الفصل السابع عشر في سجود السهو
الأصل في سجود السهو ما روي أن النبي عليه السلام سها في صلاته فسجد، وفي حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قال) لكل سهو سجدتان بعد السلام، وهكذا الفصل يشمل على أنواع:
الأول في بيان صفة هذه السجدة وكيفيتها ومحلها
أما بيان صفتها: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: هو واجب استدلالاً. بما قال محمد رحمه الله: إذا سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد.
ووجهه: أنه جبر لنقصان العبادة، وكان واجباً..... قرأ بجبر في الحج، وهذا لأن أداء العبادة بصفة الكمال واجب، وصفة الكمال لا تحصل إلا بجبر النقصان.
وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله: إنه سنّة استدلالاً لما قاله محمد رحمه الله: إن العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ولو كان واجباً لكان رافعاً للتشهد كسجدة التلاوة ولأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا يكون فوق الأصل.
وأما الكلام في كيفيتهما
قال القدوري رحمه الله: في كتابه يكبر بعد سلامة الأول ويخر ساجداً ويسبح في سجوده ثم يفعل ثانياً كذلك ثم يتشهد ثانياً، قوله يكبر بعد صلاته الأول يشير إلى أنه يكتفي بتسليمة واحدة، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ عامتهم على أنه يكتفي بتسليمة واحدة لأن الحاجة إلى السلام للفصل بين الأصل وبين الزيادة الملحقة به، وهذا يحصل بتسليمة واحدة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام رحمة الله عليه في شرح كتاب الصلاة أنه لو سلم تسليمتين؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر السلام في «الأصل» مطلقاً، فينصرف إلى السلام من الجانبين.
ثم اختلفوا في الصلاة على النبي عليه السلام، وفي الدعوات أنها في قعد الصلاة أم في قعدة سجدتي السهو.
ذكر الكرخي رحمه الله في «مختصر» : أنها في قعدة سجدتي السهو؛ لأنها من القعدة الأخيرة في الحاصل، فإن ختم الصلاة بها والفراغ منها يحصل بهذه القعدة.
الطحاوي رحمه الله قال: لكل قعد في آخرها سلام ففيها صلاة على النبي(1/499)
عليه السلام، فعلى هذا يصلي على النبي عليه السلام في القعدتين جميعاً، ومنهم من قال: في المسألة اختلاف، عند أبي حنيفة رحمه الله يصلي في القعدة الأولى، وعند محمد رحمه الله يصلي في القعدة الأخيرة وهو قعدة سجود السهو بناءً على أصل أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة عندنا، فإذا كان يخرجه (80ب1) من الصلاة كانت القعدة الأولى من قعدة الختم، فيصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلّمويدعو الله تعالى فيه ليكون خروجه منها بعد الفراغ من الأدعية والسنن والمستحبات.
وعند محمد رحمه الله: سلام من عليه سجود السهو لا يخرجه من الصلاة فيؤخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّمإلى قعدة سجدتي السهو؛ فإنهما من الأخيرة له.
وهذا الاختلاف إنما يظهر إذا ضحك بعد السلام قبل سجود السهو لا تنتقض طهارته عندهما، وعند محمد رحمه الله تنتقض، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القعدة بعد سجدتي السهو ليست بركن، وإنما أمر بها بعد السجود ليقع ختم الصلاة بها، فيوافق ذلك موضوع الصلاة ويوليها، وأما أن يكون ركناً فلا، حتى لو تركها بأن سجد سجدتين بعد السلام ثم قام وذهب لم تفسد صلاته؛ لأنه لو لم يسجد للسهو لا تفسد صلاته، فإذا سجد ولم يقعد أولاً أن لا تفسد صلاته.
وأما بيان محلها
فنقول سجود السهو بعد السلام سواء كان من زيادة أو نقصان، وقال الشافعي رحمه الله: يسجد قبل السلام.
حجته: حديث عبد الله بن مسعود أن النبي عليه السلام سجد سجدتي السهو بعد السلام، ولأن السجدة شرعت تجبر النقصان فيجب أن يقع في الصلاة.
ولنا: حديث ثوبان على ما مر، وما روى محمول على ما قبل السلام الثاني، فإن عندنا يسجد للسهو بعد السلام الأول قبل السلام الثاني، عليه عامة المشايخ رحمهم الله ولأن سجدة السهو تأخرت عن وقت السهو مع أن الحكم لا يتأخر عن السبب في الأصل لحكمة، وهو: التحرز عن وهم التكرار، وما قبل السلام متوهم فيه السهو فيتوهم التكرار، فيؤخر عن السلام، ثم يعود إلى حرمة الصلاة بالسجود لتحقق الجبر في الصلاة، ولو سجد بعد السلام أجزأه عندنا.
قال القدوري رحمه الله: هذا رواية «الأصول» ، قال: وروي عنهم أنه لا يجزيه؛ لأنه أراه قبل، وفيه وجه رواية «الأصول» : أن فعله حصل في فصل مجتهد فيه، فلا يحكم بفساده..... بالإعادة يتكرر السجود، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، وحكم السهو في صلاة الفرض والنفل سوى حديث ثوبان على ما مر، من غير فصل، ولأن الفرض والنفل إنما يفترقان في وصف الفريضة والنفلية دون الأركان والشروط.(1/500)
نوع في بيان ما يجب به سجود السهو وما لا يجب
تكلم المشايخ رحمهم الله في هذا وأكثرهم على أنه يجب بستة أشياء: بتقديم ركن، وبتأخير ركن، وتكرار ركن، وبتغيير واجب، وبترك واجب، وبترك سنّة تضاف إلى جميع الصلاة.
أما تقديم الركن؛ فهو أن يركع قبل أن يقرأ، أو يسجد قبل أن يركع.
وتأخير الركن أن يترك سجدة صلبية سهواً فيتذكرها في الركعة الثانية، فيجسدها، أو يؤخر القيام إلى الثالثة بالزيادة على قدر التشهد.
وتكرار ركن: أن يركع ركوعين أو يسجد ثلاث سجدات.
وتغيير الواجب: أن يجهر فيما يخافت، أو يخافت فيما يجهر.
وترك الواجب: نحو أن يترك القعدة الأولى في الفرائض.
وترك السنّة المضافة إلى جميع الصلاة: نحو أن يترك التشهد في القعدة الأولى، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله يقول: وجوبه شيء واحد، وهو ترك الواجب، وهذا أجمع ما قيل فيه.
فإن هذه الوجوه الستة تخرج على هذا، أما التقديم والتأخير؛ فلأن مراعاة الترتيب واجبة عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله: وإن لم يكن فرضاً كما قاله زفر رحمة الله عليه، فإذا ترك الترتيب فقد ترك واجباً، وإذا كرر ركناً فقد أخر الركن الذي بعده، والركن واجب من غير تأخير، والجهر في محله واجب، والمخافتة كذلك، فأما التشهد في القعدة الأولى فإنه كان يقول: إنه واجب، وعليه المحققون من أصحابنا، وهو واضح.
وكذلك يجب سجود السهو في ترك التكبير الأولى، في القنوت (وعليه المحققون من) أصحابنا وهو واضح وفي القراءة وفي تكبيرات العيد وقراءة التشهد وفي السلام، أما في تكبيرة الافتتاح بأن شك في حالة القيام أو بعده...... كبر للافتتاح أم لا وطال تفكره فيه وعلم أنه قد كبر فبنى أو ظن أنه لم يكبّر فكبّر وقرأ شيء عليه، فعليه سجدتا السهو فيهما، وأما في القراءة، فمن كان من واجب القراءة يجب سجود السهو بتركه حتى إذا ترك فاتحة الكتاب أو السورة فعليه، وتذكر بعدما قرأ بعض السورة يعود فيقرأ بالفاتحة ثم بالسورة، وكذلك إذا تذكر بعد الفراغ من السورة أو في الركوع، فإنه يأتي بالفاتحة ثم يعيد السورة ثم يسجد للسهو.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» وعن محمد رحمهما الله: إذا قرأ فاتحة الكتاب ساهياً فعليه السهو يريد به إذا لم يقرأ السورة.
وعلل فقال من قبل أنه ترك قراءة السورة التي بعد الفاتحة، وقراءة السورة بعد الفاتحة واجبة، ولو قرأ فاتحة الكتاب وسورة ثم قرأ فاتحة الكتاب فلا سهو عليه.(1/501)
وعن هذا قيل: إذا قرأ في صلاة الجمعة سورة السجدة وسجد لها ثم قام وقرأ الفاتحة وقرأ: {ننجافى جنوبهم} (السجدة: 16) لا سهو عليه، وإن قرأ الفاتحة مرتين؛ لأن ما قرأها على الولاء.
وروى إبراهيم عن محمد رحمة الله عليهما: إذا قرأ الفاتحة في ركعة مرتين، فإن كان ذلك في الأولين فعليه السهو من غير فصل بينهما إذا قرأ بينهما سورة أو لم يقرأ، وإن كان في الآخريين فلا سهو عليه.
وذكر هشام عن محمد رحمه الله: إذا سها عن....... من فاتحة الكتاب فعليه السهو، وإذا بدأ بقراءة غيرها في الركعة الأولى أو الثانية وقرأ آخر فأوجب عليه السهو، وإذا قرأ في الآخرين من الظهر أو العصر الفاتحة والسورة ساهياً فلا سهو عليه هو المختار.
فإن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب» : إن شاء قرأ في الآخرين وإن شاء سكت، ذكر القراءة مطلقاً.
وإذا قرأ في الركعة الثانية سورة قبلها، فلا سهو عليه، ولو قرأ مع فاتحة الكتاب آية قصيرة وركع ساهياً، فعليه السهو؛ لأن قراءة ثلاث آيات فصاعداً مع الفاتحة أو آية طويلة مع الفاتحة من واجب الصلاة بالإجماع.
وعن الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا لم يقرأ في الأخريين من الظهر أو العصر أو العشاء ولم يسبح..... إن كان متعمداً وإن كان ساهياً فعليه سجود السهو وروي (81أ1) عن أبي يوسف رحمه الله.
وكذلك إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر ساهياً يجب عليه سجود السهو عندنا، خلافاً للشافعي رحمه الله.
حجته: ما روى قتادة أن رسول الله عليه السلام كان يسمعنا الآية، والآيتين في الظهر والعصر، ولو كان ذلك يوجب السهو لما فعل رسول الله عليه السلام الجهر والمخافتة من هيئة القراءة، فتكون سنّة كهيئة الفعل نحو أخذ الركب، وهيئة العقدة.
ولو قعد متوركاً أو متربعاً اختياراً ساهياً لا يجب عليه سجود السهو كذا هنا، بل أولى؛ لأن الفعل في الركعتين أقوى من القراءة.
ولنا قوله عليه السلام: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» من غير فصل بين سهو وسهو، ولأن الجهر في حق الإمام واجب؛ لأن قراءته أقيمت مقام قراءة المقتدي، لأن ما هو المقصود وهو التأمل يحصل بالإسماع فيقوم الاستماع مقام القراءة كان ذلك وكذلك المخافتة واجبة؛ لأن المخافتة في الأصل شرعت صيانة للقرآن عن إلغاء الكفرة و...... وإليه و..... الإشارة في قوله تعالى: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه(1/502)
لعلكم تغلبون} (فصلت: 26)
وصيانة القرآن عن مثل هذا واجب، فإذا خافت فيما يجهر أو جهر فيما يخافت فقد ترك واجباً من واجبات الصلاة فيلزمه سجود السهو، وأما هيئة الفعل فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: هيئة الفعل واجبة إذا تركها اختياراً ساهياً يجب سجود السهو، ومن مشايخنا من قال: عرفنا الأخذ بالركب سنّة لحديث عمر رضي الله عنه فإنه قال: سن لكم الركب نقيس عليه هيئات سائر الأفعال.
وأما الحديث فتأويله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يقول ذلك عمد السنن أن القراءة مشروعة في الظهر والعصر، ومع العمد لا يجب سجود السهو عندنا في ظاهر رواية «الأصل» سوى بين الجهر والمخافتة، فقال: إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر فعليه سجود السهو من غير تفضيل، وذكر في «النوادر» : أنه إن جهر فيما يخافت فلعليه السهو قل ذلك أو كثر.
وإن خافت فيما يجهر إن كان ذلك في فاتحة الكتاب أو في أكثرها فعليه السهو وإلا فلا.
وإن وقع هذا في سورة أخرى إن خافت ثلاث آيات أو آية طويلة عند الكل أو آية قصيرة عند أبي حنيفة رحمه الله فعليه السهو، وإلا فلا، وهذا لأن حكم الجهر فيما يخافت غلط من حكم المخافتة فيما يجهر؛ لأن حكم الشرع في ابتداء الإسلام الجهر في الصلاة كلها الصلاة ثم انتسخ الجهر في البعض دون البعض، فإذا جهر فيما يخافت فقد عمل بالمنسوخ خف حكمه، ولأن للصلاة بالجهر حظاً من المخافتة حتى يخافت بالفاتحة في الآخرين.
وكذلك المنفرد يتخير بين الجهر والمخافتة، فأما صلاة المخافتة لا حظ لها من الجهر والمنفرد لا يتخير فأوجبنا السهو في الجهر قل أو كثر، وشرطنا الكثير في المخافتة، ففي الفاتحة شرطنا أكثرها؛ لأنها إن كانت قولها على الحقيقة أقيم مقام الدعاء في الآخرين.
ولو كان دعاء من كل وجه لا يجب عليه السهو بتغيير هيئة، وإذا كان دعاء من وجه أوجب.... فاكتفي فيها بما يتعلق به جواز الصلاة.
ووجه التسمية على رواية «الأصل» ما ذكرنا أن الجهر على الإمام في صلاة الجهر واجب، وكذلك المخافتة في صلاة المخافتة واجب عليه، فإن ذلك ترك فقد ترك الواجب، وقيل ما ذكر في كتاب الصلاة قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن جواز الصلاة عنده يستوي فيه القليل والكثير.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله فيما إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر أنه إذا فعل ذلك مقدار ما تجوز به الصلاة من فاتحة الكتاب أو غيرها فعليه السهو، وما لا فلا، وأما المنفرد فلا سهو عليه، أما إذا خافت فيما يجهر؛ لأنه ما ترك واجباً من واجبات الصلاة، لأن الجهر غير واجب عليه، ولهذا خير بين الجهر والمخافتة.(1/503)
والتخيير ينافي الوجوب، وكذلك إذا جهر فيما يخافت لم يترك واجباً عليه؛ لأن المخافتة إنما وجبت لنفي، وإنما يحتاج إلى هذا في صلاة تؤدى على سبيل الشهرة، والمنفرد يؤدي على سبيل الخفية، وذكر أبو سليمان في «نوادره» : أن المنفرد إذا نسي حالة في الصلاة حتى ظن أنه إمام فجهر في صلاته كما يجهر الإمام سجد للسهو؛ لأن الجهر بهذه الصفة سنّة الإمام دون المنفردين، فإذا جهر كذلك فقد غير نظم القراءة، وها هنا بعدها سجود السهو.
وكذلك إذا أخر القراءة إلى الآخرين فعليه السجود فاختلف المشايخ في حد الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصل الحروف.
وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد، وإذا و...... التشهد وقراءة الفاتحة سهو فلا سهو عليه، وإذا قرأ الفاتحة مكان التشهد فعليه السهو.
وكذلك إذا قرأ الفاتحة ثم التشهد كان عليه السهو، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في «واقعات الناطفي» رحمه الله، وذكر هناك إذا بدأ في موضع التشهد بالقراءة ثم تشهد فعليه السهو، ومثله لو بدأ بالتشهد ثم بالقراءة فلا سهو عليه؛ لأن في الوجه الأول لم يقع التشهد موضعه.
وفي الوجه الثاني وضع التشهد موضعه، وفي غريب الرواية: إذا قرأ قاعداً يعني في حالة التشهد، فعليه السهو؛ لأن الموضع ليس موضع القراءة.
وكذلك لو قرأ آية في ركوعه أو سجوده، ولو قرأ التشهد قائماً أو راكعاً أو ساجداً لا سهو عليه، لأن التشهد ثناء، والقيام موضع الثناء والقراءة.
أرأيت لو افتتح فقال: السلام عليك أيها النبي إلى قوله عبده ورسوله، فإنه يكون بمنزلة الدعاء، ولا سهو عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله: فيمن تشهد قائماً فلا سهو عليه، وإن قرأ في جلوسه فعليه السهو، أرأيت لو كبّر فقرأ بعد الثناء؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقال هذا أو نحوه هل يجب عليه سجود السهو لأنه إن كان في موضع الثناء، فموضع الثناء منه معروف، وإن قرأ في الركعتين الأخيرتين، فليس عليه سجود السهو؛ لأنه يتخير في الركعتين الآخيرتين.
وأما السهو في القنوت إن ترك القنوت ساهياً ثم يتذكر بعدما يركع أو يسجد وفي هذه الصورة لا يعود إلى القيام ولا يقنت بل يمضي في صلاته ويسجد للسهو في آخره.
وكذلك إذا تذكر بعدما قام من الركوع، يمضي أم يقنت، ولو تذكر في الركوع هل يعود إلى القيام ففيه روايتان، وقد ذكرنا المسألة من قبل.(1/504)
وأما السهو في تكبيرات العيد فهو بتحصلها في غير محلها أو بالزيادة (81ب1) فيها أو بالنقصان عنها أو تركها، وفي كل ذلك يجب سجود السهو، فأما السهو في التشهد بأن نسي حتى قام إلى الثالثة ثم تذكر وتشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم سجد للسهو في ذلك كله، ولو ترك تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما فلا سهو فيهما.
والقياس في قراءة التشهد وقنوت الوتر وتكبيرات العيد لا سهو عليه؛ لأن هذه الأذكار سنّة، بتركها لا يتمكن النقصان كما في تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما استحساناً ذلك في قراءة التشهد، وقنوت الوتر وتشهد الصلاة، فبتركهما يتمكن النقصان والتغيير في الصلاة فيجب الجبر بسجدتي السهو بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة، وإنما تضاف إلى ركن فيهما، فبتركهما لا يتمكن النقصان في الصلاة.
وكذلك إذا ترك الاستفتاح لم يسجد لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة بل إلى الافتتاح، وإذا شرع في الصلاة على النبي عليه السلام بعد الفراغ من التشهد في الركعة الثانية ناسياً، ثم تذكر فقام إلى الثالثة.
قال السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الإمام الماتريدي؛ غير أن السيد الإمام قال: إذا قال: اللهم صلِ على محمد وجب، وقال القاضي الإمام: لا يجب ما لم يقل وعلى آل محمد، وفي أخريات الدخول في الصلاة، ولا يزيد في القعدة الأولى في التشهد، ولا يصلي على النبي عندنا، ولم يذكر.....، وفي «أمالي» الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: الصلاة..... عندك أنه يلزمه سجود السهو، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لا يلزمه في «شرح الكافي» للصدر الشهيد رحمه الله، وكان الشيخ الإمام ظهر الدين المرغيناني رحمة الله عليه يقول: لا يجب سجود السهو بقوله: اللهم صلِ على محمد ونحوه إنما المعتبر مقدار ما يؤدي فيه ركناً.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا زاد في التشهد الأول حرفاً قال أبو حنيفة رحمه الله: وجب سجود السهو.
وفي غريب الرواية ذكر الشعبي أن من زاد في الركعتين على التشهد فعليه السهو، قال ابن مقاتل رحمه الله: ذكرت ذلك لابن زياد رحمه الله قال: هو في قول أبي رحمة الله عليه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: بلغني عن أبي قاسم الصفار رحمه الله: أنه لا سهو عليه في هذا، وإذا تشهد مرتين فلا سهو عليه.
قيل: أراد به في القعدة الأخيرة وفي صلاة جمع.....: إذا كرر التشهد في القعدة الأولى فعليه سجود السهو، وإن كررها في القعدة الثانية فلا، ولا كذلك في سجود السهو في الأفعال بأن قام في موضع القعود، أو قعد في موضع القيام، أو سجد في موضع الركوع، أو ركع في موضع السجود، أو كرر الركن أو قدم الركن أو أخره.(1/505)
ففي هذه الفصول كلها يجب سجود السهو في القدوري: ومن ترك من صلاته فعلاً وضع فيه ذكر فعليه سجود السهو لما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الثالثة فسبح له ولم يرجع وسجد للسهو، ولأن الفعل إذا وضع فيه ذكر فذاك أمارة كونه مقصوداً في نفسه فيتمكن بتركه النقص في صلاته فيجب جبره بسجدتي السهو، وإن كان فعل لم يوضع فيه ذكر وليس فيه سجود السهو كوضع اليمنى على الشمال وكقومته التي من الركوع والسجود، لأنه إذا لم يكن فيه ذكر لم يكن مقصوداً في نفسه فلا يجب له السهو؛ لأن السهو مقصود بنفسه.... الأحكام شيء مقصود، وإن زاد فعلاً من جنس أفعال الصلاة، فعليه سجود السهو.
والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الخامسة، فسبح له ورجع وسجد للسهو، ولأن الزيادة في الصلاة نقصان إذ لا بد وأن يتأخر بسببها شيء من أفعال الصلاة، وذلك يوجب نقصاً في الصلاة، وإذا قعد المصلي في صلاته قدر التشهد ثم شك في شيء من صلاته بأن شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً حتى شغله ذلك عن التسليم لم أستيقن أنه صلى أربعاً وليتم صلاته فعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر فرضاً من فرائض الصلاة، وهو السلام.
وإن شك في ذلك بعدما سلم تسليمة واحدة، فلا سهو عليه؛ لأنه بالتسليمة الواحدة خرج على حرمة الصلاة، فإنما وقع الشك بعد الخروج عن الصلاة، فلا يعتبر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا أحدث في صلاته وذهب ليتوضأ فوقع له هذا الشك حتى شغله عن وضوءه؟.....، فعليه سجدتا السهو، لأن حرمة الصلاة باقية بهذا شك وقع لحرمة الصلاة وقد أخر واجباً أو ركناً فيلزمه سجود السهو.
نوع آخر في سهو الإمام..... إلى صاحبه
سهو الإمام موجب عليه وعلى من خلفه السجود، أما عليه فظاهر، وأما على من خلفه لوجهين:
أحدهما: أن السجود إنما وجب على الإمام لجبر نقصان تمكن في صلاته بسبب السهو وصلاة من خلفه بصلاته صحة وفساداً، وكذا في حق تمكن النقصان.
والثاني: أن القوم مع الإمام فما يجب على الإمام يجب على القوم بحكم التبعية، ألا ترى أن الإمام لو نوى الإمامة في وسط الصلاة تصير صلاة المقتدي أربعاً، وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بحكم التبعية.
وكذلك إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة يخافت بها وسجد، فعلى القوم أن(1/506)
يسجدوا وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بطريق التبعية كذا ها هنا وسهو المؤتم لا توجب السجدة، أما على الإمام فلا، صلاة الإمام غير متعلقة بصلاته صحة وفساداً، فكذا في حق تمكن النقصان، ولأنه ليس يتبع للمؤتم ليلزمه السجدة بحكم التبعية، وأما على المؤتم؛ لأنه لو وجب عليه السجدة صار مخالفاً لإمامه، وقد قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» ولو ترك الإمام سجود السهو فلا سهو على المأموم؛ لأنه إنما وجب الأداء على المقتدي بحكم التبعية، فلا يمكنه الأداء منفرداً.
نوع آخر
فيمن صلى الظهر خمساً وفيه السهو عن القعدة
رجل صلى الظهر خمساً وقعد في الرابعة قدر التشهد يضيف إليها ركعة أخرى، ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهود، ويتشهد ويسلم ثانياً، لم يرد محمد رحمه الله بقوله؛ صلى الظهر خمساً الظهر على وجه الحقيقة لأن الظهر لا يكون خمساً وإنما أراد به المجاز كما يقال؛ صلى فلان بغير طهارة؛ لأن الظهر لا يكون خمساً، والصلاة بغير (طهارة) لا تكون صلاة على الحقيقة، وإنما يراد به المجاز، وإنما وضع محمد رحمه الله المسألة في الظهر وإن كان الجواب لا يختلف بين الظهر والعصر والعشاء؛ لأن هذه واقعة رسول الله صلى الله عليه وسلّمثم هذه المسألة على وجهين:
إما إن قعد في الرابعة قدر التشهد أو لم يفعل، وبدأ محمد رحمه الله بما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة وإنه على وجهين:
إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة أنها الخامسة عاد إلى القعدة وسلم ليكون خروجه من الفرض بالسلام، فإصابة لفظ السلام عندنا واجب (82أ1) لم يكن فرضاً ولا يسلم قائماً كما هو؛ لأن السلام حالة القيام في الصلاة المطلقة غير مشروع، وبعد ذلك، أو سلم لا تفسد صلاته، وإن تذكر بعدما قيد الخامسة بالسجدة لا يعود إلى القعدة، ولا يسلم بل يضيف إليها ركعة أخرى بخلاف ما إذا لم يقيد الخامسة بالسجدة حيث يعود إلى القعدة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فلم يستحكم خروجه من الفرض فيعود إلى القعدة ليكون الخروح عن القعدة بالسلام، فأما الركعة فهي صلاة حقيقة وحكماً فيستحكم خروجه عن الفريضة بها، فلا يعود إلى القعدة، ألا ترى أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو قبل أن يعيد المسبوق الركعة بالسجدة تابع الإمام فيها.
وإن عاد الإمام إليها بعد ما قيد المسبوق الركعة بالسجدة لا يتابعه فيها، وإنما يضيفه إلى الخامسة ركعة أخرى، لأنها نفل فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير شفعاً، فإن النفل شرع شفعاً لا وتراً ثم لا يحكم بفساد الفرض.
وإن انتقل من الفرض إلى النفل؛ لأنه انتقل بعد تمام الفرض؛ لأن تمام الفرض بأداء أركانها، ومن أدى جميع الأركان إنما بقي إضافة لفظ السلام، وإنها عندنا واجب(1/507)
وليس بركن، وترك الواجب لا يفسد الصلاة.
وقد صح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال له: «إذا رفعت رأسك من السجدة الأخيرة، وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك» ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» : أنها تضاف إليها ركعة أخرى ولم يذكر أنه على معنى التخيير أو على معنى الاستحباب أو على معنى الإيجاب، وفي «الأصل» : ما يدل على الوجوب، فإنه قال في.....: عليه أن يضيف، وكلمة على للإيجاب، وإذا أضاف إليها ركعة أخرى يتشهد ويسلم، ويسجد سجدتي السهو ثم يتشهد ويسلم، وإنما وجب سجدتا السهو، لأنه ترك لفظة السلام وإصابة لفظ السلام عندنا واجب حتى إذا شك في صلاته، فسلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً، فشغله تفكره حتى آخر السلام لزمه سجود السهو، والضمان إنما يجب بتأخر الواجب، فقد ترك واجباً من واجبات الصلاة، فيلزمه سجود السهو، هذا جواب الاستحسان، والقياس أن لا يلزمه سجود السهو.
وجه القياس: أن هذا سهو وقع في الفرض وقد انتقل منه إلى النفل، ومن سها في صلاة لا يجب عليه أن يسجد في صلاة أخرى.
وجه الاستحسان: أنه انتقل إلى النفل إلى الفرض؛ إلا أن النفل بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق وجوب السهو كأنها صلاة واحدة، هذا كما صلى ست ركعات تطوعاً بتسليمة واحدة فقد سها في الشفع الأول، فسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن كان كل شفع في التطوع كصلاة على حدة لهذا إن الشفع الثاني والثالث كله بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق السهو كأنه صلاة واحدة كذلك في هذا قالوا.
وهذا القياس والاستحسان بناءً على مسألة أخرى، وهو أن المسبوق إذا انتقل بقضاء ما فاته ولم يتابع الإمام في سجود السهو، هل يسجد في آخر الصلاة أو لا يسجد؟ ولأن السهو وقع في صلاة الإمام وهو انتقل إلى صلاة أخرى.
وفي الاستحسان: يجب، لأن صلاته بناءً على صلاة الإمام، فيجعل كأنها صلاة واحدة في حق وجوب السهو، كذلك في هذا قبل هذا القياس، والاستحسان على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده سجود السهو في هذه المسألة وجب لنقصان تمكن في الفرض بترك السلام.
وجه القياس: أن السهو في صلاة والسجدة في صلاة أخرى، أما على قول أبي يوسف رحمه الله: سجود السهو في هذه المسألة إنما تجب لنقصان تمكن في النفل حيث شرع فيها من غير تحريمة مبتدأة، والشرع جعل الشروع في الصلاة بالتحريمة، فيكون السهو والسجدة في صلاة واحدة، فتجب السجدة قياساً واستحساناً، ثم إذا أضاف إليها ركعة أخرى فيها، فهاتان الركعتان هل تنوبان عن التطوع المسنون بعد الظهر؟ لم يذكر(1/508)
محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينوبان، قيل: هذا قولهما، وبعضهم قالوا؛ لا ينوبان، وقيل: هذا قول أبي حنيفة رحمه الله: وهو الصحيح.
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، بعضهم قالوا: لأن المشروع صلاة كاملة على صفة السنّة، فلا تتأدى بالناقص، وفي هذا نقصان؛ لأنه شرع فيها من غير تحريمة مقصودة، وقال بعضهم: لأن السنّة عبارة عن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه يصلي بركعتين من غير قصد و...... إنه لم يضف إلى الخامسة ركعة أخرى وأفسدها فليس عليه قضاء شيء عندنا، خلافاً لزفر رحمه الله بناءً على أن من شرع في التطوع على ظن الفرض ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء يبقى في نفل غير لازم عندنا.
المحيط البرهانى
وعند زفر رحمة الله عليه: يبقى في نفل لازم، وكذلك في الصوم، وأجمعوا على أنه لو شرع في الحج على ظن أنه عليه، ثم تبين أنه ليس عليه يبقى في إحرام لازم.
وكذلك من تصدق على فقير على ظن أنه عليه الزكاة ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء تبقى الصدقة ماضية بصفة اللزوم لا يتمكن من استردادها بحال، المسألة معروفة في المختلف.
قال: جاء إنسان واقتدى به في هاتين الركعتين وجب عليه أن يصلي ست ركعات عند محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف يجب عليه ركعتان بناءً على أن إحرام الفرض انقطع عند أبي يوسف لما انتقل إلى النفل؛ إذ لا يتصور كونه في أخراهن، فمن ضرورة انتقاله إلى النفل انقطاع الفرض.
وعند محمد رحمه الله: إحرام الظهر باقٍ؛ لأن إحرام الفرض كان مشتملاً على أصل الصلاة، ووصف الفريضة والانتقال إلى النفل موجب انقطاع الوصف دون الأصل، وقول محمد رحمه الله أقيس، فإن كان المبتدي قضاء ركعتين ذكر الاختلاف في «النوادر» محمدٌ رحمه الله كما لا قضاء على الإمام لو أفسدها.
وعند أبي يوسف رحمه الله: يجب على المقتدي قضاء ركعتين، ذكر الاختلاف في «النوادر» محمد رحمه الله: يقول: هذه الصلاة غير مضمونة على الإمام، فلا يكون مضمونة على المقتدي، لأن المقتدي مع الإمام، والتبع لا يخالف الأصل، ولأنها لو كانت مضمونة على المقتدي وحتى غير مضمونة على الإمام يكون هذا مفترضاً خلف المتنفل، وذا لا يجوز.
ولأبي يوسف رحمه الله: أن النفل مضمون الأصل؛ لأنه قربة يجب صيانتها عن الإبطال، وإنما سقط الضمان على الإمام بعارض يخصه، وهو أنه شرع فيه (82ب1) على عزم الإسقاط لا على عزم التطوع، هذا المعنى يحصل بسقط بإسقاط الضمان على(1/509)
الإمام، فبقي مضموناً على الإمام في حق المقتدي، وكل جواب عرف في الظهر فهو الجواب في العشاء؛ لأن المعنى لا يتفات، ولم يذكر محمد رحمه الله العصر في «الأصل» وقد اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يقطع، ولا يضيف إلى لخامسة ركعة أخرى؛ لأن التنفل بعد العصر مكروه، وإلى هذا أشار محمد رحمة الله عليه «زيادات الزيادات» ، فإنه قال: فيمن شرع في العصر على ظن أنه عليه ثم تبين أنه أداها قال: يقطعها، وبعضهم قالوا: يضيف إليها ركعة أخرى، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وهشام عن محمد رحمهم الله؛ لأن المكروه يقتدي بالتطوع إما أن يصير ساهياً فيه فلا.
ألا ترى أن من صلى العصر ثم وجد جماعة يصلون العصر فشرع معهم وقد كان يسيء صلاة نفسه، ثم تذكر أنه قد صلاها فإنه يمضي فيها، ولا يقطع كذا ها هنا.
ونظير هذا ما قلنا: إن التطوع يوم الجمعة بعد خروج الإمام مكروه.
ثم لو افتتح رجل التطوع قبل خروج الإمام بعدما صلى ركعة لا يقطعها بل يتمها ركعتين أو أربعاً على حسب ما اختلفوا؛ لأن المكروه أن يبتدىء بالتطوع قبل خروج الإمام إما أن يصير شارعاً فيه فلا، هذا إذا قعد في الرابعة قدر التشهد ثم قام إلى الخامسة ساهياً، أما إذا لم يفعل على رأس الرابعة حتى قام إلى الخامسة ساهياً إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة عاد إلى القعدة؛ لأن في الفصل الأول يوفر بالعود لإصابة لفظة السلام مع أن للصلاة جوازاً بدونها، فلأن يؤمر ها هنا بالعود ولا جواز للصلاة بدون الفعل كان أولى، وإن قيد الخامسة بالسجدة فسد ظهره عندنا، خلافاً للشافعي رحمه الله بناء على أن عنده الركعة وما دونها في احتمال الرفض سواء، وعندنا دون الركعة يحتمل الرفض، والركعة لا تحتمل الرفض.I
ووجه الفساد عندنا: أنه ترك العودة الأخيرة والعودة الأخيرة فرض، فقد ترك فرضاً من فرائض صلاته، فيفسد فرضه هذا.
ثم اختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: فيما بينهما في وقت فساد ظهره، قال أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد صلاته حتى يرفع رأسه من السجود، ففرض السجود عند أبي يوسف رحمه الله يتأدى بوضع الرأس، وعند محمد رحمه الله: بالوضع والرفع.
وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا أحدث في هذه السجدة عند أبي يوسف رحمة الله عليه: لا يمكنه إصلاحها، وعند محمد رحمه الله: يمكن إصلاحها، فيذهب ويتوضأ.
وجه قول أبي يوسف: أن السجدة هو الإنحناء والانخفاض، وذلك، يحصل بمجرد الوضع.
وجه قول محمد رحمه الله: أن تمام كل شيء بآخره، وآخر السجدة الرفع، ألا ترى أنه لو سجد قبل الإمام ثم أدركه الإمام في آخرها يجزئه، ولو تمت السجدة بوضع الرأس لا يجزئه؛ لأن كل ركن أدي قبل الإمام لا يعتد به.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : عقيب هذه المسألة؛ وأحب إليّ أن يشفع الخامسة(1/510)
بركعة فيضيف إليها ركعة أخرى، ثم يسلم ويستقبل الظهر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
أما قول محمد رحمه الله: لا يضيف إليها ركعة أخرى بناءً على أن عند أبي حنيفة رحمه الله: أن تطلب صفة الفرضية ها هنا لم تعطل أصل الصلاة، فيضيف إليها ركعة أخرى يصير متنفلاً بست ركعات، وعند محمد رحمة الله عليه: بطل أصل الصلاة ها هنا لأصلين مختلفين:
أحدهما: أن من أصل محمد رحمه الله: أن كل فرض فسد بسبب من الأسباب يبطل التحريمة أصلاً؛ لأن للصلاة جهة واحدة عنده، فإذا فسدت صفة الفريضة بطل أصل الصلاة.
والثاني: أن صلاته لو لم تفسد أصلاً ها هنا تصير تطوعاً، وترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع تفسد الصلاة عنده، فإذا لم يقعد على رأس الرابعة تبطل صلاته أصلاً، وإذا بطلت صلاته لا يضيف إلى الخامسة ركعة أخرى.
وعندهما: ترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع لا يبطل الصلاة، وإذا بطل صفة الفريضة بسبب من الأسباب لا تبطل؛ لأن الفرضية صفة زائد على أصل الصلاة، فبطلان التحريمة في حق صفة الفريضة لا توجب بطلان التحريمة في حق أصل الصلاة، وإذا تعينت التحريمة في أصل الصلاة عندهما يضيف إليها ركعة حتى يصير متنفلاً بست ركعات؛ لأن النفل شرع شفعاً لا وتراً.
وإذا بقي أصل الصلاة عندهما لو جاء إنسان واقتدى به في هذه الصلاة صح اقتداؤه، فإن قطعها الإمام على نفسه، فلا شيء عليه؛ لأنه شرع في تطوع مظنون لا يوجب اللزوم كما في الصوم.
ولو قطعها المقتدي على نفسه يلزمه قضاء ست ركعات عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما.
فرق أبو يوسف بين هذا الفصل وبين الفصل الأول، وهو ما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة فإن هناك قال يقضي ركعتين، وها هنا قال: يقضي ست ركعات، بعض مشايخنا رحمهم الله لم يشتغلوا بالفرق.
وقالوا: الفرق في غاية الإشكال، وبعضهم اشتغلوا قالوا بأن هناك لما قعد قدر التشهد فقد تم فرضه فيصير شارعاً في النفل، ومن ضرورة شروعه في النفل خروجه عن الفرض، فإذا اقتدى به إنسان قائماً التزم ركعتين لا غير، فلا يلزمه بالإفساد إلا قضاء ركعتين، وههنا لم يتم الفرض حتى يصير شارعاً في النفل ويخرج عن الفرض ضرورة شروعه في النفل بل بترك القعدة بطلت الفرضية أصلاً وانعقد إخراجه في الابتداء لست ركعات، فإذا اقتدى به إنسان قائماً اقتدى به في تحريمة انعقدت الست، فيصير ملتزماً الست، فيلزمه بالإفساد قضاء الست.
والجواب هنا في العشاء مثل الجواب في الظهر كما في الفصل الأول، وكذلك(1/511)
الجواب في العصر هنا مثل الجواب في الظهر والعشاء بغير خلاف، وفي الفصل خلاف؛ لأن ها هنا لما بطلت الفرضية صار متنفلاً قبل العصر، والتنفل قبل العصر غير مكروه، وفي الفصل الأول الفرض قد تم فيصير متنفلاً بعد العصر، والتنفل بعد العصر مكروه، باقي الخلاف على نحو ما بينا، ولو كان هذا في صلاة الفجر، فإن قام إلى الثالثة وقيدها بالسجدة إن كان قعد على رأس الثانية قدر التشهد فقد تمت صلاة الفجر فيقطع صلاته، ولا يضيف إلى الثالثة ركعة أخرى عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد، ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله (83أ1) ولا يضيف إليها ركعة عند بعض المشايخ؛ لأنه يصير متنفلاً قبل الفجر، والتنفل قبل الفجر مكروه كالتنفل بعد الفجر عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد رحمة الله عليهما، ورواية الحسن عن أبي (حنيفة) رحمة الله عليهما: لا يقطع، ويضيف إليه ركعة أخرى؛ لأنه وقع في النفل؛ لأنه قصد.
ثم إن محمداً رحمة الله عليه في هذه المسائل: إذا قعد قدر التشهد ولم يبين مقدار التشهد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هو مقدر بالشهادتين، وقال بعضهم: هو مقدر بالتشهد إلى آخره، وهو الأظهر والأصوب.
نوع آخر في الرجل يسلِّم وعليه سجود السهو، فجاء رجل واقتدى به
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عن أبي حنيفة رحمه الله في رجل يسلم وعليه سجدتا السهو ورجل وصل في صلاته بعد التسليم فإن سجد الإمام كان داخلاً وإلا لم يكن، وقال محمد رحمه الله: هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد، وأصله أن سلام من عليه السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة أصلاً عند محمد رحمه الله، وعندهما يخرجه خروجاً موقوفاً إن عاد إلى سجود السهو ينبىء أنه لم يخرجه، وإن لم يعد ينبىء أنه أخرجه، ويتولد من هذا الأصل ثلاث مسائل:
إحداهما: مسألة «الكتاب» : فإن عند محمد رحمه الله صح الاقتداء على سبيل النيات، وعندهما وُقِف.
والثانية: إذا ضحك قهقهة في هذه الحالة عند محمد رحمه الله: عليه الوضوء لصلاة أخرى خلافاً لهما.
الثالثة: إذا نوى المسافر الإقامة في هذه الحالة تحول فريضته أربعاً عند محمد خلافاً لهما.
محمد رحمه الله يقول: المقصود من سجود السهو جبر نقصان تمكن في الصلاة، وإنما ينجبر النقصان المتمكن في الصلاة بسجود السهو إذا كان حرمة الصلاة قائمة؛ لأن القائم يجبر، أما المقضي؛ فلا يمكن جبره فيتأخر حكم السلام إلى سجود السهو، وأحكام الأسباب قد تتراضى عنها الحاجة.
ولهما: أن هذا سلام عامد، فيوجب خروجه عن حرمة الصلاة؛ وهذا لأن السلام(1/512)
محلل شرعاً، قال عليه السلام: «وتحليلها السلام» والمحلل من وجه يجب أن يقيد حكمه بالحاجة، وهو التحلل لو لم يعمل؛ إنما لا يعمل لحاجته إلى أداء سجود السهو، والثابت بالحاجة يقدر بقدر الحاجة، فإن عاد إلى سجدتي السهو جاءت الحاجة، فتعتبر الحرمة باقية وإن لم يعد إلى سجدتي السهو لم توجد الحاجة، فيعمل المحلل عمله من حيث وجوده، ثم إذا سجد الإمام حتى صار الرجل داخلاً في صلاته بالإجماع سجد هذا الرجل معه؛ لأن المسبوق يتابع الإمام فيما يدركه فيه، فإن سجد مع الإمام ثم قام يقضي لم يكن عليه أن يعيد السهو وإن كان ذلك السهو وسط الصلاة، ومحله آخر الصلاة؛ لأن هذا آخر صلاته حكماً، فإنه آخر صلاة الإمام حقيقة، فتكون آخر صلاته كأنما تحقق للمتابعة، فإن سها الرجل فيما يقضي فعليه أن يسجد السهو وسجوده الأول مع الإمام لا يجزئه عن سهوه؛ لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، والسجود مع الإمام لا يقع عن السهو في صلاته.
نوع آخر في بيان ما يمنع الإتيان بسجود السهو
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : وإذا سلم يريد به قطع الصلاة، وعليه سجود السهو فعليه أن يسجد السهو، وبطلت من القطع عندهم جميعاً، أما عند محمد رحمه الله؛ فلأن هذا لم يشرع محللاً للحال، فلا يصير محللاً لقصده؛ إذ ليس للعبد تغيير المشروع.
وعندهما: هذا السلام اعتبر محللاً على سبيل التوقف، فمتى قصد أن يجعلها محللاً على سبيل الثبات، فقد قصد تغيير الشروع، فيرد عليه قصده.
فقد ذكر في «الجامع الصغير» : مطلقاً أنه يسجد للسهو، وذكر هذه المسألة في «الأصل» ، وشَرَطَ لأداء الصحة شرطاً زائداً، فقال: إذا سلم وهو لا يريد أن يسجد لسهوه لم يكن تسليمه ذلك قطعاً، حتى لو بدا أن يسجد له وهو في مجلسه قبل أن يقوم وقبل أن يتكلم، فإنه يسجد سجدتي السهو، فقد شرط لأداء سجدتي السهو شرطاً زائداً، وهو أن لا يتكلم، ولا يقوم عن مجلسه ذلك، فهذا إشارة إلى أنه متى قام عن مجلسه واستدبر القبلة أنه لا يأتي بسجدتي السهو، وإن كان لم يخرج عن المسجد.
وذكر في «الأصل» : بعد هذه المسألة بمسائل أنه يأتي بهما قبل أن يتكلم ويخرج من المسجد وإن مشى وانحرف عن القبلة، وبه قال بعض المشايخ.
وأشار محمد رحمه الله في مسألة أخرى إلى ما يدل على هذا، فإنه قال: إذا سلم الرجل عن يمينه وسها عن التسليمة الأخرى، فما دام في المسجد يأتي بالأخرى وإن استدبر القبلة، وعامة المشايخ على أنه لا يأتي بها متى استدبر القبلة؛ لأنه انحرف عن القبلة من غير عذر، ومثل هذا الانحراف يخرجه عن حرمة الصلاة.(1/513)
كما لو انحرف عن القبلة على ظن أنه لم يمسح رأسه، ثم تذكر أنه كان قد مسح رأسه وهو في المسجد بعد، فإنه يستقبل الصلاة، وإن تكلم أو خرج من المسجد لا يأتي بهما؛ لأنه خرج عن حرمة الصلاة على الثبات وبقاء حرمة الصلاة شرط لأدائهما، ولا تفسد صلاته؛ لأن سجود السهو ليس بركن، بل هو واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان في مكانه ذلك فبدا له أن يسجد وفي القوم من تكلم أو خرج من المسجد ومنهم من لم يتكلم ولم يخرج من المسجد فعلى من لم يتكلم أن يتابعه فيهما، ولا شيء على من تكلم؛ لأن الذي تكلم أو خرج من المسجد خرج عن حرمة الصلاة بعد أداء أركانها والفراغ منها، فلا شيء عليه، والذي لم يتكلم وهو في مكانه بعد لم يخرج عن حرمة الصلاة، فيلزمه المتابعة، فإن كان من نيته حتى سلم أن يسجد السهو فلم يسجد حتى تكلم أو خرح من المسجد فقد قطع صلاته، فلا شيء عليه، وإن لم يتكلم ولم يخرج من المسجد وكان في مجلسه ذلك حتى تذكر عليه أن السهو، فإنه يسجدهما.
نوع آخر في سلام السهو
إذا سلم في الظهر على رأس الركعتين ساهياً مضى على صلاته؛ لأن هذا سلام السهو، وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة، ويسجد للسهو؛ لأنه أخر ركناً من أركان الصلاة عن وقته، وقوله مضى على صلاته استحسان.
والقياس وهو: أن سلام الساهي ككلامه، ولو تكلم ساهياً فسدت صلاته، فكذلك إذا سلم ناسياً يدل عليه أن سلام العامد جعل ككلامه وإن وجد في غير موضع السلام فكذلك سلام الناسي وجب أن يجعل ككلامه.
وجه الاستحسان وهو: أن النبي عليه السلام سلم على رأس الركعتين من الظهر ساهياً ثم قام فأتم صلاته، ولأن السلام ليس بكلام محض، وإنما هو كلام يشبه معنى الذكر، وإنه ما يجزىء في السجدة، ولو كان كلاماً محضاً لم يصلح في الصلاة، فثبت أنه يشبه الذكر من وجه، ويشبه الكلام من وجه، فيعطى له حظاً منهما، ففي حالة النسيان عيّنّا جهة الذكر ولم تفسد صلاته، وفي حالة العمد عيّنّا جهة الكلام وأفسدنا صلاته، ويجوز أن يكون الكلام واحداً ويختلف الحكم بالقصد.
ألا ترى أن الجنب إذا قال: الحمد لله رب العالمين، وأراد به الشكر جاز له ذلك من غير كراهة، وإن أراد به تلاوة القرآن كره له ذلك، فاختلف الجواب لاختلاف القصد وإن كان الكلام واحداً كذا ها هنا.
ثم السهو عن التسليمة؛ لا يخلو التسليم عن أحد الوجهين:
إما إن وقع في أصل الصلاة أو في وصفها، إن وقع في أصل الصلاة يوجب فساد الصلاة، وإن وقع في وصف الصلاة لا يوجب فساد الصلاة.
بيان الأول: إذا سلم في الركعتين (83ب1) على ظن أنه في صلاة الفجر أو في(1/514)
الجمعة أو في السفر، فإنه تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن عليه التسليم على رأس الركعتين، وهذا رأس الركعتين، فهذا في التسليم وقع في أصل الصلاة، وكان هذا سلام عمد في أصل وسط الصلاة، فيوجب فساد الصلاة ولا يوجب سجود السهو.
وبيان الثاني: إذا سلم على رأس الركعتين على ظن أنها رابعة لا تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن الواجب عليه التسليم على رأس الرابعة، وفي زعمه أنه أتمها أربعاً، فإذا ظهر أنه لم يتم لكون هذا سهواً وقع في وصف الصلاة، لأن تمام الشيء وصفه، وكان هذا سلام الساهي فلا تفسد صلاته، فعليه أن يقوم ويصلي ركعتين ويسجد سجدتي السهو؛ لأنه آخر ركنه.
ومما يتصل بهذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا سلم ساهياً وعليه سجدة، فهذه المسألة لا تخلو إما أن يكون عليه سجدة تلاوة أو سجدة صلبية أو سجدة سهو، وأياً ما كان، فإنه يأتي بها؛ لأنه في حرمة الصلاة بعد؛ لأن سلام الساهي لا يجزئه عن حرمة الصلاة، وإذا لم يخرجه عن حرمة الصلاة صار وجود هذا السلام والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد السلام أليس إنه يأتي بها، كذا ها هنا، وإذا أتى بها بعد ترتفض القعدة، فإن كانت سجدة تلاوة أو سجدة صلبية ترتفض القعدة؛ لأن القعدة شرعت بعدهما والإتيان بهما يوجب في رفض القعدة ضرورة، ثم هذا الإشكال في السجدة الصلبية؛ لأن الصلبية ركن، والقعدة الأخيرة فرض، ورفض السنن قبله جائز كما في الجمعة مع الظهر، فإنه يجوز رفض الظهر بالجمعة؛ لأنه فرض مثل الظهر، وإنما الإشكال في سجدة التلاوة؛ لأن سجدة التلاوة واجبة، والقعدة الأخيرة فرض، ولا يجوز رفض الفرض بالواجب كما لو تذكر القنوت في الركوع، فإنه لا يعود، لأنه متى عاد صار قضاء الركوع بالواجب، فلا يجوز وقد فقد ها هنا وجهه؛ لأن القعدة الأخيرة وإن كانت فرضاً إلا أنه لم يتم ما لم يخرج عن الصلاة؛ لأن القعدة ما شرعت بعينها وإنما شرعت للخروج، فإن الخروج عن الصلاة لا يصح بدون القعدة فما لم يوجد ما هو المقصود من القعدة، فإنها لا تتم، وإذا لم يتم حقيقة جاز رفضها بالتلاوة، لأن رفض الفرض قبل التمام لمكان الواجب جائز، كمن شرع في الظهر، فصلى ركعة أو ركعتين ثم أقيمت الصلاة، فإنه يتركها ويشرع مع الإمام في الجماعة ليدرك فضيلة الجماعة، والجماعة سنّة، فلما جاز رفض الفرض قبل التمام لمكان السنّة، فلما كان الواجب أولى بخلاف ما لو ترك القعدة الأولى ثم تذكر بعدما استتم قائماً، فإنه لا يعود؛ لأن القيام مشروع نفسه، فإذا وجد أدنى ما يطلق عليه اسم القيام تم الركن في نفسه، فلو عاد إلى القعدة يصير رافضاً للركن بعد التمام لمكان الواجب، وهذا لا يجوز، وكذلك الركوع ركن شرع
لعينه فمتى وجد أدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع وهو انحناء الظهر تم الركن في نفسه لوجود نفسه.
فلو قلنا: إنه يعود إلى القنوت يصير رافضاً للركوع بعد التمام لمكان الواجب، وإنه(1/515)
لا يجوز، فلا يعد في إحدى الروايتين حتى لو تذكر قبل أن تم انحناء..... بأنه يعود إلى القنوت باتفاق الروايات.
وكذلك إذا تذكر..... قبل أن يستتم قائماً، فإنه يعود إلى القعدة على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
فإن قيل: هذا يشكل بما لو تذكر السورة في حالة الركوع فإنه يعود إلى السورة ويرتفض الركوع، وقراءة السورة واجبة والركوع ركن، بينا قراءة السورة واجبة قبل أن يقرأها، فأما متى عاد إليها تصير فرضاً كما لو قرأ الفاتحة والسورة قبل أن يركع؛ لأنه ليس أحدهما بأن يجعل فرضاً بأولى من الآخر، فيجعل الكل فرضاً، فإذا عاد إليها يصير فرضاً، فلو ارتفض الركوع إنما يرتفض بفرض مثله، فإنه جائز بخلاف القنوت والقعدة الأولى؛ لأنه وإن عاد إليهما لا يصيران فرضاً بل يكونان واجباً، فإن قعد لو تذكر سجدة التلاوة في حالة الركوع يعود إليها، وإن صار تاركاً الفرض لمكان الواجب، فإن سجدة التلاوة واجبة، والركوع ركن.
قلنا: يعود إليها، ولكن لا يرتفض الركوع، بل يبقى الركوع معتبراً بعد العود حتى لو لم يعد الركوع ثانياً تجزئة صلاته، فدل أنه لا يصير رافضاً الركوع بالعود إلى التلاوة، وإنما يصير تاركاً الفرض، وترك الفرض لمكان الواجب جائز، كما لو قرأ في حالة القيام سجدة التلاوة، فإنه يأتي بها وإن صار تاركاً للفرض كذا هنا.
ورأيت في موضع آخر أن في ارتفاض القعدة بالعودة إلى سجدة التلاوة..... في رواية، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: لا ترتفض، وإن كان عليه سجدة سجود فعاد إليها يرتفض السلام ولا ترتفض القعدة؛ لأن محله بعد الفراغ من القعدة والسلام إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى يكون مؤدياً في حرمة الصلاة، ولا ضرورة إلى ارتفاع القعدة به، حتى لو تكلم بعد ما سجد قبل أن يقعد فصلاته تامة.
وإذا سها عن قراءة التشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم ثم تذكر، فإنه يعود إلى قراءة التشهد؛ لأنه ترك واجباً وقد أمكنه التدارك؛ لأن سلام السهو لا يخرج عن حرمة الصلاة، فقد أدرك الواجب في محله فيأتي به، وإذا عاد إلى قراءة التشهد هل ترتفض القعدة؟ حتى لو تكلم قبل أن يقعد بعدها هل تفسد صلاته؟
ذكر الشيخ الإمام شيخ الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح كتاب الصلاة: أنه ترتفض القعدة كما ترتفض إذا عاد إلى سجدة التلاوة والصلبية، وذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمة الله عليه في «فتاويه» : أنه لا ترتفض القعدة، قال إلى أن ترتفض قال: فإن قراءة التشهد واجبة ومحلها قبل الفراغ من القعدة، فالعود إليها يرفع القعدة كما يعود إلى الصلبية، وسجدة التلاوة، ومن قال: فإنه لا ترتفض يقول في سجدة التلاوة والصلبية: إنما ارتفضت القعدة(1/516)
بالعود إليها؛ لأنه عاد إلى بين موضعه قبل القعدة، فيصير رافضاً للقعدة، هذا المعنى لا يتأتّى هنا؛ لأن محل التشهد القعدة فبالعود إليه لا يصير رافضاً للقعدة.
وذكر في «النوادر» : أن من نسي التشهد حتى يسلم ثم تذكر، فجعل يقرؤه، فلما قرأه بعضه ندم فسلم قبل تمامه.
قال أبو يوسف رحمه الله: تفسد صلاته؛ لأن القعدة الأولى قد ارتفضت بعوده إلى قراءة التشهد وقد سلم قبل تمام القعدة الثانية، فتفسد صلاته.
وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته؛ لأن قدر ما قرأ من التشهد يرتفض من القعدة الأولى فأما ما ورده لا يرتفض، فإنما سلم عن قعود تام فتجزيه صلاته.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولهذا نظير اختلف فيه المتأخرون، ولا رواية فيه، وهو أنه إذا نسي الفاتحة أو السورة حتى ركع ثم تذكر في ركوعه فانتصب قائماً ليقرأ ثم ندم قبل القراءة، فسجد ولم يعد للركوع منهم من قال: تفسد صلاته؛ لأنه قد ارتفض ركوعه حتى انتصب ليقرأ، ومنهم من قال: لا تفسد صلاته (84أ1) ..... لا يرتفض، لأن عليه فرضي قيام وقراءة، فما لم يأت بهم جميعاً لا ينتقض ركوعه.
قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، وذكر في «النوادر» أنه إذا تلا آية السجدة بعدها قدر التشهد فإنه يسجد لها ويعيد القعدة، والقعدة الأولى ترتفض بسجوده، حتى إنه لو سجد لها ولم يعد القعدة فسدت صلاته، لأنه سلم قبل سجدة قال رحمه الله: ومن أصحابنا رحمهم الله من لم يأخذ بهذه الرواية، وقال: ها هنا لا ترتفض القعدة وإنما ترتفض في سجدة سبق القعدة وجوبها، وإذا..... وعليه سجدة فقط قطع صلاته بسلامه، ثم ينظر إن كان المتروك سجدة صلبية فعليه إعادة الصلاة؛ لأنها ركن، وترك الركن يفسد الصلاة..... كان المتروك سجدة تلاوة فليس عليه إعادة الصلاة، وكذلك إذا كان المتروك قراءة التشهد؛ لأن قراءة التشهد واجبة، وترك الواجب لا يوجب..... الفساد.
وفي «الأصل» : إذا سلم في الرابعة ساهياً بعد قعوده مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد، فإن عليه أن يعود إلى قراءة التشهد لما مر، ثم يسلم ويسجد للسهو ويتشهد ويسلم، ولو سلم وهو ذاكر أنه قعد قدر التشهد لكنه لم يقرأ التشهد، ثم تذكر أن عليه سجدة التلاوة لا يعود؛ لأنه سلام عمد، وصلاته تامة؛ لأنه لم يترك ركناً.
وكذلك لو سلم وهو ذاكر أن عليه سجدة التلاوة ثم تذكر أنه لم يتشهد، فإنه لا يعود إلى التشهد ولا يسجد للتلاوة، وصلاته تامة.
وفي «الأصل» أيضاً: وإذا نهض من الركعتين ساهياً فلم يستتم قائماً حتى ذكر فقعد فعليه سجود السهو.(1/517)
معناه: رجل صلى ركعتين من الظهر فقام إلى الثالثة قبل أن يقعد مقدار التشهد، فإنه ينظر إن استتم قائماً يعني استوى قائماً ثم تذكر، فإنه يمضي في صلاته ولا يعود إلى القعدة وسجد للسهو، أما لا يعود لأن القيام ركن والقعدة واجبة أو سنّة، وليس من الصواب ترك الركن لأجل الواجب أو السنّة، بخلاف القعدة الأخيرة؛ لأن ذلك فرض ورفض الشيء بمثله جائز.n
... سجود السهو؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الصلاة أو سنّة مضافة إلى جميع الصلاة فليزمه سجود السهو، وإن لم يستتم قائماً فإنه يعود ويسجد للسهو.
وأصل هذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا له فعاد، وروي أيضاً لم يعد، ولكن سبح...... فقاموا.
ووجه التوفيق بين الحديثين: أن ما روي أنه عاد كان لم يستتم قائماً، وما روي أنه لم يعد كان بعدما استتم قائماً ويسجد للسهو لأنه بالتحريك للقيام غير تسليم الصلاة، فيلزمه سجود السهو.
وذكر أبو يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أنه إذا تذكر قبل أن يستتم قائماً إن كان إلى القعود أقرب فإنه يعود ويقعد؛ لأنه كالقاعد من وجه، وإن كان إلى القيام أقرب لا يعود كما لو استتم قائماً، ولو كان إلى القعود أقرب وعاد وقعد هل يلزمه سجود؟ حكى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه إذا كان إلى السجود أقرب فكأنه لم يقم، وقال غيره: يلزمه سجود السهو؛ لأنه أخر الواجب عن وقته لما اشتغل بالقيام، فيلزمه سجود السهو، كذا ذكر الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله قال شمس الأئمة: ومشايخنا رحمهم الله استحسنوا رواية أبي يوسف.
قال: نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة هكذا ذكر في «الأصل» ، وروى الحسن عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه بعض الفرض بعد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضاً، وقراءة الفاتحة واجبة.
وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال هذا بعض الفريضة لأجل الفرض، فإذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضاً وصار كما لو تذكر السورة في الركوع فإنه يرجع إلا أن أبا يوسف رحمه الله: إنما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة.
في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل تشهد في الركعتين من الظهر ثم تذكر أن عليه سجدة من صلب الصلاة، فسجدها، قال: إن كانت السجدة في الركعة الأولى لم يعد التشهد، وإن كانت من الركعة الثانية أعاد التشهد من أي ركعة كانت السجدة.(1/518)
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل صلى ركعة ونسي سجدة منها ثم تذكرها وهو ساجد في الثانية قال: إن شاء رفض هذه السجدة التي هو فيها وسجد التي هي عليه ثم عاد إلى ما كان فيها وأربعاً اعتد بها ورفع رأسه منها وسجد التي هي عليه، ثم يمضي في صلاته، ورواه عن أبي حنيفة، وإن ذكر السجدة وهو راكع في الثانية قال أبو يوسف رحمه الله: إن شاء اعتد بها ورفع رأسه منها، ثم سجد التي هي عليه ثم سجد سجدتي الركعة الثانية، وسجد سجدتي من السهو، وإن شاء رفض ركوعه وسجد السجدة التي عليه ثم أعاد القراءة الثانية وركع عليها.
وكذلك إن كانت السجدة التي تركها من الثانية تذكرها وهو راكع في الثالثة فعلى نحو ما بينا في الركعة الثانية، وإن كان رفع رأسه من الركعة الثانية في الفصل الأول أو من الركعة الثالثة في الفصل الثاني ثم تذكر السجدة التي عليه لا ترتفض هذه الركعة؛ لأنها ركعة تامة، وإن لم يكن بعينها سجدة ويسجد التي عليه ثم يسجد لهذه الركعة سجدتين.
نوع آخر
فيمن يصلي التطوع ركعتين ويسهو فيهما ويسجد لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليها ركعتين أخراوين.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل صلى ركعتين تطوعاً وسها فيهما وسجدة لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليهما ركعتين أخراوين: لم يكن له أن يبني، لأنه لو فعله فقد أبطل سجود السهو لوقوعها في وسط الصلاة.
فرق بين هذا وبين المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسها فيها وسجد بسهوه ثم نوى الإقامة، فإنه ملزم لإتمام صلاته؛ لأن هناك إن حصل سجود السهو في وسط الصلاة ولكن بمعنى شرعي لا يفعل.... باختياره.
وحقيقة الفرق بينهما: أن السلام يحلل في جميع المواضع ثم بالعود إلى سجود السهو يصير عائداً إلى حرمة الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لضرورة أن يكون سجود السهو مؤدياً إلى حرمة الصلاة، وهذه الضرورة فيما يرجع إلى إكمال تلك الصلاة لا فيما يرجع إلى صلاة أخرى، ونية الإقامة عملها في إكمال تلك الصلاة، فتظهر عود الحرمة في حقها، فأما كل شفع من التطوع صلاة على حدة، فلا يظهر عود الحرمة في حق شفع آخر، فلهذا لا يبني عليهما ركعتين، ولو أنه بنى عليه ركعتين أخراوين (84ب1) جاز، وهل يعيد سجدتي السهو في آخر الصلاة؟
فيه اختلاف المشايخ، والمختار أنه يعيد؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي يتمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود السهو.(1/519)
ومن هذا الجنس
لو صلى ركعتين تطوعاً فسها فيها، وتشهد ثم قام وصلى ركعتين أخراوين فعليه أن يسجد للسهو في الأولين إذا سلم؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو.
ومن هذا الجنس
رجل افتتح التطوع ونوى ركعتين فصلى ركعتين وسها فيها ثم بدا له أن يجعل صلاته أربعاً فزاد عليه ركعتين أخراوين، فإنه يجب عليه سجود السهو في آخر صلاته؛ لأن الشفع الثاني (بناءً) على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو.
نوع آخر
فيمن يصلي الظهر أو العشاء ويسلم وعليه سجدة صلبية وسجدة سهو وسجدة تلاوة
رجل صلى العشاء فسها فيها وقرأ سجدة التلاوة فلم يسجدها، وترك سجدة من ركعة ساهياً ثم سلم، والمسألة على أربعة أوجه.
إما إن كان ناسياً الكل أو عامداً للكل أو ناسياً للتلاوة عامداً للصلبية أو على العكس.
أما على الوجه الأول: لا تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذا سلام السهو وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة على ما ذكرنا.
وفي الوجه الثاني والثالث: تفسد صلاته بالاتفاق لما ذكرنا أن سلام العمد يخرجه عن حرمة الصلاة.
وفي الوجه الرابع، فكذلك في ظاهر الرواية؛ تفسد صلاته، وروى أصحاب «الإملاء» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تفسد صلاته.
ووجه ذلك الرواية: أن سجد التلاوة من الواجبات لا من الأركان فسلامه فيما هو ركن سلام سهو وذلك لا يفسد الصلاة.
ووجه ظاهر الرواية وهو: أنه سلم وهو ذاكر لواجب يؤدى قبل السلام وكان سلامه قطعاً لصلاته، وإنما قطعها قبل إتمام أركانها، ولأنا لو لم نفسد صلاته حتى يأتي بالصليبية...... أن يقول يأتي بسجدة التلاوة بعد السلام عامداً أيضاً، لبقاء التحريمة، ولا وجه إلى ذلك، فقد سلم وهو ذاكر للتلاوة وكان قطعاً في حقه.
قال شمس الأئمة رحمه الله: وصاحب «الكتاب» ذكر في «شرحه» معنىً آخر فقال: لأن التلاوة وإن لم تكن فرضاً ولكن العود إليها يوجب القعدة لما ذكر من أن العود إلى سجدة التلاوة يرفض القعدة، وتلك القعدة فرض، فإذا كان يعقب فرضاً ويؤدي إليه استوى الصلبية فصار كأنه ترك ركعتين وسلم وهو ذاكر لأحدهما ناس للآخر، وهناك صلاته فاسدة فكذلك هنا.(1/520)
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
رجل يصلي المغرب فيجيء رجل ويقتدي به يصلي المغرب تطوعاً، فقام الإمام إلى الرابعة ناسياً ولم يقعد على رأس الثالثة وقيد الرابعة بالسجدة وتابعه المقتدي في ذلك، قال: فسدت صلاة الإمام فرضاً لا نفلاً عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله. ولا يقال على هذا بأن صلاة الإمام انقلبت نفلاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: فينبغي أن لا تفسد صلاة المقتدي؛ لأنا نقول: صلاة الإمام وإن صارت نفلاً إلا أنها كانت فرضاً، فصار في الحكم منتقلاً من تحريمة الفرض إلى تحريمة النفل، وصار كأنه صلى صلاتين بتحريمتين، وصار المقتدي كأنه صلى صلاته واحدة...... فلا يجوز.
ومن عليه سجود السهو في صلاة الفجر إذا لم يسجد حتى طلعت الشمس وكان ذلك بعد السلام لم يسجد، وكذلك إذا كان في قضاء الفائتة فلم يسجد حتى احمرت الشمس لم يسجد؛ لأنها تجب لجبر نقصان مجزى حتى يجزىء القضاء؛ لأن الإكمال عليه، والقضاء لا يصح في هذا الوقت.
ومن سلم عن يساره قبل سلامه عن يمينه فلا سهو عليه، ومن سلم وعليه سهو فبعدما يقطع الصلاة لم يسجد؛ لأن الحادث منعه عن العود إلى التحريمة، فلا يمكنه إلا ذا وقد صحت صلاته؛ لأن ترك سجود السهو لا يوجب فساد الصلاة.
وإذا سها في الجمعة وخرج الوقت بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو سقط عنه السجود وإذا ترك الصلاة ترك العشاء وقضاها نهاراً وأمّ وخافت ساهياً بالليل ناسياً وقضاها في النهار وأم فيها وخافت ساهياً، كان عليه السهو، وينبغي أن يجهر ليكون القضاء على وفق الأداء. وإن أم ليلاً في صلاة النهار يخافت ولا يجهر، وإن جهر ساهياً كان عليه السهو، ولو أم في التطوع في الليل وخافت متعمداً فقد أساء، وإن كان ساهياً فعليه السهو إذا سبقه الحدث بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو وقبل ما سجد سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد وأتم الصلاة؛ لأن حرمة الصلاة ناهية، وسبق الحدث لا يمنع البناء بعد الوضوء.
وإذا أحدث الإمام وقد سها فاستخلف رجلاً، سجد خليفته للسهو بعد السلام؛ لقيامه مقام الأول، وإن سها خليفته فيما يتم أيضاً كفاه سجدتان لسهوه ولسهوه الأول، كما لو سها الأول مرتين، وإن لم يكن الأول سها وإنما سها خليفته؛ لأن الأول صار مقتدياً بالباقي كغيره من القوم، فيلزمه سجدتا السهو لسهو إمامه.
ألا ترى أنه لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت صلاة الأول، فكذا السهو الثاني، فتمكن النقصان في صلاة الأول ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب سهوه شيئاً؛ لأنه مقتدٍ بالثاني.
وإذا سلم المسبوق حتى سلم الإمام ساهياً بنى على صلاته، وعليه سجود السهو،(1/521)
أما البناء؛ فلأن هذا سلام سهو، وإنه لا يخرجه عن حرمة الصلاة، وأما وجوب سجدة السهو فلأنه متى سلم الإمام صار هو كالمنفرد وقد سها حتى سلم قبل هذا فتلزمه سجدة السهو قبل هذا إذا سلم بعد الإمام، فأما إذا سلم مع الإمام فلا سهو عليه؛ لأن الإمام لم يخرج عن الصلاة بعد، فكان كأنه سها خلف الإمام.
إذا لم يرفع المصلي رأسه من الركوع حتى خر ساجداً ساهياً جازت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعليه السهو.
المصلي إذا نسي سجدة التلاوة في موضعها ثم ذكرها في الركوع أو في السجود أو في القعود، فإنه يخر لها ساجداً ثم يعود إلى ما كان، يعيده استحساناً، وإن لم يعد جازت صلاته، وإن أخرها إلى آخر صلاته أجزأه؛ لأن الصلاة واحدة، وإن كان إمام فصلى ركعة وترك فيها سجدة، وصلى ركعة أخرى وسجد لها وتذكر المتروكة في السجود، فإنه يرفع رأسه في السجود ويسجد المتروكة ثم يسجد ما كان فيها؛ لأنها ارتفضت فيعيدها استحساناً، فأما ما قبل ذلك إلى المتروكة (85أ1) .... وبعض إن كان ما تخلل بين المتروكة وبين الذي تذكر فيه ركعة تامة لا يرتفض باتفاق الروايات، فلا يلزمه إعادة ذلك، وإن لم يكن ركعة تامة فكذلك في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه يرتفض.
إذا سلم الإمام وعليه سجدة التلاوة فتذكر من مكانه بعدما تفرق القوم فإنه يسجد للتلاوة ويقعد قدر التشهد، فإن سجد للتلاوة ولم يقعد فسدت صلاته لارتفاض القعدة أيضاً باتفاق الروايات. وفي رواية على ما مر، ولا تفسد صلاة....... لانقطاع المتابعة يصلي الأربع إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الثالثة وتذكر أنه لم يسجد في الثانية إلا سجدة واحدة فإنه يسجد تلك السجدة ثم يتشهد..... ثم يسجد الثالثة سجدتين ثم يتم صلاته؛ لأن عوده إلى السجدة المتروكة لا يرتفض الركوع بعد تمامه، وهذا إنما يستقيم على ظاهر الرواية على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة، ويلزمه السهو؛ لأنه أخر السجدة في الركعة الثانية عن محلها.
وإن تذكر وهو راكع في الثالثة أنه ترك من الثانية سجدة، فإنه يسجد السجدة المتروكة ويتشهد ثم يقوم ويصلي الثالثة والرابعة بركوعهما وسجودهما؛ لأن الركوع والسجود قبل التمام قابل للرفض، فإذا.... من الركوع من الركعة الثالثة أن عليه سجدة الركعة الثانية وعاد إليها فقد ارتفض هذا الركوع، فيجب إعادته بخلاف ما بعد رفع الرأس من الركوع؛ لأن الركوع قد تم بعد رفع الرأس منه، والركوع بعد التمام ليس بقابل للرفض على ظاهر الرواية.(1/522)
الفصل الثامن عشر في مسائل الشك، وفي الاختلاف الواقع بين الإماموالقوم في مقدار المؤدى
قال محمد رحمة الله عليه في «الأصل» : إذا سها ولم يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً، وذلك أول ما سها استقبل الصلاة، قال عليه السلام: «من شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً أو أربعاً فليستقبل» ، ولأن الاستقبال لا يريبه، والمضي بعد الشك يريبه، وقال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ولأنه قادر على إسقاط ما عليه من الفرض بيقين من غير شك فيلزمه ذلك قياساً على ما لو شك في أصل الصلاة أنه صلى أو لم يصلِ وهو في الوقت لزمه أن يصلي، وقياساً على ما لو ترك صلاة واحدة في يوم وليلة ولا يدري أيّة صلاة..... يصلي خمس صلوات حتى يخرج عما عليه بيقين، وكذلك ها هنا.
وإن بقي ذلك غير مرة تجزىء الصلاة وليتم الصلاة على ذلك، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليتحرّ الصواب» ، ولأنا لو أمرناه بالاستقبال يقع له الشك ثانياً وثالثاً إذا صار ذلك عادة له، فتعذر عليه المضي في الصلاة، فلهذا يجزىء، فإن وقع تحريه على شيء أخذ به، وإن لم يقع تحريه على شيء أخذ بالأول؛ لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليأخذ بالأول» ، ولأن الأداء واجب عليه بيقين، فلا يترك هذا اليقين إلا بيقين مثله، وذلك في الأقل، إلا أن في كل موضع فتوهم أنه أخر صلاته يقعد لا محالة؛ لأن القعدة الأخيرة فرض، والاشتغال بالنفل قبل إكمال الفرض يفسد الصلاة.
ثم اختلف المشايخ في معنى قوله: أول ما سها، قال بعضهم: معناه: أنه أول سهو وقع له في عمره ولم يكن سها في صلاته قط من حيث بلغ فها هنا استقبل الصلاة، فأما إذا وقع له ذلك في شيء من الصلوات فإنه يتحرى. وقال بعضهم: معناه أنه أول سهو وقع له في تلك الصلاة، فإن ها هنا يستقبل، وإن وقع ذلك مرة أو مرتين يتحرى ويبني على الأول. والأول أشبه.
ثم الشك لا يخلو إما إن وقع في ذوات المثنى كالفجر أو في ذوات الأربع كالظهر(1/523)
والعصر، أو في ذوات الثلاث كالمغرب، وإن وقع الشك في صلاة الفجر فلم يدر أنها الركعة الأولى أم الثانية وهو قائم يتحرى في ذلك بأن وقع تحريه على شيء عمل به، وإن لم يقع تحريه على شيء وهو قائم يبني على الأول ويجعلها أولى، يتم تلك الركعة، ثم يقعد لجواز أنها ثانية، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أن ما صلى كان أولى وهذه ثانيته ثم يسلم لأنها ثانيته حكماً، وإن شك في الفجر أنها ثانية أو ثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء وإن كان قائماً، فإنه يقعد في الحال ولا يركع؛ لجواز أنها ثالثته.
فلو قلنا: إنه يمضي ولا يقعد فقد ترك القعدة على رأس الركعتين فتفسد صلاته، فلهذا قال: لا يمضي ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى يقعد لجواز أن القيام الذي رفضها بالقعود ثانيته وقد ترك ذلك، فعليه أن يصلي ركعة أخرى حتى يتم صلاته، وإن كان قاعداً والمسألة بحالها، فإنه يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أنها ثانيته مضت صلاته على الصحيح.
وإن وقع تحريه أنها ثالثته يتحرى في القعدة إن وقع تحريه أنه قعد على رأس الركعتين يمضي على صلاته على الوجه الذي عرف.
وإن وقع تحريه أنه لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته؛ لأن القعدة على رأس الركعتين فرض وقد ترك ذلك، وترك الفرض يوجب فساد الصلاة، وإن لم يقع يجزيه..... فسدت أيضاً؛ لأنه يحتمل أنه قعد على رأس الركعتين فصحت صلاته، ويحتمل أنه لم يقعد ففسدت صلاته، فدارت الصلاة بين الصحة والفساد، فتفسد على ما هو الأصل المعروف.
وإن وقع الشك في ذوات الأربع أنها الأولى أو الثانية عمد بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء يبني على الأول، فيجعلها أولى ثم يقعد لجواز أنها ثانيته، فتكون القعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى لأنا جعلناها في الحكم ثانيته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أنها رابعته، والقعدة على رأس الرابعة فرض.
وكذلك إذا شك أنها الثانية أم الثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع يجزيه على شيء يقعد في الحال لجواز أنها رابعته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأنها جعلناها رابعته، فالحكم وإن وقع الشك في ذوات الثلاث فهو على قياس ما ذكرنا في ذوات المثنى والأربع، وهذا كله إذا وقع الشك في الصلاة.
وأما إذا وقع الشك بعد الفراغ من الصلاة بأن شك بعد السلام في ذوات المثنى أنه صلى واحدة أو شك في ذوات الأربع بعد السلام أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، أو في ذوات الثلاث شك بعد الصلاة أنه صلى ثلاثاً أو ثنتين، فهذا عندنا على أنه أتم الصلاة حملاً لأمره على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في أولته.(1/524)
ولو شك بعد ما فرغ من التشهد في القعدة الأخيرة على نحو ما بينا، فكذلك الجواب عمل على أنه أتم صلاته هكذا روي عن محمد رحمه الله.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله فيمن نسي ثلاث (85ب1) سجدات أو أكثر من صلاته، فإن كان ذلك أول ما وقع له في صلاته استقبلها، وإن كان يقع له ذلك كثيراً مضى على أكثر رأيه فيه، وإن لم يكن له في ذلك رأي أعاد الصلاة، هكذا ذكر ها هنا، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب الصلاة، وإذا شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً وتفكر في ذلك تفكراً ثم استيقن أنه صلى ثلاث ركعات فإن لم يطل تفكره حتى لم يشغله تفكره عن أداء ركن بأن يصلي ويتفكر فليس عليه سجود السهو؛ لأنه لم يؤخر ركناً ولم يترك واجباً لم يؤخره وإن طال تفكره حتى شغله عن ركعة أو سجدة أو يكون في ركوع أو في سجود فيطول في تفكره ذلك، ويعبر عن حاله بالتفكير فعليه سجود السهو استحساناً.
وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأن تفكره ليس إلا إقامة القيام أو الركوع أو السجود، وهذه الأذكار سنّة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السنّة لا توجب السهو كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمداً.
وجه الاستحسان: أنه أخر واجباً أو ركناً ساهياً لا بسبب إقامة السنّة بل بسبب التفكر، والتفكير ليس من أعمال الصلاة، فيلزمه سجود السهو، كما لو زاد ركوعاً أو سجدة في صلاته بخلاف ما إذا أطال الركوع أو السجود أو القيام ساهياً حيث لا يلزمه سجود السهو؛ لأن التأخر حصل بفعل هو من أفعال الصلاة، وذلك سنّة وإن لم يكن واجباً وتأخير الركن الواجب..... فإنه فعل من أفعال الصلاة ساهياً لا يوجب سجدتي السهو.
قال الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: هذا كله إذا كان التفكر يمنعه من التسبيح، فأما إذا كان لا يمنعه من التسبيح فإن سبح ويتفكر ويقرأ ويتفكر لا يلزمه سجود السهو في الآخرين كلها، وإن شك لو شك في صلاة صلاها وهو في صلاة أخرى قد صلاها قبل هذه الصلاة فيتفكر في ذلك، وهو في هذه الصلاة لم يكن عليه سجود السهو وإن شغله تفكره؛ لأنه لم يشك في هذه الصلاة، ولأن المصلي لا يخلو من هذا النوع من الشك، فلا يجب سجود السهو بهذا.
قال شمس الأئمة رحمه الله: ما قال في «الكتاب» : وإن شغله تفكره ليس يريد به أنه شغله الشك عن ركن أو واجب فإن ذلك يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن كانت جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينا في المسألة المتقدمة.
وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : رجل شك في صلاته أنه قد صلاها أم لا،(1/525)
وكان في الوقت فعليه أن يعيد؛ لأن سبب الوجوب قائم، فإنما لا يعمل هذا السبب بشرط الأداء قبله، وفيه شك، وإن خرج الوقت ثم شك فلا شيء عليه؛ لأن سبب الوجوب قد فات، وإنما يجب القضاء..... عدم الأداء..... وفيه شك، وكذلك لو شك في ركعة بعد الفراغ من الصلاة لا شيء عليه، وفي الصلاة يلزمه أداؤها.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أن من شك في إتمام وضوء إمامه جازت صلاته ما لم يستيقن أنه ترك بعض أعضائه سهواً أو عمداً؛ لأن الظاهر أنه لم يترك.
قال: يصلي الفجر إذا شك في سجوده، أنه صلى ركعتين أو ثلاثاً، قالوا: إن كان في السجدة الأولى يمكنه إصلاح صلاته بأن يعود إلى القعدة؛ لأنه إن كان صلى ركعتين كان عليه إتمام هذه الركعة؛ لأنها ثانيته، فإذا عاد إلى القعدة فقد أتمها فيجوز، ولو كان بالبدء لا تفسد صلاته عند محمد رحمة الله عليه؛ لأنه لما تذكر في السجدة الأولى ارتفضت تلك السجدة أصلاً، وصارت كأن لم تكن، كما لو سبقه الحدث في السجدة الأولى من الركعة الخامسة وإن كان هذا الشك في السجدة الثانية فسدت صلاته لاحتمال أنه يصلي الثالثة بالسجدة الثانية وخلط المكتوبة بالنافلة قبل إكمال المكتوبة تفسد المكتوبة.
ولو شك في صلاة الفجر في قيامه أيهما الأولى من صلاته أو ثالثته؟ قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يمكنه إصلاح صلاته بأن يرفض ما هو إلى القيام ويعود إلى القعدة، فإن كانت هذه الركعة ثالثته فقد رفضها بالعود إلى القعدة وتمت صلاته ثم يقوم فيصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو؛ لأن تلك الركعة إن كانت هي الأولى فلم يأت بشيء من صلاته...... بجميع أركانها ولا يقعد بينهما؛ لأنه في حال يلزمه ركعتان وفي حال لا يلزمه شيء، فلا يقعد.
قد ذكرنا أنه إذا شك في صلاة الفجر أصلى ركعتين أم واحدة وكان الشك في حالة القيام أنه يتم هذه الركعة ويقعد قدر التشهد ثم يقوم فيصلي ركعة ويقعد ويسجد للسهو في آخرها بخلاف ما إذا شك أنها ثالثته أو الأولى، فإنه ها هنا لا يتم ركعتين ثم يقعد قدر التشهد؛ لأن ها هنا يحتمل أنها ثالثته، فلو بالمضي فيها تفسد صلاته فلذلك أم بالعود إلى القعدة، أما هناك شك في أنه أدى الركعة الثانية أو لم يؤد، فإما أن تكون هذه الركعة الأولى أو الثانية، وكيف ما كان لا تفسد صلاته فإتمام هذه الركعة، وإذا أتمها يقعد قدر التشهد لاحتمال أنها ثانيته ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى.
وإن شك وهو ساجد إن شك أنها الركعة الأولى أو الثانية المعنى فيهما سواء شك في السجدة الأولى أو في السجدة الثانية؛ لأنهما إن كانت الأولى يلزمه المضي فيها، وإن كانت ثانية يلزمه تكميلها، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية يقعد قدر التشهد ثم يقوم ويصلي ركعة. ولو غدت على ظنه في الصلاة أنه أحدث في الصلاة أجزأته لم يمسح تيقن(1/526)
بذلك لا شك له فيه لم يتيقن أنه لم يحدث وتيقن أنه قد مسح، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: ينظر إن كان أدى ركنه حال ما كان مسبقاً بالحدث وتقدم المسح فإنه يستقبل الصلاة، وإن لم...... فما معنى في صلاته؟
ولو شك في صلاته أنه هل كبّر للافتتاح أم لا؟ هل أحدث أم لا؟ أصابت النجاسة ثوبه أم لا؟ هل مسح رأسه أم لا؟ إن كان ذلك أول مرة استقبل الصلاة، وإن كان يقع له ذلك كثيراً جاز له المضي، ولا يلزمه الوضوء ولا غسل الثوب رجل دخل في صلاة الظهر ثم شك أنه هل صلى الفجر أم لا؟ فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه لم يصلِ الفجر فإنه يصلي الفجر ثم يعيد الظهر، لأنه لما استيقن بعد الفراغ من الصلاة أنه لم يصلِ الفجر كان مستيقناً في ذلك الوقت كالمصلي بالتيمم إذا رأى ماء فظن (76أ1) أنه سراب، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه كان ماء فإنه يتوضأ ويعيد، ولو تذكر يوم الجمعة وقت الخطبة أنه لم يصلِ الفجر فإنه يقوم ويصلي الفجر..... ويسمع الخطبة؛ لأنه لو لم يصلِ الفجر حتى يفرغ الإمام من الخطبة لا يمكنه قضاء الفجر مع الجمعة من الخطبة يصلي الظهر.
إذا صلى ركعة من الظهر ثم شك في الثانية أنه في العصر ثم شك في الثالثة أنه في التطوع ثم شك في الرابعة أنه في الظهر، قالوا: هو في الظهر، والشك ليس بشيء.
رجل صلى ركعتين وشك أنه مقيم أو مسافر فسلم في حالة الشك، ثم علم أنه مقيم، فإنه يعيد صلاة المقيمين؛ لأنه سلام عمد والله أعلم.
مسائل الاختلاف الواقع بين الإمام والقوم
وإذا وقع الاختلاف بين الإمام والقوم فقال القوم: صليتَ ثلاثاً، فقال الإمام: صليتُ أربعاً، فإن كان بعض القوم مع الإمام يؤخذ بقول من كان مع الإمام ويترجح قول من كان مع الإمام بسبب الإمام، وإن لم يكن بعض القوم مع الإمام ينظر إن كان الإمام على يقين لا يعيد الإمام الصلاة، فإن لم يكن على يقين أعاد بقولهم، هكذا ذكر المسألة في «واقعات الناطفي» .
ورأيت في موضع آخر: إذا كان مع الإمام رجل واحد يترجح قوله بسبب الإمام، ولا يعيد الصلاة، فإذا لم يكن مع الإمام واحد وأعاد الصلاة وأعاد القوم معه مقتدين به صح اقتداؤهم؛ لأنه إن كان هو الصادق كان هذا اقتداء المتنقل بالمتنفل، وإن كان الصادق هو القوم كان هذا اقتداء المفترض بالمفترض.
وفي «فتاوى واقعات الناطفي» : إمام صلى وقت الظهر فهي الظهر، وإن كان في وقت العصر فهي العصر؛ لأن الظاهر شاهد من يدعي ما يوافقه الوقت، وإن كان مشكلاً جاز للفريقين في القياس بمنزلة قطرة من الدم وقعت فمن خلف الإمام ولا يدري ممن هو؛ لأن الشك في وجوب الإعادة، والإعادة لا تجب بالشك.
وفي «فتاوى أهل السمرقند» : إذا صلى الإمام بقوم واستيقن واحد منهم أن الإمام(1/527)
صلى أربعاً، واستيقن واحد منهم أنه صلى ثلاثاً والإمام والقوم في شك، فليس على الإمام والقوم شيء؛ لأن هذا شك بعد الفراغ من الصلاة وإنه غير معتبر، ولا يستحب للإمام الأعلى لما بينا، وعلى الذي استيقن بالنقصان الإعادة؛ لأن تعيينه لا يبطل بتعيين غيره.
زاد في «المنتقى» : كذلك إذا كان......، فإن كان الإمام يستيقن بالنقصان وواحد منهم يستيقن بالتمام يقتدي القوم بالإمام؛ لأن الإمام تيقن أنه لم يؤد ولا يعيد الذي استيقن بالتمام؛ لأنه متيقن أنه......، هكذا ذكر من «فتاوى أهل سمرقند» ، وهكذا وقع في بعض نسخ «المنتقى» ، وفي بعضها يقتدي القوم بالإمام.
وفي هذا الموضع أيضاً؛ إذا شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما؛ لأنه لو أخبره عدل يستحب أن يأخذ بقوله، فإذا أخبره عدلان يجب الأخذ بقولهما بخلاف ما إذا شك الإمام والقوم واستيقن واحد بالتمام، واستيقن واحد من القوم بالنقصان حيث يعيد الذي استيقن بالنقصان، فصلاة الإمام والقوم تامة وإن أخبره المستيقن بالنقصان؛ لأن قول المستيقن بالنقصان عارضه قول المستيقن بالتمام، فكأنهما لم يوجدا.
ولو شك الإمام والقوم ويستيقن واحد من القوم بالنقصان الأحب أن يعيدوا، فإن لم يعيدوا ليس عليهم شيء حتى يكون.
رجلين عدلين رجل صلى واحدة، وصلى بقوم، فلما سلم أخبره رجل عدل أنك صليت الظهر ثلاث ركعات، قالوا: إن كان عند المصلي أنه صلى أربع ركعات لا يلتفت إلى قول المخبر وإن شك المصلي في المخبر أنه صادق أو كاذب روي عن محمد رحمه الله أنه يعيد صلاته احتياطاً، وإن شك في قول رجلين عدلين أعاد صلاته وإن لم يكن المخبر عدلاً لا يقبل قوله.
رجل صلى بقوم، فلما صلى ركعتين وسجد السجدة الثانية شك أنه صلى ركعتين أو ركعة، أو شك في الرابعة والثالثة فلحظ إلى من خلفه ليعلم بهم إن قاموا قام هو معهم وإن قعدوا قعد تعمد بذلك، فلا بأس به ولا سهو عليه والله أعلم.
وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمهما الله: صلى الإمام بقوم فقال له عدلان: إنك لم تتم الصلاة أعاد الصلاة، قال محمد رحمه الله: ولو كنت أنا لأعدته بقول الواحد تنزهاً وليس يرجع إلى الحكم؛ لأن الصلاة صحت ظاهراً، أو إبطال ما صح ظاهراً بقول الواحد لم يرد الشرع به والله أعلم.
في «الجامع الصغير» (روى) محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله في رجل تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة، فانحط من ركوعه فسجدها أو رفع رأسه من سجوده أو سجدها، فإنه يعيد الركوع والسجود يريد به على سبيل الرواية وإن لم يعد أجزأه، واختلف المشايخ في تعليل المسألة.(1/528)
بعضهم قالوا: إنما يعيد لتكون صلاته على الولاء والترتيب وإذا لم يعد إنما تجوز لأن الترتيب في أفعال الصلاة عندنا ليس بشرط.
وقال بعضهم: الانتقال حصل مع الطهارة فيصلح متمماً لما فيه إلا أنه لم يكن على قصد الإتمام، فمن حيث إنه يصلح متمماً لو اعتد بها أجزأه، ومن حيث إنه لم يكن على قصد الإمام كان الإعادة أولى.
فإن قيل: الانتقال حصل لأداء ركناً..... فهلا جعله رافعاً لما كان فيه؟
قلنا: النفل يقصد قضاء با...... بمحل الأداء، فصار من حيث المعنى كأن الذي وجد فيه بعده والله أعلم.
الفصل التاسع عشر في وقت لزوم الفرض
الأصل عند أبي حنيفة: أن وجوب الصلاة يتعلق بآخر الوقت وأوله بسبب الأداء، وكان ابن شجاع رحمه الله يقول: الوجوب تعلق بأول الوقت وجوباً موسعاً ويتضيق بآخر الوقت، وعلى هذا كل عبادة مؤقتة يتسع وقتها لأداء أمثالها و...... الوقت..... يتخير المكلف بأول الوقت بين الاتخاذ والترك لا إلى بدل على عدم تعلق الوجوب بأول الوقت؛ إذ الواجب ما لا يتخير المرء فيه من الاتخاذ والترك.
وما قال ابن شجاع لا يصح، لأن وقوع الشيء موقع الفرض لا يدل على الوجوب كما لو كره قبل الحول والتكفير بعد الجرح قبل الموت.
قال: واختلف قول أبي الحسن رحمه الله: فيما إذا صلى في أول الوقت، ففي قول..... فرضاً ويتعين ذلك الوقت للوجوب فيه، وفي قول يتوقف فيه، فإن تبع آخر الوقت وهل أهل الوجوب دفع فرضاً، وإن خرج من أن يكون أهلاً كان نفلاً، وفي قول الواقع نفلاً، فإذا تبع آخر الوقت يسقط به الفرض، واختيار القاضي الإمام الكبير أبي زيد الدبوسي رحمه الله: أن الوقت حول للأداء وكل الوقت ليس بسبب؛ لأنه ظرف الأداء أيضاً، فلا يمكن أن يجعل كل الوقت سبباً بل السبب خروجه، فإذا (86ب1) . وجد الجزء، والأول جعلناه سبباً لوجوده وعدم غيره، وعند قوله: يجعل الجزء والذي يليه سبباً، هكذا إلى آخر الوقت، فإذا شرع في الأداء بقي الجزء الذي تقدم على الشروع سبباً ضرورة تصحح الأداء.
قال: واختلف أصحابنا رحمهم الله في حكم آخر الوقت، فقال أكثرهم الوجوب يتعلق بمقدار التحريمة من آخر الوقت، وقال زفر رحمه الله: يتعلق إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدي فيه الصلاة، وهذا القول اختاره القدوري رحمه الله، والأول اختاره الشيخ أبو الحسن، والمحققون من أصحابنا كالقاضي الإمام أبي زيد الدبوسي رحمه الله تعالى.(1/529)
وثمرة الاختلاف تظهر في الحائض إذا طهرت في آخر الوقت، والصبي يبلغ والكافر يسلم، والمجنون، والمغمى عليه سيان، والمسافر إذا نوى الإقامة والمقيم إذا سافر فعلى قول أكثر أصحابنا رحمهم الله: يجب، ويتعين الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ما توجد فيه التحريمة، وعند زفر رحمه الله: ومن تابعه من أصحابنا لا يجب ولا يتعين الفرض إلا إذا أدرك من الوقت ما يمكن الأداء فيه؛ لأن الخطأ والأداء، فلا بد من تصور الأداء؛ ولأنه إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن الأداء لم يكن مخيراً بين الإيجاد والترك، بل لزمه الإيجاد بل أثم، وهذا دليل على تعلق الوجوب به.
وجه قول أصحابنا رحمهم الله: أن الوقت لما تعين سبباً للوجوب في الذمة، ثم الخروج عن عهدة ما وجب به يكون بالأداء، وقد يكون بالقضاء كالطهر في حق الحائض سبب للوجوب في ذمتها، والخروج عن القضاء دون الأداء ومتى كان الوقت معتبراً للوجوب في الذمة، ولا يعتبر الوقت الذي يمكن الأداء فيه لا محالة.
قال: وإذا اعترضت هذه العوارض في آخر الوقت سقط الفرض بالإجماع أما على قول أبي الحسن وأكثر أصحابنا رحمهم الله؛ فلأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت، وهذه العوارض مانعة من الوجوب.
وأما على قول زفر رحمه الله: فلأن التكليف زال في البعض فيزول في الكل، ولو أن غلاماً صلى العشاء ونام واحتلم في منامه، ولم يستيقظ حتى طلع الفجر، فعليه قضاء العشاء إجماعاً، وهذه واقعة محمد سأل عنها أبا حنيفة رحمهما الله، فأجابه بما قلنا، فأعاد العشاء.
الفصل العشرون في قضاء الفائتة
يجب أن تعلم بأن الترتيب في الصلوات المكتوبة فرض عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: سنة.
حجته في ذلك: أن كل واحد من الفرضين أصل بنفسه؛ فلأن يكون أداء أحدهما شرطاً لجواز الآخر، ولهذا سقط الترتيب عند النسيان، وضيق الوقت، وكثرة الفوائت، وشرائط الصلاة لا تسقط بعذر النسيان وضيق الوقت كالطهارة واستقبال القبلة، وأما ما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام قال: «من نام عن الصلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام» فهذا دليل على فرضية الترتيب، وبهذا الحديث أخذ أبو يوسف(1/530)
رحمه الله من أوله إلى آخره، ومحمد رحمه الله لم يأخذ بأوله، وأمر بقطع الصلاة التي فيها عند تذكر الفائتة، عملاً بقوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ، فإن ذلك وقتها وجعل وقت التذكير وقت الفائتة، فإذا صلى فيه غيرها لم يؤد الصلاة في وقتها، فلا يجوز.
والمعنى فيه: وهو أن الصلوات المكتوبات وجبت مرتبة وقتاً وفعلاً، والترتيب وإن سقط من جهة الوقت لمكان العذر وجب أن يراعى من جهة العقد، وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من علم به أي: علم بوجوب الترتيب لا على من لا يعلم به أما الترتيب في نفس أفعال الصلاة ليس يقرأ من عندنا، حتى أن من أدرك الإمام ونام في أول الصلاة خلفه أو سبقه الحدث، فسبقه الإمام أو توضأ لعاد، فعليه أن يقضي أولاً ما سبقه الإمام به ثم يتابع الإمام إذا أدركه، ولو تابع الإمام أولاً قبل قضاء ما لم يصل ثم قضى ما لم يصل بعد تسليم الإمام جاز عندنا.
وكذلك في الجمعة إذا زحمه الناس، فلم يقدر على أداء الركعة الأولى مع الإمام بعدما اقتدى به، وبقي قائماً كذلك، ثم أمكنه الأداء مع الإمام، فإنه يؤدي الركعة الأولى أولاً، ولو أنه أدى الركعة الثانية أولاً مع الإمام ثم قضى الركعة الأولى بعد فراغ الإمام جاز عندنا، فنقول هذا الترتيب يسقط بعذر النسيان، وبضيق الوقت وبكثرة الفوائت، أما بالنسيان؛ فلأنه عاجز عن شرائط التكليف ولا تكليف مع العجز؛ ولأن مراعاة الترتيب عرفت بالخبر، والخبر يتناول حالة الذكر لا حالة النسيان بل في حالة النسيان خبر آخر بخلافه، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمخرج يوماً ليصلح بين حيين، فنسي صلاة العصر، وصلى المغرب بأصحابه ثم قال لأصحابه: «هل رأيتموني صليت العصر، فقالوا: لا» فصلى العصر ولم يعد المغرب ولو أنه نسي صلاة، ثم ذكر في الوقت الفائتة فصلى الفائتة وهو ذاكر للمنسية، وفي الوقت سعة لم يجز.
وأما إذا ذكرها بعد أيام فقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: أنه لا تجوز الوقتية أيضاً، ونسب هذا القول إلى مشايخه وأشار إلى المعنى، فقال وقت التذكر وقت الفائتة، قال عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» فإن صلى الوقتية فقد صلاها في غير وقتها، فلا يجوز، وذكر محمد رحمة الله عليه في «الأصل» : أنه يجوز.
هكذا ذكر الحاكم في «المنتقى» : عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله: أنه تجوز الوقتية، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «عيون المسائل» ، وعليه الفتوى؛(1/531)
لأن الترتيب بين الوقتية وبين الفائتة ليس بواجب؛ لأن المتخلل كثير والله أعلم.
أما بضيق الوقت؛ فلأنه لو لم يسقط الترتيب عند ضيق الوقت تفوته الوقتية عن وقتها، وأداء الوقتية ثابت في وقتها بكتاب الله تعالى، ومراعاة الترتيب في الصلوات ثبت بأخبار الآحاد، ولا شك أن العمل بما ثبت بالكتاب أولى من العمل بما ثبت بالخبر الواحد، فإن عند سعة الوقت أيضاً لو بقي الترتيب معتبراً يؤدي إلى ترك العمل بما ثبت بكتاب الله تعالى، ثبت الجواز كما زالت الشمس.
ولو أوجبنا الترتيب (87أ1) ومنعنا الجواز، قلنا: لو لم يبق الترتيب معتبراً في هذه الحالة فقد تركنا ما ثبت بالخبر الواحد أصلاً، ولو بقي الترتيب معتبراً لا يبطل ما ثبت بكتاب الله تعالى، بل يتأخر، ولا شك أن تأخير ما ثبت بكتاب الله تعالى أولى من ترك ما ثبت بالخبر الواحد أصلاً.
ثم اختلف المشايخ فيما بينهم: أن العبرة لأصل الوقت، أم للوقت المستحب الذي لا كراهة فيه؟ قال بعضهم: العبرة لأصل الوقت، وقال بعضهم: العبرة للوقت المستحب، وقال الطحاوي على قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: العبرة لأصل الوقت، وعلى قياس قول محمد رحمه الله: العبرة للوقت المستحب.
بيانه: إذا شرع في العصر وهو ناسٍ للظهر ثم تذكر الظهر في الوقت، لو اشتغل بالظهر يقطع العصر في وقت مكروه على قول من قال: العبرة لأصل الوقت يقطع العصر ويصلي الظهر ثم يصلي العصر، وعلى قول من قال: العبرة للوقت المستحب يمضي في العصر ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس.
وفي «المنتقى» و «نوادر الصلاة» : إذا افتتح العصر من أول وقته وهو ناسٍ للظهر ثم احمرت الشمس ثم ذكر الظهر يمضي في العصر، وهذا يظن شرع في العصر في أول الوقت، وهو ذاكر للظهر أن العبرة للوقت المستحب، وإن افتتح العصر في أول وقتها، وهو ذاكر للظهر ثم احمرت الشمس قطع العصر ثم استقبلها مرة أخرى؛ لأنه افتتحها فاسدة بخلاف الفصل الأول، لو افتتح العصر في آخر وقتها، فلما صلى ركعتين غربت الشمس ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه يتم العصر ثم يقضي الظهر؛ لأنه لو افتتح العصر في آخر وقتها مع تذكر الظهر يجوز، فهذا أولى، ولو تذكر في وقت العصر أنه لم يصل الظهر وهو متمكن من أداء الظهر قبل تغير الشمس، إلا أن عصره أو بعض عصره يقع بعد التغير عندنا يلزمه الترتيب، لا يجوز أداء العصر قبل قضاء الظهر، وعلى قول الحسن: لا يلزمه الترتيب إلا إذا تمكن من أداء الصلاتين قبل العصر.
وأما لكثرة الفوائت، فلأن كثرة الفوائت في معنى ضيق الوقت؛ لأن الفوائت إذا كثرت لو راعى الترتيب فاتته الوقتية، فمراعاة الترتيب في هذه المواضع سقط لأجل العذر، وليس إذا كان الحكم يثبت في موضع بعذر ما يدل على أنه يثبت في موضع آخر بغير عذر، وقال زفر رحمه الله: الترتيب لا يثبت بكثرة الفوائت إذا كان الوقت يسع لها وللوقتية، وإن كانت الفوائت عشراً أو أكثر؛ لأن مراعاة الترتيب حكم الخبر الواحد،(1/532)
وليس في العمل به ترك حكم الكتاب، فإن الوقت يسع للكل فيجمع بينهما، أما إذا كان الوقت حد الكثرة يسع للكل، فالعمل بخبر الواحد يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب، فنقدم حكم الكتاب على حكم الخبر حده الكثرة في ظاهر الرواية أن تصير الفوائت ستاً، وروى محمد بن شجاع البلخي رحمة الله عليه عن أصحابنا رحمة الله عليهم: أن تصير الفوائت خمس صلوات، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية.
وفي «القدوري» قال أبو حنيفة، وأبو يوسف رحمة الله عليهما: إذا فاتته ست صلوات، ودخل وقت السابعة سقط الترتيب، وقال محمد رحمة الله: إذا دخل وقت السادسة سقط الترتيب، ومن تذكر صلاة عليه وهو في الصلاة، فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله مذهب علمائنا رحمهم الله أن تفسد صلاته، قال: ولكن لا تفسد حين ذكرها بل يتمها ركعتين، ويعدها تطوعاً سواء كان الفائت قديماً أو حديثاً، ثم إذا كثرت الفوائت حتى سقط الترتيب، لأجلها في المستقبل سقط الترتيب في نفسها أيضاً حتى قال أصحابنا رحمهم الله: فيمن كان عليه صلاة شهر، فصلى ثلاثين فجراً ثم صلى ثلاثين ظهراً هكذا الضرورة؛ وهذا لأن الفوائت عند كثرتها لما أسقطت الترتيب في أغيارها؛ فلأن يسقط في نفسها كان ذلك أولى، هكذا ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله المسألة في «شرح كتاب الصلاة» ، وفي المسألة كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم الفوائت نوعان: قديمة وحديثة، فالحديثة تسقط الترتيب بلا خلاف، وفي القديمة اختلاف المشايخ.
وتفسير القديمة: رجل ترك صلاة شهر في حال صباه ومجانه وفسقه ثم ندم على ما وقع، فاشتغل بأداء الصلاة في مواقتها فقبل أن يقضي تلك الفوائت ترك صلاة، وصلى أخرى وهو ذاكر لهذه المتروكة الحديثة، قال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: لا تجوز هذه الصلاة، ويجعل الماضي من الفوائت كأن لم يكن احتياطاً، وزجراً عن التهاون، وأن لا تصير المعصية المقضي وسيلة إلى التخفيف والتيسير.
وبعضهم قالوا: يجوز وعليه الفتوى؛ لأن الاشتغال بهذه الفائتة ليس بأولى من الاشتغال بتلك الفوائت والاشتغال بالكل يفوت الوقتية عن وقتها، ولم تنقل هذه المسألة عن المتقدمين من مشايخنا رحمهم الله في كل موضع سقط الترتيب بحكم كثرة الفوائت، ثم عادت الفوائت إلى القلة بالقضاء، هل يعود الترتيب؟ وعن محمد رحمه الله روايتان.t
وقد اختلف المشايخ فيه بيانه إذا ترك الرجل صلاة شهر، وقضاها إلا صلاة أو صلاتين ثم صلى صلاة داخل وقتها، وهو ذاكر لما بقي عليه، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: لا تجوز، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهو إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وبعضهم قالوا: تجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمة الله عليه، وعليه الفتوى.
وعلل هو فقال الترتيب قد سقط والساقط لا يحتمل العود كما قليل نجس دخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة، لا يعود نجساً والمعنى ما قلنا، أنه سقط(1/533)
اعتبار النجاسة بالسيلان والساقط لا يحتمل العود كذا ههنا.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: في رجل ترك صلاة يوم وليلة، ثم صلى من الغد مع كل صلاة صلاة أمسيته إن الأمسيات كلها صحيحة، قدمها أو آخرها، وأما اليوميات، فإن بدأ بها فهي فاسدة؛ لأنه متى أدى اليوميات صارت سادسة المتروكات، إلا أنه إذا قضى متروكة بعدها عادت المتروكات خمساً (87ب1) ثم لا يزول، هكذا فلا يعود إلى الجواز، وإن بدأ بالأمسيات وأخر اليوميات، فاليوميات فاسدة إلا العشاء الآخرة، وإن العشاء الآخرة جائزة، وأما فساد ما وراء العشاء الآخرة في اليوميات؛ لأنه كلما صلى أمسيته عادت الفوائت أربعاً ففسدت الوقتية ضرورة، وأما العشاء الآخرة فما ذكر في الجواب أنها جائزة محمول على ما إذا كان الرجل جاهلاً؛ لأنه صلاها وعنده أنه لم يبق عليه فائتة، فصار كالناسي، فأما إذا كان الرجل عالماً لا تجزئه العشاء الآخرة أيضاً؛ لأنه صلاها وعنده أن عليه أربع صلوات، وهذه الرواية هي الرواية التي ذكرناها قبل هذا أن إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: إذا كثرت الفوائت وسقط الترتيب ثم عادت الفوائت إلى القلة أنه يعود الترتيب.
قال في «الأصل» : رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكراً لذلك، وهو يحسب أنه يجزئه، فعليه أن يعيدهما جميعاً.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: معنى المسألة: أنه صلى الظهر بغير وضوء ناسياً، فإنه لو تعمد ذلك كفر في أصح القولين لأصحابنا رحمهم الله، وإنما كان عليه أن يعيدهما أما الظهر فظاهر، وأما العصر؛ فلأن مراعاة الترتيب واجب على ما مر، ولمجرد ظنه لا يسقط عنه ما هو مستحق عليه، كمن ظن أن الصلاة أو الزكاة ليس بواجب عليه، فإن أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب، وهو يظن أن العصر له جائز، قال: تجزئه المغرب ويعيد العصر فقط؛ لأن ظنه هذا استند إلى خلاف معتبر بين العلماء.
فإن أهل المدينة لا يرون الترتيب في الصلوات، وهو قول الشافعي رحمه الله الأول أن المغرب مجزئة وهذا موضع الاجتهاد، وأحوال المتأولين في المجتهدات فيما لا، فإنه مخالف للنص لا يبطل بل يغير.
وإن كان الحكم فيما اجتهد بخلاف ذلك هذا كما يقول في القصاص، إذا كان بين اثنين، فعفا أحدهما وظن صاحبه أن عفو أخيه لا يؤثر في حقه، فقتل ذلك القاتل، فإنه لا يقاد منه ومعلوم أن هذا قتل بغير حق، ولكن لما كان جاهلاً أو مجتهداً في ذلك صار ذلك التأويل مانعاً وجوب القصاص، وإن كان مخطئاً في التأويل، كذلك ههنا حتى إذا كان عنده أن العصر لا تجزئه لا تجوز له المغرب نص عليه ابن سماعة عن محمد رحمهم الله، هكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله.
وحاصل الفرق: أن فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوي مجمع عليه يظهر أثره، فيما يؤدي بعده، فأما فساد العصر بسبب الترتيب فساد ضعيف مختلف فيه، فلا يتعدى(1/534)
حكمه إلى صلاة أخرى، كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد، بطل العقد فيهما، بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر حيث صح العقد في حق القن، والمعنى ما ذكرنا كذلك ههنا.
وكذلك رجل صلى الظهر بغير وضوء تام بأن ترك مسح الرأس ناسياً، وظن أن وضوءه تام فإنه تجزئه العصر إذا مسح الرأس أو جدد الوضوء للعصر؛ لأنه صلى العصر وعنده أنه لا ظهر عليه، فيجزئه كما لو ترك الظهر أصلاً، وعنده أنه صلى الظهر، فإنه يجزئه العصر، فإن لم يصل الظهر حتى صلى المغرب، وهو ذاكر للظهر لا يجزئه المغرب؛ لأن هذا اجتهاد يخالف النص؛ لأنه صلاها وهو ذاكر للظهر وذكر الظهر نص أو كنص، فكان هذا اجتهاد مخالف النص، فيلغو وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: تجزئه المغرب إذا كان يجتهد أن الترتيب ركن أو فرض كما ذكرنا قبل هذا، وكثير من مشايخ بلخ أخذوا بقول الحسن بن زياد رحمه الله.
رجل ترك الصلاة شهراً ثم أراد أن يقضي المتروكات، فقضى ثلاثين فجراً ومعه واحداً ثم ثلاثين ظهراً ثم ثلاثين عصراً، هكذا فعل في جميع الصلوات، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: الفجر الأول جائزة، لأنه ليس قبلها متروكة فتعين والفجر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها أربع متروكات ظهر اليوم الأول وعصره ومغربه وعشاؤه والفجر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ثمان صلوات أربع من اليوم الأول وأربع من اليوم الثاني ثم ما بعدها من صلوات الفجر إلى آخر الشهر جائزة.
وأما صلوات الظهر، فالظهر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة وظهر اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات من اليوم الأول وصلاة الظهر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ست صلوات متروكة ثلاث من اليوم الأول وثلاث من اليوم الثاني وما بعدها من صلوات الظهر إلى آخر الشهر جائزة.
وأما صلوات العصر، فالعصر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبل العصر متروكة من ذلك اليوم، وصلاة العصر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن عليه المغرب والعشاء من اليوم الأول، وصلاة العصر من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن عليه قبلها المغرب والعشاء في اليوم الأول والمغرب والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة العصر من اليوم الرابع جائزة؛ لأن عليه قبلها ست صلوات المغرب.
فصلوات المغرب في اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة، وصلاة المغرب من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها متروكة وهي العشاء من اليوم الأول وصلاة المغرب من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن قبلها صلاتان العشاء من اليوم الأول والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة المغرب من اليوم الرابع فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات عشاء اليوم الأول وعشاء اليوم الثاني وعشاء اليوم الثالث ومن اليوم الخامس كذلك؛ لأن قبلها أربع صلوات، ومن اليوم السادس كذلك؛ لأن قبلها خمس صلوات ثم ما بعدها من صلوات المغرب إلى آخر الشهر جائزة.(1/535)
وأما صلوات العشاء، فكلها جائزة؛ لأنه ليس قبلها صلوات متروكة وهذه المسألة على الترتيب الذي قلنا: إنما تستقيم على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب إذا سقط بكثرة الفوائت يعود إذا قلت الفوائت، فأما على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب لا يعود وإن قلت الفوائت تجوز الصلوات كلها، وقد ذكرنا الروايتين مع اختلاف المشايخ فيما تقدم.
قال في العصر: رجل صلى العصر (88أ1) وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر، فهو فاسد إلا أن تكون في آخر الوقت بناءً على ما قلنا: أن الترتيب في الصلوات المكتوبات فرض، وإنما سقط الترتيب بالنسيان أو بكثرة الفوائت أو بضيق الوقت، ولكن إذا فسدت الفريضة لا تبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله تبطل، والمسألة معروفة، ثم عند أبي حنيفة رحمه الله فرض العصر يفسد صلاة موقوفة، حتى لو صلى ست صلوات أو أكثر، ولم يعد الظهر عاد العصر جائزاً لا تجب إعادته.
وعندهما تفسد فساداً بائناً، لا جواز لها بحال، فالأصل: أن عند أبي حنيفة رحمه الله مراعاة الترتيب بين الفائتة والوقتية كما يسقط بكثرة الفوائت يسقط بكثرة المؤدى؛ وهذا لأن كثرة الفوائت إنما أوجبت سقوط الترتيب؛ لأن الاشتغال بالفوائت يوجب فوات الوقتية عن وقتها، وهذا المعنى موجود عند كثرة المؤدي؛ لأن الاشتغال بالمؤدى يفوت الوقتية عن وقتها، وإذا سقط مراعاة الترتيب ظهر أن ما أدى كان جائزاً.
قال مشايخنا رحمهم الله: وإنما لا تجب إعادة الفوائت عند أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا كان عند المصلي أن الترتيب ليس بواجب، وأن صلاته جائزة، أما إذا كان عنده فساد الصلوات بسبب الترتيب، فعليه إعادة كما قاله أبو يوسف رحمة الله عليه؛ لأن العبد يكلف ما عنده.
ومن هذا الجنس مسألة أخرى: أن من ترك خمس صلوات، وصلى السادسة فهذه السادسة موقوفة، فإن صلى السابعة بعد ذلك جازت السابعة بالإجماع، وجازت السادسة بجواز السابعة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوقف كان لأجل الترتيب فإذا صلى السابعة سقط الترتيب فعادت السادسة إلى الجواز، ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة المؤداة على ما تبين في الحال، كمصل الظهر يوم الجمعة إن أدرك الجمعة تبين أن المؤدى كان تطوعاً، وإن لم يدرك كان فرضاً، كصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها، وصلت صلوات ثم عاودها الدم تبين أنها لم تكن صلاة صحيحة، وإن لم يعاودها الدم تبين أنها كانت صحيحة كذا هاهنا.
رجل ترك الظهر، وصلى بعدها ست صلوات، وهو ذاكر للمتروكة كان عليه المتروكة لا غير، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهم الله يقضي المتروكة وخمساً بعدها، ولو صلى بعد المتروكة خمس صلوات ثم قضى المتروكة، كان عليه الخمس التي صلاها في قولهم جميعاً.(1/536)
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل يصلي الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فالفجر فاسد إلا أن تكون في آخر وقت الفجر بخلاف أن يفوته الفجر تماماً، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله الوتر سنّة، وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب.
وثمرة الاختلاف تظهر في موضعين: أحدهما في هذه المسألة، فإن عندهما الوتر لما كان سنّة لا يجب مراعاة الترتيب ويثبت الفجر، فإن مراعاة الترتيب لها يوجب في المكتوبات، وعند أبي حنيفة رحمه الله لما كان واجباً يجب مراعاة الترتيب.
والمسألة الثانية: إذا صلى العشاء بغير وضوء فإنه يصلي العشاء، ولا يعيد الوتر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يعيد الوتر أيضاً؛ لأن الوتر عندهما سنّة وكان تبعاً للفرض، فإذا وجبت إعادة ما هو فرض وجبت إعادة ما هو تبعاً له، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الوتر واجب كالعشاء، وقد أداه في وقته بطهارة، فلا يلزمه الإعادة.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا وقع الشك في الفوائت.
رجل نسي صلاة، ولا يدري أي صلاة نسيها ولم يقع تحريمه على شيء يقدر صلاة وليلة عندنا حتى يخرج عما عليه مضى، قال بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: يصلي الفجر بتحريمة ثم المغرب بتحريمة، ثم يصلي أربع ركعات، وينوي ما عليه من صلاة هذا اليوم وليلته.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: يصلي أربع ركعات ويقعد على رأس الركعتين، ورأس الثالثة ورأس الرابعة، وينوي ما عليه من صلاة يومه وليلته، فيجزئه عن أي صلاة فاتت، ولا حاجة إلى قضاء الخامس لنا: أن ما قلنا أولى؛ لأن هذا يؤدي إلى أركان، وهو القعود على رأس الثالث، وهو على ما قاله بعض مشايخ بلخ يقع الخلل في هيئة القراءة، فإنه الخمس والثلاث يدرى أنه يجهر في القراءة أو يخافت، وربما يؤدي إلى ترك الواجب، وهو الخروج عن الصلاة لا بلفظة السلام، فالخروج عما عليه يبقى من غير أن يقع الخلل في شيء مما قاله أصحابنا رحمهم الله، وعلى هذا إذا نسي صلاتين في يومين لا يدري أي صلاتين هما، قال: يعيد صلاة يومين، هكذا رواه أبو سليمان عن محمد رحمهما الله، وعلى هذا إذا نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام، ولا يدري أي: صلوات هي قال: يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، رواه إبراهيم عن محمد رحمهما الله.
ولو ترك صلاتين من يومين الظهر والعصر، ولا يدري أيهما تركها أولاً، ولا يقع تحريمه على شيء، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يصلي إحدى الصلاتين مرتين والأخرى مرة احتياطاً، فإن بدأ بالظهر ثم بالعصر ثم بالظهر كان أفضل؛ لأن الظهر أسبق وجوباً في الأصل، وإن بدأ بالعصر ثم بالظهر ثم بالعصر يجوز أيضاً؛ لأنه صار مؤدياً ومراعياً للترتيب بيقين وتقع إحديهما نافلة، وعندهما إن لم يقع تحريمه على شيء يصلي كل صلاة مرة إن شاء بدأ بالظهر، وإن شاء بدأ بالعصر، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف بينهم، فإن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله: جواب الأفضل، وما قالهما جواب الحكم ومنهم من(1/537)
حقق الخلاف حجتهما: أنه لو وجب إعادة ما بدأ به إنما يجب لمراعاة الترتيب، والترتيب ساقط، فإنه في معنى الناسي، لأنه حتى بدأنا بأحديهما كان لا يعلم أن عليه صلاة قبلها، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأنه ليس بمعنى الناسي؛ لأنه متى صلى الأولى كان يعلم أن عليه صلاة أخرى، إلا أنه لا يعلم أنها قبل هذه أو بعدها، فدار بين أن يكون في وقتها، فيجوز وبين أن لا يكون في وقتها فلا يجوز فتجب الإعادة ليخرج عن الواجب بيقين؛ لأن الجواز لا يثبت بالشك، وفي الناسي أدى الوقتية في الوقت حقيقة، فلو لم يجز لا يجوز لكون الوقت وقت الفائتة، ولها معتبر كذلك، بالذكر، ولم يوجد.
فأما إذا كان المتروك ثلاث صلوات في ثلاثة أيام ظهر وعصر ومغرب، فالجواب على قولهما ما سبق أنه يصلي كل صلاة مرة، وبأيهما بدأ جاز، وقول أبي حنيفة رحمه الله غير مذكور في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ (88ب1) على قوله بعضهم قالوا: يصلي تسع صلوات؛ لأن المتروك لو كان صلاتين يصلي ثلاثاً على ما سبق وكذا هاهنا، ثم يصلي بعد ذلك الثالثة وهو المغرب ثم الثلاث التي بدأ بها لجواز أن تكون المغرب من المتروكة أولاً، وأما إذا كان المتروك أربعاً بأن ترك معها العشاء، فالجواب عندهما على ما بينا.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فقد اختلف المشايخ قال بعضهم: يصلي خمسة عشرة صلاة؛ لأن في الثلاث يصلي السبع على ما بينا؛ فكذلك هاهنا ثم يصلي الرابعة، فصار ثمانية ثم يعيد السبع لجواز أن تكون الرابعة هي المتروكة أولاً.
فأما إذا كان المتروك خمساً، فكذلك الجواب عندهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يعيد إحدى وثلاثين؛ لأنه لو كان المتروك أربعاً يصلي خمسة عشرة ثم يصلي الخامسة، فصار ست عشرة، ويحتمل أن تكون الخامسة هي الأولى، وما أدي قبلها كان نفلاً، فيصلي خمسة عشرة، فصار إحدى وثلاثين وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في هذه المسائل، وهو ما إذا كان المتروك ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً على قول أبي حنيفة رحمه الله نظير الجواب على قولهما بخلاف ما إذا كان المتروك صلاتين؛ لأنه إذا كان المتروك صلاتين أو اعتبرنا الترتيب على قوله يلزمه قضاء ثلاث صلوات، فلا يؤدي إلى الحرج، ولا إلى فوات الوقتية عن الوقت، أما إذا احتاج إلى قضاء السبع أو الزيادة على ذلك يؤدي إلى الحرج، وإلى فوات الوقتية عن الوقت، فيصلي ما فاته، ويبدأ بأيهما شاء ولا يعيد شيئاً كما هو مذهبهما، وعليه الفتوى على ما تقدم أن من نسي صلاة ذكرها بعد شهر وصلى الوقتية مع ذكرها جاز أداء الوقتية، وعليه الفتوى، فها هنا كذلك يصلي العصر إذا تذكر أنه ترك سجدة واحدة، ولا يدري أنها من صلاة الظهر أو من صلاة العصر التي هو فيها، فإنه يتحرى، فإن لم تقع يجزئه على...... يتم العصر ويسجد سجدة واحدة لاحتمال أنه تركها من العصر(1/538)
ثم يعيد الظهر ثم يعيد العصر، وإن لم يعد لا شيء عليه ولو توهم أنه لم يكبر تكبيرة الافتتاح ثم تيقن أنه كان كبر جاز له المضي وإن أدى ركناً.
وإذا صلى الظهر ثم تذكر أنه ترك من صلاته فرضاً واحداً، قال: يسجد سجدة واحدة ثم يقعد ثم يقوم، ويصلي ركعة بسجدة واحدة ثم يقعد ثم يسجد أخرى، هذا إذا علم أنه ترك فعلاً من أفعال الصلاة، فإن تذكر أنه ترك قراءة تفسد صلاته لاحتمال أنه صلى ركعة بقراءة ثلاث ركعات بغير قراءة.
ومما يتصل بهذا الفصل من المسائل المتفرقة
إذا أراد أن يقضي الفوائت ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أنه ينوي أول ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهر آخر ينوي أيضاً أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهراً آخر أيضاً أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها وإذا أراد أن يصلي ظهراً ينوي أيضاً آخر، ظهر لله عليه، لأنه لما أدى الآخر صار الذي قبله آخراً، وإذا قضى الفوائت إن قضاها بجماعة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة يجهر فيها الإمام، وإن قضاها وحده يخير إن شاء جهر، وإن شاء خافت والجهر أفضل ويخافت فيما يخافت فيها حتماً، وكذلك الإمام.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» مصلٍ نوى ظهر يوم الثلاثاء فتبين أنه يوم الأربعاء الظهر إذا نوى أن هذا الظهر ظهر يومه هذا يوم الثلاثاء فتبين أن ذلك اليوم يوم الأربعاء جاز لظهره؛ لأنه نوى صلاة بعينها وهو الظهر في وقت بعينه، وهو اليوم الذي هو فيه إلا أنه غلط في اسم الوقت.
ونظير هذا ما ذكر في «النوازل» : إذا صلى الرجل خلف رجل وهو يظن أنه خليفة فلان إمام هذا المسجد فاقتدى به وهو خليفة في زعمه، فإذا هو غيره يجزئه وإن نوى الخليفة حتى كبر يريد به واقتدى بالخليفة لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول اقتدى بالإمام مطلقاً، وفي الوجه الثاني اقتدى بالخليفة ولم يوجد.
وفيه إذا افتتح المكتوبة ثم نسي، فظن أنها تطوع، فصلى على نية التطوع حتى فرغ من صلاته، فالصلاة هي المكتوبة، ولو كان على العكس فالصلاة هي التطوع؛ لأن النية لا يمكن اقترانها بكل جزء من أجزاء الصلاة، فشرط قرانها بأول الصلاة بقي الفصل الأول المقارن لأول الجزء من المكتوبة، وفي الفصل الثاني المقارن لأول الجزء ونية التطوع، وإذا كبر للتطوع ثم كبر ونوى به الفرض، وصلى فالصلاة هي الفرض ولو كان على العكس، فالصلاة هي التطوع؛ لأنه لما كبّر ونوى الآخر صار داخلاً في الصلاة الأخرى، وإذا أخر الصلاة الفائتة عن وقت التذكر مع القدرة على القضاء هل يكره، فالمذكور في «الأصل» أنه يكره؛ لأن وقت التذكر هو وقت الفائتة، وتأخير الصلاة عن وقتها مكروه بلا خلاف.(1/539)
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : عن خلف بن أبي أيوب عن أبي يوسف رحمة الله عليهم، فيمن فاتته صلاة واحدة ومضى على ذلك شهر ثم تذكرها فله أن يؤخرها ويقضي ثم يقضيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وكذلك من وجبت عليه كفارة يمين، فأخرها جاز ذلك ولم يكره والله أعلم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل صلى خمس صلوات ثم علم أنه لم يقرأ في الأوليين من إحدى الصلوات الخمس ولا يعلم تلك الفائتة، فإنه يعيد الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قرأ في الأخريين من الظهر والعصر والعشاء أجزأه بخلاف الفجر والمغرب، فيعيدهما احتياطاً، ولو تذكر أنه ترك القراءة في ركعة واحدة ولا يدري من أي صلاة تركها، قالوا: يعيد صلاة الفجر والوتر؛ لأنهما تفسدان بترك القراءة في ركعة واحدة منهما؛ ولو تذكر أنه ترك القراءة في أربع ركعات يعيد صلاة الظهر والعصر والعشاء ولا يعيد الوتر والفجر والمغرب، ولو أن ... في بعض ... في صلاة الفجر في وقتها وصلى بعدها الظهر والعصر والمغرب والعشاء أشهراً، كذلك على حسبان أنه يجوز، فالفجر الأول جائز؛ لأنه أداها، ولا فائتة عليه والصلوات الأربع التي يعيدها لا تجوز، وكذلك الفجر الثاني؛ لأنه صلاها وعليه أربع صلوات والفجر الثالث يجوز؛ لأنه صلاها وعليه أكثر من يوم وليلة (89أ1) ، قالوا وينبغي أن ينقلب الفجر الثاني جائزاً على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فساد الفجر الثاني موقوف عنده لما علم في أصله، قال: وكذلك هل الفجر جائز وغير الفجر لا يجوز والله أعلم.(1/540)
الفصل الحادي والعشرون في سجدة التلاوة
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في بيان صفتها وبين مواضعها، فنقول سجدة التلاوة واجبة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله سنّة حجته في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يسجد لها زيد، ولم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، ولو كانت واجبة لما تركها زيد، ولما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبترك زيد.
وحجتنا في ذلك: أن آيات السجدة دالة على الوجوب، فإن في بعضها أمراً بالسجود، وفي بعضها إلحاق الوعيد بتاركه وفي بعضها ما يستدل على إسكات الكفرة إنكار الكفرة عن السجود، والاحتراز عن التشبه بهم واجب، وفي بعضها إخبار عن فعل الملائكة وغيرهم والاقتداء بهم لازم؛ ولأنه يجوز قطع الفعل المفروض لأجلها وهو الخطبة، وهو دليل على كونها واجبة، والحديث محمول على الفور يعني لو سجدت للحال سجدنا معك، فإذا لم يسجد للحال سجدنا في أي وقت نشاء.6
وأما بيان مواضعها فنقول: موضع السجود معلومة في القرآن، والخلاف في موضعين، عندنا سجدة التلاوة في سورة الحج واحدة وهي الأولى، وعند الشافعي رحمه الله فيها سجدتان لحديث عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «في الحج سجدتان أو قال: فضلت الحج لسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها» ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه، قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر، فقد قرنها الله تعالى بالركوع فقال: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا(2/3)
الخير لعلكم تفلحون} (الحج: 77) وهو تأويل الحديث، «فضلت الحج لسجدتين» أحدهما: سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة، وأما سجدة سورة «ص» ، فهي سجدة تلاوة.
وقال الشافعي رحمه الله: هي سجدة الشكر، لما روي أن النبي عليه السلام: «قرأ في خطبته سورة «ص» ، فتشزن الناس السجود، فقال عليه السلام «علام تشزنتم إنها توبة نبي» ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال في السجدة «ص» «سجدها داود صلوات الله عليه للتوبة وخرّو نحن نسجدها شكراً» .
ولنا: ما روي أن رجلاً من الصحابة، قال: «يا رسول الله رأيت ما يرى النائم كأني أكتب سورة «ص» ، فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم فقال عليه السلام نحن أحق بها من الدواة والقلم ما مر حتى تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه» ، وإنما لم يسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي خطبته ليبين لهم أنه يجوز التأخير، وروي «أنه سجدها في خطبته مرة» وهو دليل على أنه سجدها تلاوة، فإن ... عباده بها ... العبد، وجبت قطع الخطبة لأجلها، وما روي أنه سجدها داود عليه السلام توبة، ويخر شكر كونها سجدة تلاوة آلا وفيه معنى الشكر.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: سببه وجوبها، فنقول لا خلاف أن التلاوة سبب لوجوبها، فإنها تضاف إلى التلاوة ويتكرر بتكررها، وأما السماع هل هو سبب؟ قال بعض المشايخ: إنه سبب، فإن الصحابة رضوان الله عليهم، قالوا: السجدة على من سمعها، كما قالوا: على من تلاها، ولأنه إنما وجبت على التالي؛ لأنه طلب منه بحكم أنه مخالفة للكفرة، وقد فهم من طلب منه فيلزمه، وكذا السامع.
والصحيح: أن السبب هو التلاوة، فإنها تضاف إليها دون السماع لكن السماع شرط، لتعمل التلاوة في حق غير التالي أما، ليس في الحديث بيان السبب فيه بيان الوجوب على السامع.
ولو تلاها بالفارسية، فعليه أن يسجدها وعلى من سمعها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، سواء فهم أو لم يفهم إذا أخبر له سجدة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تجب على من فهم، ولا تجب على من لم يفهم؛ لأن عنده أنها تجوز بالفارسية إذا لم يقدر على العربية، فاعتبر تلاوة القرآن من وجه دون وجه، فأوجبها على من فهم دون من لم يفهم عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
فأما التلاوة بالعربية توجب السجدة على من فهم أو لم يفهم؛ لأنها تلاوة القرآن من(2/4)
كل وجه، والسبب متى وجد لا يتوقف عمله على الفهم، فهذا أبطل ما قاله أبو يوسف رحمه الله؛ لأنه إن كانت التلاوة بالفارسية تلاوة للقرآن ينبغي أن تجب على كل حال، وإن لم تكن لا تجب على كل حال، أما أن تجب في حال ولا تجب في حال، فهذا ليس من الفقه في شيء.
وإذا تلا آية السجدة ومعه نائم أو مغشياً، عليه فلم يسمعها، فقد اختلف المشايخ في وجوب السجدة عليه، والأصح أنه لا تجب وإذا سمعها من طير لا تجب عليه السجدة، وإذا سمعها من نائم، فقد اختلف المشايخ فيه.
والصحيح: أنها لا تجب، ولو سمعها من الصداى وتقال بالفارسية بجواك لا تجب عليه السجدة، ذكره الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله، ولو تهجى بالقرآن لا تجب عليه السجدة، وكذلك إذا كتب لا تجب عليه السجدة، ولا تجوز بالتيمم مع القدرة على الماء ويبطلها ما يبطل الصلاة من الكلام والحدث والضحك، ولا تبطل الطهارة بالضحك قهقهة في سجدة التلاوة وتبطل بالضحك قهقهة في الصلاة.
نوع آخر في بيان شرائط جوازها
فنقول شرائط جوازها ما هو شرائط جواز الصلاة من طهارة البدن عن الحدث والجنابة وطهارة الثوب عن النجاسة وستر العورة، واستقبال القبلة؛ لأنها ركن من أركان الصلاة، ويكبر عند الانحطاط، والرفع اعتباراً بالسجدة الصلاتية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما: أنه لا يكبر عند الانحطاط؛ لأن تكبير الانتقال من الركن، وعند الانحطاط لا ينتقل من الركن ولم يذكر في «الأصل» أنه ماذا يقول في هذه السجدة، وفي «القدوري» يسبح فيها ولا يسلم، وأما التسبيح اعتباراً بالصلاتية، ولم يذكر أيضاً ماذا يقول في التسبيح (89ب1) ، والأصح أن يقول في هذه السجدة في التسبيح ما يقول في السجدة الصلاتية، وبعض المتأخرين استحبوا أن يقولوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ما يقول فيها وكذلك استحبوا أن يقول ويسجد لقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أُوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّداً} (الإسراء: 107) والخرور هو السقوط من القيام.
وأما عدم السلام، فإن السلام شرع للتحلل عن التحريمة، وليس فيها تحريمة وإن لم يذكر فيها شيء أجزأه؛ لأنها لا تكون أقوى من السجدة الصلاتية، فتلك تجزىء وإن لم يذكر فيها شيئاً فههنا أولى.
وقال القدوري: وإذا وجبت السجدة في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة فسجدها، وفي الأوقات المكروهة لم تجز؛ لأنه التزمها كاملة وأداها ناقصة، فلا تجوز كمن افتتح الصلاة في وقت غير مكروه، وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، فإن تلاها في هذه الأوقات وسجدها جاز، فإن لم يسجده في تلك الساعة، فسجدها في وقت آخر مكروه جاز؛ لأنه لا تفاوت بين المؤدى والواجب، هكذا ذكر القدوري؛ وهو نظير ما إذا افتتح(2/5)
الصلاة في وقت مكروه وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، وذلك جائز كذا ها هنا، وذكر في بعض الروايات أنه يومىء عندنا، وكذلك إذا سمعها وهو راكب يجزئه أن يومىء على أنه لا يجوز والله أعلم.
ولو تلاها راكباً أجزأه على الدابة، وإن تلاها أو سمعها ماشياً لم تجزئه أن يومىء لها وهو في ركب يكون خارج المصر، أما الراكب الذي هو في المصر إذا أومأ لتلاوته، فقد جرى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز، وهو قياس مذهبه على التطوع على الدابة في المصر، ولو تلاها على الدابة ثم نزل ثم ركب، فأداها بالإيماء جاز ماشياً إلا على قول زفر رحمه الله، وههنا آخر في نوع المتفرقات في هذا الفصل والله أعلم.
نوع آخر في بيان حكمها
فنقول من حكم هذه السجدة التواجد حتى يكفي في حق التالي سجدة واحدة، وإن اجتمع في حق التلاوة والسماع وشرط الترك حل اتحاد؛ لأنه اتحاد المجلس حتى لو اختلف المجلس واتحدت؛ لأنه لا تتداخل ولو اتحد المجلس واختلفت الآية لا تتداخل، ولها سبب على التداخل، لوجوه:
أحدها: ما حكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله: أنه يعيد مكرر عرفاً، فإن من قرأ أية واحدة في مجلس واحد بالحكمة، وقرأ خطبة واحدة في مجلس واحد مراراً يقال في العرف كرره، وهذا عرف تأيد بالحكمة، فإن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يكون في الإقرار التالي مكرراً ومعيداً، وإذا كان مكرراً ومعيداً عرفاً كان التالي الأول، فلا يكون التالي حكم نفسه، ولا عرف فيما إذا اختلف المجلس أو اختلف، ما حكي عن القاضي أبي عاصم العامري رحمه الله أن المجلس يجمع الكلمات المتفرقة من جنس واحد ويجعلها ككلمة واحدة، ألا ترى أن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقراً مرة واحدة، فكذا ههنا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة، فأما المجالس المختلفة لا تجمع الكلمات المتفرقة، ولا تجعلها ككلمة واحدة كما لو أقر بالزنا أربع مرات في أربع مجالس لا يجعل معبراً مرة واحدة، فكذا ههنا لا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة.
والثالث: ما ذهب إليه مشايخ ما وراء النهر: أن الحاجة إلى تكرار كلام الله تعالى للتعليم والتعلم وليحفظ صاحبه ما بينه فلو أوجبنا بكل مرة سجدة على حدة يقع في الحرج، ولأنه تنقطع عليه القراءة، بخلاف ما إذا اختلفت الآية في مجلس واحد؛ لأنه لا حرج ثم؛ لأن آيات السجدة في القرآن محصورة مضبوطة أما التكرار للتعلم وللحفظ غير محصورة ولا مضبوطة؛ ولأن الإنسان لا يقرأ جميع آيات السجدة في مجلس واحد غالباً، أما تكرار آية واحدة في مجلس واحد، فاللتعليم والتعلم والحفظ غالباً فظهرت التفرقة بينهما.(2/6)
ولم يذكر في «الأصل» : حكم الصلاة على النبي عليه السلام إذا ذكر في مجلس واحد مراراً، وعلى قول الكرخي رحمه الله: لا يصلي عليه إلا مرة واحدة؛ لأن من مذهبه أنه لا تجب عليه الصلاة إلا مرة واحدة، فإن كان هذا الرجل قد كان عليه صلى مرة واحدة لا يلزمه ههنا شيء، وإن كان لم يصل عليه يلزمه ههنا مرة واحدة لكل مرة، وإن كرر اسمه في مجلس واحد؛ لأن هذا حق الرسول عليه السلام قال عليه السلام: «لا تجفوني بعد موتي» قيل وكيف نجفي بعدك يا رسول الله قال: «إن كان أذكر عند أحدكم، فلا يصلي عليّ» وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
نوع آخر في بيان من تجب عليه هذه السجدة
فنقول التالي لآية السجدة تلزمه السجدة بتلاوته إذا كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه، وإن كان منهياً عن القراءة كالجنب؛ لأن النهي عن التصرف لا يمنع اعتباره في حق الحكم كسائر التصرفات المنهي عنها، وكل من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها، كالحائض والنفساء والكافر والمجنون والصبي فلا سجود عليه للتلاوة لما ذكرنا، لأن السجدة من أركان الصلاة، فلا تجب على من لا تجب عليه سائر الأركان.
وكذلك الحكم في حق السامع من كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه تلزمه السجدة بالسماع، ومن لا يكون أهلاً لوجوب الصلاة عليه نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون لا تلزمه السجدة بالسماع.
وإن لم يكن التالي أهلاً لوجوب الصلاة عليه، نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون والسامع أهلاً لوجوب الصلاة تجب على السامع السجدة، أو ليس فيه أكبر من كون التالي منهما منهي عن القراءة المنهي عن التصرف لا يمنع اعتباره الحكم غير أنه إنما يعتبر التصرف في حق الحكم، في حق من هو أهل لذلك، والتالي إن لم يكن أهلاً، فالسامع أهل فتجب عليه السجدة.
وذكر مسألة المجنون في «نوادر الصلاة» : أن الجنون إذا قصر، فكان يوماً وليلة أو أقل تلزمه السجدة بالتلاوة والسماع حالة الجنون فيؤديها بعد الأهلية، إذا قرأ آية السجدة ولم يسجد لها، حتى ارتد والعياذ بالله ثم ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنه لا قضاء عليه، والصبي الذي يعقل الصلاة إذا قرأ آية السجدة أمر أن يسجد، وإن لم يسجد لم يكن عليه أيضاً.
والسكران إذا قرأ آية (90أ1) السجدة، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه تلزمه السجدة.
المرأة إذا قرأت آية السجدة في صلاتها، ولم تسجد لها حتى حاضت سقطت عنها السجدة، مصلي التطوع إذا قرأ آية السجدة، وسجد لها ثم فسدت صلاته وجب عليه(2/7)
قضاؤها، لا تلزمه إعادة تلك السجدة، وإذا قرأ الرجل ومعه قوم سمعوها، فسجد سجدوا معه ولا يرفعوا رؤوسهم قبله.
والأصل في ذلك ما روي «أن شاباً قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله ولم يسجد لها، فقال عليه السلام: يا شاب كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، فقد جعل التالي إماماً وعلى المأموم أن يتابع الإمام في السجدة، فلا يرفع رأسه من السجدة قبل رفع التالي جازت سجدته كما في السجدة الصلاتية.
نوع آخر في بيان ما يبطل هذه السجدة وما لا يبطلها
إذا تكلم في السجدة أو ضحك قهقهة أو أحدث متعمداً أو خطأ، فعليه إعادتها اعتباراً بالصلاتية، ولا وضوء عليه في القهقهة؛ لأن الضحك عرف حدثاً بالأمر، والأثر ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، وإن سبقه الحدث توضأ وأعادها؟ قال شيخ الإسلام هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، فإن عنده تمام السجدة بوضع الجبهة ورفعها، فإذا أحدث فيها أو ضحك فيها أعادها، أما قول أبي يوسف رحمه الله: تمام السجدة بوضع الجبهة لا غير، فإذا وضع الجبهة، فقد تمت السجدة وإن قل، فكيف يتصور القهقهة فيها؟ فإذا ضحك بعد ذلك فقد ضحك بعد تمام السجدة، فلا تلزمه الإعادة.
ومحاذاة المرأة الرجل في سجدة التلاوة لا تفسد صلاة الرجل، وإن نوى إمامتها؛ لأن المحاذاة لها عرفت مفسدة ضرورة وجوب التأخر على الرجل بأمر الشرع، والأمر إنما ورد في الصلاة المطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، فلم تكن المحاذاة فيها مفسدة.
نوع آخر في بيان ما يتعلق به وجوب هذه السجدة
ذكر في «الرقيات» : فيمن قرأ السجدة كلها إلا الحرف الذي في آخرها قال لا يسجد، ولو قرأ الحرف الذي يسجد فيه وحده لم يسجد إلا أن يقرأ أكثر من آية السجدة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا قرأ حرف السجدة ومعها غيرها قبلها أو بعدها فيه أمر بالسجدة سجد، وإن كان دون ذلك لا يسجد، وفي فوائد الإمام الزاهد السنكريتي رحمه الله: إن من تلا في أول السجدة أكثر من نصف الآية، وترك الحرف الذي فيه السجدة لم يسجد، وإن قرأ الحرف الذي فيه السجدة إن قرأ ما قبله أو بعده أكبر من نصف الآية تجب السجدة، وما لا فلا، وعن أبي علي الدقاق رحمه الله فيمن سمع سجدة من قوم قرأ كل واحد منهم حرفاً ليس عليه أن يسجد، لأنه لم يسمعها من قائلها.(2/8)
نوع آخر في تكرار آية السجدة
رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها في مجلسه، فليس عليه أن يسجدها، وإن قرأها فلم يسجدها حتى قرأها ثانية في مجلسه، فعليه سجدة واحدة، وهذا استحسان والقياس أن تجب بكل تلاوة سجدة؛ لأن السجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر بتكرر السبب اعتباراً للسبب، ولا معنى للبدل؛ لأن السجدة عبادة والعبادات يحتاط في إقامتها، ولا يحتال لدرئها بخلاف الحدود، فإنها عقوبات، والأصل في العقوبات إسقاطها لا استيفائها.
وجه الاستحسان ما روي أن جبريل صلوت الله عليه كان ينزل بآية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يكرر عليه مراراً، وكان رسول الله عليه السلام يسجد لها سجدة واحدة، وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يعلم الناس القرآن في المسجد بالكوفة، وكان يكرر آية السجدة في مكان واحد.
وفيما كان يخطو خطوة أو خطوتين، وكان يسجد لذلك مرة واحدة، والنص لها ورد في مكان واحد وفي آية واحدة فيما عدا ذلك يبقى على أصل القياس، والمعنى ما ذكرنا من الوجوه الثلاث في صدر هذا الفصل، فإن قرأ فسجد وذهب وعاد وقرأها ثانياً، فعليه سجدة أخرى، وكذلك إن لم يكن سجد للأولى حتى ذهب ثم عاد، فقرأ ثانياً تلزمه سجدتان؛ لأنه اختلف المجلس ولا يمكن إثبات الاتحاد، وهذا إذا ذهب بعيداً، فأما إذا ذهب قريباً تكفيه سجدة واحدة مقدر حد الفاصل، الحد الفاصل بين القريب والبعيد أنه إذا مشى خطوتين أو قلنا بذلك قريب، فإن كان أكثر من ذلك كان بعيداً.
قال محمد رحمه الله: فإن كان نحواً من عرض المسجد وطوله فهو قريب، وهذا إذا كان المجلس مجلس القراءة كما روي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرىء الصحابة وهم خلف كبيرة، فأما إذا لم تكن هكذا تلزمه ثانياً، لأن المجلس يختلف والله أعلم.
ولو قرأها قاعداً ثم قام وقرأها ثانية تكفيه سجدة واحدة ولا يجعل المجلس مختلفاً؛ لأن مكان التالي لم يختلف لها إلا اختلاف هيئته، وهذا بخلاف المخيرة إذا قامت من مجلسها حيث يبطل خيارها؛ لأن ذلك ليس لاختلاف المجلس؛ بل للإعراض دلالة؛ لأن من حزبه أمر وهو قائم يقعد إذ القعود أجمع للرأي، وكان قيامها دليل الأعراض، والخيار يبطل بالأعراض صريحاً، ودلالة، أما ها هنا الحكم يتعدد باختلاف المجلس ولم يوجد، وإن أكل بيديه أكلاً طويلاً أو نام مضطجعاً أو أخذ في بيع أو في شراء أو عمل عملاً يعرف أنه قطع لما كان قبله لذلك، ثم قرأ فعليه سجدة أخرى استحساناً.
والقياس: أن تكفيه سجدة واحدة، وجه القياس: أن المجلس ما تبدل حقيقة، فإنه لم ينتقل عنها إلى مكان واحد فكفته سجدة واحدة كما لو كان العمل يسيراً.(2/9)
وجه الاستحسان: وهو أن المجلس قد يبدل اسماً وحكماً، وإن لم يتبدل حقيقة؛ لأن الفعل إذا كبر يضاف المجلس إليه، ألا ترى أن القوم إذا جلسوا للدرس يقولون أنه مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل، فيقولون إنه مجلس الأكل ثم يقتتلون، فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبديله بالذهاب والرجوع.
وإن نام قاعداً أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملاً يسيراً ثم قرأها فليس عليه سجدة أخرى؛ لأن المجلس لم يتبدل لا حقيقة، ولا حكماً، أما حقيقة فلا إشكال فيه؛ لأنه لم ينتقل عنها إلى مكان آخر، وأما حكماً؛ لأنه لا يضاف المجلس إلى الأكل بأكل لقمة، ولا إلى الشرب بشرب شربة، وإلى النوم بالنوم قاعداً ساعة، إذا لم يتبدل المجلس حقيقة، وصار وجود هذا وعدمه سواء.
وفي الذي ... إذا كرر آية سجدة واحدة اختلف المشايخ فيه (90ب1) ، قال بعضهم تكفيه سجدة واحدة، فإن المجلس واحد من حيث الاسم، فإن المجلس يضاف إلى هذا الفعل، والأصح أنه يلزمه بكل مرة سجدة؛ لأن المجلس تبدل حقيقة بتبدل المكان ولو أنه اختلف حقيقة لا يعتبر واحداً باتحاد العمل، كما لو كان راكباً فتلا آية السجدة مراراً والدابة تسير لا تكفيه سجدة واحدة، وإن كان العمل وهو السير واحداً والتي تلاها على ... اختلف المشايخ فيه مثل اختلافهم في تسدية الثوب، وحجتهم ما ذكرنا في تسدية الثوب والتي تلاها على الشجرة على غصن ثم انتقل إلى غصن آخر، وتلا تلك الآية في ظاهر الرواية يلزمه سجدتان، وعن محمد رحمه الله: أنه يكفيه سجدة واحدة محمد رحمه الله، اعتبر أصل الشجرة أنه واحد.
