم، وأقام بينة فعليه ألف وخمسمائة، ثم رجع وقال: هما بألفٍ، وقال زفر: قوله الأول أحب إلي.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: اشتريت منك هذه الجارية وابنتها بألف درهم وأقام على ذلك بينة وقيمتها سواء، وقال البائع: بعت الأم وحدها بألف درهم، فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: يأخذهما بألفٍ وخمسمائة، ثم رجع وقال: يأخذهما جميعاً بألف درهم وهذه المسألة المتقدمة ولكن في صورة أخرى.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر ثوباً فقطعه، ثم قال المشتري بعد ذلك: اشتريته بدرهم وقال البائع: بعته بكر حنطة بعتها فالقول قول المشتري.
وفيه أيضاً: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها ووطئها، ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ الجارية بغير مهر، ولو كان لها زوج يوم اشتراها لم يمنع وطئه من الرد بسبب الاختلاف في الثمن من قبل إن هذا بمنزلة عيب كان فسرى منه البائع.
وفيه أيضاً: رجل اشترى عبداً وقبضه، ثم اختلفا في مقدار الثمن من الدراهم، قال أبو حنيفة: القول قول المشتري ولا سبيل للبائع على العبد وأرضى بأخذه كذلك، ولو قال البائع: بعتك بدارك هذه، وقال المشتري: اشتريته بأمتي هذه رد العبد على البائع وضمن المشتري نصف قيمته يوم قبض كيف كان ذهاب العين من جناية المشتري أو من جناية أجنبي أو من غير فعل أحد.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في المبيع: إذا كان مستهلكاً كل شيء أقر المشتري أنه اشتراه به مما هو ثمن لا ينتقص البيع بهلاكه واستحقاقه أو رده بالعيب فالقول فيه قول المشتري، وكل شيء لبس بثمن وينتقض البيع بهلاكه أو استحقاقه أو رده(6/466)
بالعيب لم يصدق فيه المشتري؛ لأنه يريد أن يلزم البائع هذا العرض والمشتري فيه مانع وعلى المشتري قيمة ما قبض، وقال أبو يوسف لو قال البائع: بعتك بهذين العبدين وقال المشتري: اشتريته بهذا العبد وحده لأحدهما والمبيع مستهلك، قال: قد اتفقا على واحد فهو بيع به ولا يصدق البائع على الآخر.
نوع آخر في دعوى البيع مع دعوى الاعتاق
رجل ادعى على الآخر إني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم واعتقته أنت أيها المشتري وقال المشتري: ما اشتريته وما اعتقته، فإن أقام البائع بينته سمعت بينته على الشراء والعتق؛ لأنه خصم في إثبات الشراء والعتق؛ لأن بالشراء يثبت أصل الثمن وبالعتق يثبت تأكد الثمن وخروج المبيع عن ضمان البائع ودخوله في ضمان المشتري؛ لأن الإعتاق قبض معنوي على ما عرف، فإن لم يكن له بينة وطلب من القاضي أن يحلف المشتري حلفه أولاً على دعوى الشراء، فإن حلف على دعوى الشراء لا يحلفه على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأنه فائدة فيه؛ لأنه لم يثبت ملك المشتري بما حلف ولكن يعتق العبد على البائع بحكم إقراره أنه مالكه قد أعتقه وكان ولا العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما بيعه عن نفسه، هذا إذا حلف على دعوى الشراء وإن نكل عن دعوى الشراء حتى صار مقراً بالشراء إلا أن يحلف على دعوى العتق؛ لأن البائع يدعي عليه قبض المعقود عليه، وتأكد الثمن وهو ينكر فإن نكل ثبت العتق من جهة وكان ولاء العبد له، وإن حلف لم يثبت العتق وكان العبد مملوك للمشتري؛ لأنه لو ثبت العتق ههنا يثبت بشهادة البائع؛ لأنه فرد هذا إذا كان العبد في يدي البائع، وإن كان في يدي المشتري والمسألة بحالها، فإن أقام البائع بينة على ذلك سمعت بينته على الشراء لما مر، ولا يسمع بينته على العتق عند أبي حنيفة بخلاف الفصل الأول؛ ولأن في الفصل الأول إنما قبلت بينة البائع على العتق لما فيه من إثبات القبض الذي هو حقه والقبض ههنا ثابت بالمعاينة فلا حاجة إلى إثباته بالبينة فلم ينتصب البائع خصماً في دعوى العتق، فالتحق دعواه بالعدم والبينة على عتق العبد لا تقبل من غير الدعوى.
وعندهما يقبل البينة على العتق؛ لأن عندهما الدعوى ليست بشرط لقبول البينة على العتق، وإن لم يكن للبائع بينة يحلف المشتري على دعوى الشراء، فإن حلف لا يحلف على دعوى العتق بالإجماع، وعتق العبد على البائع بحكم إقراره على ما مر، وكان ولاؤه موقوفاً وإن نكل عن دعوى الشراء يثبت الشراء بإقراره، ثم لا يحلف على العتق بعد ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن دعوى العتق من البائع التحق بالعدم فلو حلف المشتري حلف عنه بدون الدعوى.
ومن مذهب أبي حنيفة أنه لا يحلف عنه على عتق العبد بدون الدعوى كما لا يقبل البينة على حبسه بدون الدعوى، وأما عندهما فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «الزيادات» : أن عندهما لا يحلف حبسه بدون الدعوى بخلاف قبول البينة.(6/467)
وأشار محمد رحمه الله في «كتاب التحري» : أنه يحلف على طلاق المرأة بدون الدعوى، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة هذا في شرح «كتاب التحري» أنه يحلف على طلاق المرأة، وعتق الأمة عندهما حبسه بدون الدعوى وهما يلحقان عتق العبد بعتق الأمة وطلاق المرأة حتى قالا: تقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى كما تقبل على طلاق المرأة وعتق الأمة، فالصحيح عندهما أنه يحلف في عتق العبد حبسه بدون الدعوى، ثم إن عند أبي حنيفة إذا لم يحلف على دعوى العتق كالعبد مملوك للمشتري لا يحكم بعتقه؛ لأنه لو عتق، عتق بمجرد قول البائع، والعتق لا يثبت بقول الفرد وعندهما إذا حلف أنه نكل صار (75ب3) مقراً بالعتق وكان ولاء العبد له، وإن حلف بقي العبد مملوكاً وإذا ادعى على غيره أني بعت منك هذا العبد بمائة دينار وأعتقته أيها المشتري، وقال المشتري: اشتريت منك بألف وما أعتقته فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يحلف المشتري على العتق أولاً، ولا يشتغل بتحليفها بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأنهما اتفقا على الشراء؛ لأن البائع ادعى البيع بمائة دينار والمشتري أقر بالشراء بألف درهم فدعوى البائع الاعتاق على المشتري.
في هذه الصورة دعوى هلاك المعقود عليه ودعوى هلاك المعقود عليه دعوى سقوط التحالف عندهما، فيحلف المشتري أولاً على دعوى العتق عندهما لهذا، فإن نكل ثبت العتق وسقط التحالف، وكان القول في الثمن: قول المشتري مع يمينه فيحلف المشتري بالله لقد اشتريته بألف درهم كما يدعي، فالأصل إن كل من جعل القول قوله، فإنما يحلف على مايقوله على مايدعي الخصم.
كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أما متى وجب التحالف يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ولا يحلف على ما يدعيه، وإن حلف على دعوى الإعتاق لم يثبت هلاك المعقود عليه، فيتحالفان لاختلافهما في جنس الثمن حال المعقود عليه ويبدأ بيمين المشتري، فإن نكل لزمه مائة دينار وكان العبد مملوكاً له، وإن حلف يحلف البائع بعد ذلك بالله: ما بعته بألف درهم كما ادعاه المشتري، فإن نكل فله الألف.
وإن حلف فسخ القاضي العقد بينهما بسبب التحالف إذا طلبا أو طلب أحدهما، ثم يصير العبد حراً؛ لأن البائع أقر بحريته حال ما كان مملوكاً للمشتري، ومن أقر بحرية ملك غيره، ثم ملكه يوماً من الدهر يعتق على المقر ويكون ولاء العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.
فإن عاد المشتري إلى التصديق كان الولاء له؛ لأن الولاء يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بتكذيب المشتري، هذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قول محمد: يبدأ بالتحالف؛ لأن هلاك المعقود عليه عنده لايمنع التحالف واختلافهما في العقد سابق على اختلافهما في العتق، فهذا يبدأ بالتحالف ويحلف المشتري بالله بمائة دينار ويحلف البائع بالله مابعته بألف درهم، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، فإن حلفا يحلف المشتري على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأن البائع يدعي عليه حقاً لنفسه بهذا الدعوى، فإنه لو ثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على قيمة الهلاك المعقود عليه، وإذا لم(6/468)
يثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على عين العبد، فيحلف المشتري بالله ماأعتقته فإن نكل ثبت العتق ويفسخ القاضي العقد على القيمة، وإن حلف فسخ القاضي العقد على العبد وصار العبد حراً لإقرار البائع وولاؤه موقوف، ويستوي في هذه المسألة إن كان اختلافهما قبل قبض المشتري العبد أو بعده.
وفي «الزيادات» : رجل ادعى على رجل أني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بمائة دينار واعتقته أنت وقال المشتري: ما اشتريت إلا نصفه بخمسمائة درهم وما أعتقته، فإن على قول أبي يوسف يحلف المشتري أولاً على العتق ولا يشتغل بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأن البائع بدعوى العتق على المشتري يدعي هلاك المعقود عليه وسقوط التحالف ويحول ضمان المشتري، فيحلف المشتري على دعوى العتق أولاً، فإن نكل ثبت العتق من جهة المشتري، فيحلف بالله مااشتريت الكل بمائة دينار ولقد اشتريت النصف بخمسين درهما، فإن نكل صار مقراً بشراء الكل بمائة دينار وقد ثبت العتق منه وكان الولاء له، وإن أنكر الولاء لنفسه لما أنكر الإعتاق إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق بنكوله فقد كذبه في إنكاره فالتحق إنكاره بالعدم، وإن حلف فقد انتفى شراء الكل بمائة دينار وثبت شراء النصف بخمسين درهماً وعاد النصف الذي انتفى الشراء عنه إلى ملك البائع وعتق نصف العبد على المشتري وعتق النصف الآخر على البائع عند أبي حنيفة لإقرار البائع بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً وهو المشتري.
ومن أقر بحرية عبد وملكه يوماً من الدهر يعتق عليه بحكم إقراره، والإعتاق عند أبي حنيفة متجزئ فيعتق النصف على البائع والنصف على المشتري لهذا ويكون نصف الولاء للمشتري والنصف يكون موقوفاً للحال؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه.
وعلى قول أبي يوسف: عتق كل العبد على المشتري والولاء؛ لأن الإعتاق عنده لايتجزئ هذا إذا نكل المشتري عن اليمين على العتق وإن حلف على العتق انتفى العتق من جهة فيشتغل الآن بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن ويبدأ بيمين المشتري، فيحلفه بالله ما اشتريته بمائة دينار ولقد اشتريت نصفه بخمسمائة، فإن نكل لزمه الشراء بمائة دينار وكان العبد رقيقا؛ لأن العتق هنا لو ثبت يثبت بمجرد قول البائع، وإنه شهادة فردها بحكم لما يقطع بشهادة الفرد، وإن يحلف يحلف البائع بالله مابعت نصفه بخمسمائة درهم، ولقد بعته كله بمائة دينار، فإن نكل انتفى العقد عن أحد النصفين وعتق ذلك النصف على البائع؛ لأنه أقر بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً.
ثم الإعتاق عند أبي يوسف رحمه لايتجزئ، فإذا أعتق أحد النصفين على البائع عتق النصف الآخر عليه وعند أبي حنيفة الإعتاق يتجزئ فبقي النصف الذي ثبت فيه البيع مملوكاً للمشتري في النصف الذي ثبت فيه البيع بين إمضاء العقد وبين الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تغير من جهة البائع قبل القبض من العين إلى القيمة عند أبي يوسف؛ لأن عنده الإعتاق لايتجزئ.
وعند أبي حنيفة الإعتاق، وإن كان يتجزئ إلا أن يعتق النصف يثبت نوع فساد وتغير في النصف الباقي، وإنه يكفي لثبوت الخيار للمشتري، فإن اختار المشتري الفسخ عاد(6/469)
النصف الآخر إلى ملك البائع وعتق عليه بلا خلاف بحكم إقراره السابق ولا سعاية له على العبد أصلاً لا في النصف الذي انتفى البيع عنه، ولا في النصف الذي عاد إليه بحكم الفسخ؛ لأن البائع يبرأه من السعاية، فإنه يقول بعت كل العبد من المشتري وحقي في الثمن، والمشتري كاذب في يمينه فيكون مقراً ببراءة العبد عن السعاية من هذا الوجه، وإن اختار المشتري ببراءة من السعاية، فإنه يقول: بعت كل العبد من المشتري، إمضاء العقد كان له أن يسعى العبد في نصف قيمته؛ لأنه مشهود عليه بالعتق والمشهود عليه يستوجب السعاية على العبد سواء كان الشاهد موسراً أو معسراً بلا خلاف، نصف السعاية بما أدعى المشترى من الثمن، فإن كان الجنس متحداً وكان في السعاية فضل تصديق بالفضل؛ لأنه ربح حصل لا على ضمانه، وإن كان الجنس مختلفاً لا يتصدق بشيء؛ لأن الربح لايظهر في جنسين مختلفين؛ ولأن القبض له شبه بالعقد وابتداء العقد متفاضلاً في الجنسين المختلفين يجوز، فما له شبه بالعقد متفاضلاً في جنس واحد الاستحسان سار ما أشبه بالعقد يتمكن نوع.
حيث إنه يوجب التصديق هذا إذا حلف البائع ونكل عن اليمين، فأما إذا حلف فالقاضي يفسخ العقد بينهما في النصف الذي اتفقا في البيع إذا طلبا أو طلب أحدهما وعاد ذلك النصف إلى ملك البائع وعتق عليه مجاناً من غير سعاية لما قلنا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قياس قول محمد بدأ بالتحالف في العقد؛ لأن دعوى الإعتاق من البائع.
وإن كان دعوى (76أ3) هلالك المعقود عليه لا يمنع التحالف عنده، والاختلاف في العقد سابق على الاختلاف في العتق فيبدأ بالتحالف في العقد، ويحلف المشتري أولاً، ثم يحلف البائع على نحو ما بينا، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن حلفا يحلف المشتري في دعوى العتق لما مر، هذا في كله إذا اختلفا قبل القبض.
وأما إذا اختلفا بعد قبض العبد والباقي بحال قال في «الكتاب» : الجواب على ما وضعت لك قبل القبض إلا في خصلة واحدة أنه لا خيار للمشتري هنا بين الفسخ والإمضاء في النصف الذي ادعاه في الشراء فيه لتغير المعقود عليه بعد القبض ولكن يستسعى في نصف قيمته.
قال مشايخنا: وهنا خصلة أخرى إنه إذا قبض المشتري نصف من العبد لا يتصدق بشيء، وإن كانت القيمة من جنس الثمن وكان فيها فصل على الثمن بحصول الربح على ضمانه ولعدم ورود ماله شبه بالعتق، فالعقد وهو القبض عليه ولهذه المسألة مع أجناسها باب على حدة في «الزيادات» لقبه باب السلسلة.
نوع آخر في الاختلاف في الثمن بعد ارتفاع العقد
قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا البيع حال قيام الجارية حتى صحت الإقالة، ثم اختلفا في مقدار الثمن فقال المشتري: كان الثمن ألف درهم، وقال البائع: كان الثمن خمسمائة وعلى أن أزد عليك خمسمائة أيها المشتري ولا بينة لواحد منهما ذكر أنهما يتحالفان.(6/470)
فرق بين هذا وبين ما إذا اختلفا في مقدار رأس المال بعد الإقالة في المسلم إليه كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم كان رأس المال عشرة فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان في الإقالة في بيع اليمين، قال: تخالفان فسخ ويفسخ الإقالة بينهما بعد التحالف ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة.
والفرق: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض المسلم فيه فسخ من كل وجه وفي حق كل حكم إذ لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً لما فيه من الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض، فإنه بيع فيعتبر فسخاً في حق التحالف أيضاً كما في بيع العين إذا تقايلا قبل قبض المبيع المنقول والثمن مدفوع إلى البائع، واختلفا في مقدار الثمن بعد الإقالة، فإنهما لا يتحالفان ويكون القول في مقدار الثمن قول البائع مع يمينه؛ لأن الإقالة في هذه الصورة لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً فاعتبر فسخاً في حق جميع الأحكام من جملتها التحالف.
وكذا في السلم وإذا اعتبرت الإقالة فسخاً في حق التحالف لا يمكن شرع التحالف فيها؛ لأن التحالف شرع في المعقود بخلاف القياس فلا يشرع في حق المفسوخ، وأما الإقالة في بيع العين بعد القبض إن اعتبر فسخاً فيما بين المتعاقدين اعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث؛ لأن لاعتبار معنى البيع بعد القبض ممكن فيعتبر بيعاً جديداً في حق التحالف وصار في حق التحالف كان البائع اشترى ثانياً، ثم اختلفا في الثمن ولو كان كذلك كانا يتحالفان كذا ههنا.
وفي باب السلم: لو جعلت الإقالة بعد قبض المسلم فيه وهو قائم حتى أمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، يقول بأنهما يتحالفان أيضاً، هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي، ثم إن محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين الإقالة في فصل السلم، وبين ما إذا اختلفا في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة، فإن في فصل الإقالة في السلم قال: لا يتحالفان؛ لأن الإقالة في باب السلم مما لا يحتمل الفسخ وفي البيع بعد هلاك السلعة قال بالتحالف، وإن كان بعد هلاك السلعة لا يحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ.
والفرق: أن التحالف مشروع في العقد لا في الفسخ والإقالة في باب السلم قبل القبض فسخ من كل وجه، ولا يمكن شرع التحالف فيها فأما في البيع بعد هلاك السلعة التحالف إنما يجري في البيع لا في الفسخ إلا أنا نقيم القيمة في حق الفسخ مقام العين.
الفصل الحادي عشر: في الزيادة في الثمن وازديادهما في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في الزيادة المتولدة من المبيع.
كل زيادة تولدت من نفس المبيع كالولد والثمر واللبن فهي مبيعة، فإن حدثت قبل(6/471)
القبض كان لها حصة من الثمن على اعتبار القبض، فإن ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل يوم العقد وعلى الزيادة يوم القبض، وإن حدثت هذه الزيادة بعد القبض كانت مبيعة بيعاً ولا حصة لها من الثمن أصلاً، وإنما كانت هذه الزيادة مبيعة؛ لأنه يثبت فيها حكم البيع وهو الملك؛ لأن الملك في الأم إنما يثبت بالبيع، والملك في الزيادة إنما يثبت بملك الأم؛ لأن ملك الأصل علة ملك الزيادة بثبوت الملك في الزيادة بواسطة ثبوت الملك في الأصل مضافاً إلى البيع.
فهي معنى قولنا: أن الزيادة صارت مملوكة بالبيع فصارت مبيعة بيعاً بمنزلة أطراف المبيع فلا يكون لها حصة من الثمن؛ لأن الثمن تقابل الأصول وإنما يقابلها الثمن إذا صارت مقصودة بفعل محلها وهو القبض فعل مقصود وله شبه بالعقد من حيث أن العقد يثبت ملك الرقبة وباليد يثبت ملك التصرف، فإذا حل بالولد يصير للولد حصة من الثمن إما بدونه لا يكون للولد حصة من الثمن، حتى لو هلكت الزيادة في يد البائع هلكت بغير شيء؛ لأن القبض قد انعدم فيها فلم يصر بمقابلتها شيء من الثمن ولا خيار للمشتري بسبب هلاك الزيادة في يد البائع إلا في ولد الجارية خاصة؛ لأن الولادة عيب فيها فيثبت الخيار لنقصٍ في الأم دون هلاك الولد.
وإذا ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل والزيادة ويعتبر في الانقسام قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة يوم القبض؛ لأن الأصل صار مقصوداً بالعقد والزيادة صارت مقصودة بالقبض، والثمن إنما يقابل ما هو مقصود فاعتبرنا قيمة الأصل يوم القبض.
لهذا ولو أتلف البائع الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض سقطت حصته من الثمن يقسم الثمن على قيمة الأصل يوم العقد، وعلى قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأن التمام مبيع وقد صار مقصوداً بالاستهلاك فيثبت له حصة من الثمن كما لو استهلك جزء من المبيع، وإنما اعتبر قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأنه إنما صار مقصوداً بالاستهلاك.
ولو استهلك التمام أجنبي ضمن قيمته وكانت مع الأصل مبيعاً، لكون البدل قائماً مقام الأصل ولا خيار للمشتري إلا في ولد الجارية لما مر، ولو استهلك البائع التمام بطلت حصته على ما بينا ولا خيار للمشتري في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: له الخيار؛ لأن التمام بالاستهلاك صار مقصوداً ولهذا أخذ حصته من الثمن فصار كالموجود لدى العقد، وعلى هذا الاعتبار تتفرق الصفقة على المشتري بالاستهلاك قبل التمام وذلك يثبت الخيار.
ولأبي حنيفة إن هذه الزيادة لو هلكت بنفسها، للمشتري خيار، فإذا استهلكها أولى؛ لأن البائع بالاستهلاك حصل للمشتري يقع لم يحصل بالهلاك وهو سقوط الحصة وهذا؛ لأن الرغبة في الأصل يزداد باستهلاك الزيادة ولا يتقاصر؛ لأنه لما رغب في أن يسلم له الأصل بكل الثمن، (76ب3) فإذا سلم له الأصل ببعض الثمن كانت الرغبة أزيد بخلاف الزيادة الموجودة لدى العقد؛ لأن الرغبة هناك تحمل بفوات الزيادة؛ لأن(6/472)
الإنسان قد يرغب في التزام الثمن بمقابلة الشيء لرغبة له فيما ضم إليه، فإذا فات المضموم تحصل الرغبة، ولهذا استوى فيه الهلاك بخلاف ما نحن فيه.
ولو اشترى أرضاً ونخلاً فأثمرت النخلة في يد البائع، ثم استهلك البائع الثمرة، فإن عند أبي يوسف يأخذ الثمرة الحصة من النخل، وعند محمد: يأخذ الثمرة والنخلة الحصة من الأرض.
وبيانه: إذا كانت الأرض تساوي ألفاً والثمر يساوي ألفاً، فإن عند أبي يوسف يقسم الثمن نصفين على الأرض والنخل، ثم ما أصاب النخل يقسم نصفين فيسقط الربح، وعند محمد يقسم أثلاثاً فيسقط الثلث.
نوع منه في الزيادة المشروطة
اعلم أن الزيادة في الثمن والمثمن صحيحة ثمناً ومثمناً ويلحق بأصل العقد ويجعل كأن العقد على الابتداء.
ورد على الأصل والزيادة وهو مذهب علمائنا الثلاثة، وعند زفر لا يصح ثمناً ومثمناً إنما يصح هبة مبتدأة حتى لا يتم إلا بالتسلم والتسليم وقال الشافعي: لا يصح أصلاً.
والصحيح مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن الزيادة تصرف في العقد بتغييره من وصف مشروع وهو وصف كونه خاسراً إلى وصف مشروع وهو وصف كونه عدلاً أو رائجاً؛ لأن العقد قد يقع خاسراً من أحد الجانبين رائجاً من الجانب الآخر، وبأن كان أحد البدلين أكثر مالية، والزيادة على ما عليه الغالب، والظاهر إنما يشترط لمن وقع العقد خاسراً من جانبه، والعقد يقبل هذا النوع من التغير إذ ليس فيه أكثر من أن يصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة الأصل ومن أن يصير بعض المبيع بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل الثمن، والعقد قابل لذلك.
ألا ترى أن في الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض إذا قبضها المشتري يأخذ قسطاً من الثمن ويصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل المبيع.
وكذلك الزيادة المتولدة من الثمن إذا ثبت أن العقد قابل لهذا النوع من التغير وجب القبول بتصحيح الزيادة ثمناً ومثمناً دفعاً للخسران من جانب المشروط له الزيادة يبقي هذا القدر أن الثمن لا بد له من مثمن هو ملك الغير.
وكذلك المثمن لا بد له من ثمن هو ملك الغير، ولكن الجواب عنه أن أصل الثمن لا يستغني عن المقابلة، وكذلك أصل المثمن، فأما فضول الثمن والمثمن يستغني عن المقابلة ويكتفي بصورة المقابلة فيه.
ألا ترى لو باع عبداً قيمته ألف درهم بألفي درهم يجوز وفي حق الألف الزائد لا مقابلة من حيث الحقيقة إنما الثابت المقابلة صورة.
وفي مسألتنا وجد صورة المقابلة فيكتفي بها لصحة الزيادة ثمناً ومثمناً وشرط صحة الزيادة من المشتري في الثمن في ظاهر الرواية بقاء المبيع وكونه محلاً للمقابلة في حق المشتري حقيقة.(6/473)
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن أشياء من ذلك ليس بشرط حتى أن على رواية الحسن تصح الزيادة بعد هلاك المبيع في ظاهر الرواية لا تصح، وروي عن محمد أن شرط صحة الزيادة كون المبيع قابل للمقابلة في نفسه لا كونه قابلاً للمقابلة في حق المشتري حتى أن على الرواية هذه تصح الزيادة من المشتري في الثمن بعد ما باع المشتري المبيع أو وهب وسلم أو تصدق وسلم؛ لأن المبيع بقي محلاً للمقابلة في نفسه، وفي ظاهر الرواية لا تصح الزيادة؛ لأن المبيع لم يبق محلاً للمقابلة في حق المشتري.
والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن طريق تصحيح الزيادة في الثمن تغيير العقد والعقد بعد هلاك المعقود عليه لا يقبل التغيير؛ لأن التغير يرد على الموجود والعقد كلام كما وجد تلاشى وانعدم، وإنما جعل باقياً ببقاء محله ومحله المبيع ذات محل العقد فلا يبقي العقد فلا يمكن القول بالتغيير.
والجواب عن رواية محمد على ظاهر الرواية: أن الزيادة من المشتري فيشترط محلية المقابلة في حقه.
يوضحه: أن التغيير المقابلة من وصف إلى وصف في معنى إن شاء المقابلة على ذلك الوصف، ثم يشترط الصحة إنشاء المقابلة حقيقة كون المحل قابلاً للمقابلة في حق المنسي لا كونه محلاً للمقابلة في نفسه، فكذا يشترط لصحة إنشاء المقابلة المعنوية كون المحل قابلاً للمقابلة في حق.
إذا اشترى عبداً بأمة وتقابضا وهلك أحدهما، ثم زاد أحدهما للآخر في المبيع جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإقالة تجوز في هذا الوجه.
والأصل عند أبي يوسف: إن ما جازت الإقالة جازت الزيادة فيه، ولو زاد في الثمن بعد ما رهن المبيع أو أجر تصح الزيادة؛ لأن المحل بقي قابلاً للمقابلة حقيقة في حق المشتري وقت شرط الزيادة.
فإن بيع المرهون والمستأجر من المرتهن والمستأجر صحيح نافذ، وإنما لا ينفذ بيعهما من الأجنبي لعجز البائع عن التسليم لحق المرتهن والمستأجر لا؛ لأنه ليس بمحل للمقابلة في حقه.
وكذلك لو زاد المشتري في الثمن بعد ما قطع يد المبيع وأخذ المشتري أرشه صحت الزيادة المنفصلة لا تبطل محلية المقابلة في حق المشتري فلا يمنع الزيادة إلا أنه لا يملك الرد بالعيب لمكان الزيادة المنفصلة؛ لأن بالرد بالعيب ينفسخ العقد فتبقي الزيادة مبيعاً مقصوداً بلا ثمن أما في إثبات الزيادة لا يحتاج إلى الفسخ فلا يؤدي إلى هذا المعنى وهذا تبين أن الطريق المعتبر في تصحيح الزيادة طريقة التغيير لا طريقة الفسخ.
ولو زاد المشتري في الثمن بعد ما كان المبيع لا تصح الزيادة فرق بين الكتابة والرهن حيث جوز الزيادة في المبيع بعد الرهن ولم يجوز بعد الكتابة وكما ثبت للمكاتب يد على نفسه ثبت للمرتهن يد على المرهون.
والفرق: وهو أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء، وأنه يد الملك لا يد حرية للمملوك(6/474)
فبقي المرهون محلاً للمقابلة، فأما الكتابة تبطل يد المولى فيظهر للعبد يد حرية على نفسه ليتمكن من الضرب في أرض الله فيبتغي من فضل الله تعالى، فينال شرف الحرية، وبهذا تبطل محلية البيع.
ولهذا لو حلف أن لا يبيع فباع المرهون يحنث في يمينه ولو باع المكاتب لا يحنث هذه الجملة من بيوع «الجامع» .
وفي «القدوري» : وإذا صار المبيع لا يجوز العقد عليه نحو أن يعتقه المشتري أو يستولدها أو يدبر أو يكون عصيراً فيتخمر أو يخرجه المشتري عن ملكه أو يملك، ثم زاده فالزيادة جائزة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز.
وعلى هذا الخلاف إذا زاد الزوج في مهر المرأة بعد موتها وعلل لأبي حنيفة وقال: أن الزيادة تثبت للحال ربحاً وبيعاً لا أصلاً ومقصوداً، ثم بعد الالتحاق بأصل العقد يثبت المقابلة بين الزيادة والمبيع ويثبت لهذه الزيادة حصة من الثمن ولما كان هكذا يراعي قيام المبيع وكونه محلاً للمقابلة حالة العقد لا حالة الزيادة.
وفي «البقالي» : تجوز الزيادة في المبيع بعد هلاك المبيع بخلاف الزيادة في الثمن في ظاهر الرواية، وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» .
ولو زاد بعد ما صار الخمر خلاً صحت الزيادة بلا خلاف؛ لأن الزيادة تقابل المبيع للحال صورة، ثم إذا التحق بأصل العقد يقابل المبيع معنى، فإن نظرنا إلى حالة المقابلة صورة فالمحل صالح للمقابلة، وإن نظرنا إلى حالة المقابلة معنى فالمحل صالح أيضاً، أما فيما بين ذلك ليس حالة المقابلة صورة ولا حالة المقابلة معنى فيجعل التخمر فيه عفواً.
وإذا اشترى (77أ3) شاة وذبحها ولم يسلخها، ثم زاد في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع قائم بعد الذبح والسلخ ولهذا لو كانت مغصوبة لا ينقطع حق المالك بهذه الأشياء هكذا ذكر في «الجامع» .
وفي «المنتقى» رواية مجهولة أنه لا تجوز الزيادة.
وفي «الجامع» أيضاً: ولو اشترى غزلاً وقبضه ونسجه ثوباً، ثم زاد في الثمن بطلت الزيادة؛ لأن بالنسخ صار شيئاً آخر وصار الأول هالكاً ولهذا ينقطع حق المغصوب منه.
ولو اشترى ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم زاده في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع هو الثوب والثوب باقي إلا أنه إنما وجب انقطاع حق المغصوب منه باعتبار تعارض الحقين حق الغاصب وحق المغصوب، وترجح حق الغاصب على حق المالك على ما عرف، فأما حق المشتري هنا فلا يعارضه بنفسه فلا يجب الترجيح.
وكذلك إذا اشترى حديداً وضربه سيفاً، ثم زاد في ثمنه صح لما قلنا: أنه حديد كما كان، وإنما ينقطع حق المالك لترجح حق الغاصب على ما مر في مسألة الخياطة.
ولو اشترى حنطة فطحنها، ثم زاد في الثمن شيئاً بطلت الزيادة على ظاهر الرواية؛ لأن الحنطة هلكت، ألا ترى أنه قد زال الاسم والصورة قد تبدلت والمعنى قد هلكت وحدثت معنى آخر فبطلت الزيادة ضرورة، وإذا كانت الزيادة مفسدة للعقد التحقت بأصل(6/475)
العقد وفسد بها البيع في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا تصح الزيادة، ثم في موضع تصح الزيادة من المشتري تصح من الأجنبي؛ لأن المشتري لا يملك بمقابلة الزيادة شيئاً لم يكن مملوكاً له فكان الأجنبي في هذا كالمشتري غير أن الزيادة من المشتري تصح بمطلق الإيجاب ومن الأجنبي إنما تصح إذا أضاف الإيجاب إلى ماله أو ذمته أو أضاف الضمان إلى نفسه، أما بدون أخذ هذه الأوصاف لا تصح، وإنما كان هكذا؛ لأن مطلق الزيادة ثمناً إنما يكون على من وقع له الثمن والثمن وقع للمشتري وله ولاية على نفسه فيصح، فأما لا ولاية لأجنبي على المشتري فلا يقع إيجاباً على المشتري بل يقع إيجاباً على الأجنبي فلا يصح إلا على الوجه الذي قلنا:
وهو نظير ما قلنا في الخطاب بالطلاق على مال، أنه يصح من الأجنبي كما يصح من المرأة؛ لأن المرأة بالطلاق بمال لا تملك شيئاً؛ لأن حقها في مالكيتها وحريتها وذلك باقي لكن يبطل به حق كان للزوج، وقد بطل ذلك مع الأجنبي أيضاً لكن يصح من المرأة مطلقاً ومن الأجنبي، لا يصح ما لم يصف الإيجاب إلى مال نفسه أو ذمته.
ثم الزيادة من الأجنبي لا تخلو إما أن تكون مطلقاً أو مقيدة بالثمن، وإما أن تكون مشروطة في العقد أو ملحقة بها، وإما أن تكون الزيادة بأمر المشتري أو بغير أمره، فإن كانت الزيادة مشروطة في العقد فإن كانت بغير أمر المشتري وكانت مطلقة غير مقيدة بالثمن.
وصورتها: رجل ساوم رجلاً له بألف درهم وأبى المالك إلا أن يبيعه بألف وخمسمائة فقال أجنبي لصاحب العبد: بعه إياه بألف على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه بألف ولم يشرطه شيئاً في البيع فالبيع جائز والخمسمائة التي ضمن الرجل للبائع باطل، وإن كانت مقيدة بالثمن.
وصورتها: إذا قال الأجنبي لصاحب العبد: بعه بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه جاز ووجب الألف على المشتري والخمسمائة على الأجنبي، وفي مسألة «الجامع الصغير» وإنما جاء الفرق بين المسألتين؛ لأن في المسألة الأولى لا يمكن أن يجعل كلام الأجنبي زيادة في الثمن؛ لأنه قال: على أني ضامن لك خمسمائة سوى هذه الألف والألف هو الثمن فكأنه قال: سوى الثمن فلا يمكن أن يجعل هذا زيادة في الثمن بقي هذا شرطاً للزيادة مطلقاً وشرط الزيادة مطلقاً التزام المال بلا سبب، والتزام المال بلا سبب رشوة حرام.
أما في المسألة الثانية: جعل الخمسمائة من جملة الثمن والثمن اسم لما يستحق بالبيع فخرج به من أن يكون رشوة.
فوضح الفرق بينهما: أن في المسألة الأولى لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع لا يلزمه الخمسمائة، وفي المسألة الثانية لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع يلزمه الخمسمائة فظهر الفرق بينهما.
وفرق آخر وهو: أنه إذا قال من الثمن فقد أضاف الإلتزام إلى ما بعد الوجوب؛ لأن الثمن اسم للواجب بالبيع وإضافة الكفالة إلى ما بعد الوجوب بل التزم المال في(6/476)
الحال بشرط أن يبيعه منه بألف درهم وذلك غير صحيح، وفرق أجزائه إذا قال من الثمن فقد جعل المائة بمقابلة المبيع صورة لا معنى، ومثل هذا يصح من العاقد فيصح من الأجنبي، وإذا لم يقل من الثمن فقد جعل الزيادة مقابلاً بفعل البائع وهو البيع والبائع في البيع عامل لنفسه فلا يستوجب به عوضاً على غيره.
فرع
أما إذا قال الأجنبي من الثمن فقال: لو نقد المشتري الألف له أن يقبض المبيع وليس للبائع أن يمتنع عن التسليم لاستيفاء الخمسمائة؛ لأن الخمسمائة لم تثبت ثمناً في حكم يرجع إلى المشتري؛ لأنه لم يلتزمها ولم يأمر الأجنبي بها وإنما يثبت ثمناً في حق الأجنبي وفي حق حكم يرجع إلى الأجنبي، وهذا؛ لأن التزام الأجنبي فيما يتضرر به المشتري غير معتبر ولو وقفنا حق قبض المشتري على نقد الخمسمائة يتضرر به المشتري.
ولو كان المشتري أمر الأجنبي بالضمان والمسألة بحالها كان البيع جائزاً إذا لم يشرط ضمان الخمسمائة في البيع إنما ذكر هذه الزيادة تحرزاً عن البيع بشرط الكفالة، فإن هناك بين العلماء اختلافاً وفيه استحسان، وإذا جاز البيع هنا كان للبائع أن يأخذ الخمسمائة من الكفيل بحكم الضمان يريد به إذا كان الكفيل قال: على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن، وإن أراد البائع أن يطالب المشتري بالخمسمائة لم يكن له ذلك؛ لأن المشتري ما التزمها في ذمة نفسه إنما التزمها الكفيل بأمره فصار الكفيل ههنا بالشراء وهناك ليس للبائع أن يطالب الموكل بالثمن بل يطالب الوكيل كذا ههنا.
فإن نقد المشتري ألف درهم وأراد أن يأخذ المبيع ليس له ذلك حتى يأخذ البائع الخمسمائة من الكفيل بخلاف ما إذا لم يكن المشتري أمر الضامن؛ لأن ههنا الخمسمائة ثمناً في حق المشتري ولهذا الكفيل يرجع على المشتري بذلك وفيما إذا كانت الزيادة بغير أمر المشتري فالزيادة لم تثبت ثمناً في حق المشتري ولهذا لا يرجع الضامن على المشتري بالزيادة.
وإن ادعى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع أُجبر البائع على القبول منه، وإن كان لا يجبر المشتري على إعطاء الخمسمائة إذا أبى ذلك بمنزلة الموكل إذا أدى الثمن يجبر على القبول منه، وإن كان لا يجبر هو على الدفع ابتداء، وليس للكفيل أن يرجع على المشتري يريد به إذا أدى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع كالموكل إذا نقد الثمن من مال نفسه لا يكون للوكيل حق الرجوع عليه بشيء؛ لأنه إنما يرجع بما أدى من الثمن لا بما لم يؤد.
وأشار محمد رحمه الله في «الأصل» : إلى علة المسألة فقال: المشتري ليس بمتطوع فيما أدى عن الكفيل، وإنما أراد بهذا التفرقة بين هذا وبينما لو جاء إنسان وأدى الخمسمائة عن الكفيل حيث كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالخمسمائة؛ لأن هناك الأجنبي في الأداء عن الكفيل (77ب3) متبرع فيصير كأنه ملك الخمسمائة من مال الكفيل، أما ههنا المشتري ليس بمتبرع عن الكفيل؛ لأنه يؤدي ما كان عليه فلم يصير مملكاً من الكفيل بطريق التبرع بل يكون مؤدياً من مال نفسه فلهذا افترقا.(6/477)
r
هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فأما إذا كانت الزيادة ملحقة به بأن اشترى رجل عبداً بألف درهم وقبضه حتى زاد رجل أجنبي في ثمنه خمسمائة فإن فعلها بإذن المشتري فهو على المشتري دون الأجنبي لما ذكرنا أن مطلق الزيادة إنما تنصرف إلى من دفع له الثمن وقد ثبتت له الولاية على المشتري لما أمره المشتري بالزيادة ويصير الأجنبي في هذا بمنزلة المعير والسفير، ولهذا لا يستغني عن الإضافة إلى عقد الشراء، فإنه لابد أن يقول زدتك خمسمائة في ثمن المبيع الذي اشتراه فلان.
وحقوق العقد إنما ترجع على العاقد دون المعير والسفير، بخلاف ما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد؛ لأن الأجنبي هناك بمنزلة الوكيل ولهذا يستغني عن إضافة الزيادة إلى عقد غيره فكانت الحقوق راجعة إليه أما هنا بخلافه.
وإن كان زاد بغير أمر المشتري فإن لم يضمن الزيادة ولا إضافة إلى مال نفسه، ولا إلى ذمته كانت الزيادة موقوفة على رضا المشتري لما مر أن يطلق الإيجاب ثمناً يكون على من وقع له المثمن فيصير إيجاباً على المشتري ولا ولاية له على المشتري فيوقف على رضا المشتري لهذا، وإن كان حين زاده الخمسمائة قال: إنه ضامن لهما، وقال: على إنها علي فهي لازم للأجنبي؛ لأنه التزمها في ذمة نفسه أو ماله فبعد ذلك أن إجازة المشتري لم يعمل فيه الإجازة؛ لأنها قد لزمت عقداً نفذ على غيره لا يعمل بخلاف ما إذا لم يضمنها الأجنبي ولا أضافها إلى ذمته على ما مر.
وفي «المنتقى» : رجل باع رجلاً ثوباً، ثم لقيه المشتري قال: إنك أغليت علي وبعتني بأكثر مما يساوي، وقال البائع: إني بعتك بعشرة وكان باعه بعشرين فهذا حطته للعشرة عن الثمن، ولو كان البائع قال للمشتري: قد أرخصت عليك وبعتك بنصف الثمن فقال المشتري: قد اشتريته بعشرين وقد كان اشتراه بعشرة فهذا من المشتري زيادة في الثمن.
ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه ولكن البائع قال للمشتري: بعتكه ثانياً بعشرين فتراضيا عليه وكان البيع الأول بعشرة ينفسخ البيع الأول بالثاني.
وكذلك لو كان المشتري قال للبائع: اشتريته منك ثانياً بعشرة وتراضيا عليه وكان الشراء الأول بعشرين ينتقض الشراء الأول بالثاني. قال: ولا يشبه هذا الأول، ثم قال: إذا ذكرا غلاءً أو رخصاً فهو زيادة وحط وإذا لم يذكر فهو نقص الأول.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى من آخر ثوباً بعشرة دراهم وأرجح له دانقاً قال لا تعمله حتى يقول في حل أو يقول هو لك، فإن فعل ذلك باعه المشتري على عشرة دراهم يعني مرابحة أو تولية، ولو وجد به عيباً رده بعشرة.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً على أن البائع بالخيار، ثم إن المشتري قال للبائع: أصالحك على مائة درهم أعطيكها على أن تسلم لي البيع ففعل جاز وهذه زيادة، ولو كان الخيار للمشتري فقال البائع: أصالحك على أن أحط منك مائة وأزيدك شيئاً على أن تقبل البيع فهذا جائز أيضاً، وسيأتي في فصل الخيار بخلاف هذا.(6/478)
وفي «المنتقى» : إذا مات البائع والمشتري والسلعة قائمة، ثم زاد وارث الآخر شيئاً فهو جائز في قولهم جميعاً.
وفي أول بيوع «الجامع» : إذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وتقابضا وتفرقا، ثم التقيا فزاد المشتري البائع في الثمن عشرة دنانير وصحت الزيادة بشرط قبض الزيادة في مجلس الزيادة؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد بطريق الإسناد فتصير الزيادة بدل الصرف غير أن الإستناد لا يدخل في فعل العباد، والقبض من أفعال العباد فاعتبر في حق وجوب القبض حال ثبوت الزيادة، ولا يشترط قبض الإبريق للحال؛ لأنها مقابلة للحال تسمية.
وصورة إذا صحت التحقت بأصل العقد وتثبت المقابلة من وقت وجوب العقد معنى والمقابلة معنى أقوى من مقابلة صورة وقبض الإبريق وجد وقت العقد حقيقة فوقعت عن اشتراط قبضها وقت وجود المقابلة صورة، أما في حق الزيادة لا يمكن اعتبار القبض وقت المقابلة معنى فاعتبرناه وجود المقابلة صورة.
نوع آخر يرجع إلى قسمة الزيادة في بعض المعقود عليه
يجب أن يعلم أن الزيادة المتولدة من المبيع لا يزاحم المبيع في الزيادة المشروطة مادام المبيع قائماً حتى كانت الزيادة المشروطة زيادة في المبيع دون الولد؛ لأن الولد تبع والتبع لا يستتبع غيره مادام الأصل باقياً، وإذا صارت الزيادة المشروطة زيادة على المبيع فالثمن أولاً ينقسم على المبيع وعلى الزيادة المشروطة، ثم ما أصاب المبيع ينقسم عليه وعلى الولد مبيعاً، فإن المتولد من المبيع مبيع، ويكون الانقسام باعتبار القيمة.
ويعتبر قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة وقيمة الولد يوم قبض الولد، وهذا لما ذكرنا قبل هذا أن الثمن إنما يقابل بما هو مقصود بالعقد والمبيع صار مقصوداً بإيراد العقد عليه، والزيادة بالشرط والولد بالقبض الذي هو ملحق بالعقد فاعتبرنا في الانقسام قيمة المبيع يوم العقد وقيمة الزيادة يوم الشرط وقيمة الولد يوم القبض.
لهذا قال محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم فولدت الجارية قبل القبض ولداً بقيمة ألف درهم، ثم إن البائع زاد المشتري غلاماً يساوي ألف درهم ورضي به المشتري، ثم ازدادت قيمة الولد فصارت ألفي درهم وجاء المشتري وقبضهم ونقد الألف ووجد بالولد عيباً رده بثلث الألف، وإنما كان هكذا؛ لأن الثمن أولاً ينقسم على الجارية وعلى الزيادة نصفان اعتبار القيمة الجارية يوم العقد والقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة، وجعلت الزيادة المشروطة زيادة على الجارية، ثم ما أصاب الجارية وذلك نصف الألف انقسم عليها وعلى الولد أثلاثاً وثلثاه بمقابلة الولد اعتبار القيمة الأم يوم العقد وهي الألف، ولقيمة الولد يوم القبض وهي ألفان وثلثا نصف الألف ثلث الألف، فإذا وجد بالعبد عيباً رده بثلث الألف، وإن وجد بالأم عيباً ردها بسدس الألف؛ لأن بمقابلتها ثلثا نصف الألف وثلث نصف الألف سدس الألف، وإن(6/479)
وجد بالزيادة عيباً ردها بنصف الألف؛ لأن بمقابلتها نصف.
وكذلك لو لم تلد الجارية لكن كانت عينها بيضاء وقت العقد فذهب البياض عن عينها، ثم إن عبداً معاً عيبها عند البائع فدفعه مولاه بالجناية إلى البائع، ثم زاد البائع المشتري يساوي ألف فهذا والأول سواء إذا قبضهم المشتري ينقسم الثمن على قيمة الجارية وقت العقد وعلى قيمة المدفوع بالعين يوم يقبضه المشتري، فإذا وجد بأحدهم عيباً ردها بالحصة؛ لأنه لما انجلى البياض عن العين كان ذلك بمنزلة زيادة متصلة فلما برأت عن عيبها دفع بها صارت تلك الزيادة متصلة بمنزلة ولد ولدته فيكون العبد المدفوع تبعاً للجارية إنم (78أ3) يصير مقصوداً بالقبض فيعتبر في الانقسام قيمة وقت القبض.
وهذا بخلاف إتلاف البائع؛ لأن البائع بالإتلاف يصير مفوتاً القبض المستحق بحكم العقد مقصوداً بالفسخ وأن يصير مقصوداً بالفسخ إلا وأن يصير مقصوداً بالعقد ضرورة فلهذا يعتبر قيمته في تلك الحالة أما ههنا البائع يقبض العبد بهذا القبض المستحق للمشتري ولا يفوت فلا يصير مقصوداً بالفسخ ليصير مقصوداً بالعقد ضرورة، فلهذا اعتبر قيمته في الانقسام يوم قبض المشتري.
وهذا الذي ذكرنا إذا كانت الجارية بيضاء إحدى العينين عند البيع فانجلى البياض عنها عند البائع، ثم جاء عبد وضرب عينها حتى عاد البياض فدفع به، فأما إذا كانت عيناها صحيحتين عند البيع وقيمتها ألف درهم وجاء عبد وضرب عينها عند البائع حتى انتصب فدفع مولاه إلى البائع.
ثم زاد المشتري عبداً يساوي ألف درهم، ثم جاء المشتري وقبضهم فهنا لا يجعل المدفوع بمنزلة الولد بل يقسم الثمن أولاً على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الزيادة نصفان، ثم (ما) أصاب الجارية ينقسم عليها وعلى العبد المدفوع نصفان قلت قيمة العبد أو كثرت بخلاف الفصل الأول، فإن هناك ما أصاب الجارية ينقسم على قيمتها يوم العقد وعلى قيمة العبد المدفوع يوم القبض.
والفرق: أن العبد المدفوع هناك قائم مقام ما هو أصل وهو العين إذ العين في هذه الصورة كانت أصلاً ولم تكن زيادة؛ لأنه اشتراها وهي صحيحة العينين فكان حكمه حكم نصف الجارية على أي قيمة كان إذا العين من الأدمي نصفه فيأخذ نصف ما أصاب الجارية من غير اعتبار القيمة، فأما في الفصل الأول العين كانت زيادة؛ لأنه اشتراها وهي بيضاء أحد العينين، ثم انجلى البياض عنها والعبد المدفوع بها قام مقاماً فصارت الزيادة المتصلة منفصلة فكان بمنزلة الولد، وفي انفساخ الثمن يعتبر قيمة الولد يوم القبض فكذا قيمة العبد المدفوع.
قال: ولو ولدت الجارية المبيعة قبل القبض ولداً أو جاء عبد وضرب عينها التي كانت بيضاء وقت العقد وانجلى البياض عنها حتى عاد البياض بسبب ضربه ودفع العبد(6/480)
به، ثم ماتت الجارية بسبب آخر غير العين، ثم زاد البائع المشتري في المبيع دابة تساوي ألف درهم ورضي به المشتري صحت الزيادة؛ لأنها حصلت حال بقاء العقد؛ لأن الولد يقوم مقام الجارية حال فوات الجارية والعبد المدفوع في مثل هذه الصورة بمنزلة الولد فيبقي العقد ببقاء كل واحد منهما فصحت الزيادة.
وإذا قبض المشتري يقسم الثمن على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الولد أو العبد المدفوع يوم قبض المشتري فحصة الجارية تسقط بهلاكها قبل القبض وحصة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يعتبر قيمته الزيادة يوم الزيادة وقيمة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يوم قبض المشتري وتعتبر الزيادة في هذه المسالة تابعة للولد أو العبد المدفوع؛ لأن الأصل متى، فإن قام الولد مقامه وصار أصلاً فاعتبرت الزيادة تبعاً للولد أو العبد المدفوع لهذا، فإذا بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن.
فإن لم يقبض المشتري شيئاً من ذلك حتى هلكت الزيادة هلكت بحصتها ويتخير المشتري إن شاء أخذ الولد أو العبد المدفوع بحصته من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن بهلاك الزيادة تعتبر على المشتري شرط عقده فلابد من التخير طلباً لرضاه، وهذا الخيار غير الخيار والذي ثبت له بهلاك الجارية قبل القبض؛ لأن ذلك الخيار سقط حين رضي المشتري بالزيادة يكون رضاءً يلزم العقد وبسقوط الخيار فبطل ذلك الخيار وإنما هذا خيار وآخر يثبت بسبب هلاك الزيادة.
وإن هلك الولد أو العبد المدفوع قبل القبض وبقيت الزيادة فللبائع أن يمسك الزيادة عن المشتري؛ لأن الولد أو العبد المدفوع إذا هلك قبل القبض صار كأن لم يكن؛ لأنه ظهر أنه لم يكن، بمقابلته شيء من الثمن وإن الأم حين هلكت بجميع الثمن فانفسخ العقد كله بهلاك الأم، وإن الزيادة حصلت بعد انفساخ العقد فلم تصح الزيادة فكان للبائع أن يمسك الزيادة لهذا.
وإنما قلنا: أن بهلاك الولد قبل القبض يظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن؛ لأن الولد وإن صار مبيعاً إلا أنه إنما يأخذ قسطاً من الثمن إذا صار مقصوداً وإنما يصير مقصوداً إذا ورد عليه القبض إلا أن الظاهر لما كان إلى وقت القبض كان الظاهر صيرورته مقصوداً والأحكام مبنية على الظاهر فجعلنا للولد حصة من الثمن للحال بحكم الظاهر وأبقينا العقد ببقائه وصححنا الزيادة تبعاً له ولكن بشرط بقائه إلى وقت القبض، فإذا هلك الولد قبل القبض فات الشرط وظهر بخلاف ذلك الظاهر، وظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن.
وإذا اشترى عبدين قيمة أحدهما ألف درهم وقيمة الآخر خمسمائة درهم بألف درهم، فصارت قيمة التي كانت خمسمائة ألف درهم أيضاً، ثم زاد المشتري في الثمن شيئاً تصح الزيادة وتنقسم الزيادة عليهما أثلاثاً اعتباراً لقيمتهما يوم البيع على ما مر،(6/481)
ومعنى آخر أن الزيادة للحال بل المبيع صورة لا معنى، ثم إذا صحت الزيادة والتحقت بأصل العقد تتحقق المقابلة بين الزيادة وبين المبيع معنى والانقسام حكم المعاني لا حكم الصور فيجب اعتبار حالة المقابلة المعنوية وهي حالة العقد، وفي تلك الحالة قيمة أحدهما ضعف قيمة الآخر فلا يتغير الانقسام بعد ذلك بتغير القيمة، فإن وجد المشتري بأحد العبدين عيباً رده بحصته من المثمن الأصل والزيادة، وإن مات أحدهما، ثم زاد المشتري في الثمن صحت الزيادة في حق القائم دون الهالك، حتى لو كان القائم هو الذي قيمته ألف صح ثلثاها، وإن كان القائم هو الآخر صح ثلثها.
وكان ينبغي أن لا تصح الزيادة أصلاً؛ لأنه جمع بين الحي وبين الميت في حق الزيادة، ولو جمع بين الحي وبين الميت في حق ابتداء العقد لا يصح العقد أيضاً فكذا في حق الزيادة.
وللوجه في هذا أن يقال: إن الجمع بينهما إنما يمنع ابتداء العقد بجهالة الثمن إن لم يكن الثمن مفصلاً عند الكل، والشرط الفاسد عند أبي حنيفة إن كان الثمن منفصلاً؛ لأنه جعل قبول العقد في الهالك شرطاً للعقد في القائم على ما عرف في موضعه، وكلا المعنيين لا يوجدان ههنا.
أما الجهالة؛ لأن الجهالة إنما تقع من قبل الانقسام من حكم المقابلة معنى لا صورة، والمقابلة من حيث المعنى إنما تثبت عند العقد فعند ذلك يثبت الانقسام، وفي الحالة لا جهالة فيصير بمنزلة موت أحدهما بعد الزيادة.
وأما المعنى الآخر؛ لأن الزيادة إنما تثبت بطريق الاستثناء، وكل مستند ظاهر من وجه مقتصر من وجه ولافساد باعتبار الظهور إنما الفساد باعتبار الاقتصار فكان الفساد في حصة الهالك ثابتاً من وجه دون وجه فلا تثبت حصة الهالك ولكن لا يتعدى ذلك إلى حصة القائم، ولا يصير شرطاً فاسداً في حق حصة القائم وكان ينبغي أن يصرف كل الزيادة إلى القائم عند أبي حنيفة.
كما إذا تزوج امرأتين إحداهما لا تحل له على ألف درهم يصرف الألف كله إلى التي تحل له عند أبي حنيفة. والجواب: أن الانقسام حكم صحة الإيجاب وهناك الإيجاب لم يصح في حق الحرمة أصلاً، أما ههنا (78ب3) الهالك داخل باعتبار شبه الظهور والتقسيم حكم شبه الظهور فصار كما لو مات أحدهما بعد الزيادة، وكذلك لو أعتق أو دبر أو كانت أمة فاستولدها أو باع أحدهما فهذا وما لو مات أحدهما سواء.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم وتقابضا أو لم يتقابضا حتى زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه، أو قال: في ثمن أحدهما ولم يعين قال: لا تجوز الزيادة.
ثم قال: وإن كان لكل واحد منهما ثمن على حدة وزاد في ثمن أحدهما لا بعينه جاز، وجعل القول قول المشتري في إضافة الزيادة إلى أحد الثمنين.
وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، ثم زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه.
وقال القياس: أن تجوز الزيادة ويقسم(6/482)
الثمن على العبدين، ثم تدخل الزيادة في حصة العبد الذي زيدت فيه، وكذلك إذا زاد جارية في ثمن أحدهما بغير عيبه جاز وكان للمشتري أن يضيفها إلى أيهما شاء وكذلك إذا زاد عرضها.
نوع آخر في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري
حط الثمن صحيح ويلتحق بأصل العقد عندنا كالزيادة، غير أن بين الحط والزيادة فرق من وجهين:
أحدهما: أن الحط صحيح سواء بقي المبيع محلاً للمقابلة أو لم يبق، بخلاف الزيادة على الرواية؛ لأن الحط إخراج ما تناوله وله الحط من أن يكون ثمناً للحال وتستند إلى حال كمال العدم يشترط له قيام الثمن لا قيام البيع، فأما الزيادة فإثبات صورة المقابلة للحال وتستند إلى حال كمال الثبوت فيشترط لها قيام المبيع بشرط أن يكون محلاً للمقابلة.
الثاني: إن من اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، فحط عنه المشتري مائة كان الحط نصفين، ولو زاد المشتري في هذه الصورة مائة يقسم الزيادة على قدر قيمتها.
والفرق: أن الحط يكون من الثمن ولا تعلق له بالمبيع، فإذا قال: حططت عن ثمنها مائة، فقد أدخلهما في الحط على السواء، فانقسم الحط عليهما نصفان بخلاف الزيادة في الثمن؛ لأنهما تقابل المبيعين، وقد قابلهما بهما، والمقابلة تقتضي الانقسام على المبيعين باعتبار القيمة، وإذا وهب بعض الثمن من المشتري قبل القبض أو أبرأه عن بعض الثمن قبل القبض فهو حط أيضاً.
وإن كان البائع قد قبض الثمن، ثم حط البعض أو وهب البعض بأن قال: وهبت منك بعض الثمن صح ووجب على البائع رد مثل ذلك على المشتري.
ولو قال: أبرأتك عن بعض الثمن بعد القبض لا يصح الإبراء، وكان يجب أن لا تصح الهبة والحط بعد القبض أيضاً كالإبراء؛ لأن المشتري قد برئ عن الثمن بالإبقاء، فالحط أو الهبة لم تصادف ديناً قائماً في ذمة المشتري، فينبغي أن لا يصح كالإبراء.
والجواب: أن الدين باق في ذمة المشتري بعد القضاء؛ لأنه لم يقض عين الواجب حتى لا يبقى في الذمة إنما قضى مثله فيبقى ما في ذمته على حاله، إلا أن المشتري لا يطالب به؛ لأن له مثل ذلك على البائع بالقضاء، فلو طالب البائع المشتري بالثمن كان للمشتري أن يطالب البائع أيضاً، فلا يفيد مطالبة كل واحد منهما صاحبه.
فعلم أن الثمن باق في ذمة المشتري بعد القضاء بالهبة والحط كل واحد منهما صادف ديناً قائماً في ذمة المشتري كان ينبغي أن يصح الإبراء أيضاً، إلا أنه لم يصح؛ لأن الإبراء نوعان:
إبراء بالإستيفاء وإبراء بإسقاط الواجب، ولهذا يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء كما يقال: أبرأه براءة اسقاط، فإذا أطلق البراءة إطلاقاً انصرفت إلى البراءة من حيث القبض؛ لأنه أقل، وإذا انصرف إليه صار كأنه قال: أبرأتك براءة قبض واستيفاء ولو نص على هذا(6/483)
لا يسقط الواجب عن ذمة المشتري، ولا يجب على البائع رد ما قبض كذا ههنا.
فأما الهبة والحط لا يتنوع إلى نوعين: هبة إسقاط وهبة قبض، حط إسقاط وحط قبض، وإنما هو نوع واحد وهو هبة إسقاط، وإذا كان نوعاً واحداً وهو الإسقاط صار كأنه نص عليه، وقال: حططت عنك حط إسقاط، وهبت منك هبة إسقاط، ولو نص على ذلك يسقط الواجب عن ذمة المشتري ويبرأ المشتري مما عليه كذا ههنا، وإذا برئ المشتري مما عليه في هذه الصورة كان له أن يطالب البائع بما وجب له على البائع بالقضاء؛ لأن المطالبة الآن تفيد، فهذا هو الفرق بين الهبة والحط وبين الإبراء.
زان مسألة الحط والهبة أن لو قال البائع للمشتري بعد قبض الثمن: أبرأتك براءة إسقاط، وهناك يصح الإبراء أيضاً، ويجب على البائع رد ما قبض من المشتري. وأما إذا حط كل الثمن أو وهب كل الثمن أو أبرأه عن كل الثمن، فإن كان ذلك قبل قبض الثمن صح الكل، ولكن لا يلتحق بأصل العقد، وإن كان بعد قبض الثمن صح الحط والثمن، ولم يصح الإبراء لما ذكرنا.
هذا جملة ما أورده شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة وفي شرح كتاب الرهن، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه في الباب الثاني من شرح كتاب الرهن: أن الإبراء المضاف إلى الثمن بعد الاستيفاء صحيح حتى يجب على البائع رد ماقبض من المشتري، وسوى بين الابراء وبين الهبة والحط فيتأمل عند الفتوى.
الفصل الثاني عشر: في البيع بشرط الخيار
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان ما يصح منه وما لايصح
يجب أن يعلم بأن الخيار المشروط في العقد لايخلو إما أن يكون مؤبداً بأن يقول المشروط له الخيار على أني بالخيار أبداً، وفي هذا الوجه العقد فاسد؛ لأن الأبد ينصرف إلى العمر ويصير تقدير المسألة كأنه قال: إني بالخيار مدة عمري، ولو صرح بذلك يفسد العقد بجهالة المدة كذا ههنا.
وكذلك إذا قال: على أني بالخيار، ولم يوقت لذلك وقتاً كان العقد فاسداً؛ لأن المطلق فيما يحتمل التأبيد ينصرف إلى الأبد، فكأنه قال: على أني بالخيار أبداً، وكذلك إذا قال: على أني بالخيار أياماً ولم يبين مقدار ذلك فالعقد فاسد.
وإن ذكر لذلك وقتاً معلوماً قال: ثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز بالاتفاق، وإن قال: أربعة أيام أو ما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة العقد فاسد، وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد: العقد جائز.(6/484)
والصحيح ما قاله أبو حنيفة؛ لأن القياس يأبى جواز البيع مع شرط الخيار؛ لأنه شرط لايقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة لكن عرفنا جوازه بالنص، وهو قوله عليه السلام لحبان بن منقذ: «إذا بايعت» ، وفي رواية: «إذا ابتعت شيئاً فقل لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام» فبقي مازاد على الأيام الثلاثة على أصل القياس، والنص الوارد في ثلاثة أيام لايكون وارداً فيما زاد عليهما؛ لأن منع حكم العقد فيما زاد على ثلاثة أيام أكثر، والشيء يدل على مثله ولا يدل على مافوقه، والاستدلال بالأجل لا يجوز؛ لأن الأجل أخف في منع حكم العقد من خيار الشرط؛ لأن الأجل يمنع المطالبة ولا يمنع وقوع الملك في البدلين، وخيار الشرط يمنع وقوع الملك والمطالبة، فإن سقط الخيار قبل (79أ3) دخول اليوم.I
.. الرابع ارتفع الفساد.
وهو نظير البيع إلى الحصاد والدياس إذا سقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس، وإذا لم يكن الخيار مؤقتاً بوقت فلصاحب الخيار أن يختار في الثلاث، فإن مضت الثلاث قبل أن يختار البيع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز اختياره بعد الثلاث، وينقلب العقد جائزاً، هكذا ذكر في «الأصل» .
قال شمس الأئمة الحلواني: إنما ينقلب جائزاً عندهما، وفي «القدوري» : إذا سقط الخيار في أي وقت أسقطا، فالبيع جائز على قولهما.
وروي عن أبي يوسف: أن هذا البيع جائز؛ لأن الخيار ملائم بالعقد، فصح شرطه من غير توقيت كخيار الرؤية، وخيار العيب، إلا أنه يقول على هذه الرواية يخير من له الخيار على أن يمضي البيع أو يفسخ، وروي عنه رواية أخرى أنه قال: إذا اجتمعا فإن أجاز البيع وإلا فسخت، وعنه رواية أخرى: أنه إذا لم يكن للخيار مدة، فلكل واحد منهما إبطال العقد.
وقال محمد: إذا كان الخيار للمشتري غير مؤقت، فليس للبائع فسخ العقد وإنما ذلك إلى المشتري.
وفي «القدوري» : ولو كان الخيار إلى قدوم فلان أو موته أو إلى أن يهب الريح، فأبطلا الخيار لم يجز البيع في قول أبي يوسف.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد باع من آخر عبداً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك على أن المشتري فيه بالخيار ثلاثة أيام بعد ما مضى شهر رمضان، قال: هذا جائز وله الخيار في رمضان كله وثلاثة أيام بعده، وكذلك لو شرط الخيار للبائع ولو كان البائع قال للمشتري: لا خيار لك في شهر رمضان، ولكن الخيار بعد ذلك ثلاثة أيام، أو قال المشتري للبائع: لا خيار لك في شهر رمضان ولكن الخيار بعده ثلاثة أيام فالبيع فاسد.(6/485)
وفي «الفتاوى» : إذا شرط للمشتري خيار يومين بعد شهر رمضان والشراء في آخر رمضان، فالشراء جائز وله الخيار ثلاثة أيام، اليوم الآخر من شهر رمضان ويومين بعده؛ لأنه سكت عن الخيار وقت العقد، فيمكن تصحيح هذا العقد باشتراط الخيار وقت العقد ويومين بعد رمضان، ولو قال: لاخيار له في رمضان فالبيع فاسد؛ لأنه تعذر تصحيح هذا العقد.
وعن أبي يوسف: أنه إذا باع بيعاً وشرط الخيار لنفسه يوماً بعد سنة، فالبيع جائز ولا خيار له في السنة، فإذا مضت السنة فله الخيار يوماً.
وإذا باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم ثم إن البائع قال للمشتري: لي عليك الثوب أو عشرة دراهم، قال محمد رحمه الله: هذا عندنا خيار، وإذا باع على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فالبيع جائز والشرط جائز، هكذا ذكر محمد رحمه المسألة في «الأصل» ، واعلم بأن هذه المسألة على وجوه:
إما إن لم يبين الوقت أصلاً بأن قال: على أنك لم تنقد الثمن فلا تبيع بيننا أو بين وقتاً مجهولاً بأن قال: على أنك إن لم تنقد الثمن أياماً في هذين الوجهين العقد فاسد، وإن بين وقتاً معلوماً إن كان ذلك الوقت مقدراً بثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والقياس يأبى جواز العقد مع هذا الشرط، وبه أخذ زفر؛ لأنه شرط لايقتضيه البيع، فإنه شرط الفسخ متى لم ينقد الثمن ثلاثة أيام وفيه منفعة للبائع، فإن المبيع يعود إلى ملكه متى لم ينقد المشتري الثمن ثلاثة أيام.
لكن ترك القياس فيما إذا كان الوقت مقدراً بثلاثة أيام بحديث عبد الله بن عمر، فإنه روي أنه لو باع بأمة له من رجل على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، والمروي عن الصحابة فيما لايعرف قياساً كالمروي عن النبي عليه السلام، ولأن هذا شرط متعامل فيما بين الناس يشترطون ذلك فيما بينهم لدفع العين عن أنفسهم متى لم ينقد المشتري الثمن، والقياس يترك بالتعامل.
وإن ترك المدة أكثر من ثلاثة أيام قال أبو حنيفة: البيع فاسد، وقال محمد: البيع جائز. قال شيخ الإسلام: سوى أبو حنيفة بين هذا وبين خيار الشرط، فلم يجوّز أكثر (من) ثلاثة أيام فيهما، ومحمد سوى بينهما أيضاً، فجوز فيهما أكثر من ثلاثة أيام، ولم يذكر محمد قول أبي يوسف.
يقول في رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا بألف درهم فإن لم تأتي بالثمن إلى سنة، فلا شيء بيني وبينك، قال: هذا فاسد وليس هذا بمنزلة الخيار، قال: على هذه الرواية لو نقد المشتري الثمن في الثلاث، وقال للبائع: خذه فلا أريد تأخيره، فإني أجبره، فهذه الرواية دليل أن أبا يوسف في هذه الصورة جوز البيع بهذا الشرط.
والفرق له على هذه الرواية بين هذا الشرط وبين شرط الخيار أن القياس يأبى الجواز مع هذا الشرط ومع شرط الخيار، وإنما تركنا القياس في الوضعين بالنص، والنص مقيد بثلاثة أيام، وفي شرط الخيار ورد النص بالزيادة على ثلاثة أيام.(6/486)
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه رجع عن قوله بفساد البيع مع هذا الشرط أكثر من ثلاثة أيام.
والحاصل أن هذا البيع بمنزلة البيع بشرط الخيار للمشتري، فإذا بين المدة أكثر من ثلاثة أيام. فالعقد فاسد عند أبي حنيفة ويرتفع الفساد بالنقد قبل مضي اليوم الثالث على ما ذهب إليه أهل العراق، وعلى ما ذهب إليه أهل خراسان: العقد موقوف، فإذا مضى اليوم الثالث ولم ينقد الثمن الآن يفسد العقد.
وإذا باع عبداً ونقد الثمن على أن البائع إن رد الثمن فلا بيع بينهما فهو جائز، وهو بمنزلة البيع بشرط الخيار للبائع، ويجوز شرط الخيار بعد البيع كما يجوز شرطه وقت البيع حتى إن المشتري إذا قال للبائع أو البائع قال للمشتري بعد تمام البيع: جعلتك بالخيار ثلاثة أيام أوما أشبه ذلك صح، وكان بالخيار كما شرط له وإن (كان) الخيار فاسداً فسد العقد به عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لايفسد، وهو نظير ما إذا ألحق شيء من الشروط الفاسدة بالعقد الصحيح.
ومن باع من آخر شيئاً وقبض المشتري المبيع ومضى أيام، فقال البائع للمشتري: أنت بالخيار فله الخيار مادام في المجلس؛ لأن هذا بمنزلة قوله: لك الإقالة، ولو قال: أنت بالخيار ثلاثة أيام فله الخيار ثلاثة أيام كما بينا في «الفتاوى» .
وإذا اشترى الرجل شيئاً على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الظهر دخلت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد لايدخل حتى كان له الخيار في الغد والليل، وفي وقت الظهر عند أبي حنيفة خلافاً لهما هكذا ذكر المسألة في «الأصل» .
وذكر الحسن بن زياد في «المجرد» عن أبي حنيفة بخلاف ماذكر في «الأصل» فقال: إذا باع على أنه بالخيار إلى الليل، فله الخيار مابينه وبين أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس بطل خياره عند أبي حنيفة.
إذا قال للمشتري: خذه وانظر إليه اليوم فإن رضيته أخذته بعشرة فهو خيار، إذا قال: هو بيع لك إن شئت اليوم.
وفي «الفتاوى» : باع عبداً على أنه بالخيار على أن له نقله ويستخدمه جاز وهو على خياره بخلاف ما لو باع كرماً على أن يأكل من تمره حيث لايجوز؛ لأن المنفعة لا حصة لها (79ب3) من الثمن وللتمر حصة من الثمن.
نوع آخر في بيان عمل الخيار وحكمه
إذا كان الخيار مشروطاً للبائع، فالمبيع لايخرج عن ملكه بالاتفاق؛ لأن الخيار استثناء لحكم العقد؛ لأنه دخل على العقد فأوجب تعليقه ونفس العقد لايقبل التعليق وحكمه وهو الملك يقبل، فتخير في هذا الحكم بين أن يثبت وبين أن لايثبت كما تخير في الابتداء بين أن يباشر العقد وبين أن لا يباشر، فكان هذا هو الخبر الأصلية، والثمن(6/487)
يخرج عن ملك المشتري باتفاق؛ لأن المانع من عمل العقد شرط الخيار، ولا شرط في جانب المشتري وعمل العقد في جانبه في إزالة الثمن عن ملكه، فلهذا قلنا: إن الثمن يزول عن ملك المشتري.
وهل يدخل في ملك البائع؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، وعلى قولهما: يدخل إذا كان الخيار للمشتري، فالثمن لايزول عن ملكه. والمبيع يخرج عن ملك البائع بالاتفاق على نحو ما ذكرنا في خيار البائع.
وهل يدخل المبيع في ملك المشتري؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، على قولهما: يدخل.
وجه قولهما: أن المانع من عمل العقد شرط الخيار ولا شرط في جانب البائع، فيعمل في جانبه وعمل العقد في جانبه في إزالة المبيع عن ملكه إلى ملك المشتري، ولأبي حنيفة أن الشراء كما هو علة زوال الثمن عن ملك المشتري، فهو شرط دخول المبيع في ملكه، ولهذا توقف دخول المبيع في ملك المخاطب على قبوله، والخيار دخل على الشراء مطلقاً، فكان يمنع عمله من حيث إنه علة يمتنع ومن حيث إنه شرط.
ويبنى على هذا الأصل المختلف مسائل منها:
إن من اشترى زوجته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح عند أبي حنيفة، وعندهما يفسد، فإذا وطئها فله أن يردها بحكم الخيار عند أبي حنيفة، وعندهما ليس له ذلك.
ووجه البيان: أن خيار المشتري لما منع دخول المبيع في ملكه عنده، فالمشتري لم يملك زوجته عنده، فلا يفسد النكاح ويكون الوطء حاصلاً بحكم ملك النكاح لا بملك اليمين، فيضاف إلى البائع فلا يمنع الرد، عندهما: خيار المشتري لما لم يمنع دخول المبيع في ملك المشتري ملك المشتري امرأته فيفسد النكاح، وكان الوطء حاصلاً بحكم ملك اليمين فيمنع الرد.
منها: أن المشترى بشرط الخيار إذا كان ذو رحم محرم منه لم يعتق عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يملكه وخياره على حاله، وعندهما: يعتق وبطل خياره.
ومنها: أن المشترى إذا كانت جارية وقبضها المشتري فحاضت في يد المشتري في مدة الخيار بعض الحيض، وأجاز المشتري العقد لا تجزئ تلك الحيضة عند أبي حنيفة؛ لأن بعضها حصلت خارج ملك المشتري.
وعندهما: تجزئ تلك الحيضة، وإذا فسخ المشتري العقد ورد الجارية على البائع لايجب على البائع الاستبراء عند أبي حنيفة سواء جعل الفسخ والرد قبل القبض أو بعده، وعندهما: إن كان الفسخ والرد قبل القبض لا يجب على البائع الاستبراء استحساناً.
والقياس: أن يجب، وإن كان الفسخ والرد بعد القبض يجب على البائع الاستبراء قياسًا واستحساناً بمنزلة العقد البات.
ومنها: أن المشتري إذا كان قبض المبيع بإذن البائع، ثم أودعه عند البائع في مدة الخيار أو بعدها هلك على البائع وبطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن عنده المشتري لم يملكه وقد ارتفع قبضه بالرد على البائع، فكان الهلاك على ملك البائع.(6/488)
وعندهما: يهلك على المشتري، ويلزمه الثمن؛ لأن عندهما ملكه المشتري، فصار مودعاً ملك نفسه، ويد المودع يد المودع فصار هلاكه في (يد) البائع كهلاكه في يد المشتري.
ومنها: عبد مأذون له في التجارة اشترى من آخر سلعة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن البائع أبرأه عن الثمن صح الإبراء استحساناً وخياره على حاله عند أبي حنيفة إن شاء أجاز وتكون السلعة له بغير ثمن، وإن شاء فسخ وأعاد السلعة إلى البائع بغير ثمن.
عندهما: بطل خياره؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله: العبد لم يملك السلعة، فيكون الرد والفسخ امتناعاً من التملك، والعبد يملك ذلك كما إذا أوهب له هبة، فامتنع عن القبول، وعندهما يملك السلعة، فالرد والفسخ من العبد يكون تمليكاً من البائع بغير بدل وانه اصطناع بالمعروف، والعبد لايملك ذلك.
ومنها: إذا باع عبد الجارية وشرط الخيار لبائع العبد فأعتق مشتري العبد الجارية أو العبد لاينفذ عتقه، أما في الجارية؛ لأنها خرجت عن ملكه، وأما في العبد؛ لأنه لم يملكه، ولو أعتق بائع العبد نفذ عتقه؛ لأنه بقي على ملكه أو ينقض البيع، ولو أعتق الجارية نفذ العتق ولزم البيع؛ لأنه لم يملك الجارية عند أبي حنيفة فهو.... من إثبات الملك لنفسه فيها بإسقاط الخيار، فيضمن الإعتاق إسقاطاً للخيار.
ولو أعتقهما معاً يعني بائع العبد نفذ عتقه فيهما وانتقض البيع وعليه قيمة الجارية في قول أبي حنيفة؛ لأن العبد بقي على ملكه، فينفذ عتقه فيه وحال ما أعتق العبد كان ... من اعتاق الجارية بإلزام العقد فنفذ العتق فيهما لكن بدل الجارية قد هلك قبل التسليم، فأوجب ذلك فسخاً للعقد في الجارية فوجب ردها وقد عجز عن ذلك بسبب العتق فيضمن قيمتها.
قال بشر: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى عبداً على أنه بالخيار لم أجبر البائع على دفع العبد إلى المشتري ولا أجبر المشتري على دفع الثمن إليه، ولو دفع المشتري الثمن أجبرت البائع على دفع العبد إليه.
ولو دفع العبد إلى المشتري أجبرت المشتري على دفع الثمن وله الخيار للبائع ونقد المشتري الثمن وأراد أن يقبض العبد فمنعه البائع، فله ذلك غير أن يجبر البائع على رد الثمن.
قال أصحابنا: خيار الشرط يمنع تمام الصفقة؛ لأنه يمنع ثبوت الحكم وهو الملك ويمنع اللزوم، فكان مانعاً تمام الصفقة؛ لأن تمامها بثبوت جميع أحكامها، فإذا كان الخيار للمشتري والمبيع شيء واحد أو أشياء لم يكن له أن يجيز العقد في البعض دون البعض مقبوضاً أو لم يكن؛ لأنه تفريق الصفقة قبل التمام وإنه لا يجوز بخلاف ما بعد التمام حيث يجوز التفريق.
والفرق: أن في الحالين يوجد ضرران؛ ضرر البائع وضرر المشتري، فيجب دفع الأقوى يتحمل الأدنى عند تعذر دفعهما، وقبل التمام إما يلحق البائع من الضرر بتفريق(6/489)
الصفقة أقوى مما يلحق المشتري بعدم التفريق؛ لأنه ضرر مالي؛ لأن ضم الرديء إلى الجيد لترويج الكل بالثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز التفريق فالمشتري يأخذ الجيد ويرد الرديء، ويتعذر على البائع ترويج الرديء بعد ذلك بثمن الجيد، فيلحق البائع ضرر مالي من هذا الوجه.
أما ما يلحق المشتري من الضرر بعدم صحة التفريق قبل التمام ليس بضرر مالي بل فيه ضرر بطلان قوله حيث لايصح قبوله العقد في البعض، أو لا يصح رده البعض وإنه مجرد قوله، فإبطال مجرد القول في ضرر دون إبطال المال، فأما بعد تمام الصفقة.
أما يلحق المشتري من الضرر برد الكل أكثر مما يلحق البائع برد البعض؛ لأن برد الكل يبطل حق المشتري عن التسليم من غير رضاه، وإنه ضرر مالي، وإن كان بعوض. (80أ3) وما يلحق البائع برد البعض موهوم، فإنه عسى يتهيأ له بيع المعيب بثمن السليم، فكان ضرر المشتري أكثر في هذه الصورة، فهذا هو الفرق بين الصورتين.
ولو كان الخيار للبائع والمبيع مقبوض فهلك بعضه فللبائع أن يجيز البيع في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: إذا كان المبيع مما يتفاوت فهلك واحد منه أو تبعض البيع وليس للبائع أن يجيز الباقي وإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً غير متفاوت، فهلك بعضه للبائع أن يلزمه البيع فيما بقي.
وجه قول محمد: أن خيار البائع لما منع زوال ملك البائع كانت الإجازة بمعنى ابتداء التمليك، ولما كان هكذا يتعذر إثباتها في الهالك لعدم المحل كان إجازة المالك بيع الفضولي بعد هلاك المبيع وتعذر إثباتها في القائم إذا كان شيئاً متفاوتاً؛ لأنه حينئذٍ يكون تمليكاً للقائم بحصة من الثمن، وإنه مجهول بخلاف ما إذا كان شيئاً يتفاوت؛ لأن حصته من الثمن معلوم، فأمكن اعتبار الإجازة في الباقي.
ولهما: أن علة الملك وهي التمليك وهو المالك إلا أن حكم العلة صار مستثنى بالخيار، فإذا سقطت الخيار بالإجازة التحق الحكم من الابتداء من كل وجه ولما كان المتفاوت وغير المتفاوت سواء وما قال بأن الإجازة بمعنى ابتداء التمليك فاسد؛ لأن الحكم لايتوقف على وجود الإجازة، فإنه يثبت بدونها بمضي المدة.
وكذلك بموت من له الخيار. ولو كان لها حكم ابتداء التمليك لما ثبت بدونها بخلاف الإجازة في الفضولي؛ لأنها بمعنى ابتداء التمليك، ولهذا توقف ثبوت الحكم وجوباً؛ وهذا لأن الإجازة في بيع الفضولي معملة للعلة وهي التمليك لصدورها من غير المالك والعمل للعلة يعطي له حكم العلة فاعتبرنا قيام المحل.
أما ههنا الإجازة ليس لها حكم الإعمال للعلة لما ذكرنا أن العلة صدرت من المالك إلا أن حكمها صار مستثنى بالخيار فإذا سقط الخيار ثبت الحكم من الابتداء من كل وجه فلم تكن الإجازة في معنى ابتداء التمليك أصلاً، فلا يعتبر قيام المحل عند الإجازة.
ولو استهلك مستهلك المبيع في يد المشتري فللبائع أن يلزمه ويأخذ الثمن في قول(6/490)
أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف بعد ذلك: ليس للبائع أن يلزمه إلا برضى المشتري؛ لأن المبيع قد تغير قبل ثبوت الحكم، فيثبت الخيار للمشتري كما في البيع البات قبل القبض بل أولى؛ لأن هناك يثبت ملك الرقبة إن لم يثبت ملك التصرف لم يثبت الملك أصلاً.
وأبو حنيفة رحمه الله مر على الأصل الذي قلنا: إن الحكم عند الإجازة لما كان يثبت من وقت العقد من كل وجه كما لو كان باتاً من الأصل واستهلك.... المشتري في يد المشتري وهناك لايثبت الخيار للمشتري فههنا كذلك، ولو هلك أحد العبدين في يد البائع لم يكن له أن يلزم المشتري العبد الباقي إلا برضاه؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام وصار كما لو كان العقد باتاً من الأصل.
نوع آخر في بيان ما ينفذ به هذا البيع، وفي بيان ما ينفسخ به هذا البيع
فنقول: شرط الخيار إذا كان البائع منفوذ العقد بمعانى:
أحدها: أن يجيز البيع صريحاً سواء كان المشتري حاضراً أو غائباً.
الثاني: أن يموت البائع في مدة الخيار؛ لأنه يعجز عن التصرف بحكم الخيار في آخر جزء من أجزاء حياته فيسقط خياره ضرورة.
والثالث: أن تمضي مدة الخيار من غير فسخ من جهته؛ لأن بمضي مدة الخيار يسقط الخيار وهو المانع من نفوذ العقد.
وكذلك إذا أغمي عليه أو جن حتى مضت الأيام الثلاثة.
ولو أنه أفاق في مدة الخيار حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي (أنه) على خياره، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه على خياره. قال رحمه الله: وهو منصوص وهو الأصح.
وإن سكر من الخمر لم يبطل خياره؛ لأنه عد غافلاً كما في الطلاق، وإن سكر من البيع يبطل خياره حتى لو زال السكر من البنج في المدة ليس له أن يتصرف بحكم الخيار هكذا حكى عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، والصحيح أنه لايبطل.
وإن ارتد وعاد إلى الإسلام في المدة فهو على خياره إجماعاً، وإن مات أو قتل على الردة بطل خياره إجماعاً، وإن تصرف بحكم الخيار بعدها توقف تصرفه عند أبي حنيفة ونفذ عندهما، وفسخه بأحد أمرين، أما بالقول أو بالفعل، أما بالقول فسخت فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حاضراً يصح الفسخ ولا يحتاج فيه إلى قضاء أو رضا، وإن كان غائباً لا يصح الفسخ، ويكون موقوفاً عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف.
والمراد من الحضرة المذكورة في هذه المسألة العلم بالفسخ في مدة الخيار حتى إن المشتري لو علم بالفسخ صح الفسخ وإن لم يكن حاضراً، وإن علم بعد مضي المدة تم(6/491)
البيع؛ لأن تمام المدة دلالة لزوم البيع، فإذا اعترض في حال توقف الفسخ.
فوجه قول أبي يوسف: أن صاحب الخيار تصرف برضا صاحبه فلا يشترط علم صاحبه كالوكيل بالبيع، فإنه لا يشترط علم الموكل لصحة البيع لما قلنا كذا هنا.
بيانه: أن ولاية النقض بحكم شرط الخيار، وصاحبه شاركه في شرط الخيار، وعن أبي يوسف رواية أخرى في «النوادر» مثل قولهما: إن صاحب الخيار بالفسخ يلزم حكماً مبتدأً على صاحبه، ولصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به، ونعني بهذا الفسخ فسخ العقد، فإن العقد ثابت في حق الحكم ففسخه ورفعه يكون حكماً مبتدأً.
وإنما قلنا لصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به؛ لأنه تبنى على هذا أحكام يلزمه أداؤها، فإذا كان لا يشعر بها يمضي على موجب العقد ولا يؤدي تلك الأحكام، فيؤاخذ بسبب تركها، وهذا الضرر إنما جاء من ناحية الفسخ بلا علم، فيكون هذا إضراراً منه لصاحبه، فوجب أن لا يرد من غير علم صاحبه دفعاً للضرر عن صاحبه، ألا ترى أن من له خيار العيب إذا أراد الرد ... العبد إلى ملك البائع ويبني على الملك أحكام يجب آداؤها، فإذا كان لايعلم به لايؤدي فيؤاخذ بترك الأداء، فلم يصح من غير علمه دفعاً للضرر عنه، ولا يلزم على ماقلنا الإجازة؛ لأنه لا ضرر على صاحبه في الإجازة من غير علمه، فلا يتوقف صحتها على علمه، ولأنه لازم في حقه قبل الإجازة.
وأما الفسخ بالفعل أن يتصرف البائع في مدة الخيار في المبيع تصرف الملاك كما إذا اعتق أو دبر أو كاتب؛ لأن هذه التصرفات مختصة بالملك ولا يحتاج إليها للاختيار للملك دلالة، واختيار الملك يوجب نقض البيع، ولأن بعد هذه التصرفات يتعذر عليه الإجازة؛ لأن الحر ليس بمحل الابتداء، فلا يكون محلاً لإجازة البيع فيه، والأصل في العقد الموقوف إذا حدث فيه ما يتعذر بالإجازة أن ينفسخ، العقد مشروع للإجازة لا.t
... وكذلك إذا باع من غيره؛ لأن البيع من التصرفات المختصة بالملك ولأن البيع قد نفذ؛ لأنه لاقى ملك البائع، والعقد.