وجه ظاهر الرواية وهو أنه تبدل المكان لاختلاف الغصن، ألا ترى أنه لو سقط يكون الموضع الذي سقط غير ذلك الموضع حتى لو تلاها على الأرض، ثم انتقل مقدار الغصن يلزمه سجدتان، والسابح في الماء إذا تلا السابح في الماء ... الماء شيء يلزمه بكل مرة سجدة على حدة، قالوا إذا كان سبح في حوض أو غدير له حد معلوم تكفيه سجدة واحدة، وعن محمد رحمه الله إذا كان طول الحوض مثل طول المسجد وعرضه تكفيه سجدة واحدة.
ولو قرأها في زوايا المسجد الجامع تكفيه سجدة واحدة كذلك حكم البيت والدار قيل: في الدار إذا كانت كبيرة كدار السلطان فتلا في دار منها ثم تلا في دار أخرى يلزمه سجدة أخرى، وأما في المسجد الجامع إذا تلا في دار ثم تلا في دار أخرى يلزمه يكفيه؛ لأن دور المسجد الجامع، وإن كثرت جعلت كمكان واحد في حق جواز الإقتداء، وكذا في حق حكم السجدة، ولا كذلك دور السلطان، وإذا قرأها مراراً على الدابة والدابة تسير، فإن كان في الصلاة تكفيه سجدة واحدة؛ لأن حرمة الصلاة تجمع الأماكن المختلفة، وإن كان خارج الصلاة يلزمه بكل مرة سجدة.(2/10)
فرق بين هذا وبين السفينة، وبسفينة تجري يكفيه سجدة واحدة، وفي الدابة يلزمه بكل مرة سجدة، والفرق: هو أن سير السفينة مضاف إلى السفينة، لا إلى راكبها شرعاً وعرفاً، أما شرعاً فلقوله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} (هود: 42) الله تعالى أضاف الجري إلى السفينة، لا إلى الراكب، وأما عرفاً؛ فلأن الناس يقولون: سارت السفينة كذا كذا مرحلة، وإذا صار مضافاً إلى السفينة، فالمكان يتحد في حق الراكب، وإن اختلف في حق السفينة.
فأما سير الدابة مضاف إلى الراكب عرفاً، فإن الناس يقولون في العرف سرت كذا وكذا فرسخاً اليوم، وإذا صار السير مضافاً إلى الراكب تبدل المكان حقيقة وحكماً بعض مشايخنا قالوا؛ ما ذكر في «الكتاب» إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً والدابة تسير، فإن كان في الصلاة، فعليه سجدة واحدة محمول على ما إذا قرأها مراراً في ركعة واحدة، فإن كان ذلك في ركعتين يجب أن يكون على الاختلاف الذي يذكر فيما إذا تلاها على الأرض في الصلاة في ركعتين على قول أبي يوسف رحمه الله: يكفيه سجدة واحدة، وعلى قول محمد رحمه الله: يلزمه سجدتان، ومنهم من قال: الجواب في هذه المسألة في الركعتين والركعة الواحدة سواء بالإجماع، ويكفيه سجدة واحدة بالإجماع.
والفرق لمحمد رحمه الله بين المصلي على الأرض، والمصلي على الدابة: أن المصلي على الأرض يصلي بركوع وسجود، وإنه عمل كثير يتخلل بين التلاوتين، والراكب نوى وهو عمل يسير، ولا يتحدد وجوب السجدة في الراكب على الدابة، ويتحدد في المصلي على الأرض، بهذا، وإذا سمع هذا الراكب المصلي آية السجدة من غيره مرتين وهو يسير فعليه سجدتان إذا فرغ من صلاته؛ لأن حرمة الصلاة لها تجمع الأماكن المختلفة في حق أفعال الصلاة، فأما ما ليس من أفعال الصلاة يبقى على الحقيقة، والمكان مختلف حقيقة، وسماعه ذلك الرجل قرأ راكباً ونزل فقرأ ليس من أفعال الصلاة، فلا يثبت اتحاد المكان في حقه، وإذا لم يثبت اتحاد المكان في حقه يلزمه بكل تلاوة سجدة، وإن قرأها راكباً، ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحساناً.b
وفي القياس: عليه سجدتان وجه القياس: وهو أن المكان اختلف حقيقة؛ لأنه كان على الدابة ... وعلى الأرض، واختلاف المكان بهذا الصدر وإن كان لا يوجب تبدل المجلس، إلا أنه وجد معه عمل آخر وهو النزول وللعمل أثر في قطع المجلس، فإذا اجتمعا أوجب تبدل المجلس، وكان يجب أن تلزمه سجدتان.
وجه الاستحسان: وهو أن النزول عمل قليل وما وجد من اختلاف المكان قليل أيضاً لو ... ولم يوجب ذلك تبدل المجلس، فكذلك مع النزول وإن كان سار ثم نزل، فعليه سجدتان؛ لأن سير الدابة كمشيه فتبدل به المجلس.(2/11)
وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض، ولو سجدها على الدابة لم يجزئه عن الأولى؛ لأنه إذا سجدها على الدابة فالمؤداة أضعف من الأولى، فأما إذا سجدها على الأرض، فالمؤداة أقوى من الأولى والمكان واحد فينوب المؤدى عنهما، وإن قرأها راكباً ثم نزل ثم ركب، فقرأها وهو على مكانه، فعليه سجدة واحدة وتجزئه على الدابة؛ لأنه التزمها على الدابة، فإذا أداها على الدابة، فقد أداها كما التزم.
وإذا تبدل مجلس التالي، ولم يتبدل مجلس السامع يتكرر الوجوب على السامع عند بعض المشايخ وعند عامة الشايخ لا يتكرر؛ لأن الوجوب على السامع بالسماع ومكان السامع متحد، ولو تبدل مجلس السامع دون التالي تكرر الوجوب، وإن قرأها في غير صلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه، فقرأها فعليه سجدة أخرى؛ لأن التي وجبت بالتلاوة صلاتية، فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة؛ لأنها أضعف، وإن لم يكن سجد أولاً ثم شرع في الصلاة في مكانه، فقرأها يسجد لهما جميعاً أجزأه عنهما في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله وهو إحدى روايتي «نوادر الصلاة» (91أ1) أنه لا يجزئه عنهما، وعليه أن يسجد للتي تلاها خارج الصلاة بعد الفراغ من الصلاة.
وجه هذه الرواية: أنه لا يمكن إدخال الأولى في الثانية؛ لأنه خلاف موضع التداخل، فلا بد من اعتبار كل واحد منهما على حدة، والصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية، وهي الأولى أن تؤدى بعد الفراغ من الصلاة وجه ظاهر الرواية، وهو أن السبب واحد، فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى؛ لأن لها حرمتان، ولو كانت مثل الأولى نابت، فإذا كانت أكمل أولى أن تنوب عنهما، إذا قرأ المصلي آية السجدة وسمعها من أجنبي أيضاً أجزائه سجدة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» .
وفي «الجامع الكبير» ، وذكر في «نوادر أبي سليمان» وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمهم الله: أنه لا يكفيه سجدة واحدة ولا تنوب المتلوة عن المسموعة وعليه أن يسجدها للمسموعة إذا فرغ من صلاته، وجه رواية ابن سماعة وهو أن السماعية ليست بصلاتية وجه ظاهر الرواية وهو أنه سمع وتلا في مكان واحد فتدخل المسموعة في المتلوة وتنوب المتلوة عنهما جميعاً؛ لأن المتلوة أقوى من السماعية؛ لأن لها حرمتين حرمة الصلاة وحرمة التلاوة، والمسموعة لها حرمة واحدة، والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا في القوة نابت إحديهما عن الأخرى، فلأن ينوب القوي عن الضعيف أولى.
قال شمس الأئمة رحمه الله: وبين الناس كلام كثير في هذه المسألة، قال بعضهم: إن كان السماع والتلاوة في مقام واحد، ففيه روايتان كما ذكرنا، فأما إذا كانت التلاوة في مقام والسماع في مقام آخر، ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف، عند أبي يوسف رحمه الله يكفيه سجدة واحدة، وعند محمد رحمه الله يلزمه سجدتان، وذكر الفقيه أبو(2/12)
جعفر أن جواب «الجامع الصغير» عندي فيما إذا كانت تلاوته وسماعه معاً بأن كانا يقرآن معاً هذه السجدة هذا في الصلاة، وذاك خارج الصلاة فههنا تتداخلان، وتنوب المتلوة عن المسموعة؛ لأنها أقوى كما ذكرنا.
فأما إذا كانا على التعاقب بأن كان السماع أولاً ثم التلاوة أو كانت التلاوة أولاً ثم السماع، ففيه روايتان وإن كانا جميعاً في مقام واحد، هذا إذا كانت المتلوة والمسموعة سجدة واحدة، فأما إذا سجد في الصلاة لا يجب عليه أخرى في ظاهر الرواية؛ لأن الباقي أعلى للأولى للاتحاد المجلس سجدة أخرى للمسموعة إذا فرغ من الصلاة وإن سمع المصلي آية السجدة من رجل وسجد لها ثم أحدث وذهب، ثم عاد وسمع من ذلك الرجل مرة أخرى، فإنه يسجد سجدة أخرى، قيل: قرأ في الصلاة وسجد ثم أحدث ورجع وبنا وقرأ تلك الآية هذا على رواية «النوادر» .
وعلى هذا قالوا لو قرأ آية السجدة في الصلاة ثم أحدث وذهب ليتوضأ ثم عاد، وأعادها يسجد سجدة أخرى، ويستوي سماعه وتلاوته مرتين في إيجاب السجدتين، ولو قرأ رجل سجدة في الصلاة، فسجدها ثم سلم وتكلم قرأها ثانية، فعليه إن لم يسجدها وإن كان لم يسجدها يكفيه سجدة واحدة كذا ذكر في «الأصل» .
وذكر في «نوارد أبي سليمان» رحمه الله: إذا قرأ آية السجدة في الصلاة وسجد ثم سلم وقرأها في مقامه ذلك، فلا سجود عليه من مشايخنا رحمهم الله من قال في المسألة اختلاف الروايتين، ومنهم من قال: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ما ذكر في «النوادر» أنه سلم لا غير ومجرد السلام لا يوجب تبدل المجلس؛ لأنه كلام يسير؛ لأنه كلامان لا غير وموضوع ما ذكر في الصلاة أنه سلم وتكلم به يكثر الكلام؛ لأنه تكلم ثلاث مرات بسلامين وكلام آخر، فيوجب تبدل المجلس، ولو قرأ آية السجدة في الركعة الأولى، فسجد ثم أعادها في الثانية، فلا سجود عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله يسجد استحساناً، وهذا من المسائل التي رجع أبو يوسف رحمه الله فيه من الاستحسان إلى القياس.
وجه الاستحسان: أن القول باتحاد التلاوتين غير ممكن هنا، لأنا لو قلنا: بالاتحاد تفوت القراءة من إحدى الركعتين حكماً والقراءة في كل ركعة ركن، فاعتبرنا كل قراءة تلاوة على حدة.
وللقياس وجوه: أحدها: أن يثبت الاتحاد بقدر ما تتعلق به السجدة لا غير.
والثاني: أن يثبت الاتحاد في حق السجدة لا في حق الصلاة.
والثالث: أن يثبت الاتحاد في حق سببية السجدة لا في حق القراءة، وتفسيره: أن يجعل كلاهما تلاوة واحدة، وإذا سجد للتلاوة وتلا في السجدة آية أخرى لا تلزمه سجدة أخرى، وكذا لو تلا في الركوع ذكر في صلاة الفارسية؛ لأن هذه التلاوة محجور عنها سجد للتلاوة، فقرأ في السجدة أية أخرى.(2/13)
نوع آخر في سماع المصلي آية سجدة ممن معه في الصلاةأو ممن ليس معه في الصلاة وسماع غير المصليآية السجدة من المصلي ثم اقتداؤه بالمصلي
قال محمد رحمه الله: إذا تلا آية سجدة خلف الإمام يسمعها الإمام والقوم ليس عليهم أن يجسدوها ما داموا في الصلاة، وهذا حكم الثابت بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى قلب الشريعة فإن التالي يتبع في هذه الصلاة وينقلب متبوعاً بسبب السجدة، لأن التالي إمام السامعين، قال عليه السلام للتالي «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا» ولهذا كانت السنّة أن يتقدم التالي بالسجدة، ويصطفون خلفه فلو ... الأداء في الصلاة انقلب التبع متبوعاً، وذلك باطل، فإن فرغوا من الصلاة لا يسجدونها أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله يسجدونها؛ لأن التلاوة صحت من أهلها فوجبت السجدة أكثر ما في الباب أن حرمة القراءة على المقتدي خلف الإمام إلى حرمة القراءة لا يكون مانعاً وجوب السجدة كحرمة القراءة على الجنب والحائض والنفساء والكافر، فتلاوة هؤلاء، فإنها لا تمنع وجوب السجدة، فكذلك ها هنا.
ولهما: أن المقتدي محجوب عن القراءة خلف الإمام بدليل يعد أنه قراءة الإمام عليه قال عليه السلام: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ، وذلك دليل الولاية، والولاية دليل حجر المولى عليه وتصرف المحجور عليه لا ينعقد بحكم كسائر تصرفاته، بخلاف قراءة الجنب والحائض؛ لأنهما ليسا بموليين عليهما ولا (91ب1) محجورين، بل كانا منهيين عن التلاوة والتصرفات المنهي عنها ينعقد حكمها.
وفرق بين الحجر وبين النهي، فأثر الحجر في منع اعتبار السببية، وأثر النهي في حرمة الفعل دون مولى الاختيار والفقه فيه: أن النهي ... مصدر المنهي عنه بعد النهي، كما كان قبل النهي بخلاف الحجر على أنا نقول الجنب والحائض ليسا بممنوعين عن قراءة ما دون الآية على ما ذكره الطحاوي رحمه الله، وذلك القدر كافٍ لتعلق الوجوب، فأما المقتدي ممنوع عن قراءة ما دون الآية ومحجور عليه على ما مر.
وأما إذا سمعها من المقتدي رجل ليس معهم في الصلاة ذكر في «نوادر أبي سليمان» رحمه الله: أنه يلزمه نفل هو قول محمد رحمه الله ولئن كان قول الكل بالحجر ثبت في حق المقتدي، فلا يعدوهم إن قرأها رجل ليس معهم في الصلاة يسمعها القوم والإمام، فعليهم أن يسجدوها إذا فرغوا من الصلاة ولا يسجدوها في الصلاة إما تجب(2/14)
سجدة لصحة التلاوة من غير حجر، ولا يجوز أن يسجد في الصلاة؛ لأنها ليست فيها؛ لأن تلك التلاوة ليست من أفعال الصلاة حتى تكون السجدة صلاتية، فيكون إذا قالها في الصلاة وجبت كاملة، فلا ينادى بالنهي ولكن مع هذا لو سجدوا في الصلاة لا تفسد صلاتهم، لأن السجدة من أفعال الصلاة في ذاتها وفساد الصلاة بما هو من أفعال الصلاة لا يكون، وذكر في «النوادر» أنه تفسد صلاتهم؛ لأنهم تركوا الصلاة حين انتقلوا لها وزادوا في الصلاة ما ليس منها، والصحيح ما قلنا بدئاً؛ لأنهم ما تركوا الصلاة ولا أتوا بما ينقضها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا قرأ الإمام آية السجدة سمعها رجل ليس معه، ثم دخل الرجل في صلاة الإمام، فهذه المسألة على وجهين.
الأول: أن يكون اقتداؤه قبل أن يسجد الإمام، وفي هذا الوجه عليه أن يسجد مع الإمام؛ لأنه لو لم يكن سمع السجدة من الإمام قبل الاقتداء به كان عليه أن يسجد مع الإمام بحكم المتابعة، فإذا سمعها خارج الصلاة منه أولى أن يسجد معه، وإذا سجد مع الإمام سقط عنه لزمه بحكم سماعه قبل الإمام؛ لأنه لما اقتدى به صارت قراءة الإمام قراءة له، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام حالة الركوع نابت عنه قراءة الإمام، وإن لم يكن مع الإمام حال قراءته، وإذا جعل قراءة الإمام قراءة المقتدي صار كأن المقتدي شرع في صلاة نفسه وتلا في صلاته ما سمع ثانياً، ولو كان هكذا سجد في الصلاة وسقط عنه ما وجب خارج الصلاة كذا ها هنا.
الوجه الثاني: إذ اقتدى به بعدما سجد فليس عليه أن يسجدها في الصلاة كيلا يصير مخالفاً للإمام وليس عليه أن يسجدها بعد الفراغ من الصلاة أيضاً، قالوا، وتأويل هذه المسألة إذا أدرك الإمام في آخر تلك الركعة يصير مدركاً للركعة من أولها، فيصير مدركاً بالقراءة وما تعلق بالقراءة من السجدة، فأما إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى كان عليه أن يسجدها بعد الفراغ؛ لأنه إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى لم يصر مدركاً للركعة التي قرأ فيها، فلم يصر مدركاً لتلك القراءة، ولا لما تعلق بتلك القراءة من السجدة فقد جعله مدركاً للسجدة بإدراك تلك الركعة، ونظير هذا ما لو أدرك الإمام في الركوع في الركعة الثالثة من الوتر في شهر رمضان يصير مدركاً للقنوت، حتى لا يأتي بالقنوت في الركعة الأخيرة، هكذا ذكر في «النوادر» .
ولو أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيدين كان عليه أن يأتي بالتكبيرات ولا يصير مدركاً التكبيرات بإدراك تلك الركعة.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن كل ما لا يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع نحو التلاوة وقنوت الوتر، فبإدرك الإمام في الركوع في تلك الركعة يصير مدركاً لذلك، وكل ما يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع كتكبيرات العيدين، فبإدراك الإمام في الركوع من تلك الركعة لا يصير مدركاً لها.(2/15)
نوع آخر فيما إذا تلا آية السجدة وأراد أن يقيم ركوع الصلاة مقام السجود
قال في «الأصل» : وإذا قرأ آية السجدة في صلاته وهي في آخر السورة إلا آيات يعني، فإن شاء ركع لها وإن شاء سجد لها، واعلم أن هذه المسألة على أوجه، إما إن كانت السجدة قريبة من آخر السورة، وبعدها آيتان إلى آخر السورة، فالجواب ما ذكرنا أنه بالخيار إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد، بعضهم قالوا: إن شاء سجد لها سجدة على حدة، وإن شاء ركع لها ركوعاً على حدة وبكل ذلك، ورد الأثر؛ وهذا لأن السجدة غير مقصودة بنفسها، إنما المقصود إظهار الخشوع أو مخالفة الكفار، فإنهم استنكفوا عن السجدة لله تعالى قال الله تعالى: {وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون} (الإنشقاق: 21) والخشوع والمخالفة كما يحصل بالسجود يحصل بالركوع غير أن السجدة أفضل، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، لوجهين:
أحدهما: في السجود أداء الواجب بصورته ومعناه وفي الركوع بالمعنى دون الصورة، فكان السجود أكمل، ولأنه متى سجد يصير مقيماً صورتين ومتى ركع يصير مقيماً صورة واحدة أولى من ولو سجد يعود إلى القيام؛ لأنه يحتاج إلى الركوع والركوع لها يكون من القيام، ويقرأ بقية السورة ليس ثم يركع إن شاء، كيلا يصير ثان الركوع على السجدة ولو شاء ضم إليها من السورة الأخرى أية حتى يصير ثلاث آيات، قال الحاكم الشهيد: وهو أحب إليّ، وهذه القراءة بعد السجدة بطريق الندب لا بطريق الوجوب حتى أنه لو لم يقرأ جعلها، ويكره غير أن في الركوع يحتاج إلى النية ينوي الركوع للتلاوة وفي السجدة لا يحتاج إلى النية؛ لأن الواجب الأصل السجدة والركوع إن كان موافق السجود صورة يخالفها معنى فمن حيث إنه يوافقها معنى ينادى به ومن حيث إنه يخالفها صورة يحتاج إلى النية بخلاف السجدة؛ لأنها هي الواجب الأصل، فلا يحتاج فيها إلى النية، وبعضهم قالوا: معنى قوله: إن شاء ركع لها وإن شاء سجد وإن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة (92أ1) التلاوة وهذا التفسير منقول عن أبي حنيفة رحمه الله نقل عنه أبو يوسف رحمه الله، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ما يدل على أن سجدة الركعة تنوب عن سجدة التلاوة، فقد روي عنه إن كانت السجدة في آخر السورة مثل الأعراف والنجم أو سائرها من مثل بني إسرائيل وانشقت وركع حتى فرغ من السورة حتى أجزأته سجدة الركعة عن سجدة التلاوة.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ: أنه إذا لم يسجد للتلاوة سجدة على حدة، ولم يركع لها ركوعاً على حدة، وإنما ركع للصلاة وسجد للصلاة والركوع ينوب عن سجدة التلاوة أو السجدة بعده، بعضهم قالوا: الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عن سجدة التلاوة، وقال بعضهم: إن سجدة الصلاة تنوب، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما؛ لأن المجانسة بينهما وبين سجدة التلاوة أظهر؛ ولأن الركوع لا يعرف قربة إلا في الصلاة والسجدة قربة في الصلاة وخارج الصلاة، فكانت(2/16)
السجدة أولى في كونها قربة فكانت هي أولى؛ ولأن الركوع لافتتاح السجود، والسجدة هي الأصل، ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إذا كان عاجزاً عن السجدة، فإنما ينوب ما هو الأصل ثم اختلاف أن ركوع الصلاة لا ينوب بدون النية، وأما سجود الصلاة، هل ينوب بدون النية؟ اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن سلمة وجماعة من أئمة بلخ رحمهم الله: لا تنوب ما لم ينو في ركوعه أو بعد ما يستوي قائماً أنه يسجد لصلاته، وتلاوته جميعاً، وغيرهم قالوا: النية فيها ليست بشرط وسجدة الصلاة تقع عن الصلاة والتلاوة بدون النية، وجه قول من قال النية ليست بشرط أنهما من جنس واحد، وإحداهما أقوى ... ومتى سجدة الصلاتية، فتدخل التلاوة فيه وإن لم ينوِ كصوم رمضان تنوب عن صوم الاعتكاف وإحرام الحج ينوب عن إحرام الدخول بمكة، وإن لم يوجد منه النية.
وجه من قال: بأن النية شرط أنهما اختلفا سبباً، فإن سبب الصلاتية الصلاة وسبب الأخرى التلاوة، وهما مختلفان، واختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم، ثم قوله: إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد لها قياس.
وفي الاستحسان: لا يجزئه الركوع عن سجدة التلاوة ولا سجدة الصلاة عن سجدة التلاوة نص على القياس والاستحسان في «الأصل» ، قال محمد رحمة الله عليه وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما مر.
ووجه الاستحسان: أن السجدة أقوى من الركوع في معنى الخشوع فلا ينوب الركوع عن السجود، وكذا سجدة الصلاة لا تنوب عن سجدة التلاوة استحساناً كما لا تنوب إحدى سجدتي الصلاة عن الأخرى، من أصحابنا من قال هذا غلط من الكاتب والصحيح أنه يجوز استحساناً، لا قياساً، ومن أصحابنا من قال موضع القياس والاستحسان خارج الصلاة، يعني إذا قرأ آية السجدة خارج الصلاة وأراد أن يركع بدلاً عن السجدة يجوز قياساً، ولا يجوز استحساناً. وجه القياس ما مر.
ووجه الاستحسان: أن الركوع خارج الصلاة ليس بقربة والسجدة قربة وغير القربة لا ينوب عن القربة بخلاف الركوع في الصلاة؛ لأنه قربة فينوب عن السجدة قياساً واستحساناً.
الوجه الثاني: إذا كان بعد السجدة ثلاث آيات إلى آخر السورة أو كانت السجدة في آخر السورة وهو الوجه الثالث: أو كانت السجدة في وسط السورة، وهو الوجه الرابع: والحكم في هذه الوجوه كلها ما ذكرنا في الوجه الأول فلو أنه، في هذه الوجوه لم يركع لها ولم يسجد على الفور، ولكن قرأ ما بقي من السورة أو خرج إلى سورة أخرى وقرأ منها شيئاً آخر إن قرأ بعدها أنه ... يجزئة الركوع وسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة.
أما إذا قرأ بعدها ثلاث آيات أو كانت السجدة في وسط السورة لم يجز الركوع عن(2/17)
السجود؛ لأنه إذا قرأ ثلاث آيات بعد آية السجدة، فقد صارت السجدة ديناً في ذمته لفوات محل الأداء؛ لأن وقتها وقت وجوبها، إلا أن وقتها يقدر بأدائها أو، لا بد للتلاوة من وقت مقدر وكأن وقتها مقدر بأدائها، كما في سائر أفعال الصلاة إذا تقدر وقتها بأدائها، فإذا وجد من الفاصل قدر ما يقع به الأداء لو اشتغل بالأداء صارت فائتة، فلا ينوب الركوع والسجدة من التلاوة، وإذا لم يوجد من الفاصل قدر ما يقع به كان وقت الأداء باقياً، فلا تصير فائتة، فينوب الركوع أو السجدة عنها.
وقدرنا وقت الأداء بثلاث آيات؛ لأن وقت أدائها يمضي بآيات كثيرة، ولا يمضي بقراءة آية أو آيتين فقدرنا الكثرة بالثلاث، لأنه أول الجمع الصحيح، فما لم يقرأ ثلاث آيات كان وقت الأداء باقياً وكان وقتها، ولا يعتبر الركوع فاصلاً، فلا يمنع ... السجدة بعد الركوع عن التلاوة وحتى لا تصير السجدة ديناً بالركوع؛ لأن نفس الركوع يتأدى بالانحناء دون الطمأنينة، فإذا لم يصر قراءة آية أو آيتين فاصلاً فهذا أولى، بخلاف ما إذا ركع على الفور؛ لأنها ما صارت ديناً لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا قرأ بعد آية السجدة آية أو آيتان؛ لأنها ما صارت ديناً بعد حين لم يقرأ بعدها ما تتم به سنّة القراءة.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: إنما كره لمعانٍ.
أحدها: أن ترك الآية من بين السورة يقطع النظم وإعجاز القرآن، فأشبه تحريف القرآن عن موضعه، فيكون فيه رعاية على تحريفه قابل ما في الباب أن يكره.
والثاني: أن فيه ترك القراءة سنّة، فإن السنّة أن يقرأ فيها السورة على نحوها قال عليه السلام لبلال: «إذا قرأت سورة، فاقرأها على نحوها» وخلاف السنّة مكروه.
والثالث: أن ترك الآيتين به من بين السورة يؤدي إلى إلغاء القرآن، ومن ألغى في القرآن فقد أجرم فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
والرابع: أنه تركها فراراً من السجدة، فيكره لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان: 60) .
والخامس: أن ترك السجدة من بين السورة يؤدي إلى هجر القرآن، فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) وقال النبي عليه السلام: «ليس شيء من القرآن بمهجور» ، فلا ينبغي أن يدع آية السجدة فبعد ذلك(2/18)
ينظر إن كان التالي وحده (92ب1) يقرأ كيف شاء أو كان معه جماعة قال مشايخنا رحمهم الله: إن كان القوم متهيئين للسجود ويقع في قلبه أنه لا يشق عليهم أداء السجدة، فله أن يقرأ جهراً حتى يسجد القوم معه؛ لأن في هذا حثهم على الطاعة، وإن كانوا محدثين ونظر أنهم يسمعون أو لا يسجدون أو يقع به جملته أنه يشق عليهم بآية السجدة ينبغي أن يقرأها في نفسه، لئلا يكون تاركاً ترتيب القرآن أو نظمها ولا يجهر تحرزاً عن تأثم المسلم، وذلك مندوب إليه، ولا فرق بينها إذا قرأها خارج الصلاة أو في الصلاة.t
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» : ومن الناس من كره ذلك خارج الصلاة ولم يكرهه في الصلاة، ولكن هذا خلاف الرواية، فإن محمداً قال في «الجامع الصغير» : وأكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال وكان لا يرى بأساً باختصار السجود في غير صلاة، وهو أن يقرأ آية السجدة ... السورة لما فيه من الإقبال على السجود على وجه القربة؛ ولأنه قرأ ما تيسر عليه، وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) وجاء عن النبي عليه السلام «أنه كان يقرأ في خطبته بعض الآي من القرآن لا يقرأ قبلها ولا بعدها من ذلك» ، ثم قال وجب إلا أن يقرأ معها آية أو آيتين؛ لأنه أبلغ في إظهار الإعجاز، وأدل على المعنى وأكمل النظم، ولم يذكر اختصار السجدة في الصلاة، بل قيده بغير حالة الصلاة، قالوا: ويجب أن يكره في حالة الصلاة؛ لأن الاقتصار على آية واحدة في الصلاة مكروه.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قرأ آية السجدة، وهو ليس في الصلاة يسمعها رجل هو في الصلاة فيسجدها التالي ويسجد معه المصلي قال إن أراد ... بعد فسدت صلاته، ويجب عليه إعادة السجدة، وإذا أخر سجدة التلاوة عن وقت القراءة أو عن وقت السماع ثم أداها يكون مؤدياً لا قاضياً عندنا، فأداؤها ليس على الفور عندنا، وهذا يكره تأخيره عن وقت ... القراءة ذكر في بعض المواضع أنه إذا قرأ مكروه عن وقت القراءة، أما في الصلاة فتأخيرها المواضع إن تأخيرها خارج الصلاة لا يكره وذكر الطحاوي مطلقاً أن تأخيرها مكروه.
وإذا قرأ آية السجدة عند طلوع الشمس وسجدها عند استواء النهار أو عند غروب(2/19)
الشمس أجزأه عند أبي يوسف رحمة الله عليه، ومحمد رحمه الله كذا ذكر في «عيون المسائل» ، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أنه لا يجوز؛ لأنه كما ارتفع النهار فقد قدر على الأداء كاملاً، فلا يجوز الأداء ناقصاً، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
وقيل: لو قرأها عند غروب الشمس وأداها عند طلوع الشمس لا يجوز؛ لأن وقت الغروب أكمل حيث يجوز أداء عصر يومه في ذلك الوقت، ولا يجوز أداء الفجر في وقت طلوع الشمس.
ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها، وهذا لأنه إذا قرأها يلزمه أن يخر ساجداً لها، فيظن القوم أنه سجد للصلاة ونسي الركوع، فلا يتابعونه فيها، فيكون قد فتن القوم ودون هذا مذكرة للإمام قال عليه السلام: «أفتان أنت يا معاذ» وأشار الحاكم في «شرحه» إلى حرف آخر، قال؛ لأنه إذا تلاها وسجد حسب القوم أنه قد غلط فيلجئهم إلى التسبيح ولا يجيبهم إلى ما يدعونه إليه ولا يتابعه القوم في سجوده، وفي هذا من التسبيح، ما لا يخفى على أحد وهذا الذي بينا جواب الاختيار وأما إذا قرأها فعليه أن يسجد لها، وعليهم أن يتابعونه فيها وهذا لما روينا عن النبي عليه السلام رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أنه صلى الظهر وسجد فيها حتى ظنوا أنه قرأ فيها {آلم تنزيل} السجدة» والله أعلم.
وفي «العيون» : إذا افتتح الصلاة وهو راكب، وافتتحها آخر يسير معه، فقرأ أحدهما آية سجدة واحدة مرتين فسمعها صاحبه وقرأ صاحبه آية سجدة أخرى مرة فسمعها الأول يسجد الذي قرأ آية واحدة مرتين، سجدتين سجدة لقراءته؛ لأن تلاوة آية واحدة مرتين في الصلاة لا يوجب على الثاني لا سجدة واحدة، وسجدة إذا فرغ من صلاته لما سمع في صلاته من صاحبه، أما الذي قرأ مرة يسجد سجدة لقراءته؛ لأنه قرأ مرة ويسجد مرتين إذا فرغ من صلاته لما سمع من صاحبه؛ لأنه سمع تلاوته آية واحدة مرتين في مجلسين؛ لأن سماعه تلك التلاوة ليس من الصلاة وفيما ليس من الصلاة يفيد أن المجلس باليسير، وإنما الحد بالتحريمة فيما كان من الصلاة، وكان مجلس التالي متحداً، ومجلس السامع متعدد أو في مثل هذه الصورة يتعدد الوجوب على السامع يوجب عليه سجدتان، وذكر في «مختصر القصاص» أنه يسجد مرة وعليه الفتوى، أما إن نظرنا إلى مكان السامع، فهو واحد وإن نظرنا إلى مكان التالي فمكانه جعل كمكان واحد في حقه، فيجعل كذلك في حق السامع أيضاً؛ لأن السماع ما على التلاوة، المصلي إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً وخلفه رجل يسوق الدابة سجد المصلي سجدة واحدة والسائق يسجد كذلك.(2/20)
وإذا قرأ الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة، فعليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه؛ لأن الجمعة ظهر مقصورة، فيقاس بالظهر الممدودة ولو قرأها في الظهر الممدودة فعليه أن يسجدها ويسجد معه أصحابه، فكذلك إذا قرأها في الجمعة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال مشايخنا المسألة في زماننا، إذا قرأها الإمام في الجمعة أن لا يسجد لها لامتداد الصفوف، وكثرة القوم؛ فإن المكبر إذا كبر لها ظن القوم أنه كبر للركوع، فيركعون وفيه من الفتنة ما لا يخفى، وهكذا في صلاة العيد قال شمس الأئمة هكذا سألت القاضي الإمام الأستاذ رحمه الله هل يكره للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة يوم الجمعة كما يكره في صلاة الظهر؟ قال: ليست فيه رواية وينبغي أن يكره؛ لأن الجمع في حق من لا يسمع قراءة الإمام كصلاة ما يجهر فيها بالقراءة.
الفصل الثاني والعشرون في صلاة السفر
يجب أن يعلم بأن للشروع بالسفر أحكاماً من جملة ذلك قصر (93أ1) الصلاة لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} (النساء: 101) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم «أنه صلى ركعتين حين ذهب إلى مكة وبمكة، وقال لأهل مكة بعدما سلم على رأس الركعتين «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» والله أعلم، وهذا الفصل يشتمل على أنواع.
الأول في معرفة فرض المسافر
قال أصحابنا رحمهم الله: فرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، وقال الشافعي رحمه الله فرضه أربع وركعتان رخصة حتى أن عند علمائنا رحمهم الله إذا صلى المسافر أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، لانشغاله بالنفل قبل إكمال الفرض، وإن كان قعد تمت صلاته وهو مسيء لخروجه عن الفرض ودخوله في النفل لا على وجه المسنون، حجة الشافعي في المسألة قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} (النساء:101) ، وقاس الصلاة بالصوم، فإن السفر أثر في رخصة الإفطار في الصوم، لا في الإسقاط، فكذا في الصلاة.
حجة علمائنا رحمهم الله حديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر» وعن ابن عمر(2/21)
رضي الله عنهما أنه قال: «صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر» يتكلم على لسان عليه السلام؛ ولأن الشفع الثاني سقط عن المسافر لا إلى بدل، وعلامة الفرض الأداء أو القضاء به، فلأن الصوم ولا قصر، لأن القصر للتخفيف، فلا حاجة إليه في النوافل في ذوات الثلاث والمثنى؛ لأن شرطها ليس بصلاة ولا قصر في النوافل أيضاً؛ لأن له أن لا يفعلها وتكلموا في الأفضل في السفر، فقيل هو الترك ترخصاً، وقيل: هو الفعل معتزماً، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول بالفعل في حالة النزول والترك في حالة السير.
نوع آخر في بيان مدة السفر الذي يتعلق به قصر الصلاة
قال علمائنا رحمهم الله: أدناها مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ذكر المسافر بلام التعريف ... فقد جوّز لكل مسافر مسح ثلاثة أيام ولياليها ولا يتصور أن يمسح كل مسافر ثلاثة أيام ولياليها إلا وأن تكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها.
والمعنى في ذلك: أن القصر في السفر لمكان الحرج والمشقة والحرج والمشقة في أن يحمل رحله من غير أهله، ويحط في غير أهله وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاث، لأن في اليوم الأول يحمل من أهله وفي اليوم الثاني يحط في أهله، أما يتحقق في الثلاث؛ لأن في اليوم الثاني يحمل الرحل في غير أهله ويحط في غير أهله، فتحقق معنى الحرج، فلهذا قدر بثلاثة أيام ولياليها.
ثم وصف في «الكتاب» : السير فقال سير الإبل ومشي الأقدام وهو سير الوسط والعام الغالب، وهذا لأن أعجل السير سير البريد وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوساطها ثم معنى قول علمائنا رحمهم الله أدنى مدة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها السير الذي يكون في ثلاثة أيام ولياليها مع الاستراحات التي تكون في خلال ذلك، وهذا لأن المسافر لا يمكنه أن يمشي أبداً بل يمشي في بعض الأوقات، وفي بعض الأوقات يستريح ويأكل ويشرب، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر ثلاث مراحل، فعلى قياس هذه الرواية من بخارى إلى أرمينة مدة سفر، وكذلك إلى فربر وبه أخذ بعض مشايخ بخارى رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدره بيومين، والأكثر من اليوم الثالث مقام كله، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما ثم على قياس هذه الرواية، إذا قدر بالمراحل عند أبي حنيفة يقدر بالمرحلتين والأكثر من(2/22)
المرحلة الثالثة، وهو على قياس تقدير أقل مدة الحيض على قول أبي يوسف ولم يعتبر بعض مشايخنا الفراسخ، قالوا: لأن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهولة والصعوبة والجبال والبر والبحر.
وعامة مشايخنا قدروه بالفراسخ أيضاً، واختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: أحد وعشرين فرسخاً، وبعضهم قالوا: ثمانية عشر فرسخاً أدنى مدة السفر ثمانية عشر فرسخاً، وبعضهم قالوا: خمسة عشر، والفتوى على ثمانية عشر؛ لأنها أوسط الأعداد، وإن كان السفر سفر جبال، فعبارة بعض مشايخنا رحمهم الله أن التقدير فيه بمنزلة ثلاثة أيام ولياليها على حسب ما تبين بحال الجبل، وعبارة الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن التقدير فيه بالمراحل لا محالة يقدر ثلاثة مراحل مرحلة الجبل، لا مرحلة السهل.
وإن كان السفر سفر بحر فقد اختلف المشايخ فيه أيضاً، والمختار للفتوى أنه ينظر أن السفينة كم تسير ثلاثة أيام، ولياليها حال استواء الريح، فيجوز ذلك أصلاً ويقصر الصلاة إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام ولياليها على هذه السفينة في البحر، فلو سار في الماء سيراً سريعاً، ويكون ذلك على البرية ثلاثة أيام ولياليها، فقد ذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ... ، وهذا شيء يعرفه الملاحون، فيرجع في ذلك إلى قولهم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا خرج إلى مصر في طريق في ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليه في طريق آخر في يوم واحد قصر، وقال الشافعي إذا كان بغير عرض لم يقصر؛ لأن ما يكون بغير عرض لا يكون معتداً به، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة ولا هو له رخصة السفر، وأما بقول أن الحكم متعلق بالسفر دفعاً للحرج، فيتعلق بالسفر دون الغرض ثم سلوكه أحد الطريقين بغير عرض لا يكون أعلى من سفره بغير عرض، ولو سافر بغير عرض تعلق به رخصة السفر كذلك ها هنا.
وفي «نوادر بن سماعة» : في مصر له طريقان؛ وأحدهما: مسيرة يوم والآخر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها إن أخذ في الطريق الذي مسيرة يوم لا يقصر الصلاة، وإن أخذ في الطريق الذي هو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها قصر الصلاة، المسافر إذا بكر في اليوم الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فينزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثاني ومشى إلى ما بعد الزوال حتى بلغ المرحلة ونزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثالث ومشى حتى بلغ إلى المقصد وقت الزوال هل يصير مسافراً بهذا (93ب1) ، وهل يباح له القصر قال: بعضهم لا؛ لأنه لم يمش في بقية اليوم الثالث، فهذا أقل من ثلاثة أيام ولياليها.
قال شمس الأئمة الحلواني: الوجه الصحيح أن يصير مسافراً، فهذه النية ويقصر الصلاة، لأن المسافر لا بد له من النزول لاستراحة نفسه أو لاستراحة دابته أما أشبهه،(2/23)
وهل الشرط أن يذهب من الفجر إلى الفجر، لأن الأدميين يطيقون ذلك وكذلك الدابة بل إذا مشى في بعض النهار فذلك يكفي.
نوع آخر في بيان من يثبت القصر في حقه
قال علمائنا رحمهم الله: القصر ثابت في حق كل مسافر سفر الطاعة وسفر المعصية في ذلك سواء، وقال الشافعي رحمه الله: سفر المعصية لا يعتد الرخصة، حجته أن الرخصة لها تثبت في حق المسافر نظراً وتخفيفاً عليه، وهذا لا يليق بالمعصية.
ولنا قوله عليه السلام: «فرض المسافر ركعتان من غير قصر» ، ولأن السفر له صار مرخصاً باعتبار مشقة تلحقه المشي بالأقدام، والغيبة عن الوطن ولا خطر في هذا، ولنا الخطر في مقصوده لا في عين السفر، فيبقى بعين السفر مرخصاً مبيحاً.
وعلى هذا الأصل المرأة إذا حجت من غير محرم، وكذا جواز الصلاة على الراحلة إذا خاف، وكذا جواز أكل الميتة من غير الضرورة، وكذا بجواز استكمال يده المسح على الخفين في السفر، فإن كان السفر معصية ويسوى في ذلك حال قصد الطاعة والمعصية، والمعنى في ذلك ما مر، أنه لا خطر في نفس السفر والقصر من كل مسافر يصلي وحده أو كان إماماً أو مقتدياً بمسافر فأما إذا اقتدى بمقيم متابعة له وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
نوع آخر في بيان المسافر متى يقصر الصلاة
فنقول القصر حكم ثبت في حق المسافر، فلا بد من بيان أن الشخص متى يصير مسافراً بمجرد نية السفر، بل يشترط معه الخروج.
وفرق بين السفر والإقامة، فإن المسافر يصير مقيماً بمجرد النية، إذا كان في موضع يصلح للإقامة، ولم يكن تابعاً لغيره لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
والفرق: أن في السفر الحاجة إلى العقل والفعل ولا يكفيه مجرد النية، أما في الإقامة الحاجة إلى ترك الفعل؛ لأن الأفضل الأصل وهو الإقامة ولهذا يبطل حكمه بالسفر، فيحتاج إلى ترك العارض ليظهر حكم الإقامة، وفي الترك يكفيه مجرد النية.
ونظير هذا: قال في كتاب الزكاة: من كان له عبد الخدمة فنوى أن يكون للتجارة حتى يبيعه وإن كان للتجارة فنوى أن يكون للخدمة خرج من التجارة بالنية، وما افترقا إلا من حيث إن في الفصل الأول الحاجة إلى الفعل وفي الفصل الثاني الحاجة إلى ترك الفعل.
قال محمد رحمه الله: ويقصر حين يخرج من مصره ويخلف دور المصر، وفي(2/24)
موضع آخر يقول: ويقصر إذا جاوز عمرانات المصر قاصداً مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا لأنه ما دام في عمران المصر فهو لا يعد مسافراً، والأصل في ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة يريد السفر فحان وقت العصر فأتمها ثم نظر إلى خص أمامه، فقال: إنا لو كنا جاوزنا هذا الخص قصرنا، وهكذا إن كانت المحلة منفصلة من المصر وكانت قبل ذلك متصلة بالمصر فإنه لا يقصر حتى يجاوز تلك المتصلة ويخلف دورها لأن تلك المحلة من المصر بخلاف القرية؛ لأن تلك القرية لا تكون من المصر وربما تكون من القرى وربما يترادف القرى ويتعارف المصر إلى فرسخ أو فرسخين المصر، فلو نهى عن القصر حتى يجوز القرية التي..المصر لنهي عن القصر في هذه القرى أيضاً، وهذا بعيد فعرفنا أن الشرط أن يتخلف عن عمران المصر، وبنيانه لا غير.
ثم يعتبر الجانب الذي منه يخرج المسافر من البلدة، ولا تعتبر الجوانب الذي بحذاء البلدة حتى أنه إذا خلف البنيان الذي خرج منه قصر الصلاة، وإن كان بحذاءه بنيان أخرى من جانب آخر من المصر، وهذا كله بهذا الترتيب محفوظ عن محمد رحمه الله، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في شرح صلاته.
وذكر الصدر الشهيد عمي رحمة الله عليه في «واقعاته» : أن رجلاً خرج مسافراً من بخارى، فلما بلغ أرض أزبكستان ... أو إلى رباط وليان اختلف المشايخ فيه، والمختار: أنه يقصر الصلاة؛ لأنه جاوز الربض ومتى جاوز الربض فقد جاوز عمران البلدة.
وعن الحسن رحمه الله القرى، إذا كانت متصلة بالمصر في القرى إذا كانت متصلة بالرمض إلى ثلاث فراسخ قال: لا يقصر حتى يجاوز البيوت وإن كان ثلاث فراسخ وإن كان بين البلدة، والقرية مقدار ... لا يكون مجاوزاً وإن كان قدر مائة ذراع كان مجاوزاً، ومن مشايخنا من اعتبر مجاوزة فناء المصر إن كان بين المار وبين فنائه أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة، وإن كان بينهما مزرعة أو كانت المسافة بين المصر وفنائه قدر غلوة، ولا يعتبر مجاوزة الفناء، وهذا القائل يقول: إذا كانت القرى متصلة بفناء المصر لا بربض المصر يعتبر مجاوزة الفناء لا غير، بخلاف ما إذا كانت القرى متصلة بربض المصر حتى تعتبر مجاوزة القرى، والصحيح ما ذكرنا أنه يعتبر مجاوزة عمران المصر إلا إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض المصر، فحينئذٍ يعتبر مجاوزة القرى.(2/25)
نوع آخر في بيان مدة الإقامة
ولا بد من معرفتها؛ السفر يبطل بالإقامة فنقول أدنى مدة السفر الإقامة عندنا خمسة عشر يوماً، وقال الشافعي رحمه الله أربعة أيام حتى لو نوى الإقامة أربعة أيام يتم الصلاة عنده.
وعندنا ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً لا يتم الصلاة.
حجة الشافعي: ما روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه كان يقول: من أقام أربعاً صلى أربعاً، وفي رواية أخرى إذا نوى أن يقيم أربعة أيام صار مقيماً.
حجتنا: حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها في اليوم الثامن من ذي الحجة، وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» فعلم أنه لا يصير مقيماً بأربعة أيام، ولأن المسافر لا يجد بداً من المقام في المثال أياماً إما لاستراحته وأما لاستراحة دابته أو لطلب الرفقة، وربما تعبت دابته عقر ويحتاج إلى معالجتها أو أخرى ولا يتم ذلك بأربعة أيام، فيحتاج إلى الزيادة عليها.
فقدرنا ذلك بخمسة عشر يوماً، لأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر (94أ1) بأنها تعيد ما كان سقط من الصوم والصلاة ثم أقل مدة الطهر مقدر بخمسة عشر يوماً بأقل مدة الإقامة، يجب أن يقدر بها الأولى، أما قدر أدنى مدة السفر بثلاثة أيام ولياليها اعتباراً بأدنى مدة الحيض من حيث أن مدة السفر نظير مدة الحيض، فإنه تسقط بهما الصلاة والصوم ولو أنه أقام في موضع أياماً ولم ينو الإقامة لا يصير مقيماً عندنا وإن طال إقامته والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أقام رسول الله عليه السلام بحنين أربعين يوماً وكان يصلي ركعتين» ، وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى ... ، وكان يقصر الصلاة وعن عمر رضي الله عنه: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يصلي ركعتين وعن علي رضي الله عنه: أنه أقام بخوارزم سنتين، وكان يصلي ركعتين، والمعنى في هذه المسألة وهو أن الإقامة ضد السفر، ثم أجمعنا أن المقيم لا يصير مسافراً إلا بالنية، وإن وجد منه حقيقة السفر وهو السير، فإنه إذا كان يسير مرحلة جميع الدنيا ولا ينوي سفراً لا يصير مسافراً، فكذا لا يصير مقيماً، وإن وجد منه حقيقة الإقامة ما لم ينو الإقامة، والله أعلم.(2/26)
نوع آخر في بيان المواضع التي تصح نية الإقامة فيها والتي لا تصح نية الإقامة فيها
فنقول إنما تصح نية الإقامة إذا كان الإقامة إذا كان الموضع الذي نوى الإقامة فيه محل للإقامة حتى أن أهل العسكر إذا نووا الإقامة في دار الحرب خمسة عشر يوماً أو أكثر، وهم يحاصرون أهل المدينة لا تصح منهم والأصل في ذلك ما روي «أن النبي عليه السلام حاصر أهل الطائف سبعة عشر يوماً، وكان يقصر الصلاة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله وقال إنا نطيل.f
.. المقام في أرض الحرب، فقال: «صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك» ؛ ولأن دار الحرب ليس موضع الإقامة في حق المحاربين من المسلمين لأن الغلبة فيها لأهل الحرب والظاهر أنهم يقاتلون المسلمين والمسلمون لا يقاومونهم لقلتهم فينوون نية الإقامة لا يصار محلها، ولا تصح كما لو نوى السفر في غير موضع السفر، وكذلك إذا نزلوا المدينة، وحاصروا أهلها في الحصن لا تصح منهم الإقامة؛ لأنه لا قرار لهم ما داموا محاصرين، وكانت نية الإقامة في غير موضعها، وكذا أهل البغي إذا ابتغوا في دار البغي، فحاصرناهم لا تصح فيه الإقامة، لأن دارهم ليس موضع لنا فيها كدار الحرب.
وقال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : إذا كان العسكر استولوا على الكفار بذلوا إنسانيتهم وأرواحهم وركبانهم وللمسلمين منعة وشوكة فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً أكملوا الصلاة، وإذا كانوا في عسكر في الأخبية والفساطيط في سفر فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً صلوا ركعتين.
وفرق بين الأبنية وبين الأخبية والفرق: أن البناء موضع الإقامة والطرء دون الصحراء، وإن حاصروا أهل أخبية وفساطيط لم يصيروا مقيمين سواء نزلوا بساحتهم، أو في أخبيتهم وخيامهم فنووا الإقامة فيها بالإجماع؛ لأن هذا لا يعد إقامة، ألا ترى أنهم يحملونها على الدواب حيث ما قصدوا واستخفونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، وإذا هي حمولة وليس بمنازل.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وهكذا عسكر المسلمين إذا قصدوا موضعاً، ومعهم أخبيتهم وخيامهم وفساطيطهم، فنزلوا مفازة في الطريق ونصبوا الأخبية والفساطيط وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يوماً لم يصيروا مقيمين لما بينا، أنها حمولة وليست بمساكن.
واختلف المتأخرون في الذين يسكنون في الخيام والأخبية والفساطيط كالأعراب ... الذين في زماننا منهم من يقول: لا يكونوا مقيمين؛ لأنهم ليسوا في(2/27)
موضع الإقامة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنهم مقيمون؛ لأن الإقامة للمراصد والسفر عارض وهم لا ينوون السفر وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى، فكانوا مقيمين باعتبار الأصل.
وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: في الرعاة إذا كانوا يطوفون في المفاوز وينتقلون من كلأ إلى كلأ ومعهم أثقالهم وخيامهم إنهم مسافرون حيث نزلوا أو طافوا إلا في خصلة واحدة، وهي إذا نزلوا في مرعى كثيراً بكلأ والماء وأعدوا الخيام ونصبوا وعزموا على إقامة خمسة عشر يوماً، وكان الكلأ والماء يكفيهم، فإني استحسن أن أجعلهم مقيمين وآمرهم بالإكمال.
وذكر في «المنتقى» : عن الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة رحمهم الله في الأعراب إذا نزلوا بخيامهم في موضع التمسوا فيه المرعى، ونووا أن يقيموا شهراً أو أكثر للرعي ما يتموا الصلاة لأنه ليس بموضع قيام لهم، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله يقول: يتمون الصلاة.
وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة رحمه الله إذا نوى المسافر الإقامة عند أهل ... ولم يكن ثم بيت، فليس بمقيم، وقال أبو يوسف: يتم الصلاة إذا كان ثمَّ قوم مستوطنون يسكنون بيوت الشهور، وإن نوى المسافر الإقامة في موطنين خمسة عشر يوماً نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة لم يصر مقيماً، لأن نية الإقامة لهما تكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر وهو ضرب في الأرض فلا يكون إقامة، وهذا إذ انوى الإقامة في موضعين فأما إذا عزم على أن يقيم في الليالي بأحد الموضعين، ويخرج في النهار إلى موضع آخر فإذا دخل أولاً الموضع الذي عزم الإقامة فيه بالنهار لا يصير مقيماً، وإن دخل أولاً الموضع الذي عزم فيه الإقامة بالليالي يصير مقيماً، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافراً لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه.
ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول: في محلة كذا، وإن علم أن يكون في السوق في النهار وكان هو الأصل يوجب اعتباره.
ومما يتصل بهذا النوع
الأسرى من المسلمين، إذا كانوا في دار أهل الحرب فانفلت منهم، وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يوماً في بخارى، وغيره قصر الصلاة؛ لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة له، وكذلك إذا أسلم الرجل من أهل الحرب في دارهم فعلموا بإسلامه وطلبوه ليقتلوه، فخرج هارباً يريد مسيرة ثلاثة أيام، فهو مسافر، إن أقام في موضع مختفياً (94ب1) شهراً منهم، أو أكثر لأنه صار محارباً لهم حتى طلبوه ليقتلوه وكذلك المستأمن إذا غدروا به وطلبوه ليقتلوه؛ لأنه صار محارباً لهم، وإن كان..... من هو لا مقيماً علانية في دار الحرب، فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها،(2/28)
فإنه يتم الصلاة لأنه كان مقيماً بهذه البلدة، فلا يصير مسافراً إن لم يخرج.
وكذلك إن أخرج منها مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافراً بنية الخروج إلى ما دون مسيرة السفر، وكذلك لو أن أهل مدينة من أهل الحرب أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم، فإنهم يتمون الصلاة.
وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم، فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة، فإن عادوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها يعني لمدينتهم أتموا فيها الصلاة؛ لأن مدينتهم كانت دار السلام حتى أسلموا فيها فكان موضع إقامة لهم، فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها.
وإن كان المشركون غلبوا على مدينتهم فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وتخلى المشركون عنها، فإن كانوا اتخذوها داراً ومنزلاً لا يبرحونها فصارت دار السلم يتمون فيها الصلاة؛ لأنها صارت في حكم دار الحرب حتى غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها، وعزموا على المقام فيها فقد صارت دار السلم ونية المسلم للإقامة في دار السلم صحيحة، وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها داراً، ولكن يتمون فيها شهراً ثم يخرجون إلى دار الإسلام يقصرون الصلاة فيها؛ لأن هذا الموضع مرحلة دار الحرب وهم محاربون، فلا يصيروا مقيمين بنية الإقامة فيها.
وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها داراً، فقد صارت دار السلم يتمون بها الصلاة، وإن لم يتخذوها داراً ولكن أرادوا الإقامة بها شهراً أو أكثر، فإنهم يقصرون الصلاة؛ لأنها دار الحرب وهم محاربون فيها هذه الجملة من «السير» عن أبي يوسف، فيما إذا غلب المسلمون على مدينة في أهل الحرب وقد ذكرنا في أول هذا النوع بخلاف ما ذكرنا في «السير» .
نوع آخر في بيان من لا يصير مقيماً بنية إقامته ويصير مقيماً بنية إقامة غيره
الأصل في هذا أن من يمكنه الإقامة باختياره يصير مقيماً بنية نفسه ومن لا يمكنه الإقامة باختياره لا يصير مقيماً بنية نفسه، حتى أن المرأة إذا كانت مع زوجها في السفر والرقيق مع مولاه والتلميذ مع أستاذه الأجير مع مستأجره، والجندي مع أميره فهم لا يصيرون مقيمين بنية أنفسهم في «ظاهر الرواية» .
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد في الرجل يخرج مع قائده، ونوى الرجل المقام ولم ينو قائده قال هذا مقيم ويصير العبد مقيماً بنية المولى، لأنه تبع له والحكم في التبع ثبت بشرط الأصل وكذلك كل من كان تبعاً، كالجندي مع الأمير، ومن أشبهه ممن تقدم ذكره إلا المرأة فإن فيها اختلافاً فإن من أصحابنا من قال: إن المرأة إذا استوفت صداقها فهي بمنزلة العبد تصير مقيمة بإقامة الزوج؛ لأنه ليس لها حق حبس النفس كما في العبد،(2/29)
وإن لم تستوف الصداق، لكن سلمت نفسها إلى الزوج ودخل بالمرأة إذا سافرت مع زوجها بها، فعلى الخلاف المعروف عند أبي حنيفة رحمه الله لها حق حبس نفسها، وعندها ليس لها حق حبس نفسها، وقيل لا خلاف في هذا الفصل؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان لها حق حبس نفسها ولكن ما لم تحبس نفسها كان تبعاً للزوج، ولم يذكر مثل هذا الاختلاف، فيما إذا نوت المرأة الإقامة بنفسها، ولا فرق بين الصورتين فيجوز أن تكون نية المرأة. على هذا الاختلاف أيضاً.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل حمل رجلاً وذهب ولا يدري أين ذهب به قال: يتم الصلاة حتى يسير ثلاثاً، فإذا سار ثلاثاً قصر، وإن علم أن الباقي بعدها يسير، ولو كان صلى ركعتين من جنس حملة أجرته، فإن سار به لعل من ثبت أعاد ما صلى.
ذكر هو رحمه الله في «المنتقى» أيضاً: ولو أن والياً خرج من كورة إلى كورة، ومعه جنده وهم ينوون الإقامة بإقامته، والسفر بسفره، فقدم ذلك الوالي مصراً دون المصر الذي كان أراده، ونوى الإقامة ولم يدر به بعض من معه من جنده حتى صلوا صلاة سفر ثم علموا، قال: يعيدو صلاتهم.
وفي «نوادر هشام» قال سمعت محمداً: في رجلين مسافرين لأحدهما دين على الآخر حبس رب الدين المديون بدينه في السجن: قال إن كان المحبوس يقدر على الأداء، فالنية نيته في المقام والسفر ويعص ما لم ينو الإقامة، وإن كان لا يقدر على الأداء، فالنية نية الحابس إن نوى أن لا يخرجه خمسة عشر يوماً، فعلى المحبوس أن يتم الصلاة وليس على الحابس أن يتم الصلاة، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف في المسافر إذا حبس بالدين وهو معسر، فإنه يتم الصلاة وكذلك إذا كان موسراً إلا أن يكون قد وطن نفسه على أدائه، فيقصر والله أعلم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسافر دخل مصراً وأخذه غريمه وحبسه، فإن كان معسراً صلى صلاة المسافرين؛ لأنه لا يقوم على الإقامة؛ إذ لا يحل للطالب حبسه في هذه الصورة، وإن كان موسراً ... لا يقضي دينه أبداً صلى صلاة المقيمين؛ لأنه عزم على الإقامة أبداً؛ لأنه يحل للطالب حبسه في هذه الصورة أبداً، وإن لم يعتقد ولم ينو أن لا يقضي دينه أبداً، لكن نوى أن لا يقضي دينه مدة غير معينة صلى صلاة المسافرين؛ لأنه وإن عزم على الإقامة ولكن مدة مجهولة.
وقد قال مشايخنا: إن الحجاج إذا وصلوا بغداد شهر رمضان ولم ينووا الإقامة صلوا صلاة المقيمين؛ لأن من عزمهم أن لا يحرموا إلا مع القافلة، ومن هذا الوقت إلى وقت خروج القافلة أكثر من خمسة عشر يوماً، فكأنهم نووا الإقامة خمسة عشر يوماً فتلزمهم صلاة المقيمين.
قال في «السير الكبير» : والأسرى من المسلمين في أيدي أهل الحرب هم له(2/30)
قاهرون إن أقاموا به في موضع يريدون أن يقيموا به خمسة عشر يوماً فعليه أن يكمل الصلاة وإن كان الأسير لا يريد (95أ1) أن يقيم معهم، وإن كان الأسير يريد أن يقيم في موضع خمسة عشر يوماً وأخرجوه من ذلك الموضع يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة لأن الأسير مقهور مغلوب في أيديهم، وكان سفره وإقامته بهم، كالعبد مع مولاه والقائد مع الأعمى والتلميذ مع الأستاذ.
وكذلك الرجل يبعث إليه الخليفة، فيؤتى به من بلد إلى بلد كان نية الإقامة، والسفر إلى الشخص لا إليه؛ لأنه مقهور من هذا الشخص، فصار كالأسير بيد الكفار وإذا كان العبد بين موليين في السفر، فنوى أحد الموليين الإقامة دون الآخر، فإن كان مقيماً مهايأة في الخدمة، وإذا خدم المولى الذي لم ينو الإقامة يصلي صلاة السفر.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسلم أسره العدو وأدخله دار الحرب ينظر إن كان مسيرة العدو ثلاثة أيام، صلى صلاة المسافرين وإن كان دون ذلك صلى صلاة المقيمين، وإن كان لا يعلم بذلك سأل عنهم، فإن سأل عنهم ولم يخبره ... بنى الأمر على ما كان هو في الأصل، وإن كان مسافراً صلى صلاة المسافرين، وإن كان مقيماً صلى صلاة المقيمين لأنه لم يعلم وجود الغير.
وكذلك العبد يخرج مع مولاه إلى وضع، فسأله فإن لم يخبره صلى صلاة المقيمين، وإن صلى أربعاً أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فلما سار أياماً أخبره مولاه أنه كان قصد مسيرة سفر يعيد الصلاة؛ لأنه صار مسافراً من ذلك الوقت، وقيل: لا يعيد الصلوات ولا تظهر نية المولى في مقر العبد، وستأتي هذه المسألة بعد هذا.
وعلى هذا لو نوى المولى الإقامة ولم يعلم أن العبد بذلك حتى صلى أياماً ركعتين ثم أخبره المولى كان عليه إعادة تلك الصلوات.
وكذلك المرأة إذا أخبرها زوجها بنية الإقامة منذ أيام وقد كانت هي صلت ركعتين لزمها إعادة الصلوات في ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله.
العبد إذا أم مولاه في السفر، فنوى المولى الإقامة صحت بنية حتى إذا سلم العبد على رأس الركعتين كانت عليهما إعادة تلك الصلاة، وكذلك العبد إذا كان مع المولى في السفر فباعه مقيماً والعبد كان في الصلاة ينقلب فرضه أربعاً حتى إذا سلم على رأس الركعتين كان عليه الإعادة؛ لأنه سلام عمد، وقد صار العبد مقيماً تبعاً للمشتري.
إذا أم العبد مولاه، ومعهما جماعة من المسافرين، فلما صلى ركعة نوى المولى الإقامة صحت نيته في حقه، وفي حق عبده، ولا تظهر في حق القوم في قول محمد رحمه الله، فصلى العبد ركعتين ويقدر واحداً من المسافرين ليسلم بالقوم ثم يقوم المولى والعبد، ويتم كل واحد منهما صلاته أربعاً.
وهو نظير ما لو صلى مسافر بجماعة مقيمين ومسافرين، فلما صلى ركعة أحدث(2/31)
الإمام وقدّم مقيماً، فإنه لا ينقلب فرض القوم أربعاً، فكذلك ههنا، ثم بماذا يعلم العبد أن المولى نوى الإقامة، قال بعضهم: يقوم المولى بأن العبد ينصب أصبعه أولاً، ويشير بأصبعه ثم ينصب أربعة أصابع، ويشير بأصابعه الأربع.
الأكابر المسافر إذا سلم ونيته، وبين مقصده أقل من ثلاثة أيام كان حكم المقيم، وكذا الصبي إذا كان في السفر مع أبيه ثم بلغ الصبي وبينه وبين وطنه أقل من ثلاثة أيام كان مقيماً، هكذا قاله الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وقال غيره من المشايخ إذا بلغ الصبي يصلي أربعاً وإذا أسلم الكافر يصلي ركعتين، وهو اختيار الصدر الشهيد رضي الله عنه؛ لأن نية السفر من الكافر قد صحت، لكونه من أهل النية، فصار مسافراً من ذلك الوقت ونية الصبي لم تصح، لأنه ليس من أهل النية ومن الموضع الذي بلغ فيه إلى المقصد أقل من مسيرة سفر، فلهذا يصلي أربعاً، وقال بعضهم يصليان ركعتين.
وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر: أنهما يصليان أربعاً، فأما المسلم المسافر إذا ارتد والعياذ بالله، ثم أسلم من ساعته وبين وطنه وبينه أقل من ثلاثة أيام يبقى مسافراً، كمسلم تيمم ثم ارتد، والعياذ بكرم الله ثم أسلم لا يبطل تيممه، فكذا لا يبطل سفره والله أعلم.
نوع آخرمسائله قريبة من مسائل هذا النوع
قال محمد رحمة الله عليه في «السير الكبير» : إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم واحد وإحداهما أقرب إلى أرض الحرب من الأخرى، فيكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة إن الخليفة، كتب إليّ يأمرني بالغزو إلى أرض الحرب، فأعلم من بذلك، فليقدموا إلي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا وكذا، فخرج القوم من المدينة البعيدة يريدون الغزو معه ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فصاعداً، فإن الذين خرجوا من المدينة البعيدة يقصرون الصلاة حين يخرجون من مدينتهم، وإن كان أقل من مسيرة يومين، فإنهم قصدوا مسيرة ثلاثة أيام وفي الوجه الثاني يقصرون الصلاة؛ لأن في الوجه الأول قصدوا مسيرة أقل من ثلاثة أيام.
فإن قيل: هذا اختيار أول أرض الحرب ويجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز، فيثبت من المدينة القريبة أول أرض الحرب قدر مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو زيادة على ذلك.
قلنا: قصد الوالي إلى أرض الحرب ليس معلوم يجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز فيثبت من أهل المدينة البعيدة قصد مجاوزة أول أرض الحرب على أحد الاعتبارين، فكانوا قاصدين مسيرة السفر من وجه دون وجه، فلا يثبت قصد مسيرة السفر بالشك وبدونه لا يثبت إباحة القصر.(2/32)
فلو أن الوالي حين كتب إليهم أخبرهم أين يريد من دار الحرب أو أخبرهم كم يريدون من المسير، وكان ذلك مسيرة يومين من المدينة القريبة فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم، لأنهم خرجوا قاصدين مسيرة سفر.
فإن قدموا على والي المدينة القريبة، فلم يخرج أياماً فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة، ما لم يعزموا على الإقامة بالمدينة القريبة خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فلو أن أهل المدينة القريبة خرجوا من بلدتهم وعسكروا خارجاً منها ينتظرون خروج الوالي، فقد قصدوا مسيرة ثلاثة أيام (95ب1) ، فمن كان منهم لم يعزم على الرجعة إلى وطنه حتى يخرج الوالي، فإنهم يقصروا الصلاة، وإن أقام في ذلك المكان شهراً، لا يهم بالخروج صاروا مسافرين.
والمسافر يقصر الصلاة وإن كثر مقامه في موضع ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً في موضع يصلح للإقامة، ومن عزم منهم على الرجعة إلى منزله قبل أن يمضي ليقضي فيه ساعة من نهار ثم يرجع إلى عسكره، فإنه يتم الصلاة ما دام في العسكر، وفي منزله حتى يخرج من المدينة راجعاً إلى العسكر؛ لأنه نوى رفض السفر قبل استحكامه، فكما نوى يصير مقيماً.
فلو أن أهل المدينة البعيدة حين خرجوا من مدينتهم قصروا الصلاة، ومن المدينة القريبة إلى المقصد مسيرة يومين فلما انتهوا إلى المدينة القريبة قال لهم الوالي: إن الخليفة كتب إليّ أن لا أغزو أقعد أن يخرح قبل أن يخرجوا من مدينة، فإن الصلاة التي قصروها أي: إن انتهوا إلى المدينة القريبة تامة، وكذلك الصلاة التي بالمدينة القريبة تامة ما لم يسمعوا بهذا الخبر، فإذا سمعوا بهذا الخبر فعليهم أن يتموا الصلاة.
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج هذه المسألة بعضهم، قالوا: لأن أهل المدينة البعيدة، فيخرجوا من مدينتهم وهم ليسوا تحت ولائه والي المدينة القريبة ... في أيدي أنفسهم، وفي تدبيرهم، فتعتبر نياتهم وقد نووا الخروج مدة السفر فصاروا مسافرين بمجرد الخروج فقد قصروا صلاتهم وهم مسافرون، فصح القصر ما داموا على سفرهم فإذا وصلوا إلى المدينة القريبة، فقد صاروا تحت سفرهم، وتوقف على سماعهم الخبر فإذا سمعوا ظهر الإتمام في حقهم، فيتمون الصلاة بعد سماع الخبر.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمة الله عليه: أن ما ذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة أن الصلاة التي قصروها أهل المدينة البعيدة في الطريق وبعدما انتهوا إلى المدينة القريبة ما لم يسمعوا بهذا الخبر الصحيح فيما إذا كان أهل المدينة البعيدة متطوعين في الغزوتان خيرهم والي المدينة القريبة بين الغزو والسفر وتركه؛ لأنهم إذا كانوا متطوعين في الغزو لم يكونوا تابعين لوالي المدينة القريبة، وقد نووا مسيرة السفر على النيات، فصاروا مسافرين والمسافر يقصر الصلاة ما لم يعزم على ترك السفر، فجاز(2/33)
قصرهم، وما ذكر أنهم إذا سمعوا هذا الخبر يتمون الصلاة فهذا الجواب لا يصح في حقهم، إلا إذا كان تأويله أنهم عزموا على ترك السفر حين سمعوا هذا الخبر لما ذكرنا أن العبرة لنياتهم متى كانوا متطوعين في الغزو لا لنية الوالي.
فأما إذا كانوا مجبورين على السفر، فما ذكر في الجواب قبل سماع الخبر أن الصلاة التي قصروها تامة لا يصح في حقهم؛ لأنهم لو كانوا مجبورين على السفر كانوا تابعين للوالي والعبرة بحال الأصل، لا بحال التبع، فإذا لم يصر الأصل مسافراً كيف يصير التبع مسافراً.
وصار كالعبد والمرأة إذا أرادا السفر مع المولى والزوج ثم بدا للزوج والمولى، وقد قصر العبد والمرأة، فإنه لا تجزئهما صلاتهما لأنهما تابعين والعبرة لحال الأصل كذا ههنا، وما ذكر أنهم إذا سمعوا الخبر يتمون الصلاة صحيح في حقهم؛ لأن العبرة في حقهم بحال الوالي ولم يصر الوالي مسافراً، وإن سمع هذا الخبر بعضهم ولم يسمع البعض، فعلى من سمع أن يتم صلاته، ومن لم يسمع يقصر الصلاة، لأن ما بني على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل السماع.
قال: ولو أن والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة من أراد منكم الغزو، فليوافني عند أول دار الحرب في موضع كذا وكذا في دار الحرب، ولم يخبرهم أين يريد وذلك المكان مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فخرج أهل المدينة البعيدة من مدينتهم إلى المكان الذي أمرهم الوالي بالموافاة فيه أقل من مدة سفر والوالي لما لم يخبرهم أين يريد، ويحتمل أن لا يجاوز ذلك المكان بل يجعله مسلمة وثغراً لم يثبت قصدهم مسيرة السفر بالشك.p
ولهذا قال: يتمون الصلاة، قال قاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمة الله عليه: وهذه مسألة تصير رواية في مسألة، لا ذكر لها في «المبسوط» أن العبد إذا كان ينقله المولى من بلده ولا يعلم العبد أن المولى أين يريد ولا يخبره المولى بذلك أنه يكون على نية نفسه لا على نية مولاه حتى لو خرج من المولى، ونوى السفر على ظن أن مولاه على نية السفر يقصر الصلاة، ولم يكن من نية المولى السفر فإن صلاته جائزة.
وكذا الزوج مع الزوجة وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام، قيل: هذا في العبد والزوجة، ينبغي أن لا تجوز الصلاة للعبد والمرأة في هذه الصورة؛ لأنهما تابعان والعبرة بحال الأصل، وعلى ما ذكر شيخ الإسلام قبل هذا لا تصير هذه المسألة رواية في مسألة العبد؛ لأن أهل المدينة البعيدة في هذه الصورة، متطوعين في الغزو؛ لأن الوالي ما أمرهم بذلك بل فوض إليهم حيث كتب من أراد منكم الغزو، وإذا كانوا متطوعين لا يكونون تبعاً للوالي، فتكون العبرة لنيتهم بخلاف العبد والمرأة؛ لأنهما تبع للزوج والمولى، فكانت العبرة لنية الزوج والمولى؛ فإن انتهوا إلى ذلك المكان، فأخبرهم الوالي أنه يريد مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة في ذلك المكان ما لم يرتحلوا؛ لأنهم نزلوا مقيمين في هذا المكان ومن كان مقيماً في مكان لا يصير مسافراً بمجرد النية ما لم يخرج، فإن قصروا صلاة من صلاتهم في ذلك المكان أعادوها، فإن لم(2/34)
يعيدوها حتى مضى الوقت وهم في ذلك المكان بعد أعادوها قضاء، وهذا ظاهر؛ لأنهم يقصرون صلاة فاتتهم في حالة الإقامة وهم مقيمون وقت القضاء.
وإن ارتحلوا عن ذلك المكان قبل أن يعيدوها يريدون السفر ثم أرادوا إعادتها، وهم في وقت الصلاة بعد أعادوها ركعتين؛ لأن المؤداة وقعت فاسدة، فكأنهم لم يصلوها حتى ارتحلوا عن مكانهم فأرادوا أن يصلوها وهم في وقت الصلاة بعد صلوا ركعتين؛ لأن العبرة لآخر الوقت وهم مسافرون في آخر الوقت، وإن أرادوا إعادتها بعد خروج الوقت أعادوها أربعاً؛ لأنهم يقضون صلاة فائتة في حالة الإقامة.
قال: ومن دخل دار الحرب بأمان وهو كأنه في دار السلام، إن نوى بموضع منها (96أ1) أن يقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة؛ لأن أهل الحرب لا يتعرضون له متى دخل بأمان، فصار دار الحرب بعد الأمان، ودار الإسلام سواء، ومن أسلم منهم في دار الحرب، فلم يأسروه بل تركوه على حاله، أو لم يعلموا بإسلامه فهو في صلاته بمنزلة المسلم في دار الإسلام يتم صلاته إذا كان في منزله، فإن خرج من منزله قاصداً مسيرة السفر قصر الصلاة.
نوع آخر في بيان ما يصير المسافر به مقيماً بدون نية الإقامة
المسافر إذا خرج من مصره مسافراً ثم بدا له أن يعود إلى مصره لحاجة وذلك قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى صلاة المقيمين في مكانه ذلك، وفي انصرافه إلى المصر؛ لأنه فسخ عزيمة السفر بعزم الرجوع إلى وطنه قبل استحكام السفر وتأكده، فانفسخ من ساعته وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فيصلي صلاة المقيمين في انصرافه بهذا، ولو كان قد سار مسيرة ثلاثة أيام ثم بدا له أن يعود إلى مصره صلى صلاة المسافرين؛ لأن حكم السفر قد تأتى، وتأكد باستكمال مدته فيبقى حكمه إلى أن ينعدم بالإقامة.
وكذلك لو خرج من مصره مسافراً ثم أحدث وانصرف ليأتي مصره، ويتوضأ وكان ذلك قبل أن يسير ثلاثة أيام ثم علم أن معه ماء، فإنه يتوضأ ويصلي صلاة المقيمين، وكذلك لو انصرف وذهب مكاناً، فوجد الماء خارج المصر يتوضأ، فإنه يصلي صلاة المقيمين لأنه فسخ عزيمة السفر قبل استحكامه على ما مر.
وكذلك إذا دخل وطنه الأصلي أو مصراً صار وطناً له بأن كان اتخذ فيه أهلاً صار مقيماً، وإن لم ينو مصر غيره لا في مصر نفسه؛ لأن مكثه ومقامه في مصر غيره متردد بين أن يكون لإمكان السير وبين أن يكون للمقام فيه، فإن كان لإمكان السير فهو من السفر وإن كان لإمكان المقام فيه، فهو من الأهلية، فاحتيج إلى النية لتعيين المكث، للإقامة لا لإمكان السير أما مكثه في مصره يتعين للإقامة؛ لأن قبل السير كان يمكث للإقامة وعنه هذا المقام يحتاج إلى بيان الأوطان.
فنقول عبارة عامة المشايخ في ذلك: أن الأوطان ثلاثة وطن أصلي وهو مولد(2/35)
الرجل، والبلد الذي تأهل به ووطن سفر وسمي وطن حادث، وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوماً أو أكثر، ووطن سكنى وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يوماً.
ومن حكم الوطن الأصلي أن ينتقض بالوطن الأصلي، لأنه مثله والشيء ينتقض بما هو مثله حتى لو انتقل من البلد الذي تأهل به بأهله وعياله وتوطن ببلدة أخرى بأهله وعياله لا تبقى البلدة المنتقل عنها وطناً له.
ألا ترى أن مكة كانت وطناً أصلياً لرسول الله عليه السلام ثم لما هاجر منها إلى المدينة بأهله وعياله وتوطن ثم انتقض وطنه بمكة حتى قال عام حجة الوداع: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» .
ولا ينتقض هذا الوطن بوطن السفر ولا بوطن السكنى؛ لأن كل واحد منهما دونه، والشيء لا ينتقض بما هو دونه، وكذا لا ينتقض بإنشاء السفر، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام خرح من المدينة إلى الغزوات مراراً، ولم ينتقض وطنه بالمدينة حتى ما يجدد نية الإقامة بعد رجوعه، وإن كان له أهل ببلدة فاستحدث ببلدة أخرى أهلاً فكل واحد منهما وطن أصلي، وروي أنه كان لعثمان أهل بمكة وأهل بالمدينة، وكان يتم الصلاة بهما جميعاً.
ومن حكم وطن السفر أنه ينتقض بالوطن الأصلي لأنه فوقه وينتقض بوطن السفر لأنه مثله وينتقض بإنشاء السفر لأنه ضده ولا ينتقض بالوطن السكنى؛ لأنه دونه.
ومن حكم وطن السكنى أنه ينتقض بكل شيء بالوطن الأصلي، وبوطن السفر وبوطن السكنى وبإنشاء السفر.
وعبارة المحققين من مشايخنا رحمهم الله: أن الوطن وطنان وطن أصلي ووطن سفر ولم يعتبروا وطن السكنى وطناً وهو الصحيح، وهذا لأن المكان إنما يصير وطناً بالإقامة فيه، ولم يثبت حكم الإقامة في الوطن للسفر بل حكم السفر فيه باقٍ لما ذكرنا أن أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوماً، وإذا لم يثبت فيه حكم الإقامة لم يعتبر هو وطناً أصلاً فكيف يترتب عليه حكم الانتقاض؟ بيان هذا الأصل من المسائل.
خراساني قدم بغداد، وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ومكي قدم كوفة وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج كل واحد منهما من وطنه يريد قصر ابن هبيرة؛ لأنهما كانا متوطنين أحدهما ببغداد والآخر بكوفة ولم يقصدا مسيرة مدة السفر؛ لأن من بغداد إلى الكوفة مسيرة أربع ليال والقصر هو المنتصف، فكان كل واحد منهما قاصداً مسيرة ليلتين، وبهذا لا يصيرا مسافرين، فإن عزما على الإقامة بالقصر خمسة عشر يوماً صار القصر وطن سفر لهما، وانتقض وطن الكوفي بكوفة ووطن الخراساني ببغداد بوطن مثله، فإن خرجا بعد ذلك يريدان الكوفة صليا أربعاً في الطريق، وبالكوفة؛ لأنهما قصدا(2/36)
مسيرة ليلتين من وطنهما، فلا يكونان مسافرين، فإن دخلا الكوفة وعزما على الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً ثم خرجا من الكوفة يريدان بغداد ويمران بالقصر صلى كل واحد منهما أربعاً إلى القصر، وبالقصر ومن القصر إلى بغداد لأن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي ووطن السفر، وإنشاء السفر، إنما وجد وطن السكنى ووطن السكنى لا ينقض وطن السفر، فيبقى القصر وطن سفر لهما، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد والقصر وطنهما، فما لم يجاوزا القصر لا يصيرا مسافرين وبعد المجاوزة لم يبق أي القصد مسيرة سفر، فلهذا يصليان أربعاً.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي، ووطن السفر، وإنشاء السفر، فيبقى القصر وطناً لهما والتقريب ما مر، ولو لم ينويا المرور على القصر يقصران كما خرجا من الكوفة، ولأنهما نويا مسيرة سفر وقد خرجا مسافرين، لعدم ما يمنع تحقق السفر، فلو كانا حين قدما القصر في الابتداء عزما على الإقامة بالقصر أقل من خمسة عشر يوماً، ثم ذهبا إلى الكوفة ليقيما بها ليلة يصليان أربعاً إلى الكوفة.
فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين؛ لأن القصر صار وطن سكنى لهما، وقد انتقض ذلك بوطن سكنى مثله بالكوفة، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد، وليس لهما فيما بين ذلك وطن ومن الكوفة إلى بغداد مسيرة مدة السفر، فصارا مسافرين حين خرجا، فلهذا يصليان ركعتين.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أنهما لما خرجا من الكوفة يريدان بغداد قصدا قصد السفر، وليس في خلال ذلك لهما وطن؛ لأن القصر لم يصر وطناً أصلاً، فيصليان ركعتين إلى بغداد بهذا، وكذلك ببغداد، أما المكي؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما الخراساني؛ فلأن بغداد كانت وطن سفر له وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، لأنه حين نوى من الكوفة أن يقدم بغداد فقد نوى السفر وقد انتقض وطنه الذي كان ببغداد.
ولو كان كل واحد منهما في الابتداء حين خرج من وطنه لم ينوِ القصر إنما نوى وطن صاحبه ليلقى به صاحبه الخراساني نوى الكوفة، والمكي نوى بغداد، فالتقيا بالقصر يصليان ركعتين؛ لأن كل واحد منهما قصد مسيرة مدة السفر، فلو ذهبا إلى الكوفة يصليان في الطريق ركعتين، وكذلك بالكوفة، أما الخراساني؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما المكي، فلأن الكوفة كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر وعاد مسافراً بسفره الأصلي، فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين في الطريق وببغداد، أما المكي، فلأنه ماضي على سفره، وأما الخراساني فلأن بغداد كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، فعاد مسافراً بسفره الأصلي ثم تقدم السفر ليس بشرط ليثبت الوطن الأصلي بالإجماع، وهل يشترط لثبوت وطن السفر؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» .
وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في «جامعه» : أن عن محمد (96ب1)(2/37)
رحمه الله فيه روايتان: في رواية يشترط وفي رواية لا يشترط، مثاله بخاري ذهب من بخارى إلى...... ونوى ... الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج ... من يريد ... فلما دخل ... بدا له أن يرجع إلى بخارى، فعلى الرواية التي يشترط تقدم السفر، لثبوت وطن السفر يصلي ركعتين في الطريق إلى بخارى؛ إذ ليس من بخارى إلى ... مسيرة سفر، فلم تصر وطناً له، فهذا رجل خرج من ... يريد بخارى وليس به فيما بين ذلك وطن ومن..... إلى بخارى مسيرة سفر على أصح الأقاويل، فيصلي ركعتين لهذا.
وعلى الرواية التي ما تشترط تقدم السفر يصلي أربعاً في الطريق؛ لأن..... صار وطناً له ولم يوجد ما ينقضه، فما لم يجاوز لا يصير مسافراً ومن...... إلى بخارى أقل من مدة السفر، فلهذا كان يصلي أربعاً.
وإذا دخل المسافر في صلاة المقيم يلزمه الإتمام سواء في أولها أو في آخرها، لأنه بالاقتداء صار تبعاً للإمام، فأخذت صلاته حكم صلاة الإمام باعتبار التبعية، فإن أفسد الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلي ركعتين، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي أربعاً؛ لأن فرضه انقلب أربعاً بالاقتداء، فلا يتغير بعد ذلك.
ولنا أن فرض المسافر ركعتان على ما مر، وإنما لزمه الأربع بحكم المتابعة، فإذا انقطعت ظهر حكم الأصل والله أعلم.
ولو اقتدى المسافر بمسافر فأحدث الإمام فاستخلف مقيماً لم يلزم المسافر الإتمام؛ لأن الثاني إنما انتصب إماماً خلفاً عن الأول، فيلزم المسافر المقتدي من المتابعة بقدر ما التزم مع الأول ولو لم يحدث الأول ولكن نوى الإقامة أتم هو والقوم جميعاً.
والفرق بينهما: وهو أن المقتدي باقتداء الإمام التزم متابعة الإمام فصار تبعاً له وقد تغير فرض الأصل في المسألة الثانية، فتغير فرض المقتدي ضرورة أما في المسألة الأولى: لم يتغير فرض الإمام الأول، والثاني صار إماماً بحكم الخلافة عن الأول لا أصلاً بنفسه، فيعتبر في حق المقتدي فرض الإمام الأول لا فرض الثاني الذي هو خلف عن الأول.
ومما يتصل بهذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : مقيم صلى ركعة من العصر، فغربت الشمس فجاء مسافر واقتدى به في هذه الحالة لا يصح اقتداؤه، ولو أن مسافراً صلى ركعتي العصر فغربت الشمس وجاء مقيم واقتدى به في هذه الحالة صح اقتداؤه، وصار داخلاً في صلاته.
والجملة في ذلك: أن اقتداء المسافر بالمقيم جائز في الوقت وخارج الوقت إذا(2/38)
اتفق الفرضان، واقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، فلا يجوز خارج الوقت أما اقتداء المقيم بالمسافر جائز في الوقت، وخارج الوقت، لما روي: أن النبي عليه السلام جمع بين الظهر والعصر بعرفات، وصلى ركعتين ركعتين، فلما فرغ من صلاته قال: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» .
والمعنى منه: أنه ليس في اقتداء المقيم بالمسافر الاقتداء المتنفل بالمفترض في حق القعدة من ذوات الأربع، فإن القعدة على رأس الركعتين نفل في حق المقيم فرض في حق المسافر، إلا أن اقتداء المتنفل بالمفترض جائز في جميع أفعال الصلاة، فلأن يجوز في فعل منها كان أولى، وفي حق هذا المعنى الوقت وخارج الوقت سواء.
وأما اقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، ولا يجوز خارج الوقت؛ لأن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر، إما شرطاً لصحة الاقتداء؛ لأن الاقتداء بالإمام في بعض صلاته لا يجوز، أو لصيرورته مقيماً في حق هذه الصلاة لكونه تبعاً للإمام داخلاً في ولايته وإقامة الأصل توجب إقامة التبع، وإذا ثبت أن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر.
بعد هذا اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله بعضهم قالوا: إنما يصح الاقتداء في موضع كان الفرض قابلاً للتغيير، وفي الوقت الفرض للتغير حتى يتغير بنية الإقامة، فيتغير أيضاً بالاقتداء، وإذا كان فرض المسافر يتغير بالاقتداء بالمقيم في الوقت يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم، فيصح الاقتداء، أما بعد خروج الوقت الفرض غير قابل للتغير، ولهذا لا يتغير بنية الإقامة، مع أنها أبلغ في التغير، فلأن لا يتغير بالاقتداء كان أولى.
وإذا كان فرض المسافر لا يتغير باقتداء المقيم خارج الوقت لا يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن كان الاقتداء في الشفع الأول كما هو موضوع المسألة في «الكتاب» ، وفي حق القراءة إن كان الاقتداء في الشفع الثاني؛ لأن القراءة في الشفع الثاني نفل في حق المقيم وقد ذكرنا أن اقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.
وبعضهم قالوا: إن سبب وجوب الصلاة جزء قائم في الوقت لا ما مضى من الأجزاء على ما عرف في موضعه، فإذا وجد المغير وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت عمل عمله للسبب، وجعل الجزء القائم من الوقت سبباً لوجوب الأربع بعدما كان سبباً لوجوب ركعتين، وإذا عمل في السبب عمل في الحكم لكون الحكم تابعاً للسبب، فيصير في فرضه أربعاً، فيمكن القول بصحة الاقتداء، وأما بعد خروج الوقت المغير لم يعمل في السبب، فلا يعمل في الحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو في حق القراءة على نحو ما بينا.
فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت، فإنه لا يصح اقتداؤه، وهذا اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.(2/39)
قلنا: ليس اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن الشفع الأول يبقى محلاً للقراءة على سبيل الوجوب، والقراءة في الشفع الثاني قضاءً بمحلها، وصار كأنها وجدت في الشفع الأول، فكان هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة أيضاً، ثم إذا اقتدى المقيم بالمسافر وسلم المسافر يقوم المقيم، ويتم صلاته كما فعل أهل مكة، وهل يقرأ المقيم في ما بين الركعتين؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنه لا يقرأ، وإليه مال الكرخي رحمه الله، لأنه لاحق أدرك أول الصلاة وقد تم فرض القراءة.
ومنهم من قال: يقرأ؛ لأنه في ما بين الركعتين ينفرد، ولهذا يلزمه سجود السهو لو سهى فيه، فأشبه المسبوق والمسبوق يقرأ، ولو ترك المسافر القراءة في الركعتين، ثم نوى الإقامة في هذه الصلاة تصح صلاته ويقرأ في الأخرتين استحساناً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد فسدت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر كالفجر في حق المقيم، والمقيم لو ترك القراءة في الفجر فسدت صلاته فكذلك ههنا.
وهما يقولان: فرض الظهر يحتمل التغيير في حق المسافر بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة صار فرضه أربعاً، وفي ذوات الأربع لا تفرض القراءة في الكل، بل في ركعتين، فمتى أتى بالقراءة في الأخريين فقد أدى ما عليه.
نوع آخر في هذا الفصل في المتفرقات
وإذ سافر أول الوقت أوآخره قصر إذا بقي منه مقدار التحريمة، وهذا مذهبنا؛ لأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت عندنا؛ لأنه في أول الوقت، مخير بين الأداء والتأخير، وإنه يبقى الوجوب، ولهذا لو فات في أول الوقت لقي الله تعالى، ولا شيء عليه فدل أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت وإذا كان هو مسافر في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر، وعلى هذا الأصل مسائل أحدها هذه المسألة.
والثانية: إذا أسلم الكافر وقد بقي الوقت مقدار ما يسع فيه التحريمة، فإنه تلزمه الصلاة عندنا.
والثالثة: الصبي إذا بلغ في آخر الوقت.
والرابعة: الحائض إذا طهرت في هذا الوقت.
والخامسة: الطاهرة إذا حاضت في هذا الوقت، وإذا كان مسافراً في أول الوقت، وصلى صلاة السفر ثم أقام في الوقت لا يتغير فرضه، وإن لم يصلِ حتى أقام في آخر الوقت ينقلب فرضه أربعاً، وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ما يسع بعض الصلاة.
وإذا أسلم الكافر في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام أو إذا أدرك الصبي (97أ1) في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: الذي أسلم يصلي ركعتين فالذي بلغ يصلي أربعاً وقال بعضهم: يصليان ركعتين.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : فإنهما يصليان أربعاً؛ لأنهما لم يكونا مخاطبين؛(2/40)
فلا يقصران الصلاة، وأما الحائض إذا طهرت في بعض الطريق قصرت الصلاة؛ لأنها مخاطبة.
وفي «الحاوي» : سئل عن صبي خرج من نوركارايريد بخارى، فلما بلغ كرمة بلغ، قال: يصلي ركعتين إلى بخارى، وكذلك الكافر إذا أسلم فأما الحائض إذا طهرت من حيضها تصلي أربعاً إلى بخارى.
مسافر صلى الظهر ركعتين وسهى، وسلم ثم نوى الإقامة، قال: صلاته تامة وليس عليه سجود السهو ونيته هذه قطعت الصلاة، ألا ترى أنه لو قهقه في هذه الحالة لم يكن عليه وضوء؟ ولو كان في الصلاة لكان عليه الوضوء، ذكر المسألة في رواية أبي حفص مطلقاً من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي سليمان خلافاً، فقال لا تصح نيته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف ويكون فرضه ركعتين كما كان في الابتداء.
وعند محمد رحمه الله تصح نيته ويصير فرضه أربعاً، وهذا على أصل محمد رحمه الله مستقيم، فإن سلام من عليه السهو لا يخرجه من الصلاة عند محمد وإذا لم يخرجه من الصلاة بقي في حرمة الصلاة، فنية الإقامة ناهية حرمة الصلاة فتصح نيته ويتغير فرضه أربعاً، وأما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة خروجاً موقوفاً، إن عاد إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة، وإلا فلا على ما ذكرنا، فينبغي أن تكون نيته موقوفة إن عاد إلى سجود السهو صحت نيته، فإن لم يعد لا، ومع هذا لا تصح نيته؛ لأن في اعتبار هذه النية إبطالها وكل نية يكون في اعتبارها إبطالها تكون باطلاً.
وبيان هذا أنا لو صححنا هذه النية إنما صححنا بالعود إلى سجود السهو فإذا عاد إلى سجود السهو لا يقع معيداً بهما؛ لأنهما يقعان في وسط الصلاة، فكيف تصح هذه النية بسجدة لا تقع معيدة بها حالاتها كما صحت لغت، وإن سجد لسهوه سجدة أو سجدتين ثم نوى الإقامة، فعليه أن يكمل أربع ركعات ويسجد في آخرها سجدتي السهو بالاتفاق؛ لأنه لما سجد للسهو عاد إلى حرمة الصلاة، فصار كما لو حصلت النية قبل السلام، ولو حصلت النية قبل السلام صحت نيته، وصار فرضه أربعاً كذلك ههنا، والدليل عليه أنه لو قهقه كان عليه الوضوء ولو اقتدى به رجل كان داخلاً في صلاته.u
مسافر أم قوماً مسافرين ومقيمين، فصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً دخل معه في الصلاة ... وهو مسافر، قال: لا ينبغي لذلك الرجل أن يتقدم؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، وينبغي للإمام أن يقدم من قد أدرك أول الصلاة لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال «من استعمل غيره عملاً، وفيهم من هو أحق منه فقد خان الله ورسوله، وخان جميع المؤمنين» ، فإن تقدم هذا المسافر جاز؛(2/41)
لأنه شريك الإمام كما ذكرنا وينبغي لهذا الرجل أن يسجد تلك السجدة؛ لأنه خليفة للأول، قائم مقامه، ولو كان الأول قائماً يأتي بهذه السجدة ثم يشتغل بباقي الصلاة.
وكذلك الخليفة فلو أن الخليفة لم يأت بهذه السجدة ولكن قام وصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً ثانياً عنه فإنه لا ينبغي له أن يتقدم، ولا للإمام الثاني أن يقدم لما ذكرنا، وإن تقدم جاز لما ذكرنا فيبدأ بالسجدة التي تركها الإمام الأول ثم بالسجدة التي تركها الإمام الثاني؛ لأن الثالث قائم مقام الثاني والثاني يأتي بالأول، فكذلك الثالث، فإن لم يسجدهما حين ذهب الإمام الأول والثاني فتوضأ أو رجعا، قال: يسجد الثالث للأولى لأنه خليفة الإمامين، ويسجدها معه الإمام الأول والقوم؛ لأنهم قد صلوا تلك الركعة وإنما بقي عليهم تلك السجدة، ولا يسجدها الإمام الثاني في ظاهر الرواية.
وفي «نوادر ابن أبي سليمان» : قال: يسجدها معهم، وجه رواية أبي سليمان وهو أن الإمام الثاني كالمقتدي، فالثالث يتابعه فيما يأتي به، وإن لم يكن محسوباً من صلاته كمن أدرك الإمام في السجود.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن الإمام الثاني مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها، فلا يبدأ بالسجدة منها؛ لأن تلك السجدة غير معتد بها ثم يسجد السجدة الأخرى ويسجدها معه الإمام الثاني والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة وإنما بقي عليهم سجدة ولا يسجد الإمام الأول هذه السجدة، إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجدها؛ لأنه لاحق، فيبدأ بالأول فالأول.
ولهذا قلنا: يصلي الإمام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم رجلاً غيره أدرك أول الصلاة من المسافرين، فيسلم بهم لأنه عاجز عن السلام بنفسه، فيستعين بمن يقدر عليه ثم يسجد هو للسهو، ويسجدون معه ولا إشكال فيه؛ لأنه لو وقع فيها سهو واحد لأمر يجبره، فكيف إذا تكرر السهو؟ ولا يسجد الإمام الأول للسهو، لأنه مدرك أول الصلاة، والمدرك يأتي بسجدتي السهو بعد فراغه من الصلاة ثم يقوم الإمام الثاني، فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة ثم يقوم الإمام الثالث ويصلي الركعتين اللتين سبق بهما، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يقوم الإمام الأول فيقضي الركعة الفائتة بغير قراءة؛ لأنه لاحق لأول الصلاة ويكمل المقيمون صلاتهم وحداناً بغير قراءة.
مسافر أم مسافرين يصلي بهم ركعة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يكمل بهم الصلاة إن نيته استندت إلى أول الصلاة وقد التزموا متابعته، فعليهم ما على الإمام من إتمام الصلاة، فإن أحدث الإمام بعد ما نوى الإقامة، فقدم رجلاً، قال: يتم بهم الصلاة أربع ركعات؛ لأن الثاني قائم مقام الأول.
ولو كان الأول قائماً يصلي أربع ركعات، فكذلك الثاني، فصار بهذا كمسافر اقتدى بالمقيم في الوقت، فإنه تصير صلاته أربع ركعات، فكذلك ههنا، فإن كان الإمام الأول(2/42)
لم ينوِ الإقامة، ولكن الإمام الثاني ينوي الإقامة لا يتغير فرضهم؛ لأنهم ما التزموا متابعته، وإنما لزمهم ذلك ضرورة إصلاح صلاتهم، ففيما سوى ذلك، فليس عليهم متابعته.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في الرجل مسافر صلى بقوم مسافرين ومقيمين ركعتين فلما قعد فيها التشهد قام بعض المسافرين وانصرف إلى منزله وقام بعض المقيمين وأكمل صلاته، وانصرف وقد كان بعض المسافرين مسبوقاً بركعة قام وقضاها، وفرغ منها وانصرف، وقد كان كل ذلك بعد سلام الإمام ثم إن الإمام نوى الإقامة، فصلاتهم تامة.
فإن كان بعض المقيمين قام ليتم صلاته حين نوى الإمام الإقامة، قال: إن كان سجد لركعة سجدة مضى في صلاته، ولم يتابع الإمام، وإن رجع إلى صلاة الإمام فسدت صلاته؛ لأنه لما قيد ركعته بالسجدة، فقد استحكم انفراده؛ لأن الركعة التامة لا تقبل الارتفاع والاقتداء في موضع الانفراد يوجب الفساد، وإن لم يقيد ركعته بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام، وإذا لم يعد فسدت صلاته؛ لأن انفراده لم يستحكم، فصار وجوده وعدمه بمنزلة ولو لم يقم الإتمام صلاته حتى نوى الإمام الإقامة لزمته متابعته كذا ها هنا.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: مسافر تشهد بعد ما صلى ركعتين من الظهر، ثم قام يريد أن يصلي ركعتين تمام أربع ركعات ونوى بها التطوع، فقرأ وركع ثم بدت له الإقامة، قال: ينبغي أن يجلس، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع؛ لأن التحريمة الأولى باقية، وقد ... قابلة للتغير بوجود المغير وقد وجد المغير فتغيرت، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع ليؤدي على الوجه الذي لزمه في إتمامها ثم يقوم، فإن شاء قرأ وإن شاء لم يقرأ لأنه قرأ في الأوليين ثم يركع؛ لأنه لما عاد إلى القعود ارتفض ركوعه؛ لأن ما دون الركعة قابل للرفض.
ذكر الحاكم: رجل صلى بقوم الظهر الركعتين في مدينة ولا يدرون مسافر هو أو مقيم فصلاتهم فاسدة، فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر، فصلاتهم تامة.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: مسافر صلى بمسافر الظهر ركعتين وسلم الإمام وعليه (97ب1) سجدتي السهو، فنوى الذي خلفه الإقامة، قال: إن سجد الإمام للسهو تمم هذه الصلاة، وإن لم يسجد لم يكن على هذا أن يتم الصلاة، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب غير موافق للمشهور عن محمد في نظائره.
المسافر إذا أحدث، واستخلف مقيماً كان خلفه، وجب على المقيم القعدة على رأس الركعتين، حتى لو تركها تفسد صلاته.
قال في «الأصل» : مسافر صلى بمسافر فأحدث الإمام وخرج من المسجد، ونوى الثاني أن يصلي لنفسه جاز وصار خليفة الأول، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله في «الكتاب» : ونوى أن يصلي لنفسه زيادة كلام لا حاجة إليه، لأنه يصير إمام نفسه،(2/43)
وإن لم ينوِ وقد مر هذا فيما تقدم فلو جاء رجل واقتدى بالثاني جاز؛ لأن الثاني إمام إمام الأول، فإن أحدث الثاني فخرج من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لأن الثالث مع الثاني كالثاني مع الأول.
فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل أن يرجع الأولان، فصلاة الثالث تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه وصلاة الأوليين فاسدة؛ لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد فإن لم يخرج هذا الثالث حتى رجع الأولان ثم خرج قبل أن يتقدم واحد منهما، فصلاته تامة وصلاة الأوليين فاسدة لأن أحدهما لم يتعين للإمامة بعد فبقيا بلا إمام، هذا هو جواب «الأصل» .
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وأورد في «بعض النوادر» أن صلاة الثالث فاسدة أيضاً لأن عليه أن يقدم أحدهما قبل أن يخرج من المسجد، فإذا لم يقدم حتى خرج من المسجد فقد ترك فرضاً من فرائض الصلاة فتفسد صلاته.
قال رحمه الله: والصحيح هو الأول قال في «الأصل» أيضاً: مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يصلي ركعتين بقراءة والمسافر، والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد وزفر رحمهما الله: صلاته فاسدة، وهذا بناءً على الأصل الذي تقدم ذكره إن للصلاة جهة واحدة عند محمد رحمه الله فإذا فسدت بترك القراءة خرج من حرمة الصلاة، فلا تصح نية الإقامة في هذه الصلاة، وعندهما للصلاة جهتان فتبطلان جهة الفرضية بترك القراءة يبقى أصل الصلاة، فتصح نية الإقامة.
حجة محمد رحمه الله في هذه المسألة، وهو أن ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما، أو في أحدهما على وجه لا يمكنه إصلاحه إلا بالاستقبال، فكذلك الظهر في حق المسافر، إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد.
حجتهما: أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي في أولها، ولو كان مقيماً في أول الصلاة لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين، فهذا مثله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الحاكم الشهيد زاد نية آخرها، فقال أجمعنا أن نية الإقامة تؤثر في القعدة، فتصيرها نفلاً بعدما كانت فرضاً، فإن المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وقرأ فيها ثم نوى الإقامة في القعدة صحت نيته، فلا خلاف، وصارت قعدته نفلاً بعد ما كانت فرضاً؛ لأنها قعدة الختم في حق المسافر، وقعدة الختم فرض بالإجماع، فلما جاز أن تجعل النية الموجودة في حال القعدة كالموجودة في أول الصلاة في حق القعدة حتى صيرها نفلاً، فكذلك في حق القراءة.
فرق بين هذا وبين الفجر في حق المقيم، والفرق: وهو أن فساد الفجر ما كان لترك القراءة بل لفوات محل القضاء.
ألا ترى أنه لو ترك القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يفت محل القراءة بهذا الذي(2/44)
ذكرنا إذا وجدت النية في حالة القعدة، فإن وجدت بعد القيام إلى الثالثة أو بعدما ركع أو بعدما رفع رأسه من الركوع، فكذلك تصح نيته إلا أنه إن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد القراءة، وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع؛ لأن ما أدى كان نفلاً، فلا ينوب عن الفرض فتلزمه الإعادة لهذا، فإن لم يعد فسدت صلاته.
فإن خرّ ساجداً ثم نوى الإقامة لم تفسد نيته، وعليه أن يستعيد الصلاة؛ لأنا لو أعملنا نيته لألزمناه ركعتين أخريين ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ظهره يصير خمساً ولم يشرع خمساً وفي بعض النسخ إن قيد الثالثة بالسجدة، ثم نوى الإقامة، فصلاته تامة ويضيف إليها أخرى فتكون الركعتان نافلة أورد شمس الأئمة رحمه الله هذه الرواية والله أعلم.
مسافر دخل في صلاة مقيم ثم ذهب الوقت لم تفسد صلاته؛ لأن الإتمام لزمه بالشروع مع الإمام في الوقت، فالتحق بغيره من المقيمين، بخلاف ما إذا اقتدى بعد خروج الوقت، فإن الإتمام لا يلزمه بهذا الاقتداء، فإن أفسد الإمام الصلاة على نفسه، كان على المسافر أن يصلي صلاة السفر؛ لأن وجوب الإتمام عليه لمتابعة الإمام وقد زال ذلك بالإفساد.
فإن قيل: هو كان مقيماً في هذه الصلاة عند خروج الوقت، فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض.
قلنا: لم يكن مقيماً في هذه الصلاة، وإنما يلزمه الإتمام بمتابعة الإمام، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت، فإنه يصلي صلاة السفر.
فرق بين هذا وبين ما إذا اقتدى المسافر بالإمام والإمام في الظهر، وهذا الرجل ينوي التطوع حتى لزمه أربع ركعات لو أفسد الإمام الصلاة على نفسه تجب على هذا الرجل، فصار أربع ركعات، وفي مسألتنا يلزمه قضاء ركعتين.
والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر إلا أن نذر المسافر أن يصلي الظهر أربع ركعات لا يصح، ونذر المسافر أن يصلي التطوع أربعاً يصح؛ لأن النذر بالتطوع تلزم وبالفرض غير ملزم.
ويخفف القراءة في السفر في الصلوات، فقد صح أن رسول الله عليه السلام قرأ في الفجر في السفر {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وأطول القراءة في صلاة الفجر، وأما تسبيحات الركوع والسجود يقولها ثلاثاً أو أكثر ولا ينقص عن الصلاة، وإذا أتم الإمام بمدينة وهو مسافر، فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم، فقد أقام رسول الله عليه السلام الجمعة بمكة، وهو كان مسافراً بها.
وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله فهو مسافر، والإمام هو الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين؛ لأنه مسافر كغير الخليفة كذا ذكر في «النوازل» ، فقيل: إذا طاف الخليفة في ولايته لا يصير مسافراً، ويجوز للمسافر الجمع بين الصلاتين لعذر السفر بأن يؤخر الأول، ويعجل الثاني، وتأخير المغرب مكروه، إلا بعذر السفر.
وإذا قضى في حال سفره صلاة فاتته في حالة الإقامة صلى أربعاً وإن قضى في حال(2/45)
إقامته صلاة فاتته في حال السفر صلى ركعتين؛ لأن القضاء تمكن الفائت؛ لأنه إذا لما وجب من قبل فيتغير حالة الفوات نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة على ظاهر الرواية لا يلزمه الإتمام، بل يصلي ركعتين، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يتمها أربعاً، وهو قول زفر رحمه الله، هكذا روى أبو سليمان في «نوادره» عن محمد.
ووجهه: أن هذا الرجل لا يخلو إما إن كان ملحقاً بالمسبوق أو بالمدرك فإن كان ملحقاً بالمسبوق يصلي أربعاً؛ لأن المسبوق إذا نوى الإقامة فيما يقضي يتعين فرضه أربعاً كذلك ههنا، وإن كان ملحقاً بالمدرك، فكذلك أيضاً؛ لأن المقتدي إذا نوى الإقامة خلف الإمام يتعين فرضه أربعاً كذا ههنا.
وجه ظاهر الرواية في ذلك: أن اللاحق في حكم المقتدي فيكون تبعاً للإمام والإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة بعد الفراغ من الصلاة لم يتغير فرضه، وإن نوى اللاحق الإقامة قبل فراغ الإمام تغير فرضه؛ لأن الإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة تغير فرضه، وإن تكلم اللاحق ثم نوى الإقامة تغير فرضه؛ لأنه خرج من حكم المتابعة وصار أصلاً ونية الإقامة في الوقت ممن هو أصل يكون مغيراً للفرض.
قال في «الكتاب» : وكذلك دخول اللاحق المصر يريد بهذا أنه كان يصلي المصر خلف الإمام والمصر أمامه، فدخل المصر ليتوضأ للعشاء ثم بدا له الإقامة فيها يصلي ركعتين، لأن دخول المصر كالنية خارج المصر، وقد ذكرت أن بنية الإقامة لا يصير مقيماً، فدخوله المصر كذلك.
قال: ونية المسبوق (98أ1) في قضاء ما عليه للإقامة يلزمه الإتمام؛ لأن المسبوق يصلي صلاة نفسه بدليل أنه تجب عليه القراءة وسجود السهو إذا سهى، قال: وكذلك دخول المصر؛ لأنه بمنزلة النية واللاحق أحد الرجلين إما أن يكون قائماً خلف الإمام بعد فراغ الإمام من الصلاة أو يحدث خلف الإمام، فذهب ليتوضأ ثم جاء وقد فرغ من الصلاة.
قال ونية المنفرد الإقامة في صلاة افتتحها في الوقت ثم ذهب وقتها ساقطة وكذلك دخوله المصر؛ لأن بخروج الوقت صارت صلاة السفر ديناً في ذمته فلا يتغير بإقامته، كالمقيم إذا سافر بعد خروج الوقت لا يتغير ما صلى.
قال شمس الأئمة رحمه الله في مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» : وهو ما إذا كان مسبوقاً بركعة نائماً في ركعة، فلما قام للقضاء نوى الإقامة صحت نيته الإقامة سواء نوى الإقامة في الركعة التي سبق بها أو في الركعة التي نام فيها؛ لأن عليه أن يبدأ بما نام فيها لو وجدت النية فيها، فإنها تدوم إلى آخر الصلاة، فكأنه نوى فيما سبق به.
قلنا: وإن أخر النية إلى أن قام إلى قضاء ما سبق به، فهذا مسبوق نوى الإقامة فيما يقضي، فتصح نيته والله أعلم.
مسافر صلى ركعة، فجاء مسافر واقتدى به ثم أحدث الإمام، واستخلف هذا الرجل(2/46)
ثم خرج الإمام الأول ليتوضأ ونوى الإقامة والإمام الثاني نوى الإقامة أيضاً، ثم عاد الإمام الأول إلى الصلاة، ماذا يفعل الإمام الأول والثاني؟
قالوا: يقتدي الإمام الأول بالثاني في الركعة الثانية، وإذا قعد الإمام الثاني قدر التشهد يقوم ويستخلف رجلاً أدرك أول الصلاة ليسلم بالقوم، ثم يقوم الإمام الثاني ويصلي ثلاث ركعات والإمام الأول ركعتين؛ لأنه بنية الإمام الثاني لم يعمل في حق القوم، فإذا صلى ركعة خرج من الإقامة.
مسافر صلى الظهر ركعتين وقام إلى الثالثة ناسياً بعدما قعد قدر التشهد ثم تذكر ذلك في قيام الثالثة أو في ركوعها فإنه يعود ويقعد وإن تذكر بعد أن قيد الثالثة بالسجدة يتم صلاته أربعاً، وكانت الثالثة والرابعة له سنّة الظهر، وإن لم يكن قعد على الركعتين إن تذكر في قيام الثالثة عاد وإن لم يعد حتى قيدها بالسجدة، فسدت صلاته، ولو كان هذا المسافر ترك القراءة في الركعتين الأوليين أو في أحدهما ثم قام إلى الثالثة وقرأ.
وقالوا: في قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف إذا نوى الإقامة في الثالثة تجوز صلاته ولو قرأ في الثالثة، وركع ثم نوى الإقامة في الركوع، قالوا: تجوز صلاته أيضاً.
مسافر أم قوماً في آخر وقت صلاة العصر، فلما صلى ركعة غربت الشمس ثم جاء رجل واقتدى به، صح اقتداؤه، فإن سبق الإمام الحدث استخلف هذا الرجل الذي اقتدى به، فتذكر الخليفة أنه لم يصل الظهر، فسدت صلاته؛ لأن الوقت ليس بضيق عند شروعه ولو تذكر هذه الفائتة بعد الغروب قبل الشروع لا يصح شروعه، فإذا تذكر في خلال الصلاة تفسد صلاته، وإن تذكر الإمام الأول أنه لم يصلِ الظهر لم تفسد صلاته سبقه الحدث أو لم يسبقه؛ لأن الوقت كان ضيقاً عند شروعه، لو تذكر الفائتة في ذلك الوقت لم يمنعه، هكذا إذا تذكر في خلال الصلاة.
مسافر صلى شهراً جميع الصلوات ركعتين، قال أبو حنيفة رحمه الله: يعيد ثلاثين مغرباً ولا يعيد غيرها، وقال صاحباه: يعيد ثلاثين مغرباً ويعيد صلاة العشاء والفجر والظهر والعصر بعد المغرب الأولى.
مسافر صلى الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ناسياً أو متعمداً فجاء مسافراً واقتدى به في تلك الحالة، فصلاة الداخل موقوفة إن عاد الإمام إلى القعدة وسلم، فصلاة الداخل ركعتان كصلاة الإمام، وإن لم يعد، فنوى الإقامة في القيام الثالثة ينقلب فرضه وفرض الداخل أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة في حرمة الصلاة، فصحت نيته وتغير فرضه أربعاً.
وكذلك فرض الداخل يتغير أربعاً؛ لأن اقتداءه به قد صح؛ لأنه كان في حرمة الصلاة حين اقتدى به، فصح اقتداؤه به وتغير فرضه أربعاً أيضاً، بحكم المتابعة، فيتابعه الداخل في الركعتين ثم يقضي ما فاته، وذلك ركعتان وإذا خرج الأمير مع جيشه لطلب العدو، ولا يعلم أين يدركهم فإنهم يصلون صلاة الإقامة في الذهاب وإن طالت المدة، وكذلك في المكث في ذلك الموضع، وأما في الرجوع، فإن كان إلى مصره مسيرة السفر يقصر الصلاة وإلا فلا.(2/47)
نوع آخر في بيان اجتماع حكم السفر والإقامة
مقيم صلى الظهر أربعاً ثم سافر في الوقت وقصر العصر وهو مسافر، ثم تذكر في وقت العصر شيئاً نسيه في مصره فعاد إليه ثم علم أنه صلى الظهر والعصر بغير طهارة، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين والعصر أربعاً؛ لأنه ظهر أن الأداء لم يصح وقد خرج وقت الظهر وهو مسافر فصار الظهر في ذمته صلاة السفر، وخرج وقت العصر وهو مقيم، فصار العصر في ذمته صلاة الإقامة وإذا كان مسافراً في أول الصلاة ثم نوى الإقامة فيها في موضع الإقامة، وهو في الوقت، أتم أربعاً.
ولو كان خرج الوقت ثم نوى الإقامة أتمها شفعاً، ولو كان مقيماً في أولها ونوى السفر في وسطها أتمها أربعاً؛ لأن النية بدون الفعل لا تعتبر.
وإن كان شرع فيها وهو في السفينة في المصر فمرت وخرجت من العمران، وهو ينوي السفر صار مسافراً، لكنه يتم الصلاة التي شرع فيها أربعاً؛ لأنه لزمه أربعاً حين شرع فيها فلا يسقط منها شيء بنية السفر.
المسافر إذا أم قوماً مسافرين ومقيمين، فسبقه الحدث واستخلف مقيماً صلى بهم تمام صلاة الإمام، وإذا انتهى إلى موضع التسليم لم يسلم، لأن عليه بعض الصلاة، فيستخلف من يسلم بهؤلاء المسافرين، ويقوم ويتم ما عليه والمقيمون أيضاً يتمون وحداناً، ولا يقرؤون على أصح الأقوال، وقد مر هذا من قبل.
مسافر صلى بقوم مقيمين ومسافرين ركعة، فسبقه الحدث، فأخذ بيد رجل ليقدمه، فنوى الإقامة ثم قدمه صلى هذه الخليفة بهم أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة وهو إمامهم؛ لأنه بالحدث لم يخرج من أن يكون إماماً لهم، ولهذا يملك الاستخلاف، ولو لم ينو المحدث الإقامة ولكنه قدم مقيماً فالخليفة يقعد على رأس الركعتين.
ولو لم يقعد فسدت صلاته، وصلاة القوم وإذا أتم هذه القعدة يقدم من يسلم بهم، ويقوم هو ويتم صلاة نفسه ولو أن الخليفة لم يقرأ في فائتة الإمام، فسدت صلاته وصلاة القوم كما لو لم يقرأ الإمام الأول.
مسافر صلى بمسافرين ركعتين، فلما تشهد في الثانية تكلم أو تكلم بعض من خلفه ثم نوى الإمام الإقامة صار فرضه، وفرض من بقي خلفه أربعاً، وصلاة من ذهب جائزة ركعتين، ولم تؤثر نية الإمام الإقامة في حقهم لزوال الاقتداء بالكلام والسلام قبل نية الإمام.
مسافر صلى ركعتين بغير قراءة فظن أنه صلى ركعة فقام وقرأ وركع ثم نوى الإقامة صار فرضه أربعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويعيد القيام والقراءة والركوع، وتجوز لأن الأول وقع نفلاً لا فرضاً؛ لأن فرضه حال كونه مسافراً ركعتان فلو لم يعد حتى قيد الركعة بالسجدة فسدت صلاته؛ لأنه تم انتقاله إلى النفل فلا يمكنه إصلاح الفرض ولو كان قرأ في الأوليين وقعد وقام إلى الثالثة، وقرأ وركع وسجد ثم نوى الإقامة لم يصر أربعاً؛ لأنه خرج من الفرض.(2/48)
ولو كان لا يقيده بالسجدة صار أربعاً ويعيد القيام والركوع لوقوعهما نفلاً، وليس عليه إعادة القراءة؛ لأنه عليه في الأخريين من الفرض، فإن لم يعد بل مضى فسدت صلاته، لتركه القيام الفرض والركوع الفرض، فإن قام من الثانية إلى الثالثة من غير قعود ناسياً قبل نية الإقامة، فعليه أن يعود إلى القعود، فإن نوى الإقامة لم يعد؛ لأن فرضه صار أربعاً، وإن نوى الإقامة وهو قاعد إن كان تشهد قائماً، ولا يعيد التشهد، وإن لم يكن تشهد، فيتشهد ثم يقوم.
ومما يتصل بهذا الفصلالمقيم والمسافر إذا أمَّ أحدهما صاحبه ثم يشكان فيه
مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه، فشكّا فلم يدريا من الإمام، ومن المقتدي، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إذ شكا بعدما صليا ركعة وإنه على خمسة أقسام:
القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث، وفي هذ القسم تفسد صلاتهما، لتعذر المضي بيانه: وهو أن كل واحد (98ب1) ، منهما يحتمل أن كان إماماً في الابتداء ويحتمل أنه كان مقتدياً ومن كان إماماً لا يصلح مقتدياً ومن كان مقتدياً لا يصلح إماماً؛ لأن صلاة الإمام مع صلاة المقتدي غيران حكماً.
ألا ترى أن الإمام تلزمه القراءة وتنوب قراؤته عن قراءة المقتدي، وإذا قرأ آية السجدة يلزمه ومأمومه سجدة التلاوة، وإذا سهى لزمته ومأمومه سجدة السهو وإذ فسدت صلاته فسدت صلاة مأمومه، والمقتدي لا تلزمه القراءة، وإذا قرأ آية السجدة لا يلزمه ولا إمامه سجدة التلاوة، وإذا سهى لا سهو عليه، ولا على الإمام، وإذا فسدت صلاته لا تفسد صلاة الإمام.
وألا ترى أن الإمام إذا كبر في خلال الصلاة ينوي الاقتداء بغيره في تلك الصلاة يصير خارجاً من صلاته، وكذلك إذا كبر ينوي الإقامة يصير خارجاً عن صلاته، بمنزلة من كان في صلاة الظهر فكبر ينوي العصر فثبت أنهما غيران حكماً.
فإذا لم ينويا من الإمام ومن المقتدي لا يدري كل واحد منهما أنه يتم صلاته على الإمامة، أو على الاقتداء، فيعجز كل واحد منهما عن المضي على صلاته ففسدت صلاتهما؛ لهذا بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا أصابتهما آفة وافترقا عن مكانهما، أما إذا كانا في مكانهما نجعل صاحب اليمين مقتدياً وصاحب اليسار إماماً، عملاً بما جاءت به السنّة.
القسم الثاني: إذا لم يشكا حتى أحدث المقيم وخرج من المسجد، ثم أحدث المسافر وخرج ثم توضأ فأقبلا، ثم شكا فصلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة أما صلاة المقيم فاسدة؛ لأنه إن كان مقتدياً فإذا خرج الإمام من المسجد بعده لم يبق له إمام في المسجد، وإن كان إماماً، فإذا خرج من المسجد أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر(2/49)
وصار المقيم مقتدياً به، حتى لو عاد أتم الصلاة خلفه.
فإذا خرج المسافر من المسجد بعد ذلك لم يبق المقيم إماماً في المسجد، وخلو المسجد من الإمام يوجب فساد صلاة المقتدي، فتيقنا بفساد صلاته على كل حال، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم عن المسجد، وإذا خرج عن المسجد بعد ذلك لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يقرأ في الركعة الثانية ويقعد في الثانية، لاحتمال أنه كان إماماً وكان فرضه هذا ويتم صلاته أربعاً لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً.
القسم الثالث: إذا لم يشكا حتى أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج ثم توضأ فأقبلا ثم شكا، فصلاة المسافر فاسدة وصلاة المقيم تامة، وصلاة المسافر في هذه المسألة نظير المقيم في المسألة الأولى، والمقيم في هذه المسألة نظير المسافر في المسألة الأولى، وعلى المقيم أن يقرأ في الركعة الثانية، ويقعد على رأس الثانية حتى أنه إذا لم يفعل أحدهما فسدت صلاته، لجواز أنه كان مقتدياً فحين أحدث إمامه وخرج عن المسجد تحولت الإمامة إليه، وافترض عليه ما كان فرضاً على إمامه وكان فرضاً على إمامه القراءة في الثانية والقعدة، فافترض عليه ذلك ثم يقوم ويصلي ركعتين أخريين تمام صلاته وهل يقرأ.
فيه اختلاف المتأخرين، قد ذكرنا قبل هذا أن مقيماً لو اقتدى بمسافر، فلما فرغ الإمام قام المصلي يصلي الركعتين الأخرين، روى الكرخي عن محمد أنه لا يقرأ، وبه أخذ بعض المشايخ، وعن أبي طاهر الدباس: أنه يقرأ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاحتياط أن يقرأ.
القسم الرابع: إذا لم يشكا حتى أحدثا، وخرجا عن المسجد على التعاقب إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا فأقبلا فشكا، فصلاتهما فاسدة؛ لأن الذي خرج أولاً فسدت صلاته لما ذكرنا، والذي خرج آخراً صلاته صحيحة، وكل واحد منهما يحتمل أنه خرج آخراً، فكانت صلاة كل واحد منها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فكان الحكم الفساد احتياطاً.
القسم الخامس: إذا لم يشكا حتى أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، وباقي المسألة بحالها صلاتهما فاسدة أيضاً، لأن الإمام منهما بقي على إمامته، لما ذكرنا أن الإمامة لا تتحول لمجرد الحدث وإنما تتحول بالخروج، وقد خرجا معاً فبقي الإمام على إمامته والمقتدي على اقتدائه، فصلاة الإمام تامة وصلاة المقتدي فاسدة، وكل واحد يحتمل أن يكون إماماً ويحتمل أن يكون مقتدياً، فكانت صلاة كل واحد منهما صحيحة من وجه فاسدة من وجه فكان الحكم بالفساد.
الوجه الثاني: إذا شكا بعدما صليا ركعتين وقعدا قدر التشهد، وإنه على خمسة أقسام أيضاً.(2/50)
القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث وفي هذا القسم يقوم المقيم ويصلي ركعتين أخرين ويتبعه المسافر فيها، أما المقيم، فيصلي ركعتين أخريين لأنه إن كان إماماً، فعليه إتمام صلاته، وإن كان مقتدياً فكذلك وأما المسافر فإنه يتبعه فيهما؛ لأنه إن إماماً فقد أتم صلاته والمتابعة في الركعتين الأخرتين لا تضر وأن كان مقتدياً فقد صار فرضه بالاقتداء بالمقيم أربعاً، فتلزمه المتابعة في الركعة، والمتابعة في الأخريين لازمة من وجه دون وجه، فأوجبناها احتياطاً.
القسم الثاني: إذا أحدث المقيم وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر، وخرج من المسجد فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة، أما صلاة المقيم فاسدة، فلأنه إن كان مقتدياً إن كانت لا تفسد صلاته بخروجه وخروج إمامه بعد ذلك؛ لأن صلاة إمامه قد تمت بأداء الركعتين تفسد صلاته إذا كان إماماً وخرج المسافر بعد خروجه لا بخروجه أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر، وصار المقيم مقتدياً به، فإذا خرج المسافر من المسحد لم يبق للمقيم إمامٌ في المسجد، وخلو المسجد عن الإمام يوجب فساد صلاة المقيم، فصلاة المقيم تفسد من وجه، وهو أن يكون إماماً، ولا تفسد من وجه، وهو أن يكون مقتدياً، فحكمنا بالفساد، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم من المسجد، فإذا خرج عن المسجد بعد ذلك، لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يصلي أربعاً؛ لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً.
القسم الثالث: إذا أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج من المسجد، فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً، فحين خرج المقيم عن المسجد لم يبق للمسافر إمام في المسجد، وهذا يوجب فساد صلاته وصلاة المقيم تامة إن كان إماماً بقي على إمامته وإن كان مقتدياً، فقد جاء أوان الانفراد وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
القسم الرابع: إذا أحدثا وخرجا من المسجد على التعاقب، إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا وأقبلا فشكا، وفي هذا القسم فسدت صلاتهما لما مر في الوجه الأول.
القسم الخامس: إذا أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، ثم توضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة، لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً فحين خرج المقيم لم يبق الإمام في المسجد، وصلاة المقيم تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فحين أتم المسافر صلاته جاء أوان الانفراد في حقه وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
الوجه الثالث: إذا شكا بعدما صليا ثلاث ركعات، فالقياس: أن يكون الجواب في هذا الوجه، والجواب فيما تقدم سواء لمعنى الشك وتردد الحال في حق كل واحد(2/51)
منهما، وفي الاستحسان الإمام هو المقيم فعليه أن يقوم فيصلي الركعة الرابعة، ويقتدي به المسافر حملاً لأمر المسلم على الصلاح، فإن فعل كل مسلم محمول على الصلاح ما أمكن، ولو جعلنا المقيم إماماً كان حمل أمرهما على الصلاح في الركعة الثالثة.
ولو جعلنا المسافر إماماً كان فيه حمل أمرهما على ما لا يحل شرعاً من خلط النفل بالفرض، والخروج عن الفرض والدخول في النفل لا على وجه المسنون في حق المسافر، ومن اقتداء المفترض بالمتنفل (99أ1) في حق المقيم، فجعلنا المقيم إماماً لهذا.
ونظير هذا من فرغ من صلاته وسلم ثم شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، فليس عليه شيء ويحمل قوله على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في وقته فكذا ههنا.
ومعنى آخر أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : فقال: إن أمور المسلمين محمول على المتعارف والمعتاد فيما بين الناس، والمتعارف المعتاد فيما بين الناس أن المقيم يقوم إلى الثالثة والمسافر لا يقوم إلى الثالثة، إلا إذا كان مقتدياً بالمقيم، استشهد محمد رحمه الله بمن أحرم بشيئين، ثم نسيهما، فلم يدر أحجان أم عمرتان؟ يجعل قارناً بحجة وعمرة ولا يجعل قارناً بحجتين، ولا بعمرتين حملاً لأمره على الصلاح على المعنى الأول فإن الجمع بين الحج والعمرة صحيح مندوب إليه شرعاً والجمع بين الحجتين والعمرتين ممنوع عنه فجعل قارناً حملاً لأمره على الصلاح، وعلى المعنى الثاني يجعل قارناً بحجة وعمرة حملاً لأمره على المتعارف؛ لأن المتعارف فيما بين الناس الجمع بين حجة وعمرة لا الجمع بين حجتين أو عمرتين، فكذا ها هنا.
وكذلك مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه ولم يقعدا في الثانية قدر التشهد، ثم سلما وسجدا سجدتي السهو ثم شكا، فلم يدريا أيهما الإمام؟ يجعل الإمام هو المقيم حملاً لأمرهما على الصلاح.
وكذلك لو كانا تركا القراءة في الأوليين أو في أحدهما، فلما سلما وسجدا للسهو شكا، فإنه يجعل الإمام هو المقيم لما بينا وإذا كان في مسألتنا الإمام هو المقيم يسهل تخريج مسألة الحدث وإن أحدث المقيم أولاً، وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر بعد ذلك وخرج من المسجد، فصلاة المقيم فاسدة لتحول الإمامة إلى المسافر فيصير هو مقتدياً فإذا خرج المسافر لم يبق الإمام في المسجد فتفسد صلاته، وصلاة المسافر جائزة تامة.
وإن كان مقتدياً لكن تحولت إمامة المقيم إليه، وخروج الإمام عن المسجد لا تفسد صلاته وإن أحدث المسافر وخرج ثم أحدث المقيم، وخرج، فصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن أحدثا معاً أو متعاقباً لكن خرجا معاً فصلاة المقيم تامة لأنه إمام لم تتحول إمامته إلى غيره وصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن خرجا على التعاقب ولا يدري أيهما خرج أولاً؟ فصلاتها جميعاً فاسدة لما قلنا من قبل والله أعلم.(2/52)
الفصل الثالث والعشرون في الصلاة على الدابة
قال في «الأصل» : ويصلي المسافر التطوع على دابته بإيماء حيث توجهت به، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام في غزوة إنما يتطوع على دابته بالإيماء، وجهه إلى المشرق» وزاد في آخر الحديث: «وكان إذا أراد الوتر أو المكتوبة نزل» ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام كان يصلي على دابته تطوعاً حيث توجهت به، وقرأ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115) وكان ينزل للمكتوبة» .
واختلفت الروايات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الوتر، روي «أنه عليه السلام يوتر على دابته» وروي عنه «أنه كان ينزل للوتر» ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال الحاكم الجليل في «إشاراته» تأويل ما روي «أنه كان يوتر على دابته» أنه كان يفعل ذلك، لعذر المطر والطين، أو كان ذلك قبل تأكد الوتر فأما بعد تأكد الوتر كان ينزل، وجاء في حديث آخر «أن النبي عليه السلام كان يصلي التطوع على حمار متوجهاً إلى خيبر» ، ولأن صلاة التطوع خبر موضوع بدليل الحديث فلو لم تجز على الدابة لغاية، هذا الخبر إذ لا يمكنه النزول في كل ساعة؛ لأنه يخاف على نفسه ودابته، فيجوز لهذا العذر ولو لم يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر الفاسدة كان ذلك كافياً، ويجعل السجود أخفض من الركوع؛ لأنه عجز عن الركوع والسجود كالمريض.
وعلى أي الروايات إن صلى أجزأه لأن الرواية وقعت باسم الدابة واسم الدابة يقع على الكل، ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الأصل» في المسافر.
وذكر الكرخي في كتابه، ويجوز التطوع على الدابة في الصحراء مسافراً كان أو مقيماً أينما توجهت به، فروى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله أنه يطلق ذلك للمسافر خاصة؛ لأن الجواز بالإيماء بخلاف القياس، لأجل الضرورة والضرورة إنما تتحقق في السفر لا في الحضر، والصحيح أن المسافر وغير المسافر في ذلك على السواء بعد أن يكون خارج المصر حتى أن من خرج من المصر إلى مساعه، جاز أن يصلي التطوع على الدابة، وإن لم يكن مسافراً إلا أن الكلام بعد هذا في مقدار ما يكون بين المقيم، وبين المصر حتى يجوز له التطوع على الدابة.
وذكر في «الأصل» : إذا خرج فرسخين أو ثلاثة فله أن يصلي على الدابة وهكذا ذكر(2/53)
الكرخي في كتابه، ومن المشايخ من قدره بفرسخين فصاعداً، فقال: إذا كان بينه وبين المصر فرسخان، فله أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ميل جاز له أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك فلا، وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ما يكون بين المصر وبين مصلى العيد جاز له أن يتطوع على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب أنه يعتبر فيه مخالطة البنيان ومفارقتهما، فما دام مخالطاً للبنيان لا يتطوع على الدابة وإذا فارق البنيان فقد خرج من المصر، فيجوز له التطوع على الدابة وهو قياس قصر الصلاة للمسافر، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن التطوع على الدابة جائز على المصر من غير فصل بينها إذا كان المكان الذي خرج إليه قريباً أو بعيداً، وإن كان بسرجه قذر لم تفسد صلاته.
وأشار في «الكتاب» : إلى المعنى، وقال: والدابة أبعد من ذلك يريد بذلك أن الدواب ليسوا بطيبين ظاهراً؛ لأنهم يتمعكون في التراب والنجاسات، فالظاهر أنهم لا يخلون عن النجاسات ثم نجاسة الدابة تمنع الجواز، فكذا نجاسة السرج بل أولى؛ لأنها أقل، من أصحابنا من قال: لم يرد محمد بقوله: وإذا كان بسرجه قذر أن يكون على سرجه نجاسة حقيقية، وإنما أراد به قذر الدابة الذي يتلطخ به الثوب، أما إذا كان على سرجه نجاسة حقيقية نحو رجيع الآدمي وما أشبه ذلك، وكانت في موضع الجلوس أو الركابين أكثر من قدر الدرهم تمنع الجواز، وهو قول الفقيه محمد بن مقاتل الرازي والشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمهما الله.
وبعضهم قالوا: إذا كانت النجاسة في الركابين لا بأس به، وإن كان في موضع الجلوس يمنع الجواز، والحاكم الشهيد يشير إلى أن كل ذلك على السواء وشيء منها لا يمنع الجواز؛ لأن هذا أمر بني على الخفة والرخصة وطهارة السرج والركابين نادر، فلا يشترط طهارتها؛ ولأنه قد سقط عنه القيام والسجود وذلك ركن وطهارة المكان شرط والركن أقوى من الشرط، فسقوط الركن يدل على سقوط الشرط من طريق الأولى، ولم يذكر في ظاهر الرواية التطوع على الدابة في المصر.
قال الحاكم في «الكتاب» : قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، وقال أبو يوسف: لا بأس بذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال في «الكتاب» : لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، ولكن لم يذكر أنه لو صلى يجزئه.
وذكر الفقيه أبو جعفر في «غريب الروايات» ، وقال: إني لا أعرف مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «الهارونيات» أنه لا يجوز التطوع على الدابة في المصر عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا بأس به، وعند محمد يجوز ويكره.
فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخسي حجة أبي حنيفة رحمه الله، هو أنا جوزنا الصلاة على الدابة بالإيماء بالنص، بخلاف القياس والنص ورد خارج المصر والمصر(2/54)
ليس في معنى خارج المصر لأن سيره على الدابة في المصر لا يكون مؤبداً عادة فرجعنا فيه إلى أصل القياس، وحكي أن أبا يوسف رحمه الله لما سمع هذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله، قال: حدثني فلان، وسماه عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام ركب الحمار في المدينة، يقول سعد بن عبادة؛ وكان يصلي وهو راكب، فسكت أبو حنيفة ولم يرفع رأسه.
قيل: إنما لم يرفع رأسه رجوعاً منه.
وقيل: إنما لم يرفع رأسه؛ لأنه عده من شواذ الأخبار، وآحاده، ومثل هذا الخبر لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، فأبو يوسف رحمه الله أخذ بهذا الحديث، ومحمد كذلك، إلا أنه كره ذلك في المصر لأن اللفظ (99ب1) يكثر فيها والكثرة ربما تمتلىء بالغلط في القراءة، فلهذا يكره، قيل: اللفظ صور مهمة.
وقيل: الكلام الفاحش ثم يستوي الجواز عندنا بين أن يفتتح الصلاة مستقبل القبلة، وبين أن يفتتحها مستدبر القبلة في الحالين يجزئه؛ لأن جواز التطوع على الدابة بالديار، ولا فرق في الديار بين الابتداء وبين الانتهاء.
ومن الناس من يقول: إنما يجوز التطوع على الدابة إذا توجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة، ثم تركها حتى انحرف عن القبلة، أما ما إذا افتتح الصلاة إلى غير القبلة لا تجوز؛ لأنه لا ضرورة في حالة الابتداء، إنما الضرورة في حالة البقاء إلا أن أصحابنا لم يأخذوا به؛ لأنه لا تفصيل في النص.
ولو أومىء على الدابة وبنى بسير لم يجز إذا قدر أن يقفها، وإن تعذر الوقف جاز؛ لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها، ويتحقق بسبب ذلك اختلاف المكان، فلا يتحمل إلا عند تعذر الوقف ولا يصلي المسافر المكتوبة على الدابة إلا في ضرورة فإن المكتوبة في أوقات محصورة لا يشق عليه النزول؛ لأدائها بخلاف التطوع، فإنه ليس مقدر بشيء فلو ألزمناه النزول؛ لأدائها تعذر عليه أداء ما يسقط من التطوعات أو ينقطع سفره.
وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها واجبة عنده، وعندهما له أن يوتر على الدابة؛ لأنها سنة عندهما، وأما في حالة الضرورة له أن يصلي المكتوبة، والوتر على الدابة لما روي أن رسول الله عليه السلام كان مع أصحابه في سفر فمطروا، «فأمر منادياً حتى نادوا صلوا على رواحلكم» .
ومن الأعذار إن خاف لو نزل عن الدابة على نفسه أو على دابته لصاً أو سبعاً أو كان في طين لا يجد على الأرض مكاناً يابساً أو كانت الدابة حموماً إن نزل عنها لا يمكنه الركوب إلا بمعين أو كان شيخاً كبيراً لا يمكنه أن يركب، ولا يجد من يركبه ففي هذه الأحوال كلها تجوز المكتوبة على الدابة، قال الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا(2/55)
فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 239) وعلى قياس ما ذكرنا في أول بيان الأعذار.
لو صلى المكتوبة في البادية على الراحلة والقافلة تسير يجوز؛ لأنه يخاف على نفسه وثيابه لو نزل؛ لأن القافلة لا تنتظره، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ألحق ركعتي الفجر بالمكتوبة، فقال: ينزل لها إلا بعذر، وذكر ابن شجاع: أن ذلك يجوز أن تكون لبيان الأولى يعني أن الأولى أن ينزل لركعتي الفجر ثم ها هنا مسألة لم يذكرها محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا أوردها الحاكم الشهيد في «المختصر» : وهو ما إذا افتتح التطوع على الدابة خارح المصر ثم دخل المصر قبل أن يفرغ منها، وذكر في غير رواية الأصول أنه يتمها، واختلف الناس في معنى هذا، قال بعضهم: يتمها على الدابة، ما لم يبلغ منزله وأهله، لأنه التزمها راكباً، فله أن يتمها راكباً.H
وقال كثير من أصحابنا رحمهم الله: إنه ينزل ويتمها نازلاً؛ لأنا قد روينا عن أبي حنيفة أنه كان لا يأذن بالصلاة على الدابة في المصر، وهذا لأن النزول عمل يسير لا يحتاج فيه إلى معالجة كثيرة فلهذا تجوز بقية الصلاة نازلاً.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن صلى ركعة بإيماء ثم دخل المصر لم يمكنه إتمام صلاته نازلاً؛ لأنه بناء الكامل على الناقص؛ لأن أول صلاته بإيماء وآخر صلاته بركوع وسجود. وإن لم يصل ركعة بإيماء نزل وأتمها نازلاً؛ لأنه لم يؤد شيئاً بإيماء، فله أن يكملها نازلاً بركوع وسجود.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: هذه الرواية على أصل محمد لا تستقيم؛ لأن تحريمة الصلاة وقعت للإيماء فلا يصح إكمالها بركوع وسجود على أصله؛ لأنه بناء القوي على الضعيف، وهو لا يرى ذلك؛ لأن مذهبه فيمن افتتح الصلاة قاعداً لمرض بركوع وسجود، ثم برأ من مرضه، فقام فأتمها قائماً، فإنه لا يجوز؛ لأنه بناء القوي على الضعيف فهذه الرواية تخالف مذهبه، فلا يدرى من أين وقع هذا؟ والله أعلم.
وإذا افتتح التطوع على الأرض، فأتمها راكباً لم تجزئه ولو افتتحها راكباً ثم نزل، فأتمها أجزأته لوجهين:
أحدهما: وهو أن النزول عمل يسير والركوب عمل كثير؛ لأنه يحتاج فيه إلى استعمال اليدين عادة وفي النزول لا يحتاج إلى ذلك ولكن يجعل إليته من جانب، وينزل من غير أن يحتاج إلى معالجة اليدين.
والثاني: وهو أنه افتتح الصلاة على الأرض، فلو أتمها راكباً كان دون ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بركوع وسجود والإيماء دون ذلك، والراكب إذا نزل يؤديها أتم ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بالإيماء، ويؤديها بركوع وسجود.
وعن زفر رحمه الله: أنه يبني فيهما جميعاً؛ لأنه لما جاز الافتتاح على الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول، فالإتمام أولى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل(2/56)
فيهما، أما إذا كان نازلاً، فركب لما ذكرنا، وأما إذا كان راكباً فنزل؛ لأنه بناء القوى على الضعيف، وذلك لا يجوز كالمريض الذي يصلي بالإيماء ثم يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة، فإنه لا يبني، وإنه لا يبني، لما قلنا.
والفرق بينهما على ظاهر الرواية: أن في المريض ليس له أن يفتتح الصلاة بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود، فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبني أما ههنا له أن يفتتح الصلاة بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع، والسجود فكذلك قدرته على الركوع والسجود بالنزول تمنعه من البناء.
وكذلك إن (نذر) على أن يصلي ركعتين فصلاهما راكباً من غير عذر لم يجزئه؛ لأن القدرة لم تنصرف إلى أتم الوجوه وأكملها، ألا ترى أن من نذر أن يصلي ركعتين، فصلاهما عند طلوع الشمس أو عند غروبها، أو عند زوالها لا يجوز، والمعنى ما ذكرنا كذلك ههنا.
والدليل عليه: أنه إذا نذر أن يعتق رقبة، فأعتق رقبة أعجمي، فإنه لا يجوز؛ لأنه بالنذر التزم الصلاة مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل، فإن صلاهما على الدابة بعذر جاز؛ لأن المكتوبة تؤدى على الدابة بعذر فالمنذورة أولى والله أعلم.
رجلان في محمل واحد، فاقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما وهذا لا يشكل إذا كان في شق واحد، لأنه ليس بينهما حائل، فأما إذا كانا في شقين، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إن كان أحد الشقين مربوطاً بالآخر يجزئه؛ لأنه إذا كان مربوطاً بالآخر صار بحكم الاتصال كشق واحد أو كسفينتين ربطت أحدهما بالأخرى، فاقتدى أحدهما بصاحبه، فهذا يجوز الاقتداء بالإجماع كذا هنا، وإن لم تكن مربوطاً بالآخر لا يصح اقتداؤهما؛ لأن بينهما دابة تسير، فكان بين الإمام والمقتدي طريق، وإنه مانع جواز الاقتداء، وقال بعضهم: يجزئه كيف ما كان إذا كان على دابة واحدة، كما لو كانا على الأرض وإلى هذا أشار محمد رحمة الله في «الكتاب» .
فإنه جمع في «الكتاب» : بين مسألتين مسألة المحمل ومسألة الدابتين وجوز في المحمل، ولم يجوز في الدابتين بعلة الطريق وفرق بينهما واسم المحمل يقع على الشقين، وعلى شق واحد فلو كان المراد في المحمل الشق الواحد لما احتاج إلى الفرق، ولأنهما إذا كانا في محمل واحد ليس بين الإمام والمقتدي ما يمنع صحة الاقتداء.
قال في «الكتاب» : وأكره أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام اعتباراً بما لو كان على الأرض، ولو كان كل واحد منهما على دابة لم تجز صلاة المؤتم؛ لأن بين الدابتين طريق والطريق العظيم بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء.
وعن محمد رحمه الله قال: أستحسن أن يجوز اقتداؤهم بالإمام إذا كانت دوابهم على القرب من دابة الإمام على وجه لا تكون الفرجة بينه والقوم إلا بقدر العرف، قياساً على الصلاة على الأرض، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول محمد رحمه الله: كانا في محمل واحد يقع على الشقين جميعاً، وإنما جاز هذا لأن الرباط جمعهما(2/57)
فكأنهما شق واحد والرباط، كالجسر على النهر ثم الجسر يضم أحد شقي النهر بالآخر في حكم الاقتداء، فرباط المحمل أولى.
وإذا صلى على دابة في المحمل، والدابة واقفة وهو يقدر على النزول، لا يجوز له أن يصلي على الدابة إلا إذا كان المحمل على عيدان على الأرض ولو صلى على عجلة إن كان طرف العجلة على الدابة، وهي تسير أو لا تسير فهو صلاة على الدابة فيجوز في حالة العذر، ولا يجوز في غير حالة العذر (100أ1) وإن لم يكن طرف العجلة على الدابة جاز، وهو بمنزلة الصلاة على السرير.
وفي القدوري: لو صلى على بعير لا يسير لا يجوز، ولو صلى على عجلة لا تسير يجوز من غير فصل والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والعشرون في الصلاة في السفينة
قال محمد رحمه الله: وإذا استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة، فأحب له أن يخرج ويصلي على الأرض، وإن صلى فيها جاز، أما الجواز: فلحديث ابن سيرين رضي الله عنه قال: صلينا مع أنس بن ملك رضي الله عنه في السفينة قعوداً، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد.
وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعوداً، ولو شئنا لقمنا، هكذا روى الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي، وعن مولى عبد الله بن أبي ... أنه قال: صحبت أناساً في السفينة من أصحاب رسول الله عليه السلام، منهم أبو الدرداء أو أبو سعيد الخدري وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم فحضرت الصلاة، فتقدم إمامهم فصلوا فيها، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد، ولأن السفينة في معنى الأرض؛ لأنه يباح الجلوس عليها للقراءة كما على الأرض فكانت السفينة كالسرير.
ولو صلى على السرير تجوز صلاته، فكذلك ها هنا؛ ولأن الماء في معنى الأرض على معنى أنه يباح الجلوس عليه. للقراءة أي تمكن من الجلوس عليه.
ألا ترى لو انجمد الماء يمكن من الجلوس يجلس عليه للقراءة، فكانت السفينة كالأرض فتجوز فيها الصلاة، بخلاف ما لو صلى على العجلة، فإنه لا يجوز؛ لأن؟ ... ما على الدابة، فكأنه يصلي على ظهر الدابة، فلا يجوز؛ لأنها ليست في معنى الأرض، فإنه لا يباح الجلوس على ظهر الدابة للقراءة، على ما قال عليه السلام: «لا تتخذوا دوابكم كراسي» وإنما يباح الانتقال.(2/58)
وأما المستحب أن يخرج ويصلي على الأرض لأن الصلاة على الأرض أكمل والصلاة في السفينة أنقص؛ لأن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس واسوداد العين متى صلى قائماً يحتاج إلى القعود، وله بد من ذلك.
فإن صلى فيها قاعداً وهو يقدر على القيام والخروج أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله استحساناً، لكن الأفضل أن يقوم أو يخرج، وعندهما لا يجزئه قياساً.
وأجمعوا أن السفينة إذا كانت مربوطة بالشط أنه لا يجوز فيها الصلاة قاعداً، وأجمعوا أنه إذا كان بحيث لو قام يدور رأسه تجوز الصلاة فيها قاعداً.
وجه القياس: وهو أن السفينة كالبيت في حق راكب السفينة بدليل أنه يلزمه استقبال القبلة، ولا تجوز صلاة التطوع فيها بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود كما في البيت؛ وهذا لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز والمشقة وهو قد زال لقدرته على القيام أو الخروج.
وجه الاستحسان: وهو أن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس إذا قام والحكم يبنى على العام، والغالب دون الشاذ النادر.
ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثاً بناءً على الغالب من حاله أنه يخرج منه شيء لزوال الإمساك، وسكوت البكر جعل رضاً، لأجل الحياء بناءً على الغالب من حال البكر.
وكذلك المترفه في السفر له أن يفطر كصاحب المشقة؛ لأن مبنى أحوالهم على المشقة والشدة، والترفه في السفر نادر، فلم يعتبر ذلك النادر في حق الترخيص بالإفطار، فهذا مثله.
ثم لم يفصل في «الكتاب» على قول أبي حنيفة رحمه الله بين أن تكون السفينة جارية أو ساكنة ماسكة، منهم من قال على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يصلي قاعداً إذا كانت جارية؛ لأن الغالب دوران الرأس واسوداد العين إذا قام، فأما إذا كانت السفينة ساكنة ماسكة لم تجز الصلاة فيها قاعداً.
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده رحمه الله: وقد ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: سألت أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في السفينة، فقالا: إذا كانت جارية يصلي قاعداً وإذا كانت ساكنة يصلي قائماً؛ لأنه يقدر على القيام في هذه الحالة، ولا يجوز للمسافر أن يصلي فيها بالإيماء سواء كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة؛ لأنه يمكنه أن يسجد فيها، فلا يعذر في تركه، والإيماء إنما شُرع عند العجز وهذا قادر، فلا يجوز له الإيماء.
فرق بين هذا وبين الدابة والفرق وهو: أن الأثر في بالإيماء، ورد في حق راكب الدابة بخلاف القياس وما ورد في حق راكب السفينة على أصل القياس؛ ولأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له موضع قرار، فالسفينة كالبيت على ما ذكرنا.(2/59)
ألا ترى أنه لا يجري بها، بل هي تجري به، قال الله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ} (هود: 42) وراكب الدابة يجري بها حتى يملك إيقافها متى شاء، ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه.
والذي يوضح الفرق ويؤكده، فصل المخيرة، فإنها إن كانت راكبة الدابة تستوي الدابة وساقتها بطل خيارها، وإن كانت راكبة السفينة ففرق السفينة بها لم يبطل خيارها، وهكذا الجواب في جميع ما يتوقف بالمجلس، وينبغي للمصلي فيها أن يتوجه القبلة كيف ما دارت السفينة سواء كان عند افتتاح الصلاة أو في خلال الصلاة لأنه التوجه إليها فرض عند القدرة وهذا قادر فيتوجه لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 144) بخلاف راكب الدابة؛ لأنه عاجز عن استقبال القبلة؛ لأنه لو استقبلها حيث ما سارت له الدابة انقطع سير الدابة وفات مقصود راكبها، وفي ذلك حرج عليه، فجعل معذوراً في ترك الاستقبال إليها حتى أن راكب الدابة إن كان يسير نحو القبلة، فانحرفت عن القبلة لم تجز صلاته، كذا ذكر شمس الأئمة فلا يصير مقيماً بنية الإقامة فيها؛ لأن السفينة ليست بموضع قرار، ولا حتى بيت إقامة ولكنه يعد للانتقال والبحر موضع المخاوف قال النبي عليه السلام: «من ركب البحر إذا ارتج أو قال: ألتج أي موج يراوده فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله» ، فلا يكون هذا أقل حالاً من الذي ينوي الإقامة في المفازة وهناك لا يصير مقيماً فها هنا أولى، وكذلك صاحب السفينة، والملاح لا يصير مقيماً لأن محلته للإقامة لا تختلف بين المالك والملاح وغير ذلك.
قال شمس الأئمة والحاكم رحمهما الله في «شرحه» : وهذه المسألة شهدت لأبي حنيفة رحمه الله: فيمن ترك القيام في السفينة وصلى قاعداً تجوز صلاته، فيقول: كما لم يصر صاحب السفينة والملاح مقيماً فيها وإن أمكنه المقام فيها، فكذلك تجوز صلاة القاعد فيها وإن أمكنه القيام.
قال: إلا أن تكون السفينة تقرب من بلده أو قريبة، وأن تكون قريبة على الحد فحينئذٍ يكون مقيماً بإقامته الأصلية، فلا يجزىء أن يأتم رجل من أصل سفينة بإمام في سفينة أخرى لأن بينهما نهراً تجري فيه السفن، ولا خلاف بين أصحابنا أنه إذا كان بين الإمام والقوم نهر تجري فيه السفن لا يصح الاقتداء، إنما الاختلاف في نهر يمكن المشي في بطنه.
فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يمنع صحة الاقتداء، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يمنع صحة الاقتداء، فإن كانت السفينتان مقرونتان، فحينئذٍ يصح الاقتداء؛ لأنه ليس(2/60)
بينهما ما يمنع صحة الاقتداء، فكأنهما في سفينة واحدة؛ لأن في السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة، بخلاف ما إذا كانا على دابتين وإحدى الدابتين مربوطة بالأخرى حيث لا يصح الاقتداء؛ لأنهما لا يصيران كشيء واحد؛ لأن بينها طريق يمنع صحة الاقتداء، ألا ترى أنه لا يمكن تركيب إحدى الدابتين بالأخرى، ويمكن تركيب إحدى السفينتين بالأخرى بالخشب.
وكذلك من اقتدى على الحد بإمام في السفينة أو على العكس، فإنه ينظر إن كان بينهم طريق أو طائفة من النهر لم يجز الاقتداء، وإن كان على العكس يجوز الاقتداء لأن النهر والطريق مانع صحة الاقتداء.
هنا مسألة تركها صاحب «الكتاب» : وهو ما إذا وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت (100ب1) واقتداء الواقف على السطح لمن هو في البيت صحيح، إذا لم يكن أمام الإمام فكذلك ها هنا.
ومن خاف فوت شيء من ماله وبيعه قطع صلاته، وهذا نحوه وإن كان قائماً على الحد يصلي فانقلبت السفينة حتى خاف عليهما الغرق.
ورأى سارقاً يسرق شيئاً من متاعه أو كان نازلاً عن دابته فانقلبت الدابة فخاف عليها الضياع، أو كان راعي غنم فخاف على غنمه من السبع فإن في هذه المواضع كلها له أن يقطع الصلاة، ويسد السفينة ويتبع السارق والدابة والسبع لأن حرمة المال كحرمة النفس، قال النبي عليه السلام: «قاتل دون مالك حتى تقتل أو تقتل، فتكون من شهداء الآخرة» وفي رواية «من شهداء الجنة» وكذلك إذا خاف على نفسه من سبع أو عدو.
وكذلك إذ رأى أعمى في حرف بئر فخاف أن يقع في البئر، فيقطع الصلاة بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس فوق حرمة المال، فلما جاز القطع لأجل المال، فلأجل النفس أولى، ولأن الله تعالى نهانا عن إلقاء النفس في التهلكة وإضاعة المال.
فلو قلنا: فإنه يمضي على صلاته يؤدي إلى إهلاك النفس وإضاعة المال من غير خلف، ولو قلنا بأنه يقطع الصلاة يمكنه قضاء الصلاة ووصل إلى ماله، فالقطع أولى، فإن لم يقطع صلاته، وفعل ذلك الفعل تفسد صلاته إن احتاج إلى عمل كثير، فأما إذا لم يحتج إلى عمل كثير يبني على صلاته، لما روينا من حديث أبي برزة رضي الله عنه أنه كان يصلي في بعض المغازي، فانسل قياد الفرس من يده، فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع ناكصاً على عقبيه وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى معالجة ومشي كثير، ثم لم يفصل في «الكتاب» بين المال القليل أو الكثير.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني والسرخسي رحمه الله: وأكثر مشايخنا رحمهم الله قدروا ذلك بالدرهم، فصاعداً، وقالوا: ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله، قال الحسن رحمه الله: لعن الله الدانق ومن دنق الدانق، ولأن اسم(2/61)
المال لا يقع على الدانق بدليل أنه إذا حلف، وقال بالله مالي مال وله دون الدرهم لا يحنث في يمينه فكذلك لا يقطع الصلاة لأجله.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا قول حسن لولا ما ذكر في كتاب الحوالة والكفالة أن للطالب أن يحبس غريمه بالدانق فما فوقه، فلما جاز حبس مسلم بالدانق، فلأن يجوز قطع صلاة يمكنه قضاءها بالدوانق أولى.
قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المال مال غيره فأما إذا كان المال ماله فإنه لا يقطع الصلاة ولا فصل في ظاهر الرواية، وهو الصحيح لما بينا والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل الخامس والعشرون في صلاة الجمعة
هذا الفصل مشتمل على أنواع:
الأولفي تبيين فرضية الجمعة، وفي بيان أصل الفرض يوم الجمعة
فنقول: صلاة الجمعة فريضة بالكتاب والسنّة، وإجماع الأمة، ونوع من المعنى.
أما الكتاب قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد من الذكر المذكور في الآية هو الخطبة بإجماع أهل التفسير؛ لأنه ليس بعد الأذان ذكر الله تعالى إلا الخطبة، فالاستدلال بالآية من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر للوجوب، وإذا وجب السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة، فإن أصل الصلاة أوجب.
والثاني: أن الله تعالى أمر بترك البيع المباح بعد النداء وتحريم المباح لا يكون إلا لأمر واجب.
وأما السنّة حديث جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله عليه السلام يوم الجمعة فقال في خطبته: «أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا» إلى أن قال: «واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فريضة واجبة في حياتي وبعد مماتي إلى يوم القيامة فمن تركها عن غير عذر تهاوناً واستخفافاً وله إمام جائر أو عادل ألا فلا بارك الله له ألا فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا زكاة له ألا فلا صوم له ألا فلا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه» ، وروي عن النبي عليه السلام أيضاً أنه قال: «من ترك(2/62)
الجمعة من غير عذر ثلاثاً، فهو منافق» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من ترك أربع جمع متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره» .
وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضية الجمعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا.
وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرضٍ هو آكد وأولى منه، فدل وجوب ترك الظهر لإقامة الجمعة على أن الجمعة أوجب وأقوى وآكد من الظهر في الفرضية، هذا بيان فرضيتها.
وأما بيان أصل الفرض في هذا الوقت، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: أصل الفرض الظهر إلا أنه إذا أدى الجمعة يسقط الظهر عنه، وقال بعضهم: أصل الفرض الجمعة، وقال بعضهم: الفرض أحدهما إلا أن الجمعة أفرضهما، وقال بعضهم: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أصل الفرض في هذا الوقت هو الظهر، وقد أمر بإسقاطه بالجمعة.
وقال محمد رحمه الله: الفرض هو الجمعة وله أن يسقط الجمعة بأداء الظهر، ولمحمد رحمه الله في «النوادر» قول آخر: أن الفرض أحدهما ويتعين بفعل آخر، وقال زفر رحمه الله: الفرض هو الجمعة على اليقين، الظهر بدل عنه إذا فاتت.
وإنما قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله: إن أصل الفرض الظهر؛ لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه بنفسه، وهو إنما يتمكن من أداء الظهر بنفسه، إما ما يتمكن بأداء الجمعة، ولأنا لو جعلنا أصل الفرض الجمعة كان الظهر خلفاً عن الجمعة عند فواتها، وأربع ركعات لا تكون خلفاً عن ركعتين، ولأن الظهر كان مشروعاً في هذا الوقت قبل شروع الجمعة، لو انتسخ شرعيته إنما تنسخ معوضاً بشرعية الجمعة، وليس من ضرورة شرع الجمعة انتساخ الظهر إذا وجمع الشرع بينهما كان مستقيماً، والدليل عليه أنه شرع في حق العبد والمريض والمسافر، حتى لو أدوا الجمعة جاز وبقي الظهر مشروعاً في حقهم، حتى لو صلى الظهر يجوز، فلو كان بينهما منافاة ما اجتمعا.
وثمرة الاختلاف مع زفر تظهر في فصلين:
أحدهما: أنه إذا صلى الظهر قبل أداء الناس الجمعة في منزله لم يعتد به في قول زفر؛ لأن الفرض هو الجمعة والظهر بدل عنها، ولا صحة للبدل مع القدرة على اتحاد الأصل، وعندهما لما كانت فرضية الظهر باقية مشروعة وقع موقعه.
الفصل الثاني: أن المعذور من المريض والمسافر والعبد إذا أدى الظهر في منزله ثم(2/63)
سعى إلى الجمعة انتقض الظهر، وقال زفر: لا ينتقض؛ لأن فرضية الجمعة لم تظهر في حقه، فوقع الظهر موقع الفرض فسقط الفرض، فلا ينتقض بعد ذلك.
ولنا: أن فرضية الظهر لم تنسخ في حق المعذور، وغير المعذور أمر بإسقاط الفرض بأداء الجمعة، فإذا سعى إلى الجمعة صار ممتثلاً للأمر، فاستدعى انتقاض الظهر فإذا عرفنا هذا في غير المعذور.
نقول: إنما فارق المعذور غير المعذور في حق الترخيص على معنى أنه رخص له لذلك يترك الظهر بأداء الجمعة، فإذا لم يترخص صار هو وغير المعذور سواء، فيستدعي انتقاض الظهر في حقه كما لو حضر قبل أداء الظهر، وأدى الجمعة صار تاركاً للظهر بأداء الجمعة كغير المعذور.
وثمرة الاختلاف الذي ذكرنا مع محمد رحمه الله تظهر في مسألة أخرى، وهي أنه إذا تذكر الفجر في خلال الجمعة وهو يخاف إن اشتغل بأدائها أن تفوته الجمعة ولا تفوته الظهر، قال محمد رحمه الله: يتم الجمعة؛ لأن فرض الوقت هو الجمعة، فإذا خاف فوت فرض الوقت اشتغل به وعندهما فرضية الظهر فيه وأمر بإسقاطه بأداء الجمعة، فإذا لم يخف فوت فرض الوقت تعين مراعاة الترتيب فرضاً عليه.
وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه: إن كان الوقت بحال لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت مضى في الجمعة عند الكل؛ لأن الترتيب سقط عند ضيق الوقت وإن كان في الوقت سعة، بحيث يعلم أنه لو اشتغل بالفائتة لا تفوته الجمعة بقطع الجمعة في قولهم ويقضي الفائتة.
وإن علم أنه لو اشتغل بالفائتة تفوته لكن يمكنه أداء الظهر، فالمسألة على الخلاف على قول (101أ1) أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله يقطع الجمعة، ويصلي الفائتة ثم يصلي الظهر في آخر الوقت، وقال محمد: يمضي ويصلي في الجمعة والله أعلم.
النوع الثاني في بيان شرائط الجمعة وما يتصل من المسائل بها
فنقول: للجمعة شرائط بعضها في نفس المصلي، وبعضها في غيره، أما الشرائط التي في غير المصلي فستة:
أحدها: المصر وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: المصر ليس بشرط وكل قرية سكنها أربعون من الأحرار البالغين لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفاً تقام لها الجمعة.
حجته في ذلك: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) من غير فصل وقوله عليه السلام: «الجمعة على من سمع النداء» من غير فصل، وعن ابن عباس(2/64)
رضي الله عنهما قال: «أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة جمعة جمعت بجواثا» وجواثا قرية من قرى عامر بن القيس بالجرين.
ولنا: حديث علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» ، وروى سراقة بن مالك عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا جمعة ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، ولأن إقامة الجمعة، وهي ركعتان مقام الظهر وهي أربع ركعات أمر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى فيه جميع الشرائط التي اعتبرها الشرع، والشرع اعتبر المصر، فإن النبي عليه السلام أقامها بمدينة، ولم ينقل أنه أقامها في حوالي مدينة، وفي تسميتها جمعة دليل على أن المصر شرط فإنما تسمى جمعة؛ لأنها جامعة للجماعات حتى وجب بنداء الجماعات يوم الجمعة.
وفي قرية يسكنها أربعون رجلاً لا يتصور جمع الجماعات، فإن جماعتهم واحدة، والآية لا حجة له فيها؛ لأن المكان مضمر فيه بالإجماع حتى لا يجوز إقامة الجمعة في البوادي بالإجماع، فنحن نضمر المصر وهو يضمر القرية، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قلنا: جواثي بلدة كبيرة وتسميتها قرية لا ينافي كونها بلدة؛ لأن اسم القرية ينطلق على البلدة قال الله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلاَ نَصِرَ لَهُمْ} (محمد: 13) والمراد مكة وهي بلدة.
وإذا ثبت أن المصر شرط لإقامة الجمعة نحتاج إلى بيان حد المصر الذي تقام فيه الجمعة، وقد تكلموا فيه على أقوال: روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المصر الجامع ما يجتمع فيه مرافق أهلها ديناً ودنياً، وعن أبي يوسف رحمه الله ثلاث روايات، في رواية قال: كل موضع فيه منبر وقاضي ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر جامع، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه كل موضع أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك فهو مصر جامع، وفي رواية أخرى قال: كل موضع يسكن فيه عشرة آلاف نفر، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: المصر الجامع ما يعيش فيه كل صانع لصنعته، ولا يحتاج إلى العود من صنعة إلى صنعة، وعن محمد رحمه الله أنه قال: كل موضع مصر للإمام فهو مصر حتى أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائباً لإقامة الحدود فيهم وقاضياً يقضي بينهم صار ذلك الموضع مصراً، وإذا عزله ودعاه إلى نفسه عادت قرية كما كانت، وقال بعض العلماء: كل مصر بلغت مساحته مصراً جمع فيه رسول الله عليه السلام، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: كل موضع كان لأهله من القوة والشوكة، ما لو توجه إليهم(2/65)
عدو دفعوه عن نفسهم، فهو مصر جامع.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: المصر الجامع ما يعده الناس مصراً عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى أو سمرقند، فعلى هذا القول لا يجوز إقامة الجمعة بكرمينة وكثانية.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وظاهر المذهب أن المصر الجامع أن يكون فيه جماعات الناس، وجامع وأسواق للتجارات وسلطان أو قاضي يقيم الحدود، وينفذ الأحكام، ويكون فيه مفتي إذا لم يكن الوالي أو السلطان مفتياً، ثم في كل موضع وقع الشك في كونه مصر أو أقام أهل ذلك الموضع الجمعة بشرائطها، فينبغي لأهل ذلك الموضع أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات وينوون بها الظهر احتياطاً، حتى أنه لو لم تقع الجمعة موقعها يخرجون عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر بيقين.
ولا بأس بالجمعة في موضعين أو ثلاثة من مصر واحد عند محمد، وأجاز أبو يوسف في موضعين دون الثلاث، وفي رواية «الأمالي» : أجاز في موضعين إذا كان مصراً له جانبان بينهما نهر عظيم حتى يصير في حكم مصرين كبغداد، فإن لم يكن المصر بهذه الصفة فالجمعة لمن سبق منهم بأدائها فإن فعلوا معاً، فسدت صلاتهم جميعاً وكما يجوز إقامة الجمعة في المصر يجوز إقامتها خارج المصر قريباً منه نحو مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد أبداً يكون في فناء المصر، وفناء المصر ألحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل المصر وأداء الجمعة من حوائج أهل المصر، فيلحق بالمصر في أداء الجمعة، هكذا ذكر المسألة في «شرح القدوري» .
وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : شرط الفناء نصاً، فقال: ويجوز إقامة الجمعة خارج المصر إذا كان في فناء المصر، وفي «نوادر الصلاة» لو أن الأمير خرج للاستسقاء يدعو، وخرح معه ناس كثير فحضرت الجمعة فصلى بهم الجمعة في الجبانة على قدر غلوة من المصر أجزأهم، لأنه فناء المصر ولفناء المصر حكم المصر.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: اختلف الناس في تقدير فناء المصر فقدرة محمد في «النوادر» بالغلوة وفارسيته (يك تيربرتاو) ، وقدره بعض المشايخ بفرسخين، وبعضهم بثلاثة أميال كل ميل ثلث فرسخ.
وبعضهم بمنتهى حد الصوت، إذا صاح في المصر إنسان أو أذن مؤذنهم لمنتهى صوته فناء المصر، فيجوز أداء الجمعة فيه، وما وراءه ليس فناء المصر، فلا يجوز أداء الجمعة فيه، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: قدر الفناء بالغلوة اتباعاً لما ذكره محمد في «النوادر» ، وقدر أبو يوسف رحمه الله الفناء بميل أو ميلين، فإنه روي عنه: لو أن إماماً خرج من المصر مع أهل المصر لحاجة له قدر ميل أو ميلين، فحضرته الجمعة فصلى بهم الجمعة أجزأه، وهذا بخلاف ما لو خرج المسافر عن عمران المصر حيث يقصر الصلاة؛ لأن فناء المصر إنما يلحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل(2/66)
المصر، وقصر الصلاة ليس من حوائج أهل المصر، فلا يلحق الفناء بالمصر في حق هذا الحكم.
وذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن على قول أبي بكر لا تجوز الجمعة خارج المصر إذا كان ذلك الموضع منقطعاً عن العمران، وكان الفقيه أبو الليث يقول: بالجواز في فناء المصر، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قال بعضهم: يجب أن يكون على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر وعلى قول محمد: لا يجوز بناءً على اختلافهم في الجمعة بمنى ويجوز أن يكون هذا بلا خلاف بينهم من قبل أن محمداً إنما لم يجوز الجمعة بمنى؛ لأنه قرية ليس له حكم المصر فأما لفناء المصر حكم المصر.
وقيل: إنما يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر إذا لم يكن بينه مزارع، فعلى قول هذا القائل لا يجوز إقامة الجمعة ببخارى في مصلى العيد، وقد وقعت هذه المسألة مرة وأفتى بعض المفتين بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب فإن أحداً من الأئمة لم يقل بعدم جواز صلاة العيد في مصلى العيد ببخارى لا من المتقدمين، ولا من المتأخرين وكما أن المصر أو فنائه شرط جواز الجمعة، فهو شرط جواز صلاة العيد ويجوز إقامة الجمعة بمنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: لا جمعة بمنى أجمع العلماء على أنه لا جمعة بعرفات لأنه مفازة وليست بمصر، وليست من أفنية المصر؛ لأن بينها وبين مكة أربع فراسخ، وإنما تقام الجمعة إما في المصر أو في فناء المصر، وأما بمنى محمد رحمه الله يقول: فإنه ليس بمصر والمصر شرط، وهما يقولان: إن منى مصر في أيام الموسم، فإن لها أبنية.
قيل: إنه ثلاث سكك وتنقل إليها الأسواق في أيام الموسم، فيصير مصراً، أكثر ما في الباب أنه لا يبقى مصراً بعد ذلك لكن بناؤه مصراً ليس بشرط بخلاف عرفات، فإنه ليس بمصر فإنه لا أبنية له، ومن المشايخ من قال: إن عندهما إنما يجوز أداء الجمعة بمنى؛ لأنها من أفنية مكة وهذا فاسد، إلا على قول من يقدر فناء المصر بفرسخين؛ لأن بينهما فرسخان.
وقال محمد رحمه الله (101ب1) في «الأصل» : إذا نوى الإقامة بمكة وبمنى خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً، فعلم أنهما موضعان إنما الصحيح ما قلنا: لا يصلي بمنى صلاة العيد بالاتفاق، لا لعدم المصرية بل لاشتغال الحاج بأعمال المناسك في ذلك اليوم، فوضع عنهم صلاة العيد بخلاف الجمعة؛ لأنه لا يتفق كل سنة في يوم الجمعة في إقامة الرمي بمنى بخلاف صلاة العيد؛ لأنها لو شرعت كانت في كل سنة، وإنما تجوز الجمعة بمنى عندهما إذا كان فيها أمير مكة أو أمير الحجاز أو الخليفة، أو أمير الموسم فإن استعمل على مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يستعمل على مكة إنما استعمل على الموسم لا غير، فإن كان من أهل مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يكن من أهل مكة لا يقيم الجمعة عندهما أيضاً.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله قال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله: إذا(2/67)
جمع أمير الموسم بهم وهو مسافر بمكة قال يجزئه، وإن صلى بهم بمنى لا يجزئه ليس له حق إقامة الجمعة، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يذهب شهود الجمعة، إلا على من يسكن المصر والأرباض المتصلة بالمصر حتى لا تجب على أهل السواد أن يشهدوا الجمعة سواء كان السواد قريباً من المصر أو بعيداً عنه.
وعن محمد رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال، فعليه الجمعة وإن كان أكثر من ذلك، فلا جمعة عليه وعنه في رواية «نوادر» أخرى أنه إذا كان بينه وبين أهل المصر أقل من فرسخين فعليه أن يشهد الجمعة، وإن كان أكثر من ذلك فلا، وعنه في رواية أخرى أن في كل موضع لو خرح الإمام إلى ذلك الموضع وأقام الجمعة فيه جاز جمعته، وعد مجمعاً في المصر فعلى أهل ذلك الموضع الرواح إلى الجمعة، وكل موضع لو خرج الإمام إليه وجمع فيه لم يعد مجمعاً في المصر، فلا جمعة عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر فرسخ أو فرسخان، فعليه أن يشهد الجمعة، وعنه أيضاً: أنه إذا كان بحيث لو غدا وشهد الجمعة أمكنه الرجوع إلى منزله قبل أن يؤتيه الليل، لزمه أن يشهد الجمعة، وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية.
وجه ما ذكر في هذه ظاهر الرواية أن النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا لا يأمرون أهل السواد القريبة بالحضور إلى الجمعة؛ إذ لو أمروا لاشتهر واستفاض، والمعنى فيه أن المسافر الذي في المصر لا يجب عليه حضور الجمعة لاشتغاله بأمور السفر نفياً للحرج، والحرج الذي يلحق القروي بدخول المصر أكبر من حرج المسافر فيسقط عن القروي بطريق الأولى.
وروى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أن من كان مقيماً في عمران المصر وأطرافه، وليس بين مكانه وبين المصر فرجة فعليه الجمعة، ولو كان بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة من المزارع والمراعي لا جمعة على أهل ذلك الموضع، وإن كان النداء يبلغهم، والغلوة والميل والأميال ليست بشيء. هذا جملة ما روى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، وبه كان يفتي شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان يقول: لا جمعة على أهل القلع ببخارى.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: لو أن أهل مدينة حضرهم جند من أهل الشرك، فأحاطوا بالمدينة، فخرجوا إليهم من مدينتهم وعسكروا على ميلين أو ثلاثة لا يريدون سفراً فعليهم الجمعة في عسكرهم، وكأنه أعط للمكان الذي نزلوا فيه وهو على قدر ميلين أو ثلاثة حكم المصر.
والشرط الثاني: السلطان، أو نائبه من الأمير أو القاضي، هذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: السلطان ليس بشرط، حجته في ذلك ما روي: أن عثمان رضي الله عنه حين كان محصوراً صلى علي رضي الله عنه الجمعة بالناس ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان رضي الله عنه؛ ولأنها مكتوبة كسائر الصلوات، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوت.(2/68)
ولنا: قوله عليه السلام: «أربع إلى الولاة» وذكر من جملتها «الجمعة والعيدين» ، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «من تركها استخفافاً بها والإمام عادل أو جائر» ألحق الوعيد الشديد بترك الجمعة بشرط أن يكون له إمام، والمراد به السلطان؛ لأنه وصفه بالعدل أو الجور، وذا إنما يتحقق من السلطان، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص والنص ورد بإقامتها من السلطان؛ ولأن الناس يتركون الجماعة هذا اليوم لإقامة الجمعة.
فلو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع، فيقيمونها لفرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مفوضاً إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة والاحتجاج بحديث علي رضي الله عنه لا يصح لأنه يحتمل أنه فعل ذلك بإذن عثمان رضي الله عنه، فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال أو إن فعل بغير إذنه وإنما يفعل أن الناس اجتمعوا عليه وعند ذلك يجوز لما نبين إن شاء الله تعالى.
وقوله: بأن هذه صلاة مكتوبة كسائر الصلوات، قلنا: نعم هذه مكتوبة إما ليست كسائر الصلوات فإنه يشترط لها من الشرائط ما لا يشترط كسائر الصلوات، بل هي صلاة عرف لها من النص فتعرف شرائطها من النص، لا في سائر المكتوبات.
وإذا ثبت أن السلطان شرط يتفرع على هذا مسائل:
أحدها: ما ذكر في «الأصل» : أن رجلاً من عرض الناس لو صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب شرطة أو القاضي لا يجزئهم لفوات شرطها فقد جمع في هذه المسألة بين الإمام وخليفته وصاحب شرطة والقاضي، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة بناءً على عرف زمانهم، فإن في زمنهم صاحب شرطة والقاضي كل واحد منهما كان مولياً أمر السياسة وإقامة الجمعة، أما في زماننا القاضي وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.
وفي «نوادر بشر» أبي يوسف رحمهما الله: أن لصاحب الشرطة أن يصلي الجمعة بالقوم وإن لم يخرج الأمير، ولا يصلي بهم القاضي إذا لم يخرج الأمير، وعن أبي يوسف أيضاً أنه قال: أما القوم، فالقاضي يصلي بهم الجمعة؛ لأن الخلفاء يأمرون القضاة أن يصلوا بالناس الجمعة.
قيل: أراد بهذا قاضي القضاة الذي يشهد له أنه قاضي الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته، فأما في زماننا القاضي، وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.
والي مصر مات، ولم يبلغ موته الخليفة حتى مضت بهم جمع، فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرطة أو القاضي جاز؛ لأنه فوض إليهم أمر العامة، هكذا ذكر في(2/69)
«العيون» ، وهذا الجواب في حق القاضي وصاحب الشرطة بناءً على عرف زمانهم على ما بينا.
ولو اجتمعت العامة على أن يقدموا رجلاً مع قيام واحد من هؤلاء الذين ذكرنا من غير أمرهم لم يجز؛ لأنه لم يفوض إليهم أمورهم إلا إذا لم يكن ثمة قاضي ولا خليفة الميت بأن كان الكل هو الميت حينئذٍ، جاز لضرورة.
ألا ترى أن علياً رضي الله عنه صلى بالناس يوم الجمعة وعثمان رضي الله عنه محصور؛ لأن الناس اجتمعوا على علي رضي الله عنه، فقد جمع في هذه المسألة أيضاً بين القاضي وخليفة الميت، والجواب في حق القاضي بناءً على عرف زمانهم على ما ذكرنا.
إبراهيم عن محمد رحمهما الله، أنه إذا خطب الأمير ثم أحدث ولم يقدم أحداً فتقدم عامل له لم يجز، ولا يجوز أن يقدم أحداً إلا أحد هؤلاء الثلاثة صاحب الشرطة أو القاضي أو الذي ولاه القاضي.
والحاصل: أن حق التقدم في إقامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق بنفسه، في كل الأمصار، فيقيمها غيره بنيابته، والسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ويريد به قاضي القضاة، ثم الذي ولاه قاضي القضاة، وتجوز صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له من الخليفة إذا كانت سيرته في رعيته حسنه، لأمر الحكم فيما بين رعيته بحكم الولاية؛ لأن بهذه ثبتت السلطنة، فيتحقق الشرط.
الشرط الثالث: الوقت يعني به وقت الظهر، حتى لا يجوز تقديمها على الزوال ولا بعد خروج الوقت، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام لما بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له: «إذا مالت الشمس، فصل بالناس الجمعة» وكتب إلى سعد بن زرارة «إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها، فازدلف إلى الله تعالى بركعتين» ، ولأن الجمعة أقيمت مقام الظهر، فيشترط أداؤها في وقت الظهر، حتى لو خرج وقت الظهر في خلال الصلاة تفسد الجمعة، وإن خرج بعد ما قعد قدر التشهد، فكذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا تفسد ولو خرج بعد السلام لا تفسد بالإجماع، ثم إذا خرج وقت الظهر في خلال الصلاة حتى فسدت الجمعة يبقى أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وعند محمد رحمه الله: تبطل التحريمة، ولا يبقى أصل الصلاة، وهذا بناءً على أصل معروف تقدم ذكره أن للصلاة جهتان عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله الفرضية وأصل الصلاة، فإذا بطلت صفة الفرضية يبقى أصل الصلاة، وعند محمد(2/70)
رحمه الله للصلاة جهة واحدة وهو الفرضية، فإذا بطلت الفرضية بطل أصل الصلاة.
وفي «فتاوى الفضلي» : المقتدي إذا نام في صلاة الجمعة ولم ينتبه حتى خرج الوقت، فسدت صلاته؛ لأنه لو أتمها كان قضاء، وقضاء الجمعة لا يجوز، ولو انتبه بعد فراغ الإمام والوقت قائم أتمها جمعة؛ لأنه يصير مؤدياً الفرض في الوقت.
الشرط الرابع: الجماعة؛ لظاهر قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) فهذا خطاب للجماعة، ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها.
ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيما بينهم في تقدير الجماعة، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يتم بثلاثة نفر سوى الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله: في غير رواية الأصول اثنان سوى الإمام، وقال الشافعي رحمه الله: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين رجلاً من الأحرار المقيمين سوى الإمام.
حجة الشافعي: ما روي أن أول جمعة أقيمت في الإسلام كانوا أربعين رجلاً، وكان رسول الله عليه السلام ينتظر اجتماع الأربعين فلو كانت تنعقد بدون الأربعين لكان لا ينتظر اجتماع الأربعين، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر أمر عرف بخلاف القياس، فلا يقوم مقامها إلا بالشرائط التي ورد بها النص، ولم ينقل أن النبي عليه السلام أقام الجمعة بثلاثة نفر من الرجال وقد نقل أنه أقامها بأكثر من ثلاثة نفر فقدرنا الأكثر بأربعين بما روينا من الحديث.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: للمثنى حكم الجماعة حقيقة وحكماً، أما حقيقة، فلأن الجماعة مشتقة من الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى وأما حكماً، فلأن الجماعة الإمام يتقدم عليهما، وذلك من أحكام الجماعة وربما كان يقول إذا كان سوى الإمام إثنان يكون مع الإمام ثلاثة، والثلاث جمع متفق عليه.
ولنا: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) الآية، فالمنادي كأنه خارج عن خطاب الشرع كذلك الذاكر، وهو الإمام خارج عن خطاب السعي أيضاً، فيكون قوله: «فاسعوا» خطاب جمع الذين يسمعون النداء، فتناول هذا الخطاب كل جمع، وأقل الجمع المتفق عليه الثلاثة، فإذا أجاب المنادي ثلاثة من الناس وسعوا إلى الجمعة، وأقاموها جاز لظاهر الآية، وما قاله الشافعي: باطل لما روي أنه لما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) ، بقي مع رسول الله عليه السلام إثني عشر رجلاً، فصلى بهم الجمعة وقد روى الزهري: أن النبي عليه السلام بعث مصعب بن عمير أميراً إلى المدينة ثم كتب إليه أن أقم بهم الجمعة، فأقام بهم الجمعة وكانوا اثني عشر نفساً ولا حجة له في الحديث الذي روي إذ فيه أنه أقام(2/71)
بأربعين وما دونه مسكوتٌ عنه على أنه روي أنهم كانوا أقل من أربعين.
وقول أبي يوسف رحمه الله: إن للمثنى حكم الجماعة فاسد؛ لأن ما دون الثلاث ليس بجمع مطلق بدليل أن أهل اللغة، فصلوا بين التثنية والجمع، والجمع والشرط هو الجماعة المطلقة، وقوله الثاني أنه إذا كان مع الإمام إثنان كان مع الإمام جماعة فاسد؛ لأن الإمام شرط للجواز سوى الجماعة، فإن كل واحد منهما شرط على حدة، ولا يعتبر الإمام مع القوم في الجماعة بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الإمام في سائر الصلوات ليس بشرط.
وكذلك الجماعة، فأمكننا أن نعد الإمام من القوم ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة، حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان، ويتم بالعبيد والمسافرين؛ لأنهم يصلحون للإمامة، ولا شك أن درجة الإمامة أعلى من درجة الاقتداء، فإذا لم يشترط الحرية والإقامة في الإمامة الذي هو أعلى، فلأن لا يشترط في الاقتداء الذي هو أدنى وفي كونه مؤتماً كان ذلك أولى وأحرى وهذا مذهبنا.
وقال زفر رحمه الله: لا تجوز إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة لأنه لا تفترض عليهما الجمعة وإنما تصح منهما الأداء بطريق التبعية، فلا يجوز أن يكون أصيلاً بالإمامة وصار كالمرأة والصبي.
ولنا: أن العبد والمسافر صلحاً إمامين في سائر الصلوات فكذا في الجمعة وامتناع الفرضية ليس لعدم الأهلية، بل لعذر رخص الشرع الترك لأجله على ما مر، فإذا حضر وأدى وقع عن الفرض، وبه فارق الصبي والمرأة فإن الصبي ليس بأهل لأداء الفرض وكذا المرأة ليست بأهل للأداء بهذا الفرض؛ لأن مبناها على الاستتار، وفيما بني على الاستتار المرأة لم تؤهل، فإذا ظهر الكلام في جواز إمامتها، ففي انعقاد الجمعة باقتدائهما يكون أظهر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام أقام الجمعة بمكة، وهو مسافر حتى قال: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر» .
ومما يتصل بهذا الشرط من المسائل
ما ذكر في «الجامع الصغير» : فقال: إذا نفر الناس بعدما خطب الإمام فهذا على وجهين: إما أن ينفروا قبل الشروع في الصلاة أو بعد الشرع فيها.
فإن نفروا قبل الشروع فيها إن نفر الكل فالإمام يصلي بهم الظهر؛ لأن الجماعة شرط ولم تبق الجماعة وقت افتتاح الصلاة وإن نفر البعض إن كان الباقي سوى الإمام ثلاثة صلى الجمعة عندنا؛ خلافاً للشافعي؛ وإن كان الباقي اثنان سوى الإمام صلى الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» :(2/72)
أنه يصلي الجمعة؛ لأنا نجعل من ذهب من القوم كأنه لم يحضر من الابتداء غير هؤلاء كان الجواب كما قلنا، فهنا كذلك، وإن لم يبق مع الإمام إلا عبيد ومسافرون صلى بهم الجمعة عند علمائنا رحمهم الله على ما مر.
وإن نفروا بعد الشروع في الصلاة إن صلى الإمام من الجمعة ركعة أتم الجمعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر يصلي الظهر، وإن لم يقيد الركعة بالسجدة حتى نفروا صلى الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يتم الجمعة.
فالأصل عند زفر: أن الجماعة شرط من أول الجمعة إلى آخرها كالطهارة والوقت، وهو القياس؛ لأن شرط الشيء يعتبر من أوله إلى آخره، وإنه ليس بصحيح، لأن شرط الشيء ما في وسع الإنسان، وإمكانه وليس في وسع الإمام وإمكانه إبقاء الجمع مع نفسه في جميع الصلاة، فلا يشترط ذلك.
والأصل عندهما: أن الجماعة شرط وقت الشروع في الصلاة؛ لأن الجماعة إذا وجدت حالة الشروع تنعقد التحريمة للجمعة بوصف الصحة، فجاز أن يتمها جمعة كما إذا نفروا بعدما قيد الركعة بالسجدة، وليس كما إذا نفروا قبل الشروع؛ لأن هناك تحريمته لم تنعقد للجمعة، فكيف يتمها جمعة.
والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الجماعة شرط في ركعة تامة؛ لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، معتبره من وجه، فإنه إذا تحرم ثم قطع يلزمه القضاء، وغير معتبرة من وجه، فإنه إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركاً للركعة وإذا حلف لا يصلي، فافتتح الصلاة وقرأ وركع ثم قطع لا يحنث في يمينه، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا يتغير إلا بيقين ولا يقين إلا وأن توجد ركعة معتبرة من جميع الوجوه.
وإذا كبر الإمام للجمعة والقوم حضور لم يشرعوا معه ثم شرعوا بعد ذلك، ذكر في «الأصل» : أنهم إذا كبروا قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت الجمعة، وإلا استقبلها ولم يذكر في الأصل خلافاً، وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله جعل هذا قول محمد وذكر، وقال أبو حنيفة: إن كبر قبل أن يقرأ الإمام آية قصيرة صحت الجمعة وإلا استقبلها.
وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ الإمام ثلاث آيات قصار أو آية طويلة صحت الجمعة وإلا استقبلها، وإن كبروا قبل أن يشرع الإمام في القراءة صحت الجمعة بالاتفاق، ولو خطب والقوم حضور وشرعوا في الصلاة (102ب1) ثم أحدث القوم فخرجوا فدخل آخرون لم يسمعوا الخطبة، ودخلوا في صلاته جاز؛ لأن الخطبة والافتتاح حصل مع الجمع، ولو ظهر أن الأولون لم يكونوا على وضوء فكبر الإمام ثم دخل آخرون هم على الوضوء استقبل بهم التكبير؛ لأن الشروع ما حصل مع الجمع والله أعلم.
والشرط الخامس: الخطبة حتى لو صلوا من غير خطبة أو خطب الإمام قبل الوقت لا يجوز، والأصل فيه قول الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ(2/73)
فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد منه الخطبة، فقد أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها؛ ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرفت شرعاً بخلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلا مقيداً بالخطبة، فإن النبي عليه السلام ما أقامها في عجزه من غير خطبة.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: الخطبة تقوم مقام ركعتين، ولهذا لا يجوز إلا بعد دخول وقت الجمعة، وفي حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، «إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة» دليل على أن الخطبة شطر الصلاة، وهذا ليس بصحيح بدليل أن الإمام لا يستقبل القبلة عند الخطبة، ولا يقطعها الكلام ويعتد بها إذا أداها وهو محدث أو جنب على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا ثبت أن الخطبة شرط يتفرع على هذا مسائل؛ إذا خطب الخطيب وحده جاز على قول أبي حنيفة وعلى قولهما لا يجوز، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «متفرقات الفقيه أبي جعفر» ، ورأيت في موضع آخر أن عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل روايتان.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف إذا خطب يوم الجمعة ونفر الناس عنه، ثم رجعوا صلى بهم الجمعة، ولو لم يرجعوا وجاء قوم آخرون لا يصلي بهم الجمعة إلا أن يعيد الخطبة، وفي ظاهر الرواية يصلي بهم الجمعة من غير أن يعيد الخطبة.
ولو خطب والقوم حضور إلا أنهم محدثون، أو كانوا جنباً فذهبوا وتوضؤوا ثم رجعوا وصلى بهم الجمعة جاز، ولو خطب وهناك رجال من بعيد لم يسمعوا الخطبة جاز، ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال.
وروى بشر عن أبي يوسف: أنه إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه إلا أن يكون ذكر الله في ذلك العربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزىء في الخطبة ذكر الله، وما زاد فهو فضل.
قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف قوله المشهور، وإذا خطب الإمام في الجمعة قبل الزوال وصلى بعد الزوال لا يجوز، فإنه شرعت الخطبة شرطاً للجواز، والشرائط تكون مقدمة على المشروط إلا أنها شرط بمنزلة الركعتين وهو الشفع الثاني، وكما لا يجوز إقامة الشفع الثاني قبل الخطبة فكذا الخطبة، ولو خطب صبي يوم الجمعة وله منشور الوالي، وصلى بالناس بالغ جاز.
وفي «فتاوى خوارزم» : قال محمد رحمه الله: ويخطب الإمام قائماً يوم الجمعة؛ لما روي أن رجلاً سأل ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً أو قاعداً، قالا: أليس يتلو قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) كان رسول الله عليه السلام يخطب قائماً حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة، وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والذي روي أن عثمان(2/74)
رضي الله عنه كان يخطب قاعداً، إنما فعل ذلك لمرض أو لكبر سن في آخر عمره، وفي حديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام كان يخطب قائماً خطبة واحدة فلما أسن وكبر جعلها خطبتين وجلس بينهما جلسة» ويستقبل القوم بوجهه مستدبراً القبلة، به جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
ثم السنّة أن يخطب خطبتين ويجلس جلسة خفيفة بينهما يحمد الله تعالى في الأولى، ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام، ويعظ الناس ويذكرهم، وفي الثانية يفعل كذلك إلا أنه يدعو مكان الوعظ، كذا جرى التوارث.
قال شمس الأئمة السرخسي في تقدير الجلسة بين الخطبتين: إنه إذا تمكن في موضع جلوسه، واستقر كل عضو منه في موضعه قام من غير مكث ولبث، وكان ابن أبي ليلى يقول: إذا مس الأرض موضع جلوسه أدنى مسه قام إلى الخطبة الأخرى.
وينبغي أن تكون الخطبة الثانية ما يخطب بها الخطباء في بلدنا اليوم: الحمد لله نحمده ونستعينه لا يبدل هذا بحال ولا يغيره، وله أن يبدل الأولى ويغيرها، فقد صح أن النبي عليه السلام كان لا يترك هذه الخطبة بحال، ولو خطب خطبة واحدة قائماً أو قاعداً أو خطب خطبتين قاعداً أو إحداهما قائماً، والأخرى قاعداً أجزأه إلا أنه يصير مسيئاً إن فعل ذلك من غير عذر.
وكذلك إذا خطب متكئاً على عصا أو على قوس جاز، إلا أنه يكره، لأنه خلاف السنّة وإذ خطب مستقبل القبلة مولياً ظهره إلى الناس جاز، ولكن يكره؛ لأنه خلاف السنّة، ويقرأ في خطبته سورة من القرآن أو آية، فالأخبار قد توافرت أن النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن في خطبته، وأن خطبته لا تخلوا عن سورة أو آي من القرآن، روي أنه قرأ في خطبته: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281) وروي أنه قرأ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وروي أنه قرأ: {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وروي أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) .
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يقول: يستحب للإمام أن يقرأ في كل جمعة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 30) الآية.
إلا أنه إذا أراد أن يقرأ سورة، فإنه يتعوذ في أولها ويسمي وإن قرأ آية من القرآن اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يتعوذ ويسمي وأكثرهم قالوا: يتعوذ ولا يسمي، ولهذا تعارف الخطباء في زماننا ترك التسمية احتياطاً، والأمان بالتعوذ على كل حال يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقد يسمون وقد لا يسمون، وأصل الاختلاف في القراءة في غير الخطبة إذا أراد أن يقرأ سورة يتعوذ ويسمي، وإذا أراد أن(2/75)
يقرأ آية هل يسمي؟ فعلى الاختلاف.
وإذا قرأ الإمام على المنبر آية السجدة سجدها، وسجد معه من سمعها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ينزل من المنبر ويسجد على الأرض، ثم قال رحمه الله: قال مشايخنا: إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة لا يسجد لها؛ لأنه إذا خر للسجود كبر المكبرون، فيظن الناس أنه للركوع فيفتننون، فيكون تركها أولى ولا يطول الخطبة، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: طولوا الصلاة وقصروا الخطبة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة مئينة في فقه الرجل.
قال القدوري في «كتابه» : ويكون قدر الخطبتين مقدار سورة من طوال المفصل ويستقبل الإمام بوجههم حالة الخطبة؛ لأن الخطيب يعظهم بالخطبة ويخاطبهم فالإعراض عنهم يكون تهاوناً وجفاءً.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من كان أمام الإمام استقبله بوجهه، ومن كان عن يمين الإمام أو عن يساره انحرف إلى الإمام، فقد صح أن رسول الله عليه السلام كان إذا خطب استقبله أصحابه، فمن كان أمامه أقبل بوجهه إليه ومن كان عن يمينه أو عن يساره انحرف إليه، قال شمس الأئمة الحلواني السرخسي: والرسم في زماننا استقبال القوم القبلة، وترك استقبالهم الخطيب ما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعدما فرغ الخطيب من الخطبة، لكثرة الزحام، قال: وهذا أحسن.
ويجزىء في الخطبة قليل الذكر، نحو قوله الحمد لله، ونحو قوله: لا إله إلا الله، ونحو قوله: سبحان الله، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إلا إذا كان كلاماً به يسمى خطبة عادة، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من خطبتين الشافعي يحتج بالتوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، والمتوارث كالمتواتر.
وأبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، قالا: بأن الشرط هو الخطبة والتكبيرة الواحدة لا تسمى خطبة، ولا يقال لقائلها خطيباً عرفاً وعادة، وإن كانت خطبة حقيقة، فكانت خطبة من وجه دون وجه، وقع الشك في جواز الجمعة، فلا يحكم بالجواز.
وأبو حنيفة رحمه الله يحتج بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) (103أ1) أمر بمطلق الذكر، فمن قيده فقد نسخ المطلق، وعن رسول الله عليه السلام أنه كتب إلى مصعب بن عمير «إذا مالت الشمس من اليوم الذي تتجهز اليهود لسبتها، فاجمع من قبلك من المسلمين، وذكرهم بالله» من غير فصل بين ذكر وذكر.
وعن عثمان رضي الله عنه: أنه لما صعد المنبر في أول جمعة ولي قال: الحمد لله فأرتج عليه، فقال: «إن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المكان حقه، ألا(2/76)
وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي الخطب من بعد الله أكبر ما شاء فعل» ونزل، وصلى معه خيار الصحابة من غير نكير منكر ومراده من قوله: وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وأنا لم أكن قوالاً مثلهم فأنا على الخير دون الشر فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، ثم قوله: الحمد لله، كلمة وجيزة تحتها معاني جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة، فالمتكلم بقوله: الحمد لله كالذاكر بجملة ذلك، فيكون ذلك منه خطبة لكنها وجيزة. وقصر الخطبة مندوب إليه على ما مر.
وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: عن أستاذه الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله كان يقول: التسبيحة الواحدة والتكبيرة الواحدة في مثل هذا المكان، في مثل هذه الحالة من مثل هذا الخطيب خطبة، وإن كانت لا تكون خطبة من غيره؛ لأن المكان أعد للخطبة والوقت وقت خطبة والخطيب هيأ نفسه لذلك، فإذا جاء بالذكر وإن قل يكون خطبة ولا يبعد أن يختلف الكلام باختلاف المحل.
ألا ترى أن من اعتاد التكلم بنعم في خلال الكلام كان نعم منه في خلال الكلام كفواً، وهدراً، وإذا قال له غيره: لي عليك كذا وكذا، فقال: نعم كان ذلك منه إقراراً ملزماً للمال، واختلف الكلام لاختلاف المحل كذا هنا.
وقال الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : إن هذه المسألة، فرع مسألة أخرى: أن أبا حنيفة رحمه الله يعتبر في شروط جواز الصلاة أدناها حتى قال: لو حنى ظهره للركوع ولم يعتدل جاز، وإذا سجد بأنفه دون جبهته وإن رفع رأسه بين السجدتين أدنى الرفع جاز ووقع الفصل.
وإن قرأ في صلاته آية قصيرة جاز عنده، فجعل هذا أصلاً من أصول أبي حنيفة وخرج المسائل عليه، وعد هذه المسألة من جملتها، وقاس الخطبة بالصلاة بأدنى الأذكار والأركان، فالخطبة أولى.
وعن أبي يوسف رحمه الله أن الإمام إذا عطس على المنبر، وقال: الحمد لله، ثم نزل وصلى بالناس جازت صلاته، وكان حمده خطبة، ثم رجع، وقال: لا يكون خطبة، ومن المشايخ من قال: إذا عطس على المنبر وحمد الله تعالى، إذا نوى به الخطبة كان خطبة، وإذا نوى حمد العاطس لا يكون خطبة، وكذا فيما إذا أتى بتسبيحة إنما تجزئه عن الخطبة إذا نوى به الخطبة.
وهو نظير من حمد الله تعالى عند الذبح أجزأه عن الذبح إذا نوى به التسمية، وإن لم ينو به التسمية لا يجزئه، ولو خطب وهو جنب أو محدث ثم اغتسل أو توضأ وصلى بهم الجمعة أجزأه وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله بناءً على أن عند الشافعي الخطبة تقوم مقام ركعتين من الصلاة، وعندنا ليس كذلك بدليل ما ذكرنا من الأحكام.(2/77)
والمعنى في المسألة: أن الخطبة ذكر الله تعالى، والجنب والمحدث لا يمنعان عن ذكر الله تعالى جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان لا تحجره الجنابة عن شيء إلا عن قراءة القرآن» ، إلا أنه لو تعمد ذلك يصير مسيئاً لدخوله المسجد من غير طهارة، ولأن الخطبة وإن لم تكن صلاة حقيقة إلا أنها تشبه الصلاة، ولهذا لا تجوز الجمعة بدونها، ولو كانت صلاة حقيقة لا تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت تشبه الصلاة.h
قلنا: تكره مع الحدث والجنابة ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل تعاد الخطبة؟ وذكر في «النودار» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تعاد، والأذان جنباً يعاد ولكل واحد منها شبهاً بالصلاة إلا أن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة فإن الأذان يؤدى مستقبل القبلة والخطبة تؤدى مستدبر القبلة.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الإعادة فيهما جميعاً وإن خطب وهو طاهر، ثم أحدث وأمر رجلاً بالصلاة فإن كان الرجل المأمور قد شهد الخطبة أو بعضها أجزأه، لأنه ينشىء تحريمة الجمعة وقد وجد شرط افتتاح الجمعة في حقه وهو الخطبة؛ فيجوز، وإن لم يشهد المأمور الخطبة لا يجزئه، إلا أنه يريد أن ينشىء تحريمة الجمعة من غير شرطها، وهو الخطبة، فلا تجزئه كما إذا لم يخطب الأولى، وأراد أن يصلي بالناس الجمعة.
ولو أن الإمام الأول أحدث بعد الشروع في الجمعة، فأمر رجلاً لم يشهد الخطبة حتى يصلي بهم الجمعة يجوز؛ لأنه لا ينشىء التحريمة، بل يبني على صلاة الإمام والخطبة شرط افتتاح الجمعة، لا شرط البناء.
فإن قيل: ما ذكرتم من العذر ليس بصحيح، بدليل أن الثاني لو أفسد صلاته ثم افتتح بهم أجزأه، وهو مفتتح في هذه الحالة.
قلنا: نعم ولكن لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة للأول التحق بمن شهد الخطبة حكماً، فهلذا أجاز له الافتتاح بعد الإفساد.
إذا خطب الإمام يوم الجمعة ثم قدم أمير آخر إن صلى القادم بخطبة الأول صلى أربعاً، لأن الخطبة شرط افتتاح الجمعة، وإنه غير موجود في حق القادم وإن خطب خطبة جديدة صلى ركعتين وإن صلى الأول الجمعة بالناس، فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم؛ لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني، وإن علم بقدوم الثاني لا يجزئهم؛ إلا أن يكون القادم أمر الأول بإقامتها، فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يستجمع شرائط الجمعة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وقد قيل: لا يجزئهم؛ لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم الخطبة يصح أمره الأول بها.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إمام خطب الناس يوم الجمعة ثم قدم عليه أمير آخر مكانه بعدما فرغ من الخطبة، فأمر هذا القادم رجلاً ممن شهد الخطبة فصلى بالناس(2/78)
الجمعة يجزئهم من قبل أن خطبة الأول قد انتقضت حين عزل، ولو أن القادم شهد الخطبة ولم يعزل الأول، ولكنه أمر رجلاً أن يصلي الجمعة بالناس، فصلى جاز؛ لأنه لما شهد الخطبة، فكأنه خطب بنفسه، ولو أن القادم شهد خطبة الأول، وسكت عنه حتى صلى بالناس، وهو يعلم بقدومه فصلاته جائزة؛ لأنه على ولايته لم يظهر العزل.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: في الإمام الذي له حق إقامة الجمعة إذا عزل وصلى بالناس الجمعة قبل أن يأته الكتاب بعزله أي: قبل أن يعلم بعزله جاز وإن صلى بعدما علم بعزله لا يجوز، وإن صلى صاحب شرطة جاز؛ لأن عمالهم على حالهم بعد العزل، وإذا افتتح الإمام الجمعة ثم حضر والي آخر يمضي على صلاته؛ لأن افتتاحه قد صح فصار كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه، إن حجر عليه قبل الشروع في الصلاة عمل حجره؛ وإن حجر عليه بعد الشروع لا يعمل حجره؛ وكذا ها هنا.
ولو أن الإمام سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة، فأمر جنباً قد شهد الخطبة حتى صلى بالناس، وأمر المأمور طاهراً قد شهد الخطبة، فصلى بهم جاز كما لو أمر الإمام الأول؛ وهذا لأن أمر الإمام الأول قد صح؛ لأنه فوض الجمعة إلى من هو من أهل الجمعة، فإن الجنب أهل للجمعة لكنه عاجز عن أدائها، لفقد الشرط وهو الطهارة، وإذا صح التفويض إلى الأول، لكونه أهلاً قام الثاني مقام الأول، فصار أمر الثاني كأمر الأول.
بخلاف ما إذا أمر الأول صبياً لو محترماً، فأمر الصبي رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز الثاني أن يصلي الجمعة؛ لأن التفويض إلى الصبي لم تصح لعدم أهلية الجمعة، وإذا لم يصح التفويض إليه لم يقم مقام الأول ليصير أمره كأمر الأول، وبخلاف ما إذا أمر الأول امرأة، فأمرت المرأة رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز لهذا الرجل أن يصلي بهم الجمعة لما ذكرنا، في حق الصبي.
وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : أن إماماً لو سبقه الحدث في الصلاة، فذهب وقدم امرأة، فإنه ينظر إن قامت مقامه فسدت صلاته، وإن قدمت رجلاً مكانها جازت صلاة الكل.
بعض مشايخنا ظنوا (103ب1) أن الاستخلاف من المرأة والصبي جائز في سائر الصلوات غير حائز في الجمعة، وليس الأمر كما ظنوا، بل الاستخلاف منها لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن تفويض الإمامة إلى الصبي، والمرأة لم تصح في سائر الصلوات، فلا يصح منها الاستخلاف، وإذا لم يصح استخلافهما جعل وجود الاستخلاف منهما وعدمه بمنزلة وجعل كأن خليفة الصبي، والمرأة تقدم بنفسه من غير استخلافهما إلا أنه لو تقدم بنفسه في سائر الصلوات يصير إماماً، ويجوز له أن يصلي بهم ولو تقدم بنفسه في الجمعة لا يصير إماماً فلا يجوز له أن يصلي الجمعة بهم؛ لأنه أقامها بغير إذن الإمام كذا ها هنا.(2/79)
الإمام إذا خطب ثم أحدث وأمر من لم يشهد الخطبة أن يصلي بالناس، وأمر ذلك الرجل من شهد الخطبة فصلى بهم ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا يجوز، وهكذا ذكر الحاكم في «المختصر» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أنه يجوز؛ لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض لكن عجز عن الأداء، لفقد شرطه وهو سماع الخطبة، فيملك التفويض إلى الغير ولو كان الثاني ذمياً ولم يعلم الإمام به، فأمر الذمي مسلماً حتى يصلي بهم فصلى لم يجز؛ لأن التفويض إلى الذمي لم يصح؛ لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يصح منه التفويض إلى المسلم.
وكذا لو أن الأول أمر مريضاً يصلي بإيماء أو أخرساً أو أمياً، فأمر هؤلاء غيرهم حتى يصلي لم يجز، وفيه فإن كان التفويض إلى هؤلاء قبل الجمعة بأيام فبرأ المريض والأخرس وتعلم الأمي، فصلى بهم الجمعة أو أمروا غيرهم جاز؛ لأن التفويض ليس بلازم، وما ليس بلازم كان لبقائه حكم الابتداء فصار كأنه فوض إليهم للحال، وهم في الحال من أهل الصلاة، فإن كان الإمام دخل في الصلاة ثم أحدث، فقدم ذمياً وقدم الذمي غيره لا يجوز، فإن أسلم الذمي بعدما قدمه إن خطب بهم وصلى الجمعة من الابتداء أو أمر غيره بأن يخطب ويصلي بهم الجمعة، بعدما أسلم جاز، وإن بنى على تلك الصلاة لم يجز لما قلنا.
وإذا أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة فلم يأمر أحداً فتقدم صاحب شرطة أو القاضي أو أمر رجلاً قد شهد الخطبة، فتقدم وصلى بهم الجمعة أجزأهم، واختلفت عبارة المشايخ في علة المسألة.
بعضهم قالوا: إقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرطة، ما هو أمور العامة، فينزلا فيها منزلة الإمام في الإمامة بأنفسهما وبالاستخلاف.
وبعضهم قالوا: القاضي وصاحب الشرطة خلفاً للإمام فيما هو من السياسة والديانة، وإقامة الجمعة وتفويضهما إلى غيرهما من الديانة، فقاما فيهما مقام الإمام وقد مر شيء من ذلك في أول الفصل.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في إمام خطب ونزل وافتتح التطوع ركعتين خفيفتين، وأتمهما أو أفسدهما أو شرع في الجمعة ثم علم أن عليه صلاة الغداة، فقضاها فإني آمره بإعادة الخطبة، وإن لم يعدها أجزأه، وكذلك لو خطب، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ أو قعد أو فعل شبه ذلك، ثم رجع وصلى جاز.
وفي «المنتقى» : إمام خطب يوم الجمعة وأحدث، وانصرف وتوضأ، ثم جاء وصلى أجزأه؛ لأن هذا من عمل الصلاة.
ولو تغدى أو جامع فاغتسل ثم جاء استقبل الخطبة، وذكر الطحاوي رحمه الله في «شرح الأثار» ، فلا ينبغي أن يكون للإمام في صلاة الجمعة غير الخطيب؛ لأن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد من حيث المعنى؛ لأن صلاة الجمعة إنما قصرت؛ لأجل(2/80)
الخطبة؛ فلا ينبغي أن يقيمها اثنان ولا ينبغي للخطيب أن يتكلم في خطبته بما هو كلام الناس؛ إما لأن الخطبة تشبه الصلاة على ما بينا؛ ولا ينبغي للمصلي أن يتكلم في صلاته بما يشبه كلام الناس، أو لأن الخطبة كلمات منظومة شرعت قبل الصلاة، فأشبهت الأذان، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه بما يشبه كلام الناس، ولا بأس بأن يتكلم بما يشبه الأمر بالمعروف.
وقد صح أن رسول الله عليه السلام كان يخطب، فدخل سليك الغطفاني، وجلس، فقال عليه السلام: «أركعت ركعتين» فقال سليك: لا، فقال عليه السلام: «قم واركع ركعتين ثم اجلس» ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل عثمان رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: أية ساعة المجيء هذه، فقال عثمان: ما زدت حين سمعت النداء على أن توضأت، فقال عمر: «أتوضؤ أيضاً» ، ورسول الله عليه السلام كان يأمر بالاغتسال يوم الجمعة.
ولأن ما يشبه الأمر بالمعروف خطبة من حيث المعنى، وإن لم يكن خطبة من حيث النظم؛ لأن الخطبة في الحقيقة وعظ وأمر بالمعروف.
ثم فرق بين الإمام والقوم فحرم على القوم التكلم في وقت الخطبة بجميع الكلام ما يشبه بكلام الناس، وما يشبه الأمر بالمعروف، وفي حق الإمام فرق بينهما.
والفرق: أن المفروض على الإمام الخطبة والأمر بالمعروف والوعظ لا يقطعها معنى، والمفروض على القوم الاستماع والإنصات، والكلام يقطع ذلك أي كلام كان.
من العلماء من قال: السكوت على القوم كان لازماً في زمن رسول الله عليه السلام؛ لأنه كان يعرض عليهم في خطبته ما نزل عليه من القرآن فكان يلزمهم السكوت والاستجماع، ليأخذوا ويقبلوا منه ويصدقوه في ذلك، فأما اليوم، فالسكوت غير لازم لأنه قد يكون في القوم من هو أعلم من الإمام، وأورع منه، فلا يؤمر باستماع وعظ من هو دونه.
ومنهم من قال ما دام في حمد الله تعالى والثناء عليه والوعظ للناس، فعليهم أن يستمعوا، وإذا أخذ في مدح الظلمة والدعاء لهم، فلا بأس بالكلام؛ لأن مدحهم لا يخلو عن كذب فالإعراض عنه أولى، وهذا ما روي عن بعض السلف أنه كان يقلب الحصى في ذلك الوقت إنما كان يفعل ذلك، ليصير ذلك مانعاً دخول ذلك في سمعه.
وكان الطحاوي رحمه الله يقول: على القوم أن يستمعوا وينصتوا إلا أن يبلغ الخطيب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) ، فحينئذٍ يجب عليهم أن يصلوا على النبي عليه السلام ويسلموا؛ لأن الخطيب حكى عن...... الله تعالى وملائكته أنهم يصلون وحكى أمر(2/81)
الله تعالى بالصلاة عليه وامتثال أمر الله تعالى واجب، فيجب عليهم في هذه الحالة، والذي عليه عامة مشايخنا: أن على القوم أن يستمعوا الخطبة وينصتوا من أول الخطبة إلى آخرها.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) نزلت الآية في الخطبة على ما ذكرنا، والله تعالى أمر باستماع الخطبة مطلقاً فيتناول الخطبة من أولها إلى آخرها.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ذكر الله والرسول في الخطبة استمعوا، ولم يذكروا الله تعالى والثناء عليه ولم يصلوا على النبي عليه السلام، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلي الناس عليه في نفوسهم وهذا كله في حق من كان قريباً من الإمام بحيث يسمع ما يقوله الإمام.
أما من كان بعيداً من الإمام لا يسمع ما يقوله الإمام ماذا يصنع؟ لا رواية في هذا الفصل، قال محمد بن سلمة رحمه الله: يسكت، وهكذا ذكر المعلى في «كتاب الصلاة» عن أبي يوسف رحمه الله.
وروي عن نصير بن يحيى رحمه الله: أنه إذا كان بعيداً من الإمام يقرأ القرآن، وروي عنه أنه كان يحرك بسيفه ويقرأ القرآن، وروى حماد عن إبراهيم أنه قال: إني لأقرأ جزأين يوم الجمعة والإمام يخطب وجه هذا القول أن المقصود من الإنصات الاستماع لما فيها من قراءة القرآن والوعظ، فإذا لم يستمع يقرأ حتى يحصل ما هو المقصود بقراءة القرآن.
ووجه ما روي عن محمد بن سلمة حديث عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: إن أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت السامع، ولأنه مأمور بشيئين بالاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام، فقد قدر عليهما ومن بعد من الإمام فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه، ويترك ما عجز عنه.
فأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به، وهكذا روي عن أبي يوسف (104أ1) .
وروي أن الحكم بن زهير كان أبلغ في الفطنة من أبي يوسف حتى روى عن أبي يوسف أنه كان يقول: ما رأيت رجلاً أذكى ولا أفصح ولا أصبح وجهاً من الحكم بن زهير، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير، وإن الحكم كان يجلس مع أبي يوسف يوم الجمعة وكان ينظر في كتابه ويصححه بالقلم وقت الخطبة.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هنا فصل آخر اختلف فيه المشايخ أيضاً: أنه إذا لم يتكلم بلسانه، ولكنه أشار برأسه أو بيده أو بعينه نحو إن رأى منكراً من إنسان، فنها بيده أو أخبر بخبر فأشار برأسه هل يكره ذلك، أم لا؟ فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، وسوى بين الإشارة بالرأس وبين التكلم باللسان، والصحيح أنه لا بأس به، فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلّميوم الجمعة وهو(2/82)
يخطب، فرد عليه بالإشارة» ، والدليل عليه ما روي «أن أبا ذر رضي الله عنه كان جالساً إلى جنب أبي بن كعب ورسول الله عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة فقرأ في خطبته آية من القرآن، فقال أبو ذر لأبي رضي الله عنهما: متى نزلت هذه الآية؟ ولم يجبه وغمزه ليسكت» دل أن الإشارة، لا بأس بها.
قال شمس الأئمة: وهنا فصل آخر وهو أن الدنو من الإمام أولى أو التباعد عنه، قال كثير من العلماء: التباعد أولى، كيلا يسمع مدح الظلمة ودعاؤهم، والصحيح من الجواب عن مشايخنا رحمهم الله أن الدنو منه أفضل.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا تشمتوا العاطس، ولا ترد السلام يعني وقت الخطبة، ولم يذكر فيه خلافاً وروى محمد عن أبي يوسف في صلاة الأثر أنهم يردون السلام ويشمتون العاطس، ويتبين بما ذكر في صلاة الأثر أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد.
والخلاف بين أبي يوسف، ومحمد في هذا بناءً على أنه إذ لم يرد السلام في الحال بل رده بعد ما فرغ الإمام من الخطبة على قول محمد يرد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يرد، فلما كان مذهب محمد الرد بعد فراغ الإمام من الخطبة كان الاستماع والإنصات أولى؛ لأنه لو رد يفوت الإنصات والاستماع، ولو استمع لا يفوت رد السلام بل يتأخر والتأخير أولى من التفويت.
وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان لا يمكنه رد السلام ولا يشمت العاطس بعد فراغ الإمام من الخطبة، فلو رد لا يفوت الاستماع أصلاً بل يفوت البعض، ولو لم يرد يفوت الرد أصلاً وتفويت البعض دون البعض أولى من تفويت الكل، وإنما لا يمكنه رد السلام بعد الفراغ من الخطبة عند أبي يوسف؛ لأن رد السلام جواب الخطاب وجواب الخطاب ما يكون على غرار الخطاب، أما إذا تأخر يكون كلاماً مبتدءاً ولا يكون جواباً، ومحمد رحمه الله يقول: يمكنه الرد؛ لأن المجلس واحد، فيجعل الموجود في آخر المجلس كالموجود في أوله، كما في البيع.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» : أنه يرد بقلبه ولا يرد بلسانه؛ لأنه إن عجز عن رده بلسانه، فإنه لم يعجز عن رده بقلبه، يقوم الرد بالقلب مقام الرد باللسان كما قام الإيماء بالرأس في حق المريض مقام الركوع والسجود، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن العاطس هل يحمد الله؟ وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أن العاطس وقت الخطبة يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يجهر، وهذا صحيح؛ لأن ذلك لا يشغله عن الاستماع.(2/83)
وعن محمد رحمه الله: أن العاطس يحمد الله تعالى بقلبه فلا يحرك شفتيه، وإذا فرغ الإمام من الخطبة يحمد الله تعالى بلسانه، وهذا كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيبه بقلبه، وإذا فرغ من التغوط يجيبه بلسانه، فلا ينبغي لهم أن يشربوا أو يأكلو والإمام يخطب لما ذكرنا أن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد.
ثم لا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا والإمام في الصلاة فكذا إذا كان في الخطبة، وفي بعض الكتب ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة، وهو إشارة إلى ما قلنا.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يكره الكلام من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة للخطبة، وكذلك الصلاة.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا بأس بأن يتكلم قبل الخطبة وبعدها ما لم يدخل الإمام في الصلاة.
وأما الكلام عند الجلسة الخفيفة، من مشايخنا رحمهم الله من قال: بأنه على هذا الخلاف، ومنهم من قال: بلا خلاف يكره، حجتهما ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام كان إذا نزل عن المنبر أمر ببعض حوائجه، وكان يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، ولم يجعل خروجه قاطعاً للكلام.
وروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا إذا صعدا المنبر أنهما يسألان الناس عن أسعار السوق، وحوائجهم؛ ولأن التكلم بما لا إثم فيه إنما حرم لأجل الاستماع ولا استماع في باقي الحال، بخلاف الصلاة؛ لأنها تمتد إلى وقت الخطبة أو إلى وقت الشروع في الصلاة.
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول، فالأول» الحديث إلى أن قال: «فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمتعون الذكر» وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون عليهم قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18) وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ» فلأن الخطبة في معنى شطر الصلاة، فالمتكلم في الخطبة كالمتكلم في وسط الصلاة من وجه، فيكره وأما حديث رسول الله عليه السلام.
قلنا: إن رسول الله عليه السلام كان إماماً، ولا بأس للإمام أن يتكلم، ألا ترى أنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام، وجواب آخر أن نقول: يحتمل أن رسول الله(2/84)
عليه السلام فعل ذلك لعذر وضرورة، ويحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحاً في الصلاة، فيكون مباحاً في حالة الخطبة بطريق الأولى، وهو الجواب عن حديث عمر رضي الله عنه.
وإن افتتح الصلاة بعدما خرج الإمام خففها، وأتمها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أيهم الجواب في «الأصل» وفسره في «النوادر» قال: إن كان صلى ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، وإن كان نوى أربعاً عند التكبير وإن قيد الثالثة بالسجدة أضاف إليها الرابعة وسلم وخفف القراءة فيها، فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، وإن كان له ورد في القراءة ترك الورد في هذه الصورة، وإذا لم يقيد الثالثة بالسجدة، ماذا يصنع؟ لم يذكر هذا الفصل في «النوادر» ، المتأخرون في هذا على قولين، منهم من قال: يمضي فيها ويتمها أربعاً ويخفف القراءة، ومنهم من قال: يعود إلى القعدة، وكأن هذا القائل قاس هذه المسألة بمسألة باب الحدث.
وصورة تلك المسألة: إذا شرع الرجل في فريضة في المسجد، ثم أقيم لها وقد كان قام إلى الثالثة، وإن لم يقيد الثالثة بالسجدة عاد إلى التشهد وسلم، وإن قيد الثالثة بالسجدة أتمها أربعاً، ويدخل في صلاة الإمام.
والشرط السادس: الإذن العام، وهو أن تفتتح أبواب الجامع، ويؤذن للناس كافة حتى أن جماعة لو اجتمعوا في الجامع وأغلقوا الأبواب على أنفسهم وجمعوا لم يجزئهم ذلك وكذلك إذا أراد السلطان أن يجمع بحشمه في داره، فإن فتح باب الدار، وأذن للناس إذناً عاماً جازت صلاته، شهدها العامة أو لم يشهدوها، وإن لم يفتح باب الدار وأغلق الأبواب كلها، وأجلس عليها البوابين ليمنعوا الناس عن الدخول لم تجزئهم الجمعة؛ لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس، ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العام إلى السلطان لإقامة الجمعة والسلطان أيضاً يحتاج إلى العام بأن يأذن لهم إذناً عاماً حتى تجور صلاة الكل بهذا النظر من الجانبين.n
وأما الشرائط التي في المصلي: فسبعة:
أحدها: الإسلام وإنه ظاهر.
والثاني: البلوغ.
والثالث: العقل، وإنه ظاهر أيضاً؛ لأن الصبي والمجنون لا يخاطبان بشيء من العبادات.
والرابع: الإقامة؛ لأن المسافر تلحقه المشقة في دخول المصر (104ب1) وحضور الجمعة، وربما لا يجد من يحفظ رحله وينقطع عن أصحابه.
الخامس: الصحة؛ لأن المريض تلحقه المشقة أيضاً في حضور الجمعة، وانتظار الإمام.
والسادس: الحرية؛ لأن العبد مشغول بخدمة المولى، فيتضرر المولى بترك خدمته،(2/85)
وشهود الجمعة وانتظاره الإمام وأما الذكورة؛ فلأن المرأة مشغولة بخدمة الزوج، فيتضرر الزوج بترك خدمته، فلدفع الضرر والحرج أسقط الشرع الجمعة عن هؤلاء.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر أو مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» غير أن الإسلام والبلوغ والعقل شرائط الوجوب، والصحة والإقامة والحرية والذكورة شرائط الأداء، حتى أن المسافر والمملوك والمريض إذا حضروا الجمعة وأدوها جازت، وكانت فريضة؛ لأن سقوط فرض السعي منهم للضرر والحرج، فإذا تحملوها التحقوا في الأداء بغيرهم.
ومما يتصل بهذه الشروط من المسائل
روى إبراهيم عن محمد في نصراني استعمل على مصر أو استقضي، ثم أسلم ليس له أن يصلي بالناس الجمعة، ولا أن يحكم حتى يؤمر بعد إسلامه، وكذلك الصبي، ولو قال الخليفة للنصراني: إذا أسلمت تصلي بالناس الجمعة، لو قال للصبي: إذا أدركت تصلي بهم الجمعة، ثم أسلم النصراني وأدرك الصبي، وصلى بهم الجمعة جاز.
وقد ذكرنا بعد هذا عن «فتاوى أهل سمرقند» : أن الإمام إذا أمر الصبي أو النصراني على بلدة وفوض إليه أمر الجمعة، ثم أسلم النصراني، وأدرك الصبي صلى بهم الجمعة جاز، وهذه الرواية بخلاف ما ذكرنا ثمة.
وفي «النوازل» : العبد إذا ظهر على ناحية، فصلى بهم الجمعة جاز، ولكن لا تجوز الأنكحة بتزويجة كالقضاء، وليس على المقعد الجمعة بالإجماع وكذلك لا جمعة على الأعمى وإن وجد قائداً، عند أبي حنيفة، وعندهما عليه الجمعة إذا وجد قائداً.
والفرق لهما بين المقعد والأعمى: أن الأعمى قادر على السعي إلا أنه لا يهتدي، فإذا وجد قائداً فقد وجد من يهتدي به، فهو بمنزلة الصحيح إذا ضل الطريق، فأما المقعد فغير قادر عليه أصلاً.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد أنه لا جمعة على الأعمى، وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير الذي ضعف، وعجز عن السعي لا تلزمه الجمعة كالمريض، وعلى المكاتب الجمعة، وكذلك على معتق البعض إذا كان يسعى فلا جمعة على العبد المأذون، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة.
قال في «الأصل» : وللمولى أن يمنع عبده من حضور الجمعة، ولا يكره له التخلف عنها؛ لأنه لم تكتب عليه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن له المولى، أما إذا أذن له المولى، فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف، وقد تكلم الناس فيه، قال بعضهم: له أن يتخلف عنها وإذا أذن له المولى بها.(2/86)
وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنها؛ لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه يلزمه طاعته، فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : إذا أذن المولى للعبد في حضور الجمعة كان له أن يشهد الجمعة؛ لأن المنع كان حق المولى، وقد أبطل المولى حقه بالإذن، فكان له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة للعبد بإذن المولى فالحال بعد الإذن كالحال قبله.
قال في «الأصل» أيضاً: ولا ينبغي له أن يصلي الجمعة بغير إذن مولاه، قال بعض مشايخنا: إنما لا يصلي الجمعة بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك كره، أما إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك رضي له وأذن له لا يتخلف عنها.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهكذا قالوا في المرأة إذا أرادت أن تصوم تطوعاً بغير إذن زوجها إن علمت أنها لو استأذنت منه أذن لها، ولم يكره تصوم، وإن علمت أنها لو استأذنت منه يكره ولا يرضى، فلا تصوم، وذكر شمس الأئمة الحلواني السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العبد يحضر مع مولاه المسجد الجامع ليحفظ دابته على باب الجامع، هل له أن يصلي الجمعة؟ قال رحمه الله: والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد أن له أن لا يصلي الجمعة، وإن تمكن من ذلك، وأذن له السيد في أدائها، وإذا قدم المسافر المصر يوم الجمعة على عزم أن لا يخرج يوم الجمعة لا تلزمه الجمعة ما لم ينوِ الإقامة خمسة عشر يوماً.
ومما يتصل بهذه المسائل
ما حكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله: أن للمستأجر أن يمنع الأجير من حضور الجمعة، وكان الفقيه أبو علي الدقاق رحمه الله يقول: ليس له أن يمنع الأجير في المصر من حضور الجمعة لكن يسقط عنه الأجر بقدر اشتغاله بالصلاة بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لا يحط عنه شيء من الأجر وإن كان بعيداً، واشتغل قدر ربع النهار حط ربع الأجر، وليس للآجر أن يطالبه من الربع المحطوط بمقدار اشتغاله بالصلاة.
الإمام إذ منع أهل مصر أن يجمعوا، حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه إذا نهاهم مجتهداً بسبب من الأسباب، أو أراد أن يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصراً لم يجمعوا، فأما إذا نهاهم متعنتاً، أو إضراراً بهم، فلهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، ولو أن إمام مصر مصلٍ ثم نفر الناس عنه لخوف عدو وما أشبه ذلك ثم عادوا إليه، فإنهم لا يجمعون إلا بإذن مستأنف من الإمام.
القروي إذا دخل المصر يوم الجمعة تلزمه الجمعة، وإن نوى أن يخرج من المصر في يومه ذلك قبل دخول وقت الصلاة أو بعد دخول وقت الصلاة، فلا جمعة عليه؛ لأن في الوجه الأول صار كواحد من أهل المصر، وفي الوجه الثاني لا، والله أعلم بالصواب.(2/87)
نوع آخر في الرجل يصلي الظهر يوم الجمعة يتوجه إلى الجمعة أو لا يتوجه
يجب أن نعلم أن الكلام ههنا في فصول:
أحدها: في جواز الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة.
والثاني: في الكراهة.
والثالث: في الانتقاض إذا خرج يريد الجمعة، أما الكلام في الجواز فنقول: بجواز أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأن أصل الفرض الظهر لما مر قبل هذا، وأما الكلام في الكراهة فنقول: يكره أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأنه مأمور بأداء الجمعة وبإسقاط الظهر بالجمعة، فإذا صلى الظهر قبل فراغ الإمام، فقد خالف أمر الشرع فلهذا يكره، وهذا بخلاف ما بعد فراغ الإمام من الجمعة، فإن بعد فراغ الإمام من الجمعة سقط عنه الأمر بإقامة الجمعة ولزمه أداء الظهر فكان في أداء الظهر موافقاً أمر الشرع لا مخالفاً.
قال في «الأصل» : وإن كان مريضاً يستحب له أن يؤخر الظهر إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة، ولو لم يؤخر لا يكره، والصحيح المقيم يؤخر ولو لم يؤخر يكره.
والفرق: أن المريض مأمور بأداء الجمعة لكن استحب التأخير؛ لأنه يرجى على إقامة الجمعة بزوال المرض ساعة فساعة فلا يصير بأداء الظهر مخالفاً أمر الشرع، ولا كذلك الصحيح.
وأما الكلام في انتقاض الظهر إذا خرج يريد الجمعة به، فاعلم بأن هذا الفصل على وجهين: إما إن أدرك الجمعة مع الإمام، أو لم يدرك، فإن أدركها مع الإمام ينتقض ظهره عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، المعذور نحو العبد والمسافر والمريض، وغير المعذور في ذلك على السواء، حتى لو بطلت الجمعة بوجه ما كان عليه إعادة الظهر.
وقال زفر رحمه الله في المعذور: لا ينتقض ظهره هو يقول: بأن فرض المعذور الظهر، وقد صح حين أداه في وقته فلا ينتقض بغيره.
وجه قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن المعذور إنما فارق غير المعذور في حق الترخيص بترك السعي إلى الجمعة فإذا سعى التحق بغير المعذور، وأما إذا لم يدرك الجمعة مع الإمام فهذه المسألة على وجهين:
إما إن خرج من بيته والإمام قد فرغ من الجمعة أو خرج من بيته والإمام في الجمعة، فقبل أن يصل إلى الإمام فرغ الإمام من الجمعة، ففي الفصل الأول لا ينتقض ظهره بالإجماع، وفي الفصل الثاني اختلاف.
قال أبو حنيفة رحمه الله: ينتقض ظهره، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض، وهو المذكور في «الجامع الصغير» ، وعلى هذا الخلاف: إذا وصل الإمام والإمام في الجمعة إلا أنه لم يحرم للجمعة حتى سلم الإمام، ولو خرج لا يريد الجمعة لا ينتقض ظهره بالإجماع.(2/88)
حجتهما: أن في المسألة المختلفة أنه مأمور بنقض ظهره ضرورة أداء الجمعة لا مقصوداً؛ لأن نقض العبادات مقصوداً حرام؛ فإن وجه الأداء (105أ1) ينتقض الظهر، وما لا فلا، ولا يمكن أن يجعل السعي إلى الجمعة كمباشرة الجمعة في حق نقض الظهر.
ألا ترى أن من أحرم بالحج والعمرة يؤمر بتقديم أعمال العمرة، فلو أنه قدم أعمال الحج، ووقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته، ولو سار إلى عرفات لا يصير بمجرد السير رافضاً لعمرته.
ألا ترى أنه لم يجعل السعي إلى الوقوف بعرفات بمنزلة الوقوف في حق رفض العمرة كذا في مسألتنا، ولأبي حنيفة أن الأمر كما قالا: إنه مأمور بنقض الظهر، ضرورة أداء الجمعة، إلا أن السعي من خصائص الجمعة، ألا ترى أنه أمر به في الجمعة دون سائر الصلوات؟ فيقام مقام أداء الجمعة في موضع الاحتياط، وإعادة ما صلى من باب الاحتياط.
وأما مسألة القارن فقد قيل: إنه قولهما، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فالجواب في المسألتين هو أنه تنتقض العمرة بالسعي إلى الوقوف كما ينتقض الظهر هنا.
وقيل: في مسألة القارن القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله: ترتفض عمرته، وفي الاستحسان: لا ترتفض، ووجه الفرق على جواز الاستحسان على قول هذا القائل أن السعي إلى عرفات قبل أعمال العمرة منهي عنه؛ لأن بالوقوف بعرفات يصير رافضاً لعمرته، ورفض العمرة منهي عنه، فلا يقام السعي إلى عرفات مقام الوقوف إعلاماً للنهي، أما السعي إلى الجمعة ليس منهي عنه، بل هو مأمور به، وإنه من خصائص الجمعة، فجاز أن يقام مقام أداء الجمعة في حق نقض الظهر احتياطاً والله أعلم.
نوع آخر في الرجل يريد السفر يوم الجمعة
وإنه على وجهين: إن كان الخروج قبل الزوال فلا بأس به بلا خلاف؛ لأن الجمعة لا تجب قبل الزوال فلا يصير بالخروج تاركاً فرضاً، وصار الخروج قبل الزوال، وليس فيه ترك فرض، نظير الخروج يوم الخميس، وإن كان الخروج بعد الزوال، فإن كان يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر، فإنه لا بأس به بالخروج قبل إقامة الجمعة، وإن كان لا يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الجمعة، فلا ينبغي له أن يخرج، بل يشهد الجمعة ثم يخرج.
وهذه المسألة لا توجد بهذا التفصيل إلا في «السير» : وهذا بناءً إلى أصل معروف لنا أن وجوب الصلاة وسقوطها يتعلق بآخر الوقت، فمتى كان لا يخرج وقت الظهر قبل خروجه من المصر، فهو صار مسافراً في آخر الوقت ولا جمعة على المسافر، ولا يصير تارك فرض وإذا كان يخرج وقت الظهر قبل خروجه من مصره كان مقيماً في آخر الوقت،(2/89)
وهو في المصر وكان عليه إقامة الجمعة، فيصير بالخروج تاركاً فرضاً، فلا يباح له الخروج.
قال مشايخنا رحمهم الله: وعلى قياس هذه المسألة يجب أن يكون الجواب على التفصيل متى لم يخرج للسفر، ولكن خرج بعد الزوال قبل إقامة الجمعة إلى موضع لا يجب على أهل ذلك الموضع الجمعة، هل يباح له ذلك؟ إن كان يخرج وقت الظهر قبل أن ينتهي إلى ذلك الموضع لا يباح له ذلك؛ لأنه يكون تاركاً فرضاً، وإن كان لا يخرج وقت الظهر إلا بعد أن ينتهي إلى ذلك الموضع يباح له ذلك؛ لأنه لا يصير تارك فرض؛ لأن العبرة لآخر الوقت.
حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه كان يقول عندي في جواب أصل المسألة إشكال، وجهه: أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها، وإنما يؤديها مع الإمام والناس، فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس الجمعة ينبغي أن يلزمه شهود الجمعة.
الرستاقي إذا سعى يوم الجمعة إلى المصر يريد إقامة الجمعة، وإقامة حوائج له في المصر ومعظم مقصوده إقامة الجمعة ينال ثواب السعي، إلى الجمعة، وإذا كان قصده إقامة الحوائج لا غير أو كان معظم مقصوده إقامة الحوائج لا ينال ثواب السعي إلى الجمعة، إذا أدرك الإمام في الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، فعن محمد وزفر: أنه يصلي أربعاً بتحريمة الجمعة، ولا يستقبل التكبير بخلاف الإمام، إذا دخل عليه وقت العصر وهو في الجمعة، فإنه يستقبل التكبير للظهر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص رحمة الله عليه: قلت لمحمد رحمه الله: يصير مؤدياً الظهر بتحريمة الجمعة؟ فقال: ما تصنع وقد جاءت به الآثار.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
إذا تذكر يوم الجمعة والإمام في الخطبة أنه لم يصل الفجر، فإنه يقوم يصلي الفجر، ولا يستمع الخطبة؛ لأنه لو استمع وقضى الفجر بعدها تفوت الجمعة، إذا صلى السنّة التي بعد الجمعة بنية الظهر، ينبغي أن يقرأ في جميع الركعات، وإذا صلى الإمام ركعة من الجمعة ثم أحدث خرج من المسجد، ولم يقدم أحداً، فقدم الناس رجلاً قبل أن يخرج الإمام من المسجد، جاز ضرورة إصلاح صلاتهم، فإن تكلم المقدم أو ضحك قهقهة، فأمر غيره أن يجمع بهم لا يجوز، لأن الإمام لم يفوض إليه لكن استحسنا أن يبني على صلاة الإمام، ضرورة إصلاح صلاتهم فإذا خرج عن صلاة الإمام لم يبق إماماً.(2/90)
ولو اقتدى رجل بالإمام يوم الجمعة ونوى صلاة الإمام إلا أنه يحسب أنه يصلي الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر جاز ظهره معه وإن اقتدى به ونوى عند التكبير أن يصلي معه الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر لا يجزئه الظهر معه؛ لأن في الوجه الأول نوى صلاة الإمام وحسب أنها جمعة، فصحت نيته الصلاة معه وبطل بالحسبان، أما في الوجه الثاني نوى أن يصلي الجمعة فإذا تبين أن الإمام يصلي الظهر تبين أنه لم يصح الاقتداء.
إذا حضر الرجل يوم الجمعة والمسجد ملآن يتخطى يؤذي الناس لم يتخط، وإن كان لا يؤذي أحداً بأن لا يطأ ثوباً ولا جسداً لا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام، وذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا بأس بالتخطي ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ؛ لأن للمسلم أن يتقدم ويدنو من المحراب إذا لم يكن الإمام في الخطبة، ليتسع المكان على من يجيء بعده، وينال فضل القرب من الإمام، فإذا لم يفعل الأول فقد ضيع ذلك المكان من غير عذر، فكان للذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان.
أما من جاء والإمام يخطب فعليه أن يستقر في موضعه من المسجد؛ لأن مشيه وتقدمه عمل في حالة الخطبة، وروى هشام عن أبي يوسف أنه للناس بالتخطي ما لم يخرج الإمام، أو يؤذ أحداً.
رجل لم يستطع يوم الجمعة أن يسجد على الأرض من الزحام فإنه ينتظر حتى يقوم الناس فإذا رأى فرجة سجد، وإن سجد على ظهر رجل أجزأه، وإن وجد فرجة فسجد على ظهر رجل لم يجز، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله.
وقال الحسن رحمه الله: لا يسجد على ظهر الرجال على كل حال.
رجل ركع ركوعين مع الإمام في الجمعة ولم يسجد لكثرة الزحام، حتى صلى الإمام ثم رأى فرجة، قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى، وتلغى ركعته الثانية التي ركعها مع الإمام فلا يعتد به ثم يقوم، فيركع بعدما تمكن قائماً، ولا يقرأ ويسجد سجدتين، وإن نوى حين يسجد للركعة الثانية، بطلت نيته وكانت السجدة للأولى، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على إحدى الروايتين عن علمائنا رحمهم الله.
فأما على الرواية الأخرى: السجدتان للثانية، وقال أبو حنيفة: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد معه، فالثانية تامة ويقضي الأولى بركوع وسجود، ولو كان سجد مع الإمام في الركعة الأولى سجدة أجزأته الركعتان جميعاً؛ لأنه قيد الأولى بسجدة فيسجد للأولى سجدة أخرى ويسجد للثانية سجدتين ويتشهد، وإن لم يقدر على السجود مع الإمام في واحدة من الركعتين، فلما فرغ الإمام من سجدتي الركعة الثانية، وقعد سجد الرجل سجدتين يريد بهما اتباع الإمام في سجدتي الركعة الثانية، ثم تشهد الإمام وسلم، فإن نية الرجل باطلة والسجدتان للركعة الأولى، فتمت الأولى (105ب1) ، وبطلت الركعة الثانية، فليقم وليصل الركعة الثانية، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في «الرقيات» .(2/91)
وفي «النوادر» عن محمد: رجل ركع مع الإمام في صلاة الجمعة ولم يستطع أن يسجد لكثرة الزحام، حتى قام الإمام إلى الثانية وقرأ وركع، فركع هذا الرجل معه يريد اتباعه في الثانية وسجد معه، قال: هذا السجود للثانية ولا يقعد مع الإمام، فيقوم ويقضي الأولى بركوع وإن لم يركع مع الإمام في الثانية، ولكنه سجد معه ينوي اتباعه، لا تجزئه هذه السجدة من الركعتين، فإن انحط فسجد قبله ينوي اتباعه ثم أدرك الإمام فيها فهي للأولى، وكذلك إذا سجد بعدما رفع الإمام رأسه ينوي اتباعه في الثانية، وإن سجد مع الإمام في الثانية ينوي الأولى فهي للأولى وروى ابن سماعة عن أبي يوسف، نحو هذا.
قال محمد رحمه الله: ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر بجماعة في سجن وغير سجن، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، والمعنى فيه: أن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيآن، ترك الجماعة وشهود الجمعة، فأصحاب السجون قدروا على أحدها وهو ترك الجماعة، فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة ربما يقتدي بهم غير المعذور، وفيه تقليل الناس في الجامع.
بخلاف القرى حيث يصلي أهلها الظهر بالجماعة؛ لأنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة، فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، والمسافرون إذا حضروا يوم الجمعة في مصر يصلون فرادى، وكذلك أهل المصر إذا فاتتهم الجمعة، وأهل السجن والمرضى تكره لهم الجماعة والمريض الذي لا يستطيع أن يشهد الجمعة، إذا صلى الظهر في بيته بغير أذان وإقامة أجزأه، وإن صلاها بأذان وإقامة فهو حسن؛ لأن هذا اليوم في حق المريض كسائر الأيام، من صلى الظهر في بيته إن صلاها بغير أذان وإقامة، فهو جائز وإن صلاها بأذن وإقامة فحسن كذا ها هنا.
وفي القدوري ومن فاتته الجمعة صلى الظهر بغير أذان ولا إقامة، وكذلك أهل السجن والمرضى والعبيد والمسافرون، ذكر الحاكم في المسافر مثلاً مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعاً بالتكبير الذي دخل به معه.
الغسل يوم الجمعة سنّة بالإجماع، والأصل فيه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من السنّة الغسل يوم الجمعة» ، واختلفوا في أن الغسل للصلاة أو للوقت ذكر الفضلي في «فتاويه» ، عن أبي يوسف أن الغسل لليوم.
وفي «الأصل» و «الطحاوي» و «القدوري» : أن الغسل عند أبي يوسف للصلاة، وعند الحسن لليوم وفي «العصام» : أن الغسل على قول أبي يوسف لليوم، وعلى قول محمد للصلاة.
قال الفضلي في «كتابه» : الاغتسال للصلاة لا لليوم؛ لإجماعهم على أنه لو اغتسل بعد الصلاة، لا يكون مقيماً للسنّة، ولو كان الغسل لليوم، لصار مقيماً للسنّة ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر في «شرح الإسبيجابي» أن الغسل يقع سنة على قول من يقول: بأن الغسل سنّة اليوم، وإذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث وتوضأ، وصلى لم تكن صلاة بغسل، وإن لم يحدث حتى صلى كان صلاة بغسل، وهذا على قول من يقول بأن الغسل سنّة الصلاة.(2/92)
الأذان المعتبر الذي يجب السعي عنده، ويحرم البيع للأذان عند الخطبة لا للأذان قبله؛ لأن ذلك لم يكن في زمن النبي عليه السلام، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «شرح الطحاوي» وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن الصحيح أن المعتبر هو الأذان الأول بعد دخول الوقت، وبه كان يفتي الفقيه أبو القاسم البلخي رحمه الله، وقال الحسن بن زياد: الأذان على المنارة هو الأصل، قال صاحب «شرح الطحاوي» : الأذان قبل التطوع وعلى المنارة محدث، وزيادة إعلام لمصلحة الناس.k
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جالس على الغداء يوم الجمعة، فسمع النداء إن خاف أن تفوته الجمعة، فليحضرها بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجمعة تفوت على الوقت أصلاً وسائر الصلوات لا، وزان مسألتنا من سائر الصلوات إذا خاف ذهاب الوقت في سائر الصلوات، وهناك يترك الطعام ويصلي في وقتها كذا ها هنا.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : مرسلاً أمير أمر إنساناً أن يصلي بالناس الجمعة في المسجد الجامع وانطلق إلى حاجة له، ثم دخل المصر ودخل بعض المساجد وصلى الجمعة لا يجزئه إلا أن يكون علم الناس بذلك كله، فهذا كالجمعة في موضعين وإنه جائز به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه، وإن خرج الإمام يوم الجمعة للاستسقاء، وخرج معه ناس كثير وخلف إنساناً يصلي بهم الجمعة في المسجد الجامع، فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة في الجبانة، وهو على غلوة من المصر وصلى خليفته في المسجد الجامع يجزئهما، ودلت المسألة على أن الجمعة في الجبانة جائزة.
ويقرأ في الجمعة بأي سورة شاء ولا يقصد سورة بعينها يديم قراءتها، والكلام في الجمعة نظير الكلام في سائر الصلوات، وفي أي حال أدرك الإمام، دخل معه، وأجزأه عن الجمعة وكذا إذا أدركه في سجدتي السهو وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
وقال محمد: لا تجزئه الجمعة حتى يدرك ركعة كاملة، لما روي عن رسول الله عليه السلام، أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدركها» ، ومن أدرك ما دونها صلى أربعاً ولهما قوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» وهذا عام في الصلوات كلها، ومذهبهما مثل مذهب ابن مسعود، ومعاذ، ثم عند محمد إذا لم تجز الجمعة يصلي أربعاً يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وهل تجب عليه القعدة الأولى؟ حكى الطحاوي عنه وجوب القعدة الأولى؛ لوجوبها على الإمام، وحكى عنه المعلى أنها لا تجب؛ لأنه يصلي الظهر في حالة البداء والله أعلم بالصواب.(2/93)
الفصل السادس والعشرون في صلاة العيدين
الأصل في صلاة العيد قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) جاء في التفسير: أن المراد منه صلاة العيد، والآثار قد اتفقت، وتواترت أن رسول الله عليه السلام كان يصلي صلاة العيد، وروى أنس بن مالك «أن رسول الله عليه السلام قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما» ، فقال عليه السلام: «لقد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما الفطر، والأضحى» والأمة أجمعت على إقامتها من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منهافي بيان صفتها
فنقول: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: وتجب صلاة العيدين على من تجب الجمعة، فهذا يدل على وجوبها.
وذكر في «الجامع الصغير» : في العيدين اجتمعا في يوم فالأولى سنّة والثانية فريضة، وأراد بالأول صلاة العيد وبالثاني صلاة الجمعة، فقد سمّى صلاة العيد ها هنا سنّة، وقال محمد رحمه الله في «كتاب الصلاة» : لا يقام شيء من التطوع بجماعة ما خلا التراويح في رمضان، وكسوف الشمس، وصلاة العيدين تؤدى بجماعة لو كان صلاة العيد تطوعاً لقال ما خلا التراويح في رمضان وكسوف الشمس وصلاة العيدين.
فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان في إحدى الروايتين هي واجبة، وفي إحدى الروايتين هي سنّة، وجه الرواية التي قال بأنها سنة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت عليّ وهي لكم سنّة الوتر، والضحى، والأضحى» وصلاة العيد وصلاة الضحى؛ لأنها تقام عند الضحى؛ فتكون سنّة؛ ولأنها لو كانت واجبة لشرع فيها الأذان والإقامة كسائر الصلوات الواجبات.(2/94)
وجه الرواية التي قال: بأنها واجبة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والمراد منه صلاة العيد، فقد أمر الله تعالى به، والأمر للوجوب، ولا حجة له في الحديث الذي روى؛ لأن الضحى متى أطلق يريد به صلاة الضحى لا صلاة العيد، وصلاة الضحى في سائر الأيام سنّة عندنا.
وقوله: ليس فيها أذان، ولا إقامة، قلنا: هذا لا يدل على عدم الوجوب، ألا ترى أنه لا أذان للوتر ولا إقامة، وإنها واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله على أصح الروايات، وكذلك صلاة الجنازة ليس لها أذان ولا إقامة، وإنها واجبة وعامة المشايخ على أن المذهب أنها واجبة.
وتأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» : أنها سنّة أن وجوبها ثبت بالسنّة لا بالكتاب، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أن الأظهر أنها سنّة، لكنها من معالم الدين أخذها هدى وتركها ضلالة.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف صلاة العيد سنّة واجبة، فقد جمع بين صفة الوجوب والسنّة، واختلفوا في بيانه، بعضهم قالوا: أراد (106أ1) بالسنّة الطريقة، فمعناه وجوب صلاة العيد طريقة مستقيمة ظاهرة، وبعضهم قالوا: أراد بيان الطريق الذي عرفنا وجوبه، فإن وجوب صلاة العيد ما عرف إلا بالسنّة.
نوع آخر في بيان وقتها
فنقول: أول وقتها من حين تبيض الشمس، وانتهاؤها من حين تزول الشمس، أما أول وقتها فلما روي «أن النبي عليه السلام كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين» ، وأما آخر وقتها فلما روي «أن قوماً شهدوا عند رسول الله عليه السلام برؤية الهلال في آخر يوم من رمضان، فأمر رسول الله عليه السلام بالخروج إلى المصلى من الغد للصلاة» ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن للتأخير معنى، فإن تركها في اليوم الأول في عيد الفطر لغير عذر حتى زالت الشمس لم يصل من الغد، وإن كان لعذر صلى من الغد فإن ترك من الغد لم يصل بعده.
والقياس: أنها إذا فاتت عن وقتها لا تقضى كما في الجمعة، وإنما ترك القياس بالنص، والنص إنما ورد في التأخير إلى اليوم الثاني بسبب العذر، فما عداه يرد إلى ما(2/95)
يقتضيه القياس، وأما في الأضحى إن تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر صلى في اليوم الثاني، فإن لم يفعل ففي اليوم الثالث، فإن لم يفعل فقد فات، ولا يفعل بعد ذلك؛ لأن هذه صلاة عيد الأضحى، فتكون مؤقتة بأيام الأضحى وأيام الأضحى ثلاثة.
نوع آخر في بيان كيفيتها
قال أصحابنا رحمهم الله: في ظاهر الرواية التكبيرات في الفطر والأضحى سواء يكبر الإمام في كل صلاة تسع تكبيرات، ثلاث أصليات: تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع، وست زوائد ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية، ويقدم التكبيرات على القراءة في الركعة الأولى ويقدم القراءة على التكبيرات في الركعة الثانية، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمر الجهني، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين.
وعن علي رضي الله عنه ثلاث روايات في رواية إحدى عشر تكبيرة في العيدين جميعاً ثلاث أصليات كما بينا، وثمان زوائد أربع في الركعة الأولى، وأربع في الثانية في كل عيد، وفي رواية ثمان تكبيرات ثلاث أصليات، وخمس زوائد: ثلاث في الركعة الأولى واثنتان في الركعة الثانية في العيدين جميعاً.
وفي الرواية الثالثة: وهو المشهور عنه فرق بين عيد الفطر، والأضحى، فقال: في عيد الفطر يكبر إحدى عشر تكبيرة في الركعتين، ثلاث أصليات، وثمان زوائد أربع في الأولى وأربع في الثانية، وفي عيد الأضحى يكبر خمس تكبيرات في الركعتين ثلاث أصليات واثنتان زائدتان واحدة في الركعة الأولى، وواحدة في الركعة الثانية ومن مذهبه أنه يقدم القراءة على التكبيرات في الركعتين في العيدين جميعاً.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خمس روايات: في رواية سبع تكبيرات ثلاث أصليات، وأربع زوائد في كل ركعة تكبيرتين في العيدين جميعاً، وفي رواية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه والمشهور عنه روايتان في رواية ثلاث عشر تكبيرة ثلاث أصليات، وعشر زوائد خمس في الركعة الأولى وخمس في الثانية وعليه عمل الناس اليوم في عيد الفطر.
وفي رواية اثنتا عشر تكبيرة ثلاث أصليات وتسع زوائد خمس في الركعة الأولى وأربع في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله ورواية عن أبي يوسف وعليه عمل الناس اليوم في عيد الأضحى، ويقدم التكبيرات على القراءة في الروايتين المشهورتين عنه.
وعن أبي بكر الصديق رحمه الله: أنه يكبر خمسة عشرة تكبيرة في كل صلاة ثلاث أصليات وثنتي عشرة زوائد ست في الأولى، وست في الثانية وهي الرواية المشهورة عن عمر رضي الله عنه، وفي رواية شاذة عن أبي بكر رضي الله عنه يكبر في كل صلاة ست(2/96)
عشر تكبيرة ثلاث أصليات وثلاث عشر زوائد سبع في الأولى، وست في الثانية، فقد اختلفوا في عدد التكبيرات.
وموضعها، على نحو ما بينا فيحمل اختلافهم على اختلاف فعل رسول الله عليه السلام في صلاة العيد، لأن المقادير في العبادات لا تثبت قياساً كأصلها وإنما تثبت توقيفاً وسماعاً، فحمل ما روي عن واحد منهم على أنه رأى رسول الله عليه السلام فعل ذلك، ولم يثبت عنده نسخ ذلك، فصار المروي عنهم كالمروي عن رسول الله عليه السلام، فيجب ترجيح بعض الأقوال على البعض، لما جهل التاريخ.
فالشافعي رحمه الله رجح ما اشتهر عن أبي بكر، وابن عباس رضي الله عنهم أخذاً بالأكثر احتياطاً.
وأصحابنا رجحوا قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد، وفي الموضع أما في العدد؛ لأنه لا تردد في قوله، ولا اضطراب، فإنه قال قولاً واحداً وفي أقوال غيره تعارض واضطراب، فكان قوله أثبت؛ ولأن قوله ينفي الزيادة على التسع، وأقوال غيره تثبت والنفي موافق القياس؛ إذ القياس ينفي إدخال زيادة للأذكار في الصلاة، قياساً على غيرها من الصلوات، والإثبات مخالف للقياس.
ولا شك أن الأخذ بالموافق للقياس أولى، ولأن الجهر بالتكبير وهو ذكر مخالف للمنصوص والأصول، فالأخذ بما اتفقت الأقاويل عليه، وهو متيقن أولى؛ ولأن ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه أشهر، فإنه عمل به جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على نحو ما بينا، فكان الأخذ به أولى، وإذا وجب ترجيح قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد وجب ترجيحه في الموضع؛ لأن الرواية واحدة إلا أن الناس يعملون اليوم على مذهب ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الخلافة لأولاده وهم أخذوا على الولاة وكتبوا في مناشيرهم أن يصلوا صلاة العيد على مذهب جدهم.
وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدم بغداد، فصلى بالناس صلاة العيد، وخلفه هارون الرشيد، فكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا روي عن محمد رحمه الله أنه فعل ذلك فتأويله أن هارون أخذ عليهما، وأمرهما أن يكبرا تكبيرة جده، ففعلا ذلك امتثالاً لأمره، وإظهاراً لمتابعته لا مذهباً واعتقاداً، ثم عملوا برواية الزيادة في عيد الفطر وبرواية النقصان في عيد الأضحى، ليكون عملاً بالروايتين، وإنما اختاروا رواية النقصان لعيد الأضحى لاشتغال الناس بالقرابين فيه.
ويقدم الثناء على تكبيرات العيد في ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقدم تكبيرات العيد على الثناء.
وجه هذه الرواية: أن سبيل تكبيرات العيد في الركعة الأولى أن تكون مضمومة إلى(2/97)
تكبيرة الافتتاح، وهذا أوجب تقديم التكبيرات على القراءة، كيلا تصير القراءة فاصلة بين تكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيد، وإنما تصير مضمومة، إلى تكبيرة الافتتاح إذا قدمنا التكبيرات على الثناء.
وجه ظاهر الرواية: أن لو قدمنا التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محله أصلاً؛ لأن محله عقيب تكبيرة الافتتاح، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ولو قدمنا الثناء على التكبيرات لا يفرق التكبيرات عن محلها، لأن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع محل التكبيرات العيد.
ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه يأتي بتكبيرات العيد في الركوع، وبعد ما رفع رأسه من الركوع لا يأتي به؟ فدل على أن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من(2/98)
الركوع محل التكبيرات العيد، فلو قدمنا الثناء على التكبيرات لا تفوت التكبيرات عن محلها، ولو قدمنا التكبيرات على الثناء فات الثناء عن محله، فكان تقديم الثناء أولى.
قوله: فإنه يفوت الضم في حق التكبيرات، قلنا: كما يفوت الضم في حق التكبيرات يفوت قي حق الثناء إذا قدم التكبيرات على الثناء؛ لأن سبيل الثناء أن يكون مضموماً إلى تكبيرة الافتتاح، فإذا هو يستويان في حق تفويت الضم، ثم بتقدم الثناء على التكبيرات، لا يفوت التكبيرات عن محلها ووقتها كما ذكرنا، وبتقديم التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محلها فصار تقديم الثناء أولى.
قال أبو يوسف رحمه الله: يكبر تكبيرة الافتتاح ثم يأتي بالثناء ثم يتعوذ ثم يكبر تكبيرات العيد، وقال محمد رحمه الله: (106ب1) يتعوذ بعد تكبيرات العيد، وبه قال الشافعي رحمه الله ذكر الاختلاف في «الزيادات» ولم يذكر هناك قول أبي حنيفة رحمه الله وروى ابن كاس عن أبي حنيفة، وزفر مثل قول أبي يوسف، وهذا الاختلاف إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية يقدم الثناء على تكبيرات العيد، أما على رواية ابن كاس يقدم تكبيرات العيد على الثناء، فيقع التعوذ بعد الثناء عند أبي يوسف رحمه الله.
ثم هذه المسألة بناءً على أصل أن التعوذ شرع للصلاة أم للقراءة؟ عند محمد رحمه الله شرع للقراءة، فلا جرم يأتي به وقت القراءة، ووقت القراءة بعد تكبيرات العيد، وعند أبي يوسف رحمه الله شرع للصلاة فلا جرم يأتي به بعد الثناء قبل تكبيرات العيد احتج محمد رحمه الله بالنص، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) الله تعالى أمر بالتعوذ حال إرادة القراءة متصلاً بالقراءة؛ لأنه ذكر بحرف الفاء وحرف الفاء للوصل، وإذا أخر التعوذ عن التكبيرات يحصل الوصل بالقراءة، وإذا قدم على التكبيرات يفوت الوصل، فوجب أن يؤخر التعوذ عن التكبيرات حتى لا يفوت الوصل.
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله؛ قالا: إن محل التعوذ عقيب الثناء، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ومحل التكبيرات بعد الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع، فلو قدمنا التكبيرات على التعوذ يفوت التعوذ عن محله، ولو قدمنا التعوذ على التكبيرات لا تفوت التكبيرت عن محلها، ولا التعوذ عن محله، فكان تقديم التعوذ وتأخير التكبيرات أولى، قوله سبيل التعوذ أن يكون متصلاً بالقراءة.
قلنا: وسبيله أن يكون متصلاً بالثناء أيضاً، فلو أخر التعوذ عن التكبيرات كما يفوت الاتصال بالقراءة يفوت الاتصال بالثناء، فكان تقديم التعوذ كيلا يفوت واحد منهم عن محله أولى من تقديم التكبيرات على التعوذ.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : يستحب المكث بين كل تكبيرتين مقدار ما يسبح ثلاث تسبيحات، وهذا؛ لأن صلاة العيد تقام بجمع عظيم وتوالي بين التكبيرات يشتبه على من كان نائباً عن الإمام، والاشتباه يزول بهذا القدر من المكث، وليس بين التكبيرات ذكر مسنون عندنا؛ إذ لو كان بينهما ذكر مسنون، لكان أتى به النبي عليه السلام، ولو أتى به لوصل إلينا ولم ينقل.
ويرفع يديه في تكبيرات الزوائد في العيدين، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يرفع لحديث ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح» .
وجه قولهما قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر منها العيدين» ؛ ولأن رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح إنما شرع ليتم الإعلام؛ لأن الإعلام لا يتم بالجهر وحده؛ لأن خلفه أصم وأعمى، فالأعمى إن كان يعلم بجهر التكبير فالأصم لا يعلم إلا برفع اليدين.
فالشرع شرع رفع اليدين حتى يقع الإعلام على العموم، فكذا في تكبيرات العيد لا يقع الإعلام على العموم إلا بالجهر والرفع جميعاً بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأن الإعلام على العموم يقع بالجهر، والانتقال من القيام إلى الركوع، فلا حاجة إلى رفع اليدين ليتم الإعلام وبخلاف تكبيرات الجنازة؛ لأنه شرع بين كل تكبيرتين ذكر مقدر، فإذا فرغ منها يعلم أنه جاء أوان الآخر، فلا حاجة إلى رفع اليدين كما في تكبيرات الركوع.
أما هنا ليس بين التكبيرتين ذكر مسنون مقدر حتى يعلم بالفراغ منه أنه جاء أوان الآخر، فيحتاج إلى رفع اليدين هنا ليتم الإعلام، وما قال الحسن أنه يسبح بين كل تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات ليس بمقدر لازم، بل يتفاوت بكثرة القوم وبقلته لأن المقصود إزالة الاشتباه عن القوم، وذلك يختلف بكثرة القوم وقلتهم، وإذا صلى العيد خلف إمام لا يرى رفع اليدين عند تكبيرات الزوائد فقد قيل يرفع هو.(2/99)
نوع آخر في بيان شرائطها
قال القدوري في «كتابه» : تصح صلاة العيدين بما تصح به صلاة الجمعة إلا الخطبة، فإنها في العيد تفعل بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، وقوله: وتصح صلاة العيدين بما تصح به الجمعة إشارة إلى اشتراط المصر والسلطان، والأصل فيه قول النبي عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، وروي عن النبي عليه السلام «أنه فتح مكة في رمضان وخرج منها إلى هوازن، فاتفق له العيد في سفره ولم يصل» ولو جاز إقامتها خارج المصر ما تركها، والمعنى الذي أوجب اعتبار السلطان في الجمعة من دفع الفتنة الموهومة، وقطع المنازعة موجود في العيد.
ثم قال: إلا الخطبة فإنها في العيد بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، وإن خطب في العيد أولاً ثم صلى أجزأه.
والأصل في ذلك ما روي: أن عمر رضي الله عنه ربما كان يخطب في العيد قبل الصلاة كيلا يذهب الناس، فيفوتهم ثواب الخطبة ومروان بن الحكم فعل كذلك، وصلى معه نفر من أصحاب رسول الله عليه السلام.
فرق بين العيد وبين الجمعة، فإن في الجمعة لو خطب آخراً لا يجوز، والفرق: إنما يصير التغيير بالترك في الموضعين جميعاً، إلا أنه لو ترك الخطبة في صلاة الجمعة لا يجوز، فكذا إذا غير عن موضعها، ولو ترك الخطبة في صلاة العيد تجوز صلاة العيد، فكذا إذا غير عن موضعها والخطبة في العيدين كهي في الجمعة، يخطب خطبتين بينهما جلسة خفيفة كما في صلاة الجمعة، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ويقرأ فيها بسورة من القرآن ويستمع لها القوم؛ لأن الخطبة في العيد إنما شرعت؛ لتعليم ما يجب إقامته في هذا اليوم من صدقة الفطر، أو الأضحية، وإنما يحصل التعليم بالاستماع والإنصات، والخروج إلى الجبانة لصلاة العيد سنّة، وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا عامة المشايخ.
وبعضهم قالوا: الخروج إلى الجبانة ليس سنّة، وإنما تعارف الناس ذلك لضيق المسجد، والصحيح ما عليه عامة المشايخ: أنهم لا يخرجون عن المصر، بل يقيمونها في فناء المصر؛ لأن المصر شرط جواز هذه الصلاة وفناء المصر من المصر.
ألا ترى أن أفنية البيوت كأجوافها فكذا فناء المصر كجوفه، أما ما زاد على فناء المصر ليس من المصر، فلهذا قال يقيمونها في فناء المصر ثم إذا خرج الإمام إلى الجبانة، لصلاة العيد وإن استخلف رجلاً يصلي بالضعفة في الجامع، فحسن كما فعل(2/100)
علي رضي الله عنه، فإنه روي أنه لما قدم الكوفة استخلف أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ليصلي بالضعفة صلاة العيد في الجامع، وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخاً يمشي ويمشون، ولأنه راعى حق الأقوياء، فيراعي حق الضعفاء بأن يستخلف عليهم من يصلي بهم في الجامع كيلا تفوتهم صلاة العيد، وإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك.
وتجوز إقامة صلاة العيد في موضعين نص على هذا في «الأصل» ، وهذا لما ذكرنا أن السنّة في صلاة العيد أن تقام خارج المصر بالجبانة، ولا يمكن للضعفاء الخروج إليها إلا بحرج عظيم، فجوزنا الإقامة في موضعين دفعاً للحرج.
وأما إقامتها في ثلاث مواضع، فعلى قول محمد يجوز وعلى قول أبي يوسف لا يجوز، ولا يخرج المنبر في العيدين؛ لأنه لم يخرج على عهد رسول الله عليه السلام ولا على عهد من بعده من الخلفاء، وأول من أخرج المنبر مروان، وقد أنكر عليه بعض الصحابة وروي أن النبي عليه السلام خطب على ناقته العضا، ووجهه إلى المسلمين.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من خطب على الدابة يكون قاعداً ففيه دليل على أن الخطبة قاعداً تجوز، وروي أنه عليه السلام خطب متكئاً على عنزته، وهو قائم وليس في هذا كله إخراج المنبر.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وأما في زماننا إخراج المنبر لا بأس به؛ لأنه رآه المسلمون حسناً وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إخراج المنبر يوم العيد حسن.
واختلف الناس في بناء المنبر في الجبانة في المصلى قال بعضهم: يكره ويخطب الإمام قائماً على الأرض أو على دابته كما فعل رسول الله عليه السلام، وقال بعضهم: لا يكره.
ويجهر بالقراءة في العيدين هكذا روى نعمان البشير وأبو واقد الليثي وزيد بن أرقم عن رسول الله عليه السلام، وجرى التوارث هكذا فالتوارث حجة. وليس في العيدين أذان ولا إقامة هكذا جرى التوارث (107أ1) من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
نوع آخر في بيان من يجب عليه الخروج في العيدين
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والخروج في العيدين على أهل الأمصار والمدائن لا على أهل القرى والسواد. قال ثمة أيضاً: وليس على النساء خروج العيدين وكان ترخص لهن في ذلك قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها(2/101)
وفي الكسوف والاستسقاء. واعلم بأن النساء أمرن بالقران في البيوت قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) ونهين عن الخروج قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) الآية. أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات لقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات» أي غير متطيبات، ثم منعهن بعد ذلك لما في خروجهن من الفتنة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ} (الحجر: 24) المتأخرين قيل في التفسير: الآية نزلت في شأن النسوة كان المنافقون يتأخرون حتى يطلعون على عورات النساء فمنعن بعد ذلك، وقال عليه السلام: «صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها» ، وعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى النساء عن الخروج إلى المساجد فشكون إلى عائشة رضي الله عنها فقالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي عليه السلام ما علم عمر ما أذن لكم في الخروج.
ثم تكلموا أن في زماننا هل يرخص لهن في الخروج أم لا؟ أما الصواب فلا يرخص لهن في الخروج في شيء من الصلوات عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يباح لهن الخروج واحتج بقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . واحتج أصحابنا رحمه الله بنهي عمر رضي الله عنه عن الخروج لما رأى من الفتنة.
وأما العجائز من النساء يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء والعيدين، ولا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الظهر، والعصر، والجمعة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص لهن في الصلوات كلها، وفي الكسوف والاستسقاء، هما احتجا وقالا: ليس في خروج العجائز فتنة فالناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن خرجن إلى الجهاد مع رسول الله عليه السلام يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن، ولهذا جاز للرجال مصافحتهن، ولهذا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر والمغرب والعيدين.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله وقال: وقت الظهر والعصر وقت يكثر فيهما الفساق فالحريص منهم يرغب في العجائز، فيصير خروجهن سبباً للوقوع في الفتنة بخلاف الفجر، والمغرب، والعشاء، فإنه لا يكثر فيها الفساق بل الصلحاء يحضرون في هذه الصلوات؛ ولأن في صلاة الفجر والمغرب، والعشاء ظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليهن(2/102)
فلا يصير الخروج في هذه الحالة سبباً للوقوع في الفتنة.
بخلاف الظهر والعصر؛ لأنهما يؤديان في ضوء النهار فيقع بصر الرجال عليها، وبخلاف الجمعة فإنها تؤدى في المصر بجمع عظيم، ولكثرة ربما تصدم وتصتدم وفي ذلك فتنة؛ لأن العجوز إن كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما تحمل فرط الشبق بالشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم. ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين، جاء في حديث أم عطية: «كن النساء يخرجن مع رسول الله عليه السلام في العيدين حتى ذات الحيض» ومعلوم أن الحائض لا تصلي فعلمنا أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين.
قال في «الأصل» : وللمولى منع عبده من حضور العيدين، ولا يكره في العبد التخلف عنها؛ لأنها لم تكتب عليه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن المولى، فأما إذا أذن له المولى فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف وقد تكلموا فيه، قال بعض مشايخنا: له أن يتخلف عنه وإن أذن له المولى، وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنه لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه كان عليه طاعته لا يسعه التخلف فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وفي شرح شيخ الإسلام رحمه الله: إذا أذن المولى للعبد أن يشهد العيدين كان له أن يشهدها؛ لأن المنع كان لحق المولى وقد أبطل المولى حق نفسه لما أذن له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة له بالإذن فالحال بعد الأذن كالحال قبله، قال: فلا ينبغي أن يشهد العيدين بغير إذن مولاه.
قال بعض مشايخنا: إنما لا يشهد العيدين بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن رضي بذلك وهو لا يتخلف عنها، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العيد: إذا حضر مصلى العيد مع مولاه ليحفظ دابته هل له أن يصلي صلاة العيد بغير إذن المولى؟ قال رحمه الله:.....
مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد رحمه الله: أن له أن لا يصلي العيد وإن تمكن من ذلك وأذن له السيد بأدائها. والله أعلم بالصواب، وبه ختم النوع.(2/103)
نوع آخر
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا أدرك الرجل الإمام في الركوع في صلاة العيد فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح قائماً؛ لأن الافتتاح شرع في القيام المحض والركوع ليس بقيام محض بل هو قيام من وجه دون وجه فيأتي بكبيرة الافتتاح في محلها وهو القيام لا في الركوع كما في سائر الصلوات، ثم يأتي بتكبيرات العيد قائماً إذا كان غالب رأيه أنه يدرك شيئاً من الركوع مع الإمام لأن المحل الأصلي للتكبيرات القيام المحض، والركوع ليس بقيام محض، فإذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع لو أتى بالتكبيرات قائماً فقد أمكنه الإتيان بالتكبيرات في محلها الأصلي من غير فوات الركوع فيأتي بها.
فإن قيل: متى أتى بها في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع ومتى أتى بها في الركوع لا تفوته المتابعة في بعض الركوع ولا التكبيرات، فكان الإتيان بها في حالة الركوع أولى.
قلنا: لو لم يأت بها في حالة القيام تفوته التكبيرات أصلاً عند بعض العلماء وهو أبو يوسف والشافعي رحمه الله؛ لأن عندهما لا يأتى بتكبيرات العيد في حالة الركوع على ما نبين بعد هذا إن شاء الله.
ولو أتى بها في حالة القيام لا تفوته المتابعة في الركوع أصلاً بالإجماع، فكان هذا أولى، وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول: لو أتى بالتكبيرات في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع دون البعض، ولو أتى بها في حالة الركوع تفوت جميع التكبيرات عن محلها من كل وجه، فكان ما قلناه أولى.
فإن قيل: ينبغي أن لا يأتي بتكبيرات العيد هنا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع لأنه مسبوق في حق التكبيرات، لأنه حين أتى بها الإمام لم يكن هو في تحريمة الإمام، والمسبوق منهي عن قضاء ما سبق قبل فراغ الإمام.
قلنا: الشريعة القديمة أن يأتي المسبوق بقضاء ما سبق أولاً، ثم يتابع الإمام بعد ذلك إلى أن دخل معاذ على رسول الله عليه السلام، فوجده في الصلاة وقد سبقه بشيء منها وتابعه فيما أدركه، ثم قام بعدما فرغ رسول الله عليه السلام وقضى ما سبق به، فسأله النبي عليه السلام عن ذلك، فقال: كرهت أن أصادقك على حال ولا أبايعك، فقال عليه السلام: «سن لكم معاذ سنّة حسنة فاستنوا بها ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» فانتسخ الاشتغال بقضاء ما سبق أولاً بهذا الحديث، وهذا الحديث في فائت يجب أداؤه لو أدركه مع الإمام، ولو فاته مع الإمام يجب قضاؤه، ألا ترى أنه قال: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .
والتكبيرات إن كان يجب أداؤها لو أدركها مع الإمام لا يجب قضاؤها لو فاتت مع الإمام، لأنه لو قضاها إما أن يقضيه مع الركعة (107ب1) أم بدون الركعة، لا وجه إلى(2/104)
الأول؛ لأن فيه إدخال الزيادة في الصلاة، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنها شرعت في قيام الركعة فلا يثبت الانتساخ في حق التكبيرات، فبقي الأمر في التكبيرات على الشريعة القديمة، هذا إذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى بتكبيرات العيد قائماً، فأما إذا كان لا يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى شيئاً قائماً، لا يأتي بتكبيرات العيد قائماً لأن في الإتيان بها قائماً؛ لأنه إذا أتى بها يرفع الإمام رأسه من الركوع فتفوته الركعة، ولا يجتزىء بهذه التكبيرات بل يجب عليه قضاء الركعة مع التكبيرات، فلا يأتي بها بل يركع حتى لا تفوته الركعة.
فإذا ركع يأتي بالتكبيرات في الركوع، ولا يأتي بالتسبيحات في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يأتي بالتكبيرات بل يأتي بالتسبيحات. ذكر الخلاف على هذا الوجه في «المنتقى» ، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن هذا سنّة فاتت عن محلها؛ لأن محلها القيام، والركوع ليس بقيام؛ لأن القيام هو الاستواء، والركوع انحناء، وبين الاستواء والانحناء تنافي، والسنّة إذا فاتت عن محلها لا تقضى، ألا ترى لو أدركت الإمام في الركوع لا يأتي بالقراءة.
وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع في الوتر لا يأتي بالقنوت، وطريقه ما قلنا؛ ولأن الركوع محل للتسبيحات، فلو اشتغل فيه بالتكبيرات تفوته التسبيحات، فكان الاشتغال بالتسبيحات والركوع جعل محلاً لها أولى. ولأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذ الركوع له حكم القيام، يريد بهذا والله أعلم أن الركوع أعطي له حكم القيام شرعاً حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام، قال عليه السلام: «من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها» أي أدرك الركعة، والركعة اسم للقيام والركوع والسجود علمنا أنه أعطي للركوع حكم القيام حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام.
ثم تكبيرات العيد يؤتى بها في حالة القيام، فكذا في حال ماله حكم القيام، بخلاف القراءة والقنوت وتكبيرة الركوع والثناء، فإنه لا يؤتى بها في الركوع؛ لأن الركوع ليس بقيام حقيقة؛ لأن القيام حقيقة هو الاستواء والركوع انحناء إلا أنه أعطي له حكم القيام شرعاً على ما مر.
فعملنا بالحكم في حق تكبيرات العيد، وعملنا بالحقيقة في حق غيرها لتكون عملاً بالحقيقة والحكم بقدر الإمكان، وإنما عملنا على هذا الوجه، ولم نعمل على العكس، لأنا لو عملنا بالحكم في حق القراءة، وقد نهينا عن القراءة في الركوع.
قال علي رضي الله عنه: «نهاني خليلي أن أقرأ في الركوع وأن أعتد بسجدة ما لم يتقدمها ركوع» . فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات من طريق الأولى، لأن(2/105)
التكبيرات ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق الثناء وتكبيرة الركوع وهما سنّتان فلزمنا العمل بالحكم في حق تكبيرات العيد وهي واجبة من طريق الأولى على أنه لا رواية في الثناء عن محمد رحمه الله.
وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم على أنه يأتي بالثناء في حالة الركوع؛ لأن محل الثناء وهو القيام باقي، والثناء سنّة وتسبيحات الركوع أيضاً سنّة، فكان له أن يأتي بأيهما شاء، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق القنوت.
والشرع نهانا عن القراءة في الركوع وللقنوت شبهاً بالقرآن، فإنه ذكر مؤلف منظوم كالقرآن، ولهذا اختلف الصحابة فيه، فأبي بن كعب كان يجعله من القرآن وكان يسميه ... وكتب في مصحفه بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعيك إلى قوله: ونترك من يفجرك ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد إلى آخره، فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات؛ لأنها ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، فعملنا على الوجه الذي قلنا: ليمكننا العمل بالحكم والحقيقة، وقوله: إن هذه سنّة فاتت عن محلها.
قلنا: لا نسلم بأنها فاتت عن محلها؛ وهذا لأن محلها عنده القيام والركوع، ولا نقول: بأن هذا قضاء بل هو أداء لما كان الركوع محلاً له، وقوله: بأن الركوع محل للتسبيحات فلو اشتغل بالتكبيرات تفوته التسبيحات.
قلنا: ولو اشتغل بالتسبيحات تفوته التكبيرات أيضاً إلا أن التكبير من أخص الأذكار بهذه الصلاة وليس للتسبيح هذه الخصوصية، فكان الاشتغال بالتكبير أولى، فلو أنه اشتغل بالتكبيرات في الركوع فلما كبر تكبيرة أو تكبيرتين رفع الإمام رأسه من الركوع رفع هو رأسه، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه لو أتى بها لا أن يأتي في الركوع أو بعدما رفع رأسه عن الركوع لا وجه إلى الأول؛ لأن الركوع بعدما رفع الإمام رأسه ليس بقيام حكماً لأنه إنما صار قياماً حكماً لكونه سبباً لإدراك الركعة أنه يصير سبباً، لإدراك الركعة بشرط المشاركة وقد انقطعت المشاركة فلا يبقى قياماً حكماً، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن القومة التي بين الركوع والسجود ليس بمحل للتكبيرات.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولو أن رجلاً دخل مع الإمام في صلاة العيد في الركعة الأولى بعدما كبر الإمام تكبير ابن عباس رضي الله عنه ست تكبيرات، فدخل الرجل معه وهو في القراءة، والرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه يكبر برأي نفسه في هذه الركعة وفي الركعة الثانية يتبع رأي الإمام.
والجملة في ذلك أن نقول: بأن المنفرد يتبع رأي نفسه، والمقتدي يتبع رأي الإمام ما لم يظهر خطأ الإمام بقين؛ وهذا لأن كل مجتهد مأمور بأن يعمل باجتهاده؛ لأن اجتهاده صواب عنده، واجتهاد غيره خطأ عنده، وكل مجتهد مأمور بأن يعمل ما هو(2/106)
صواب عنده، فيعمل برأي نفسه إلا إذا حكم غيره على نفسه، فينفذ حكم الحاكم عليه، فحينئذٍ يسقط اعتبار رأيه ويعمل برأي الحاكم إلا إذا ظهر خطأ الحاكم بيقين.
إذا ثبت هذا فنقول: المسبوق فيما سبق لم يحكم على نفسه أحداً هو منفرد، فيتبع رأي نفسه وفيما بقي مقتدي حكم الإمام على نفسه، فيعمل برأي الإمام إلا إذا ظهر خطأ الإمام بيقين وهذا الداخل في صلاة الإمام في الركعة الأولى، وقد كان كبر الإمام مسبوق بالتكبيرات التي أتى بها الإمام؛ لأنه حين كبر لم يكن هذا الرجل في تحريمته وهذا هو المسبوق، فكان منفرداً في تكبيرات الركعة الأولى، فيتبع رأي نفسه.
ثم يقول محمد رحمه الله في هذه المسألة: إن الداخل يكبر حال ما يقرأ الإمام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان بعيداً عن الإمام لا يسمع قراءته؛ لأنه يأتي بالثناء في هذه الصورة مع أن الثناء سنّة؛ فلأن يأتي بالتكبيرات وإنها واجبة أولى.
وكذلك لا يشكل فيما إذا كان قريباً من الإمام على قول من يقول: بأن الداخل في صلاة الإمام يأتي بالثناء في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة إذا كان الإمام في القراءة وإنه يشكل على قول من يقول: فإنه لا يأتي بالثناء.
والفرق على قول هذا القائل: أن الثناء سنّة فمتى أتى به يفوته الاستماع أو يتمكن الخلل مما هو المقصود من الاستماع وهو التأمل، والاستماع واجب، وترك السنّة أهون من ترك الواجب ومن إيقاع الخلل فيما هو المقصود من الواجب، فإن تكبيرات العيد واجبة كما أن الاستماع واجب وإذ استويا في الوجوب رجحنا التكبيرات؛ لأن التكبيرات تفوته أصلاً والاستماع لا يفوته أصلاً بل يتمكن الخلل فيما هو المقصود منه وهو التأمل وإن كان لا يفوته أصلاً ولكن يفوته في البعض دون البعض فكان الترجيح للتكبيرات من هذا الوجه.
كذلك لو كان الإمام صلى الركعة الأولى وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، فدخل الرجل معه في الركعة الثانية فلما سلم الإمام قام الرجل يقضي الركعة الأولى، وهو يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، يكبر تكبير ابن مسعود؛ لأنه مسبوق في الركعة الأولى، فكان منفرداً فيتبع رأي نفسه.
واستشهد في «الكتاب» : لبيان أنه يعتبر في حق المسبوق فيما سبق حاله لا حال الإمام بمسائل.
منها: إذا قرأ الرجل آية السجدة في ركعة فسجدها، ثم دخل رجل في الصلاة وقد فاتته الركعة الأولى التي قرأ الإمام فيها آية السجدة ثم قام يقضي تلك الركعة، فإنه لا يأتي بتلك السجدة التي أتى بها الإمام وإن كان يأتي بها لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في تلك الركعة (108أ1) يتغير حاله لا حال الإمام.
ومنها: رجل صلى الظهر ولم يقعد على رأس الركعتين واستوى قائماً، ومضى على صلاته ثم دخل رجل في صلاته، فلما فرغ الإمام قام الرجل الداخل إلى قضاء ما سبق، فإنه يقعد على رأس الركعتين، وإن كان لا يقعد لو كان مع الإمام لهذا إنه مسبوق فى(2/107)
الركعتين، فيعتبر حاله لا حال الإمام.
ومنها: أن الرجل إذا دخل مع الإمام في صلاة الوتر وهو في التشهد، وكان قنت في الركوع، وكان ذلك من رأيه فلما فرغ الإمام من صلاته قام الرجل للقضاء فكان من رأيه القنوت قبل الركوع يقنت قبل الركوع، وإن كان يقنت بعد الركوع لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في القنوت، فيعتبر فيه حاله لا حال الإمام، فكذا في مسألتنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا دخل الرجل مع الإمام في صلاة العيد وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فكبر الإمام غير ذلك اتبع الإمام إلا إذا كبر الإمام تكبيراً لم يكبره أحد من الفقهاء؛ فحينئذٍ لا يتابعه.
وأراد بقوله: لم يكبره أحد من الفقهاء أحد من الصحابة، وهذا لأنه بالاقتداء بالإمام حكّمه على نفسه، فيتعين حكمه عليه ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإذا كبر تكبيراً كبره أحد من الصحابة لم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد فينفذ عليه.
وإذا كبر تكبيراً لم يكبره أحد من الصحابة، فإن زاد على ستة عشر يعد خرج حكمه عن حد الاجتهاد فلا ينفذ عليه.
فإن قيل: أليس لو كان الإمام يرى القنوت في صلاة الفجر والمأموم لا يرى ذلك لا يتابعه ولم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد.
قلنا: هناك خرج حكمه عن حد الاجتهاد؛ لأن القنوت في صلاة الفجر منسوخ عام لنا دلالة النسخ وبعد ما ثبت النسخ لا يبقى محلاً للاجتهاد.d
وأما في تكبيرات العيد لم يعم دلالة النسخ بعض أقوال الصحابة رضون الله عليهم أجمعين فهو محل الاجتهاد، وهذا إذا كان الرجل يسمع تكبير الإمام، فإن لم يكن يسمع تكبير الإمام ولكن كبر الناس فكبر هو بتكبير الناس، فإنه يكبر ما كبر الناس، وإن زاد على ستة عشر؛ لأن الزيادة تحتمل أن من الإمام فيكون خطأ ويحتمل أن يكون من الناس بأن سبق تكبيرهم تكبير الإمام فتكون الزيادة واجبة، فدارت الزيادة بين أن تكون خطأ وبين أن تكون واجبة.
والأصل: ما دار بين البدعة والواجب كان الإتيان به أولى من تركه، وكل ما دار بين البدعة والسنّة كان تركه أولى من الإتيان به. وقد قال مشايخنا: إن الرجل إذا كبر بتكبير الناس دون الإمام والأحوط له أن ينوي الافتتاح عند كل تكبيرة حتى أنهم إذا كبروا قبل تكبير الإمام ظناً منهم أن الإمام قد كبر ولم يكن كبر بعد يصير شارعاً في صلاة الإمام بالتكبيرة الثانية، وإن كان شارعاً في التكبيرة الأولى فنية الافتتاح لا تضره لأنه نوى الشروع في الصلاة التي هو فيها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: وإذا افتتح الرجل صلاة العيد مع الإمام ثم نام حين افتتح ثم استيقظ وقد فرغ من الصلاة وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فقام ليقضي صلاته فإنه يكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه مدرك أول الصلاة فيجعل في الحكم كأنه خلف الإمام(2/108)
على ما مر، ولو كان خلف الإمام حقيقة يكبر تكبير ابن عباس فكذا إذا جعل في الحكم كأنه خلف الإمام.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً فاتته ركعة في صلاة العيد مع الإمام، وقد كبر الإمام تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ووالى بين القراءتين، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود أيضاً، فلما سلم الإمام وقام الرجل يقضي ما فاته، فإنه يبدأ بالقراءة ثم بالتكبير، هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في «نوادر الصلاة» لأبي سليمان رحمة الله عليه: أنه يبدأ بالتكبير ثم يقرأ، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان، وما ذكر في «النوادر» جواب القياس.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان. وقال الكرخي رحمه الله: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «النوادر» قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، بناءً على أن ما أدرك المسبوق مع الإمام أول صلاته عند محمد وما يقضيه آخر صلاته.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ما أدرك المسبوق مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أول صلاته وأنكر بعض مشايخنا رحمهم الله هذا الخلاف، وقالوا: لا رواية عن أصحابنا على هذا الوجه، وإنما نصب الكرخي الخلاف على هذا الوجه مقتضى ما ذكره محمد رحمه الله من المسائل، والمسائل متعارضة، ولكن هذا ليس بصحيح.
فالخلاف على هذا الوجه منصوص في «النوادر» ، ولأجل هذا الخلاف وضع المسألة فيما إذا كان الإمام والمقتدي يريان تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ولا تكبير ابن عباس رضي الله عنهما ولا تكبير علي رضي الله عنه، حتى يختلف الجواب متى اعتبر ما يقضي أول صلاته أو آخر صلاته؛ لأن ابن مسعود يقدم التكبيرات في أول الصلاة ويؤخرها في آخر الصلاة، وابن عباس رضي الله عنهما يقدم التكبيرات في الركعتين فيبدأ بالتكبير بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته، وعلي رضي الله عنه يؤخر التكبيرات عن القراءة في الركعتين فيبدأ بالقراءة بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته.
فإن كانت المسألة المذكورة هنا على الاختلاف الذي ذكره الكرخي رحمه الله فتخريجها ظاهر؛ لأن عند محمد رحمه الله ما يقضي المسبوق آخر صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية في القراءة في آخر الصلاة.
وعندهما ما يقضي المسبوق أول صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية بالتكبير في أول الصلاة.
وإن كانت المسألة على الروايتين كما ذهب إليه بعض المشايخ القياس والاستحسان كما ذهب إليه بعض المشايخ.
فوجه القياس: وهو إحدى الروايتين أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق فيكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق، فيكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية وتصحيحاً للاقتداء؛ لأن بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الأخريين.
والمغايرة تمنع صحة الاقتداء، ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك اعتبر آخراً في حقه حكماً إن كان أولاً حقيقة، وإذا كان ما أدرك مع الإمام آخراً في حقه حكماً أولاً حقيقة كان ما يقضي أولاً في حقه حكماً آخراً حقيقة والعمل بالحقيقة والحكم في حق التكبيرات متعذر لما بينهما من التنافي فلا بد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر.
فنقول: اعتبار الحكم أولى؛ لأن الحكم قاضي على الحقيقة فسقط اعتبار الحقيقة شرعاً، ولهذا اعتبر الحكم في حق القنوت حتى لو قنت مع الإمام فيما أدرك يكون معتداً به حتى لا يقنت فيا يقضي.
وجه الاستحسان: أن الأمر كما قلتم إنما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر(2/109)
صلاته حقيقة، وما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً، إلا أنه تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي في حق الثناء حتى يقع في محله، وهو ما قبل أداء الأركان، ويعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته وما يقضي أول صلاته فأوجبنا القراءة فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها فيعتبر الحكم في حق القراءة حتى يخرج من عهدة ما عليه بيقين، وفي حق القنوت يعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي فلا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع.
وفي حق القعدة تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي فألزمناه القعدة متى فرغ مما يقضي؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فاعتبرنا الحقيقة في حق القعدة فأوجبنا عليه القعدة متى فرغ مما يقضي حتى يخرج عن العهدة بيقين.
وفي حق التكبيرات اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي؛ لأن اعتبار (108ب1) الحكم يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فإن الصحابة أجمعوا على عدم الموالاة بين التكبيرات، وفي اعتبار الحكم موالاة بين التكبيرات، فإنه آخر التكبيرات عن القراءة في الركعة التي أدركها مع الإمام فلو قدم التكبيرات فيما يقضي تقع الموالاة بين التكبيرات، أما لو اعتبرنا الحقيقة وبدأ بالقراءة يصير عاملاً بقول علي رضي الله عنه، فلا يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فكان اعتبار الحقيقة في حق التكبيرات أولى.
قال السيد الإمام أبو شجاع رحمه الله: وهذا ضعيف، فإن الموالاة بين التكبيرات جائز، ألا ترى أن الإمام لو افتتح الصلاة على مذهب علي رضي الله عنه حين قدم القراءة على التكبير، فلما صلى ركعة تحول رأيه إلى رأي ابن عباس رضي الله عنهما حتى قدم التكبير على القراءة في الركعة الثانية جاز ذلك، وهذا موالاة بين التكبيرات على أنا(2/110)
نقول: هذا من حيث الصورة يترأى أنه موالاة بين التكبيرات، وأما من حيث المعنى فليس كذلك؛ لأن الركعة الثانية قضاء، والقضاء يلحق بمحل الأداء.
والوجه الصحيح في ذلك أن يقال: اعتبار الحكم في حق التكبيرات يؤدي إلى أمر غير مشروع عند ابن مسعود رضي الله عنه، فإن من مذهب ابن مسعود أنه لا يشتغل بالتكبيرات الزوائد إلا بعد أداء ركن من أركان الصلاة في الركعتين جميعاً، فإن في الركعة الأولى يؤتى بتكبيرات العيد بعد تكبيرة الافتتاح، وإنها ركن أو فرض على ما عرف، وفي الركعة الثانية يؤتى بالتكبيرات الزوائد بعد القراءة والقراءة في الركعتين فرض.
إذا ثبت هذا فنقول: لو اعتبرنا الحكم في حق التكبيرات يأتي بالتكبيرات في هذه الركعة أولاً، فيصير إتياناً بالتكبيرات الزوائد قبل أداء ركن في هذه الركعة، وإنه غير مشروع على مذهبه.
ووجه آخر في المسألة أيضاً: أن ابن مسعود رضي الله عنه إنما لا يقدم التكبيرات في الركعة الأولى لا لكونها أولاً وتؤخر في الركعة الثانية لا لكونها ثانية، بل لأن السنّة في تكبيرات العيد الجمع بينهما، وإليه وقعت الإشارة في قوله عليه السلام حين صلى صلاة العيد وكبر فيها، كما هو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنسوا أربع كأربع الجنائز إلا أن في الركعة الأولى وقعت المعارضة بين تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع فإنهما عدتا من تكبيرات العيد، فكان الضم إلى تكبيرة الافتتاح أولى؛ لأنها أشبه بتكبيرات العيد، فإنها تؤدى في حالة القيام المحض كتكبيرات العيد.
وترفع الأيدي عندهما كما ترفع عند تكبيرات العيد. وفي الركعة الثانية لم توجد تكبيرة الافتتاح فيجب الضم إلى تكبيرة الركوع.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فهذا وإن كان أول صلاته حكماً، إلا أن هذا أول ليس له تكبيرة الافتتاح فيضم التكبيرات الزوائد إلى تكبيرة الركوع ضرورة، فلهذا يقدم القراءة على التكبيرات في هذه الركعة. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وليس قبل العيدين صلاة يريد به أنه لا يتطوع قبل صلاة العيدين، والأصل فيه حديث جابر قال: كنت آخر الناس إسلاماً فحفظت من رسول الله عليه السلام «أن لا صلاة في العيدين قبل الإمام» ، ولأنه لو تطوع قبل الإمام ربما يدخل الإمام في الصلاة، فإما أن يقطع ويتابع الإمام، أو يتم ويترك المتابعة وكل ذلك لا يجوز. قال: وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة لحديث علي رضي الله عنه:(2/111)
«من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت وبكل ورقة حسنة» .
قال القاضي الإمام أبو جعفر الإسترسي: كان شيخنا أبو بكر الرازي رحمه الله يفتى بقول أصحابنا رحمهم الله: وليس قبل العيدين صلاة ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبل العيدين مكروه، إلا أن الكرخي نص على الكراهة فإنه قال: ويكره لمن حضر المصلى يوم العيد التنفل قبل الصلاة. والله أعلم.
وقال بعض الناس: لا يكره التطوع قبل العيد ولا بعدها، لا في حق القوم ولا في حق الإمام. وقال الشافعي: يكره في حق الإمام، ولا يكره في حق القوم.
ذكر في «نوادر الصلاة» : ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقال الشافعي: يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناءً على أن المنفرد هل يصلي صلاة العيد؟ عندنا لا يصلي، وعنده يصلي؛ لأن الجماعة والسلطان ليس بشرط عنده، فكان له أن يصلي وحده، فإذا فاتته مع الإمام لم يعجز عن قضائها.
فقال بالقضاء كالتراويح إذا فاتت بالجماعة في رمضان يقضيها وحده؛ لأنه قادر على قضائها، لأنه يجوز الأداء منفرداً كما يجوز بجماعة كذا ههنا. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: لا يجوز إقامتها إلا بشرائط مخصوصة منها الإمام، فإذا فاتت مع الإمام فقد عجز عن قضائها، فلا يلزمه القضاء.
فإن قيل: صلاة العيد قائمة مقام صلاة الضحى، ولهذا تكره صلاة الضحى قبل صلاة العيد، وإذا قامت مقام صلاة الضحى، وهو قادر على صلاة الضحى إن عجز عن إقامة صلاة العيد وجب أن تلزمه صلاة الضحى لتقوم مقام صلاة العيد، كما إذا فاتته الجمعة يلزمه إقامة الظهر، وإنما تلزمه لما قلنا.
قلنا: نعم صلاة العيد أقيمت مقام صلاة الضحى، فإذا عجز عن إقامة صلاة العيد لفوات الشرائط عاد الأمر إلى الأصل وهي صلاة الضحى، وصلاة الضحى غير واجبة في الأصل بل يتخير في ذلك.
وفي أداء الجمعة لما عجز عن أداء الجمعة لفوات الشرائط سقطت عنه الجمعة، وعاد الأمر إلى ما كان قبل الجمعة، وقبل الجمعة كان يلزمه أداء الظهر، ولا يتخير في أدائه، فكذلك بعدها، فإن أحب أن يصلي صلى إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً، ويكون ذلك صلاة الضحى والأفضل أن يصلي أربع ركعات، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، يقرأ في الركعة الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} (الشمس: 1) ، وفي الثالثة: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) ، وفي الرابعة: {وَالضُّحَى} (الضحى: 1) . وروي في ذلك عن النبي عليه السلام وعداً جميلاً وثواباً جزيلاً.(2/112)
وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى الجبانة، إنما كره ذلك في الجبانة، وكان يقول: لا بأس للمرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد قبل أن يصلي الإمام صلاة العيد.