النافد إذا طرأ على العقد الموقوف أوجب انفساخه، وكذلك لو وهب وسلم ينفسخ البيع، ولو وهب ولم يسلم لاينفسخ البيع. اذا رهن وسلم ينفسخ (80ب3) البيع، وإذا رهن وسلم ينفسخ البيع، وإذا آجر ذكر هذه المسألة في بعض المواضع، وقال: لا يكون فسخاً ما لم يسلمه إلى المستأجر، وذكر في بعضها أنه يكون فسخاً وإن لم يسلمه إلى المستأجر، وبه أخذ عامة المشايخ، ثم تصح هذه التصرفات بغير محضر من المشتري بلا خلاف، وإن كانت هذه التصرفات توجب فسخ البيع، والمشروط له الخيار لا يملك فسخ البيع حال غيبة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ بهذه التصرفات يثبت حكماً لا قصداً، وقد يثبت الشيء حكماً لغيره وإن كان لا يثبت قصداً، وقد روي عن محمد ما يدل على اشتراط حضرة صاحبه، وستأتي تلك الرواية بعد هذا إن شاء الله.(6/492)
وفي «المنتقى» : إذا باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار، ثم إن البائع أخذ الثمن من المشتري، فذلك ليس بإمضاء للبيع، ولو أخذ بالألف من المشتري مائة دينار كان هذا إجازة للبيع، قال: لأنه عمد إلى الثمن بعينه فباعه، ولو قبض منه الألف، ثم باعها منه أو من غيره لم يكن ذلك إجازة منه للبيع؛ لأن هذه الألف التي باعها قضاء من الألف التي على المشتري.
والحاصل في هذه المسائل: أن الثمن إذا كان شيئاً يتعين بالتعين، فإذا قبض البائع الثمن وتصرف فيه من بيع أو هبة، فذلك إمضاء للبيع؛ لأن تصرفه صادف عين المستحق بالعقد، فكان تقريراً للملك فيه فيكون دليلاً للإجازة، وإن كان الثمن شيئاً لا يتعين بالتعيين كالدراهم، فتصرف فيه بعد ما قبض مع المشتري أو مع غيره، فذلك ليس بإمضاء للبيع، وإن تصرف فيه قبل القبض مع المشتري فاشترى منه بالثمن ثوباً أو صارفه الألف على مائة دينار، فذلك إجازة للبيع.
والفرق: أن التصرف قبل القبض أضيف إلى غير ما هو مستحق بالعقد؛ لأنه لا حق للبائع في ذمة المشتري إلا ما هو ثمن فكان التصرفة تقريراً للملك فيه فيكون دليل الإجازة، أما بعد القبض التصرف ما أضيف إلى ما هو مستحق بعينه؛ لأن ما يدخل تحت القبض غير مستحق بالعقد أيضاً.
رجل باع جارية بعبد رجل وشرط بائع الجارية الخيار لنفسه في الجارية، ثم إنه وهب العبد الذي اشتراه بالجارية أو عرضه على بيع فهو إمضاء للبيع، ولو كان باع الجارية بألف درهم على أنه بالخيار في الجارية وقبض الألف، ثم وهبه أو أنفقه فهو على خياره؛ لأن له أن يدفع غيره. ولو لم يكن قبض الثمن من المشتري حتى اشترى منه بالألف شيئاً أو صارفه على مائة فهذا نقض لخياره وإمضاء لبيعه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع عبدين من رجل على أن البائع فيهما بالخيار، ثم إن البائع نقض البيع في أحدهما وبغير عينه فنقضه باطل، وكأنه لم يتكلم بشيء ولا يكون نقضه بعض البيع نقضه بجميعه ولا شيء منه، وله أن يجيز البيع كله بعد ذلك.
وكذلك لو باع عبداً واحداً على أنه بالخيار فيه، ثم قال نقضت البيع في نصفه كان ذلك باطلاً وكأنه لم يتكلم بشيء، وله أن يجيز البيع في الكل بعد ذلك.
وفي «المنتقى» : باع من آخر بيضة على أن البائع فيها بالخيار، فخرج منها فرخ بغير صنع المشتري فليس للبائع أن يجيز ذلك على المشتري علل، فقال من قبل أنه قد تحول عن حاله، وكذلك إذا باع كفرى على أنه بالخيار فيه فصار تمراً بعد القبض، وهذا إشارة إلى أن هذا العقد لا يبطل.
وهكذا ذكر في «الزيادات» . وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» أنه يبطل؛ لأنه لو بقي يبقى مع الخيار فيقدر البائع على الإجازة وإن أبى المشتري، وهذا لا يجوز؛ لأن(6/493)
المبيع صار شيئاً آخر ولو لم يكن في البيع خيار البيع، فالبيع باق والمشتري بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك؛ لأنه لو بقي البيع لا يلزم المشتري إلا إذا شاء، وهذا جائز بعد تغيير المبيع.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» عن محمد: رجل باع من رجل أرضاً بعبد على أن البائع بالخيار وتقابضا، ثم تناقضا العقد، فالأرض في يد المشتري مضمونة بالقيمة لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويكون لمشتري الأرض أن يحبس الأرض من البائع إلى أن يرد العبد عليه، وإن أذن بائع الأرض للمشتري في زراعتها خرجت الأرض من الضمان وصارت عارية للبائع في يد المشتري، وللبائع إن يأخذها متى شاء، وإن كان المشتري زرع الأرض كان للمشتري أن يمسكها بأجر المثل ويمنع البائع عنها إلى أن يستحصد الزرع.
وإن أراد المشتري بعد زرعها أن يمنع الأرض من البائع حتى يسترد العبد ليس له ذلك؛ لأنه حين زرعها بإذنه فكأنه سلمها إليه.
وإن أبى المشتري أن تكون الأرض في يده بأجر المثل إلى وقت إدراك الزرع وكره قلع الزرع أيضاً وأراد تضمين رب الأرض الزرع كان له ذلك إذا كان قد أذن له في زراعتها إلى أن يدرك الزرع إلا أن يرضي البائع أن يترك الزرع فيها حتى يستحصد بغير شيء.
وإن كان الخيار للبائع في عبد باعه فقال البائع للعبد: أنت حر إن دخلت الدار، وقال: إن دخلت الدار فأنت حر لم يكن هذا نقضاً للبيع، وكذلك إذا قال للعبد: أنت حر أو هذا العبد الآخر ذكر المسألة في «المنتقى» .
وروى بشر عن أبي يوسف: إذا باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال له: أنت حر أو هذا العبد لم يكن هذا نقضاً للعقد، فإذا مضى أجل الخيار (لم يكن له) أن ينقض البيع (و) وجب البيع وعتق العبد الآخر.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا باع فعرض المبيع على البيع ذكر شمس الأئمة الحلواني أنه (إن) كان بغير محضر من صاحبه لا ينفسخ البيع، وبعض مشايخنا قالوا: العرض على البيع من البائع ليس بفسخ على كل حال وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن فيه روايتين.
وفي «المنتقى» عن محمد: البائع إذا عرض المبيع على البيع لا يبطل خياره وعلل فقال: لأن نقضه لا يجوز بغير محضر من المشتري، فهذا التعليل يشير إلى أن العرض على البيع لو كان بمحضر من المشتري أنه يكون نقضاً للبيع.
وإذا هلك المبيع في يد البائع انفسخ البيع سواء كان الخيار للبائع أو المشتري، وإن هلك في يد المشتري والخيار للبائع إن هلك في الأيام الثلاثة فعلى المشتري قيمته، وإن هلك بعد مضي الأيام الثلاثة فعلى المشتري الثمن؛ لأن بمضي المدة تم العقد ولزم الثمن فلا ينفسخ بالهلاك في يد المشتري بعد ذلك، فيبقى الثمن لازماً، فأما (إذا) هلك في الأيام الثلاثة فقد انفسخ(6/494)
العقد بهلاك المبيع؛ لأن الخيار قائم، وهذا؛ لأن المبيع بالهلاك والموت (يعاب) وإن تعيب في آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن الموت لا يخلو عن سابقة عيب إلا أن العيب الحادث في يد المشتري لا يعجز البائع عن الفسخ.
والإجازة بحكم الخيار فلا ينافي بقاء الخيار؛ لأن بقاء الخيار حينئذٍ يكون مقيداً، وإذا كان الخيار قائماً عند الهلاك كان العبد مملوكاً للبائع، فيهلك على ملكه وينفسخ العقد ضرورة، ولا يضمن المشتري الثمن ولكن يضمن القيمة، لأنه في معنى المقبوض على سوم الشراء إنما قبضه ليتملكه بعوض عيني كما في المقبوض على سوم الشراء، فيضمن القيمة عند العجز عن الرد كما في تلك المسألة.
وفي «المنتقى» : رجل باع من آخر جارية على (أن) البائع فيها بالخيار ودفعها (81أ3) إلى المشتري، فأعتقها المشتري أو زوجها في مدة الخيار، ثم إن البائع أجاز البيع فيها لا يجوز عتق المشتري ولا تزويجه وقد نقض البائع التزويج بإجازته البيع وإحلاله فرجها للمشتري.
ولو كان الزوج وطئها وهي بكر، ثم نقض البائع البيع فيها وقد نقصها الوطء مائة درهم، وعقرها مائتا درهم، فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الزوج بالعقر تاماً ولم يرجع به الزوج على أحد، وإن شاء اتبع المشتري بنقصان الوطء ورجع المشتري على الزوج الواطء بالمائة التي ضمن ولم يكن البائع دفع الأمة إلى المشتري، وزوجها المشتري رجلاً وهي في يد البائع فوطئها الزوج، ثم أجاز البائع البيع ولم ينقصها الوطء؛ لأنها ثيب فالنكاح فاسد إذا فسخه المشتري، ولا يبطل ما لم يفسخه؛ لأن فرجها لم يحل للمشتري بإجازة البائع البيع وللمشتري على الوطء مهر مثلها إذا فسد النكاح، ولا خيار للمشتري في رد الأمة بالوطء الذي كان عند البائع من قبل أن الوطء لم ينقصها، وإن كان الوطء زناً كان هذا عيباً رد فيه.
قال هشام: سألت محمداً: عن رجل باع داراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فتوارى المشتري في بيته أراد أن يمضي الثلاث، فيجب له البيع مثل يوجد في هذا بالأعذار، قال: نعم أبعث إليه من يعذره فإن ظهر وإلا أبطلت خياره إلا أن يجيء في الثلاث، قلت: فإن لم يأت الخصم في الأيام أتاك في وقت لا تستطيع أن تبعث إليه من قبلك الأعذار، فسألك أن تبطل الخيار عليه، قال: لا أفعل ذلك، قلت: فإن قال الخصم: إني قد أعذرت إليه وأشهدت فاختفى مني، فاشهد لي بذلك، قال: أقول اشهدوا أن هذا قد زعم أنه قد أعذر إلى صاحبه في الأيام الثلاثة كان يأتيه عند كل يوم، فتعذر إليه فيختفي منه، فإن كان الأمر كما قال فقد أبطلت عليه الخيار، فإذا ظهر بعد ذلك وأنكر سألت المدعي البينة على الخيار وعلى أعذاره كما كان ادعى.
وإن كان الخيار للبائع فأبرأ البائع المشتري من الثمن صح إبراؤه، وكان ذلك إمضاء للبيع؛ لأن التصدق إنما يكون من المالك، ومالكية الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله موقوفة على إجازة العقد، فيضمن الإقدام على ذلك إجازة للعقد، وستأتي مسألة الإبراء عن أبي يوسف بعد هذا بخلاف ما ذكر هنا.(6/495)
وكذلك لو اشترى بالثمن منه شيئاً أو ساومه به صح ويكون ذلك إمضاء للبيع.
ولو اشترى بالثمن شيئاً من غيره لم يصح الشراء، ولو حدث بالمبيع عيب في يد البائع والخيار له فهو على خياره، ولو كان العيب حادثاً بفعل البائع انتقض البيع؛ وهذا لأن ما يحدث بفعل البائع قبل القبض يكون مضموناً عليه حتى تسقط حصته من الثمن، فلو بقي البائع على خياره تفرقت الصفقة على المشتري قبل التمام، وإنه لا يجوز.
أما ما انتقض لا بفعل البائع لا يكون مضموناً عليه، ولهذا لو سقط أطراف المبيع قبل القبض لا يسقط بحصته من الثمن شيء. فلو نفينا الخيار لا يكون فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام إلا أنه لا يجبر المشتري إذا ألزم البائع العقد؛ لأنه إنما رضي بمبيع سليم.
فإذا تعيب قبل القبض انعدم الرضا فكان الخيار كما لو سقط أطرافه قبل القبض.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء» فيمن اشترى من آخر جارية بألف درهم على أن البائع بالخيار، ثم إن البائع وهب الثمن بعدما قبضه، فإبراء المشتري منه لم يكن ذلك فسخاً ولا إمضاء للبيع، فإن أجاز البيع بعد ذلك، فالبيع جائز والهبة جائزة، ولو كان المشتري نقد الثمن للبائع، ثم وهبه للبائع وقبل ذلك البائع، ثم أجاز البيع ليس للبائع أن يأخذه المشتري بثمن آخر، والثمن الموهوب هو الثمن وهبته باطلة؛ لأنه وهب للبائع ما ملكه البائع؛ لأن البائع مالك لهذا الثمن لا المشتري، وهذا بناء على ما قلنا إن الخيار إذا كان للبائع فالثمن يزول (عن) ملك المشتري ويدخل في ملك البائع عندهما.
بشر عن أبي يوسف: مسلم باع من مسلم عصيراً على أن البائع بالخيار وقبضها المشتري، فصارت في يده خمراً فقد انتقض البيع، ذكر المسألة في «المنتقى» قال: وضمن العصير، وهكذا روي عن محمد. قال الحاكم أبو الفضل: وقد قال في موضع آخر البائع على خياره، فإن سكت حتى مضت الثلاث لزم البيع المشتري، ثم على ما ذكر بشر أن البيع ينتقض لو لم يختصما حتى صار خلاً، فاختار البائع فله ذلك ولا يعتبر رضا المشتري في المشهور من الرواية، وفي بعض الروايات يعتبر رضا المشتري.
وإذا تبايع الذميان خمراً بشرط الخيار للبائع، فأسلم البائع بعد القبض بطل البيع، هكذا ذكر القدوري في كتابه، وهكذا ذكر في موضع آخر من «المنتقى» بناء على أن خيار البائع زوال ملك البائع فبقيت الخمر على ملكه في مدة الخيار، فلو لم يبطل العقد انتقل الملك عنه في الخمر بعد سلامه وإنه لا يجوز.
وذكر في موضع آخر من «المنتقى» : لو أسلم البائع بعد القبض جاز المبيع بمنزلة موته، ولو أسلم المشتري لم يبطل البيع، هكذا ذكر في «القدوري» ، وفي «المنتقى» في موضع؛ لأن المسلم لا يحتاج إلى صنع فيه لإتمام العقد على الخمر إذا لم يكن الخيار مشروطاً له، فصار إسلامه في هذا البيع وإسلامه في البيع البات إذا كان المبيع مقبوضاً على السواء، وهناك لا يفسد العقد فههنا كذلك.
وفي موضع آخر في «المنتقى» : أن البيع ينتقض بإهدام المشتري في هذه الصورة(6/496)
بناء على ما قلنا إن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه، فلو بقي العقد ينتقل الملك في الخمر إلى المسلم، ولو أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل البيع.
وإذا باع طيباً على أن البائع فيه بالخيار فقبضه المشتري وأحرم المشتري لم ينفسخ البيع، ولو أحرم البائع وقد دفعه إلى المشتري أو لم يدفعه ينفسخ البيع، وروى ابن سماعة في إحرام المشتري بخلاف ما ذكرنا.
وإذا باع عبداً على أن البائع بالخيار وقبضه المشتري قتيلاً ومات العبد وضمن المشتري قيمته للبائع أخذ أولياء الجناية القيمة من البائع، (وللبائع) أن يرجع على المشتري بمثلها، وهو بمنزلة الغصب.
رجل باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار والعبد في يد البائع، فقال في الثلاث: قد فسخت البيع ونقضته، ثم قال بعد ذلك: قد أجزت البيع وقبل المشتري فهذا جائز، وإنه استحسان، ولو جنى البائع على المبيع في هذه الصورة جناية ونقضه فقال المشتري: أنا آخذه فليس له ذلك إلا أن يسلم البائع له؛ لأن جناية البائع عليه في الثلاث نقض للبيع، ولو كان الخيار للبائع والجارية عنده فوطئت بشبهة انتقض البيع من قبل المهر الذي وجب بالوطء.
وإذا كان الخيار للبائع وحلف بعتق المبيع أن لا يكلم فلاناً فلان يرده بالخيار ما لم يعتق بالحلف.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الأمالي» : إذا جنى المبيع في يد البائع جناية والخيار له، فإن نقض البيع دفعه البائع أو فداه، فإن أمضى البيع أو سكت حتى مضت المدة وقتله المشتري ورضي بعيب أو فداه.
إذا اشترى ابنه على أن البائع بالخيار، ثم مات المشتري، فأجاز البائع البيع لا يرث الابن أباه.
اشترى عبداً على (أن) البائع بالخيار، فأذن له في التجارة لا يكون هذا فسخاً إلا أن يلحقه دين إلا في قول من يقول: فسخه بغير محضر من المشتري فسخ، ولو أمضاه بعد ما لحقه دين لم يجز؛ لأن الغريم أحق به من المشتري.
وإذا كان الخيار للبائع فقال المشتري للبائع: (81ب3) أعطيتك مائة درهم على أن تنقض البيع ففعل، فالمناقضة جائزة وليس عليه شيء.
وإذا باع عبداً بألف درهم على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام فأعطاه المشتري بها مائة دينار، ثم إن البائع نقض البيع فالصرف باطل، وكان عليه أن يرد الدينار.
وإذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار وتقابضا أو لم يتقابضا، فوجد المشتري بالمبيع عيباً فقال: رضيت به أو باعه أو وهبه أو عرضه على بيع أو ما أشبه ذلك من المعاني التي تكون رضاً في البيع خيار فليس للمشتري أن يردها بذلك العيب، هذا هو الكلام (في) البائع.
(وأما الكلام) في جانب المشتري، فنقول: إذا كان الخيار للمشتري فيعود هذا البيع بما ذكرنا من المعاني الثلاث، وبمعنى آخر سواها، وهو أن يتصرف المشتري في المبيع تصرف الملك.(6/497)
والأصل فيه: أن كل فعل باشر المشتري في المشترى بشرط الخيار له فعلاً يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال فالاشتغال به أول مرة لا يكون دليل الاختيار حتى لا يسقط خياره، وكل فعل لا يحتاج إليه للامتحان أو يحتاج إليه إلا أنه لا يحل في غير الملك بحال فإنه يكون دليل الاختيار، وهذا لا يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال متى جعل دليل الاختيار، ويسقط خياره به أول مرة لا يفيد الخيار فائدة؛ لأن فائدة شرط الخيار إمكان الرد متى لم يوافقه بعد الامتحان، فمتى لزمه البيع بفعل الامتحان أول مرة لا يمكنه الرد متى لم يوافقه فتفوت فائدة شرط الخيار حينئذٍ، ومتى فعل فعلاً لا يحتاج إليه للامتحان لو جعل دليل الاختيار إلى أن تفوت فائدة الخيار فيسقط به الخيار.
ولهذا إذا ثبت هذا فنقول: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار فاستخدمها مرة، لا يبطل خياره؛ لأن الاستخدام يحتاج إليه للامتحان؛ لأن الجارية تشترى للخدمة والخدمة لا تصير معلومة للمشتري من غير امتحان فكان الاستخدام محتاجاً إليه للامتحان، وإنه يحل بدون الملك فلم يكن الاشتغال به مرة دليل الاختيار فبقي على خياره.
بخلاف ما لو وطئها حيث يبطل خياره وإن كان الوطء محتاجاً إليه للامتحان لأنها تشترى للوطء ولا يعلم كونها صالحة للوطء بالنظر لأنها إنما كانت كذلك؛ لأن الوطء تصرف لا يحل بدون الملك بحال فكان الإقدام عليه اختياراً للملك، حتى لا يقع وطؤه في غير الملك، ولا كذلك الاستخدام؛ لأنه يحل في الملك، هذا إذا كان الاستخدام يسيراً.
فإن كان كثيراً يخرج عن حد الامتحان والاختيار يكون اختياراً للملك، وإن استخدمها مرة أخرى فإن كان في النوع الذي استخدمها في المرة الأولى كان اختياراً للملك؛ لأن المرة الأخرى في ذلك النوع غير محتاج إليه؛ (لأن) الامتحان حصل بالمرة الأولى، وإن كان في نوع آخر لا يكون اختياراً للملك؛ لأن للخدمة أنواعاً أخر محتاجاً إليه للامتحان أيضاً، والإكراه على الاستخدام في المرة الأولى اختيار للملك.
فسر محمد الاستخدام في كتاب الإجارات فقال: يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله من السطح أو بتقديم النعل بين يديه أو بأن تغمز رجله بعد أن لا يكون عن شهوة، أو بأن تطبخ أوتخبز بعد أن يكون ذلك يسيراً، وإن أمرها بالطبخ أو الخبز فوق العادة فذلك رضا.
ولو اشترى دابة على أنه بالخيار فركبها لينظر إلى سيرها لا يسقط خياره ولو ركبها مرة أخرى؛ لأن الركوب مرة أخرى غير محتاج إليه للامتحان بخلاف الركوب في المرة الأولى، ولو سافر عليها يسقط خياره؛ لأن السفر عليها غير محتاج إليه للامتحان، وكذلك إذا ركبها بحاجة سقط خياره.
وكذلك لو حمل عليها شيئاً وكذلك لو حمل عليها علفاً لها هكذا روي عن أبي يوسف وعن محمد: أنه إذا حمل علفاً لها عليها لا يسقط له خياره، ولو كان له دواب فحمل علف جميع الدواب عليها فذلك رضا ولو ركبها ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون رضا به ولا يسقط خياره استحساناً، كذا ذكر في(6/498)
«الأصل» ، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب.
ويدل على هذا التأويل ما ذكر في «السير الكبير» في فصل العيب إن جوالق العلف إذا كان واحداً فركبها مع الجوالق لا يكون رضاً بالعيب؛ لأنه (لا) يمكنه حمل الجوالق الواحد إلا بالركوب، ولو كان جوالقين فركب يكون رضاً، لأنه يمكن حملها بدون الركوب.
ومن مشايخنا من قال: الركوب إذا كان لأجل الرد لا يسقط الخيار وإن أمكنه الرد بدون الركوب، بخلاف الركوب للسقي والإعلاف.
والقاضي ركن الاسلام علي السغدي والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي على أن الركوب للسقي والإعلاف رضا لما ذكرنا في «الأصل» ؛ لأن الركوب للسقي وحمل العلف من أمر الرد لأنه لو لم يسقها ولم يعلفها تهلك أو نتقض فلا يمكنه الرد، وربما تكون الدابة جموحاً لا يمكن ضبطها إلا بالركوب فكان الركوب من أسباب الرد فلا يمنع الرد.
ولو قص حوافر الدابة أو أخذ من عرقها فليس برضا؛ لأنه نقض وإتلاف جزء منها فيعتبر بإتلاف سائر الأجزاء، ولو كانت شاة فجز صوفها ذكر في «المنتقى» أنه يسقط، ولو كانت شاة فحلبها أو شرب لبنها فهو رضا هكذا ذكر في القدوري؛ لأن اللبن زيادة عنها والزيادة منفصلة عنها، والزيادة المنفصلة تمنع الرد بالعيب عندنا فكذا بخيار الشرط.
وفي صلح «الفتاوي» : رواية عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا اشترى شاة أو بقرة على أنه بالخيار فاحتلب لبنها فقد انقطع خياره، وذكر «البقالي» قول محمد في هذا كقول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: هو خياره حتى يشرب لبنها أو يستهلكها.g
ولو حجم الغلام أو سقى دواء أو حلق رأسه فهو رضا، وعن أبي يوسف في الدابة وحجامة الغلام أنه لا يسقط خيار المشتري. وفي المنتقى والأخذ من الشعر ليس برضا، وعن محمد رحمه الله: إذا أمر الغلام بجز رأسه يعني رأس الغلام فهو ليس برضا، إلا أن يريد به الدواء، وكذا الطلى وكذا غسل الرأس واللحية.
وفي «المنتقى» : إذا احتجم الخادم بأمر المشتري فهو رضا، وفي موضع آخر إذا رأى المشتري الغلام يحجم الناس بأجر فسكت فهو رضا، وإن كان يحجم بغير أجر فهذا ليس برضا، هذا بمنزلة الخدمة، ألا ترى أن المشتري لو قال له: أحجمني لا يكون رضا، ولو كان الخيار للبائع فاحتجم الغلام بإذن المشتري فهذا ليس ينقص إذا كان نفسه المشتري. قال في «المنتقى» : أيضاً: وأمر الخادم ليحمل شيئاً ليس برضا هذا من الخدمة. ولو أمر الجارية بمشط أو دهن أو لبس فهو ليس برضا أيضاً، وكذا إذا علق عنقها بشرط لا يسقط خياره ما لم تعتق بحكم اليمين.
ولو اشترى أرضاً فيها حرث اشترى الأرض مع الحرث أو حصده أو فصل منه شيئاً سقط خياره؛ لأن السقي للإستنماء وإنه دلالة الاختيار وبالقطع ينقبض المعقود عليه، وذلك مانع من الرد فيسقط خياره ضرورة، ولو سقى من نهرها دوابه أو شرب بنفسه لا(6/499)
يسقط خياره؛ (82أ3) لأنه مباح بدون الملك فلا يكون فعله دليلاً على تقدير الملك، ولو سقى من نهرها أرضاً أخرى فهو رضا بخلاف ما إذا سقى أجنبي بغير علمه وإن هناك لا يسقط خياره، ولو رعت ماشية المشتري الكلأ يسقط خياره بخلاف ماشية الناس، وكري النهر وكنس البئر يسقط الخيار.
ولو انهدم البئر فبناها لم يعد خياره، ولو وقع فيها فأرة أو نجاسة سقط خياره، وروي في الفأرة إذا نزح عشرون دلواً أنه على خياره، وإذا سقى من البئر زرعه أو دوابه فهو على ما ذكرنا في النهر.
وإذا باع المشتري على أنه بالخيار، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في «شرحه» في باب من الخيار قيل: لا يبطل خياره، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يبطل وهو الصحيح؛ لأن البيع (باتاً) كان، أو بشرط الخيار من التصرفات المختصة بالملك وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختاراً للملك، ولو عرض المشتري التقوم لا يبطل خياره، ولو عرضه ليباع يبطل خياره؛ لأن العرض على جهة البيع من التصرفات المختصة بالملك، فإنه لا يعرض على البيع إلا المالك أو نائبه وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختاراً كما في البيع.
ولو اشترى ثوباً ولبسه لينظر إلى مقداره لا يسقط خياره، فإن لبسها ثانياً يسقط خياره؛ لأن اللبس ثانياً غير محتاج إليه للاختيار بخلاف اللبس أول مرة، فإن طال اللبس الأول سقط خياره أيضاً، وإن لبسه ليستدفئ به بطل خياره.
ولو اشترى رحاً فطحن به المشتري ليعرف مقدار طحنها لا يبطل خياره؛ لأن الطحن محتاج إليه للامتحان والاختبار، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب مقدار ذلك.
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه إذا طحن بها زيادة على يوم وليلة يبطل خياره وإن كان دون ذلك لا يبطل خياره. وفي «البقالي» : الطحن بالرحى لا يسقط خيار المشتري إلا أن يطول أو ينقصها، وذكر الخصاف: أن الطحن يوماً ونحوه لا يسقط حتى يجزئه، ثم يريد بعد ما بان له طحنها على قلة الماء وكثرته.
وإذا كان المشتري بشرط الخيار للمشتري دار فسكنها المشتري سقط خياره هكذا ذكر المسألة في كتاب البيوع.
وفي «القدوري» : إذا سكن المشتري الدار وأسكنها رجلاً بأجر أو رمم فيها شيئاً أو أحدث فيها بناءً أو جصصها أو طيبها أو هدم فيها شيئاً فهو إمضاء للبيع.
وذكر في كتاب القسمة: أن خيار الشرط في القسمة لا يبطل بالسكنى بعد القسمة، إلا أن في كتاب القسمة وضع المسألة فيما إذا دام على السكنى، وفي كتاب البيوع ذكر السكنى مطلقاً، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب البيوع ابتداء السكنى، بأن كان المشتري ساكناً في الدار قبل الشراء بإجارة أو إعارة لا يسقط خياره كما في القسمة.
ومنهم من قال: خيار الشرط في البيع يسقط بالسكنى في الحالين، كما أطلق محمد(6/500)
رحمه الله في كتاب البيوع، وفي القسمة لا يسقط خيار الشرط وفي الحالين.
غير أن محمداً وضع المسألة وفي القسمة في الدوام على السكنى اتفاقاً، وإن كان في الدار ساكناً بأجر فباعها البائع برضاه وشرط الخيار للمشتري فترك المشتري وأساء العلة فقد سقط خياره؛ لأنه أخذ عوض المنافع وإنما يجب عوض المنافع لمن كان ملك المنافع إنما يملك الأصل فكان أخذ العوض على تقدير ملك الأصل.
وسئل أبو بكر عمن اشترى كتاباً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إنه انتسخ منه لنفسه لا يبطل خياره، كالنساج إذا نظر في نقش الديباج لا يبطل خياره، ألا ترى أن من انتسخ من كتاب المبسوط ولم يرفعه لا يصير غاصباً، وإن قلب أوراقه قيل له: لو درس منه ولم يكتب قال: يبطل خياره؛ لأن شراء الكتاب للدراسة يكون لا للانتساخ، وكذلك لو انتسخ لغيره لا يبطل أيضاً قال الفقيه: ولو قيل يبطل الخيار بالانتساخ دون الدراسة كان له وجهاً؛ لأن في الدراسة امتحان لينظر إلى صحته، فصار كاستخدام العبد وفي الكتابة استعمال، قال الفقيه: وبه نأخذ.
وإذا بيعت الدار بجنب الدار المشتراة بشرط الخيار للمشتري، فأخذها المشتري بالشفعة فقد سقط خياره، وإذا كان الخيار للمشتري فأبرأه البائع عن الثمن لم يصح الإبراء في قول أبي يوسف، وروي عن محمد: أنه إذا أجاز البيع نفذ الإبراء.
فوجه قول أبي يوسف: أن هذا إبراء عن دين غير واجب فلا يصح كما قبل العقد، وجه قول محمد: أن المشتري لما أجاز البيع، استند وجوب الثمن إلى أصل العقد فكان إبراء عن دين واجب، وإذا كان الخيار للمشتري فقال المشتري للبائع: إن أردها إليك اليوم فقد رضيتها فهذا القول باطل، وله أن يردها بخيار الشرط.
وكذلك إذا قال: إن لم أفعل كذا فقد أبطلت خياري، ولو لم يقل هكذا ولكن قال: أبطلت خياري غداً، وقال: إذا جاء غداً فقد أبطلت خياري فهذا جائز قال: لأن هذا وقت كائن لا محالة.
ولو قال بعد ما اشترى وشرط الخيار لنفسه شهراً: إن لم آتك بالثمن فيما بيني وبين ثلاث فلا يمتنع بيني وبينك فهو على ما قال كان ذلك، قال في أصل العقد وكذلك إذا قال: إن لم آتك بالثمن إلى سنة فقد نقضت البيع فيه.
وفي «نوادر هشام» قلت لمحمد: رجل اشترى قرية وفيها قناة غزيرة اشتراها وماءها على أنه بالخيار كيف يصنع بماء القناة؟ قال: يدعه يذهب، قلت: إن لم يصرف الماء يفسد، قال: يوكل البائع رجلاً لصرفه.
وإذا كان الخيار للمشتري فولدت الجارية في يده، أو أثمرت النخلة، أو باضت الدجاجة، فقد سقط خياره؛ لأن فائدة الخيار الرد وقد تعذر الرد؛ لأنه وجه إلى رد الأصل بدون الزيادة يبقى مبيعاً في يده بلا ثمن ولا وجه إلى رد الأصل مع الزيادة؛ لأن العقد لم يرد عليها فكيف يرد الفسخ عليها.
وفي «البقالي» : ولا يسقط الخيار بالولد الميت والبيضة الفاسدة.(6/501)
وفي «المنتقى» : إذا ولدت في يدي المشتري ولداً ميتاً أو لم تنقصها الولادة فهو على خياره، وإن كانت الزيادة ذات المبيع كالسمن وما أشبهه سقط الخيار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد: لا يسقط.
ولو كان المشتري بشرط الخيار جارية فلمسها المشتري، أو قبلها بشهوة سقط خياره، بخلاف ما إذا لمسها بغير شهوة؛ لأن اللمس بشهوة تصرف يختص بالملك جماع حكماً حتى يثبت به حرمة المصاهرة فيعتبر بالجماع حقيقة، وبالجماع حقيقة يثبت الخيار فكذا بالجماع حكماً.
فأما اللمس بغير شهوة ليس بجماع حكماً، وإنه فعل يحتاج إليه للامتحان فلا يسقط الخيار، والنظر إلى فرجها بشهوة نظر المسن بشهوة جماع حكماً حتى يثبت به حرمة المصاهرة، بخلاف النظر إلى ما هو سوى الفرج من أعضائها بشهوة؛ لأنه ليس بجماع أصلاً.
وإذا دعاها إلى فراشه لا يبطل خياره هكذا ذكر في «فتاوي أبي الليث» : لأنه لعل إنما دعاها للاختبار ليعلم أنها تجيبه أو لا تجيبه، وإذا كانت الجارية قد نظرت إلى فرج المشتري بشهوة أو لمسته بشهوة أو قبلته بشهوة وأقر المشتري أنها فعلت بشهوة أجمعوا على أنه إذا كان يتمكن المشتري بأن علم المشتري بذلك منها فتركه (82ب3) حتى فعلت أنه يسقط خياره؛ لأن فعل الجارية بتمكين المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه.
ولو أن المشتري فعل ذلك يسقط خياره فكذا هذا، وبهذا الطريق قلنا: بأن المرأة إذا فعلت مثل هذا بالزوج بتمكين الزوج يصير راجعاً كذا هنا، فأما إذا فعلت ذلك لا بتمكين من المشتري، على قول أبي يوسف: يسقط خياره.
وعلى قول محمد: لا يسقط وإن وجدت المشتري نائماً فأدخلت فرجه فرجها، يسقط خياره بالإجماع، ولو نظرت المعتدة طلاقاً رجعياً إلى فرج زوجها بشهوة أو لمسته بشهوة يثبت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يثبت في قول محمد، إلا أن تحصل المجامعة بفعلها بأن أدخلت فرجه فرجها، ذكر المسألة على هذا الوجه بشر بن الوليد في «نوادره» ، وروى ابن سماعة في «نوادره» في مسألة الرجعة روايتين عن محمد رحمه الله.
وفي سقوط الخيار بنظر الأمة إلى فرج المشتري بشهوة رواية واحدة عن محمد أنه لا يسقط.
وجه قول محمد: أن الخيار حق المشتري فلا يسقط إلا بإسقاطه إما نصاً أو دلالة، ولم يوجد منه الإسقاط نصاً وهذا ظاهر ولا دلالة؛ لأن دليل الإسقاط وجود صنع من جهته، إما من حيث الحقيقة أو من حيث الاعتبار، ولم يوجد من المشتري صنع لا من حيث الحقيقة، وإنه ظاهر ولا من حيث الاعتبار؛ لأن فعل المس يضاف إلى الماس لا إلى الممسوس؛ لأن الممسوس محل فعل المس والفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى المحل.
ثم إن محمداً يحتاج إلى الفرق بين مسألة الرجعة وبين مسألة الخيار على إحدى روايتي ابن سماعة.(6/502)
والفرق من وجهين: أحدهما: أن الرجعة يشترك فيه الزوجان لكل واحد منهما فيها حق، فجاز أن يجعل فعل أحد الشريكين كفعل صاحبه، والدليل على أن للمرأة في الرجعة حقاً كما للرجل قال الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} (البقرة: 228) فلولا أن للمرأة حقاً في ذلك، وإلا لم يكن لقوله: أحق معنى وفائدة؛ لأن الفعل إنما يستعمل بين شخصين في شيء يشتركان فيه كما يقال: فلان أحسن من فلان وأفقه من فلان وأجمل من فلان وكقوله عليه السلام: «الأيِّم أحق بنفسها من وليها» اقتضى أن يكون للولي حق في نفسها إلا أن حق المرأة أكثر فكذلك هذا.
وإذا ثبت أن لها حقاً في الرجعة أمكن أن يجعل فعلها في إثبات المراجعة كفعل الزوج، فأما لا حق للأمة في خيار المشتري ولا يمكن أن يجعل فعلها كفعل المشتري في حق إسقاط خياره.
والفرق الثاني: أن المرأة في باب النكاح عاقدة من وجه ومعقود عليها من وجه، فوفرنا على الشبهين حظهما.
قلنا: لكونها عاقدة من وجه تثبت الرجعة من جهتها من حيث الحكم، ولكونها معقوداً عليها من وجه لا يثبت الرجعة من جهتها قصداً توفراً على الشبهين حظهما، فأما الأمة في باب الشراء معقود عليها من كل وجه وليست بعاقد، فلم يسقط خيار المشتري من جهتها لا من حيث الحكم بالنظر (إلى) فرج المشتري بشهوة ولا من حيث العقد بصريح الاختيار.
وأما أبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أنه وجد منها ما هو جماع حكماً، فيعتبر بما لو وجد منها ما هو جماع حقيقة، دليله جانب الزوج، فإن في جانب الزوج اعتبر الجماع الحكمي بالحقيقي فكذا في جانبها.
ولو وجد منها ما هو جماع حقيقة سقط خيار المشتري فكذا في جانبها ما هو جماع حكماً وإنما قلنا وجد منها ما هو جماع حكماً؛ لأن هذا الفعل من جانبها أوجب حرمة المصاهرة كما لو وجد منها الجماع حقيقة.
وأما قول محمد رحمه الله: لم يوجد ممن له الخيار صنع، قلنا: وجد الصنع من حيث الاعتبار لما ذكرنا أنه وجد منها جماع حكماً، والفعل في الجماع الحقيقي مضاف إلى الزوج من حيث الحقيقة، فكذا فيما هو جماع حكماً يكون الفعل مضاف إليه حكماً، فقد وجد منه فعل حكماً.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فمرض العبد في الثلاث، فنقض المشتري العقد ورد العبد إلى البائع أن سلمه(6/503)
فأمضى الثلاث، والعبد مريض على حاله لزم المشتري، وإن صح قبل مضي الثلاث قبل أن يرد، فله أن يرد بالرد الذي كان منه في الثلاث.
وإذا كان الخيار للمشتري والسلعة مقبوضة فحدث بها عيب لا يرتفع لزم العقد وبطل الخيار، سواء كان بفعل البائع أو بغير فعله، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يلزم بجناية البائع؛ لأن فيه تسليط البائع على إلزام العقد وبه تفوت فائدة الخيار للمشتري، إلا أن يتمكن المشتري من الفسخ شاء البائع أو رضي أم سخط.
ولهما: أن العقد قد لزم في القدر الذي تلف بالتعييب في ضمان المشتري وتقرر عليه حصته من الثمن، فلو جاز رد الباقي كان ذلك تفريقاً للصفقة على البائع قبل التمام في حق الرد، وذلك لا يجوز، وإذا تعذر الرد لهذا المعنى لزم العقد في فعل الأجنبي، إلا أن يكون الأجنبي مسلطاً على إلزام العقد، وإذا لزم العقد عندهما رجع المشتري على البائع بالأرش؛ لأن البيع قد تم بأول جزء من النقص فصار البائع جانياً على ملك المشتري فيضمن الأرش.
وفي «نوادر هشام» قال: قلت لمحمد رجل اشترى من رجل شيئاً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فجاء إلى باب البائع في الثلاث ليرده، فاختفى منه البائع فأشهد المشتري ناساً أنه قد رد البيع بخياره، ثم ظهر البائع بعد الثلاث فأخبرني أن أبا حنيفة رحمه الله قال: رده باطل إلا أن يجتمعا جميعاً، قال هشام: وهو قول محمد وهي المسألة المعروفة أن المشروط له الخيار في البيع لا يملك الفسخ إلا بحضرة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد ومعناه ألا يعلمه.
وتأويل ما ذكر هشام: إن لم يعلم البائع بفسخ المشتري قال هشام: قلت لمحمد كيف يصنع المشتري؟ قال: إن أراد أن يستوثق ينبغي أن يقول للبائع: تقيم له كفيلاً المشتري وبرضاه إن رد البيع ونقضه بخياره فرده يكون عليه جائزاً.
ولو اشتراه على أن البائع إن غاب عيبة ففسخه عليه جائز فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا شرط فاسد عندهما لأنهما لا يريان الفسخ عند غيبة الآخر.
في «المنتقى» : إذا اشترى عبداً على أنه إن لم ينفذ الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، ثم إن المشتري قطع يد العبد في الثلاث أو قطعها أجنبي في الثلاث قال: إذا قطعها المشتري في الثلاث، فالبائع بالخيار إن شاء أخذ العبد مقطوع اليد ولا شيء له غير ذلك، وإن قطعها أجنبي في الثلاث فقد وجب البيع للمشتري لأنه وجب له أرش.
رجل اشترى من آخر سمكاً طرياً أو عصيراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فقبضه فوهب للعبد مال أو اكتسبه، ثم استهلكها العبد بعلم المشتري بغير إذنه أو بغير علمه، لم يبطل خيار المشتري ولو وهب للعبد ابن المشتري وقبض العبد الابن العبد عتق الابن، ولا يبطل خيار المشتري في العبد، ولو وهب للعبد أم ولد المشتري وقبضها العبد بطل(6/504)
(83أ3) خياره في العبد، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد هذه المسألة: الأفضل استهلاك العبد الموهوب فإنه لم يروه عن محمد.
وعن أبي يوسف: اشترى عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال المشتري: شئت أخذه أو قال: رضيت بأخذه أو أحببت أو أردت أو أعجبني ذلك أو قال: وافقني لم يلزمه.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقال البائع للمشتري: أعطيك مائة على أن تبطل البيع ففعل، قال: قد انفسخ البيع وليس على البائع شيء.
وإذا اشترى من آخر عبداً بألف درهم على أن المشتري بالخيار، فأعطاه بها مائة دينار، ثم أن المشتري رد البيع فالصرف جائز عند أبي يوسف ويرد الدراهم، وعلى قول أبي حنيفة: الصرف باطل.
رجل اشترى من آخر جارية على أن المشتري بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن المشتري قبلها أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم أراد أن يردها وقال: لم يكن ذلك بشهوة فالقول قوله مع يمينه.
هكذا روي عن محمد في «المنتقى» : ثم قال: ألا ترى أن رجلاً لو قبل امرأة أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم قال لم يكن عن شهوة، كان القول قوله كذا هنا، ولو كان مباشرة، ثم قال: كان ذلك مني بغير شهوة لم يقبل قوله، وكان الصدر الشهيد يقول في القبلة: يفتي بحرمة المصاهرة ما لم يبين أنه فعل بشهوة، قياس ما قاله الصدر الشهيد ثمة: يجب أن يقال في مسألة الشراء إذا قبلها، ثم قال: لم يكن عن شهوة، أن لا يقبل قوله ويسقط خياره.
وقال أبو يوسف: في رجل اشترى بئراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فغار ماؤها أو دفع فيها فأرة ميتة قال: إن اختصما على تلك الحالة لم يكن له ردها، وإن لم يختصما حتى عاد الماء كما كان على خياره.
نوع منه
في اشتراط الخيار لهما وفي بيان أحكامه إذا كان الخيار لهما فمات أحدهما لزم البيع من جهته والآخر على خياره، فخيار الشرط لا يورث هنا عندنا خلافاً للشافعي.