وعامة المشايخ على الكراهة قبل الخروج إلى الجبانة وفي الجبانة، وعلى قول العامة: إذا أرادت المرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد تصلي بعدما صلى الإمام.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد يشتغل بالتسبيحات دون الثناء، فقد قدم التسبيحات على الثناء، وفيما إذا أدرك الإمام في الركوع، وخاف أنه لو أتى بتكبيرات العيد قائماً لا يدرك شيئاً من الركوع يأتي بتكبيرات العيد دون التسبيحات عند أبي حنيفة ومحمد وقدم تكبيرات العيد على التسبيحات؛ لأن التسبيحات سنّة والتكبيرات تسبيحات في محلها والثناء لا.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من أدرك الإمام في ركوع صلاة العيد تابعه في الركوع، فعلى قياس ما ذكرنا أنه يكبر في الركوع تكبيرات العيد ينبغي أن يرفع اليدين؛ لأنه سنّة في تكبيرات العيد.
وفي «النوازل» : إمام صلى بالناس صلاة العيد ثم علم أنه على غير وضوء، إن علم قبل الزوال يعيد في العيدين؛ لأن الوقت باقي، وإن علم بعد الزوال يخرج في العيدين من الغد لأنه تأخير بعذر، وإن علم في الغد بعد الزوال ففي الأضحى يخرج في اليوم الثالث، لأن الوقت باقي، وفي عيد الفطر لا، لأن الوقت لم يبق، فإن علم في اليوم الأول بعد الزوال، وكان عيد الأضحى وقد كان ذبح الناس يجزىء من ذبح.
وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز، بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «قرأ في صلاة العيد سورة البقرة» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قرأ فيها {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} » ، وعن نعمان بن بشير رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «كان يقرأ في العيدين: « {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى غُثَآء (1) هوَ الَّذِى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} » ، وروي أنه كان يقرأ سورة «الجمعة» و {إِذَا جَآءكَ الْمُنَفِقُونَ} ، فاختلاف يدل على أنه ليس فيها شيء مؤقت.
والمعنى فيه: وهو أن هذه صلاة شرعت فيها القراءة، فلا يتعين فيها قراءة سورة من القرآن سوى الفاتحة قياساً (109أ1) على سائر الصلوات، وهذا لأن في تعيين سورة هجر الباقي، وليس شيء من القرآن بمهجور.
وإذا أدرك الإمام في صلاة العيد بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم أو بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو أو بعدما سجد للسهو فدخل معه، ثم سلم الإمام فإنه يقوم فيقضي صلاة العيد لأنه شارك الإمام في الصلاة فيلزمه القضاء.
من مشايخنا من قال: المذكور قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، فأما قول(2/113)
محمد رحمه الله: لا يصير مدركاً لصلاة العيد كما قال في الجمعة: إذا أدرك الإمام في هذه الحالة لا يصير مدركاً للجمعة عنده، حتى يصلي أربعاً عنده فكذلك ها هنا.
ومنهم من قال: هذا بلا خلاف وهو الأصح، فإن صح الخلاف لمحمد في صلاة العيد كما في الجمعة فلا حاجة لمحمد رحمه الله إلى الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، وإن لم يصح الخلاف يحتاج محمد إلى الفرق بين صلاة العيد وبين صلاة الجمعة.
فإنه قال: في صلاة الجمعة لا يصير مدركاً للجمعة، ويصلي أربعاً، وفي صلاة العيد قال: يصير مدركاً لصلاة العيد، ويصلي صلاة العيد وحده.
ووجه الفرق لمحمد رحمه الله وهو: أن القياس ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الجمعة، إلا أنه ترك القياس بالأثر، والأثر ورد في الجمعة، وما ورد في العيد، وترد صلاة العيد إلى أصل القياس، ولأن محمد رحمه الله جعله مدركاً للجمعة في تلك المسألة بدليل أنه لو ترك القعدة على رأس الركعتين لا تجزئه صلاته، كما إذا صلى الجمعة وترك القعدة على رأس الركعتين، وإذا خرج وقت الظهر فسدت صلاته إلا أنه أمر بزيادة ركعتين احتياطاً لتقوم مقام الظهر، وليس في صلاة العيد زيادة نأمره بها احتياطاً.
ثم إذا سلم الإمام وقام هو إلى القضاء كيف يصنع؟ قال الشيخ الإمام الزاهد المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يقوم فيكبر ثلاث تكبيرات، ثم يقرأ؛ لأن ما يقضي أول صلاته في هذه الحالة بالإجماع، لأنه مسبوق بركعتين، والتكبير مقدم على القراءة الأولى ومؤخر في الثانية عندنا، فكذلك ههنا.
قال في «الأصل» : والسهو في العيدين والجمعة والمكتوبة والتطوع سواء لأن الجمعة والعيدين ساوت سائر الصلوات فيما يوجب الفساد فتساويها فيما يوجب الجبر، إلا أن مشايخنا قالوا: لا يسجدون للسهو في الجمعة والعيدين كيلا يقع الناس في الفتنة. ولا تجوز صلاة العيد راكباً كالجمعة، ولا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه.
«في غريب الرواية» : وإذا قرأ الإمام السجدة في خطبة العيد سجدها وسجد معه من سمعها، كما في الخطبة الجمعة، وكذلك إذا قرأها في الصلاة سجدها وسجد القوم معه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لا يسجدون، والكلام في العيد نظير الكلام في الجمعة.
وإذا أحدث رجل في الجبانة وخاف أنه إن رجع إلى الكوفة ليتوضأ تفوته الصلاة، وهو لا يجد الماء، فإن كان قبل الشروع في الصلاة يتيمم ويصلي مع الناس. من أصحابنا من قال: هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد، أما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فينبغي أن لا يجوز التيمم.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنه متى خاف الفوت يجوز له التيمم في أي موضع كان، وكذلك إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة تيمم وصلى، وإن لم يتيمم وانصرف إلى الكوفة وتوضأ، ثم عاد إلى المصلى وصلى جاز.(2/114)
وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة لم يجز له التيمم، وهذا الذي ذكرنا في حق المقتدي وكذلك الحكم في حق الإمام.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه ليس للإمام أن يتيمم، لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوا بدون الإمام، وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء، ومن تكلم في صلاة العيد بعدما صلى ركعة فلا قضاء عليه.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: عليه القضاء بناءً على المسألة المتقدمة، وهو ما إذا أحدث في صلاة العيد ولم يجد ماء وهو يخاف الفوت إن توضأ فعلى قول أبي حنيفة يتيمم؛ لأن على قوله لا يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم تفوته الصلاة أصلاً، وعلى قولهما: لا يتيمم؛ لأنه يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم لا تفوته الصلاة أصلاً.
الفصل السابع والعشرون في تكبير أيام التشريق
تكبير التشريق سنّة: أجمع أهل العلم على العمل بها، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) جاء في التفسير: أن المراد منه أيام العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: «وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبل يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام: «صلى الفجر يوم عرفة وقال: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في ابتدائه وانتهائه.
أما الاختلاف في ابتدائه فكبار الصحابة عمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة يوم عرفة، وبه أخذ علماؤنا في ظاهر الرواية، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله.v
وصغار الصحابة كعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر من يوم النحر، وهو المشهور من أقوال الشافعي رحمه الله، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله، وللشافعي رحمه الله قول ثالث أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر من يوم النحر.(2/115)
وأما الاختلاف في انتهائه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من أول يوم النحر ويقطع فتكون الجملة عنده ثمان صلوات، وبقوله أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وقال علي رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويقطع، فتكون الجملة ثلاثاً وعشرون صلاة، وبه أخذ أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، وعن عمر رضي الله عنه روايتان، في رواية كما قال علي رضي الله عنه وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.
وقال زيد بن ثابت في رواية كما قال علي رضي الله عنه: وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشرق.
وللشافعي رحمه الله للقطع ثلاثة أقوال أيضاً قال في قول: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. نتكلم أولاً في ابتدائه حجة صغار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) والفاء للتعقيب، والمراد به التكبير؛ لأنه لا يجب ذكر آخر عقيب قضاء المناسك إلا التكبير، وقضاء المناسك إنما يتم وقت الضحوة من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه فيقع ابتداء التكبير من صلاة الظهر.
حجتنا قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) روي عن جماعة من الصحابة أن المراد به أيام العشر، ومنهم من قال: المراد منه يوم النحر ويومان بعده، فاتفقوا على أن يوم النحر مراد بظاهره يقتضي أنه كلما طلع الفجر من يوم النحر يكبر وعنده لا يكبر في صلاة الفجر، وحديث جابر، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم على ما روينا دليل على صحة مذهبنا.
وروى أبو الطفيل عن علي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما «أنهما سمعا رسول الله عليه السلام يكبر في دبر الصلوات المكتوبات من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من أخر أيام التشريق حتى يسلم من المكتوبات» . أما الجواب عن التعليق بالآية
قلنا: أراد به ذكر الله تعالى في الأوقات كلها لا التكبير في أوقات مخصوصة ألا ترى أنه قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) وهم كانوا يذكرون آبائهم في الأوقات كلها على سبيل التفاخر وأمرهم الله تعالى بذكره في الأوقات كلها مقام ذكر آبائهم.(2/116)
وحاصل الاختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله على ما هو المشهور من قوله راجع إلى أن التكبير في أول يوم النحر بأي علةٍ شرعت فإن التكبير في أول يوم النحر مشروع بالإجماع.
فعند علمائنا رحمهم الله شرع؛ لأنه يوم اختص بركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة فإنه يجوز فيه ولا يجوز قبله (109ب1) ، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت ركن من أركان الحج.
وعند الشافعي شرع فيه؛ لأنه يوم اختص بتبع من توابع الحج وهو الرمي فإن رمي جمرة العقبة مشروع فيه، وليس بمشروع قبله، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت رمي الجمر، فنحن عللنا بما عللناه إلى يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة يوم اختص بركن من أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة وهو عدل بما علل إلى ثلاثة أيام التشريق؛ لأنه اختص هذه الأيام بتبع من توابع الحج وهو الرمي، فرجح الشافعي علته وقال: التكبير تبع من توابع الحج، وليس من أركان الحج فكان جعله علماً على ما شرع تبعاً من توابع الحج أولى من جعله علماً على ما شرع ركناً من أركان الحج.
وعلماؤنا رحمهم الله رجحوا عليتهم فقالوا: متى عللنا بما قلنا فقد علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين، ومتى عللنا بما قاله الشافعي رحمه الله فما علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين.
بيانه: أن في الركن تبع وزيادة لأن الركن يستتبع التبع أما التبع لا يستتبع الركن فمتى علقنا التكبير بالركن والتبع موجود فيه فقد علقناه بما علقه الشرع به بيقين ومتى علقناه بالتبع والركن لا يوجد في التبع فما علقناه بما علقه الشرع به بيقين لأنه يحتمل أن الشرع علقه بالركن والركن لم يوجد في التبع فكان ما قلناه أولى. وقد صح عن رسول الله عليه السلام برواية جابر رضي الله عنه «أنه صلى الفجر يوم عرفة وكبر» فصار تعليلنا مؤيداً بخبر رسول الله عليه السلام فكان أولى، هذا هو الكلام في البداية.
وأما الكلام في القطع والنهاية فأبو حنيفة رحمه الله رجح قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن شرعية التكبير في أول يوم النحر لكونه مختصاً بركن من الحج ولم توجد هذه العلة في اليوم الثاني من يوم النحر، وهما رجحا قول علي رضي الله عنه فقالا: تعليل الأصل كما يجوز بعلة واحدة فيجوز بعلتين، فنحن نقول شرعية التكبير في أول يوم النحر معلولة بما قلنا وبما قاله الشافعي رحمه الله، وإحدى العلتين موجودة في هذه الأيام بعد يوم النحر فصحت التعدية.
ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» : ليرجح قولهما فقال: لما اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في التكبيرات عقيب الصلوات كان الأخذ بقول علي رضي الله عنه، وفيه زيادة تكبير أولى؛ لأنه إن كان كبر وليس عليه ذلك أولى من أن يترك وعليه(2/117)
ذلك، فمن المشايخ من ناقض محمداً في هذا فقال: أليس لم يأخذ محمد رحمه الله بتكبير ابن عباس رضي الله عنه في صلاة العيد مع أن فيه زيادة تكبير.
ومحمد رحمه الله يفرق ويقول: تكبيرات العيد يؤتى بها في الصلاة والأصل صيانة الصلاة عن إدخال الزوائد فيها كما في سائر الصلوات، إلا أن فيما اتفقت عليه الأقاويل هو الأقل عدلنا عن الأصل. وفيما اختلفت فيه الأقاويل عدنا إلى الأصل، أما تكبيرات التشريق يؤتى بها عقيب الصلوات، وهو موضع الدعاء والذكر والإكثار في الأذكار في موضعها أفضل قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب: 41) بعد هذا يحتاج إلى بيان كيفية هذ التكبير وإلى بيان ما يجب عليه هذا التكبير.
أما الكلام في كيفيته فنقول: التكبير عندنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقال الشافعي رحمه الله: التكبير أن يقول: الله أكبر ثلاث مرات، أو خمس مرات، أو سبع مرات، أو تسع مرات، حجته في ذلك أن المنصوص عليه في الكتاب هو التكبير لا غير قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والتكبير قول: الله أكبر وقوله: لا إله إلا الله، تهليل وقوله: ولله الحمد تحميد، فمن شرط ذلك فقد زاد على الكتاب.
حجتنا في ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنه وحديث جابر على نحو ما روينا في ابتداء المسألة، والأمة توارثوا التكبير من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من الوجه الذي بينا، والتوارث حجة.
وقيل: إن مأخذ التكبير من جبريل، وإبراهيم، وإسماعيل صلوات الله عليهم، فإن إبراهيم لما أضجع إسماعيل للذبح أمر الله عزّ وجلّ جبريل عليه السلام حتى يذهب إليه بالفداء فلما رأى جبريل أنه أضجعه للذبح فقال: الله أكبر الله أكبر كيلا يعجل بالذبح، فلما سمع إبراهيم صوت جبريل عليه السلام وقع عنده أنه يأتيه باللسان.
فهلل الله تعالى وذكره بالوحدانية فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما وقع عنده أنه فدي، فحمد الله تعالى وشكره فقال: الله أكبر ولله الحمد، فثبوته على هذا الوجه بهولاء الأجلاء فلا يجوز أن يأتي بالبعض ويترك البعض.
وأما الكلام فيمن يجب عليه هذا التكبير فنقول: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجب هذه التكبيرات مقصوداً إلا على الرجال المقيمين في الأمصار عقيب الصلوات المكتوبات بالجماعة، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يجب على كل من تجب عليه الصلاة المكتوبة في أيام التشريق، الرستاقي والبلدي والمسافر والمقيم والذي يصلي وحده والذي يصلي بجماعة سواء، وهو قول إبراهيم، وعامر.(2/118)
فوجه قولهما: أن التكبير تبع للمكتوبة فيجب على كل من تجب عليه المكتوبة بطريق التبعية.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: قوله عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» والمراد من التشريق تكبير أيام التشريق هكذا قاله النضر بن شميل، والخليل بن أحمد وهما كانا من أئمة اللغة، ولأن التشريق حقيقته تقديد اللحم؛ لأنه تفعيل من شرق تشريقاً إذا قطع وأظهر للشمس سمي تقديد اللحم تشريقاً؛ لأن في ذلك تقطيعه وإظهاره للشمس والحقيقة وهو التقديد ليس بمراد؛ لأنه لا يختص بالمصر وله مجاز أن الصلاة والتكبير في أدبار الصلوات لأن في ذلك إظهار شعار الإسلام فإن أمكن حمله عليهما يحمل عليهما ويكون هذا تبعاً للصلاة والتكبير إلا في مصر جامع، وإن لم يمكن حمله عليهما يحمل على التكبير لأن نفي صلاة العيد إلا في المصر استفيد برواية أخرى، وهو قوله عليه السلام والتحية: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» والمراد من الفطر والأضحى صلاة الفطر والأضحى فلو حمل التشريق المذكور في هذه الرواية على الصلاة كان تكراراً ومهما أمكن حمل اللفظ على فائدة جديدة لا يحمل على التكرار، وإذا ثبت أن المصر شرط وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة وصلاة العيدين.
فإن قيل: هذه التكبيرات شرعت تبعاً ولا يجوز أن يشترط التبع ما لا يشترط الأصل قلنا: نعم إلا أن هذه التبعية عرفت شرعاً بخلاف القياس فإنه لم يشرع في غير هذه الأيام فيراعى لهذه التبعية جميع الشرائط التي ورد بها، والنص جعل من إحدى شرائط إقامته المصر وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة والعيد، واختلاف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله: أن الحرية هل هي شرط لوجوب هذه التكبيرات.(2/119)
وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا أم العبد قوماً صلاة مكتوبة في هذه الأيام هل يجب عليه التكبير لمن شرط الحرية قال: فإن الذكورة والمصر شرط لإقامته مقصوداً فكذا الحرية قياساً على الجمعة وصلاة العيد.
ومن لم يشترط الحرية قال: لم يشترط لإقامته السلطان فلا يشترط الحرية كسائر الصلوات وإنما لم يشترط لإقامته السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله لما حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن التكبير يشبه صلاة العيد وصلاة الجمعة من حيث إنه شرط لإقامته المصر بالنص كما شرط الإقامة للجمعة والعيد ويشبه سائر الصلوات من حيث إنه يقام في يوم واحد خمس مرات، فكان له حظاً من الخصوص والعموم، فأشبه بالخصوص شرطنا القوم الخاص والجماعة وأشبه بالعموم لم يشترط السلطان توفيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى النساء والمسافرون مع الرجال المقيمين في مصر جماعة وجب عليهم التكبير بالإجماع إذا كان الإمام مقيماً؛ لأنهم بالاقتداء به صاروا أتباعاً له في الصلاة، فكذا في التكبير؛ لأن التكبير من توابع الصلاة وقد يثبت الشيء تبعاً، وإن كان لا يثبت مقصوداً، ألا ترى أن الزكاة (110أ1) لا تجب في الجملان والفصلان مقصوداً عند أبي حنيفة رحمه الله وتجب تبعاً لغيرهن بأن كانت معهن مسنة.
وأما المسافرون إذا صلوا جماعة في مصر ففيهم روايتان في رواية الحسن: عليهم التكبير، وفي رواية أخرى لا تكبير عليهم؛ لأن السفر للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض أن يصلوا في المصر وبين أن يصلوا خارج المصر فكذا في التكبير ولا يكبر في شيء من النوافل لأن الجهر بالتكبير عرف قربة شرعاً بخلاف القياس والشرع إنما ورد به في المكتوبات، ففي غير المكتوبات يبقى على أصل القياس.
ولا يكبر في صلاة العيد؛ لأنها تطوع فأشبه سائر التطوعات ولا في الوتر. أما عندهما؛ فلأنه سنّة وتطوع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان فرضاً إلا أنه يؤدى بجماعة إلا في شهر رمضان والجماعة عند أبي حنيفة رحمه الله شرط.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً صلى بقوم صلاة في أيام التشريق، فنسي التكبير، ثم تذكر بعدما خرج من المسجد، أو تكلم لم يكن عليه تكبير.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن ما يمنع بناء بعض الصلاة على البعض يمنع التكبير، وما لا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض لا يمنع التكبير؛ لأن التكبير شرع متصلاً بالصلاة كأفعال الصلاة شرعت متصلة بعضها ببعض.
قلنا: وكلام الناس والخروج عن المسجد لا لإصلاح الصلاة لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظن يمنع البناء فيمنع التكبير، فأما إذا تحول من مكانه إلا أنه في المسجد بعد، ولم يتكلم فتذكر فإنه يأت بالتكبير أستدبر القبلة أو لم يستدبر، إن لم يستدبر فظاهر، لأن المسجد مع تباين أطرافه جعل كمكان واحد في حق الصلاة، ألا ترى أنه جاز اقتداء(2/120)
من كان تأخر وانصرف بالإمام، فكذا في حق التكبير فصار كأنه في مكان صلاته حقيقة مستقبل القبلة، وقد سهى عن التكبير، ثم تذكر، وهناك يأتي بالتكبير فهنا كذلك، وأما إذا استدبر القبلة، فكذلك الجواب، وكان ينبغي أن لا يأتي بالتكبير لأن الاستدبار ما كان لإصلاح الصلاة هنا؛ لأنه أتم الصلاة، والاستدبار إذا لم يكن لإصلاح الصلاة يمنع البناء.
ألا ترى أنه لو ظن أنه مسح رأسه فاستدبر القبلة ثم تذكر أنه مسح رأسه، وهو في المسجد بعد لا يمكنه البناء، فينبغي أن لا يأتي بالتكبيرات هنا أيضاً. والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن استدبار القبلة في تلك المسألة لا يمنع البناء؛ لأنه ما كان لإصلاح الصلاة بل لأنه كان للرفض والترك حقيقة، وهذا يمنع البناء؛ لأنه يقطع حرمة الصلاة وهنا الاستدبار لم يكن للترك والرفض؛ لأنه أتم الصلاة فشبه من هذا الوجه استدبار القبلة في مسألة الرعاف بأن سال من أنفه ماء فظن أنه رعاف فاستدبر القبلة ثم تبين أنه ماء وهو في المسجد بعد وهناك يبني؛ لأن الاستدبار ما كان للترك والرفض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يقول: ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» يصير رواية، فيمن سلم على ظن أنه أتم الصلاة واستدبر القبلة، ثم تذكر أنه لم يتم الصلاة وهو في المسجد بعد، ولم يتكلم بكلام الناس أنه يأتي بما بقي عليه، وكان يقول: لا يعرف لهذه المسألة رواية إلا في «الجامع» ، وكان يقول أيضاً: وذكر الكرخي رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن من سلم على ظن أنه أتم صلاته ثم تذكر بعدما استدبر القبلة أنه لم يتم، وهو في المسجد بعد، لا يكون ذلك قاطعاً لصلاته عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يكون قاطعاً. فعلى قياس ما ذكر الكرخي ينبغي أن لا يأتي بالتكبير هنا عند محمد؛ لأن هذا يمنع البناء عنده فيمنع التكبير أيضاً عنده.
قال: والحدث العمد يمنع التكبير لأنه يمنع البناء، والحدث ساهياً لا يمنع التكبير؛ لأنه لا يمنع البناء إلا أن هناك يلزمه الذهاب لتجديد الوضوء وهنا لا يلزمه؛ لأن التكبير ليس من أفعال الصلاة، ولا يؤدي في حرمة الصلاة، فلا يشترط له الوضوء ولكن لو ذهب وتوضأ كان أفضل؛ لأن ذكر الله تعالى مع الطهارة تكون أفضل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل صلى بقوم في أيام التشريق فسلم ولم يكبر ساهياً حتى خرج من المسجد، فعلى القوم أن يكبروا، والمسألة لو كان على الإمام سجود السهو لم يكن على القوم أن يسجدوا.
والفرق: أن سجود السهو من أفعال الصلاة، فإنها تؤدى في حرمة الصلاة؛ ولهذا لو أدرك الإمام في سجود السهو يصير مدركاً للصلاة، ولو قهقه في هذه الحالة يكون حدثاً وما كان من أفعال الصلاة، متى سقط عن الإمام سقط عن القوم كالقعدة على رأس الركعتين، وسجدة التلاوة واجبة في الصلاة.
فأما تكبيرات التشريق ليست من أفعال الصلاة، وإنها تؤدى خارج الصلاة بدليل(2/121)
عكس ما ذكرنا من الأحكام، فسقوطه عن الإمام لا يوجب سقوطه عن القوم.
يوضحه: أن المقتدي بالاقتداء صار تابعاً للإمام فيما هو من أفعال الصلاة، لا فيما ليس من أفعال الصلاة، وحكم التبع لا يخالف حكم الأصل فيما هو من أفعال الصلاة متى سقط عن الإمام فسقط عن المقتدي بطريق التبعية، ولا كذلك ما ليس من أفعال الصلاة.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يأتون بالتكبير عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الجماعة عنده شرط الوجوب يجب أن يكون شرط الأداء كما في الجمعة، والجماعة إنما تتحقق بالإمام والقوم، فإذا ذهب الإمام فقد انعدمت الجماعة على ما ذكرنا.
قلنا: التكبير يشبه الجمعة ويشبه سائر الصلوات، فلشبهه بالجمعة يشترط لوجوبه الجماعة، ولشبهه بسائر الصلوات لا يشترط لأدائه الجماعة عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: إذا فاتته الصلاة في غير أيام التشريق فأراد أن يقضيها في أيام التشريق فهنا أربع مسائل:
إحداها: هذه والحكم فيها أن يقضيها من غير تكبير وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير، وجه هذه الرواية قوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» جعل وقت التذكر وقت الأداء، ووقت التذكر وقت التكبير، وجه ظاهر الرواية: أنه إن في القضاء تعتبر حالة الفوات في حق بعض الأحكام فإن من قضى الفجر في غير وقته يجهر بالقراءة فيها، ومن قضى الظهر والعصر في غير وقتها يخافت بالقراءة فيها، ومن قضى الفائتة في حالة السفر في حالة الإقامة، فصار ركعتين في ذوات الأربع ومن قضى الفائتة في حالة الإقامة في حالة السفر قضاها أربعاً.
وفي حق بعض الأحكام تعتبر حالة القضاء، ألا ترى أن المريض إذا فاتته صلاة قائماً فقضاها بعدما قدر على الركوع والسجود فقضاها بركوع وسجود ولو فاتته صلاة بركوع وسجود، فأراد أن يقضيها حال ما لا يقدر على الركوع والسجود قضاها قائماً، فباعتبار حالة القضاء إن كان يجب التكبير، فباعتبار حالة الأداء لا يجب التكبير.
والجهر بالتكبير عرف شرعاً بخلاف الأصل، فإن الأصل في الأذكار والأدعية الخفية فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب على اعتبار حالة الفوات راجح، لأنه هو المعتبر في عامة الأحكام، وإنما اعتبر حالة القضاء في المريض خاصة وإبداء العبرة للراجح. والحديث لا حجة له فيه؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون وقت التذكر وقت الصلاة الفائتة، فكان هذا الوقت من حيث التقدير، كأنه ذلك الوقت، وذلك الوقت ليس وقت التكبير.
المسألة الثانية: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، وقضاها في غير أيام التشريق، فقضاها من غير تكبير، وعند الشافعي رحمه الله قضاها بتكبير وجه قوله: أن الفائت إنما(2/122)
يقضى على الوجه الذي فات كما في الجهر والمخافتة على ما مر.
وجه قولنا: أن الفائت إنما يقضى على الوجه الذي فات إذا أمكن، وهنا لا إمكان؛ لأن الجهر بالتكبير إنما عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان، فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.v
ألا ترى: أن التضحية إذا فاتت عن وقتها لا تقضى، وكذا رمي الجمار إذا فاتت عن وقته لا تقضى؛ لأن التضحية عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس (110ب1) ، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.
ألا ترى: أن التضحية لما كانت تثبت في الحقيقة فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء فسقط كذا ههنا.
المسألة الثالثة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق من عامه ذلك فقضاها بتكبير؛ لأن وقت التكبير باقي؛ لأن جميع أيام التشريق وقت التكبير.
ألا ترى: أن التكبيرات تضاف إلى جميع أيام التشريق إلا أنه فات الوقت المستحب، فإن الوقت المستحب أن يأتي بها عقيب الصلوات في أوقاتها، ولكن فوات الوقت المستحب لا يوجب سقوط العبادة إذا بقي أصل الوقت. ألا ترى لو ترك رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق ثم رمى فإنه يجزىء وكذا ههنا.
المسألة الرابعة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في الأيام التشريق من العام القابل قضاها من غير تكبير في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير؛ لأنا إن اعتبرنا وقت الفوات فهو وقت التكبير، وإن اعتبرنا وقت القضاء فهو وقت التكبير فقد قدر على القضاء بالتكبير فيلزمه ذلك.
وجه ظاهر الرواية: أن اعتبار وقت الفوات إن كان يوجب التكبير فاعتبار وقت القضاء لا يوجب التكبير؛ لأن وقت القضاء وقت التكبير عقيب الصلوات المشروعة فيه قضاء، فدار التكبير بين أن يجب وبين أن لا يجب، وهو بدعة في الأصل، فلا يجب عند التردد بخلاف ما إذا أراد أن يقضيها في أيام التشريق من عامه ذلك؛ لأن التكبير مشروع في الصلوات المشروعة في هذه الأيام، والفائت صلاة هذه الأيام، أما هنا فيخالفه.
ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرماً، أما تقديم سجود السهو على التكبير؛ لأن سجود السهو يؤدى في حرمة الصلاة والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها، ولهذا صح الاقتداء بالإمام في سجود السهو، ولا يصح الاقتداء به في التكبير. وأما تقديم التكبير على التلبية؛ فلأن التكبير يؤدى في فور الصلاة والتكبير لا يختص أداؤه بحال في فور الصلاة، والتكبير من خصائص الصلاة، والتلبية ليست من خصائص الصلاة، فإنه يلبي كلما هبط وادياً أو علا شرفاً وبالأسحار.
يجهر بالتكبير في عيد الأضحى في طريق المصلى بلا خلاف، وإذا انتهى إلى المصلى يقطع، وفي رواية لا يقطع ما لم يفتتح الإمام الصلاة.
وفي عيد الفطر هل يجهر بالتكبير في طريق المصلى؟ روى المعلى عن أبي يوسف(2/123)
عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجهر، وروى الطحاوي عن أستاذه أبي عمر بن العلاء عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يجهر وهو قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله. احتجوا بما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي عليه السلام: «كان يكبر في الفطر والأضحى إذا خرج من بيته رافعاً صوته بالتكبير» ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما مر في يوم الفطر ومعه قائد فسمع الناس يكبرون فقال: أكبر الإمام، فقال: لا، قال: أفجن الناس؛ ولأن هذا وقت اختص بركن من أركان الحج فلا يشرع فيه التكبير قياساً على رمضان؛ وهذا لأن التكبير شرع علماً على وقت أركان الحج.
فإن قيل: كلما دخل شوال دخل وقت بعض أفعال الحج فإنه لو أحرم في شوال وسعى لها يجوز، والسعي من أفعال الحج.
قلنا: هذا من واجبات الحج لا من أركانه والواجبات تقع للأذكار فشرع التكبيرات علماً على الأركان، وإنها أصول لا يدل على شرعها علماً على الواجبات وإنها توابع. وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: سمعت أن مشايخنا كانوا يرون التكبير في الأيام العشر بدعة في الأسواق. والله تعالى أعلم.
الفصل الثامن والعشرون في صلاة الخوف
يجب أن نعلم بأن صلاة الخوف بقيت مشروعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلّمفي ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنها لم تبق مشروعة حتى لو صلى الإمام صلاة الخوف في زماننا على الوجه الذي صلاها رسول الله عليه السلام جاز في ظاهر رواية أصحابنا. وفي رواية الحسن عن أبي يوسف أنه لا يجوز وهذا ذكره محمد في الأثر عن أبي يوسف قال محمد: هذا قولي لولا الأثر أشار إلى أن القياس ما قاله أبو يوسف، لكن ترك القياس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجه رواية أبي يوسف: أن القياس أبى جواز صلاة الخوف لما فيه من المشي واستدبار القبلة، لكن عرفنا الجواز في زمن رسول الله عليه السلام بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وحِدَةً وَلاَ(2/124)
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 102) لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله عليه السلام، وليس للصلاة خلف غير الرسول من الفضيلة بالصلاة خلف الرسول، فردت صلاة الخوف في زماننا إلى أصل القياس.
وجه ظاهر الرواية: أن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه السلام، روي عن سعيد بن أبي العاص أنه حارب المجوس بطبرستان ومعه الحسن بن علي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع رسول الله عليه السلام، فقال حذيفة: أنا، فقام وصلى بهم صلاة الخوف، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف..... ولم ينكر عليهما أحد فحل محل الإجماع.
والذي قال: بأن صلاة الخوف إنما شرعت في زمن رسول الله عليه السلام لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله فاسد؛ لأن ترك المشي والاستدبار في الصلاة فريضة، والصلاة خلف النبي عليه السلام فضيلة وسنّة؛ لأنه تجوز الصلاة خلف غيره، ولا يجوز ترك الفرض لإحراز الفضيلة، فلا يحال بجواز صلاة الخوف على ما قلتم، وإنما يحال على نفس الخوف؛ لأن للخوف أثراً في إسقاط الفرض، والخوف متحقق في زماننا حسب تحققه في زمن الرسول عليه السلام، فتثبت الشرعية في زماننا حسب ثبوتها في زمن الرسول عليه السلام.
وكيفية صلاة الخوف: أن يجعل الإمام الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو، وطائفة يفتتح الصلاة بهم ويصلي بهم، ويصلي بكل طائفة شطر الصلاة، فإن كانت الصلاة من ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء في حق المقيم يصلي بالطائفة التي معه ركعتين، وتتشهد وتنصرف هذه الطائفة من غير سلام، ويقفون بإزاء العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم بقية الصلاة، ويتشهد ثم يسلم الإمام؛ لأنه تمت صلاته وتنصرف هذه الطائفة بغير سلام، ويقفون بإزاء العدو، ثم تعود الطائفة الأولى، فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، ويتشهدون ويسلمون، وإن كانت الصلاة من ذوات المثنى نحو الفجر في حق الكل، والعصر والعشاء في حق المسافر صلى بكل طائفة ركعة على نحو ما بينا.
وإن كانت الصلاة من ذوات الثلاث نحو المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على نحو ما بينا؛ لأن حظ كل طائفة من صلاة الخوف الشطر وشطر المغرب ركعتان بدليل أن القعدة المشروعة عقيب الشطر شرعت في الغرب عقيب الركعتين؛ ولأن للطائفة الأولى حظاً من الركعة الثانية، والركعة الواحدة مما لا يتجزأ فرجحنا الطائفة الأولى بحكم السبق.(2/125)
ثم الحال لا يخلو من وجهين: إما أن يكون العدو مستدبر القبلة، أو مستقبل القبلة وكل وجه على خمسة أوجه: إما أن يكون الإمام والقوم مسافرين، أو الكل مقيمين، أو كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون، أو كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون، أو كان بعض القوم مقيماً وبعض القوم مسافراً، والإمام مقيم أو مسافر، فإن كان العدو مستدبر القبلة، والإمام والقوم مسافرون، وأرادوا أن يصلوا صلاة الخوف، إن لم يتنازع القوم في الصلاة خلفه، فإن الأفضل للإمام أن يجعل القوم طائفتين، فيأمر طائفة ليقيموا بإزاء العدو، ويصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم يأمر رجلاً من الطائفة التي بإزاء العدو حتى يصلي بهم تمام صلاتهم أيضاً، والطائفة التي صلت مع الإمام الأول يقومون بإزاء العدو (111أ1) وإن تنازع كل طائفة فقالوا: إنا نصلي معك، فإنه يجعل القوم طائفتين تقف إحداهما بإزاء العدو ويراقبون العدو، والطائفة الأخرى يقيمون الصلاة مع الإمام، فيصلي بهم ركعة، فإذا صلى بهم ركعة ذهبت هذه الطائفة التي مع الإمام، وقاموا بإزاء العدو ويراقبون العدو، ثم جاءت الطائفة التي كانت بإزاء العدو والإمام قاعد ينتظرهم، فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يتشهد ويسلم، ولا يسلم معه من كان خلفه، ولكن يقومون ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة مع الإمام فصار كأنهم خلف الإمام، فإذا صلوا ركعة فقد قرأ قدر التشهد ويسلمون، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو ويراقبونهم، ثم تجيء الطائفة الأخرى مكان صلاتهم، فيقضون ركعة بقراءة؛ لأنهم مسبوقون والمسبوق فيما يقضي يقضي بقراءة فيصلون صلاة الخوف على هذا الوجه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.
وللشافعي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول مثل قول أبي حنيفة، ومحمد.
والقول الثاني: قال: يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم تذهب الطائفة التي صلت مع الإمام تمام صلاتهم، ويقفون بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم مرة أخرى ويجزئهم ذلك، وإن كان هذا من اقتداء المفترض بالمتنفل، ولكن اقتداء المفترض بالمتنفل جائزة عنده.
والقول الثالث: وهو المشهور أنه يجعل القوم طائفتين طائفة تقوم بإزاء العدو وطائفة يفتتح الصلاة مع الإمام، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة، فإذا صلى ركعة قام الإمام ووقف قائماً، ولا يقرأ حتى تصلي هذه الطائفة التي معه تمام صلاتهم، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو فيصلي الإمام بهم ركعة ولا يسلم بل يمكث قاعداً حتى تصلي هذه الطائفة الثانية تمام صلاتهم، ثم يسلم الإمام مع القوم.
فإن كان العدو مستقبل القبلة، فالخوف منه كالخوف فيما إذا كان العدو مستدبر القبلة عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان العدو مستقبل القبلة، وكانوا في أرض مستوية لا يسترهم شيء، ولا يخافون الكمين من جهة العدو، فإنه يفتتح الصلاة بالقوم كلهم، ثم يركع ويركع معه كل القوم ثم يسجد ويسجد معه الصف الثاني، ولا يسجد(2/126)
الصف الأول، بل يحرسون الصف الثاني، ثم يمكث الإمام قاعداً حتى يسجد الصف الأول السجدة الأولى، فإذا سجدوا السجدة الأولى سجد الإمام سجدة أخرى، ويسجد معه الصف الأول، ولا يسجد الصف الثاني، بل يحرسون الصف الأول حتى يحصل لكل طائفة سجدة مع الإمام، فيستويان، ثم يمكث حتى تسجد الطائفة الثانية السجدة الأخرى، ثم يدركون الإمام ثم يصلي بهم الركعة الأخرى على هذا الوجه إلا أنه في الركعة الثانية إن شاء تقدم الصف الثاني، وقام مقام الصف الأول حتى يستويان، وإن شاء يتقدم، وذلك أفضل وهو قول ابن أبي ليلى.
فإن كان الإمام والقوم مقيمين والصلاة من ذوات الأربع فإنه تقوم طائفة بإزاء العدو، ثم يفتتح الصلاة بالطائفة التي معه، فيصلي بهم ركعتين، ويقعد قدر التشهد؛ فإنه تذهب هذه الطائفة بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو مكان صلاتهم، والإمام قاعد منتظر مجيئهم، فيصلي بهم ركعتين، ثم يتشهد ويسلم، ولا تسلم معه الطائفة الثانية، بل يقومون فيذهبون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعتين بغير قراءة، ويسلمون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الثانية مكان صلاتهم، ويصلون ركعتين بقراءة على نحو ما بينا.
وإن كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الكل مقيمين؛ لأن القوم صاروا مقيمين في حق هذه الصلاة حين اقتدوا بالمقيم.
فإن كان الإمام مسافراً، والقوم مقيمين صلى بالطائفة التي معه ركعة، ثم انصرفوا بإزاء العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم، ثم تجيء الطائفة الأولى فيصلون ثلاث ركعات بغير قراءة، نص على هذا في «الكتاب» ، وهذا الجواب في الركعة الثانية لا يشكل؛ لأنهم في الركعة الثانية كأنهم خلف الإمام من حيث الحكم؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، إنما الإشكال في الركعتين الأخريين، لأنهم يؤدون الأخريين على سبيل الانفراد؛ لأن تحريمتهم هكذا انعقدت مع هذا قال: يقضيهما بغير قراءة.
وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يقضيها بقراءة. وإن كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون ومسافرون صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة، فمن كان مسافراً خلف الإمام بقي إلى تمام صلاته ركعة ومن كان مقيماً بقي إلى تمام صلاته ثلاث ركعات، ثم ينصرفون بإزاء العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان مسافراً يصلي ركعة بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة، ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات بغير قراءة في ظاهر الرواية.
وفي رواية الحسن: يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وفي الركعة الأولى لا يقرأ فإذا تمت الطائفة الأولى صلاتهم ينصرفون بإزاء العدو وتجيء الطائفة الثانية إلى مكان صلاتهم فمن كان مسافراً يصلي ركعة بقراءة؛ لأنه مسبوق ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات الأولى بفاتحة الكتاب وسورة؛ لأنه كان مسبوقاً فيها، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها.
وإن كان الإمام مقيماً، والقوم مقيمون ومسافرون، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا(2/127)
كان الكل مقيمون؛ لأن المسافرين يصيرون مقيمين بالاقتداء وإن لم تقرأ الطائفة الثانية فيما يقصرون لم يجزئهم لأنهم مسبوقون، وإن اقتدى أحدهما بصاحبه فيما يقضي فسدت صلاة المقتدي، وصلاة الإمام تامة، وإذا سهى الإمام في صلاة الخوف وجب عليه سجدتا السهو.
ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا، ولو فعلوا كذلك وقال: لا تفسد صلاته وهو قول الشافعي رحمه الله، ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت لو فعلوا كذلك لا تجوز صلاتهم.
وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، ولا يصلون جماعة ركباناً إلا أن يكون الإمام والمقتدي على دابة فيصح اقتداء المقتدي به، وروي عن محمد رحمه الله: أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركباناً بالجماعة وقال: أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الجماعة.
عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء، فلم يجد مكاناً يابساً ينزل للصلاة، فإنه يقف على دابته مستقبل القبلة، فإنه يصلي مستدبر القبلة بالإيماء فعل هذا إذا كان يخاف النزول عن الدابة فيصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة وإن لم يمكنه إيقاف الدابة، مستقبل القبلة فإنه يصلي راكباً مستقبل القبلة، بالإيماء إن أمكنه، وإن لم يمكنه صلى مستدبر القبلة، ثم إنما يجزئه ذلك إذا كانت الدابة تسير بسير نفسها، فأما إذا كان يسيرها صاحبها لا تجزئه، فإن كان ماشياً هارباً من العدو، فحضرت الصلاة، ولم يمكنه الوقوف ليصلي، فإنه لا يصلي ماشياً عندنا بل يؤخر.
وعند الشافعي يصلي في تلك الحالة بالإيماء ثم يعيد، وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جازت صلاة الإمام، ولم تجز صلاة القوم إذا صلوها بصفة الذهاب والمجيء، ولو رأوا سواداً وظنوا أنهم العدو، فصلوا صلاة الخوف، فإن تبين أنه كان سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخيص كان متقرراً، فتجزئهم صلاتهم.
وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن سبب الترخيص لم يكن متقرراً فلا تجزئهم صلاتهم والخوف من سبع يعاينوه كالخوف من العدو؛ لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم، ولا فرق في هذا بين السبع والعدو.
والراكب إذا أمكنه أن يصلي راكباً، ولم يمكنه النزول يصلي قائماً، وإذا صلى بالإيماء لم تلزمه الإعادة بعد زوال العذر في الوقت وخارج الوقت، والراجل يومىء إذا لم يقدر على الركوع والسجود، والراكب (111ب1) إذا كان طالباً لا يصلي على الدابة، وإن كان مطلوباً لا بأس بأن يصلي على الدابة. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل
ينبني على ثلاثة أصول:
أحدها: أن الانحراف عن القبلة في خلال الصلاة في غير موضعه وأوانه مفسدة(2/128)
للصلاة، وترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضعه وفي غير موضعه غير مفسدة للصلاة؛ وهذا لأن نص الأصل الفساد بالانحراف مطلقاً في عموم الأحوال وإنما ترك نص هذا الأصل في صلاة الخوف مقيداً بأوانه، وقد بينا أوان الانحرف لكل واحد من الطائفتين، فبقي ما عداه على نص الأصل، أما ترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضع الانحراف عمل بالأصل وتمسك بما هو عزيمة، فلا يصلح مفسداً لكن يوجب الانتباه لمخالفة الجماعة أو السنّة.
الأصل الثاني: أن من أدرك الشطر الأول فهو من الطائفة الأولى، ومن أدرك الشطر الثاني فهو من الطائفة الثانية؛ لأن صلاة الخوف تقام بطائفتين لكل طائفة شطر من الصلاة، وللصلاة شطران، والتي يقام بها الشطر الأول يجعل من الطائفة الأولى، والتي يقام بها الشطر الثاني يجعل من الطائفة الثانية.
والأصل الثالث: أن المقتدي يتبع رأي الإمام لا رأي نفسه؛ لأنه بالاقتداء به ألزم متابعته، فيترك رأيه برأي الإمام إلا إذا تيقن بخطأ الإمام على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، والمنفرد يتبع رأي نفسه؛ لأنه أصل بنفسه، ولم يلتزم متابعة غيره، والمسبوق فيما يقضي منفرد واللاحق كأنه خلف الإمام.
إذا عرفنا هذه الأصول جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا صلى الإمام المغرب صلاة الخوف جعل الناس طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على ما بينا، فلو أنه أخطأ وصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين ظناً منه أن المعتبر قسمة القراءة، ثم سلم الإمام وذهبت الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة؛ لأنه لم ينزح عن مكانه حتى أتم صلاته.
وصلاة الطائفتين فاسدة، أما الطائفة الأولى، فلأنهم انحرفوا بعد الركعة الأولى، وهذا ليس أوان انحرافهم، وأما الطائفة الثانية فهو من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول إلا أنهم مسبوقون بركعة، فكان ينبغي لهم أن ينحرفوا عقيب الركعة الثانية غير أن ترك الانحراف والثبات على القبلة لا تفسد الصلاة وإن كان في غير موضعه إلا أنهم انحرفوا عن القبلة بعد سلام الإمام. وهذا أوان انصرافهم إلى القبلة لا أوان انحرافهم ففسدت صلاتهم، حتى لو لم ينحرفوا لا تفسد صلاتهم.
فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة فانحرفوا، ثم جاءت الطائفة الثانية، فصلى بهم ركعة ثم انحرفوا ثم عادت الطائفة الأولى، فصلى بهم الركعة الثالثة، ثم انحرفوا، ثم عادت الطائفة الثانية، فقضوا الركعتين ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة لما ذكرنا.
وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، لأنهم انحرفوا عن القبلة في غير أوانه وهو ما بعد الركعة الأولى، ففسدت صلاتهم فحين جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة، فقد بنوا تلك الركعة على تحريمة فاسدة، والبناء على الفاسد فاسد.
وصلاة الطائفة الثانية جائزة؛ لأنهم من الطائفة الأولى، وقد انحرفوا في أوانه وهو ما بعد الركعة الثانية، فصحت صلاتهم، وعليهم أن يقضوا الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون الثالثة، ثم يقضون الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون في حق الأولى، فلو أن الطائفة الأولى حين انصرفوا للركعة الثالثة جددوا التكبير والتحريمة، وصلوا الركعة الثالثة جازت صلاتهم؛ لأنهم الطائفة الثانية في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، فإذا رجعوا فعليهم أن يصلوا ركعتين بقرءاة؛ لأنهم مسبوقون فيهما. [
فإن جعل الإمام الناس ثلاث طوائف، وصلى بتلك الطائفة ركعة، ثم عادت الطائفة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فصلاة الإمام تامة لما مر، صلاة الطائفة الأولى فاسدة لما قلنا، صلاة الطائفتين جائزة، أما الطائفة الثانية، فلأنهم الطائفة الأولى في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، ويقضون الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون لها، ويقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها، وأما الطائفة الثالثة فإنهم في الحقيقة هم الطائفة الثانية، وقد انحرفوا في أوانه، وهو(2/129)
ما بعد الثالثة ويقضون الركعتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيهما.
قال محمد رحمه الله: وإذا صلى الإمام صلاة الظهر في المصر أو في فنائه مواقعين للعدو جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعتين لما ذكرنا، فإن أخطأ الإمام وظن أنه يقسم القراءة بين طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية بقية الصلاة فسدت صلاة الطائفتين جميعاً لوجود الانحراف في غير أوانه من الطائفتين، أما الطائفة الأولى؛ فلأنهم انصرفوا قبل القعدة الأولى، وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول، وقد انصرفوا بعد سلام الإمام، وهذا أوان عودهم لا أوان انصرافهم.
قال: ولو أن الإمام صلى بالطائفة الأولى ركعة وانصرفت، وبالطائفة الثانية ركعة وانصرفت، ثم صلى بالطائفة الأولى الركعة الثالثة، ثم بالطائفة الثانية الركعة الرابعة وانصرفوا، فصلاة الإمام تامة وصلاة الطائفة الأولى والطائفة الثانية فاسدة، أما صلاة الإمام فلما حلت غير مرة.
وأما صلاة الطائفة الأولى، فلأنهم انصرفوا في غير أوانه ففسدت صلاتهم، فلما عادوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة إن لم يجددوا التحريمة فهذا بناءٌ على الفاسد، وإن جددوا التحريمة صح شروعهم، وكانوا من الطائفة الثانية في الحقيقة فلما انصرفوا بعد الركعة الثالثة كان هذا انصرافاً في غير أوانه، فإن أوان انصراف الطائفة الثانية ما بعد فراغ الإمام، فإذا انصرفوا قبل ذلك فسدت صلاتهم.
وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى لإدراكهم الركعة الثانية مع الإمام، وقد انصرفوا في أوانه، فلما جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الرابعة فهذا المجيء منهم، وإن كان في غير أوانه إلا أنه لا يكون مفسداً لصلاتهم لما مر في أصل الباب، ولكن لما سلم الإمام، وانصرفوا فسدت صلاتهم؛ لأنهم من جملة الطائفة الأولى، وليس هذا أوان الانصراف من الصلاة للطائفة الأولى، ففسدت صلاتهم، حتى لو لم تنصرف الطائفة(2/130)
الثانية بعد الفراغ من الرابعة لا تفسد صلاته، وعليهم أن يقضوا ركعتين الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون فيها، ثم الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها.
قال: ولو أن الإمام جعل الناس على أربع طوائف وصلى بكل طائفة ركعة فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى والثالثة فاسدة.
أما الطائفة الأولى: فلأنهم انصرفوا في غير أوان الانصراف لما مر غير مرة.
أما الطائفة الثالثة: فلأنهم في الحقيقة الطائفة الثانية وقد انصرفوا في غير أوان انصراف الطائفة الثانية وهو ما بعد الركعة الثالثة.
وأما صلاة الطائفة الثانية والرابعة فجائزة، أما صلاة الطائفة الثانية؛ فلأنهم من جملة الطائفة الأولى لكنهم مسبوقون بركعة، وقد انصرفوا في أوان انصراف الطائفة الأولى فجازت صلاتهم، ثم إذا جاؤوا يتمون صلاتهم فعليهم أن يصلوا ركعتين بغير قراءة وهي الثالثة والرابعة؛ لأنهم لاحقون فيهما، ثم ركعة بقراءة وهي الركعة الأولى، لأنهم مسبوقون فيهما.
وأما الطائفة الرابعة: فلأنهم من جملة الطائفة الثانية؛ لأنهم أدركوا شيئاً من وظيفة الطائفة الثانية، وانصرفوا في أوان انصراف الثانية وهو ما بعد فراغ الإمام، فجازت صلاتهم، ولكنهم مسبوقون بثلاث ركعات فعليهم أن يصلوا ركعتن بقراءة الفاتحة والسورة، وفي الثالثة بالخيار، وإن شاؤوا قرأوا الفاتحة، وإن شاؤوا سبحوا، وإن شاؤوا سكتوا كما هو الحكم في المسبوق بثلاث ركعات.
قال محمد رحمه الله: وإذا قاتل الإمام العدو يوم العيد في المصر، فأراد أن يصلي بالناس صلاة الخوف جاز لوجود العلة كما في غيرها من الصلوات (112أ1) فيجعل الناس طائفتين ويصلي بكل طائفة ركعة، فإن كان الإمام يرى مذهب ابن مسعود، وأتى بتسع تكبيرات في الركعتين ثلاث منها أصليات وست زوائد، ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، بدأ بالتكبير في الركعة الأولى، وبالقراءة في الركعة الثانية تابعته الطائفة الأولى في الركعة الأولى، وتابعته الطائفة الثانية في الركعة الثانية، وإن كان رأي كل واحدة من الطائفين خلاف رأي الإمام؛ لأن على المقتدي متابعة رأي الإمام على ما مر إلا إذا تيقن بخطأ الإمام بأن فعل ما لم يقل به واحد من الصحابة ولم يوجد ذلك هنا.
فإذا فرغ الإمام من صلاته انحرفت الطائفة الثانية وجاءت الطائفة الأولى يقضون الركعة الثانية بغير قراءة، فيقومون قدر قراءة الإمام، أو أقل أو أكثر، ثم يكبرون الزوائد، ويركعون بالرابعة كما فعله الإمام؛ لأنهم لاحقون في ذلك، فكانوا في حكم المقتدين، وإذا أتموا انحرفوا، وجاءت الطائفة الثانية يقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها يبدؤون بالقراءة ثم بالتكبير في رواية «الزيادات» و «الجامع» و «السير الكبير» وإحدى روايتي «النوادر» ، وهو الاستحسان، وفي إحدى روايتي «النوادر» يبدؤون بالتكبير وهو القياس، وقد ذكرنا نظير هذا في فصل صلاة العيد.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: إمام صلى الظهر بالناس صلاة الخوف،(2/131)
وهم مقيمون فلما صلى بطائفة ركعتين انحرفوا إلا واحداً منهم لم تفسد صلاته؛ لأنه لم يوجد منه إلا ترك الانحراف، والثبات على القبلة، وكل ذلك لا يفسد الصلاة، ولكن لا يستحب له ذلك: لأنه التزم الذهاب مع أصحابه ليكونوا رصداً للطائفة الثانية، فإذا لم يذهب، فقد ضيعهم وترك الوفاء بما التزم فيكره له ذلك.
لهذا فإن صلى مع الإمام الركعة الثالثة، فعلم أنه أساء فيما صنع، فانحرف بعد الثالثة أو بعد الرابعة قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد، فصلاته صحيحة؛ لأنه من الطائفة الأولى، وما بعد الشطر الأول إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة أوان الانحراف للطائفة الأولى.
وإذا انحرف، فقد تدارك ما ترك في أوانه، وكذلك لو انحرف بعدما قعد مع الإمام قدر التشهد قبل السلام، فصلاته تامة، وإن كان هذا انحرافاً في غير أوانه، لأنه من الطائفة الأولى، وهذا أوان انصراف الطائفة الأولى إلى الصلاة إلا أنه إنما لم تفسد لانتهاء أركانها، فإن الصلاة بعد انتهاء أركانها لا تقبل الفساد حتى لو بقي عليه شيء من الأركان بأن بقي هذا الرجل بعد أداء الشطر الأول نائماً أو قائماً خلف الإمام، ولم يصل معه، وانحرف بعدما قعد الإمام قدر التشهد، أو كان مسبوقاً بركعة تفسد صلاته، ثم إذا لم تفسد صلاته بالانحراف بعدما قعد الإمام قدر التشهد لا يجب عليه أن ينصرف مع أصحابه، ليسلم؛ لأنه قد تمت صلاته وقد انحرف على وجه الرفض؛ لأنه انحرف ليشتغل بأمر العدو، والانحراف بعد تمام الصلاة على قصد الرفض يوجب رفض ما بقي، فلا يجب عليه العود بخلاف ما إذا أحدث بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم، وانصرف ليتوضأ ويبني، فإن عليه أن يعود ليجلس ويسلم؛ لأن هناك ما انحرف على وجه الرفض بل على وجه البناء، فلم يرفض ما بقي وقد بقي عليه سنّة، وهي الخروج بلفظة التسليم، فكان عليه أن يعود لإقامة السنّة، أما ههنا بخلافه.
وإذا لم يكن العدو حاضراً ولكن خاف الإمام حضور العدو لا ينبغي له أن يصلي صلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت باعتبار الضرورة، فلا تجوز قبل تحققها.
فإن افتتح الإمام صلاة الظهر، وهم مسافرون، فلما صلى ركعة أقبل العدو، فانحرفت طائفة من المصلين، ووقفوا بإزاء العدو، وبقيت طائفة مع الإمام حتى أتموا صلاتهم، فصلاتهم تامة، أما صلاة من بقي مع الإمام فظاهر، وأما صلاة من انحرف؛ فلأن هذا انحراف في أوانه والضرورة متحققة عند الانصراف، وكانت العبرة لحالة الانصراف لا لحالة الشروع؛ لأن الرخصة في الانصراف، فيعتبر قيام الرخصة وقت الانصراف.
ولو افتتح الإمام بهم صلاة الظهر وهم مقيمون، فأقبل العدو، وانحرفت طائفة من المصلين بعد الركعتين لم تفسد صلاتهم، لأنهم لو انحرفوا حال حضور العدو بعد الركعتين لا تفسد صلاتهم، لأنه أوان الانحراف كذا هنا.
وإن انحرفوا بعدما صلوا ركعة فسدت صلاتهم؛ لأن هذا ليس أوان الانحراف، ولهذا لو كان العدو حاضراً، وانحرفوا بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، ولو حضر(2/132)
العدو بعدما صلى الظهر ثلاث ركعات، وانصرفت طائفة منهم ليقفوا بإزاء العدو، لا ذكر لهذا الفصل في «الكتاب» .
وقد اختلف المشايخ، قال بعضهم: لا تفسد صلاتهم؛ لأن بعد أداء الشطر إلى أن يفرغ الإمام أوان الانحراف للطائفة الأولى. وبعضهم قالوا: تفسد صلاتهم لأن الخوف تحقق في الشفع الثاني، فكان حكمهم حكم الطائفة الثانية، وليس هذا أوان الانحراف في حق الطائفة الثانية.
فلو أن الإمام قال لأصحابه: لتقف طائفة منكم في موضع كذا ينتظرون العدو ... حضور العدو وصلى بطائفة أخرى جاز له ذلك، هكذا ينبغي للإمام أن يفعل؛ لأن العدو إذا لم يكن حاضراً لا يجوز له صلاة الخوف، وربما يحضر العدو في حال لا يمكنهم الانحراف، فكان النظر في هذا، فإن أقبل العدو فاستقبلهم الطائفة الواقفون وانحرف طائفة من المصلين مع الإمام، إن كان الانحراف بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، وإن كان الانحراف بعد الركعة الثانية لا تفسد صلاتهم لما مر.
فإن افتتح الإمام الصلاة بطائفة والعدو حاضر، ثم ذهب العدو بعدما صلوا شطر الصلاة لا ينبغي لهم أن ينحرفوا ولكن الطائفة الثانية يأتون فيصلون بقية الصلاة، فإن انحرفت الطائفة الأولى تفسد صلاتهم، لأن الانحراف مفسد للصلاة بنصية «الأصل» ، وإنما رخص بالشرع لأجل الضرورة، فإذا زالت الضررة يرد إلى الأصل.
الفصل التاسع والعشرون في صلاة الكسوف
اعلم بأن صلاة الكسوف مشروعة ثبتت شرعيتها بالكتاب والسنّة.
أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) والكسوف آية من آيات الله المخوفة، أما أنه من آيات الله؛ لأن الخلق عاجزون عن ذلك وأنه من آيات الله المخوفة؛ لأنها مبدلة لنعمة النور إلى الظلمة، وتبديل النعمة إلى ضدها تخويف؛ ولأن القلوب تفزع بذلك طبعاً، فكانت من آيات الله المخوفة، والله تعالى إنما يخوف عباده ليتركوا المعاصي، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى التي فيها فوزهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه حالة الصلاة.
وأما السنّة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزع شيئاً فافزعوا إلى الصلاة» . بعد هذا يحتاج إلى أربعة أشياء: إلى معرفة سبب شرعيتها، وشرط جوازها، وصفتها، وكيفية أدائها.(2/133)
أما سبب شرعيتها: الكسوف؛ لأنها تضاف إليه، وتتكرر بتكرره.
وشرط جوازها: ما يشترط لسائر الصلوات.
وصفتها: أنها ليست بواجبة؛ لأنها ليست من شعار الإسلام، فإنه يوجد تعارض، ولكنها سنّة؛ لأنه واظب رسول الله عليه السلام على ذلك.
وأما كيفية أدائها: أجمعوا أنه تؤدى بجماعة لكن اختلفوا في صفة أدائها.
قال علماؤنا رحمهم الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين كسائر الصلوت، إن شاء طولها وإن شاء قصرها، ويقرأ فيها ما أحب كما في سائر الصلاة المعهودة، ولا يوقت فيه شيء من القراءة، ثم الدعاء حتى تنجلي الشمس.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين.
وصورته: يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة البقرة (112ب1) إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما يعدلها، ثم يركع، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم، ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها عن ظهر القلب، وإن كان لا يحفظها عن ظهر القلب يقرأ غيرها مما يعدلها ثم يركع ثانياً، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم، فيمكث في قيامه ويقرأ فيه مقدار ما قرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثل مكثه في هذا القيام، ثم يقوم ويمكث في قيامه مثل ما مكث في الركوع أو نحوه، ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية هكذا يفعل، ثم يسجد سجدتين ويتم الصلاة.
احتج الشافعي رحمه الله بحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى صلاة الكسوف ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات» ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى بالناس صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعين» .
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر، والنعمان بن بشير، وأبي بكرة، وسمرة بن جندب بألفاظ مختلفة «أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس ركعتين كأطول الصلاة كان يصليها فانجلت الشمس مع فراغه منها» وفي «الكتاب» ذكر حديث إبراهيم أن النبي عليه السلام «صلى ركعتين في الكسوف ثم كان الدعاء حتى انجلت الشمس» ، وهو كان مقدماً في علم الأخبار، وكان ذا احتياط وثبت وثقة، فكان(2/134)
لا يأخذ ولا يروي إلا ما كان يصح عنده.
والمعنى فيه: أن صلاة الكسوف لا تخلو إما أن تكون معتبرة بالنوافل أو بالفرائض أو الواجبات وبأيها اعتبرنا لا يجوز أن يجتمع في ركعة منها ركوعان وقومتان.
وتأويل حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم ما أشار الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : أن النبي عليه السلام إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه التحقيق؛ لأنه في تلك الصلاة قربت إليه الجنة والنار، وكان في تلك الصلاة يتقي شرها بيده ويتقدم ويتأخر، وقد قال في تلك الصلاة مراراً «ألم تعدني أن لا أعذبهم وأنا فيهم» ، فلما فرغ منها قال: «أدنيت مني النار حتى كنت أتقي شررها بيدي، وقربت مني الجنة حتى لو كدت أن آخذ ثمارها لفعلت» . وفي رواية «حتى لو كدت أن أقطف عنبها لفعلت قائماً» رفع رسول الله عليه السلام رأسه من الركوع فزعاً حين قربت منه النار فكان ذلك رفعاً على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة، ثم عاد إلى الركوع حيث أمن منها جبراً للركع الأول وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً ثانياً، فلم يركع في كل قيام إلا ركوعاً واحداً كما في الصلاة المعهودة، وإنما مثال هذا من كان في الركوع في صلاته، فتذكر سجدة تركها قبل الركوع، فإنه يرفع رأسه من الركوع ويحولها ساجداً، ثم يعود إلى الركوع جبراً وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً على حدة.
قال شمس الأئمة الحلواني: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يذكر جواباً آخر وهو الذي يعتمد عليه أن النبي عليه السلام طول الركوع فيها للمعنى الذي ذكرنا فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم وظن من خلفهم أن النبي عليه السلام رفع رأسه، ورفعوا رؤوسهم، ثم عاد الصف الأول إلى الركوع اتباعاً لرسول الله عليه السلام فركع من خلفهم وظنوا أنه ركع ركوعين في كل ركعة.
ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة كانت واقفة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فلهذا نقلا كما وقع عندهما، وإن كان هذا صحيحاً، فكان أمراً بخلاف المعهود، فينقله الكبار من الصحابة الذين كانوا يأتون رسول الله عليه السلام، وحيث لم ينقله أحد دل أن الأمر كما قلنا: وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ولا يصلي هذه الصلاة بجماعة إلا الإمام الذي يصلي الجمعة، فأما أن يصلي الناس في مساجدهم جماعة فإني لا أحب ذلك، وليصلوا وحداناً، هكذا قال في «الكتاب» : قال شيخ الإمام خواهر زاده: يريد به أن يصلي في موضع واحد كما يصلي الجمعة.
وروي عن أبي حنيفة في غير رواية «الأصول» : أن لكل إمام مسجد أن يصلي في مسجده، وجه رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو أن هذه صلاة تؤدى بجماعة لا يشترط(2/135)
لإقامتها المصر، فلا يشترط السلطان قياساً على سائر الصلوات.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن عليه السلام صلى صلاة الكسوف بجمع واحد وهو كان إمام الأئمة، فلا يجوز أداؤها إلا على ذلك الوجه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإن عدم الإمام الذي يصلي الجمعة فإنهم يصلون وحداناً في مساجدهم إلا إذا كان الإمام الأعظم الذي يصلي الجمعة والعيدين أمرهم بذلك، فحينئذٍ يجوز أن يصلوا بجماعة ويؤمهم فيها إمام حيهم في مسجدهم.
ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجهر بها عند أبي يوسف، وقول محمد فيه مضطرب، وقول الشافعي مثل قول أبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف والشافعي: حديث علي رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة الكسوف؛ ولأنها صلاة مخصوصة تقام بجمع عظيم، فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: حديث ابن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام: «لم يسمع منه حرف من قراءته في صلاة الكسوف» ؛ ولأنها صلاة النهار، وفي الحديث: «صلاة النهار عجماء» أي ليس فيها قراءة مسموعة، وتأويل حديث علي رضي الله عنه أنه وقع اتفاقاً لا قصداً، أو تعليماً للناس أن القراءة فيها مشروعة.
قال شمس الأئمة رحمه الله: والظاهر أن محمداً رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، والحاكم الشهيد ذكر قول محمد مع أبي يوسف.
وفي القدوري: ولا يصلي في الكسوف في الأوقات المنهية عنها؛ لأنها تطوع كسائر التطوعات، ثم إذا فرغوا من الصلاة فالإمام يدعو؛ لأن الصلاة للدعاء، فإذا فرغوا منها يشتغلون بالدعاء، ثم الإمام في هذا الدعاء بالخيار إن شاء جلس مستقبل القبلة ودعا، وإن شاء قام ودعا، وإن شاء استقبل الناس بوجهه ودعا، ويؤمن القوم، قال شمس الأئمة الحلواني: وهذا أحسن، ولو قام واعتمد على عصا له، أو على قوس له، ودعا كان ذلك حسناً أيضاً. وليس في هذه الصلاة خطبة وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يخطب خطبتين بعد الصلاة كما في العيدين. احتج الشافعي بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فصلى رسول الله عليه السلام ثم خطب حمد الله وأثنى عليه» ، وهكذا روى سمرة بن جندب رحمه الله: أن النبي عليه السلام صلى ركعتين ثم حمد الله(2/136)
تعالى وأثنى عليه» ولأنها صلاة تطوع تقام بجمع عظيم، فيكون من سننها الخطبة قياساً على صلاة العيد.
وأصحابنا رحمهم الله احتجوا بما روى جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذ رأيتم من ذلك شيئاً فصلوا حتى تنجلي» فقد أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة، وكذلك روي عن النبي عليه السلام قال: «إنه إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فافزعوا إلى الدعاء» ؛ ولأن الخطبة مشروعة لأحد أمرين: إما شرطاً للجواز كما في صلاة الجمعة، أو للتعليم كما في صلاة العيدين، فإنه يحتاج فيهما إلى تعليم صدقة الفطر والأضحية، وهنا الخطبة ليست بشرط للجواز بالإجماع، ولا يجوز أن تكون مشروعة للتعليم؛ لأنه لا حاجة إلى التعليم في صلاة الكسوف؛ لأن التعليم حصل من حيث الفعل.
ألا ترى أن في خطبة العيدين؛ لا يسن تعليم صلاة العيدين لأن التعليم حاصل بالفعل، وإنما يسن تعليم صدقة الفطر والأضحية، فأما حديث عائشة رضي الله عنها، قلنا: الحديث محمول على أن النبي عليه السلام احتاج إلى الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لأن الناس كانوا يقولون: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم (113أ1) ولد النبي عليه السلام فخطب لكي يرد عليهم ذلك، أو نقول: معنى قوله خطب أي: دعا فإن الدعاء يسمى خطبة. والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصلالصلاة في خسوف القمر
قال محمد رحمه الله: والصلاة في كسوف القمر وخسوفه حسن وحداناً، وكذلك في الظلمة والريح والفزع لقوله عليه السلام: «إذا رأيتم من هذه الأهوال» أو قال: «من هذه الأفزاع شيئاً فأفزعوا إلى الصلاة» .k
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعاب بعض أهل اللغة والأدب على محمد رحمه الله في هذا اللفظ، وقال: إنما يستعمل في القمر لفظ الخسوف، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (القيامة: 7، 8) والجواب عن هذا أن نقول: الخسوف ذهاب دائرته، والكسوف ذهاب ضوئه دون دائرته، ومراد محمد رحمه الله من هذا ذهاب ضوئه لا ذهاب دائرته، فلهذا ذكر الكسوف.
ثم الصلاة فيها فرادى عندنا، وعند الشافعي يصلي بجماعة، احتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه صلى بهم في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله عليه السلام صلى» ؛ ولأنه كسوف يصلى لأجله، فيكون(2/137)
من سنته الجماعة قياساً على كسوف الشمس.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن كسوف القمر يكون بالليل، فيشق على الناس الاجتماع بالليل، وربما تخاف الفتنة؛ ولأن كسوف القمر كان على عهد رسول الله عليه السلام ككسوف الشمس بل أكثر، فلو كان صلى بجماعة لنقل ذلك نقلاً مستفيضاً كما نقل في كسوف الشمس، ولأن الأصل في التطوعات ترك الجماعة فيها ما خلا قيام رمضان لاتفاق الصحابة عليه، وكسوف الشمس لورود الأثر به.
وهكذا قال في «الكتاب» : ويكره في صلاة التطوع جماعة ما خلا قيام رمضان، وصلاة كسوف الشمس، ولهذا قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل صلاته في بيته إلا المكتوبة» . ألا ترى أن ما يؤدى بالجماعة من الصلوات يؤذن لها ويقام ولا يؤذن للتطوعات ولا يقام؟ فدل أنها لا تؤدى بالجماعة.
وأما حديث عبد الله بن عباس، فلا يصح لما بينا: أن النبي عليه السلام لو كان صلى صلاة الخسوف بجماعة لنقل عنه نقلاً مستفيضاً، وأما اعتباره بصلاة كسوف الشمس لا يصح؛ لأنا عرفنا ذلك بالأثر، وهذا ليس في معناه، فالأثر الوارد ثم لا يكون وارداً ههنا. والله أعلم.
الفصل الثلاثون في الاستسقاء
ولا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يصلي فيها ركعتين بجماعة كصلاة العيد إلا أنه ليس فيها تكبيرات، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كما قال محمد رحمه الله إلا أنه قال: يكبر فيها كما في صلاة العيد، يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً في الركعة الثانية.
حجة محمد، والشافعي رحمهما الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام: «صلى ركعتين فيها كصلاة العيد» وحجة أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح: 10) فإنما أمر بالاستغفار في الاستسقاء بدليل قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَآء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} (نوح: 11) وما أمر بالصلاة، وفي حديث أنس رضي الله عنه «أن الأعرابي لما سأل رسول الله عليه السلام أن يستسقي وهو على المنبر وقال: أجدبت الأرض وهلكت المواشي فاستسق لنا يا رسول الله، فرفع رسول الله عليه السلام يديه إلى السماء ودعا» قال الراوي: فما نزل عن المنبر حتى نشأت سحابة، فمطرنا إلى الجمعة القابلة الحديث إلى آخره، ولم يرد أنه صلى.
وإن عمر رضي الله عنه خرج للاستسقاء فما زاد على الدعاء، وروي أنه خرج بالعباس عم النبي عليه السلام، فأجلسه على المنبر، ووقف بجنبه يدعو ويقول: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك ودعا بدعاء طويل، فما نزل عن(2/138)
المنبر حتى سقوا.
قال في «الكتاب» : عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لم يبلغنا في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به. اختلفت النقلة والرواة أنه لأي معنى سمي شاذاً، منهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يصل في الاستسقاء، وعلي رضي الله عنه كذلك، ولو كانت بهذا سنّة مشهورة لما خفيت عليهما، ولا خير في سنّة خفيت على عمر، وعلي رضي الله عنهما.
ومنهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأنه ورد ونقل في بلية عامة، والواحد إذا روى حديثاً في بلية عامة يعد ذلك شاذاً ومستنكراً منه، ثم عند محمد رحمه الله يخطب الإمام بعد الصلاة نحو الخطبة في صلاة العيدين، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يخطب خطبة واحدة؛ لأن المقصود الدعاء، فلا يقطعها بالجلسة، وقد ورد بكل واحد منهما أثر عن رسول الله عليه السلام.
وكان الزهري يقول: يخطب قبل الصلاة وهو قول مالك، وقد ورد به حديث ولكنه شاذ. قال محمد رحمه الله: أرى أن يصلي الإمام في الاستسقاء نحواً من صلاة العيد، ولا يكبر فيها كما يكبر في العيد، ويقلب الإمام رداءه إذا مضى صدر من خطبته.
وصفته أنه إذا كان مربعاً جعل أعلاه أسفله، وإن كان مدوراً جعل الجانب الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقلب رداءه.
حجة محمد ما روي عن النبي عليه السلام أنه «خرج مستسقياً عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقل عليه قلبها على عاتقه فحول اليمين إلى الشمال والشمال إلى اليمين» .
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله احتجا بما روي أن النبي عليه السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء، والمعنى فيه أنه دعاء مشروع حالة الخوف فلا يسن فيه تقليب الرداء قياساً على كسوف الشمس، ولا تأويل في تقليب الرداء سوى أنه يقال بتغيير الهيئة يتغير الهوى ولا بأس بأن يعتمد في خطبته على عصا وأن يتنكب قوساً ورد به الأثر، وهذا لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا. وإذا قلب الإمام رداءه فالقوم(2/139)
لا يقلبون أرديتهم، وإنما يتبع في هذه السنّة والأثار المعروفة.
وقال مالك: يقلب القوم أرديتهم كما فعل الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بأصبعه؛ لأن رفع اليدين في الدعاء سنّة جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان يدعو بعرفات باسطاً يديه كالمتضرع المسكين» .
وإنما يخرجون في الاستسقاء ثلاثة أيام لم ينقل أكثر من ذلك، ولا يخرج أهل الذمة في ذلك مع أهل الإسلام، وقال مالك: إن خرجوا لم يمنعوا من ذلك.
حجتنا في ذلك: أنه إنما يخرج الناس للدعاء وما دعاء الكافرين إلا في ضلال؛ ولأنهم بالخروج يستنزلون الرحمة، وإنما تنزل على الكفار اللعنة والسخط وقد أمر رسول الله عليه السلام بتبعيد المشركين بقوله عليه السلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ألا لا تراءى ناراهما» فلهذا لا يمكنون من الخروج مع المسلمين وينصت القوم لخطبة الاستسقاء؛ لأنه يعظهم فيها، وفائدة الوعظ تحصل بالإنصات، ولا يخرج فيه المنبر لما بينا في صلاة العيد.
وليس فيها أذان ولا إقامة أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله فلا يشكل؛ لأنه ليس فيها صلاة بالجماعة إنما فيها الدعاء، وإن شاؤوا صلوا فرادى، وذلك في معنى الدعاء. وأما عند محمد رحمه الله، وإن كان فيها صلاة بالجماعة ولكنها تطوع فلا يكون فيها أذان ولا إقامة كصلاة العيد.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تفسير قول محمد رحمه الله: أن الناس يخرجون إلى الاستسقاء مشاة لا على ظهورهم ودوابهم في ثياب خلقة أو غسيل أو مرقع متذللين خاضعين متواضعين ناكسي رؤوسهم في كل يوم يقدمون الصدقة قبل الخروج، ثم يخرجون هذا تفسير قول محمد رحمه الله. وإنما يكون الاستسقاء في موضع لا يكون لهم أودية وأنهار وآبار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزروعهم (113ب1) أو يكون ولا يكفي لهم ذلك. فأما إذا كانت لهم أودية وأنهار وآبار فإن الناس لا يخرجون إلى الاستسقاء؛ لأن الاستسقاء إنما يكون عند شدة الضرورة والحاجة. والله أعلم بالصواب.
الفصل الحادي والثلاثون في صلاة المريض
الأصل في هذا الفصل: أن المريض إذا قدر على الصلاة قائماً بركوع وسجود، فإنه يصلي المكتوبة قائماً بركوع وسجود ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه لما قدر على القيام(2/140)
والركوع والسجود كان بمنزلة الصحيح، والصحيح لا يجزئه أن يصلي المكتوبة إلا قائماً بركوع وسجود كذلك هذا.
وإن عجز عن القيام وقدر على القعود، فإنه يصلي المكتوبة قاعداً بركوع وسجود، ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه عجز عن نصف القيام، وقدر على النصف، فما قدر عليه لزمه، وما عجز عنه سقط.
وإن عجز عن الركوع والسجود وقدر على القعود فإنه يصلي قاعداً بإيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن القعود صلى مستلقياً على ظهره، وإن لم يقدر إلا مضطجعاً استقبل القبلة، وصلى مضطجعاً يومىء بإيماء.
والأصل في هذا كله قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 191) قال الضحاك في تفسيرها: هذا بيان حال المريض في أداء الصلاة بحسب الطاقة، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المراد من هذا الذكر في الصلاة، وقال عليه السلام لعمران بن حصين رضي الله عنه حين عاده وهو مريض: «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومىء إيماءً» والمعنى في ذلك أن الطاعة بحسب الطاقة.
وقوله: فإن عجز عن القيام وقدر على القعود يصلي المكتوبة قاعداً، لم يرد بهذا العجز العجز أصلاً لا محالة بحيث لا يمكنه القيام بأن يصير مقعداً، بل إذا عجز عنه أصلاً، أو قدر عليه إلا أنه يضعفه ذلك ضعفاً شديداً حتى تزيد علته لذلك، أو يجد وجعاً لذلك، أو يخاف إبطاء البرء، فها هنا وما لو عجز عنه أصلاً سواء.
وإذا كان قادراً على بعض القيام دون تمامه كيف يصنع؟ لا ذكر لهذا الفصل في شيء من الكتب، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يؤمر بأن يقوم مقدار ما يقدر، فإذا عجز قعد حتى إنه إذا كان قادراً على أن يكبر قائماً، ولا يقدر على القيام للقراءة، أو كان يقدر على القيام ببعض القراءة دون تمامها، فإنه يؤمر بأن يكبر قائماً، ويقرأ ما يقدر عليه قائماً، ثم يقعد إذا عجز، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وإذا قدر على القيام متكئاً لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أنه يصلي قائماً متكئاً، ولا يجزئه غير ذلك، وكذلك لو قدر على أن يعتمد على عصا، أو كان له خادم لو اتكأ عليه قدر على القيام، فإنه يقوم ويتكىء خصوصاً على قول أبي يوسف، ومحمد(2/141)
رحمهما الله، فإن على قولهما: إذا عجز المريض عن الوضوء وكان يجد من يوضئه لم يجزئه التيمم، وقدر بغيره كقدرته بنفسه، فكذلك هذا.
فإن كان يقدر على القيام، ولا يقدر على السجود أومأ إيماءً وهو قاعد؛ لأن القيام لافتتاح الركوع والسجود به، فكل قيام لا يتعقبه سجود لا يكون ركناً؛ ولأن إيماء القاعد أقرب إلى التشبه بالسجود من إيماء القائم.
والمقصود من الإيماء التشبه بمن يركع ويسجد هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: أنه بالخيار إن شاء صلى قائماً بإيماء، وإن شاء صلى قاعداً بإيماء، وهو أفضل عندنا.
وزاد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فقال: إذا أراد أن يومىء للركوع يومىء قائماً، وإذا أراد أن يومىء للسجود يومىء قاعداً، لأن الإيماء بدل من الركوع والسجود، ولو كان قادراً على الركوع والسجود فيركع قائماً، ويسجد قاعداً فكذلك الإيماء.
لم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : ما إذا لم يقدر على القعود مستوياً، وقدر عليه متكئاً، أو مستنداً إلى حائط أو إنسان، أو ما أشبه ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: يجزىء أن يصلي قاعداً مستنداً أو متكئاً، لا يجزئه أن يصلي مضطجعاً خصوصاً على قولهما هكذا ذكر في «النوادر» ، وهذا نظير ما ذكرنا في القيام إذا كان قادراً على القيام بالاتكاء والاستناد.
وإذا لم يستطع القعود صلى مستلقياً على قفاه متوجهاً نحو القبلة، ورأسه إلى المشرق، ورجلاه إلى المغرب هذا هو الأفضل عندنا، وإن صلى على جنبه الأيمن يومىء إيماءً أجزأه، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم.
وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن كما يوضع الميت في القبر، وإن صلى مستلقياً على قفاه جاز، احتج الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) وأراد به في الصلاة فقد ذكر الجنب، ولم يذكر الاستلقاء على قفاه.
والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه فإن النبي عليه السلام نقل الحكم من القعود إلى الجنب لا إلى الاستلقاء.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام إلى نحو مذهبنا، ولأنه لو صلى مستلقياً على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة؛ لأن الجانبين منه إلى القبلة، وإشارته تقع إلى هوى الكعبة، وإذا صلى على جنبه الأيمن فإشارته تقع إلى جانب رجليه، وذلك ليس بقبلة، ثم(2/142)
ما به من العجز على وجه الزوال، إذا كان مستلقياً لو قدر على القعود، فقعد كذلك كان وجهه إلى القبلة، ولو قدر على القيام، فقام كذلك كان وجهه إلى القبلة فهذا أولى، ثم إذا أومأ فإنه يومىء بالرأس، فإن عجز عن الإيماء بالرأس لم يصل عندنا.
ثم اختلف المشايخ بعد هذا، قال بعضهم: إن دام العجز أكثر من يوم وليلة سقطت عنه الصلاة، وإن زال قبل ذلك لا تسقط، وقال بعضهم: لا تسقط وإن دام أكثر من يوم وليلة حتى إنه إذا برأ يلزمه القضاء، ولو مات قضى عنه ورثته.
وقال بعضهم: تسقط مطلقاً من غير فصل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعن أبي يوسف أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومىء بعينه ولا يومىء بقلبه، وعن أبي حنيفة أنه لم يجز للإيماء بالعينين، وسئل محمد رحمه الله، عن ذلك فقال: لا أشك أن الإيماء بالرأس يجوز، ولا أشك أن الإيماء بالقلب لا يجوز، وأشك في الإيماء بالعين أنه هل يجوز؟
وإذا افتتح الصلاة المكتوبة بالإيماء ثم قدر على القعود، واستقبل الصلاة قاعداً؛ لأن الصلاة قاعداً أقوى من الصلاة بالإيماء، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، وكذلك إذا كان يصلي قاعداً بركوع وسجود ثم قدر على القيام يستقبل الصلاة عند محمد رحمه الله؛ لأن عنده الصلاة قاعداً أضعف من الصلاة قائماً حتى لم يجز اقتداء القائم بالقاعد ابتداء على ما مر، فكذلك لا يجوز البناء هنا، وعندهما يتم الصلاة قائماً.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يصلي تطوعاً وقد افتتح الصلاة قائماً ثم يضنى لا بأس بأن يتوكأ على عصا وهنا مسألتان: مسألة في القعود ومسألة في الاتكاء.
أما مسألة القعود فهي على وجهين: فإن قعد بعذر يجوز؛ لأن في المكتوبة إذا قعد بعذر يجوز ففي النافلة أولى، وإن قعد بغير عذر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يجوز.
وجه قولهما: أن الشروع يلزم كالنذر، ثم لو نذر أن يصلي قائماً، وافتتح قائماً ثم قعد لم يجزه كذلك هنا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه كان في الابتداء مخيراً بين أن يصلي التطوع قاعداً، وبين أن يصليها قائماً، فيبقى هذا الخيار إلى الانتهاء؛ لأن حكم الانتهاء أشمل من حكم الابتداء. ألا ترى أن الحدث يمنع ابتداء الصلاة، ولا يمنع البقاء.
وما يقولان بأن الشروع ملزم. قلنا: الشروع ليس بملزم بعينه إنما صار ملزماً ليبقى ما باشر (114أ1) قربة وما باشر من القيام يبقى قربة، وإن لم يقم فيما بقي؛ لأن التطوع قاعداً قربة مع القدرة على القيام بخلاف النذر؛ لأنه ملزم بنفسه من حيث التسمية، على أنا نقول: بأن الشروع إنما يلزم ما شرع فيه، وما لا ينفصل عنه، وأما ما ينفصل عما شرع فيه لا يلزمه، ألا ترى لو أنه نوى أربع ركعات، فسلم على رأس الركعتين لم يلزمه شيء آخر على ظاهر الرواية؟ لأن الشفع الأول ينفصل عن الشفع الثاني، فكذلك هنا(2/143)
القيام من الأول ينفصل عن القيام في الثاني بخلاف النذر؛ لأنه التزم له ذكراً.
وأما مسألة الاتكاء فهو على وجهين أيضاً: إن اتكأ بعذر تجوز صلاته من غير كراهة؛ لأن في الاتكاء تنقيص القيام، ولو ترك جميع القيام من غير عذر يجزئه عند أبي حنيفة رحمه الله فالتنقيص لا يكره، وعندهما ترك جميع القيام بعدما شرع قائماً لا يحزئه فتنقيصه يكره.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكره الاتكاء بخلاف القعود، فإنه إذا قعد بعدما افتتح قائماً لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه ذلك: أن في الابتداء هو مخير بين أن يفتتح التطوع قائماً وبين أن يفتتحه قاعداً، فيبقى هذا الخيار في الانتهاء، فيجوز القعود من غير كراهة أما في الابتداء غير مخير بين أن يصلي متكئاً، وبين أن يصلي غير متكىء، بل يكره له ذلك لما فيه من سوء الأدب وإظهار التجبر، وكذلك في الانتهاء، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «دخل المسجد، فرأى حبلاً ممدوداً فسأل عن ذلك فقيل: إن فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت اتكأت به فقال عليه السلام: فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت نامت» مع هذا تجوز الصلاة لوجود أصل القيام.
هذا كله في التطوع، فأما في المكتوبة لا يجوز ترك القيام بالقعود من غير عذر، وكذلك يكره تنقيص القيام من عذر، وإن فعل ذلك جازت صلاته لوجود أصل القيام.
وإذا افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً، ثم بدا له أن يقوم فقام، وصلى بعضها قائماً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لا يشكل؛ لأن عندهما التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً، ثم قدر على القيام جاز له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً لهذا المعنى، أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هذا على مذهب محمد رحمه الله؛ لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا تكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده مع هذا قال: هنا تجوز صلاته.
وفي المريض لا تجوز صلاته، والفرق لمحمد رحمه الله، وهو أن في المريض ما كان قادراً على القيام وقت الشروع في الصلاة، فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً فكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي من القراءة وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام «كان يفتتح(2/144)
التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل، في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في التطوع والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ويوجه المريض القبلة كما يوجه القبلة في اللحد، وأراد به المريض الذي قرب موته حيث أمر أن يفعل به ما يفعل بالميت، وهذا لأنه في معنى الميت، قال عليه السلام: «لقنوا موتاكم» وأراد به الذي قرب موته. واختيار أهل بلادنا الاستلقاء فإنه أسهل لخروج الروح.
وإذا أغمي على الرجل يوم وليلة أو أقل يلزمه قضاء الصلوات، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه وهذا الاستحسان.
وفي القياس: إذا أغمي عليه وقت صلاة كامل لا قضاء عليه، وجه القياس: وهو أن الإغماء عذر لعجزه عن فهم الخطاب، فيأتي الوجوب إذا استوعب وقت صلاة كامل كالجنون، هكذا ذكر بعض المشايخ مسألة الجنون على طريق الاستشهاد.j
وذكر مسألة الجنون في «فتاوى الصغرى» : وجعلها نظير مسألة الإغماء، فلأن قليل الإغماء لو لم يكن مسقطاً لا يكون الكثير مسقطاً كالنوم، وإنه إذا نام أكثر من يوم وليلة يلزمه القضاء كما إذا نام وقت صلاة.
وجه الاستحسان: حديث علي رضي الله عنه فإنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، وعمار بن ياسر أغمي عليه يوم وليلة فقضى الصلوات، وابن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه في ثلاثة أيام فلم يقض الصلوات؛ ولأن الإغماء إذا قصر فهو معتبر بما يقصر عادة، وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإذا طال فهو معتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإن طال فهو معتبر بما يطول عادة وهو الجنون والضر فيسقط القضاء، وقدرنا الطويل والقصير بالزيادة على يوم وليلة لتدخل الصلوات في حد التكرار فيحرج في القضاء إذ للحرج أثر في إسقاط القضاء.
ثم اختلفوا في أن الزيادة على اليوم والليلة يعتبر بالساعات أم بالصلوات؟ وذكر الكرخي في «مختصره» : أن المعتبر الزيادة على اليوم والليلة بالصلوات، وذكر الفقيه أبو جعفر في كتابه اختلافاً بين أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله، عند أبي يوسف رحمه الله يعتبر من حيث الساعات وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وعند محمد رحمه الله يعتبر من حيث الصلوات ما لم تصر الصلوات ستاً لا يسقط القضاء، وإن كان من حيث الساعات أكثر من يوم وليلة وهو الأصح.(2/145)
وإنما تظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أغمي عليه عند الضحوة ثم أفاق من الغد قبل الزوال بساعة، فهذا أكثر من يوم وليلة من حيث الساعات، فلا قضاء عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول محمد رحمه الله يجب عليه القضاء؛ لأن الصلوات لم تزدد على الخمس. هذا الذي ذكرنا إذا ألم الإغماء فلم يفق إلى تمام يوم وليلة وزيادة، فإن يفيق ساعة ثم يعاوده الإغماء لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الكتاب» ، وإنه على وجهين: إن كان لإفاقته وقت معلوم نحو أن يخف مرضه عند الصبح فيفيق قليلاً، ثم تعاوده الحمى فيغمى عليه، فهذه إفاقة معتبرة تبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان أقل من يوم وليلة.
فأما إذا لم يكن لإفاقته وقت معلوم، لكنه يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه الإفاقة غير معتبرة، ألا ترى أن المجنون قد يتكلم في جنونه بكلام الأصحاء، ولا يعد ذلك منه إفاقة، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي «المنتقى» : المجنون يعيد صلاة يوم وليلة إذا كان مجنوناً في ذلك، وإن كان أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه يعني لا قضاء عليه فيما زاد على يوم وليلة.
بيانه: فيما روى أبو سليمان عن محمد رحمه الله: إذا جن حين دخل في الظهر، ثم أفاق من الغد عند العصر، فليس عليه قضاء الظهر؛ لأن الظهر زائد على صلاة يوم وليلة، وإذا جن قبل الزوال، ثم أفاق من يومه قبل غروب الشمس يعيد الظهر والعصر.
قال: وإذا كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود عليه لم يجزئه الإيماء، وعليه أن يسجد على أنفه؛ لأن الأنف مسجد كالجبهة، وإن لم يسجد على أنفه، وأومأ لم تجزئه صلاته؛ لأنه ترك السجود مع الإمكان عليه فلا يجزئه.
قال في «الأصل» : ويكره للمومىء أن يرفع إليه عوداً أو وسادة ليسجد عليه، لما روي أن النبي عليه السلام «دخل على مريض يعوده، فوجده يصلي كذلك، فقال: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا أومىء برأسك» ، وأن ابن مسعود رضي الله عنه دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي، ويرفع إليه عوداً فيسجد عليه فينزع ذلك من يد من كان في يده وقال: «هذا شيء عرض لكم الشيطان أومىء لسجودك» فإن فعل ذلك ينظر إن كان يخفض رأسه للركوع ثم للسجود أخفض من الركوع جازت صلاته (114ب1) وإن كان لا يخفض رأسه ولكن يوضع شيء على جبهته لم تجز صلاته؛ لأنه لم يوجد السجود ولا الإيماء.
ثم اختلفوا أن هذا يعد سجوداً وإيماءً، قال بعضهم: هو سجود، وقال بعضهم: هو إيماء، وهو الأصح. فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض فكان يسجد عليها جازت صلاته، فقد صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تسجد على برقعة موضوعة بين يديها لعلة كانت بها، ولم يمنعها رسول الله عليه السلام من ذلك.(2/146)
قال القدوري في «كتابه» : والمريض إذا فاتته صلوات فقضاها في حالة الصحة فعل كما يفعله الأصحاء؛ لأن تحصيل الركن بكماله فرض في الأصل، وإنما سقط حالة الأداء للعذر، فإذا لم يؤد حتى صح ظهرت فرضية الأداء بتحصيل الأركان بأكمل الوجوه. وإن فاتته في الصحة، فقضى في المرض صلى بالإيماء؛ لأن فرض الوقت يجوز أداؤه مع الإيماء، فكذا القضاء لفقه أن التكليف يعتمد الوسع، وهو في حالة المرض يكلف على القضاء، كما كلف على الأداء وليس في وسعه أكثر من هذا فسقط ما عجز عنه في القضاء لهذه الضرورة، كما سقط في الأداء.
وإذا شرع في الصلاة وهو صحيح، ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب الإمكان، لأنه يؤدي البعض كاملاً والبعض ناقصاً، وإنه أولى من أن يستقبل ويؤدي الكل ناقصاً، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يستقبل إذا صار إلى الإيماء.
ولو شرع وهو معذور ثم صح فإن كان الشروع بركوع وسجود بنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يستقبل، وإن كان الشروع بالإيماء ثم قدر على الركوع والسجود فإنه يستقبل، وقال زفر رحمه الله: يبني.
فالكلام مع محمد رحمه الله بناءً على أصل، وهو أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، كما أن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، ففي كل فصل جوزنا الاقتداء به يجوز البناء هنا وإلا فلا.
وعند محمد رحمه الله القائم لا يقتدي بالقاعد، فكذا لا يبني في حق نفسه، وعندهما القائم يقتدي بالقاعد فكذلك يبني في حق نفسه. والكلام مع زفر رحمه الله بناءً على هذا الأصل أيضاً، فمن أصله أنه يجوز اقتداء الراكع بالمومىء.
وعندنا لا يجوز، فكذا البناء في حق نفسه، وإن نزع الماء من عينه، وأمر أن يستلقي أياماً على ظهره، ونهي عن القعود والسجود أجزأه أن يصلي مستلقياً مومياً، وعلى قول مالك، والشافعي رحمهما الله: لا يجوز، هما احتجا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طبيباً قال له: بعدما كف بصره لو صبرت أياماً مستلقياً صحت عينك فشاور عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فلم يرخصوا له في ذلك، وقالوا: أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟ فترك ذلك وصلى بركوع وسجود.
والمعنى فيه: وهو أنه إنما تجوز الصلاة بالإيماء للمريض إذا عجز عن القيام والركوع والسجود وهذا ما عجز عن القيام والركوع والسجود فلا يجزئه الإيماء. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ولو كان قاعداً يخاف على نفسه الهلاك بسبب العدو، أو بسبب السبع فصلى مستلقياً بالإيماء جاز، فكذا إذا خاف على عينيه، ولأن من به رمد شديد فكان إذا وضع جبينه على الأرض ازداد وجعه واشتد، وإنه يومىء لسجوده ويجزئه ذلك فكذلك ههنا، ولأن الرمد من أشد الأوجاع فلا يختلف عن(2/147)
سائر الأمراض، قال عليه السلام: «لا وجع إلا وجع العين» هكذا روى شمس الأئمة رحمه الله.
وإذ صلى المريض بالإيماء لغير القبلة متعمداً لم يجزئه، لأن استقبال القبلة شرط من شرائط الصلاة، ولم يقع العجز عنه بسبب المرض فلا يسقط عنه، وإذا لم يسقط كان كالصحيح، والصحيح لو صلى إلى غير القبلة متعمداً لم تجزئه صلاته فكذلك ههنا، وإن كان ذلك منه خطأ أجزأه، يعني إذا اشتبهت عليه القبلة، ولم يكن بحضرته من يسأل عنه فتحرى وصلى جازت صلاته وإن تبين أنه أخطأ، كما تجوز من الصحيح لقول علي رضي الله عنه: قبلة المتحري جملة قصده.
والحاصل: أن مفارقة المريض الصحيح فيما هو عاجز عنه، فأما فيما يقدر عليه هو كالصحيح. فإن كان يعرف القبلة، ولكن لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولم يجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه روي عن محمد بن مقاتل أنه يصلي كذلك إلى غير القبلة ثم يعيد؛ إذا برأ، وفي ظاهر الجواب لا يعيد؛ لأن ما عجز عنه من الشرائط لا يكون أقوى ما عجز عن الأركان، فإن وجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه ينبغي أن يأمره، حتى يحوله إلى القبلة، فإن لم يأمره وصلى إلى غير القبلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز صلاته، وقالا: لا تجوز.
وكذلك على هذا إذا كان على فراش نجس إن كان لا يجد فراشاً طاهراً، أو يجد فراشاً طاهراً ولكن لا يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر، فصلى على هذا الفراش الطاهر جازت صلاته، فإن كان يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر ينبغي أن يأمره حتى يحوله، فإن لم يأمره وصلى على فراش نجس، قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقالا: لا يجوز، وهذا بناءً على أصل معروف.
وهو أن القادر بقدرة الغير هل يصير قادراً؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصير قادراً، وقالا: يصير قادراً حتى أن الأعمى لا يجب (عليه الحج والجمعة، وإن كان له ألف قائد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجب الحج والجمعة. قال شمس الأئمة رحمه الله: قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذا صلى متعمداً إلى غير القبلة لا يجزئه رواية أن فاعله لا يكفر بخلاف ما قاله بعض المشايخ رحمهم الله.
وإن صلى المريض قبل الوقت عمداً أو خطأ لم يجزئه؛ لأنه صلى قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب، وصار هذا كمن صام رمضان قبل شهر رمضان؛ ولأن المريض فيما يقدر عليه كالصحيح، والصحيح لا تجوز له الصلاة قبل الوقت، فكذا المريض.
ومعنى المسألة: وهو أن يصلي قبل الوقت مخافة أن لا يشغله المرض عن الصلاة، وكذلك لو صلى بغير قراءة، أو بغير وضوء لم يجزه أيضاً لما ذكرنا أن المريض فيما قدر(2/148)
عليه كالصحيح، فإن عجز عن القراءة يومىء لغير قراءة؛ لأن القيام والركوع والسجود ركن كما أن القراءة ركن، ثم العجز عن تلك الأركان يسقط الأركان حتى يصلي مضطجعاً بالإيماء، فكذا العجز عن القراءة يسقط القراءة حتى يصلي بغير قراءة، فإن عجز عن الوضوء يصلي بالتيمم.
والمومىء يسجد للسهو بإيماء؛ لأن سجدة السهو دون الصلاتية، فلما جازت الصلاتية بالإيماء حالة العجز فالسهو أولى.
وليس للمريض أن يقصر الصلاة كالمسافر؛ لأن القصر في حق المسافر عرف بالنص، ولا نص في حق المريض، وإذا أراد المريض أن يجمع بين الصلاتين، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، لأن المرض عذر كالسفر، ثم المسافر كذا يجمع بين الصلاتين، فكذا المريض، ولا يجمع بين الصلاتين في وقت واحد ولا يدع الوتر، ولا يترك القنوت في الوتر.
الأحدب إذا كان قيامه ركوعاً يشير برأسه للركوع؛ لأنه عاجز عما هو فوقه.
وفي «الفتاوى» : إذا قال المريض عند القيام والانحطاط: بسم الله لما يلحقه من المشقة لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس من كلام الناس، ولم يخرجه جواباً. وذكر في «مختلف الرواية» أن في قياس قول أبي حنيفة: تفسد صلاته، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد.
رجل له عبد مريض لا يقدر على الوضوء فعلى المولى أن يوضئه هكذا روي عن محمد رحمه الله؛ لأنه ما دام في ملكه كان عليه تعاهده.
أبو سليمان عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر، ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجز صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر فجعل يركع مع الإمام وهو جالس ويسجد، قال: لا يجزئه، وإن كان لم يسجد بالأرض لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم ويتبع الإمام في صلاته، وهي تامة أي: صلاته تامة، وقد أساء فيما فعل (115أ1) يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته: أنه إذا أومأ بالركوع والسجود، ولم يركع ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً بالمأمور به، وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء، وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته. وقوله: قد أساء فيما فعل معناه وقد أساىء فيما أومأ أول مرة.
ابن سماعة عن محمد: مريض صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام؛ لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام ولم يقرأ ثم عمل، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أنه في الفصل الأول وجدها هو من أعمال القيام وهو القراءة فاعتبر تباعاً، وفي الفصل الثاني لم يوجد إلا مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
مريض صلى جالساً فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الرابعة فظن أنها(2/149)
ثالثة، فقرأ وركع وسجد بالإيماء فسدت صلاته؛ لأنه انتقل إلى النافلة قبل إتمام المكتوبة، ولو لم يكن في الركعة الرابعة، وإن كان في الثالثة فظن أنها ثانية، فأخذ في القراءة، ثم علم أنها ثالثة لا يعود إلى التشهد بل يمضي في قراءته، ويسجد للسهو في آخر الصلاة.
ذكر الحاكم مرسلاً: رجل صلى يومىء إيماءً فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ فكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزأته صلاته من قبيل أن قراءته ليست في موضع قراءة تجزئه من شيء يعتد به، فلا تفسد عليه قعوده، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة، أو بزيادة ركوع أو سجود. ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنها الركعة الرابعة، فنوى أن يكون قائماً فقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة، ولا يعود ليتشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.
ذكر الحاكم: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أنه هذه الثالثة، فصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته. ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام، ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث نية في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته.
ومن يصلي التطوع قاعداً بعذر أو بغير عذر ففي التشهد يقعد كما في سائر الصلوات إجماعاً، أما حالة القراءة فعن أبي حنيفة رحمه الله إن شاء فكذلك قعد، وإن شاء تربع، وإن شاء احتبى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يحتبي، وروي عنه أنه يتربع إن شاء، وعن محمد رحمه الله أنه يتربع.
وعن زفر رحمه الله: أنه يقعد كما في التشهد، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: يحل القعد عند السجود، وقال محمد رحمه الله: عند الركوع كذا ذكر الشيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: في أول صلاته، وذكر هو في آخر باب الحدث أنه يخير بين التربيع والاحتباء حكي عن اختلاف زفر أن في صلاة الليل يتربع عند أبي حنيفة رحمه الله من أول الصلاة إلى آخرها.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يتشهد في المكتوبة، وقال زفر رحمه الله: يقعد من أول الصلاة إلى آخرها كما في تشهد المكتوبة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الأفضل أن يقعد في موضع القيام محتبياً. قيل: ورأينا في «مختصر الكرخي» عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله يقعد كيف شاء، وهو قول محمد رحمه الله. وروى الحسن رحمه الله أنه يتربع وإذا أراد أن يركع بنى رجله اليسرى وافترشها.
قال القدوري رحمه الله: أطلق أبو الحسن رواية الحسن وهو عن أبي يوسف رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يركع متربعاً، وقال زفر:(2/150)
يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أن الفتوى على قول زفر في هذا. والله أعلم.
ما ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات»
رجل بحلقه خراج ولا يستطيع أن يسجد إلا ويسل خراجه، وهو صحيح فيما سوى ذلك يقدر على الركوع والقيام والقراءة، يصلي قاعداً يومىء إيماءً، ولو صلى قائماً بركوع وسجود، وقعد وأومأ بالسجود أجزأه، والأول أفضل. وإنما كان هكذا وذاك؛ لأن القيام لم يشرع قربة بنفسه، وكذلك الركوع، ولكن شرعا ليكونا وسيلتين إلى السجود، ولهذا كانت السجدة قربة بانفرادها، ولا كذلك القيام والركوع، وشرعت السجود مكررة يكون في ركعة، ولم يشرع القيام والركوع مكرراً في الركعة.
قلنا: وقد أمر بترك السجود هنا؛ لأنه لو سجد سال من خراجه شيء فتصير صلاته بغير طهارة، ولو لم يسجد كانت صلاته بطهارة ولكن من غير سجود.
قلنا: الصلاة مع الحدث لم تشرع في حالة الاختيار بحال، فأما الصلاة قاعداً وبإيماء مشروع في حالة الاختيار، حتى أن المتنفل إذا صلى قاعداً أو على الدابة بإيماء جاز، فكان ترك السجود أهون من تحمل الحدث، وقد عرف أن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما، وإذا أمر بترك السجود هنا، أمر بترك القيام والركوع بطريق التبعية، ولكن مع هذا إن قام وركع جاز؛ لأن السجود هنا بقي مشروعاً، ولهذا لو تكلف وفعله بلا حدث جاز، فبقي القيام والركوع أيضاً مشروعاً تحقيقاً للتبعية، فإذا أتى به فقد أتى بما هو مشروع فجاز، إلا أنه لما أمر بترك السجود لما قلنا أمر بترك القيام والركوع أيضاً بطريق التبعية، لكن مع كونهما مشروعين في نفسهما فجاز الإتيان بهما.
وكذلك إذا كان به جراحة إذا قام سال جرحه، وإذا قعد لا يسيل، أو كان شيخاً كبيراً إذا قام سلسل بوله، وإذا قعد استمسك، يصلي قاعداً بركوع وسجود، وإن كان لو سجد سال أيضاً صلى قاعداً يومىء إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع لما عرف في مواضع كثيرة. وإنما كان هكذا لما قلنا: أنه لو قام صار مصلياً بدون الطهارة، وذلك غير مشروع في حالة الاختيار بحال، وإذا قعد كانت صلاته بطهارة ولكن على غير قيام، وذلك مشروع في حالة الاختيار على ما مر، فكان ترك القيام أهون من تحمل الحدث، وهذا والأول سواء إلا أن هنا لو صلى قائماً لا يجوز، وهناك يجوز؛ لأن هنا السيلان يوجد في حالة القيام، فيصير مصلياً مع الحدث فلا يجوز، ولا كذلك الفصل الأول.
وعلى هذا لو أن شيخاً كبيراً إذا قام ضعف وعجز عن القراءة، وإذا صلى جالساً يركع ويسجد، ويقدر على القراءة أمر بأن يصلي قاعداً بركوع وسجود؛ لأن الصلاة بغير قراءة لا تجوز في حالة الاختيار بحال، وتجوز الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، وبالإيماء راكباً مع القدرة على النزول، فكان ترك القيام أهون من ترك القراءة.
وإذا كان بالرجل جرح إن قعد أو قام سال، وإن استلقى على قفاه رقأ الجرح، فإنه يصلي قائماً يركع ويسجد، وكذلك من به سلسل البول إذا كان بحيث يستمسك إذا استلقى(2/151)
على قفاه، وإنما كان كذلك، وذلك؛ لأن الصلاة مع الحدث في حالة الاختيار لا تجوز بحال، والصلاة مستلقياً على قفاه فكذلك، فاستويا من هذا الوجه إلا أنه إذا صلى قائماً فاته فرض واحد وهو الطهارة من الحدث، ولو صلى مستلقياً على قفاه يلزمه تحمل الاستلقاء، وترك القيام والركوع والسجود، فكان ما قلنا أهون الأمرين.
وذكر في «المنتقى» عن أبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل به جرح إن اضطجع فأومأ لم يسل (115ب1) وإن قعد سال، قال: يصلي مضطجعاً ويومىء إيماءً. فعلى قياس ما ذكر في «المنتقى» ينبغي في مسألة «الزيادات» أن يصلي مستلقياً على قفاه.
ومن هذا الجنس
مسألة لا ذكر لها في شيء من الكتب، وهي أن المريض إذا كان يقدر على القيام لو كان يصلي في بيته، ولو خرج إلى الجماعة يعجز عن القيام يصلي في بيته قائماً، أو يخرج إلى الجماعة ويصلي قاعداً، اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يصلي في بيته قائماً؛ لأن القيام فرض في الصلاة، فلا يجوز تركه لأجل الجماعة وهي سنّة. وأما من يقول: يخرج إلى الجماعة يقول: ليس في هذا ترك الفرض؛ لأن القيام إنما يفترض عليه إذا كان قادراً عليه وقت الأداء وهو عاجز عنه حالة الأداء، وإذا لم يكن القيام فرضاً عليه حالة الأداء لعجزه، وإنما اعتبر حالة الأداء في باب الصلاة لا حالة الوجوب لم يكن سبب الجماعة مدركاً فرضاً، فكان عليه مراعاة الجماعة.
وفي «المنتقى» عن إبراهيم عن محمد رحمهما الله: في رجل إن صام رمضان يضعف ويصلي قاعداً، وإن أفطر يصلي قائماً، قال: يصوم ويصلي قاعداً.
وفيه أيضاً: عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن خاف العدو إن صلى قائماً، أو كان في خباء لا يستطيع أن يقيم صلبه فيه، وإن خرج لم يستطع أن يصلي من الطين والمطر قال: يصلي قاعداً.u
والله أعلم.
الفصل الثاني والثلاثون في الجنائز
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأولفي غسل الميت وإنه ينقسم أقساما
الأول: في نفس الغسل: يجب أن يعلم بأن غسل الميت شريعة ماضية والأصل فيه ما روي «أن آدم صلوات الله عليه لما قبض نزل جبريل عليه السلام بالملائكة وغسلوه، وقالوا: هذه سنّة موتاكم يا ابن آدم» . وقال عليه السلام: «للمسلم على المسلم ست(2/152)
حقوق» وذكر من جملة ذلك أن يغسله بعد موته.
ونوع من المعنى يدل عليه وهو أن الميت في صلاة الجنازة بمنزلة الإمام للقوم إنه لا تجوز الصلاة بدونه، وشرط تقديمه على القوم كالإمام، وطهارة الإمام شرط لجواز صلاة القوم فكذا طهارة الميت؛ لأنه بمعنى الإمام، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ولأن ما بعد الموت حالة عرضٍ على الله تعالى، ورجوع إليه فوجب تطهيره بالغسل تعظيماً لله تعالى.
ولهذا يسن غسل الكافر، وإن كان لا يصلي تعظيماً لله تعالى: لأنه حالة عرضٍ عليه ورجوع إليه، وبه وردت السنّة في حق الكافر لما روي «أن النبي عليه السلام أمر علياً رضي الله عنه بغسل أبي طالب» .
ثم اختلف المشايخ في علة وجوب غسل الميت، قال أبو عبد الله البلخي في «تفسير المجرد» : إنما وجب غسله لأجل الحدث لا لنجاسة ثبتت بالموت؛ لأن النجاسة التي تثبت بالموت لا تزول بالغسل كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل إذا تنجست بالموت، فإنها لا تطهر بالغسل، والحدث مما يزول بالغسل حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، ونجاسة الميت لا تزول بالغسل.
علمنا أن غسل الميت شرع لإزالة الحدث لا لإزالة نجاسة الموت، ولأن الآدمي لا ينجس بالموت، وإن وجد احتباس الدم في العروق كرامة له بخلاف سائر الحيوانات، لكن يصير محدثاً؛ لأن الموت سبب استرخاء المفاصل وزوال العقل قبل الموت، وإنه حدث، فكان يجب أن يكون مقصوراً على أعضاء الوضوء كما في حالة الحياة لأن في حالة الحياة القياس: أن يجب غسل جميع البدن كما في الجنابة لا أنه سقط غسل جميع البدن، واكتفي بغسل الأعضاء الأربعة نفياً للحرج؛ لأنه يتكرر في كل يوم.
ألا ترى أن الجنابة لما لم تتكرر لم يكتف فيها بغسل الأعضاء الأربعة وكذلك الحيض لما لم يتكرر لم يكتف فيه بغسل الأعضاء الأربعة، والحدث بسبب الموت لا يتكرر فوجوب الغسل في جميع البدن لا يؤدي إلى الحرج، فأخذ بالقياس بعد الموت، والقياس يوجب غسل جميع البدن.
وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من مشايخ العراق يقولون: الغسل وجب لنجاسة الموت لا بسبب الحدث؛ لأن الآدمي له دم سائل، فيتنجس بالموت، والدليل على أنه يتنجس بالموت أن المسلم لو وقع في بئر ماء ومات فيها، فإنه يتنجس ماء البئر كلها حتى يجب نزح جميع البئر، وكذلك لو احتمل ميتاً قبل الغسل، وصلى معه لا تجوز(2/153)
الصلاة، ولو كان الغسل واجباً لإزالة الحدث لا غير لكان تجوز الصلاة مع الميت قبل الغسل، كما لو احتمل محدثاً، وصلى معه.
والدليل عليه: أن الميت لا يمسح برأسه ولو كان الغسل للحدث لسن المسح على رأسه كما في الجنب؛ لأن الحدث يزول بالمسح على الرأس، فدل أن الغسل واجب لإزالة نجاسة ثبتت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وهذا القول أقرب إلى القياس؛ لأنه قال: بثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وهو احتباس دم السائل في العروق. وقال: يزول بالغسل.
والغسل أثر في إزالة النجاسة كما في حالة الحياة إن لم يكن له أثر في إزالة نجاسة الموت في سائر الحيوانات سوى الآدمي، فكان ما قاله موافقاً للقياس من كل وجه في حق ثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وفي الزوال بالغسل موافقاً للقياس من وجه وهو الاعتبار بحالة الحياة إن كان مخالفاً للقياس باعتبار سائر الحيوانات، وما قاله البلخي مخالفاً للقياس من كل وجه، وهو المنع عن ثبوت النجاسة مع قيام العلة الموجبة للنجاسة فإما لم نجد سبب نجاسته لا يعمل في التنجس في الآدمي حالة الحياة كرامة له، فكذا بعد الوفاة، ولا شك أن ما هو أقرب إلى موافقة القياس أولى.
قسم آخر في بيان كيفية الغسل
ذكر أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم رحمهم الله أنه قال: يجرد الميت إذا أريد غسله، وقال الشافعي رحمه الله: السنّة أن يغسل في قميص واسع الكمين حتى يدخل الغاسل يده في الكمين، ويغسل يديه، فإن كان الكمين ضيقاً خرق الكمين.
حجته: بما روي عن النبي عليه السلام «حين توفي غسل في قميصه الذي عليه» ، وما كان سنّة في حق النبي عليه السلام يكون سنّة في حق غيره حتى يقوم دليل التخصيص؛ ولأن الميت متى جرد يطلع الغاسل على جميع أعضائه، وربما يطلع على عورته، وقبل الموت كان يكره الاطلاع عليه، فكذلك بعد الموت حقاً للميت بخلاف حالة الحياة. لأنه يجرد نفسه بنفسه، فلا يطلع عليه غيره.
وعلماؤنا احتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام لما توفي أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم لغسله، فقالوا: لا ندري كيف نغسله. يغسل كما نغسل موتانا أو نغسله وعليه ثيابه؟ فأرسل الله تعالى عليهم النوم فما منهم أحد إلا نام وذقنه على صدره إذ ناداهم منادي أن اغسلوا نبيكم عليه السلام وعليه قميصة ولا تنزعوا.
فقد اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن السنّة في سائر الموتى التجريد، والمعنى فيه وهو أن هذا غسل واجب فلا يقام مع الثياب اعتباراً بحالة الحياة،(2/154)
وهذا لأن المقصود من الغسل هو التطهر، والتطهير لا يحصل إذا غسل مع ثيابه؛ لأن الثوب متى تنجس الغسالة تتنجس يديه ثانياً بنجاسة الثوب، فلا يفيد الغسل، فيجب التجريد.
وأما الحدث قلنا: النبي عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لعظيم حرمته ألا ترى أن الصحابة قالت: لا ندري كيف نغسله؟ والنص الوارد في حق النبي عليه السلام بخلاف القياس لا يكون وارداً في حق غيره؛ لأنه ليس لغيره من الحرمة ما للنبي عليه السلام، وقوله: يطلع على عورته.
قلنا: أصلنا بين أمرين: بين أن نغسله في ثيابه حتى لا يطلع على عورته غيره، وبين أن يجرده فيقع الاحتراز عن نجاسة تصيبه من الثوب، والتجريد أولى؛ لأن صيانته عن النجاسة فرض، واطلاع الغاسل على عورة الميت، مكروه. فكان مراعاة التطهير، وإنه فرض أولى من مراعاة الاطلاع على عورة الميت، وإنه مكروه.
وإذا جرد عن ثيابه يوضع على تخت؛ لأنه لو وضع على الأرض يتلطخ (116أ1) ويتلوث بالطين فيوضع على التخت كيلا يتلطخ بالطين، ولم يبين في «الكتاب» كيفية وضع التخت إلى القبلة طولاً أو عرضاً.
من أصحابنا رحمهم الله من اختار الوضع طولاً كما كان يفعله في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء، ومنهم من اختار الوضع عرضاً كما يوضع في القبر. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعلى الأصح أنه يوضع كما تيسر فإن ذلك يختلف باختلاف الأماكن والمواضع، ويوضع على عورته خرقة؛ لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حياً وميتاً.
ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، ثم ظاهر الرواية أنه يستر السوءة وهي العورة الغليظة وحدها ويترك فخذاه مكشوفتين.
قال و «في النوادر» : ويوضع على عورته من السرة إلى الركبة، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وهو الصحيح، قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: «لا تنظر إلى فخذ حي وميت» ويلف الغاسل على يديه خرقة ويغسل السوءة؛ لأن مس العورة حرام كالنظر فيجعل على يده خرقة ليصير حائلاً بينه وبين العورة.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل يستنجي؟ وذكر في صلاة الأثر أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أنه يستنجي، وعلى قول أبي يوسف: لا يستنجى، أبو يوسف يقول: المسكة تزول والمفاصل تسترخى بالموت وربما يزداد الاسترخاء بالاستنجاء، فيخرج زيادة نجاسة من باطنه، فلا يفيد الاستنجاء فائدته، فلا يشتغل به، وهما قالا: موضع الاستنجاء من الميت قل ما يخلو عن نجاسة حقيقة، فيجب(2/155)
إزالتها كما لو كانت النجاسة على موضع آخر من البدن.
ثم يوضأ وضوءه للصلاة جاءت السنّة به من رسول الله عليه السلام؛ ولأن الغسل بعد الوفاة معتبر بالغسل حالة الحياة، وفي حالة الحياة كان إذا اغتسل توضأ أولاً وضوءه للصلاة، فكذلك بعد الوفاة.
قال شمس الأئمة الحلواني: هذا في البالغ والصبي الذي يعقل الصلاة، فأما الصبي الذي لم يعقل الصلاة، فإنه يغسله، ولا يتوضأ وضوءه للصلاة؛ لأنه كان لا يصلي.
ويبدأ بغسل وجهه، ولا يغسل اليدين بخلاف حالة الحياة؛ لأن الحي يغسله بنفسه، وآلة الغسل اليد فيؤمر بغسل اليدين أولاً، فيحصل غسل الأعضاء فإنه طاهرة، والميت يغسله الغاسل، ولا يغسل بنفسه، فلا يؤمر بغسل يد الميت بل يؤمر الغاسل بغسل يده.
ويبدأ في الوضوء بميامنه، وكذلك في الاغتسال؛ لأنه في حالة الحياة يفعل كذلك، فكذلك بعد الوفاة، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقد روت أم عطية أن النبي عليه السلام قال: للنساء اللاتي غسلن ابنته «إبدآن بميامنها وبمواضع وضوئها» . لا يمضمض ولا يستنشق وهذا عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يمضمض ويستنشق اعتباراً بالغسل حالة الحياة.
ولنا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الميت يوضأ وضوءه للصلاة إلا أنه لا يمضمض ولا يستنشق» . وهذا نص في الباب؛ ولأنه بتعذره عليهم إخراج الماء من فيه فيكون سقياً لا مضمضمة، ولو كبوه على وجهه ربما يخرج من جوفه ما هو نتن منه فيكون أخبث لفمه.
ومن العلماء من قال: يجعل الغاسل على أصبعه خرقة دقيقة ويدخل الأصبع في فمه ويمسح بها أسنانه ولهاته وشفتيه وينقيها، ويدخل من منخره أيضاً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وعليه الناس اليوم: ولا يمسح برأسه بخلاف غسل الجنابة حالة الحياة: لأن إزالة الحدث بالمسح عرف نصاً بخلاف القياس حالة الحياة.
ألا ترى أنه لا يزول الحدث في سائر الأعضاء بالمسح ولا نص في حالة الموت، فيبقى على أصل القياس، ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك يجتمع الماء المستعمل في موضع رجليه فالمفيد الغسل، وهنا لا يجتمع، ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي؛ لأن الغسل شرع للتنظيف والغسل بالخطمي أبلغ في التنظيف، وهذا إذا كان له شعر على رأسه، لأن الحي إذا غسل وله شعر فعل ذلك حتى يصل الماء إلى ثنون شعره،(2/156)
ولا يسرح شعره؛ لأن الحي إنما يفعل ذلك للزينة وقد انقطع ذلك بالموت.
ثم بعد التوضىء يغسل ثلاثاً؛ لأن هذا غسل مشروع بعد الوفاة، فيعتبر بالغسل المشروع حالة الحياة، ثم التثليث في الغسل حالة الحياة مشروع، وكذا بعد الوفاة، وإن زاد على الثلاث جاز كما في حالة الحياة.
ثم يغسل أولاً بالماء القراح يعني بالماء الخالص، ثم بالسدر فيطرح السدر بالماء، وفي الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل، هكذا روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «يبدأ أولاً بالماء القراح، ثم بالماء والسدر، ثم بالماء وشيء من الكافور» وإنما يبدأ أولاً بالماء القراح حتى يسيل ما عليه من الدرن والنجاسة، ثم بماء السدر حتى يزول ما به من الدرن والنجاسة، فإن السدر أبلغ في التنظيف وإزالة الدرن، ثم بماء الكافور يطيب بدن الميت، كذا فعلت الملائكة بآدم عليه السلام حين غسلوه. والغسل بالماء الحار أفضل عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يغسل بالماء البارد إلا أن يكون عليه وسخ ودرن، أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، فحينئذٍ يغسل بالماء الحار.
حجته: أن الميت يسترخي، فلو غسل بماء حار ازداد الاسترخاء، فيصير سبباً لخروج ما في بطنه من النجاسات، فيؤدي إلى تنجيس الأكفان وتنجيسه ثانياً بعد الغسل، فكان الغسل بماء بارد أفضل.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن غسل الميت شرع للتنظيف، والماء الحار أبلغ في التنظيف، فيكون أفضل قياساً على حالة الحياة، قوله: يزيد في الاسترخاء، قلنا: لهذا سنّ بالماء الحار ليزيد الاسترخاء، فيخرج جميع ما في بطنه كيلا تنجس الأكفان.
ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه؛ لأن البدائة بالأيمن مندوب إليه، ولا يمكنه ذلك إلا بعد أن يضعه على شقه الأيسر، فيضعه على شقه الأيسر، ويصب الماء عليه حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت من الشق الأيسر، فإذا وقع عند هذا فقد غسله مرة.
قال في «الكتاب» : وقد أمرن قبل ذلك بالماء ... بالسدر، فإن لم يكن بسدر فحرض، فإن يكن واحد منهما أجزأك الماء القراح. ثم يضعه على شقه الأيمن، وبصب الماء على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح ثلاثاً حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه؛ لأن الأيمن قد غسل بصب الماء عليه فيغسل الأيسر يصب الماء عليه؛ لأن صب الماء أبلغ في التطهير، فيجب أن يكون بكل جانب من ذلك حظ، فإن فعل هذا فقد غسل مرتين. ثم يقعده ويسنده إلى نفسه فيمسح بطنه مسحاً رقيقاً، فقد أمره بالمسح بعد الغسل مرتين، وأمره بمسح رقيق حقاً للميت.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه قال: يقعده أولاً،(2/157)
ويمسح بطنه، ثم يغسله؛ لأن المسح قبل الغسل أولى حتى يخرج ما في بطنه من النجاسة، فيقع الغسل ثلاثاً بعد خروج النجاسة.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن المسح بعد المرة الثانية أولى؛ لأنه ربما يكون في بطنه نجاسة منعقدة لا تخرج بعد المسح قبل الغسل، ويخرج بعد الغسل مرتين بماء حار، فكان المسح بعد المرتين أقدر على إخراج ما به من النجاسة، فيكون أولى.
والأصل في ذلك ما روي: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما غسل رسول الله عليه السلام مسح بطنه بيده وقتها طلب منه ما يطلب من الميت فلم ير شيئاً فقال: طبت حياً وميتاً، وروي أن العباس رضي الله عنه فعل وقال: هذا، وروي أنه لما فعل به هكذا أراح ريح المسك في البيت، وانتشر ذلك الريح في المدينة.
وإن سال منه شيء مسحه، ولم يرد لهذا الاقتصار على المسح بل يغسل ذلك الموضع، وإنما أمره بالمسح قبل الغسل (116ب1) ؛ لأنه لو لم يمسح يتعدى عن ذلك الموضع بالغسل ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح وشيء من الكافور حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه، فإذا فعل ذلك فقد غسله ثلاثاً.
ثم ينشفه بثوب كما في حالة الحياة بعدما اغتسل ينشف أعضاءه حتى لا تبتل ثيابه، فكذا ينشفه بعد الموت حتى لا تبتل الأكفان. ولا يأخذ من شعره وظفره؛ لأنه للزينة، وبالموت استغنى عن الزينة، وإن كان ظفره منكراً، فلا بأس بأن يأخذه.
روي ذلك عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وهذا سبيل كل ميت مات بعد الولادة، فإن ولد ميتاً لم يغسل، ولا يصلى عليه هكذا ذكر في «الأصل» .
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا استهل المولود سمي، وغسل، وصلي عليه، وورث وورث عنه، وإذا لم يستهل لم يسم، ولم يغسل، ولم يصلِ عليه؛ ولم يرث؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «إذا استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل لم يصلِ عليه ولم يورث» وهذه الرواية موافقة لما ذكر في «الأصل» .
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يغسل ولا يصلى عليه وهكذا روي عن محمد رحمه الله في رواية، وبه أخذ الطحاوي رحمه الله.
وفي رواية أخرى عن محمد رحمه الله: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه أخذ الكرخي.
وجه إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: أن المنفصل ميتاً في حكم جرو حتى لا يصلى عليه فكذا لا يغسل.
وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أن المولود ميتاً نفس مؤمنة، ومن النفوس من يغسل ولا يصلى عليه، فيجوز أن يكون لهذه الصفة وما يقول: بأن المولود ميتاً في حكم الجرو.(2/158)
قلنا: إنه في حكم الجرو من وجه، وفي حكم النفس من وجه فيعطى له حظاً من الشبهين، فلاعتباره بالنفوس، قلنا: يغسل ولاعتباره بالأجراء قلنا: لا يصلى عليه.
وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه، ففي غسله اختلاف المشايخ، والمختار أنه يغسل ويلف في خرقة.
وإذا غرق الرجل في الماء ومات أو وقع في بئر ومات فعن أبي يوسف رحمه الله أن ذلك لا ينوب عن الغسل وكذلك إذا أصاب الميت المطر لا ينوب ذلك عن الغسل.
فرق بين الميت والحي، والفرق: أن الغسل في حق الحي يتكلف به لغيره، وهو الطهارة وعرف ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} (المائدة: 6) ، وقد حصلت الطهارة من غير فعله، فأما الطهارة لم تعرف مطلوبة من غسل الميت يجوز أن يكون غسله لهذه الحكمة، ويجوز أن يكون غسله لحكمة أخرى، فلا يجوز القول بسقوط الأمر بالغسل عند حصول هذه الحكمة، وهي الطهارة؛ ولأن الأمر بغسل الميت لاقى الأحياء، فلا بد من فعل منهم، ولم يوجد، والأمر في حق الحي بالاغتسال لاقاه بعينه، وقد وجد نوع فعل منه في هذه الصورة.
وإذا لم ينب ذلك عن الغسل يغسل ثلاثاً بعد ذلك في قول أبي يوسف. وعن محمد أنه إذا نوى الغسل عند إخراجه من الماء يغسل مرتين بعد ذلك وإن لم ينوِ الغسل عند إخراجه يغسل ثلاثاً بعد ذلك، وعنه في رواية أخرى يغسل مرة واحدة. وإذا غسل الميت، ثم خرج منه شيء؛ فإنه لا يعاد الغسل، ولا الوضوء عندنا، وبه ختم.
قسم آخر في بيان الأسباب المسقطة لغسل الميت
فنقول: غسل الميت يسقط بأسباب: أحدها: انعدام الغاسل حتى أن الرجل إذا مات بين يدي النساء في السفر ييمم، فبعد ذلك ينظر إن كن أجنبيات يممنه من وراء الثياب، وإن كانت فيهن ذو رحم محرم منه يممته بيدها.
وكذلك المرأة إذا ماتت بين يدي الرجال في السفر، فإن كانوا أجانب يمموها من وراء الثوب، وإن كان فيهم ذو رحم محرم منها يممها بيده.
وإذا كان مع النساء رجل من أهل الذمة، أو مع الرجال امرأة ذمية علم الذمي والذمية الغسل، وإذا كان مع الرجال زوجها لم يحل له أن يغسلها، ولو كان مع النساء امرأة الميت حل لها أن تغسله.
وفي «العيون» : إذا ظاهر من امرأته ثم مات منها فلها أن تغسله لأن النكاح قائم ولو كان لرجل امرأتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً، وقد كان دخل بهما، ثم مات قبل البيان ليس لكل واحدة منهما أن تغسله لجواز أن كل واحدة منهما مطلقة، ولهما الميراث، وعليهما عدة الوفاة والطلاق.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مات الرجل عن امرأته، وهي مجوسية؛ لأنه كان لا(2/159)
يحل لها المس حال حياته، فكذا بعد وفاته بخلاف الذي ظاهر منها؛ لأن الحل قائم، فإن أسلمت قبل أن يغسل غسلته اعتباراً بحالة الحياة. وكذلك إذا مات عن امرأة، وأختها في عدته لم تغسله، فإن انقضت عدة أختها كانت لها أن تغسله.
إذا مات الرجل فأقامت امرأتان أختان كل واحدة منهما بينة أنه تزوجها، ودخل بها، ولا يعلم أيتها الأولى لم تغسله واحدة منهما، وميراث امرأة واحدة بينهما. وإذا مات الرجل وثمة أمته أو أمة غيره يممته بغير ثوب إلا من عتق بموته، ولا تغسل الأمة مولاها، وكذلك أم الولد، وعن أبي يوسف رحمه الله للمحرمة والرضاعة أن تغسل زوجها.
وإذا مات الرجل عن امرأته، فقتلت ابن الميت أو ارتدت والعياذ بالله أو وقعت المحرمية بينهما بسبب من الأسباب لم يجز لها أن تغسله.
وإذا تزوج امرأة الرجل بزوج ودخل بها الزوج الثاني حتى وجب عليها العدة، ثم فرق بينهما، وردت إلى الزوج الأول، ومات عنها وهي في العدة من النكاح الثاني لم يكن لها أن تغسله، وإن انقضت عدتها في حال حياته، أو بعد وفاته لها أن تغسله.
وإن كان معه امرأة قد بانت منه قبل موته بطلاق، أو غير طلاق لم تغسله؛ لأن النكاح ارتفع في حال الحياة، والعدة الواجبة عليها للاستبراء ولهذا تقدر بالأقراء، وكذلك لو ارتدت قبل موته ثم أسلمت. وتغسل المرأة الصبي الذي لم يتكلم؛ لأنه ليس لفرجه حكم العورة.
والثاني: انعدام ما يغسل به، فإنه إذا مات الرجل في السفر، وليس هناك ماء طاهر ييمم ويصلى عليه.
والثالث: الشهادة، فالشهيد لا يغسل عند عامة العلماء رحمهم الله، وقال الحسن البصري: يغسل.
أولاً: يحتاج إلى بيان معرفة الشهيد ثم إلى بيان معرفة حكمه، فنقول وبالله التوفيق: الشهيد اسم لكل مسلم مكلف طاهر عند أبي حنيفة رحمه الله قتل ظلماً في قتال ثلاث.Y
إما مع أهل الحرب، أو مع أهل البغي، أو مع قطاع الطريق، بأي آلة قتل لم يحمل على مكانه حياً ولم ينتفع بحياته، ولم يبق حياً بعد الجراحة يوماً أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض هو مال بالإجماع.
وحكمه في الشرع أنه لا يغسل، ويصلى عليه عندنا، وقال الحسن البصري رحمه الله: يغسل، وقال الشافعي: لا يصلى عليه. أما الكلام مع الحسن رحمه الله في الغسل حجته في ذلك أن الغسل سنّة الموتى من بني آدم لما روينا أن الملائكة صلوات الله عليهم لما غسلوا آدم عليه السلام قالوا: «هذه سنّة موتاكم يا بني آدم» . والشهيد ميت؛ لأن المقتول ميت بأجله عند أهل السنّة والجماعة؛ ولأن الغسل شرع كرامة للميت،(2/160)
والشهيد أحق بالكرامات، وإنما لم يغسل شهداء أحد؛ لأن الجراحة فشت في الصحابة في ذلك اليوم، وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة؛ لأن عامة جراحاتهم كانت ... في رسول الله عليه السلام لذلك.
وإنا نحتج بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال في شهداء أُحد (117أ1) «زملوهم بكلومهم ودمائهم» وفي رواية «واروهم بثيابهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً» ، وفي رواية «فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك» ، وشهداء أُحد كانوا مكلفين طاهرين إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي، أو جنب، وقد قتلوا ظلماً في قتال أهل الحرب، وما اعتاضوا عن دمائهم عوض هو مال، وما حملوا عن مكانهم أحياء، وما انتفعوا بحياتهم، وما عاشوا يوماً أو ليلة بعد الجراحة. فكل من كان في معناهم يلحق بهم في حق سقوط الغسل، وما لا فلا.
وكذلك من قتل في قتال أهل البغي لأنه إنما حارب لإعزاز دين الله تعالى، فصار كالمحارب مع أهل الحرب، وقد صح أن عمار بن ياسر قتل بصفين فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في التراب رمساً، فإني رجل محاج أحاج معاوية يوم القيامة، وزيد بن صومان قتل يوم الجمل فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً فإني مخاصمهم يوم القيامة، وعن صخر بن عدي أنه قتله معاوية، وكان مقيداً فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ومعاوية ملتقي يوم القيامة على الجادة.
وكذلك من قتل في قتال قطاع الطريق؛ لأنهم في معنى أهل الحرب.
ألا ترى أن الله تعالى وصفهم بكونهم محاربين الله ورسوله.
وكذلك من قتل مدافعاً عن نفسه، أو ماله، أو أهله، فهو شهيد قال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» ؛ ولأنه في معنى شهداء أُحد.
والمعنى في المسألة: أن غسل الميت إنما شرع لإزالة نجاسة ثبتت بالموت بسبب احتباس الدم السائل في العروق كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل، والدليل على أن النجاسة إنما ثبتت بسبب احتباس الدم السائل في العروق، فإن ما ليس له دم سائل من الحيوانات لا ينجس بالموت، والقتل على سبيل الشهادة يزيل الدم السائل عن العروق فلا تثبت نجاسة الموت بخلاف الموت؛ لأن النص ما ورد فيه، فبقي هو على النجاسة الأصلية. وأما الجواب عما قاله الحسن رحمه الله: أن الجراحات فشت في الصحابة.(2/161)
قلنا: هذا باطل؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالتيمم، ولو كان ترك الغسل لما ذكرتم من المعنى لأمرهم رسول الله عليه السلام بالتيمم، كما لو تعذر غسل الميت في زماننا لعدم الماء، وبأنه ما لم يعذرهم في ترك الدفن، ولا شك أن حفر التراب هو أشق من غسل الميت، فلما لم يعذرهم في ترك الدفن كان أولى أن لا يعذرهم في ترك الغسل، وكما لم يغسل شهداء أُحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة ابن عامر رضي الله عنه، وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ.
وكذلك لم يغسل شهداء الخندق، وحنين وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ فظهر أنهم إنما لم يغسلوا؛ لأن الشهيد لا يغسل.
وأما حديث آدم صلوات الله عليه، قلنا: بلى الغسل سنّة الموتى من بني آدم وهذا شهيد والشهيد ليس بميت من كل وجه بل هو ميت من وجه.
وأما الكلام مع الشافعي رحمه الله في الصلاة عليه: حجته في ذلك ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: ما صلى على شهداء أُحد؛ ولأنه بصفة الشهادة يطهر من دنس الذنوب، والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه، وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الصلاة مشروعة على الميت دون الحي، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أحياء لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمرن: 169) ولنا ما روي أن النبي عليه السلام: صلى على شهداء أُحد، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص به المسلمين، والشهيد أولى بهذه الكرامة.
وأما قوله من المعنى الأول: ليسن بصحيح؛ لأن درجته لا تبلغ درجة رسول الله عليه السلام، وما يقول من المعنى الثاني: أن الشهيد حي قلنا: نعم ولكن في حق أحكام الآخرة كما قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} أما في حق أحكام الدنيا فلا، ولهذا يقسم ماله بين ورثته، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، والصلاة عليه من أحكام الدنيا.
وأما حديث جابر فتأويله لم يكن حاضراً حال ما صلى رسول الله عليه السلام عليهم، فقد روي أنه قتل أبوه وأخوه وخاله يومئذٍ، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة؟ فلم يكن حاضراً حال ما صلى عليه السلام عليهم فروى ما روى لهذا.
ومن شاهد النبي عليه السلام، وشاهد صلواته عليهم. روي أنه صلى عليهم فقد روى بعضهم أن النبي عليه السلام: «صلى على حمزة سبعين صلاة» وتأويله أن حمزة كان موضوعاً بين يديه، وكان يؤتى بواحد واحد، وكان يصلي رسول الله عليه السلام عليه فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة، فروى أنه صلى عليه سبعين صلاة.
جئنا إلى بيان الشرائط التي شرطناها لكون المقتول شهيداً أما كونه مكلفاً، فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما حتى أن الكفار إذا دخلوا قرية من قرى(2/162)
المسلمين، وقتلوا الصبيان والمجانين، فإنهم يغسلون عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يغسلون.
حجتهما: أنهم قتلوا في سبيل الله تعالى ظلماً، فيكونوا شهداء كالبالغين.
يوضحه: أن حال الصبيان والمجانين في الطهارة فوق حال البالغين العاقلين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه يطهر بالسيف، فالصبي والمجنون أولى، ولأبي حنيفة رحمه الله أنهم ليسوا في معنى شهداء أُحد إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي أو مجنون فلا يلحقوا بهم في حق سقوط حكم الغسل.
وقد صح أن ابني آدم لما قتل أحدهما صاحبه أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: «أن اغسله وكفنه وصلي عليه وادفنه» ؛، ولأن السيف محاء للذنوب والخطايا، وليس لهؤلاء ذنوب، فكان القتل في حقهم والموت سواء.
وهما يقولان: بأن السيف يطهر ويسقط الغسل عمن له ذنوب وخطايا، فلأن يسقط الغسل عنهم أولى، والجواب لأبي حنيفة رحمه الله ما بينا، ولأن ترك الغسل لإبقاء أثر الشهادة عليه ليكون له حجة على خصمه ولو لقيه، والصبي لا يخاصم بنفسه في حقوق الدنيا، فكذا في حقوق الآخرة، وإنما الخصم عنه في الآخرة هو الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة عليه. وأما كونه طاهراً فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن الجنب إذا قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو اللصوص يغسل عنده، وقال أبو يوسف: لا يغسل.
والحائض والنفساء إذا طهرتا، وتم الانقطاع، ثم قتلتا قبل الغسل، فهو على الخلاف، وإن قتلتا والحيض والنفاس قائم، عندهما لا يغسلان بلا إشكال، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان وأصح الروايتين عنه أن تغسل.
هما يقولان: الغسل الواجب بالجنابة سقط بالموت؛ لأن الغسل كان واجباً عليه، فيسقط بالموت لعجزه، والغسل بسبب الموت لم يجب؛ لأنه شهيد. ولأبي حنيفة رحمه الله حديث حنظلة، فإنه استشهد وهو جنب فغسلته الملائكة.
فسأل رسول الله عليه السلام زوجته عن حاله فقالت: أحبلني البارحة فأعجله الحرب من الغسل فقتل وهو جنب، فغسلته الملائكة تعليماً لنا، كما في قصة آدم عليه السلام؛ ولأن الأصل في بني آدم الغسل، إنما تركنا هذا الأصل بحديث شهداء أُحد، ولم يرو أنه كان فيهم جنب أو حائض؛ ولأن الشهادة عرفت مانعة ثبوت النجاسة، لا مطهرة عن نجاسة.
بيانه: أن المسلم طاهر، ولكن يتنجس بالموت، فالشهادة تمنع ثبوت النجاسة بالموت، والجنب والحائض نجس ممنوع عن دخول المسجد وتلاوة القرآن، فالشهادة لو عملت (117ب1) في حقهما إنما تعمل في إزالة النجاسة، والمنع من الثبوت أسهل من الرفع بعد الثبوت، ولا يقاس الأعلى على الأدنى.
وأما كونه مقتولاً ظلماً، فهو شرط بلا خلاف حتى أن من افترسه السبع، أو سقط(2/163)
عليه البناء، أو الحائط، أو تردى من جبل، أو غرق في الماء، أو ما أشبه ذلك غسل كغيره من الموتى؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وهم قتلوا ظلماً، فلا يلحق بهم غيرهم إلا إذا كان في معناهم.
يوضحه: أن هذه الأسباب غير معتبرة في حق أحكام الدنيا، والغسل من أحكام الدنيا؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا المعنى لا يوجد في حق من مات بهذه الأسباب. وإنما عممنا الآلة؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، ولم يكن كلهم قتيل السيف والسلاح بل فيهم من دمغ رأسه بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، ثم عمهم رسول الله عليه السلام في الأمر بترك الغسل؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله، وفي حق هذا المعنى السلاح وغيره سواء.
وشرطنا أن لا يحمل عن مكانه حياً حتى قلنا: إذا حمل عن مكانه حياً ومات في بيته، أو على أيدي الناس يغسل؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، هم ما حملوا عن مصرعهم بل ماتوا كما وقعوا على الجنب. فالذي يحمل عن مكانه حياً ليس في معنى شهداء أُحد، وقد صح أن عمر وعلياً رضي الله عنهما حملا عن مصرعهما حيين وغسلا، وعثمان رضي الله عنه أجهز عليه في مصرعه ولم يغسل، فعرفنا أن الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه. وهذا إذا حمل ليمرض فأما إذا رفع من بين الصفين كيلا يطأه الجنود فإنه لا يغسل.
والفرق الذي حمل كيلا يطأه الجنود ما نال شيئاً من راحات الدنيا فلم يخف الظلم في حقه فيكون في معنى شهداء أحد ولا يغسل ولا كذلك الذي مرض في بيته أو خيمته لأنه وصل إليه شيء من راحات الدنيا فيخف المظلم في حقه فلم يكن في معنى شهداء أُحد.
وشرطنا أن لا ينتفع بحياته، حتى قلنا: إذا أكل أو شرب في مكانه يغسل؛ لأن هذا ليس في معنى شهداء أُحد، فإنه روي أنهم طلبوا ماء، وكان الساقي يطوف عليهم، فكان إذا عرض الماء على إنسان أشار إلى صاحبه حتى ماتوا عطاشاً، ولأنه إذا أكل أو شرب، فقد وصل إليه راحة من راحات الدنيا فخف الظلم في حقه، فصار كالتمريض والارتثاث.
ولو كلم إنساناً ثم مات قبل أن يحمل لم يغسل.
قيل: هذا إذا كان قليلاً ليس أمور الدنيا، فإن من شهداء أُحد من فعل ذلك، أما إذا كان كثيراً من أمور الدنيا كالبيع والشراء غسل.
ولو أوصى بوصية، ثم مات لم يغسل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يغسل. واختلف المتأخرون رحمهم الله في ذلك، منهم من قال: هذا الاختلاف فيما أوصى بشيء من أمور الآخرة، فأما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا يغسل بالاتفاق، ومنهم من قال: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو يوسف رحمه الله: محمول على ما إذا كانت الوصية بأمور الدنيا والاهتمام لأولاده.
وعند مالك يغسل بالإجماع. وما قال محمد رحمه الله: محمول على ما إذا كانت(2/164)
الوصية بالأمر الآخرة، وعند ذلك لا يغسل بالإجماع، استدل محمد رحمه الله في «الزيادات» بحديث سعد بن الربيع فإنه روي عن النبي عليه السلام «أنه قال يوم أُحد: «من يأتيني بخبر سعد فقال رجل: أنا آتيك بخبره، فجعل يتفحص القتلى حتى أدركه وبه رمق، فقال: إن رسول الله يقرئك السلام ففتح سعد عينيه، وقال: رسول الله في الأحياء قال: نعم هو سالم وقد بعثني إليك، فقال: الحمد لله على سلامته الآن طابت نفسي للموت، ثم قال: أقرأ رسول الله مني السلام، وأقرأ الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله تعالى إن قتل محمد وفيكم عين تطرف، ثم قال: أخبر النبي عليه السلام أن بي كذا كذا طعنة كلها أصابت مقتلي، ثم مات» وكان من جملة شهداء أُحد، فهذا يبين لك صحة ما قلنا.
وشرطنا أن لا يبقى بعد الجراحة حياً يوماً أو ليلة حتى قلنا لو عاش في مكانه يوماً أو ليلة فإنه يغسل، وإن كان دون ذلك لا يغسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد، إذ لم يبق منهم أحد حياً بعد الجراحة يوماً كاملاً أو ليلة كاملة.
يوضحه: أن القتيل يعيش قليلاً ولا يعيش طويلاً فلا بد من حد فاصل بين القليل والكثير فجعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير يوماً كاملاً أو ليلة كاملة؛ لأن كل واحدة من هذه المدة تعرف بنفسها، أما ما دون ذلك تعرف بالساعات فيكون هذا معرفة بغيرها لا بنفسها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن عاش وقت صلاة كامل يغسل؛ لأنه وجبت عليه تلك الصلاة، وهذا من أحكام الأحياء.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذ مكث الجريح في المعركة يوماً أو أكثر منه حياً، والقوم في القتال على قتالهم ذلك اليوم كله، وهو يعقل فكلمهم، أو لا يعقل فهو بمنزلة الشهيد، قال: ألا ترى أنه لو كان يقاتل راجلاً أو فارساً اليوم كله، ثم خر ميتاً في آخر النهار من جراحة أصابته في أول النهار إنه يكون شهيداً.
وإن تصرم القتال بينهم وهو مجروح في المعركة صريع يعقل، فإن مكث كذلك وقت صلاتين أو وقت صلاة فهو بمنزلة الذي حمل حياً لا يكون شهيداً؛ لأنه صارت الصلاة ديناً في ذمته إذا كانت الحالة هذه، وهذا من أحكام الأحياء.
وإن كانوا في معمعة القتال، فوجد جريحاً فحملوه والقوم في القتال، ثم مات فهو شهيد، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: مجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله فقد لا يجعله مرتثاً، وإنما ارتثاثه بذلك بعد تصرم القتال.
وشرطنا أن لا يجب عن نفسه عوض هو مال حتى قلنا: إن من قتل خطأ يغسل؛ لأنه اعتاض عن دمه بدل هو مال، فلا يكون في معنى شهداء أُحد.
يوضحه: أن الشهيد من سلم نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى لنيل الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْولَهُمْ} (التوبة: 111) فمن استوجب الدية(2/165)
بدلاً عن نفسه، فقد اعتاض عن دمه، فلم يتم التسليم فيغسل.
ومن وجد في المصر قتيلاً ينظر إن حصل القتل بعصا كبيرة، أو بحجر كبير ويعلم قاتله، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عنده يوجب الدية، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عندهما يوجب القصاص ووجوب القصاص، لا يمنع الشهادة عندنا كما لو قتل بالسلاح.
وإن لم يعلم قاتله يغسل؛ لأنه وجبت الدية، والقسامة بقتله، فلم يكن في معنى شهداء أُحد. وإن حصل القتل بعصا صغيرة يغسل علم قاتله، أو لم يعلم؛ لأن هذا القتل يوجب المال على كل حال، إن حصل القتل بحديدة، فإن لم يعلم قاتله تجب الدية والقسامة على أهل المحلة، فيغسل، وإن علم القاتل لم يغسل عندنا، وعند الشافعي يغسل بناءً على أن قتل العمد يوجب الدية عنده، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعندنا القتل العمد يوجب القصاص فمن اعتاض عن دمه بدل هو مال.
وحجتهما روي أن عمر وعلياً رضي الله عنهما غسلا وقد قتلا مظلومين.
وحجتنا ما روي أن عثمان رضي الله عنه لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، وكذلك صخر بن عدي لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، ولا حجة له في حديث عمر، وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما ارتثا فغسلا لأجل الارتثاث، لا؛ لأن وجوب القصاص يوجب خللاً في أمر الشهادة.
فإن قيل: الذي وجب القصاص بقتله ليس في معنى شهداء أُحد إذ لم يجب بقتلهم شيء.