وفي «المنتقى» : رجل باع عبداً بأمة على أن كل واحد منهما بالخيار فأجاز بائع العبد البيع وقد تقابضا فمات العبد في يد المشتري فقد لزمه وتم البيع فيه.
رجل اشترى عبد الجارية وشرط كل واحد الخيار لنفسه فيما باع، ثم إنهما أعتقا معاً جاز عتق كل واحد منهما في السلعة التي كان يملكها.
رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وهما جميعاً بالخيار فقال البائع: قد أجزت البيع بحضرة من المشتري، وقال المشتري بعد ذلك: قد فسخت البيع بحضرة البائع فالبيع(6/505)
ينفسخ، فإن هلك العبد في يدي المشتري قبل أن يرده في الأيام الثلاثة أو بعدها فعلى المشتري الثمن من قبل أن البائع قد ألزم البيع وصار المشتري بالخيار دون البائع.
ولو أصابه عيب قبل هذه المقالة أو بعدها فهو على سواء وعليه الثمن ولا يستطيع رده بعد العيب الذي أصابه، وإن بدأ المشتري ففسخ العقد، ثم إن البائع أجاز البيع، ثم هلك العبد فعلى المشتري قيمته.
وكذلك لو أصابه عيب نقصه بعد هذه المقالة فالبيع منتقض يرد المبيع ويرد نقصان العيب، ولو أصابه العيب قبل أن يفسخ المشتري البيع، ثم فسخه المشتري، ثم أجازه البائع فالبيع لازم للمشتري وعليه الثمن من قبل أن العيب الذي حدث به عند المشتري بمنزلة إجازة البيع، فإذا أجازه البائع بعد ذلك فقد تم البيع فلزم الثمن وإذا كان الخيار للبائع أو للمشتري فتناقضا العقد، ثم هلك المبيع في يدي المشتري قبل الرد على البائع يبطل حكم ذلك الفسخ ويعود حكم البيع ويجعل كأن الهلاك كان قبل فسخ البيع.
نوع آخر في الاختلاف في عقد البيع على الخيار
هشام قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل ادعى أنه باع هذا العبد من هذا أمس بألف درهم على أني بالخيار وجحد المشتري الخيار فالقول قول البائع وهو المدعي للخيار وقال أبو يوسف: القول قول المشتري وكذلك إن كان المشتري هو الذي ادعى الشراء بشرط الخيار وجحد البائع الخيار فالقول قول المشتري وهو المدعي للخيار.
وفي «البقالي» : عن أبي حنيفة: أن القول قول من سعى بالخيار، وفيه أيضاً: القول قول من يدعي الخيار عند محمد.
قال في «البقالي» : وأطلق الأصل أن القول قول من يبقيه وكذا في المجرد، وقال أبو يوسف: إذا ادعى أحدهما الخيار لبيع قد مضى، ثم أصدقه إلا يبقيه وإن ادعى أحدهما الخيار لبيع باعه من ساعته ووصل دعواه بالخيار، فإني أقبل ذلك من أيهما ادعاه، وعن أبي يوسف فيمن قال لامراته: طلقتك أمس إن شئت وقالت المرأة: طلقتني لغدٍ فالقول قول الزوج، ولو قال: بعتك أمس إن شئت، وقال المشتري: اشتريته إليه فالقول قول المشتري، وإنما افترقا؛ لأن في قوله: بعتك أمس أنك قبلته وليس ذلك في الطلاق.
وفي «المجرد» : إذا اختلفا في مقدار الخيار فالقول قول من يدعي الأقل، وإذا اتفقا على مقدار واختلفا في المضي فالقول قول من أنكر المضي.s
نوع آخر في الاختلاف في الخيار في البيع في موت العبد ومضي الخيار وبعده
قال محمد في «الجامع الكبير» : رجل باع عبداً من رجل بألف درهم على أن البائع(6/506)
فيه بالخيار وقبضه المشتري فمضت المدة فقال أحدهما أيهما كان، إن العبد مات في الثلاث وانتقض البيع ووجبت القيمة.
وقال الآخر: لا بل هو حي آبق فالقول قول من يدعي أنه حي آبق؛ لأن الظاهر شاهد له من وجوه من حيث إنه عرف حياة العبد، والأصل في الثابت بقاؤه ومن حيث إن العقد قد انعقد فكان الأصل بقاؤه ومن حيث إن مدة الخيار انقضت فكان الأصل لزوم العقد فكان الظاهر شاهداً له من هذه الوجوه الثلاثة، ومدعي الموت يشهد له الظاهر من وجه واحد من حيث إن الغير في مدة الخيار كان مضموناً على المشتري بالقيمة، والأصل بقاؤه.
قلنا: من يشهد له الظاهر من وجه واحد لا يعارض من خبره خبر من يشهد له الظاهر من وجوه، فإن أقاما البينة كانت البينة بينة من يدعي أنه حي آبق أيضاً.
وطعن عيسى ابن أبان في هذا فقال: يجب أن تكون البينة بينة من يدعي الموت في مدة الخيار؛ لأنه يدعي أمراً على خلاف الظاهر على ما مر، والبينات شرعت لإثبات ما خفي من الأمور دون إثبات ما ظهر منها، ألا ترى أنا رجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق خفي من الأمر كذا ههنا، الجواب أن بينة من يشهد له الظاهر إنما تبطل إذا بقي الظاهر مع بينة خصمه كما في الخارج مع ذي اليد؛ لأن هناك شهادة الظاهر إنما تثبت بحكم اليد واليد لا تبطل بينة الخارج إما إذا بطل الظاهر ببينة خصمه لا يبطل كونها حجة لحق وهو أن الظاهر إذا لم يبطل ببينة خصمه مما يثبت له بالظاهر لا يثبت لبينة وبينة الخصم تثبت من كل وجه فكانت بينة (83ب3) خصمه أكثر إثباتاً فترجحت باعتبار هذا، أما إذا أبطل الظاهر بينة خصمه وبينته مبيناً من كل وجه أيضاً، فلا يترجح بينة خصمه، بل يطلب الترجيح في نفس البينة فكانت أكثر أماناً فهو أولى إذا ثبت هذا.
فنقول لما قامت البينة على الموت في الثلاث بطل الظاهر الذي كان يشهد لمن يدعي الحياة بعد الثلاث من كل وجه وهو ظاهر الحياة وظاهر العقد وانقضاء المدة، فإن انقضاء المدة لا يؤثر في اللزوم مع الموت في المدة، فإذا بطل الظاهر كله يعتبر معنى الإثبات وبينة من يدعي الحياة بعد مضي المدة أكثر إثباتاً لأنها تثبت لزوم العقد وإنتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري، والانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن أيضاً.
وبينة صاحبه تبقي ذلك كله فكانت بينة من يدعي الحياة أولى، وإن تصادقا بعد الثلاث أن العبد مات واختلفا في وفاته، فقال أحدهما: مات في الثلاث وقال الآخر: مات بعد الثلاث فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن مدعي الموت في الثلاث مدعي نقض البيع وموت العبد سبب لنقض البيع في البيع بشرط الخيار للبائع إذا علم موته بعد الثلاث ولم يثبت فكان الظاهر شاهد المدعي الموت في الثلاث من هذا الوجه، ولأن مدعي الموت في الثلاث يدعي ضمان القيمة وقد عرف ثبوته، ويدعي هلاك العبد على ملك البائع وعرف كونه ملك البائع أيضاً فكان الظاهر شاهداً له من هذه الوجوه.
فأكثر ما في الباب أن الظاهر شاهد يدعي المدعي الموت بعد الثلاث من حيث إنه يدعي(6/507)
بقاؤه حياً إلى بعد الثلاث وقد عرف كونه حياً ويدعي حدوث الموت لأقرب الأوقات ومدعي بقاء العقد إلى ما بعد الثلاث وقد عرف قيامه فتعارضت الظواهر، لكن الظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق ومدعي النقض يدعي حدوث ملك المشتري وحدوث ضمان الثمن. ومدعي الجواز يدعي حدوث ملك المشتري وضمان الثمن.
فلهذا كان القول قول من يدعي الموت في الثلاث، فإن أقاما البينة (فالبينة) بينة من يدعي الموت بعد الثلاث؛ لأنه يثبت ببينته لزوم العقد وحدوث الملك للمشتري والنقل من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن وكل ذلك غير ثابت قبل البينة، وبينة من يدعي بعد الموت بعد الثلاث أولىّ.
ولو تصادقا أن العبد مات بعد الثلاث في يد المشتري فأقام أحدهما البينة أن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وأقام الآخر البينة أن البائع أجاز البيع في الثلاث فالبينة بينة من يدعي النقص؛ لأن حياة العبد بعد مضي المدة تدل على لزوم العقد فالانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن بالذي على نص النقض يثبت خلاف الظاهر والأخر يثبت ما هو ظاهر فكانت بينة من يدعي أكثر إثباتاً.
ولو تصادقا أن العبد مات في الثلاث وأقام أحدهما البينة على النقض والأخر على الإجازة قبل الموت فالبينة بينة من يدعي الإجازة؛ لأن الموت في الثلاث موجب النقض فالبينة على الإجازة هي التي تثبت ما ليس بظاهر فكانت حق بالقبول.
ولو ادعى أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات وأن البائع نقض البائع قبل موته بمحضر من المشتري ولا بينة لهما فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن كل واحد منهما يدعي شيئين.
أحدهما: الموت في الثلاث، والنقض قبل ذلك وادعى الأخر بقاؤه في الثلاث والإجازة ودعوى كل واحد منهما أولاً متضمن دعواه آخر؛ لأن الذي ادعى بقاء العبد بعد الثلاث ادعى لزوم العقد، وقوله: إن البائع جاز البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول والذي ادعى الموت في الثلاث ادعى انتقاص البيع، وقوله: إن البائع نقض البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول فلغى عن دعوى كل واحد منهما لدعوى الثاني في بقيت العبرة لدعوى أحدهما الموت في الثلاث ودعوى الأخر: الموت بعد الثلاث، وقد ذكرنا أن في هذا القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه كذا ههنا.
وإن ادعى أحدهما أن العبد مات بعد الثلاث وإن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وادعى الأخر أن العبد مات في الثلاث وأن البائع جاز البيع قبل موت العبد فنقول كل واحد منهما ضم إلى دعواه لا بجانبه؛ لأن موت العبد في الثلاث يدل على النقض فلا يصح معه دعوى جواز البيع فلا يصح معه دعوى النقض فاعتبر من دعوى كل واحد منهما السابق، وهو دعوى الموت في الثلاث، أو بعد الثلاث وقد بينا هناك أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه.
ولو كان البائع والمشتري جميعاً بالخيار ثلاثة أيام وقد قبض المشتري العبد فادعى(6/508)
أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات بعد ذلك، وأيهما جميعاً أجاز البيع قبل موته فالقول قول من يدعي النقض والبينة بينة صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ضم إلى دعواه السابق ما لا يجانسه على أمر، فاعتبر السابق من دعوى كل واحد منهما وهو دعوى الموت في الثلاث ودعوى الموت بعد الثلاث، وقد بينا في هذا أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه.
قال أبو يوسف ومحمد: لو أن رجلاً باع من رجل عبداً على (أن) البائع أو المشتري بالخيار ثلاثه أيام وقبض المشتري العبد فمضت الثلاث والعبد حي قائم فأقام أحدهما البينة على النقض في الثلاث وأقام الآخر البينة على الإجازة في الثلاث كانت بينة النقض أولى؛ لأن العبد لما بقي حياً بعد الثلاث فذلك دليل الجواز.
ولهذا لو لم يكن لهما بينة جعل القول قول من يدعي الجواز فصارت بينة النقض هي البينة لأمر غير ظاهر فكانت أولى، وإن أقام البينة على ما ذكرنا في الثلاث فالبينة بينة من لا خيار له؛ لأن من له الخيار يثبت ببينته أمراً يملك الشاة فلا حاجة له إلى إثباته بالبينة، والذي لا خيار له يحتاج إلى إثبات ما يدعيه بالبينة فكانت بينته أولى، بخلاف ما إذا مضت المدة؛ لأن هناك كل واحد منهما يدعي أمراً لا يملك استئنافه وبينة النقض على المنفعة على أمر فكانت هي أولى، ولو كان الخيار لهما فأقام أحدهما البينة على النقض منهما جميعاً، وأقام الأخر البينة على الإجازة منهما جميعاً وكان الاختلاف بينهما بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة من يدعي النقض؛ لأن لزوم البيع ثابت بمضي المدة ظاهراً فكانت بينة النقض على المنفعة فيكون أولى.
ولو اختلفا على هذا الوجه في الأيام الثلاثة ولم يكن لهما بينة، فالقول قول من يدعي النقض، ولو أقام البينة فالبينة بينة مدعي الإجازة؛ لأنه ادعى أمراً لا يتفرد به فاحتاج إلى إثباته بالبينة، والأخر ادعى أمراً يتفرد به فلم يحتج إلى إثباته بالبينة، فإن عرف تقدم أحدهما فذلك أولى؛ لأن أحد الأمرين إذا ثبت تقدمه بطل الآخر بعده؛ لأنهما ضدان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل باع عبداً على أن (84أ3) البائع بالخيار ثلاثة أيام فقبضه المشتري وقيمته ألف درهم فزادت قيمته في الأيام الثلاثة فصارت ألفي درهم، ثم مضت الأيام الثلاثة، فأقام البائع بينة أن المشتري قتله خطأ في الأيام الثلاثة، وبعدما صارت قيمته ألفي درهم، وأنكره المشتري فأقام المشتري بينة أن البائع قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع.
فرق بين القتل وبين الموت على هذا الوجه بأن أقام أحدهما البينة بعد مضي الأيام الثلاثة، أنه مات في يد المشتري في الثلاث، وأقام الآخر البينة أنه مات بعد الأيام الثلاثة حيث كانت البينة بنية من يدعي الموت بعد الثلاث.
والفرق: وهو أن القتل نفسه مقصود بالإثبات بالنية لما يتعلق بالقتل من الضمان على العاقلة، فإنه لا يتوصل الى هذا الحكم إلا بعد إثبات القتل فصار نفس القتل مقصوداً بالإثبات.
ولما كان هكذا فبينة البائع أثبت القتل من المشتري في وقت لا مزاحم لها(6/509)
ضرورته انتفاء القتل من البائع بعد ذلك، إذ القتل لا يتكرر فأما الموت فغير مقصود بالإثبات إذ لا يتعلق به حكم مقصود، فلا تعتبر البينة على نفس الموت، وإنما المعتبر ما يترتب على الموت من الحكم وبينة من يدعي الموت بعد الثلاث أكثر إثباتاً فيما يترتب عليه من الحكم على (ما) مر.
ونظير هذا ما قال في الشهادات في رجل أقام البينة إن أباه مات في رمضان وهو وارثه لا وارث له غيره، وأقامت امرأة البينة إن أباه تزوجها في شوال من تلك السنة فالبينة بينة المرأة؛ لأن الموت غير مقصود بالإثبات في رمضان إذ لا يتعلق به حكم المقصود بالموت في رمضان، وإنما يثبت الابن الإرث لنفسه، والمرأة مقرة بذلك.
أما المرأة يثبت بها النكاح في شوال وهو مقصود لما يتعلق به من الأحكام، فكان بينتها أولى، وبمثله لو أقام الابن البينة أن فلاناً قتل أباه في رمضان وباقي المسألة بحاله كانت بينته أولى؛ لأن النفس القتل ههنا مقصود بالإثبات لما يتعلق به وجوب الدية على العاقلة ببينته بالقتل في رمضان، ثم لا يتصور للنكاح منه بعد ذلك في شوال، فكذلك في مسألتنا.
وإذا قضينا بموجب ضمان القتل للبائع هنا كان للبائع أن يضمن عاقلة المشتري، ولو أراد أن يضمن المشتري قيمة العبد يوم قبضه لما أنه قبضه على ضمان القيمة لم يكن له ذلك؛ لأنا لو أثبتنا له ذلك ابتداء أبطلناه انتهاءً، وهو أن البائع متى اختار تضمين المشتري قيمة العبد بسبب القبض تبين أن القتل لم يكن مقصوداً بالإثبات إذ لا يبقي للقتل حكماً في هذه الحالة لصيرورة البائع معرضاً عن دعوى ضمان الجناية على القتل فبقي مدعياً بمجرد الموت، ولو وقعت الدعوى في مجرد الموت على هذا الوجه كانت بينة المشتري أولى فيظهر أنه لم يكن للبائع تضمين المشتري القيمة بسبب القبض، فصح أن في تضمينه في الابتداء إبطاله في الانتهاء.
وكذلك لو أقام البائع البينة أن فلاناً قتله في الأيام الثلاث خطأ، وأقام المشتري بينته على ذلك الرجل أو غيره أنه قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة كانت بينة البائع أولى، ويقضي البائع على العاقلة القاتل بقيمته يوم القتل، وإن اختار تضمين المشتري القيمة لم يكن له ذلك لما مر.
ولو كان المشتري أقام البينة على البائع قتله في الأيام الثلاثة وأقام البائع بينته أن المشتري قتله بعد الأيام الثلاث فالبينة بينة البائع؛ لأن القتل هنا غير مقصود بالإثبات؛ لأن كل واحد منهما لهذا القتل لا يدعي لنفسه حقاً على صاحبه؛ لأن قتل المشتري بعد الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئاً للبائع.
وكذلك قتل البائع في الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئاً للمشتري، فلم يكن القتل مقصوداً بالإثبات إنما يتعلق به من أحكام، وذلك في بينة البائع أكثر، وهو جواز البيع ولزومه والانتقال إلى ضمان الثمن فكانت بينة البائع أولى، ولو أقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي قتله بعد الأيام الثلاثة، وأقام المشتري بينة على أن هذا الأجنبي أو غيره(6/510)
قتله في الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع؛ لأن كل واحد ببينته يثبت حكم القتل لغيره، وذلك الغير ممكن فلم يكن ليقتل مقصوداً فاعتبر كأن البينتان قامتا على الموت على هذا الوجه.
وهناك كانت بينة البائع أولى فكذلك هنا، وإن أراد المشتري في هذا الوجه إثبات القتل على الذي أقام عليه البائع البينة أنه قتله بعد الثلاث، وأراد تضمنه لم يكن له ذلك؛ لأنه قد ادعى القتل على غيره فيصير يدعي القتل عليه فتناقضاً.
قال محمد في «الجامع» أيضاً: رجل باع عبداً من رجل بألف درهم أن البائع بالخيار فيه ثلاثة أيام فقبضه المشتري فصارت قيمته ألفي درهم فأقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي غصب هذا العبد من المشتري بعد ما صارت قيمته ألفي درهم فمات في الأيام الثلاث عنده، وأقام المشتري البينة أن هذا الرجل أو غيره غصب هذا العبد في الأيام الثلاثة وقيمته ألف درهم فمات عنده بعد مضي الأيام الثلاثة، فإن بينة المشتري أولى بخلاف مسألة القتل.
والفرق بينهما: وهو أن دعوى الغصب على الأجنبي إنما يعتبر بحكمه وكل واحد منهما يدعي الحكم لنفسه، ولا يعتبر بالموت في دعوى الغصب، فإن في دعوى الغصب بحكم نفسه صحيح بدون دعوى الموت.
وإنما المعتبر في ذلك جواز العقد وانتقاضه إن أجاز العقد فحكم الغصب للمشتري، وإن انتقض فحكمه يكون للبائع فصار المحتاج إليه في دعوى الغصب إثبات النقض للبائع، وإثبات الجواز للمشتري فالجواز هو العارض، وذلك في بينة المشتري فصار الحكم به أولى، ثم تبعه ضمان الغصب بخلاف ضمان القتل.
ولو أقام البائع بينة على الموت بعد الثلاث عند الغاصب وأقام المشتري بينته على البائع؛ لأن كل واحد منهما يثبت حكم الغصب لغيره، فلم يعتبر البينة على حكم الغصب، واعتبر نفس الموت، فيكون القضاء ببينة البائع أولى لما مر، وإذا قضينا على هذا الوجه كان للمشتري أن يضمن الغاصب قيمته بخلاف ما سبق من مسألة القتل في نظير هذا، فإن هناك إذا قضينا ببينة البائع ليس للمشتري أن يضمن القاتل شيئاً.
والفرق بينهما: أن في مسألة القتل كل واحد منهما يثبت حكم القتل لغيره فبطل ذلك، واعتبرت البينة على الموت وعقد ذلك يقضي بالموت بعد الثلاث فالقضاء بالموت بعد الثلاث ينافي القضاء بالقتل في الثلاث، أما ههنا الغصب ثبت من هذا الغاصب في الثلاث بينهما والقضاء بالموت بعد الثلاث لا ينافي الغصب في الثلاث فبقي الغصب محكوماً به، فكان للمشتري أن يأخذه بضمان الغصب، وكذلك إذا كان الغصب من اثنين كان للمشتري أن يأخذ الذي ثبت الغصب عليه بضمان؛ لأن الغصب ثبت على الذي أثبته المشتري ببينته (84ب3) لا أن المشتري زعم أن حكمه للبائع، وإذا قضينا ببينة البائع صار المشتري مكذباً في زعمه أن ضمان الغصب للبائع فالتحق زعمه بالعدم، فلهذا كان الجواب كذلك، وإن لم يقم البينة على ما وصفنا من القتل والموت فالقول قول من يدعي القتل، والموت في الثلاث؛ لأن الظاهر يشهد له على الوجه الذي قلنا.(6/511)
نوع آخر في شرط الخيار في بعض المبيع
قال محمد في «الجامع الصغير» : وإذا اشترى الرجل شيئين بأن اشترى عبدين أو ثوبين على أنه بالخيار في أحدهما يأخذ أيهما شاء بعشرة مثلاً ويرد الآخر فهو جائز في الثوبين والثلاثة استحساناً، والقياس أن لا يجوز ولا يجوز فيما زاد على ذلك قياساً واستحساناً.
وقد اختلف ألفاظ الفسخ في هذه المسألة: وقع في بعضها اشترى شيئين، ووقع في بعضها اشترى أحد الشيئين وهو الصواب؛ لأن المشتري أحدهما وإنما جاز هذا العقد استحساناً مع كون المبيع مجهولاً؛ لأنه بمعنى ما جاءت به السُنة وهوشرط الخيار ثلاثة أيام لمساس الحاجة، وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة، أما الحاجة؛ فلأن الإنسان قد يشتري الشيء لعياله ولا يعجبه أن يحمل معه عياله إلى السوق ولا يرضى البائع بالتسليم إليه عينتيّ ليحمله إلى عياله من غير عقد فيحتاج إلى مباشرة العقد بهذه الصفة لاختيار الأرفق بمحضر من عياله.
والجهالة هنا غير مفضية إلى المنازعة؛ لأن التعيين إلى من له الخيار بخلاف ما إذا لم يشترط الخيار لنفسه؛ لأن الجهالة ثمة تفضي إلى المنازعة، وبخلاف ما إذا لم يسم لكل ثوب ثمناً، فإن هناك ثمن ما يتناوله العقد مجهول وإنما اقتصر الجواز على الأبواب الثلاثة؛ لأن فيما زاد على الثلاث إن انعدمت المنازعة لم توجد الحاجة لاندفاعها بالثلاث لاقتصار صفات الأبواب على الجودة والوساطة والرداءة وهذه الرخصة كانت قائمة بوضعين فلم يقم بأحدهما، ويجوز هذا العقد إذا كان فيه شرط الخيار مع خيار التعيين.
وهل يجوز بدون شرط الخيار؟ فيه كلام على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ثم هذا البيع يجوز مع هذا الخيار ثلاثة أيام بلا خلاف، وهل يجوز مع هذا الخيار أربعة أيام لا شك أن على قولهما يجوز كما في العين الواحد، وأما على قول أبي حنيفة فقد اختلف المشايخ فيه، كان الكرخي يقول لا يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول الكرخي ملحق بخيار الشرط ولهذا قال: لا يجوز البيع إذا لم يكن الخيار مؤقتاً، وخيار الشرط إذا كان مؤقتاً أربعة أيام يوجب فساد البيع عند أبي حنيفة، فكذلك هذا الخيار، وكان ابن شجاع يقول: يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول ابن شجاع غير ملحق بخيار الشرط، ولهذا قال: أن البيع جائز مع هذا الخيار، وإن لم يكن مؤقتاً، فأما إذا ذكر الخيار مطلقاً ولم يؤقته كان الكرخي يقول: لا يجوز البيع وإليه أشار في «الجامع الصغير» وفي «المأذون» ، فإنه وضع المسألة في الخيار المؤقت.
وفائدة ذكر التوقيت: أنه لا يجوز بدونه وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام علي البزدوي، وكان ابن شجاع يقول: يجوز وإليه أشار في «الجامع الكبير» وفي بيوع «الأصل» وإليه مال بعض المشايخ، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان.(6/512)
وجه ما ذكره الكرخي: أن هذا اختيار لا يثبت إلا بالشرط فلا يجوز إلا مؤقتاً قياساً على خيار الشرط في عين واحد ولهذا ذكره مؤقتاً في بعض الكتب، وما ذكره مطلقاً في بعض الكتب فهو مجهول على المؤقت.
وجه ما ذهب إليه ابن شجاع: أن هذا الخيار ليس بخيار شرط بل هو خيار تمييز ملك من له الخيار عن ملك غيره ابتداء وإنتهاء؛ لأنه فسر قوله على أني بالخيار بقوله أحديهما شئت وأراد الآخر، وإبداء الحكم للتفسير لا لأول الكلام وخيار تيميز الملك لا يتوقت كما لو ثبت هذا الخيار بسبب الاختلاط، ولهذا ذكر محمد رحمه الله هذا الخيار في بعض الكتب مطلقاً، وإنما ذُكر في بعض الكتب مؤقتاً لتبيين أن العقد جائز مع التوقيت في الخيار، كما هو جائز مع التأبيد لا لبيان أن التوقيت شرط للخيار، وأما قول الكرخي أنه لا يثبت إلا بشرط.
قلنا: إنما تعلق بثبوته بالشرط قطعاً للمنازعة؛ لأنه متى لم يشترط الخيار لأحدهما يثبت خيار التعيين لهما جميعاً بحكم الملك، فلا يتعد تعيين أحدهما على صاحبه قبل اشتراط الخيار له فكان الشرط محتاجاً إليه لهذا لا؛ لأنه خيار شرط، ثم إذا جاز البيع على وجه الذي قلنا فقبضهما المشتري فأحدهما معقود عليه مضمون على المشتري بالثمن والأخر ملك البائع أمانة في يد المشتري؛ لأن الداخل تحت العقد أحدهما لا كلاهما والذي لم يدخل تحت العقد حصل قبضه بإذن المالك لا على سوم الشراء ولا على وجه الوثيقة فيكون أمانة في يده كالوديعة، فإذا هلك أحدهما أو تعيب أحدهما وقد عجز عن رد الخيار لفوات الشرط وهو الرد على الوجه الذي قبض يتعين هو مبيعاً حين تعيب أو أشرف على الهلاك ويتعين الآخر.
بخلاف ما لو اشترى كل واحد منهما بعشرة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فهلك أحدهما عنده، فإنه لا يرد الباقي؛ لأن العقد تناولهما ولهذا ملك إتمام العقد فيهما، فلو رد الباقي منهما بعد هلاك أحدهما كان فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وذلك لا يجوز، أما ههنا العقد يتناول أحدهما، ولا لهذا لا يملك إتمام العقد فيهما فبعد ما هلك أحدهما لو رد الأخر لا يكون فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وكذلك إذا تصرف في أحدهما تصرفاً يبطل الخيار ولزمه ثمنه ويتعين هو مبيعاً؛ لأنه دليل الاختيار بالدلالة كالاختيار بالصريح.t
ولو تصرف المشتري أو حدث العيب بهما وهما حيَّان فهو على خياره؛ لأن المبيع أحدهما وأحدهما لم يتعين البيع فيه بأولى من الأخر فكان على خياره فيرد الذي لم يخير وليس له أن يردهما بخلاف ما قبلهما قبل التعييب.
والفرق وهو: أن العقد ههنا قد لزمه في المبيع منهما وسقط خيار الشرط فيه فلا يتمكن من ردهما بخلاف ما قبل التعييب؛ لأن العقد هناك لم يلزمه في المبيع منهما وبقي خيار الشرط فكان له أن يردهما، أما ههنا بخلافه، وإذا ردَّ الذي لم يخير في مسألتنا لا يلزمه أن يغير النقصان استحساناً، والقياس أن يرد معه نصف أرش النقصان، ولو ماتا معاً لزمه نصف ثمن كل واحد منهما.(6/513)
ووجه القياس: أن بحدوث العيب فيهما هلك جزء منهما والجزء معتبر بالكل ولو هلكا معاً شاع الأمانة والضمان فيهما، فكذلك إذا هلك جزء منهما.
وجه الاستحسان: وهو أن خيار التعيين لم يسقط بحدوث العيب بهما؛ لأن المبيع محل لابتداء البيع فيكون محلاً للبيان، وإذا بقي خيار التعيين صح تعينه، فتعين عينه للبيع فيه، ومن ضرورة تعينه للبيع تعين الأخر للأمانة وتعيب الأمانة في يد الأمين لا يوجب عليه ضماناً بخلاف ما إذا ماتا؛ لأنه سقط خيار التعيين بموتهما؛ لأن الهلاك محلاً لابتداء البيع فيه، فلا يكون محلاً للتعيين، وإذا سقط خيار التعينين استحكمت الجهالة فكان طريق رفعها التوزيع والشيوع فلهذا لزمه نصف ثمن كل واحد منهما بخلاف ما نحن فيه، (85أ3) ثم هل يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: يشترط وهو المذكور في «الجامع الصغير» .
فقد ذكر فيه اشترى ثوبين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء وهو بالخيار وثلاثة أيام منهم من قال: لا يشترط وهو المذكور في «الأصل» و «الجامع» ، فإنه ذكر هذه المسألة في «الأصل» ولم يذكر خيار الشرط وهذا القائل يقول: إذا لم يذكر خيار الشرط يلزم العقد في أحدهما ولا يردهما، وإذا ذكر لا يلزم العقد في أحدهما وله أن يردهما، وذكر الكرخي هذه المسألة في كتابه ولم يذكر فيها خيار الشرط، وذكر أن له أن يردهما؛ لأن هذا الخيار عنده في معنى خيار الشرط ولهذا يشترط التأقيت فيه هذا إذا حصل البيع بشرط الخيار للمشتري، فإن حصل البيع بشرط الخيار للبائع، فإن قال البائع: بعتك أحد هذين الثوبين على أني بالخيار عيَّن البيع في أحدهما دون الآخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة ههنا ولا في بيوع «الأصل» .
وذكر الكرخي في «مختصره» : أنه يجوز استحساناً قالوا، وإليه أشار في «المأذون» ؛ لأن هذا بيع يجوز مع خيار الشرط، فيجوز مع خيار البائع قياساً على خيار الشرط.
وذكر في «المجرد» : أنه لا يجوز هذا العقد مع خيار المشتري إنما يجوز بخلاف القياس باعتبار الحاجة إلى اختيار ما هو الأرفق بحضرة من يقع الشراء له، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب البائع؛ لأنه لا حاجة له إلى الخيار لاختيار الأرفق؛ لأن المبيع كان معه قبل البيع فيرد جانب البائع إلى ما يقتضيه القياس هذا إذا باع أحدهما وشرط الخيار للمشتري ليأخذ أيهما شاء.
ولو لم يشترط الخيار للمشتري إنما باعه أحد الثوبين أو أحد العبدين بعشرة مثلاً، فإنه لا يجوز هذا العقد؛ لأن المبيع مجهول جهالة تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم، فإذا دفعها البائع إلى المشتري فماتا عند المشتري ضمن نصف قيمة كل واحد منهما؛ لأن أحدهما يبيع ملكه المشتري بالقبض بحكم الفاسد وصار مضموناً عليه بالقيمة، والأخر أمانة في يده وليس أحدهما بأن يجعل أمانة على التعيين بأولى من الآخر، وبيع الأمانة والضمان فيهما، ولو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول للعقد، كما في البيع الصحيح لو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول.(6/514)
وإن اعتقهما المشتري معاً عتق عليه أحدهما ملكه وكان على المشتري قيمته؛ لأنه ملكه بحكم عقد فاسد، وكان البيان إلى المشتري؛ لأن الذي نفذ عتقه فيه مضمون عليه، والقول في تعيين المضمون قول من عتق عليه.
ولو اعتق المشتري أحدهما قبل الآخر جاز عتقه في الأول وتعين هو معقوداً عليه تصحيحاً لإعتاقه، ولو قال المشتري: أحدكما حر كان باطلاً؛ لأنه جَمْعٌ، بينما يملك وبينما لا يملك، وأعتق أحدهما وفي مثل هذا لا يصح الإعتاق أصلاً.
وكذلك لو أعتق البائع أحدهما بغير عينه كان باطلاً؛ لأنه جمع بينما يملك وبين لا يملك؛ لأن أحدهما زال عن ملكه، وكذلك إذا قالا: جميعاً أحدكما حر كان ذلك باطلاً حتى لا يعتق واحد منهما، وإن قالا: جميعاً وأحدهما قبل الأخر هما حران عتقا؛ لأن كل واحد أعتق ما يملك وما لا يملك فيصح إعتاقه فيما يملك ولا يصح فيما لا يملك وتقرر على المشتري قيمة الذي نفذ عتقه فيه ويكون الخيار إليه لما قلنا.
وإن مات المشتري قبل التعيين كان الخيار لورثته؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري باعتبار أنه وجب عليه القيمة والقول في تعيين القيمة إليه، وبعدما مات المشتري فالقيمة تجب على الورثة في تركة الميت فيكون البيان إليهم أيضاً، ولو أن البائع أعتق أحدهما بعينه بعدما قبضهما المشتري لم ينفذ عتقه.
وإن رفع الأمر الى القاضي حتى ردهما القاضي على البائع بحكم فساد البيع نفذ إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع صادف محلاً مملوكاً للبائع؛ لأن زوال ملك البائع بالبيع إنما كان ضرورة الثبوت للمشتري، وملك المشتري إنما ثبت في المنكر فيزول ملك البائع عن المنكر أيضاً، والإعتاق صادف المعين فكان مصادفاً ملك البائع إلا أنه لم ينفذ في الحال؛ لأن للمشتري خيار التعيين، ولو نفذ الإعتاق يبطل خيار المشتري وقد زال هذا المعنى ههنا، فوجب القول بنفاذ العتق بين هذا وبينما إذا أعتق البائع العبد المبيع بشرط الخيار للمشتري البيع حيث لاينفذ العتق.
والفرق وهو: أن شرط الخيار للمشتري لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع وإنما يعود بعد ذلك إلى ملك البائع بسبب الفسخ، والفسخ لم يوجد بعد، فلم يكن السبب قائماً حتى يتوقف العتق باعتبار النظر الى سبب الملك، أما ههنا بخلافه.
وفرق بين هذا وبين الموصى له يأخذ العبيد الثلاثة إذا أعتق أحدهم بعينه بعد موت الموصي، ثم عين الوارث الوصية فيه حيث لاينفذ عتقه.
والفرق وهو: أن الموصى له إنما يملك الموصي به بالوصية ابتداءً والوصية صادفت المنكر والسبب المصادف المنكر في حق المعين كالمعلق بخطر البيان، والسبب القاهر لايكفي لتوقف العتق، أما ههنا بخلافه على ما مر، ولو أن القاضي لم ينقض البيع حتى أعتق المشتري العبد الذي أعتقه البائع نفذ ذلك منه وبطل إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع موقوفاً فيه، وكان للمشتري خيار التعيين فإذا أقدم على إعتاق هذا العبد صار ذلك منه تعييناً للبيع فيه فتعين وطرأ الإعتاق النافذ على الإعتاق الموقوف فأبطله.
وكذلك لو مات(6/515)
هذا العبد من غير أن يعتقه المشتري بطل إعتاق البائع، لأنه لما مات تعين هو مبيعاً فلو أن البائع أعتق العبدين جميعاً بعد قبض المشتري، ثم نقض القاضي البيع فيهما عتق على البائع أحدهما، والخيار إليه؛ لأن أحدهما باقي على ملك البائع وقت الإعتاق، والآخر لا يدخل ملكه بحكم البيع الفاسد، والزائد عن ملك البائع بسبب البيع الفاسد لايتوقف فيه إعتاق البائع، ما الذي بقي على ملكه ينفذ الإعتاق فيه ويكون التعيين الى البائع.
وكذلك لو أعتق البائع أحد العبدين بعينه، ثم إن المشتري أعتق العبد الآخر أو دبر أو مات الآخر في يد المشتري نفذ عتق البائع فيه، وكذلك إذا اختار المشتري البيع في الآخر نصاً، وكذلك لو أعتق البائع العبدين، ثم إن المشتري أعتق أحدهما بعينه نفذ عتق البائع في الآخر فيتوقف عتق البائع في هذه المسائل، وإنما توقف؛ لأنه نفذ فيهما يبطل خيار المشتري، ولو نفذ في أحدهما يتعين الآخر للبيع من غير اختيار المشتري نصاً أو دلالة ولا وجه إليه وتعذر القول بالبطلان؛ لأنه إنما يبطل من حيث إنه صادف ملك المشتري ومثل اختيار المشتري ملك المشتري، ليس بثابت قطعاً بل الحال يتردد بين أن يكون ملك المشتري وبين أن يكون باقياً على ملك البائع فقلنا: بالتوقف لهذا، وكل جواب عرفته في البيع الفاسد بعد القبض، فكذلك الجواب في البيع الصحيح قبل القبض؛ (85ب3) لأن البيع الصحيح يزيل الملك بنفسه فصار نظير البيع الفاسد بعد القبض، ولو أن البائع أعتقهما قبل قتل المشتري بحكم العقد الفاسد عتقا؛ لأن أحدهما ليس بمبيع والآخر كان مبيعاً، إلا أنه باقي على ملكه لعدم التسليم، وكان المشتري قبض أحدهما في البيع الفاسد فأعتقه البائع، ثم إن المشتري قبض الآخر وأعتق أحدهما إن أعتق الذي أعتقه البائع نفذ إعتاق المشتري وتعين مبيعاً، ويبطل إعتاق البائع وغرم المشتري قيمته ورد الآخر، وإن أعتق المقبوض آخراً تعين هو مبيعاً ورد المقبوض أولاً ونفذ فيه إعتاق البائع، ولو قبض المشتري أحدهما فمات في يديه تعين هو مبيعاً؛ لأنه لو قبضهما ومات أحدهما تعين الميت مبيعاً مع أن الحي يزاحم الميت في الملك؛ فلأن يتعين الميت هنا مبيعاً والحي لا يزاحم الميت في الملك لانعدام القبض في الحي كان أولى، ولو لم يمت المقبوض حتى أعتق المشتري الذي لم يقبضه بطل الإعتاق؛ لأن الذي لم يقبضه إن كان أمانة فإعتاقه باطل وإن كان مبيعاً فهو مبيع بيع فاسد لم يملك لعدم القبض فصادف الإعتاق
محلاً ليس بمملوك له فكان باطلاً.
ولو قبض أحدهما ثم قبض الآخر ثم أعتق المقبوض آخراً جاز عتقه ويتعين هو مبيعاً، وكذا إذا مات يتعين الميت مبيعاً فقد جعل موت أحدهما أو أعتق أحدهما تعييناً للعقد في المعتق والميت، ولم يجعل قبض أحدهما تعييناً للعقد في المقبوض، وكذا الجواب في العقد الجائز.
والمعنى الجامع بينهما وهو: أن جواز هذا العقد إنما كان باعتبار الحاجة إلى اختيار ماهو الأرفق، وذلك إنما يكون بعد قبضهما، وعسى (أن) لا يتهيأ له قبضهما معاً، ولو جعل قبض أحدهما تعييناً للعقد في المقبوض يفوت له هذا العوض فيعود إلى(6/516)
موضوعه بالبعض، وإنه لا يجوز بخلاف الإعتاق والموت.
إما في الإعتاق؛ فلأن هناك لما أنه أقدم على الإعتاق فقد قصد صحته ولا صحة للإعتاق إلا، وأن يتعين معقوداً عليه ضرورة بخلاف القبض؛ لأن القبض كما يصح في الملك يصح في غير الملك؛ فلأن يكون قبض أحدهما تعييناً للعقد فيه وفي الموت إنما يتعين الميت للعقد ضرورة أنه لا يمكن نقض العقد في الباقي بالشك، وهذه الضرورة لا توجد في قبض أحدهما بدون الموت والإعتاق.
وشرط في «الكتاب» : أن يكون القبض بإذن البائع؛ لأن قبض المشتري في البيع الفاسد بغير الافتراق عن المجلس إنما نعيد الملك إذا كان بإذن البائع، وكذلك الجواب في الهيئة الفاسدة، فأطلق الجواب في اشتراط الإذن إطلاقاً تحرزاً عن القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذن البائع.
قال محمد في «الجامع الصغير» : رجل باع من آخر عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما فالبيع باطل، فهذه المسألة في الحاصل على أربعة أوجه:
إما أن لا يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأن المبيع مجهول؛ لأن الخيار يمنع حكم العقد في مدة الخيار فالذي فيه الخيار هو غير داخل في الحكم، وإنه مجهول لم يعين، وإذا لم يكن غير الداخل في الحكم معلوماً لم يكن الداخل في الحكم معلوماً، فهو معنى قولنا: أن المبيع مجهول.
وإما أن لا يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه العقد فاسد أيضاً لجهالة المبيع على ما بينا.
وإما أن يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه فاسد فيه الخيار ويفصل الثمن بأن قال كل واحد منهما بخمسمائة، وفي هذا الوجه العقد جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن كذلك.
فرق بين الوجه الثالث وبينما إذا اشترى عبدين أحدهما مدبر أو مكاتب أو اشترى جاريتين فإما أحدهما أم ولد، فإن العقد ينعقد في حق القن بوصف الصحة، وإن كان انعقاد العقد في حق القن في هذه المسائل بالحصة؛ لأن العقد لا ينعقد في حق المكاتب والمدبر وأم الولد، فمن مشايخنا من لم يشتغل بالفرق فقال: على قياس هذه المسألة لاينعقد العقد في حق القن في تلك المسائل ويصير ماذكر هنا رواية في تلك المسائل.
ومنهم من اشتغل بالفرق وهو الصحيح.
والفرق ماذكرنا: أن شرط الخيار يمنع انعقاد البيع في حق الحكم ويجعل العقد في حق الحكم كالمعدوم فيما شرط فيه الخيار وإذا لم ينعقد في حق الحكم في حق المشروط فيه الخيار، لو انعقد في حق الآخر ينعقد ابتداءً بالحصة، والعقد لاينعقد ابتداء بالحصة إما في المدبر والمكاتب، وأم الولد العقد منعقد في حق الحكم إذ لم يوجد في حقهم ما يمنع انعقاد البيع، ولهذا لو قضى القاضي يجوز بيع هؤلاء لكن لم يثبت الحكم بحق محترم واجب الصيانة يحصل بمجرد منع الحكم، فلا ضرورة إلى أن يجعل العقد(6/517)
غير مباشرة في حق الحكم كما انعقد في حق القن، ثم وجب قسمة الثمن بعد ذلك عند فسخ العقد على هؤلاء، والانقسام ابتداءً يكون بالحصة ولا يوجب خلالاً في العقد.
ولو كان المبيع شيئاً واحداً عبداً أو مكيلاً أو موزوناً وقد اشتراه بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو للمشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو المشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه.
والفرق وهو: أن النصف من الشيء الواحد لايتفاوت وثمنه أيضاً لا يتفاوت، وإذا كان ثمن الكل معلوماً كان ثمن النصف معلوماً أيضاً.
فأما العبد الواحد من العبدين يتفاوت وثمنه أيضاً يتفاوت فكان حصة المبيع من الثمن مجهولاً، وإذا جاز البيع مع شرط الخيار في النصف، فإن كان الخيار للمشتري كان له أن يؤد النصف الذي شرط له الخيار فيه إن شاء، وإن شاء أجاز العقد فيه فإن أجاز العقد لزمه الكل، وإن رد انتقص العقد في النصف، وإن كان في رد النصف تفريق الصفقة على البائع وتنقيص المعقود عليه إلا أن البائع رضي بهذا التفريق؛ لأنه أثبت الخيار للمشتري في النصف والخيار مشروط للفسخ فيكون راضياً بفسخ العقد في النصف بتفريق الصفقة عليه.
قال في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر عبدين كل منهما بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه، البائع حتى جاز العقد على ما مر قبل هذا، فقال المشتري: أنا آخذ الذي لاخيار فيه وأنقد ثمنه لم يكن له ذلك؛ لأن البائع مسلط على إجازة البيع في الذي فيه الخيار، وعلى اعتبار الإجازة يجعل كأن البيع وقع بابا من الأصل.
فيتبين أن المشتري فرق الصفقة على البائع في القبض والمشتري كما لا يملك تفريق الصفقة للبائع في العقد حتى لو أراد أن يقبل العقد في البعض دون البعض ليس له ذلك، لا يملك تفريق الصفقة في حق القبض ولكن يتوقف الأمر إن فسخ البائع البيع في الذي فيه الخيار، فقد تفرقت الصفقة وكان للمشتري أن يأخذ الأجر بثمنه، فإن أجاز العقد فيه أو سقط الخيار فيه بمضي المدة أخذ الكل بجميع الثمن وأبى المشتري لايجبر عليه.
ولو أراد البائع أن يسلم الذي لا خيار فيه الى المشتري وتوقف العقد الأخر وقال المشتري: لا أقبل ولا أعطيك شيئاً من الثمن حتى (86أ3) عبر البيع في الآخر وأحدهما أو بفسخ العقد فيه يأخذ العبد الذي تم البيع فيه بحصته فذلك إلى المشتري؛ لأن على اعتبار إجارة البيع في الآخر تبين أنه فرق الصفقة على المشتري في القبض وليس له ذلك الولاية، ولو أراد البائع أن يدفع العبدين إلى المشتري ويأخذ ثمنها لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأن الذي فيه الخيار لم يملكه المشتري، والإنسان لايجبر على قبض ما لم يملكه.
وإن قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما ليس له ذلك إلا برضاء البائع؛(6/518)
لأن الذي فيه الخيار بقي على ملك البائع والإنسان لا يجبر على تسليم ملكه إلى غيره ولكن الأمر موقوف حتى يظهر الفسخ من البائع أو الإجازة، فإن أجاز البائع البيع قبضهما المشتري جميعاً، وإن فسخ قبض الذي وجب البيع بثمنه ولا يجبر المشتري بسبب تفريق الصفقة عليه لرضاه بذلك.
ولو كان الخيار في هذه الصورة فأراد المشتري أن يأخذ العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه إلى البائع لا يجبر البائع عليه لما مر، أن فيه تفريق الصفقة على البائع على اعتبار إجازة المشتري البيع في الآخر، وكذلك لو أراد البائع أن يسلم إلى المشتري العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه وأبى المشتري ذلك فذلك إلى المشتري.
ولو قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما وأكون على خياري؛ فأبى البائع ذلك، لا يجبر البائع عليه، ولو قال البائع للمشتري: أعطيك العبدين وآخذ الثمنين وأنت على خيارك لايجبر عليه؛ لأن هذا جبر على تسليم مالم يلزم المشتري وهو ثمن المشروط فيه الخيار، وقد مر شيء من هذا الجنس في آخر النوع الثاني من هذا الفصل.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أخذ من رجل واحد بعشرين وآخر بثلاثين وآخر بعشرة على أن يأخذ منها أيها شاء فضاعت عنده معاً لزمه ثلث ثمن كل واحد منهما، ولو ضاع واحد لزمه ثمن الأول وهو في الآخرين معاً ثمن.
ولو احترق ثوبان ونصف منها معاً فإنه يرد النصف الباقي ولزمه نصف ثمن كل واحد منهما، ألا ترى أنهما لو كانا ثوبين فاحترق أنصافهما معاً كان له أن يردهما معاً ويلزمه الآخر بثمنه، ولو احترق أحدهما ونصف الآخر معاً، فإنه يرد النصف الباقي ولزمه الآخر بثمنه، وليس له أن يمسك هذا النصف بجميع ثمنه ويجعل الأمانة في الهالك.
ابن سماعة عن محمد رحمه (الله) : رجل اشترى إحدى أمتين على أنه بالخيار فيهما جميعاً يأخذ أيتهما شاء إن شاء هذه بألف وإن شاء هذه بخمسمائة، فوطء المشتري الأمتين وحملتا منه، ثم اختلف البائع والمشتري فقال المشتري وطئت هذه أولاً، وقال البائع: بل وطئت هذه الأخرى أولاً، فالقول قول المشتري في التي وطئها أولاً ويلزمه ويثبت ولدها منه وتكون أم ولد، وأما التي زعم البائع أن المشتري وطئها أولاً فلا سبيل للبائع ولا للمشتري عليها، أما للمشتري فظاهر فلأن البائع حين زعم أنه وطئها أولاً فقد زعم أنها ولد للمشتري، وأنه لا سبيل له عليها وزعمه معتبر في حقه وتكون موقوفة إلى أن يموت المشتري فيعتق عند موته بإقرار البائع، ولا يلزم المشتري ثمن هذه الجارية؛ لأن زعم البائع حجة في حق المشتري.
قال ابن سماعة: وينبغي أن يلزم المشتري عقر الجارية التي زعم البائع أنه وطئها أولاً، ويكون العقر له من الثمن الذي لا يغير واحد منهما على النفقة عليها ولكن تكتسب فتأكل من ذلك.
ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء أخذ هذا بعشرة وإن شاء أخذ هذا بعشرين، وإن شاء أخذهما جميعاً فصبغ(6/519)
أحدهما واختاره، والأخر فقال البائع: أخترت الذي ثمنه عشرون، وقال المشتري: بل أخترت الذي ثمنه عشرة فالقول في الثمن قول المشتري.
وهو بمنزلة رجل اشترى ثوباً وصبغه، ثم اختلفا في قيمته ولا سبيل للبائع على الثوب؛ لأن الصبع زيادة فيه وليس هذا كالغضب، ولو أن المشتري قطع الثوب قميصاً ولم يخطه، ثم اختلفا في الثمن، فإن شاء البائع أخذ ما أقر به المشتري له من الثمن، وإن شاء أخذ الثوب مقطوعاً، وإن كان القطع قد زاد فيه مثل الصبغ فلا سبيل للبائع عليه، وله ما أقر به المشتري.
المعلى عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أحدهما بثمن مسمى فضاع أحدهما، وقطع الآخر فقال المشتري: أجزت الذي قطعت، ثم ضاع الآخر وأنا أمين فيه، وقال البائع أجزت الذي ضاع، ثم قطعت الآخر فعليك قيمة الذي قطعت مع ثمن الذي ضاع، فإن المشتري ضامن نصف ثمن الذي ضاع ونصف قيمة الذي قطع ونصف ثمنه.
نوع آخر في شرط الخيار لغير العاقد
يجب أن يعلم أن من اشترى شيئاً أو باع شيئاً اشترط الخيار لثالث، فالقياس: أن لايجوز العقد، وبالقياس أخذ زفر رحمه (الله) ، وفي الاستحسان: يجوز العقد ويثبت الخيار للعاقد، ثم يصير المشروط له بالخيار وكيلاً من جهة في الفسخ والإجازة، وإنما كان كذلك، وذلك لأن تقدير هذا الشرط عندنا كأن العاقد شرط الخيار لنفسه، ثم وكل المشروط له الخيار بالتصرف بحكم الخيار. /
ولو صرح بهذا كان العقد جائزاً؛ فإنه لو قال: بعت على أني بالخيار، ثم وكلت فلاناً بالتصرف بحكم الخيار، إن شاء أجاز وإن شاء فسخ صح، وصار فلان وكيلاً من جهته إذا علم بذلك، فكذلك إذا كان تقديره هذا وإنما جعلنا تقديره هذا؛ لأن اشتراط مايجب بالعقد لغير العاقد لايجوز بحكم الوكالة والنيابة فيصح من هذا الوجه حملاً لكلامه على الجواز.
هذا كما قال علماؤنا رحمهم الله: فيمين قال لآخر: أعتق عبدك عني بألف فأعتق فإنه يصير الأمر مستوياً منه أولاً ثم موكلاً إياه بالعتق تصحيحاً للأمر، حتى لا يلغو فكذلك هذا، وأيهما أجاز أو نقض صح ذلك؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه، أما المشتري فظاهر، وأما المشروط له الخيار؛ فلأنه وكيل من جهة المشتري بالفسخ والإجازة، وإن أجاز أحدهما ونقض الآخر فإن عرف السابق منهما أولى؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه فعقد حال وجوده أفاد حكمه ولا يعمل الآخر بعد ذلك، وإن خرج الكلامان معاً، ذكر في «المأذون الكبير» أن الفسخ أولى، وذكر في بيوع «الأصل» أن تصرف المشتري أولى نقضاً كان أو إجازة.(6/520)
وجه ماذكر في بيوع «الأصل» : أن العمل بالأمرين جميعاً متعذر؛ لأن العقد الواحد لا يجوز أن يكون مفسوخاً كله وغير مفسوخ فلا بد من إثبات أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: إثبات تصرف المشتري وإلغاء تصرف الوكيل أولى؛ لأن تصرف المشتري أصل؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وتصرف الوكيل بناء عليه فيكون كالبيع له، ولا شك أن إلغاء المبيع واعتبار الأصل أولى وجه ما ذكر في «المأذون» : أن العمل بهما لما تعذر ووجب العمل بأحدهما كان العمل بالفسخ أولى لوجهين:
أحدهما: وهو أن الاحتياط فيه، فإن الفسخ يوجب الحرمة على المشتري، والإجازة توجب الإباحة، فإذا اجتمعا رجحنا المحرم على المبيح.
فإن قيل: هذا اعتبار جانب المشتري وإنه يوجب أن يكون الفسخ أولى فاعتبار جانب البائع يوجب أن تكون الإجازة أولى؛ لأن الإجازة تثبت حرمة في حقه، والفسخ يثبت إباحة في حقه، فيجب أن تكون الإجازة أولى باعتبار جانب البائع فلم يصر المشتري بهذا الاحتياط أولى (86ب3) من البائع والجواب عنه أن مراعاة الاحتياط من كلا الجانبين متعذر، فلا بد من مراعاة أحد الجانبين فكان مراعاة جانب المشتري أولى، لأنا نحتاج في جانبه الى إثبات الحل ابتداء؛ لأنه لم يكن ثابتاً له، وفي جانب البائع نحتاج إلى إبقاء الحل؛ لأن الحل كان ثابتاً له وبالفسخ يعود إليه قديم ملكه ويحل له قديم ملكه فيكون إبقاءً باعتبار قديم الملك لا إثباتاً مبتدأ، وأي جانب راعيناه فقد راعيناه مع الشك، إذا لم يعرف السابق، فنقول مراعاة جانب المشتري بالاحتياط أولى؛ لأن البقاء مع الشك أخف من الإثبات ابتداءً بالشك؛ لأن الشيء يبقى مع الشك ولا يثبت ابتداء مع الشك، فلهذا كان مراعاة الاحتياط في جانب المشتري أولى من مراعاة الاحتياط في جانب البائع.
والثاني: أن الإجازة لا ترد على الفسخ، فإن المفسوخ لا يجاز لفسخ يرد على الإجازة لا المجاز بفسخ، فإذا اجتمعا معاً كان الفسخ أولى.
كنكاح الحرة مع نكاح الأمة إذا اجتمعا كان نكاح الحرة أولى بالجواز؛ لأنه يرد على نكاح الأمة، ونكاح الأمة لا يرد على نكاح الحرة فعند الاجتماع كان نكاح الحرة أولى، وكما قلنا في العتق والبيع إذا توقفا فأجاز المالك كلاهما كان العتق أولى؛ لأن العتق يرد على البيع والبيع لايرد على العتق، فعند الاجتماع كان العتق أولى فكذلك هذا.
قيل: ما ذكر في البيوع قول محمد، وما ذكر في «المأذون» قول أبي يوسف؛ لأن محمد رحمه الله يقدم ولاية الملك على ولايته، وأبو يوسف يسوي بينهما أصله: في الوكيل بالسلم أو بشراء شيء بغير عينه إذا عقد ولم تحضره البينة، فعلى قول محمد يقع للوكيل، وعند أبي يوسف بحكم النقد.
وقيل: ما ذكر في البيوع و «المأذون» من ترجيح أحد التصرفين على الآخر قول أبي حنيفة، فأما على قول محمد: ينبغي أن تصح الإجازة في النصف والفسخ في النصف، ثم يكون للمشتري الخيار، إن كان الخيار مشروطاً للبائع وللأجنبي لتفرق الصفقة على(6/521)
المشتري، وإن كان الخيار مشروطاً للمشتري وللأجنبي فللبائع الخيار لما يلحقه من الضرر بسبب عيب الشركة ويفرق الصفقة، وإنما قالوا هذا قياساً على مسألة أخرى اختلف فيها أبو حنيفة ومحمد، وهو أن الوكيل بالبيع إذا باع الموكل وخرج الكلامان معاً وباع كل منهما من رجل.
قال أبو حنيفة رحمه الله: بأن بيع الموكل أولى، وقال محمد: يجوز بيع كل واحد منهما في نصف العبد وتكون العهدة عليهما يخير كل واحد من المشتريين إن شاء رضي كل واحد منهما بنصف العبد وإن شاء رد، فأبو حنيفة رحمه الله لم يعمل بالتصرفين متى كان التصرف تبعاً، بل طلب الترجيح لأحدهما وعمل بالراجح وأبطل الآخر فكذلك في الفسخ والإجازة لا يعمل بهما بل يطلب الترجيح لأحدهما بالراجح على رواية كتاب البيوع تصرف الموكل بسبب الأصالة، ورجح في «المأذون» الفسخ على الإجازة من أيهما وجد، للوجهين اللذين ذكرنا فأما محمد رحمه الله لم يشتغل بالترجيح في بيع الوكيل والموكل بل عمل بقدر الإمكان، وأثبت تصرف كل واحد منهما في النصف متى أجاز أحدهما وفسخ الآخر تثبت الإجازة في النصف والفسخ في النصف.
نوع آخر في البيع والشراء لغيره مع شرط الخيار
هذا النوع يشتمل على قسمين في البيع، وقسم في الشراء.
فأما قسم البيع: قال محمد رحمه الله: رجل أمر رجلاً أن يبيع عبده وأمره أن يشترط الخيار للآمر ثلاثة أيام فباعه ولم يشترط الخيار لم يجز البيع؛ لأنه خالف أمر آمره إلى سر؛ لأنه أمره ببيع يلزمه ولا يزيل ملكه إلا برضاه، وقد أتى ببيع يلزمه ملكه من غير رضاه، فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا وبين المأمور بالبيع الفاسد إذا باع بيعاً جائزاً، فإنه ينفذ على الآمر.
والفرق: وهو أن البيع الفاسد نوعان: نوع يزيل الملك بنفسه، وهو ما إذا كانت السلعة مقبوضة، ونوع لايزيل الملك بنفسه وهو إذا لم تكن السلعة مقبوضة، وكلا النوعين داخل تحت عقد الوكالة فلا يتحقق الخلاف من هذا الوجه، لو تحقق إنما يتحقق من حيث اسقاط الخيار، وذلك خلاف إلى ما ينفعه؛ لأن الخيار الثابت بحكم فساد العقد مستحق على العاقد، فإنه يفترض عليه الفسخ إزالة للفساد ودفعاً للحرام، فإذا باع الوكيل بيعاً صحيحاً فقد أسقط عنه حقاً مستحقاً عليه فكان خلافاً إلى خير فلا يعد خلافاً، فأما خيار الشرط يثبت حقاً له؛ لأنه ينتفع به فكان تركه وإسقاطه خلافاً إلى سر فيعتبر خلافاً، فإن باعه وشرط الخيار للآمر كما أمره به نفذ تصرفه عليه؛ لأنه وافق أمره ويثبت الخيار له ولآمره؛ لأن القياس يأبى شرط الخيار لغير العاقد إلا أنا جوزنا ذلك بطريق، وهو أن العاقد لما شرط الخيار لغيره فقد قصد تصحيحه، وأمكن تصحيحه بجعله شارطاً الخيار لنفسه بطريق الاقتضاء أولاً، ثم عاجلاً ذلك الغير نائباً ووكيلاً عن نفسه في الفسخ والإجازة ولهذا إلى زفر، شرط الخيار لغير العاقد؛ لأن شرط الخيار لغير العاقد إنما كان(6/522)
بطريق شرط الخيار للعاقد بطريق الاقتضاء، وزفر لا يقول بالمقتضيات، فإن فسخ الوكيل العقد صح فسخه كما لو شرط الخيار لنفسه لا غير، وإن أجاز بطل خياره وخيار الآمر؛ لأن ذلك ثابت بطريق النيابة، ولكن العقد لايلزم على الآمر بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لم يرض بلزوم العقد عند رضاء الوكيل واختياره يكون له خيار الإجازة لا خيار الشرط.
ولهذا لا يتوقت هذا الخيار بعد إجازة الوكيل بمدة الخيار، وقالوا: كأن الآمر أمره بالبيع مطلقاً فباع وشرط الخيار للآمر أو للأجنبي صح عملاً بإطلاق اللفظ، فإن مطلق اسم البيع كما يتناول البيع الثابت يتناول البيع بشرط الخيار، وأيهما يصرف فسخاً أو إجازة يريد به العاقد والمشروط له الخيار صح تصرفه، لما ذكرنا أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة بحكم الخيار.
فيصح فسخ العاقد، وإجازته بحكم اشتراط الخيار، ويصح فسخ المشروط له الخيار وإجازته بطريق النيابة والوكالة عن العاقد، ويلزم هذا العقد بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لما أمره بالبيع مطلقاً يتناول البيع، مع أن اسم البيع مطلقاً يتناول البيع الباب والبيع بشرط الخيار فقد رضي بلزوم العقد عند رضاء الوكيل فلم يصر بإسقاط الخيار بالإجازة بمنزلة الفضولي، فلا يتوقف على إجازة الآمر بخلاف ما تقدم.
وإن فسخ أحدهما وأجاز الآخر وخرج الكلامان منهما معاً ففي رواية «كتاب المأذون» الفسخ أولى؛ لأنه ألزم، وفي رواية كتاب البيوع تصرف المالك أولى؛ لأنه أقوى، وإن أمره بالبيع بشرط الخيار لنفسه أي للمأمور فباع بشرط الخيار لنفسه أو للآمر أو للأجنبي فإنه يجوز، أما اذا شرط الخيار لنفسه فظاهر، وأما إذا شرط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن اشتراط الخيار لغير العاقد اشتراط للعاقد، وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة فصار شارطاً الخيار لنفسه كما أمره به فيجوز.
وأما قسم الشراء قال محمد رحمه الله: وإذا أمر الرجل رجلاً بأن يشتري له عبداً بعينه أو بغير عينه، وسمى له ثمناً أو جنساً حتى صح الأمر، وأمره أن يشترط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد، ولو أمره أن يشترط الخيار للآمر فاشتراه بغير خيار، أو شرط الخيار لنفسه لاينفذ على الآمر؛ لأنه خالفه عما ينفعه إلى ما يضره (87أ3) فإن أمره شراء لايلزمه إلا برضاه، وقد أتى بشراء يلزمه من غير رضاه فلا ينفذ على الآمر، ولكن يلزم المأمور بخلاف المبيع، فإنه إذا أمر بالبيع بشرط الخيار، أو باع بشرط الخيار لنفسه حيث لاينفذ أصلا لا على الآمر ولا على المأمور.
وكذلك لو أمره بأن يشترطه الخيار لنفسه يعني للوكيل فاشتراه بغير خيار لنفسه فقد أمره شراء يلزمه برضاء المأمور، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد رضي المأمور بلزوم هذا الشراء للآمر هذا الشراء للآمر فهذا شراء دخل تحت الأمر فينفذ على الآمر، والجواب عنه: أن الآمر لما أمره بشرط الخيار لنفسه، فإنما رضي بشراء لا يلزمه بنفسه، وإنما يلزمه بإجازة توجد بعد العقد، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد أراد أن يلزمه هذا(6/523)
الشراء بنفسه فصار مخالفاً الأمر، فلا يلزم الآمر ويصير المأمور مشترياً لنفسه على ماذكرنا، ولو أمره أن يشترط الخيار لنفسه أي للآمر، فاشترى وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى نفذ على الآمر، ثم أجاز المأمور البيع بطل خياره، والآمر على خياره، وإنما كان كذلك لما ذكرنا، أن خيار الشرط لغير العاقد يقتضي بثبوته للعاقد، وإذا ثبت الخيار للعاقد بطل بإبطاله، إلا أنه لايلزم الآمر لما ذكرنا، أن الآمر ما رضي بلزوم هذا العقد من غير اختياره فيتوقف على إجازته واختياره.
واختلف المشايخ في أن الباقي للآمر بعد إجازة الوكيل خيار شرط أم خيار آخر، بعضهم قالوا: شرط؛ لأنه ذو حظ من هذا العقد، فإن المبيع يدخل في ملكه ويجب الثمن في ذمته، فصح اشتراط الخيار له على طريق الخصوص، فلا يبطل إلا بإبطاله، وقال بعضهم: لا يبقى له خيار شرط لما ذكرنا، أن ثبوت شرط الخيار لغير العاقد بطريق النيابة من العاقد، فإذا أبطل العاقد خياره بطل خيار الأصل فيبطل خيار الثابت ضرورة، ولكن يبقى له خيار آخر، وهو أنه مارضي بالتزام حكم العقد وعدم التزامه كما في مسألة البيع، وهذا أقيس، وإن كان شراء الفضولي لايتوقف على الإجازة، إلا أنه إنما لا يتوقف إذا وجد نفاذاً على المشتري، كما إذا اشترى شيئاً لغيره بغير أمره، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار للآمر حتى صار مخالفا وجد نفاذاً على المشتري فنفذ عليه، فأما إذا شرط الخيار للآمر كما أمر به لم يجد نفاذاً على المشتري، وإن أجاز لتعلق حق البائع والآمر به، فيتوقف على إجازة الآمر كما في البيع، وصار الشراء الذي لا يجد نفاذاً على المشتري في حق التوقف على إجازة الآمر العقد بعد ذلك كان العبد له؛ لأنه التزم حكم العقد، فإن رد كان العبد للوكيل، حتى لو هلك العبد بعد ذلك في يد الوكيل هلك من مال الوكيل؛ لأن الإجازة من الوكيل قد صحت، إلا أنها لم تعمل في حق الآمر بحصته، فإذا زال حقه بالنقض عملت الإجازة السابقة عملها في حق الوكيل، فدخل العبد في ملك الوكيل وضمانه، فإذا هلك يهلك من ماله.
ونظير هذا الوكيل بالبيع إذا رد عليه بالعيب من غير قضاء القاضي، فإنه يتوقف على قبول الموكل، فإن قبل لزمه وإن رد الوكيل، والمعنى ماذكرنا كذا هنا، ولو أن الوكيل لم يرض به ولم يجز البيع من الابتداء حتى قال الآمر للوكيل: رد العبد فلا حاجة لي فيه، فهلك بعد هذا القول في يد الوكيل هلك من مال الآمر؛ لأن العبد دخل في ضمان الآمر بقبض الوكيل؛ لأن يد الوكيل يد الآمر، وبقول الآمر: رد العبد، لم ينفسخ العقد؛ لأن هذا ليس بفسخ للعقد بل هو أمر بالفسخ، لا يكون فسخاً فبقي العين في ضمان الآمر، فإذا هلك يهلك من مال الآمر، وقول محمد رحمه الله في «الكتاب» على وجه التعليل هذا ليس بنقض حتى ينقض بمحضر من البائع، ليس المراد منه إنه نقض في نفسه لكنه لم يعمل لعند البائع كما ظنه بعض أصحابنا، وإنما المراد أنه ليس بنقض في نفسه حتى يبتدئ النقض بحضرة البائع.
قال مشايخنا: وإنما يشترط حضرة البائع لابتداء النقض على قول أبي حنيفة(6/524)
الذى كان قبل
ومحمد، وأما على قول أبي يوسف: يصح ابتداء النقض، وإن لم يكن بحضرة البائع والمسألة معروفة، فإن قال الوكيل بعد ما قال الآمر رد هذا العبد: رضيت بهذا العقد، ثم هلك العبد في يد الوكيل هلك من مال الآمر لما ذكرنا، أن بقول الآمر رد هذا العبد لم ينفسخ العقد، وقول الوكيل رضيت بهذا العقد لا يعمل في حق الآمر، فبقي العبد على ملك الآمر، وضمانه، فإذا هلك يهلك من مال الآمر قال: ولو أن الآمر حين قال للمأمور: رد هذا العبد على البائع فلا حاجة لي فيه، باعه المأمور من رجل، فإنه يتوقف هذا البيع على إجازة الآمر؛ لأن العبد بعد قول الآمر رده، باقي على ملك الآمر وقد باعه بغير أمره، فيتوقف على إجازته كما توقف الأول على إجازته، من مشايخنا من قال: هذا الجواب يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن المشترى بشرط الخيار للمشتري لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وإذا لم يصر العبد مملوكاً للآمر عنده كيف يتوقف بيع العبد بعد ذلك على إجازته، والتوقف إنما يكون على إجازة المالك لا على إجارة غير المالك، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل.
ووجهه أن على قول أبي حنيفة إن لم يصر العبد مملوكاً للآمر، فسبب الملك في حقه هو الشراء وقد وجد، والحكم مستحق بقضية السبب فصار العبد كالمملوك له، نظراً إلى السبب فجاز أن يتوقف عند المأمور بعد ذلك على إجازته، أو يقول إن لم يكن العبد مملوكاً للآمر فهو أقرب الناس إلى إجازة هذا العقد فجاز أن يعطى له حكم المالك في حق إجازة هذا العبد، إذ يجوز أن يعطى للإنسان حكم المالك في حق بعض الأشياء، وإن لم يكن له حقيقة الملك لما أنه أقرب الناس إليها.
ألا ترى أن السبع إذا افترس الميت وبقي الكفن يرد إلى الورثة؟ لا لأنهم ملكوه ولكن؛ لأنهم أقرب الناس إليه فأعطي لهم حكم المالك كذا هنا، ثم إذا توقف البيع الثاني على إجازة الآمر لو أجاز الآمر البيع الثاني ينفذ البيع الثاني والبيع الأول؛ لأنه لما أجاز البيع الثاني فقد قصد تصحيح البيع الثاني ولا صحة للبيع الثاني إلا بعد نفاذ البيع الأول، ولا نفاذ للبيع الأول إلا بإجازته الأول فصار بإجازة الثاني في حكم (مجيز) البيع الأول فنفذ البيع الأول من وقت وجوده، ويثبت الملك له من ذلك الوقت، فحصل البيع على ملكه وقد لحقته الإجازة فنفذ، ويطيب له الربح إن كان في الثمن ربحاً؛ لأن البيع الثاني حصل على ملكه وضمانه، وإن نقض الآمر البيع الثاني صار الحال بعد نقض البيع الثاني كالحال قبل وجود البيع الثاني؛ لأنه لما نقض الآمر البيع الثاني وله ولاية نقضه صار وجوده والعدم بمنزلة، فصار الحال بعد نقض البيع الثاني، والحال قبل البيع الثاني سواء من هذا الوجه، وإن نقض الآمر البيع الأول بعد البيع الثاني لزم (87ب3) العبد المأمور؛ لأن إقدام المأمور على البيع الثاني إبطال للخيار وإمضاء للشراء بينه وبين البائع، كقوله: رضيت إلا أنه لم يعمل هذا الإبطال في حق الآمر بحقه، فإذا اختار بعض الشراء فقد أبطل حقه، فعمل ذلك الإبطال في حق الآمر عمله فصار العبد ملكاً للمأمور لهذا، ولكن لا ينفذ عليه بيعه الذي كان قبل(6/525)
ذلك؛ لأنه كان قبل ملكه، إذ ملكه حدث الآن، والبيع لا يتوقف على ملك سيحدث.
ألا ترى أن من باع شيئاً، ثم ملكه بسبب من الأسباب لا ينفذ ذلك البيع عليه، وإنما لم ينفذ عليه لما قلنا، فإن حدد المأمور بيعاً بعد ذلك وطاب الربح إن كان في الثمن الربح؛ لأن العبد صار ملكاً له من وقت البعض وإنه في يده وضمانه فحصل البيع على ملكه وضمانه فينفذ مع ظنه لهذا وإذا اشترى الرجل شيئاً لغيره بأمره وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى يثبت الخيار للآمر وللوكيل، ثم اختلف البائع والوكيل بعد ذلك فقال: إن الآمر قد رضي والآمر غائب، وأنكر الوكيل ذلك فالقول قول الوكيل؛ لأن البائع يدعي على الوكيل سقوط خياره بعد ما كان ثابتاً ووجب الثمن على الوكيل بعد ما لم يكن واجباً عليه، والوكيل ينكر ذلك فيكون القول قوله.
ألا ترى أنه لو ادعي الرضا على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل ذلك، كان القول قوله؟ فكذا هذا، ثم يكون القول قول الوكيل بلا يمين، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل كان القول قول الوكيل مع اليمين.
والفرق: أن الدعوى في مسألتنا توجه على الآمر مقصوداً، فإنه يدعي رضاء الآمر لا رضاء المشتري بيعاً ونقضاً؛ لأن رضاء الآمر متى ثبت سقط خيار المشتري ولزمه الثمن وحكم الأصل، وهذه الدعوى لم تصح في حق (هذا) الجانب، اليمين على من توجه عليه الدعوى مقصوداً وهو الآمر، فإن الآمر لو كان حاضراً وأنكر الرضاء لا يستحلف الآمر بهذه الدعوى فكيف يصح في حقٍ توجيه اليمين على من توجه عليه الدعوى تبعاً وهو المشتري، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على المشتري؛ لأن الدعوى هناك توجه على المشتري مقصوداً وهو أصل فيما ادعي عليه؛ لأن العقد في حق الحقوق للعاقد، كأنه اشترى لنفسه، وإنما لم تجب اليمين على الآمر متى كان حاضراً وادعى عليه الرضا، وذلك؛ لأن الأمر في حق حقوق العقد ثابت عن المشتري لما مر، والدعوى على الثابت لا تصح في حق الجانب اليمين عليه، وإن كان يصح في حق سماع البينة كالوكيل بالخصومة والأب والوصي وصحت الدعوى في مال اليتيم على هؤلاء في حق سماع البينة، ولم تصح في حق إيجاب اليمين فكذلك هنا.
وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن في استحلاف الوكيل في هذه المسألة روايتين، على أصح الروايتين: يستحلف الوكيل هنا إذا أنكر المشتري ما ادعاه البائع، ولم يقم البائع (بينة) على ما ادعى، فأما إذا أقام البائع البينة أن الآمر قد رضي، فإن البيع لازم للآمر، وإن كان الآمر غائباً؛ لأن المشتري انتصب خصماً عن الآمر حكماً؛ لأن البائع ادعى على المشتري حقاً بسبب ادعاه على الغاصب فيه، وبين المشتري والغائب إيصال سبب وهو الأمر ولا يثبت ما ادعى على المشتري إلا بإثبات ما ادعي على الغائب، فينتصب المشتري خصماً عن الغائب، وإن لم يقم له بينة على ذلك؛ لأن المشتري صدقه فيما ادعى من رضا الآمر، ثم حضر الآمر في مدة الثلاث وأنكر الرضا وادعى أنه نقض البيع بمحضر من البائع، ذكر أن الشراء يلزم المشتري ولا يلزم الآمر، حتى لا يكون(6/526)
للوكيل أن يرجع على الآمر بالثمن مدفوعاً إليه؛ لأن المشتري بإقراره أن الآمر رضي أقر على نفسه بسقوط حقه في الخيار ووجوب الثمن، وعلى الآمر بالرجوع بالثمن، فإذا أنكر الآمر الرضا صح إقرار الوكيل في حقه، ولم يصح إقراره في حق الآمر وصار وجود هذا الإقرار في حق الآمر وعدمه بمنزلة، ولو عدم فقال الآمر في مدة الخيار: كنت فسخت والبائع حاضر كان القول قوله؛ لأنه حكي أمراً يملك استئنافه للحال، ومن حكى أمراً يملك استئنافه للحال، فإنه يصدق فيما حكى، هذا إذا قال الآمر مدة المقالة في مدة الخيار، فأما إذا قال هذه المقالة بعد مدة الخيار فإن البيع يلزمه، ولا يكون مصدقاً فيما حكى؛ لأنه حكى مالا يملك استئنافه للحال فلزمه البيع بمضي المدة، لا بإقرار المشتري.l
ومما يتصل بهذا النوع: إذا باع الوصي أو الأب شيئاً من مال الصغير وشرط الخيار لنفسه فهو جائز، فإن بلغ الصبي في مدة الخيار تم البيع وبطل الخيار في قول أبي يوسف، وقال محمد في ظاهر الرواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، فإن أجاز البيع في مدة الخيار، وإن رد بطل، وجه قول أبي يوسف أن الخيار إنما يثبت حقاً للعاقد، لكونه من حقوق العقد وقد تعذر استيفاؤه بعد البلوغ لانقطاع الولاية فيسقط، ولا ينتقل إلى غير العاقد كما لا ينتقل إلى غير الوارث بعد موت المورث.
وجه قول محمد: أن الخيار من حقوق العقد والعقد وقع للصغير فكذا الخيار، إلا أنه كان يستوفيه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على الاستيفاء بالبلوغ يستوفيه، نظيره الملك، فإن الملك فيما يشتريه الأب والوصي للصغير يقع للصغير، إلا أنه كان يَتَصرف في ملكه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على التصرف بالبلوغ فلا كذا ههنا.
إذا ثبت أن الخيار للصبي بعد البلوغ على قول محمد يقول ليس للوصي أن يجيز وله أن يفسخ؛ لأن ولاية الإجازة بحكم الخيار ولم يبق له الخيار بعد البلوغ لانقطاع الولاية، أما يَملك الفسخ؛ لأنه لما شرط الخيار فقد بين أنه لم يرض بالتزام العهدة إلا عند وجود الإجازة منه، فإذا انعدمت الإجازة منه كان له أن يفسخ دفعاً للعهدة عن نفسه، ويجوز أن يثبت حق الفسخ للإنسان، وإن لم يكن له ولاية الإجازة كالفضولي إذا باع مال الغير كان له الفسخ قبل إجازة المالك، ولا يكون له أن يجيز كذا هنا.
وفي «النوادر» عن محمد ثلاث روايات، قال في رواية مثل ما قال أبو يوسف، وقال في رواية: ينتقض العقد؛ لأنه تعذر القول ببقائه مع الخيار وبدون الخيار، وقال في رواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، واختلفت الروايات عن محمد في مضي المدة، قال في رواية: يلزم العقد لاستحالة بقاء الخيار بعد المدة، وفي رواية لا يلزم إلا بإجازته؛ لأن عنده الإجازة في معنى إنشاء العقد، فيجعل البلوغ الطارئ على العقد قبل الإجازة بمنزلة المقارن للعقد، ولو كان مقارناً للعقد بأن باع فضولي مال الغير وشرط الخيار لنفسه لا يلزم العقد من غير إجازة المالك، وإن مضت مدة الخيار فهنا كذلك.
ولو باع المكاتب وشرط الخيار لنفسه فعجز في الثلاث تم البيع في قولهم؛ لأن(6/527)
المكاتب عاقد لنفسه فكان الخيار ثابتاً له أصلاً والعجز أوجب بطلان ولايته فصار كموت من له الخيار وكذلك المأذون (88أ3) إذا حجر عليه المولى في الثلاث بطل خياره لما مر.
ولو اشترى الأب أو الوصي شيئاً بدين في الذمة وشرط الخيار، ثم بلغ الصبي فأجاز الأب أو الوصي جاز العقد عليهما، والصبي بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء فسخ؛ لأن ولاية الأب والوصي تنقطع عن الصغير بالبلوغ فلم يبق لهما ولاية الإجازة والفسخ في حق الصغير، أما بقي لهما ولاية الإجازة في حق أنفسهما، فإن أجاز الصبي تم البيع في حقه، وإن فسخ زال حق الصغير فيصح الشراء في حق الأب والوصي لوجود الإجازة منه، ونظير هذا الوكيل بالشراء بشرط الخيار للموكل، إذا اشترى وشرط الخيار للموكل، ثم أجاز العقد تعمل الإجازة في حقه دون الموكل، حتى أن الموكل لو رضي بالشراء لزمه البيع، وإن فسخ العقد ورد المبيع لزم الوكيل فهنا كذلك، وإن لم يجز الصبي شيئاً حتى مات الوصي بعد ما رضي بالبيع أو قبل ذلك فاليتيم على خياره، وإن لم يمت الوصي ومات العبد في يد الوصي في وقت الخيار أو بعد مضيه، أو مات اليتيم في وقت الخيار قبل رضى الوصي بالمشترى أو بعده فالشراء لازم للمشتري وسيأتي بعض هذه المسائل يعد هذا في فصل الأب والوصي.
نوع آخر في الاختلاف في تعيين المشتري بشرط الخيار عند الرد
وإذا اشترى الرجل من آخر شيئاً على أنه بالخيار ثلاثة أيام وقبضه، ثم جاء ليرده على البائع بحكم الخيار فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك، وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري مع يمنيه؛ لأن في خيار الشرط، المشتري ينفرد بالفسخ فيفسخ العقد بمجرد قوله، وبقي ما قبض في مدة مال البائع، فالمشتري يقول للبائع: مالك الذي قبضت منك هذا، والبائع يقول: غيره، فيكون القول قول المشتري في تعيين المقبوض اعتبر أمانةً كالمودع أو ضماناً كالغاصب، ولو كانت السلعة غير مقبوضة في هذه الصورة فأراد المشتري إجازة العقد في غير يد البائع فقال البائع: ما بعتك هذا، وقال المشتري: لا بل بعتني هذا، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن يكون القول قول البائع، كما ادعى عليه مع هذا العين، وأنكر البائع البيع أصلاً، وقال: ما بعتك شيئاً، ولا يتحقق الخلاف في الفسخ هنا؛ لأن المشتري ينفرد بالفسخ، والمبيع في يد البائع، وإنما يتحقق الخلاف حالة الإجازة، كما إذا ادعى كانت السلعة مقبوضة لا يتحقق الخلاف حالة الإجازة؛ لأنه أجاز والمبيع في يده، إنما يتحقق الخلاف حالة الفسخ هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للمشتري.
فأما إذا كان الخيار للبائع إن كانت السلعة مقبوضة، فجاء المشتري بسلعة ليردها على البائع في مدة الخيار، فقال البائع: ليس هذا الذي بعتك وقبضت مني، وقال المشتري: الذي بعتني وقبضتني هذا فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الحال لا يخلو(6/528)
إما أن يدعي البائع هلاك ما باع منه أو ادعى القيام في يده، فإن ادعى ضمان القيمة على المشتري وإن لم يكن واجباً والمشتري ينكر، وإن ادعى القيام فقد تصادقا على أن للمشتري حق الرد؛ لأن للمشتري حق الرد في مدة الخيار حتى يخرج عن ضمان القيمة، إلا أنهما اختلفا في تعيين المقبوض فيكون القول قول المشتري مع يمينه، وإن كانت السلعة غير مقبوضة، فأراد البائع إلزام البيع في عين فقال المشتري: ما اشتريت هذا، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدعي عليه ولاية إتمام الشراء في هذا العين، والمشتري ينكر فيكون القول قوله كما أنكر المشتري الشراء أصلاً.
نوع آخر في جناية المبيع في البيع بشرط الخيار
قال محمد رحمه الله في «الجامع:» رجل باع عبداً على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقتل العبد قتيلاً خطأً في مدة الخيار، فعلم المولى ذلك، فأجاز البيع وهو عالم بالجناية لم يصر مختاراً للفداء أو صحت الإجازة، لأن الإجازة لا تكون أقوى من ابتداء البيع.
ولو باع المولى العبد الجاني ابتداء يجوز، فالإجازة أولى ولم يصر مختاراً للفداء؛ لأنه بالإجازة حصل مزيل له عن ملكه فيصير مختاراً للفداء كما لو باعه أو أعتقه، والجواب ثمة إنما صار مختاراً للفداء؛ لأن بالبيع والإعتاق يبطل حق أولياء الجناية، أما بالإعتاق فلا شك وكذلك بالبيع؛ لأن المشتري لا يُخَيَّر بين الدفع والفداء إذ الجناية لم تكن في ملكه، وهو لا يملك إبطال حق ولي الجناية عن عين العبد إلا بالفداء، فيصير مختاراً للفداء، أما هنا بالإجازة لا يبطل حق ولي الجناية عن عين العبد؛ لأن المشتري تخير بين الدفع والفداء؛ لأن عند الإجازة يثبت الملك له من وقت البيع، ولهذا إذ حصل الولد من المبيعة بشرط الخيار للبائع في مدة الخيار، ثم سقط الخيار بالإجازة فالولد يسلم له، إذا ثبت أن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت البيع، ظهر أن العبد حتى ملكه فيخير، وإذا كان كذلك لم يبطل حق أُولي الجناية عن العبد، فلم يصر البائع مختاراً الفداء.
وذكر في كتاب البيوع: إذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار، فملك البائع ولدها في مدة الخيار، يكره للبائع أن يخير البيع في الأم، لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها فجعل الإجازة بمنزلة ابتداء العقد، والفرق: أن الإجازة تشبه ابتداء العقد من وجه، من حيث إن الملك موقوف على الإجازة ويشبه الإمضاء من وجه، من حيث إن الإجازة بعمله للبيع السابق وعند الإجازة يستند الملك إلى وقت العقد حكماً، فكان الملك قبل الإجازة ثابتاً من وجه دون وجه، والملك الثابت من وجه يكفي للخطاب بالدفع والفداء، أصله ملك المكاتب، فإن عبد المكاتب إذا جنى جناية يخاطب المكاتب بالدفع أو الفداء، وإذا ثبت أن الملك من وجه كافي للخطاب بالدفع أو الفداء، وأنه ثابت للمشتري يوجه الخطاب على المشتري بالدفع أو الفداء، فلم يصير البائع مبطلاً حق أولياء الجناية، وهكذا يقول في مثله، مسألة التفريق أن الإجازة تعتبر بإبتداء العقد من وجه لكن(6/529)
الباب باب الجزئيات، والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في حق الحرمات.
فإن قيل: البائع منها يتمكن من فسخ العقد، فإذا لم يفسخ مع التمكن جعل كالمنسي للبيع.
كمن وكل رجلاً بطلاق امراءته في صحته ولم يعزل الوكيل حتى طلق امرأته في مرض موته فصار وجعل امتناعه عن العزل بمنزلة إنشاء الوكالة، والجواب عنه وهو الفرق بين المسألتين أن الإمتناع من الفسخ بمنزلة البيع المبتدأ أما ليس ببيع المبتدأ حقيقة، والامتناع عن العزل أيضاً ليس بتوكيل مبتدأ حقيقة، بل هو بمنزلة التوكيل المبتدأ، إلا أن حق المرأة متعلق بماله، فباعتبار الحقيقة لم يصر فاراً، وباعتبار الحكم يصير فاراً، فلا يبطل حقها بالشكل، أما حق أولياء الجناية لم يكن متعلقاً بالفداء فباعتبار الحقيقة لم يثبت حق ولي الجناية، إن كان يثبت باعتبار الحكم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، إذا ثبت أن البائع لم يصر مختاراً للفداء كان للمشتري الخيار؛ لأن العبد قد تعيب بعيب في ضمان البائع.