قلنا: فائدة القصاص يرجع إلى ولي القتيل، وسائر الناس دون المقتول، فلم يحصل له بالقتل شيء كما لم يحصل شهداء أُحد بخلاف الدية؛ لأن فائدة الدية ترجع إلى الميت من حيث إنه (118أ1) تقضى ديونه وتنفذ وصاياه.
ومن قتل في قصاص أو رجم غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأنه قتل بحق وشهداء أُحد قتلوا ظلماً؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا لا يوجد في الذي قتل بحق؛ لأنه باذل نفسه لإبقاء حق مستحق.
وقد صح أن ماعزاً لما رجم جاء عمه إلى رسول الله عليه السلام وقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب، ماذا تأمرني أن أصنع به، فقال عليه السلام: «لا تقل هذا لقد تاب ماعز توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم، اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه» . وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا، وكذلك من عدا على قوم ظلماً وكابرهم فقتلوه غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأن شهداء أُحد ما عدونا على غيرهم ظلماً؛ ولأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، فلا يكون شهيداً.(2/166)
وكذلك الباغي إذا قتل لا يصلى عليه وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليه؛ لأنه مؤمن قال الله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (الحجرات: 9) إلا أنه مقتول بحق، فهو كالمقتول في رجم أو قصاص.
ولنا حديث علي رضي الله عنه: أنه لم يغسل أهل الخوارج يوم النهروان، ولم يصلِ عليهم، فقيل له: أهم كفار فقال: لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا، أشار إلى أنه ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة وزجراً لغيرهم، وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة وزجراً لغيرهم.
وإن وجد في المعركة ميتاً ليس له أثر القتل غسل؛ لأن المقتول يفارق الميت بالأثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو، بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات، والجبان قد يبتلى بهذا، وقد وقع هذا في كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن كان به أثر القتل لم يغسل؛ لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح، وإنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا، والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب موته يضاف إلى ذلك السبب.
ثم لا بد من معرفة الميت الذي ليس له به أثر القتل، والذي به أثر القتل، فالذي ليس به أثر القتل أن لا يكون به جراحة ولم يخرج منه الدم من موضع ما، أو خرج الدم منه من موضع يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.
حتى قلنا: لو خرج من أنفه أو دبره، أو ذكره دم غسل؛ لأن المرء قد يبتلى بالرعاف، وقد يبول دماً لمرض في الباطن، أو من شدة الفزع، وقد يبتلى المرء بالباسور، فيخرج الدم من الدبر، فلا تثبت صفة الشهادة بالشك. والذي به أثر القتل أن يكون به جراحة، أو لم يكن به جراحة إلا أنه خرج الدم منه من موضع لا يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.
قلنا: لو خرج الدم من أذنه أو عينه، لم يغسل؛ لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا لجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه.
وإن كان يخرج من فمه فهو على وجهين: إما أن ينزل من رأسه أو يعلو من جوفه، فإن كان ينزل من رأسه غسل؛ لأنه رعاف؛ لأن للدماغ والرأس منفذين منفذاً إلى المخ ومنفذ إلى الفم والحلق، وإن كان يعلو من الجوف إن كان سائلاً لم يغسل وهو شهيد لأن الدم لا يسيل من الجوف حالة الحياة إلا الجرح في الباطن فكان ذلك علامة الضرب والقتل وإنا نعلم ذلك بلون الدم وإن كان متجمداً يفصل لأنه يحتمل أن يكون صفراً أو سواداً احترق فلا يكون ذلك دليل الجرح في الباطن، فلا يترك الغسل بالشك وبه ختم.(2/167)
قسم آخريتصل بمسائل الشهيد
ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» : أما في الشهيد وذكر فيها مسائل كثيرة وبنى مذهب أبي حنيفة ومذهب نفسه على أصل أن من صار مقتولاً في قتال ثلاث: إما مع أهل الحرب، أو مع البغاة، أو مع قطاع الطريق لمعنى مضاف إلى العدو، وكان شهيداً سواء كان بالمباشرة، أو بالتسبب، وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً لأن الشهيد اسم لقتيل العدو فلا بد وأن يكون القتل مضافاً إلى العدو مباشرة وتسبباً.t
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار مقتولاً في هذا القتال الثلاث كان شهيداً، وإن لم يكن قتله مضافاً إلى العدو؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وقد كان فيهم من رمت به دابته ثم عمهم رسول الله عليه السلام في حكم الشهادة.
إذا أوطأ مشرك مسلماً بدابته لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة، ولو وطئت دابة المشرك والمشرك راكبها إلا أنه لا يعلم به، فقتله لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة؛ لأن فعل الدابة يضاف إلى راكبها؛ لأنها تبع له يوقفها كيف شاء. وكذلك لو كدمته الدابة بفمها أو ضربته بيدها أو بعجته برجلها أو بذنبها لا يغسل بلا خلاف، وكان ينبغي أن يغسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن هذه الأفعال غير مضافة إلى راكب الدابة.
ألا ترى أن الراكب في دار الإسلام بمثل هذه الأفعال لا يضمن فلم يكن قتل ألبتة.
قلنا:...... هل هذه الأفعال مضافة إلى راكبها لما قلنا إلا أنه سقط اعتبار الإضافة شرعاً في حق الضمان في حق من يسير على الدابة، لأن الركوب في الطريق مسير مباح في الأصل فلم يصر خائناً بالركوب، والتحرز عن هذه الأسباب غير ممكن، فجعل ذلك عفواً حتى لو أوقف الدابة في طريق المسلمين يجب الضمان بمثل هذه الأفعال؛ لأن الإيقاف في الطريق غير مباح في الأصل، فيصير خائناً بالاتفاق، فما تولد منه يكون مضموناً عليه.
فأما الحربي، فهو خائن في أصل الركوب للقتال مع المسلمين فما تولد منه يكون مضموناً عليه سواء أمكنه التحرز عنه أو لا.
وإن كانت دابة المشرك منفلتة من المشرك وليس عليها أحد، ولا لها سائق أو قائد فأوطئت مسلماً في القتال، فقتلته، غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن قتله غير مضاف إلى العدو أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يغسل؛ لأنه صار قتيلاً في قتال أهل الحرب.(2/168)
وإن عثرت دابة رجل من المسلمين في القتال فرمت به فقتلته غسل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف بناءً على الأصل الذي قلنا: ولو نفر مشركون دواب المسلمين فرمت دابة صاحبها وقتلته لم يغسل بالإجماع لأنه قتيل العدو تسبباً، ولو رأت دواب المسلمين دابات المشركين فتفرق من ذلك دابة من غير..... المشركين ورمت بصاحبها وقتلته فهو على الاختلاف الذي بينا.
ولو انهزم المسلمون فوطئت دابة مسلم مسلماً وصاحبها عليها، أو سائق لها، أو قائد غسل؛ لأن قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ يوجب الدية، وكل قتيل هذا حاله لا يؤثر في سقوط الغسل.
وكذلك لو رمى مسلم المشركين بسهم، فأصاب سهمه رجلاً من المسلمين، فقتله يغسل؛ لأنه قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ تجب فيه الدية، فلا يؤثر في سقوط الغسل فاستدل في «الكتاب» بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فإن المسلمين التفوا بسيوفهم على اليمان، فقتلوه ولم يعرفوه فقضى رسول الله عليه السلام بالدية لحذيفة (118ب1) ، فهذا دليل على أن مثل هذا القتل يوجب الدية، ووجوب الدية يوجب خللاً في أمر الشهادة في حكم الغسل.
ولو ألجأ المشركون المسلمين إلى خندق فيه ماء أو نار فلم يجدوا بداً من الوقوع ففرق بعضهم أو احترق غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله؛ لأن قتلهم غير مضاف إلى العدو؛ لأنهم هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه، أكثر ما في الباب أنهم كانوا مضطرين في ذلك لكن مباشرتهم ذلك بأنفسهم يقطع تسبب العدو. ولو طعنوهم بالرماح حتى ألقوهم في الماء أو النار، أو رموا بهم عن سور المدينة، فلم تعقرهم الرماح وغرقهم الماء، أو ماتوا من وقوعهم لم يغسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى العدو مباشرة.
ولو أن المشركين جعلوا الحسك حولهم أو حفروا خندقاً حولهم وجعلوا فيه ناراً أو ماءً، فجاء المسلمون ليلاً ولا يعلمون بذلك، فوقعوا فيه غسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى فعلهم حيث وضعوا أقدامهم على ذلك الموضع باختيارهم، وجهلهم بذلك لا يجعل فعلهم مضافاً إلى العدو، فلا يسقط الغسل إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.
ولو أن المشركين تحصنوا في مدينة، وصعد المسلمون سورها، فمالت رجل إنسان منهم فوقع فمات غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه مات من فعله لا من فعل العدو، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يغسل لما قلنا. وكذلك لو أن المسلمين نقبوا الحائط فوقع عليهم من نقبهم غسلوا لما قلنا، إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.
ولو نقب المشركون الحائط حتى سقط على المسلمين لم يغسلوا؛ لأنهم قتيل العدو. وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان لا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات(2/169)
بمخاصمتن يوم الجمعة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهداً لهن كما للرجال، وأما الصبيان، فعند أبي حنيفة رحمه الله يغسلون، وعندهما لا يغسلون. قال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للصبي ذنب هجره، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء، ثم الصبي لا يخاصم بنفسه، وإنما يخاصم عنه الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة.
قسم آخر في تكفين الشهداء
ويكفن الشهيد في ثيابه الذي عليه لقوله عليه السلام: «زملوهم بلباسهم» ولحديث زيد بن صوحان وصخر بن عدي: «لا تنزعوا عني ثوباً ولا تغسلوا عني دماً» ، ولأن في نزع ثيابه إزالة أثر الشهادة عنه.
وقد أمرنا بإبقاء أثر الشهادة عليه. ألا ترى أنا أمرنا بإبقاء الدم الذي على يديه، وكره إزالته بالغسل، فكره نزع ثيابه لهذا، غير أنه ينزع عنه السلاح والجلود والفرو والحشو والخف والقلنسوة، وكلما ليس من جنس الكفن لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «تنزع عنه العمامة والخفان والقلنسوة» .
وعن زيد بن صوحان رضي الله عنه أنه قال: «ادفنوني في ثيابي ولا تنزعوا عني إلا الحشو» ولأن ما يترك على الشهيد يترك ليكون كفناً له، والكفن للستر، والفرو والحشو يلبسان للزينة أو لدفع الحر والبرد، والميت قد استغنى عن ذلك، ولهذا كره تكفين غير الشهيد بهذه الأشياء، فإذا كره التكفين بهذه الأشياء ابتداء، كره الترك عليه كفناً له.
وفي «السير الكبير» يقول: ينزع عنه ما ليس من جنس الكفن نحو السلاح والسراويل والقلنسوة، ولم يذكر محمد السراويل إلا في «السير» ، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني يقول: الأشبه أن لا ينزع عنه السراويل؛ لأن في نزعه إبراز العورة من غير الضرورة، ووافقه في ذلك كثير من المشايخ من مشايخنا رحمهم الله.
ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا، قيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب إذا قل حتى يبلغ السنّة، وينقص عما عليه إذا كثر حتى يبلغ السنّة، وقيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب ثوب جديد تكرماً له، وإن كان ما عليه يبلغ السنّة، وينقصون ما شاؤوا كما يفعل بغيره من الموتى، إنما لا يزال عنه أثر الشهادة، فأما في سوى ذلك فهو كغيره من الموتى، وبه ختم.
نوع آخرمن هذا الفصل في تكفين الميت
هذا النوع ينقسم أقساماً قسم في مقدار الكفن. قال محمد رحمه الله: أدنى ما تكفن فيه(2/170)
المرأة ثلاثة أثواب ثوبان وخمار، وأكثر ما تكفن فيه المرأة خمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة، وأدنى ما يكفن الرجل فيه ثوبان، وأكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة أثواب.
يجب أن يعلم بأن الكفن أنواع ثلاثة: كفن ضرورة وكفن كفاية وكفن سنّة، أما كفن الضرورة أن يكفن فيما يوجد، فإن حمزة استشهد، وعليه نمرة إذا غطي بها رأسه بدت قدماه وإذا غطي بها قدماه بدا رأسه فغطي بها رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وأما كفن الكفاية فما قال في «الكتاب» : أدنى ما تكفن به المرأة ثلاثة أثواب ثوبين وخمار وأدنى ما يكفن به الرجل ثوبين إزار ولفافة.
والأصل في ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «كفنوني في ثوبي هذين فقالت عائشة رضي الله عنها: ألا نشتري لك ثوباً جديداً فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة ثوبين قميص وإزار.
وأدنى ما تلبس المرأة حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص وإزار وخمار فكذا بعد الوفاة؛ وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن المرأة إذا كفنت في ثوبين وترك الدرع والخمار والخرقة جاز لأن المقصود هو الستر وذاك حاصل بالثوبين.
وأما كفن السنّة للرجال فثلاثة، إزار ورداء وقميص، وللنساء خمسة لفافة وإزار ودرع وخمار وخرقة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تكفن المرأة في خمسة أثواب والرجل في ثلاثة أثواب، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» احتراز الزيادة على الخمسة في المرأة، وعلى الثلاثة في الرجل من الاعتداء، وروي أن رسول الله عليه السلام «كفن في ثلاثة أثواب سحولية» أي بيض، وعن أم عطية أن رقية بنت رسول الله عليه السلام توفيت، «وأمر رسول الله عليه السلام بغسلها، وتكفينها، وجلس على الباب وجعل يناول الثياب حتى بلغ خمسة» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة.
وأكثر ما تلبس المرأة حالة الحياة للخروج خمسة أثواب درع وخمار وإزار ... ونقاب فكذا بعد الوفاة تكفن بخمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة تربط فوق الأكفان من عند الصدر فوق الثديين، والبطن كيلا يقصر عليها الكفن إذا حملت على السرير.
وعن زفر رحمه الله أنه قال: تربط الخرقة على فخذيها كيلا تضطرب إذا حملت على السرير، والأولى أن تكون الخرقة بحيث تصل إلى الموضعين ليكون أستر لها.(2/171)
وأكثر ما يلبس الرجل في حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص، وسراويل وعامته عمامته فكذلك بعد الوفاة يكفن في ثلاثة أثواب إزار، وقميص ولفافة، وهذا لأن مبنى حالة المرأة على الستر فيزاد في كفنها اعتباراً بحالة الحياة، ثم جعلنا الزيادة ثوبين ليكون الكفن وتراً لا شفعاً.
وقال الشافعي رحمه الله: لا قميص في كفن الرجل بل هي لفاف كلها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وفي رواية أثواب سحولية؛ ولأن القميص يختص به الأحياء للتقلب، ولا حاجة إليه في الميت.
ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام: «كفن في حلة وقميص» ، والحلة اسم للثوبين عند العرب، رداء وإزار ولأن أشرف لباس الأحياء القميص، فوجب تقديمه إلا أنه لا يجعل قميصه على سنة قميص الأحياء، فلا يجعل له دخريض؛ لأن ذلك إنما يجعل في حق الحي ليتسع أسفله فيتيسر له المشي، والميت لا يحتاج إلى ذلك، ولا يجعل له الجيب أيضاً؛ لأن ذلك يفعل للحي ليكون ... ولا حاجة (119أ1) للميت إلى ذلك، ولا يكف أطرافه؛ لأن ذلك للصيانة ولا حاجة إليه في حق الميت، والأخذ بحديث ابن عباس رضي الله؛ عنهما أولى من الأخذ بحديث عائشة رضي الله عنها لأن الرجال حضروا رسول الله عليه السلام.
وهل يعمم الرجل؟ اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يعمم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما أوصى. ومنهم من يقول: إن كان في الورثة صغار لا يعمم، وإن كانوا كباراً وعمموا برضاهم يجوز.
ومنهم من قال: إن كان عالماً معروفاً أو من الأشراف يعمم، وإن كان من أوساط الناس لا يعمم، ومنهم من قال: لا يعمم على كل حال لما روينا من الحديث، ولأنه لو عمم ... للكفن شفعاً، ويكفن الرجل بكفن مثله. وتفسير ذلك أن ينظر إلى ثيابه في حياته للخروج إلى الجمعة، والعيدين فذلك كفن مثله.
قسم آخر في كيفية التكفين
فنقول: يبسط للرجل اللفافة، وهي تستر من القرن إلى القدم، ثم يبسط عليها الإزار وهو يستر من القرن إلى القدم أيضاً، ثم يوضع على الإزار الميت، وبعدما يوضع على الإزار يقمص، ويوضع الحنوط في رأسه ولحيته وسائر جسده؛ لأن الحنوط طيب الميت، والطيب حالة الحياة يستعمل في هذه الأعضاء، فكذا الحنوط بعد الوفاة.(2/172)
وفي «المنتقى» : لا بأس بأن يجعل شيء من المسك في الحنوط، ويوضع الكافور على مساجده يريد به جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه؛ لأنه كان يسجد على هذه الأعضاء فتخص بزيادة الكرامة، وإن لم يكن لم يضره؛ لأن الحي قد لا يستعمل الطيب حالة الحياة، فلا يضره تركه بعد الوفاة.
وفي «القدوري» : لا بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس في حق الرجل، وتحشى منافذه إذا خيف خروج شيء، ثم يعطف الإزار عليه من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين، ويشد الإزار عليه؛ لأن شد الإزار على القميص أستر، وفي حالة الحياة يشد الإزار أولاً، ثم القميص؛ لأن ذلك للتقلب، وشد الإزار بحسب القميص ليكن للتقلب، ثم اللفافة كذلك، وإنما يعطف اليسار أولاً ثم اليمين لمعنيين.
أحدهما: أن لليمين فضلاً على اليسار فيكون فوق اليسار.
والثاني: إنما يلبسه حالة الحياة من الثياب يعطف أولاً من قبل الأيسر، ثم من قبل الأيمن كذا هذا.
وأما المرأة تبسط لها اللفافة، والإزار على نحو ما بينا للرجل، ثم توضع على الإزار، وتلبس الدرع، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، وقال الشافعي رحمه الله: يضفر شعرها خلف ظهرها اعتباراً بحالة الحياة، وإنما نقول: إنما يفعل ذلك؛ لأجل الزينة وهذه حال حسرة وندامة، فتعتبر بمثل هذه الحالة من حالة الحياة، ثم في حالة الحياة في حالة الحسرة والندامة بأن أصابتها مصيبة لا تجعل شعرها خلف ظهرها، بل تجعل على صدرها كذا بعد الوفاة.
ثم يجعل الخمار فوق ذلك، ثم تعطف اللفافة كما بينا في الرجل، ثم الخرقة بعد ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثديين؛ لأنه لو لم تربط الخرقة ربما يضطرب ثداياها وقت الحمل، فتنتشر أكفانها فيبدو شيء من أعضائها.
والغلام المراهق، والجارية المراهقة بمنزلة البالغ؛ لأن المراهق، والمراهقة كل واحد منهما مشتهى كالبالغ والبالغة، فكان بدن كل واحد منهما في حكم العورة كبدن البالغ والبالغة، وإن كان لم يراهق كفن في خرقتين إزار ورداء، وإن كفن في إزار واحد أجزأه؛ لأن بدنه ليس بعورة لما أنه غير مشتهى، فانحطت درجته في الستر عن درجة من هو عورة. وأما السقط فإنه يلف في خرقة؛ لأن حاله لا يبلغ حال المنفصل حياً.
قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : والمحرم وغير المحرم في ذلك سواء، يريد به أنه يطيب ويغطى وجهه ورأسه، والكفن الخلق والجديد سواء، وروي عن محمد رحمه الله أن المرأة تكفن في الإبريسم والحرير والمعصفر، ويكره للرجال ذلك، وأحب الأكفان الثياب البيض.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد يكفن الميت في كل شيء يجوز له لبسه في حال حياته، وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله تخمر الأمة كما تخمر الحرة. والله تعالى أعلم.(2/173)
قسم آخر
ويكفن الميت من جميع ماله قبل الوصايا والديون والمواريث، ومن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته إلا المرأة، فإنه لا يجب كفنها على زوجها عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف، فإن عنده يجب عليه الكفن وإن تركت مالاً، ومن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه في بيت المال هكذا ذكر القدوري.
وفي «النوازل» : إذا مات الرجل، ولم يترك شيئاً ولم يكن هناك من تجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإن لم يقدروا عليه سألوا الناس.
فرق بين الميت والحي، إذا لم يجد ثوباً يصلي فيه ليس على الناس أن يسألوا له ثوباً، والفرق: أن الحي يقدر على السؤال بنفسه، والميت لا.
وفي «النوازل» أيضاً: رجل مات في مسجد قوم، فقام أحدهم وجمع الدراهم ليكفنه ففضل من ذلك شيء، إن عرف صاحب الفضل رده عليه، وإن لم يعرف كفن به محتاجاً آخر، وإن لم يقدر على صرفه إلى الكفن تصدق به على الفقراء.
وفيه أيضاً: رجل كفن ميتاً من ماله، ثم وجد الكفن في يدي رجل كان له أن يأخذه؛ لأنه بقي على ملكه لم يملكه الميت، وإن كان وهبه للورثة، وكفنه الورثة فالورثة أحق بها. وكذلك لو افترس الميت سبع وبقي الكفن فهو على التفصيل الذي قلنا: إن كان وهبه للورثة فالورثة أحق به.
وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانياً من جميع المال، فإن قسم المال فهو على الوارث دون الغرماء، وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما تفسخ، وأخذ كفنه كفن في ثوب واحد. وإن لم تفضل التركة من الدين فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدىء بالكفن، وإن كانوا قبضوا ديونهم لا يسترد منهم شيء؛ لزوال ملك الميت.
قال هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن معتق مات ولا مال له، وترك خالته والذي أعتقه قال: كفنه على خالته.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة ماتت وتركت أباها وابنها، فالكفن عليهما على قدر مواريثهما، وكذلك البنت والأخ. والله تعالى أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في حمل الجنازة
قال محمد رحمه الله «الجامع الصغير» : وتضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك هذا هو السنّة عند كثرة الحاملين، إذا تناوبوا في الحمل يبتدىء الحامل من اليمين المقدم للميت، وهو يمين الحامل أيضاً، وعند الشافعي رحمه الله السنّة أن يحملها اثنان يدخلان بين عمودي الجنازة يضع السابق منهما مقدمها على أصل عنقه، وكاهله، ويأخذ قائميها بيده، والآخر منهما يضع مؤخرها على أصل صدره، ويأخذ قائميها بيده.(2/174)
وروى الشافعي بإسناده أن جنازة سعد بن معاذ حملت هكذا؛ ولأن الحمل على هذا الوجه أشق على البدن، وحمل الجنازة عبادة وما كان أشق على البدن من العبادات فهو أولى.
ولنا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من السنّة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يدور على الجنازة من جوانبها الأربع؛ ولأن عمل الناس اشتهر بهذه السنّة من غير نكير منكر وإنه حجة؛ ولأن المسارعة في حملها، والحمل بأربعة يكون أبلغ في المسارعة، وفيه تخفيف على الحاملين، وصيانة للميت عن السقوط، وتعظيم للميت بأن يحمله جماعة من المؤمنين على أعناقهم.
وإنما حملت جنازة سعد بن معاذ كما رواه الشافعي إما لازدحام الملائكة فقد روي (119ب1) أن النبي عليه السلام «كان يمشي على رؤوس أصابعه وصدور قدميه لكثرتهم» ، أو لضيق الطريق؛ أو لأن الحامل هناك رسول الله عليه السلام، والميت هناك بمأمن من السقوط؛ لأنه كان لكل نبي قوة أربعين رجلاً، وكان لنبينا قوة أربعين نبياً.
قال محمد رحمه الله: ورأيت أبا حنيفة رحمه الله فعل هكذا، وذلك دليل تواضعه، وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : ويكره أن يقوم الرجل بين عمودي له بجنازة من مقدمه أو مؤخره.
ويسرع بالجنازة وذلك ما دون الخبب لما روي أن النبي عليه السلام سئل عن المشي بالجنازة فقال: «ما دون الخبب فإن يك خيراً عجلتموه إليه وإن يك شراً وضعتموه عن رقابكم» أو قال: فبعداً لأهل النار» .
والمشي خلف الجنازة أفضل، وإن مشى أمامه كان واسعاً، وقال الشافعي رحمه الله: المشي أمامها أفضل لما روي أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة، ولأن الناس شفعاء الميت والشفيع يقدم على من يشفع له.
ولنا ما روي أن النبي عليه السلام كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ، وعلي رضي الله عنه كان يمشي خلف الجنازة فقيل له: إن أبا بكر، وعمر كانا يمشيان أمامهما فقال: رحمهما الله قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادوا أن ييسرا الأمر على الناس.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة. وما يقول من المشي باطل؛ لأن الشفيع إنما يتقدم من يشفع له تحرزاً عن تعجيل من عنه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك، وذلك لا يتحقق هنا.
ويكره أن يتقدم الكل عليها، وإن كان كلهم خلفها، فلا بأس؛ لأنه ربما يحتاج إلى التعاون في حملها، فإذا كانوا يمشون خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة، فلم يكن به(2/175)
بأساً، وإن كانوا أمامها لم يتمكنوا من التعاون عند الحاجة فكره لهذا.
قال الحاكم الصدر الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : وجدت في بعض الروايات أن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة، وكره أبو يوسف أن يتقدمها منقطعاً عن القوم، فإذا كنت في جماعة من الناس فلا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة.g
ولا بأس بالقعود إذا وضعت الجنازة، ويكره قبله؛ لأن قبل الوضع ربما تقع الحاجة إلى التعاون، فإذا كانوا قياماً كان أمكن للتعاون، وبعد الوضع وقع الاستغناء عن ذلك، لأن الناس إنما حضروا إكراماً للميت، والجلوس قبل أن يوضع عن المناكب يشبه الازدراء والاستخفاف به، وبعد الوضع لا يؤدي إلى ذلك، ولا بأس بالركوب في الجنازة والمشي أفضل هكذا ذكر القدوري؛ لأنه يسير للصلاة فيجوز راكباً وماشياً، والمشي أفضل كما في سائر الصلوات، وهذا لأن المشي أقرب إلى الخشوع، وأليق بحال الشفيع.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله قال: رأيت أبا حنيفة يتقدم أمام الجنازة وهو راكب، ثم يقف حتى تأتيه، فهذا دليل على أنه لا بأس بالركوب في الجنازة، قيل: هذا إذا بعد عن الجنازة، أما إذا قرب منها يكره؛ لأن السبيل في اتباع الجنازة أن يكون بطريق التذلل لا بطريق التكبر، فعلى قول هذا القائل يحمل فعل أبي حنيفة رحمه الله على أنه كان بعيداً عن الجنازة، وفي المسألة دليل عليه، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: ثم يقف حتى تأتيه.
ويكره النوح والصياح في الجنازة ومنزل الميت لما روي أن النبي عليه السلام «ينهى عن الصوتين الأجمعين الفاجرين صوت الصائحة والمغنية» .
فأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به وسيأتي هذا الفصل بتمامه في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى. ولا تتبع الجنازة بنار يعني الإجمار.
قال في «الكتاب» : أكره أن يكون آخر زاده في الدنيا نار تتبع به، وروي «أن النبي عليه السلام خرج في جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها وطردها» .
ويكره أن يحمل الصبي على الدابة لأن حمله على الدابة؛ يشبه حمل الأثقال، وفي الحمل بالأيدي إكرام الميت، والصغار من بني آدم يكرمون كالكبار، وعنى أبو حنيفة في الفطيم والرضيع لا بأس بأن يحمل في طبق يتداولونه، ولا بأس بأن يحمله راكب؛ على دابة، يريد به أن الحامل له راكب لأن الحمل من الجوانب الأربع إنما تيسيراً على الحاملة، وصيانة للميت عن السقوط، وفي حمل الصبي الرضيع لا يحتاج إليه فيحمله واحد.(2/176)
والرواية الأولى محمولة على ما إذا وضع على الدابة كوضع الأمتعة، ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال حتى يوضع؛ لأن الميت بمنزلة الإمام، ولا يصلح أن يكون الإمام محمولاً، والقوم على الأرض، ولا ينبغي أن يرجع من تبع جنازة حتى يصلي عليه.
نوع آخرمن هذا الفصل في الصلاة على الجنازة
هذا النوع ينقسم أقساماً.
الأول: في نفس الصلاة وصفتها، فنقول: الصلاة على الميت مشروعة بالكتاب والسنّة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 103) والسنّة تأتي في خلال المسائل إن شاء الله تعالى، والأمة أجمعت عليها.
ومن صفتها أنها فرض كفاية. إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، أما كونها فرضاً فلأن الله تعالى أمر بها لقوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} والأمر للوجوب، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» والأمر للوجوب، وأما كونها فرض كفاية؛ لأنها تقام حقاً للميت فإذا قام بها البعض صار حقه مؤداً فيسقط عن الباقين كالتكفين والغسل.
القسم الثاني: في كيفية الصلاة على الميت فنقول: يتقدم الإمام، ويصطف الناس خلفه كما في سائر الصلوات؛ ولأن التوارث هكذا من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : يقوم الإمام عند الصلاة بحذاء الصدر من الرجل ومن المرأة هذا هو جواب ظاهر الرواية، وهذا لأن الواجب استقبال الميت، واستقبال حملته غير ممكن، فوجب استقبال الصدر؛ لأن الصدر موضع القلب، والقلب موضع الحكمة والعلم، ولأنه موضع نور الإيمان قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ} (الزمر: 22) ... عليه، فكان الوقوف بحذاء الصدر الذي هو موضع نور الإيمان أولى.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقوم بحذاء الوسط من الرجل ومن المرأة. إلا أن الميت إذا كان امرأة فليكن إلى رأسها أقرب، وإنما قال: يقوم بحذاء الوسط لما روي عن النبي عليه السلام «أنه كان يقوم على جنازة المرأة والرجل بحذاء الوسط» ، وعن سمرة بن جندب أن رسول الله عليه السلام «صلى على امرأة، ماتت في نفاسها فقام وسطها» ، وإنما قال: إذا كان الميت امرأة، فليكن إلى رأسها أقرب ليكون(2/177)
أبعد عن عورتها فإن عورتها أشد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يقوم من المرأة بحذاء الوسط، ويقوم من الرجل مما يلي الرأس هكذا روي عن أنس رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام.
والمعنى: أن الرأس معدن العقل فكان القيام عنده أولى، إلا أن في حق المرأة شرطنا القيام إلى وسطها؛ ليصير الإمام حائلاً بينها وبين عورتها الغليظة، فلا يقع بصر القوم عليها.
وإن قام في غير ذلك المكان جاز؛ لأن ترك السنّة يؤثر في الإساءة لا في منع الجواز. ويكبر فيها أربع تكبيرات، وكان ابن أبي ليلى يقول: خمس تكبيرات، وهو رواية عن أبي يوسف، والآثار اختلفت في نقل رسول الله عليه السلام، فروي الخمس والسبع والتسع وأكثر من ذلك، إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات، وكان ناسخاً لما قبله.
بيانه فيما روي أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات، وقال لهم: إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم أشد اختلافاً، فانظروا إلى آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام (120أ1) على جنازة فخذوا بذلك، فوجدوه صلى على امرأة، وكبر فيها أربعاً فاتفقوا على ذلك.
وقال عليه السلام: «لا تنسوا أربع كأربع الجنائز» وروي عن علي رضي الله عنه أنه كبر أربع تكبيرات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر أربعاً أيضاً؛ ولأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ثم الصلاة المعهودة لا تزيد على أربع ركعات، فكذا التكبير في هذه الصلاة لا يزيد على أربع تكبيرات؛ ولأن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: التكبيرة الأولى الافتتاح، فينبغي أن يكون بعدها أربع تكبيرات كل تكبيرة قائمة مقام ركعة كما في الظهر، والعصر، والجواب أن التكبيرة الأولى وإن كانت للافتتاح، ولكن بهذا لا يخرج من أن يكون تكبيراً.
ثم قال: يكبر الأولى. ويحمد الله تعالى بعد التكبيرة الأولى، ويثني عليه، ولم يوقت في الثناء ههنا شيئاً، وفي سائر الصلوات وقتوا في الثناء وهو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وقد اختلفوا في هذا الثناء بعد التحريم.
قال بعضهم: يحمد الله تعالى بكل ذكر في ظاهر الرواية، وقال بعضهم: يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره كما في الصلوات المعهودة.
ثم يكبر الثانية، ويصلي على النبي عليه السلام؛ لأن الثناء على الله تعالى يعقبه الصلاة على النبي عليه السلام.
ثم يكبر الثالثة ويستغفر للميت ويتشفع له؛ لأن الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي عليه السلام يعقبه الدعاء والاستغفار، والمقصود بالصلاة على الجنازة الاستغفار للميت والشفاعة له، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا أراد(2/178)
أحدكم أن يدعو فليحمد الله تعالى وليصل على النبي عليه السلام ثم يدعو» ، قد روي «أن النبي عليه السلام رأى رجلاً فعل هكذا بعد الفراغ من الصلاة فقال عليه السلام: «ادع فقد استجيب لك» . ويذكر الدعاء المعروف: «اللهم اغفر لحينا وميتنا» إن كان يحسن ذلك، وإن كان لا يحسن ذلك يذكر ما يدعو به في التشهد «اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات» إلى آخره، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن من صلى على صبي يقول: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، ولا يستغفر له؛ لأنه لا ذنب له.
ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام، ثم في ظاهر المذهب ليس بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة» إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وهو مخير بين السكوت والدعاء لما بينا، وقال بعضهم: يقرأ «ربنا لا تزغ قلوبنا» إلى آخره، وقال بعضهم: يقرأ «سبحان ربك رب العزة عما يصفون» إلى آخره.
وإن زاد الإمام على أربع تكبيرات فالمقتدي هل يتابع الإمام في الزيادة أو لا يتابع؟ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يتابع، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يتابع؛ لأنه لم يظهر خطأ الإمام بيقين فإنه روي أن علياً رضي الله عنه كبر خمساً، وهكذا روي عن رسول الله عليه السلام.
والصحيح مذهبهما: أنه لا يتابع؛ لأن ما زاد على الأربع صار منسوخاً بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا متابعة في المنسوخ. وإذا لم يتابع الإمام في الزيادة فماذا يصنع؟ قالوا: يسلم أو ينتظر حتى يتابع الإمام في السلام.
وذكر في «النوازل» : أن عن أبي حنيفة فيه روايتان: في رواية يسلم للحال، ولا ينتظر تحقيقاً للمخالفة، وفي رواية يسكت حتى سلم معه إذا يسلم ليصير متابعاً فيما وجب فيه المتابعة وفي «روضة المقتدي» : إنما لا يتابع الإمام في التكبير الزائد على الرابع إذا كان يسمع التكبير من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يتابعه كما في تكبيرات العيد على ما مر.
ولا يقرؤون في صلاة الجنازة عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من قراءة فاتحة الكتاب، يكبرون تكبيرة ويأتون بالثناء، ثم يقرؤون فاتحة الكتاب، حجته حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كبر على ميت أربعاً وقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى» ، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة(2/179)
الكتاب» وهذه صلاة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وجهر بها، وقال: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» ؛ ولأنها صلاة مشروعة، فلا تجوز بدون القراءة قياساً على سائر الصلوات.
ولنا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن صلاة الجنازة هل فيها قراءة؟ فقال: لم يوقت لنا رسول الله عليه السلام فيها قولاً ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت، وما روي من الأحاديث يدل على الجواز لا على الوجوب، ونحن نقول بالجواز، فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في صلاته أنه لو قرأ الفاتحة بدلاً عن الثناء لا بأس به، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» لم يقل أنها واجبة، كيف وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وفضالة بن عبيد، وابن عمر رضي الله عنهم: ترك القراءة في صلاة الجنازة فيصير معارضاً لقول ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه أن القراءة لو شرعت لشرعت مكررة عقيب كل تكبيرة، فإن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وعنده القراءة فرض في الركعات كلها، وعندنا في الركعتين.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب، إن قرأ بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأ بنية القراءة لا يجوز أن يقرأ؛ لأن صلاة الجنازة محل الدعاء، وليست محل القراءة.
ويرفع يديه في تكبيرة الافتتاح في صلاة الجنازة، ولا يرفع في سائر التكبيرات:
قال الشافعي: يرفع، وبقوله أخذ كثير من أئمة بلخ رحمهم الله، حجتهم أن هذه التكبيرات يؤتى بها في حالة القيام، فتكون من سنّة الرفع كتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، ولأن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيد للحاجة إلى إعلام من خلفه من أصم أو أعمى، وهذا المعنى يقتضي رفع اليدين هنا.
حجة علمائنا رحمهم الله قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن» وليس منها صلاة الجنازة، ولأن بين كل تكبيرتين ذكر مقدر فلا حاجة للإعلام، ونظير هذا ما ذكر الحسن بن زياد رحمه الله في كتاب صلاته لا ترفع صوته بالتسليم في صلاة الحنازة كما يرفع في سائر الصلوة؛ لأن رفع الصوت مشروع للإعلام ولا حاجة إلى الإعلام إذ التسليم عقيب التكبيرة الرابعة بلا فصل، ولأن كل تكبيرة قائمة مقام كل ركعة كذا ها هنا.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا اجتمعت الجنائز فالإمام بالخيار إن شاء صلى على كل جنازة صلاة على حدة،(2/180)
وإن شاء صلى عليهم صلاة واحدة، ويجزىء عن الكل لما روي في شهداء أُحد أن رسول الله عليه السلام صلى على كل عشرة صلاة واحدة، ولأن الدعاء والشفاعة تحصل بصلاة واحدة.
قال في «الكتاب» : فإن أراد أن يصلي عليها صلاة واحدة إن شاؤوا وضعوا الجنائز صفاً طولاً، وإن شاؤوا وضعوا واحداً بعد واحد مما يلي القبلة.
والأصل فيه ما روي عن عثمان بن عبد الله بن صهيب أنه قال: صليت مع أبي هريرة رضي الله عنه ما لا أحصي صلاة الجنازة، فكان يضع مرة صفوفاً ومرة صفاً واحداً، ولم يجعل أحدهما أفضل في ظاهر الرواية، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إن وضعوا واحداً بعد الآخر كان أحسن حتى يصير الإمام قائماً بإزاء الكل، فإنه ليس البعض بأولى من البعض في أن يقوم الإمام بحذاءه، وهكذا وردت السنّة في شهداء أُحد، ولكن يجعل الرجال مما يلي الإمام، والصبيان بعده، والنساء مما يلي القبلة هكذا روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، ولأنه لو صلى بهم حالة الحياة فالرجل يلي الإمام والصبي يلي الرجل والمرأة (120ب1) تلي، الصبي فبعد الوفاة يصلي الإمام عليهم هكذا أيضاً.
وإن كان حراً ومملوكاً فكيف ما وضعت أجزأك؛ لأنهما لا يختلفان في المقام حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضع أفضلهما مما يلي الإمام وأسنهما.
وإن كان صبياً حراً ومملوكاً لم يذكر هذا الفصل في «الأصل» ، وذكر في «المجرد» أنه يقدم الصبي الحر على العبد وهذا على رواية أبي حنيفة رحمه الله، أما على ما هو ظاهر الرواية في الرجل الحر والمملوك كيف ما يوضع جاز.
وإن كان عبداً وامرأة، فالعبد مما يلي الإمام والمرأة خلفه، وإن كان جنازة خنثى وامرأة ورجل يوضع الرجل مما يلي الإمام وخلفه مما يلي القبلة خنثى وخلف الخنثى المرأة والله أعلم.
وقال أبو يوسف رحمه الله: الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام لقوله عليه السلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهي» .
وإذا انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه بتكبيرة لا يكبر، ولكنه ينتظر تكبيرة الإمام حتى يكبر، فيكبر معه فإذا سلم الإمام قضى هذا الرجل ما فاته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف لا ينتظر تكبيرة الإمام بل يكبر ويدخل مع الإمام.
وتفسير هذه المسألة على قول أبي حنيفة، ومحمد إذا جاء الرجل وقد كبر الإمام(2/181)
تكبيرة الافتتاح، فإن هذا الرجل لا يكبر تكبيرة الافتتاح، ولكن ينتظر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، فيكبر معه التكبيرة الثانية، وتكون هذه التكبيرة تكبيرة الافتتاح في حق هذا الرجل، ويصير هذا الرجل مسبوقاً بتكبيرة يأتي بها بعد ما يسلم الإمام.
وتفسير المسألة على قول أبي يوسف: هذا الرجل حين حضر يكبر تكبيرة الافتتاح، فإذا كبر الإمام الثانية تابعه فيها، ولم يصر مسبوقاً بشيء، حجة أبي يوسف رحمه الله قوله عليه السلام: «اتبع إمامك» في أي حال أدركته وقاسه بسائر الصلوات، فإن المسبوق في سائر الصلوات يكبر حين يحضر كذا هنا.
والدليل عليه أنه لو كان حاضراً مع الإمام فكبر الإمام ولم يكبر المقتدي يكبر ولا ينتظر فكذلك هنا، ومذهبهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنها؛ فإنه قال في حق الذي انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه الإمام بتكبيرة أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، ولم ينكر عليه غيره فيكون إجماعاً؛ ولأن كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة قامت مقام ركعة حتى لو ترك تكبيرة منهما لا تجزئه الصلاة كما لو ترك ركعة من ذوات الأربع.
فلو كبر قبل تكبير الإمام يصير متقدماً على الإمام بركعة، وهذا لا يجوز، وبه فارق سائر الصلوات؛ لأن هناك لو كبر لا يصير متقدماً على الإمام بركعة فيجوز، فإذا سلم الإمام يكبر المسبوق عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله تكبيرة صار مسبوقاً بها قبل أن ترفع الجنازة.
وعند أبي يوسف رحمه الله يسلم مع الإمام؛ لأنه لم يصر مسبوقاً بشيء. وإن كان مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه حين جاء لا يكبر تكبيرة الافتتاح ما لم يكبر الإمام الثالثة، فإذا كبر تابعه هذا الرجل، وصارت الثالثة، في حق هذا الرجل تكبيرة الافتتاح.
وصار مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام قبل أن ترفع الجنازة. وعند أبي يوسف رحمه الله يأتي بتكبيرة واحدة؛ لأنه قد أتى بتكبيرة الافتتاح حين انتهى إلى الإمام وبتكبيرتين مع الإمام، فإذا أتى بتكبيرة أخرى بعده تم أربعاً.
وإن كان مسبوقاً بثلاث يكبر ثلاث تكبيرات بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه أتى بتكبيرة واحدة مع الإمام، وهي التكبيرة الرابعة للإمام وتكبيرة الافتتاح لهذا الرجل، وبقي عليه ثلاث تكبيرات، فيأتي بها بعد سلام الإمام.
وهل يأتي بالأذكار المشروعة؟ وإن كان لا يأمن رفع الجنازة يتابع بين التكبيرات ولا يأتي بالأذكار بين التكبيرتين، ذكر الحسن رحمه الله في «المجرد» : أنه إن كان يأمن رفع الجنازة فإنه يأتي بالأذكار المشروعة.
وذكر المسألة في «النوازل» : مطلقة من غير تفصيل. فقال: من فاته بعض التكبيرات على الجنازة يقضيها متتابعة بلا دعاء ما دامت الجنازة على الأرض؛ لأنه لو قضى مع الدعاء يرفع الميت فيفوته التكبير.(2/182)
والحاصل: أنه ما دامت الجنازة على الأرض، فالمسبوق يأتي بالتكبيرات وإذا وضع الجنازة على الأكتاف لا يأتي بالتكبيرات، وإذا رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يأتي بالتكبيرات.
وعن محمد أنه إن كانت الأيدي إلى الأرض أقرب، فكأنها على الأرض فيكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب، فكأنها على الأكتاف فلا يكبر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: المسبوق بثلاث تكبيرات يكبر بعد سلام الإمام تكبيرتين؛ لأنه أتى بتكبيرة حين انتهى إلى الإمام، وبتكبيرة مع الإمام، فبقي عليه تكبيرتان فيأتي بهما بعد سلام الإمام، وإن كان مسبوقاً بأربع تكبيرات لا يصير مدركاً لصلاة الجنازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما لا يكبر إلا مع الإمام، وإذا سلم الإمام فقد فاتته الصلاة، فلا يصير مدركاً لها، وعند أبي يوسف رحمه الله: يصير مدركاً للصلاة يكبر تكبيرة، ويشرع في الصلاة، فإذا سلم الإمام يكبر ثلاث تكبيرات ثم يسلم.
وفي «المنتقى» : إذا كان الرجل حاضراً مع الإمام وقت الشروع في صلاة الجنازة فكبر الإمام ولم يكبر هو مع الإمام فإنه يكبر التكبيرة الأولى، ولا ينتظر التكبيرة الثانية، وقد ذكرنا هذا في حجة أبي يوسف في المسألة المتقدمة، فإن لم يكبر حتى كبر الإمام الثانية، فكبر الثانية عنها ولم يكبر الأولى حتى يسلم الإمام، فإن كبر الأولى مع الإمام ولم يكبر الثانية، والثالثة مع الإمام، فإنه يكبرهما اتباعاً، ثم يكبر مع الإمام ما بقي، وإن لم يكبر هو مع الإمام حتى كبر الإمام أربعاً كبر هو قبل أن يسلم الإمام، ثم يكبر ثلاثاً قبل أن ترفع الجنازة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه فاتته صلاة الجنازة، وقد ذكرنا أنه إذا كان مسبوقاً بأربع تكبيرات، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يصير مدركاً للصلاة، وعلى قول أبي يوسف: يصير مدركاً؛ لأن عنده كما حضر يكبر.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في هذه الصورة نظير قول أبي يوسف رحمه الله، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة الافتتاح عند محمد كما هو قول أبي يوسف، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة، وفرق لمحمد بينما إذا أدرك الإمام بعد التكبيرة الرابعة وبينما إذا أدركها بعد التكبيرة الثالثة.
والفرق: أن بعدما كبر الإمام التكبيرة الثالثة لو انتظر المقتدي تكبيرة الإمام لا تفوته الصلاة؛ لأنه يكبر مع التكبيرة الرابعة، أما بعدما كبر الإمام الرابعة لا يمكنه انتظار الإمام؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فلو لم يكبر حين حضر تفوته الصلاة، فلهذا افترقا.h
إذا كبر على جنازة تكبيرة، ثم أتي بجنازة أخرى، فوضعت، يتم الصلاة على الأولى، ويفرد الثانية بالصلاة؛ لأنه لو جمع بينهما لا يخلو إما أن يقتصر على ما بقي من التكبيرات، فيصير مكبراً على الثانية ثلاث تكبيرات، وصلاة الجنازة لم تشرع بثلاث تكبيرات، وإما أن يزيد تكبيرة أخرى، فيصير مكبراً على الأولى خمس تكبيرات بتحريمة واحدة، وذاك أيضاً غير مشروع بإجماع الصحابة.(2/183)
فإن نوى أن يصلي على الجنازة الثانية بهذه التحريمة لا يخلو إما أن ينوي الصلاة عليها جميعاً، وفي هذا الوجه تتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية؛ لأنه لم يخرج عن الأولى متى نوى البقاء عليها، وإذا لم يخرج عن الأولى لا يصير شارعاً في الثانية، وكذلك إذا لم ينوِ شيئاً، أو نوى الثانية، ولم يكبر لها، وفي هذين الوجهين أيضاً يتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية. أما إذا لم ينو شيئاً فظاهر، وأما إذا نوى الثانية ولكن ما يكبر لها؛ فلأن بمجرد النية لا يصير خارجاً من الأولى (121أ1) شارعاً في الثانية ما لم يقرنه بالعمل.
وإن نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها يتم الصلاة على الثانية، ويستقبل الصلاة على الأولى؛ لأنه لما نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها صار شارعاً فيها، ومن ضرورة كونه شارعاً فيها أن لا يبقى داخلاً في الأولى. كذا قال محمد رحمه الله في «نوادر الصلاة» .
القسم الثالث في بيان من يصلى عليه، ومن لا يصلى عليه
فنقول: لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ} (التوبة: 84) ، وروي أنه لما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام وقال: إن عمك الضال قد مات فقال عليه السلام: «اغسله وكفنه وادفنه وما تحدث به حدثاً حتى تلقاني» ، أي: لا تصلِ عليه؛ ولأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار له، والاستغفار للكافر حرام قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} (التوبة: 80) ، وصلي على كل مسلم مات بعد الولادة لما تلونا من الكتاب، لا البغاة وقطاع الطريق، فإنه لا يصلى عليهم.
وقال الشافعي: يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» .
ولنا: أن الصلاة دعاء واستنزال الرحمة، ونص القرآن يشهد لقطاع الطريق بالخزي قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) وحلول الخزي به ينافي الدعاء له، وكذلك البغاة؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد وقطاع الطريق.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه لم يصلِ على قتلى نهروان وغيرهم من البغاة.(2/184)
وكذلك الذي يقتل غيلة بالخنق هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك كل من يقتل على متاع يأخذه، والمكابرون في المصر بالسلاح؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد، فكان حكمهم كحكم قطاع الطريق.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : من قتل مظلوماً لم يغسل ويصلى عليه، ومن قتل ظالماً غسل، ولا يصلى عليه، وأراد بالمقتول ظلماً المقتول من أهل العدل قتل بسيف أهل البغي، وأراد بالمقتول ظالماً المقتول من أهل البغي قتل بسيف أهل العدل، وإنما لا يصلي على الباغي إذا قتلوا في الحرب، فأما إذا قتلوا بعدما وضع الحرب أوزارها يصلى عليه.
وكذلك قاطع الطريق إنما لا يصلى عليه إذا قتل في حالة الحرب، فأما إذا أخذهم الإمام، ثم قتلهم صلى عليهم.
وإذا مات المولود في حال ولادته، وإن كان خرج أكثره صلى عليه، وإن كان أقل لم يصلِ عليه؛ لأن للأكثر حكم الجميع، فإذا مات بعدما خرج أكثره فكأنه مات بعد الولادة، وإذا مات بعدما خرج الأقل منه، فكأنه مات في البطن.
ومن قتل نفسه خطأً بأن نازل رجلاً من العدو ليضربه، فأخطأه وأصاب نفسه ومات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا بلا خلاف.
وأما من يعمد قتل نفسه بحديدة، هل يصلى عليه؟ اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصلى عليه، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه يصلى عليه، وتقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا؛ لأنه لا توبة له، ولكن لأنه باغي على نفسه، والباغي لا يصلى عليه.
والذي صلبه الإمام هل يصلى عليه؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في صبي سبي ويسبى معه أبويه أو أحدها فمات، لا يصلى عليه إلا إذا كان أقر بالإسلام، وهو يعقل الإسلام، وإن لم يسب معه أحدهما فمات يصلى عليه.
يجب أن يعلم أن الولد الصغير يعتبر تبعاً للأبوين أو لأحدهما في الدين، فإن انعدما يعتبر تبعاً لصاحب اليد، فإن عدمت اليد يعتبر تبعاً للدار؛ لأنه يقدر اعتباره أصلاً في الدين، فلا بد من اعتباره تبعاً نظيراً له، غير أن علة التبعية في الأبوين أقوى فتعتبر أولاً تبعاً لهما أو لأحدهما، وعند انعدامهما عليه التبعية في حق صاحب اليد أقوى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مع الصبي أبواه أو أحدهما يعتبر تابعاً لهما لا للدار، فيجعل كافراً تبعاً لهما، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما(2/185)
كفوراً» قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة» يحتمل أنه أراد به على الخلقة التي خلق الله تعالى قبل الولادة، فإن بعض اليهود كانوا يقولون: إن الولد قبل الولادة يكون على خلاف ما يكون بعد الولادة، فأبطل ذلك بهذا.
أو يحتمل أنه أراد به على الدين الذي دان يوم الميثاق، فإن الله تعالى خاطب ذرية آدم صلوات الله عليه بعدما أخرجهم من صلبه كالذر، وأعطاهم العقول بعضهم بيض وبعضهم سود، فقال لهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ} (الأعراف: 172) ، فقالوا كلهم: بلى، إلا أن البيض قالوا: عن اعتقاد، والسود قالوا عن خوف. فالذين قالوا عن اعتقاد يموتون مسلمين، والذين قالوا عن غير اعتقاد يموتون كافرين، فيحتمل أن مراد النبي عليه السلام من هذا الكلام ذاك أي يولد كل مولود على ما دانه يوم الميثاق، وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة.
وقوله: يهودانه أو ينصرانه معناه يستتبعانه في الدين، وقوله: إما شاكراً معناه مسلماً، وقوله: إما كفوراً معناه كافراً.
وأما إذا لم يسب معه أحد أبوية صلي عليه إذا مات، ويعتبر مسلماً تبعاً للدار عند انعدام تبعية الأبوين.
والصبي إذا وقع في يد المسلم من الجند في دار الحرب وحده، ومات هناك صلي عليه، واعتبر مسلماً تبعاً لصاحب اليد عند انعدام تبعية الأبوين، ويستوي الجواب فيما قلنا إذا كان الصبي عاقلاً، أو غير عاقل؛ لأنه قبل البلوغ تابع للأبوين في الدين ما لم يصف الإسلام.
وقوله في المسألة الأولى: إذا سبي معه أبوان لم يصلِ عليه حتى يقر بالإسلام، وهو يعقل، فهذا يدل على أن الصبي إذا أسلم وهو يعقل إنه يصير مسلماً، وهذا مذهبنا، والمسألة معروفة في «السير» .
وقوله: يعقل الإسلام يعني: يعقل صفة الإسلام، وهذا يدل على أن من قال: لا إله إلا الله لا يكون مسلماً حتى يعلم صفة الإيمان، وكذلك إذا اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام، فلم تعلم فإنها، لا تكون مؤمنة، وصفة الإسلام ما ذكر في حديث جبريل صلوات الله عليه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله تعالى.
ومما يتصل بهذه المسألة
أن أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة أكثرها من المشاهير، وبالأحاديث تبين أنهم قالوا: بلى يوم أخذ(2/186)
الميثاق عن اعتقاد، وقد رووا عن أبي يوسف رحمه الله التوقف فيهم، وهو مردود على الراوي، فإن محمداً روى عن أبي حنيفة رحمه الله في كتابه «آثار أبي حنيفة» رحمه الله: أن الذين يصلون في جنازة أولاد المسلمين وهم صغار يقولون في التكبيرة الثالثة: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، وهذا أيضاً منه رحمه الله بإسلامهم.
وأما أولاد الكفار إذا ماتوا قبل أن يعقلوا اختلف فيه أهل السنّة والجماعة، روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إني أعرف أن الله تعالى لا يعذب أحداً من غير ذنب، وبعضهم قالوا: يكونون في الجنة خداماً للمسلمين، وبعضهم قالوا: إن كان قال: بلى يوم الميثاق عن اعتقاد يكونون من أهل الجنة، وإن كان قال: من غير اعتقاد يكونون في النار. وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه: توقف فيهم وكل أمرهم إلى الله تعالى، والله أعلم.
القسم الرابع في بيان من هو أولى بالصلاة على الميت
ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلاة: أن إمام الحي أولى بالصلاة، وذكر الحسن في كتاب صلاته عن أبي حنيفة أن الإمام الأعظم، وهو الخليفة أولى إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر أولى (121ب1) فإن لم يحضر فالقاضي أولى، فإن لم يحضر فصاحب الشرطة أولى، فإن لم يحضر فخليفة الوالي أولى، فإن لم يحضر فخليفة القاضي، فإن لم يحضر فإمام الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قرابة، وبهذه الرواية أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله.
ومن المشايخ من قال: لا اختلاف بين الروايتين، فما ذكر في كتاب الصلاة محمول على ما إذا لم يحضر الإمام الأعظم، ولا واحد ممن ذكر في رواية الحسن، أما لو حضر الإمام الأعظم، فهو أولى بالصلاة باتفاق الروايات؛ لأن في التقدم على السلطان ازدراء له، ونحن أمرنا بتوقيره، فإن لم يحضر الإمام الأعظم، فأمير المصر أولى؛ لأنه في معنى الإمام الأعظم من حيث أنا أمرنا بتوقيره، وبعده القاضي أولى لما ذكرنا في أمير المصر، وبعده صاحب الشرطة، وبعده خليفة الوالي، وبعده القاضي، وبعد هؤلاء الإمام الحي أولى؛ لأنه هو صلى بالميت حال حياته، فيكون هو أولى بالصلاة عليه.
وإنما ذكر محمد رحمه الله إمام الحي أولاً في كتاب الصلاة؛ لأن السلطان لا يوجد في كل موضع، قال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب ولكنه أفضل، فأما تقديم السلطان فواجب؛ لأن في ترك تقديم السلطان ازدراء به، وفي ذلك إفساد أمور المسلمين فيجب تقديمه. فأما ليس في ترك تقديم إمام الحي إفساد أمور المسلمين، ولكنه برضى الميت حال حياته، وهذا المعنى يقتضي تفضيله على غيره، أما لا يوجب تقديمه، ثم بعد إمام الحي فولي الميت أولى، وهذا كله قول أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.(2/187)
وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: ولي الميت أولى بالصلاة على الميت على كل حال، حجة أبي يوسف والشافعي قول الله تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوجُهُ أُمَّهَتُهُمْ وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَبِ مَسْطُوراً} (الأحزاب: 6) من غير فصل، ولأن هذا حكم تعلق بالولاية، فيكون الولي مقدماً على السلطان ومن سميناهم قياساً على النكاح؛ ولأن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت والشفاعة، ودعاء القريب أرجى في الإجابة؛ لأنه أشفق على الميت، فيوجد منه زيادة تضرع في الدعاء والاستغفار لا يوجد ذلك من السلطان، فيكون هو أولى.
حجة أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله: أنه لما مات الحسن بن علي رضي الله عنهما خرج الحسين والناس لصلاة الجنازة، فقدم الحسين سعيد بن العاص، وكان سعيد والياً بالمدينة يومئذٍ، فأبى سعيد أن يتقدم فقال له الحسين: تقدم ولولا السنّة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام لجماعة فيكون السلطان أولى بإقامتها قياساً على سائر الصلوات.
فإن اجتمع للميت قريبان هما في القرب إليه على السواء بأن كان له أخوان لأب وأم أو لأب، فأكبرهم سناً أولى، لأن النبي عليه السلام أمر بتقديم الأسن، فإن أراد الأكبر أن يقدم إنساناً ليس له ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن الحق لهما استوائهما في القرابة لكنا قدمنا الأسن للسنّة، ولا سنّة في تقديم من قدمه، فيبقى الحق لهما كما كان، وإن كان أحدهما لأب وأم، والآخر لأب، فالذي لأب وأم أولى، وإن كان أصغر، وإن قدم الأخ لأب وأم غيره، فليس للأخ لأب أن يمنعه عن ذلك؛ لأنه لا حق للأخ لأب أصلاً.
وإن اجتمع للميت ابن وأب، ذكر في «كتاب الصلاة» أن الأب أولى، من مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب الصلاة قول محمد رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله الابن أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له، ورد هذا القائل هذه المسألة إلى مسألة النكاح.
ومسألة النكاح على هذا الخلاف، فإنه إذا اجتمع للمجنونة أب وابن، فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد الأب أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له.
ومنهم من قال: لا بل ما ذكر في صلاة الجنازة أن الأب أولى قول الكل؛ لأن للأب زيادة فضيلة وسن ليس للابن، وللفضيلة أثر في استحقاق الإمامة فيرجح الأب بذلك بخلاف النكاح؛ لأنه لا أثر للفضيلة هناك في إثبات الولاية، فلا يثبت الترجيح به، ونص هشام في «نوادره» عن محمد عن أبي حنيفة أن الأب أولى من الابن.
وإذا اجتمع للميت أب وأخ، فالأب أولى بالإجماع، قال القدوري: وسائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه، وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: الزوج أولى حجته في ذلك ما روي أنه لما ماتت امرأة ابن عباس رضي الله عنهما صلى عليها، وقال: أنا أحق بها.(2/188)
وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما ماتت امرأته قال لأوليائها: كنا أحق بها حين كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها، ولأن السبب فيما بين الزوجين الزوجية، وإنها تنقطع بالموت، والسبب فيما بين الأقارب القرابة، وإنها لا تنقطع بالموت.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما محمول على أنه كان إمام حي فصلى عليها لكونه إمام حي لا لكونه زوجاً. وإن كان للمرأة التي ماتت زوج وابن منه كره للابن أن يتقدم أباه؛ لأن في تقديمه على الأب ازدراء واستخفاف بالأب، فينبغي أن يقدم الأب، ولا يتقدم عليه.
قال أبو يوسف رحمه الله: وله في حكم الولاية أن يقدم غير أبيه؛ لأن الابن هو الولي إلا أنه منع عن التقدم على أبيه لما ذكرنا من المعنى، وذلك المعنى لا يوجب انقطاع ولايته.
وإن تركت أباً وزوجاً وابناً من هذا الزوج لم يكن الابن أن يقدم أباً إلا برضى الجد؛ لأن الابن ممنوع عن التقدم على الجد لكونه بمنزلة الأب، فيكون ممنوعاً عن تقديم غيره على الجد من طريق الأولى.
وإن تركت زوجاً وابناً من زوج آخر، فلا بأس للابن أن يتقدم على هذا الزوج، ويقدم من شاء، لأنه هو الولي، ولم يوجد ما يمنع التقدم، والتقديم على هذا الزوج، وهو الازدراء بأبيه.
ومولى الموالاة أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق بميراثه عند عدم القريب. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان الأقرب غائباً المكان تفوت الصلاة بحضوره فالأبعد أولى، فإن قدم الغائب غيره بكتاب كان للأبعد منعه، وحد الغيبة ههنا أن لا يقدر على القدوم فيدرك الصلاة، ولا يقدرون على تأخيرها لقدومه، والمريض بمنزلة الصحيح يقدم من شاء، وليس للأبعد منعه؛ لأن ولايته لم تسقط، ولهذا لو حضر مع المرض كان له أن يتقدم، ومتى كانت الولاية باقية كان له حق التقدم.
وإن قدم الأخوان من الأب والأم كل واحد منهما رجلاً، فالذي قدمه الأكبر أولى لأنهما؛ رضيا بسقوط حقهما، وأكبرهما سناً أولى بالصلاة عليه، فيكون أولى بالتقديم. ولا حق للنساء ولا للصغار في التقديم؛ لأن حق التقديم ينبني على ولاية التقدم، وليس للنساء والصغار ولاية التقدم فلا يكون لهم حق التقديم.
عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وأب العبد أو ابنه، وهما حران فالمولى أحق بالصلاة عليه.
وكذلك المكاتب إذا مات عن غير وفاء، ولو ترك وفاء، وأديت كتابته أو لم تؤد إلا أن المال حاضر لا يخاف عليه التلف، فالابن أولى، وكذا الأب، ولكن يكره أن يتقدم جده وهو أبو المكاتب، وإن كان المال غائباً فالمولى أحق بالصلاة.(2/189)
نوع آخرمن هذا الفصل في القبر والدفن
وإذا انتهي بالميت إلى القبر فلا يضر وتر دخله أم شفع؛ لأن المقصود وضع الميت في القبر، فإنما يدخل قبره بقدر ما يحصل به الكفاية الشفع والوتر فيه سواء.
وقد صح: أنه دخل في قبر رسول الله عليه السلام أربعة علي، والعباس وابنه فضل، واختلفوا في الرابع ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن الرابع صالح مولى عتاقة رسول الله عليه السلام، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة الرخسي رحمه الله: أن الرابع المغيرة بن شعبة أو أبو رافع.
ويقول واضعه في القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله معناه: بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك. روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام كان إذا وضع ميتاً في القبر يقول (122أ1) : «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه.
ويلحد للميت ولا يشق له، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يشق ولا يلحد، حجة الشافعي توارث أهل المدينة، فإنهم توارثوا الشق دون اللحد، وعلماؤنا احتجوا بقوله عليه السلام: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ولأن الشق فعل أهل اليهود والتشبه بهم مكروه فيما مسته يد ولا حجة له في توارث أهل المدينة؛ لأنهم إنما توارثوا ذلك لضعف أراضيهم بالبقيع، ولأجل هذا المعنى اختاروا الشق في ديارنا، فإن في أراضي ديارنا ضعف أو رخاوة فينهار اللحد فاختاروا الشق لهذا.
وصفة اللحد: أن يحفر القبر بتمامه ثم يحفر في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت، ويجعل ذلك كالبيت المسقف.
وصفة الشق: أن يحفر حفيرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت. ويدخل الميت من قبل القبلة في القبر، وفي «بعض الكتب» : ويستقبل به القبلة عند إدخاله في القبر يعني توضع الجنازة فوق اللحد من قبل القبلة.
وقال الشافعي رحمه الله: يسل سلاً، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برأس الميت، ويدخله القبر أولاً، ويسل كذلك.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مقدم(2/190)
القبر حتى تكون رجلا الميت بإزاء موضع رأسه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برجلي الميت ويدخلهما القبر أولاً ويسل كذلك.
حجتنا في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام أدخل في القبر من قبل القبلة، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يدخل الميت قبره من قبل القبلة، ولأنه إذا أخذ من قبل القبلة كان وجوه الآخذين إلى القبلة، وإذا سل سلاً لا تكون وجوه الآخذين إلى القبلة، وأشرف حال الإنسان إذا كان قائماً أو نائماً أو قاعداً أن يكون وجهه إلى القبلة.h
ويوضع في القبر على شقه الأيمن موجهاً إلى القبلة قال عليه السلام: «يا علي استقبل به القبلة استقبالاً وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه على ظهره» .
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يفرغ من اللحد؛ لأنها عورة من قرنها إلى قدمها، فربما يبدو شيء من أثر عورتها فيسجى القبر.
ألا ترى أن المرأة خصت بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة سجى بثوب ونعش على جنازتها ولم يكن النعش في جنازة النساء حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها، فأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها، فاتخذوا لها نعشاً من جريد النخل، فبقي سنّة هكذا في جميع النساء، وإذا وضعت في اللحد استغني عن التسجية.
وإن كان رجلاً لا يسجى قبره عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يسجى لما روي أن النبي عليه السلام لما دخل قبر سعد بن معاذ وأسامة بن زيد معه سجى قبره، ولأصحابنا رحمهم الله ما روي عن علي رضي الله عنه أنه مر بميت وقد سجي قبره فنزعه، وقال: إنه رجل، وأوصى شريح أن لا يسجى قبره؛ ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف، فلا يسجى قبره إلا لضرورة وهي ضرورة دفع الحر أو الثلج أو المطر عن الداخلين في القبر.
وتأويل قبر سعد بن معاذ أنه إنما يسجى قبره؛ لأن الكفن كان لا يعم بدنه، فيسجى قبره حتى لا يقع الاطلاع على شيء من أعضائه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره الآجر على اللحد، ويستحب القصب واللبن، قال في «الأصل» : اللبن والقصب بدل المذكور في «الجامع الصغير» : على أنه لا بأس بالجمع بينهما، وقد جاء في الحديث أنه وضع على قبر رسول الله عليه السلام حزمة من قصب، ورأى رسول الله عليه السلام فرجة من قبر فأخذ مدرة وناوله الحفار وقال: «سد بها تلك الفرجة، فإن الله تعالى يحب من كل صانع أن يحكم صنعته» ، والمدرة قطعة من اللبن فدل أنه لا بأس باستعمال اللبن.
وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: هذا في قصب لم يعمل فأما القصب المعمول وبالفارسية بورياء بافته أزنى فقد اختلف المشايخ فيه(2/191)
قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم ترد السنّة بالمعمول.
وأما الحصير المتخذ من البردي فإلقاؤه في القبر مكروه؛ لأنه لم ترد السنّة به.
وكثير من الصحابة أوصوا بأن يرمسوا في التراب رمساً من غير شق ولا لحد، وقالوا: ليس جنبنا الأيسر بأولى من الأيمن في التراب، وكانوا يرمسون في التراب رمساً ويهال عليهم التراب إلا أن الوجه يوقى من التراب بلبنتين أو ثلاث، وكراهة الآجر مذهبنا وقال الشافعي: لا بأس به لما روي أن دانيال النبي عليه السلام وجد في تابوت من صخرة.
ولنا: ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن تجصيص القبور وتقصيصها، والتجصيص هو العمل بالجص، والتقصيص هو العمل بالآجر؛ لأن القص هو الآجر، وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يستحبون اللبن والقصب ويكرهون الآجر، وقوله: كانوا كناية عن الصحابة والتابعين، ولأن الآجر إنما يستعمل في الأبنية للزينة والإحكام، والقبر موضع البلى.
بعض مشايخنا قالوا: إنما يكره الآجر إذا أريد به الزينة أما إذا أريد به دفع أذى السباع أو شيء آخر لا يكره.
قال مشايخ بخارى: لا يكره الآجر في بلدتنا لمساس الحاجة إليه لضعف الأراضي، حتى قال بعضهم: بأن في هذه البلدة لو جعل تابوتاً من حديد لا يكره لكن ينبغي أن يضع مما يلي الميت اللبن.
وكذلك التابوت من الخشب. كره بعضهم على ظاهر الرواية وقال: بأن هذا في معنى الآجر؛ لأن كل واحد منها لإحكام النازل، ولا حاجة إلى الإحكام. وبعضهم فرق بينهما وقال: كراهة الآجر من حيث إنه مسته النار فلا انتقال به، وهذ المعنى معدوم في حق الخشب، ولكن هذا الفرق ليس بصحيح، ومساس النار في الآجر لا يصلح علة للكراهة، فإن السنّة أن يغسل الميت بالماء الحار، وقد مسته النار.
قال: ويسنم القبر مرتفعاً من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلاً ولا يزاد عليه من تراب غير القبر، ولا يربع. وقال الشافعي: يربع ويسطح ولا يسنم، والمسنم هو السفط الذي هو على رسمنا، واحتج بما روى المزني بإسناده له لما توفي إبراهيم بن رسول الله عليه السلام جعل رسول الله عليه السلام قبره مسطحاً؛ ولأنه مسكن مشروع بعد الوفاة فيعتبر بالمسكن حال الحياة، المسكن حال الحياة يكون مسطحاً مربعاً فكذا المسكن بعد الوفاة.
وعلمائنا احتجوا بحديث سعيد بن جبير وعروة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة عليهم السلام على آدم عليه السلام وسنم قبره.
وعن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: أخبرني من رأى قبر النبي عليه السلام وقبر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما قبل أن يدار الحائط ناشزة مرتفعة مسنمة، وروي أنه لما مات عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف صلى عليه محمد بن الحنفية، وكبر(2/192)
عليه أربعاً، وجعل له لحداً، وأدخله القبر من قبل القبلة، وجعل قبره مسنماً، وضرب عليه فسطاطاً. ولأن تربيع القبر تشبه بصنيع أهل الكتاب، والتشبيه بصنيعهم فيما لنا مستند مكروه؛ ولأن التربيع في الأبنية للإحكام، ونختار في القبور ما هو أبعد عن الإحكام. وتأويل حديث (122ب1) إبراهيم بن رسول الله سطح قبره أولاً ثم سنم.
وإن خيف ذهاب أثره فلا بأس برش الماء عليه بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا لم يخف ذهاب أثره، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكره، وعن أبي يوسف أنه يكره. وإن خيف مع ذلك، فلا بأس بحجر توضع أو آجر، فالظاهر لا يكره على الظاهر، وقد وضع رسول الله عليه السلام على قبر أبي دجانة حجراً وقال: هذا لأعرف به قبر أخي.
وفي «كتاب الآثار» عن محمد: لا أرى أن يزاد في تراب القبر على ما خرج، ولا أرى برش الماء عليه بأساً، ولا يجصص ولا يطين، روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره» .
وفي «طهارات النوازل» : أنه لا بأس به، وعن أبي يوسف أنه كره أن يكتب عليه كتاباً وكره أبو حنيفة رحمه الله البناء في القبر وأن يعلم بعلامة. قالوا: وأراد بالبناء السقط الذي يجعل على القبور في ديارنا، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى النهي عن السقط. ويكره أن يوضأ على القبر يعني بالرجل أو يقعد عليه أو يقضي عليه حاجة، ويكره أن يصلي عنده، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي أن يصلي على ميت بين القبور، وإن صلوا أجزأهم.
قال القدوري: وذوي الرحم المحرم أحق بإدخال المرأة القبر من غيره، وفي «نوادر» إبراهيم عن محمد رحمهما الله: الأخوال أحق بدخول القبر من بني الأعمام يريد به دخول قبر المرأة، وبنو الأعمام أحق من الزوج ومن أخ الرضاعة.
ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد، وعند الضرورة لا بأس به، ويقدم في اللحد أفضلهما، وجعل بينهما حاجز من الصعيد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام أمر في شهداء أحد بأن يدفن الاثنين والثلاثة منهم في قبر واحد، وكانت الحالة حالة الضرورة.
فالأنصار يومئذٍ أصابهم قروح وجهد شديد فشكوا إلى رسول الله عليه السلام، وقالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال عليه السلام: «أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة، فقالوا: من نقدم، فقال عليه السلام: قدموا أكثرهم قرآناً» .
وإن احتاجوا إلى دفن المرأة والرجل في قبر واحد قدم الرجل في اللحد، وفي الجنازة تقدم المرأة على الرجل ليكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. ثم في قوله عليه السلام: «أعمقوا» دليل على أن السنّة في القبر أن يعمق؛ لأن هذا أمر بالتعميق.(2/193)
والمعنى: أن فيه صيانة الميت عن الضياع. وفي بعض «النوادر» عن محمد رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يكون مقدار العمق إلى صدر رجل وسط القامة، قال: وكل ما ازداد فهو أفضل. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يعمق القبر صدر رجل، وإن عمقوا مقدار قامة الرجل فهو أحسن. والله أعلم، وبه ختم.
نوع آخر في الكافر يموت وله ولي مسلم
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : كافر مات وله ولي مسلم قال: يغسله ويتبعه ويدفنه.
وقال في «الأصل» : كافر مات وله ابن مسلم فما ذكر في «الأصل» خاص، وما ذكر في «الجامع الصغير» : عام فإن اسم الولي يتناول كل قريب، وهذا؛ لأن الغسل سنّة الموتى من بني آدم على سبيل العموم على ما مر لكن الغسل في حق المسلم يكون تطهيراً، وفي حق الكافر لا يكون تطهيراً. والولد المسلم مندوب إلى بر والده، وإن كان مشركاً قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15) الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته، ولما مات أبو طالب قال عليه السلام لعلي: اذهب واغسله وكفنه، وواره ولا تحدث به حدثاً حتى تلقاني أي لا تصل عليه.
وفي «السير الكبير» : سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: أن أمي ماتت نصرانية فقال: اتبع جنازتها واغسلها وكفنها، ولا تصلي عليها وادفنها، وإن الحارث بن أبي ربيعة ماتت نصرانية فتتبع جنازتها في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد صح أن رسول الله عليه السلام خرج في جنازة عمه أبو طالب، وكان يمشي ناحية منها.
والحاصل: أنه إذا كان خلف جنازة الكافرين من قومه من يتبع الجنازة لا ينبغي لقريبه المسلم أن يتبع الجنازة حتى لا يكون مستكثراً سواد الكفرة، ولكن يمشي ناحية منها. وإن لم يكن خلف الجنازة من قومه الكافرين يتبعها، فلا بأس للمسلم أن يتبعها، وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله.
ولا يغسل الكافر كما يغسل المسلم يريد به أنه لا يراعى في حقه سنّة الغسل من البدائة بالميامن وغير ذلك، ولكن يصب الماء عليه على الوجه الذي تغسل النجاسات، وكذلك لا يراعى في حقه سنّة الكفن، ولكن يلف في ثوب، وكذلك لا يراعى في حقه، شبه اللحد في حقه ولكن تحفر له حفيرة، ولا يوضع فيه بل يلقى، وهذا؛ لأن مراعاة السنّة في هذه الأشياء بحق المسلم.(2/194)
وكذلك كل ذي رحم محرم منه مثل الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة، وكل قرابة؛ لأنه من باب التكريم، وصلة الرحم وهو من محامد الدين. وإنما يقوم المسلم بغسل قريبه الكافر وتكفينه ودفنه إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين، فإن كان هناك أحد من قرابته على ملته، فإن المسلم لا يتولى بنفسه بل يفوض إلى أقربائه المشركين ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
ولم يبين في «الكتاب» : أن الابن المسلم إذا مات، وله أب كافر هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه وينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل فعله المسلمون.
ألا ترى أن اليهودي لما آمن برسول الله عليه السلام عند موته قال عليه السلام لأصحابه: «لوا أخاكم» ولم يخل بينه وبين والده اليهودي. قال: ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته من المسلمين ليدفنه؛ لأن الموضع الذي فيه الكافر تنزل فيه اللعن والسخط، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة في كل ساعة فينزه قبره من ذلك. وهذا الفصل يصير رواية في الفصل الأول. وبه ختم.
نوع آخرمن هذا الفصل في الخطأ الذي يقع في هذا الباب
إذا دفن قبل الصلاة عليه صلي عليه في القبر ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه، لا يخرج عن القبر. أما لا يخرج عن القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وخرج عن أيدي الناس، جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «القبر أول منزل من منازل الآخرة» وأما الصلاة عليه في القبر فلا يرد رسول الله عليه السلام فعلاً، ولكن إنما يصلي عليه ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه؛ لأن المشروع الصلاة على الميت لا على أجزائه المتفرقة قالوا: وما ذكر أنه لا يخرج من القبر، فذلك فيما إذا وضع اللبن على اللحد أو وضع ولكن لم يهل التراب عليه يخرج ويصلى عليه؛ لأن التسليم لم يتم بعد.
قال الحاكم الشهيد في «الأمالي» : عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام، والصحيح: أن هذا ليس بتقدير لازم؛ لأنه يختلف تفرق الأجزاء لاختلاف الأوقات في الحر والبرد وباختلاف الأمكنة، وباختلاف حال الميت في السن والهزال. فأما المعتبر فيه أكثر الرأي، إن كان في أكبر رأيهم أنه تفرق أجزاء هذ الميت المعين قبل ثلاثة أيام لا يصلون عليه إلى ثلاثة، وإن كان في أكبر رأيهم أنه لم تتفرق أجزاؤه بعد ثلاثة أيام يصلون عليه بعد ثلاثة أيام.
فإن قيل: كيف يصلى عليه في القبر وإنه غائب عن أعين الناس بالتراب؟
قلنا: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أن قبل الدفن كان غائباً بالكفن ولم يمنع ذلك جواز الصلاة.(2/195)
وإذا صلي على الميت قبل الغسل، فإنه يغسل ثم تعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذلك لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو ... ، وإن كان قد لف في كفنه وقد بقي عضو لم يصبه الماء (123أ1) يخرج من الكفن فيغسل ذلك العضو، وإن كان الباقي شيء يسير كالأصبع ونحوه، فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله؛ لأن الأصبع في حكم العضو بدليل اغتسال الحي. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يخرج من الكفن؛ لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إليه، فلعل وصل إليه الماء لكن أسرع إليه الجفاف لقلته، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «نوادر أبي سليمان» .
وإن دفنوه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن أهالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانياً في القبر؟ ذكر الكرخي رحمه الله في «مختصره» : يصلى عليه، وفي «النوادر» عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه؛ لأن طهارة الميت شرط جواز الصلاة عليه ولم توجد.
وفي الاستحسان يصلى عليه؛ لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان، وسقط فرضية الغسل، فيصلى عليه في قبره. أو نقول: صلاة الجنازة صلاة من وجه ودعاء من وجه، ولو كانت صلاة من وجه لا تجوز بدون طهارة أصلاً، ولو كانت دعاء من وجه تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت بينهما.
قلنا: أنه تشترط الطهارة حالة القدرة، ولا تشترط حالة العجز.
وإن سقط شيء من متاع القوم في القبر، فلا بأس بأن يحفروا التراب في ذلك الموضع، ويخرج المتاع من غير أن ينبشوا الميت، وإن لم يمكنهم ذلك إلا بحفر الكل، ونبش الميت فعلوا ذلك كذا ذكر في «الأصل» ؛ لأن في إبقاء المتاع في البيت القبر إضاعة المال، ونهى رسول الله عليه السلام عن إضاعة المال.
وإذا وضع الميت في اللحد لغير القبلة أو على يساره قد عرف ذلك، فإن كان بعد إهالة التراب لا ينبش عنه قبره وإن كان قبل إهالة التراب وقد شرحوا اللبن نزع اللبن ويوضع كما ينبغي.
وإذا صلوا على جنازة والإمام على غير طهارة فعليهم إعادة الصلاة؛ لأن صلاة الإمام لم تجز لعدم الطهارة، فلا تجوز صلاة القوم لأن صلاتهم بناءً على صلاة الإمام، وإذا لم تجز صلاتهم، فهذا ميت لم يصل عليه، فيعيدوا الصلاة. وإن كان الإمام طاهراً، والقوم على غير طهارة لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن عدم طهارة القوم لا يوجب فساد صلاة الإمام، وإذا جازت صلاة الإمام، فقد سقط الفرض بصلاة الإمام وحده، فلا يكون للباقين حق الإعادة؛ لأنه يكون تنفلاً بصلاة الجنازة، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع.
وإذا ظهر أن الموضع الذي دفن فيه الميت مغصوب، أو أخذ بالشفعة، فإنه يخرج الميت عنه، ويدفن في موضع آخر.(2/196)
وفي كراهية «فتاوى أهل سمرقند» : حامل أتى على حملها تسعة أشهر فماتت وقد كان الولد يتحرك في بطنها، فلم يشق بطنها، ودفنت، ثم رؤيت في المنام أنها تقول: ولدت لا ينبش القبر؛ لأن الظاهر أنها لو ولدت كان الولد ميتاً. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
بيان صفوف النساء في صلاة الجنازة: ويصف النساء في خلف الرجال في الصلاة على الجنازة لقوله عليه السلام: «خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» ؛ ولأنها صلاة تؤدى بجماعة، فتعتبر بالصلاة المعهودة، وفي الصلاة المعهودة تقوم النساء خلف الرجال، فكذا في صلاة الجنازة.
فإن وقعت امرأة بجنب رجل فيها لم تفسد عليه صلاته.
وفرق بين هذا وبين الصلاة المعهودة فإنها إذا قامت بحذاء الرجل في الصلاة المعهودة، وقد نوى الإمام إمامتها، فإنه تفسد صلاة الرجل، وفي صلاة الجنازة لم تفسد صلاة الرجل.
والفرق: وهو أن في الصلاة المعهودة القياس أن لا تفسد صلاة الرجل بمحاذاة المرأة كما قال الشافعي رحمه الله إلا أنا تركنا القياس بالنص، والنص ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، ولهذا لا قراءة فيها، ولا ركوع ولا سجود بخلاف الصلاة المعهودة.
والذي يعتمد عليه ما أشار شمس الأئمة في «شرحه» : وهو أن العلماء اختلفوا في محاذاتها في المكتوبات هل هي مفسدة أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الصلاة اتفاق منهم في جواز الصلاة المقيدة، وهذا أصل محمد، وفي الشرع عليه مسائل كثيرة من ذلك.
قال أبو حنيفة رحمه الله: في المس الفاحش ناقض للوضوء، ولأن العلماء اختلفوا في المس القليل أنه هل ينقض؟ منهم من رأى ومنهم من أبى فكان اختلافهم في المس القليل اتفاق منهم في المس الفاحش أنه ناقض للوضوء. ومن ذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: المكاتب إذا ملك أخاه لا يصير مكاتباً، لأن العلماء اختلفوا في الحر إذا ملك أخاه هل يصير حراً أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الحر اتفاق منهم في المكاتب أنه لا يصير مكاتباً.
قال شمس الأئمة رحمه الله، وهذه المسألة تصير رواية لمسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» ، وهو أنه يصح اقتداء المرأة بالإمام في صلاة الجنازة من غير أن ينوي الإمام(2/197)
إمامتها بخلاف الصلاة المعهودة؛ لأن في الصلاة المعهودة إنما جعل نية إمامتها شرطاً؛ لأن محاذاتها تفسد الصلاة فيتحرز بترك النية عن محاذاتها. أما هنا ... من الفساد من قبل المحاذاة فلم تجعل النية شرطاً، إلا أن النساء يمنعن من شهود الجنائز. لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه رأى نساء في جنازة فقال: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» .
ليس على من قهقه في صلاة الجنازة وضوء، وكذلك سجدة التلاوة، وهذا بناءً على الأصل الذي بينا: أن العلماء اختلفوا في انتقاض الطهارة بالقهقهة في الصلاة المكتوبة المعهودة، منهم من رأى ومنهم من أبى. فاختلافهم في الصلاة المطلقة اتفاق منهم في الصلاة المقيدة أنها لا تنقض الوضوء، ولكنها تفسد الصلاة؛ لأن القهقهة تشبه الكلام لأنه صوت خارج من مخرج الكلام، فكان شبه الكلام. الكلام على الحقيقة يشبه الصلاة، فكذا ما هو شبه الكلام. وإن صلاها قعوداً أو ركوباً أمرهم بالإعادة استحساناً، وفي القياس تجزئهم.
وجه القياس: وهو أن صلاة الجنازة دعاء من وجه والقيام والقعود في الدعاء سواء، تقاس هذه بالاستسقاء، فالقيام والقعود في الاستسقاء سواء، وإن كانت السنّة هو القيام وكذلك السنّة في الخطبة القيام، ثم لو خطب قاعداً جاز فكذا هنا.
ووجه الاستحسان: وهو أن صلاة الجنازة واجبة، فلا تتأدى على الدابة، وقاعداً مع القدرة على القيام قياساً على الوتر، وكان القياس في سجدة التلاوة أن لا تتأدى راكباً؛ لأنها واجبة إلا أنه جوز كيلا ينقطع السفر؛ لأن قراءة القرآن مما يكثر في السفر، فالنزول لسجدة التلاوة يؤدي إلى قطع السفر، فتتأدى على الدابة.
أما الصلاة على الجنازة لا تكثر في السفر بل توجد في الأحايين، فالنزول لها لا يؤدي إلى قطع السفر، فلا تتأدى على الدابة. وإن كان ولي الميت مريضاً، فصلى قاعداً وصلى الناس خلفه قياماً أجزأهم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: تجزىء الإمام، ولا تجزىء المأموم لما عرف من أصله أن اقتداء القائم بالقاعد لا يجوز، وعندهما يجوز وقد مر الكلام فيه.z
وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، إن أمكن تمييز المسلمين بالعلامة يميزون، وإن لم يمكن التمييز، وكانت الغلبة للمسلمين غسلوا ويصلى عليهم إلا من عرف بعينه أنه كافر. وهذا لأن العبرة للغالب والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلته.
ألا ترى أنه لو وجد ميت في دار الإسلام يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون كافراً؛ لأن الغلبة في دار الإسلام للمسلمين.
ولو وجد ميت في دار الحرب لا يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون مسلماً؛ لأن الغلبة في دار الحرب للكفار. فإذا كانت الغلبة للمسلمين جعل من حيث الحكم كأن الكل(2/198)
مسلمون فيصلى عليهم، لكن ينوون بالدعاء المسلمين؛ لأنه لو أمكن التمييز حقيقة يجب التمييز حقيقة، فإذا تعذر (123ب1) التمييز حقيقة وأمكن التمييز بالنية، وإن كان الأكثر كفاراً لم يغسلوا، ولم يصل عليهم لما ذكرنا أن العبرة للغالب.
فإن قيل: إنما تعتبر الغلبة وعدم الغلبة حالة الاختيار لا حالة الاضطرار، والحالة ههنا حالة الاضطرار، فإن الصلاة على الميت فرض.
قلنا: كما أن الصلاة على الميت فرض، وترك الصلاة على الكافرين فرض، فإذا تعارض الدليلان اعتبرنا الغالب، وإن استويا لم يصل عليهم عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليهم ترجيحاً للمسلمين على الكافرين، وإنا نقول: استوى جانب الصلاة وجانب الترك فترجح جانب الترك؛ لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال، وترك الصلاة على المسلم جائز في الجملة، فإنه لا يصلى على الباغي عندنا، وعلى الشهيد عندك، فكان الميل ما يباح الحال أولى. بخلاف ما إذا كانت الغلبة للمسلمين، لأنه لما ترجح بحكم الكثرة فكأنه ليس فيهم كفار.
ولم يبين في «الكتاب» : في فصل الاستواء في أي موضع يدفنون، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفنون في مقابر المشركين، وبعضهم قالوا: يتخذ لهم مقبرة على حدة، وهو قول الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمة الله عليه.
وهذا بناءً على اختلاف الصحابة في نصرانية تحت مسلم حبلت من المسلم، ثم ماتت اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في دفنها، فرجح بعضهم جانب الولد وقال: تدفن في مقابر المسلمين، ورجح بعضهم جانبها وقال: تدفن في مقابر المشركين، لأن الولد في حق هذا الحكم جزء منها ما دام في بطنها، وقال عقبة بن عامر: يتخذ لها مقبرة على حدة، فكذلك هنا يتخذ لهم مقبرة على حدة، لتكون بين مقبرة المسلمين وبين مقبرة الكفار.
ولما أمكن اعتبار حالهم بين الحالتين وجب اعتباره بخلاف الصلاة؛ لأنه واسطة بين فعل الصلاة وبين تركها، فإذا تعذر فعل الصلاة وجب الترك.
وإذا لم يجدوا ماء يغسل الميت فيمموه وصلوا عليه، ثم وجدوا ماء يغسل ويصلى عليه ثانياً في قول أبي يوسف، وعنه في رواية يغسل ولا تعاد الصلاة عليه بمنزلة جنب تيمم وصلى، ثم وجد ماء بعد ذلك. وإذا أخطؤوا بالرأس وقت الصلاة فجعلوه في موضع الرجلين وصلي عليه جازت الصلاة؛ لأنه وجد شرائط الجواز، وهو كون الميت أمام الإمام، إنما تركوا سنّة من سننها، وترك السنّة لا يوجب فساد الصلاة. فإن فعلوا ذلك عمداً جازت الصلاة؛ لأن مثل هذا لو وقع في المكتوبة جاز ففي صلاة الجنازة أجوز.
قال شمس الأئمة، والحاكم الشهيد ذكر في «إشاراته» حرفاً فقال: إذا كان عندهم أنهم يصلون عليها إلى القبلة يعني يصلون بالتحري، ولكن جهلوا عن النية، فلما فرغوا ظهر أنهم صلوا عليها إلى غير القبلة أجزأتهم صلاتهم، وفي الصلاة المكتوبة لا تجزئهم صلاتهم إذا فعلوا مثل هذا.(2/199)
وفرق بينهما فقال: في عدم صلاة الجنازة الأمر فيها واسع، فإنها لم تتمحض صلاة على ما ذكرنا أنها دعاء من وجه، فانحطت رتبتها ودرجتها عن رتبة المكتوبة ودرجتها، فأما عند مشايخنا فكلتاهما سواء، والجواب فيهما أنهما تجوزان، فإن تعمدوا ذلك فإنهم يستقبلون الصلاة عليها كما في المكتوبة؛ لأنها في وجوب استقبال القبلة كسائر الصلوات.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ ولا بأس بالأذان في صلاة الجماعة فإن كان الصحيح لا بأس بالإذن في صلاة الجنازة فمعناه أحد الشيئين إما إذن الولي غيره في الصلاة على الجنازة؛ لأن للولي حق الصلاة لما ذكرنا، فتكون له ولاية تحويل هذا الحق إلى غيره، وإما إذن أولياء الميت للمصلي لينصرفوا قبل الدفن؛ لأنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل الدفن إلا بإذنهم.
لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «أميران وليسا بأميرين» ولي الميت قبل الدفن والمرأة تكون في الركب وفي رواية «صاحب الدابة القطوف» . وإن كانت الرواية لا بأس بالأذان في صلاة الجنازة فمعناه لا بأس بالإعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام من الله ورسوله.
والإعلام لا بأس به في صلاة الجنازة فإنه روي عن رسول الله عليه السلام أنه مر بقبر فقال: قبر من هذا فقيل: «قبر فلانة ماتت ليلاً فقال: آذنتموني فقال: خشينا عليك هوام الليل فقال عليه السلام: «إذا مات منكم ميت فآذنوني فإن صلاتي عليكم دعاء ورحمة» فدل أنه لا بأس بالإعلام في صلاة الجنازة، ولأن في الإعلام إعانة وحث على الطاعة فلا بأس به لهذا.
وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: أنه يكره النداء في الأسواق أن فلاناً مات؛ لأنه من أفعال الجاهلية، وبنحوه ذكر الكرخي رحمه الله: عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينبغي أن يؤذن بالجنازة إلا أهلها وجيرانها ومسجد حيها، وكثيراً من مشايخ بخارى رحمهم الله لم يروا به بأساً إذ ليس المقصود منه الترسم برسم أهل الجاهلية، وإنما المقصود به الإعلام حثاً على الطاعة ألا ترى أن النداء الخاص لا يكره وكذا لا يكره العام أيضاً.
ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة، وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لمن لم يصلِ أن يصلي عليه.
حجته: أنه لما قبض رسول الله عليه السلام صلى على قبره الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فوجاً بعد فوج، ولأن الصلاة على الميت شرعت دعاءً واستغفاراً له،(2/200)
والدعاء والاستغفار مشروع مرة بعد مرة.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بما روي أن رسول الله عليه السلام صلى على جنازة فلما فرغ جاء عمر رضي الله عنه، ومعه قوم، فأراد أن يصلي عليها فقال عليه السلام: «الصلاة على الجنازة لا تعاد، ولكن ادع للميت واستغفر له» ، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه لما مات أخوه عاصم قال لابن عاصم: أرني قبر أبيك فأراه، فقام عليه ودعا ولم يصل عليه.
والمعنى: أن صلاة الفريق الأول وقعت فرضاً أن صلاة الجنازة شرعت قضاء لحق الميت صار مقاماً بالفريق الأول، فسقط الفرض بصلاة الفريق الثاني فيكون نفلاً، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن يصلي على قبر رسول الله عليه السلام من رزق زيارته الآن؛ لأنه في قبره كما وضع؛ لأن لحوم الأنبياء حرام على الأرض، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولم يستقبل أحد بهذا، فعلم أنه لا تعاد الصلاة على الميت.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إلا أن يكون الذي صلى أول مرة غير الولي حينئذٍ يكون للولي حق الإعادة؛ لأن حق التقدم للولي، وليس لغيره؛ ولأنه إسقاط حقه، وهو تأويل فعل الصحابة، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولاً بتسوية الأمور وتسكين الفتنة، وكانوا يصلون عليه قبل حضوره، وكان الحق لأبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان هو الخليفة. فلما فرغ صلى عليه، ثم بعده لم يصلِ عليه أحد.
وأما حديث النبي عليه السلام: كان هو الولي لمن مات بالمدينة، وغير الولي متى صلى على الميت كان للولي حق الإعادة.
وتكره صلاة الجنازة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا» وذكر هذه الساعات، والمراد من ذلك صلاة الجنازة؛ لأن الدفن في هذه الأوقات غير مكروه وإن صلوها لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن حق الميت يتأدى بما أدوا، فإن المؤدى في هذه الأوقات صلاة، وإن كان بها نقصان إلا أن السبب أوجبها كذلك؛ لأن سبب صلاة الجنازة حضور الجنازة.
ألا ترى أن الصلاة تضاف إلى الجنازة يقال: صلاة الجنازة، والحكم أبداً يضاف إلى السبب (124أ1) وكذلك تتكرر الصلاة بتكرر الجنازة وهذا يدل على كون الجنازة سبباً فهو معنى قولنا: السبب أوجبها مع النقصان وقد أداها كذلك. فهو نظير ما لو تلا آية السجدة في هذه الأوقات وسجد فيها جاز، وطريقه ما قلنا، ولأنهم لو أعادوها لازدادت الكراهة.(2/201)
ونظير هذا ما لو سجد للسهو قبل السلام نهي عنه، ولو سجد مع ذلك جاز، لأنه لو لم يجز صارت سجدات أربعاً فازدادت الكراهة. وهذا الرجل ما خالف الكل فإن من العلماء من يجوز السجدة قبل السلام.
وكذلك ههنا من العلماء من يجوز الصلاة في الأوقات المكروهة، ولأن صلاة الجنازة تشبه الصلاة المطلقة حيث إنه يشترط فيها الطهارة عن الحدث، والطهارة عن النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة والتحريم بالتكبير، والتحلل بالسلام، وتشبه الدعاء من حيث سقوط القراءة والركوع والسجود، فمن حيث إنها تشبه الصلاة نهي، ومن حيث إنها تشبه الدعاء إذا أداها جاز، وهو قياس سجدة التلاوة إذا تلاها في هذه الأوقات، وأراد أن يسجد لها ينهى عن ذلك، ولو سجد جاز وسقط عنه، كذلك هنا.
ولا تكره بعد طلوع الفجر، وبعد العصر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة بعد العصر فقال: أسرعوا قبل أن تغرب الشمس، ولأن الصلاة على الجنازة فريضة، وإنما يكره في هذين الوقتين التطوع.
ولو حضرت الجنازة بعد غروب الشمس يبدؤون بالمغرب ثم بالجنازة لما روي عن أبي برزة الأسلمي أنه أتي بجنازة بعدما غربت الشمس ووضعت على مقبرة بالبصرة، فأمر المؤذن فأذن، وصلى المغرب ثم صلى على الجنازة، ولأن صلاة المغرب فرض عين، وصلاة الجنازة فرض كفاية، فتكون المغرب آكد، والبداية بآكد الفرضين أولى؛ ولأن تأخير المغرب مكروه، وتأخير صلاة الجنازة لا بأس به.
وروى الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يبدأ بأيهما شاء؛ لأن مبنى صلاة الجنازة على المسارعة، قال عليه السلام: «ثلاث لا يؤخرن» وذكر من جملتها الصلاة على الجنازة، ومبنى المغرب أيضاً على المسارعة فاستويا فيبدأ بأيهما شاء.
وإن أوجد شيئاً من أطراف ميت كيد أو رجل أو رأس لم يغسل ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن.
وقال الشافعي: يغسل ويصلى عليه قل ذاك الجزء أو كثر بناءً على مذهبه أن تكرار الصلاة على ميت واحد يجوز، وعندنا لا يجوز. وهذا في الميت عند الشافعي، أما في الشهيد عنده لا يصلى على كل البدن فكيف يصلى على جزء منه. وأجمعوا أنه لو وجد أكثر البدن يغسل ويصلى عليه.
وذكر الحسن بن زياد في صلاته عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا وجد أكثر البدن غسل وكفن وصلي عليه ودفن. وإن كان نصف البدن، ومعه الرأس غسل وصلي عليه ودفن، وإن كان مشقوقاً نصفين طولاً، فوجد منه أحد النصفين لم يغسل، ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن لحرمته، وإن كان نصف البدن بلا رأس غسل، ولم يصلِ عليه. وإن كان أقل من نصف البدن ومعه الرأس غسل وكفن ودفن ولا يصلى عليه.(2/202)
احتج الشافعي رحمه الله بما روي أن طائراً ألقى يد آدمي بمكة في وقعة الجمل، فغسلها أهل مكة وصلوا عليها، قيل: إنها يد طلحة بن عبيد الله، أو يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام، وعن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه صلى على رؤوس، ولأن هذا نقص من جملة الآدمي لا يزال عنه في حالة السلامة، فيجب الصلاة عليه قياساً على ما لو كان الموجود في أكثر من نصف البدن، أو نصف البدن ومعه الرأس، وهذا لأن الصلاة على المسلم شرعت لحرمة المسلم وحرمة القليل كحرمة الكثير بدليل أنه لا يحل إتلاف القليل كما لا يحل إتلاف الكثير.
وأصحابنا رحمهم الله: احتجوا بما روي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا يصلى على عضو» والمعنى: وهو أن هذا العضو لو انفصل عن الآدمي حالة الحياة لا يصلى عليه، فكذا لو انفصل عنه بعد موته وجب أن لا يصلى عليه قياساً على الشعر والظفر؛ وهذا لأن صلاة الجنازة ما عرفت قربة بدون الميت، والميت اسم لجميع البدن، ولم يوجد جميع البدن، ولا أكثر البدن، إنما وجد منه البعض، والمعدوم أكثر من الموجود، فيرجح العدم على الموجود، فكأنه لم يوجد شيء من البدن، وبدون بدن الميت لا تقام صلاة الجنازة بخلاف إذا وجد الأكثر؛ لأن جانب الموجود يرجح على العدم، فسقط اعتبار العدم.
فأما حديث أهل مكة، قلنا: التعلق به لا يصح؛ لأنه ليس في الحديث أن الغاسل لليد والمصلي عليها من هو، فما لم يعرف الغاسل لا يكون الحديث حجة، وأما حديث عمر رضي الله عنه المراد منه الدعاء لإجماعنا أنه لا يصلى على العظام، وكذا حديث أبي عبيدة محمول على الدعاء صلى يعني: دعا.
ثم الطرف يدفن لأن الدفن إماطة الأذى، وقد ورد الأثر به فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الإسلام بضعة وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان القوم في المصلى فجيء بالجنازة هل يقومون لها إذا رأوها قبل أن توضع؟ فيه كلام، من الناس من يقول: يقومون لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان جالساً فمرت عليه جنازة فقام فزعاً فقيل له: إنه جنازة يهودي فقال: «ما قمت لها وإنما قمت فزعاً من الموت» ، ومنهم من قال: لا يقومون وهو الصحيح. والصلاة على الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور سواء لما روي عن النبي عليه السلام أنه صلى على بعض في الموتى في الأمكنة وصلى على البعض في الجبانة.(2/203)
وإن النبي عليه السلام لما قبض صلى عليه في حجرة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون فوجاً فوجاً، فيصلون عليه وينصرفون.
وإنما تكره الصلاة على الجنازة في الجامع ومسجد الحي عندنا.
وقال الشافعي: لا تكره، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية كما قال الشافعي، وفي رواية قال: إذا كانت الجنازة خارج المسجد الإمام والقوم في المسجد فإنه لا تكره وستأتي المسألة في باب الكراهية، وسيأتي لا يجهرون في صلاة الجنازة بشيء من الحمد والثناء وصلوات الرسول عليه السلام لأن هذا ذكر كله، والإخفاء في الذكر أولى كما في أذكار الصلوات.
ومشايخ بلخ يقولون: السنّة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، والصف الثالث ذكر الصف الثاني، والرابع ذكر الصف الثالث، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل السر، وينبغي أن يكون بين ذلك.
ويتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف فوتها في المصر، وإن لم يخف الفوت توضأ، وكذلك إن كان افتتح الصلاة، ثم أحدث تيمم وبنى، وقد مر هذا في باب التيمم.
رجل تيمم وصلى على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى إن وجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، والماء منه قريب بطل ذلك التيمم، وعليه إعادة التيمم للصلاة على الجنازة الثانية بالإجماع؛ لأنه يمكنه استعمال الماء بعد التيمم الأول، فبطل التيمم، وإن لم يجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، فله أن يصلي بالتيمم الأول على الجنازة الثانية، عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله ليس له ذلك ويعيد التيمم للجنازة الثانية، هكذا أورده الإمام السرخسي رحمه الله في «شرح الصلاة» ، وأورد الفقيه أبو الليث رحمه الله هذه المسألة في «مختلفاته» ، وذكر قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف رحمهما الله.
حجة محمد رحمه الله: وهو أن التيمم إنما يجوز لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة عند الفراغ من الأولى، فعليه تجديد التيمم للثاني.
حجة أبي يوسف رحمه الله (124ب1) : وهو أن العذر قائم وهو خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، فلهذا جاز له أن يصلي بتيممه الأول.
ويكره أن يجعل على اللحد دفوف خشب يريد به صفائح خشب توضع على اللحد؛ لأن في ذلك إضاعة المال بلا فائدة فإن اللبن يكفي، ولأن ذلك يستعمل للزينة أو لإحكام البناء، والميت غير محتاج إلى ذلك، ولكن مع هذا لو فعل لا بأس به لرخاوة الأراضي في ديارنا.
وفي «وقف النوازل» المرتد لا يدفع إلى من انتحل إليهم كاليهود أو النصارى ليدفنوه في مقابرهم، ولكن تحفر له حفيرة، فيلقى فيها كالكلب.
وفي «واقعات الناطفي» : رجل مات في السفينة يغسل ويكفن ويرمى في البحر؛ لأنه الدفن نقل الميت من مكان إلى مكان سيأتي في كتاب الاستحسان والكراهية إن شاء الله تعالى.(2/204)
وفي «النوازل» : لا يدفن الميت في الدار وإن كان صغيراً؛ لأن الدفن مكان الموت سنّة الأنبياء عليهم السلام لا سنّة غيرهم.
ولا تكسر عظام اليهود والنصارى التي توجد في قبورهم؛ لأن إيذائهم حرمة حتى حرم إيذاؤه في حياته فتكون لعظامه حرمة حتى لا تكسر متى وجدت بعد الموت. ولا يقوم الرجل بالدعاء بعد صلاة الجنازة؛ لأنه قد دعا مرة، لأن أكثر صلاة الجنازة الدعاء. ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال كما في البالغ، وفي رواية «النوادر» يجوز.
وفي «النوازل» : صلى رجل على جنازة، والولي خلفه، ولم يرض به أي لم يأمره به، فإن تابعه وصلى معه لا يجوز للولي أن يعيد الصلاة؛ لأنه قد صلى مرة، وإن لم يتابعه فإن كان الذي صلى السلطان، أو الإمام الأعظم، أو القاضي، أو والي البلدة، أو إمام حيه، فليس للولي أن يعيد، وإن كان غيرهم فله الإعادة.
وفيه أيضاً: مات رجل في غير بلده وصلى عليه غير أهله، ثم جاء أهله وحملوه إلى منزله، فإن كان الأول صلى بإذن الإمام يعني السلطان، أو القاضي لا يصلون عليه ثانياً؛ لأن الصلاة بإذن الإمام كصلاة الإمام بنفسه.
وفي «العيون» : إذا أوصى الميت أن يصلي عليه فلان، فالوصية باطلة إلا في رواية ابن رستم، فإنها جائزة في روايته، فيؤمر فلان بأن يصلي عليه.
جنازة تشاجر فيها قوم، فقام رجل ليس بولي وصلى وتابعه بعض القوم في الصلاة عليها فصلاتهم تامة، وإن أحب الأولياء إعادة الصلاة أعادوا. ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة لكن ينوي في التسليمة الأولى من على يمينه وينوي في التسليمة الثانية من على يساره.
عن أبي يوسف رحمه الله إذ كبر يريد التطوع بصلاة الجنازة يجزئه عن التطوع.
وعن أبي يوسف أيضاً في جنب وميت وعندهما من الماء ما يكفي لأحدهما الجنب أولى به يريد به إذا كان الماء مباحاً.
ومن هذا الجنس
عريان وميت ومعهما من الثوب ما يكفي لأحدهما إن كان الثوب ملكاً لأحدهما صرف إليه، وإن كان ملكاً للميت، والحي وارثه يكفن به الميت، ولا يلبسه الحي؛ لأن الكفن مقدم على الميراث.
ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض، وميت، ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، فإن كان الماء لأحدهم فهو أولى به، وإن الماء لهم لا يصرف إلى واحد منهم؛ لأن للآخرين فيه نصيباً، وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به، وتتيمم المرأة وييمم الميت أيضاً، وهذا؛ لأن غسل الجنب فريضة، ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة فييمم الميت، ويصلي الرجل، وتقتدي المرأة به بالتيمم؛ ولأن في(2/205)
كون التيمم مزيلاً للجنابة خلاف. فإن عمر، وابن مسعود كانا لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى، وكذا لو كان مكان الحائض محدثاً يصرف إلى الجنب للمعنى الثاني. والله أعلم.
وجد قتيل في دار الحرب مختوناً غير مقصوص شاربه لا يصلى عليه؛ لأن من الكفرة من يختتن، ولو وجد غير مختون، ولكنه مقصوص الشارب يصلى عليه إذ ليس منهم من يقص الشارب هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولم يجعل شمس الأئمة الختان علامة الإسلام، وهكذا كان يقول بعض المشايخ، وقد ذكرنا في «شرح الزيادات» أن الختان والخضاب ولبس السواد من علامات الإسلام.
وإذا وجد قتيل في دار الإسلام، وعليه زنار وفي حجره مصحف لا يصلى عليه؛ لأن المسلم في دار الإسلام لا يعقد الزنار أصلاً، أما الكافر في دار الإسلام قد يقرأ القرآن، فلو كان ذلك في دار الحرب يصلى عليه؛ لأن الكافر في دار الحرب لا يقرأ القرآن أما المسلم قد يعقد الزنار على نفسه في دار الحرب لمصلحة ترى في ذلك.g
في «متفرقات شمس الأئمة الحلواني» رحمه الله: من لا يجبر على نفقة الميت حال حياته كأولاد الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات لا يجبر على الكفن بلا خلاف. ثوب الجنازة إذا تخرق ولم يبق صالحاً لما اتخذ له، فليس للولي أن يتصدق به، بل يبيعه ويصرف ثمنه في ثمن ثوب آخر، وينبغي أن يكون غاسل الميت على الطهارة، ويكره أن يكون جنباً أو حائضاً، ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عنده وقت الموت.
الفصل الثالث والثلاثون في بيان حكم المسبوق واللاحق
يجب أن يعلم أن المسبوق من لم يدرك أول الصلاة وبعض أحكامه من الإتيان بالثناء والإتيان بالتعوذ، والإتيان بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد. وقيامه إلى قضاء ما سبق به قد مر في فصل ما يفعله المصلي في صلاته بعد الافتتاح، وما يتصل بذلك الفصل فلا يعد.
واللاحق من أدرك أول الصلاة إلا أنه لم يصل مع الإمام إما؛ لأنه نام أو؛ لأنه أحدث وذهب، ثم توضأ ثم عاد، وانتبه النائم، وقد صلى الإمام بعض الصلاة. ومن حكم المسبوق أنه يصلي أولاً ما أدرك مع الإمام، فإذا فرغ الإمام من صلاته يقضي ما سبق به، ومن حكم اللاحق أنه يصلي ما فاته أولاً مع الإمام، ثم يتابع الإمام فيما بقي، والمسبوق في الحكم كأنه منفرد، ولهذا كان عليه القراءة فيما يقضي.
ولو سهى فيما يقضي كان عليه السهو، واللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام، ولهذا لا قراءة عليه فيما يصلي، ولا سهو عليه إن كان قد سهى.
وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الخيراخري يقول عن أصحابنا رحمهم الله(2/206)
تعالى: اجعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، إلا في ثلاث مسائل، وقد ذكرنا ذلك عامة في الفصل السابع من هذا الكتاب، ذكرنا ثمة الفرق في فصل محاذاة المرأة بين المسبوق وبين اللاحق، وذكرنا الفرق بين نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته، وبين نية المسبوق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وذكرنا أيضاً الفرق بين دخول اللاحق المصر، وبين دخول المسبوق المصر.
في فصل المسافر المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهياً، ومسح يديه على وجهه بعد السلام كما يفعل في العادة، ثم تذكر ليس له أن يبني، لأن مسح اليدين على الوجه عمل كثير من رآه يفعل ذلك يظنه خارج الصلاة، وهذا هو حد عمل الكثير، فيصير خارجاً من الصلاة، ويؤيده رواية مكحول النسفي عن أبي حنيفة أن من رفع يديه عند الركوع، أو عند رفع الرأس من الركوع تفسد صلاته، واعتبر عملاً كثيراً.
وفي «نوادر أبي سليمان» : عن محمد رجل فاتته ركعة مع الإمام، ثم سلم الإمام فسهى الرجل، ولا يدري أفاتته الركعة، أو لا، ثم علم، فقام فقضاها فعليه السهو، وإن كان ذلك قبل سلام الإمام، فلا سهو عليه؛ لأن قبل سلام الإمام هو على المتابعة، فلا يعتبر سهوه، بخلاف ما بعد سلام الإمام.
والمسبوق إذا لم ينتظر سلام الإمام وقام وقرأ، وركع ثم سلم الإمام، وسجد للسهو رجع إليه فسجدها معه، وأعاد القراءة والركوع، ولا سهو عليه (125أ1) وإذا قام الإمام إلى الخامسة وتابعه المسبوق، إن كان الإمام قعد في الرابعة فسدت صلاة المسبوق. والمسبوق يسجد سجدتي السهو مع الإمام.
وكذا المقيم إذا كان مقتدياً بالمسافر يسجد للسهو مع الإمام، واللاحق لا يأتي بسجود السهو حتى يفرغ من صلاته، فإن يسجد المسبوق ولا المقيم المقتدي بالمسافر مع الإمام سجدا إذا فرغا من صلاتهما استحساناً.
والقياس: أن لا يسجد لأنهما انتقلا من صلاة الإمام إلى غيرها وجه الاستحسان: أن التحريمة واحدة، فكانت صلاة واحدة فإن سجدا معه، ثم سهوا أعادا السهو، فإن لم يسجدا مع الإمام وسهوا، فعليهما سجدتان عن السهوين، فإن سهى الإمام ثم أحدث ثم استخلف رجلاً فالخليفة يأتي بسجود السهو بعد تمام صلاة الإمام، وإن سهى الثاني يسجد أيضاً، وإذا اجتمع سهو الأول وسهو الثاني كفاه سجدتان، وإن لم يسهو الأول وسهى الثاني يسجد أيضاً ويتابعه الأول في ذلك.
إن أدركه رجلان سبقا ببعض الصلاة، وقاما إلى قضاء ما سبق به، واقتدى أحدهما بالآخر، فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد.
رجل اقتدى بالإمام في ذوات الأربع بعدما صلى الإمام بعض صلاته، فأحدث الإمام، وقدم هذا الرجل، والمقتدي لا يدري كم صلى الإمام وكم بقي عليه، فإن المقتدي يصلي أربع ركعات، ويقعد في كل ركعة احتياطاً. وإذا ظن الإمام أن عليه سهو يسجد للسهو وتابعه المسبوق في ذلك، ثم علم أنه لم يكن على الإمام سهو ففيه روايتان:(2/207)
في إحدى الروايتين تفسد صلاة المسبوق، وبه أخذ عامة المشايخ، وفي إحدى الروايتين لا تفسد، وبهذه الرواية كان يفتي الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير، فإن لم يعلم أنه لم يكن على الإمام سهو لم تفسد صلاة المسبوق بلا خلاف.
الإمام إذا سبقه الحدث في ذوات الأربع فاستخلف مسبوقاً بركعتين فإن المسبوق يصلي ركعتين ويقعد حتى يتم صلاة الإمام، ثم يقوم يقضي ما سبق به، ولو أن هذا المسبوق صلى ركعتين، ولم يقعد فسدت صلاتهم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر، فأحدث المسافر واستخلف المقيم، فصلى المقيم ركعتين ولم يقعد، وهناك تفسد الصلاة كذا ههنا، وهذا لأن الخليفة قائم مقام الإمام الأول ما لم يفرغ عن صلاة الأول، والأول لو ترك هذه القعدة فسدت صلاته فكذا إذا ترك الثاني.
المسبوق بركعة إذا سلم مع الإمام ساهياً لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه مقتد بعد، وإن سلم بعد الإمام كان عليه السهو؛ لأنه صار منفرداً. وإذا دخل الرجل في صلاة الرجل بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فعلى قول محمد رحمه الله اقتداؤه به صحيح على كل حال عاد الرجل إلى سجود السهو أو لم يعد، وعلى قول أبي حنيفة اقتداؤه موقوف إن عاد الرجل إلى سجوده صح اقتداؤه، وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه.
ولو دخل في صلاته بعدما سجد سجدة واحدة، وهو في الثانية، فإنه يسجدها معه ولا يقضي الأولى، وكذلك إن دخل في صلاته بعدما سجدهما لم يقضيها.
صلى بقوم صلاة الفجر فسلم واحد من القوم بعد الفراغ من التشهد وحال الإمام الدعاء وأخر السلام حتى طلعت الشمس فسدت صلاة الإمام على قول من يرى ذلك، ولم تفسد صلاة من سبق بالسلام، وكذلك لو تذكر الإمام تلاوة بعد سلام هذا الرجل، فسجد الإمام للتلاوة بعد سلام هذا الرجل، أو كانت الصلاة ظهراً فأدرك الإمام الجمعة لا تفسد صلاة من سلم إذا لم يدرك الجمعة.
وكذا المسبوق بركعة إذا قام إلى قضاء ركعته بعد سلام الإمام، ثم تذكر الإمام تلاوة، وسجد لها لا تفسد صلاة المسبوق إلا إذا تابعه في السجدة بعدما قيد ركعته بالسجدة.
أحدث الإمام وعليه سجود السهو، واستخلف مسبوقاً قد ذكرنا قبل هذا أنه لا ينبغي للإمام أن يقدمه، ولا له أن يتقدم، فلو أنه تقدم مع هذا كيف يصنع؟ قال: يصلي بالقوم بقية صلاتهم فإذا انتهى الإمام الصلاة إلى السلام يتأخر، ويقدم مدركاً يسلم به، ولا يسلم هذا المسبوق، فإن لم يكن ثمة مدرك كيف يصنع هذا المسبوق؟ قال: يتأخر من غير أن يسلم ثم يقوم ويقضي ما فاته وحده، وكذلك القوم يقومون، ويقضون ما فاتهم وحداناً، فإذا فعلوا ذلك يأتون بسجود السهو التي وجبت على الإمام استحساناً.
قد ذكرنا أن اللاحق لا يتابع الإمام في سجوده، ولو تابعه مع ذلك، وسجد معه لا يجزئه، وعليه أن يسجد إذا فرغ من صلاته؛ لأن ما أتى به من السجدة في غير محلها؛ لأن سجدة السهو شرعت في آخر الصلاة، وهو إنما أتى بها في وسط الصلاة.(2/208)
يجب أن يعلم أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً، وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق يكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق يكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية، وتصحيحاً لاقتداء؛ لأن ما بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الآخريين، والمغايرة تمنع صحة الاقتداء.
ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك مع الإمام آخر صلاته حكماً، وإذا كان ما أدرك أول صلاته حقيقة وآخرها حكماً، وما يقضي آخره حقيقة أوله حكماً، اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي وفيما أدرك في حق الثناء.
فقلنا: بأن المسبوق يأتي بالثناء متى دخل مع الإمام في الصلاة حتى يقع الثناء في محله وهو ما قبل أداء الأركان، واعتبرنا الحكم فيما أدرك، وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك صلاته وما يقضي أول صلاته، فتجب القراءة عليه، فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها، واعتبرنا الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القنوت، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته في حق القنوت حتى أنه إذا أتى بالقنوت فيما أدرك مع الإمام لا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع، واعتبرنا الحقيقة في حق القعدة، وفيما يقضي، وفيما أدرك فألزمناه القعدة متى فرغ من صلاته؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فألزمناه القعدة في آخر الصلاة عملاً بالحقيقة ليخرج عن القعدة بيقين.
المسبوق بركعتين إذا قام إلى قضائها سبق، ولم يكن الإمام قرأ في الأوليين، وإنما قرأ في الأخريين، فإنه تجب عليه القراءة فيما يقضي، ولو ترك القراءة فيما يقضي لم تجز صلاته؛ لأن القراءة في الأخريين وقعت بطريق القضاء، فالتحقت بمحل الأداء، وصار كأنه قرأ في الأوليين، وهناك المسبوق يقرأ فيما يقضي كذا ها هنا.
وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به قبل أن يتشهد الإمام أو بعدما تشهد قبل أن يسلم، فقد ذكرنا هذه المسألة قبيل الفصل الرابع، ومن فروعات هذه المسألة إذا قام بعدما تشهد الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فقرأ وركع ولم يسجد حتى عاد الإمام إلى سجود السهو، فعلى هذا الرجل أن يتابع الإمام في سجود السهو؛ لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ثم يقوم للقضاء، ولا يعتد بالذي أدى؛ لأنه صار رافضاً لها بالعود إلى متابعة الإمام.
وإن لم يعد إلى متابعة الإمام ومضى على ذلك جازت صلاته، لأنه لم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة، ويسجد للسهو في آخر صلاته استحساناً، وإن قيد المسبوق الركعة بسجدة، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعة الإمام لأنه استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة، وإن عاد إلى متابعته فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد، والاقتداء في موضع الانفراد تفسد الصلاة.
فإن قيل: الاقتداء في موضع الانفراد إذا لم يكن بركعة كاملة ينبغي أن لا يوجب فساداً كالانفراد في موضع الاقتداء إذا لم يكن بركعة كاملة.
قلنا: الاقتداء في موضع الانفراد إنما يفسد الصلاة، وإن حصل الاقتداء بما دون الركعة؛ لأنه لما اقتدى به (125ب1) زال الانفراد؛ لأن بين الاقتداء والانفراد تنافي، فأما المسبوق بالاقتداء بالإمام صار تبعاً للإمام، وبالانفراد لم تزل التبعية؛ لأنه يؤدي ما أداه الإمام، والتبعية تنفى بهذا كما في النائم، وإذا لم تزل التبعية بنفس الانفراد بقي في صلاة الإمام وإذا بقي في صلاة الإمام لم تفسد صلاته إلا أن يأتي بركعة كاملة، فحينئذٍ تفسد صلاته لا لزوال المتابعة، ولكن لشروعه في صلاة أخرى. وهذه فصول:
أحدها: في السهو.
والثاني: في الصلبية إذا تذكر الإمام سجدة صلبية بعدما قام المسبوق إلى القضاء، إن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام كما ذكرنا في سجود السهو، وإن لم يعد فسدت صلاته؛ لأن الصلبية من أركان الصلاة، ألا ترى أنه لو لم يأت بها الإمام كانت صلاته فاسدة، فكذلك إذا لم يتابع المسبوق فيها، وإن كان قيد الركعة بالسجدة، فصلاته فاسدة عاد إلى متابعة الإمام أو لم يعد لما ذكرنا أن السجدة الصلبية ركن وبعد إكمال الركعة عاجز عن المتابعة فلهذا تفسد صلاته.
والثالث: إذا تذكر الإمام سجدة تلاوة، فإن كان المسبوق لم يقيد الركعة بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ولأن الركعة الناقصة تحتمل الرفض على ما ذكرنا فصار كأنه لم يقم، ولو لم يقم يتابع الإمام فكذلك هنا، فلو لم يتابع، الإمام ومضى على ذلك فإنه ينظر، إن وجد منه القيام والقراءة بعد فراغ الإمام من القعدة الثانية مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإلا فلا؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجر صلاته، والقعدة فرض أو ركن كالصلبية، وإذا ارتفعت القعدة صار كأنه قام إلى قضاء ما سبق به قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك، فإنه يعتبر القيام والقراءة التي وجد بعد فراغ الإمام من التشهد كذلك هنا.
فإن قيد المسبوق الركعة بالسجدة قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد الإمام إلى سجدة التلاوة، فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة؛ لأنه لما قيد الركعة بالسجدة استحكم انفراده، فإذا تابع الإمام، فقد اقتدى في(2/209)
موضع كان عليه الانفراد، فيوجب فساد الصلاة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان: قال في «الأصل» : صلاته فاسدة؛ لأنه حين سجد الإمام للتلاوة، ارتفضت القعدة في حق الإمام.
وإذا ارتفضت القعدة فسدت صلاته؛ لأن القعدة الأخيرة فرض.
وفي «نوادر» أبي سليمان قال: لا تفسد صلاته؛ لأنه حين قيد الركعة بالسجدة تم انفراده، ولم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة بدليل أنه لو لم يسجد الإمام للتلاوة، وذهب جازت صلاته، بخلاف الصلبية على ما ذكرنا، وفقه هذا الكلام أن قعوده كان معتداً به، وإنما(2/210)
انتقض في حق الإمام بالعود إلى سجدة التلاوة؛ وذلك بعدما استحكم انفراد المسبوق عنه، فلا يتعدى ذلك إلى المسبوق، كرجل صلى بقوم، ثم ارتد والعياذ بالله، بطلت صلاته ولم تبطل صلاة القوم، وكذلك رجل صلى الظهر بالناس يوم الجمعة في القرية، ثم راح إلى الجمعة، فأدركها اعتبر المؤدى في حقه تطوعاً، وصار فرضه الجمعة، وبقي المؤدى في حق القوم فرضاً كما كان، فكذلك هنا، كذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وذكر الشيخ الإمام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمهم الله الاختلاف على عكس ما ذكره الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله فقالا: في ظاهر الرواية لا تفسد صلاته، وفي رواية أبي سليمان تفسد صلاته.
إذا تذكر الإمام فائتة بعد الصلاة والسلام وخلفه مسبوق، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر، محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا رواية في هذا الفصل، وعندي أن صلاة المسبوق لا تفسد كما لو ارتد الإمام بعد السلام وخلفه مسبوق. وإذا صلى الإمام الظهر أربع ركعات، وقعد على الرابعة، وقام إلى الخامسة ساهياً فجاء إنسان واقتدى به في صلاة الظهر.
قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يصح اقتداء الرجل؛ لأن الإمام لم يقيد الخامسة بالسجدة، فهو في تحريمة الظهر. وإذا كان الرجل يصلي الظهر، وخلفه مسبوق فقام الإمام إلى الركعة الخامسة تابعه المسبوق إن كان الإمام قعد على رأس الرابعة فسدت صلاة المسبوق؛ لأنه لما قعد على رأس الرابعة بقيت صلاته في حق المسبوق، فصار المسبوق في حكم المنفرد، فهذا اقتداء في موضع الانفراد، وإن لم يكن قعد على رأس الرابعة لا تفسد صلاة المسبوق؛ لأن الإمام على الصلاة الأولى حكماً.
ولهذا قلنا: إذا لم يقعد الإمام على رأس الرابعة، وقام إلى الخامسة لا يسلم المقتدي ما لم يقيد الإمام الخامسة بالسجدة، بخلاف ما إذا قعد على رأس الرابعة فإن هناك للمقتدي أن يسلم. وكذلك قلنا في الإمام إذا كان يصلي المغرب، فقام إلى الرابعة، وتشهد المقتدي وسلم قبل أن يقيد الإمام الرابعة بالسجدة فإنه تفسد صلاة المقتدي، وطريقه ما قلنا.
وإذا جاء المسبوق إلى الإمام وهو راكع وفي يد هذا المسبوق شيء، فوضعه حتى ... فكبر تكبيرتين، ودخل في الصلاة قال هشام: قال أبو حنيفة رحمه الله: لو وقع تكبيرة الافتتاح قائماً وهو مستوي أيضاً صح الشروع، وإن وقع وهو منحط عنه غير مستوى لا يجوز.
وإن ركع المسبوق وسوى ظهره صار مدركاً للركعة قدر على التسبيح أو لم يقدر، وإن لم يقدر على تسوية الظهر في الركوع حتى رفع الإمام رأسه فاته الركوع.
ولو كبر والإمام راكع، واشتغل هو بالثناء، ولم يركع حتى رفع الإمام رأسه، ثم ركع هو لم يصر مدركاً للركعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر رحمه الله، ولو(2/211)
كبر قبل ركوع الإمام، ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم ركع هو صار مدركاً للركعة. وإذا سلم الإمام فالمؤتم المسبوق يتأنى، ولا يتعجل في القيام، وينظر هل يشتغل الإمام بقضاء ما نسيه من صلاته فإذا تيقين فراغ الإمام من صلاته حينئذٍ يقوم إلى قضائه، ولا يسلم مع الإمام؛ لأنه في وسط صلاته.
وفيه حكاية أن أبا يوسف كان على مائدة هارون الرشيد، فسأل زفر وقال: ما تقول يا أبا هذيل متى يقوم المسبوق إلى قضائه؟ فقال زفر رحمه الله: بعد سلام الإمام، فقال أبو يوسف رحمه الله: أخطأت، فقال زفر: بعدما سلم الإمام تسليمة واحدة، فقال أبو يوسف: أخطأت، فقال زفر: قبل سلام الإمام، فقال أبو يوسف: أخطأت، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: إنما يقوم بعد تيقنه أن الإمام فرغ من صلاته فقال زفر: أحسنت أيد الله القاضي.
قال: مكث المسبوق حتى يقوم الإمام إلى تطوعه إن كانت صلاة بعدها تطوع، ويستدبر إلى المحراب إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، وإن لم يمكث حتى يسلم الإمام، ولكن حين فرغ الإمام من قراءة التشهد قام المسبوق إلى قضاء ما سبق، جازت صلاته بالاتفاق، ولكنه مسيء فيما صنع، وإنما جازت صلاته لفراغ الإمام من الصلاة، حتى قالوا فيمن صلى مع الإمام الجمعة، والإمام في الجامع، وهو في الطريق، وهو مسبوق، فخاف أنه لو انتظر الإمام حتى يسلم، ثم يقوم هو إلى القضاء تفسد المارة عليه صلاته، فإذا علم أن الإمام فرغ من التشهد يقوم هذا إلى القضاء وتجوز صلاته.
روى ابن سماعة، وأبو سليمان في «نوادره» عن محمد: إذا نام المؤتم خلف الإمام، وسهى الإمام عن سجدة من أول الركعة، فقضاها في آخر صلاته وسلم، ثم استيقظ ذلك الرجل، فإنه يصلي، ويسجد تلك السجدة في موضعها من الركعة الأولى.
وفي رواية أبي سليمان إن كان الإمام ترك القعود في الثانية يقعد فيها هذا اللاحق قال: لأن الإمام يقضي السجدة، ولا يقضي الجلوس، وفي رواية ابن سماعة لو استيقظ هذا النائم قبل أن يسجدها الإمام، فإنه (126أ1) يصلي ما صلى إمامه، ولا يسجد تلك السجدة حتى يسجدها إمامه، فيسجدها معه؛ لأنه لا يجزئه أن يسجدها قبله، وكذلك إن لم يكن نام، ولكن سبقه الحدث فذهب وتوضأ، ثم انصرف.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: رجل دخل في صلاة إمام بعدما صلى الإمام ركعة فلما كبر رعف، فذهب، وتوضأ، ثم جاء، وقد صلى الإمام ركعتين أخريتين، وبقيت عليه ركعة فاتبع الإمام حين جاء ولم يقض ما فاته، وصلى معه الرابعة، قال: يقوم ويصلي ركعة بغير قراءة ويقعد، ويصلي ركعة أخرى بغير قراءة، ويقعد؛ لأن بالنية وافقه الإمام، ثم يصلي ركعة بقراءة لأنه أول صلاته.
وفي «نوادر» أبي سليمان عن محمد لو نام الرجل خلف الإمام في التشهد الأخير، فلم يقرأ التشهد، وقرأه الإمام، ثم ضحك هذا الرجل بعدما انتبه قبل أن يتشهد، قال: عليه الوضوء لصلاة أخرى، وصلاته تامة، وإنما وجب عليه الوضوء، وإن كان الإمام قد(2/212)
سلم؛ لأن المقتدي إنما يخرج من حرمة الصلاة بتسليم الإمام إذا لم يكن عليه شيء من واجبات الصلاة، وههنا عليه التشهد.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف سبق، فقام يقضي قال أبو حنيفة: صلاته فاسدة وقال أبو يوسف: صلاته تامة، وإنما فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بالاقتداء بالقارىء التزم صلاة بقراءة، وقد عجز عن إتمامها بذلك فجاء الفساد، وعلى هذا إذا صلى ركعة بركوع، وسجود ثم مرض، وصار إلى حالة الإتمام، فصلاته فاسدة في قول أبي حنيفة؛ لأنه التزم صلاة بركوع وسجود خلافاً لأبي يوسف. وروى المعلا عن أبي يوسف في الأخريين الخلاف على نحو ما ذكرنا في الأمي.
ابن سماعة في «الرقيات» عن محمد: رجل فاتته ركعة مع الإمام فلما تشهد الإمام قام الرجل يقضي ركعته، وقد كان الإمام نسي سجدة عليه من تلاوة، فلما سلم الإمام ذكر السجدة التي عليه من التلاوة قد فرغ الرجل من ركعته، أو لم يفرغ منها حتى سجد الإمام سجدة التلاوة، ومضى الرجل في ركعته، ولم يسجد معه سجدة التلاوة، قال محمد رحمه الله: إذا ركع، وسجد قبل أن يسجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته تامة؛ لأنه خرج من صلاة الإمام بالفراغ من تشهد الإمام قبل أن يبطل تشهد الإمام، فإن كان ركع وسجد بعدما سجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته فاسدة؛ لأن بعود الإمام يبطل تشهده؛ لأن من حق سجدة التلاوة الواجبة في الصلاة؛ أن تؤدى في الصلاة ولا تؤدى خارج الصلاة.
أرأيت لو نسي الإمام سجدة تلاوة حتى سلم، وتفرق القوم غير أن الإمام بعد في مصلاه، ثم تذكر الإمام السجدة وسجدها، فمن خرج من المسجد، أو تكلم قبل أن يسجدها الإمام فصلاته فاسدة. قال: وإنما هو بمنزلة مسافر صلى ركعتين، ثم تشهد، فخرج بعض القوم من المسجد، أو تكلم، ثم نوى المسافر الإقامة.
الفصل الرابع والثلاثون في المصلي إذا كبر ينوي الشروع في الصلاة التي هو فيهاأو في صلاة أخرى أو ينوي بخلاف ما نوى قبل ذلك
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : في رجل افتتح الظهر؛ وصلى منها ركعة ثم افتتح العصر، أو التطوع فقد نقض الظهر؛ لأن العصر غير الظهر، وكذا التطوع غير الفرض، وله ولاية الشروع فيهما، فإذا افتتح واحداً منهما يعني العصر، أو التطوع صح الافتتاح، وصار شارعاً فيه، وإذا صار شارعاً فيه يصير خارجاً عن الآخر ضرورة فيبطل الآخر.
وإن افتتح الظهر بعدما صلى ركعة فهي تجزئه، وتجزئه تلك الركعة عن الظهر، فيصلي بعده ثلاث ركعات ويتم الظهر؛ لأنه نوى الشروع في شيء هو فيه، وذلك باطل فلغت نيته ويبقى في ظهره، فإن صلى أربعاً بعد ذلك على تقدير أنه افتتح الصلاة، ولم(2/213)
يقعد في الثالثة فسدت صلاته؛ لأن هذه الثالثة رابعة صلاته حقيقة، وإن كانت ثالثة في ظنه، فقد ترك القعدة الأخيرة فتفسد صلاته.
ولو نوى بالتكبير هذه الفريضة، وفريضة أخرى أو تطوعاً لم يخرج عن هذه الفريضة إذا نوى غيرها على حدة.
رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسياً، ثم ذكر فظن أن ذلك يقطع الصلاة، فاستقبل التكبير، ونوى به الدخول في الظهر ثانية، وهو إمام قومه، فكبروا معه ينوون ذلك فهم على صلاتهم الأولى يصلون ما بقي منها، ويسجدون السهو، وذلك لأنه لو خرج عن الصلاة لا يخلو إما أن يخرج بالسلام، أو بالنية، أو بالتكبير لا جائز أن يصير خارجاً بالسلام؛ لأن هذا سلام الساهي لأن حد السهو أن يسلم، وعليه ركن من أركان الصلاة وهو لا يعلم به، وقد وجد هذا الحد هنا فكان سلام الساهي، وقد ذكرنا غير مرة أن سلام الساهي لا يخرج المصلي عن الصلاة. لا جائز أن يصير خارجاً بالنية؛ لأنه نوى إيجاد الموجود وذلك لغو، فصار وجود النية وعدمه بمنزلة. ولا جائز أن يصير خارجاً بمجرد التكبير؛ لأن التكبير وجد في وسط الصلاة، والتكبير في وسط الصلاة، فلا يخرجه عن الصلاة. إذا ثبت أنه لا يصير خارجاً عن الصلاة الأولى، فإذا قعد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة تجوز صلاته، لأنه صلى الظهر خمساً، وقعد في الرابعة قدر التشهد تجوز صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعد في الرابعة قدر التشهد، فسدت صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل قبل إكمال الفرض.
ثم إذا جازت صلاته بأن قعد في الرابعة قدر التشهد؛ فإنه يجب عليه سجدتا السهو بتأخير الركن عن محله، وهو القيام إلى الركعة الثالثة؛ لأنه حين كان قعد على رأس الركعتين يفترض عليه القيام بعدما تشهد، فإن اشتغل بالدعوات، فقد أخر الركن، وهي الركعة الثالثة، فتجب سجدتا السهو.
فرق بين هذا وبين ما إذا كبر ينوي العصر، أو ينوي التطوع، فإنه يصير خارجاً عن الظهر داخلاً في العصر أو في التطوع، وهنا لا يصير خارجاً.
ووجه الفرق: وهو أن هناك نوى شيئاً ليس هو فيه، لأنه نوى العصر وهو ليس في العصر، فالنية الثانية أفادت غير ما أفادته الأولى، فتكون معتبرة، وإذا كانت معتبرة صار شارعاً إلى العصر، ومن ضرورة الشروع في العصر الخروج عن الظهر. فأما هنا نوى شيئاً هو فيه، فلم تفد الثانية إلا ما أفادته الأولى، فلغت الثانية، فلهذا لا يصير خارجاً عن الأولى.
ونظير هذا رجل باع شيئاً بألف، ثم باعه ثانياً بألف، فالبيع الثاني باطل، والبيع الأول على حاله؛ لأن الثاني لم يفد غير ما أفاده الأول، فيتضمن البيع الثاني انفساخ البيع الأول كذلك ههنا.
وفرق بين هذا وبينما إذا سلم على رأس الركعتين من الظهر، وهو يظن أنه صلاة الفجر، أو صلاة المسافر، أو سلم على رأس الثالثة، وهو يظن أنه المغرب أو الوتر، فإن(2/214)
هناك يصير خارجاً عن الصلاة وهنا لا.
والفرق: وهو أن هناك السلام سلام عمد؛ لأنه سلم وهو عالم أنه صلى ركعتين لا غير، والسلام العمد يخرجه من الصلاة. أما ها هنا السلام سلام الساهي؛ لأنه سلم وقد بقي عليه أركان الصلاة، وهذا هو حد السهو، والسلام الساهي لا يخرجه عن الصلاة.
فإذا صلوا أربع ركعات بعدما صلى ركعتين إن قعدوا على رأس الثانية جازت صلاته، والركعتين الأوليين من هذا الأربع فريضة تمام صلاة الظهر، والركعتين الأخرتين نافلة، ويجوز هذا؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعدوا على رأس الثانية فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل إكمال الفرض.
وإذا صلى من المغرب ركعتين، وقعد قدر التشهد، وزعم أنه أتمها، فسلم، ثم قام وكبر ينوي الدخول في سنّة المغرب، ثم تذكر أنه لم يتم المغرب، وقد سجد للسنّة، أو لم يسجد فصلاة المغرب فاسدة؛ لأنه كبر ونوى الدخول في صلاة أخرى، فيكون منتقلاً من الفرض قبل إتمامه إلى التطوع. أما إذا سلم وتذكر فحسب أن صلاته فاسدة، فقام، وكبر للمغرب ثانياً وصلى ثلاثاً.
إن صلى ركعة وقعد، قدر التشهد أجزأه المغرب وإلا فلا؛ لأن نية المغرب ثانياً لم تصح بقي مجرد التكبير وذا لا يخرجه عن الصلاة. وإن افتتح المغرب، وصلى ركعة وظن أنه لم يكبر الافتتاح فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية جازت صلاته؛ لأنه في المرة الثانية قعد على رأس الثانية بزعمه، وهي ثالثته على الحقيقة.
ولو صلى المغرب ركعتين وظن أنه لم يفتتح، فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية والثالثة لا تجوز صلاته؛ لأن من حقه أن يقعد على الركعة الأولى؛ لأنها ثالثته على الحقيقة، فإذا لم يقعد، فقد ترك القعدة على رأس الثالثة وإنه يوجب فساد الصلاة.
وإذا صلى الظهر أربعاً فلما سلم تذكر أنه ترك سجدة منها ساهياً، ثم قام واستقبل الصلاة، وصلى أربعاً، وسلم وذهب، فسد ظهره؛ لأن نية دخوله في الظهر ثانياً لغو، فإذا صلى ركعة فقد خلط المكتوبة بالنافلة قبل الفراغ من المكتوبة.
وإذا صلى الغداة بقوم فقال له رجل من القوم: تركت سجدة من صلب الصلاة، فقام الإمام وكبروا استأنف الصلاة (126ب1) .
لا تجزئه لا الأولى ولا الثانية؛ لأن هذه التكبيرة لم تخرجه عن الأولى، فلقد خلط النافلة بالمكتوبة قبل الفراغ من المكتوبة.
وفي «فتاوى الفضلي» : المسبوق إذا شك في صلاته بعد ما قام إلى قضائها أنه سبق بركعة أو بركعتين فكبر ينوي الاستقبال يخرج عن صلاته؛ لأن حكم صلاة المسبوق، وحكم صلاة المنفرد مختلفان ألا ترى أن الاقتداء بالمسبوق لا يصح وبالمنفرد يصح، فإذا أقبل على إحديهما وكبر ثبت الانتقال إلى الأخرى، كمن انتقل بالتكبير من فرض إلى نفل، أو من نفل إلى فرض.(2/215)
وكذلك المسبوق إذا سلم مع الإمام ناسياً، وظن أن ذلك مفسد، فكبر ونوى به الاستقبال كان خارجاً عن صلاته، والمعنى ما ذكرنا، وهذا بخلاف المنفرد إذا شك المنفرد فكبر ينوي الاستقبال حيث لا يكون خارجاً عن صلاته؛ لأن هناك الصلاة لم تختلف، فهو بمنزلة ما لو كان في الظهر، فكبر ينوي الظهر أو كان في العصر فكبر ينوي العصر، وهناك لا يصير خارجاً عن صلاته، كذا في المنفرد، ولا كذلك المسبوق على ما ذكرنا.
وفي «الرقيات» : كتب ابن سماعة إلى محمد في رجل صلى خلف إمام ركعة من صلاة فريضة (ثم) أن المأمور نوى أن يصلي صلاته لنفسه، أو نوى أن يؤم إمامه فيما بقي من الصلاة، فمضى على نيته ذلك، ويركع ويسجد ينوى بذلك كله الصلاة لنفسه أو يؤم أمامه ولا ينوي اتباع الإمام في شيء من ذلك غير أن ركوعه وسجوده كان بعد ركوع الإمام وسجوده، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتم صلاته، قال: صلاته تامة، ولا يخرجه شيء من ذلك من صلاة الإمام؛ لأنه لم يفتتح الصلاة بتكبير مستقبل.
قال: ولا يشبه هذا أن يأتم ببعض المأمومين إذا ائتم ببعض المأمومين، فقد خرج من صلاة إمام إلى صلاة إمام غيره أما هنا بخلافه، فالرجل لا يكون إمام نفسه.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل دخل مع الإمام في صلاة الظهر ينوى التطوع ثم ذكر أنه لم يصل الظهر فقطعها ثم استأنف التكبير معه ينوي الظهر، فلا قضاء عليه لما كان من النافلة؛ لأنها صلاة واحدة، فإذا صلاها لم يكن عليه أن يقضيها، وكذلك لو دخل فيها ينوي الظهر ثم تكلم، ثم استقبل التكبير والدخول فيها ينوي النافلة ثم أفسدها لم يكن عليه إلا المكتوبة.
وفي «نوادر هشام» : قال: سمعت محمداً في رجل صلى المغرب في منزله ثم أدرك الجماعة، فدخل معهم والإمام في التشهد في آخر صلاته، قال: فإذا سلم الإمام فعلى هذا الداخل معه أن يصلي أربعاً كما يصلي الظهر، لكن يقرأ في كل ركعة بالفاتحة والسورة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام ويمضي في صلاته لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام، ولم يقرأ ثم علم، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أن في الفصل الأول وجد ما هو من أعمال القيام وهو القراءة، فاعتبر قياماً، وفي الفصل الثاني وجد مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل يصلي بإيماء، فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ، وكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزته صلاته، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة أو بزيادة ركوع أو سجود.(2/216)
ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنه (في) الركعة الثانية، فنوى أن يكون قائماً، فقرأ {الحمد} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة ولا يقول التشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.
ذكر هو في «المنتقى» أيضاً: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أن هذه الثالثة وصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته.
ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث فيه في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته، وبه ختم.
الفصل الخامس والثلاثون في المتفرقات
رجل أسلم في دار الحرب، فمكث فيها شهراً ولم يعلم أن عليه صلاة، فليس عليه قضاؤها، وقال زفر رحمه الله عليه قضاؤها؛ لأن بقبول الإسلام صار ملتزماً أحكام الإسلام، ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله له، وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب، كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة.
حجتنا: أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل علمه به، ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية التوجه إلى الكعبة، وجوز ذلك لهم رسول الله عليه السلام، لأنه لم يبلغهم التوجه للكعبة، وكذلك شرب بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الخمر بعد نزول آية التحريم قبل علمهم، وفيه نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 93) والمعنى فيه، وهو أن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع الآدمي الائتمار قبل العلم، فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى، ولهذا قلنا أن الحجر في حق المأذون والقول في حق الوكيل لا يثبت قبل العلم.
قال: والعلم الذي (يجب) به عليهم الصلاة أن يخبره بذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وإن كان ذمياً أسلم في دار الإسلام، فعليه قضاؤها استحساناً. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: هما في القياس سواء، ولا قضاء عليهما حتى تلزمهما الحجة، وهو(2/217)
قول الحسن رحمه الله، ولكنا ندع القياس ونقول كما قال أبو حنيفة.
وجه القياس يأتينا أن الشرائع لا تلزمه إلا بالعلم والسماع، ولم يوجد، فلا يلزمه القضاء.
وجه الاستحسان: وهو أن الخطاب شائع في دار الإسلام، فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم به؛ لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل واحد، إنما الذي في وسعه أن يجعل الخطاب شائعاً، ولأنه ما دام في دار الإسلام يسمع الأذان والإقامة، ويرى حضور الناس الجماعات في كل وقت، فإنما اشتبه عليه ما لا يشتبه ولأنه في دار الإسلام يجد من يسأل عنه، فترك السؤال منه تقصير بخلاف دار الحرب.
وعنه أيضاً: من أسلم ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة أو زكاة أو صيام، وهو في دار الحرب أو في دار الإسلام، قال: ليس عليه قضاؤها معنى، قال: وإن أعلمه بذلك رجلان أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط فيه من وقت إعلامه، في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام.
فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد، فعليه القضاء فيما ترك عندهما، وهو إحدى الروايتين عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه: لا يلزمه القضاء حتى يخبره رجلان عدلان مسلمان أو رجل وامرأتان، وهذا بناءً على أصل معروف، وهو أن خبر الواحد هل هو حجة ملزمة أم لا، عند أبي حنيفة: لا يكون حجة، وعندهما: يكون حجة، فالعدد ليس بشرط عندهما.
وأما العدالة هل هي شرط؟ عندها جواب «المبسوط» أنهما شرط عندهما، وروى الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنها ليس بشرط عندهما، حتى إذا أخبره رجل فاسق أو صبي أو امرأة أو عبد، فإن الصلاة تلزمه، وموضع هذا كتاب الاستحسان.
وجه رواية الحسن: وهو أن هذا خبر ملزم، فيشترط فيه العدد كالحجر على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية العبد، ووجه الرواية الأخرى وهو قولهما وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ، قال عليه السلام: «رحم الله امرءاً سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها، ثم أداها إلى من لم يسمعها» فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك يلزم فههنا كذلك.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: من أخبره من عبد أو صبي أو فاسق، فهو إعلام وعليه قضاء ما لم يصلِ بعد الإعلام، وعن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أخبره بذلك أناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً مما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه وهو في دار الحرب لم يقض وإن كان في دار الإسلام. قضى (127ب1) .
ذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله فيمن قال: لله عليّ أن أصلي(2/218)
نصف ركعة أو أحج نصف حجة، قال: لا شيء عليه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي ركعة أو أصوم من نصف يوم وجب عليه صوم يوم وصلاة ركعتين.
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي نصف ركعة، فعليه ركعتان، فلو قال: لله عليّ أن أصلي ثلاث ركعات، فعليه أربع ركعات، فصار عن أبي يوسف في قوله: نصف ركعة روايتان. المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي الظهر ثماني ركعات ليس عليه إلا الأربع.
رجل دخل مع الإمام في الركعة الثالثة من المغرب ينوي به التطوع، فإنه يصلي الثالثة معه، فإذا سلم الإمام قام هو يصلي ثلاث ركعات بقراءة، يقعد في الأولى منهن؛ لأن شروعه في صلاة قد صح، فيلزمه ما على إمامه، والذي على إمامه ثلاث ركعات، إلا أن التطوع ثلاث ركعات غير مشروع، فلهذا يضم إليه الرابعة حتى يصير متطوعاً بأربع ركعات، وهذا لأن الشروع كالنذر، ثم لو نذر ثلاث ركعات يلزمه أربع ركعات، فكذلك إذا شرع في ثلاث ركعات وجب أن يلزمه أربع ركعات، ويقرأ في الثلاث كلها، لأنها تطوع والقراءة في التطوع في كل ركعة فرض، ويقعد في الأولى من الثلاث؛ لأن الأولى من الثلاث ثانية صلاته، والقعدة على رأس الركعتين من التطوع واجب، فإن لم يقعد في الأولى منهن جازت صلاته استحساناً، وهو قولهما.
وفي القياس تفسد صلاته، وهو قول محمد وزفر رحمهما الله، ولا يقعد في الثانية من الثلاث؛ لأنها ثالثته، والقعدة على رأس الثالثة من التطوع بدعة غير مشروعة، ويقعد في الثالثة ويسلم؛ لأنها آخر صلاته، والقعدة في آخر الصلاة فرض.
الرجل إذا كان خلف الإمام، ففرغ الإمام من السورة لا يكره له أن يقول صدق الله، وبلغت رسله، ولكن الأفضل أن لا يقول ذلك. ذكره شيخ الإسلام في «شرحه» .
وفي «الأصل» : إذا صلى وقدامه عَذَرَة أو بول لا يفسد ذلك صلاته، ولكن المستحب له أن يبعد عن موضع النجاسة عند الصلاة، ورأيت في موضع آخر: ويكره أن يصلي وقدامه عَذَرَةٌ أو بول.
وفي «الأصل» أيضاً: يكره للمسافر أن يصلي على الطريق، بل ينبغي له أن يتنحى عن الطريق؛ لأن الطريق مشغول بحق المسلمين، فهو كما لو صلى في أرض مغصوبة، فإن وجد موضعاً مباحاً يصلي في ذلك الموضع ولا يصلي على الطريق، فإن لم يجد موضعاً مباحاً ولكن وجد أراضي الناس، فإن كانت الأراضي مزروعة لا يصلي في الأراضي، ولكن على الطريق؛ لأن الضرر في الصلاة في الأراضي في هذه الصورة أكثر من الضرر في الصلاة في الطريق، وإن لم تكن الأراضي مزروعة يصلي في الأراضي، ولا يصلي في الطريق، وإن كانت الأرض للذمي، فالصلاة في الطريق أولى من الصلاة في الأرض.
وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما؛ لأن القضاء معتبر بالأداء، فكما أن الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء.(2/219)
وعند الشافعي رحمه الله: من ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها؛ لأنه حصل قبل أوانه. وهذا بناءً على أصله أن زيادة الركعة، والركعتين في احتمال الرفض والإلغاء كزيادة ما دون الركعة، فإنه عندنا زيادة الركعة الواحدة لا يحتمل الرفض والإلغاء والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة، فأداء الركعة الثانية أداء معتبر، فليس عليه إلا قضاء المتروك، وعند الشافعي رحمه الله: الركعة لا تتقيد بسجدة واحدة بل تتقيد بسجدتين.
وجه قوله: أن وجود الركعة الثانية إنما يكون بعد تمام الركعة الأولى، وتمام الركعة الأولى إنما يكون بالسجدتين، وهذا الرجل لم يسجد سجدتين، فلم يصح القيام إلى الثانية، والركعة الأولى محتاجة إلى سجدة واحدة، فالتحقت السجدة الواحدة من الركعة الثانية إلى الركعة الأولى، فصارت الأولى ركعة تامة.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: وجود الركعة الثانية إنما يكون بوجود الركعة الأولى، ووجود الركعة الأولى إنما يكون بوجود أركانها، وأركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، والسجدة الأخيرة شرعت متمة للركعة، وتمام الشيء وصفه، والشيء إنما يوجد بوجود أصله، لا بوجود وصفه، وقد وجد هنا أصل الركعة وهو القيام والقراءة والركوع والسجدة، فيصح القيام إلى الثانية، وإذا صح القيام إلى الثانية، فعليه أن يسجد سجدتين، وكذلك إذا ترك ثلاث سجدات من ثلاث ركعات، ثم ذكر في الرابعة فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، لأن عليه أن يبدأ بالأولى فالأولى، والأسبق فالأسبق، وعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر ركناً وتأخير الركن يوجب سجدتي السهو إذا كان ناسياً.
قال: وكذلك إذا كانت إحديهما تلاوة والأخرى صلبية، فإنه يبدأ بالأولى منهما، وقال زفر رحمه الله: يبدأ بالصلبية؛ لأنها أقوى، ولكنا نقول: القضاء معتبر بالأداء، فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى، والصلبية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها في الأداء، فكذلك في القضاء.
وإذا سلم وانصرف ثم ذكر أن عليه سجدة صلبية أو سجدة تلاوة، فإن كان في المسجد لم يتكلم عاد إلى صلاته استحساناً، وفي القياس: إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته، وهو رواية محمد رحمه الله.
وجه القياس: وهو أن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام، فيمنعه من البناء.
وجه الاستحسان: وهو أن المسجد من حيث إنه مكان الصلاة مكان واحد على ما عرف فبقاؤه في المسجد كبقائه في مكان الصلاة، وصرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة، كما في حق الملتفت في صلاته.m
وهذا القياس والاستحسان نظير القياس والاستحسان فيمن ظن في صلاته أنه رعف، فانسحب ليتوضأ، فوجده مخاطاً، وهو في المسجد، وهناك يبنى على صلاته استسحاناً، وفي القياس: لا يبني، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى، هذا إذا كان(2/220)
يذهبُ ووجهه إلى القبلة بأن كان باب المسجد على حائط القبلة، فأما إذا أعرض عن القبلة بوجهه تفسد صلاته وإن كان في المسجد قياساً واستحساناً..
فإن خرج من المسجد فسدت صلاته في الصلبية؛ لأنها من أركان الصلاة، فتركها يوجب فساد الصلاة، وإن كانت تلاوة لا توجب فساد الصلاة لما ذكرنا أنها واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وعلل محمد رحمه الله في الصلبية لفساد صلاته بالخروج عن المسجد، فقال: لو بقي في الصلاة وقد خرج من المسجد لبقي فيها وقد مشى فرسخاً أو فرسخين، وهذا فسخ محال هذا إذا كان في المسجد.
فإن كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد إلى مكان الصلاة وأتم الصلاة؛ لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء.
ولم يذكر في «الكتاب» إذا كان يمشي أمامه. وقيل: وقته بقدر الصفوف خلفه اعتباراً لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده، فذلك في حكم خروجه من المسجد لمنعه من البناء بعد ذلك.
ذكر الإمام السرخسي رحمه الله وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم: رجل افتتح الصلاة، فقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، ثم ذكر ذلك قبل أن يصلي الثالثة، فهذا قد صلى ركعة واحدة؛ لأنه لما قام في الركعة الأولى فقرأ وركع، فقد صح هذا الركوع؛ لأنه حصل، بعد قيام وقراءة فوقع معتبراً إلا أن توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية لم يصح قيامه؛ لأنه إنما يصح القيام من الأولى إلى الثانية بعد تمام الأولى، وهنا قام إلى الثانية قبل تمام الأولى، فلم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالسجدتان لا تكونان معتبرتين من الركعة الثانية؛ لأنهما حصلتا قبل الركوع، والركعة الأولى محتاجة إلى وجود سجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة.
فلو أنه قام وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع وسجد ثم قام في الثالثة وسجد سجدتين ولم يركع قال: هذا إنما صلى ركعة واحدة بالاتفاق، إلا أنه اختلفت الروايات أن المعتبر هي الركعة الأولى، وفي رواية باب السهو: المعتبر هي الثانية.
وجه رواية باب الحدث وهو أنه لما قام وركع، فقد وقع هذا الركوع موقعه إلا أنه يوقف هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالتحقت السجدتان بالركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الثانية والثالثة.
وجه (128أ1) رواية باب السهو وهو أنه لما قام إلى الثانية وركع وسجد، فقد وقعت هذه السجدة محلها؛ لأنها حصلت بعد قيام وركوع، ومن ضرورة وقوعها محلها بطلان الأولى، فكانت المعتبرة هي الركعة الثانية وبطلت الثالثة أيضاً؛ لأن هذه سجدة حصلت قبل الركوع، فلا يكون معتبراً.
فلو أنه قام وسجد ولم يركع ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة(2/221)
وركع وسجد، قال: هذا صلى ركعة واحدة أما في رواية باب الحدث: المعتبر هي الركعة الثانية؛ لأنه لما قام وسجد ولم يركع لا تكون هذه السجدة معتبرة؛ لأنها حصلت قبل الركوع، فلما قام إلى الثانية وركع صح هذا الركوع؛ لأنه حصل بعد قيام، إلا أنه توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثالثة لم يصح قيامه وركوعه؛ لأنه قام وركع قبل تمام الثانية، فصار كأنه لم يقم ولم يركع وسجد سجدتين، والركعة الثانية محتاجة إلى وجود السجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الثانية، فصار المعتبر هي الركعة الثانية، وفي رواية باب السهو المعتبر هي الركعة الثالثة، والمعنى ما بينا.
فلو أنه قام وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة وسجد ولم يركع، فهذا قد صلى ركعة واحدة في الزيادات كلها؛ لأنه لما قام في الأولى وركع ولم يسجد وقع هذا الركوع معتبراً؛ لأنه حصل بعد قيام وقراءة، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه وركوعه، فإذا قام إلى الثالثة وسجد التحقت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الوسطى وعليه سجود السهو في المسائل كلها؛ لأنه أخر ركناً من أركان الصلاة، وبتأخير الركن تجب سجدتا السهو، ولا تفسد صلاته إلا في رواية عن محمد رحمه الله، فإنه يقول: زيادة السجدة الواحدة كزيادة ركعة، بناءً على أصله أن السجدة الواحدة قربة. بيانه في سجود الشكر.
فأما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة، وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسداً للصلاة إذا سلم وعليه سجدة السهو، فسجدها أو سجد إحديهما ثم أحدث متعمداً أو قهقهة، فإن صلاته تامة وعليه الوضوء لصلاة أخرى في القهقهة؛ لأن حال ما بعد سجدتي السهو أو بعد إحديهما كحال قعود مقدار التشهد، ولو فعل شيئاً من هذه الأشياء بعدما قعد قدر التشهد لا تفسد صلاته، فكذلك ههنا إذا اقتدى المتطوع، فصلى الظهر في أول صلاته أو في آخر صلاته قطعها، فعليه قضاء أربع ركعات، وهو قياس المسافر يقتدي بالمقيم في صلاة الظهر ثم يقطعه على نفسه.
فرق بين هذا وبين الرجل إذا افتتح التطوع ينوي أربع ركعات، فلما صلى ركعتين بدا له أن يتمها، فسلم على رأس الركعتين، فإنه لا تلزمه الركعتان عند أبي حنيفة ومحمد، وهو الظاهر من قول أبي يوسف.
افتتح الظهر، فنوى أن يصليها ستاً ثم بدا له وسلم على الأربع تمت صلاته، وكذلك إن دخل المسافر في صلاة الظهر، ونوى أن يصلي أربع ركعات، فبدا له فصلى ركعتين جازت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك يكون لغواً، وليس عليه شيء، معناه: لا يجب عليه سجدتا السهو.
افتتح التطوع ونوى ركعتين وصلى ركعة بقراءة وركعة بغير قراءة فسدت صلاته، فإن لم يسلم حتى قام وصلى ركعتين وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأولى، فإنه لا تجزئه وعليه أن يستقبل الصلاة ركعتين، وكذلك إذا صلى الفجر وقرأ في ركعة منها، ولم يقرأ في(2/222)
الأخرى فسدت صلاته، ولو أنه لم يسلم ولكن قام وصلى ركعتين، وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأوليين، فإنه لا تجزئة وعليه أن يستقبل الصلاة.
وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجزئه صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر، فجعل يركع مع الإمام وهو قاعد ويسجد، قال: لا تجزئة، وإن كان لم يسجد بالأرض، لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم، ويتبع الإمام في صلاته وهي تامة، أي صلاته تامة، وقد أتى فيما فعل يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته، أنه إذا أومأ بالركوع والسجود ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً للمأمور به وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته، وقوله: وقد أساء فيما فعل، معناه: وقد أساء فيما أومأ أول مرة والله أعلم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا قعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع، ثم سها وقام إلى الخامسة، فجاء إنسان واقتدى به يريد التطوع، فعليه قضاء ست ركعات، لأنها صلاة واحدة.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف: إذا سلم الإمام عن يمينه وعليه سجدتا السهو، فجاء إنسان واقتدى به في هذه الحالة يريد التطوع، ثم تكلم قبل أن يسجد الإمام، فليس عليه شيء وإن سجد الإمام ولم يسجد الرجل معه ثم تكلم، فعليه قضاء الأربع، وهذا لأن السلام محلل قاطع حرمة الصلاة، إلا أنه إذا كان عليه سهو تعود حرمة الصلاة إذا سجد، وإذا لم يسجد لم تعد، وظهر أن الاقتداء لم يصح، فلا يلزمه شيء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: لو أن رجلاً مسافراً صلى ركعتين ولم يقعد على رأس الثانية حتى قام ساهياً، وهو يظن أنه صلى ركعة، فدخل رجل معه في هذه الحالة يريد التطوع، ثم إن الإمام أخبر بما صنع فقطع صلاته، فعلى هذا الداخل معه أن يصلي ركعتين، وإن قعد المسافر على رأس الثانية ثم قام ساهياً أو عامداً وصلى ركعتين تمام الأربع، فدخل معه هذا الرجل في صلاته يريد التطوع، فعليه أربع ركعات.
وفي «الرقيات» : عن ابن سماعة عن محمد افتتح الرجل صلاة ينويها ظهراً ظنها عليه، ثم دخل معه رجل في آخر صلاته يريد التطوع ثم رفضها الإمام، وأفسدها لما علم أنه ليس عليه، فلا شيء عليه ولا على الداخل.
الإمام إذا قام إلى الخامسة ناسياً قبل أن يقعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع ثم عاد الإمام إلى القعدة ولم يعد المقتدي وقيد الخامسة بالسجدة، جازت صلاة الإمام. واختلفوا في صلاة المقتدي، والإعادة أحوط.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من جمع بين صلاتين بغير عذر، فقد أتى باباً من أبواب الكبائر» ، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر رحمه الله قال رحمه الله:(2/223)
والنوم ليس بتفريط، وروي عن رسول الله عليه السلام: «وإنما التفريط أن يدع الرجل الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» .
وفي «متفرقات أبي جعفر» : أن رجلاً جاء والإمام لم يسجد بعد فكبر، ولم يشاركه في الركوع حتى رفع الإمام رأسه، قال: يسجد معه على سبيل المتابعة، قال: ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أدرك الإمام وهو قائم، فكبر وركع الإمام ولم يركع هو معه، وسجد الإمام ولم يسجد هو معه أيضاً ولم يتابعه حتى تفرد وأدى الركوع والسجدتين جميعاً في حالة الانفراد، لا تفسد صلاته، وكذلك لو جاء والإمام راكع، فلم يتابعه في الركوع حتى رفع رأسه ثم تفرد بالركوع جازت صلاته.
رجل معه ثوبان بأحدهما نجاسة خفيفة لا يعلم بأيهما، فصلى في إحدى الثوبين الظهر وفي الآخر العصر، وفي الأول المغرب، وفي الآخر العشاء، ذكر هذه المسألة في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» ، وذكر أن فيها ثلاثة أجوبة عن أصحابنا رحمهم الله.
روي في كتاب «التحري» عن علمائنا المتقدمين أن صلاة الظهر والمغرب جائزتان، وصلاة العصر والعشاء فاسدتان، وروي عن خلف بن أيوب أن صلاة الظهر جائزة وما سواها فاسدة، وعن أبي القاسم أحمد بن ... أن الصلوات كلها جائزة.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله......... إنه إنما اختلفت أجوبتهم لا ختلاف الوضع، فمن قال بأن الصلوات كلها جائزة، فوضع المسألة عنده أن هذا الشخص حال ما أراد أن يصلي الظهر تحرى، ووقع تحريه على أحد الثوبين أنه هو الطاهر بعلامة رأى فيه، فصلى فيه الظهر ثم ظهر عنده أن الثوب الثاني هو الطاهر بعلامة رأى فيه حال ما أراد أن يصلي العصر، فصلى العصر في الثوب الآخر، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي المغرب أن الطاهر هو الثوب الأول، فصلى فيه المغرب، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي العشاء أن الطاهر هو الثوب الثاني، فصلى العشاء في الثوب الثاني، وإنما جازت الصلاة كلها في هذه الصورة؛ لأن اجتهاد الرأي إذا افضى إلى طهارة ثوب يجب عليه أن يصلي فيه، ولا يسعه غير ذلك، فقد صلى في كل ثوب بإيجاب الشرع أداء الصلاة فيه فيجوز.
ومن قال بجواز صلاة الظهر والمغرب وبفساد العصر والعشاء، فوضع المسألة عنده أنه تحرى ووقع تحريه على أحد الثوبين، أنه طاهر من غير أن يرى فيه علامة تدل على طهارته، فصلى فيه الظهر، ثم صلى العصر في الآخر من غير تحر ومن غير أنه وقع في رأيه أنه هو الطاهر، ثم صلى المغرب ولم يعلم بأن عليه إحدى الصلاتين (128ب1) الأوليين ثم صلى العشاء، وإنما جاز ظهره في هذه الصورة لأنه أداها في ثوب طاهر(2/224)
عنده، وإنما فسد العصر لأنه أداها في ثوب نجس عنده، وهو غير مضطر إلى الصلاة فيه.
وإنما جاز المغرب، لأنه صلاها وفي زعمه أنه ليس عليه فائتة وإنما فسدت العشاء لأنه صلاها في حين حكمنا بنجاسته حين حكمنا بجواز الظهر، وهو غير مضطر في الصلاة فيه باجتهاده ورأيه.
ومن قال بجواز الظهر وبفساد ما عداها من الصلاة، فوضع المسألة على قوله: أنه صلى الظهر في أحد الثوبين من غير تحر، ثم صلى العصر من غير تحر في الثوب الآخر، ثم صلى المغرب وهو يعلم بفساد العصر ثم صلى العشاء والله تعالى أعلم.
مسائل هذا الكتاب مبنية على أصول معروفة في كتاب الصلاة
أحدها: أن الترتيب في أركان الصلاة شرط أدائها إلا فيما شرعت مكرّرة كالسجدتين، فإن الترتيب في أداء السجدتين ليس بشرط، حتى لو أتى بالسجدة الأولى في آخر الصلاة تجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما لم يشترط الترتيب فيهما بالنص واعتباراً بالركعات، فإن الترتيب في أداء الركعات ليس بشرط لما كانت الركعات مكررة حتى إنه لو أدرك الإمام في الركعة الثانية من صلاة الفجر وصلى معه، فإنه تجزئه، وإن صلى الثانية قبل الأولى.
وأصل آخر: أن المتروكة إذا قضيت التحقت بمحلها وصارت كالمؤداة في محلها.
وأصل آخر: أن سلام السهو لا يخرج المصلي عن حرمة الصلاة.
وأصل آخر: أن تأخير الركن يوجب سجدتي السهو.
وأصل آخر: أن السجدة إذا فاتت عن محلها لا تجوز إلا بنية القضاء، ومتى لم تفت عن محلها تجوز دون نية القضاء، وإنما تفوت عن محلها فتحلل ركعة كاملة، وبما دون الركعة الكاملة لا تفوت عن محلها، لأن ما دون الركعة محل الرفض، فكان في حكم العدم، والركعة الكاملة ليست بمحل الرفض، فلا تكون في حكم العدم.
وأصل آخر: أن زيادة ما دون الركعة الكاملة، لا يوجب فساد الصلاة، وزيادة الركعة الكاملة توجب فساد الصلاة إذا كانت الزيادة قبل إكمال أركان الفريضة، ومعنى زيادة ما دون الركعة الكاملة زيادة ركوع أو زيادة سجدة، ومعنى زيادة الركعة الكاملة ركوع وسجدة. وعن محمد أن زيادة السجدة الواحدة قبل إكمال الفريضة يفسدها.
وأصل آخر: أن الصلاة متى جازت من وجه وفسدت من وجه أو جازت من وجوه وفسدت من وجه يحكم بالفساد احتياطاً، لأمر المعتاد حتى يخرج عن عهدة ما لزمه ديناً في الذمة بيقين.
وأصل آخر: أن المأتي بها من السجدات إذا كان أقل من المتروكات فإنه يخرج المسألة عن اعتبار المأتي بها، وإن كانت المتروكات أقل من المأتي بها، فإنه يخرج المسألة على اعتبار المتروكات؛ لأن التخريج على الأقل أسهل، وإن كانا على السواء، فالمصلي به بالخيار إن شاء خرج المسألة على اعتبار المأتي بها، وإن شاء خرج المسألة على اعتبار المتروكة.(2/225)
وأصل آخر: إذا شك أنه ترك سجدة أو ركعة، فإنه يأتي بهما احتياطاً ليخرج عن عهدة ما عليه بيقين، وينبغي أن يقدم السجدة على الركعة، ولو قدم الركعة على السجدة تفسد صلاته، وإنما تفسد صلاته إذا قدم الركعة على السجدة؛ لأنه ربما يكون المتروك السجدة، فإذا أتى بالركعة يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإنه يتوجب فساد الصلاة، وأما إذا قدم السجدة على الركعة لا تفسد صلاته؛ لأنه إن كان المتروك هي السجدة، فإذا أتى بالسجدة فقد تمت صلاته، فبالإتيان بالركعة بعد ذلك يصير منتقلاً إلى الفعل بعد إكمال الفرض، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان المتروك الركعة، فإذا أتى بالسجدة تقع هذه السجدة زائدة وزيادة سجدة واحدة لا تفسد الصلاة، فلهذا قلنا: إنه يقدم السجدة، فإذا سجد يتشهد ثم يقوم ويصلي ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.
قال محمد رحمه الله: رجل صلى الغداة وترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة سواء علم أنه تركها من أي ركعة، وإذا أتى بها تمت صلاته إذ ليس فيه أكثر من أن يترك الترتيب في السجدة، أو أخر ركناً بعذر إلا أن الترتيب في السجدة ليس بشرط، وتأخير الركن بعذر غير جائز، فبعد ذلك ينظر إن علم أنه تركها من الركعة الأولى ينوي القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، أوإن علم أنه تركها من الركعة الثانية لا ينوي القضاء؛ لأنها لم تفت عن محلها، وإن لم يعلم أنه تركها من أي ركعة ينوي القضاء؛ لأن على أحد تقديرين يلزمه فيه القضاء، وعلى التقدير الآخر لا يلزمه فيه القضاء، فقلنا بأنه ينوي القضاء احتياطاً، ويستوي إن ذكرها قبل السلام أو بعده في الحالين جميعاً إذا سجد تلك السجدة تمت صلاته؛ لأن هذا سلام السهو؛ لأنه سلم وعليه ركن من أركان الصلاة، فلم يخرج عن حرمة الصلاة، فيصير مؤدياً السجدة في حرمة الصلاة، فتتم صلاته لهذا.
ثم إذا سجد ينبغي أن يعقد قدر التشهد؛ لأن تلك القعدة قد ارتفعت بالعود إلى السجدة؛ لأن محل السجدة قبل القعدة فترتفض القعدة بالعود إلى السجدة، ليكون إتماماً لسجدة في محلها ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو لها لتأخير ركن عن محله أو لزيادة قعدة أتى بها في الصلاة.
وإن ترك سجدتين منها، فهذه المسألة على أربعة أوجه:
إن علم أنه تركها من الركعة الأولى، فعليه أن يصلي ركعة واحدة بكمالها؛ لأن هذا الرجل ما صلى ركعة واحدة؛ لأنه أتى بركوعين؛ أحدهما: في الركعة الأولى، والثاني: في الركعة الثانية ثم أتى بسجدتين عقيبهما فهاتان السجدتان تنقلان إلى الركوع الأول على رواية باب الحدث وإن نقص الركوع الثاني، وعلى رواية باب السهو هاتان السجدتان للركوع الثاني ويرتفض الركوع الأول، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى.
وإن علم أنه تركهما من الركعة الثانية، فإن عليه أن يسجد سجدتين حتى يتم الركعة الثانية، ويقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو، وإن علم أنه تركهما من ركعتين، فإنه(2/226)
يسجد سجدتين ينوي بالأولى قضاء ما عليه، ولا ينوي بالثانية قضاء ما عليه، ثم يقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن لم يعلم أنه تركهما من أي ركعة، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه تلزمه سجدتان من وجهين: وهو ما إذا تركهما من ركعتين أو من الركعة الثانية، وتلزمه ركعة من وجه، وهو ما إذا تركهما من الركعة الأولى، فيجمع بينها احتياطاً، وينبغي أن يقدم السجدتين على الركعة؛ لأنه لو قدم الركعة على السجدتين، والواجب عليه سجدتان تفسد صلاته لانتقاله إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإذا قدم السجدتين فالواجب عليه ركعة لا تفسد صلاته؛ لأن زيادة السجدة والسجدتين قبل إكمال الفرض لا تفسد الفرض، فلهذا قلنا بتقديم السجدتين وينوي بالسجدة الأولى قضاء ما عليه؛ لجواز أنه ترك من كل ركعة سجدة، فتكون السجدة الأولى قضاء ما عليه لفواتها عن محلها، فتلزمه نية القضاء، ولا تلزمه نية القضاء بالسجدة الثانية؛ لأنها لم تفت عن محلها.
وإذا سجد سجدتين يقعد بعدها قدر التشهد لا محالة؛ لجواز أن عليه سجدتين لا غير، وقد أتى بها فيفرض القعدة........ عقيبهما إذ قعدة الختم فرض تفسد الصلاة بتركها، ولو كان الواجب عليه الركعة لا غير، فزيادة التشهد لا يضره، فيقعد عقيب السجدتين قدر التشهد لهذا، ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
فإن قيل لماذا لا نأمره بركعة أخرى حتى لا يكون متنفلاً بركعة واحدة إن كان الواجب عليه سجدتان لا غير؟
قلنا: لوجوه: أحدها: أن الركعة الأخرى متردد بين البدعة والتطوع وما تردد بين البدعة والتطوع لا يؤتى به، فأما الركعة الأولى يتردد بين الفرض وبين البدعة، وما يتردد بين الفرض والبدعة يؤتى بها، وهو أصل معروف في كتاب الصلاة، ولأنه يصير متطوعاً بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وذلك منهي عنه، ولأنه كما يتوهم أن يكون متنفلاً بركعة إذا سلم عليها؛ لجواز أن يكون (129أ1) الواجب عليه سجدتان يتوهم ذلك إذا أضاف إليهما ركعة أخرى، لجواز أن الواجب عليه قضاء ركعة، فلا معنى للاشتغال بهذا.
وإن ترك ثلاثة سجدات ذكر في «الكتاب» أنه يسجد سجدة، ويصلي ركعة.
ووجه ذلك: أن هذا الرجل في الحقيقة ما سجد إلا سجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، ثم لا يقعد بعد هذه السجدة، لأنه متيقن أنه لم يتم صلاته، ولكنه يصلي ركعة ثم يقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه الصورة خطأ، والصحيح أنه تلزمه ثلاث سجدات وركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو أن يكون المقيد بالسجدة الركعة الأولى، فيسجد سجدة أخرى تتميماً لتلك(2/227)
الركعة، ثم يسجد سجدتين أخراوين للركعة الثانية ويتم صلاته، ومن وجه تلزمه سجدة وركعة، وهو أن يكون إنما أتى بالسجدة عقيب الركوع الثاني، فإذا سجد سجدة أخرى فهاتان السجدتان تنتقلان إلى الركوع الأول، ويرتفض الركوع الثاني، أو يصيران للركوع الثاني، ويرتفض الركوع الأول على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، فلزمه أن يصلي ركعة أخرى، فهو معنى قولنا: إنه تلزمه ثلاث سجدات من وجه، وركعة وسجدة من وجه، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدات على الركعة.t
ولو قدم الركعة على السجدات، تفسد صلاته، ويتشهد عقيب السجدات؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات لا غير، فتكون هذه القعدة قعدة الختم، وقعدة الختم فرض ثم يصلي ركعة ويقعد بعدها؛ لأنه من وجه عليه سجدة وركعة، فتكون هذه الركعة ثانية صلاته، فتفترض القعدة بعدها.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر محمد من الجواب صحيح، ولكن يصرف تأويله أن يكون مراده من قوله يسجد سجدة ينوي بها أن يكون عن الركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنه إن نوى أن تكون هذه السجدة عن الركعة التي قيدها بالسجدة تلتحق هي بتلك الركعة ويصير هو مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعة أخرى، وإذا أتى بها تتم صلاته.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .(2/228)
قال مشايخنا رحمهم الله؛ وينبغي أن يلزمه سجدتان وركعة؛ لأن هذا الرجل أتى بركوعين ولم يسجد أصلاً، فإذا سجد سجدتين، فهاتان السجدتان تلتحقان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى حتى تتم صلاته.
رجل صلى المغرب ثلاث ركعات وترك منها سجدة ثم تذكرها، فإنه يأتي بها ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو لما مر، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة قضاء ما عليه لجواز أنه تركها من الركعة الأولى أو من الركعة الثانية، فإن على هذا التقدير يجب عليه نية القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، يجوز أنه تركها من الركعة الثالثة، وعلى هذا التقدير لا تلزمه نية القضاء، إلا أن نية القضاء إذا لم تكن قضاء لا يضره، وترك نية القضاء إذا كان قضاء تفسد الصلاة، فأتى بها احتياطاً.
ولو تذكر أنه ترك منها سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه إن تركهما من ركعتين أو من الركعة الأخيرة تلزمه سجدتان، وإن تركها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدتين على الركعة وينوي بهما القضاء، لجواز أنه تركهما من الركعة الأولى أو الثانية أو من الأولى والثانية وصارتا ديناً عليه ويقعد بعد السجدتين؛ لأن صلاته قد تمت إن تركهما من الركعة الأخيرة أو من ركعتين ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.(2/229)
وإن تذكر أنه ترك منها ثلاث سجدات، فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، ثم يصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو ما إذا تركها من ثلاث ركعات، أو ترك سجدتين من الركعة الأخيرة، وسجد من ركعة قبل الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه ركعة وسجدة، وهو ما إذا ترك سجدتين من ركعة قبل الركعة الأخيرة، وسجدة من ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة، فقعد على وجه الاستحباب لا على وجه الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، فهذه قعدة على رأس الركعتين من وجه. والقعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع والثلاث واجبة، ومن وجه عليه ثلاث سجدات لا غير فهذه القعدة تكون بدعة، فالقعدة بعد السجدة الواحدة ترددت بين البدعة والواجب، وقد عرف أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين أخراوين، ويقعد على وجه الفرض؛ لأنه قد تمت صلاته إن كان عليه ثلاث سجدات لا غير، ثم يصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد سجدتين ويصلي ركعتين.
وتخريج المسألة على اعتبار المأتي بها، فنقول: هذا الرجل أتى بسجدتين، وإن كان أتى بها في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بها في ركعة، فعليه ركعتان، فيجمع من الكل احتياطاً ويبدأ بالسجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الفرض بالطريق الذي قلنا قبل هذا، ثم يصلي ركعة، ويقعد لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت إن كان أتى بالسجدتين في ركعتين ثم يصلي ركعة أخرى؛ لأن من وجب عليه ركعتان، فهذا آخر صلاته، فيقعد لا محالة ثم يسلم ويسجد للسهو على نحو ما ذكروا.
وإن تذكر أنه ترك منها خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يقوم، ويصلي ركعتين يقعد بينهما، وهذه القعدة سنّة، ويقعد بعدهما وهذه القعدة فرض.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الجواب غلط، وينبغي أن يقال: يلزمه ثلاث سجدات وركعتين؛ لأن من وجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة بأن قيد الركعة الأولى بالسجدة، فيسجد سجدة إتماماً لتلك الركعة، ثم يسجد سجدتين ويلتحقان بالركوع الثاني أو الثالث، فيصير مصلياً ركعتين ثم تلزمه ركعة أخرى إتماماً لصلاته، فمن هذا الوجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة، ومن وجه آخر تلزمه سجدة وركعتان، فإن قيد الركوع الثاني أو الثالث بالسجدة، فيلزمه سجدة إتماماً لتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة، فيلزمه ركعتان أخراوان فيجمع بين الكل احتياطاً.
ومن المشايخ من قال بأن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» صحيح يصرف تأويله أن يكون مراد محمد من قوله يسجد سجدة تعيين إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنها حينئذٍ تلتحق بتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعتين أخراوين.
وإن تذكر أنه ترك منها ست سجدت لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» .
قال مشايخنا: وينبغي أن يسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات ولم يسجد أصلاً، فتوقف كل ركوع على وجود السجدتين، فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعتين أخراوين ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر أربع ركعات وتذكر أنه ترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة، وينوي بها قضاء ما عليه، ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه سجدتان من ركعتين أو من الركعة الأخيرة، ومن وجه تلزمه ركعة بأن تركهما من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويبدأ بالسجدتين وينوي بهما قضاء ما عليه، ويتشهد بعد السجدتين لا محالة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته ثم يصلي ركعة ويتشهد بعدها لا محالة؛ لأن من وجه عليه الركعة، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته.
وإن تذكر أنه ترك ثلاث سجدات سجد ثلاث سجدات وصلى ركعة، لأن من وجهين عليه ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا تركهن من ثلاث ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً ويقدم السجدات على الركعة ويقعد بعدهن لا محالة، لجواز أنه تمت صلاته ثم يصلي ركعة ويقعد عقبهما لا محالة، لجواز أن صلاته تمت الآن.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد أربع سجدات ويصلي ركعتين؛ لأنه إن تركهن من أربع ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة وثنتين منها من الركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه أربع سجدات لا غير، وإن ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة وثنتين منها من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة وسجدتان، وإن تركهن من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه قضاء ركعتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيجسد أربع سجدات، ويقعد بعدهن؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثاني، ثم يصلي ركعة (129ب1) أخرى ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثالث.
وإن تذكر أنه ترك خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات، فإن أتى بها في ثلاث ركعات، فعليه ثلاث سجدات وركعة، ثلاث سجدات ليصير مصلياً ثلاث ركعات وركعة ليتم صلاته، وإن أتى بها في ركعتين بأن أتى بثنتين في ركعة، وواحدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، سجدة ليصير مصلياً ركعتين، وركعتين إتماماً لصلاته، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة قعد بعدها وهذه قعدة مستحبة؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعتان، فمن هذا الوجه تكون هذه القعدة واجبة؛ لأنها على رأس الركعتين، ومن وجه عليه ثلاث سجدات وركعة، فتكون هذه القعدة بدعة، وقد عرفت أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين، ولا يقعد(2/230)
عقبيها؛ لأن هذه القعدة تتردد بين البدعة والسنّة، وما تردد بين البدعة والسنّة لا يؤتى به، ثم يصلي ركعة ويقعد عقبها؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، ومن هذا الوجه هذه الركعة تكون آخر صلاته، ثم يصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأن من وجه عليه ركعتان، ومن هذا الوجه يكون هذا آخر صلاته.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر من الجواب مستقيم فيما إذا نوى بالسجدات إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة، فأما إذا لم ينو ذلك بل سجد ثلاث سجدات مطلقاً، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأن من الجائز أنه أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات قبل الركعة الأخيرة، ويقيد كل ركعة بسجدة، فإذا سجد ثلاث سجدات يقيد الركعة الأخيرة بثنتين منها، فإذا صلى بعد ذلك ركعتين يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض وإنه يوجب فساد الفرض.
فأما إذا نوى إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدة تلتحق هذه السجدات بتلك الركعات، ويصير مصلياً ثلاث ركعات، فإذا صلى ركعة بعد ذلك يتم صلاته، فإذا صلى بعد ذلك ركعة أخرى، يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل في هذه الركعة، ولكن هذا إكمال الفرض، فلا يفسد الفرض.
وإن تذكر أنه ترك ست سجدات، فهذا الرجل إنما أتى بسجدتين، فإن أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان وإن أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب؛ لأنه صار مصلياً ركعتين من وجه بأن كان عليه سجدتان وركعتان، ثم يقوم ويصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة، ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الفرض؛ لأن هذه رابعة من وجه فتفترض عليه القعدة.
قال بعض مشايخنا: ما ذكر من الجواب مستقيم إذا نوى بالسجدتين إلحقاهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، فأما إذا لم ينوِ الإلحاق ينبغي أن تفسد صلاته على ما ذكرنا قبل هذا.
وإن تذكر أنه ترك سبع سجدات، فهذا الرجل لم يأت إلا بسجدة واحدة، والسجدة الواحدة لا تتقيد بها إلا ركعة واحدة، فيأتي بسجدة واحدة ليصير مصلياً ركعة، ثم يصلي بعد ذلك ثلاث ركعات يصلي ركعة ويقعد، وهذه العقدة سنّة؛ لأنها قعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع، وينبغي أن ينوي بالسجدة إلحاقَها بالركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلي ركعتين ويقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك منها ثمان سجدات، فهذا الرجل ركع أربع ركوعات، ولم يسجد أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات والله أعلم.
رجل صلى الغداة ثلاث ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته؛ لأن صلاته تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من إحدى الركعتين الأوليين؛ لأنه زاد ركعة كاملة وعليه ركن من أركان الفريضة، ولا تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من الركعة الثالثة؛ لأن زيادة ما دون الركعة الكاملة لا توجب فساد الصلاة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك سجدتين تفسد صلاته أيضاً؛ لأن صلاته تفسد(2/231)
من وجه بأن ترك هاتين السجدتين من الركعتين الأوليين، أو من إحدى الأوليين، ولا تفسد من وجه بأن ترك اثنتين منها من الركعة الثالثة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك منها أربع سجدات لا تفسد صلاته.
فالأصل في جنس هذه المسائل: أن المأتي بها من السجدات إذا كانت أقل من المتروكات، لا يحكم بالفساد كما في هذه المسألة، ومتى كانت المتروكات أقل من المأتي بها يحكم بالفساد كما في المسائل المتقدمة، وهذا لأن الفساد فيما إذا كانت المتروكات أقل باعتبار أنه زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان المأتي بها أقل.
بيان ذلك: فيما إذا كان المتروك أربع سجدات أن يقول: هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، ولا يتقيد بالسجدتين إلا ركعتين، فقد تيقنا أنه ما زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فلا يحكم بالفساد.
ثم كيف يصنع؟ قال: يسجد سجدتين، ويصلي ركعة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في ركعتين، ومن وجه عليه ركعة، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في (ركعتين) ، فيجمع بينهما احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقبيهما لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة، وينبغي أن ينوي بالسجدتين إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، أما بدون النية، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأنه يجوز أنه أتى بالسجدتين في الركعتين الأوليين في كل ركعة سجدة، فتوقف الركوع الثالث بهما، ويصير زائداً ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فتفسد صلاته.
وإن ترك خمس سجدات، فكذلك لا يحكم بفساد الصلاة؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة إلحاقها بتلك الركعة التي تقيدت بالسجدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
وإن ترك منها ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات، ولم يسجد أصلاً فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر خمس ركعات، وترك منها سجدة تفسد صلاته، وكذلك إذا ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تفسد صلاته، وطريق الفساد أنه يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال أركان الفريضة على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة.
وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته، لأن هذا الرجل ما أتى إلا بأربع سجدات ولا يتقيد بالسجدات الأربعة أكثر من أربع ركعات، فلا يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال(2/232)
أركان الفرض، ثم وجه الإتمام أن يسجد أربع سجدات، ويصلي ركعتين؛ لأن من وجه عليه قضاء أربع سجدات وهو أن يكون أتى في كل ركعة بسجدة، ومن وجه عليه قضاء ركعة وسجدتين، وهو أن يكون أتى في ركعتين في كل ركعة بسجدة، وفي ركعة أخرى بسجدتين، ومن وجه عليه قضاء ركعتين، وهو أن يكون أتى بأربع سجدات في ركعتين في كل ركعة بسجدتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد أربع سجدات ثم يقعد لا محالة لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لا محالة، لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الثاني ثم يصلي ركعة أخرى، ويقعد لا محالة؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثالث.
قال بعض مشايخنا ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على ما إذا نوى بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدات، أما إذا لم ينوِ ينبغي أن تفسد صلاته على نحو ما بينّا قبل هذا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات فإن كان أتى بها في ثلاث ركعات في كل ركعة سجدة، فعليه ثلاث سجدات وركعة، وإن كان أتى بسجدتين في ركعة أو بسجدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً ثم طريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات أولاً، ويقعد بعد الأولى على طريق الاستحباب، ولا يقعد بعد الثلاث لا على وجه الاستحباب ولا على وجه الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثاني.
ولو ترك منها ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ثلاث ركعات؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون ما بعد السجدتين موضع قعوده المستحب، ثم يصلي ركعة ويقعد أيضاً على وجه الاستحباب دون الفرض، لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون ما بعد هذه الركعة موضع قعوده المستحب، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون آخر صلاته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى، ويقعد على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون هذا آخر صلاته، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا قبل هذا.
وإن ترك منها تسع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، وهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد أخرى ينوي إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ إتماماً لتلك الركعة، ثم يصلي ركعة ويقعد، وهذه القعدة سنّة ثم(2/233)
يصلي ركعتين أخراوين ويقعد بعدهما إتماماً لصلاته.
وإن ترك منها عشر سجدات، فهذا الرجل ركع خمس ركوعات، ولم يأت بشيء من السجدات فيسجد سجدتين ليتم ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات بعد ذلك، ويتم صلاته، وكذلك الجواب في العصر والعشاء.
رجل صلى المغرب أربع ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته، وكذلك لو ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً فسدت صلاته أيضاً. وطريق الفساد: انتقاله من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض على نحو ما بينّا في المسائل المتقدمة.
وإن ترك منها خمس سجدات لا تفسد صلاته؛ لأنه ما أتى إلا بثلاث سجدات، ولا يتقيد بالسجدات الثلاث أكثر من ثلاث ركعات، فلا يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض، وطريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه يلزمه (130أ1) ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا أتى بسجدتين في ركعة وبسجدة في ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد ثلاث سجدات أولاً ويقعد بعدهن؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لاحتمال الوجه الثاني، وينوي بالسجدات التي يأتي بهن إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة لما ذكرنا غير مرة.
وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين، ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب لا على سبيل الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة أخرى لاحتمال الوجه الثاني، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدة ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد بينهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم، وينبغي أن ينوي بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعة التي قيدها لما ذكرنا.
فإن ترك ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع أربع ركوعات ولم يأت بالسجدة أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد فيهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم.
رجل افتتح الصلاة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع، فهذا(2/234)
إنما صلى ركعتين؛ لأنه لما قام وقرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بذلك الركوع باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، توقف هذا الركوع على وجود السجدتين أيضاً. فإذا قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بذلك الركوع أيضاً، باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعتين.
ولو أنه قام إلى الصلاة وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد سجدتين ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الخامسة، وقرأ وسجد ولم يركع، قال: هذا إنما صلى ثلاث ركعات؛ لأنه لما قام وصلى، وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد لم يركع، فالتحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ركعتين، ثم لما قام إلى الرابعة قرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الخامسة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ثلاث ركعات.
ولو قام إلى الصلاة وقرأ وركع، ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وركع ولم يسجد أيضاً، ثم قام إلى الثالثة وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع وسجد، قال: هذا إنما صلى ركعتين؛ لأن في هذه الصورة توقف الركوع الأول والركوع الثاني على وجود السجدتين، فإذا سجد في الركعة الثالثة، ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، ثم لما قام إلى الرابعة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فتبين أنه صار مصلياً ركعتين فيقوم ويصلي ركعتين أخراوين، فتمت صلاته.
رجل افتتح الصلاة خلف الإمام ثم قام حتى صلى الإمام أربع ركعات وترك من كل ركعة سجدة، فلما قعد الإمام في التشهد انتبه هذا الرجل، فأحدث الإمام وتقدم هذا الرجل، فإنه لا ينبغي له أن يتقدم؛ لأن المقصود من الاستخلاف إتمام صلاة الإمام، وغيره أقدر على إتمام صلاة الإمام؛ لأنه لاحِقٌ قد أدرك أول الصلاة، فعليه أن يبدأ بالأَولى فالأَولى، فلهذا لا ينبغي له أن يتقدم. مع هذا لو تقدم جاز؛ لأن صحة الاستخلاف تعتمد المشاركة بين الإمام وبين الخليفة في الصلاة، وهذا شريك في هذه الصلاة فيصح استخلافه.
وينبغي له أن يصلي ركعة بسجدة من غير أن يصلي القوم معه؛ لأنهم قد أدّوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام؛ لأنهم قد أدوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة ويسجد القوم معه؛ لأن عليهم قضاء هذه السجدة مع الإمام.
وكذلك يفعل في الركعة الثانية والثالثة والرابعة؛ يصلي كل ركعة منها بسجدة من(2/235)
غير أن يصلي القوم معه، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة، ويسجد القوم معه، وإنما وجب عليه تقديم الركعة على السجدة التي تركها الإمام؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، واللاحق يبدأ بالأول فالأول، فإذا أتى بالركعات كلها على نحو ما بينا يتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسجد القوم معه؛ لأنه خليفة الإمام الأول، وعلى الإمام الأول أن يسجد للسهو والقوم يسجدون معه، فكذا هذا الخليفة.
ثم قال في «الكتاب» : قلت: إنما تفسد عليه صلاته، قال: ولماذا تفسد؟ قلت: لأن الإمام مرة يصير إماماً للقوم ومرة غير إمام، وهذا قبيح، قال: ولو كان هذا في ركعة استحسنت أن أجيزه، يريد بهذا أنه لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة وقام رجل خلفه عن هذه الركعة، فأحدث الإمام وقدم هذا الرجل والقوم قعود، فإن هذا الرجل يقوم ويصلي ركعة بسجدة، والقوم لا يتابعون في تلك السجدة ولا تفسد عليه صلاته، ذكر هذا السؤال في «الأصل» ، ولم يذكر الجواب، ففيه إشارة إلى أن ههنا قول آخر أنه لو صلى هكذا أنه تفسد عليه صلاته، ووجه ذلك: أن هذا الرجل يصير مقتدياً وإماماً في صلاة واحدة مراراً.
بيانه: أنه حين يقوم في الركعة الأولى، فهو في الحكم كان خلف الإمام مقتدياً به؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من الركعة الأولى يصير فيها إماماً للقوم، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية يصير مقتدياً بالإمام الأول، ويخرج من أن يكون إماماً للقوم، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من هذه الركعة يصير إماماً للقوم فيها، وكذلك في الركعة الثالثة والرابعة.
فهو معنى قولنا: إن هذا الرجل يصير إماماً ومقتدياً في صلاة واحدة مراراً، وإنه قبيح، لكن استحسن في الركعة الواحدة؛ لأن في الركعة الواحدة لا يتكرر خروجه من حكم الإمامة وعوده إليه.
قالوا: وينبغي لهذا الرجل على هذا القول إذا أراد أن لا تفسد صلاته أن يسجد تلك السجدات التي تركها الإمام، ويتابعه القوم فيهن، ثم يتشهد ويقدم عليه غيره حتى يسلم بهم ثم يقوم هذا الرجل ويقضي ما فاتته وحده، فلا يؤدي إلى الاستحالة التي ذكرها، إلا أنه يلزمه أمر مكروه، فإنه يصير آتياً بالسجدة قبل الإتيان بالركوع، وإنه مكروه، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور وهو الرحيم الغفور وبه ختم الطهارات والصلاة من المحيط (130ب1) .(2/236)
كتاب الزكاة
هذا الكتاب يشتمل على سبعة عشر فصلاً:
1 * في كيفية وجوبها.
2 * في بيان سبب وجوب الزكاة.
3 * في بيان مال الزكاة.
4 * في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله.
5 * في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه.
6 * في تعجيل الزكاة.
7 * في أداء الزكاة والنية فيه.
8 * في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه.
9 * في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة.
10 * في بيان ما يمنع وجوب الزكاة.
11 * في الأسباب المسقطة للزكاة.
12 * في صدقات الشركاء.
13 * في زكاة الديون.
14 * في المال الذي ينوى ثم يقدر عليه.
15 * في المسائل التي تتعلق بالعاشر.
16 * في إيجاب الصدقة وما يتصل به من الهدي وأشباهه.
17 * في المتفرقات.(2/237)
الفصل الأول في كيفية وجوبها
فنقول: ذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في كتابه: إنها على الفور، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنها على الفور عند أبي يوسف ومحمد، وفي موضع آخر في «المنتقى» أنه إذا لم يترك حتى حال عليها حولان، فقد أساء وأثم، وعن محمد إن من لم يؤد الزكاة لم تقبل شهادته، وأن التأخير لا يجوز.
ووجه ذلك: أن الأمر بالأداء إن كان معلقاً إلا أنه تعين الفور، بدليل أن الزكاة إنما وجبت لدفع حاجة الفقر، وحاجته ناجزة.
وقال أبو بكر الرازي رحمه الله: إنها تجب على التراخي، وهكذا روى ابن شجاع، والبلخي عن أصحابنا. قال البلخي رحمه الله: وكذلك الحج، وهذا لأنه ليس في كتاب الله تعالى وما في سنّة رسوله بيان وقت أداء الزكاة، ولا يمكن إتيانه قياساً؛ لأن شروط العبادة لا تثبت قياساً كأصلها، فيبقى جميع العمر وقتاً لها كما في قضاء رمضان وكما في الكفارات.
الفصل الثاني في بيان سبب وجوب الزكاة
قال المحققون من مشايخنا: سبب وجوب أصلها في الذمة المال، وليس معناه أن الموجب هو المال بل الموجب هو الله تعالى، ولكن معناه: أن الله تعالى جعل المال سبباً لوجوب الزكاة كما أن المروي والمشبع هو الله تعالى، ولكن جعل الماء والطعام سبباً للري والشبع، وعلى قول هؤلاء الخطاب يطلب الأداء لا لأجل الوجوب في الذمة، وعليه اعتمد الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب «مأخذ الشرائع» .
وقال بعض مشايخنا: وجوب أصلها في الذمة بالخطاب أيضاً، ويقول به عامة أصحاب الشافعي رحمهم الله؛ لأن المال لا يمكن أن يجعل سبباً؛ لأن المال موجود في حق كثير من الأشخاص، ولا وجوب نحو الذي أسلم في دار الحرب، ومن أشبهه.
وجه قول المحققين من مشايخنا: أنها تضاف إلى المال، والحكم إنما يضاف إلى سببه قضية الأصل؛ لأن الأصل في الإضافات إضافة الحادث إلى سبب الحدوث؛ لأن الإضافة للاختصاص؛ ومعنى الحدوث به سابق على سائر معاني الاختصاص إلا أن الشرع جعل المال سبباً في وضع لا يؤدي إلى الحرج، وفي حق الذي أسلم في دار الحرب يؤدي إلى الحرج لتضاعف الواجبات.(2/239)
غير أن مطلق المال ليس بسبب، إنما السبب المال النامي؛ لأن الزكاة وجبت بطريق التيسير بأداء عن نماء، ولهذا لم يجب القليل في القليل ولا الكثير في الكثير، ولم يجب مالاً بل وجب القليل في الكثير، ووجب مؤجلاً لا حالاً، وحتى التيسير إنما يتحقق بالأداء من نماء المال حتى يؤدي من عليه الواجب من النماء، ويبقى له أصل المال، غير أن طريق النماء في الحيوانات النسل، وفيما عداها من الأموال التجارة.
غير أنه يسقط اعتبار حقيقة النماء، فإنه أمر خفي تتفاوت فيه أحوال الناس، فأقيم الإسامة به حولاً في الحيوانات مقام حصول النسل؛ لأنه زمان النسل عادة، وأقيم الإمساك بنية التجارة حولاً في غيرها من الأموال سوى الأثمان مقام حصول النماء؛ لأنه زمان حصول النماء عادة، إنما فعلنا ذلك دفعاً للحرج عن الناس والله أعلم.
الفصل الثالث في بيان مال الزكاة
فنقول: مال الزكاة الأثمان، وهو: الذهب والفضة وأشباهها، والسوائم وعروض التجارة فنعتبر ذلك نوع نذكر فيه مسائله والأحكام المتعلقة به، فنبدأ ببيان أحكام الذهب والفضة وأشباهها، لأن الحاجة إلى معرفة ذلك أمسّ فنقول:
الزكاة واجبة في الذهب والفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، نوى التجارة أو، لا إذا بلغت الفضة مائتي درهم، والذهب عشرين مثقالاً، وإذا نقص نقصاناً لا يسيراً يدخل بين الوزنين لا تجب الزكاة إن كان كاملاً في حق غيره، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، وهذا لأن الزكاة إنما تجب على المال، فيعتبر كمال النصاب في حقه، فإذا كان ناقصاً في حقه لا تجب الزكاة.
والمعتبر في الدراهم وزن سبعة، وهو أن تكون كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل على ما يزن الناس اليوم كما جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه، وقيل في تفسير وزن سبعة ما ينقص كل مائة منها سبعة مثاقيل، وعلى هذا القول وزن خمسة ما ينقص كل مائة منها خمس مثاقيل، والأصح هو التفسير الأول.
وأصل ذلك ما حكى الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في آخر باب الصلح أن الدراهم على عهد عمر رضي الله عنه كانت على ثلاثة أنواع: نوع اثنا عشر قيراطاً، ونوع عشرون قيراطاً، ونوع عشر قراريط، وكان الدينار على نوع واحد وهو عشرون قيراطاً.
وكان يقع بين الناس الخصومة في مبايعاتهم بالدراهم. فشاور أصحابه في ذلك، فقيل له: خذ من كل نوع ثلثه وأخذ عمر رضي الله عنه ثلث العشرة وثلث اثنا عشر وثلث العشرين، فبلغ ذلك أربعة عشر قيراطاً، فجعل وزن الدراهم أربعة عشر قيراطاً وقدر وزن الدنانير على حالها، فبلغ وزن عشرة دراهم مائة وأربعين قيراطاً كل درهم أربعة عشر، وهو وزن سبعة دنانير كل دينار عشرون قيراطاً، وهذا هو تفسير وزن السبعة في الدراهم.(2/240)
واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله عليه السلام، فقيل: إنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة. وكذلك على عهد الصديق ثم صارت وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه.
وكذلك اختلفوا أن الدراهم متى صارت مدورة؟ والمشهور إنما صارت مدورة على عهد عمر، وقبل ذلك كان على شبه النواة.
وإذا زاد الدرهم على مائتين أو زاد الدينار على عشرين فعلى قول أبي حنيفة: لا شيء في الزيادة في الدرهم حتى يبلغ أربعين درهماً، وفي الذهب أربعة مثاقيل. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: تجب فيما زاد بحسابه، وذلك ربع العشر، ويضم الذهب إلى الفضة، والفضة إلى الذهب ويكمل أحد النصابين بالآخر عند علمائنا رحمهم الله؛ لحديث بكر بن عبد لله بن الأشج أنه قال: مضت السنة في ضم الذهب إلى الفضة في باب الزكاة، ولأن الذهب والفضة إن كانا مختلفين صورة فهما متفقان معنى من حيث إنه تعلق بهما وجوب الزكاة، وهو وصف لثمنيته، فجاء تكميل أحدهما بالآخر بخلاف البقر مع الإبل، فإن الزكاة تعلقت بهما باعتبار العين، والأعيان مختلفة حقيقة، ثم قال أبو حنيفة رحمه الله آخراً: يضم باعتبار القيمة، وقال أبو يوسف ومحمد: يضم باعتبار الأجزاء، يعني به الوزن. وأشار المعلى في «نوادره» ، إلى أن أبا يوسف رجع عن هذا القول، وقال: يضم باعتبار القيمة وصورة الكتاب بالأجزاء والوزن أن يكون النصف من هذا وزناً والنصف من آخر وزناً، بأن كانت الدراهم مائة والدنانير عشرة أو كان الربع من أحدهما وزناً، وثلاثة الأرباع من آخر وزناً بأن كانت الدراهم خمسين والدنانير خمسة عشر، أو كانت الدراهم........... القيمة بأن كانت الدراهم مائة والدنانير (131أ1) خمسة، وقيمتها مائة أو كانت الدنانير عشرة، والدراهم خمسين قيمتها عشرة دنانير.
وثمرة الاختلاف لا تظهر حال تكامل الأجزاء والوزن، لأنه متى انتقص قيمة إحداهما وزاد قيمة الآخر، فيمكن تكميل ما انتقص منه بما ازداد وكمل النصاب وزناً (و) قيمة، فتجب الزكاة بلا خلاف، وإنما تظهر حال نقصان الأجر أو الوزن، فعلى قول أبي حنيفة: تجب الزكاة؛ لأنه يعتبر القيمة، وقد كمل النصاب باعتبار القيمة، وعلى قولهما: لا تجب الزكاة لأنهما يعتبران الوزن والأجزاء ولم يكمل النصاب من حيث الوزن والأجزاء، والحاصل أنهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع، وأبو حنيفة اعتبر القيمة حالة الاجتماع.
وأجمعوا على أن العبرة للوزن حالة الانفراد حتى إذا كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من عشرين ديناراً قيمتها مائتا درهم، أو كان له قلب فضة وزنه مائة وخمسون، وقيمته لصياغته عشرون ديناراً، أو كان له قلب ذهب وزنه خمسة عشر وقيمته لصياغته مائتا درهم لا تجب الزكاة.(2/241)
وإنما اعتبر الوزن حالة الانفراد لقوله عليه السلام: «في مائتي درهم خمسة دراهم» والمراد من الدرهم الوزن، وقال عليه السلام: «في عشرين مثقال ذهب نصف مثقال» ، والمثقال هو الوزن، فالنبي عليه السلام نصّ على الوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد فلا يبقى للقيمة عبرة؛ لأن القيمة إنما تعرف بالاجتهاد في موضع النص إذا كان العبرة للوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد تجب الزكاة، وما لا فلا.
جئنا إلى حالة الاجتماع: فهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر القيمة حالة الاجتماع.
وفرق بين حالة الاجتماع وبين حالة الانفراد، فقال: في حالة الانفراد؛ إنما تعتبر القيمة بخلاف القياس؛ لأن المال مال التجارة، وفي مال التجارة تعتبر القيمة كما في سائر أموال التجارة، إلا أن في حالة الانفراد لما اعتبر الشرع الوزن والتقويم اجتهاداً ولا عبرة للاجتهاد حال وجود النص كان ذلك من الشرع إسقاطاً لاعتبار القيمة، فإن في حال الاجتماع لا نص على اعتبار الوزن، فيجب العمل فيه بالقياس.
في «المنتقى» : عن أبي يوسف رجل عنده عشرة دنانير ومائة درهم إن صرف الدنانير إلى الفضة، فقومها دراهم كان له مائتا درهم وزيادة، وإن أضاف الفضة إلى الدنانير، فقومها دنانير كان له أقل من عشرين دنانير، فلا زكاة حتى يكون أي مئة أضاف إلى الأخرى وجب فيها الزكاة، وهو قول أبي حنيفة أولاً، وقال أبو حنيفة آخراً: إذا وجب عليه الزكاة في أحد الوجهين، ولم يجب في الوجه الآخر، فعليه الزكاة.
ذكر القدوري في «كتابه» : روى الحسن عن أبي حنيفة أن الزكاة تجب في الدراهم النبهرجة والزيوف، وما كان الغالب فيه الفضة إذا كانت مائتي درهم؛ لأن اسم الدرهم ينطلق على ما كانت الفضة فيه غالبة، فيتناولها النص الموجب باسم الدراهم، وإن كانت ستوقة ليست للتجارة لم تجب الزكاة فيها حتى يبلغ ما يكون فيها من الفضة مائتين؛ لأن الغالب فيها الغش فلا يتناولها اسم الدرهم، فينظر إلى ما فيها من الفضة، وهذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت للتجارة، وقد بلغت قيمتها مائتين وجبت الزكاة؛ لأنه إذا لم ينطلق عليها اسم الدرهم لم تكن بمنزلة الأثمان، فتكون بمنزلة العروض، وفي العروض تجب الزكاة إذا كانت للتجارة وقد بلغت قيمتها مائتين، كذا هنا.
وأما الفلوس، فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، وإن كانت للتجارة، فإن بلغت(2/242)
قيمتها مائتين وجبت الزكاة لما ذكرنا، وكان الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله يقول: من ملك مائتي درهم عطريفية، فإن كانت للتجارة تجب فيها الزكاة، وإن كانت للنفقة، فإن كان فيها فضة....... لفضة تجب الزكاة وما سوى الفضة لا تجب.
وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول على قول أبي حنيفة: تجب الزكاة إذا أمسكها للنفقة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد فيها: الزكاة وإن كانت للنفقة.
وروي عن أبي عبد الله أحمد بن أبي حفص الكبير أنه قال: لسنا نأخذ بقول أبي حنيفة في هذه المسألة إنما نأخذ بقول أبي يوسف ومحمد.......... علم بد رأيهما عن أبي حنيفة والعطارف يسمى دراهم في عرفنا، فيتناولها النصير الموجب باسم الدراهم.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يفتي في العطارف بوجوب الزكاة في المائتين منها عدد الخمسة دراهم، وكان يقول يجب أن يكون هذا قول أصحابنا جميعاً؛ لأن الثمينة، وقد تقررت فيها في بلادنا بحيث لا تتغير حيث تقررها في الذهب والفضة، وبه أخذ الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومشايخ زماننا قالوا: هم إنما أفتوا في زمنهم بهذا حيث تقررت الثمينة فيها، أما في زماننا قد تراجعت ولم تبق ثمناً، فلا يمكن إيجاب الزكاة فيها باعتبار المعنى، فينظر إلى أنها من الفضة.
وروي عن سعد بن معاذ المروزي أنه قال: العطريفية إذا كانت ألفاً ومائتي درهم تجب فيها الزكاة وما لا فلا، وفي ألف ومائتي عطريفية خمسة دراهم، وذلك لأن في كل عطريفية دانق فضة، وما سواه نحاس وألف ومائتا دانق يكون مئتي درهم، وفي مائتي درهم خمسة دراهم.
ولو أن رجلاً أعطى خمسة دراهم عن مائتي درهم رجلاً عن الزكاة ثم جاء المعطى له وقال وجدتها ستوقة، فإن كان في أكثر رأيه أنه صادق غير متهم، فإنه يصدقه، ولا شيء عليه إذا كان الذي وجد ستوقاً ليس فيه فضة، وكان للمعطى أن يستر ذلك من المعطي؛ لأن المعطي لم يملك؛ لأنه ليس بمحل للتمليك بجهة الزكاة، وإن كانت نبهرجة لم يسترد منه؛ لأنه ملك ذلك؛ لأنه محل التمليك بجهة الزكاة في الجملة، فلا يملك الاسترداد منه وإن لم يجزئه ذلك عن زكاة ماله في هذه الصورة؛ لأن من حجة المعطي أن يقول: شرط أن يكون ذلك من الزكاة لم تكن بيني وبينك، وإنما ذلك بينك وبين الله تعالى، هكذا حكي عن الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله.
وفي الباب المعلمة بعلامة النون من «الواقعات» : رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فأدى زكاتها خمسة، فوجد الفقير فيه منها درهماً ستوقه فجاء به ليرده على صاحب المال، فقال صاحب المال رد عليّ الباقي؛ لأنه ظهر أنه لم يكن عليّ زكاة ليس له أن يسترد؛ لأنه ظهر أنه أداه على وجه التطوع، فلا يكون له الرجوع إلا إذا رد الفقير(2/243)
باختياره، ويكون ذلك من الفقير بمنزلة الهبة المبتدأة، حتى لو كان الفقير صبياً، ورده باختياره لا يحل له الأخذ.
رجل له مائتا درهم نقد بيت المال حال عليها الحول؛ فأدى عنها خمسة زيوفاً أو........ فإنه يجزىء ذلك عن زكاة المائتين عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يجزئه مقدار مال الزيوف لا غير حتى لو كانت قيمة الزيوف أربعة دراهم جياد، فعليه أن يؤدي الدرهم الخامس عند محمد، وعندها ليس عليه شيء آخر.
فوجه قول محمد: أن الواجب خمسة جاز إن ماز الزيوف عنها إنما يجوز إذا كان الزيوف (131ب1) مثلاً للجياد، وإنما تكون الزيوف مثلاً للجياد إذا سقط قيمة الجودة، والجودة في الأموال الربوية إنما يسقط اعتبارها عند المقابلة بجنسها فيما بين المتعاقدين كيلاً يؤدي إلى الربا، ألا ترى أن في حق الثالث لا يسقط اعتبارها، لما كان لا يؤدي إلى الربا، لأنها إنما تظهر قيمة الجودة في حق الصغير والربا لا تجري بين المتعاقدين وغيرها، فثبت أن للجودة قيمة في موضع لا يؤدي إلى الربا وإن حصلت المقابلة بجنسها.
إذا ثبت هذا فنقول: اعتبار قيمة الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا من وجه دون وجه، من حيث إن الفقير بما أخذ من الغني لا يملك من الغني قدر الواجب؛ لأن قدر الواجب لا يصير ملكاً للفقير قبل الأخذ، بل أخذه صلة ليسا بمتعاقدين، ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير حتى ضمنه المالك عند الاستهلاك، والحق يلحق بالحقيقة متعاقدين؛ لأنه يصير مملكاً قدر الواجب من صاحب المال بما أخذ، فتمكن الربا من وجه دون(2/244)
وجه، والعمل بالأمرين متعذر على حال، لما بينهما من التنافي، فعملنا بهما في حالين، فقلنا: متى كان في اعتبار الربا منفعة للفقير أو احتياط لأمر العبادة نعتبر الربا كما إذا وجب للفقير على الغني خمسة دراهم نبهرجة، فأعطاه أربعة جياداً تساوي خمسة نبهرجة لا يجوز؛ لأن في اعتبار الربا منفعة للفقير، فإنه يأخذ درهماً آخر، فتعتبر الربا ويؤخذ بالاحتياط وتسقط قيمة الجودة، وإذا كان في اعتبار الربا ضرر بالفقراء تعتبر الربا، ألا ترى أن صاحب المال لو أدى المال إلى الفقير ستة دراهم زيوفاً مكان خمسة دراهم جياد يجوز، وأخذ الستة مكان الخمسة ربا كما في حقوق العباد، ثم لم يعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، فإنه لما سلم لهم الدرهم السادس، فلم تعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، ولم يسقط قيمة الجودة.l
إذا ثبت هذا فنقول: في مسألتنا في اعتبار الربا ضرر على الفقير؛ لأنه يفوت حقه في الجودة، ولا يصل إليه درهم آخر، ومن لم يعتبر الربا لا يفوت حقه في الجودة، فيصل إليه درهم آخر بإزاء الجودة، فلا تعتبر الربا أو الجودة في مال الربا لها قيمة، وإن قوبلت بجنسها إذا كان لا يؤدي إلى الربا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: إن الربا فيما بين الفقير والغني ممكن من وجه دون وجه، فتمكن شبهة الربا على كل حال، والشبهة تلحقه بالحقيقة في باب المحرمات احتياطاً، فمست الضرورة إلى إسقاط قيمة الجودة في مسألتنا تحرزاً عن شبهة الربا، وإذا سقط اعتبار قيمة الجودة ههنا لا يضمن صاحب المال شيئاً، وأما إذا أدى ستة دراهم مكان خمسة دراهم ناوياً عن زكاة ماله؛ إنما جاز ولم يعتبر الربا؛ لأن المعارضة من الفقير والغني لا تثبت نصاً، وإنما ثبت في ضمن نية الربا، فإن صاحب المال بنية الزكاة قصد قضاء ما عليه من الحق للفقير واستخلاص ما للفقير لنفسه.
ونية الزكاة من الغني بقدر خمسة إذا كان عليه خمسة، ولم يصح بقدر الدرهم السادس، وإذا لم تصح نية الزكاة في الدرهم السادس صار كأنه نوى أن تكون الخمسة زكاة والدرهم السادس تطوعاً، ولو نوى على هذا الوجه لا يتمكن الربا، أما ههنا نية الزكاة صحت بقدر خمسة؛ لأن عليه زكاة خمسة، وإذا صحت نية الزكاة بقدر خمسة ثبتت بين الغني والفقير معارضة باعتبار الحق إن كان لا يثبت باعتبار الملك، فيمكن شبهة الربا.
وعلى هذا إذا كان مال الزكاة مكيلاً أو موزوناً، فأعطى من جنسها (ما) هو أجود منه، وهو أقل من الواجب كيلاً، نحو أن يؤدي أربعة أقفزة حنطة جيدة عن خمسة أقفزة حنطة وسط لا يجوز إلا عن قدره من الكيل أو الوزن، فإن كان المؤدى مثل الواجب في القدر، ولكنه أردأ من الواجب سقط منه الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي الفضل.
وفي «القدوري» : رواية ابن سماعة عن أبي يوسف إذا أعطى الفضة مكان الفضة، فإن كان وزن الفضة مما دفع أقل لم يجز حتى يؤدي قدر النقصان، نحو أن يؤدي النبهرجة عن الجياد، وإن كان التفاوت لمعنى في الوصف، نحو أن يؤدي الفضة التبر عن الدراهم المضروبة، وقيمة المضروبة أكثر، إنه يجوز.
وإذا كان لرجل إبريق فضة وزنه مائتا درهم وقيمته لصياغته ثلاثمائة، أدى عنه خمسة عما عليه، فهو على الخلاف الذي بينّا، أن الجودة والصياغة في أموال الربا سواء، ألا ترى أنه لا تعتبر الصياغة في حقوق العباد فيما بين المتعاقدين كما لا تعتبر الجودة هكذا ههنا، فصار الخلاف في الصياغة نظير الخلاف في الجودة، ولو أدى عنه قدر خمسة دراهم من الذهب لا يجوز عن جميع زكاة الإبريق بالإجماع؛ لأن للجودة قيمة في أموال الربا عند معاملتها بخلاف جنسها بالإجماع.
وفي «القدوري» : إذا كان إناء فضة وزنه مائتان وقيمته ثلاثمائة، فإن زكى من عينه تصدق بربع عشره على الفقير فيشاركه فيه، وإن أدى من قيمته عدل إلى خلاف جنسه وهو الذهب عند محمد، فأما عند أبي حنيفة لو أدى خمسة من غير الإناء سقطت عنه الزكاة. وإن أدى من الذهب ما يبلغ قيمته قيمة خمسة دراهم من غير الإناء لم يجز في قولهم.
جئنا إلى بيان زكاة عروض التجارة والمسائل المتعلقة بها، فنقول: الزكاة واجبة في عروض التجارة بظاهر قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ(2/245)
صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103) واسم المال يتناول عروض التجارة، لو خلينا وظاهر الآية لكنا نوجب الزكاة في العروض، وإن لم تكن للتجارة لكن ترك العمل بظاهره ههنا إذا لم تكن للتجارة بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان للتجارة فتبقى على ظاهرها.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأمرنا بإخراج الزكاة عن الرقيق، وعن كل مال نبيعه» ، ولأن هذا مال نبغي منه النماء، فيكون سبباً لوجوب الزكاة كالدراهم والدنانير والسوائم.
وإذا ثبت وجوب الزكاة في عروض التجارة، فنقول بعد هذا: الشرع لم يبيّن مقدار النصاب والواجب فيها، فيكون التقدير فيهما مفوضاً إلينا، أي في النصاب وفي الواجب، فقدرنا النصاب والواجب فيها بالذهب والفضة دون السوائم، إما لأن نصاب الذهب والفضة لا يختلف، والواجب فيهما أيضاً لا يختلف، لأن نصاب الدرهم مائتان على كل حال، ونصاب الذهب عشرون مثقالاً على كل حال، والواجب فيها ربع العشر على كل حال، وإما لأن الذهب والفضة أصول جملة هذه الأموال؛ لأن هذه الأموال في الغالب يحصل بهما مكان إلحاق هذه الأموال بالذهب والفضة أولى، وإذا وجب اعتبار المقدار بهما يعتبر بأيهما.
ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن المالك فيها بالخيار إن شاء قوّم بالدراهم، وإن شاء قوّم بالدنانير ولم يحلء فيه خلاف، لأن هذا مال احتيج فيه إلى التقويم فيقوم، إما بالذهب أو الفضة كضمان المتلفات، وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما فيه إيجاب الزكاة، حتى إذا بلغ بالتقوم بأحدهما نصاباً ولم يبلغ بالآخر قوم بما يبلغ نصاباً، وهو إحدى الروايتين عن محمد.
ولو كان (132أ1) بالتقوم كل واحد منهما يبلغ نصاباً، يقوم ما هو أنفع للفقراء من حيث الرواج، وإن كانا في الرواج سواء يتخير المالك؛ لأن هذا المال كان في يد المالك، وقد انتفع به في ابتداء الحول من حيث التجارة، فيجب اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم، لأداء الزكاة تسوية بين المالك وبين الفقراء، لأن الزكاة وجبت على وجه يعتدل النظر من الجانبين فيهما.
وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» أنه يقوم في البلد الذي حال الحول على المتاع بما يتعارفه أهل ذلك البلد نقداً فيما بينهم، يعني غالب نقد ذلك البلد، ولا ننظر إلى موضع الشراء، ولا إلى موضع المالك وقت حولان الحول؛ لأن هذا مال وجب تقويمه، فيقوّم بغالب نقد البلد كما في ضمان المتلفات إلا أنه يعتبر نقد البلد الذي حال الحول فيه على المال؛ لأن الزكاة تصرف إلى فقراء البلدة التي فيها المال، فالتقويم بنقد ذلك البلد أنفع في حق الفقراء من حيث الرواج، فيجب اعتباره.(2/246)
وروي عن أبي يوسف أنه يقوم ما اشترى به، وإن كان وهب له فقيل: ينوي به التجارة أو اشتراه بعرض إذا......... يقوم بغالب نقد البلد؛ لأن التقويم إنما احتيج إليه لأجل الزكاة والزكاة وظيفة الملك، وهذا المال ملك بالثمن وكان وجوب الزكاة فيه باعتبار الثمن، وكان التقويم به أولى، وهكذا نقول فيما إذا اشتراه بعرض: إن هذا المال ملك بذلك العرض، إلا أن التقويم بذلك العرض غير ممكن؛ لأن العرض لا يصلح لتقويم الأشياء، فوجب التقدير فيه بنقد البلد. ثم إذا قوم بالدراهم يقوم بمائتي درهم مضروبة، فلا زكاة فيه حتى يساوي مائتي درهم مضروبة، نص عليه في «المنتقى» .
وإذا اشترى عرضاً بدراهم أو دنانير، فالمشترى لا يصير للتجارة؛ إلا إذا نوى التجارة، وإذا اشترى عرضاً بعرض التجارة، فالمشترى يكون للتجارة نوى التجارة أو لم ينو شيئاً، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن المشترى لو صار مالَ التجارة مع أنه لم ينو التجارة، إنما صار لكونه بدل مال التجارة؛ لأن العقد لا يتعلق بعين الدراهم والدنانير، وإنما يتعلق بمثلها ديناً في الذمة، وما في الذمة ليس مال التجارة، إنما المشترى بالعرض بدل مال التجارة؛ لأن العقد يتعلق بعين العرض، وإنه كان للتجارة، فجاز أن يصير بدله للتجارة بدون نية التجارة.
الفرق الثاني: إن كان المشترى بدل مال التجارة في الفصلين جميعاً، إلا أن المشترى بالدراهم والدنانير لو صار مال التجارة لكونه بدلاً عن مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده.
أما المشترى بغرض التجارة لو صار مال التجارة بكونه بدل مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده ونيته؛ لأن الأصل صار مال التجارة من غير قصده ونيته، وما سوى......... لا يصير مال التجارة قصده ولم يعترض ما يبطل قصده، حتى لو اعترض ما يبطل قصده بأن ينوي الابتذال والخدمة وقت الشراء لا يصير المشترى للتجارة.
وأما العرض المشترى بغرض ليس هو للتجارة أو يفيد الخدمة، لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة؛ لأن الأصل لو كان للتجارة من غير قصده، فالمشترى لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة فإذا لم يكن الأصل للتجارة؛ بأن لا يصير المشترى به مال التجارة، إلا بنية التجارة كان أولى.
ثم نية التجارة لا عمل (لها) ما لم ينضمَّ إليها الفعل بالبيع والشراء أو السوم فيما يسام، حتى إن من كان له عبد للخدمة أو ثياب للبذلة نوى فيهما التجارة لم تكن للتجارة حتى يبيعها، فيكون في الثمن الزكاة مع ماله، وهذا بخلاف ما لو كان له عبد للتجارة، فنوى أن يكون للخدمة، بطل عنه الزكاة بمجرد النية؛ لأن في الفصل الأول الحاجة إلى فعل التجارة، وهو........ بفاعل فعل التجارة فالنية ما اتصلت بالمنوي. وفي الفصل(2/247)
الثاني الحاجة إلى ترك التجارة، وهو ترك التجارة حقيقة، فالنية اتصلت بالمنوي.
ثم اتفق أصحابنا أن من ملك ما سوى الدراهم والدنانير من الأموال بالشراء، ونوى التجارة حالة الشراء أنه يعمل بنيته، ويصير المشترى للتجارة.
واتفقوا أيضاً أنه لو ملك هذه الأعيان بالإرث ونوى التجارة وقت موت المورث لا تصير للتجارة، ولا تعمل نيته.
واختلفوا فيما إذا ملكها بالتبرع كالهبة والصدقة والوصية والخلع والصلح عن دم العمد، ونوى التجارة عند التمليك، قال أبو يوسف: تعمل نيته، وقال محمد: لا تعمل نيته، وقول أبي حنيفة كقول محمد، كذا ذكره بعض المشايخ.
فوجه قول محمد: أن المنوي هو التجارة، وهذه الأشياء ليست بتجارة فلم تتصل النية بالمنوي، فلا يعمل.
وجه قول أبو يوسف رحمه الله: إنه يملك هذه الأعيان بكسبه والتجارة ليست هي إلا الكسب، فيلحق هذا الكسب بكسب التجارة احتياطاً لأمر العبادة.
وذكر ابن سماعة عن محمد فيمن أجّر داره بعبد يريد به التجارة، فهو للتجارة؛ لأن الإجارة نوع تجارة؛ لأنها بيع المنفعة، فالنية اتصلت بالمنوي. وفي «المنتقى» : أن نية التجارة بالعقد المتزوج عليه باطلة، وهذا يجب أن يكون قول محمد.
واختلف المشايخ في أن نية التجارة في العرض هل تعمل؟ قال شيخ الإسلام في «شرح الجامع» : والأصح أنها لا تعمل؛ لأن العرض بمعنى العارية، فعلى ما عرف في موضعه، ونية التجارة في العواري ليست بصحيحة، وفي «الجامع الكبير» ما يدل على أن بدل منافع عين هو للتجارة لا يصير للتجارة بدون النية.
قال: رجل له دار لا مال له سوى الدار، ورجل له جارية للتجارة قيمتها ألف درهم، لا مال له سوى الجارية استأجر صاحب الجارية الدار عشر سنين بالجارية، وصاحب الدار يريد بالجارية التجارة، فإن الجارية عند صاحب الدار تكون للتجارة، فقد شرط نية التجارة من صاحب الدار في الجارية، لتصير الجارية للتجارة من غير فصل فيما إذا كانت الدار للتجارة أو لم تكن.
وفي «الأمالي» : جعل بدل منافع عين التجارة للتجارة من غير نية كبدل عين هو للتجارة، وكان فيه روايتان، واختلف المشايخ فيه أيضاً، وإنما اختلفوا لاختلاف الروايتين قال القدوري في «شرحه» : والعمال الذين يعملون للناس بأجر إذا اشتروا أعياناً للعمل بها، فحال الحول عليها عندهم، وكل عين يبقى له أثر في العين، بحيث يرى كالعصفر والزعفران، وما أشبهه ففيه الزكاة، وما لا يبقى له أثر في العين، فمعنى التجارة لا يتحقق من عينه؛ لأن العين تتلف من كل وجه، فلا يكون المأخوذ عوضاً عن العين، بل يكون عوضاً عن عمله، فلا يصير مال زكاة كالصابون والأشنان بحيث يرى فلا زكاة فيه؛ لأن ما يبقى أثره في العين، فمعنى التجارة يتحقق في عينه، لأن ما يأخذ الأجير من الأجر يأخذ عوضاً عن الأثر العام بالعين المعمول، ولهذا يكون له حق بنفس العين إلى(2/248)
أن يستوفي الأجر، فيكون مال التجارة، أما ما لا يبقى له أثر في العين.........
وذكر في «الأصل» : الخباز إذا اشترى ملحاً أو حطباً للخبز، فلا زكاة فيه، لأن معنى التجارة لا يتحقق في عينه؛ لأنه يصير مستلهكاً من كل وجه، فما يأخذ من المال يكون عوضاً عن عمله لا عن الحطب والملح، فلا يصير (132ب1) مالَ التجارة.
وإذا اشترى سمسماً ليجعل على وجه الخبز تجب فيه الزكاة؛ لأن عينه تبقى بعد الخبز، فيمكن تحقيق معنى التجارة في عينه، ولا تجب الزكاة في الشحوم والأدهان التي يحتاج إليها ليدهن به الجلود، ذكره في «المنتقى» بناءً على الأصل الذي قلنا.
قال «القدوري» : وآلات الصُّناع الذين يعملون بها وظروف الأمتعة، لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها غير معدة للتجارة. ولو أن نخاساً يشترى دواباً ويبيعها، فاشترى جلاجل ومقادد وبراقع فإن كان يبيع هذه الأشياء مع الدواب ففيها الزكاة، وإن كانت لحفظ الدواب فلا تجب الزكاة بمنزلة له آلات الصناع، وكذلك إذا كان من يبيعه إنما يسلم هذه الأشياء لمن يشترى، لا على وجه البيع فلا زكاة فيها، وهي بمنزلة ثياب الخدم التي يسلم البائع مع الخدم في البيع.
قال هشام: سألت محمداً عن رجل اشترى جارية للخدمة، وهو ينوي أنه إن أصاب ربحاً قال: ليس فيها زكاة حتى يشتري، وعزيمة أمره والغالب منه أن يشتريها للتجارة، ذكر هذه الجملة في «المنتقى» .
وقال في «العيون» : والعطار إذا اشترى قوارير فهو هكذا، وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى جوالق بعشرة آلاف دراهم ليؤاجرها من الناس، فحال عليها الحول، فلا زكاة فيها؛ لأنه اشتراها لعلة لا للتجارة، فإن كان في رأيه أنه يبيعها آخراً، فلا عبرة لهذا، وكذلك الجواب في إبل الحمالين، وهم المكارين.
رجل له مائتا قفيز من الحنطة للتجارة حال عليها الحول، وقيمتها مائتا درهم حتى وجب عليه الزكاة، فإن أدى من عينها أدى ربع العشر من عينها خمسة أقفزة حنطة، وإن أدى من قيمتها أدى ربع عشر القيمة أيضاً خمسة دراهم، فإن لم يؤد حتى تغير سعر الحنطة إلى زيادة، فصارت تساوي أربعمائة، فإن أدى من عين الحنطة أدى ربع العشر خمسة أقفزة بالاتفاق، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب عند أبي حنيفة، وعندهما يؤدي عشرة دراهم قيمتها يوم الأداء.
وإن تغير به سعر الحنطة إلى نقصان، فصارت تساوي مائة إن أدى من عين الحنطة أدى خمسة أقفزة بلا خلاف، وإذا أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب. وعندهما: أدى درهمين ونصف قيمتها يوم الأداء.
فالحاصل: أن أبا حنيفة يعتبر القيمة يوم الوجوب في جنس هذه المسائل، وهما يعتبران القيمة يوم الأداء، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على معرفة الواجب في عروض التجارة يوم حولان الحول، فعندهما الواجب يوم حولان الحول جزء من النصاب عيناً، لكن للمالك ولاية نقل الواجب إلى القيمة بالأداء، فتراعى قيمته يوم النقل والدليل (على) أن الواجب ما قلنا، قوله عليه السلام: «خذ من الإبل الإبل ومن البقر البقر» والدليل عليه أن في نصاب السوائم تعتبر القيمة يوم الأداء، حتى إن من وجب في إبله بنت مخاض قيمته خمسة دراهم ثم تغير السعر، فصارت تساوي درهمين ونصفاً فأراد أن يؤدي القيمة أدى درهمين ونصفاً بالإجماع، فقياس عروض التجارة على السوائم أن تعتبر القيمة يوم الأداء.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فعبارة بعضهم أن الواجب بعد حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب العين وأمكن تخفيفه؛ لأن النصاب حنطة وهي مال، وأداء الخمسة من الحنطة من حيث إنها مال ممكن.
والدليل على أن الواجب هذا أن النبي عليه السلام أوجب في خمس من الإبل السائمة شاة، وعين الشاة لا توجد في الإبل، وإنما يوجد فيه مال مقدر بقدر الشاة، والدليل عليه أن الزكاة وجبت بطريق التيسير، والتيسير في أن يكون الواجب من النصاب حتى تسقط بهلاك النصاب، ولكن من حيث إنه مال لا من حيث إنه عين؛ لأنه ربما يتعسر على المالك أداء العين بأن كان النصاب جارية حسناء، فعلم أن الواحب يوم حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب والقيمة يوم حولان الحول خمسة دراهم، فوجب عليه خمسة دراهم، فلا يتغير بعد ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الخلاف، وإنما أمر رسول الله عليه السلام بأخذ العين تيسيراً على أرباب الأموال، لكن الأداء من العين الذي هو مملوك لهم أسهل وأيسر.
وعبارة بعضهم: أن الواجب عند أبي حنيفة يوم حولان الحول في مال التجارة أحد الشيئين بالعين أو القيمة، لأن القيمة يوم حولان الحول معتبرة بالإجماع حتى إن قيمة الحنطة إن كانت أقل من مائتي درهم، لا تجب الزكاة والعين أيضاً معتبرة، لأن قيمة الشيء ماليته، والمالية تقوم بالعين، ومالية هذا العين تقوم بعين آخر، وكان كل واحد معتبراً أصلاً، وكل واحد منهما صالح للخروج عن عهدة الواجب، وكان الواجب أحدهما لا بعينه، فثبت أن الواجب أحد الشيئين إذا اختار أحدهما، فجعل ما اختار كأنه هو الواجب من الأصل دون غيره.
وإذا صار الواجب من الأصل هو القيمة، حتى اختار أداءها لا يتغير الواجب عند ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الوفاق، والفرق على قول هذا القائل بين السوائم وبين عروض التجارة أن القيمة في السوائم يوم حولان الحول غير معتبرة للوجوب، إنما المعتبر هو العين؛ ألا ترى لو كان له خمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم تجب الزكاة.(2/249)
ولو كان له الأربع من الإبل تساوي مائتي درهم لا تجب الزكاة، وكان الحق متعلقاً بالعين؛ إلا أن للمالك، ولاية نقل هذا الحق من العين إلى القيمة بالأداء، فتعتبر القيمة يوم الأداء، فأما في عروض(2/250)
التجارة بخلافه.
فإن قيل: لو كان الواجب أحد الشيئين، فإذا أدى أربعة أقفزة حنطة جيد تساوي خمسة أقفزة حنطة وسط ينبغي أن يجزئه عن الخمسة، ويجعل الحنطة بدلاً عن القيمة، وإن كانت الحنطة منصوصاً عليها كما في كفارة اليمين إذا أعطى ثوباً واحداً لعشرة مساكين تساوي خمسة أصوع من الحنطة ناوياً عن الحنطة، فإنه يجزئه عن الحنطة، وبالإجماع في مسألة أقفزة لا يجزئه إلا عن أربعة.
قلنا: إنما لا يجزئه عن الخمسة الأقفزة إذا قصد أداءها عن الخمسة الأقفزة الوسط؛ وهذا لأنه لما قصد أداء العين ظهر أن الواجب من الابتداء هو العين، فوقعت الأربعة بأجناسها عن نفسها لو وقع عن الباقي إنما يقع بالجودة، والجودة لا قيمة لها عند مقابليها بجنسها وقد قابل الجودة بجنسها حيث جعلها بدلاً عن الأقفزة الوسط، وقصد أداءها عن الوسط، حتى لو أدى أربعة أقفزة جيدة من الحنطة تساوي خمسة دراهم عن الدراهم تجزئة عن كل الواجب، وسقط عنه كل الواجب، هكذا ذكره الكرخي وعليه عامة مشايخنا، وإنه صحيح؛ لأنه ما قابل الجودة بالجنس، إنما قابلها بخلاف الجنس جعلها بدلاً عن الدراهم، وإن استهلك الحنطة بعد تمام الحول ثم تغير السعر، فالجواب فيه والجواب فيما إذا كانت الحنطة مائة وتغير السعر سواء لأن بالاستهلاك وجب المثل ديناً في الذمة، وتغير السعر يؤثر في المثل حسب تأثيره في العين، وكذلك الجواب في كل ما يكال أو يوزن أو تغير؛ لأن هذه (133أ1) الأشياء مضمونة بالمثل عند الإتلاف، وإن كان النصاب شيئاً هو ليس بمثلي كالثوب أو الجارية أو ما أشبهه، فاستهلكه بعدما تم الحول ثم تغير السعر إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه عند أبي حنيفة، كالجواب في المثليات تعتبر القيمة يوم الوجوب، وعندهما تعتبر القيمة يوم الاستهلاك، فالتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات غير معتبر حتى اعتبر القيمة فيها يوم الأداء، والتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات معتبر عندهما، حتى تعتبر القيمة يوم الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات بنفس الاستهلاك تنقل الحق من العين إلى المثل لا إلى القيمة وللمثل حكم العين، وسعر المثل قد يتغير، فيعتبر ما لو تغير سعر العين، ولو كان العين قائماً في يده، وتغير سعره لكان تعتبر قيمته يوم الأداء عندهما، فههنا كذلك.h
أما في غير المثليات ينتقل الحق إلى القيمة بالاستهلاك لا إلى المثل، كما في حقوق العباد والقيمة التي وجبت على صاحب المال لم تعتبر بما تعتبر العين، وحق الفقير في القيمة لا في العين، فاعتبرنا القيمة يوم الاستهلاك لهذا.
هذا الذي ذكرنا كله في فصل الحنطة إذا كان التغير من حيث السعر، فأما إذا كان(2/251)
التغير من حيث الذات، إن كان التغير من حيث النقصان بأن أصاب الحنطة ما بعد الحول، وفسدت وصارت قيمتها مائة، إن أدى من عينها أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من قيمتها أدى درهمين ونصفاً بلا خلاف، فأبو حنيفة رحمه الله فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة.
والفرق أن في هذه المسألة فاتت الجودة، والجودة بعض العين، ألا ترى أن من غصب من أخر ثوباً جيداً، فأصابه بآفة وذهبت الجودة عنه، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء تركه عليه وضمنه قيمته بالغة ما بلغت، وإن شاء أخذ منه وضمنه قيمة الجودة كما لو فاتت بعض العين، فدل أن الجودة بعض العين، فإذا فاتت الجودة فات بعض مال الزكاة، وفوات كل مال الزكاة يوجب سقوط كل الزكاة، ففوات بعضه يوجب سقوط الزكاة قدره، أما في المسألة المتقدمة لم تفت الجودة ولا شيء من العين، ولكن انتقصت قيمته لفتور رغائب الناس فيه، ورغائب الناس ليست بمال، فلم يفت شيء من مال الزكاة حتى تسقط الزكاة بقدره، فلهذا افترقا.
وإن كان التغير إلى زيادة بأن كانت الحنطة ندية، وقيمتها يوم الوجوب بالإجماع فهما فرّقا التغير من حيث الذات إلى زيادة، وبين التغير من حيث فحقت بعد الحول، وصارت قيمتها أربعمائة إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها السعر إلى زيادة.
والفرق أن الزيادة من حيث الذات زيادة عينية، وكانت الزيادة الحاصلة من حيث الذات بعد الحول كزيادة مال استفادها بعد الحول، ولو استفاد زيادة مال بعد الحول لا يجب فيها شيء فههنا كذلك، أما الزيادة من حيث السعر ليست بزيادة عينية، فإن العين على حالها كما كانت، وإنما هي باعتبار رغبة يحدثها الله تعالى في قلوب العباد، ورغائب الناس ليست بمال لتجعل الزيادة بسببها بمنزلة زيادة مال استفادها بعد الحول، وإن لم تزدد العين كانت الأربعة قيمة ذلك العين، وكان قيمة حصة الفقراء عشرة دراهم، فإذا أراد أن يؤدي القيمة يؤدي عشرة دراهم.
ثم إن محمداً قال في هذه الصورة: إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة ولم يقل أدى خمسة أقفزة من هذا اليابس، أو خمسة أقفزة ندية وينبغي أن يؤدي خمسة أقفزة ندية لما ذكرنا أن هذه زيادة مال استفادها بعد الحول، ولا تعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، ولو أوجبنا خمسة أقفزة من هذا اليابس فقد اعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، فأوجبنا خمسة أقفزة ندية كما وجب يوم حولان الحول حتى لم يلزمنا اعتبار الزيادة المستفادة بعد الحول، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري.
قال القدوري في «كتابه» : ويضم الذهب والفضة إلى عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة وعروض التجارة عندنا باعتبار القيمة، وباعتبار القيمة العروض من جنس الدراهم والدنانير.(2/252)
زكاة السوائم
جئنا إلى زكاة السوائم، وبيان أحكامها والمسائل المتعلقة بها، فنقول لا بد لبيان ذلك من معرفة السائمة وألفاظ الكتب في بيان ذلك مختلفة.
ذكر الحسن في «كتابه» عن أبي حنيفة أن السائمة ما ترعى في البرية بنفسها وصاحبها يلتمس به الرَّسَل والنسل ولا يريد بيعها ولا التجارة.
وذكر القدوري في «كتابه» أن السائمة هي الراعية التي تكتفي بالرعي وبمؤنتها (من) ذلك، وهذا لأن السوائم إنما تعتبر لتحقيق الزيادة من حيث الدر والنسل والسمن، وإنما يعتبر ذلك زيادة إذا قلت مؤنة العلف، أما إذا كثرت مؤنة العلف فلا، وإن كان يعلفها أحياناً ويرعاها أحياناً يعتبر فيها الغالب، لأن أصحاب المواشي لا يجدون بداً من أن يعلفوا مواشيهم في بعض السنّة بأن اشتد البرد أو وقع الثلج على الأرض فيسقط اعتبار ذلك، واعتبر الغالب.
إلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال: ألا ترى إلى أهل الجبال ربما علفوا أشهراً أو أكثر، فتخرج بهذا من أن تكون مال الزكاة، أشار إلى أن العبرة للغالب.
ولو نوى أن يجعل السائمة علوفة أو عاملة ذكر في «الأصل» : أنه لا مخرج من أن تكون نصاباً؛ لأن النية لم تتصل بالمنوي، وذكر القدوري في «كتابه» : فإن كان يرعاها مع هذه النية لا مخرج من أن تكون نصاباً. وإن ترك رعيها خرج من أن يكون نصاباً؛ لأن نية جعلها علوفة أو عاملة في الحاصل نية ترك السوم؛ فإن كان يرعاها، فالنية لم تتصل بالمنوي فلا يعمل، وإن ترك رعيها فقد اتصلت النية بالمنوي، فيعمل.
وفي «المنتقى» : إذا كان للرجل غنم للتجارة نوى أن تكون للحم، فجعل يذبح كل شاة، أو كانت عنده إبل سائمة نوى أن تكون للحمولة، فإنها للحم والحمولة، وفيه أيضاً: ذكر إبراهيم عن محمد: إذا كان للرجل إبل يعمل عليها، وهي للعمل تركها ترعى أكثر من ستة أشهر فهي سائمة، وإذا رعاها أقل من ستة أشهر، فهي...... على حالها.
وكذلك الغنم إذا لم تكن سائمة ورعاها، وهو عين ما ذكره القدوري قال: وإن كانت للتجارة ورعاها ستة أشهر أو سنة لم تكن سائمة أبداً، وهي للتجارة إلا أن ينوي أن يجعلها سائمة، قال: وهذا بمنزلة رجل له عبد للتجارة أراد أن يستخدمه سنين، فاستخدمه، فهو للتجارة على حاله، وفيه زكاة التجارة إلا أن ينوي أن يخرجه عن التجارة ويجعله للخدمة.
(زكاة الإبل)
قال محمد رحمه الله: وليس في دون الخمس من الإبل زكاة، وفي الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرون بنت مخاض وهي التي طعنت في السنة الثانية، وفي ست وثلاثين بنت لبون(2/253)
وهي التي طعنت في السنة الثالثة وفي ست وأربعين حُقَّة (133ب1) ، وهي التي طعنت في السنة الرابعة، وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، ثم بعده هي..........، ولا يؤخذ شيء من ذلك في الزكوات، «لنهي النبي عليه السلام عن أخذ كرائم أموال الناس» ، ثم بعد ذلك يزداد عدد الواجب بزيادة إبل النصاب فيجب في ستة وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، على هذا اتفق العلماء.
فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة عند علمائنا، فيكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإذا بلغت خمساً وعشرين تجب بنت مخاض مع الحقتين في مائة وعشرين، فيكون عدد إبل النصاب مائة وخمسة وأربعين، ويكون عدد الواجب حقتان وبنت مخاض، فإذا بلغت الإبل مائة وخمسين تجب فيها ثلاث حقاق، فإذا زادت الإبل على مائة وخمسين تستأنف الفريضة على الترتيب الذي ذكرنا في أصل النصاب إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين وصارت جملة إبل النصاب مائة وخمسة وسبعين تجب فيها بنت مخاض مع ما سبق من الحقاق إلى ستة وثلاثين، فإذا بلغ ستاً وثلاثين تجب فيها بنت لبون مع ما تقدم من الحقاق إلى ست وأربعين فإذا بلغت ستاً وأربعين تجب فيها أربع حقاق إلى خمسين، فإذا صارت خمسين وصارت جملة إبل النصاب مائتين، وزادت عليها بعد ذلك استأنف الفريضة، وبعد ذلك كلما بلغت الإبل خمسين يستأنف الفريضة أبداً على نحو ما فسّرنا.
(زكاة البقر)
قال وليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإن كانت ثلاثين سائمة ففيها تبيع أو تبيعة وهي الحول التي تمت له سنة، وطعن في الثانية، وفي أربعين مسنة، وهي التي طعنت في الثالثة، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله فيما زاد على الأربعين، ذكر في «الأصل» : إن زاد فبسبحان ما مضى، فإن كانت واحدة ففيها ربع عشر مسنة، وروى الحسن عنه أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى يبلغ عشراً، فإذا بلغت عشراً وصارت جملة بقر النصاب خمسين تجب فيها مسنة وربع مسنة، مسنة في الأربعين وربع مسنة في الزيادة، وروى ابن كاس عنه أنه لا شيء في الزيادة، حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً وصارت جملة البقر خمسة وأربعين تجب مسنة وثُمْنُ مسنة، مسنة في الأربعين، وثُمْنُ مسنة في الخمس، وروى أسد بن عمرو عنه أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت عشرين، فصار جملة نصاب البقر ستون تجب فيها تبيعان أو تبيعتان، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وإذا ازدادت على الستين يتغير الفرض بعشر عشرة أبداً بلا خلاف، ويتغير من التبيع إلى المسنة ومن المسنة إلى التبيع، ويدار(2/254)
الحساب على الأربعينات والثلاثينات فيجب في سبعين مسنة تبيع مسنة في الأربعين، وتبيع في الثلاثين، وفي ثمانين مسنتان في كل أربعين مسنة، وفي تسعين ثلاث أتبعه في كل ثلاثين تبيع، وفي المائة تبيعان ومسنة، في أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع، هكذا أبداً.
(زكاة الغنم)
قال: وليس في أقل من أربعين من الغنم صدقة، فإذا كان أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا ازدادت واحدة، ففيها ثلاث شياه إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة، ذكر في «الأصل» عن أبي حنيفة أنه لا يؤخذ إلى الثني فصاعداً، وروى الحسن عنه أنه يؤخذ الجذع من الضأن والثني من المعز، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله.
إذا اجتمع في النصاب نوعان بأن كان غنم ضأن ومعز وإبل عراب وبخت وبقر وجواميس يجمع الغنم كلها على حدة، والبقر كلها على حدة. ويأخذ المصدق من أوساطها فريضة التي تجب له، فإن شاء أخذ من البقر دون الجواميس؛ لأنه شيء واحد وقال أصحابنا: المتولد بين الغنم والظبا يعتبر فيه الأم، فإن كانت الأم غنماً تجب الزكاة ويكمل به النصاب، وكذلك المتولد من البقر الأهلي والوحشي، وإذا أدى شاة سمينة تبلغ قيمتها قيمة شاتين وسطين عن شاتين وسطين جاز، كذا ذكر في «الجامع الكبير» ، لأن للجودة قيمة في الشاة، فلم يكن المؤدى عين المنصوص عليه، فيمكن بقدره بالمنصوص عليه.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الخيل السائمة إذا كانت ذكوراً وإناثاً، ففيها الزكاة ويخير صاحبها، فإن شاء أعطى من كل فرس ديناراً، وإن شاء أعطى ربع عشر قيمتها، والأصل في ذلك ما روى جابر أن رسول الله عليه السلام قال: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم وليس في المرابطة شيء» .
وأما الذكور الخلَّص والإناث الخلَّص، ففيه روايتان عن أبي حنيفة. في رواية تجب كما في المختلط، وفي رواية لا تجب، وقال أبو يوسف ومحمد: لا صدقة في الخيل أصلاً، وهو قول الشافعي حجتهم في ذلك: قوله عليه السلام: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» ولأنا أجمعنا على أنه ليس للساعي ولاية الأخذ، ومعنى زكاة السوائم على أن ولاية الأخذ للساعي، لو كانت الزكاة واجبة في الخيل لكان ولاية الأخذ فيها للساعي، وأبو حنيفة رحمه الله يحمل ما رووا من الحديث على فرس الغازي، ويجب عن فصيل الساعي ويقول: الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنهم إذا علموا أنه لا يتركونه لصاحبه.(2/255)
ولا زكاة في الحمر والبغال وإن كانت سائمة؛ لأن الزكاة لا تجب في الحيوانات إلا بالإسامة والخيل والإبل والغنم تسام عادة أما الحمر والبغال لا تسام عادة.
قال محمد رحمه الله: وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل زكاة، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: يجب فيها ما يجب في المسنان، وهو قول زفر، ثم رجع عن هذا القول، وقال: يجب فيها واحدة منها، وهو قول أبي يوسف والشافعي، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يجب فيها شيء، وهو قول محمد. وجه قوله الأول: قوله عليه السلام: «في خمس من الإبل السائمة شاة» ، وقوله عليه السلام: «في أربعين شاة شاة» وهذا اسم جنس، فيتناول الصغار والكبار كما يتناول الذكور والإناث. وجه قوله الثاني أن قول أبي بكر: «لو منعوني عناقاً مما كانوا يؤدونه على عهد رسول الله عليه السلام لقاتلتهم» بين أن للعناق مدخلاً في باب الزكاة، ولا يكون ذلك إلا في الصغار، وجه قوله الآخر: أن الزكاة عرفت نصاً، فإن أمكن إيجابها كما نطق به النص تجب وما لا فلا، وأدنى ما ورد الشرع بإيجابه في الإبل من الإبل بنت مخاض.
ثم إن مشايخنا تكلموا في كيفية الاختلاف في هذه المسألة، بعضهم قالوا الاختلاف في انعقاد الحول على الصغار، عند أبي حنيفة آخر الحول لا ينعقد على الصغار، وهو قول محمد، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي ينعقد، وبعضهم قالوا: الاختلاف في بقاء الحول إذا كان للرجل نصاب إبل أو نصاب بقر أو غنم، فولدت أولاداً وهلكت (134أ1) الأمهات وتمّ الحول على الأولاد، فلا شيء فيها عند محمد، وهو قول أبي حنيفة آخراً وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تجب.
ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف في الحملان إذا كانت أربعين وفي العجاجيل إذا كانت ثلاثين أنه تجب واحدة منها، وإذا كانت أقل من ذلك لا يجب شيء كما في المسنان، واتفقت الروايات عنه في الفصلان أيضاً أنه تجب في خمسة وعشرين فصيل واحد منها، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عدداً تجب اثنان من الكبار وهو ستة وسبعون، فإنه يجب فيها بنتا لبون، فإذا بلغت الفُصْلان هذا المبلغ تجب اثنان منها.......، فقد اختلفت الروايات عن أبي يوسف فيه، وفي رواية قال: لا يجب فيها شيء، وفي رواية قال: لا يجب في خمس فصال الأقل من واحدة منها، ومن شاة وفي العشر الأقل من ثنتين منها ومن شاتين، وفي خمسة عشر الأقل من ثلاث منها ومن ثلاث شياه. وفي عشرين الأقل من أربع منها ومن أربع شياه، وفي خمسة وعشرين واحدة منها، وفي رواية في العشر الأقل من واحدة منها ومن شاتين إلى آخر ما ذكرنا، وهاتان الروايتان لا حجة(2/256)
لهما؛ لأن على اتفاق الروايات عنه تجب في خمس وعشرين منها واحدة منها، فكيف تجب في خمسة عشر ثلاث منها وفي عشرين أربع منها، وفي رواية هشام عنه: تجب في خمسة فصال خمس فصيل وفي ثلاثة عشر ثلاثة أخماس فصيل، وفي خمسة وعشرين واحد منها.
وفي رواية محمد عنه: إذا كان له خمسة فصلان ينظر إلى قيمة أفصلها، وإلى قيمة بنت مخاض، فإن كان قيمة أفصلها تبلغ قيمة بنت مخاض تجب فيها شاة، وإن كانت تبلغ نصف بنت مخاض تجب نصف شاة؛ لأنه لو كان واحدة منها بنت مخاض تجب فيها شاة، فإذا لم تكن فيها بنت مخاض تعتبر قيمتها، هذا كله إذا كان النصاب كله صغاراً.
وإن كان في النصاب واحدة مسنة فصاعداً تجب الزكاة بلا خلاف، حتى إذا كان له تسعة وثلاثون حملاً، وواحدة مسنة حال عليها الحول وجب فيها شاة، ويجعل الصغار تبعاً للمسنة، فبعد ذلك ينظر إن كانت المسنة وسطاً أخذت في الزكاة، وإن كانت جيدة لم يؤخذ، ويؤمر بأداء شاة وسط، وإن كانت أقل من الوسط يؤدي صاحب المال ذلك أو قيمته؛ لأن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجوب الزكاة كان باعتبارها، فلا يزاد عليها.
وعند أبي يوسف رحمه الله الفصل على الحمل كان باعتبارها، فلا يزاد عليها، كان المعنى فيه أنّا لو أوجبنا شاة وسطاً والحالة هذه، ربما تؤثر تلك على قيمة أكثر النصاب، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال، فإن هلكت المسنة بعد تمام الحول لم يؤخذ مما بقي شيء في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوجوب عندهما باعتبار ملك الواحدة وجعل الصغار تبعاً لها، فإذا هلكت هي من غير صنع أحد صار كما لو هلك الكل، وعند أبي يوسف الفضل على الحمل كان باعتبار تلك الواحدة، فيبطل الفضل بهلاكها وجعل كأن النصاب كله كان حملاناً، وهلكت منها واحدة وهناك تجب تسعة وثلاثون جزءاً من أربعين جرءاً من الحمل، كذا ههنا.
ولو هلك الحملان، وبقيت المسنة يجب فيها جزء من أربعين جرءاً من شاة مسنة، فقد جعل الواجب في السنة لا غير حال هلاكها، حتى لو قال بسقوط الواجب عندهما وبسقوط الفضل عند أبي يوسف، وجعل الواجب في الكل حال بقاء المسنة، وهلاك الصغار حتى أوجب في المسنة جزءاً من أربعين جزءاً من شاة مسنة.
والوجه في هذا أن يقال: بأنّا لا نقول بأن الواجب في السنة وحدها، إذ لو كان كذلك كان هذا إيجاب القليل في القليل أو إيجاب الكثير في الكثير، وإنه خلاف مبنى الزكاة، بل الوجوب في الكل إلا أنه أعطى الصغار حكم الكبار تبعاً للمسنة، وجعل في حق المسنة كأن الكل كبار، وهلك تسعة وثلاثون، فتبقى المسنة يقسطها ويسقط قسط الباقيات، أما في حق الصغار الكبيرة أصل، فإذا هلكت جعل هلاكها بمنزلة هلاك الكل، فسقط كل الواجب لهذا.
وكذلك إذا كان للرجل أربعة وعشرون فصيلاً وبنت مخاض سمينة أو وسط، أو(2/257)
كان له تسعة وعشرون حمولاً، وتبيع سمينة أو وسط، فهو على التفاصيل التي بيناها، وإذا كان له أربعون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة سمينة، فإنه تجب فيها شاة وسط، وإن لم يكن فيها شاة سمينة فإنه يجب واحدة من فضلهن إلى مائة وعشرين، ولا تؤخذ شاة وسط كيلا يؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال.
وإن كان له مائة وإحدى (و) عشرون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة وسط، فإنه تؤخذ تلك الشاة وواحدة من أفضلهن؛ لأنه لو كان فيها شاتان وسطان أخذها، فإذا كان فيها واحدة وسط أخذت هي أو واحدة من أفضلهن.
وإن كان له مائتان وواحدة فيها شاة وسط وما سواها عجاف، فإنه تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن، لأنه لو كان فيها ثلاث شياه أوساط أخذن، فإذا كان فيها واحدة وسط تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن.
رجل له خمس من الإبل بنات مخاض أو فوق ذلك إلا أنها عجاف، بعجفهن لا تساوي واحدة منهن بنت مخاض وسط، فعليه شاة من ذلك الصنف الذي الإبل فيه. وبيان ذلك أنه ينظر إلى قيمة بنت مخاض وسط، وإلى قيمة شاة وسط، وإنما اعتبرنا قيمة بنت مخاض وسط، لأن أقل الأسنان التي فرضت فيها الزكاة بنات المخاض ثم تتغير الزكاة بعد ذلك بزيادة العدد لا بزيادة السن، فاعتبرت قيمة بنت مخاض وسط لهذا، فإن كانت قيمة بنت مخاض وسط مثلاً خمسين وقيمة الشاة الوسط عشرة، فنقول لو كانت الواحدة بنت مخاض وسط، لكان الواجب فيها شاة قيمتها عشرة، وذلك خمس بنت مخاض، فإذا لم تكن الواحدة بنت مخاض وسط.......... ننظر إلى قيمة أفضلهن، فإن كان قيمتها عشرين مثلاً، تجب فيها شاة تساوي أربعة مثل خمس أفضلهن على هذا التفسير، إذ لا وجه إلى الإجحاف بأرباب الأموال، ولا إلى تعطيل الأموال، ولو أوجبنا ههنا شاة وسطاً، ربما تبلغ قيمتها قيمة واحدة منها أو أكثر، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب المال، وكان النظر من الطرفين فبها قلنا.
وكذلك لو كن ستاً أو سبعاً أو ثمانياً أو تسعاً على سن ما ذكرنا؛ لأن الفضل على الخمس إلى العشر عضو، فإذا صارت عشراً ففيها شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه على التفسير الذي قلنا.
ولو كان له خمس وعشرون من الإبل بنات مخاض وفوق ذلك، وفيهن بنت مخاض وسط وجبت بنت مخاض وسط، لأنه وجد فيهن ما يؤخذ في الزكاة، وإن كن كلهن دون بنت مخاض وسط في القيمة، لا تجب بنت مخاض وسط لأنا (134ب1) ، لو أوجبنا ذلك لا يكون المأخوذ مأخوذاً في النصاب، ومبنى الزكاة أن يكون المأخوذ موجوداً في النصاب، ولأن فيه إضراراً بأرباب المال، ولكن يؤخذ أفضلهن فيكون ذلك قائماً مقام بنت مخاض وسط، وإن كان عشر عجاف بنات مخاض أو خمس عشرة أو عشرين إلا(2/258)
واحدة منها، فإنها بنت مخاض وسط، وجبت في العشر شاتان وسطان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه أوساط، وفي عشرين أربع شياه أوساط؛ لأن الأصل في نصاب الإبل بنت المخاض وما زاد عليها عفو، ألا ترى أن من كان له خمس بنت مخاض تجب فيها شاة وسط، فإذا (وجد) في النصاب ما هو الأصل يكفي، وجعل ما وراءه تبعاً له.
فإن قيل: إذا وجدنا أربعاً من الشياه الأوساط وقع الإجحاف بأرباب الأموال؛ لأن قيمتها قد تزيد على بنت المخاض التي تجب الزكاة لأجلها، قلنا: هذا فاسد؛ لأن سعر الغنم مع سعر الإبل تتفاوتان من حيث الغالب، فإذا ازداد أحدهما يزداد الآخر، وإذا انتقص أحدهما انتقص الآخر.
ألا ترى أن الشرع أوجب في الخمس من الإبل السائمة شاة وسطاً، وفي العشرين أربع شياه أوساط، وفي خمس وعشرين بنت مخاض وسط، ولو جاز أن تكون قيمة أربع شياه أوساط تزيد على قيمة بنت مخاض وسط كان الواجب في خمس وعشرين أقل من الواجب في العشرين، وهذا مما يجوز أن يقال به.
الفصل الرابع في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله
لا خلاف لأحد أن تصرف الرجل في ماله قبل الحول جائز بيعاً كان أو غيره، وإنما الكلام في الكراهة، فنقول: أجمعوا على أنه إذا باع لتوسيع النفقة على نفسه وعياله أنه لا يكره، وأما إذا قصد بالبيع الفرار عن وجوب الصدقة يكره عند محمد، وعند أبي يوسف لا يكره، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يكره، وأما تصرفه بعد الحول جائز عندنا، فالأصل عندنا أن وجوب حق الله تعالى في المال نحو الزكاة وما أشبهه لا يمنع النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الحق في الحقيقة في الذمة، والمال محل إقامة الحق، فقبل الإقامة كان المال خالياً عن حق الله تعالى، فانعدم المانع من النقل.
ألا ترى أن مال الزكاة إذا كانت جارية فحال عليها الحول حل لصاحب المال وطؤها، ولو كان الحق ثابتاً في العين كانت الجارية مشتركة، ولا يحل وطء الجارية المشتركة، ولأن الزكاة إنما وجبت بصفة اليسر، واليسر في الأداء من نماء المال ولا نماء إلا بالتصرف، لو صار وجوب الزكاة مانعاً من التصرف لصار مانعاً من الأداء من نماء المال، فصار مانعاً من الأداء بصفة اليسر، فيعود إلى موضوعه بالنقص، وإنه لا يجوز.
وإذا ثبت أن وجوب الزكاة لا يمنع المالك من التصرف بعد ذلك ينظر إن إزالة المال عن ملكه بتصرفه بغير عوض نحو الهبة وأشباهها، فهو ضامن قدر الزكاة، وإن أزاله عن ملكه بعوض نحو البيع، فإن حصلت الإزالة بعوض يعدله ويوازيه لا يصير ضامناً للزكاة بقي العوض في يده أو هلك، وإن حصلت الإزالة بعوض لا يعدله ولا يوازيه يصير ضامناً قدر الزكاة بقي العوض في يده أو هلك؛ وهذا لأن البيع إذا حصل بعوض يعدل(2/259)
والعوض يقوم مقام جميع مال الزكاة، ويصير من حيث المعنى كأن مال الزكاة قائم في ملكه، فلا يصير بالبيع مستهلكاً للزكاة، بل يصير ناقلاً، إياها من محل إلى محل، وله ولاية النقل حتى جاز أدء القيمة عندنا، فأما إذا حصل البيع بعوض لا يعدله، فالعوض لا يقوم مقام جميع مال الزكاة، فيصير بالبيع مستلهكاً مال الزكاة لا ناقلاً، والاستهلاك سبب وجوب الضمان.
ثم إذا وجب الضمان بالاستهلاك وزال الاستهلاك بانفساخ السبب من الأصل برىء من الضمان؛ لأن انفساخ السبب يوجب انعدامه من الأصل، كأن لم يكن وانعدام سبب الضمان يوجب انعدام الضمان، وإن زال بطريق الارتفاع لا بطريق الانفساخ من الأصل لا يبرأ عن الضمان؛ لأن ارتفاع السبب لا يوجب زوال الحكم؛ لأنه لا يظهر عدم السبب من الأصل ووجود السبب يشترط لثبوت الحكم، أما بقاؤه لا يشترط لبقاء الحكم، فيبقى حكم الضمان وإن زال السبب.
إذا عرفنا هذا الأصل جئنا إلى بيان المسائل: قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان له إبل سائمة باعها بعد الحول حتى بعد البيع ثم حضر الساعي، فإن قال له البائع: أنا أدفع إليك قيمة الواجب أو عين الواجب من مال آخر، فلا سبيل له على المشترى، وإن قال له البائع: ليس عندي ما أدفعه إليك للحال، ينظر: إن كان البائع والمشتري في مجلس العقد بعد، فالساعي بالخيار إن شاء اتبع البائع بقدر الزكاة؛ لأن الزكاة وجبت عليه، وإن شاء اتبع المشتري وفسخ العقد في قدر الزكاة، وأخذ ذلك من النصاب.
وإن حضر الساعي بعدما تفرق البائع والمشتري عن مجلس العقد، فالقياس أن للساعي الخيار على نحو ما بينا، وفي الاستحسان لا سبيل له على المشتري، بل يتبع البائع بقدر الزكاة بمال.
وإذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة وهي مثلها في القيمة أو باعها بدراهم أو دنانير لا يصير ضامناً للزكاة؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض يعدله، بخلاف ما إذا باعها بعبد للخدمة.
قال في «الجامع» : رجل له ألف درهم حال عليها الحول وجبت فيها الزكاة، ثم اشترى بها عبداً للتجارة يساوي تسعمائة وخمسين درهماً، ثم هلك العبد سقط عنه زكاة الألف المقدر بتسعمائة وخمسين؛ لأنه بهذا القدر بادل مال الزكاة بعوض يعدله ويوازيه؛ لأن العوض للتجارة كالأصل، فلا يصير بهذا القدر مستهلكاً، بخلاف ما إذا اشترى عبداً للخدمة أو طعاماً للأكل أو ثياباً للبس، حيث يعتبر ضامناً قدر الزكاة، بقيت هذه الأشياء في يده أو هلكت؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض لا يعدله، فيصير مستلهكاً قدر الزكاة.
وأما بقدر الخمسين وإن شاء مستهلكاً بهذا القدر؛ لأنه ليس بمقابلته عوض، إلا أن هذا القدر غبن يسير لأنه يدخل تحت تقويم المقومين منهم من يقومه بتسعمائة وخمسين، ومنهم من يقومه بألف فالاستهلاك إن ثبت بقول أحدهما لم يثبت بقول الآخر، فلا يثبت بالشك.(2/260)
ولو كان اشترى بالألف عبداً قيمته خمسمائة وتقابضا وهلك العبد في يده لزمه زكاة خمسمئة، لأن بهذا القدر صار مستهلكاً؛ لأنه لمس بمقابلته عوض، وهذا غبن فاحش لأنه لا يدخل تحت تقويم المقومين والغبن الفاحش ليس بعفو؛ لأنه استهلاك بيقين، وعن أبي يوسف أن المشتري إنما يضمن زكاة خمسمائة إذا علم أن قيمة العبد خمسمائة واشتراه مع ذلك بالألف، أما إذا حسب أن قيمته ألف لا يضمن شيئاً، لأنه ما قصد الاستهلاك بل خدعه البائع، فكان مغروراً من جهته فيكون معذوراً، والصحيح ما ذكر في «الكتاب» ؛ لأن علم المشتري وجهله أمران باطنان لا يوقف عليهما، فلا يتعلق الحكم بها، بل يتعلق بسبب ظاهر، وفي الظاهر (135أ1) استهلاك، وما يقول البائع خدعه.
قلنا: إنما يكون كذلك إذا قال البائع هذا العبد يساوي ألفاً ورغبه في الشراء بالألف؛ لأنه يساوي، ولا كلام فيه حتى قال مشايخنا: لو قال البائع للمشتري ذلك لا يبعد أن يقول: لا يضمن المشتري.
رجل له ألف درهم حال عليها الحول ووجب فيها الزكاة، ثم إنه وهبها لرجل وسلمها إليه صار ضامناً للزكاة، لأنه صار مستهلكاً قدر الزكاة بإزالته عن ملكه بغير عوض أصلاً، فلو أن الواهب رجع في الهبة نقضاً بغير رضا وقبضها، وهلكت في يده فلا زكاة عليه.
علّل في «الكتاب» فقال: لأنها رجعت إلى حالتها الأولى، ومعنى هذا الكلام: أن الرجوع في الهبة فسخ في حق الناس كافة، والدراهم تتعين في الهبة، فتعين في فسخها، فعاد إليه قديم ملكه في الدراهم وارتفع الاستهلاك، فقد جعل الرجوع بالهبة فسخاً في حق الناس كافة، وإن حصل الرجوع بتراضيهما على رواية «الجامع» وفي كتاب الهبة........ هكذا على رواية أبي حفص، وعلى رواية أبي سليمان جعله عقداً جديداً في حق الثالث إذا حصل بتراضيهما.
وحكى الجصاص بإسناده عن محمد رحمه الله: أن القياس أن يكون الرجوع في الهبة فسخاً سواء بقضاء أو بغير قضاء غير أني أستحسن، فلا أجعله فسخاً إذا كان بغير قضاء، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال.
قيل: ما ذكر في «الجامع» وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص قياس، وما ذكر في رواية أبي سليمان والمتأخرون من مشايخنا قالوا: الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص، والوجه في ذلك أن الواهب بالرجوع يستوفي عين حقه؛ لأنه استحق الرجوع في الموهوب بنفس الهبة لا بدلاً عن شيء يصلح أن يكون الفسخ عوضاً عنه، وهذا لأن العوض المال وإن كان عوضاً للواهب بالهبة، إلا أن العوض المالي لا يصير مستحقاً بالمطالبة لمكان الجهالة، فلا يمكن أن يجعل الفسخ عوضاً عنه، وما عدا العوض المالي ليس بعوض، ولا مستحق بالعقد إذا لم يكن ما عدا العوض(2/261)
المالي عوضاً ومستحقاً بعقد الهبة، ولا يمكن أن يجعل فسخه عوضاً عن العوض المالي كان الفسخ ثابتاً بنفس الهبة ابتداء لا بدلاً، ولهذا لو تعذر الفسخ بسبب من الأسباب لا يستحق الواهب الرجوع بشيء آخر.
فهو معنى قولنا: إن الواهب بالرجوع استوفى عين حقه، فلا يكون بيعاً جديداً، بل يكون فسخاً في حق الناس كافة، كما لو حصل الرجوع بقضاء.
ولم يذكر في «الكتاب» : إذا رجع في الهبة ولم يقبضها حتى هلكت في يد الموهوب له، هل يضمن قدر الزكاة؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم، قالوا: يضمنون؛ لأن سبب الضمان الهبة والتسليم، الهبة إن انتقضت بالرجوع، فالتسليم لم ينتقض، فلا يبطل الضمان، وبعضهم قالوا: لا يضمن؛ لأنه إنما ضمن بالهبة والتسليم من حيث إنه أزال قدر الزكاة عن ملكه بعدما تعلق به حق الفقراء من غير تلف لا من حيث إنه دفعه إلى غيره، وبالرجوع عاد إليه قديم ملكه على رواية هذ الكتاب، فزال سبب الضمان، فيزول الضمان.
ولو كان اشترى بالألف عبداً للخدمة بعد الحول حتى ضمن قدر الزكاة، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً ورده بقضاء، أو بغير قضاء واسترد تلك الألف وهلك في يده لا تسقط عنه الزكاة؛ لأن سبب الضمان لم يزل؛ لأن أكثر ما في الباب أنه عاد إليه ملك الألف إلا أنها ما عادت إليه بسبب الفسخ؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في فسخ البيع كما لا يتعينان في البيع، فالفسخ أوجب الألف ديناً في ذمة البائع، والمشتري أخذ هذه الألف عوضاً عما وجب في ذمة البائع، لا بحكم الفسخ، فلم يكن هذا الاسترداد إعادة إلى قديم الملك.
بل كان تمليكاً ابتداء عوضاً عما وجب في الذمة، وتجدد الملك يُنزّل منزلة تجدد البيع، ولو وصل إليه عين آخر اليسر أنه لا يرتفع حكم ذلك الاستهلاك كذا ههنا، بخلاف الرجوع في الهبة؛ لأن الدراهم والدنانير تتعينان في الهبة، فيتعينان في الفسخ فعين النصاب عاد إليه بناءً على انفساخ سبب الزوال، فافترقا من هذا الوجه.
رجل تزوج امرأة على ألف درهم، ودفعها إليها، فحال عليها الحول وهي في يدها حتى وجبت عليها الزكاة، ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها نصف الألف، لا يسقط عنها شيء من الزكاة؛ لأن الدراهم لا تتعين عند فسخ النكاح كما لا تتعين عند عقد النكاح، فبالطلاق قبل الدخول بها يجب عليه رد نصف الألف ديناً في الذمة، فهذا دين لحقها بعد الدخول، وقد قضت ذلك من محل تعلق به حق الفقراء، فصارت ضامنة للزكاة.
ولو تزوجها على إبل سائمة أو غنم سائمة أو بقر سائمة، ودفعها إليها، فحال الحول عليها، وهي عندها ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها النصف، فلا زكاة عليها في النصف الذي دفعت إلى الزوج، وإنما عليها الزكاة في النصف الباقي.
وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا تزوجها على إبل بعينها؛ لأنها تعينت للرد،(2/262)
فالاستحقاق ورد على بعض النصاب بعينه، وإنه يوجب سقوط الزكاة بقدره، وإنما يشكل هنا إذا تزوجها على إبل بغير عينها ثم عينها؛ لأن الإبل إذا لم تكن معنية عند العقد، فعند الفسخ بطلاق الزوج لا يستحق عليها نصف المقبوض، وإنما يستحق مثل المقبوض ديناً في الذمة أو نصف قيمة المقبوض، فلم تصر عين مال الزكاة مستحقاً، فينبغي أن لا يسقط شيء من الزكاة، ألا ترى أن الإبل إذا لم تكن معنياً عند العقد، فالمرأة لا تستحق عين الإبل إنما تستحق أحد الشيئين؛ إما الوسط من المسمى أو القيمة، كذا الزوج عند الطلاق.
فمن مشايخنا من حمل المسألة على ما إذا تزوجها على إبل بعينها ألا ترى أن محمداً رحمه الله قال تزوجها على إبل سائمة وإسامة ما في الذمة لا يتصور، وإنما يتصور إسامة العين، ومنهم من قال الجواب في العين وغير العين على السواء، وهو الصحيح.
وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، والتنصيص على السائمة لا يدل على إرادة العين.
فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب النكاح: إذا تزوجها على إبل سائمة بغير عينها، فالوجه في المسألة أن الإبل لم تكن معينة عند العقد إلا أن بعد ما عينها التحقت بالمعين وقت العقد كأن العقد من الابتداء ورد عليها، وإنما التحقت بالمعين وقت العقد ضرورة أنها لو لم تلتحق بالمعين وقت العقد (135ب1) وجب على المرأة بالطلاق قبل الدخول مثل ما يجب على الزوج عند العقد، ولا وجه إليه؛ لأنه وقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين المقبوض؛ لأن الحيوان ليست من ذوات الأمثال.
وكذا يقع التفاوت بين نصف المقبوض وقيمته، والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالمعين وقت العقد، فألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد، فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن إذ ثبت حالة العقد غير معين، فأما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض فأمكن إيجاب نصفه تحرزاً عن التفاوت، وإذا أوجب عليها رد نصف المقبوض صار غير مال الزكاة مستحقاً عليها، وهذا بخلاف الدراهم؛ لأن الدراهم بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد، وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح.
ثم إن محمداً رحمه الله أوجب عليها الزكاة في النصف الباقي، ولم يشترط أن يكون ذلك نصاباً، وفرق بين هذا وبين ما إذا لم تقبض المرأة الإبل حتى طلقها بعد الحول قبل الدخول بها، فإن عليها زكاة نصفها إن كان نصاباً والفرق أن الصداق إذا كان عيناً وكان مقبوضاً، فبالطلاق قبل الدخول لا ينتقض ملكها في النصف إلا بقضاء ورضاء، وإذا لم يكن مقبوضاً فبالطلاق قبل الدخول ينتقض ملكها في النصف من الأصل من غير قضاء ولا رضاء.
فالوجه في ذلك: أن بالطلاق قبل الدخول يفسد سبب الملك في نصف الصداق؛(2/263)
لأن العقد ورد على العين بالعين وقد هلك أحدهما قبل القبض، وبقي الآخر، والأصل أن العقد إذا ورد على العين بالعين، وهلك أحدهما قبل القبض وبقي الآخر، يفسد العقد في الآخر ولا يبطل؛ لأن كل واحد منهما أصل من وجه، فبقاء ما بقي يوجب بقاء العقد، وهلاك ما هلك يوجب انفساخ العقد، فعملنا بهما فقلنا ببقاء أصل العقد، وبارتفاع وصف الصحة إذا ثبت أن سبب ملكها في نصف الصداق يفسد بالطلاق قبل الدخول.
فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في اليد بعد القبض، فلا يمنع بقاء من الطريق الأولى، فيبقى الملك إلا أنه ينتقض بالقضاء أو الرضا، فيقتصر البطلان على حالة القضاء أو الرضا، وكان بمنزلة هلاك البعض بعد الحول، فلا يشترط كون الباقي نصاباً، أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك فيمنع البقاء، فينتقض الملك في النصف من الأصل، وصار كأن لم يكن، وكان كالمال المشترك بينهما، فيشترط أن يكون نصاباً.
وإن كانت الإبل قد ازدادت في يديها زيادة متصلة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يسقط عنها شيء من الزكاة، لأن الواجب عليها في هذه الصورة: رد نصف القيمة لا رد نصف الأصل؛ لأن الزيادة المتصلة في المهر تمنع بنصف العين بالطلاق قبل الدخول على ما عرف؛ فلم يصر عين مال الزكاة مستحقاً، ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر الخلاف، وذكر في نكاح «الأصل» : أن الزيادة المتصلة بالمهر تمنع بنصف المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد وزفر: لا تمنع، ولما كان قول محمد في الزيادة المتصلة أنها لا تمنع بنصف المهر صار نصف المهر عين مال الزكاة مستحقاً عليها، فينبغي أن تسقط نصف الزكاة، وتبين مما ذكر في نكاح «الأصل» أن المذكور في الجامع قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعلى قول محمد، وزفر لا تمنع ويكون المذكور، في «الجامع» قول الكل وثبت برجوع محمد إلى قولهما؛ لأن «الجامع» آخر تصانيف محمد رحمه الله.
ولو لم يكن الزوج طلقها قبل الدخول، ولكنها قبلت ابن زوجها قبل الدخول بها بشهوة حتى بانت من زوجها، وجب عليها رد جميع البدل إذا لم تزدد الإبل في بدنها لمكان الفرقة الجاثية من قبلها قبل الدخول بها، وسقط عنها كل الزكاة؛ لأن عين مال الزكاة استحق عليها بكماله.
فإن قيل: سبب استحقاق مال الزكاة صنعها، وهو التقبيل، فصارت مستهلكة مال الزكاة، فتصير ضامنة قدر الزكاة، والواجب أن بالتقبيل في هذه الصورة لا يزول ملكها عن الصداق متى كان الصداق عيناً، وكان مقبوضاً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها؛ لأن النكاح في هذه الصورة مشتمل على عوضين يتعينان بالعقد؛ لأن المرأة عين والصداق في هذه الصورة عين أيضاً، والمعاوضة متى اشتملت على عوضين عينين يتعينان بالمعاوضة وهلك أحدهما قبل التسليم، والآخر مقبوض، فالمقبوض يبقى ملكاً للقابض ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو يرد القابض بنفسه على ما مر.(2/264)
إذا ثبت هذا فنقول: هلك أحد العوضين وهو المرأة معنى بالتقبيل، والعوض الآخر وهو الصداق مقبوض، فبقي ملكاً لها ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها، فهو من حيث المعنى كالرد بقضاء القاضي؛ لأنها ردت بسبب فساد الملك، والرد بقضاء وبغير قضاء سواء؛ لأنه في الحالين لا يثبت عقد جديد في حق الثالث؛ لأنها في الحالين موقفه عين حق الزوج، فإن كانت قبلت ابن زوجها، وقد ازدادت الإبل في يديها جبراً لا يجب عليها رد الإبل عندهما، لقيام المانع من الرد، وهو الزيادة المتصلة، فترد القيمة وعليها جميع زكاة الإبل؛ لأن عين مال الزكاة لم يصر مستحقاً عليها، وعلى قول محمد رحمه الله على ما ذكر محمد في نكاح «الأصل» ، يجب عليها رد عين الإبل؛ لأن الزيادة المتصلة ليست بمانعة نصف العين فيلزمها رد عين الإبل، وتسقط جميع الزكاة عنها لاستحقاق عين مال الزكاة عليها بكماله، والله أعلم.
الفصل الخامس في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه
إذا استبدل الدراهم أو الدنانير بجنسها أو بخلاف جنسها لم ينقطع حكم الحول، حتى لو تم حول الأصل تجب الزكاة، وكذلك إذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة لا ينقطع حكم الحول، وإذا استبدل السائمة بخلاف جنسها بأن باعها بدراهم أو دنانير أو بجنسها بأن باعها بإبل مثلها مثلاً يبطل حكم الحول عندنا، وهذا لأن الزكاة السائمة تجب باعتبار العين ولا يراعى فيها القيمة، وكان انعقاد الحول عليها باعتبار العين، والعين الثاني غير الأول حقيقة، فقد تبدل ما انعقد عليه الحول، فيبطل حكم الحول ضرورة بخلاف عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانعقاد الحول عليه باعتبار القيمة، والقيمة لم تتبدل.
فإن قيل: زكاة السائمة كما تجب باعتبار العين تجب باعتبار القيمة والمالية أيضاً، ألا ترى أنه لو هلكت المالية بالموت لا تجب الزكاة، وههنا إن تبدل العين لم تتبدل المالية، فاعتبار العين يوجب بطلان الحول، واعتبار المالية يوجب بقاء الحول، فلا يبطل الحول بالشك.
قلنا: وجوب الزكاة في السائمة (136أ1) إن كان باعتبار العين والمالية جميعاً إلا أن اعتبار العين أولى، لأن العين أصل، والمالية تبع، فإن العين تبقى بدون المالية، والمالية لا تبقى بدون العين، فإذا تبدل العين، فقد تبدل الأصل، فجعل المالية مقيداً له حكماً ومعنى تبعاً وإن لم تتبدل من حيث الحقيقة، وإذا تبدل العين والمالية جميعاً بطل حكم الحول ضرورة.
وإذا كان للرجل إبل سائمة، فإذا كان قبل الحول بشهر هلك واحدة منها لا يبطل حكم الحول عندنا، حتى لو استفاد واحدة منها أخرى قبل الحول ثم تم الحول تجب(2/265)
الزكاة عندنا، وهذا بناءً على أن نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة بلا خلاف، وهذا لأن الحول إنما ينعقد باعتبار المال، وبعض المال في السوائم عندنا خلافاً للشافعي، وفي عروض التجارة والدراهم والدنانير نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة إن زال بقي البعض.
فزوال ما زال إن كان يوجب بطلان الحول، فبقاء ما بقي يوجب بقاء الحول وقد عرف أن الحكم متى ثبت بعلة يبقى ما بقي شيء من العلة، وعلى هذا إذا جعل البعض علوفه في خلال الحول لا يبطل حكم الحول عندنا، وإنما يبطل إذا جعل الكل علوفة؛ لأن الحول إنما ينعقد على المال باعتبار النماء، فإذا جعل الكل علوفة، فقد زال جميع ما انعقد عليه الحول بخلاف ما إذا جعل البعض، لأن هناك بقي بعض ما انعقد عليه الحول، فبقي حكم الحول باعتباره.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن له غنم للتجارة منها تبلغ نصاباً، فماتت في خلال الحول، فسلخها ودبغ جلدها وقيمة الجلد تبلغ نصاباً، فعليه الزكاة عند تمام الحول قال: وبمثله لو كان عصيراً للتجارة تبلغ قيمته نصاباً فتخمر في خلال الحول ثم تخللت، وقيمته تبلغ نصاباً ثم تم الحول، فلا زكاة عليه وأشار إلى الفرق فقال لا بد وأن يكون على ظهر الشاة شيء من الصوف له قيمته، فيبقى الحول باعتباره، ولا كذلك العصير.
وذكر مسألة الجلد في «المنتقى» : على نحو ما ذكرنا ولم يذكر مسألة العصير، وذكر المعنى في مسألة الجلد، فقال: الجلد في نفسه مال، لكن لا تظهر أحكام المالية لمجاورة النجاسات إياه، فمن حيث إنه مال يبقى الحول، وهذ المعنى يقتضي بقاء الحول في مسألة العصير؛ لأن الخمر عندنا مال إلا أنه ليس بمتقوم، فيبقى الحول من حيث إنه مال.h
ونص القدوري في «شرحه» أن حكم الحول لا ينقطع في مسألة العصير، وسوى بين مسألة العصير وبين مسألة الشاة.
قيل: وفي «نوادر ابن سماعة» : أن الحول لا ينقطع في مسألة العصير كما ذكره القدوري.
ولو كان له عبد للتجارة كاتبه ثم عجز ورد في الرق، ذكر في «المنتقى» : أنه لا يعود للتجارة، وقيل: وفي «الجامع» : أنه يعود للتجارة، قال في «المنتقى» : وكذلك إذا لم يكاتبه، ولكنه وهبه لرجل ودفعه إليه ثم رجع في نفسه لم تكن للتجارة، وكان هبته إياه إخراجاً له من التجارة، قال: والبيع في هذا يفارق الهبة وأشار إلى الفرق؛ فقال: ألا ترى أني لو أمرت رجلاً أن يهب عبدي هذا من فلان، فوهبه له ثم رجعت فيه لم يكن له أن يهبه له ثانياً، ولو أمرته ببيع عبد لي، فباعه ثم ردّ إليّ بعيب كان له أن يبيعه مرة أخرى.
وفي «القدوري» : إذا كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأً، فدفع به فالثاني للتجارة؛ لأن الثاني قائم مقام الأول لحماً ودماً فيبقى حكم الأول فيه ولو قتله عبد عمداً، فصالحه المولى عن الدم على العبد أو على غيره، لم يكن للتجارة لأنه عوض عن شيء آخر هو ليس بمال، وليس بقائم مقام الأول، فلا يبقى حكم الأول والله أعلم.(2/266)
الفصل السادس في تعجيل الزكاة
ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا ملك نصاباً عندنا؛ لأنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب الوجوب نصاب نام؛ فإن نظرنا إلى النصاب فالنصاب قد وجد؛ وإن نظرنا إلى النماء فقد وجد أيضاً؛ لأن العبرة لسبب النماء وهو الإسامة أو التجارة لا لنفس النماء، وقد وجد سبب النماء.
بخلاف ما إذا عجل قبل كمال النصاب؛ لأنه أدى قبل وجود سبب الوجوب، وإذا عجل زكاة سنتين، يجوز عن علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر، وكذلك إذا عجل زكاة نصب كثيرة، وله نصاب واحد جاز عند علمائنا الثلاثة، وإذا عجل عشر نخلة قبل أن يخرج منه شيء لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد، ويلزمه أن يعطي عشر الخارج وعلى قول أبي يوسف يجوز التعجل، ولا يلزمه شيء إذا كان ما أدى مثل عشر ما خرج.
وعلى هذا الخلاف: إذا زرع وعجل العشر قبل النبات، ولو عجل بعدما نبت وصار له قيمة، فإنه يجزئه بالإجماع، إذا خرج الحب بعد ذلك.
وجه قول أبي يوسف: أنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن النخيل سبب حصول التمر؛ لأن بعد وجود النخيل لا يحتاج إلى واسطة اختيارية لحصول التمر وهذا هو حد السبب، وكذلك الزراعة سبب حصول الحب بهذا الطريق، وإذا كان سبباً لخروج التمر والحب كان سبباً لوجود النماء، فيكون سبباً للوجوب، فكان الأداء بعد وجود سبب الوجوب، وعلى هذا الجواب يخرج ما أدى قبل الزراعة.
وجه قول محمد: أن الأداء حصل قبل وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب العشر الخارج الذي يجب فيه العشر كما أن سبب وجوب الزكاة المال الذي تجب فيه الزكاة.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: لا بأس بتعجيل زكاة النخل والكرم لسنين؛ لأن هذا قائم كالحرث الذي بذره حال ثمنه، قال أبو يوسف: وأما الأنعام إذا أراد أن يزكي ما في بطونها مع الأمهات ويحتسب بها في العدد، فعجل ذلك قبل الحول أجزأه إذا كانت حوامل.
وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم أراد أن يعجل زكاتها قبل الحول فعليه أن يزكي من كل إحدى وأربعين درهماً، وسيأتي المعنى فيه بعد هذا، وإن حال الحول قبل أن يؤدي وجب عليه في كل أربعين درهماً درهم، ولو كانت له واحد وأربعون ألف درهم، فعجل زكاتها عجل ألف درهم وليس عليه أكثر منها؛ لأن الحول إنما يحول على أربعين ألفاً.
قال محمد في «الزيادات» : رجل مرّ على العاشر بمائتي درهم، فأخبر العاشر أنه لم(2/267)
يتم حوله، وحلف على ذلك لم يأخذ منه العاشر شيئاً، فإن طلب فيه العاشر أن يعجل زكاته خمسة ففعل، فهذه المسألة تشتمل على فصول ثلاثة:
الفصل الأول: أن يتم الحول وعند صاحب المال ما بقي من المال مائة وخمسة وتسعون، وهذا الفصل على سبعة أوجه:
الوجه الأول: أن يتم الحول والخمسة المقبوضة قائمة في يد العاشر (136ب1) وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة قياساً، ويصير زكاة استحساناً، لم يذكر القياس والاستحسان ههنا، إنما ذكره في فصل الإبل، عامة المشايخ على أن ذكر القياس والاستحسان في فصل الإبل ذكر في فصل الدراهم.
وجه القياس: أن المعجل إنما يصير زكاة إذا ثبت الوجوب في آخر الحول؛ لأن أداء الزكاة ولا زكاة مستحيل، ولا زكاة إلا بعد الوجوب ولا وجوب في آخر الحول ههنا لانعدام شرطه، وهو كمال النُّصُب، فإن المؤدى خرج عن ملكه بالأداء، ولهذا لو أراد أن يسترد من العاشر لم يكن له ذلك.
وجه الاستحسان: أن يد الساعي في المقبوض قبل الوجوب، وهو المعجل قائمة مقام يد الملك، وفي المقبوض بعد الوجوب قائمة مقام يد الفقراء، وهذا لأن المقبوض قبل الوجوب حق المالك، والساعي يقبض مال المالك بأمره ويعمل له، فيكون نائباً عنه واعتبرت يده يد المالك، والمقبوض بعد الوجوب حق الفقراء.
ولهذا يجبر المالك على الأداء، والإنسان لا يجبر على أدء المالك لحق نفسه، وإنما يجبر لحق غيره، ولا حق في الصدقة إلا للفقراء، فتعتبر يد الساعي في قبض حقهم قائماً مقام يدهم، ومتى أشكل الأمر فيها عند الإخراج الدفع أنها واجبة وليست بواجبة كان حكمها موقوفاً، فإن ظهر أنها واجبة تبين أن يد الساعي كانت يد الفقراء من يوم الأخذ، وإن ظهر أنها نفل تبين أن يد الساعي يد صاحب المال من وقت الأخذ، إذا ثبت أن يد الساعي في المعجل قائمة مقام يد المالك صارت الخمسة المعجلة في يد المالك حكماً، فيكمل به النصاب ويثبت الوجوب، فيصير المعجل زكاة.
الوجه الثاني: أن يستهلكها العاشر، ويأكلها قرضاً، وهو الوجه الثالث؛ إذا أخذها عمالة له نفسه، وهو الوجه الرابع، وهذه الوجوه على القياس والاستحسان أيضاً.
وجه القياس: أن المعجل في هذه الصور لا يمكن أن يجعل باقياً على المالك، فكان النصاب ناقصاً في آخر الحول.
وجه الاستحسان: أن المستهلك والمأكول قرض مضمون في ذمة الساعي بمثله، فيمكن تكميل النصاب به يكون الضمان قائماً مقام المضمون، والمأخوذ عمالة لا تزول عن ملك رب المال بمجرد الأخذ، إذ لو زال لا تجب الزكاة، فلا يكون له عمالة؛ لأن العمالة في الصدقة الواجبة فيصير المأخوذ عمالة حينئذٍ ديناً على الساعي، ويكمل به النصاب، ففي إبطال الزكاة ابتداء إيجابها انتهاء، غير أن في فصل الاستهلاك والقرض نوع إشكال، فإن المعجل صار ديناً في ذمة الساعي، وأداء العين عن الغير لا يجوز، ولا(2/268)
يقال بأن المعجل يصير زكاة من حين دفعه وعند ذلك كان عيناً، لأنا نقول هذا فاسد؛ لأن المعجل لو صار زكاة من حين دفعه، تخرج الخمسة من ملك المالك من وقت التعجيل، فلا يكمل به النصاب، ولا تجب الزكاة، فيبطل المعجل ولا يصير زكاة، فتقتصر صيرورة المعجل زكاة على الحال، وعند ذلك يتأتى الإشكال.
الوجه الخامس: أن يتصدق بها العاشر على المساكين قبل تمام الحول، ثم تم الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة لانعدام الوجوب في آخر الحول، لعدم كمال النصاب؛ لأن المعجل بوصوله إلى كف الفقير خرج عن ملكه حقيقة وحكماً، ولا ضمان على الساعي؛ لأن التصدق حصل بإذن المالك.
بيانه: أن الدفع إلى الساعي والساعي يقبض للمساكين، ويحتمل أن يصرفها إلى الفقراء قبل تمام الحول إذن بالدفع، زكاة على تقدير وجوب الزكاة، بأن يستفيد خمسة أخرى قبل الحول، وإذن بالدفع تطوعاً على تقدير عدم وجوب الزكاة.
الوجه السادس: أن يأكلها الساعي صدقة بحاجة نفسه، والجواب فيه نظير الجواب في الوجه الخامس لأن التصدق به على نفسه كالتصدق على مسكين آخر.
الوجه السابع: إذا ضاعت من يد الساعي قبل تمام الحول ثم وجدها بعد تمام الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة؛ لأن تكميل النصاب بالخمسة المفقودة متعذر؛ لأنها ضمان، وإذا لم يصر المعجل زكاة كان للمالك أن يسترده من الساعي، فإن لم يسترده حتى تصدق بها العاشر لم يضمنه، هكذا ذكر في «الكتاب» بعض مشايخنا، قالوا: هذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن يضمن؛ لأن صاحب المال أمره بالأداء على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه ههنا.
أصله: الوكيل بأداء الزكاة إذا أداها بعدما أدى الموكل بنفسه، وهناك الوكيل ضامن عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما لا يضمن فههنا كذلك.
والمحققون من مشايخنا قالوا: لا ضمان ههنا عند الكل، وفرقوا لأبي حنيفة بين هذه المسألة، وبين مسألة الوكيل، والفرق: أن في مسألة الوكيل الفرض لازم وقت الأمر، فيتقيد بالأمر بالصرف على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى عن الأمر، وههنا الفرض غير لازم وقت التعجيل، ويحتمل أن يكون المعجل في يد الساعي إلى آخر الحول ويحتمل أن لا يبقى، ويحتمل أن يستفيد مالاً آخر، ويحتمل أن لا يستفيد، وعلى بعض الوجوه لا يقع الصرف مسقطاً الفرض عنه، فلا يتقيد الأمر بالصرف بإسقاط الفرض عنه، وإن نهى العاشر عن التصدق في هذه الصورة ضمنها إذا تصدق بعد ذلك بلا خلاف.