(88ب3) فإن رقبته صارت مستحقة بالجناية، فإن اختار المشتري أخذه تخير بين الدفع والفداء لأنه تبين أن العبد جنى على ملكه وأي الأمرين اختار لا يرجع به على بائعه، وإن وجد العيب في ضمان البائع، لأن المشتري رضي بكونه معيباً، وإن اختار المشتري نقض البيع تخير البائع بين الدفع والفداء، لأن الرد بالعيب قبل القبض فسخ العقد من الأصل، فصار كأن البيع لم يكن، ثم ذكر في بعض الروايات: فأي ذلك فعل المشتري تخير البائع، وذكر في بعضها فإن فعل ذلك والمراد فإن رد وهو الصحيح، لأن البائع إنما تخير عند رد المشتري المبيع عليه لا عند الإمضاء، هذا إذا كانت الجناية في يد البائع. وإن كانت الجناية في يد المشتري والباقي بحاله، فالبائع على خياره، لأن الجناية في يد البائع لما لم يبطل خياره، فالخيار في يد المشتري، لأن لا يبطل كان أولى، فإن أجاز البيع جاز ولا يكون للمشتري خيار العيب، لأن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت العقد، فظهر أن العيب حدث على ملكه في ضمانه لا يكون له الخيار، بخلاف الفصل الأول، ثم تخير المشتري بين الدفع والفداء لأن الجناية لو كانت حاصلة في ملكه لا ضمانه، تخير عند استقرار الملك له، فلا تخير هنا والجناية حصلت في ملكه في ضمانه كان أولي، هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للبائع فجنى العبد جناية أو في يد المشتري، فإن كان الخيار للمشتري وجني العبد جناية في يد البائع كان للمشتري خيار العيب، ليعيب المشترى في يد البائع، ويبقى خيار الشرط أيضاً، لأن في إبقائه فائدة، فإن ولي الجناية ربما يبرئ العبد من الجناية فيتمكن المشتري من الرد بخيار الشرط، فإن اختار الأخذ تخير بين الدفع والفداء، وإن اختار البعض تخير البائع، وقد مر هذا من قبل، ولو كان الخيار للمشتري فجنى العبد في يد المشتري في مدة الخيار، لم يكن له أن يرده على البائع لأن العبد تعيب في مدة الخيار، ولا يكون له ولاية الرد إلا أن يفدي العبد في مدة
الخيار له أن يرده بخيار الشرط لزوال العيب، وهو بمنزلة ما لو اشترى عبداً فَحُمَّ في مدة الخيار لا يكون له ولاية الرد، فلو زال الحمَّى يرده بخيار الشرط كذا هنا،(6/530)
ولو لم يفد واختار الدفع سقط خيار الشرط وتقرر العبد على ملكه عند الإقدام على الدفع فيجب عليه الثمن.
ومما يتصل بهذا النوع رجل اشترى داراً بشرط الخيار للبائع أو للمشتري أو كان البيع فوجد في الدار قتيل، فعلى قول أبي حنيفة: الدية على عاقلة صاحب اليد على كل حال، وعلى قول أبي يوسف ومحمد على عاقلة المشتري إن كان البيع باتاً وعلى عاقلة من يصير الدار له بالفسخ والإجارة إن كان فيه الخيار، فوجه قولهما: أن هذا مؤنة الملك فيدور مع الملك ويتوقف حاله توقف الملك كصدقة الفطر، وإنما قلنا ذلك لأن الدية إنما يجب على عاقلة صاحب الدار لصيرورة صاحب الدار حانثاً بترك الحفظ، والحفظ إنما يجب على المالك، وجه قول أبي حنيفة أن الحفظ أمر حسي فإنما يتأتى بآلة حسية وذلك اليد، وإنما تعتبر تلك الرقبة لتصير اليد محقة وقد تيقنا أن يد صاحب اليد ههنا محقة فلا معتبر بالملك، ثم عندهما إذ كان البيع باتاً والدار في يد البائع حتى وجبت الدية على عاقلة المشتري، لم يذكر في «الكتاب» أن المشتري هل يتخير ويجب أن يتخير، لأن وجود القتيل في الدار ليس يعيب حل بالدار لا حقيقة ولا اعتباراً، فإن الدار لا تصير مستحقة بضمان الجناية، ولا كذلك ما إذا جنى العبد في يد البائع والله أعلم.
الفصل الثالث عشر: في خيار الرؤية
هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان صفته وحكمه وفي وضع ثبوته^p
يجب أن يعلم أن شراء مالم يره المشتري جائز عندنا، وصورة المسألة: أن يقول الرجل لغيره: بعت منك الثوب الذي في كمي هذا، والصفة كذا، أو الدرة التي في كفي وصفته كذا، أو لم يذكر الصفة، أو يقول: بعت منك هذه الجارية المتبقية، وأما إذا قال بعت منك مافي كمي هذا، أو مافي كفي هذا من شيء، فهل يجوز هذا البيع؟ لم يذكره في «المبسوط» . قال عامة مشايخنا: اطلاق الجواب يدل على جوازه عندنا، ومنهم من قال: لا يجوز ههنا وللمشتري لما لم يره له خيار إذا رآه، الاصل في جواز هذا العقد قوله صلى الله عليه وسلّم «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه» ولأن المبيع وإن كان مجهول الوصف إلا أن الجهالة انما تفسد العقد باعتبار الإفضاء الى المنازعة، ألا ترى أن من باع(6/531)
فقيزاً من صبرة، يجوز وإن كان مجهولاً لأنه (الجهل) يفضي إلى المنازعة ولا منازعة هنا، لأن المشتري بالخيار، فإن وافقه أخذه وإلا رده وهذا الخيار غير مؤقت، بخلاف خيار الشرط، لأن ثبوت هذا الخيار عرف بالحديث الذي روينا وإنه مطلق، فإنه عليه السلام قال: «فهو بالخيار إذا رآه» لايورث، بمنزلة خيار الشرط لأن الثابت ليس إلا ولاية الفسخ والإجازة وأنه لا يبقى بعد موت العاقد، والإرث إنما يجري فيما يبقى بعد الموت وهذا خيار لايسقط بالاسقاط مقصوداً، حتى لو قال: أسقطت خيار الرؤية لايسقط بخلاف خيار الشرط، ولو باع شيئاً يره بأن ورث شيئاً ولم يره حتى باعه جاز البيع، ولا خيار له في قول أبي حنيفة الآخر، وكان يقول أولاً: له الخيار، فعلى قوله الأول قاس جانب البائع بجانب المشتري، وعلى قوله الآخر: فرق بينهما، وكأنه اعتمد على ماروي أن عثمان باع أرضاً كانت له بالبصرة من طلحة فقيل لطلحة: إنك قد عيبت، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أره، فحكما جبير بن مطعم فقضى لطلحة بالخيار، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد.
وفي «صرف القدوري» وليس في الدراهم والدنانير خيار الرؤية، وكذلك سائر الديون، لأنه لافائدة في الرد فإن العقد لاينفسخ بردها، لأن العقد لم يرد على عيبها، وإذا رد وقبض ثانيا لابد وأن يثبت خيار الرؤية أيضاً، كما في المقبوض الأول فيؤدي إلى مالا يتناهى، ولو كان إناءً أو تبراً أو حلياً مصوغاً فله فيه خيار الرؤية، لأن الرد مفيد ههنا لأنه يتعين وينفسخ العقد فيه بالرد. ولو اشترى عينا بدين فالخيار للمشتري ولا خيار للبائع، ولو تبايعا عينا بعين، فلكل واحد منهما الخيار، لأن الرد من كل جانب مفيد لأن العقد ينفسخ برد كل واحد منهما ويعود إلى الرادعين ماكان له، وإذا اشترى شيئا قد كان رآه ولا يعرفه، بأن رأى ثوبا في يد إنسان ثم إن صاحب الثوب لفه في منديل وباعه منه، أو رأى جارية في يد إنسان ثم رآها قصة عنده فاشتراها منه ولم يعلم بأنه ذلك الثوب، وتلك الجارية، فله الخيار إذا رآه بعد ذلك لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه وقت العقد وهو العلة الموجبة للخيار.
وفي «المنتقى» : إذا عرض (98آ) على رجل جراب هروي فنظر الى كل ثوب ثم ان صاحب الثوب لف ثوباً من الجراب في منديل فاشتراه الذي اعترض الجراب، فله الخيار إذا رآه، وإن كان بين له صاحب الجراب أنه من ذلك حتى بينه إلى شيء يعرفه لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لايدري أن الثوب الذي اشتراه جيداً.
وروي في «الأصل» : فلو أراه ثوبين وعرضهما عليه ثم لف أحدهما في منديل ثم اشتراه منه ولم يره ولم يعلم أيهما هو، فهو بالخيار إذا رآه لما ذكرنا أنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لا يدري أنه جيد أو رديء ولو رآه بالثوبين جميعا قد لف كل واحد منهما في منديل، وقال: هذين الثوبين اللذين عرضت عليك أمس، فقال: أخذت هذا الثوب نفسه بكذا وهذا الثوب بعينه بكذا، ولم يرهما حالة الشراء فهذا على(6/532)
وجهين أما إن اشتراهما بثمن واحد بأن قال هذا بعشره وهذا بعشرة وفي هذا الوجه لاخيار له لأنه عالم بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء حيث سوى بينهما في الثمن لأن ذلك دليل على أنهما كانا مستويين في الوصف وإذا كانا مستويين في الوصف كان عالما بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء، وأما ان اشتراهما بثمن مجهول مختلف بأن قال: هذا بعشرة، وفي هذا الوجه له الخيار لأن التفصيل في الثمن دليل على أن أحدهما أجود من الآخر ولم يعلم وقت الشراء أن الذي قاتله العشرين جيد أو رديء ولو قال: أخذت أحدهما بعشرين ولم يُسَلَّم أيهما هو، فإن هذا فاسد لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة، ولو اشترى شيئا قد رآه وعلم وقت الشراء أنه ذلك الشيء، فلا خيار له إلا أن يكون قد تغير عن الحال الذي رآه عليه، وإن ادعى المشتري، التعيين فالقول قول البائع مع يمينه لأن المشتري يدعي عرضاً والبايع ينكر، قالوا: وهذا إذا كانت المدة قريبة يعلم أنه لايتغير في تلك المدة، فأما إذا كانت المدة بعيدة فالقول قول المشتري، لأن الظاهر يشهد له وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، قال: أرأيت لو كانت جارية رآها فاشتراها بعد ذلك بعشرين سنة، زعم البائع أنها لم تتغير أكان يصدق على ذلك؟ لاشك أنه لايصدق، وبه كان يفتي الصدر الشهيد حسام الدين والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيتاني.
وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة حتى أن من اشتري من آخر عدل زطي ولم يره فقبضه وحدث ثبوت عيب فليس له أن يرد منه شيئاً بختار الرؤية، لأنه عجز عن ردها بعيب في يده فلو رد شيئا من الباقي تفرقت الصفقة على البائع قبل التمام وأنه لا يجوز، وكذلك لو لم يتعيب شيء منه وأراد أن يرد بعض الأثواب دون البعض ليس له ذلك، لأن فيه تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، ثم إنما منع خيار الرؤية تمام الصفقة لأنه إنما يثبت بسبب جهالة وصف المعقود عليه، وبجهالة أصل المبيع ووصفه أثر في منع الجواز ولزومه، بأن اشترى ثوبا من جملة الثياب لابعينه فجهالة الوصف مع العلم بالأصل في منع اللزوم دون الجواز، عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، واذا امتنع اللزوم لم تكن الصفقة تامة، لأن اللزوم من أحكام الصفقة وليس للمشتري أن يخير قبل الرؤية حتى أنه لو أجازه ثم رآه فله أن يرده، ويجوز له أن يفسخ وإن لم يره عند عامة المشايخ، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» وهكذا ذكر في «شرح الطحاوي» وفي «القدوري» وهو الصحيح.
والفرق وهو أن صحة الفسخ تعتمد عدم لزوم العقد، والعقد ههنا غير لازم ليمكن الخلل في الرضا، أما ولاية الإلزام تعتمد تمام الرضا، وإنما يتم الرضا بعد العلم بأوصاف المعقود عليه وإنه يتحقق قبل الرؤية، والرد بخيار الرؤية فسخ قبل القبض وبعده، حتى لايحتاج فيه إلى قضاء القاضي ولا إلى رضا البائع، لكن لايصح هذا الرد إلا بمحضر من البائع عند أبي حنيفة ومحمد، أما الرضا به يصح بعد الرؤية بمحضر من البائع وبغير محضر منه بالاتفاق، والرضا به على ضربين: رضا بالصريح ورضا بالدلالة،(6/533)
فالرضا بالصريح: أن يقول بعد الرؤية رضيت أو يقول أجزت، والرضا بالدلالة، أن يراه ثم يشتريه أو يراه بعد البيان فيقبضه، أو يتصرف فيه تصرف الملاك على مايعرف في خيار الشرط، فإذا فعل شيئاً من ذلك سقط خياره وهو النوع الثاني من هذا الفصل، إذا تصرف المشتري في المبيع قبل الرؤية تصرف الملاك فهو على وجهين: إن كان تصرفاً لايمكن فسخه بعد وقوعه ونفاذه نحو الإعتاق والتدبير لزم البيع وبطل خياره، لأنه ملك المشتري قبل الرؤية فتنفذ هذه التصرفات وبعد نفاذ هذه التصرفات يتعذر الفسخ فبطل الخيار ضرورة. وكذلك لو علق بالمبيع حقاً للغير، بأن أجر أو رهن أو باع بشرط الخيار للمشتري، لأن هذه الحقوق مانعة من الفسخ فيبطل الخيار ضرورة، حتى لو انفك المرهون أو مضت مدة الإجازة أو رُدَّ المشترى عليه بشرط الخيار ثم رآه لايكون له الرد، وإن كان تصرفا لم يتعلق به حق الغير، بأن باع بشرط الخيار أو وهب ولم يسلم أو عرض على البيع لايبطل خياره، وإن كانت هذه التصرفات منه بعد الرؤية يبطل خياره، ذكر القدوري هذه الجملة في كتابه، والفرق بين ماقبل الرؤية في حق التصرفات التي لم يتعلق بها حق الغير، أن خيار الرؤية لم يبطل بهذه التصرفات إنما يبطل من حيث إنها دليل الرضا بالامساك لاباعتبار تعلق حق الغير، إلا أن خيار الرؤية لايسقط بصريح الرضا أولى أما بعد الرؤية فبدليل الرؤية
أولى، أما بعد الرؤية يسقط هذا الخيار بصريح الرضا فكذا يسقط بدليله أيضا، وروي الحسن عن أبي حنيفة أن المشتري إذا باعه بشرط الخيار لنفسه يسقط خياره. وقيل: تلك الرؤية أصح.
وذكر شيخ الاسلام وشمس الأئمة السرخسي في شرحهما أن هذا الخيار يبطل بالعرض على البيع، وذكر القاضي الإمام فخر الإسلام علي السغدي أنه لايبطل كما ذكره القدوري، ورأيت في نسخة أن على قول أبي يوسف لايبطل هذا الخيار بالعرض على البيع، وعلى قول محمد: يبطل، وروي أن هذا الخيار يبطل بنقد الثمن، وقد مر أن خيار الشرط لايبطل بنقد الثمن.
وفي «المنتقى» : اشترى شيئا لم يره فقال للبائع: بعه لنفسك فهذا رد البياعة، باعه البائع أو لم يبعه، وقد انتقض البيع، ولو قال ذلك بعد ما رآه لم يذكر هذا الفصل في هذه المسألة، إنما ذكره بعد هذا في مسألة الشاة فقال: إذا اشترى شاة ولم يقبضها قال للبائع بعها أو بعها لنفسك فهو سواء، فإن كان لم يرها فهو البياعة نقض للبيع ورد (98ب) بخيار الرؤية، وإن كان قد رآها لم يكن نقضاً، حتى يقول: قد قبلت ذلك وأنا أبيع، وفيه أيضاً اشترى شاة ولم يقبضها ولم يرها حتى قال للبائع: احلب لبنها وتصدق به، أو قال: فأطعمه عيالك، أو قال صبه في الأرض، ففعل البائع ذلك فإن المشتري قابض لذلك اللبن وقد بطل خيار الرؤية في الشاة. ذكر مسألة الشاة بعد هذا وقال: إذا لم يرها وقال البائع: كل لبنها أو قال: أطعمه عيالك ففعل فهو نقض في اللبن خاصة، ولو قال: احلبها وأطعمته أو قال فاطعمه عيالي فهذا لايبطل خيار الرؤية البياعة، فإن حلبها فأطعمه المشتري والمشتري يعلم أنه لبنها أو(6/534)
لايعلم، أو كان المشتري لم يأمره بذلك وفعله البائع من قبل نفسه فإن خيار الرؤية في هذا يبطل، ولو كان اللبن محلوبا فقال: بع لبنها أو قال: أطعمه عيالي أو قال: تصدق به ففعل فهو نقص في اللبن خاصة بمنزلة ما لو اشترى عبدين كل واحد منهما بخمسمائة، ولم يرهما ثم قال للبائع: بع فلانا يعني أحدهما بعينه فإن ذلك مناقضة فيه خاصة كذا هنا.
واذا اشترى خفافاً لبسه البائع وهو نائم فقام فمشى فيه وذلك ينقضه فقد بطل خيار الرؤية، وإن لم ينقضه لايبطل خيار الرؤية. إذا اشترى دارا ولم يرها فبيعت دار بحيها فأخذها بالشفعة فله أن يرد الدار المشتري بخيار الرؤية، رواه ابراهيم عن محمد.
وفي «الأصل» : إذا اشترى عدل زطي لم يره ثم باع ثوبا منه، ثم نظر إلى مابقي ولم يرض به فليس له أن يرد بخيار الرؤية، فإن عاد ما باع الى ملكه بسبب هو فسخ من كل وجه، فله أن يرد الكل بخيار الرؤية، إلا على رواية علي بن الجعد عن أبي يوسف فانه روي عنه أن خيار الرؤية إذا سقط لايعود اليه قديم ملكه بخيار الشرط.
وفي «الأصل» : إذا جرح العبد عبد المشتري جرحاً له أرش أو كانت أمة فوطئها غير المشتري بشبهة، فليس له أن يردها بخيار الرؤية، وإن كان وطئها غير المشتري بطريق الزنا أو وطئها المشتري أو كان الجرح من المشتري فليس له الرد إلا أن يرضي البائع في مسائل الثلاث، واذا ولدت ولدا فإن بقي الولد فليس له الرد على كل حال، وإن مات الولد إن أوجبت الولادة نقصاناً ظاهراً فليس له الرد إلا برضى البائع، وإن لم يوجب نقصانا ظاهرا فكذلك على رواية كتاب المضاربة، لأن على رواية كتاب المضاربة الولادة في بني آدم عيب لازم أبداً. وإن كانت شاة فولدت في يد المشتري إن بقي الولد فليس للمشتري أن يردها على كل حال، وكذلك ان قبل الولد وإن مات كان له الرد لأنه لما مات من غير صنع أحد جعل كأن لم يكن فالولادة لا تكون عيباً فيها لأنها لا توجب نقصاناً في البهائم. ولو أن البائع جرح العبد، عبد المشتري ذكر في «الأصل» أنه وجب البيع على المشتري، وعلى البائع القيمة في القتل والأرش في الجراحة، وذكر فصل الجراحة في كتاب الشرب وقال: على قول أبي حنيفة ومحمد يسقط خيار المشتري ويلزمه البيع، وعلى قول أبي يوسف لايسقط خياره، وقال في موضع آخر: على قول أبي يوسف الأول يسقط خياره، وعلى قوله الآخر لايسقط.
وفي «نوادر ابن سماعة» أن الخيار لايسقط وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وفي بعض «النوادر» خيار المشتري يسقط بجراحة البائع عند أبي حنيفة، وعندهما لايسقط
قالوا: وهو الصحيح. ولو أجاز المشتري العقد في بعض المبيع دون البعض بأن اشترى ثوبين أو عبدين أو ما أشبه ذلك ورآهما بعد ماقبضهما ورضي بأحدهما فقال: رضيته بهذا، لم يجز لما فيه من تفريق الصفقة قبل التمام، والخيار على حاله لأن إلزام بقية المبيع ولم يوجد الرضا به متعذر ورد الباقي وحده متعذر لما فيه من تفريق الصفقة فتعين رد الكل وصار وجود الإجازة في البعض والعدم بمنزلة.(6/535)
ذكر المسألة على هذا الوجه. ابن سماعة في «نوادره» عن محمد قال ثمة: ولو لم يقل رضيت بهذا، ولكن عرض أحدهما على البيع لم يكن له أن يردهما لأن خيار الرؤية قد سقط حكما للعرض على البيع، وما ثبت حكماً لا يرد، فيلزمه العقد في الآخر ضرورة، قال ثمة: وكذلك لو كانا في يد البائع فرآهما وقبض أحدهما فهو دليل الرضا بهما، وليس له أن يردهما. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أنه سوى بين الرضا بأحدهما وبين عرض أحدهما على البيع وقال: لايبطل خياره حتى يرضا بهما أو بعرضهما على البيع، فهذا إشارة إلى أنه لو عرضهما على البيع انه يبطل خياره، وقد ذكرنا قبل هذا عن أبي يوسف ان المشتري لو عرض المبيع على البيع لايبطل خياره.
وفي «القدوري» عن أبي يوسف لو عرض المشتري بعض المبيع على البيع أنه لايبطل خياره، وفي «المنتقى» أيضاً عن أبي حنيفة فيمن اشترى جاريتين ورآهما ورضي بأحديهما فهو رضا بهما، ولو رأى أحديهما ورضي بهما لم يكن رضا بهما.
رجلان اشتريا شيئا لم يرياه وقبضاه ثم نظرا إليه فرضي به أحدهما وأراد الآخر الرد فليس له الرد إلا أن يجمعا على الرد وهذا قول أبي حنيفة. وكذلك إذا كان البائع اثنين والمشتري واحدا والخيار للبائعين فنقض أحدهما وأجاز الآخر لايجوز ما لم يجمعا على الإجازة. رجلين اشتريا جارية قد رآها أحدهما فنظر إليها الذي لم يرها وأجمعا على ردها هو وصاحبه فلهما ذلك، ولو أن الذي رآها قال: قد رضيت وأنفذت البيع قبل أن يرد الذي لم يره كان للذي لم يره أن يرد جميع البيع ورضا شريكه بمنزلة رؤيته.
عن أبي يوسف في «الأمالي» اشترى ثوباً لم يره فإذا هو قصير، لايغطيه فأراد أن يرده فقال له البائع: إن الخياط فإن قطعك فأمسكه وإلا فرده فأراه الخياط فإذا لا يغطيه فله أن يرده، وليس هذا كعرضه على البيع، هذا بمنزلة مالو قال: اذهب به فإن رضيته وإلا فرده، وكذلك الخف والقلنسوة وكل شيء بمنزلة صغره أو نقصانه. ولو كان عبداً فوجده أعمى فقال: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن أجري وإلا رددته فله أن يرده هذا بمنزلة الصغر. وفي الفتاوي سئل أبو بكر عمن اشترى أرضاً ولها أكار فزرعها الأكار برضا المشتري بأن تركها عليه، على الحالة المتقدمة ثم رآها فليس له أن يردها، لأن فعل الاكار بمنزلة فعل المشتري، وعن محمد فيمن(6/536)
اشترى تمراً بالري وهو في أوعية فحمله الى الكوفة ولم يكن رآه هل له أن يرده بالكوفة، قال: لا ولكن يحمله إلى الري ويرده ثمنه.
وفي «الفتاوي» : إذا اشترى لبنا على أن يحمله البائع إلى منزل المشتري وكان ذلك بالفارسية حتى صح البيع فحمله البائع إلى دار المشتري ولم يكن رآه المشتري، فأراد أن يرده بخيار الرؤية ليس له ذلك، لأنه لو رده يحتاج البائع إلى الحمل فيصير بمنزلة عيب حادث عند المشتري. (90آ) .
وفي «المنتقى» : رجل باع جارية بألف درهم وعبد ودفع الجارية وقبض العبد(6/537)
والألف فرآي ولم يكن رآه قبل ذلك، فرده بخيار رؤية جاز رده ولا ينتقض البيع في جميع الجارية، وإنما ينتقض بحصته العبد فيها ويرجع حصة العبد من الجارية إلى بائعها، وأما حصة الألف من الجارية فلا ينتقض البيع فيها ولا يعود إلى بائعها. بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى كري حنطة ولم يرهما قبل القبض أو بعده فله خيار الرؤية فيما بقي.
نوع آخر فيما يكون رؤية بعضه كرؤية كله في إبطال الخيار
وإذا رأى بعض المبيع ورضي له ولم ير الباقي هل يكون على خياره، فلأصل فيه أن غير المرئي إذا كان تبعاً للمرئي فليس له رد غير المرئي، وإن كان برؤية المرئي لا يعرف حال غير المرئي إن البيع حكمه حكم البيوع فيعتبر مرآها تبعاً للمرئي وإذا سقط الخيار في الأصل سقط في البيع. بيانه إذا اشترى جارية أو عبداً ورأى وجهه ورضي به لا يكون له الخيار بعد ذلك، ولو رأى ظهرها وبطنها ولم ير وجهها فله خيار الرؤية لأن سائر الأعضاء في العبيد والجواري تبع للوجه، ألا ترى أنه تتفاوت القيمة بتفاوت الوجه مع التساوي في سائر الأعضاء، وفي الدواب بشرط النظر إلى مقدمها ومؤخرها هكذا ذكر القدوري قال: لأنه في العادة عند شراء هذه الأشياء ينظر إلى مقدمها ومؤخرها ولا يلتفت إلى شيء آخر فصار ذلك أصلاً وغيره تبعاً، وذكر في موضع آخر عند أبي يوسف يعتبر النظر إلى مقدمها ومؤخرها، وعند محمد يعتبر النظر إلى مؤخرها لا غير.
وفي «المتنقى» : قال أبو يوسف في الدواب: يسأل النحاسون فإن قالوا يحتاج مع النظر إلى الوجه والكفل النظر إلى مؤخرها لنقصان كان في مؤخرها من غير عيب فله الخيار ما لم ينظر إلى مقدمها ومؤخرها، وإن كان مؤخرها لا يكون فيه نقصان من غير عيب، لم يكن له خيار إذا نظر إلى مؤخرها. وعند محمد رحمه الله في الداوب: أنه يحتاج إلى النظر إلى وجهها وجسدها، والنظر إلى قوائمها لا يكفي، وعن أبي حنيفة في البرذون والحمار والبغل يكفي أن يرى شيئاً منه إلا الحافر والذنب والناصية، وفي الشاة الفتية لا بد من النظر إلى فرعها وسائر جسدها، وفي شاة اللحم لا بد من الجس حتى يتعين به الهزال والسمن. وفي المنقول إن كان شيئاً مقصوداً منه كالوجه في المعافر وموضع العلم في بعض الثياب فلابد من النظر إلى ذلك الموضع لسقوط الخيار، كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وإن لم يكن شيء منه مقصوداً كالكرباس فإذا نظر إلى ظاهره مطوياً فلا خيار له بعد ذلك، لأن التفاوت بين المرئي وغير المرئي في الكرباس وأشباهه يسير، فإن وجد الباقي مثل ما رآه فلا خيار له وإن وجده دونه فله الخيار. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى جراب هروي فأراه من كل ثوب قطعة فلا خيار له وإلا له الخيار، قال هشام قلت لمحمد: إذا كان المشترى طنفسة فرأى أسفلها ولم يرى وجهها وموضع الوشي منها، قال: لا خيار له قال هذا شيء واحد وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه. وروي عن أبي حنيفة فيمن اشترى بساطاً أن له الخيار حتى يرى جميعه، وما كان له وجهان من ثوبين مختلفين فإنه شرط رؤية كل الوجهين. وعن محمد فيمن اشترى جبة مبطنة ورأى بطانتها ورضي بها لا يبطل خياره حتى يرى الظهارة يريد به إذا كان بطانتها دون ظهارتها كذلك الحكم في كل شيء مبطن بطانته دون ظهارته، وأما السمور وكل شيء بطانته أرفع وأكثر ثمناً من ظهارته فرأى البطانة ورضي بها بطل خياره إلا أن يكون البطانة فائقة يشترط رؤيتها.
وفي «فتاوى النسفي» : إذا اشترى مكاعب وقد جعل الوجوه المكاعب بعضها إلى بعض فنظر المشتري إلى ظهورها لا يبطل خيار الرؤية، لأن الوجه أصل والصرم تبع. وإذا اشترى رحا بأداتها شيء تباين لم يره فله الخيار إذا رآه ويرد الكل، وكذلك إذا اشترى سرجابا دابة ورأى ولم يرى اللبد فله الخيار إذا رأه ويرد الكل، وإن كان المشترى داراً إذا رأى حيطانها ولم يرد أجلها ورضي به خيار له بعد ذلك قالوا وهذا إذا لم يكن جوف الدار أبنية، أو كان إلا أنه لا يختلف أبنية ذلك الموضع بل يكون على تقطيع واحداً.d
أما إذا كان داخل الدار أبنية وتختلف أبنية دور ذلك الموضع فله الخيار، وما ذكر من الجواب في «الكتاب» فذلك بناء على عادة أهل الكوفة وبغداد فإن أبنية دورهم لا تختلف، وقال زفر: لا يبطل الخيار حتى يرى شيئاً من أرض دهليز أو شيئاً من أرض الدار، وقال الحسن: لا يبطل الخيار حتى يدخلها ويتأمل جوانبها وشخصها وبعض مشايخنا من أهل زماننا قالوا في البيت الصغير وهو الذي يسمي عله جابه إذا رآى خارج البيت ورضي به بطل خياره كما هو جواب «الكتاب» .
وفي الدور يعتبر رؤية داخلها كما هو جواب المشايخ، وقالوا أيضاً في الدور أيضاً يعتبر رؤية ما هو المقصود حتى أنه إذا كان في الدار بيتان شتويان وبيتان صيفيان وبيتاً طابق يشترط رؤية الكل كما يشترط رؤية صحن الدار، ولا يشترط رؤية المطبخ والمزبلة والعلو إلا في بلد يكون العلو مقصوداً كما في سمرقند، وبعضهم شرطوا رؤية الكل وهو الأظهر والأشبه. وإن كان المشترى بستاناً يشترط رؤية رؤوس الأشجار ويكتفي بها لأن رؤية رؤوس الأشجار يعرف حال الباقي.
وفي كتاب القسمة لم يشترط رؤية رؤوس الأشجار أيضاً، وصورة ما ذكر ثمة إذا اقتسما بستاناً وكرماً فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم ولم يرى واحد منها الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله ولا شجره ولكنه رأى الحائط من ظاهره فلا خيار لواحد منهما فقد اكتفي برؤية ظاهر الحائط ولم يشترط رؤية رؤوس الأشجار، ويجب أن يكون الجواب المذكور في البستان بناء على عادة بلادهم أما في بلادنا لا يكتفي برؤية ظاهر حائط البستان ولا برؤية رؤوس الأشجار ويشترط رؤية داخل الكرم، لأن داخل الكرم في بلادنا يتفاوت تفاوتاً فاحشاً. وإن كان المبيع شيئاً ففي العدديات المتفاوتة نحو الثياب التي اشتراها في جراب، والبطيخ الذي يكون في السريحة وغير ذلك لا بد من رؤية كل واحد، وإذا رآى البعض فهو بالخيار في الباقي لأن كل واحد مقصود رؤية المرئي لا يعرف حال الباقي، ولكن إذا أراد الرد يرد الكل تحرزاً عن تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وفي العدديات المتقاربة نحو الجوز والبيض رؤية البعض يكفي إذا وجد الباقي مثل المرئي أو فوقه رؤية البعض (90ب3) يعرف حال الباقي والمكيل والموزون(6/538)
نظير العدديات المتقاربة يكتفي فيه برؤية البعض إذا كان في وعاء واحد بلا خلاف، وإذا كان في وعائين فرأى ما في أحد الوعائين اختلف المشايخ فيه قال مشايخ عراق: إذا رضي بما رأى يبطل خياره في الكل إذا وجد في الوعاء الآخر مثل ما رأى أو فوقه، أما إذا وجد دونه فهو على خياره ولكن إذا أراد يرد الكل وهو الصحيح.
وفي «المنتقى» : رجل اشتري من آخر حنطة في بيتين متفرقين فرآى في أحد البيتين ورضي به ثم رآى ما في البيت الآخر فلم يرض به، فإن كان طعاماً واحداً لزمه البيع فيهما، وإن كان الذي رآه أخيراً ليس من الطعام الذي رآه أولاً فله أن يرده عليه، قال: وكذلك الكيل كله والوزن كله.
وفيه أيضاً إذا اشترى زقين من السمن أو الزيت أو العسل أو حملين من القطن أو الحب أو الشعير أو شيء من الحبوب ورأى أحدهما ورضي به فليس له أن يرد إلا أن يكون (الأخير) مخالفاً للأول يأخذهما أو يردهما، وهذه المسائل تؤكد قول مشايخ العراق، وإن قال المشتري في هذه الفصول لم أجد الباقي على الصفة التي رأيت المرئي بل هو دونه، وقال البائع: لا بل وجدته على تلك الصفة فالقول قول البائع مع يمينه، وعلى المشتري البينة.
وإن كان المعقود عليه شيئاً معيناً في الأرض كالثوم والبصل والشلجم والجزر والفجل فإن كان شيئاً يكال أو يوزن بعد القلع كالجزر والبصل، فإذا قلع المشتري شيئاً منه بإذن البائع أو قلع ورضي المشتري سقط خياره فيما بقي، وإن قلع المشتري ذلك بغير إذن البائع سقط خياره حتى لم يكن له أن يرد رضي بالمقلوع أو لم يرض وجد في ناحية أخرى من الأرض أقل منها أو لم يجد فيها شيئاً إذا كان المقلوع شيئاً له ثمن، وإن كان المقلوع شيئاً لا ثمن له لا يسقط خياره لأنه بالقلع صار معيناً، لأنه كان حياً ينمو أو بعد القلع صار من الموات لا ينمو أو العيب الحاصل في يد المشتري يمنع الرد بخيار الرؤية فيمتنع الرد إلا إذا كان المقلوع شيئاً لا ثمن له وجوده وعدمه بمنزلة فكأنه لم يقلع شيئاً. وإن كان ذلك شيئاً يباع عدداً كالفجل فرؤية البعض لا يبطل خياره فيما بقي إذا حصل القلع من البائع أو من المشتري بإذن البائع، وإن كان قلع المشتري بغير اذن البائع وكان المقلوع شيئاً له ثمن يسقط خياره لأجل العيب هكذا ذكر في «الأصل» .
وفي «القدوري» إذا اشترى معيناً في الأرض كالجزر والبصل فله الخيار إذا رآى جميعه، وإن رآى بعضه ورضي به فهو على خياره في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قلع شيئاً يستدل به على الباقي في عظمه ورضي به المشتري فهو لازم.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل اشترى عشرة أجربة جزر في الأرض فقبض الأرض وبعث الغلام وأمره بقلع الجزر فقلع كله، ثم جاء المشتري هل له خيار الرؤية قال: نعم، قلت: قد نقصه القلع ثلث القيمة، قال: وإن نقصه لأنه لم ينقصه من عيب إنما نقصه من شعر، وإن كان المشتري هو الذي قلع فإذا قلع منه شيئاً قدر الكفين، أو قال ما يدخل في الكيل قدر ما يستدل به على الباقي فإنه إذا ما أقلع الباقي(6/539)
لزمه ذلك كله بمنزلة متاع اشتراه، فإذا قبضه بعد الرؤية أو قبض بعضه لزمه وانقطع خيار الرؤية.
وإذا اشترى دهناً في قارورة فنظر إلى القارورة ولم يصب على راحته يعني كفه أو على أصبعه منه شيئاً فهذا ليس برؤية عند أبي حنيفة، وعن محمد فيه روايتان.
وفي «المنتقى» عن محمد: إذا رآى عنب كرم فله الخيار حتى يرى من كل نوع منها شيئاً، وفي النخل إذا رآى بعضه ورضي به بطل خيار الرؤية وجعل رؤية نوع من أنواع النخل جائزاً على كله.
وإذا اشترى رماناً حلواً وحامضاً ورآى أحدهما فله الخيار إذا رآى الآخر، وفيه أيضاً إذا اشترى حمل نخل فرأى بعضه ورضي به لم يلزمه البيع حتى يرى كله ويرضى به، وكذلك الثمار الظاهره كلها ما يدخل منها في الكيل والوزن وما يدخل في العد بعد أن يكون في رأس النخل والشجر وليس هذا كالذي قد جمع وخلط وجعل في موضع واحد.
وفي «البقالي» : وإذا اشترى وزناً من تراب المعدن بعينه فله الخيار إذا خرج ما فيه، أيضاً رؤية أحد المصراعين أو أحد الخفيين أو النعليين لا يكفي. وفي «فتاوى» إذا اشترى نافجة مسك وأخرج المسك منها فليس له أن يردها برؤية أو عيب لأن الاخراج يدخل فيه عيباً حتى لو لم يدخل كان له أن يرده بها والله أعلم.
نوع آخر في شراء الأعمى
شراء الأعمى وبيعه جائز وهو بمنزلة البصير الذي لم ير بلمسه وحشة بمنزلة النظر من الصحيح، وفي المشمومات يعتبر الشم وفي المذوق يعتبر الذوق لأن هذه الأشياء مما يعرف بعض أوصاف المبيع فيقام مقام النظر حالة العجز، كما تقام الإشارة من الأخرس مقام النظر للعجز، وأما الثوب فلا بد من صفة وبيان طوله ورفعته لأنه أقصى ما يستدل به على أوصافه وسقوط اعتبار النظر كان لضرورة العجز ولا ضرورة في الأقصى، فيعتبر إذا اشترى التمر على رؤوس النخيل يعتبر الصفة لأنه هو الممكن، وكذلك العقار وقيل: يلمس الحائط والبيتان، وروي عن أبي يوسف أنه يوقف في مكان يصير حصل له العلم، وفي الحقيقة لا اختلاف بين الروايات والمنظور في الروايات كلها أقصى ما يتصور.
وعن أبي حنيفة رحمه أنه يوكل بصيراً حتى يقبضه الوكيل وهو ينظر إليه، وهذا أصله مستقيم فإن عنده الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الرؤية على ما نبين هذا إن شاء الله تعالى. ولو وصف له ثم أبصر فلا خيار له لأن العقد قد تم حين وصف له وسقط الخيار فلا يعود بعد ذلك، ولو اشترى البصير ثم عمي انتقل الخيار إلى الصفة لأن المعنى أن قل للخيار من النظر إلى الصفة العجز وفي هذا كونه أعمى وقت العقد وصيرورته أعمى بعد العقد قبل الرؤية سواء.(6/540)
نوع آخر في الاختلاف في الرؤية
إذا اختلف البائع والمشتري في رؤية ما اشترى فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن البائع يدعي عليه أمراً حادثاً وهو لزوم العقد بسبب حادث وهو الرؤية والمشتري ينكر فالقول قول المنكر، ولو أراد المشتري أن يرده فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري، لأن في خيار الرؤية المشتري ينفرد بالفسخ فينفسخ العقد بقول المشتري، ويبقى الاختلاف في المقبوض فيكون القول فيه قول القابض كما في باب الغصب والوديعة وما أشبه ذلك. وإن كان المشترى محدوداً وأقر المشتري بقبض المحدود المشترى ثم قال بعد ذلك: لم أر جميع المحدود لا يقبل قوله لأن القبض في المحدود لا يتصور (91أ3) بدون الرؤية فالإقرار بقبض المحدود المشترى ينقض دعواه عدم الرؤية في بعضه.
نوع آخر في الوكيل والرسول
قال محمد رحمه الله في الجامع الصغير: عن أبي حنيفة إذا اشترى طعاماً لم يره ووكل وكيلاً بقبضه فقبضه الوكيل بعد ما رآه ونظر إليه فللمشتري أن يرده، وقال أبو يوسف ومحمد: الوكيل والرسول سواء، للمشتري أن يرده إذا رأه إن شاء وإن شاء أخذه.
أصل المسألة أن الوكيل بالقبض يملك إبطال خيار الرؤية عند أبي حنيفة وعندهما لا يملك إبطاله، عند أبي حنيفة بأن يقبضه وهو ينظر إليه فأما إذا قبضه مستوراً ثم أراد بعدما نظر إليه ابطال الخيار قصداً فليس له ذلك، فوجه قولهما أن التوكيل تناول القبض وإبطال خيار الرؤية ليس من القبض في شيء، ولهذا لا يملك إبطاله مقصوداً، ولهذا لا يملك إبطال خيار الشرط ولا إبطال خيار العيب. ولأبي حنيفة أن التوكيل بالشيء توكيل بما هو تمامه ألا ترى أن التوكيل بالخصومة توكيل بالقبض الذي هو من تمام الخصومة، وإتمام القبض بإبطال خيار الرؤية لأن تمام القبض بتمام الصفقة، والصفقة لا تكون تامة مع خيار الرؤية فيضمن التوكيل بالقبض توكيلاً بالرؤية المسقط للخيار ومقتضي تتميم القبض لا مقصوداً فيملك إسقاط الخيار مقتضي تتميم القبض ولم يملك إسقاطه مقصوداً لهذا. وأما خيار الشرط فقد ذكر في «القدوري» أن من اشترى شيئاً على أنه خيار فوكل وكيلاً بقبضه فقبضه بعد ما رآه فهذا على هذا الخلاف أيضاً، وإن سلمنا فلأن خيار الشرط لا يحتمل البطلان مقتضي تتميم القبض، ولهذا لا يبطل خيار الشرط لو قبضه المشتري بنفسه. وأما خيار العيب فقد ذكر الفقيه أبو جعفر أنه يبطل بقبض الوكيل بالقبض والصحيح أنه لا يبطل، وإليه أشار في «الأصل» : لأنه لا يمنع تمام القبض فلا يتضمن الوكيل بالقبض توكيلاً بإبطال خيار العيب.
وأما الرسول فقلنا: الرسول ليس إليه إلا تبلغ الرسالة أما تتميم ما أرسل لا إلى(6/541)
الرسول هذا هو الكلام في الوكيل بالقبض.
أما الوكيل بالشراء فرؤيته كرؤية الموكل بالإتفاق بخلاف الرسول بالشراء فإن رؤيته لا تكون كرؤية المرسل. وإذا وكل إنساناً أو أرسله قبل الشراء حتى رآه ثم اشتراه الموكل والمرسل بنفسه يثبت له خيار الرؤية، وإذا اشترى شيئاً لم يره قال لغيره أني اشتريت سلعة فاذهب وانظر إليه، فإن كان يصلح فارض بها وخذه أو قال: فإن رضيت بها فخذه فذهب ورضي. ذكر شيخ الإسلام في باب الخيار بغير شرط أن هذا لا يجوز، ورأيت في موضع آخر أن هذا لا يجوز عند أبي يوسف ومحمد، وأما علي قول أبي حنيفة إن قيل يجوز فله وجه، وإن قيل لايجوز فله وجه. الوكيل بالشراء إذا اشترى شيئاً لم يره وقد كان رآه الموكل ولم يعلم به الوكيل يثبت للوكيل خيار الرؤية ذكره شيخ الإسلام في «شرح كتاب المضاربة» .
الفصل الرابع عشر: في العيوب
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
نوع منه في بيان معرفة العيب
قال القدوري في «كتابه» : كل ما يوجب نقصاناً في الثمن في عادات التجار فهو عيب لأن المالية مقصودة في البيع وما ينقص الثمن ينقص المالية فكان عيباً، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده أن ما يوجب نقصاناً في العين من حيث المشاهدة والعيان فهو عيب وذلك كالسلل في أطراف الجواري والهشم في الأواني، وما لا يوجب نقصاناً في العين من حيث المشاهدة والعيان ولكن يوجب نقصاناً في منافع العين فهو عيب لأن الأعينان يقصد بها المنافع، ومالا يوجب نقصاناً في العين ولا منافع العين إلا أن يعتبر فيه عرف الناس أن عدوه عيباً كان عيباً ومالا فلا، إذا ثبت هذا العمى والعور والحول والإصبع الزائدة والناقصة عيب لما قلنا، والولادة القديمة ليست بعيب، على رواية «كتاب المضاربة» عيب، حتى إن من اشترى جارية قد ولدت عند البائع لا من البائع أو عند بائع البائع ولم يعلم المشتري بذلك وقت العقد فعلى رواية كتاب البيوع ليس له أن يردها بخيار العيب إذا لم يتمكن بسب الولادة نقصاناً ظاهراً.