الفصل الثاني: إذا استفاد صاحب المال خمسة قبل تمام الحول، فتم الحول وفي يده مائتا درهم، فإنه تجب الزكاة في الوجوه كلها، لأنه تم الحول ونصابه كامل بدون المعجل ويصير المعجل زكاة؛ لأنه عجلها لتصير زكاة عما تلزمه من الزكاة في هذه السنة، وقد لزمته الزكاة في هذه السنة، فتصير زكاة، وليس عليه في الخمسة المعجلة(2/269)
شيء، وإن كانت قائمة في يد المصدق، أما على قول أبي حنيفة، فلأنه لا يرى الزكاة في الكسور، وأما على قولهما، لأن المعجل صار زكاة من وقت الأداء وخرج عن ملكه، ولا زكاة بدون الملك، فقد حكم بزوال المعجل عن ملكه من وقت التعجيل، وفي الفصل الأول لم يحكم بزوال المعجل من وقت التعجيل حتى قال بوجوب الزكاة في بعض الوجوه من الفصل الأول.
ولو زال المعجل عن ملكه من ذلك الوقت لما وجبت الزكاة أصلاً لنقصان النصاب في آخر الحول.
والوجه في ذلك: أن المعجل يجب أن يكون زكاة من وقت القبض نظراً إلى أصل المال، ويجب أن تكون زكاة عند تمام الحول نظراً إلى أصله، وهو وصف النماء، لأن النماء إنما يحصل بالحول، إلا أنه لا معارضة بين الأصل وبين الوصف، فتجعل الزكاة من وقت التعجيل باعتبار الأصل، وإسقاطاً لاعتبار الوصف، إلا أنه إذا كان (137أ1) في اعتباره زكاة من وقت وجوده إبطال الوصف، فحينئذٍ يعتبر الوصف ويجعل زكاة عند تمام الحول تصحيحاً للزكاة بقدر الممكن.
قلنا: وليس في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل في هذه الصورة إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة واجبة عند تمام الحول لتمام النصاب بدونه، فجعلنا المعجل زكاة زائلاً عن ملكه من وقت وجود التعجيل، فلا تجب فيه الزكاة، أما في الفصل الأول: لو جعلنا المعجل زكاة من وقت التعجيل كان فيه إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة حينئذٍ لا تجب عند تمام الحول لنقصان النصاب بدون المعجل، فلم يجعله زكاة من وقت وجوده، فتم الحول والمعجل باق على ملكه، فكان النصاب تاماً عند الحول، فتجب الزكاة، ويصير المعجل زكاة.
الفصل الثالث: إذا ملك شيء ما في يد صاحب المال، وفي هذا الفصل لا تلزمه الزكاة في الوجوه كلها؛ لأن أكثر ما فيه أنا نجعل المعجل باقياً على ملكه، فالنصاب مع ذلك ناقص عند تمام الحول، فلا يجب الزكاة ولا يصير المعجل زكاة، فبعد ذلك إن كان المعجل قائماً في يد الساعي استرده المالك، فإن كان قد أكلها قرضاً أو أخذها بعمالة نفسه أو استهلكه ضمن مثل ذلك لصاحب المال، وإن كان قد أكلها صدقة بحاجة نفسه أو كان تصدق بها على الفقراء فلا ضمان، وإن كان قائماً في يده وتصدق بها في الحال هل يضمن؟ فهو على الخلاف الذي مرّ.
رجل له مائتا درهم عجّل منها خمسة ودفعها إلى المصدق ثم هلكت المائتان إلا درهماً وذلك قبل الحول، فأراد صاحب المال استرداد المعجل ليس له ذلك والأصل في هذا أن كل تصرف صح بجهة، لا يجوز نقضه ما لم تبطل تلك الجهة بيقين.
ألا ترى أن المشتري يشرط الخيار للبائع إذا عدّ الثمن في مدة الخيار لا يملك استرداده؛ لأن النقد قد صح بجهة الثمنية، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً؛ لأن احتمال أن يصير المؤدّى ثمناً قائماً.(2/270)
وكذلك المستأجر إذا عجل الأجرة قبل استيفاء المنفعة لم يملك الاسترداد، وإنما لم يملك لما قلنا.
إذا ثبت هذا فنقول: دفع الخمسة إلى المصدق بجهة الزكاة قد صح، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً لاحتمال أن يستفيد ما يكمل به النصاب قبل الحول، وكذلك لو أنفق صاحب المال الدراهم كلها قبل الحول والخمسة المعجلة قائمة في يد الساعي أو أكلها قرضاً أو استهلكها، أو أخذها بعمالة نفسه، فليس لرب المال أن يأخذ ذلك منه، وكذلك لو عجل المائتين كلها، وأداها إلى العاشر لا يملك استرداد شيء منه للحال لاحتمال إلى آخر الحول مقدار ما يصير المؤدى زكاة عنه، ويكون الحول باقياً باعتبار المؤدى، إذ المؤدى باقٍ على ملك المالك؛ لكون يد الساعي قائمة مقام يد رب المال في هذه الحالة.
فرع على هذه الصورة
وهي ما إذا عجل المائتين كلها، فقال: لم أستفد شيئاً حتى تم الحول، والمائتان قائمة في يد العاشر، كان له أن يسترد من الساعي مائة وخمسة وتسعين ولا يسترد الخمسة؛ لأن مقدار الخمسة صار زكاةً، وما عدا الخمسة لم يبق لها احتمال أن تصير زكاة هذه السنة، وهو إنما عجل ليصير المعجل زكاة هذه السنة، فلو كان استفاد ألف درهم قبل تمام الحول، فالساعي يمسك من المائتين زكاة ألف، خمسة وعشرين، بقي هناك مائة وخمسة وتسعون يمسك الساعي هذا المقدار عند أبي حنيفة، وعندهما يمسك أربعة دراهم وثلاثة أثمان درهم، فأبو حنيفة لا يرى زكاة الكسور، وهما يريان ذلك.
رجل له خمس وعشرون من الإبل السائمة عجل منها بنت مخاض ودفعه إلى العاشر، فتم الحول وفي يد صاحب الإبل أربعة وعشرون، ففي القياس يصير قدر أربع من الغنم من بنت المخاض زكاة، ويرد الساعي الباقي، وفي الاستحسان يصير الكل زكاة، وقد مر وجه القياس والاستحسان في فصل الدراهم، هكذا ذكر في «الزيادات» .
وفي كتاب «زكاة الإملاء» رواية بشر بن الوليد لا يكمل النصاب فيما (في) يد المصدق، ولا يجوز ذلك عن زكاته وعلى المصدق أن يردها على صاحبها، ويأخذ منه أربعاً من الغنم، ولو لم يحل الحول حتى هلك من إبله واحد، وبقي ثلاثة وعشرون، ثم حال الحول، فالساعي يمسك من المؤدي قدر أربع من الغنم ويرد الباقي قياساً واستحساناً؛ لأنا وإن جعلنا المؤدى باقياً على ملكه تم الحول، ونصابه أربعة وعشرون، فلا يجب إلا بقدر أربع من الغنم، وإن أكلها العاشر قرضاً وهو غني ضمن قيمتها، أما حصة رب المال، فلا شك.
وأما حصة الفقراء؛ فلأنه غني والغني ليس بمحل للصدقة، وإن أكلها بحساب عمالة نفسه يضمن حصة رب المال، ولا يضمن حصة الفقراء؛ لأن حصة الفقراء وجبت زكاة، والعمالة تجب في الزكاة، وإن تصدق بها على المحتاجين أو أكل وهو محتاج لا يضمن شيئاً؛ لأن التصدق حصل بأمر رب المال.
رجل له أربعون شاة سائمة، فقبل أن يتم حولها عجل شاة منها وتصدق بها العاشر(2/271)
أو باعها، وتصدق بثمنها ذلك جائز، أما إذا تصدق بعينها فظاهر، وأما إذا باعها وتصدق بثمنها، فلأن المأمور بالصدقة يملك البيع والتصدق بالثمن؛ لأنه ربما يكون البيع والتصدق بالثمن أيسر عليه، فإن تم الحول وليس عند صاحبها إلا تسعة وثلاثون شاة، لا يصير المعجل زكاة، لأنه لا تجب الزكاة حينئذٍ؛ لأن المؤدى لا يمكن أن يجعل باقياً على ملكه بعدما وصل إلى الفقير عينه أو بدله، فتم الحول ونصابه ناقص، فلا تجب الزكاة، ويكون المؤدى تطوعاً ولا يجب الضمان على العاشر؛ لأنه تصدق بأمر صاحبها.
ولو لم يبعها ولم يتصدق بعينها، وهو في يد المصدق على حالها يصير المعجل زكاة استحساناً عند عامة المشايخ، ولو كان العاشر باعها وأخذ الثمن لنفسه على وجه العمالة ثم تم الحول، وغنم صاحب الغنم تسعة وثلاثون كان على العاشر قيمتها؛ لأن الزكاة لم (تتم) وإذا لم تتم لا تجب العمالة، وقد صار مستهلكاً لها بالبيع، ووجب عليه القيمة؛ فتم الحول وبعض النصاب قيمة، ونصاب السوائم لا تكمل بالقيمة. وكذلك إذا أكلها قرضاً، وباقي المسألة بحالها بخلاف فصل الدراهم، لأن هناك ما وجب على الساعي من جنس النصاب فجاز أن يكمل به النصاب، ولو أكلها العاشر وهو محتاج، فلا ضمان.
رجل له مائتا درهم وأربعون درهماً عجل منه ستة دراهم فتم الحول وعند......... عند العاشر، فإن القياس على قول أبي حنيفة أن تصير الخمسة زكاة والدرهم السادس على رب المال؛ لأن الخمسة المعجلة صارت زكاة من وقت القبض، فتم الحول وماله مائتان وخمسة وثلاثون، فتجب الخمسة عن المائتين، ولا يجب في الباقي شيء؛ لأنه لا يرى زكاة الكسور، ووجه الاستحسان: أن في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل إبطال بعض المعجل، فيصير زكاة بعد الحول فتم الحول، وماله مائتان وأربعون.
والقياس على قولهما: أن يمسك الساعي خمسة دراهم زكاة عن المائتين، ويمسك أيضاً خمسة وثلاثين جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم وفي الاستحسان لا يرد شيئاً.
وجه القياس: أن في التعجل كل درهم يقع زكاة عن نفسه، وعن أربعين سواه، ألا ترى أنه إذا عجل عن المائتين خمسة وبقيت الخمسة في يد الساعي ثم استفاد خمسة أخرى، فالخمسة المعجل تقع عن نفسها، وعن المائتين سواها، فكذا هنا جعلت الخمسة المعجلة من المعجل زكاة من وقت القبض عن نفسها وعن المائتين، فبقي له خمسة وثلاثون أربعة وثلاثون في يده ودرهم في يد الساعي.
ولو كان في يده ستة أخرى كان كل الدراهم الزائدة زكاة عن نفسه، وعن هذه الأربعين، فإنما يجب رد شيء (137ب1) من الدرهم الزائد بسبب فوات ستة دراهم، فيقسم الدرهم الزائد زكاة على نفسه، وعن هذه الأربعين على واحد وأربعين، فيسقط منه(2/272)
بقدر ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم.
وجه الاستحسان: أن ما قلنا لأبي حنيفة، ولو هلك بعد التعجيل ما فعل، فإن الساعي يمسك من الدرهم الزائد على قولهما استحساناً، ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل صار زكاة بعد الحول، فتم الحول، وفي ملكه مائتان وستة دراهم.
فنقول: لو كان ههنا خمسة وثلاثون درهماً كان الدرهم الزائد كله زكاة، فيسقط من الدرهم الزائد بقدر خمسة وثلاثين، وذلك خمسة وثلاثون جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يرد الدرهم السادس كله قياساً واستحسناً؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، فالزائد على المائتين يكون في ستة، وأبو حنيفة لا يرى الزكاة في أقل من الأربعين.
ولو أنفق صاحب المال مما في يده درهماً، فتم الحول وفي يده مائتان وثلاثة وثلاثون درهماً، فعلى قول أبي حنيفة الساعي يرد الدرهم الزائد كلها على رب المال قياساً واستحساناً لما ذكرنا، وأما على قولها فالساعي يرد على رب المال جزءاً من أربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل باق على ملكه استحساناً، فتم الحول وماله تسعة وثلاثون درهماً، فانتقص من الأربعين درهم، فينقص من الدرهم الزائد بقدره.
رجل له أربعون من الغنم السائمة عجل شاة منها ثم إن الإمام أعطاها المصدق من عمالته، أو أخذها المصدق من عمالته بنفسه، وأشهد على ذلك، وكانت في يده سائمة حتى تم الحول وفي يد صاحب الغنم أربعون شاة......... دفعه على سبيل العمالة وصار زكاة.
ولو تم الحول وعند صاحب الغنم تسعة وثلاثون شاة فليس على صاحبها زكاة؛ لأن المأخوذ عمالة لا يمكن إبقاؤه على ملك صاحب المال، لأن هنا الأخذ وقع للساعي، فلا يمكن أن يجعل الساعي نائباً عن رب المال فيه، فتم الحول ونصابه ناقص، وكان على الساعي رد الشاة على المالك، لأنه أخذها بحسب العمالة، وتبين أنه لا عمالة، ولو كان الساعي باعها قبل الحول بيوم نفذ البيع، يريد به إذا أخذها بعمالة نفسه وباعها لنفسه، وكان على الساعي قيمتها؛ لأنه تعذر رد عينها بسبب البيع فيلزمه رد قيمتها.d
ولو كان المصدق لم يأخذها بعمالة نفسه، ولكن باعها للفقراء قبل الحول نفذ البيع، فإن تم الحول، وفي يد صاحب المال ثلاثة وثلاثون من الغنم، وثمن المعجل قائم في يد الساعي رد الثمن على المالك، أداء الزكاة ههنا لم يجب، لأن نصاب الغنم لا يكمل بالثمن، ولو لم يبعها المصدق حتى تم الحول، وفي يد صاحب الغنم تسعة وثلاثون من الغنم ثم باعها للفقراء نفذ البيع وتصدق بثمنها؛ لأن الزكاة قد وجبت ههنا، فإن نقصت شاة من الغنم قبل الحول ثم باع المصدق الشاة المعجلة نفذ، ولا ضمان عليه(2/273)
عند الكل علم بذلك أو لم يعلم على ما عليه المحققون من أصحابنا.
رجل له أربعون بقرة سائمة عجل منها مسنة ثم تم الحول وفي يده أربعون بقرة سائمة صار المعجل زكاة، وهذا ظاهر.
ولو هلكت واحدة منها قبل الحول، ثم تم الحول والمسنة في يد الساعي على حالها، فإن المصدق يمسك من المسنة قدر تبيع أو تبيعة ويرد الفضل قياساً واستحساناً؛ لأن المعجل إنما يصير زكاة عما لزمه، والذي لزمه قدر تبيع أو تبيعه؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، ثم تم الحول ونصابه ناقص عن أربعين، فإن أراد المتصدق أن يرد المسنة ويأخذ تبيعاً، وأبى المالك ذلك وأراد المالك أن يسترد المسنة، ويرد التبيع وأبى المصدق ذلك، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن التعجيل قد صح بتراضيهما فلا يصح النقض إلا بتراضيهما، فإن تم الحول وعند صاحب البقر ستون أخذت تلك المسنة ويأخذ الساعي من صاحب البقر تام قيمة تبيعين أو تبيعتين؛ لأنه تم الحول وقد لزمه تبيعان.
فإن قال صاحب البقر للساعي: رد علي المسنة حتى أعطيك التبيعين، أو قال الساعي: أرد عليك المسنة وآخذ منك تبيعين، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر.
قال: ولو حال الحول وعنده أربعون من البقر فعدها المصدق وأخذ منها بقرة مسنة، ثم أعاد المصدق عدها فوجدها سبعة وثلاثين مع البقر التي أخذها المصدق وقد اتفقا على الخطأ في العدد، فلصاحب البقر أن يسترد المسنة ويعطيه تبيعاً وإن أبى الساعي ذلك. وكذلك للساعي أن يرد المسنة ويأخذ التبيع بخلاف مسألة التعجيل.
والفرق: أن التسليم والأخذ في هذه الصورة كان بناءً على تمام النصاب، وكان التراضي ثابتاً بهذا الشرط، فإذا فات الشرط فات التراضي، فثبت لكل واحد منهما الخيار، أما في مسألة تعجيل التسليم والتسلم كان مع كمال العدد، ويحتمل تمام النصاب في آخر الحول ويحتمل ضده، وكان التراضي ثابتاً مطلقاً، فلا ينفرد أحدها بالنقض.
قال: وإن لم يرد المصدق المسنة على صاحب البقر حتى ضاعت أو تصدق بها المصدق أجزأته من زكاته؛ لأنه أدى ما وجب عليه وهو قدر تبيع وزيادة شيء، فبقدر ما وجب يقع عن زكاة ماله، وهل يضمن المصدق الفضل؟ قال: ينظر إن أعطاه صاحب البقر باختياره لا يضمن؛ لأن الدفع حصل على جهة الصدقة وصح منه، ولم يوجد من المصدق بعد ذلك تعد في حقه فلا يضمن، وإن كان المصدق أكرهه على الدفع ينظر إن أكرهه وهو يرى أن عدد البقر ناقص كان ضامناً للفضل على قدر التبيع؛ لأنه تعمد الجور والظلم.
واستدل محمد رحمة الله لإيضاح مسألة التعجيل: رجل له أربعون من البقر، فلما حال عليه الحول أتاه المصدق، فقال المصدق إني كنت أمرت غلامي أن يبيع عشرة منها قبل الحول، وأنا لا أدري أباع أو لم يبع، فخذ هذا التبيع، فإن كان باعها، فذلك زكاتها وإن لم يبعها أتممت لك زكاة الأربعين، وأخذ المصدق التبيع على هذا، ثم ظهر أن(2/274)
الغلام لم يبعها، فأراد المصدق أن يرد التبيع، ويأخذ المصدق المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة لا يكون لأحدهما ذلك بدون رضا صاحبه، وأمر صاحبه البقر أن يتم زكاة الأربعين، ولا ينقض ما فعلا بتراضيهما إلا بتراضيهما، فكذا مسألة التعجيل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم وعشرون مثقالاً من الذهب، عجل زكاة المائتين ثم هلكت المائتان قبل تمام الحول، وبقي الذهب، فإن المؤدى يكون زكاة عن الذهب، وروي عن أبي يوسف: أن المؤدى لا يكون زكاة عن الذهب ويصير تطوعاً، وعليه زكاة الذهب وهو رواية عن أبي حنيفة، ذكر رواية أبي حنيفة أبو عبد الله البلخي في المناسك.
وجه رواية أبي يوسف: أنهما مالان مختلفان، بدليل اختلاف قدر نصابهما وواجبهما والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وإذا صح التعيين وهلك المؤدى عنه قبل الحول يصير المؤدى تطوعاً، فتبقى عليه زكاة الذهب، والدليل عليه: إذا كان له نصاب غنم ونصاب إبل عجل زكاة (138أ1) . الغنم، ثم هلك الغنم قبل الحول لا يقع المعجل عن الإبل وطريقه ما قلنا.
وجه ما ذكر في «الجامع» : أن التعيين لم يصح؛ لأن التعيين إنما يصح في الأجناس المختلفة. وجواز التعجيل مبني على السببية، والذهب والفضة وإن كانا مختلفين حقيقة فهما في حق سببية الزكاة جنس واحد معنى، ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر، وإذا صارا في حق، سببية الزكاة جنساً واحداً معنىً التحقا بالجنس الواحد حقيقة في حق هذا الحكم، فلا يصح التعيين إلا إذا كان في التعيين فائدة، فحينئذٍ يصح التعيين، ويعمل فيه بالحقيقة، وهما جنسان مختلفان حقيقة.
إذا ثبت هذا فنقول: لا فائدة للتعيين في الحال؛ لأن الواجب في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين مثقال نصف مثقال، فأما إن كان قيمتها على السواء، أو كان قيمته نصف مثقال أقل أربعة، أو أكثر ستة، فإن كان قيمتها على السواء يسقط عنه خمسة، ويبقى خمسة جعل المؤدى عنهما أو عن أحدهما، فإن كان قيمة نصف مثقال أربعة يسقط عنه خمسة، ويبقى عليه أربعة جعلنا المؤدى عنهما، أو عن الدراهم خاصة، وإن كان قيمة نصف مثقال ستة تسقط عنه قدر خمسة ويبقى عليه قدر ستة، فجعلنا المؤدى عنهما، أو عن أحدهما يدل أنه لا فائدة في التعيين في الحال، وإنما الفائدة باعتبار الهلاك، فإنه إذا هلكت الدراهم تلزمه زكاة الدنانير بكماله، والهلاك موهوم. وإذا كان في فائدة التعيين، وهما لم يعتبرا جنسين، بل اعتبرا جنساً واحداً، فلا يصح. فالتعيين صار كأنه عجل خمسة ولم يعين وهناك، أو هلكت المائتان يقع المعجل عن الدنانير كذا ههنا، بخلاف ما إذا كان نصاب غنم ونصاب إبل، وعجل زكاة أحدهما؛ لأن هناك التعيين قد صح؛ لأن الجنس مختلف، ولهذا لا يضم أحدهما إلى الآخر، والتعيين في الجنس المختلف صحيح.(2/275)
وأما إذا عين الأداء عن الدراهم بعد الحول وبعد الوجوب، بل يصح التعيين حتى إذا هلكت الدراهم، بل تلزمه زكاة الذهب اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: يصح التعيين، وفرق هنا القائل فيما قبل الحول وفيما بعد الحول.
ووجه الفرق: أن الأداء قبل الحول أداء بطريق التعجيل، وإنه مبني على قيام السبب لا على قيام الواجب، والذهب والفضة في حكم السببية جنس واحد، والتعيين في الجنس الواحد لغو، أما إذا كان بعد الحول مبني على قيام الواجب، والواجب مختلف والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وبعض مشايخنا قالوا: التعيين بعد الحول غير صحيح كالتعيين قبل الحول؛ لأنه ما يفيد إلا على اعتبار هلاك المؤدى عنه، وإنه موهوم. وفي حق هذا المعنى لا فرق فيما قبل الحول وفيما بعده، هذا إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، فأما إذا هلك المؤدى عنه بعد الحول ذكر في «الجامع» أن المؤدى يكون عنهما، وتلزمه نصف زكاة الدراهم ونصف زكاة الدنانير، وذكر في «نوادر الزكاة» أن المؤدى يكون عن الدراهم، وتلزمه زكاة الدنانير بكمالها، وهكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد.
قال في «المنتقى» عقب هذه المسألة: وكذلك لو كان مكانها عبد وأمة للتجارة. وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً أن المؤدى يكون عن الدراهم، ذكر هذه الرواية في «المنتقى» . وجه رواية «نوادر الزكاة» و «المنتقى» : أن التعيين معتبر، فإنه تلزمه زكاة الدنانير، وفيه فائدة، فإن قيمة المالين ربما تختلف بعد الحول، ربما تكون قيمة نصف مثقال أقل من خمسة دراهم بعد الحول إلا أنه إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول يلغو التعيين؛ لأن المؤدي كما قصد أن يكون المؤدى عن الدراهم قصد أن يكون المؤدى زكاة، فإذا هلك المؤدى عنه قبل الحول له اعتبرنا نية التعيين تلغو نية الزكاة؛ لأن ما أدى يصير تطوعاً إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، ومتى اعتبرنا نية الزكاة تلغو نية التعيين.
فنقول: إلغاء نية التعيين أولى من إلغاء نية الزكاة؛ لأن نية التعيين غير محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى بعض النصاب حتى يصير المؤدى كله زكاة، ولا شك أن إلغاء ما لا يحتاج إليه أولى من إلغاء ما يحتاج إليه، فأما إذا بقي المالان بعد الحول أمكن اعتبار نية الزكاة مع نية التعيين، فاعتبرناهما ولم نشتغل بالترجيح.
وجه ما ذكر في «الجامع» : أنه لا فائدة في التعيين إلا باعتبار الهلاك، والهلاك أمر موهوم، ولا معتبر بالفائدة الموهومة، فلا يصح التعيين، وفي حق هذا المعين لا فرق فيما إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، وفيما إذ هلك المؤدى عنه بعد الحول.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم سود، وألف درهم بيض عجل عن البيض خمسة وعشرون، ثم هلكت البيض قبل الحول أجزأه ما أدى عن السود، ولو لم تهلك حتى حال الحول وهما عنده، وهلكت البيض كان نصف ما أدى مما هلك نصفه(2/276)
مما بقي، وهذه الرواية توافق رواية «الجامع» .
قال في «المنتقى» : وكذلك لو كان الأداء بعد حَوَلان الحول، قال: وكذلك عنده ألف درهم ومائة دينار، أو جارية للتجارة تساوي ألف درهم، فأدى عن أحد الجنسين، والجواب في جميع هذه الوجوه على ما وصفت لك، وهو قول أبي يوسف.
وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل مسألة البيض والسود عن محمد في صورة أخرى، فقال: إذا استحقت الألف التي زكى عنها قبل الحول أو بعده لم تجزه الزكاة عن الألف الباقية. قال محمد: وإن زكى عن ألف بعد الحول، ثم ضاعت وله دين على رجل لم يكن المؤدى عن زكاة دينه، وإن كان الأداء والضياع قبل الحول أجزأه عن زكاة دينه.
وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا كان للرجل أربعون شاة سائمة عجل منها شاة، فأخذها المصدق، ووضعت عنده عناقاً، أي: ولدت، فحال الحول وقيمته على حاله، فالشاة مع العناق صدقة. وإن نقص من غنم رب الغنم حتى أخذ العناق، وتكون الشاة صدقة.
وفي «الأجناس» : لو كان عنده خمسة وتسعون ديناراً ومائة درهم، وثوب للتجارة، وقيمته خمسة دراهم، فعجل ذلك الثوب إلى المصدق من زكاة ماله قبل الحول، فقطعه المصدق، ولبسه يجزئه ذلك من زكاته، قال: لأن عنده دراهم، وقيمة الثوب دراهم، فجاز ضمه إلى ما عنده ليكتمل النصاب، والله أعلم.
الفصل السابع في أداء الزكاة والنية فيه
وإذا كان للرجل على رجل دين حال عليه الحول، فوهبه ممن عليه دين أو تصدق به عليه، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الموهوب له غنياً، وفي هذا الوجه لا يجزئه عن زكاته، وهذا ظاهر؛ لأن محل صرف الزكاة الفقراء دون الغني، وهل يصير ضامناً للزكاة؟ ذكر في «الجامع» وعامة الروايات أنه يصير ضامناً، وذكر في «نوادر الزكاة» (137أ1) لأبي سليمان أنه لا يصير ضامناً؛ لأنه استهلك النصاب قبل وجوب الأداء، فلا يصير ضامناً كما لو استهلكها قبل الحول.
بيانه: أن أداء الزكاة عن الدين إنما تجب بعد القبض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء، فقبل القبض لا يكون الأداء واجباً.
وجه ما ذكر في عامة الروايات: أنه استهلك النصاب بعد وجوب الزكاة، فيضمن كما لو وهب النصاب العين من الغني.
بيانه: أن الدين الواجب بدلاً عما هو مال نصاب قبل القبض بالإجماع على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وما يقول بأن الأداء ليس بواجب قبل القبض، قلنا:(2/277)
أصل الوجوب ثابت قبل القبض بالإجماع إن لم يكن وجوب الأداء ثابتاً، فباعتبار أصل الوجوب يصير مستهلكاً، وباعتبار وجوب الأداء لا يصير مستهلكاً، فرجحنا جانب الاستهلاك ليمكننا إيجاب الضمان احتياطاً لأمر العبادة.
الوجه الثاني: إذا كان الموهوب له فقيراً، فهذا على وجهين أيضاً:
الوجه الأول: أن يهب كل الدين منه، وإنه على وجهين أيضاً: أما إن لم ينو الزكاة، وفي هذا الوجه يجزئه عن زكاة هذا الدين استحساناً. ولو كان مكان الهبة صدقة يجزئه عن زكاة هذا الدين قياساً واستحساناً. هكذا ذكر في «الجامع» ، وذكر القدوري في كتابه «فضل الصدقة» ، وجعل على القياس والاستحسان كالهبة.
أما الكلام في الصدقة، فوجهه: أنه وجد أصل نية العبادة؛ لأن الصدقة ما ينبغي بها وجه الله إلا أنه لم يوجد نية الفرض، لكن نية الفرض مستغنى عنها لكون النصاب متعيناً. يوضحه: أن قدر الزكاة من النصاب صار حقاً للفقير، فإذا وصل ليد الفقير بأي طريق ما وصل يقع عن المستحق على ما عرف.
وفي «المنتقى» : روى المعلى عن أبي يوسف: رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فتصدق بها كلها، ولا نية له، فعليه أن يتصدق بخمسة دراهم لزكاتها. وروى ابن سماعة عنه أنه يجزئه عن الزكاة.
أما الكلام في الهبة فإنما لم يجزه عن زكاة هذه الدراهم ... قياساً؛ لأنه لم يوجد نية القربة أصلاً، ويجزئه استحساناً؛ لأن نية المال من الفقير يقصد بها أيضاً مرضاة الله تعالى، فصارت الهبة من الفقير والتصدق عليه سواء.
الوجه الثاني: إذا وهب كل الدين ممن عليه ناوياً الزكاة، وإنه على ثلاثة أوجه: إما إن نوى زكاة العين الذي عنده، وأنه لا يجزئه قياساً واستحساناً؛ لأنه أدى الكامل بالناقص؛ لأن الدين في المالية أنقص من العين على ما عرف، وأداء الكامل بالناقص لا يجوز؛ ولأن النصاب إذا كان عيناً، فالواجب تمليك جزء منه من كل وجه، وهبة الدين لمن عليه تمليك من وجه، إسقاط من وجه، ولهذا يصح من غير قبول وإنما يصح من حيث أنه إسقاط، والتمليك من وجه دون التمليك من كل وجه، والشيء لا يتأدى بما دونه.
وإما إن نوى زكاة دين آخر له على رجل آخر، وإنه لا يجزئه أيضاً قياساً واستحساناً؛ لأن الدين الآخر بمحل أن يصير عيناً بالقبض، والدين الموهوب له ليس بمحل أن يصير عيناً، فيصير مؤدياً الدين عن العين باعتبار المال، وقد ذكرنا أن أداء الدين عن العين لا يجوز.
وإما أن يؤدي زكاة هذا الدين، وفيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يجزئه؛ لأن الواجب في باب الزكاة التمليك من كل وجه، ولهذا لا يتأدى بالإعتاق، وهبة الدين إسقاط من وجه على ما مر.(2/278)
وفي الاستحسان: يجزئه؛ لأن المؤدى المثل عن المثل؛ لأن المؤدى عنه دين كالمؤدى، والمؤدى عنه لا يصير عيناً في الثاني كالمؤدى، فيجزئه وما قول من المعنى.
قلنا: التمليك من كل وجه إنما يجب إذا كان الواجب في النصاب فائدة للتمليك من كل وجه، إما حالاً كما في العين، أو مآلاً كما في الدين له على آخر، أما إذا كان لا يقبل التمليك إلا من وجه كما في مسألتنا لا يجب إلا هذا القدر، هذا إذا وهب كل الدين ممن عليه، وهو فقير، فأما إذا وهب بعض الدين ممن عليه وهو فقير إن لم ينوِ الزكاة لا يسقط عنه شيء من الزكاة، عند أبي يوسف إذا كان الباقي بعد الهبة بقي بحق الفقير، حتى لو وهب منه مائة وخمسة وتسعين، وبقيت خمسة كان عليه أن يؤدي خمسة؛ لأن ما بقي يصلح زكاة هذا الدين، ولو وهب مائة وستة وتسعين كان عليه أن يؤدي أربعة دراهم، وعلى قول محمد: تسقط عنه زكاة ما وهب من الفقير، وإنما عليه زكاة الباقي لا غير حتى لو وهب له مائة سقط عنه درهمان ونصف وبقي عليه درهمان ونصف، وعلى هذا الخلاف إذا وهب البعض من الفقير ناوياً عن التطوع.
وذكر القدوري في «شرحه» : إذا تصدق ببعض ماله، ولم ينوِ الزكاة وجعله على الخلاف على نحو ما ذكرنا في الهبة.
فوجه قول محمد رحمه الله: أن الواجب شائع في الكل، ولو وهب الكل ليس يسقط عنه جميع الزكاة، فإذا وهب البعض يجب أن يسقط قدر ما فيه اعتباراً للبعض بالكل، ولأبي يوسف أن بعد حَوَلان الحول صار النصاب مشتركاً بين الفقير وصاحب المال، فإذا وهب منه البعض، ولم تحضره النية، أو نوى التطوع انصرفت الهبة إلى نصيبه بقي حق الفقير بكماله، فيلزمه الأداء بخلاف ما إذا وهب كل النصاب؛ لأن بعد هبة الكل ليس له مال تصرف الهبة إلى نصيبه خاصة، فصرفناها إلى النصيبين جميعاً.
فأما إذا وهب بعض النصاب ممن عليه ناوياً الزكاة، إن نوى زكاة العين أو زكاة دين له على رجل آخر لا يجزئه قياساً واستحساناً، وإن نوى زكاة هذا الدين لا شك أنه لا يجزئه عن زكاة الباقي قياساً واستحساناً؛ لأن الباقي يصير عيناً في الباقي بالقبض، وكان بمنزلة ما نوى زكاة دين له على رجل آخر، فأما عن قدر ما وهب، ودفعت المرأة عنه للمدفون لا يجزئه قياساً، ولا تسقط زكاة ذلك القدر، ويجزئه استحساناً، حتى أنه لو وهب منه مائة تسقط عنه درهمان ونصف حصة الموهوب، ويؤدي درهمين ونصف عن الباقي، ولو وهب منه خمسة دراهم يؤدي عن الباقي خمسة دراهم إلا ثمن درهم، والقياس والاستحسان في هذا نظر القياس والاستحسان إذا وهب الكل منه ناوياً عن الدين الذي له عليه.
وفي «القدوري» : إذا نوى أن يؤدي الزكاة، فجعل يتصدق إلى آخر السنة، ولم تحضره النية، يعني وقت التصدق لا يجزئه، فإن أفردها للزكاة، فتصدق مال أرجو أن يجزئه.
وفي «نوادر هشام» : سألت محمداً رحمه الله عن رجل قال: ما تصدقت به إلى آخر(2/279)
السنة، فقد نويت أنه من الزكاة، وفي وقت التصدق لم تحضره النية قال: أرجو أن يجزئه، ولو تصدق بخمسة ينوي بها التطوع والزكاة بل عن الزكاة في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن التطوع؛ لأنه لا وجه إلى اعتبار النيتين لتناف سببهما، ولا وجه إلى اعتبار أحديهما لا بعينها ولا بغير عينها، فبطلتا فتقع عن التطوع كما لو لم تحضره النية أصلاً، ولأبي يوسف أن الفرض أقوى من النفل، والتعيين بالنية يحتاج إليه في الفرض دون النفل، فيندفع النفل بالفرض، والله أعلم.
الفصل الثامن في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه
قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: 60) (138أ1) . والآية جامعة محل الصدقات من جملة ذلك الفقراء والمساكين، وفيها ما يدل على أن المساكين والفقراء صنفان، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه الدلالة: أن الله تعالى عطف المساكين على الفقراء، والمعطوف غير المعطوف (عليه) ، وعن أبي يوسف أنهما صنف واحد.
بيانه: فيمن أوصى بثلث ماله لفلان، وللفقراء والمساكين، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لفلان ثلث الكل، ولكل صنف ثلث آخر، وعلى ما روي عن أبي يوسف لفلان نصف الثلث، وللفريقين نصف الثلث كأنهما فريق واحد، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله، ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في معنى المسكين والفقير، روى أبو يوسف عنه أن الفقير الذي لا يسأل؛ لأنه يجد ما يكفيه للحال، والمسكين الذي يسأل؛ لأنه لا يجد شيئاً، قال الله تعالى: في صفة الفقراء: {لا يسألون الناس إلحافاً} (البقرة: 273) قيل: لا إلحافاً ولا غير إلحاف، وقال الله تعالى في المساكين: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً} (الإنسان: 8) قيل: وقد جاء يسأل، وهذه الرواية تدل على أن الفقر أفقر، وفائدة ذلك تظهر في الوصايا لا في الزكاة لجواز صرف الزكاة إلى صنف واحد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
وأما العاملين: فهم العمال الذين نصبهم الإمام لاستيفاء صدقات المواشي، فيعطيهم ما في يده من مال الصدقة ما يكفيهم وعيالاتهم وأعوانهم في مجيئهم وذهابهم، وإن أحاط ذلك بنصف العشر أو بثلاثة أرباعه ذكره المعلى في «نوادره» ؛ وهذا لأنهم حبسوا أنفسهم لعمل المسلمين، فيستحقون كسواتهم في مالهم كالقاضي والمفتي والمحتسب ومن بمعناهم..
قال «القدوري» في «كتابه» : لو هلك المال في يد العامل سقط حقه، وأجزأت عن الزكاة، أما سقوط حقه؛ فلأن حقه في المال الذي في يديه، فيسقط بهلاكه كما في المضاربة إذا هلك في يد المضارب بعد العمل، وأما جواز الزكاة؛ فلأن قبض العاشر(2/280)
بعد الحول واقع للفقير، وكان كقبض الفقير بنفسه.
قال القدوري أيضاً: وُكِلَ للعامل أخذ العمالة، وإن كان غنياً، ولم يذكر ما إذا كان العامل هاشمياً، وذكر الكرخي والطحاوي والجصاص أنه لا يحل له ذلك عند علمائنا؛ لأن المأخوذ من أجر الصدقة، فتكون فيه شبهة الصدقة، قلنا: والشبهة في هذا الباب تعمل على الحقيقة في حق الهاشمي منها؛ لقرابة النبي صلى الله عليه وسلّم ولا تعمل عمل الحقيقة في حق غيره، ألا ترى أن الصدقة حرمت على مولى الهاشمي الغني، ولم تحرم على مولى الغني.
وفي «المنتقى» : رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة، ونوى له فيها رزق، فإنه لا ينبغي أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها، فلا بأس بذلك.
وأما المؤلفة قلوبهم: فهم قوم من المشركين كان رسول الله عليه السلام يعطيهم شيئاً تألفاً لهم حين كان بالمسلمين ضعف وبالكفار قوة، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّمسقط ذلك لوقوع الاستغناء عن تألفهم لما كثر أهل الإسلام وقوي حالهم، وهو معنى ما نقل عن الشعبي قال: انقطع الرأي بوفاة رسول الله عليه السلام.
وأما الرقاب فالمراد منه المكاتبون، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، فالله تعالى جعل لهم سهماً من الصدقة عوناً لهم على أداء المكاتبة، وهو المراد من قوله تعالى: {وآتوهم من مال االذي آتاكم} (النور: 33) وعن هذا قلنا: يجوز صرف الزكاة إلى مكاتب غيره.
وأما الغارمون: فهم الذين لزمهم الدين، فهم محل الصدقة، وإن كان في أيديهم مال إذا كان ذلك المال لا يزيد على الدين قدر مائتي درهم فصاعداً؛ لأن مقدار الدين من ماله مستحق بحاجته الأصلية، فيجعل كالمعدوم، كالماء المستحق بحاجة العطش، وما وراء ذلك إذا كان لا يبلغ مائتي درهم لا يعتبر في جريان الصدقة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: {وفي سبيل ا} (التوبة: 60) قال القدوري: في «كتابه» قال أبو يوسف: المراد به فقراء الغزاة، وقال محمد: الحاج المنقطع، وذكر بعض مشايخنا في شرح «الجامع الصغير» أراد الغازي والحاج المنقطع على قول من يقول: إن المراد هو الغازي فقير رقبة أو يداً لا رقبة؛ بأن كان منقطعاً عن ماله، فيكون فقيراً يداً غنياً رقبة، أما إذا كان غنياً رقبة ويداً، فلا يحل له الأخذ، والمراد من قوله عليه السلام: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» ، وذكر من جملتهم الغازي الغني بقوة البدن، والقدرة على الكسب لا الغنى بملك المال، والغازي وإن كان مكتسباً مستغنياً به يحل له أخذ الصدقة؛ لأن الكسب أقعده عن الجهاد.(2/281)
وأما ابن السبيل، فهو المنقطع عن ماله، ويجوز الدفع إليه وإن كان له مال كثير في وطنه؛ لأنه غني باعتبار ملك الرقبة فقير باعتبار اليد فلِغنَاه أوجبنا عليه الزكاة، ولفقره أبحنا له الصدقة.
وفي كتاب علي بن صالح للعائر: أن ابن السبيل هو الذي لا يقدر على ماله، وهو غني على أن يستقرض، والقرض عزله من قبول الصدقة، وإن قبل الصدقة أجزأ من يعطيه.
وإذا صرف الصدقة إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو صرفها إلى واحد من صنف واحد بأن أعطى مسكيناً واحداً، أو فقيراً واحداً أجزأه عندنا، وقال الشافعي: لا يجوز، والصحيح مذهب علمائنا لقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (البقرة: 271) والآية تقتضي جواز الصرف إلى فقير واحد؛ لأن الله ذكر الفقراء بلام التعريف، والاسم المذكور بلام التعريف يكون للتجنيس إذا لم يكن ثمة معهود، وليس للفقراء ههنا معهود، وكان هذا الاسم للتجنيس، واسم الجنس عند الإطلاق ينصرف إلى الواحد على ما عرف في موضعه؛ ولأن المقصود دفع الحاجة، فصار التنصيص على الأصناف السبعة، والتنصيص على المحتاجين سواء، ولو وقع التنصيص على المحتاجين، فإن قال الله تعالى: إنما الصدقات للمحتاجين، فإن الصرف إلى محتاج واحد لتعلق الحكم باسم الجنس عند انعدام المعهود، وكذا ههنا.
ولا يعطي من الزكاة والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، والأصل في ذلك أن الزكاة عبادة لله تعالى ركنها إخراج المال إلى الله تعالى بواسطة كف الفقر، والإخلاص في العبادة شرط، ولا يتحقق الإخلاص إلا بالانقطاع لحق المؤدي عن المؤدى؛ لأن منافع الأموال مشتركة.
ولا يعطي زوجته بلا خلاف من أصحابنا؛ لأن منافع الأموال مشتركة، فلا ينقطع حق المؤدى عن المؤدى، وكذا لا تعطي المرأة زوجها عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما تعطيه لما روي أن امرأة ابن مسعود قالت لرسول الله عليه السلام: إني أريد أن أتصدق على زوجي، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» وأبو حنيفة رحمه الله يحمل الحديث على الصدقة النافلة.
ولا يعطي عبده ومدبره وأم ولده؛ لأن مولاهما يملكه رقبة ويداً، ومنفعة أكسابهم له، فلا يتحقق الإخراج إلى هؤلاء أصلاً، وكذا لا يعطي مكاتبه؛ لأنه مملوك رقبة وكسبه متردد بين أن يكون له وبين أن يكون للمولى، فلا يخلص الإخراج إلى الله تعالى، ولا يصرف في بناء مسجد وقنطرة، ولا يقضي بها دين ميت، ولا يعتق عبداً، ولا يكفن ميتاً، والحيلة لمن أراد ذلك أن يتصدق (138ب1) بمقدار زكاته على فقير، ثم يأمره بعد ذلك(2/282)
بالصرف إلى هذه الوجوه، فيكون لصاحب المال ثواب الصدقة، ولذلك الفقير ثواب هذه القُرَب، ولا يعطي منها غنياً ولا ولد غني إذا كان صغيراً، وإن كان كبيراً فقيراً جاز الدفع إليه، وهذا لأنه إذا كان صغيراً يعد غنياً بمال أبيه؛ لأن كفايته عليه، ولا كذلك ما إذا كان كبيراً، فهو ليس بغني بغنى الأب؛ لأن كفايته ليس على الأب هكذا. ذكر القدوري في «كتابه» .
وبعض مشايخنا ذكروا في «شرح الجامع الصغير» خلافاً في المسألة، فذكر أن على قول أبي حنيفة يجوز الدفع إلى أولاد الأغنياء إذا كانوا فقراء صغاراً كان الأولاد، أو كباراً، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز الدفع إلى الكبار، ولا يجوز الدفع إلى الصغار، وبه أخذ جلال الرازي، وجه قولهما ما ذكرنا.
وجه قول أبي حنيفة أنهم فقراء حقيقة، ووجوب النفقة على غيرهم يدل على فقرهم لا على غناهم؛ لأن الغني لا يستوجب النفقة على الغير، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: إذا كان الأب يوسع عليهم في النفقة لا يجوز الدفع إليهم، وإن كانوا كباراً، وروى أبو سليمان عن أبي يوسف لو أعطي من الزكاة صبياً فقيراً، أبوه غني أو كبير زمناً، أو أعمى لا يعتمل له، وهما في عيال الأب لم يجز، وإن لم يكن الزمن في عياله جاز، وكذلك إذا كانت بنتاً كبيرة في عياله جاز الدفع إليها، هو لفظ «المنتقى» .
وفي «الحاوي» سئل الفقيه عمن دفع زكاة ماله إلى بنت رجل غني، والابنة فقيرة كبيرة، ولها زوج، أو ليس لها زوج، قالوا: قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز، وعن أبي يوسف أنه قال: إذا كان الأب من المكثرين لا يجوز، قال: وكذلك الاختلاف في المرأة لرجل غني، والمرأة فقيرة، فسئل الفقيه، وكيف يفتي الفقيه في هذين القولين؟ قال: لا أفتي بأحدهما لكن أذكر الاختلاف.
وفي «العيون» : إذا كان ولد الغني بالغاً جاز الدفع إليه، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً كان أو زمناً، قال: وكذا الأب إذا كان محتاجاً، والابن موسر جاز الإعطاء إلى الأب، قال القدوري في كتابه: وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة، وعن أبي يوسف: أنه لا يعطي امرأة الغني إذا قضي لها بالنفقة؛ لأنها غنية بمال الزوج، فتستحق النفقة عليه، فهي نظير ولد صغير لغني، إلا أنه شرط القضاء بالنفقة؛ لأن الاستغناء به يتأكد؛ لأن النفقة بدون قضاء القاضي لا تصير ديناً على الزوج، ولهما أن المرأة لا تصير غنية بمقدار ما يقضى لها من النفقة، فإن لها حوائج أخر سوى النفقة تستحق بملك على الزوج، وبه فارق الصبي، ولا يجوز الصرف إلى عبد الغني ومدبره وأم ولده؛ لأن الملك يقع للمولى بالصرف إليهم، وعن أبي يوسف أنه إذا أعطى عبداً زمناً، وليس في عيال مولاه، ولا يجد شيئاً أجزأه، ولو دفع إلى مكاتب الغني يجوز؛ لأن الملك لا يقع للمولى في مكاتبه إلا بعد العجز، وأنه موهوم.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف إذا أعطي عبد الغني من الصدقة، والمولى غائب جاز وإن كان المولى غنياً، وفي «الجامع الأصغر» : سئل عبد الكريم عمن دفع زكاة ماله(2/283)
إلى صبي قال: إن كان حراً حقاً يعقل الأخذ يجوز، وإلا فلا يجوز، ولو دفع إلى المعتوه، فهو على هذا التفصيل، ولو دفع إلى المجنون لا يجوز، وسئل الفقيه أبو إبراهيم عمن دفع زكاة ماله إلى صبي غير عاقل، ثم دفع الصبي إلى الوصي، أو إلى أبويه لا يجوز قال: وهو بمنزلة ما لو وضع الرجل ماله زكاة على الدكان، فأخذها الفقير، فذلك لا يجوز، فهذا كذلك.
قال القدوري في «كتابه» : ولا تجوز الزكاة إلا إذا قبضها الفقير أو بعضها من يجوز قبضه له بولايته عليه، كالأب والوصي يقبضان للمجنون والصبي، وكذلك أقاربهما إذا كانا في عيالهم، وكذلك الأجنبي الغني بقوله، وكذلك الملتقط يقبض للقيط، فأما الفقير البالغ فلا يقع القبض له إلا بتوكيله؛ لأنه غير مولى عليه بخلاف الصبي والمجنون.
ولا يجوز أن يعطى من الزكاة فقراء بني هاشم، ولا مواليهم، قال عليه السلام «الصدقة محرمة على بني هاشم» ومولى القوم من أنفسهم، وقال عليه السلام: «يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس، وعوضكم منها بخمس الخمس من الغنيمة» .
قال: وبنو هاشم الذي تحرم عليهم الصدقة آل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل علي، وولد الحارث بن عبد المطلب؛ لأن الله تعالى إنما حرم الصدقة على من عوضه عنه خمس الخمس من الغنيمة، وهو خمس ذوي القربى، ومنهم ذوي القربى يختص هؤلاء، فكذا تحرم الصدقة، وإنما تحرم على هؤلاء الصدقة الواجبة من العشور والبذور والكفارات، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع، فلا بأس؛ لأن في الواجب المؤدي نفسه بإسقاط الفرض، فيتدنس المؤدى بمنزلة من استعمل الماء في الوضوء، وهو معنى قوله يا بني هاشم «إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس» .
فأما في النفل يتبرع المؤدي بأداء ما ليس عليه، فلا يتدنس المؤدى بمنزلة من تبرد بالماء وروى عن أبي يوسف: أنه جوز صرف صدقات الأوقاف إليهم إذا سموا في الوقف؛ لأن حال بني هاشم في حرمة الصدقة كحال الأغنياء، ثم يجوز صرف صدقات الوقف إلى الأغنياء إذا سموا في الوقف، فكذا إلى بني هاشم، فأما إذا لم يسموا في الوقف لا يجوز الصرف إليهم كما لا يجوز إلى الأغنياء.
وحكى أبو عصمة الكبير عن أبي حنيفة: أنه تجوز الصدقة لفقراء بني هاشم، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس بصدقة بني هاشم بعض على بعض، ولا أرى الصدقة عليهم، ولا على مواليهم من غيرهم.
وفي «العيون» : إذا كان يعوله يتيماً، فجعل يكسوه ويطعمه، ويجعل ما يكسوه(2/284)
ويأكل عنده من زكاة ماله، فالكسوة أشك أنه تجوز من زكاته لوجود الركن، وهو التمليك فيها، وأما الطعام، فما يدفع إليه بيده أيضاً يجوز لوجود الركن فيه، وهو التمليك، وما يأكله بنفسه من غير أن يدفع إليه لا يجوز لانعدام الركن فيه.
وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت أبا يوسف رحمه الله عن صبي فقير يعوله يكسوه ويطعمه، ويده مع يده، فيحتسب ما يأكل عنده من زكاة ماله بالقيمة يجوز، وقال محمد رحمه الله: لا يجزئه في الطعام بطريق الإباحة والتمكين، وإنما يجزئه إذا دفعه إليه بطريق الهبة والكسوة يجزئه بالقيمة.
قال محمد رحمه الله: ولا تحل الزكاة لمن له مائتا درهم فصاعداً، ولا بأس بأن يأخذها من له أقل من مائتي درهم.
يجب أن يعلم بأن الغنى محرم للصدقة، ولا خلاف لأحد فيه، وإنما الخلاف في يده، والصحيح أنه مقدر بملك مائتي درهم وما يبلغ قيمته مائتي درهم فاضلاً عن مسكنه، وأثاث مسكنه وخادمه، ومركبه وسلاحه وثياب بدنه، وهذا لأن ملك المائتين أو ما يبلغ قيمته مائتين فاضلاً عن هذه الأشياء أمارة الغنى، بدليل أنه وجب على صاحبه وظائف الغني من الزكاة والأضحية، وصدقة الفطر، أما ملك ما دون مائتين عن هذه الأشياء (فليس) أمارة الغني، بدليل أنه لو ما تبلغ قيمته دون المائتين ليس أمارة الغنى ألا ترى أنه لم يجب على صاحبه (139أ1) . شيء من وظائف الغني، وإذا لم يكن غنياً كان أو فقيراً، ومحل الصدقات الفقراء وإنما يعتبر في المسكن والكسوة وأثاث البيت مقدار الكفاية، بدليل ما روى هشام عن محمد أنه سئل عمن له فضل على كسوته، أو عن متاع بيته، أو فضل على مسكنه قدر مائتي درهم، أيعطى من الزكاة؟ قال: لا إذا كان مستغنياً عنه. يعني عن فضل الكسوة والمتاع.
وذكر ابن سماعة عن محمد، إذا كان للرجل داراً تساوي عشرة آلاف درهم لجودة موضعه، وقربه من السوق، وليس فيها فضل عن سكناه، قال: تحل له الزكاة، وإنما لا تحل له الزكاة إذا كان في مسكنه فضل عن سكناه ما يساوي مائتي درهم.
وفي «البقالي» : وأطلق في الكتب عن محمد رحمه الله: إذا كان له دار تساوي عشرة آلاف درهم، ولو باعها، واشترى بألف لوسعته بذلك لا آمره ببيعها، وعن نصر رحمه الله: إذا كان فيها بستان لا يحتاجون إليها اعتبرت قيمتها وقيمته أيضاً، ويعتبر ما زاد على الدار الواحدة في (العادة) ، وكذا ما زاد على الثوب للبسه من الثياب للشتاء والصيف (دينوي البلد في الباب هنا والصيف) وكذا ما زاد على الفرسين للغازي.
وسئل الفقيه أبو القاسم عمن له كتب العلم، وهو من أهله، وأنه يساوي مائتي درهم هل يحل له أخذ الزكاة؟ قال: روى محمد بن سلمة عن أصحابنا: أنه يحل، وإن كان له مصاحف لا يحل، ثم رجع، وقال: يحل، قال أبو القاسم: من كان له كتب،(2/285)
وهو يحتاج إليها لحفظها، ودراستها يحل له أخذ الزكاة أدباً كان، أو فقهاً أو حديثاً، وقال أبو بكر: في الكتب كذلك، وفي المصاحف والأسابع وغيرها قال: لا يحل له أخذ الزكاة، قال: لأنه يجد مصحفاً آخر مثله، أما لا يجد كتباً مثل كتبه؛ لأنه ربما قابله وأحكمه، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا فرق بين الكتب، والمصاحف ويحل له أخذ الزكاة إذا كان من الكتب، والمصاحف ما يحتاج إليه، وبه كان يقول بصير، وإليه مال الصدر الشهيد حسام الدين، وإن كان عنده من المصاحف والكتب ما لا يحتاج إليه، ويبلغ قيمته مائتي درهم فصاعداً، لا يحل له أخذ الزكاة.
وسئل محمد بن الحسن عمن له أراضي يزرعها، أو حوانيت يستعملها، قال: إن كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة لا يحل له أخذ الزكاة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإن كان غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، قال محمد: يحل له أخذ الزكاة إذا كان بلغ قيمتها الوفاء، قال محمد رحمه الله: لست أنظر في هذا إلى ثمنها، وإنما أنظر إلى دخلها، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل له أخذ الزكاة إذا كان تبلغ قيمتها نصاباً.
والحاصل: أن ما يكون مشغولاً بحاجته الحالية نحو الخادم والمسكن، وثيابه التي يلبسها في الحال لا تعتبر في تحريم الصدقة بالإجماع، وما يكون فاضلاً عن حاجته الحالية لا يعتبر في تحريم الصدقة، وإنما اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية في التحريم، بأنا لو اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية لا يتصور التحريم؛ لأن الإنسان خلق محتاجاً يحتاج إلى جميع ما في يديه في التالي.
إذا ثبت هذا فنقول: الضيعة فارغة عن الحاجة الحالية حقيقة، فاعتبرناها في تحريم الصدقة اعتباراً للحقيقة، وبقولهما أخذ أبو عبد الله البلخي، ومحمد رحمه الله: اعتبرها من الحاجة الحالية؛ لأن الملك في الضيعة ما لا يستخلف ساعة فساعة، فمتى لم تبح له الصدقة يحتاج إلى بيعها إذا كانت غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، ويشق على كل أحد بيع الضيعة، فاعتبر الضيعة من الحاجة دفعاً للمشقة عن الناس، وبقوله أخذ محمد بن مقاتل ومحمد بن سلمة، بخلاف ما إذا كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة؛ لأنه إذا كان كذلك لا يحتاج إلى بيعها لو لم تبح له الصدقة، فلا تعتبر الضيعة والحالة هذه من الحوائج الحالية، فتعتبر في تحريم الصدقة، وقيل: على قول محمد رحمه الله، إذا كان غلة الضياع لا تكفيه لتقصيره في العمل، فهو غني.
وإن كان عنده بقر يحتاج إليه للحراثة، فعندهما يعتبر في تحريم الصدقة، وعند محمد لا يعتبر؛ لأنه من توابع الضيعة، فلا يعطى له حكم نفسه، بل يكون له حكم الضيعة والله أعلم.
وفي «البقالي» : ما زاد على الثورين وآلة العددين يعتبر في تحريم الصدقة، والبقرة تعتبر في تحريم الصدقة، وإذا اشترى طعاماً، لقوته مقدار ما يكفيه شهراً، أو أكثر من ذلك أو أقل، وهو يساوي مائتي درهم فصاعداً، فإن كان قوت شهر أو أقل حل له أخذ(2/286)
الزكاة بلا خلاف بين المشايخ؛ لأنه مشغول بحاجته وإن كان أكثر من الشهر اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يحل له أخذ، وبه قال نصير، وهو اختيار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله؛ لأن الشهر هو العدل فيما يدخر الناس لأنفسهم قوتاً، وكان ما وراء ذلك فاضلاً عن حاجته، وبعضهم قالوا: يحل له ذلك إلى سنة، فقد صح «أن النبي عليه السلام ادخر لنسائه قوت سنة» ، وإن كان أكثر من سنة لا يحل له أخذ الزكاة بلا خلاف، وقال نصير: فيمن كان له كسوة الشتاء، وهو لا يحتاج إليها في الصيف، أنه يحل له أخذ الزكاة، وإن بلغ قيمتها مائتي درهم وزيادة، وقال أبو القاسم: فيمن كان له على آخر دين مؤجل واحتاج، حل له الأخذ مقدار كفايته إلى حلول الأجل، قال: وكذلك المسافر إذا كان له مال في وطنه واحتاج، فله أن يأخذ من الزكاة قيمة ما يبلغه إلى وطنه، وسئل نصير عمن له دار وبستان في الدار، وقيمة البستان مائتا درهم فصاعداً، قال: إن كان البستان ليس فيه من مرافق الدار نحو المطبخ، والموضأ، وغيره مما يحتاجون إليه، لا يحل له أخذ الزكاة.
وفي «الواقعات» للصدر الشهيد رجل له مائتا درهم على إنسان والمديون مقر به، هل يحل لصاحب الدين أخذ الزكاة؟ قال: إن كان المديون معسراً، فقد اختلف المشايخ المتأخرون فيه، والمختار أنه يحل؛ لأن يده زائل عن ماله، وكان بمنزلة ابن السبيل، وإن كان موسراً لا يحل له أخذ الزكاة، وإن كان ما به جاحد لدينه، فإن كانت له بينه عادلة، لا يحل له أخذ الزكاة أيضاً؛ لأن ماله في يده معنى؛ لأنه يمكنه أخذه متى شاء بواسطة إقامة البينة، وإن لم يكن له بينة عادلة يحل له أخذ الزكاة للحال، وإنما يحل له إذا رفع الأمر إلى القاضي، وحلفه القاضي فحلف؛ لأن قبل ذلك الوصول إليه مأمول، وبعد ذلك وقع اليأس عنه بحكم الظاهر، فيحل له الأخذ.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا دفع زكاة ماله إلى أخته، وهي تحت زوج، إن كان مهرها أقل من مائتي درهم، أو أكثر من مائتي درهم، إلا أن المعجل أقل من مائتين أو كان أكثر، إلا أن الزوج معسر جاز الدفع، وهو أعظم للأجر، وإن كان المعجل أكثر من مائتي درهم، والزوج موسر، فعند أبي حنيفة الآخر، فكذلك الجواب، وعندهما لا يجوز الدفع، ولا يحل لها الأخذ بناءً على أن المهور قبل القبض، هل تكون نصاباً؟ ووجوب الأضحية وصدقة الفطر عليها، على هذا قال الصدر الشهيد رحمه الله: يفتى بقولهما احتياطاً.
في «العيون» : رجل يعول أخته أو أخاه أو عمه، فأراد أن يعطيه الزكاة إن لم يكن فرض عليه القاضي نفقته جاز؛ لأن التمليك من مولاه بصفة القربة يتحقق من كل وجه، فيتحقق ركن الزكاة، وإن كان القاضي فرض عليه نفقته، إن لم يحتسب المؤدى إليه نفقته(2/287)
جاز أيضاً، وإن كان يحتسب لا يجوز؛ لأن هذا أداء الواجب بواجب آخر.
وقال في «الحاوي» : قال أبو بكر الإسكاف: لو دفع الزكاة إلى أخته، وهي في عياله جاز، وكذلك لو فرض الحاكم عليه نفقتها جاز من الزكاة، والنفقة جميعاً، قال به، وقيل: لم يجز بعد الفرض.
وفي «المنتقى» عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل فرض عليه القاضي نفقة قرابته، وأعطاه من زكاة ماله جاز.
وكذلك إذا نوى أن تصير (139ب1) .h
النفقة التي ينفق عليهم بأمر القاضي من زكاته أجزأه، وذكر عن الحسن بن مالك عن أبي يوسف: إن نوى بما يعطيهم ما فرض القاضي عليه لم يجز، ووجهه ما ذكرنا أن هذا أداء الواجب بواجب آخر، ووجه ما روي عن أبي حنيفة: أن بعد فرض القاضي ما تغيرت ماهية النفقة، فإنها صلة شرعاً، فلا يمنع وقوعها عن الزكاة، ألا ترى أن على أصله من اشترى أباه ناوياً عن كفارة يمنه أجزأه عن الكفارة، وهذا الشراء واجب صلة للقرابة ثم وجوبه بجهة الصلة لم يمنع وقوعه بجهة الكفارة، كذا ههنا.
أبو سليمان عن أبي يوسف: رجل له مائة ألف وعليه مائة ألف، قال: استحسن أن لا يعطى من الزكاة، وإن أعطي أجزأه من المعطي.
وفي «فتاوى ما وراء النهر» سئل الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير عمن يعطي الزكاة إلى الفقراء أحب إليك، أم إلى من عليه دين ليقضي دينه؟ قال: إلى من عليه دين.
وفي «الواقعات» للناطفي: ولا ينبغي لأحد أن يسأل إليك وعنده قوت يومه؛ لأن السؤال لا يجوز إلا لضرورة. قال محمد رحمه الله: في «الأصل» إذا أعطى زكاة ماله مائتي درهم أو ألف درهم إلى فقير واحد، فإن كان عليه دين مقدار ما دفع إليه، أو كان صاحب عيال يحتاج إليه للإنفاق عليهم، فإنه يجوز ولا يكره، وإن لم يكن عليه دين، ولا صاحب عيال، فإنه يجوز عند أصحابنا الثلاثة، ويكره، وقال زفر: لا يجوز، وذكر في «الجامع الصغير» وقال أبو يوسف: يجوز في المائتين، ولا يجوز في الزيادة عليها.
وجه قول زفر: أن الغنى صارت ههنا؛ لأن الغنى حكم الأداء، والحكم يقارن العلة، فيحصل الأداء إلى الغني، ولعلمائنا الثلاثة على ما ذكر في «الأصل» ، أن الأداء يلاقي كف الفقير من كل وجه، وإنما ثبت الغنى بعد ذلك حكماً للأداء، إلا أن الأداء يلاقي كف الغني من وجه، وكف الفقير من وجه.
بيانه: أن الغنى حكم الملك، والملك إنما ثبت بعد تمام التمليك، فكان الغنى متأخراً عن التمليك، فلا يصلح مانعاً من التمليك؛ لأن المانع من الشيء سابق عليه، ولا يكون متأخراً عنه إلا أنه يكره؛ لأن الغنى أفضل بالدفع، ولهما به منع الجواز، فإذا اتصل به، وقرب منه أوجب الكراهة.
قال في «الجامع الصغير» : ولا بأس بأن يعطي أقل من مائتين، وأن يغني به إنساناً واحداً أحب من أن يفرقها، لم يرد بقوله: وأن يغني إنساناً أحب إلى الغنى المطلق؛ لأن(2/288)
تحصيل ذلك مكروه على ما بيناه، وإنما أراد به الغنى الحالي، وهو الغنى عن السؤال لحاجة الوقت؛ لأن المقصود من الصدقة دفع حاجة الوقت قال عليه السلام: «أغنوهم عن السؤال في مثل هذا اليوم» وإنما استحب هذا الإغناء؛ لأنه يوافق أمر الشرع، ويحقق ما هو المقصود من شرع الصدقة، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: من أراد أن يتصدق بدرهم ينبغي له أن يتصدق به على فقير واحد، ولا يشتري به فلوساً، ويفرقها على المساكين، إن الفقيه من أغنى الفقير عن السؤال، وإنما يحصل الإغناء بصرف الدرهم إلى فقير واحد.
وفي «المنتقى» قال همام: سألت أبا يوسف عن الرجل له مائة وتسعة وتسعون درهماً، فتصدق عليه بدرهمين، قال: يأخذ واحداً، ويؤدي واحداً.
وفيه قال هشام: سألت محمداً عن رجل له تسعة عشر ديناراً تساوي ثلثمائة درهم، هل يسعه أن يأخذ الزكاة؟ قال: نعم، ولا يجب عليه صدقة رأسه، أشار إلى أن الغنى إنما يثبت في يده، والمالية ليست في يده، وإنما في يده العين، وبالعين لا يثبت الغنى شرعاً.
وفيه أيضاً: وقال أبو يوسف: في رجل نوى أن يعطي رجلاً ألف درهم من زكاة ماله والرجل معسر، وليس عليه دين، فجاء المعطي بألف درهم فوزنها له مائة، كلما وزن مائة دفعها إليه، قال تجزئة الألف من زكاته إذا دفعها في مجلس واحد، ويجعل كأنه دفع الكل إليه بدفعة واحدة، وهذه الرواية عن أبي يوسف مخالفة لما حكى عنه في «الجامع الصغير» في المسألة المتقدمة.
قال في «المنتقى» : وكذلك لو نوى أن يعطيه ألف درهم، فجاء المعطي بألف درهم قبل أن يزن له، وقال: إني أعطيك ألف درهم من زكاتي، فهذا مثل الأول، وتجزئه إذا كان في مجلس، وكانت الألف حاضرة عنده، وإن كانت الألف غائبة عنه، ونوى أن يعطيه ألف درهم من زكاة ماله، فأتى بمائتي درهم فوزنها له، فإنه تجزئه من الزكاة المائتان والباقي تطوع.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وتقسم صدقة كل بلدة في فقرائها، ولا يخرجها إلى بلدة أخرى، واعلم بأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إن كانوا في الحاجة على السواء تصرف إلى فقراء تلك البلدة، ولا يصرفها إلى فقراء بلدة أخرى، وإن صرفها إلى فقراء بلدة أخرى يكره؛ وهذا لأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إذا كانا في الحاجة على السواء، ففي صرفها إلى فقراء تلك البلدة مراعاة حقين حق الفقير وحق الجوار، وفي الصرف إلى فقراء بلدة أخرى مراعاة حق واحد؛ ولأن في صرفها إلى فقراء بلدة أخرى، والحالة هذه تعريض المال على التلف من غير فائدة.(2/289)
وعن أبي حنيفة في غير «روايات النوادر» أنه إنما يكره الإخراج إلى بلدة أخرى، إذا كان الإخراج في حينها، بأن أخرجها بعد حَوَلان الحول، فأما إذا كان الإخراج قبل حينها، فلا بأس به، هذا إذا لم يكن فقراء بلدة أخرى ذوي قرابة منه، فأما إذا كان فقراء بلدة أخرى ذو قرابة منه، فعن أبي حنيفة فيه روايتان، روى الحسن في «المجرد» عنه: ولا يخرج الزكاة إلى بلدة أخرى لا لذي قرابة ولا لغيره، وإن أخرج جاز إلا أنه أساء.
وذكر هشام في «نوادره» عن ابن المبارك عن أبي حنيفة: أنه سئل عن إخراج الزكاة إلى بلدة أخرى، فقال: لا إلا لذي قرابته، وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله في «نوادره» لا يخرج الزكاة إلى فقراء بلدة أخرى إلا لذي قرابته، وجه الرواية التي قال: لا يخرج إلى فقراء بلدة أخرى قوله عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» من غير فصل.
وجه الرواية الأخرى: أن في الإخراج إلى ذوي قرابته مراعاة حق القرابة، وفي عدم الإخراج مراعاة حق الجوار، ولا شك أن مراعاة حق القربة أولى، ثم يعتبر جوار المال دون المالك، فقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد فيما كان بالرقة، ومعه عشرة آلاف درهم، وعشرة آلاف له بالكوفة أنه يزكي الذي معه بالرقة بالرقة، والذي بالكوفة بالكوفة، وهذا لأن الزكاة كما تجب على المالك تجب بسبب المال، ففي صرفها إلى فقراء جوار المال مراعاة جانب المال، وفي نقلها إلى بلدة المالك مراعاة جانب المالك، وكان في النقل إلى بلدة المالك تعريض المال على التلف من غير فائدة، فكره هذا الذي ذكرنا، إذا كان فقراء تلك البلدة، وفقراء بلدة أخرى في الحاجة على السواء.
فأما إذا لم يكن فقراء تلك البلدة محتاجين، إلا أن فقراء بلدة أخرى أكثر حاجة، فالصرف إلى فقراء بلدة أخرى أولى، فقد صح أن معاذاً كان يأخذ صدقات أهل اليمن، ويبعث إلى النبي عليه السلام بالمدينة، وكان النبي عليه السلام يقسمها بين المهاجرين والأنصار، وإنما كان معاذ يفعل ذلك؛ لأن فقراء المدينة كان أشد حاجة.
وفي «فتاوى ابن الليث» من لا يحل له أخذ الصدقة، فالأفضل له أن لا يقبل (140أ1) . جائزة السلطان؛ لأنها تشبه الصدقة، ولا يحل له قبول الصدقة، فكذا لا يحل له قبول الجائزة وهذا إذا أدى ذلك من بيت المال، فأما إذا أدى ذلك من مال موروث جاز القبول؛ لأنها لا تشبه الصدقة، وإن كان فقيراً، فإن كان السلطان يؤدي ذلك من بيت المال، ولا يأخذ ذلك غصباً من الناس يحل له الأخذ؛ لأنه تحل له الصدقة حقيقة، فههنا أولى، وإن كان يأخذ ذلك غصباً، فإن كان لا يخلط بدراهم أخرى لا يحل له الأخذ، وإن كان يخلط فلا بأس به؛ لأنه ملكه عند أبي حنيفة، حتى وجب عليه(2/290)
الزكاة، وورث عنه، وقوله: أرفق بالناس؛ لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل غصب.
قال محمد في «الأصل» : قوم من الخوارج غلبوا على قوم من أهل العدل، وأخذوا صدقات السوائم، ثم ظهر عليهم الإمام، لا يكون له أن يأخذ الزكاة منهم ثانياً. من المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية حتى اختص الأخذ بالأموال التي تكون محمياً بحماية الإمام، نحو السوائم وأموال التجارة التي تكون في المفاوز والأسفار، ولا يثبت حق الأخذ في الأموال الباطنة التي تكون في البلدان؛ لأنها لا تكون محمية بحماية الإمام، والإمام في هذه الصورة لم يحمهم، فلا يثبت له حق الأخذ منهم.
ومن المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك لا؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية، بل لأن حق الأخذ للإمام بسبب ولاية أثبتت له بالشرع، ألا ترى أن أخذ الصدقات من الأموال الباطنة كان مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك في زمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان أخذ الصدقة من الأموال الباطنة مفوضاً إلى الإمام؟ إلا أن عثمان رضي الله عنه في زمنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، ولما كان حق الأخذ للإمام بسبب الولاية، فنقول: ولايته قد انقطع بسبب تخلية الخوارج، فيبطل حقه في الأخذ، وهل يؤمر أرباب الأموال بالأداء ثانياً، فيما بينهم وبين الله تعالى؟ فالمسألة على وجوه:
الأول: إذا علموا أنهم صرفوا الصدقات إلى الفقراء، وفي هذا الوجه لا يؤمرون بالأداء ثانياً، فيما بينهم وبين ربهم؛ لأنه وصل الحق إلى مستحقه.
الوجه الثاني: إذا علموا بأنهم لم يصرفوها إلى الفقراء، إنما صرفوها إلى شهوات أنفسهم، وفي هذا الوجه يؤمرون بالأداء ثانياً.
الوجه الثالث: إذا لم يعلم من حالهم أنهم ماذا يصنعون بما يأخذون؟ وفي هذا الوجه روايتان: وجه الرواية التي قال: يؤمرون بالأداء ثانياً؛ لأن الحق لم يصل إلى المستحق، ولا إلى نائبه، أما إلى المستحق فظاهر، وأما إلى نائبه؛ فلأن السلطان إنما يصير نائباً عن الفقراء في الأخذ إذا كان يأخذ للفقراء، والخارجي لم يأخذ للفقراء إنما أخذ لنفسه، وجه الرواية التي قال: لا يؤمرون بالأداء ثانياً أن ظاهر البغي، إن كان يدل على الصرف إلى شهوات نفسه، فظاهر العقل والإسلام يدل على الصرف إلى الفقراء، وظاهر العقل والإسلام أدل من ظاهر البغي، فقد وصل الحق إلى باب المستحق، فلا يؤمرون بالإعادة ثانياً ذلك لتهمة البغي يندبون إلى الإعادة وفي «فتاوى أبي الليث» السلطان الجائر إذا أخذ صدقات السوائم فهذا على وجهين:
إما أن ينوي المؤدي عند الأداء الصدقة عنهم، وفي هذا الوجه اختلف المتأخرون منهم قال مفتي أرباب الصدقات بالأداء ثانياً بينهم وبين الله تعالى؛ لأنهم لا يصرفون الصدقات إلى مصارفها. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يؤمرون بالأداء ثانياً؛ لأن أخذ السلطان منهم صح لأن ولاية الأخذ له، فسقطت الصدقات عن أربابها، فلا يعود(2/291)
عليهم بعد ذلك، فإن لم يضع السلطان مواضعها، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا أفتي.
هذا هو الكلام في صدقات الأموال الظاهرة، فأما إذا أخذ صدقات الأموال الباطنة ونوى صاحب المال الصدقة عند الأداء، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: الصحيح أنه يفتى بالأداء ثانياً؛ لأن أخذ السلطان منه لم يصح، إذ ليس له ولاية أخذ صدقات الأموال الباطنة.
الفصل التاسع في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة
وفي «الجامع الأصغر» : سئل أبو حفص عمن دفع زكاة ماله إلى رجل وامرأة أن يتصدقا بها، فأعطى ولد نفسه الكبير أو الصغير أو امرأته، وهم محاويج، جاز هذا إذا كان المأمور فقيراً، فأما إذا كان المأمور غنياً يجب أن تكون المسألة على الخلاف، كما إذا أدى صاحب المال بنفسه.
وفي «الفتاوى» عن الحسن: رجل أعطى رجلاً دراهم يتصدق بها على الفقراء، فلم يتصدق حتى نوى الآمر من زكاته من غير أن يقول شيئاً، ثم تصدق المأمور، جاز من زكاته، وكذا لو أمره أن يتصدق بها عن كفارة يمينه، ثم نوى زكاة ماله، ثم تصدق.
وفي «المنتقى» : رجل أمر رجلاً أن يؤدي عنه زكاة ماله فأداه قال: يجوز عنه، ولا يرجع على الآمر بما أدى، قال: وكذلك الشريك المفاوض وشريك العنان، أمر شريكه بأداء الزكاة عنه، فأداها لم يرجع على الآمر إلا أن يقول: على أنها لك حل.
وفي «مجموع النوازل» : سئل نجم الدين: عن المؤذن يقوم عند حضور السؤال من الفقراء لأخذ الصدقات من أهل الجماعة، فدفع إنسان إليه درهماً، ولم يحضر نية الزكاة، فقبل أن يدفع المؤذن ذلك إلى الفقير نوى عن الزكاة، ثم دفع المؤذن ذلك إلى الفقراء قال: تجزئة عن الزكاة، ويد المؤذن يد الدافع إلى أن يصل إلى الفقير، وسئل الفقيه عمن جمع دراهم الفقيه أخذها من الناس، والناس أعطوا الدرهم من زكاة مالهم واضح أكثر من مائتي درهم هل تجزئهم من الزكاة؟ فهذا على وجهين:
أما إن كان الذي جمع الدراهم جمع بأمر الفقيه أو من غير أمر الفقيه، فإن كان جمع بأمر الفقيه جاز لكل من أعطى قبل أن يبلغ مائتي درهم إذا كان الفقيه فقيراً، ولا يجوز لمن أعطى بعدما بلغ مائتي درهم، إذا لم يكن على الفقيه دين، وإن كانوا لا يعلمون ذلك جاز في قول أبي حنيفة، ومحمد.
وإن كان جمع الدراهم من غير أمر الفقيه، فإنه يجوز من زكاتهم في الحالين جميعاً، ولكن يكره لمن أعطى بعد المائتين؛ لأن الذي يجمع يصير وكيلاً للدافعين في دفع ذلك إلى الفقيه في هذه الصورة، وكأنهم دفعوا بأنفسهم، ولو دفعوا بأنفسهم إلى(2/292)
الفقير مائتين أو أكثر عن زكاتهم أليس أنه يجوز؟ كذا ههنا، وهذا إذا لم يخلط أموالهم، فإذا خلط أموالهم، فهو ضامن، ولا يجوز لهم من زكاتهم لما يأتي في المسألة التي تلي هذه المسألة.
وفي «الفتاوى» : إذا دفع رجلان إلى رجل كل واحد منهما دراهم ليتصدق بها عن زكاة ماله، فخلط الدراهم قبل الدفع، ثم دفع، فهو ضامن، وكذلك المتولي إذا كان في يده أوقاف مختلفة، وخلط غلاتها صار ضامناً لها، وكذا السمسار إذ خلط غلات الناس وأثمانها، وكذلك البائع إذا خلط من أمتعة الناس، والحاصل أن الخلط سبب الضمان؛ لأنه استهلاك إلا في موضع جرت العادة والعرف ظاهراً بالإذن بالخلط.
إذا وجبت الزكاة على رجل، وهو لا يؤديها لا يحل للفقير أن يأخذ من ماله بغير علمه، وإن أخذ كان له أن يسترد إن كان قائماً، وإن كان هالكاً يضمن؛ لأن الحق ليس لهذا الفقير بعينه.
ولو كان عند رجل أربعمائة درهم، فظن أن عنده خمسمائة درهم فأدى زكاة خمسمائة درهم. (140ب1) ثم ظهر أن عنده أربعمائة، فله أن يحتسب الزيادة للسنة الثانية، لأنه أمكن أن يعجل الزيادة تعجلاً، ولو مر بأصحاب الصدقات، فأخذوا منه كثيراً مما عليه ظناً منهم أن ذلك عليه لما أن ماله أكثر يحتسب الزيادة للسنة الثانية؛ لأنهم أخذوا ذلك بجهة الزكاة، وإن علموا مقدار ماله، وأخذوا الزيادة منه جوراً، لا يحتسب؛ لأنهم أخذوا الزيادة غصباً.
ولو شك رجل في الزكاة، فلم يدرأزكى، أو لم يزكِ، فإنه يعيدها، فرق بين الزكاة وبين الصلاة، فإنه إذا شك في الصلاة بعد ذهاب الوقت أنه صلاها، أو لم يصلها، فإنه لا يعيدها، ولا فرق في المعنى؛ لأن العمر كله وقت أداء الزكاة، فصار الشك فيها بمنزلة شك وقع في الصلاة في الوقت أنه أدى، أو لم يؤد، وهناك يؤمر بالإعادة، فههنا كذلك، والله أعلم.
الفصل العاشر في بيان ما يمنع وجوب الزكاة
فنقول: ما يمنع وجوب الزكاة أنواع، منها الذي قال أصحابنا رحمهم الله: كل دين له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة، سواء كان الدين للعباد، أو لله تعالى كدين الزكاة.
فأما الكلام في دين العباد، فنقول: إنما منع وجوب الزكاة؛ لأن ملك المديون في القدر المشغول بالدين ناقص، ألا ترى أنه يستحق أخذه من غير مضار لا رضا، كأنه في يده غصب أو وديعة؟ ولهذا حلت له الصدقة، ولا يجب عليه الحج، والملك الناقص لا يصلح سبباً لوجوب الزكاة.(2/293)
وأما الكلام في دين الزكاة، فنقول: إن كان زكاة السائمة تمنع وجوب الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله.
وصورته: إذا كان له نصاب من الأثمان أو السوائم، أو عروض التجارة، فحال الحول ووجب الزكاة، ثم حال الحول ثانياً لم تجب الزكاة في الحول الثاني في السوائم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، سواء كان ذلك في العين بأن كان العين قائماً، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وفي الأثمان وعروض التجارة كذلك الجواب عند أبي حنيفة، ومحمد، سواء كان ذلك في العين، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وقال أبو يوسف: إن كان في العين لا تجب الزكاة في الحول الثاني، وإن كان في الذمة تجب الزكاة في الحول الثاني، وقال زفر: تجب الزكاة في الحول الثاني سواء كان ذلك في العين أو في الذمة.
وجه قول زفر: أن هذا دين لا مطالب له من جهة العباد؛ لأن الزكاة في الأثمان وعروض التجارة أداؤها مفوض إلى أربابها، فلا يمنع وجوب الزكاة قياساً على النذور والكفارات، وأبو يوسف يقول: القياس ما قاله زفر، إلا أنه إذا كان في العين، إنما يمنع وجوب الزكاة؛ لأن جزءاً من العين صار مستحقاً به، فصار النصاب ناقصاً، وأبو حنيفة، ومحمد قالا: هذا دين له مطالب من جهة العباد تقديراً.
بيانه: أن زكاة الأثمان، وعروض التجارة زمن رسول الله عليه السلام وزمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان مفوضاً إلى الإمام، إلا أن عثمان رضي الله عنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، وجعل أرباب الأموال كالوكلاء نفسه، لا أنه أبطل على نفسه حق الأخذ، وهذا لأن حق المطالبة للإمام عرف بعهد رسول الله عليه السلام وبعهد أبي بكر، وعمر، وحكم ثبت من جهة النبي عليه السلام، ومن جهة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، لا يجوز لعثمان رضي الله عنه إبطاله، فدل أنه فوض الأداء إلى أرباب الأموال بطريق التوكيل، وكان هذا ديناً له مطالب من جهة العباد تقديراً.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم، فقبل الحول وجب عليه حجة الإسلام، أو حجة أوجبها، أو كفارة، أو صدقة من طعام، أو عتق، أو هدي متعة، أو أضحية، ثم تم الحول على المائتين وجبت عليه الزكاة؛ لأن هذه الحقوق لا مطالب لها من جهة العباد، ومثل هذا لا يمنع وجوب الزكاة، فلو امتنع وجوب الزكاة ههنا إنما يمنع لهذه الحقوق، ولو كان الدين خراج أرض يمنع وجوب الزكاة بقدره؛ لأن هذا دين له مطالب من جهة العباد، وهو السلطان، فإن السلطان مطالب بالخراج، وإذا امتنع يحبسه عليه.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطهاويسي رحمه الله يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد رحمه الله أنه كان يقول: هذا إذا كان خراجاً يوجد بحق، فأما ما يوجد بغير حق كخراج المستقرض لا يمنع وجوب الزكاة ما لم يوجد منه قبل الحول؛(2/294)
لأن هذا ليس بدين، بل هو مصادرة يوجد من أرباب الأراضي، فما لم يوجد منه حتى يصير النصاب ناقصاً، لا يمنع وجوب الزكاة، وإذا كان الخراج بحق إنما منع وجوب الزكاة إذا كان تمام الحول بعد إدراك الغلة، أما إذا كان قبل إدراك الغلة، فلا؛ لأن الخراج إنما منع وجوب الزكاة على تقدير الوجوب، ووقت وجوب الخراج وقت إدراك الغلة، وكذلك الأرض العشرية إذا أخرجت طعاماً، واستهلكه، وضمن مثله ديناً في الذمة، وذلك قبل تمام الحول على الدراهم، ثم تم الحول على الدراهم فليس عليه فيها زكاة؛ لأن هنا دين له مطالب من جهة العباد، وهو الإمام.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل له مائتا درهم لا مال له غيرها قال قبل الحول: لله عليه أن يتصدق بمائة منها صح النذر، ولزمه أن يتصدق بمائة منها عيناً، حتى لو هلكت المائتان بطل النذر؛ لأن النذر بالتصدق أضيف إلى مائة من هاتين المائتين والدراهم والدنانير تتعينان في النذور؛ لأن النذر ينزع، فلو أنه لم يتصدق بمائة من هاتين المائتين حتى حال الحول على المائتين لزمه زكاة المائتين خمسة، وإن صارت مائة منه مستحقة بالنذر؛ لأن هذا حق لا مطالب له من جهة العباد.
فإن قيل: لم لا يمنع وجوب الزكاة من حيث أن الاستحقاق بمنزلة الهلاك؟ قلنا: إن الاستحقاق ثبت بنذره، وله ولاية تغيير ماله، أما ليس له ولاية تغيير ما عليه، وكون المال سبباً لوجوب الزكاة أمر عليه، فلا يظهر الاستحقاق الذي هو بمنزلة الهلاك في حق خروج هذا المال من أن يكون سبباً لوجوب الزكاة بنذره، ثم إذا لزمته الزكاة، وإخراج خمسة منها ينوي الزكاة بها، فإن عليه أن يتصدق للنذر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، وسقط عنه التصدق بدرهمين ونصف؛ لأن الخمسة التي وجبت زكاة وجبت شائعة في المائتين في كل مائة درهمان ونصف، فيصير قدر درهمين ونصف مستحقاً من المنذور به من غير إيجاب بإيجاب الله تعالى، فصار بمنزلة ما لو هلك هذا القدر، فبطل النذر بقدره، ولزمه الوفاء بما بقي، وذلك سبعة وتسعون ونصف.v
وهذا بخلاف ما لو قال: لله عليّ أن أتصدق بمائة درهم، ولم يقل: منها، وتم الحول حتى لزمه الزكاة، فأدى خمسة منها ينوي بها الزكاة، فإن عليه أن يتصدق بمائة درهم للنذر، بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن في هذه المسألة النذر بالتصدق ما أضيف إلى مائة من النصاب حتى يتعين مائة من النصاب للتصدق، بل وجب التصدق بمائة في الذمة، ولا تعلق له بالنصاب، فوجوب الزكاة لا يصيّر شيئاً من النذور مستحقاً، فلا يبطل شيء من النذر. (141أ1)
وكذلك المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى: النذر بالتصدق أضيف إلى المائة من النصاب عيناً، والخمسة الواجبة نصفها من المائة المنذورة لما ذكرنا، أن الزكاة في المائتين وجب على الشيوع، فبقدر درهمين ونصف صار مستحقاً من المنذور، فسقط التصدق بقدره، فلو أن هذا الرجل بدأ بالنذر أولاً، وأدى المائة عن النذر صح؛ لأنه وفاءٌ(2/295)
بالنذر والوفاء بالنذر واجب، ولم يذكر محمد رحمه الله أن أي قدر يؤدي الزكاة، واختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يؤدي درهمين ونصفاً، وهذا القائل يقول: كل المائة لا تقع عن النذر، بل تقع عن النذر قدر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، والباقي إلى تمام المائة وهو درهمان ونصف تقع عن الزكاة.
وجه ذلك: أن درهمين ونصفاً من الزكاة كان في المائة التي تصدق بها عن النذر، وتعلق به حق الفقير، وقد يصل ذلك إلى الفقير، فيعتبر واصلاً إليه من جهة المستحق لا من جهة المنوية، ألا ترى أنه لو تصدق بجميع النصاب ينوي التطوع تسقط عنه الزكاة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أيضاً رجل له دراهم ودنانير، وعروض التجارة وسوائم، ومال قنية، وعقار، وغلة دين مستغرق، فلا زكاة عليه، وقد مر هذا، وإن استغرق الدين بعض هذه الأموال، ذكر في عامة نسخ «الجامع» : أنه يصرف الدين إلى نصاب الدراهم والدنانير، ثم إلى مال التجارة، وهكذا ذكر في «النوادر» ، وذكر في بعض نسخ «الجامع» : أنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير، وأموال التجارة، وسوى بين الدراهم والدنانير وأموال التجارة والأول أصح.
يجب أن يعلم أنه إذا كان للمديون صنوف من الأموال المختلفة، والدين مستغرق بعض هذه الأموال، فالدين أولاً يصرف إلى الدراهم والدنانير إما لأن قضاء الدين استبدال من حيث إن الديون يقضى بأمثالها، والقضاء بالمثل مبادلة، وكان صرفه إلى مال معد للاستبدال أولى، والدراهم والدنانير معدة للاستبدال دون غيرهما، وإما لأن الدراهم والدنانير أيسر المالين قضاء، والدين أبداً يصرف إلى أيسر المالين قضاء، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى عروض التجارة دون السائمة، إما؛ لأن قضاء الدين من عروض التجارة أيسر من قضائها من السائمة؛ لأن السائمة معدة للإمساك.
بخلاف عروض التجارة، أو لأن الصرف إلى عروض التجارة أنفع في حق الفقراء؛ لأن السائمة خالية عن الدين، وزكاة عروض التجارة مفوض إلى أربابها، وعيني يختار الأداء وعيني لا يختار، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى السائمة، ولا يصرف إلى مال العينية؛ لأن قضاء الدين من السائمة أيسر؛ لأنها فارغة عن الحاجة الأصلية، فالإتيان دليل عليه بخلاف مال العين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية.
فإن كان له نصيب من السوائم الإبل، والبقر، والغنم، والدين يصرف إلى أهلها زكاة، حتى إن في هذه المسألة يصرف الدين إلى الإبل أو الغنم، ولا يصرف إلى البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين من البقر تبيع، والواجب في خمس من الإبل شاة، وكذلك الواجب في أربعين من الغنم شاة، ولا شك أن تبيعاً أنفع في حق الفقير من الشاة، فيصرف الدين إلى الإبل، أو الغنم دون البقر، ليمكن إيجاب الأنفع للفقراء، ثم المالك إن شاء صرف الدين إلى الغنم، وإن شاء صرفه إلى الإبل لإيجاد الواجب فيهما، وروي في غير رواية الأصول الدين يصرف إلى الغنم دون الإبل، لأن ذلك أنفع في حق الفقير.
بيانه: أنه إذا صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل خالياً عن الدين، والواجب(2/296)
فيها شاة لأحمد، فإذا أداها يبقى نصاب الإبل ثابتاً في السنة الثانية، فأما لو صرفنا الدين إلى الإبل يبقى نصاب الغنم خالية عن الدين، فتجب شاة منها، فينتقص النصاب في السنة الثانية وكان صرف الدين إلى الغنم أنفع في حق الفقراء.
وصار الأصل من جنس هذه المسائل: إن ما كان أنفع للفقراء لا يصرف الدين إليه، وإن فضل شيء من الدين يصرف إلى مال القنية دون العقار، ولأن بيع مال القنية أيسر؛ لأن العقار ما لا يستحدث فيه الملك، ولا يباع في كل ساعة بخلاف المنقول.
وإن كان في مال القنية عبد لخدمته، وثياب البذلة والمهنة، والدين لا مستغرق ذلك كله، بل يكفيه أحد المالين، فإلى أي المالين يصرف الدين؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يصرف إلى عبد الخدمة، منهم الفقيه أبو إسحق الحافظ، والفقيه أبو بكر البلخي، وبعضهم قالوا: يصرف إلى ثياب البذلة والمهنة، منهم الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهذا الذي ذكرنا من الترتيب إذا أتاه المصدق، فيقول: عليّ دين، فيصرف على هذا الترتيب، فأما إذا كان يؤدي بنفسه يصرفه إلى أي المالين ما بعد أن يكون مقدار الواجب، فهما على السواء، وهذا لأن الدين عليه والمال له، وليس في صرفه إلى أحدهما ضرر على الفقراء، وكان له أن يصرف إلى أيهما.
وقيل في دين المهر: أنه يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وقيل: إن كان من نية الزوج: أنها متى طالبته تلقاها بلطف، ويقرها أنه متى صادف مالاً لا يبطل حقها يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وإن كان من حقه أنه متى طالبته ضربها، وتلقاها بالإنكار لا يمنع وجوب الزكاة.
قال القدوري في «كتابه» : وقال أصحابنا رحمهم الله: إن النفقة لا تمنع وجوب الزكاة ما لم يقض بها، فإذا قضي منعت؛ لأن النفقة لا تصير ديناً قبل قضاء القاضي فهذا الجواب مستقيم في نفقة الزوجات؛ لأنها تصير ديناً بقضاء القاضي، فأما نفقة المحارم ففي صيرورتها ديناً بقضاء القاضي كلام يأتي في موضعها إن شاء الله.
ولو ضمن دركاً، فاستحق المبيع بعد الحول لم تسقط الزكاة؛ لأن الوجوب يقتصر على ماله الاستحقاق، ومن جملة الموانع الصبي والجنون، حتى لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون عندنا، فإذا كان الجنون أصلياً ثم أفاق، فعند أبي حنيفة: يعتبر ابتداء الحول من حين الإفاقة؛ لأنه لا خطاب قبل ذلك، فصارت الإفاقة في حق المجنون بمنزلة البلوغ في حق الصبي، وإذا طرأ الجنون فإن استمر سنة سقط، وإن كان أقل من ذلك لا يعتبر.
وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الإفاقة في أكثر السنة، فإن كان مفيقاً في أكثر السنة تجب الزكاة وما لا فلا، وروي عنه: أنه إذا أفاق ساعة من الحول تجب الزكاة، وهو قول محمد؛ لأن السنة للزكاة بمنزلة الشهر للصوم، ثم الإفاقة في شيء من الشهر تكفي لوجوب الصوم، فكذا الإفاقة في شيء من السنة تكفي لإيجاب الزكاة، والذي يجن ويفيق بمنزلة الصحيح، وهو النائم والمغمى عليه.(2/297)
الفصل الحادي عشر في الأسباب المسقطة للزكاة
فمن جملة ذلك هلاك مال الزكاة، قال أصحابنا رحمهم الله؛ إذا هلك مال الزكاة بعد حَوَلان الحول من غير تعد منه بالاستهلاك سقط عنه الزكاة، سواء هلك بعد التمكن من الأداء، أو قبل التمكن منه، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إذا طالبه الساعي بالأداء، فلم يؤد حتى هلك ضمن، وقال أبو سهل الزجاجي من أصحابنا: لا يضمن.
فوجه قول أبي الحسن: أن الساعي ناب عمن له الحق في قبض هذا المال على التعين، فيصير ضامناً بالمنع منه كما في الوديعة، إذا قال صاحب الوديعة للمودع: ادفع الوديعة إلى غلامي هذا، فطلب غلامه ذلك الوديعة، فلم يدفع إليه، فإنه يصير ضامناً، فههنا كذلك، وعلى هذا العرف يخرج ما إذا طلب الفقير منه ذلك، فلم يدفع إليه حتى هلك حيث لا يضمن؛ لأن هذا الفقير (141ب1) لم يتعين نائباً عمن له الحق في أخذ هذا المال، فهو نظير ما لو قال صاحب الوديعة: ادفع الوديعة إلى أي غلماني شئت، فجاء واحد من غلمانه وطلب الوديعة، فلم يدفع إليه حتى يدفع إلى غلام آخر هناك لا يصير ضامناً كذا.
وجه قول أبي سهل: أن وجوب الضمان يستدعي تفويتاً، ولم يوجد، وفي فصل الوديعة وجد التفويت؛ لأن المودع بالمنع بدل اليد، فصار مُفوتاً يداً بذلك، فيجب الضمان بالتفويت، أما ههنا بخلافه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا كان للرجل ثمانون من الغنم السائمة حال عليها الحول، حتى وجبت شاة، ثم هلك منها، وبقي أربعون، ففي القياس يزكي الباقي نصف شاة، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان يزكي الباقي بشاة كاملة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
من مشايخنا من قال: هذه المسألة في الحاصل تبنى على أصل أن المال إذا اشتمل على النصاب في العفو، فالواجب يتعلق بالنصاب، وحل استحساناً حتى لو هلك العفو، وبقي النصاب بقي كل الواجب، وقال محمد وزفر: يتعلق بهما قياساً حتى لو هلك العفو سقط من الزكاة بقدره، فوجه القياس في ذلك قوله عليه السلام «في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين» ، فقد جعل الشاة واجبة في الكلّ؛ ولأن ما زاد على الأربعين نعمة، فتجب الزكاة فيه شكراً قياساً على الأربعين، وبالإجماع لم يجب فيما زاد على الأربعين شيء آخر. علمنا أن الشاة واجبة في الكل، فإذا هلك ما زاد على الأربعين يجب أن يهلك بخمسة كما لو كان له أربعون من الغنم، وهلك بعضها، إلا أن هذه الزيادة تسمى(2/298)
عفواً بمعنى أن الشاة تجب بدونها، ولكن إذا وجدت الزيادة، فالوجوب يتعلق بالكل.
ومن مشايخنا من قال: الشاة وإن كانت واجبة في الأربعين لا غير، مع هذا يمكن القول بسقوط بعض الواجب بهلاك الزيادة.
وبيان ذلك: أن ما وجب فيه الشاة غير معين، فأربعون من الثمانين مال الزكاة وأربعون ليس مال الزكاة، وليس أحد الأربعين..... المالين للآخر، بل كل واحد من الأربعين أهلاً نفسه؛ لأن أحد المالين إنما جعل تبعاً للآخر، إما أن يكون متفرعاً عنه كالولد، أو بأن يكون مستفاداً..... ولم يوجد شيء من ذلك ههنا، وقد اختلطا على وجه تعذر التمييز؛ لأن الذي فيه الشاة ليس بمعين، والأصل في كل مالين هذا حالهما، أنه إذا هلك شيء منها، فما هلك يجعل هالكاً من المالين، وما بقي يجعل باقياً من المالين؛ لأنه في معنى الشائع، والشائع كذلك يكون، والدليل عليه.
مسألة في «النوادر» : إذا كان للرجل ألف درهم حال عليها الحول، فاستفاد ألفاً أخرى، واختلط المستفاد بالنصاب على وجه تعذر التمييز بينهما، ثم هلك منها ألف فإنه يزكي خمسمائة، وجعل الهلاك من المالين بالطريق الذي قلنا، كذا ههنا.
وجه الاستحسان في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام «في أربعين شاة الشاة» وليس في الزيادة شيء حتى يبلغ مائة وواحداً وعشرين» ، فالنبي عليه السلام عفى الوجوب عن الزيادة إلى أن يبلغ مائة واحداً وعشرون، فمن جعل الشاة بشاة في الثمانين، فقد أوجب في الزيادة على الأربعين شيئاً قبل وجود نصابه، وإنه خلاف النص، والعمل بما روينا أولى من العمل بما رواه الخصم؛ لأن ما روينا محكم في حكم الواجب عن الزيادة على الأربعين، وما رواه الخصم محتمل أن يكون حتى قوله: إلى مائة وعشرون، أن الشاة واحدة في الكل، ومحتمل أن يكون معناه من الأربعين إلى مائة واحد وعشرين عفو لا يتعلق به الواجب، فكان العمل ما روينا أولى، والمعنى في المسألة: أنهما مالان اختلطا، وتعذر التمييز بينهما وأحدهما أصل هو النصاب الأول، والآخر تبع، وهو الزائد على النصاب؛ لأن الأصل ما يقوم بنفسه، ويوجد دون غيره، والتبع ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد دون غيره، والنصاب الأول يقوم بنفسه، ويوجد بدون الزيادة، والزيادة لا تقوم بنفسها، ولا توجد بدون النصاب الأول فهو معنى قولنا: إن النصاب الأول أصل، والزيادة عليه تبع، فيصرف الهلاك إلى التبع؛ لأن الأصلي أقوى، وصرف الهلاك إلى الأضعف أولى، ولأن في صرف الهلاك إلى التبع صيانة الواجب عن النقصان، فكان هو أولى.
وأما مسألة «النوادر» . قلنا: ما ذكر أنه يزكي خمسمائة فهو قول محمد وزفر، وهو القياس، أما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وهو الاستحسان، يزال النصاب الأول الذي هو الأصل، وهو مائتا درهم ثم يصرف الهلاك إلى ما وراءه يكون ذلك جعله تبعاً(2/299)
للنصاب الأول، إلا أن التابع للنصاب الأول في هذه الصورة بعضه مال وجب فيه الزكاة، وذلك ثماني مائة من الألف التي حال عليه الحول، وبعضه حال لم يجب فيه الزكاة، وذلك ألف درهم، فيصرف الهلاك إلى الكل، وجعلنا لكل مائتي درهم منهما، فصار ما وجب فيه الزكاة أربعة أسهم، وما لم يجب فيه الزكاة خمسة أسهم، فجملة ذلك تسعة أسهم فما هلك، وذلك ألف، يهلك على تسعة أسهم، وما بقي وذلك ثماني مائة يبقى على تسعة أسهم، أربعة اتساعها مما وجب فيه الزكاة، وذلك أربعمائة وأربعة وأربعون وأربعة الأتساع، فيبقى ذلك ثلثمائة وخمسة وخمسون وخمسة الأتساع. يضم هذا القدر من ثماني مائة إلى النصاب الأول الذي هو الأصل، وذلك مائتا درهم، فيصير الجملة خمسمائة درهم وخمسة وخمسين وخمسة الأتساع يزكي هذا القدر على طريق الاستسحان، نصّ عليه في زكاة الإبل في «نوادر الزكاة» .
ولو هلكت من الثمانين ستون، وبقي عشرون يزكي الباقي، بنصف شاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندما يصرف إلى الزيادة أولاً، ويجعل كأن الزيادة لم تكن، وكان ماله أربعين لا غير، وقد هلكت منها عشرون وبقي عشرون، يزكي الباقي بنصف شاة من هذا الوجه، وعند محمد وزفر زكى الباقي ربع الشاة؛ لأن عندهما الشاة كانت سابقة في الثمانين.
ولو كان له مائة وعشرين من الغنم هلك بعد الحول ثمانون، وبقي أربعون يزكي عن الباقي شاة واحدة في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندهما انصرف إلى الزيادة على النصاب الأول كأنه لم يملك إلا الأربعين.
ولو كان له مائة واحد وعشرون من الغنم حال عليها الحول، ثم هلك منها أحد وثمانون، وبقي أربعون ذكر في «الجامع» أنه يزكي الباقي بشاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف في «الأمالي» أنه يزكي الباقي بأربعين جزءاً من مائة وإحدى وعشرين جزءاً من مائين وهو قول محمّد، وإنما خالفت هذه المسألة المسألة الأولى عند أبي يوسف على رواية «الأمالي» ؛ لأن في هذه المسألة المال اشتمل على النصابين، وفي المسألة الأولى اشتمل على النصاب، والعفو والمال إذا اشتمل على النصاب والعفو، فالهلاك يصرف إلى العفو عند أبي يوسف باتفاق الروايات، ومتى اشتمل على النصابين، فالهلاك ينصرف إلى النصابين على رواية «الأمالي» عنه، وعلى ظاهر الرواية يصرف الهلاك إلى النصاب الزائد على النصاب الأول، أو نصاباً (142أ1) الأول مستغنى عنه، وفي الزيادة إذا كانت نصاباً، إن انهدم المعنى الذي قلتم وجد المعنى الذي قلنا، فالثاني لا يستغني عن الأول، والأول مستغني عن الثاني، وإنه كافٍ للتبعة كما في التعجل، فإنه إذا عجل زكاة نصب كثيرة بعدها هلك نصاباً واحداً جاز، وطريق الجواز أن يجعل ما وراء هذا النصاب تابعاً له، وذكر القدوري في «شرحه» روايتين، أبي يوسف عن أبي حنيفة: في المال أداء اشتمل على النصابين مثل قول محمد، ورواية أبي يوسف، وقال أبو الحسن: هو الصحيح.(2/300)
وفي «القدوري» : إذا كان له أربعون من الإبل السائمة هلك منها عشرون بعد الحول، ففي الباقي أربع شياه عند أبي حنيفة؛ لأنه يجعل الهالك كأن لم يكن لكون الهالك تبعاً، وصرف الهلاك إلى التابع عنده، فيلزمه زكاة العشرين، وذلك أربع شياه، وعند أبي يوسف: يجب عشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من بنت لبون؛ لأن الأربعة عفو، فالواجب وذلك بنت لبون في ست وثلاثين، فيبقى من الواجب بقدر الباقي، فلو كان له مائتا درهم، ودمج معها بعد الحول مائتين، ثم هلك نصفها لم تسقط هي؛ لأن الربح تابع لأصل المال بلا خلاف، فيصرف الهلاك إليه عند الكل كما صرف إلى العفو عند أبي حنيفة.
قال القدوري: والعفو عند أبي حنيفة يتصور في سائر الأموال، وعندهما لا يتصور في الذهب والفضة، إنما يتصور في السوائم بناءً على أن الزكاة تجب في الزيادة على المائتين والعشرين، عندهما خلافاً لأبي حنيفة، وفي «المنتقى» فالدين صح عن أبي يوسف، وإبراهيم عن محمد: رجل دفع زكاة ماله لثلاث سنين إلى الوالي، ثم ضاع ماله قال: رد عليه الوالي، إن كان قائماً بعينه، وإن كان فرقه، فلا شيء عليه.
وفيه: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل له جارية للتجارة قيمتها مائة درهم حال عليها الحول ثم باعها بثلثمائة درهم، ثم نوى منها مائتا درهم، قال: يزكي مائة الدرهم الباقية.
بشر عن أبي يوسف: رجل له أربعون شاة سائمة حال عليها الحول، ثم باعها بثلثمائة درهم، ولدت أربعين حملاً، ثم ماتت الأمهات بطل عنها الزكاة.
ابن سماعة عن محمد: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم أقرضها رجلاً يفوت عليها مال الزكاة عليه؛ لأنه ما أخرجهما عن حد الزكاة، وإنما أقرضها ليكون له عليه مثلها، وكذلك لو كان له ثواب للتجارة حال عليها الحول، ثم أعاره رجلاً فضاع.
ومن جملة الأسباب المسقطة للزكاة موت من عليه مال، قال أصحابنا رحمهم الله: إذا مات من عليه الزكاة تسقط الزكاة بموته حتى أنه إذا مات عن زكاة سائمة، فالساعي لا يجبر الوارث على الأداء، ولو مات عن زكاة التجارة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين ربه، وقال الشافعي: لا يسقط بموته؛ لأن هذا حق مال وجب في ذمته، والنيابة تجري فيه.
ألا ترى أنه لو أمر غيره بأداء الزكاة في حالة الحياة جاز، وكذا لو أوصى لوارثه بأن يؤدي زكاة ماله بعد موته يجب على الوارث أداءه، فصح ما ادعينا، أن هذا حق مال وجب في ذمته والنيابة تجري فيه، فوجب أن لا يسقط بموته قياساً على سائر الحقوق التي بهذه الصفة، وأقر بها العشر.
وإنما نقول: بأن الزكاة عبادة خالصة لله تعالى، والركن في العبادات الأداء عن اختيار، ولا اختيار للمتغيب، وما يقول: بأن هذا حق تجري فيه النيابة.
قلنا: نعم ولكن نيابة اختيارية لا نيابة جبرية، ولو وجب على الوارث الأداء ههنا(2/301)
لصار نائباً عنه جبراً، فلا يكون الأداء عن اختيار من عليه، حتى لو وجد الاختيار، وفي النيابة بأن أوصى إليه قول بأنه ثبت على الوارث الأداء، ثم إذا أوصى قائماً يجب على الوارث تنفيذ الوصية بقدر الثلث؛ لأن الميت لو لم يوص بذلك لكن تسلم الورثة جميع المال لو بطل حقهم عن بعض المال، إنما يبطل بحكم الوصية، وعمل الوصية في مقدار الثلث، لا في الزيادة على الثلث.
ومن جملة الأسباب المسقطة: الردة، قال أصحابنا: من عليه الزكاة إذا ارتد عن الإسلام، والعياذ بالله، بطل عنه الزكاة، وكذلك ما مضى من الأحوال....، فلا زكاة فيها عندنا بناءً على ما قلنا أن الزكاة عبادة، والمرتد ليس من أهلها، وهذا لأن أصلية الشيء بأصلية حكمه، وحكم العبادة الزكاة الثواب، والمرتد ليس من أهل الثواب والله أعلم.
الفصل الثاني عشر في صدقات الشركاء
قال أصحابنا: وإذا كان النصاب من خليطين لا تجب فيه الزكاة، والأصل فيه قوله عليه السلام، «وسائمة الرجل إذا كان أقل من أربعين، فلا زكاة فيها» ؛ ولأن الزكاة وظيفة الغني، وهذا ليس بغنى في حق كل واحد منهما.
وقال الشافعي: تجب الزكاة عند وجود شرائط الخليطين، وذلك بأن يتحد الراعي والمرعى والمراح، والمسرح والبئر والكلب، ويحتج بقوله عليه السلام «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، وما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ، فالنبي عليه السلام اعتبر الجمع والتفريق والخلطة، وعندكم لا أثر لهذه الأشياء، وعندنا مضى قوله عليه السلام: «لا يجمع بين متفرق» إذا كان بين رجلين ثمانون شاة، فإنه تجب فيها شاتان، فلا يجمعا فيها، فيقولان: إنها لرجل واحد لإيجاب شاة واحدة، وإذا كان بين رجلين أربعون شاة، فلا ينبغي للساعي أن يجعلها كأنها لرجل واحد، فيأخذ منها شاة، ومعنى قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» إذا كان لرجل أربعون شاة، فلا ينبغي له أن يجعل عشرين منها على يدي رجل، ويقول: ليس لي إلا عشرون حتى لا تجب الزكاة، وإذا كان لرجل مائة وعشرون من الغنم، فلا ينبغي للساعي إن فرق كل أربعين على حدة، فيأخذ ثلاث شياه وقوله: «ما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ، فهذا ما ذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد:
l
إذا كان رجلان بينهما مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون، وللآخر ثمانون وأخذ المصدق منها شاتين، فصاحب الثمانين يرجع على صاحب الأربعين بثلث(2/302)
شياه؛ لأن المأخوذ من نصيب صاحب الأربعين ثلث شاتين، وثلث شاتين لا شاة واحدة، والواجب عليه شاة، والثلث الآخر أخذ من نصيب صاحب الثمانين، فرجع هو بذلك على صاحب الأربعين.
وفي «نوادر هشام» عن محمد صورها في الإرث، فقال: رجل توفي وترك مائة وعشرين شاة سائمة، وله ابن وبنت، فورثاها على فرائض الله، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، فإن الأخت تعود على أخيها بسدس قيمة كل شاة من الشاتين.
وفي «نوادر ابن رستم» : ثلاثة نفر لكل رجل منهم خمسون شاة، فخلطوها، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، وإن كان يعرف غنم كل رجل، فأخذ الشاتين من الغنم لرجل بعينه، فهذا ظلم به.
وفي «نوادر هشام» : في ثمانين شاة بين أربعين رجلاً لرجل واحد من كل شاة نصفها والنصف الآخر من الشاة لهؤلاء الباقين، قال أبو حنيفة: ليس على صاحب الأربعين صدقة، وهو قول محمد، ولو كان بين رجلين يجب على كل واحد منهما شاة؛ لأنه مما يقسم في هذه المسألة. (142ب1) ، وفي المسألة الأولى لا يقسم.
وفي «القدوري» : قال أبو يوسف: إذا كان ماء مشترك بين رجلين، وبين أحدهما وبين آخر تسعة وسبعون، فعلى الذي تمّ نصابه، وذلك أربعون الزكاة، وقال زفر: لا يجب الزكاة لأنه أحسبه بالقسمة نصيب كامل، فإنه يستحق من هذه الشاة الواحدة نصفاً ومن الباقي نصفاً، وأبو يوسف يقول: المعتبر كمال النصاب في ملكه، وقد اجتمع في ملكه أربعون شاة، فتجب منه الزكاة.
الفصل الثالث عشر في زكاة الديون
يجب أن تعلم أن من عليه الدين لا يخلو أن يكون مقراً بالدين، أو جاحداً له، وإما أن يكون مليئاً، أو مفلساً.
فإن كان مليئاً، وكان مقراً بالدين، فلا يخلو إما إن وجب الدين بدلاً عما هو مال التجارة كبدل الدراهم والدنانير وعروض التجارة، وما أشبهه، أو وجب بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة، وما أشبهه، أو وجب بدلاً عما ليس بمال كالمهر، والدية، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد، وما أشبهه، فأوجب بدلاً عما هو مال التجارة. فحكمه عند أبي حنيفة: أن يكون نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه أربعين درهماً، وما وجب بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة، فحكمه في رواية عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض، وعلى هذه الرواية اعتمد الكرخي رحمه الله.
وفي رواية الأصل عنه: أنه يكون نصاباً قبل القبض، وعلى قوله الآخر لا يكون(2/303)
نصاباً قبل القبض، وهو الصحيح، فقد فرق على قوله الآخر بينما وجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، وبينما وجب بدلاً عما هو مال.
وجه الفرق: أن المال إنما يعتبر نصاباً باعتبار معنى التجارة لدين ثابت من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فكان معنى التجارة بالدين إما من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فإذا كان الدين بدلاً عما هو مال التجارة، فالمال في حقه مال النصاب لا مال الثبوت، والثابت بعلة يبقى ما بقي شيء من تلك العلة، فتبقى نصاباً في حقه، فتجب فيه الزكاة، إلا أنه لا يجب الأداء؛ لأن العين أفضل من الدين، فإنه يملك التصرف في العين على الإطلاق.
فأما ما يجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، فالحال في حقه حال الثبوت للنصاب، فاعتبار معنى التجارة من كل وجه، ومعنى التجارة للدين ثابت من وجه على أمر لا يكون نصاباً قبل القبض، ولهذا قال أبو حنيفة في الدين الذي وجب بدلاً عما هو عينه، إلا أنه ليس للتجارة، وفي رواية: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن أصله لم يكن نصاباً، ولم يكن للتجارة، وكان المال في حقه مال ثبوت النصاب، فلا بد من اعتبار معنى التجارة من كل وجه.
وفي رواية «الأصل» : ما لا يكون نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم.
وإنما شرطنا لوجوب الأداء في الدين الذي وجب بدلاً عما هو مال التجارة، أن يكون المقبوض أربعين درهماً؛ لأن الدين إذا وجب بدلاً عما هو مال التجارة يفيد صاحب الدين قبل القبض البيع كانت ثابتة على النصاب، وبالبيع زالت من حيث الحقيقة، ولكن مع إمكان الإعادة بقبض البدل، واعتبار إمكان الإعادة بجعل اليد الزائلة حقيقةً قائمةً حكماً، واعتبار إمكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك.... بما زائدة على اليد الثابتة من حيث الاعتبار، وأنه شرط وجوب الأداء، فيصير تقدير المحل في هذه اليد الزائدة، لوجوب الأداء قدر الزيادة على النصاب في حق أصل الوجوب، وملك الزيادة ما لم يكن أربعين.
وعلى قول أبي حنيفة: لا تجب الزكاة، هكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد الزائدة على الأربعين لا يجب الأداء إلا إذا أوجب الدين بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة يفيد صاحب الدين قبل البيع لم يكن نائب على النصاب حقيقة، حتى تصير بائعه بعد البيع اعتباراً وحكماً باعتبار إمكان الإعادة، وكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك ابتداء يد يشترط لوجوب الأداء لا يداً زائدة، فيصير تقدير المحل في حق هذه اليد المبتدأة بتقدير أصل(2/304)
مال يشترط لوجوب أصل الزكاة، ذلك مقرر بالمائتين، فكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد ابتداءً على المائتين لا يجب الأداء، وروي عن الحسن عن أبي حنيفة: أنه ينوي حينما وجب بدلاً عما هو مال التجارة، وهنا وجب بدلاً عن مال ليس هو مال التجارة، وقال: إذا قبض منها أربعين درهماً يجب عليه الأداء بقدر ما قبض.
هذا كله قول أبي حنيفة.
فأما على قولهما: فالديون كلها سواء، وهي نصاب تجب فيها الزكاة قبل القبض، إذا حال عليها الحول، ولكن لا يجب الأداء قبل القبض، وإذا قبض شيئاً منه يجب الأداء بقدر ما قبض، قلنا: ما كان أو كثراً، إلا الدية وبدل الكتابة فإنهما ليسا بسبب حتى يقبض، ويحول الحول عليه.
ووجه ذلك: أن الديون كلها سواء في حكم المالية من حيث إن المطالبة بها متوجهة، وتعتبر حالاً حقيقة بالقبض، فكانت سواء في حق حكم الزكاة، وهذا لأن الغائب ليس إلا اليد، وتأثير انعدام اليد في امتناع أصل الوجوب، كما في ابن السبيل بخلاف، ومن الكفاية لأن ذلك ليس دين على الحقيقة؛ لأن المكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده ديناً، ولهذا لا تصح به الكفالة، أما ههنا بخلافه، وبخلاف الدية؛ لأنها صلة تجب لدفع الوحشة عن أولياء القتيل، وإطفاء ثائرة القتل، ولهذا وجب على غير القاتل، فكانت من باب الصلة، والصلات لا تتم قبل القبض.
وفي كتاب «الأجناس» : جعل مسألة المهر على وجهين، فقال: إن تزوجها على إبل تعتبر أعيانها، ثم قبض خمساً من الإبل بعد الحول، فلا زكاة عليها في قولهم ما لم يحل عليه الحول بعد القبض، وإن تزوجها على إبل بعينها، فكذلك عند أبي حنيفة للزكاة حتى يحول عليها الحول بعد القبض، قال: وكذلك إذا كان المهر مئتي درهم، فهو على هذا الخلاف، هذا كله لفظ كتاب «الأجناس» للناطفي رحمه الله، وستأتي مسألة المهر في آخر هذا الفصل أيضاً.
وأما الدين الموروث، فالجواب فيه في حق الوارث عندهما كالجواب في حق المورث على التفاصيل التي مرت؛ لأن الوارث خلفه الوارث قائم مقام المورث، فيكون حكمه حكم المورث.
وأما عند أبي حنيفة: إن وجب الدين في حق المورث بدلاً عما ليس بمال، فإنه لا يكون نصاباً في حق الوارث قبل القبض، وإن وجب الدين في حق المورث بدلاً عما هو مال. ذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» : أنه يعتبر حكم الوارث؛ لأن الوارث قائم مقام المورث، فتجب الزكاة فيه قبل القبض، ولا يخاطب بالأداء قبل القبض، وإذا قبض منه شيئاً إن وجب في حق (143أ1) المورث بدلاً عما هو مال التجارة، فإذا قبض أربعين درهماً يؤدي زكاته، وإن وجب في حق المورث بدلاً عن مال ليس هو للتجارة، فإذا قبض منه مائتي درهم تؤدى زكاته.
وذكر هشام في «نوادره» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن الوارث ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكت بعوض ليس هو مال لا تكون نصاباً قبل القبض عند أبي حنيفة كالمهر، فهذا أولى.(2/305)
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : عن الحسن بن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف في سنة تسع وستين ومائة يحكي عن أبي حنيفة أنه قال في الميراث: لا يزكى لما مضى، وهي التي رواها هشام عنه قال: وإنه كان إلى عامنا في سنة سبع وستين ومائة أن أبا حنيفة قال في الميراث: إذا أخذ مائتي درهم زكاه لما مضى، ولم ينتظر بها إلى أن يحول الحول بعد القبض، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً.
وفي ظاهر الرواية لأبي حنيفة رحمه الله: الموروث قبل القبض يكون نصاباً تجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم، هو أوجب هذا الدين في حق المورث بدلاً عما هو مال التجارة، أو بدلاً عن مال ليس هو للتجارة، أما إذا وجب عن مال ليس هو للتجارة فظاهر، وأما إذا وجب عن مال هو للتجارة؛ لأن الوارث إنما يقوم مقام المورث في أصل الملك لا في التجارة؛ لأنها عمل قد انقضى من المورث، فلا يتصور قيام الوارث مقامه في ذلك، إنما يقوم الوارث مقامه في الملك، فصار كثمن عبد الخدمة، وثياب المهنة، وأما الدين الموصى به، فلا ذكر له عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية.
وذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض، فيحتاج على روايته إلى الفرق بين الموصى له وبين المورث.
والفرق: أن الموصى له لا يقوم مقام الميت في الموصى به، كأنه هو، وإنما يملكه ابتداء بالوصية، كما يملكه بالهبة وغيرها من أسباب الملك، فيصير فيه مال الموصى له بنفسه لا مال المورث، والموصى له ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكه بعوض هو ليس بمال لا يكون له نصاباً قبل القبض، فههنا أولى، وأما الوارث يقوم مقام المورث في الموروث كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب، ويرد عليه بالعيب، فجاز أن يعتبر حاله كحال المورث، وأما الآخرة ففي ظاهر رواية أبي حنيفة هي نصاب قبل القبض، ولكن لا يلزمه الأداء ما لم يقبض منها مائتي درهم، وروى بشر الوليد عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض.
وروى عنه في «الأمالي» : أن العبد المستأجر إن كان للتجارة، فهو نصاب قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض أربعين درهماً، وإن كان للخدمة لا يكون نصاباً قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض مائتي درهم.
وجه رواية بشر: أن الآخرة تجب بدلاً عن المنافع، فأشبه المهر، ثم المهور لا تكون نصاباً قبل القبض، فهذا كذلك.
وجه رواية «الأمالي» : أن المنافع تبع للرقبة، فإذا كانت الرقبة للتجارة كانت المنافع للتجارة، فيكون بدلها بدل مال التجارة، وإذا لم تكن الرقبة للتجارة بل كانت للمهنة كانت المنافع للمهنة أيضاً، فيكون بدلها بدل مال المهنة، وجه ظاهر الرواية عنه: أن الآخرة ملكت عن مال لم يكن مال الزكاة تشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة.
بيانه: أن الآخرة بدل عن منافع البدن، ومنافع البدن مال حتى لا يجب الحيوان(2/306)
ديناً في الذمة بدلاً عنها، بخلاف منافع البضع لكن لا تصلح نصاباً في نفسها؛ لأنها لا تبقى بسبب يشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة، فأما المشترى قبل القبض، فقد قال مشايخ العراق: إنه لا يكون نصاباً قبل القبض عندهم جميعاً.
وفي «المنتقى» : أنه لا يكون نصاباً قبل القبض من غير ذكر خلاف على ما يأتي في آخر هذا الفصل.
وقال غيرهم من المشايخ: هو على الخلاف الذي ذكرنا في الثمن، وقال بعضهم: هو نصاب قبل القبض بلا خلاف، قالوا: وإليه أشار في «الجامع الكبير» قال مشايخنا: والاختلاف الذي ذكرنا في ثمن عبد الخدمة، وعروض التجارة، فهو كذلك في زمان استهلاك العبد للخدمة؛ لأن ضمان الاستهلاك في حكم ضمان البيع، ولهذا أخذ به المأذون.
وفي «نوادر المعلى» : أن ثمن عبد الخدمة نصاب قبل القبض، وقيمة عبد الخدمة المستهلك لا يكون نصاباً قبل القبض، هذا الذي ذكرنا، إذا كان من عليه الدين مليئاً مقراً بالدين، وإذا كان من عليه الدين مفلساً مقراً بالدين، فإن كان القاضي قد فلسه بما عليه من الدين لا يكون نصاباً قبل القبض عند أبي يوسف، ومحمد، وعند أبي حنيفة يكون نصاباً، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة أخرى، أن الحكم بالإفلاس عندهما صحيح؛ لأن الإفلاس عندهما يتحقق في حالة الحياة، فمتى فلسّه القاضي انسد طريق الوصول إليه على رب الدين، فصار في معنى الناوي، فلا ينعقد نصاباً.
وعند أبي حنيفة: الحكم بالإفلاس غير صحيح؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في حالة الحياة، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان القاضي لم يفلّسه، فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: ما يكون عليه من الدين يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن طريق الوصول إلى الدين، وهو الملازمة والمطالبة؛ لأن المال غادٍ ورائح، فإن هذا إذا كان من عليه الدين مقراً بالدين، فإن كان جاحداً، وليس لرب الدين عليه بينة، فهو في معنى الناوي، وسنبينه مع أجناسه في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: رجل له على معسر ألف درهم دين اشترى بالألف من المصر ديناراً، ثم وهب له الدينار وجب عليه زكاة الألف؛ لأن.... لها بالدنانير، ومعنى هذا الكلام: أن الدين يعتبر سبباً، وإن كان على المعسر، إلا أن وجوب الأداء يتوقف على القبض، والقبض مرة قبض لا صورة ومعنى، ومرة قبض بداء قبضاً اعتبارياً ما من حيث إنهما مشتركان في المالية مع التقوم، فلهذا قال: تجب زكاة الألف.
وفيه أيضاً: رجل له مائتا درهم، فتزوج امرأة على حجة، ثم حال عليه الحول لم تجب عليه زكاة مال؛ لأن الحجة عليه دين بحكم السبب، وأراد به الإحجاج، وذلك بصرف مال يمكنها من أفعال هي حجة هذا بعضه معاوضة، فيكون لازماً، فيكون ديناً(2/307)
مطالباً من جهة العباد، فيمنع السببية، فيمنع في المائتين.
هشام قال: قلت لمحمد رحمه الله: رجل له مال على وال من الولاة وهو يقر به، إلا أنه لا يعطيه، ولا يورى عليه مال يطلبه بباب الخليفة، فإذا طلب لم يصل إليه في سنة، فلا زكاة عليه فيه، وإذا هرب المديون ومن المدين إلى مصر من الأمصار، فعليه الزكاة فيما يقبض منه؛ لأن عليه أن يطالبه، أو يوكل بذلك، وهو قادر على ذلك حتى لو لم يقدر على طلبه، أو على التوكيل، فلا زكاة.
بشر عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم دين حال عليه الحول، ثم إن رب الدين وهب ذلك الدين من الذي عليه الدين ينوي زكاة الدين، أو زكاة مال عنده هو، والذي عليه محتاج، فإن أبا حنيفة قال: لا يجزئه ذلك من زكاة الدين، ولا من زكاة العين وعند أبي يوسف، وهذا الجواب خلاف ما ذكرنا في مسائل «الجامع» ، (143ب1) إلا أن يكون مراده أن ينوي به زكاة دين آخر.
هشام عن محمد: رجل له ألف درهم التقط لقطة ألف درهم، وعرفها سنة، ثم تصدق بها، ففي القياس لا زكاة عليه في ألف؛ لأن صاحب اللقطة إن شاء ضمنها إياه، ولكن يستحسن بأن يزكها قال: وبه نأخذ.
قال في «المنتقى» : وإذا اشترى الرجل غنماً سائمة، وهو يريد أن تكون سائمة أيضاً، فحال عليه الحول، ثم قبضها، فلا زكاة على المشتري لما مضى، ويستقبل لها حولاً؛ لأنها كانت مضمونة في يد البائع، ذكر المسألة من غير خلاف، وهي مسألة المشتري قبل القبض، قال: وكذلك الغصب، وإن كان الغاصب مقراً، إذا كان مانعاً بها، ثم رد ما بعد الحول، فلا زكاة على رب الغنم فيها لما مضى.
قال: وكذلك لو تزوج امرأة على مائة شاة، والمرأة تريد بها السائمة، فلم تقبضها حتى حال الحول، فلا زكاة على المرأة فيها لما مضى؛ لأنها مضمونة في يد الزوج ذكر المسألة من غير ذكر خلافه، ومن غير فصل بينما إذا كان الغنم بعينها، أو بغير عينها، وقد ذكرنا المسألة قبل هذا مع التفصيل، والخلاف، والدراهم إذا كانت في يدي رجل، وهو مقر بها، وفوضها من لها، فعلى صاحبها إذا قبضها الزكاة لما مضى. قال: وليست الدراهم مثل الغنم.
وفي كتاب «الاختلاف» : رجل له ألف درهم، ثم مكث عنده شهراً، ثم أتلف لرجل متاعاً قيمته ألف درهم، ثم أبرأه صاحب المتاع عن ضمانة، قال أبو يوسف: إذا تم الحول على الألف منذ ملكها زكاها...... إلا أنه لا يشترط الحول من وقت سقوط الدين، والله أعلم.(2/308)
الفصل الرابع عشر في المال الذي يتوى، ثم يقدر عليه
إذا كان لرجل على غيره دين، وهو جاحد، فإن لم يكن لرب الدين بينة عادلة على الدين، فإنه لا يكون نصاباً عند علمائنا الثلاثة، وهذه المسألة في الفقه تسمى مال الضمار، ومال الضمار كل مال بقي أصله في ملكه، ولكن زال عن يده زوالاً يرجى عوده في الغالب، والأصل فيه أثر علي رضي الله عنه: لا زكاة في مال الضمار، وفسر الضمار بما ذكرنا.
والمعنى في ذلك أن المال إنما ينعقد نصاباً باعتبار معنى التجارة، ومنفعة التجارة تزول إذا صار المال ضماراً بخلاف ابن السبيل؛ لأن منفعة التجارة لا تزول في حقه، وأما إذا كانت له بينة عادلة، ذكر في «الأصل» أنه ينعقد نصاباً، وسوّى بين الإقرار والبينة، وذكر في «الجامع الصغير» أنه لا ينعقد نصاباً.
والمذكور في «الجامع الصغير» : رجل له على آخر دين جحدها سنين، ثم أقام البينة عليه لا يزكها لما مضى.
من مشايخنا من قال: ما ذكر في «الجامع الصغير» ، تأويله: إذا لم يكن صاحب المال عالماً بأن كان له بينة عادلة، لأنه نسيها، ثم ينكر، أو يكون تأويله: أنه لم يكن له بينة من الابتداء، ثم صار له بينة بأن أقر المديون بين يدي الشهود بعدما جحدها، فأما إذا كان له بينة عادلة من الابتداء، وهو عالم بها، فإنه ينعقد نصاباً، ولزمه زكاة ما مضى، كما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه تمكن من أخذه بواسطة إقامة البينة، فإذا لم يقمها، فهو الذي قصر في حق نفسه، فلا يعذر فيه، ومن مشايخنا من قال: لا ينعقد نصاباً على كل حال كما ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله ما يؤيد قول هؤلاء، فقال: لا زكاة عليه فيما مضى، وإن كانت له بينة عادلة، وهو يقدر على أن يقضيها؛ لأنه لا يتمكن من أخذها إلا بعد القضاء بالبينة، ولا قضاء بالبينة إلا بعد العدالة، ولا كل شاهد يعدل، ولا كل قاضي يعدل.
قال الكرخي في «كتابه» : وإن كان القاضي يعلم بالدين، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن القاضي يقضي بعلمه لا محالة كان التمكين من الأخذ ثابتاً، ولا كذلك البينة، والعبد الآبق الذي لا يعلم مكانه، والمغصوب، والغال، والمفقود، والذي غلب العدو عليه، ثم أصابه المسلمون، والمال المدفون في الصحراء إذا نسي المالك مكانه، فهذه الأموال لا تنعقد نصاباً عند علمائنا الثلاث لفوات معنى التجارة فيها، لتعذر الوصول إلى جميع ذلك فيما مضى لا يصنع من جهته، وإن كان المال مدفوناً في بيته وداره، ونسيه، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن الوصول إليه غير متعذر؛ لأنه يمكن حفر جميع البيت والدار بخلاف ما إذا(2/309)
دفنه في الصحراء؛ لأن حفر جميع الصحراء غير ممكن.
وإن كان المال مدفوناً في أرضه لوكلائه، ففيه اختلاف المشايخ، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» .
وذكر في «الأصل» : إذا دفن ماله في أرضه ونسيه، فلا زكاة قال القاضي الإمام علاء الدين محمود: من مشايخنا من قال: أراد محمد بالأرض المذكورة في «الأصل» المغارة لا الأرض المملوكة له؛ لأنه لا يمكنه حفر جميع المغارة، فيتعذر الوصول، أما حفر جميع الأرض المملوكة، فلا يتعذر الوصول إليه، فيصير بمنزلة الدار، ومن المشايخ من قال: لا زكاة في المدفون في الأرض، وإن كانت الأرض مملوكة؛ لأن حفر جميعه إن كان لا يتعذر لا شك بأنه يتعسر، ويحرج الإنسان فيه، والحرج مدفوع شرعاً بخلاف البيت والدار حتى لو كانت الدار عظيمة، فالمدفون فيها يصير ضماراً، ولا ينعقد نصاباً.
وفي «القدوري» : إذا كان الغريم يقر في السر، ويحجد في العلانية، فلا زكاة فيه؛ لأنه لا يقتنع بهذا الإقرار أصلاً، فصار وجوده وعدمه بمنزلة.g
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: رجل أودع رجلاً لا يعرفه مالاً، ثم أصابه به بعد سنين، فلا زكاة عليه لما مضى، وهو والمدفون في المغارة لا يعرف موضعه سواء، وإن كان يعرفه، فنسيه، ثم ذكر زكى لما مضى، وهو والمدفون في بيته إذا نسيه سواء.
الفصل الخامس عشر في المسائل التي تتعلق بالعاشر
يجب أن يعلم بأن العاشر من نصبه الإمام على الطريق؛ لأخذ الصدقات من التجار والنائبين التجار بمتاعه في الطريق من شر اللصوص، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «نصب عشاراً» ، وكذلك الخلفاء بعده، وكما يأخذ العاشر صدقات الأموال الظاهرة يأخذ صدقات الأموال الباطنة التي تكون مع التاجر؛ لأن حق الأخذ له في الأموال الظاهرة إنما ثبت؛ لأنها في حمايته؛ لأن المال في الفيافي محفوظ بحماية الإمام، فأثبت الشرع له حق الأخذ بسبب الحماية ليستوجبها كفاية، فيصير حاملاً له على الحماية، وهذا المعنى موجودة في الأموال الباطنة التي أخرجها التاجر مع نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأخذ الصدقات من الأموال الظاهرة والباطنة، وكذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وعثمان رضي الله عنه فوض صدقات الأموال الباطنة إلى أربابها في الأمصار لا يمكن وارداً الظاهرة في الفيافي على ما لا يعمل، والنص الوارد من عثمان في الأمصار(2/310)
لا يكون وارداً في الفيافي؛ لأن في الأمصار الأموال محمية بحماية السلطان من وجه، وبحماية المسلمين من وجه، وفي المغاور الأموال تكون محمية بحماية الإمام من كل وجه، فإسقاط حق الأخذ للساعي في الأمصار، وحماية الإمام فيها أقل لا يدل على إسقاط حق الأخذ له في المغارة، وحماية الإمام فيه أكثر.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا مر على العاشر بعض ماله، وقال: ليس لي مال غير هذا، أو قال: لي مال آخر في بلدي إلى تمام النصاب، فالعاشر (لا يأخذ) منه شيئاً (144أ1) ؛ لأن حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وجميع النصاب ليس في حمايته، وما دونه الذي في حمايته ليس بسبب لوجوب الزكاة، وبدون الحول لا تجب الزكاة، وكذلك مع قيام الدين، والقول قول المنكر، وقوله أصبته منذ شهر محمول على ما إذا لم يكن في يده مال آخر من جنس هذا المال قد حال عليه الحول؛ لأن حَوَلان الحول على المستفاد ليس بشرط لوجوب الزكاة في المستفاد إذا كان المستفاد من جنس النصاب، إلا إذا كان المستفاد من ثمن الإبل الزكاة عند أبي حنيفة.
وقوله في «الكتاب» : على دين أراد به ديناً له مطالب من جهة العباد، فهو المانع من وجوب الزكاة عندنا، قال: وكذلك إذا قال: أنا أديت زكاته إلى الفقراء، وحلف على ذلك صدق، والمراد من المسألة: أن يدعي الأداء بنفسه من الأموال الباطنة قبل أن يخرجها إلى السفر؛ لأن أداء الزكاة من الأموال الباطنة ما دام صاحبها في المصر، مفوض إلى صاحبها، فإذا ادعى الأداء بنفسه قبل الإخراج، فقد ادعى ماله ذلك، فكان منكراً ثبوت حق الأخذ للساعي من هذا الوجه، فأما إذا ادعى الأداء من الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر، فإنه لا يصدق ويكون ضامناً عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن صدقات الأموال الظاهرة وصدقات الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر يأخذها العاشر، فلو قبلنا قول الناس.... بصنعاء، وكل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة أي إلى أن لا يوجد صدقة أبداً، إلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الأصل» : ولأنه بالأداء بنفسه أبطل حق الأخذ على الساعي، فيصير ضامناً، وإن قال: دفعتها إلى مصدق آخر، فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر، وحلف على ذلك قبل قوله.
وفي «الأصل» يقول: إذا جاء بخط الساعي قبل قوله، وكف عنه، شرط في «الأصل» بمجيء الخط للتصديق، وفي «الجامع الصغير» لم يشترط المجيء بالخط، وفرق على رواته «الجامع الصغير» بين الزكاة، وبين الخراج، فإن من عليه الخراج إذا ادعى الأداء إلى عامل آخر في تلك السنة لا يقبل قوله؛ ما لم يأت بخط العامل؛ لأن بدل الخط في الخراج علامة لا ينفك عنها أداء الخراج، وبكذلك يدل الخط في الزكاة، ولو جاء بالخط، ولم يحلف لم يصدق في قياس قول أبي حنيفة، وفي قياس قولهما يصدق بناءً على جواز الشهادة بالخط إذا لم يذكر الحادثة.(2/311)
وكل جواب عرفته في حق المسلم، فهو الجواب في حق الذمي في هذه الفصول، إذا مر على العاشر ببعض النصاب إذا ادعى أن عليه ديناً، أو لم يحل الحول على ماله، أو ادعى الدفع إلى عاشر آخر، وإنما يفارق الذمي المسلم في مقدار المأخوذ، فإن المأخوذ من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر عرف ذلك بأثر عمر رضي الله عنه، فإنه كتب إلى عشاره أن خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، وأما الحربي إذا مر على العاشر ببعض النصاب، وقال: لي مال في بلدي إلى تمام النصاب، أو قال: ليس لي مال آخر، فذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يأخذ منه شيئاً، وذكر في «الأصل» أنه يأخذ منه العشر، قال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل.
إن كانوا يأخذون منا من قليل، فنحن نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في «الأصل» ، وإن كانوا لا يأخذون منا من قليل المال، فنحن لا نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» .
وهذا لأن الأخذ منهم على طريق المجازاة، ألا ترى إلى ما روي أن عشار عمر رضي الله عنه «قالوا: لعمر كم نأخذ مما يمر بنا الحربي؟ فقال عمر: كم يأخذون منا؟ قالوا: العشر، فقال عمر فخذوا: منهم العشر، وفي رواية قال: خذوا منهم مثل ما يأخذون منا، قالوا: فإن لم يعلم كم يأخذون منا؟ قال: خذوا منهم العشر» .
ثم ليس معنى قولنا: إن الأخذ منهم على طريق المجازاة، إن أخذنا بمقابلة أخذتم، وكي يكون ذلك، وإن أخذتم أموالنا ظلم وأخذنا أموالهم حق، وإنما معناه، إذا عاملناهم بمثل ما يعاملوننا به كان ذلك أقرب إلى مقصود الأمان، واتصال التجارات، وإن كان لا يعلم أنهم هل يأخذون منا من قليل المال أو لا يأخذون؟ فنحن لا نأخذ منهم من قليل المال، إما لأن الظاهر أنهم لا يأخذون من قليل المال؛ لأنه يؤدي إلى إخراج المالك، وإنه جور، والظاهر من ملوكهم العدل، أو لأن حق الأخذ للعاشر بطريق الحماية، والمال القليل غير محتاج إلى الحماية؛ لأن السراق لا يقصدون أخذه، وإن قال الحربي: أصبته منذ شهر، أو قال: عليّ دين، فإن كان يعلم أنهم يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن نصدقهم أيضاً، وإن كان يعلم أنهم لا يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن لا نصدقهم أيضاً، وإن كان لا يعلم حقيقة الحال لا يصدقهم، ويأخذ منهم العشر بخلاف الذمي، فإن الذمي يصدق في دعوى هذه العوارض، واختلفت عبارة المشايخ في الفرق.
فعبارة بعضهم أن المأخوذ من الذمي له حكم الزكاة في حق المأخوذ منه؛ لأن تضعيف الزكاة في حق أصل الذمة مشروع كما في صدقة بني تغلب، فلا يتعداه حكم الزكاة فيما وراء التضعيف، وإذا كان للمأخوذ حكم الزكاة في حق الذمي راعى فيه أحكام الزكاة، بل له حكم أصلاً؛ لأن الزكاة في حق أهل الحرب غير متصور، فلا يتعلق بالمأخوذ حكم الزكاة عوض الحماية، وكل ما في يده محتاج إلى الحماية سواء كان عليه(2/312)
دين، أو لم يكن، وسواء حال عليه الحول، أو لم يحل، فيأخذ منهم العشر، ولا يصدقون في ذلك، إذ لا فائدة في التصديق، وعبارة بعضهم: أن ما يأخذ أهل الحرب يأخذ بطريق المجازاة، أو فيما كان طريقه طريق الخبر، فالظاهر أنهم لا يصدقوننا؛ لأنه ظهر فيهم تكذيبنا في الخبر عن أصل الدين، فالظاهر تكذيبهم إيانا في الخبر عن الفروع، فلا نصدقهم.
فيه أيضاً: قال: ولو مر الحربي على العاشر بنصاب كامل أخذ منه العشر، لما روينا من حديث عمر رضي الله، عنه إلا إذا علم أنهم يأخذون منا أقل من ذلك أو أكثر، فيأخذ منهم مثل ذلك، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وهو إشارة إلى طريق المجازاة، وإن علم أنهم لا يأخذون من تجارنا شيئاً، فنحن لا نأخذ منهم شيئاً أيضاً.
واختلف المشايخ فيما إذا علم أنهم يأخذون منا جميع المال قال بعضهم: نأخذ منهم جميع المال بطريق المجازاة زجراً لهم عن صنيعهم، وقال بعضهم: لا نأخذ منهم جميع المال، بل نترك في أيديهم قدر ما يبلغهم مأمنهم؛ لأنا لو أخذنا الكل نحتاج إلى من يعطيهم هذا القدر؛ لأن تبليغهم مأمنهم علينا قال الله تعالى: {ثم أبلغه مأمنه} (التوبة: 6) ، فلا نأخذ ذلك من الابتداء لعدم الفائدة، وإذا مر الحربي على العاشر وعشره، ثم مر عليه في تلك السنة ثانياً، فإن كان لم يعد إلى دار الحرب، وإنما هو يتردد في دار الإسلام لا نأخذ منه في هذه السنة ثانياً؛ لأن أخذ العاشر عوض الحماية، والحماية لم تتجدد في هذا المال.
قال شيخ الإسلام في «شرحه» : هنا إذا علم أنهم لا يأخذون من تجارنا في السنة إلا مرة واحدة ما داموا يترددون في دارهم، أو لم يعلم، أما إذا علم أنهم يأخذون ذلك مراراً، فنحن نأخذ كذلك أيضاً، وإن كان الحربي قد عاد إلى دار الحرب ثم خرج ثانياً في تلك السنة (144ب1) ومر على العاشر أخذ منه العشر ثانياً؛ لأن بدخوله دار الحرب التحق بحربي لم يدخل دارنا قط الأحرى إنه يحتاج إلى استئمان جديد، وإذا كان هكذا يحتاج إلى حماية مبتدأة في هذا المال، ونزل هذا المال باعتبار تجدد وصف الحماية منزلة مال آخر، في عشره ثانياً.
قال شيخ الإسلام: وهذا إذا علم أنهم يأخذون من تجارنا كلما دخلوا عليهم مرة بعد أخرى في سنة واحدة، أما إذا علم أنهم لا يأخذون، كذلك فنحن لا نأخذ منهم أيضاً.
وإذا عاد الحربي إلى دار الحرب، ولم يعلم به العاشر، ثم علم في الحول الثاني لم يأخذه لما مضى؛ لأن ما مضى قد سقط لانقطاع الولاية، فأما المسلم والذمي، إذا مر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد.
وإذ مر التاجر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد إلى متاع وأمراء قومي(2/313)
أو.......، والعاشر يظن غير ذلك، ويريد فتحه؛ فإن كان في فتحه ضرر على المالك يفتحه، وينظر فيه، ولا يلتفت إلى قول المالك؛ لأن في الوجه لا يمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى من حيث المعاينة بالفتح لمكان ضرر المالك، فتصير فيه الدعوى والإنكار، فالعاشر يدعي لنفسه زيادة حق، والمالك ينكر، وفي الوجه الثاني؛ أمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى بالمعاينة بواسطة الفتح، فلا ضرورة إلى اعتبار قوله.
وإذا مر على العاشر بمائتي درهم بضاعة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً؛ لأن العشر إنما يؤخذ من المالك، أو ممن هو نائب عنه في أدائه، والمستصنع ليس بمالك، وليس بنائب عن المالك في أداء العشر، فلا يأخذ من المالك منه، وإن سِيْرَ عليه بمائتي درهم مضاربة، فلأبي حنيفة رحمه الله فيه قول أول وآخر، في قوله الأول يأخذ منه، وفي قوله الآخر؛ لا يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد؛ لأنه ليس بمالك، ولا بنائب عن المالك في حق أداء الزكاة؛ لأن المالك أمره بالتجارة، أما ما أمره بأداء الزكاة.
وإذا مر العبد على العاشر بمال فهو على وجهين: إن كان في يده مال المولى، فإن العاشر لا يأخذ منه شيئاً مأذوناً كان العبد أو محجوراً، وإن كان في يده كسبه، فإن كان محجوراً، فكذلك الجواب، وإن كان مأذوناً فلأبي حنيفة فيه قول أول، وقول آخر، في قوله الأول: لا يأخذ منه شيئاً، وهو المذكور في «الجامع الصغير» ، وفي قوله الآخر يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وجهه ما ذكرنا في المضارب.
إذا مر التاجر على عاشر أهل الخوارج، وأخذ منه العشر، ثم مر على عاشر أهل العدل أخذ منه العشر ثانياً، فرق بين هذا وبين ما إذا غلب الخوارج على بلدة من بلاد أهل العدل وأخذوا زكاة سوائمه، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فإنه لا يأخذ منهم الزكاة ثانياً.
والفرق: إن قدر الزكاة حق الفقراء أمانة في يد صاحب المال، فإذا مر على الخوارج بذلك، فقد عرض الأمانة على التلف، والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، بخلاف ما إذا غلب الخوارج على أهل العدل؛ لأن هناك لم يوجد في أرباب المواشي تعريض للأمانة على التلف والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، إنما أخذ الأمانة منهم كرهاً، والأمين لا يضمن بمثل ذلك كالمودع إذا أخذ منه الوديعة على كره منه.
إذا مر على العاشر بما لا يبقى نحو البطيخ والقثاء والرمان، وقد اشتراه للتجارة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لها، فهما يقولان: حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وهذا المال كان في حماية هذا العاشر، ولأبي حنيفة: أن حق الأخذ للعاشر، وإن كان بسبب الحماية، ولكن أنظر الفقراء، ولا ينظر للفقراء في الأخذ ههنا.
بيانه: أن الغالب فيه يكون العاشر نائباً عن البلدة، فلا يجد ثمنه فقيراً يؤدي المأخوذ إليه، فيحتاج إلى النقل إلى البلد ليصرفه إلى الفقراء، فيتنازع إليه الفساد.(2/314)
فإن قيل: ينبغي أن يأخذ القيمة إذا أخذ الغير كما في الذي إذا مر على العاشر بخمر، أو يأخذ عينه بحساب عمالته.
قلنا: الكلام فيما إذا قال المالك فهنا: لا أؤدي القيمة، وبدون اختيار المالك لا يكون للساعي ولاية أخذ القيمة إذا كان الغير محلاً للأخذ، فلو قال المالك: أنا أؤدي القيمة كان للساعي أن يأخذ عند أبي حنيفة.
وأما الأخذ بحساب العملة، قلنا: الكلام فيما إذا لم يرد الساعي أخذه بعمالة لنفسه، ولو أراد ذلك كان له حق الأخذ عند أبي حنيفة، وإذا مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير للتجارة عشر الخمر دون الخنزير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ومعنى قولهم: عشر الخمر أنه ينظر إلى قيمة الخمر، ويأخذ نصف عشر قيمتها، وطريق معرفة قيمة الخمر الرجوع إلى أهل الذمة، هكذا روي عن محمد رحمه الله.
والوجه فيه: أن العشر عوض الحماية، وحماية خمورهم دخلت تحت ولاية الإمام أما حماية خنازيرهم لم تدخل تحت حماية الإمام، وهذا لأن أصل ولاية الإنسان على نفسه، ثم تتعدى إلى غيره عند وجود سبب التعدي، والمسألة ولاية حماية خمور نفسه حتى إذا أسلم ذمي، وله خمور كان له أن يحفظها لتخليلها، أو يتخلل بنفسه، فتكون ولاية خمور غيره عند وجود سبب التعدي بالسلطنة، وليس للمسلم ولاية حماية خنازير نفسه، حتى إن الذمي إذا أسلم، وله خنازير، يجب عليه أن يسيبها، ولا يحل له أن يحفظها، فلا تكون له ولاية حفظ خنازير غيره عند وجود سبب التعدي، وإنما افترق الخمر والخنزير في حق ولاية الحماية في حق المسلم؛ لأن الخمر مال في الحال عندنا إن لم يكن متقوماً، ويصير متقوماً في الثاني.