وعلى رواية «كتاب المضاربة» يرد وإن لم يتمكن بسبب الولادة نقصاناً ظاهراً، وفي البهائم لا يرد ما لم يمكن بسبب الولادة نقصاناً ظاهراً باتفاق الروايات، والحبل في الجارية عيب يزول بالولادة على رواية «كتاب البيوع» لأن على رواية «كتاب البيوع» نفس الولادة ليس بعيب، فإذا قبضها ووجدها حاملاً فولدت فلا رد ولا رجوع إلا أن يتمكن بسبب الولادة نقصان ظاهر، وفي البهايم الخبل ليس بعيب وترك الختان في الجارية والغلام ليس بعيب إذا كانا محلوبين سواء كانا صغيرين أو كبيرين لأن الكبار لا يختنون،(6/542)
وإن كانا صغيرين فكذلك، وإن كانا كبيرين فهو عيب فيوجب نقصاناً في الداب والمراد من الكبير البالغ، والزنا في الجارية عيب وليس بعيب في الغلام إلا أن يكون مديماً على ذلك، وهذا لأن الاستفراش مقصود من الجواري والزنا يخل به لأن الزانية لا تستفرش عادة، والمقصود من العبيد الأعمال خارج البيت والزنا لا يخل به إلا إذا اعتاد ذلك يكون عيباً لأن ذلك يضعفه ويعجزه عن الأعمال. وفي الإجازة إذا اشترى جارية كانت زنت في يد البائع فله أن يردها وإن لم تزن عند المشتري، وإذا كانت الجارية ولد لزنا فهو عيب وليس عيب في الغلام.
وفي «البقالي» لو كان أبوها أو جدها لغير رشد فهو عيب: وفي «نوادر ابن رشيد» عن محمد إذا كان أبوها لغير رشد فهو عيب عندي في الجواري اللاتي يتخذن أمهات الأولاد، وأما غير ذلك فليس بعيب إلا أن يكون عيباً عند النخاسين.
وفي «المنتقى» : شرب النبيذ مما لا يحل ليس بعيب في الجارية والغلام ولكنه عيب في دينه، وفيه أيضاً والشجر فيهما عيب ويحتمل أن يكون المروي والشجر بالجيم وفتح الشين وفارسيته سوختكي براندام. والبخر والدفر في الجواري عيب وفي العبيد ليس بعيب لأن الاستفراش مقصود من الجارية وأنه لا يحصل بهما والمقصود من العبير العمل، وعن هذا قيل أن كثرة الأكل عيب في الجواري دون العبيد لأنها تورث التخمة فتخل به الاستفراش، وفي بيوع «الأصل» الدفر في العبيد ليس بعيب إلا أن يكون من داءه، موضع آخر من «المنتقى» الدفر ليس بعيب لا في الجارية ولا في الغلام بخلاف البخر في الجواري، وفي موضع آخر منه الدفر ليس بعيب إلا أن يكون من داء فيكون عيباً في الجارية دون الغلام. وفي «البقالي» البخر والدفر ليس بعيب في الغلام إلا أن يكون فاحشاً، وفي «النوادر» الدفر ليس بعيب إلا أن (91ب3) يوجب نقصاناً فاحشاً بأن يؤخذ رائحة ذلك يؤخذ منه، وذكر شمس الأئمة السرخسي إلا يكون ذلك فاحشاً لا يكون في الناس مثله فذلك يكون الداء في الباطن. والنكاح عيب في الجارية والغلام وكذلك الدين عيب في الجارية والغلام وانقطاع الحيض في البالغة عيب، لأن انقطاع الحيض في أوانها يكون لداء في باطنها إلا أن دعوى المشتري لا تسمع ما لم يدع انقطاع الحيض بالحبل أو الداء، وسيأتي ذلك في موضعه. والاستحاضة عيب أيضاً (لأنها) علامة المرض ولا يقبل قول الأمة في الفصلين جميعاً إلا رواية عن محمد. والكفر عيب في الجواري والعبيد لأن المسلم لا باء ثمنه على نفسه ولا على مصالح الدينية من اتخاذ ماء الطهارة وحمل المصحف وكذلك في المعاملات، لأنه ربما يوكله من الحرام. والبخر عيب وهو الانتفاخ تحت السرة، الأدر عيب وهو عظم الخصيتين، وسيلان الماء من المنخر عيب، والعسر وهو أن يعمل بيساره ولا يعمل بيمنه عيب، والسن السوداء والخضراء عيب وفي الصفراء(6/543)
اختلاف الروايات، والغناء في الجارية التي
تتخذ أم ولد عيب، والعدة عن الطلاق الرجعي في الجارية عيب وعن الطلاق البائن ليس بعيب، لأن المشتري يتمكن من إزالته من غير مؤنة تلحقه وهذا هو الأصل أن كل عيب يتمكن المشتري من إزالته من غير مؤنة تلحقه وكان المبيع بحال إذا أزيل العيب عنه لا ينتقص فهو ليس بعيب يوجبه الرد كما في مسألة الإحرام، وكما إذا اشترى ثوباً بخساً ولم يعلم به، ثم علم وكان الثوب بحال إذا غسل الثوب لا ينتقص الثوب لا يكون له حق الرد على ما هو المختار للفتوي في تلك المسألة. والعنة والخصاء عيب.
ذكر في «العيون» : والسن الساقط عيب ضرب كان أو غيره هو الصحيح، والظفر الأسود عيب إذا كان ينتقص الثمن، والثؤلول والخال كذلك عيب إذا كان ينتقص الثمن، والصهوبة في الشعر وفارسيته موري خرما كون عيب، والتخنث في الغلام عيب حتى لو وجده خنثاً رده بالعيب، لأن هذا مما يعده التجار عيباً قالوا: وهذا إذا كان التخنث من حيث العمل القبيح يأتي بالأفعال القبيحة، أما إذا كان التخنث من حيث المشية والقول لا يرد لأنه لا يعد عيباً، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن استاذه هذا إذا كان تخنثاً في الرد من أفعاله حتى كان يخالطه النساء ويفسدهن أما إذا كان به نوع رعونة ونوع تخنث للابن في صورته ويكسر في مشيته، فإن كان ذلك يسيراً لا يكون عيباً وإن كان فاحشاً يكون عيباً. والغشاء عيب وتفسيره عند بعضهم ضعف في البصر وعند بعضهم أن لا يبصر عند أدنى الظلمة، والعفل عيب وهو أن يكون المال منها شبه الكيس، والعتق عيب، قيل: معناه أن يصير المسلك واحداً، وقيل: معناه ريح في المثائة ربما يهيج بالإنسان فيقبله، والسلعة عيب وهو القروح التي في العتق يسمى بالفارسية «حول والكي» عيب إلا أن يكون سمه كما يكون في بعض الدواب والفحج عيب وهو في الأدمي يقارب صدور قدميه وتباعد عقبيه، والفدع عيب والمصدر أفدع وهو المعوج الرسمي، والحنف عيب وهو إقبال كل واحد من الإبهامين على صاحبه، والصدق عيب وهو يوسع مفرط في الغنم، والشتر عيب وهو انقلاب في الأجفان وبه كان يسمى «اليسر ناخنة وبادسيل سوي درجشم أبي درجشم» كل ذلك عيب، والجرب في العين في غير العين والسرقة والبول في الفراش، والأباق في حالة الصغر قبل أن يأكل واحده وقبل أن يشرب وحده ليس بعيب هذا هو لفظه «القدوري» وبعد لك هو عيب ما دام صغيراً فإذا بلغ فهو عيب أخر سوي الذي كان حتى لو أبق أو سرق في يد البائع قبل البلوغ ثم فعل عند المشتري بعد البلوغ لم يكن له أن يرده.
وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً يفعل البيع والشراء والأباق والسرقة والبول في الفراش فتقيد المسألة بالذي يعقل البيع والشراء دليل على أنه إذا كان لا يعقل البيع والشراء فهذه الأشياء منه لا تكون عيباً، وذكر في موضع آخر من «المنتقى» ما ذكر في «القدوري» .
ومن مشايخنا من قال: إنما تكون هذه الأشياء عيب إذا كان الصغير بحيث يميز أما(6/544)
إذا كان صغيراً جداً لا يكون عيباً، وبعض مشايخنا قالوا: البول في حالة الصغر إنما يكون عيباً إذا كان ابن خمس فما فوقه أما إذا كان ابن سنة أو سنتين فليس ذلك بعيب. فأما الجنون فهو عيب واحد في حالة الصغر والكبر حتى لو جن في يد البائع قبل البلوغ ثم جن عند المشتري بعد البلوغ فله الرد، وتكلم المشايخ في مقدار ما يكون عيباً من الجنون.
قال بعضهم: إن كان أكثر من يوم وليلة فهو عيب فما دونه فليس بعيب، وقال بعضهم: المطبق عيب وغير المطبق ليس بعيب. والسرقة وإن كانت أقل من عشرة دراهم عيب لأن السرقة أنما كانت عيباً، لأن الإنسان لا يأخذ ثمن السارق على مال نفسه، وفي حق هذا المعنى العشرة وما دونه سواء، وقيل: ما دون الدرهم نحو فلس أو فلسين أو ما اشبه ذلك ليس بعيب، والعيب في السرقة لا يختلف بين أن يكون من المولى أو غيره إلا في المأكولات فإن سرقه من المولي لأجل الأكل لا يعد عيباً ومن غير المولي يعد عيباً، وسرقة ما يؤكل لا لأجل الأكل بل لأجل البيع عيب من المولى وغيره، وإذا وهب البت ولم يختلس فهو عيب.m
والإباق ما دون السفر عيب بلا خلاف بين المشايخ وتكلموا في أنه يشترط الخروج من البلدة، وهذا لأن الإباق إنما كان عيباً لأنه يوجب فوات المنافع عن المولى وفي حق هذا المعنى السفر، وما دون السفر سواء.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأبقت عنده ثم وجدها واستحقها مستحق ببينة فذلك الإباق لزم لها أبداً، وكذلك لو أبقت من الغاصب إلى أن مولاها فهذا ليس بإباق وإن أبقت فلم يرجع إلى الغاصب ولا إلى المولى وهو يعرف منزل مولاها ويقوى على الرجوع إليه فليس بعيب، وإن أبقت في دار الحرب من المغنم قبل أن يقسم ثم ردت إلى المغنم فهذا ليس باباق، وإن بقيت في المغنم أو قسمت فوقعت في سهم رجل فأبقت في دار الحرب تريد الرجوع إلى أهلها أو لا تريد فهو إباق وهو عيب.
ثم اختلف المشايخ في فصل الجنون أن معاودة الجنون في يد المشتري هل هو شرط للرد، بعضهم قالوا: أنها ليست بشرط بل إذا ثبت وجوده عند البائع يرد به، وإليه مال شمس الآئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهرزاده، وهو رواية «المنتقى» فقد نص في «المنتقى» أنه إذا جن في صغره أو كبره مرة واحدة فذلك عيب فيه أبداً ولم يعادوه وفي الجامع الصغير يقول: الجنون عيب أبداً، وهذا لأن الجنون آفة تحل بالدماغ وهي إذا تمكنت لا تزول هكذا قاله أهل الطب، وإذا بقت في نفسه كان للمشتري (92أ3) حق الرد ان لم يجن في يده، وبعض مشايخنا قالوا: المعاودة في يد المشتري شرط وهو المذكور في «الأصل» وفي «الجامع الكبير» إذا ليس من ضرورة وجود هذه الآفة بقاؤها والله تعالى قادر على أن يزيل تلك الآفة بكمالها، وإن سلمنا أن تلك الآفة لا تزول بالكلية إلا أن مايبقى منها بعد زوال الجنون الظاهر إلا بعد عيبا لأنه يفوت بها شيء من المنافع وفيها عد الجنون من السرقة والإباق والبول على الفراش ذكرها شمس الأئمة الحلواني في شرحه ظاهر أن لايشترط المعاودة في يد المشتري.(6/545)
ومن المشايخ من قال: يشترط قال رحمه وهو الصحيح، وبعضهم ذكر في شروحهم إن معاودة هذه الأشياء في يد المشتري شرط بلا خلاف بين المشايخ هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في بعض روايات «كتاب الاستخلاف» أن المعاودة في يد المشتري ليس بشرط. وإذا اشترى جارية فوجدها ذميمة أو سوداء ليس له حق الرد بالعيب إذا كانت تام الخلقة.
وإذا اشترى غلاماً أمرد فوجده محلوق اللحية فهو عيب في فتاوي أبي الليث، وسيأتي فرع هذه المسألة بعد هذا ان شاء الله تعالى.
وإذا اشترى جارية تركية لا تعرف التركية أو لا تحسن والمشتري عالم بذلك إلا أنه لا يعلم أنه عيب عند التجار فقبضها ثم علم أنه عيب فإن كان هذا عيبا بينا لايخفى على الناس كالعور ونحوه لم يكن له أن يردها، لأنه لم يرمز به، وإذا اشترى جارية هندية لا تعرف الهندية، ينظر إن عده أهل المصر عيبا فله الرد وإن لم يعدوه عيباً فليس له الرد بخلاف المسألة الأولى، لأن ذلك عيب عند أهل البصر لامحالة ولا كذلك المسألة الثانية قيل: إذا كان لايعرف الترك والهندي فإن كان جلباً فالجواب ما ذكرنا، وإن كان مولداً فهو ليس بعيب. وإذا اشترى جارية فوجد بها وجع الضرس يأتي مرة أخرى فإن كان حديثاً فليس له الرد وإن كان قديما فله الرد لأنه علم أنه كان في يد البائع. في فتاوي أهل سمرقند وإذا كان بها حمى غبت في يد البائع فزال ثم عاد في يد المشتري إن عاد في يد المشتري غباً فله الرد لا تحاد السبب فإن اتحاد السبب يوجب اتحاد الحكم، وإن عاد في يد المشتري وبها فليس له أن يرد لاختلاف السبب، فإن إختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم.
وفي «فتاوى الفضلي» : اشترى عبدا فأصابه في يد المشتري حمى وقد أصابه في يد البائع فإن أصابه في يد المشتري لوقته فله الرد لأنه إذا أصابه لوقته علم أنه يولد بالسبب الذي كان يتولد عند البائع وأنه ذلك الحمى بعينه حكماً، وإن أصابه لغير وقته لايرد لأنه يولد من سبب آخر فكان حمى آخر فلا يكون له الرد به. وإذا اشترى جارية ثيباً على أن البائع لم يطأها ثم ظهر أنه قد كان يطؤها قبل البيع فليس له الرد في «الزيادات» في باب الكسب والعلة في الشرح. وفي الزيادات إذا اشترى جارية فوجدها مخترمة الوجه بحيث لايستبين لها صح ولا جمال كان له حق الرد لفوات صفة السلامة، فإن امتنع الرد بسبب من الأسباب فوهب مخرمة الوجه كما هي وقومت صحيحة غير محترمة الوجه، ولكن على الصح لاعلى الجمال فيرجع بفضل مابينهما، وإنما قومت على الصح لاعلى الجمال لأن المستحق بالعقد السلامة عن العيوب دون الجمال، ألا ترى لو اشترى جارية فوجدها مستحة وهي سليمة عن العيوب لايكون له حق الرد بسبب العيب، وهذه المسألة نص أن الفتح في الجواري ليس بعيب.
رجل اشترى من آخر غلاماً بركبته ورم فقال البائع: إنه ورم حديث أصابه ضرب فأورمه فليس بقديم فاشتراه المشتري على ذلك ثم ظهر أنه قديم فليس له أن يرده لأنه رأى العيب ورضي به، وكل عيب قديم حديث في أوله. وكذلك إذا قال البائع: إن كان قديماً(6/546)
فجوابه علي ثم تبين أنه قديم فليس له الرد، وكذلك إذا اشترى على أنه حديث فإذا هو قديم ليس له الرد ذكر المسألة في «فتاوى الفضلي» قيل: المسألة مشكلة فإنه إذا اشترى غلاماً به حمى فقال البائع: إنه غب واشتراه على ذلك فإذا هو ربع أو عكس فإنه يرده وهذا الإشكال ليس بشيء لأن هناك عاين الغب ورضي به وقد ظهر الربع والربع غير الغب لاختلاف مادتهما، ألا ترى أنه تختلف النوبة، والذي ظهر لم يعاينه ولم يرض به، فأما الورم بهذه الصفة قد يكون قديماً وقد يكون جديداً، وقد وقعت في زماننا واقعة من جنس مسألة ورم فقد باع واحد من الفقهاء فرساً وقد ظهر بإحدى رجليه فرجة هي أثر الحسام، فافتى ظهير الدين المرغيناني للمشتري ليس له الرد وقاسه على مسألة الورم.
وفي «صلح الفتاوى» : اشترى جارية وبها قرحه ولم يعلم المشتري أنها عيب فله الرد، وهذه تخالف مسألة الورم لأنه إذا لم يعلم أن هذه القرحة عيب لايكون راضيا بالعيب والصحيح من الجواب في مسألة القرحة أنه إن كان عيباً بيناً لايخفى على الناس لايكون له الرد لأنه قد رضي بالعيب وإن لم يكن هذا عيباً بيناً فله الرد.
وفي «صرف القدوري» : إذا قال: أبيعك هذه الدراهم وأراها إياه ثم وجدها زيوفاً قال: يستبدلها إلا أن يقول هي زيوف أو يبرأ عن عيبها.
ومن جنس مسألة الورم مسائل ذكرها في «فتاوى أبي الليث» .
صورتها: إذا اشترى من آخر سويقاً على أن البائع لته بمن من السمن والمشتري ينظر اليه وقت الشراء ثم ظهر أنه لته بنصف من من السمن فلاخيار لأن هذا شيء يعرف بالعيان وهو معاين مرئي، وهو نظير مالو اشترى صابوناً على أنه يتخذ من كذا حرة من الدهن فتبين أنه متخذ بأقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء أو اشترى من آخر قميصاً على أنه اتخذ من عشرة أذرع من كرباس فتبين أنه اتخذ من أقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء فإنه لاخيار للمشتري والمعنى ماذكرنا.
نوع آخر في معرفة عيوب الدواب
سئل شمس الأيمة الأوزجندي عمن اشترى بقرة فوجدها قليلة الأكل يقال بالفارسية «ناخوران» قال: له الرد، ولو وجدها بطيئة الذهاب يقال بالفارسية «كاهل» فليس له الرد، إلا إذا اشتراها بشرط أنها عجول. وفي «الفتاوى» : اشترى بقرة فوجدها لاتحلب إن كان مثلها يشترى للحلب فله الرد، لأن المعروف كالمشروط وإن كان يشترى للحم لايرد. وفي «المنتقى» إن كانت الدابة تعثر كثيراً دائماً فهو عيب، وإن كان في الاجالن فليس بعيب، ذكر في «الأصل» السم عيب وهو يبس في اليد أو في الرجل أو في المرفق، والجيف عيب وهو تداني القدمين وتباعد الفخذين، وقيل: هو خلاف العينين وهو أن يكون إحدايهما زرقاء والأخر غير زرقاء والعزل عيب وهو ميلان في الذنب، والمشيش عيب وهو شيء يخرج في ساق الدابة يكون له حجم وليس له صلابة، والجرد (92ب3)(6/547)
بالدال عيب وهو كل ماحدث في غير قوته من مربد أو انتفاخ عصب والفرموت نوسس وخلع الرأس عيب وهو أن يكون له حيلة بخلع رأسه وهو العدار أن سد عليه وبل المحلاة عيب إن كان ينقص الثمن، والمفهوع عيب فسره في «الأصل» فقال مأخوذ من الهممة وهي الدائرة التي في صدره من الجانب الأيسر ويكون ذلك انتصاب بشأم به، وفسر في «المنتقى» المفهوع: الذي إذا سار سمع مابين خاصرته ومرحه صوت والانتشاء عيب وهو انتفاخ العصب عند الإيعاب، وقيل: هو اتساع سواد العين حتى كاد يأخذ البياض كله، وإذا كانت الدابة تأكل الذباب فقد ذكر في موضع من «المنتقى» أنها إذا كانت تأكل الكسر فهو عيب، وإن كانت تأكل في الأحانين فليس بعيب، وذكر في موضع آخر منه أن محمداً رحمه الله سئل عن الشاة تأكل الذباب فلم يره عيباً ترد به. إذا اشترى خفين فوجدهما ضيقين لا تدخل رجله فيهما ذكر شيخ الإسلام في شرح بيوعه أنه إن كان لايدخل لا لعلة في رجله يرد، وذكر في «فتاوى الفضلي» : أنه إذا اشتراهما ليلبسهما لا يرد، وكان القاضي الإمام علي السعدي يفتي بالرد اشتراهما للبس أو لغير
اللبس، فإن وجد أحدهما أضيق من الآخر فإن كان خارجاً عما عليه خفاف الناس في العادة يرد ومالا فلا.
في «فتاوى الفضلي» : اشترى خشبة ووجد فيها فأرة ميتة فهو عيب، وإذا اشترى ثوباً فوجد فيه دماً إن كان ينقصه الغسل فهو عيب وإن كان لا ينقصه فليس بعيب، وقد مر شيء من هذا في النوع الأول ذكر المسألة في العيوب.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى من آخر ثوباً نجساً ولم يبين البائع جاز، وإذا علم المشتري فله الرد لأن النجاسة عيب لأنها تمنع أداء الصلاة، وعلى قياس المسألة الأولى تأويلها إذا كان الثوب بحال ينقصه الغسل. وإذا اشترى كرماً وظهر أنه شربة على تأوق يوضع على ظهر نهر أو على موضع آخر فله حق الرد لأنه عيب فاحش فيما بين الناس في هذا الموضع. أيضاً وإذا اشترى حنطة مشار اليها فوجدها رديئة فليس له حق الرد بالعيب وكذا إذا اشترى إناء فضة بعيبها فوجدها رديئة من غير شيء عشر ولا كسر فليس له حق الرد بالعيب، فلم يعتبر الرداءة في المكيل والموزون عيباً في «شرح الكافي» : في كتاب الصرف في باب العيوب.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: إذا اشترى نقرة فضة لعينها بدينار ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريتها على أنها بيضاء فإذا هي سوداء وقال البائع: لم اشترط شيئاً، فقال: السواد عيب في الفضة وللمشتري أن يردها.
اشترى حزمة بقل فأصاب في جوفها حشيشاً فإن كان ذلك يعد عيباً فله الرد فإن شاء رد وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن كان لا يعد عيباً ليس له الرد. في «واقعات الناطفي» إذا وجد في الأرض طريقاً يمر فيه الناس فهو عيب، في بيوع «فتاوى الفضلي» وجد في(6/548)
الكرم على كر فهو عيب في هذا الموضع أيضاً.
وفي «المنتقى» : اشتري مصحفاً فوجد في حروفه سقطاً، أو اشتراه على أنه منقوط بالنحو فوجد في نقطه سقطاً قال هذا عيب يرد منه، وفيه أيضاً وإذا اشترى مصحفاً على أنه جامع فإذا فيه أيتان ساقطتان أو آية، قال: هذا عيب يرد منه، ووجدت في موضع آخر: رجل اشترى مصحفاً لولده، قال المعلم أن فيه خطاءً كثيراً، قال: إن كان فيه خطأ الكتابة يرد ويرجع بالثمن.
وفي «فتاوى الفضلي» : لو اشترى أرضاً فنزت عند المشتري وقد كانت لك عند البائع فله أن يرد لأن سبب النز واحد وليس لها أسباب مختلفة، فيكون كالحمي إلا إذا رفع المشتري وجه الأرض فيعلم أنها نزت لرفع التراب، أو جاء الماء الغالب من موضع لأنه يعلم أن هذا غير النز الذي كان في يد البائع. وفي «فتاوى الصغرى» قال: ينظر إن كان النز بسبب آخر بأن كان في يد البائع بسبب نز نهر وفي يد المشتري بسبب نزنهر آخر لا يرد، وإن كان بغير ذلك السبب يرد ولا ينظر أن يكون النز صار في يدالمشتري أكثر مما كان في يد البائع، أو كان ذلك القدر إذا كان بغير ذلك السبب يملك الرد كيف ما كان. وكذلك إذا اشترى كرماً وقد ظهر في يد المشتري هماري يملك تخريجها بالتأمل.
وفي «فتاوى الفضلي» : أيضاً رجل اشترى جارية في إحدى عينيها بياض فانجلى البياض ثم عاد فقبض المشتري وهو لا يعلم بذلك، ثم علم، فله أن يرد، ولو قبض وفي إحدى عينيها بياض وهو لا يعلم ثم انجلى البياض ثم عاد لا يرده. والفرق وهو أن الثاني غير الأول حقيقة ففي الوجه الأول حدث في يد البائع فيوجب الرد، وفي الوجه الثاني حدث في يد المشتري فلا يوجب الرد.
وفي «فتاوى أبي الليث» : اشترى خمسمائة قفيز حنطة فوجد فيها تراباً إن كان ذلك التراب مثل ما يكون في مثل تلك الحنطة لايعده الناس عيباً ليس له أن يرجع بنقصان العيب فإن ذلك ليس بعيب، وإن كان مثل ذلك التراب لا يكون في مثل تلك الحنطة ويعده الناس عيباً، فإن أراد أن يرد الحنطة كلها فله ذلك لعدم المانع من الرد، وإن أراد أن يميز التراب فيرده على البائع بحصته من الثمن ويحبس الحنطة ليس له ذلك، لوجود المانع على ما تبين، هذا إذا لم يميز فوجد تراباً كثيراً يعده الناس عيباً فإن أمكنه أن يردها كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله أن يرد، لكنه أمكنه الرد كما قبض، وإن لم يمكنه الرد بذلك الكيل لو خلطهما بأن انتقص بالسقية ليس له الرد لأنه لايمكنه الرد كما قبض لكن يرجع بنقصان العيب، وهو نقصان الحنطة إلا أن يرضى البائع أن يأخذها ناقصة فيكون له ذلك لأن النقصان إنما يمنع الرد لحق البائع وقد رضي ببطلان حقه هذا إذا اشترى الحنطة، وكذا إذا اشترى السمسم وسائر ماكان نظير الحنطة فوجد فيه تراباً فهو على التفصيل الذي ذكرنا.
فرق بين هذا وبينما إذا اشترى مسكا فوجد فيها(6/549)
رصاصا حيث يميز الرصاص، ويرده على البائع بحصته من الثمن قل أو كثر، والفرق أن في الحنطة يسامح في القليل من التراب ولا يميز الكثير، لأن في ذلك ضرر بالبائع لما أنه لايظهر المسامحة في القليل وفي المسك لايسامح في القليل فلم يكن في التمييز ضرر بالبائع ولهذا يستوي فيه القليل والكثير في الحنطة لا فيه، أيضا لو اشترى نقرة من نحاس (فإذا بها) فخرج منها حجر مثل ما يخرج من النحاس، فله أن يمسك من الثمن بحسابه إلا أن يشاء البائع أن يأخذها كذلك ويرد الثمن كله لأن القليل من الحجر لا يسامح في النحاس كالرصاص في المسك. وإذا اشترى شحماً قديداً ووجد فيه ملحاً كثيراً فهو على ماذكرنا في الحنطة يجد فيها التراب.
نوع آخر في بيان ما يمنع الرد بالعيب وما لا يمنع
الأصل في هذا النوع أن المشتري متى تصرف في المشترى بعد العلم بالعيب تصرف الملاك بطل حقه في الرد، لأنه دليل الإمساك (93آ3) ودليل الرضا بالعيب، بيان هذا الأصل إذا اشترى دابة فوجد بها جرحاً فداواها أو ركبها لحاجة نفسه فليس له أن يردها لأن المداواة دليل الرضا والإمساك، وكذلك الركوب لحاجة نفسه، ولو داواها من عيب قد برئت إليه فله أن يردها بعيب آخر لم تبرأ إليه لأنه لم يرض بذلك العيب والاستخدام بعد العلم بالغيب مرة لايكون دليل الرضا، بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز أن يكون للامتحان والاختيار ليعلم أنه مع العيب هل يصلح له أم لا، ولكن هذا ليس بصحيح بدليل مسألة الركوب واللبس التي بعد هذا، ولكن الصحيح أن يقال: بأن الاستخدام مرة لايختص بالملك والاستخدام في المرة الثانية دليل الرضا، وكذلك الإكراه في المرة الأولى دليل الرضا. فسر الاستخدام في كتاب الإجازة فقال: بأن يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله عن السطح، أو بأن يأمرها بأن تغمز رجله بعد أن لايكون عن شهوة، أو يأمرها بأن تطبخ أو تخبز بعد أن يكون يسيرا، فإن أمرها بالخبز والطبخ فوق العادة فذلك يكون رضا. ولو ركب الدابة ينظر إلى سيرها أو لبس الثوب ينظر إلى قدره فهذا منه رضا، وقد ذكرنا في خيار الشرط أن ذلك ليس برضا.
والفرق أن خيار الشرط مشروع للاختيار، والركوب واللبس مرة محتاج إليه للاختيار فلو بطل خيار الشرط بالركوب واللبس مرة لفاتت فائدة خيار الشرط، فأما خيار العيب ماشرع للاختيار إنما شرع للرد ليصل إلى رأس ماله عند عجزه عن الوصول إلى الجزء الفائت فلم يكن هذا التصرف في خيار العيب محتاجاً إليه للاختيار وإنه لايحل بدون الملك فيجعل دليل الرضا. والركوب ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون دليل الرضا استحساناً قال مشايخنا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب، بأن كان لايمكنه ضبطها إلا بالركوب، فأما إذا أمكنه ذلك بدون الركوب كان الركوب رضا.
والدليل على صحة هذا ماذكر محمد رحمه في «السير الكبير» أن جوالق العلف إذا كان واحداً فركب فهذا لا يكون رضا، لأن الجوالق إذا كان واحداً لا يمكن حمله إلا(6/550)
بالركوب، وإذا كان الجوالق اثنين فركب يكون رضا لأن حمل الجوالق بدون الركوب ممكن. ومن المشايخ من قال: الركوب للرد لايكون رضا وإن أمكنه الرد بدون الركوب، لأنه يفضي إلى الرد وتفرق ولا كذلك الركوب للسقي والعلف، ولو حمل عليها علفها وركبها مع العلف فهذا ليس برضا، وإنه مؤول عند بعض المشايخ على ما ذكرنا، ولو حمل عليها علف دابة أخرى وركبها أو لم يركبها فهذا يكون رضا. والسكنى في الدار هل يكون رضا فهو على ماذكرنا في خيار الشرط. وعن أبي يوسف: فيمن اشترى جارية لها لبن فأرضعت صبيا لها أو للمشتري ثم وجد المشتري بها عيباً فله أن يردها، ولو أنه حلب لبنها واستهلك لبنها أو شربه ثم وجد بها عيباً لم يردها، وعلى هذا قالوا: إذا اشترى شاة فرضعها ولدها ثم أطلع على عيب بها بعد ذلك فله أن يردها، فأما إذا حلبها فاتلفه لم يكن له أن يردها بالعيب إذا اطلع عليه بعد ذلك. وفي «المنتقى» إذا اشترى شاة وشرب من لبنها قال أبو يوسف: له أن يردها بالعيب، وفيه عن محمد اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيباً يلزمه ويرجع بنقصان العيب، وإن جز صوفها ثم وجد بها عيباً، فإن لم يكن الجز نقصاناً فله أن يردها قال محمد رحمه: والجز عندي ليس بنقصان.
وفي موضع آخر من «المنتقى» : إذا جز صوفها بعد العلم بالعيب فهو رضا، ولو أخذ من صوفها فليس برضا. وفي «النوادر» عن أبي يوسف إذا اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيباً فإني أقسم الثمن على قيمتها وقيمة اللبن فيردها بحصتها من الثمن. وفي «المنتقى» إذا أطلاه بعدما رأى به العيب أو حجمه أو أخر رأسه فليس برضا، وفيه عن أبي يوسف إذا اشترى جارية فوجد بها عيباً، فداواها فإن كان ذلك دواءً من ذلك العيب فهو رضا، وإن لم يكن دواءً منه فليس برضا إلا أن يكون ذلك نقصها فهو رضا، ولو أصابها عنده فسق عنها إن كان ذلك ينقصها فهو رضا، وإن لم ينقصها فليس برضا. ولو حجم العبد بعد النظر إلى العيب فإن كانت الحجامة دواء ذلك العيب فهو رضا، وإن لم تكن دواء ذلك العيب فليس برضا، قال الحاكم أبو الفضل: جعل الحجامة والتوديج في موضع آخر رضاً من غير اشتراط هذا الشرط.
وفي «المنتقى» : أيضا اشترى جارية فوجد بها عيباً فداواها من عيب قد كان برئ إليه البائع فهذا لايكون رضا بالعيب الذي وجده، وفي بيوع «فتاوى أبي الليث» : اشترى أمة ترضع وأمرها أن ترضع صبياً له فهذا لا يكون له رضاً لأن الأمر بالإرضاع استخدام ولو حلب لبنها وأكل أو باع فهذا رضا لأن اللبن جزء منها واستيفاء جزء منها دليل الرضا، ولو حلب لبنها ولم يبع ولم يأكل فكذلك الجواب. وفي صلح الفتاوى أن الحلب بدون البيع أو الأكل لا يكون رضا.
وفي «المنتقى» : اشترى مملوكاً ووجد به عيباً ورضي به فإن أثر به الضرب لم يرده، وإن لم يكن له أثر فله أن يرده، وفي موضع آخر منه قال: فضربه ضرباً لم يؤثر بأن لطمه أو ضربه سوطين أو ثلاثة فله أن يرد. وإذا وطيء الجارية المشتراة ثم أطلع على عيب بها لم يردها ويرجع بنقصان العيب سواء كانت بكرا أو ثيبا إلا أن يقول البائع: أنا أقبلها(6/551)
كذلك، وكذلك إذا قبلها بشهوة وكذلك الجارية إذا جعلت أجرة فوطئها الآخر ثم أطلع على عيب بها فليس له أن يردها ولكن يرجع بنقصان العيب إلا أن يقول المستأجر: أنا أقبلها كذلك، وإن وطئها المشتري أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة بعدما علم بالعيب فهو رضا بالعيب وليس له أن يردها، إلا أن يرجع بنقصان العيب، وإذا وطئها غير المشتري في يد البائع بزنا فليس له أن يردها بكراً كانت أو ثيباً ويرجع بنقصان العيب إلا أن يرضى البائع أن يأخذها كذلك، لأنها تعيبت عنده بعيب زائد وهو عيب النقصان أن أوجب النقصان الوطء نقصاناً أو عيب الزنا إن لم يوجب الوطء نقصاناً فيها، وإن كان الوطء بشبهة حتى وجب العقر على الواطء فليس له أن يرد وإن رضي به البائع، لمكان الزيادة، على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعإلى.
ولو زوجها المشتري لم يكن له أن يردها وطىء الزوج أو لم يطأها رضي البائع أو لم يرض، لأن النكاح يوجب الصداق والصداق زيادة منفصلة وإنها تمنع الرد على مايأتي بيانه. ولو كان لها زوج عند البائع فوطئها عند المشتري فإن كانت الجارية بكراً فليس للمشتري أن يردها بالعيب (93ب3) إلا برضا البائع لأنه فات جزء منها في ضمان المشتري بقسم من العباد، وإن كانت الجارية ثيباً إن نقصها الوطء فكذلك الجواب لايملك المشتري ردها إلا برضا البائع، وإن لم ينقصها الوطيء كان للمشتري أن يردها على البائع، هذا الذي ذكرنا في السبب إذا وطئها الزوج في يد البائع مرة، ثم وطئها عند المشتري، وأما إذا لم يطأها عند البائع مرة إنما وطئها عند المشتري لم يذكر محمد رحمه هذا الفصل في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يرد.
ذكر في «المنتقى» إذا اشترى جارية وقبضها ولها زوج كان عند البائع فوطئها الزوج في يد المشتري لم يمنع وطئه المشتري عن الرد بالعيب، وإن كان الوطء عيباً قد برئ البائع إلى المشتري منه، وإذا عرضه على البيع بعدما علم بالعيب أو أجره أو رهنه فذلك رضا بالعيب وليس له أن يرد ولا ان يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى برذوناً وأخصاه ثم اطلع على عيب به كان له الرد إذ لم ينقصه الخصي ذكره في «فتاوى أهل سمرقند» : وكان الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرعيناني يفتي بخلافه.
قال محمد رحمه في «الجامع الصغير» : إذا اشترى من آخر ثوباً فقطعه ولم يخطه حتى اطلع على عيب به لم يرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك، وإن كان المشتري صبغه أحمر ثم وجد به عيباً لايرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك، فليس له ذلك، هذه المسألة تبتني على أصل أن المبيع إذا انتقص في يد المشتري بآفة سماوية أو بفعل أجنبي ثم اطلع المشتري على عيب كان عند البائع لايرده بالعيب، لأن حق الرد إنما يثبت للمشتري دفعاً للضرر عنه ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بالأضرار للغير. وفي «المنتقى» الرد بعدما انتقص في يد المشتري إضرار بالبائع فلا يملك المشتري رده ولكن يرجع بنقصان العيب دفعاً للضرر عن نفسه، غير أن النقصان إذا كان بآفة سماوية أو(6/552)
بفعل المشتري فامتنع الرد لدفع الضرر عن البائع لاغير، فإذا قال: أنا أقبله كذلك فقد رضي بالضرر وله ذلك فكان للمشتري أن يرده، وإذا كان النقصان بفعل أجنبي من قطع أو ماأشبهه حتى وجب الأرش فامتناع الرد لحق البائع دفعا للضرر عنه وبحق الشرع أيضاً، لأن العقد لم يرد على الأرش فلا يرد عليه الفسخ فتعذر رد الارش ورد المبيع بدون رد الأرش متعذر لمكان الربا لأن الأرش يبقى في يد المشتري مبيعاً مقصوداً بلا عوض وأنه ربى، والربا حرام حقاً للشرع، وإذا قال البائع: أنا أقبله كذلك، فقد أراد بطلان حق الشرع وليس للعبد هذه الولاية، هذا هو الكلام في النقصان الحادث في يد المشتري.
جئنا إلى الزيادة الحادثة في يد المشتري فنقول: الزيادة نوعان متصلة ومنفصلة فالمتصلة نوعان غير متولدة عن المبيع كالصبغ وما أشبهه وأنها تمنع الرد بالعيب بالاتفاق سواء قال البائع أنا أقبله كذلك أو لم يقل، لأنها تمنع الفسخ في ملك الأصل لأن الملك لو فسخ في الأصل لأدى أن يفسخ في الأصل والزوائد، وفي الأصل لاغير لاوجه إلى الأول لأنه لو فسخ الملك في الزوائد أما أن يفسخ مقصودا ولا وجه إليه، لأنه لم يرد عليها عقد ولا ما له شبهه بالعقد مقصوداً، أو يفسخ الملك في الزوائد تبعاً لفسخ الملك في الأصل ولا وجه إليه أيضاً، لأن هذه الزوائد إن كانت تبعاً للأصل بحكم الاتصال فلها حكم الأصل، لأنها كانت أصلا قبل الاتصال ولا وجه إلى أن يفسخ الملك في الأصل بدون الزوائد لأنه يؤدي إلى أمر غير مشروع، لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل ملكاً للبائع، ويبقى الأصل الصبغ للمشتري، والشركة على هذا الوجه وفي حق هذا المعنى لافرق بين أن يقول البائع: أنا أقبل كذلك، وبين أن يقول: ومتولدة من المبيع كالسمن والجمال وإنها لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية لأن فسخ العقد على الزيادة ممكن تبعاً للأصل إذا رضي من له حق في الزيادة لأن السمن والجمال وأنها تبع للأصل من كل وجه لايتصور أصلا بحال، لأنه متصل بالأصل فيكون تبعاً له بحكم الاتصال فإذا انفسخ العقد على الأصل ينفسخ فيهما، فإن أبى المشتري الرد وأراد الرجوع بنقصان العيب، وقال البائع لا أعطيك نقصان العيب ولكن رد علي المبيع حتى أرد عليك جميع الثمن هل للبائع ذلك، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ليس له ذلك، وعلى قول محمد له ذلك، وهذا لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع فسخ العقد على الأصل إذا لم يوجد الرضا بمن له الحق في الزيادة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لايمنع فسخ العقد في الأصل وجد الرضا في من له الحق في الزيادة أولم يوجد، كما في المسألة المهر إذا ازداد زيادة متصلة بعد القبض ثم
طلقها الزوج قبل الدخول بها هذا هو الكلام في الزيادة المتصلة.
وأما الزيادة المنفصلة فنوعان أيضاً:
متولدة عن المبيع: كالولد والتمر وماهو في معناهما كالأرش والعقر وأنها تمنع الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ عندنا، لأنه لايمكن فسخ العقد على الزيادة(6/553)
لامقصودا لما ذكرنا ولا تبعاً للأصل، لأن الولد بعد الانفصال ليس تبع الأصل لاحقيقة وهذا ظاهر ولاحكماً، فإن شيئاً من أحكام البيع لايثبت في الولد الحادث بعد القبض، ولا يجوز أن يفسخ العقد في الأصل دون الولد لأن الولد مبيع من وجه لأنه متولد من المبيع والمتولد من الشيء يحدث على صفة الأصل كالمتولد من المدبر والمكاتب، وما يكون مبيعاً من كل وجه لايسلم للمشتري بعد فسخ العقد مجازاً بغير عوض، لأنه يكون ربى فكذا ما يكون مبيعاً من وجه وهنا بعدما فسخ العقد في الأصل يبقى الولد سالما للمشتري مجاناً بغير عوض.
وغير متولدة من المبيع: كالكسب والغلة وأيهما لايمنعان الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ، وطريقه أن يفسخ العقد في الأصل دون الزيادة ويسلم الزيادة للمشتري مجاناً بغير عوض وأمكن القول به، لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة بوجه ما لأنه لم يرد عليها العقد وماله شبه العقد، وما تولد من عين المبيع حتى يكون مبيعه بحكم التوليد بل تولدت من المبيع والمنافع غير الأعيان. ولهذا كانت منافع الحر مالا مع أن الحر ليس بمال وكسب المكاتب والمدبر لايكون مكاتباً ومدبراً، وسلامة ماليس بمبيع بوجه ما، للمشتري لايمنع فسخ العقد على الأصل، لأنه لا يؤدي إلى الربا.
إذا ثبت هذا الأصل جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا اشترى ثوباً وقطعه ولم يخطه فامتناع الرد لنقصان حصل بفعل المشتري، فيرتفع برضا البائع لما قلنا، وإن صبغ الثوب بعصفر فامتناع الرد بسب الزيادة المتصلة وأنها لا ترتفع برضا البائع لما ذكرنا، فعلى هذا إذا قطع الثوب وخاطه ثم وجد به عيباً فقال البائع: انا أقبله كذلك، ليس له ذلك، لأن امتناع الرد ههنا بسبب الزيادة المتصلة وهي الخياطة ولا يرتفع برضا البائع. وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً كاتباً أو خبازاً وقبضه فنسي ذلك في يده ثم اطلع على عيب به فله أن يرده.
وفي «المنتقى» : اشترى من آخر تمراً بالري وحمله إلى الكوفة ثم اطلع على عيب (94آ3) هناك فإن أراد أن يرده قال محمد رحمه: ليس له ذلك حتى يرده إلى ذلك الموضع علل فقال: لأن لحمله مؤنة ولو كان مكان التمر جارية فقد أشار محمد رحمه إلى أنها ليست نظير التمر، حيث قال: أرى سعر هذه ثمة وههنا قريباً ولا أرى لحملها تلك المؤنة.
وفي «القدوري» : اشترى شيئاً وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فله أن ينقض الإجارة ويرد المستأجر بالعيب بخلاف مالو رهنه من غيره، والفرق أن الإجازة تنقض بالاعذار والرهن لا.
قال محمد رحمه في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بيضاء إحدى العينين وهو يعلم بذلك فلا خيار له في ردها، لأن العيب إنما يثبت حق الرد للمشتري إذا عجز البائع عن تسليم بالتزام، ولم يعجز لأنه التزم تسليمها معيبة لما علم المشتري بعيبها وقت البيع، فإن لم يقبضها المشتري حتى انجلى البياض ثم عاد البياض(6/554)
فهي لازمة للمشتري ولا خيار له في ردها، وعن أبي يوسف: أن له الخيار، والصحيح ماذكر في ظاهر الرواية، لأن البياض الثاني وإن كان غير الأول حقيقة فهو غير الأول حكماً من حيث أن البائع بسببه لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم بيانه، وهو أن المشتري لما اشتراه مع علمه بالبياض الأول فالبائع لم يلتزم تسليمها سليمة عن عيب البياض بهذه العين، وإنما التزم تسليمها معيبة بهذا العيب والبياض الأول وقت العقد كان بياضاً ظاهراً مع احتمال أن لا يكون والثاني بهذه الصفة فكان الثاني غير الأول حكماً من حيث أن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو اشترى جارية وبنتها ساقطة أو سوداء والمشتري علم بذلك فلم يقبضها حتى ثبت بنيتها الساقطة أو ذهب السواد عن بنيتها ثم سقطت تلك البنية أو عاد السواد فالجارية لازمة للمشتري وإنما كانت لازمة لأن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم على ماذكرنا، ولم ير عن أبي يوسف في مسألة السن بخلاف ما ذكره في «الكتاب» . واختلف المشايخ في ذلك منهم من قال: هذا قول الكل، ومنهم من قال: لا بل مسألة السن على الاختلاف أيضا. ولو قبضها وهي بيضاء إحدى العينين أو بينتها ساقطة وهو يعلم بذلك ثم انجلى البياض وثبتت البينة ثم عاد البياض وسقطت البينة، ثم وجد بها عيباً آخر كان عند البائع ردها بذلك العيب، لأن الواجب على المشتري أن يردها على الوجه الذي قبضها، وقد قبضها معيبة بهذا العيب.
قال في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو اشترى شاة حاملاً وولدت في يد المشتري ولداً ثم هلك الولد ثم وجد بها عيباً كان له أن يردها على البائع، لأن الولادة لا تمكن نقصاناً في الشاة ليمتنع الرد بسبب ذلك، لكن امتناع الرد بالولادة باعتبار أن بالولادة حدث زيادة منفصلة، فإذا هلكت فقد ذهبت الزيادة وجعلت كأن لم تكن فكان المشتري قادراً على رد ماقبض كما قبض كذا هنا. ولو لم يعد البياض في العين التي ذهب عنها البياض لكن ابيضت العين الأخرى لم يكن له أن يرد الجارية بعيب أبداً، لأنه عجز عن ردها كما قبضها لأنه قبضها وهي صحيحة هذه العين، والآن يردها وهي مبيضة هذه العين، ولم تبيض العين الأخرى ولكن عاد البياض في العين التي ذهب عنها البياض بفعل المشتري بأن ضرب المشتري عينها فابيضت ثم وجد بها عيباً آخر كان عند البائع لم يكن له أن يردها، بخلاف ما إذا عاد البياض، والفرق أنه لما انجلى البياض فقد حصلت زيادة متصلة فإذا ضربها المشتري صار جالباً تلك الزيادة وإنه مانع من الرد، بخلاف ما إذا عاد البياض بضرب الأجنبي في يد المشتري حيث لا يكون للمشتري أن يردها بالعيب، وإن رضي به البائع. والفرق أن في الفصل الأول المانع من الرد حق البائع فإذا أسقط حقه (سقط) ، والمانع في الفصل الثاني حق الشرع (وهو) لا يسقط بإسقاط العبد.
هذا الذي ذكرنا كله إذا اشتراها مع علمه ببياض إحدى العينين، فأما إذا اشتراها ولم يعلم لكونها بيضاء إحدى العينين وقبضها ثم علم كان له أن يرد فإذا لم يرد حتى انجلى البياض لم يكن له أن يردها بعد ذلك، وإن استحقها سليمة لما لم يعلم بالعيب(6/555)
وقت العقد لأنه لما انجلى البياض فقد استوفى عين حقه لايكون له الخيار فإن عاد البياض لايكون له أن يردها أيضاً لما ذكرنا أنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفياً عين حقه حكماً وبعود البياض لاينتقض الاستيفاء، لأن قبض المبيع لايحتمل الانتقاض كما لو قبض السلامة ثم فاتت. ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها به لأنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفياً عين حقه حكماً فوقعت البراءة للبائع عن العيب، لأن البراءة كما تقع بالإبراء تقع بالاستيفاء فصار كأنه أبرأه نصاً عن هذا العيب. ولو أبرأه المشتري عن عيب ثم وجد بالمبيع عيباً آخر كان له أن يرده بذلك العيب فههنا كذلك فقد جعل البياض العائد كأنه غير الأول في حق الرد به، وجعل كأنه عين الأول في حق الرد بعيب آخر. وكذلك إذا اشترى جارية وهي ساقطة البينة أو مسودة البينة وهو لا يعلم بذلك فقبضها، ثم علم بذلك، ثم زال السواد وثبت البينة لم يكن له أن يردها ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها.
ثم في كل موضع ثبت للمشتري حق الرد إذا قال في وجه البائع: قد أبطلت البيع إن كان قبل القبض انتقض البيع، قبل البائع أو لم يقبل، وإن كان بعد القبض، فإن قبل البائع فكذلك ينتقض البيع، وإن لم يقبل لاينتقض البيع.
وإن كان بغير محضر من البائع لاينتقض البيع وإن كان قبل القبض، أصل المسألة في العيوب وفصل الحضرة في وكالة السامي. وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً محموماً كأن تأخذه الحمى كل يومين أو ثلاثة فأطبق عليه عنده فله أن يرده وأنه يخالف ماذكر في «فتاوى أبي الليث» ، فقد ذكر ثمة إذا اشترى عبداً وبه مرض في يد المشتري، فليس له أن يرده ويرجع بالأرش، وكذلك إذا كانت قرحة فانفجرت عنده أو جدري فانفجر فله أن يرده، ولو كان به جرح فذهبت يده به، أو كانت موضحة فصارت آمة فليس له أن يرده. وفيه أيضاً إذا اشترى عبداً فاستقاله فأبى أن يقيله، قال هذا ليس بعرض على البيع وله أن يرده، إذا وهب المبيع بعدما اطلع على عيب به ولم يسلم فليس له أن يرده على بائعه لأن هذا دلالة الرضا بالعيب، ألا ترى أن العرض على البيع يمنع الرد وإنما منع لأنه دلالة الرضا، ولو فعل شيئاً من ذلك قبل العلم بالعيب، يعني العرض والهبة بدون التسليم فهذا لايكون رضا، ولايمنع الرد لو علم بالعيب بعد (94ب3) ذلك، مسألة الهبة في «فتاوى أبي الليث» اشترى شيئاً أو خاصم البائع في عيب به، وترك الخصومة أياماً ثم عاد إلى الخصومة قال: لأنظر وأسأل أهذا عيب فله أن يخاصمه في العيب ويرده، لأن هذا ليس دلالة الرضا وكذا إذا أراد الرد ولم يجد البائع فأطعمه وأمسكه أياماً ولم يتصرف فيه تصرفاً يدل على الرضا ثم وجد البائع فله أن يرد، قال محمد رحمه الله: على هذا أدركت مشايخ زماني.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً ثم ان المشتري أمر رجلاً ببيعه ثم علم الآمر بعد ذلك أن به عيباً، قال: إن باعه الوكيل بمحضر من الموكل ولم يقل الموكل شيئاً فهذا منه رضا بالعيب، حتى لو لم ينقض البيع ليس للمشتري أن يرد العبد على بائعه(6/556)
بذلك، قال: وكذلك إن أعلمه الوكيل أنه ذهب من فوره ليبيعه فلم ينهه أو أخبره أن الوكيل ساوم به وهويعرضه ليبيعه فلم ينهه فهذا منه رضا. اشترى أبريسماً فإذا هو «دار وكرده امله» لايرده ويرجع بالنقصان، لأن الباب في الابريسم عيب اشترى كرماً فأكل الثمار ثم اطلع على عيب فليس له الرد وإن رضي البائع، وكذا إذا اشترى بقرة فأكل من لبنها.
اشترى قدوماً وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به لم يرده، ولو اشترى ذهباً وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به يرده، لأن الذهب لاينتقص بالإدخال في النار والحديد ينتقص، سئل شمس الأئمة الأوزجندي عمن اشترى منشاراً وحدده ثم اطلع على عيب به قال: لم يرده إلا برضا البائع، لأنه ينتقص منه شيء بسبب التحديد. قال محمد رحمه: رجل اشترى من آخر عبداً قد سرق عند البائع ولم يعلم، فقطع عند المشتري فللمشترى أن يرده على البائع، ويرجع بجميع الثمن، وقال أبو يوسف ومحمد: لايرده ولكن يرجع نقصان العيب فيقوم سارقاً وغير سارق فيرجع بفضل ما بينهما، وحاصل هذا أن أبا حنيفة يجعل هذا بمنزلة الاستحقاق فيكون عيباً في الباقي مضافاً إلى ضمان البائع، وهذا إذا اشترى عبداً فوجده حلال الدم بقصاص، أورده وقبل ذلك المشتري يرجع على البائع بجميع الثمن بمنزلة مالو استحق العبد، وعندهما يقوم مباح الدم ويقوم معصوم الدم فيرجع بفضل ما بينهما.
وفي «نوادر هشام» : قال: قلت لمحمد: ففي قياس قول أبي حنيفة إذا اشترى عبداً قد سرق عند البائع ولا يعلم به المشتري وسرق عند المشتري أيضاً فقطعت يده بالسرقتين جميعاً، قال: يرجع عليه بالنصف وجه قولهما: أن فوات المبيع مضاف إلى أمر حادث في ضمان المشتري، لا إلى أمر كان في ضمان البائع فلا يجري مجرى الاستحقاق لمن اشترى جارية حاملاً وولدت وهلكت في نفاسها، لايضاف الهلاك إلى أمر كان في ضمان البائع، ولا يجري مجرى الاستحقاق وإنما كان كذلك، لأن السبب الموجود في يد البائع حل بالدم والحياة وأثر في إتلافهما دون المالية، وإنما ذهبت المالية ضرورة أنها لا تبقى بدون الحياة وهذا أمر غير مضاف إلى الجناية، ولأبي حنيفة وجهان أحدهما: أن التلف حصل بفعل كان في ضمان البائع فينتقص به قبض المشتري، ويجعل كأنه تلف في يد البائع، وقاسه على مالو غصب عبداً فقتل العبد رجلاً في يد الغاصب ثم رده فقتل قصاصاً يرجع المالك على الغاصب بجميع القيمة، لأن الرد انتقص بسبب كان عند الغاصب فصار كأنه قتل في يد الغاصب، من المشايخ من ربط هذا الوجه بمسائل منها: أن البائع لو قطع يده ثم باعه فمات العبد في يد المشتري من القطع، لا يرجع المشتري على البائع بجميع الثمن، وإن زال القبض بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى أمة حبلى فولدت عند المشتري فماتت لا يرجع بجميع الثمن وإن ماتت بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى عبداً محموماً ولم يعلم به ثم قبضه ثم مات من الحمى يرجع بالنقصان لابجميع الثمن، وإن مات بسبب كان في يد البائع، إلا أن هذا ليس بشيء والمسائل غير لازمة، أما مسألة قطع اليد فلأن قطع اليد لايوجب الهلاك لامحالة وهو التحريج لمسالة الحمى، وأما في فصل الولادة فمن مشايخنا من قال مسألة الولادة على هذا الخلاف أيضا، وما ذكر في «الكتاب» : أنه لايرجع بجميع الثمن قولهما، وأما على قول أبي حنيفة يرجع بجميع الثمن الذي الدليل عليه أن محمداً
رحمه ذكر في «الكتاب» إذا غصب من آخر جارية فحبلت عند الغاصب فردها على المالك فولدت وماتت في نفاسها قال: يرجع بجميع القيمة على الغاصب عند أبي حنيفة، وجعل كأنها ماتت في يد الغاصب كذا هنا وإن سلمنا فوجه التخريج أن الولادة ليست بسبب الهلاك لامحالة والتقريب مامر وجه آخر لأبي حنيفة أن العبد الذي هو مستحق القتل لا قيمة له إذا القيمة عبارة عن الغرة وغرة الأشياء باعتبار مولها وإدخارها لإقامة المصالح، ومتى كان مستحق القتل، كان حرام الاستيفاء فلم يكن متقوماً، والبيع لاينعقد على غير المتقوم كالميتة والدم والخمر فإن كان المشتري علم بذلك العيب، فعندهما لزمه العبد ولا يرجع بنقصان العيب، لأنه عيب رضي به. وأما عند أبي حنيفة فمن مشايخنا من قال: أنه عند أبي حنيفة كذلك وهو غير صحيح، إنما الصحيح أن عند أبي حنيفة رحمه الله العلم والجهل سواء، لأن هذا بمنزلة الاستحقاق عنده والعلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع وأن يداوله البيوع ثم قتل عند المشتري الآخر يراجعون عند أبي حنيفة بمنزلة الاستحقاق وعندهما بمنزلة العيوب. وإن كان المشتري أعتق العبد ثم قتل، فعندهما يرجع بنقصان العيب، وأما عند أبي حنيفة فعلى قول ماذكرنا في الوجه الأول له أن بالقتل يموت يد المشتري مضافاً إلى سبب كان في يد(6/557)
البائع ينبغي أن لا يرجع بفيء، لأن بالإعتاق فات ملك المشتري قبل القتل والقطع لايتصور انتقاصه بالقطع والقتل، وعلى قول ماذكرنا من الوجه الثاني أن البيع غير منعقد لعدم تقوم العبد يرجع بجميع الثمن.
ذكر الحسن بن زياد في «كتاب الاختلاف» : إذا اشترى بدراهم وتقابضا ثم باعه المشتري من بائعه ثم وجد به عيباً قديماً، قال أبو يوسف: له أن يرده على المشتري الأول إذا لم يعلم به وقال: هو قول أبي حنيفة.
وفي «شرح الجامع» : من تعليقي في كتاب الوكالة في باب القتل نقل الوكالة في الطلاق، رجل اشترى من آخر عبداً وباعه من غيره ثم اشتراه من ذلك الغير ثم اطلع على عيب كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه غير مفيد، لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه ثانياً لأنه اشتراه منه فلا يفيد الرد لايرده على البائع (95آ3) الأول لأن هناك الملك غير مستفاد من جهة فيسمي البائع الأول صالحاً والمشتري الأول جعفر أو المشتري الثاني زيداً وصور مسألتنا بعد تسمية هؤلاء اشترى جعفر عبداً من صالح ثم إن جعفراً باعه من زيد ثم إن جعفر اشتراه من زيد ثانياً ثم أطلع على عيب قديم كان بالعبد، فعلى ما ذكر في «الجامع» : ليس لجعفر أن يرده على زيد، لأنه لو رده على زيد كان له أن(6/558)
يرده على جعفر لأنه قد اشتراه منه فلا يفيد الرد، وعلى ما ذكر الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» كان لجعفر أن يرده على زيد ثم يرد زيد على جعفر وأنه مقيد حتى يرده جعفر على صالح، لأن بدون ذلك لا يعود إلى جعفر قديم ملك إلا المستفاد من جهة صالح ثم على ما ذكره في كتاب الاختلاف إذا رد جعفر العبد على زيد رده زيد على جعفر إنما كان لجعفر حق الرد على صالح إذا كان الرد على جعفر نقصان لأن الرد بالقضاء فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فيعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهته صالح في حقه صالح فكان له الرد على صالح فأما إذا كان الرد على جعفر بغير قضاء والرد بغير قضاء بيع جديد في حق الثالث لا يعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهة صالح فلا يكون له الرد على صالح، وتبين بما ذكر في كتاب «الاختلاف» المذكور في «شرح الجامع» قول محمد.d
وفي «المنتقى» : إذا اشترى من آخر ديناراً بدرهم أن مشتري الدينار باع الدينار من رجل آخر ثم وجد المشتري الآخر بالدينار عيباً ورده على المشتري الأول بغير قضاء كان للمشتري الأول أن يردها على بائعه بذلك العيب، ولا يشبه الصرف ههنا العروض قال: لأن البيع لا يقع على الدينار ببيعها، وعلى هذا إذا قبض رجل دراهم له على رجل وقضاها آخر فوجد فيها زيوفاً وردها عليه بغير قضاء قاضي فله أن يردها على الأول. وفي «المنتقى» : اشترى عبداً فوجده أعمى فقال المشتري للبائع: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن جاز عني وإلا رددته فله أن يرده، وهو نظير مسألة الثوب التي بعدها. وفي «العيون» : اشتري من آخر ثوباً فإذا هو صغير فأراد رده فقال له البائع: أره الخياط فإن قطعه وإلا رده عليَّ فأراه الخياط فإذا هو صغير فله أن يرده، وكذا الخف والقلنسوة، وكذا إذا قضاه دراهم زائفة، وقال للقابض: أنفقها فإن جازت عليك وإلا يردها علي، فقبلها على ذلك فلم تنفق عليه فله أن يردها استحساناً ذكره في كتاب «الصلح من النوازل» . وفي «المنتقى» اشترى شيئاً بألف درهم وقبض الألف فوجدها نبهرجة ثم عرضها على البائع فهو رضا منه بها وليس له أن يردها، وعن أبي يوسف أنه لا يكون رضا وله أن يردها.
وفي «المنتقى» عن محمد المشتري في خيار العيب إذا قال للبائع أن لم أردها إليك اليوم فقد رضيتها بالعيب فهذا القول باطل وله الرد، وفيه أيضاً رجل اشترى من رجل داراً فادعى رجل فيها مسيل ماء وأقام على ذلك بينة فهو بمنزلة العيب فإن شاء المشتري أمسكها بجميع الثمن وإن شاء ردها، وإن كان قد بني فيها بناء فله أن ينقض بناءه وليس له أن يرجع بقيمة بنائه لأن هذا عيب وليس باستحقاق شيء منها، وفيه أيضاً رجل اشتري من آخر عبداً بكر موصوف بغير تعينه، وتقابضا ثم وجد بائع العبد بالكر عيباً ووجد به عنده عيب آخر فإنه لا يرجع بشيء، وإن كان الكر بعينه عند الشراء رجع في العبد بمثل نقصان العيب في الكر إلا أن يرضى البائع وهو مشتري العبد أن يأخذ الكر بعينه ويرد العبد، وفيه أيضاً رجل استقرض من رجل (كرّ) حنطة وقبضه ثم اشتراه منه بمائة درهم يعني المستقرض(6/559)
اشترى الكر المستقرض من المقرض ثم وجد بالكر عيباً، قال أبو يوسف: له أن يرده بالعيب ولا يرده في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك إن كان القرض دراهم فاشترى المقرض بها دنانير وقبض الدنانير ثم وجد المستقرض الدراهم القرض زيفاً فله أن يستبدلها في قول أبي يوسف.
نوع آخر
منه إذا اشترى شيئين ووجد بأحدهما عيباً، وكان ذلك قبل أن يقبضها أو قبض أحدهما فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام ولو قبضهما رد المعيب خاصة، لأن خيار العيب لا يمنع تمام الصفقة لهذا القبض فرد المعيب خاصة لا يؤدي إلى تفريق الصفقة على البائع من قبل التمام، وليس له أن يردها إلا برضا البائع وهذا الجواب يستقيم في شيئين فيستغني كل واحد في الانتفاع به عن الآخر، فأما إذا كانا شيئين لا يستغني أحدهما في الإنتفاع به عن الآخر كروجي الخف ومصراعي الباب وما أشبهه إذا قبضهما ثم وجد بأحدهما عيباً ليس له أن يرد المعيب خاصة لما فيه من الإضرار بالبائع، ولكن أما أن يردهما أو يمسكهما وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» .
إذا اشترى زوجي وجد بأحدهما عيباً بعد القبض فأراد أن يرد المعيب خاصة فظاهر الجواب أن له ذلك، قال مشايخنا: أن ألف أحدهما العمل مع صاحبه وصار بحال لا يعمل إلا مع صاحبه فإنه لا يرد المعيب خاصة وصار بمنزلة شيء واحد وإن كان المشتري شيئاً واحداً فوجد ببعضه عيباً قبل القبض أو بعده فليس له أن يرد المعيب خاصة، وإن كان المعقود عليه مما يكال أو يوزن من ضرب واحد فوجد ببعضه عيباً ليس له أن يرد المعيب خاصة سواء كان قبل القبض أو بعد القبض فظاهر وأما بعد القبض بخلاف ما إذا كان المعقود عليه ثوبين أو عبدين، والفرق أن المكيل والموزون جعل كشيء واحد من حيث الحكم في حق البيع لأن المالية والتقوم للمكيل والموزون يثبت بالإجتماع صار الكل في حق البيع كشيء واحد حكماً، ولو كان شيئاً واحداً حقيقية بأن كان ثوباً وجد ببعضه عيباً فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك كذلك ههنا.
حكى الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي أنه كان يقول على قياس قول محمد: يجب أن يرد بعض المكيل والموزون بالعيب وإن كان مجتمعاً إذا كان التمييز لا يرد بالمعيب عيباً، وكذلك إذا وجد البعض صغاراً فأراد أن يغربل ليرد الصغار من الحب الذي هو من تحت الغربال ويمسك الباقي ليس له ذلك، وكذلك إذا اشترى الجوز والبيض صغاراً فأراد أن يرد الصغار خاصة ويمسك الباقي فليس له ذلك. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ما ذكر من الجواب في المكيل والموزون محمول على ما إذا كان الكل في وعاءٍ واحداً أما إذا كان (95ب3) في أوعية مختلفة فوجد في وعاء واحد معيناً فإنه يرد ذلك وجد بمنزلة الثوبين والصفين كالحنطة والشعير وكان يفتي به ويزعم أنه رواية أصحابنا، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله وقد عثرت على الرواية في «المنتقى» .(6/560)
وصورة ما ذكر ثمة: إذا اشترى سمن أو عسل أو اشترى جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو قوصرة تمر أو جوالق حنطة أو دقيق فوجد بشيء من ذلك عيباً قبل القبض أو بعده فهو بالخيار إن أمضاه، وليس له أن ينقض البيع في المعيب خاصة، لأن هذا شيء واحد والحال فيه قبل القبض وبعد القبض سواء، ولو اشترى قوصرتي تمراً أو جرتي زيت أو قرتي عسل أو كرين متفرقين وفي وعائين أو جانبيتي خل، فوجد بأحدهما عيباً قبل القبض فله أن يدع البيع أو يأخذ المبيع وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد إلا الذي به العيب قال الحاكم أبو الفضل: قال أبو يوسف إلا إذا كان سواء مثل الأول زيتاً واحداً وسمناً واحداً فيرده كله أو يتركه كله في قول أبي حنيفة وهو قلنا.
قال أبو الفضل أيضاً: وجدت في البيوع عن أبي حنيفة إذا اشترى أثواباً فقبضهما أو لم يقبضهما رد المعيب خاصة ولزمه الآخر، وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى عشرة قوصير تمر فوجد ببعضها عيباً فإن كان تمراً واحداً من صنف واحد ليس له أن يرد إلا جميعه أو يأخذ جميعه، وإن كان مختلفاً له أن يرد المعيب خاصة. وكذلك قال الفقيه أبو جعفر فيما اشترى لفائف إبريسيم، فوجد بعض ما في كل لفافة معيباً فأراد أن يرد ذلك خاصة بأن يميز المعيب فليس له ذلك، وبمثله لو وجد لفافة منها كلها معيباً كان له أن يرد لك ويمسك مالا عيب به، وكذلك إذا اشترى عدداً من كر الغزل فوجد في كل واحد شيئاً معيباً لا يكون له أن يميز ذلك ويرده خاصة، وإن وجد بعض العدد معيباً له أن يرد ذلك ويمسك ما لا عيب به، ومن المشايخ من قال: لا فرق بينما إذا كان الكل في وعاء واحداً أو أوعية ليس له أن يرد البعض بالعيب وإطلاق محمد رحمه الله في «الأصل» : يدل عليه، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي.
وفي «المنتقى» : قال محمد: رجل اشتري طعاماً ووجد به عيباً فأراد أن يرد البعض دون البعض فله ذلك، وكذلك كل ما يكال أو يوزن لأنه ليس في رد بعضه ضرر على البائع قال محمد رحمه الله: وقال أبو حنيفة ليس له أن يرد البعض دون البعض، قال: وأظنه قول أبي يوسف..
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رجل اشترى جاريتين صفقة واحدة ورأى بأحديهما عيباً قبل القبض وأعتق التي لا عيب بها لزمه الآخرى، ولو قبض التي لا عيب بها ثم أراد ردها فله ذلك، ولو كان قبض التي بها العيب وهو يعلم بالعيب فقبض أحديهما فله أن يردهما جميعاً، ولو كان قبض أحديهما وأعتقها وهو لا يعلم بالعيب ثم وجد بالأخرى عيباً ولم يقبضها فله أن يردها، وإذا قبضهما جميعاً فأعتق أحديهما وهو يعلم بعيب الأخرى فليس هذا منه رضا، ولو قبض واحدة وترك واحدة ثم حدث بكل واحدة عيب، فله أن يدع التي لم يقبض إلا أن يرضي البائع أن يقبل الأخرى بعيبها، وإن شاء البائع ذلك قال للمشتري: خذهما جميعاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد إذا اشترى عبدين وعلم بعيب فقبض أحدهما فهو رضا بعيبهما جميعاً.
وفي «المنتقى» : رجل اشترى ثلاثة أعبد فقبض أحدهم ثم وجد بأحد الباقيين عيباً(6/561)
فليس له إلا أن يردهم جميعاً أو يأخذهم جميعاً، ولو كان أعتق العبد الأول لزمه بحصته من الثمن، وهو بالخيار في الباقيين إلا إن شاء أحدهما وليس له أن يرد المعيب خاصة إلا أن يوصي البائع. وإذا اشترى جراب هروياً وأخذ ثوباً منه وقطعه وخاطه أو باعه، ثم وجد بثوب من الجراب عيباً فللمشتري أن يأخذ ما بقي من الثياب ويرد الذي به العيب خاصة، لأنه حين استهلك ثوباً فكأنه قبض كله، ولو قال البائع: لا أسلم لك أنا أرضى أن يرد الجراب كله، فليس له ذلك إلا إن شاء المشتري، ولو كان قطع الثوب ولم يخطه فرضي البائع أن يمسك الجراب ويأخذ الثوب المقطوع فله ذلك، ذكر مسألة الجراب في «المنتقى» .
وفيه أيضاً اشترى من آخر نخلاً فيه تمر بوضعه من الأرض وتمره ولم يقبض المشتري حتى جر البائع فإن كان حرارة بعض النخل أو التمر بأن كان لم يبلغ الحرار فالشراء بالخيار، لأنه عيب حدث في ضمان البائع، وإن كان ما صنع البائع لم ينقص النخل والتمر فلا خيار للمشتري، لأن فعله إصلاح، وإذا قبضهما المشتري وجد بأحدهما عيباً رده وحده، لأن البائع سلم المبيع متفرقاً فلا بأس بالرد كذلك، وإن كان المشتري قبض ذلك كله قبل الحرار ثم حرة المشتري ولم ينقصه الحرار شيئاً، ولم ينقص النخيل أيضاً، ثم وجد بأحدهما عيباً لم يكن له أن يرد أحدهما دون الآخر، وله أن يردهما جميعاً بالعيب الذي وجد بأحدهما، لأنه إذا قبضهما قبل الحرار كانا بمنزلة شيء واحد وليس هذا كالفص والخاتم إذا غير أحدهما عن الآخر بعد القبض وليس فيه ضرر، لأن التمر بعض النخل لأنه خرج منه، والفص ليس من الفضة، ولو كان حرار المشتري بفص أحدهما ثم وجد العيب لم يرد واحداً منهما.
أما إذا كان العيب بالذي ينقص لأنه بعيب زائد، وأما إذا كان بالآخر تفرقت الصفقة وقد كانت مجتمعة فإذا تعذر الرد رجع بنقصان العيب إلا أن يشاء البائع أن يقبل ذلك مع العيب رد، لأن امتناع الرد إنما كان لحق البائع فإذا رضي زال حقه فيرتفع الامتناع. وكذلك لو اشترى شاة على ظهرها صوف فجز البائع الصوف قبل القبض أو جزه المشتري بعد القبض، كان الجواب فيه كالجواب في التمر إلا أن فرق بينهما أن الصوف يدخل في العقد في غير شرط بخلاف التمر، والقياس في التمر كذلك لأن التمر مع النخل بمنزلة شيء واحد، لكون التمر متصلاً بالنخلة إتصال خلقة، إلا أنا تركنا القياس في التمر بالنص وهو قوله عليه السلام: «من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع» ، ولو كان شاة حاملاً فولدت عند البائع ولم تنقصها الولادة، فقبضها المشتري ثم وجد بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن، لأنه مبيع متفرق في يد البائع فلا يكون في رد أحدهما تفريق اليد على البائع، وإن قبضها ثم ولدت ثم وجد بأحدهما عيباً لم يملك الرد لأنه لا يمكن رد الأم مع الولد، لأن العقد لم يرد على(6/562)
الولد فلا يرد عليه الفسخ ولا يمكن رد الأم بدون الولد، لأن الولد عنده يبقى مقصوداً بلا عوض فيكون ربا بخلاف الصوف، لأنه ظاهر صار مبيعاً فصار انفصاله عن الأصل وبقاؤه متصلاً به سواء، واللبن مثل الولد يريد به إذا اشترى شاة وفي ضرعها لبن فحلب البائع أو المشتري لبنها كان بمنزلة الولد إذ لا قيمة له حالة الإتصال كما في الولد ولهذا إذا (96أ3) غصب شاة يصير ضامناً لصوفها ولا يصير ضامناً لولدها ولبنها، وزان هذه المسألة من تلك المسألة ما إذا زاد الصوف بعد القبض يمنع الرد. وإذا اشترى فجلاً أو شلجماً معيناً في الأرض فقلعه المشتري كله فوجد ما اشترى من الفراج فيه ذلك ووجد به عيباً بعد ما قلعه كله لا يستطيع الرد بعيب ولكن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى من آخر عبداً بثمن معلوم فجاء
أجنبي وزاد المشتري في المبيع ثوباً فقبضه المشتري فهذا متطوع وللثوب حصة من الثمن، وقد رضي صاحب الثوب أن يكون حصة ثوبه للبائع فإن وجد المشتري بالعبد عيباً رد بحصته من الثمن ويكون حصة الثوب للبائع، وإن وجد بالثوب عيباً بعد ذلك رده على صاحبه وأخذ من البائع تلك الحصة. ولو لم يجد بالعبد عيباً رده على صاحبه ولم يرجع بحصته، فإن وجد بعد ذلك عيباً رده على صاحبه بجميع الألف.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى مصراعي باب فأخذ أحدهما بإذن البائع، ثم ذهب ليأخذ الآخر فوجده قد سرق من البائع، هلك على البائع، لأنه هلك في يده ويرد عليه المشتري ما أخذ إن شاء لأنه صار معيباً، فلو أنهما حين أخذ أحدهما عينه بصرفه قاس وباقي المسألة بحاله كان الهلاك على المشتري، لأن تعييب المأخوذ يؤثر في غير المأخوذ فيصير قابضاً له، وكذا في الخفين والنعلين. وفيه أيضاً اشترى ضيعة مع غلاتها واطلع على عيب بها وأراد ردها ساعة وجدها معيبة، لأنه لو جمع الغلات امتنع الرد لأن ذلك يكون رضا منه بالعيب، ولو ترك الغلات فكذلك يمتنع الرد لأنه تضييع فيزداد العيب. وإذا اشترى مشجرة ووجد ببعض الأشجار عيباً فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لأنها وإن كانت متباينة حقيقة فهي كشيء واحد، بمعنى ألا ترى أن المعيب لو ردها خاصة لا تشترى من البائع بمثل ما تشترى مع غيرها.
نوع آخر في بيان ما يمنع الرجوع بالأرش وما لا يمنع
كيفية الرجوع بنقصان العيب أن يقوم المبيع ولا عيب به، ويقوم وبه ذلك العيب، فإن كان تفاوت ما بين القيمتين النصف فالمشتري يرجع على البائع بنصف الثمن، وعلى هذا القياس فإنهم وإذا باع المشتري المبيع بعد ما علم بالعيب به، فالأصل في هذا أن في كل موضع لو كان المبيع قائماً على ملك المشتري أمكنه الرد على البائع، إما برضاه أو بغير رضاه فإذا أزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه لا يرجع بنقصان العيب، وفي كل موضع لا يمكنه الرد لو كان المبيع قائماً على ملكه فأزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب، ولهذا لأن المشتري الثاني قام مقام المشتري الأول بالبيع فصار كون المبيع في يد المشتري الأول وأراد أن يرجع بنقصان العيب مع إمكان الرد ليس له(6/563)
ذلك، فكذا إذا كان في يد المشتري الثاني، بيان هذا الأصل إذا تعيب المبيع في يد المشتري بعيب، ثم أطلع على عيب آخر كان في يد البائع كان له أن يرده برضى البائع، فإذا خرج المبيع عن ملكه في هذه الصورة أو ما أشبهه ليس له أن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى ثوباً وصبغه أو اشترى داراً وبنى فيها بناءً ثم اطلع على عيبه، ليس له أن يرده، وإن رضي به البائع فإذا أخرجه عن ملكه في هذه الصورة بالبيع أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً إن كان أعتقه على مال لا يرجع بنقصان العيب، وإن كان أعتقه بغير مال يرجع بنقصان العيب عندنا، فالأصل في جنس هذه المسائل أنه متى تعذر رد المبيع على البائع بسبب إخراج المشتري المبيع عن ملكه بالبيع أو الهبة وكان ذلك قبل العلم بالعيب منع الرجوع بالنقصان عند ظهور العيب، لأن المشتري متشبث بالمبيع مع إمكان الرد بعد العلم بالعيب، أما التشبث بالبيع بعد العلم بالعيب فلأن المشتري منه والموهوب له متشبث به، وبعد العلم بالعيب، وتشبثهما كتشبث المشتري الأول لأنه حصل بتسليطه. وأما مع الرد فلأن المشتري منه لورد المشتري عليه بقضاء أمكنه الرد على البائع وكذلك الموهوب له، لو فسخ الهبة مع المشتري أمكنه الرد، قلنا: والتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد دليل الرضا بالعيب، والرضا بالعيب يسقط حق المشتري في الرد وفي الرجوع بنقصان العيب. ومتى تعذر الرد بتلف المشتري على حكم ملك المشتري من غير فعله، وكان ذلك قبل العلم بالعيب لا يمنع الرجوع بنقصان العيب وذلك كالموت لأنه غير متشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، كما لو كان حياً وتعذر الرد بسبب من الأسباب. ومتى تعذر الرد بتلف المشترى على حكم ملك المشتري بفعل المشتري ينظر إن كان بفعل مضمون عليه من جميع الجهات لو حصل في ملك الغير نحو القتل وإحراق الثوب وغير ذلك منع الرجوع بنقصان العيب، فإنه وصل إليه عوض الجزء الفائت من حيث المعنى، لأن القتل والإحراق سبب الضمان وجد في ملك الغير، وإنما سقط عنه الضمان بسبب ملكه، فيجعل سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بسبب القتل بدلاً عن الملك فهو معني قولنا: أنه وصل إليه العوض فلا يرجع بنقصان العيب كما لو باع. وإن كان بفعل غير مضمون عليه يمنع بجميع الجهات لو حصل في ملك الغير لا يمنع الرجوع بنقصان
العيب، وذلك نحو الإعتاق والتدبير، ولأن العتق في ملك الغير لا يتصور بسبب الضمان لأنه لا ينفد أصلاً فإذا لم يكن بسبب الضمان في ملك الغير لا يمكننا أن نجعل الضمان واجباً بالسبب ثم ساقطاً عنه بسبب الملك حتى يصير سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بالإعتاق بدلاً عن الملك على نحو ما ذكرنا في القتل فهو معنى قولنا: لم يصل إليه عوض الجزء الفائت بخلاف فصل القتل على ما ذكرنا، بخلاف ما لو أعتقه على مال أو كاتبه لأنه وصل إليه عوض الجزء الفائت، لأن البدل مقابل تجميع الأجزاء القائم والفائت لأن حقه(6/564)
بالجزء والفائت قائم من حيث الاعتبار ما له يصل إليه بدله، ولو قتله أجنبي لا يرجع بالنقصان قتله عمداً أو خطاءً لأنه وصل إليه العوض وهو القصاص أو القيمة.
قال في «القدوري» : وإذا اشترى ثوباً أو طعاماً وخرق الثوب واستهلك الطعام ثم اطلع على عيب كان (له أن) يرجع بنقصان العيب بلا خلاف، ولو لبس الثوب حتى تخرق من اللبس، أو أكل الطعام ثم اطلع على عيب به قال أبو حنيفة: لا يرجع بنقصان العيب، وقالا: يرجع والصحيح قول أبي حنيفة، لأن الأكل واللبس في ملك الغير سبب الضمان، وإنما سقط الضمان عنه بسبب الملك والثوب ما ذكرنا. وإذا اشترى عبداً (96ب3) وباع بعضه وبقي البعض لم يرد ما بقي كيلا يتضرر البائع، ضرر عيب الشركة ولم يرجع بنقصان العيب بحصة ما باع بلا خلاف، وهل يرجع بحصة ما بقي؟ ففي ظاهر رواية أصحابنا لا يرجع، وعن محمد أنه يرجع، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية، لأنه متشبث بالبيع بالقدر الذي باع بيد المشتري منه مع إمكان الرد أن يرد المشترى منه ذلك بعيب نقضاً، فيصير راضياً في القدر الذي باع فيصير راضياً بالباقي ضرورة عدم التجزؤ.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف فيمن اشترى ثوباً أو باع نصفه ثم وجد بالنصف الآخر عيباً أنه يرد ما بقي، وقال أبو حنيفة: لا يرد ويرجع بفضل العيب، قال أبو الفضل: هذا خلاف جواب «الأصل» .
ولو اشترى حنطة أو سويقاً وطحن الحنطة أولت السويق بسمن ثم اطلع على عيباً يرجع بنقصان العيب، لأنه لم يتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد لأنه لا يمكنه الرد بعد الطحن ولت السويق وإن رضي به البائع لمكان الزيادة فلا يصير راضياً بالعيب فيرجع بحصة النقصان. وإذا اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم وجد بالباقي عيباً فعلى قول أبي حنيفة لا يرد ما بقي ولا يرجع بأرش ما أكل ولا بارش ما بقي، وقال أبو يوسف: لا يرد ما بقي ويرجع بأرش ما أكل، وقال محمد: يرد ما بقي ويرجع بنقصان العيب فيما أكل، فالحاصل: أن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان المكيل والموزون في حكم شيء واحد فلا يرد بعضه بالعيب كما في العبد الواحد، وإنما اختلفا في الرجوع بنقصان العيب فعند أبي حنيفة الأكل بمنزلة البيع حتى قال: لو أكل جميع الطعام ثم أطلع على عيب به لا يرجع بنقصان العيب، كما لو باع فصار أكل بعض الطعام وأنه شيء واحد عنده بمنزلة بيع نصف العبد، وهناك لا يرجع بنقصان العيب أصلاً. وعند أبي يوسف الأكل بمنزلة الطحن حتى إن عنده بعد ما أكل الطعام إذا طلع على عيب يرجع بنقصان العيب كما لو طحن الحنطة ثم اطلع على عيب بها، فصار أكل بعض الطعام كطحن بعض الحنطة وذلك لا يمنع الرجوع بنقصان العيب في الكل. ومحمد رحمه الله: جعل المكيل والموزون في حكم شيئين، لأنه مما لا يضره التبعيض والأكل عنده بمنزلة الطحن فكأنه اشترى شيئين حنطة وشعيراً وطحن أحدهما ثم أطلع على عيب بالكل، وهناك يرجع بحصة ما طحن ويرد الباقي فكذا هنا هذا جملة ما ذكر في «الأصل» .l
وذكر في موضع من «المنتقى» : عن محمد إذا أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب أنه(6/565)
يرجع بنقصان العيب فيما أكل وفيما بقي ولا يرد الباقي، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف: أنه إذا أكل بعض الطعام رجع بنقصان العيب الذي بقي عنده، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إذا أكل بعض الطعام ثم أطلع على عيب كان بالذي أكل وبالذي بقي، فإنه يرجع بنقصان عيب ما أكل، وكذلك جميع ما يكال أو يوزن مما لا ينقصه التبعيض.
وأما إذا باع بعض المكيل والموزون فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يرد ما بقي ولا يرجع بشيء من النقصان؛ لأنه في حكم شيء واحد فصار بمنزلة العبد الواحد، وعن محمد أنه يرد ما بقي ولا يرجع بحصة العيب فيما باع هكذا ذكر في «الأصل» .
وكان الفقيه أبو الليث يفتي في هذه يقول محمد على ما ذكر في «الأصل» رفقاً بالناس، وعليه اختيار الصدر الشهيد حسام الدين.
وفي «فتاوي أبي الليث» : أن من اشترى دقيقاً وخبز بعضه، ثم تبين أن الدقيق مُر، رد الباقي بحصة من الثمن ورجع بالنقصان بحصة ما استهلك وهو بناء على مذهب محمد على ما هو المذكور في «الأصل» .
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنه إذا باع بعض الطعام رد ما بقي في يده ولا يرجع بنقصان العيب.
وفي موضع آخر من «المنتقى» إذا باع بعض الطعام، ثم وجد بالباقي عيباً لم يرد الباقي ولا يرجع بنقصان العيب في قولهم جميعاً، إذا أبق بعد القبض، ثم علم المشتري به عيباً كان عند البائع لا يكون له أن يرجع بنقصان العيب ما دام العبد حياً، فإذا مات له أن يرجع بنقصان العيب، وهذا؛ لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد بالعيب، وإنما يصار إلى الخلف عند وقوع اليأس عن الأصل، وما دام العبد حياً لا يقع اليأس عن الأصل فلهذا لا يرجع بنقصان العيب.
وإذا اشترى أرضاً ووقفه، ثم وجد به عيباً رجع بنقصان العيب، ذكر المسألة هلال الرازي في «وقفه» ، ولو جعله مسجداً، ثم وجد به عيباً لا يرجع بنقصان العيب ذكر المسألة في القدوري في «شرحه» ، والفرق بينهما: أنه لما جعله مسجداً فقد جعله لله تعالى، قال الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} (الجن: 18) ومتى صار لله تعالى زال عن ملكه، ولهذا لا يعتبر فيه شرطه، فإنه لو جعل داره مسجداً بشرط أن يصلي فيه فلان دون فلان لا يعتبر هذا الشرط ولو بقي على حكم ملكه لا يعتبر شرطه؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شرطاً في ملكه، علم أن الدار زال عن ملكه باتخاذه مسجداً فيعتبر الإزالة عن ملكه باتخاذه مسجداً كالإزالة بالبيع، وهناك لا يرجع بالأرش وهنا كذلك إما بجعله وقفاً لا يزيله عن ملكه؛ لأن الموقوف باقي على حكم ملكه ألا ترى أنه يعتبر شرطه؟ فإنه لو وقف أرضه بشرط أن تصرف غلته إلى فلان دون فلان يعتبر شرطه فلم توجد الإزالة في باب الوقف فلا يمنع الرجوع بالأرش.
ذكر القدوري مسألة المسجد في «شرحه» من غير ذكر خلاف، وفي موضع آخر أن على قول محمد لا يرجع بنقصان العيب، وعلى قول أبي يوسف يرجع بناء على أن قول(6/566)