والخنزير ليس بمال، ولا يصير متقوماً في الثاني، ولم يذكر محمد رحمه الله حكم جلود الميتة إذا مر بها الذمي على العاشر قالوا: وينبغي أن يكون للعاشر أن يعشرها؛ لأن جلد الميتة نظير الخمر، فإن للمسلم ولاية حفظ جلد الميتة على نفسه بالدباغة، فيدخل جلد غيره تحت حمايته عند وجود التعدي كما في الخمر، والله أعلم.
الفصل السادس عشر في إيجاب الصدقة، وما يتصل به من الهدي وأشباهه
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا نذر أن يتصدق بشاتين وسطين، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين تجزئه عن الشاتين.
ولو قال: لله عليّ أن أهدي شاتين وسطين، فأهدى بشاة سمينة تساوي شاتين وسطين لم تجزه إلا عن شاة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع» قالوا: هذا إذا أراد به الذبح أو لم يكن له نية؛ لأنه إذا أراد الذبح، أو لم يكن له نية كان النذر بالإراقة، والجواب في النذر بالإراقة ما ذكر، فأما إذا أراد الصدقة، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين، ينبغي أن تجزئه عن الشاتين بدليل المسألة الأولى.(2/315)
والجواب في النذر بالإعتاق نظير الجواب في النذر بالإراقة، حتى لو نذر أن يعتق عبدين وسطين، فأعتق عبداً مرتفعاً يساوي عبدين وسطين لا يجزئه إلا عن عبد واحد، والفرق أنا لو جوزنا الواحد عن الاثنين، إنما يجوز باعتبار القيمة، غير أن الواجب في معنى الهدي إراقة الدم، وتمليك اللحم، والتمليك إن كان متقوماً، فإراقة الدم ليست بمتقومة، فباعتبار التمليك قد أمكن التجويز (145أ1) من حيث القيمة، وباعتبار الإراقة لا يمكن، فلا يثبت الإمكان بالشك حتى لو ذبح شاتين، وجاء بلحم شاة، فظنه يبلغ شاتين، وتصدق به يجوز؛ لأن الواجب بعد الإراقة تمليك اللحم، والتمليك متقوم، فيمكن تجويزه من حيث القيمة.
وكذلك الواجب في باب الإعتاق ليس بمتقوم؛ لأن الواجب في باب الإعتاق إزالة الملك، وإزالة الملك ليست بمتقوم، فلا يمكن تجويزه من حيث القيمة، أما الواجب في باب الصدقة متقوم؛ لأن الواجب في باب الصدقة التمليك، والتمليك متقوم فيمكن تجويزه بالقيمة، فعلى هذا إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بعبدين وسطين، فتصدق بعبد مرتفع تبلغ قيمته قيمة وسطين يجوز.
في «المنتقى» : عيسى بن أبان عن محمد إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم، فضاع الدرهم، فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدينار مكان الدرهم الذي ضاع وجب عليه أن يتصدق بالدينار، فإن وجد الدرهم، وتصدق به يبطل عنه الدينار، إذا وجب الدينار مكان الدرهم الذي ضاع.
علل في «الكتاب» : فقال: لأن الدرهم حيث ضاع، فقد بطل عنه ما أوجب على نفسه فيه، وإن وجده تصدق به، ولو لم يكن عليه أن يتصدق بفضل الدينار عليه قال: ولا يشبه هذا الأضحية، فإن الأضحية، إذا ضاعت كان عليه مكانها، إذا كان موسراً.
وفيه: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال: إن أصبت مائة درهم فعهد عليّ أن أؤدي زكاتها خمسة دراهم فأصاب مائة فلا شيء عليه؛ لأنه التزام غير المشروع.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال: إن رزقني الله تعالى مائة درهم فللَّه عليّ زكاتها عشرة، وملك مائتين لا تلزمه إلا الخمسة زكاة؛ لأنه التزام غير المشروع.
وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله إذا قال: لله عليّ أن أتصدق على فقراء مكة بكذا، أو قال: مالي صدقة على فقراء مكة، فتصدق على فقراء بلخ جاز؛ لأن المطلوب من الصدقة ابتغاء مرضات الله تعالى، والفقير جهة يتوسل به إلى ابتغاء مرضات الله تعالى، وجميع الفقراء في حق هذا المعنى جنس واحد، وهو نظير من جعل على نفسه الصوم، أو الصلاة بمكة، فصلى وصام ههنا يجوز، وطريقه ما قلنا.
وفي «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم على هذا المسكين، لا يلزمه شيء رواه الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف، إذ ليس لله تعالى من جنسه في العين إيجاب، وإن كان المسكين يعتبر عينه يلزمه ذلك، وهذا الجواب بخلاف جواب الروايات المشهورة.(2/316)
وفيه أيضاً: برواية المعلى عن أبي يوسف: إذ قال: لله عليّ أن أتصدق من هذه العشرين بعشرة دراهم، فتصدق بعشرة منها، ولا نية له لم يجزه فيما حصل على نفسه، ولو تصدق بالعشرين كلها، ولا نية له أجزأه.
وفي «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان، ثم قال: إن كلمت فلاناً، فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلاناً، وقدم فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدارهم، ولا يلزمه غير ذلك؛ لأن الواجب تعلق بمحل بعينه، وذلك مما لا يزداد، وهذا كالعين إذا جعل شرطاً في يمينين ووجد الشرطان لم يجب شيء آخر كذا ههنا.
وفيه أيضاً: إذا قال: إن كلمت فلاناً، فعليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلاناً حتى وجب التصدق بها، فأعطاها من زكاة ماله، أو كفارة يمينه، فعليه أخرى مكانها؛ لأنه بالصرف إلى جهة أخرى صار كالمستهلك لها، فيضمن كما لو أنفقها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النذر أن يعلقها بمحل واحد، فوقع عنهما أما ههنا بخلافه.
قال في «الجامع» : إذا قال الرجل: إن كان ما في يدي دراهم إلا ثلاثة دراهم، فجميع ما في يدي صدقة، فإذا هي خمسة دراهم، أو أربعة دراهم لا يلزمه التصدق بشيء. وفي «الجامع» أيضاً: إذا قالت: لله عليّ إطعام المساكين، أو إطعام مساكين، فإن أبا حنيفة قال: هذا على غيره في الوجهين جميعاً، وهذا استحسان.
ووجهه: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ولعل الطعام المقدر بالمساكين في إيجاب الله تعالى طعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، فإن أبهم عدد المساكين أخذ المقدار منه.
فإن قيل: كيف لم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله المقدار عند الإبهام من كفارة الحلف في الأذى وإنه أقل؛ لأنه مقدر بثلاثة أصوع على ستة مساكين؟.
قلنا: لأن الواجب في كفارة الحلف واجب باسم الصدقة لا باسم الإطعام؛ لأن الله تعالى قال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة: 196) وهذا الشخص إنما أوجب على نفسه باسم الإطعام لا باسم الصدقة حتى لو قال: لله عليّ صدقة المساكين يؤخذ قدره من كفارة الحلف.
وفي «نية النوازل» : رجل في يده دراهم فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، فلم يتصدق حتى هلكت، فلا شيء عليه؛ لأن الدراهم تتعين في باب النذور، ولو لم تهلك وتصدق بدراهم سواها، فهو جائز، وهي مسألة دفع القيم.
وفي «وقف النوازل» : رجل له شيء فقال: إن وجدته فللَّه على أن أقف أرضي هذه على ابن السبيل، فوجده يجب عليه الإيقاف، فإن وقف على الأجانب، أو على الأقارب الذين يجوز له إعطاء الزكاة إياهم جاز، وخرج عن عهدة النذر، وإن وقف على الأقارب الذين لا يجوز له إعطاء الزكاة جاز الوقف، ولكن لا يخرج عن عهدة النذر، أما جواز(2/317)
الوقف، فظاهر، وأما بقاء النذر؛ فلأن صرف الصدقة الواجبة إلى هذه القرابة لما لم يجز لم يصر مؤدياً المنذور، فيبقى عليه كما كان.
وفي «الجامع» : إذا قال: أول كُرَ حنطة أملكه صدقة في المساكين، فملك كر ونصف كر لا يلزمه التصدق بشيء، وإن قال: أول عبد أملكه فهو حر، فاشترى عبداً ونصف عبد عتق العبد الكامل.
والفرق: أن الكُرَّ اسم لأربعين قفيزاً، فصار تقدير يمينه أول أربعين قفيز حنطة أملكها، فهو صدقة، ولو صح بذلك، وملك ستين قفيزاً لا يلزمه التصدق؛ لأن الكر اسم لأربعين قفيزاً، ووفيناه ثلاث عشرينات أي العشرين ضمناه إلى عشرين آخر، فنطلق عليه اسم الكر، وبسبب اسم الكر عن الآخر فاق المزاحمة، ومن شرط إطلاق اسم إلا وليست بينهما المزاحمة، فإذا لم تنتف المزاحمة لم يتحقق الشرط، فلا يلزمه التصدق بخلاف مسألة العبد، فأما إذا ضممنا النصف من العبد الكامل إلى نصف العبد لا يسمى عبداً، بل يسمى نصف العبدين ولا ينتفي اسم العبد عن الكامل، فلم يكن نصف العبد من أيهما للعبد، فيتحقق شرط وجوب التصدق.
وزان مسألة الكر عن مسألة العبد ما إذا قال: أول أربعين عبداً أملكهم، فاشترى ستين، والحكم في سائر ما يكال ويوزن كالحكم في الكر، والحكم في الثياب والعروض كالحكم في العبد إذا قال: إن فعلت كذا مالي صدقة في المساكين، أو قال: وكل مالي، ففعل ذلك الفعل، فالقياس أن يلزمه التصدق بجميع ماله مال الزكاة وغيره (145ب1) في ذلك على السواء؛ لأنه أضاف الصدقة إلى ماله مطلقاً في الصورة الأولى، وإلى جميع ماله في الصورة الثانية، فيدخل تحته جميع أمواله كما في الوصية يدل عليه أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (النساء: 29) تناول جميع الأموال، وقوله عليه السلام: «من ترك مالاً» تناول جميع الأموال.
ووجه الاستحسان: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ثم ما أوجب الله تعالى من الصدقة مضافاً إلى مال مطلق بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 103) تناول مال الزكاة خاصة، فكذا ما وجب بإيجاب العبد بخلاف الوصية؛ لأنا لم نجد في الوصية إيجابات الشرع تفيد مال الزكاة حتى يصرف إيجابه إليه، فانصرف إيجابه إلى الأموال كلها.
قال القدوري في «كتابه» : ولا فرق بين مقدار النصاب وما دونه؛ لأنه وإن قل، فهو مال الزكاة، فإن السبب ما يقل المال لا قدر منه، ولو كان عليه دين محيط بماله يلزمه التصدق بما في يديه، فإذا قضى الدين به يلزمه التصدق بمثله، وهذا لأن ما في يده مال الزكاة إلا أنه امتنع الوجوب فيه لمانع، وهو الدين، فيدخل تحت النذر، ولزمه التصدق به، فإذا قضى دينه به، فقد استهلك مالاً وجب التصدق به، فيكون مضموناً بمثله.(2/318)
ولو نوى بهذا النذر جميع ما يملك حتى بيته؛ لأنه شدد على نفسه بنيته، والاسم صالح لتناول الكل، فيلزمه التصدق بالكل، ولو كان له ثمرة عشرية تصدق بها؛ لأنه مال تعلق به العشر، والعشر في معنى الصدقة وكان مال الصدقة.
وقال أبو حنيفة: الأرض العشرية لا تدخل تحت هذا النذر، خلافاً لأبي يوسف؛ لأن الأرض العشرية ليست مال الصدقة دون العشر، إنما يجب في الخارج لا في الأرض؛ فكانت الأرض خالية عن الصدقة، فلم تكن مال الصدقة، ولا خلاف أن أرض الخراج لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة ذكره في «المنتقى» .
وفي «المنتقى» محمد: أن أرض التجارة لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة هذا الذي ذكرنا ما إذا حصل النذر باسم المال، فأما إذا حصل النذر باسم المال بأن قال: إن فعلت كذا، فجميع ما أملكه صدقة في المساكين ذكر في كتاب الهبة أنه يتصدق بجميع ما يملكه ويمسك قوته، فمن المشايخ من قال: هذا جواب القياس.
وفي الاستحسان: ينصرف إلى مال الزكاة، وإليه ذهب الفقيه أبو بكر البلخي، والشيخ الإمام الأجل شمس الدين السرخسي، ومنهم من قال: لا هذا جواب القياس والاستحسان، وإليه ذهب الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، فعلى قول هذا القائل يحتاج إلى الفرق بين ذكر المال وبين ذكر الملك على جواب الاستحسان.
والفرق: أن اسم المال مطلقاً إنما يفيد مال الزكاة في هذا الباب اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وهذا المعنى معدوم عند ذكر الملك؛ لأنا لم نجد في إيجاب المشرع إضافة الصدقة إلى المالك المطلق، وأراد مال مقيد، فيعمل فيه بعضه اللفظ، واللفظ عام أو مطلق.
ثم قال في كتاب الهبة: ويمسك من ذلك قوته؛ لأن حاجته في هذا القدر معدم، وهذا لأنه لو لم يمسك مقدار قوته يحتاج إلى أن يسأل الناس من ساعته، ولا يحسن أن يتصدق الرجل بماله، ويسأل الناس من ساعته، ولم يبين مقدار ما يمسك.
قال مشايخنا: إن كان محترفاً يمسك قوت يوم، وإن كان صاحب حوانيت غلة يمسك قوت شهر، وإن كان دهاقاً يمسك قوت سنة؛ لأن قوت الدهاقين يحدد في كل سنة، وقوت أهل الحرف في كل يوم، فإذا وصل يده إلى شيء من المال بعد ذلك تصدق بمقدار ما أمسك؛ لأنه مستهلك قدر ما أمسك من المال الذي لزمه التصدق منه، فيصير ضامناً مثله كما لو استهلك مال الزكاة، فإذا جعل الرجل على نفسه حجة أو عمرة، أو ما أشبه ذلك ما هو طاعة الله عزّ وجلّ، وكان النذر مرسلاً لزمه الوفاء بما سمى، ولا يلزمه الكفارة بلا خلاف، فإن كان النذر معلقاً بالشرط إن كان شرطاً يريد وجود لجلب منفعة،(2/319)
أو لدفع مضرة بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو رد لي غائبي، أو مات عدوي، فعليّ صوم سنة، فوجد الشرط لزمه الوفاء بما سمى، ولا يخرج عن العهد والكفارة بلا خلاف أيضاً، وإن كان النذر معلقاً بشرط لا يريد كونه، فعليه الوفاء بما سمى في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروي عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول، وقال: هو بالخيار، إن شاء خرج عنه بين ما سمى، وإن شاء خرج عنه بالكفارة، وهكذا روي عن محمد، ومشايخ بلخ كانوا يفتون بهذا، وهو اختيار الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، والشيخ الإمام شمس الدين السرخسي، والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمهم الله، وبه قال عمر، وعائشة رضي الله عنهما.
وجه قول أبي حنيفة الآخر: إن النذر المعلق بشرط لا يريد كونه يمين من وجه، نذر من وجه، يمين باعتبار الشرط؛ لأن الشرط مرغوب عنه فراراً عما يلزمه جميعاً لله تعالى على الخلوص كالشرط في اليمين بالله مرغوب عنه فراراً عما يلزمه من الكفارة جميعاً لله تعالى على الخلوص نذر باعتبار الجزاء؛ لأن معلق الشرط صوم، أو صلاة، أو حج كما في النذر المعلق بشرط يريد كونه، وكان نذراً من وجه يميناً من وجه علق أحدهما على الآخر؛ لأن اليمين إنما يتم بالشرط والجزاء جميعاً، والجمع بين الوجهين متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الكفارة، والآخر يوجب الوفاء بالمسمى، والجمع بين الكفارة والمسمى متعذر؛ لأن العقد واحد فلا يلزمه موجبان وإذا تعذر الجمع بين الوجهين والبعض من هذا، والبعض من ذلك متعذر أيضاً، وجب التوفير (على الش....... التنجيز) ، وهذا بخلاف ما لو علق النذر بشرط يريد كونه، فإنه نذر من كل وجه باعتبار الجزاء والشرط جميعاً؛ لأن الشرط مرغوب فيه، والشرط باليمين بالله مرغوب عنه خوفاً عما يلزمه من الكفارة حقاً لله تعالى، بخلاف ما نحن فيه، وبخلاف النذر المرسل؛ لأنه ليس فيه معنى اليمين أصلاً، والله أعلم.
الفصل السابع عشر في المتفرقات
في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: في الحربي المستأجر إذا مر على العاشر أخذ منه العشر في جميع ما معه كان للتجارة، أو لم يكن. وروى الحسن عن ابن أبي مالك عن أبي يوسف إن كان معه أعشر التجارة لا يعشره.
ابن سماعة عن محمد في «نوادره» : رجل اشترى عبداً بمائة درهم، وقيمة العبد مائتا درهم، وهو يريد التجارة، فلما كان آخر الحول صار قيمته ثلاثمائة، ثم استحق نصف العبد، فعلى المشتري زكاة مائتي درهم؛ لأنه تبين أنه تم الحول وفي ملكه مائتا(2/320)
درهم مائة وخمسون في العبد، وخمسون في ذمة البائع نصف من العبد، والدين يضم إلى ما عنده في حق تكميل النصاب، وإن كان لا يخاطب بالأداء منه قبل القبض.
ابن سماعة في «الرقِّيَّات» عن محمد: رجل عنده عشرون ديناراً ومائتا درهم حال عليها الحول، فدفع إلى رجل خمسة دراهم من المائتين ليؤدي عن المائتين إلى المساكين، فلم يؤدها حتى ضاعت المائتان وصاحب المال لا يعلم بذلك، ثم إن الآخر دفع الخمسة إلى المساكين (146أ1) لا يجزئه عن زكاة الدنانير، وكذلك على هذا إذا كان لرجل ألف درهم وضح وألف درهم غلة حال عليه الحول، فدفع إلى رجل خمسة وعشرين درهماً وضحاً ليتصدق بها عن زكاة الوضح، وباقي المسألة بحالها لا يقع المؤدى عن الغلة، ولو كان الدفع على سبيل التعجيل قبل الحول، والباقي بحاله، فالمؤدى يقع عن الباقي، وقد ذكرنا هذا التفصيل فيما إذا أدى صاحب المال بنفسه، فكذا إذا أمر غيره بالأداء.
هشام عن أبي يوسف: في رجل له على رجل دين ألف درهم فوهبها لآخر، ووكله بقبضها، فلم يقبضها حتى وجبت فيه الزكاة، ثم قبضها الوكيل، وهو الموهوب له، فزكاتها على الواهب؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض صاحب المال.
في «مجموع النوازل» : قال محمد: إذا هلكت الوديعة في يد المودع، وأدى إلى صاحب الوديعة ضمانها ناوياً عن زكاة ماله، قال: إن أدى إليه لدفع خصومته لا تجزئه عن زكاته. وفيه أيضاً: روي عن أبي حنيفة: في رجل له عشرون شاة في الجبل، وعشرون في الواد، ومصدقهما يختلف، قال: يأخذ كل واحد منهما نصف شاة.
عن أبي يوسف في رجل قال: لله عليّ أن أتصدق بما عليّ من الزكاة تطوعاً، فأدى ما عليه جاز عن زكاته، ولا شيء عليه غير ذلك، ولو قال: لله عليّ أن أحج تطوعاً، ثم حج من عامه حجة الإسلام كان عليه أن يحج عن التطوع. ولو قال: لله عليّ حجة الإسلام تطوع، فحجها للإسلام لم يلزمه التطوع.
ابن سماعة عن محمد: في رجل له مائتا درهم على رجل حال الحول إلا شهراً، ثم استفاد ألفاً، وتم الحول على الدين قال: يزكي الألف التي عنده، وإن لم يأخذ من الدين شيئاً، وكذا إذا نوى الدين بعد الحول، وفي قياس أبي حنيفة: لا يزكي الألف من الزكاة مثلها ليس له أن يعطيها، وإن أعطاها، ثم مات كان لورثة الميت أن يرجعوا عليهم بثلثها.
وفيه أيضاً: رجل دفع إلى رجل مالاً قال: أعط هذا من أحببت، ليس له أن يتصدق على نفسه عند أبي حنيفة، وقال محمد: له ذلك.
وفيه أيضاً: الدين المجحود إذا كان لصاحبه عليه بينة، ولم يقم لا تجب عليه الزكاة؛ لأن الحاكم لا يقبلها.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قضى دين غيره من زكاته، فإن قضى بأمر المديون وكان المديون فقيراً يجوز، وإن أدى بغير أمره لا يجوز؛ لأن المأخوذ على رب(2/321)
المال تمليك المال والفقير، فإذا قضى بأمر المديون، أو كان المديون فقيراً يجوز، فقد وجد التمليك منه؛ لأن تقدير الأمر بقضاء الدين، ولا يتصور قضاء الدين عنه إلا بعد تمليك قدر الزكاة عنه ملكني قدر الزكاة، ثم كن وكيلي بقضاء ديني من ذلك، ولو قال: هكذا يجوز، وينوب قبض صاحب الدين عن قبض المديون، فإذا قضى بغير أمر المديون لم يوجد التمليك منه؛ لأنه لم يرض بوقوع الملك له، فلا يمكن أن يجعل هذا تمليكاً منه، فلهذا لا يخرج عن العهدة.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا كان للرجل سائمة للتجارة حال عليها الحول، وهي كذلك سائمة أجمعوا على أنه لا يجمع بين زكاة السائمة وبين زكاة التجارة؛ لأن المال واحد، والجمع بينهما يؤدي إلى العناء.
بعد هذا قال أصحابنا رحمهم الله: زكاة التجارة أولى من زكاة السائمة؛ لأن نية التجارة قد صحت فيها؛ لأنها لو لم يصح إنما لا يصح لمكان السوم، إلا أن السوم لا ينافي صحة نية التجارة، ألا ترى أن السائمة إذا كانت أقل من النصاب اشتراها بنية التجارة وتركها سائمة كما كانت للتجارة، تصح نية التجارة فيها، وتجب زكاة التجارة؟ كذا ههنا، وكل مال صحت نية التجارة فيه تجب فيها زكاة التجارة.
الحربي إذا أسلم في دار الحرب وله سوائم، وقد علم بوجوب الزكاة عليه بسبب السوائم، ولم يؤدها سنتين حتى خرج إلى دار الإسلام بسوائمه، فإنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ منه زكاة ما مضى؛ لأنه لم يكن في حماية الإمام حال وجوب الزكاة، ويجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وإن لم يعلم بوجوب الزكاة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا الصوم والصلاة.
قال في «المنتقى» : والعلم الذي به عليه الصلاة، والصوم أن يخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان في دار الحرب، أو في دار الإسلام.
وفي «المنتقى» : حربي أسلم في دار الحرب، ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة، أو زكاة أو صياماً، وهو في دار الحرب، فليس عليه قضاء ما مضى، وإن علمه بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط منه من وقت إعلامه في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام، وإن كان إنما أعلمه بذلك، رجل واحد، أو ناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً فيما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه، وهو في دار الحرب لم يقض، وإن كان في دار الإسلام قضى، والله أعلم بالصواب.(2/322)
كتاب العشر
هذا الكتاب يشتمل على سبعة فصول:
1 * في بيان ما يجب فيه العشر وما لا يجب.
2 * في بيان اعتبار النصاب لوجوب العشر.
3 * فيمن يجب عليه العشر وفيمن لا يجب عليه.
4 * في معرفة وقت وجوب العشر.
5 * في معرفة أرض العشر.
6 * في التصرف فيما يخرج من الأرض من الطعام وفي التصرف في العشر.
7 * في المتفرقات.(2/323)
الفصل الأول في بيان ما يجب فيه العشر وما لا يجب
يجب أن يعلم بأن الأصل في وجوب العشر قول الله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} (البقرة: 267) قال أهل التفسير: المراد من قوله: {من طيبات ما كسبتم} زكاة مال التجارة، والمراد من قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} العشر، وقوله تعالى: {وآتو حقه يوم حصاده} (الأنعام: 141) والمراد من الحق المذكور في الآية العشر، وقوله عليه السلام: «ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بقرب دالية، أو ساقية ففيه نصف العشر» .
قال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أخرجته الأرض مما تستنمي به الأرض فيه العشر إلا الحطب، والقصب، والحشيش، والتبن، والسعف.
وقال أبو يوسف، ومحمد: وكل شيء له ثمرة باقية، وتكون منفعته عامة، ويكون مقصوداً في نفسه يجب فيه العشر، وما كان يخالفه لا يجب فيه العشر، حتى إن عندهما لا يجب العشر في الخضر، وعند أبي حنيفة يجب، وقولهما: في ماله ثمرة باقية تدخر في الغالب، وتبقى سنة أو أكثر نحو الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب وأشباهها حجتهما في ذلك قوله عليه السلام، «ليس في الخضروات صدقة» ، ولأبي حنيفة رحمه الله العمومات التي مر ذكرها، وإن سبب وجوب العشر الأرض النامية بالخارج والاشتباه بالرطب أكثر من الاشتباه بالحنطة والشعير، ولهذا كان وظيفة الخراج في أراضي الرطاب أكثر، وما روينا من الحديث، فتأويله ليس فيها صدقة توجد.
ونحن هكذا نقول: أن الساعي لا يأخذ العشر من الرطاب التي مر بها، والمستثنى عند أبي حنيفة: الأشياء الخمسة الحطب والحشيش، فلأن سبب وجوب العشر الأرض النامية بالخارج والأراضي لا تستنمي بهذه الأشياء، ولا تقصد بالزراعة بل الاستنماء يفوت بهذه الأشياء، وأما القصب فالمراد منه القصب الفارسي؛ لأن الأراضي به لا تستنمي عادة، فأما قصب السكر، وقصب الذريرة، ففيهما العشر؛ لأن الأراضي تستنمي بهما عادة.
قال محمد في «الأصل» : قصب السكر بمنزلة التمر، وقصب الذريرة بمنزلة(2/325)
الريحان، قال صاحب «العين» : الذريرة..... قصب الطيب وفارسية....، وقصب الطيب قصب يجاء به من أرض الهند و (146ب1) في..... الذريرة ما يدر على الميت أي ينشر، وأما السعف، فلأنه من جملة الحطب؛ لأنه جزء من أجزاء النخيل، ولأنه أصل الشجر؛ لأن السعف الغصن والعشر لا يجب في أصل الشجر، وأما التبن فلأن التبن هو الساق الذي يتولد منه الحب قد زانه أصل الشجر.
في «المنتقى» قال إبراهيم بن هراسة: سألت محمداً عن أرض عشر فيه شجر ليس له ثمر مثل التوت، والخلاف، أو بالقصب وما أشبهها، فكان يقطع في كل سنة، ويبيع يجب فيه العشر عند أبي حنيفة، وإنه حسن، ولا عشر في الخوخ، والتفاح، والكمثرى، والإجاص، والسفرجل، والمشمش؛ لأن هذه الأشياء لا تدخر ولا تبقى سنة.
وفي «المنتقى» : وفي التبن الذي ييبس العشر، ولا عشر في الخوخ الذي يسعق وييبس، علل فقال: لأن الغالب منه ليس على ذلك، فقد أشار إلى أن كل ما ييبس غالباً، فهو الباقي في أيدي الناس، فيجب فيه العشر، وأشار إلى أن الخوخ مما لا ييبس في الغالب، وعن أبي يوسف: أن الإجاص الذي عين بمنزلة الزبيب يجب فيه العشر، وكذا العناب يجب فيه العشر.
ولا عشر في الثوم والباقلاء عند محمد؛ لأنها من جملة الخضر، وكذلك الثوم، وعن أبي يوسف: أنه أوجبه في البصل، وعن محمد: أنه لا عشر في القت؛ لأنه من الخضر، ولا عشر فيما هو من جملة الأدوية؛ لأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً، وعن محمد: لا عشر في الرياحين كلها الآس والحناء؛ والورد والوسمة، وعن أبي يوسف: أنه أوجب في الحناء؛ لأنه ينتفع به انتفاعاً عاماً، وإنه يبقى سنة، ولا شيء في القنب؛ لأنه حطب ويجب في حبّه؛ لأنه ينتفع به انتفاعاً عاماً، ويدخر غالباً، ويبقى حولاً. والبذور التي لا تصلح إلا للزراعة كبذر البطيخ وما أشبه ذلك، فلا عشر فيه؛ لأنها غير مقصودة في نفسها؛ ولأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً، ولا شيء في السوسن والبانجواه والحلبة؛ لأنها من جملة الأدوية، أو لأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً.
وما يوجد في الجبال من الثمر والفواكه، ففيه العشر، في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: لا يجب؛ لأنه على أصل الإباحة كالقصب، وعن أبي حنيفة: أن الملك فيه ثبت بالأخذ والإحراز، وهو مما يحصن في نفسه، فيكون هذا، وما لو حصل في ملكه سواء في حق وجوب حق الله تعالى كخمس المعادن، والعشر واجب في العسل إن كان في أرض العشرية، به ورد «الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ ولأن الأراضي يستنمى بها، وتعدله كالثمار، وما يوجد في الجبال من العسل، ففيه الخلاف عن أبي حنيفة، وأبي يوسف على نحو ما ذكرنا في الثمار والفواكه وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.(2/326)
ولو كان في دار رجل شجرة لا يجب في ذلك عشر، وإن كانت تلك البلدة عشرية، فرق بين هذا، وبين الثمار التي تكون في الجبل.
والفرق: أن نفقة داره ليست بعشرية، والجبل عشري، وما سقته السماء، أو سقي سيحاً، ففيه العشر، وما سقي بقرب أو دالية أو ساقية، ففيه نصف العشر به ورد «الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمعنى في التفاوت اختلاف قدر المؤنة وكثرتها.v
وإذا سقي في بعض السنة سيحاً وفي بعضها بماله، فالمعتبر هو الأغلب، وقد مر نظير هذا، في الصوم عن أسد بن عمر، وفي أرض نبتت فيها بزار عنب من غير معالجة أحد، فجمع منه رجل قال: إن كان في أرض عشرية، ففيه العشر، وإن كانت هذه الأرض ليست لأحد، ولم يعالجها أحد، فكذلك فيه العشر، وسئل الحسن عن ذلك، فقال: ليس عليه عشر إذا وجدها في أرض ليست لأحد. قال الفقيه أبو الليث: قول الحسن أحب إليّ.
الفصل الثاني في بيان اعتبار النصاب لوجوب العشر
وإنه مختلف فيه فأبو حنيفة رحمه الله: لا يعتبر النصاب، بل يوجب العشر في كل قليل وكثير أخرجته الأرض مما تستنمى به الأرض، ومما اعتبر النصاب قالا: لا يجب العشر حتى يبلغ الخارج خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فخمسة الأوسق تكون ثلثمائة أصوع، فما لم يبلغ الخارج ثلثمائة أصوع لا يجب فيه العشر، وإنما اعتبر النصاب لإيجاب العشر؛ لأن هذ نوع زكاة فيعتبر ههنا النصاب قياساً على الزكاة المعهودة، ويؤيده قوله عليه السلام «فيما دون خمسة أوسق صدقة» .
ولأبي حنيفة رحمه الله: العمومات الواردة في هذا الباب من غير فصل فيما إذا قل الخارج أو كثر، والحديث الذي روينا محمول على الزكاة؛ لأنها هي الصدقة المطلقة، وإنما قدراه بالأوسق إما اتباعاً للحديث؛ أو لأنهم كانوا يتبايعون بالأوسق وإنما قدرناه بالخمسة؛ لأن ما دون الخمسة الأوسق كان لا يبلغ مائتي درهم في ذلك الزمان، والتقدير بالأوسق عندهما فيما يدخل تحت الوسق، ويكال به كالحنطة، والشعير، والذرة، وأشباهها، فأما ما لا يدخل تحت الوسق، ولا يكال به كالقطن، والزعفران، والفانيد، والسكر، والعسل وأشباهها، فعند أبي يوسف: تعتبر القيمة.(2/327)
فبعد ذلك اختلفت الروايات عنه روى الفضل بن عاصم عنه: إذا بلغت قيمة الخارج فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء الخمسة الحنطة، والشعير، والذرة، والتمر، والزبيب يجب العشر، وما لا فلا، وروى ابن سماعة عنه: إذا بلغت قيمة الخارج فيه خمسة أوسق من أدنى ما يجب فيه العشر نحو الأرز، والعدس، والحمص، والمج يجب فيه العشر، وإلا فلا، وهو رواية ابن رستم عن محمد، وروى ابن سماعة عن محمد: أنه يعتبر خمسة أعداد على ما يقدر به ذلك الشيء، ففي القطن خمسة أحمال وفي العسل خمسة أفراق، والفرق ستون رطلاً بالعراقي، وفي الزعفران، والسكر، والفانيد خمسة أمنان، وهذا هو المشهور من قوله.
فأبو يوسف يقول: نصب النصاب بالرأي لا يكون ويكن فيما ورد عليه النص يعتبر المنصوص عليه، وفيما لا نص فيه تعتبر القيمة، ولا نص في هذه الأشياء، فتعتبر القيمة، بعد هذا قال: تعتبر قيمة الأدنى ولا تعتبر قيمة الأقصى نظراً للفقراء غير أن في إحدى الروايتين لم يعتبر الأدنى من جملة ما يوسق، وكأنه فعل ذلك نظراً لأرباب الأموال، لأنه كما يجب نظراً للفقراء، يجب نظراً لأرباب الأموال، فقد اعتبرنا نظراً للفقراء حتى لم نعتبر الأقصى، فيجب اعتبار نظر أرباب المال، وذلك في أن لا يعتبر الأدنى من جميع ما يوسق.
ومحمد يقول: إن القيمة ساقطة الاعتبار في هذا الباب بالإجماع، فإن الغير يجب باعتبار العين بالإجماع، والشرع اعتبر الوسق في الموسقات أقصى ما يقدر به المغاير، فإنه يقدر أولاً بالمد، ثم بالصاع، ثم بالوسق، فاعتبرنا في هذه الأشياء التي لا تدخل تحت الوسق أقصى ما يقدر به من المغاير، استدلالاً بالموسقات، وأقصى ما يقدر به السكر، والفانيد، والزعفران المنّ، وأقصى ما يقدر به العسل الفرق، وأقصى ما يقدر به القطن الحمل، فقدرناه بذلك. هذا إذا كان الخارج جنساً واحداً، وإن أخرجت الأرض أجناساً مختلفة كالحنطة، والشعير، والذرة، ولم يبلغ كل نوع منها خمسة أوسق، فعن أبي يوسف روايات:
أحدها: أنه لا يجب شيء حتى يبلغ كل نوع نصاباً؛ لأن العشر في ما يدخل تحت الوسق يجب باعتبار العين، والتكميل باعتبار العين متعذر لاختلاف العين كما في السوائم.
وفي رواية: كل نوعين لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً دليل المجانسة، قال القدوري: وهو قول محمد.
وفي رواية أخرى قال: كل ما أدرك في وقت واحد ضم بعضه إلى بعض، وما لا يدرك في وقت واحد لا يضم.
قال في «المنتقى» : وبهذه الرواية كان يقول محمد رحمه الله أولاً، ثم رجع إلى الرواية الأولى.
وجه هذه الرواية أن الحق إنما يجب باعتبار المنفعة فما أدرك في وقت واحد،(2/328)
فمنفعته واحدة، فلا يعتبر اختلافه كالعروض، ولو حصل خمسة أوسق مختلفة في وسائق مختلفة، فإن كان العامل واحد انضم البعض إلى البعض، وأخذ العشر، وإن اختلف العامل، فلا سبيل لأحد من العاملين على الخارج الذي في عمله حتى يبلغ خمسة أوسق، وهذا لأن حق الأخذ للعامل بالحماية، فإذا كان العامل مختلفاً فإنما حمى كل واحد منهما أقل من خمسة أوسق، فلا يثبت له حق الأخذ، ولا كذلك ما إذا كان العامل واحداً، وهذا كله قول أبي يوسف، وقال محمد: لا يثبت لاختلاف العامل بعد اتحاد المالك.
ووجهه أن الأراضي كلها محمية بحماية الإمام الأكبر، فكان حق الأخذ باقياً للإمام الأكبر، والعاشر نائب عنه، فيثبت له حق الأخذ بحكم النيابة، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل له في كور من أرض يخرج من كل واحد منهما وسقان ونصف من بر يوجب فيه العشر.
ولو كان له نخل وكرم، فخرج من كل واحد منهما أربعة أوسق لم يوجد منه شيء وكذلك الحنطة، والشعير.
وفي «المنتقى» أيضاً: أبو سليمان عن محمد عن أبي حنيفة في التمور المختلفة جمع بعضها إلى بعض من غير خلط، وقد بلغت خمسة أوسق أنه يؤخذ منها الصدقة من أوساطها، حتى إنه إذا اجتمع تمر دقل وتمر فارسي وتمر بري، أخذ العشر من الوسط، وهو قول محمد.
وقال أبو حنيفة بعد هذا: إنه يؤخذ من كل صنف بحصته، قال أبو الفضل، وهو القياس.
وفيه أيضاً: إذا كان له شجرة لها ثمر بان مثل العصفر والقرطم لا يجمعان كلاهما، وإن كانا لو جمعا بلغا خمسة أوسق من أدنى ما يخرج من الأرض، ولكن إذا بلغ كل واحد منها خمسة أوسق من أدنى ما تخرج الأرض، ففيه العشر.
وفيه أيضاً: ابن سماعة عن محمد: أرض زرعت مرتين في السنة، فأخرجت كل مرة أربعة أوسق، ففيه العشر؛ لأنه زرع سنة.
وفيه أيضاً: رجل زرع مراحاً له في السنة ثلاث مرات، فمرة خرج وسقان من سمسم، ومرة خرج وسقان من حنطة، ومرة خرج وسقان من شعير، فلا عشر فيه حتى يكون من نوع واحد خمسة أوسق. وقال إبراهيم بن هراسة: يضم البعض إلى البعض، وروى خالد بن صبح: أنه لا يضم.
وفيه أيضاً: إذا أخرجت الأرض خمسة أوسق من التمر الجاف، أو الزبيب كان فيه العشر فإن بيع رطباً، أو عنباً، أو بسراً أخضر قال: يخرص ذلك تمراً جافاً وزبيباً، فإن بلغ خمسة أوسق وجب فيه العشر، وإلا فلا شيء عليه.
وفيه أيضاً: في الطلع يبيعه رب النخل إذا بلغ ثمنه خمسة أوسق من التمر أن فيه العشر، وكذلك العنب الأخضر يبيعه إن بلغ ثمنه خمسة أوسق من الزبيب ففيه العشر؛ لأن هذا جنس واحد وشيء واحد، والله أعلم بالصواب.(2/329)
الفصل الثالث فيمن يجب عليه العشر وفيمن لا يجب عليه
ذكر في «المنتقى» عن محمد: إذا زرع رجلان بالنصف، والبذر من رب الأرض، أو من العامل، فأخرجت الأرض خمسة أوسق، ففيها العشر، وإن كان البذر منهما نصفين فلا عشر فيها، إلا أن يبلغ نصيب كل واحد منها خمسة أوسق.
وفيه عنه أيضاً: إذا كان للرجل زرع في أرض العشر، فمات قبل أن يحصد، فوزنه، وفرقه، ولا يصيب كل واحد منهم خمسة أوسق، ففيه العشر؛ لأن ملك الورثة بناءً على ملك المورث، فيعتبر كمال النصاب في حق المورث، وقد وجد.
وفيه أيضاً: أرض بين رجلين، أخرجت خمسة أوسق حنطة، فاقتسماها، أو لم يقسماها قال: يؤخذ منه العشر، ولو تهايأا على الأرض فزرع كل واحد منهما طائفة منها لم تكن على واحد منها عشر حتى تخرج له خمسة أوسق.
وفي «القدوري» : إذا أخرجت الأرض المشتركة خمسة أوسق، ففيها العشر في إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وروي عنه أنه لا يجب، وهو قول محمد، والله أعلم.
ويؤخذ العشر من الأراضي العشرية إذا كان المالك مسلماً صغيراً كان، أو كبيراً عاقلاً كان، أو مجنوناً، وكذلك يجب في أرض المكاتب، وفي أرض الوقف؛ لأن هذا حق مال يجب بسبب أرض نامي، فيجب على هؤلاء كالخراج، وهذا لأن معنى المؤنة في العشر أصل، ومعنى العبادة تبع لأنه تجب بسبب أرض نامية، ونماء الأرض لا يحصل إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك، فعلم أنه أوجب بطريق المؤنة.
ألا ترى أن الزكاة لا تجب بسبب الإبل العوامل؛ لأن منفعتها لا تحصل إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك.... وجب العشر بسبب الأرض النامي الذي لا يحصل نماؤه إلا بمؤونة عظيمة تلحق المالك، علمنا أن الشرع ألحقه بالمؤن، إلا أن معنى العبادة فيه تبع من حيث المصرف، فإنه يصرف إلى الفقراء، وإذا كان معنى المؤن فيه أصلاً كانت العبرة لمعنى المؤن، فيجب على هؤلاء كالخراج، وهذا بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة محضة ليس فيها معنى المؤن، أوجبت شكراً على نعمة الغنى، ألا ترى أنها لا تجب بسبب الإبل العوامل التي لا تحصل منفعتها إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك؟ والمعنى لا يثبت للمالك بما في يده، ولهذا حلت له الصدقة، فلا تجب عليه الزكاة، ويجب العشر على المديون بخلاف الزكاة؛ وهذا لأن الدين إنما منع وجوب الزكاة لنقصان في الملك، إلا أن نقصان الملك لا يمنع وجوب العشر، ألا ترى أنه يجب العشر في أرض المكاتب.
وإذا استأجر أرضاً عشرية وزرعها، فالعشر على رب الأرض في قول أبي حنيفة،(2/330)
وقال أبو يوسف، ومحمد: يجب العشر على المستأجر، وأما المستعير إذا زرع، فعليه العشر دون صاحب الأرض، في ظاهر رواية أصحابنا.
وروى المبارك عن أبي حنيفة أنه أوجب على المستعير، فأبو حنيفة على رواية ابن المبارك. لا يحتاج إلى الفرق بين المستعير وبين الآجر، وعلى ظاهر الرواية يحتاج. ووجه الفرق أن الخارج سلم للمستأجر بعوض، وكأنه اشترى الزرع بعد الإدراك، ولا كذلك المستعير، فإن الخارج سلم له بغير عوض.
وأما الغاصب، إذا زرع فإن نقصت الزراعة الأرض غرم الغاصب النقصان، وعلى رب الأرض العشر عند أبي حنيفة؛ لأن ضمان النقصان بمنزلة الأجر، وإن لم توجب زراعته نقصاناً في الأرض، فالعشر على الغاصب، (147ب1) لا على رب الأرض استحساناً؛ لأنه لم يسلم لرب الأرض الخارج لا بعينه، ولا بيد له، إنما سلم ذلك للغاصب، فتكون المؤن على الغاصب لا على رب الأرض، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: العشر على الغاصب، أوجب زراعته نقصاناً في الأرض، أو لم يوجب؛ لأن ضمان النقصان ليس بإزاء الخارج، بل بإزاء منفعة الأرض، فقد سلم الخارج للغاصب بغير عوض، فيكون الخراج عليه كما لو كان مستأجراً، فإن في الإجارة العشر على المستأجر لأن الأجرة بإزاء منفعة الأرض لا بإزاء الخارج، كذا ههنا.
مسلم له أرض عشرية باعها من ذمي كان عليه الخراج عند أبي حنيفة، وعند محمد عليه عشر واحد كما كان، وقال أبو يوسف: عليه عشران.
محمد رحمه الله يقول: هذه وظيفة تقدرت في الأراضي، فلا تتبدل بتبدل المالك قياساً على الخراج حتى أن المسلم إذا اشترى أرضاً خراجياً، يبقى خراجياً كما كان، أكثر ما فيه أن العشر معنى العبادة، إلا أن معنى العبادة فيه تبع، فيمكننا إلغاؤه، ويبقى العشر من حيث إنه مؤنة.
وأبو يوسف يقول: هذا حق مالي وجب أخذه من الذمي، فيؤخذ ضعف ما يؤخذ من المسلم كما في المال الممرور به على العاشر، وأبو حنيفة يقول: يقدر لها العشر؛ لأن في العشر معنى العبادة، والكفر ينافي العبادة، وما يقول: بأنه يلغي معنى العبادة عيناً فاسد؛ لأنه لا يحتمل الإلغاء والإسقاط، فإن الإمام لو أخذ العشر، وأراد أن يصرف إلى المقابلة لا يحجز، ولو فعل ذلك لمصلحة رأى يصير ديناً ببيت مال العشر في بيت مال الخراج.
وهذا بخلاف ما لو اشترى مسلم أرضاً خراجياً؛ لأن معنى العقوبة في الخراج يحتمل الإلغاء، ألا ترى أن الإمام لو أراد أن يصرف الخراج إلى الفقراء له ذلك؟ ولو فعل ذلك لمصلحة رأى لا يصير ديناً لبيت مال الخراج في بيت مال الزكاة، فيلغي معنى العقوبة، ويبقي الخراج باعتبار معنى المؤنة، أما هنا بخلافه، ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف: أن ما يؤخذ من العشر المضاعف يصرف إلى المقابلة، وعن محمد في صرف ما يؤخذ من العشر الواحد روايتان.(2/331)
في رواية: يصرف إلى المقابلة مصرف الخراج؛ لأن معنى العبادة لما لغى عنده، وبقي معنى المؤنة التحق هذا العشر بالخراج، فيصرف مصرف الخراج.
وفي رواية: يصرف مصرف الزكاة، فيصرف إلى الفقراء؛ لأن إسقاط معنى العبادة مع الصرف إلى الفقراء ممكن، فإن الإمام لو صرف الخراج إلى الفقراء يجوز، وإذا أمكن إلغاء معنى العبادة مع الصرف إلى الفقراء لا ضرورة إلى تغيير المصرف، ومصرف هذا المال كان هو الفقراء في الأصل، فيبقى مصروفاً إليهم كما كان، فإن أخذها مسلم بالشفعة، ففيها عشر واحد عندهم جميعاً، وهذا لا يشكل على قول محمد، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه لو اشتراها من المشتري كان عليه عشر واحد عنده؛ لأن التضعيف لكفر المالك، فإذا اشتراه مسلم، أو أخذها بالشفعة، فقد عدم كفر المالك، فيسقط التضعيف.
إنما يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأنه لو اشتراها من المشتري كان خراجياً في حقه عنده، والأخذ بالشفعة شرعي، والوجه في ذلك: أن الأخذ بالشفعة مع أن خيار المشتري يمنع وقوع الملك للمشتري في المشترى عند أبي حنيفة، وتملك على المشتري من وجه، فإنه لو أخذها من المشتري ترجع حقوق العقد إليه، ولو كان تملكاً على المشتري من كل وجه يكون خراجياً في هذه الصورة، ولو كان تملكاً على البائع من كل وجه يكون عشرياً في هذه الصورة، فإذا وقع كان فيهما الشك في كونه خراجياً في هذه الصورة، ولو كان تملكاً على البائع من كل وجه يكون عشرياً أو عشرياً، وقد كان عشرياً، فيبقى على ما كان، ولو كان الذمي اشتراها من المسلم بشرط الخيار للبائع يفسخ البائع العقد بحكم الخيار، فإنها تكون عشرية في حقه، وكذلك إذا كان الخيار للمشتري فرده بحكم الخيار، فإنها تكون عشرية في حق البائع، وكذلك إذا كان الرد من المشتري بخيار الرؤية؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه، فعاد الأرض إلى قديم ملك البائع، وإن كان الرد بالعيب بعد القبض، إن كان قضاء، فإنها تكون عشرية، وإن كان بغير قضاء، فهو عشرية في قول أبي يوسف ومحمد.
وفي قول أبي حنيفة هو خراجي؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، والعشر والخراج ثالث، فصار في حقها كأن البائع اشتراها من المشتري ثانياً، ولو اشتراها من المشتري ثانياً كان خراجياً عند أبي حنيفة؛ عشرياً عندهما كذا ههنا.
إذا كان للرجل أرض عشرية، فيها زرع قد أدرك، فباع الأرض مع الزرع، فالعشر يكون على البائع لا على المشتري؛ لأن العشر إنما يجب على من سلم له الحب بغير عوض، والحب سلم للبائع بغير عوض، فيكون العشر عليه.
وإن كان الزرع بقلاً، وباع الأرض مع الزرع، وأدرك الزرع، فالعشر على المشتري؛ لأن الحب ههنا سلم للمشتري بغير عوض؛ لأن الأرض على ملكه حين انعقد الحب، فيكون العشر عليه، هذا إذا باع الأرض مع الزرع.
فأما إذا باع الزرع دون الأرض، والزرع قصيل؛ فإن كان البيع بشرط أن قفصله(2/332)
المشتري، فقصله، فالعشر على البائع؛ لأن الخارج سلم للبائع بغير عوض، فيكون العشر عليه، واعتبره ما لو قصله أولاً، ثم باعه، وهناك العشر على البائع، فقد أوجب العشر في الفصل مع أن القصيل في الحقيقة تبن، ولا عشر في التبن.
وفرق بين هذا، وبينما إذا أدرك الزرع، ثم هلك الحب، وبقي التبن، فإنه لا يجب في التبن شيء.
والوجه في ذلك: أن البائع لما قصل بنفسه، أو أمر المشتري بذلك، فهو الذي منع الحب من الانعقاد بعد وجود سببه، فيصير الحب بغير، فلا يمكن أن يجعل باقياً في حقه، وما بقي تبن، والعشر لا يجب في التبن، وإن كان البيع مطلقاً من غير شرط، وترك الزرع حتى أدرك، فإن كان الترك بغير أجر ذكر في «الأصل» : أن العشر على المشتري، ولم يحك فيه خلافاً.
وذكر في «نوادر الزكاة» لأبي سليمان على قول أبي حنيفة: فالعشر على المشتري، وعلى قول أبي يوسف: يقدر القصيل على البائع، وما زاد على ذلك إلى أن أدرك على المشتري؛ لأن بعض الخارج سلم للبائع بغير عوض، وهو قدر القصيل، فيكون عشره عليه، وما زاد على قدر القصيل إلى أن أدرك سلم المشتري بغير عوض، فيكون عشره على المشتري، لأبي حنيفة رحمه الله عن عشر الحب وجب على المشتري، وما وراء ذلك تبن، ولا عشر في التبن بعدما وجب على أحد، فجاز أن يجب عشر القصيل على البائع بالطريق الذي قلنا، أما هنا بخلافه.
هذا إذا ترك القصيل في الأرض بغير أجر، فأما إذا تركه بأجر إلى أن أدرك، قال أبو حنيفة: العشر على البائع، وقال أبو يوسف ومحمد: العشر على المشتري، والخلاف في هذا نظير الخلاف فيمن استأجر أرضاً عشرية، وزرعها، فعلى قول أبي حنيفة: العشر على الآجر، وعلى قولهما العشر على المستأجر.
وفي «المنتقى» : رجل له أرض (148أ1) عشرية فيها نخل، وفي النخل طلع، باع ذلك كله بما في النخل من التمر، قال أبو حنيفة: العشر على المشتري الذي يدرك ذلك في يده، وقال أبو يوسف: العشر على البائع في قيمة الطلع إلى أن باعه إن كان يبلغ ذلك خمسة أوسق، وعلى المشتري تمام ذلك من يوم اشتراه إلى حين يبلغ. قال: وعلى هذا الزرع، ولو باع الطلع وحده، وقبضه المشتري، فإن أبا حنيفة يقول: لا عشر في كل واحد منهما، وقال أبو يوسف: العشر فيه على البائع إلى يوم باعه إن كانت قيمته ذلك الوقت تبلغ خمسة أوسق، ولا..... الزيادة فيه بعد البيع، ولا عشر فيه على المشتري. قال الحاكم أبو الفضل: قد صح رجوع أبي يوسف عن ذلك إلى قول أبي حنيفة.(2/333)
الفصل الرابع في معرفة وقت وجوب العشر
قال أبو حنيفة: وقت وجوب العشر عند وجود الخارج قال الله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (البقرة: 267) وقال أبو يوسف: عند الإدراك قال الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام: 141) وقال محمد: عند استحقاقه وتصفيته، وحصوله في الحظائر. وثمرة هذا الاختلاف على قول أبي حنيفة تظهر في الاستهلاك، فإن ما يستهلكه قبل الوجوب لا يكون مضموناً عليه، وما يستهلكه بعد الوجوب يكون مضموناً عليه، وعندهما: يظهر في حق هذا الحكم، وفي حق تكميل النصاب؛ لأنهما يعتبران النصاب، فما هلك قبل الوجوب لا يكمل به النصاب، وما هلك بعد الوجوب لا يعدم الوجوب في الباقي، وإن انتقص النصاب كما في مال الزكاة، وما هلك من المال بعد الوجوب ألحق بغير فعل المالك سقط عنه من الواجب بقدره، ويفيد بما هلك في النصاب في قول من يعتبر النصاب؛ لأن الواجب عشره، فما هلك هالك بما فيه.
في «القدوري» قال أبو حنيفة: ما أكل من الثمرة، أو أطعم بثمن عشره، عند أبي يوسف أنه لا يضمن، ولكن بعشر ذلك في حق تكميل الأسوق.
وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: ليس على الرجل فيما أكل من ثمره ونخله عشر، وقال: أنظر إلى رجل وعياله، وأترك له بقدر ما أظن أنه يكفيهم لأكلهم، وأحسبه لك لهم فيما أكلوا، وكأنه فعل ذلك دفعاً للحرج، قال: وأخذهم بالبغية، قال أبو حنيفة: آخذهم لكل شيء منه، ولا أحسبه لهم مما أكلوا شيئاً، وقال محمد: ما أكل حسب عليه من تسعة أعشاره، فالروايات اتفقت أن ما يعدو الكفاية له ولعياله يحتسب عليه من تسعة أعشاره، وإنما الخلاف في مقدار الكفاية، والله أعلم.
الفصل الخامس في معرفة أرض العشر، وما العشر
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أرض العرب كلها عشرية، وهي من عذيب إلى مكة وعدن أبني إلى مهرة في أقصى اليمن، وكان ينبغي أن تكون أرض مكة خراجية؛ لأن رسول الله عليه السلام فتحها قهراً، وكل أرض فتحت قهراً تكون خراجية، وإن أسلم أهلها طوعاً بعد ذلك كأراضي العجم، وأراضي العجم، وأراضي العرب، إذا كان أهلها من أهل الكتاب، وقد فتحت عنوة، لكن جعلناها عشرية اتباعاً لفعل رسول الله عليه السلام، فإن رسول الله عليه السلام فتح مكة عنوة، وأسلم أهلها، وتركها عليهم، ووظف عليهم العشر والمعنى فيه: أن أهل مكة كانوا عبدة الأوثان، وعبدة الأوثان من مشركي العرب لا يقبل منهم إلا السيف، أو الإسلام، ولا يتركون على الكفر بالجزية والخراج.(2/334)
فبالفتح قبل إسلام لم يثبت حق توظيف الخراج عليهم لو ثبت حق توظيف الخراج عليهم بعد الإسلام، كان هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداءً، والمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج، بخلاف العجم ومشركي العرب من أهل الكتاب، فإنهم يتركون بالجزية والخراج بعد الفتح، فبمجرد الفتح يثبت للإمام حق توظيف الخراج عليهم، فلو وضعنا الخراج بعدما أسلموا لا يكون في هذا توظيف الخراج على المسلم، ابتداء، والمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج بخلاف العجم، ومشركي العرب من أهل الكتاب، فإنهم يتركون بالجزية والخراج بعد الفتح، فبمجرد الفتح يثبت الإمام حق توظيف الخراج عليهم، فلو وضعنا الخراج بعدما أسلموا لا يكون في هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداء.
وكذلك كل أرض أسلم عليها أهلها طوعاً، فإنها تكون عشرية، «ألا ترى أن رسول الله عليه السلام وظف العشر على أهل الحجاز واليمن، وقد أسلم أهلها طوعاً» ، فصار هذا أصلاً للعمل في كل بلدة أسلم أهلها عليها طوعاً، وكذلك كل أرض فتحت قهراً وعنوة، وقسمت بين الغانمين، فهي عشرية، عرف ذلك بفعل النبي عليه السلام في أراضي قريظة والنضير.
وكذلك كل أرض من أراضي العرب، إذا فتحت عنوة وقهراً، وأهلها من عبدة الأوثان، فأسلموا بعد الفتح، وترك الإمام الأراضي عليهم، فهي عشرية، وكذلك بلدة من بلاد العجم إذا فتحها الإمام، أو عنوة، وتردد في أن يمن عليهم برقابهم وأراضيهم، ويضع على الأراضي الخراج، وبين أن يقسمها بين الغانمين، ويضع على الأراضي العشر، فقال: جعلت الأراضي عشرية، ثم بدا له، فمنّ عليهم برقابهم، فإن الأراضي تبقى عشرية، هكذا ذكر محمد في «النوارد» ، والكرخي في «كتابه» .
ولا يكون هذا ابتداء توظيف العشر على الكافر؛ لأن وضع العشر سبق المن، فلا يكون وضعه في أرض الكافر، وكذلك المسلم إذا جعل داره بستاناً أو مزرعة، فهو عشري هكذا ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» فمن الحنفية من مشايخنا من قال: هذا إذا كانت الأرض في الأصل عشرية بأن أسلم أهلها عليها طوعاً، فمتى جعل داره في مثل هذه الأرض بستاناً تكون عشرياً؛ لأنها كانت عشرية في الأصل، إلا أنها ما دامت أياً كأن لا يوجد (148ب1) منها شيء؛ لأنها غير نامية، فإذ جعلها بستاناً صارت نامية، فجاءت الوظيفة الأصلية.
فأما إذا كانت أرضه في الأصل خراجياً، إذا جعل داره فيه بستاناً، فإنه يكون خراجياً لما ذكرنا في طرف العشر، ومن مشايخنا من قال: العبرة في هذا للماء، فإن كانت تسقى بماء العشر، فهي عشرية، وإن كانت تسقى بماء الخراج، فهي خراجية؛ لأن وظيفة الأرض بسبب النماء، وحياة الأرض، وحصول النماء بالماء، فإن كانت تسقى من هذا مرة، ومن هذا أخرى فالعشر أحق بالمسلم؛ لأن فيه معنى العبادة.
وكذلك أرض الخراج إذا انقطع عنها ماء الخراج، وصارت تسقى بماء العشر، فهي عشرية لما ذكرنا أن وجوب وظيفة الأراضي بسبب النماء، فإذا انقطع عنها ماء الخراج، وصارت تسقى بماء العشر كان النماء بسبب ماء العشر، وكذلك أرض الموات إذا أحييت(2/335)
بإذن الإمام بماء العشر، فهي عشرية، وإن فتحت عنوة في الابتداء هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، والمعنى ما ذكرنا، وهذا قول محمد.
فأما على قول أبي يوسف، فإن كانت هذه الأراضي التي أحييت في جزء أرض العشر فهي عشرية، وإن كانت في جزء أرض الخراج فهي خراجية؛ لأن جزء الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، لهذا لا يجوز إحياء ما في خير القرية بحق أهل القرية، ويجوز لصاحب الدار الانتفاع بجزئه.
جئنا إلى بيان معرفة الماء، فنقول: ماء البئر التي حفرت في أرض العشر، وماء العين التي تظهر في أرض العشر؛ لأنه يخرج من الأرض، فإذا كانت الأرض عشرية كان الماء الخارج منها عشرياً تبعاً للأرض، وكذلك ماء السماء، وماء البحار العظام عشري؛ لأن الخراج من حكم الغنيمة، والغنيمة اسم لما كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدينا بطريق القهر والغلبة، ولم تثبت أيدي الكفرة على ماء السماء، ولا على ماء البحار العظام؛ لأن ثبوت اليد على الماء إنما يتحقق بإمكان القنطرة، أو بإمكان السكر، أو بعقد الشقف بعضها ببعض حتى يصير بمنزلة القنطرة، وهذا الإمكان لا يثبت في ماء البحار وماء السماء، وإذا لم تأخذ هذه المياه حكم الغنيمة لم تكن خراجياً فتكون عشرياً؛ لأن العشر ليس من حكم الغنيمة.
فأما ماء السيحون، وماء الجيحون، وماء الفرات، فذكر المشايخ في شرح كتاب الزكاة من «الأصل» : أن على قول أبي يوسف خراجي، وعلى قول محمد عشري، وذكر محمد في أول كتاب «العشر والخراج» أنه خراجي، فإنه ذكر أن كل أرض تسقى بماء دجلة والفرات، فهي خراجية، وروي عن أبي حنيفة في «النوادر» أنه خراجي، وهكذا روي عن أبي يوسف في «النوادر» أيضاً، وروي عن محمد في «النوادر» أيضاً أنه عشري، فقيل أن يكون المذكور في كتاب «العشر والخراج» قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ويحتمل أن يكون قول الكل، فيكون في المسألة روايتان عن محمد، وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، أو يكون ما ذكر في «الكتاب» ، أي في كتاب «العشر والخراج» تأولاً على قول محمد، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله، وتأويله إذا كان الأرض بحالة بأن سقيها بماء الخراج، فسقيت بماء دجلة أو الفرات، وكل أرض خراجية يمكن سقيها بماء الخراج، إذا سقيت بماء العشر، فهي عشرية.
الفصل السادس في التصرف فيما يخرج من الأرض من الطعام، وفي التصرف في العشر
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان للرجل أرض عشرية، وأخرجت طعاماً، فباع الطعام قبل أن يؤدي عشره، ثم جاء صاحب العشر يعني المصدق، والطعام عند المشتري كان للمصدق أن يأخذ من المشتري عشر الطعام، ذكر المسألة ههنا مطلقة،(2/336)
وذكر في مسائل الزكاة أن المصدق، إذا جاء قبل أن يتفرقا عن مجلس العقد يتخير: إن شاء أتبع البائع، وإن شاء أتبع المشتري، وإن جاء بعدما تفرقا عن مجلس العقد، ففيه قياس واستحسان، فمن مشايخنا من قال: ذكر القياس والاستحسان عن ذكره ههنا، ومنهم من قال: الجواب هنا على الإطلاق، وللمصدق خيار أن يتبع المشتري على كل حال.
والفرق على قول هذا القائل بين الزكاة والعشر أن في باب العشر الحب كما نبت نبت على أن يكون العشر للفقير، وتسعة أعشاره للمالك؛ لأنه أوجب باسم العشر، وهذا الاسم ينبي عن الشركة، وأمكننا أن نجعل قدر العشر ملك الفقير قبل التسليم؛ لأن الأصل في العشر معنى المؤونة، ومعنى العبادة فيه تابع، فحصل تصرف المالك في مال الغير بغير إذنه فسد حق الفسخ على كل حال بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة، فلا يمكننا أن نجعل قدر الزكاة ملكاً للفقير قبل التسليم، إذ يفوت به معنى العبادة، وإنما الثابت للفقير والساعي قبل التسليم حق الأخذ، فأما الملك في قدر الزكاة فللمالك، فلاعتبار حق الأخذ للساعي أثبتنا له حق الفسخ، إذا وجده قبل التفرق عن مجلس لعقد.
وفي «المنتقى» : إذا وجب العشر في الطعام، وباعه السلطان من رب الأرض، ومن غيره من غير أن يقضيه يجوز قال: لأنه شريك فيه بالعشر، ولا يجوز ذلك في صدقة السوائم؛ لأنه ليس بشريك فيها.
وفيه أيضاً: لو مر على عاشر بمائتي درهم، فوجب له فيها خمسة دراهم، فباعها من صاحب المال بدينار، وقضى الدينار جاز، وهذا بمنزلة الصلح، ولو باعه من غيره لم يجز، ولا يشبه هذا عشر الطعام، واستشهد فقال: ألا ترى أن هذا قد يموت قبل أن يؤخذ عشرة دراهم، فلا يؤخذ، (149أ1) وإن هذا بطل بالدين يكون عليه، ولا يبطل عشر الطعام بموت صاحبه، ولا بالدين وغيره، وذكر عن محمد بعد هذا: إن عشر الطعام بمنزلة زكاة السائمة، ولا تبعية من رب الأرض، ولا من غيره حتى يقضيه وليس بشريك فيه، وكذلك قال بعد هذا في عشر مائتي درهم إذا باعه منه بدينار أنه لا يجوز.
وإن قال: خذ هذا الدينار من الخمسة التي يكون فيه حبيبه علي فهو جائز، وكذلك لو أخذ منه مكان عشر الطعام على غير بيع، فهو جائز، وإذا عجل عشر الأرض، أو عجل عشر الثمار، فقد ذكرنا هذه الفصول بتمامها في فصل تعجيل الزكاة، وإذا ترك السلطان عشر الأرض لرب الأرض لا يجزئه بلا خلاف في زكاة العيون.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : من عليه العشر إذا صرف العشر إلى نفسه لا يجوز، ولا يبرأ عن العشر فيما بينه، وبين الله تعالى، ومن عليه الخمس، إذا صرف الخمس إلى نفسه، وكان فقيراً يجوز، ويخرج عن عهدة الخمس فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا صرف من عليه العشر العشر إلى أبيه، أو ابنه، فإنه لا يجوز؛ لأن صرفه إلى هؤلاء كالصرف إلى نفسه.(2/337)
وفي «مجموع النوازل» : سئل أبو القاسم عن أرض جبل يأخذ عشرها دهقان دون السلطان قال: إن كان الدهقان يأخذون بأمر السلطان جاز أخذه، وسقط عنهم العشر، وليس لصاحب الطعام أن يأكل الطعام قبل أن يؤدي عشره؛ لأن قدر العشر ملك الفقراء، والله أعلم.
الفصل السابع في المتفرقات
قال الكرخي في «كتابه» : يؤخذ العشر من جميع ما أخرجته الأرض، ولا يحتسب لصاحبها ما أنفق على الغلة من سقي، أو عمارة، أو أجرة حافظاً، وأجر العمال، ولا نفقة الثغور.
وفي «الأصل» : ولا يجتمع العشر والخراج في الأرض واحدة، سواء كان الأرض عشرية أو خراجية، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، والمعنى فيه: أن سبب وجوب الخمس واحد، وهو الأرض النامية، ولهذا يضاف كل واحد منهما إلى الأرض. يقال: عشر الأرض وخراج الأرض، والحكم أبداً يضاف إلى سببه.
قلنا: لا يجب حقان لله تعالى بسبب واحد، ولو اشترى أرض عشر، أو خراج للتجارة، ففيها العشر، والخراج يكون إنما زكاة التجارة.
وروي عن محمد: أنه جمع بين العشر والزكاة في الإيجاب، وإذا صرف العشر إلى صنف واحد يجوز، وكذا إذا صرفه إلى واحد يجوز؛ لأن العشر نوع صدقة كالزكاة، وقد ذكرنا وجه الكلام في الزكاة في مسائل الزكاة، ولا يسقط العشر بموت من عليه في ظاهر رواية أصحابنا، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط.(2/338)
كتاب الخراج
هذا الكتاب يشتمل على ثمانية فصول:
1 * في بيان نوعه.
2 * في بيان أراضي الخراج.
3 * في بيان مياه الخراج.
4 * في بيان مقدار الخراج.
5 * في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب عليه.
6 * في الأسباب الموجبة لسقوط الخراج.
7 * في تعجيل الخراج.
8 * في المتفرقات.(2/339)
الفصل الأول في بيان نوعه
فنقول: في الخراج نوعان: خراج الأراضي، وخراج الروس، ويسمى ذلك جزية فبذا ثنتان.
خراج الأراضي: وإنه نوعان خراج وظيفة، وخراج مقاسمة.
فخراج المقاسمة صورته: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً، أو عنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويقاسمهم في زروع أراضيهم، وثمار كرومهم على النصف والثلث والربع، وهذا النوع من الخراج بفعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي «أنه عليه السلام، فتح خيبر قسم بعض أراضيه بين الغانمين، ومنّ عليهم بالبعض، ووضعهم في زروع ما منّ عليهم أرزاقاً لأهله» .
وخراج الوظيفة صورتها: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً وعنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويوظف على الأراضي مقداراً معلوماً من الدراهم والدنانير، أو أقفزة معلومة من الطعام، وهذا النوع من الخراج عرف بقضاء عمر رضي الله عنه، «فإنه حينما فتح سواد العراق، أراد أن يوظف هذا النوع من الخراج، فاستسلمت الصحابة له إلا شرذمة قليلون، مثل بلال وغيره، ثم ندموا، ورجعوا إلى رأيه، وبعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف يقسمان الأراضي، وأمرهما أن يفرضا على كل جرين من جرين أرض الزرع درهماً، وعلى كل جرين أرض من أرض الكرم عشرة دراهم، وعلى كل جرين من أرض الرطبة خمسة دراهم ففعلا، فلما رجعا قال لهما عمر رضي الله عنه: لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق فقالا: لا بل حملناها ما تطيق، ولو زدنا لما ضاقت، فسكت عمر رضي الله عنه، وقرر على ذلك بمحضر من الصحابة» .
وروي أن عمر رضي الله عنه ندم عن ذلك، وأحب أن يزيد، فبعثهما من أخرى، وأمرهما أن يضعا على كل جرين من أرض الزرع مع الدرهم قفيزا بر، وفي رواية قفيزاً من زرع ذلك الأرض، وأن يضعا على كل جرين من أرض الرطبة مع الدراهم عشرة أقفزة من البر، وهذا فنصاب المقادير لا يثبت قياساً، إنما يثبت نصاً وسماعاً، وكأنه بلغ عمر رضي الله عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «في أشراط الساعة منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام دينارها ومدها، ومنعت مصر دينارها وإِرْدِبّها» وأراد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث الإخبار عما يكون(2/341)
بعده، فبهذا الحديث علم عمر رضي الله عنه: أن التقدير في الخراج على هذه........
الفصل الثاني في بيان أراضي الخراج
قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» أرض السواد كلها خراجية، وحدّها من عذيب إلى عقبة همذان طولاً، ومن عذيب إلى السواد عرضاً، وأراد به سواد العراق، وإنما صار سواد العراق خراجياً بقصة عمر رضي الله عنه على نحو ما بينا. قال: وكذلك (149ب1) ما في سواد العراق من أرض الجبل كأراضي طبرستان، ونحوها خراجية، عرف ذلك بفعل عمر رضي الله عنه، فإن عمر وظف الخراج على أرض الجبل، كما وظف على الأرض السواد، وكذلك كل أرض فتحت قهراً وعنوة، وتركت على أهلها خراجية، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق، وكذلك كل بلدة طلب أهلها من الإمام أن يقروا ذمة لنا، فإن الإمام يجيبهم إلى ذلك، ويضع على أراضيهم الخراج، وهذا لأن وظيفة الأراضي في الأصل كانت هو الخراج، وإنما ثبت النقل إلى العشر في بعض الأراضي بسبب إسلام المالك، فبدونه لا يثبت النقل، ويبقى خراجياً كما كان في الأصل.
وكذلك الإمام إذا نقل قوماً من أهل الذمة من بلدة إلى بلدة أخرى لمصلحة رآها، فإن الأراضي المنتقل إليها أراضي خراج بما ذكرنا، وكذلك الذمي، إذا اتخذ داره مزرعة، أو كرماً يوضع عليها الخراج؛ لأن الأراضي النامية لا تخلى عن وظيفة، والوظيفة إما العشر أو الخراج، ويقدر إيجاب العشر على الذمي، فيتعين الخراج.
قال بعض مشايخنا: وعلى قياس قولهما ينبغي أن يجب العشر إذا كانت الأرض في الأصل عشرية، كالذمي إذا اشترى أرضاً عشرية، وكذلك الإمام إذا فتح بلدة عنوة، وتردد بأن يمنّ عليهم برقابهم، وأراضيهم بالخراج، وبين أن يقسمها بين الغانمين، فوظف الخراج على الأراضي، ثم بدا له أن يقسمها بين الغانمين، فقسمها، فهي خراجية، وليس هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداءً؛ لأن الخراج وضع فيها قبل القسمة، وبدون القسمة لا يثبت الملك للغانمين فيها، ولذلك أرض عشرية انقطع عنها ماء العشر، وصارت تسقى بماء الخراج، فهي خراجية، وهذا قول محمد على نحو ما بينا، في جانب العشر، وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة ماء الخراج، وهو:(2/342)
الفصل الثالث في بيان مياه الخراج
فنقول: ماء الخراج ماء الآبار التي حفرت في أرض الخراج.
وماء العيون التي تظهر في أرض الخراج.
وماء الأنهار التي حفرتها الأعاجم كنهر يزدجرد.
ونهر الملك، وأشباهها؛ لأن هذه الأودية كما كانت في يد أهل الكفر، وصارت في أيدينا بطريق القهر والغلبة، فأخذ حكم الغنيمة، وأما سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات، فقد ذكرنا حكم مائها في مسائل العشر، فلا نعيده.
الفصل الرابع في بيان مقدار الخراج
فأما خراج الوظيفة، فقال محمد رحمه الله: في أرض الخراج على كل جريب يصلح للزراعة قفيز ودرهم، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الزعفران يقدر ما يطيق، أما أرض الزرع والكرم والرطبة، فالتقدير فيها من جهة عمر رضي الله عنه، وأما أرض الزعفران، فلم يرد فيها تقدير من جهة عمر؛ لأنه لم يكن بسواد العراق في ذلك الوقت، واعتبر فيها الطاقة، وهذا لأن الخراج توظيف بقدر الطاقة، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال: للذين مسحا سواد عراق لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق، فقد اعتبر الطاقة.
وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب العشر والخراج، ذكر في بعض الروايات: أن في أرض الزعفران قفيز ودرهم، والجريب اسم لستين ذراعاً بذراع الملك، وذراع الملك تسع قبضات، وذلك يرد على ذراع العامة بقبضة، هذه الجملة لفظ كتاب العشر والخراج.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده رحمه الله: إن قول محمد: الجريب اسم لستين ذراعاً في ستين ذراعاً، فكان عن جريبهم في أرضهم، وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها، بل جريب الأراضي يختلف باختلاف البلدان، فيعتبر في كل بلدة بتعارف أهلها، وأراد بذراع الملك ذراعاً، كان ينسب إلى ملكهم في زمانهم، وكان يزيد على ذراع العامة بقبضة، وكانت الأرض في ذلك الزمان تزرع بذراع الملك وفيه الأرض نحو الكرباس وأشباهه يزرع بذراع العامة، وأراد بالدراهم بوزن سبعة، وقد مر تفسيره في كتاب الزكاة، وأراد بالقفيز الصاع الذي كان على عهد رسول الله عليه السلام، وهو ثمانية أرطال بالعراقي، وهو أربعة أمنان، وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف، وقال: هو ثمانية أرطال وثلث رطل، وهو صاع أهل(2/343)
المدينة، وسيأتي ذلك في مسائل صدقة الفطر، وهذا القفيز يكون من الحنطة، هكذا ذكر في موضع من كتاب العشر والخراج، وذكر في موضع آخر منه، قال: ويكون هذا القفيز بما يزرع في ذلك الأرض، وهو الصحيح قال في كتاب العشر والخراج: وينبغي أن يكال هذا القفيز بزيادة حفنتين، وتكلموا في تفسير قوله يكال بزيادة حفنتين.
قال بعضهم تفسيره: أن يضع الكيال كفيه على جانب القفيز عند الكيل من الصبرة، ويمسك ما يقع في كفيه من الطعام، ونصف القفيز مع ما بحفنتيه في جوالق العاشر، وبعضهم قالوا: معناه أن يملأ الكيال القفيز، ثم يمسح أعلى القفيز في أعلاه من الحبات، ثم يصب القفيز في جوالق العاشر بما بحفنتيه في الصبرة، ويرميها في جوالق العاشر زيادة على القفيز، وإنما شرطنا زيادة حفنتين احتياطاً لحق الله تعالى، ليخرج عن حقه بيقين، وذكر في أرض الزعفران أن خراجها بقدر ما تطيق، ومعنى الطاقة يأتي بعد هذا إن شاء الله.
ثم هذا المقدر لا يجب (150أ1) في كل سنة إلا مرة واحدة، زرع المالك مرة واحدة، أو مراراً إلا أن عمر رضي الله عنه، لما وظف هذا المقدار في السنة مع علمه أن الأرض قد تزرع مرتين، علمنا بأن المعتبر أصل الزراعة لا المرات بخلاف خراج المقاسمة والعشر؛ لأن هناك الواجب جزء الخارج فيتكرر الوجوب بتكرر الخراج الوظيفة بخلافه.
ثم ما ذكرنا في مقدار الخراج، فذلك إذا كانت الأراضي تطيق ذلك، فأما إذا كانت الأراضي لا تطيق ذلك، بأن قل ريعها، فإنه ينقص عنه إلى ما يطيق، فالنقصان عن وظيفة عمر إذا كانت الأراضي تطيق الزيادة بأن كثر ريعها، هل يجوز؟ ففي الأرض التي صدر التوظيف فيها من عمر لا يجوز الزيادة بالإجماع، وإن أطاقت الزيادة، وهذا لأن المقادير لا يعرف توقيفاً وسماعاً، والظاهر أن عمر رضي الله عنه عرف هذا التقدير من جهة رسول الله عليه السلام، وفي بعض الآثار ما يدل على هذا، وهو حديث أبي هريرة على ما روينا، وكأنه أخذ التقدير من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، والتقدير الشرعي يتبع الزيادة. مع هذا رضي عمر بهذا المقدار.
أو نقول: الصحابة أجمعوا على هذا المقدار، وإجماع الصحابة حجة شرعاً، فيمنع الزيادة، وكذلك لو أن هذا الإمام وظف على أراضي مثل وظيفة عمر، ثم أراد أن يزيد على تلك الوظيفة ليس له ذلك، وإن كانت الأراضي تطيق الزيادة، وكذلك لو أراد أن يحولها إلى وظيفة أخرى بأن كانت الوظيفة الأولى دراهم، فأراد أن يحولها إلى المقاسمة، أو كانت الوظيفة الأولى مقاسمة، فأراد أن يحولها إلى الدراهم ليس له ذلك، فإن زاد عليهم على تلك الوظيفة، أو حولها إلى وظيفة أخرى، وحكم بذلك عليهم، وكان من رأيه ذلك، ثم ولي بعده والي يريد خلاف ذلك، فإن كان الأول صنع ما صنع بطيب أنفسهم، أمضى الثاني ما فعله الأول، وإن كان الأول صنع ذلك بغير طيب أنفسهم، فإن كانت الأراضي فتحت عنوة، ثم مَنَّ الإمام بها عليهم أمضى الثاني ما صنع الأول؛ لأن(2/344)
فعل الأول حصل في محل مجتهد فيه.B
بيانه: أن العلماء اختلفوا في الأراضي التي فتحت عنوة، ومنّ الإمام عليهم بها، منهم من قال: بأن الأراضي تصير للمسلمين ضرب عليهم الضرائب، وهكذا قالوا: سواد العراق إن جعل السواد بمنزلة العبيد للمسلمين، وجعل أراضيهم ملكاً للمسلمين، وما وضع عليهم، فهو كالضريبة التي يضربها المولى على عبده، وعبيدنا هم أحرار، والأراضي مملوكة لهم، وما يؤخذ منهم، فهو خراج كأهل بلدة من أهل الحرب ما...... مع الإمام على أن نجعلهم رقيق، فإن كان الأمر كما قال علماؤنا رحمهم الله: لا يجوز الزيادة، وإن كان الأمر كما قاله أولئك يجوز الزيادة، ويجوز التحويل؛ لأن للإمام ولاية نقل الجند من وظيفة إلى وظيفة، وأن يزيد على الوظيفة الأصلية، فإذا اجتهد الإمام حول أولئك، وحكم عليهم بالزيادة وبالتحويل، فقد حكم في فعل مجتهد فيه، فلا يكون للثاني أن يبطله بعد ذلك.
وإن افتتح الأراضي بالصلح قبل أن يظهر الإمام عليهم، وباقي المسألة بحاله، فالثاني ينقض فعل الأول؛ لأن فعله فعل في موضع لا يسوغ فيه الاجتهاد، لأن العلماء اتفقوا على أن هؤلاء أحرار، وأموالهم باقية على ملكهم، وليسوا بمنزلة العبيد للمسلمين إذ لم يوجد فيهم سبب الرق، والإمام أعطاهم الأمان بما شرط عليهم من الوظيفة، والتحويل والزيادة عليها تكون غدر بهم بالإجماع، فلم يقبل حكم الأول، فرده الثاني، بخلاف ما إذا فتحت الأراضي عنوة؛ لأن هناك وجد سبب الرق فيهم، وهو القهر والغلبة والاستيلاء، فيأتي الخلاف أن الإمام بالمن جعلهم أحراراً، أو جعلهم عبيداً للمسلمين على نحو ما بينا، الأراضي التي يريد الإمام توظيف الخراج عليها ابتداء، إذا زاد على وظيفة عمر رضي الله عنه على قول محمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف يجوز، وعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف لا يجوز، وهو الصحيح للمعنى الذي ذكرنا هذا هو الكلام خراج الوظيفة حيناً إلى خراج المقاسمة، فالتقدير فيه مفوض إلى الإمام، ولكن لا يزاد على نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج.
ثم إن محمداً رحمه الله يعتبر طاقة الأراضي في الخراج، ومعنى الطاقة أن لا يزيد الخراج نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج، إليه أشار في كتابه «العشر والخراج» .
وروى داود بن رشيد عن محمد: في معنى الطاقة أن يترك لكل رجل من أصحاب الأراضي من زرعه ما يقوته، ويقوت عياله، ويذره في أرضه، إلى أن يعود الزرع من قابل، وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام معنى الطاقة في أرض الزعفران فقال: ينظر إلى ما خرج من جريب الأرض من الزرع كم قيمته، فإن كان قيمته مائة ينظر إلى الواجب فيه،(2/345)
وهو قفيز ودرهم كم يبلغ؟ فإن كان يبلغ أربعة بأن كان قيمة القفيز ثلاثة عرفت أن الواجب في المائة أربعة دراهم، ثم ينظر أن الخارج من الزعفران كم قيمته؟ فإن كان قيمته مائة يجب فيه أربعة، وإن كان قيمته (150ب1) مائتين يجب فيه ثمانية، فعلى هذا القياس يجب.
الفصل الخامس في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب
كل من ملك أرض الخراج يؤخذ منه الخراج كافراً كان، أو مسلماً صغيراً كان، أو مكاتباً، أو عبداً مأذوناً، رجلاً كان أو امرأة؛ لأن الخراج مؤنة محضة، وهؤلاء من أهل إيجاب المؤن عليهم، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب «العشر والخراج» : وليس في النخيل والشجر شيء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه إنما في النخيل والشجر في سواد العراق، ومضى المسألة إذا كان حول المزرعة أشجار، إلا أن لا تكون ملتفة بحيث يمكن زراعة ما تحتها، فإنه لا يجب بسبب الأشجار والنخيل وظيفة أخرى زيادة على خراج الأرض، فأما إذا كان في نفس المزرعة، فبعض المزرعة أشجار ملتفة بحيث لا يمكن زراعة من تحتها. ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» من أصل: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم، ولم يذكر أن هذا قول مَن.
وفي «النوادر» عن أبي يوسف: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم مثل ما ذكر محمد في «الأصل» ، وذكر محمد في «نوادر الزكاة» ، وفي «الجامع الصغير» أن على قوله يوضع على كل جريب بقدر ما يطيق، وبين ذكر محمد من قوله في «النوادر» وفي «الجامع الصغير» أن المذكور في الأصل قول أبي يوسف.
وجه قول محمد: أنه لم يرد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر، لأن الذي ورد منه ثلاثة مقادير؛ جريب الأرض قفيز ودرهم، وفي جريب الرطبة خمسة دراهم، وفي جريب الكرم عشرة دراهم، ففي الأشجار الملتفة يوضع بقدر الطاقة، لما مر أن المعتبر في الخراج الطاقة.
ووجه قول أبي يوسف: أنه ورد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر رضي الله عنه، فإنه روي أنه وظف على جريب النخل عشرة دراهم.
ونقول: الأشجار الملتفة في معنى الكرم؛ لأنها تسمى بستاناً فيما بين الناس، والبستان في معنى الكرم، فالمعنى الوارد في الكرم يكون وارداً في البستان، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل له أرض خراج عطلها، فعليه الخراج؛ لأنه قصد الإضرار بالمقابلة بإبطال حقهم في الخراج، فيرد عليه قصده، وذلك بإبرام الضمان، وقال في كتاب «العشر والخراج» من أصل: لو أن أرضاً من أراضي الخراجية عجز عنها صاحبها، وعطلها، وتركها للإمام أن يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي خراجها، وأراد(2/346)
بقوله: من يقوم عليها، ويؤدي خراجها: من يعمل فيها بالخراج يأخذ الأرض، ويزرعها، ويؤدي الخراج من الغلة، ويمسك الباقي لنفسه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب في هذه المسألة أن يؤجر الإمام الأرض أولاً وما ويرفع عنه قدر الخراج، ويمسك الباقي لرب الأرض، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» ؛ وهذا لأن الإمام نصب ناظراً لكل، وتمام نظر في الإجارة أولاً حتى لا يزول ملكهم مع اتصال حق المقابلة إليهم، فإن كان لا يجد من يستأجرها، فدفعها مزارعة بالثلث، أو الربع على قدر من يوجد مثل ملك الأرض مزارعة، فيأخذ (مقدار) الخراج من نصيب صاحب الأرض، ويمسك الباقي على رب الأرض، فإن كان لا يجد من يأخذها مزارعة يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي الخراج عنها، وعن هذه المسألة قلنا: أن للسلطان إذا دفع أراضي مملكة إلى قوم ليعطوا الخراج جاز، وطريق الجواز أخذ إلى إقامتهم مقام الملاك في الزراعة، وإعطاء الخراج والإجارة تقدير الخراج، ويكون المأخوذ منهم خراجاً في حق الإمام أجرة في حقهم.
قال: وإن لم يجد الإمام من يعمل فيها بالخراج يبيعها ويرفع الخراج عن ثمنها، ويحفظ الباقي على رب الأرض، وإنما كان كذلك؛ لأن الإمام نصب ناظراً للمسلمين وينظر رب الأرض، والمقاتلة في الترتيب الذي قلنا قبل ما ذكر أن الإمام يبيع الأراضي قول أبو يوسف، ومحمد، وأما على قول أبي حنيفة، ينبغي أن لا يبيعها؛ لأن الخراج دين، وأبو حنيفة لا يرى بيع مال المديون بغير رضاه؛ لأن في بيع ماله حجر عليه، وأبو حنيفة لا يرى الحجر على الحر.
وقيل: هذا قول الكل، وهو الصحيح؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر في موضع يعود بنفعه إلى العامة كالحجر على الطبيب الجاهل، ومنفعة الحجر هنا عائدة إلى عامة المسلمين، فيجوز البيع على قول الكل من هذا الوجه.
وذكر في بعض الكتب في هذه المسألة؛ أن الإمام يشتري ثيراناً، وأداة الزراعة، ويدفعها إلى إنسان يزرعها، فإذا حصل الغلة نأخذ منها قدر الخراج، وما أنفق عليها، وحفظنا الباقي على رب الأرض، وقال أبو يوسف: يقرض الإمام صاحب الأرض من مال بيت المال مقدار ما يشتري به الثيران والأداة، ويأخذ منه حقه، ويكتب عليه بذلك كتاباً ليزرع، فإذا ظهرت الغلة أخذ منها الخراج، ومقدار ما أقرض من مال بيت المال، فيكون ديناً على صاحب خراج الأرض، قال: وإن لم يكن في بيت المال شيء يدفعها إلى من يقوم عليها ويؤدي خراجها، وهذا كله إذا كان رب المال عاجزاً عن الزراعة بأن كان معسراً، فأما إذا كان غنياً، فالإمام يتقدم إليه، ثم لا تزرع أرضك، ولا يجيزه على العمل، ولكن يأخذ الخراج منه لترك زراعتها مع الإمكان؛ ثم إذا كان رب الأرض عاجزاً(2/347)
عن الزراعة، وصنع الإمام بالأرض ما ذكرنا، ثم عادت قدرته، وإمكانه من العمل والزراعة يستردها الإمام ممن هي في يده، ويردها على صاحبها، إلا في البيع خاصة؛ لأن بالبيع قد زالت عن ملك صاحبها.
رجل له أرض خراج باعها من غيره فهذه المسألة على وجهين:
الأول: (151أ1) أن تكون الأرض فارغة، والجواب في هذا الوجه أنه، إن بقي من السنة مقدار ما يقدر المشتري على زراعتها قبل دخول السنة، فالخراج على البائع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «النوادر» ، فإنه ذكر في «النوادر» : إذا غرق أرض الخراج، ثم نضب الماء عنها، إن نضب الماء عنها في وقت يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فعليه الخراج، وإن نضب الماء عنها في وقت لا يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية لا يجب الخراج، ثم اختلف المشايخ فيما بينهم أن المعتبر زرع الحنطة، والشعير، أو أي زرع كان؟ فالفقيه أبو نصر رحمه الله يعتبر أي زرع كان، والفقيه أبو القاسم يعتبر زرع الحنطة أو الشعير، وكذلك اختلفوا أنه هل يشترط إدراك الريع بكماله؟
بعضهم شرطوا، فقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يتمكن المشتري من أن يزرع الأرض، ويدرك ريعها قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فالخراج على المشتري، وإن كان بخلافه فلا خراج عليه، وإلى هذا القول مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وبعضهم لم يشترطوا إدرك الريع بكماله، وقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض أي زرع، فتصير قصيلاً، فتبلغ قيمته قدر الخراج، ومثله يجب الخراج على المشتري، وإن كان بخلافه، فالخراج على البائع.
وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يختار إن بقي من السنة تسعون يوماً، فالخراج على المشتري، وإن كان أقل من ذلك، فالخراج على البائع، وهذا منه اعتبار زرع الدخن، وإدراك الريع بكماله، فإن ريع الدخن يدرك في مثل هذه المدة.
الوجه الثاني: إذا كانت الأرض مزروعة، فإن كان الزرع لم يبلغ بعد، فالخراج على المشتري على كل حال. وذكر في «نوادر مختصر عصام» وإن كان الزرع قد بلغ، وانعقد الحب كان هذا، وما لو باع أرضاً فارغة في حق هذا الحكم سواء، ويعتبر في ذلك المدة، ويكون هذا بمنزلة ما لو باع حنطة من تبنه مع الأرض.
في آخر زكاة «فتاوى أبي الليث» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له أرض خراج باعها من رجل، ومكث عند المشتري شهراً، ثم باعها المشتري من رجل آخر، ومكث عنده شهر أيضاً، ثم وتم يبيع كل مشتري بعد شهر له حتى مضت السنة، فليس على واحد منهم خراج وإنه ظاهر؛ لأنه لم يكن في يد كل منهم مقدار ما يتمكن من الزراعة، حتى لو كان في المشتري الآخر مقدار ما يتمكن من الزراعة على حسب ما اختلفوا، يجب الخراج عليه.
وإذا كان للأرض ريعان خريفي، وربيعي، وسلم الواحد منهما للبائع، والآخر(2/348)
للمشتري، أو تمكن كل واحد منهما من تحصيل أحد الريعين لنفسه، فالخراج عليهما، هكذا ذكر صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» .
قال محمد في كتاب «العشر والخراج» : ولو أن رجلاً له أرض خراج، وهي سبخة، لا تصلح للزرع، ولا يبلغها الماء، وهي مما يصلح أن يعالج ويزرع، فعلى صاحبها الخراج، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من به من هذا أن الخراج إنما لا يجب بشرطين أن ينقطع الماء عنها، وإن غلب عليها السبخة حتى أنه إذا انقطع الماء عن أرض، وأنها ليست بسبخة، أو كانت سبخة إلا أنه يصل الماء عليها يجب الخراج، وهذا لأن الأرض، وإن كانت سبخة إذا كان الماء يصل إليها، ولا ينقطع يمكن زراعتها وعمارتها؛ لأن عمارة الأراضي بالماء، والسبخة تزول إذا غرقت بالماء، والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وكذلك إذا انقطع الماء عن الأرض إلا أنها ليست بسبخة يمكن زراعتها؛ لأن السماء تسقيه، والأنهار،....... والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وعن هذا قلنا: إن ماء الخراج إذا انقطع عن أرض عاماً واحداً وعامين، فالخراج لا يسقط، لأن السماء تسقيه فينزل ذلك منزلة النهر.
فأما إذا كانت الأرض سبخة، والماء لا يصل إليها لا يجب الخراج؛ لأن الأرض السبخة، لا يمكن معالجتها وعمارتها بماء السماء، فلا يثبت التمكين من الزراعة، ثم اختلفت..... في هذه الصور، في بعضها، أن الخراج لا يجب، وفي بعضها أن الخراج يجب، والمشايخ وقفوا، فقال: موضوع المسألة في السبخة التي فيها وجوب الخراج أن يكون السبخة قليلة بأن يكون السبخة في جانب واحد من جوانب الأرض، وعامة جوانبها صالحة للزراعة، وهذا لا يوجب سقوط الخراج؛ لأن هذا يؤخذ في عامة الأراضي، وموضوع المسألة في السبخة التي فيها نفي الوجوب أن السبخة تكون عالية على الأرض كلها، وسقوط الخراج في هذه الصورة ظاهر.
وكذلك لو لم تكن الأرض سبخة في الأصل وتركها حتى صارت سبخة، فلا خراج فيها بعدما صارت سبخة، وكذلك إن كانت الأرض ذات بر لا يخرج شيئاً، فلا خراج فيها، ذكر هذين الفصلين صدر الإسلام رحمه الله.
قال ثمة أيضاً: رجل له أرض غرس مائة جريب منها كرماً، وهي مما لا يقلع سنين، ولا مما..... لا قليلاً ولا كثيراً، فإن عليه فيه ما يجب في الأرض تزرع في كل جريب قفيز ودرهم، ولا يجب عليه خراج الكرم؛ لأنه ما لم يدرك كرماً، فهو كرم اسماً لا حقيقة، وأما عليه خراج المزارع، وإن لم يبق ممكّناً من الزراعة؛ لأن فوات التمكين كان لمعنى من جهته، فيبقى على ما كان في الأصل، فإن بلغ الكرم وأثمر، وكان قيمة الخارج يبلغ عشرين درهماً فصاعداً، فعليه خراج الكرم عشرة دراهم في كل جريب، وإن كان قيمة الخارج أقل من عشرين درهماً، (151ب1) فإنه يؤخذ منه قفيز ودرهم؛(2/349)
لأنه لو لم يزرع فيها شيئاً يؤخذ منه قفيز ودرهم، فإذا زرع وخرج شيء قليل أولى.
وذكر في بعض روايات، أنه إذا كان الخارج أقل من عشرين درهماً يؤخذ منه قفيز ودرهم؛ لأنه قد كان فيها قفيز ودرهم، فيبقى ذلك حتى يحصل له ريع الكرم عادة ذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» : إذا زرع في الأرض الخراج الأشجار التي ليست لها ثمرة مثل الحلاف وأشباهه، ففيها قفيز ودرهم، إذا كان جريناً؛ لأنها في معنى الزرع؛ لأنها تقطع وتباع.
وذكر أيضاً: إذا غرس نخيلاً وأشجاراً أخرى مثمرة تلتف في جميع الأرض، وهي جرين ففيها عشرة دراهم، وإن لم يبلغ، هكذا ذكر في بعض الروايات بخلاف شجر الكرم؛ لأن شجر الكرم ليس لها قيمة كثيرة، بل قيمتها مثل قيمة الزرع، فيجب فيها ما يجب في الزرع إلى أن يبلغ، فإن قيمة الأشجار والنخيل المثمرة كثيرة مثل قيمة الكرم المدركة، فيجب فيها ما يجب في الكرم المدركة، وإذا استأجر الرجل أرضاً، وزرعها أو استعار أرضاً وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فالخراج على الأجر والمعير؛ لأن الخراج الوظيفة وعُدَّ به معتمد التمكن من الزراعة، وصاحب الأرض يمكن من الزراعة ههنا؛ لأن المستأجر والمستعير إنما تمكنا من ذلك بتمكنه.
وإن غصب من آخر أرضاً، وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فإن لم تنقص الزراعة الأرض، فالخراج على الغاصب؛ لأنه بقدر إيجابها على المالك أمكن إيجابها على الغاصب، بيانه: أن وجوب خراج الوظيفة إن كان يعتمد سلامة الخارج، فالخارج لم يسلم للمالك لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأنه لم يسلم له بدل ما استوفى الغاصب من منفعة الأرض شيء، فهي لم تنقص الزراعة الأرض حتى يجعل سلامة البدل له كسلامة المبدل، فإن كان يعتمد التمكن من الزراعة، فالمالك لم يتمكن من الزراعة؛ لأن الكلام فيما إذا كان الغاصب جاحداً، ولم يكن للمالك بينة عادلة حتى لو كان الغاصب مقر، وكان للمالك بينة عادلة، فقد اختلف المشايخ.
قال بعضهم: يجب الخراج على المالك.
وقال بعضهم: يجب على الغاصب على كل حال، وإن تمكن المالك من الزراعة، إلا أنه يسقط التمكن إذا خرج الحب، ويتعلق الواجب بالحب، ألا ترى أنه يسقط الواجب إذا فات الحب من غير صنع صاحب الأرض ورضاه بأن اصطلم الزرع آفة؟ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وروي عن أبي يوسف أن الخراج على المالك في هذه الصورة، وأما إذا أنقصتها الزراعة غرم الغاصب النقصان، وعلى قول أبي حنيفة: الخراج على رب الأرض؛ لأن الخارج قد سلم للمالك اعتباراً حيث سلم له بدله، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن محمد روايتان:
في رواية، قال: إن كان النقصان أقل من الخراج، فالخراج على الغاصب، ويدخل في ذلك النقصان حتى لا يضمن الغاصب لرب الأرض نقصان الأرض.
وإن كان النقصان مثل الخراج وأكثر منه، فالخراج على رب الأرض.(2/350)
وفي رواية قال: بمقدار ما حصل من ضمان النقصان يجب على رب الأرض والباقي على الغاصب، وهو رواية عن أبي يوسف.
في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل اشترى أرضاً خراجية، وبنى فيها داراً، فعليه الخراج، وإن لم يبق متمكناً من الزراعة؛ لأن التمكن إنما فات بصفة، وسيأتي في الفصل الذي يليه بخلاف هذا.
الفصل السادس في بيان الأسباب الموجبة لسقوط الخراج
قال محمد رحمه الله: إذا زرع الرجل أرضه الخراجية، فأصاب زرعها آفة فاصطلمه، فلا خراج عليه، فرق بين هذا، وبينما إذا لم يزرعها.
والفرق: أن الذي لم يزرعها قصد الإضرار بالمقاتلة، فيرد عليه قصده، فأما الذي هلك زرعه لم يقصد الإضرار بالمقاتلة بل بذل جهده وأتى بما في وسعه؛ ولأن وجوب الخراج باعتبار النماء فقضية هذا يكون الحكم متعلقاً بحقيقة النماء، إلا أن الشرع أقام التمكن من تحصيل النماء؛ لكونه مفضياً إلى النماء مقام حصول النماء في موضع قصر في تحصيل النماء كما أقام التمكن من استيفاء المنفعة، في باب الإجارة مقام استيفاء المنفعة، وإذا زرعها، وخرج الحب تعلق الحكم بحبه الخارج، وسقط اعتبار التمكن واعتبار السبب، هذا هو الأصل المعهود في الشرع، إن حقيقة العلة مع السبب الظاهر إذا اجتمعا يتعلق الحكم حقيقة بالعلة لا بالسبب أن السبب في معنى الخلف بعد وجود الأصل وإذا تعلق الواجب حقيقة بالخارج في هذه الحالة أشبه العشر، وخراج المقاسمة، وذلك يسقط بهلاك الخارج ويسلم بسلامته كذا ههنا. هذا إذا ذهب كل الخارج، فأما إذا ذهب بعض الخارج، فإن بقي من الخارج مقدار الخراج بأن بقي مقدار درهمين وقفيزين يجب الخراج؛ لأن الخراج ههنا لا يزيد على نصف الخارج، فيمكن إيجابه إذ الشرع ورد بالخراج إلى نصف الخارج كما في خراج المقاسمة، وإن بقي أقل من مقدار الخراجِ ومثلِهِ لا يجب تمام الوظيفة، وإنما يجب قيمة نصف الخارج؛ لأنا لو أوجبنا الوظيفة بتمامها زاد الخراج على نصف الخارج والشرع لم يرد بمثله.
قال (152أ1) مشايخنا: والصواب في مثل هذا أن ينظر الإمام أولاً، إلى ما أنفق هذا الرجل في هذه الأرض، وينظر إلى الخارج، فيحتسب له ما أنفق، فيرفع أولاً من الخارج، فإن فضل شيء منه أخذ منه الخراج على نحو ما بينا.
قال مشايخنا: وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» ، أن الخراج يسقط بهلاك جميع الغلة محمول على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً، قبل دخول السنة الثانية، أما إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً قبل دخول السنة(2/351)
الثانية، فلم يزرعها لا يسقط عنه الخراج، ويؤيده مسألة «النوادر» على ما تقدم ذكرها.
وذكر القاضي الإمام المظفر رحمة الله عليه في «شرح كتاب العشر والخراج» أن الخراج إنما يسقط بهلاك الغلة إذا كان الهلاك بآفة سماوية لا يمكن التحرز عنها، كالحرق والغرق والبرد وغيرها، أما إذا كان الهلاك بآفة يمكن الاحتراز عنها، كأكل السبع ونحو ذلك، لا يسقط الخراج؛ لأن التقصير جاء من قبل صاحب الأرض، حيث لم يحفظ.
وبعض مشايخنا قالوا: لا خراج، وإن هلك بآفة يمكن التحرز عنها، والقول الأول أصح، ويسقط خراج الأراضي الموت من عليه إذا كان خراج وظيفة، في ظاهر الرواية من أصحابنا، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه لا يسقط، ورفع الفرق بين الخراج وبين العشر على ظاهر الرواية، وعلى رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة، فإن العشر لا يسقط بموت من عليه في ظاهر رواية أصحابنا، وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة يسقط، أما الفرق على رواية ابن المبارك أن العشر عبادة نظير الزكاة، ثم الزكاة تسقط بالموت، فكذا العشر، أما الخراج فليس بعبادة، بل مؤنة محضة والمؤنة لا تسقط بالموت، وأما الفرق على ظاهر الرواية، أن الخراج صلة تستحق على صاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض لا يسلم له عوض بإزاء ما يعطي، فيشبه من هذا الوجه نفقة الزوجات، فإنها تسقط بالموت، فكذا الخراج.g
فأما العشر فليس بصلة، بل هو في معنى الأعواض؛ لأن الخارج يجب شركاً بين صاحب الأرض، وبين الفقير، وما كان عوضاً لا يسقط بالموت كثمن المبيع، وما أشبهه.
وفي «الفتاوى» : إذا جعل الرجل أرضه الخراجية مقبرة، أو خاناً للغلة، أو مسكناً للفقراء سقط الخراج؛ لأن سبب الخراج أرض تصلح للزراعة، وقد انعدمت الصلاحية، فيسقط ضرورة.
خراج الأراضي إذا توالى على المسلمين سنون: فعند أبي يوسف ومحمد: يؤخذ بجميع ما مضى، وعند أبي حنيفة لا يؤخذ إلا بخراج السنة التي هو فيها، والاختلاف هنا نظير الاختلاف في الجزية، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير الصغير» ، وذكر صدر الإسلام: الصحيح أنه يؤخذ.
الفصل السابع في تعجيل الخراج
ذكر محمد رحمه الله في «نوادر الزكاة» : إذا جعل خراج أرضه لسنة أو سنين، فإنه يجوز؛ لأنه أدى الواجب بعد انعقاد سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب الخراج الأرض النامية، ومحله الذمة، وقد وجدنا بعقد السبب كما في باب الزكاة.
في «المنتقى» : رجل عجل خراج أرضه، ثم غرقت الأرض في تلك السنة، قال: يرد عليه ما أدى من خراجه، فإن زرعها في السنة الثانية حسب له، وعن محمد: في رجل أعطى خراج أرضه لسنين، ثم غلب عليها الماء، وصارت دجلة قال: يرد عليه إذا كان(2/352)
قائماً بعينه، وإن كان قد دفعه، فلا شيء عليه يريد به: إذا كان صرفه إلى المقاتلة، فلا شيء عليه، فقد راعى شرطاً، وهو كون المدفوع قائماً بعينه؛ لأن الخراج في حق المصروف إليه في معنى الصلة، والصلات إذا أمضيت لا يتبعها تبعة.
الفصل الثامن في المتفرقات
وإن وجوب الخراج عند أبي حنيفة رحمه الله أول السنة لكن بشرط بقاء الأرض النامية في يديه سنة، إما حقيقة، أو اعتباراً السلطان إذا جعل خراج الأرض لصاحب الأرض، وترك عليه يجوز عند أبي يوسف، وقال: أبو يوسف.... أن السلطان لو قبض الخراج من ضاحية الأرض، ثم رأى الصرف إليه أولى كان له ذلك ولا فائدة في أخذ ثم دفع، وقال محمد رحمه الله؛ لا يجوز، رواه ابن سماعة عنه، ويتبقى لمن عليه أن يؤدي ما عليه من الخراج، وإن جعل العشر لصاحب الأرض لا يجوز بالإجماع، محمد سوى بينهما من حيث أن الحق فيهما للعامة، فلا يجوز تخصيص البعض به.
وفي «نوادر هشام» : إذا جعل السلطان خراج الأرض لصاحب الأرض يجوز من غير ذكر خلاف، وعن أبي يوسف: السلطان إذا ترك الخراج لمن يعلم أنه ليس بمحل لصرف الخراج إليه ينبغي أن يجهز غادياً ويتصدق به على المساكين، وهذا لأن مصرف الخراج المقاتلة، وإن فضل، فالمصرف المساكين المتروك له قادر على الصرف إلى المقاتلة، وإلى المساكين فله ذلك.
وعنه أيضاً: والي الزكاة إذا ترك لرجل خراجه، فليجهز غازياً، أو يتصدق به على المساكين، وإلا لم يسعه، وأراد بوالي الزكاة العاشر ومن بمعناه، إذا فوض إليه أخذ الأخرجة، ولم يكن والياً مطلقاً عام الولاية، فترك الخراج منه لا يصح؛ لأن المفوض إليه مجرد الأخذ.
قال في كتاب «العشر والخراج» : إذا كان للرجل أرض خراج لا يسعه يأكل منها حتى يؤدي خراجها، قال بعض مشايخنا: هذا (152ب1) إذا كان الخراج خراج مقاسمة؛ لأنه بمعنى العشر بعض الخارج، فيصير أكله من غلة مشتركة، أما إذا كان الخراج خراج وظيفة، فهو يجب في الذمة لا تعلق له بالمحل، فكان الخارج حق صاحب الأرض على الخلوص، فيجعل له التناول، وبعضهم قالوا: وإن كان الخراج خراج وظيفة، فالجواب يكون كذلك أيضاً؛ لأن الخارج محبوس بالخراج، فإن للسلطان أن يحبس الغلة إلى أن يستوفي الخراج، فهو بمنزلة المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، ولا يحل للمشتري تناول المبيع قبل أداء الثمن، كذا هذا.(2/353)
قال في «الجامع الصغير» : إذا كان للرجل أرض زعفران، فترك الزعفران بغير عذر، وزرع فيها الحبوب يوضع عليه خراج الزعفران، وكذلك من انتقل إلى أحد الأمرين بغير عذر، بأن كان له كرم مثلاً، أو زرع فيها الحبوب، يؤخذ منه خراج الكرم؛ لأنه هو الذي صنع الزيادة، فصار كما لو عطل أرضه.
وفي كتاب «العشر والخراج» ، إذا أجر أرضاً تصلح للزراعة من الأراضي الخراجية من رجل، فجعلها المستأجر كرماً، ذكر في بعض الروايات: أن مقدار خراج المزرعة على رب الأرض، والزيادة إلى تمام خراج الكرم على المستأجر؛ لأنها إنما صارت كرماً بصنع المستأجر.
السلطان الجائر إذا أخذ خراج الأراضي خرج صاحب الأراضي عن العهدة؛ لأنهم يضعون الخراج مواضعها، وهم المقاتلة.
في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : السلطان إذا لم يطلب خراج الأرض، فعلى أصحاب الأراضي أن يتصدقوا به على الفقراء، ولو طلب السلطان الخراج وتصدق من عليه بنفسه لا يجزئه.
إذا اشترى أرضاً من أراضي الخراج، ولم يقبضها، أو قبضها، ولكن منعه إنسان عن زراعتها، فلا خراج عليه؛ لأن الخراج إنما يجب على المالك، ليتمكن من الزراعة وفي «فتاوى أبي الليث» : فيه خراج أراضيها على التعاون.
طلب من ثقل خراج أرضه تسوية خراج أراضي القرية، قال الفقيه أبو القاسم: إذا لم يعرف ابتداء وضع الخراج على هذه القرية أنه كان على التساوي أو على التفاوت ترك على حاله.
وفي كتاب «العشر والخراج» ، وينبغي للوالي أن يولي الخراج رجلاً يرفق بالناس ويعدل عليهم في خراجهم، وأن يأخذهم بالخراج كلما خرجت غلة، فيأخذهم بقدر ذلك حتى يستوفي تمام الخراج في آخر الغلة، وأراد بهذا أن يوزع الخراج على قدر الغلة، حتى إن الأرض إذا كان يزرع فيها غلة الربيع وغلة الخريف، فعند حصول غلة الربيع ينظر المتولي أن هذه الأرض كم تغل غلة الخريف بطريق الحزر والظن؟ فإن وقع عنده أنها تغل مثل غلة الربيع، فإنه ينصف الخراج، فيأخذ نصف الخراج من غلة الربيع، فيؤخر النصف إلى غلة الخريف، وهذا لأن وجوب الخراج باعتبار الريع، ولهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وبهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وكذلك يفعل في البقول ينظر إن كان مما يخرج خمس مرات يأخذ من كل مرة خمس الخراج، وإن كان مما يخرج أربع مرات يأخذ من كل مرة ربع الخراج، وعلى هذا القياس، فافهم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : ضيعة لرجل بعضها كروم، وبعضها قراح، فاشترى قوم الكروم، واشترى قوم القراح، فإن كان حصة الكروم من الخراج معلومة من الابتداء وحصة القراح، كذلك يبنى الحكم عليه، وإن كان خراج يخرج جملة ولا يعلم حصة(2/354)
الكروم، ولا حصة القراح من الابتداء، فإن كان الكرم كرماً من الابتداء لم يعرف إلا هو كرم، والأرض القراح كذلك كان على الكروم وعلى القراح، فإن كان الكل دراهم يقسم على قدر المنافع، فإن كان موضع الكرم قراحاً في الأصل، ثم جعل كرماً من بعد قسم الخراج على الأرض القراح، فإن الكل كذلك، والله أعلم.
وفي «مجموع النوازل» قال إبراهيم بن يوسف: سألت أبا يوسف عن رجل ارتد، ولحق بدار الحرب، والعياذ بالله، وله كروم، وأرض خراج وورق، ثم رجع مسلماً بعد الحول، والمال قائم، قال: ليس عليه في الدراهم شيء، ويؤخذ منه العشر والخراج. انتهى بيان النوع الأول، وهو خراج الأراضي بيقين.
جئنا إلى بيان النوع الثاني، وهو خراج الروس، فنقول: ترك الكافر في دار الإسلام بالجزية جائز عرف ذلك بالكتاب، وبفعل النبي صلى الله عليه وسلّم وإجماع الصحابة من بعده.
أما الكتاب بقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29) والأمر بقتال الكفرة إلى غاية إعطاء الجزية، فهذا يدلك على أن ترك الكفرة بالجزية جائز.
وأما فعل النبي عليه السلام؛ فلأنه ترك كثيراً من الكفار على الكفر بالجزية.
وأما إجماع الصحابة، فإن عمر رضي الله عنه «بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف لتوظيف خراج الأراضي، والروس بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً» .
بعد هذا يحتاج إلى معرفة من يقبل منه الجزية ومن لا تقبل، وإلى معرفة ما يجب عليهم، وإلى معرفة وقت وجوبه، وإلى معرفة ما يوجب سقوطه وإلى معرفة ما يؤاخذون به بعد صرف الجزية (153أ1) وقبول عقد الذمة.
أما بيان من تقبل منه الجزية.
فنقول: تقبل الجزية من جميع أهل الكتاب بلا خلاف سواء كانوا من العرب، أو من العجم، ولا تقبل من مشركي العرب، وعبدة الأوثان، والمرتدين بلا خلاف، وتقبل من مشركي العجم من عبدة الأوثان عندنا، وتقبل من المجوسي بلا خلاف، والمسألة تأتي في كتاب «السير» إن شاء الله تعالى.
وأما بيان ما يجب عليهم:
فنقول: أهل الذمة في حق ما يجب عليهم أنواع ثلاثة التغلبي والنصراني من النصارى وسائر أهل الذمة.
أما التغلب: ي فالواجب عليه الصدقة المضاعفة اتباعاً لصلح عمر رضي الله عنه معهم.
وأما النصراني: فالواجب عليهم الحلل اتباعاً لصلح رسول الله عليه السلام.
وأما سائر أهل الذمة قالوا: الواجب على المعتمل منهم الجزية على الترتيب الذي نبين بعد هذا، وتكلموا في معنى المعتمل والصحيح من معناه الذي يقدر على العمل، وإن لم يحسن حرفته، وإنما خصصنا القادر على العمل بإيجاب الجزية حتى لا تجب على المقعد، والأعمى والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الكسب؛ لأن الجزية لا تجب إلا على المقاتلين؛ لأنها عقوبة للمقاتلين، ولهذا لا يجب على النسوان والصبيان، وكذلك لا تجب على العبيد والمكاتب والمدبرين؛ لأنهم لا يملكون القتال شرعاً؛ لأنهم لا يملكون ماله قوام القتال، وهو البدن، فبسبب أن الجزية عقوبة المقاتلين، والذي لا يقدر على(2/355)
العمل لا يقدر على القتال، فلا يجب عليه الجزية، فشرطنا القدرة على العمل لهذا.
ثم القادر على العمل. إن كان معسراً، فعليه اثني عشر درهماً، وإن كان وسط الحال، فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان غنياً فعليه ثمانية وأربعون درهماً، وإنما اعتبرنا هذا الترتيب؛ لأن الجزية عقوبة باليد، والغني أمثل لهذه العقوبة من الفقير، فشرع في حق الغني أكثر مما شرع في حق الفقير استدلالاً بسائر العبادات المالية، فأصل التفاوت بتفاوت الغنى معقول، والتقدير اتبعنا فيه الشرع، وقد ورد أن الشرع بنى التقدير على الترتيب الذي بينا، فقد صح أن عمر رضي الله عنه حين بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى سواد العراق ليوظف الخراج، والجزية، وظفا الجزية على الترتيب الذي ذكرنا، وقدر عمر رضي الله عنه ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً، وتكلم العلماء في معرفة الغني والفقير والوسط.
حكي عن عيسى بن أبان أنه قال: الفقير المعتمل الذي لا مال له، وإنما يعيش بكسب يده في كل يوم، وإنما يؤخذ منه اثنا عشر درهماً، إذا كان يفضل شيء من كسبه عن قوته وقوت عياله، أما إذا كان لا يفضل شيء من قوته وقوت عياله، فإنه لا يؤخذ منه شيء، وهكذا ذكر في «النوادر» عن محمد.
وأما الوسط فهو الذي له مال إلا أن ذلك المال لا يكفيه مَدَّ عمره، فيحتاج إلى العمل في بعض الأوقات لرحبة عمره.
وأما الغني، فهو الذي له مال يكفيه لعمره من غير أن يعمل فيه.
وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يعتبر في كل بلدة عرفها، فمن عده الناس في بلدهم فقيراً أو وسطاً أو غنياً، فهو كذلك، وهو الأصح، وتؤخذ الجزية من قسيسهم ورهبانهم، هكذا ذكر في كتاب «العشر والخراج» ، وفي آخر «السير الكبير» أن عند أبي حنيفة تؤخذ، منهم الجزية، وعندهما لا تؤخذ ولا تؤخذ من المجنون والمعتوه.
وأما بيان وقت وجوب الجزية، فنقول: الجزية تجب بأقل الحول عندنا، حتى كان للإمام أن يطالبه بالجزية متى قبل عقد الذمة، والاستيفاء في آخر الحول بطريق التخفيف، والتأجيل عند أبي حنيفة، وهذا لأن الجزية خلف عن القتل، وبعقد الذمة سقط الأصل، فيجب خلفه في الحال غير أن الحول تخفيف وتأجيل عند أبي حنيفة، فيؤخذ في آخر الحول قبل دخول الحول الثاني.
وعن أبي يوسف أنه قال: يؤخذ في كل شهرين يقسط ذلك.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: يعامل على الجزية كالضريبة كلما مضى شهران، أو نحو ذلك أخذ منه شيء، ولا يؤخذ منه جميع ذلك حتى تتم السنة، وعن محمد أنه يؤخذ في كل شهر بقسطه.
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف إذا احتلم الغلام من أهل الذمة في أول السنة قبل أن توضع الجزية على رؤوس الرجال، وهو موسر، وضع عليه الجزية، وإن أسلم بعدما وضعت الجزية على رؤوس رجال لم يؤخذ عنه لتلك السنة، هذا الفصل بناءً على ما قلنا إن وجوب الجزية وتوظيفها في أول السنة، فراعى أهلية التوظيف في تلك الحالة،(2/356)
وعلى هذه المجنون يعتق، والمملوك يعتق، والحربي إذا صار ذمة أول السنة، أو آخرها.
وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا أغمي عليه، أو أصابه زمانة، وهو موسر أخذت منه الجزية، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف رواية «الأصل» ، معنى المسألة إذا أغمي عليه، أو أصابته زمانة في آخر السنة، فعلى رواية هذا الكتاب شرط أخذ الجزية أهلية الوجوب من أول الحول إلى آخره.
وأما بيان ما يوجب سقوطه، فمن جملة ذلك الموت، وإنه على وجهين:
إما أن يموت في بعض السنة، أو بعد تمام، وكيف ما كان لا يؤخذ من تركته؛ لأنها عقوبة الكفر وجبت للزجر عن الكفر، وهذا المقصود (153ب1) لا يتحقق بعد الموت، فيسقط ضرورة، وكذلك يسقط بالإسلام لما ذكرنا.
وفي «المنتقى» عن محمد: نصراني عجل خراج رأسه لسنتين، ثم أسلم قال: يرد إليه خراج سنة، وإن أدى خراج سنة، ثم أسلم في أول السنة لم يرد إليه، وهذه مسألة بناءً على ما قلنا: إن وجوب الجزية في الأولى لسنة، والخطاب بالأداء في آخر السنة، أو متفرق على أشهر السنة على حسب ما اختلفوا، فإذا أدى في أول سنة خراج هذه السنة، وخراج سنة أخرى على سبيل التعجيل، ثم أسلم ففي السنة الأولى وجد المانع من الوجوب قبل الوجوب، وفي هذه السنة عقوبة استوفيت بعد الوجوب، فلا يجب الرد.
قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» : قوم لم يؤخذ منه خراج رأسه على ما وظف حتى جاء سنة أخرى لا يؤدي، لما مضى عند أبي حنيفة.
وعندهما يؤخذ، ولعل المسألة أن الجزية إذا اجتمعت وتوالت تداخلت عند أبي حنيفة، وعندهما لا.
هما يقولان: إن امتداد المدة يؤكد السبب، وما يؤكد السبب لا ينافي حكم السبب.
بيانه: أن سبب الجزية الكفر، والكفر يتغلظ لطول المدة، ولأبي حنيفة أن الجزية في حق من تجب عليه عقوبة الكفر شرعت الزجر عن الكفر، وفي حق المصروف إليهم، وهم مقاتلة خلف عن النصرة بالبدل، فإن نظرنا إلى معنى العقوبة، فالعقوبات إذا اجتمعت تداخلت؛ لأن الزجر يحصل بالواحد؛ لأن الزجر لا يحصل في الماضي، وإنما يحصل في المستقبل، والواحد يكفي لذلك، وإذا عمي، أو صار مقعداً، أو شيخاً كبيراً لا يقدر على العمل لا يؤخذ لما مضى بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة فظاهر، وأما على قولهما؛ فلأن الجزية إنما تؤخذ بطريق العقوبة، وهؤلاء ليسوا من أهل هذه العقوبة.
وأما بيان ما يؤخذون به بعد ضرب الجزية وقبول عقد الذمة.
قال محمد رحمه الله: في آخر «الجامع الصغير» ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السرج كهيئة الأكف، وقال في كتاب «العشر والخراج» : وينبغي أن لا يترك أحد من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا مركوبه، ولا في(2/357)
زيه وهيئته، والمعنى: أنا لو تركناهم يتشبهون بنا في هيئة اللباس والمركب كنا متشبهين بهم، وقد نهينا عن التشبه بهم بقدر الإمكان، والإمكان في أصل اللباس إن لم يكن ثابتاً، ففي هيئة اللباس ثابت، فوجب المخالفة فيه؛ ولأنهم من أهل الصغار، والمسلمون من أهل العز، فيجب إظهار المخالفة في الزي، والهيئة ليقع التمييز بيننا وبينهم، فلا يذل المسلم، ولا يعز الكافر، ولأنا نهينا عن بدايتهم بالسلام والتحية. قال الله تعالى: {لا تتخذوا عدوي} إلى قوله: {تلقون إليهم بالمودة} (الممتحنة: 1) ، فلا بد من علانية يعرفهم كيلا يحسبهم مسلمين، فيبدأهم بالتحية، ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن من باب العز، وهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك بأن استعان بهم الإمام في المحاربة، والذب عن المسلمين، هكذا ذكر شيخ الإسلام.
وذكر صدر الإسلام: ويمنعون عن ركوب الأفراس الفاخرة؛ إلا الكوادن قال شيخ الإسلام: ولا يمنعون عن ركوب البغل، لأنه نتج الحمار، ولا يمنعون عن ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، ولكن يمنعون من أن يضعوا على المركب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمان، والأصل في هذا كله ما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أمراء الأمصار والجنود أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمين في ثيابهم ومركبهم» .
واختلفوا في قوله: وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل مقدم الأكاف وهو مثل الرمان، وقال بعض مشايخنا:..... أن تكون سروجهم كسروج المسلمين، وعلى مقدمها شيء كالرمان والأول أصح، فإنه أقرب إلى موافقة رواية «الجامع الصغير» .
قال: ويمنعون لبس الرداء والعمائم، والدباغة التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه تشدقاً، وينبغي أن يلبسوا ملابس مضربة، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وفي ديارنا لا يلبس الرجال النعال، وإنما يلبسون المكاعب، فيجب أن تكون مكاعبهم على خلاف مكاعبنا، وينبغي أن تكون خشنة فاسدة اللون، ولا تكون مزينة تحقيراً لهم، وينبغي أن يؤخذ..... يتخذ كل إنسان منهم بمثل الخيط الغليط يعقد على وسطه به أمر عمر رضي الله عنه، والمعنى فيه أن المقصود هو العلامة، ليقع التمييز بين المسلمين وبينهم، والغالب وقوع البصر على الوسط، وكان الوسط في تحصيل هذا المقصود أبلغ، وينبغي أن يكون ذلك من الخيط أو الصوف، ولا يكون من الإبريسم وينبغي أن يكون غليظاً، ولا يكون رفيعاً بحيث لا يقع البصر عليه، إلا وأن يدقق النظر قال شيخ الإسلام: أن يعتمد الخيط ويربط عقداً، ولا يجعل له حلقة يشده كما يشد المسلم المنطقة، ولكن يعلقون على الحقارة، واندفاع التلبيس في هذا أشد، ولا يتركون أن يلبسوا خفافاً مزينة، وينبغي أن تكون (154أ1) خفافهم خشنة فاسدة اللون.(2/358)
وكذا لا يتركون أن يلبسوا أقبية خشنة من كراس، أراد أنها طويلة وذيولهم قصيرة، وكذلك يلبسون قمصاً خشنة من كربيس جيوبهم على صدورهم كما يكون النسوان، وهذا كله إذا وقع الظهور عليهم، فأما إذا وقع معهم الصلح على بعض هذه الأشياء، فإنهم يتركون على ذلك، ثم اختلف المشايخ بعد هذا أن المخالفة بيننا وبينهم شرط بعلامة واحدة أو بعلامتين، أو بالثلاث، قال بعضهم: بعلامة واحدة إما على الرأس كالقلنسوة الطويلة المصرية، أو على الوسط، كالكستيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، لحصول ما هو المقصود وهو التمييز بالعلامة الواحدة، وقال بعضهم: لا بد من الثلاث؛ لأن التمييز لا يحصل بالواحدة لا محالة؛ لأن البصر قد يقع على الرأس لا غير، وقد يقع على الوسط لا غير، وقد يقع على الرجل لا غير، والمقصود هو التمييز وقت اللقاء وقت وقوع البصر عليهم حتى لا يعظمهم، فلا يبدئهم بالسلام، ومنهم من قال: في النصراني يكتفي بعلامة واحدة، وفي اليهود يحتاج إلى علامتين، وفي المجوس يحتاج إلى ثلاث علامات، وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، ووجه ذلك أن هذه العلامات تشعر بالذل والصغار، وإنما صاروا مستحقين للذل والصغار بالكفر، فيزداد بزيادة غلظ الكفر، وينتقص بخفة الكفر، وكفر المجوسي أغلظ من كفر اليهود، والنصارى؛ لأنهم أنكروا نبوة جميع الأنبياء، فشرط في حقهم ثلاث علامات زيادة في ذلهم وصغارهم، وكفر اليهود بعد ذلك أغلط من كفر النصارى؛ لأن اليهود يجحدون نبوة نبيين نبوة نبينا ونبوة عيسى.
والنصارى يجحدون نبوة نبي واحد، وهو نبينا، وكان كفر اليهود أغلظ، فشرط في حقهم علامتان، واكتفي في حق النصراني بعلامة واحدة، قال شيخ الإسلام: والأحسن أن يكون في الكل ثلاث علامات، ليقع الامتياز لا محالة، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: إن صالحهم الإمام، وأعطاهم الذمة بعلامة واحدة، لا يزاد عليها، وأما إذا فتح بلدة قهراً وعنوة كان للإمام أن يلزمهم بعلامات، وهو الصحيح.m
ولا يتركون حتى يحدثوا كنيسة أو بيعة، وبيت نار في مصر من أمصار المسلمين، قال عليه السلام: «لا كنيسة ولا بيعة في الإسلام» ؛ ولأن في إحداث البيع والكنائس في الأمصار إعلان دين الكفر، ونحن إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما كان في دينهم ولا يمنعون من إحداث الكنائس في القرى في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون من إحداث الكنائس في القرى، كما يمنعون من ذلك في الأمصار، وهكذا ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» ؛ لأن في إحداث الكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا عن إعلان دين الكفر في القرى كما يمنعون عنه في الأمصار، ألا ترى أنهم يمنعون من إظهار الخمور والخنازير ومنع الربا في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار؟ فكذا يمنعون عن إحداث الكنائس في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار.(2/359)
وظاهر رواية أصحابنا: أن إحداث الكنيسة والبيعة مباح بعينه؛ لأنه بناء وعمارة، والبناء والعمارة مباح في الإسلام، ولهذا لو وجد مثل ذلك من المسلمين كان مباحاً، وإنما تحريمه لأجل قصدهم هذا البناء المعصية، وكان حراماً لغيره، فلكونه حراماً لغيره منعوا عن إحداثها في الأمصار، ولكونه مباحاً لعينه لم يمنعوا عن إحداثها في القرى توفيراً على الشبهين حظهما، بخلاف بيع الخمر والخنزير؛ لأنه حرام ومعصية لعينه، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام، فأما إذا كانت الكنيسة قديمة، ففي القرى تترك القديمة بلا خلاف، وفي الأمصار كذلك يترك القديمة على رواية الإجارات، وعامة الكتب، وعلى رواية كتاب العشر لا يترك القديمة، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن، وعلى هذا إذا كان لهم كنيسة في قرية، فبنى أهلها فيها أبنية كثيرة، وصارت من جملة الأمصار أمروا بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وهكذا إذا كانت لهم كنيسة بقرب من المصر، فبنو حولها أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، أمرهم الإمام بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن بن زياد، والصحيح ما ذكر في عامة الروايات بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أيما أرض صَّر به العرب، فليس لأحد من أهل الذمة أن يبنوا فيها بيعة، ولا كنيسة ولا بيت نار وأن يبيعوا فيها خمراً أو أن يضربوا فيه بناقوس، وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» ؛ ولأنه جرى التوارث فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا، تترك الكنائس في الأمصار من غير (154ب1) نكير منكر، وتوارث الناس من غير نكير منكر حجة شرعاً.
ثم هذه الرواية فيما إذا ظهر الإمام عليهم من غير صلح، فأما إذا وقع الصلح بينهم، وبين الإمام قبل ظهور الإمام، فإن الكنائس تترك على حالها في الروايات كلها، المصر والقرى في ذلك سواء، ثم إذا كانت الكنائس قديمة حتى لم يكن للإمام هدمها ونقضها على عامة الروايات.
إذا انهدمت كنيسة كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث، بل هو إعادة الأول، وكأنه الأول، فلا يمنعون عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون من الزيادة؛ لأن في حق الزيادة إحداثاً.
قال في كتاب «العشر والخراج» : ولا يترك واحد منهم حتى يشتري داراً، ولا منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، وكذلك لا يترك واحد منهم حتى يسكن في مصر من أمصار المسلمين، وبهذه الرواية أخذ الحسن بن زياد، وعلى رواية عامة الكتب يمكنون المقام في دار الإسلام إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز، فإنهم لا يمكنون فيها.(2/360)
وجه رواية كتاب العشر ما روي أن رسول الله عليه السلام «أمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب» ، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أدع فيها إلا مسلماً» ، قال: فأخرجهم عمر رضي الله عنه، وعن علي رضي الله عنه «أنه أجلاهم من الكوفة» ، والمعنى في ذلك أنهم، لا يمكنوا من شري الدور، لا يشتري كل واحد منهم دوراً، أو منازل، فيؤدي إلى أن يصير جميع المصر لهم، ويخرج من أن يكون دار الإسلام، وإنه لا يجوز.
وجه ما ذكر في عامة الروايات قول ابن عباس رضي الله عنهما، «وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» وسكناهم في الأمصار كان قبل ذلك، فيوفي لهم بترك ذلك عليهم، وعن عمر رضي الله عنه أنه فتح بيت المقدس قهراً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد فتح مدينة وترك أهل الذمة فيها، وفتح أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، ولأنا أجمعنا على أنهم يتركون المقام في القرى من أرض العجم، وإنما يتركون، ليسمعوا كلام الله تعالى، فيقفون على مجلس الإسلام، وليروا عزة الإسلام، وعزة أهله، وربما يميل قلبهم إلى الإسلام، وهذا المعنى يقتضي تركهم في الأمصار من الطريق الأولى؛ لأن هذه الفائدة في الأمصار، أتم وأكمل، وما روي من الأخبار سوى خبر علي رضي الله عنه، فوجه الجواب عن التمسك بها أنها وردت في الأرض العرب.
ونحن نقول: أنهم لا يمكنون من المقام في أرض العرب، والنص الوارد بخلاف القياس في أرض العرب لا يكون وارداً في سائر الأمصار؛ لأن أرض العرب لها زيادة حرمة لمكان رسول الله عليه السلام فيهم ليست تلك الحرمة بسائر الأمصار، فالنص الوارد ثمة لا يكون وارداً هنا، وأما خبر علي رضي الله عنه، فهو محمول عندنا على أنه إنما أجلاهم من الكوفة، لمصلحة رأى في ذلك بأن عرف أنهم يقصدون بذلك أن يتملكوا جميع الكوفة، فتصير الدار لهم، ولا كلام فيما ينقله الإمام على سبيل المصلحة، فإنا نقول به.
فصل في تبين خراج الروس والأراضي
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا أراد أن يصالح أهل دار من ديار الحرب كل سنة على دراهم معلومة، وعلى كيل من الطعام معلوم، أو على عدد من الثياب معلومة عن أراضيهم وجماجمهم، فهو جائز، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام صالح أهل الحرب، وهم نصارى كل سنة على ألف ومئتي حلة من حللهم يؤدون النصف في المحرم والنصف في رجب» ، وله الخيار إن شاء جمع بين الرقاب والأراضي فجعلها خراجاً(2/361)
واحداً من دراهم، أو الدنانير، أو الكيل، أو الوزن، أو الثياب، كما فعل رسول الله عليه السلام بأهل نجران، وإن شاء أفرد كل واحد منهما، فإن جمع قسم المال على الأراضي والجماجم على قدر حال الجماجم وعددهم، وعلى قدر الأراضي بالعدل والإنصاف؛ لأن المال قوبلت بشيئين بالأراضي والجماجم، والمال متى قوبل بشيئين يقسم عليهما بالحصص.
فما أصاب الجماجم، فهو جزية حتى يقسم على الترتيب الذي ذكرنا دون النسوان والصبيان، والذمي غير المقاتلين.
وما أصاب الأراضي يكون خراجاً حتى يقسم على عدد الأراضي على قدر ريع والعلة على الترتيب الذي ذكرنا، وهذا لأنه لا وجه إلى إهمال جماجم الكفار عن الجزية بعدما وقع الصلح، ولا إلى إخلاء الأراضي النامية عن المؤنة، ويقدر إيجاب مال آخر مكان الصلح، فمست الضرورة إلى أن يجعل ما أصاب الجماجم جزية، وما أصاب الأراضي خراجاً.
فإن قلت الجماجم بأن مات بعضهم، وأسلموا تدخل حصتهم في خراج الأراضي إن احتملت، وكذلك لو زادت الجماجم فهاهنا دخل حصة الجماجم في خراج الأراضي إن احتملت؛ لأن المال مسمى في الصلح جملة، وليس بمفرق، فلهذا يمنع الطرح، فتدخل وظيفة الأراضي وأمكن القول به؛ لأن الأراضي أصل في هذا الباب، والرقاب (155أ1) تبع حتى لم يجز إفراد الرقاب بالمن، والمعنى أن الجماجم ليس لها أصول باقية؛ لأنها تهلك فينقطع حق المقاتلة، والأراضي لها أصول باقية، وهو الخراج، فتبقى منفعة المقاتلة، والبدل متى قوبل بشيئين أحدهما تبع، والآخر متبوع كان للبائع حصة من البدل ما دام باقياً، وإذا هلك يصرف كل البدل إلى المتبوع، كما إذا اشترى أرضاً فيها نخيل بثمن معلوم كان للنخيل حصة من الثمن ما دامت قائمة، وعند الهلاك يجعل كل الثمن بمقابلة الأرض كذا ههنا.
قال: إذا كانت الأراضي لا تحتمل ذلك، فحينئذٍ يوظف عليها بقدر ما احتملت اعتباراً لكل منها بالابتداء، فإن كثرت الجماجم بعد ذلك رد عليهم حصتهم؛ لأن الطرح كان لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة.
وإن هلكت الأراضي بأن بارت، أو غرقت، وبقيت الجماجم لا يحول وظيفة الأراضي إلى الجماجم؛ لأن الجماجم تبع في هذا الباب، والأراضي أصل، وعند هلاك الأصل لا يجعل كل البدل بمقابلة التبع، بل تسقط حصة الأصل.
ولو لم تهلك الأراضي، ولكن قل ريعها تحسب حصة الأراضي، وتقلب إلى الجماجم إن احتملت، فإن عاد ريع الأراضي على الكمال اعتد عليها ما رد، وكذلك إذا لم يقل ريع الأراضي، ولكن كثرت الجماجم نقص عن الأراضي، وصرف من خراجها إلى الجماجم بقدر ما تحتمل كما إذا دُقَّ النخل قبل القبض، فإنه ينقص من حصة الأرض، ويصرف إلى النخيل، كذا هنا، هذا إذا جمع بين الرقاب والأراضي في الصلح،(2/362)
وأما إذا أفرد، فحمل للجماجم حصة معلومة من المال يدخل إحدى الوظيفتين في الأخرى حتى أنه إذا قلت الجماجم سقط حصة من قلت، وكذلك إذا هلكت الجماجم جملة سقط حصة الجماجم جملة، ولا يصرف إلى الأراضي شيء من حصة الجماجم، وكذلك إذا كثرت الجماجم، وقل ريع الأراضي، أو بقي على حاله لم يصرف إلى الجماجم شيء من حصة الأراضي.
وإنما كان كذلك؛ لأن الجماجم وإن كانت تابعة للأراضي في حكم المنّ، إلا أنها لما أفردت بالصلح وبالبدل صارت أصلاً، وهلاك بعض الأصل يسقط ما بإزائه من البدل، كما لو اشترى أرضاً فيها نخيل، وسمى لكل واحد ثمناً معلومة، فاحترقت بنخيل قبل القبض، ولو صالحهم الإمام في الابتداء على مال معلوم على أن يأخذ ذلك من الأراضي دون الجماجم، أو من الجماجم دون الأراضي، كان ذلك باطلاً؛ لأن فيه إهمال جماجم الكفار، وإخلاء الأرض النامية عن المؤنة، وذلك باطل، ولكن هذا لا يبطل الذمة؛ لأن عقد الذمة لا يبطل بالشروط الفاسدة، بل يبطل الشرط، ويبقى المال مقابلاً بهما، وصار هذا، وما تقدم سواء.
قال: ولو أسلم أهل هذه الدار التي صالحهم الإمام على مال معلوم يؤدون عن رؤوسهم وأراضيهم سقط عنهم خراج الرؤوس، وخراج الأراضي على حاله، فالإسلام ينافي خراج الرؤوس، أما لا ينافي خراج الأراضي، والأصل في ذلك ما روي أن علياً رضي الله عنه قال لدهقان: «إن أسلمت وضعنا عنك خراج رأسك، وأخذنا منك خراج أرضك» ، وعن عمر رضي الله عنه «أنه أخذ من دهقانة نهر الملك خراج أرضها بعدما أسلمت» ، وعن ابن مسعود، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم «أنهم اشتروا أراضي خراجية بالسواد، وكانوا يؤدون الخراج عنها» .
وإن أراد الإمام أن يجعل الأراضي عشرية فليس له ذلك، فقد صح أن عمر رضي الله عنه ترك من أسلم من أهل سواد عراق على خراج أرضه، ولم يغير، وهو المقتدى في هذا الباب، ولو فعل ذلك، وحكم به وكان من رأيه ذلك، ثم ولى غيره، ورأى حكمه بعده، وأمضاه؛ لأنه مجتهد فيه، فإن من العلماء من قال: بأن أراضي الكفار بعدما أسلموا تصير عشرية، وهو مالك.
ولو لم يسلم أهل هذه الدار، لكن أراد الإمام أن ينقلهم من دارهم إلى دار قوم من أهل الذمة لا يجوز ذلك إلا بعلة؛ لأنهم لما قبلوا عقد الذمة ليتوطنوا في دارهم، فكان في النقل غدر بهم، والغدر حرام، فلا يفعل الإمام ذلك إلا لعلة، والعلة أن يخاف الإمام عليهم لضعفهم وعجزهم عن دفع الكفار عن أرضهم إن قصدهم، أو يخاف عليهم أن يخبروا الكفار بعورات المسلمين، وإذا فعل إن شاء قوم أراضيهم، وأعطاهم أثمانها، كما(2/363)
فعل يهود وادي القرى، وإن شاء أبدلهم أراضي القوم الذين نقلهم إلى بلادهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل نجران «فإنه رضي الله عنه أعطاهم أراضي من العراق مثل أراضيهم» ، وإذا فعل ذلك كان على رأس كل فريق الوظيفة التي كانت عليهم في بلدتهم، وكان على كل فريق خراج الأرض المنقول عنها، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر في رواية أخرى أن على كل فريق خراج الأرض المنقول (لها) ، واختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا: في المسألة روايتان، وذكروا لكل رواية وجهين:
وجه ما ذكر في الزيادات: أن الوظيفة إنما وجب عليهم بالصلح، وإنما وقع الصلح مع كل فريق على وظيفة المنقول عنها، وجه الرواية الأخرى: أن هذا من الإمام مبادلة الأراضي بالأراضي، وفي مبادلة (155ب1) الأراضي بالأراضي بعشر خراج المنقول إليه، كما إذا اشترى الرجلان أرضاً بأرض، وبعضهم قالوا: ليس في المسألة روايتان، ولكن كل رواية مأولة.
واختلفوا في التأويل، بعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا لم يكن للمنقول إليها خراج موظف، فيقدر خراج المنقول إليها بخراج المنقول عنها؛ لأن ذلك الخراج المنقول حقيقة، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا كان للمنقول إليها خراج موظف مقدر، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا وقع الصلح عن الأراضي إذ لا يمكن الفصل، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا وقع الصلح متفرقاً، وعند ذلك الفصل ممكن، فيعتبر في الأراضي خراج المنقول إليها، فإن كانت إحدى الأراضي خير من الأخرى، والإمام يريد للذين حولهم إلى الأراضي الردية في المساجد حتى يأخذوا مثل ما أخذ منهم في القيمة اعتباراً لنظر بين الجانبين.
هذا إذا نقل إلى تلك الأراضي قوماً من أهل الذمة، وإن نقل إليها قوماً من المسلمين، فعلى المسلمين خراج تلك الأراضي؛ لأن الخراج استقر وظيفة هذه الأراضي، فلا يبطل بإسلام المالك بعد ذلك، كما لو اشترى المسلم أرضاً خراجياً، فبعد ذلك: إن كان المال مفرداً في الصلح جعل الإمام على المسلمين حصة الأراضي، وإن كان جملة قسم المال على جماجم الذين أخرجهم، وعلى الأراضي كل سنة، فما أصاب الأراضي جعل على المسلمين الذين نقلهم إليها، وما أصاب الجماجم جعل على الذين نقلهم عنها، والله أعلم.(2/364)
كتاب المعادن والركاز والكنوز
اعلم بأن الكنز اسم لمال مدفون في الأرض دفنه بنو آدم، والمعدن اسم لمال جعلها الله تعالى في الأرضين يوم خلقها، والركاز قد يذكر، ويراد به المعدن وقد يذكر ويراد به الكنز إلا أنه للمعدن حقيقة وللكنز مجاز؛ لأن الركاز مأخوذ من الركز، وهو الإتيان يقال: ركز رمحه في الأرض إذا ثبته فيها، والمثبت في الأرض حقيقة عرق الذهب، فأما الكنز موضوع فيها، وليس بمثبت حقيقة، وأما الكلام في المعدن، فلا يخلو: إما إن وجده في أرض مباحة، أو وجده في أرضه، أو في داره.
فإن وجده في أرض مباحة وجب فيه الخمس، سواء كان معدن ذهب، أو معدن فضة، أو رصاص، أو أصفراً، ولأن له حكم الغنيمة؛ لأن هذه المواضع كانت في أيدي الكفرة ثم وقعت في أيدينا بحكم القهر، فكانت غنيمة، فيجب فيها الخمس، ويكون أربعة أخماسها للواحد، وكان ينبغي أن يكون للمسلمين الغانمين؛ لأن لها حكم الغنيمة.
والجواب: هذا المال كان مباحاً قبل أخذ الغانمين، والمال المباح إنما يملك بإثبات اليد عليه، كالصيد، ويد الغانمين ثابتة في هذا المال حكماً لا حقيقة؛ لأن إثبات اليد على ظاهر الأرض إثبات على باطنها حكماً لا حقيقة، وهو في يد الواحد حقيقة، فاعتبار الحكم إن أوجب الملك للغانمين، فاعتبار الحقيقة لا يوجب الملك لهم، والملك لم يكن ثابتاً لهم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، فلا يعطى الأربعة الأخماس حكم الغنيمة في حق الغانمين لهذا المعنى، أما في حق وجوب الخمس أعطيت حكم الغنيمة؛ لأن جهة الحكم توجب الخمس وجهة الحقيقة لا توجب، فيترجح الموجب احتياطاً.
وإن وجده في دار، فليس فيه شيء، وهو لصاحب الدار، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الخمس اعتباراً بالأرض، والجامع بينهما أنه مال معلوم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الذهب والفضة التي في المعادن من جملة أجر الأرض؛ لأنها قامت مع الأرض، ولهذا يملكه المشتري بشراء الدار، والدار بسائر أجزائها خلف عن حقوق الله تعالى، وصارت ملكاً للمالك.
ألا ترى أنه لا يجب فيها عشر ولا خراج فكذا هذا الجزء وأما الأرض، ففي الموجود فيه روايتان عن أبي حنيفة ذكر في «الأصل» أنه لا يجب فيه شيء، وسوى بين الموجود في الأرض، والموجود في الدار، وجه ذلك أن سائر أجزاء الأرض سلم له بالعشر والخراج، ولا يجب فيها حق آخر، فكذا هذا الجزء.
وذكر في «الجامع الصغير» أن فيه الخمس، وفرق على هذه الرواية بين الموجود في(2/365)
الأرض، وبين الموجود في الدار، والفرق: أن سائر أجزء الأرض غير سالمة لصاحب الأرض خالياً عن حق الله تعالى، فإنه يجب فيه عشر، أو خراج، فكذا هذا الجزء، وسائر أجزاء الدار سلم لصاحبها خالية عن حق الله، فكذا هذا الجزء.
وأما قوله: بأن هذا مال معلوم، قلنا: نعم، ولكنه مودع في الأرض، وقد أخذ الخمس من ظاهر الأرض، فجاز أن لا يؤخذ فيما هو مودع فيها.
وأما الكلام في الكنز، فلا يخلو من وجهين الأول: أن يجده في دار الإسلام، وإنه على وجوه:
أحدها: أن يجده في أرض غير مملوكة بحق المغارة والجبال وما أشبهها، فإن كان فيه علامات الإسلام كالمصحف والدراهم المكتوبة فيها الشهادة، وما أشبه ذلك، فهو بمنزلة اللقطة يعرفها حولاً، وإن كان فيه علامات الشرك نحو الصنم والصليب (156أ1) وما أشبهها، ففيه الخمس، وأربعة الأخماس للواجد، وهذا لأنه إذا كان فيه علامات الإسلام، فالظاهر أنه من وضع المسلمين، ومال المسلم لا يصير غنيمة، والمالك ليس بمعلوم، فيكون له حكم اللقطة.
وإذا كان فيه علامات الشرك، فالظاهر أنه من وضع مشركين، وقع في أيدينا بإيجاف الخيل والركاب، فيكون غنيمة، فيجب فيه الخمس، وإن لم يكن فيه علامات تدل على شيء، فهو لقطة في زماننا؛ لأن العهد قد تقادم، فالظاهر أنه لم يبق شيء مما دفنه أهل الحرب، ويستوي أن يكون الواجد صغيراً أو كبيراً، أو عبداً مسلماً، أو ذمياً؛ لأن استحقاق هذا المال بمنزلة استحقاق الغنيمة، ولجميع من سميت حق في الغنيمة، فيكون لهم حق في استحقاق هذا المال، إلا إن ترجح للعبد والذمي والصبي في القتال، ولا يبلغ نصيبهم السهم تحرز عن المساواة بين التبع والمتبوع عند المزاحمة، وهنا لا تزاحم للواجد في الاستحقاق حتى يصير التفاضل، فلهذا كان الواجد حربياً مستأمناً لا يعطى له شيء؛ لأنه لا حظ لأهل الحرب من غنيمة المسلمين إلا أن يكون الحربي عمل بإذن الإمام وشرطه وتعاطيه، فعليه أن يفي بشرطه؛ لأن الوفاء بالشرط واجب قال عليه السلام «المسلمون عند شروطهم» .
وإن وجده في دار مملوكة له، وفيه علامات الشرك، أو لم يكن فيه، الخمس وأربعة أخماسه للمختط له عند أبي حنيفة، ومحمد، وهو الذي اختطه الإمام حين فتح أهل الإسلام تلك البلدة إن كان فيئاً، ولا شيء للواجد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأن هذا مال مباح سبقت إليه يده الحقيقية، فيكون أحق به كما لو وجده في المغارة.
بيانه: إن هذا المال كان مباحاً، والمباح يملك بإثبات اليد، ويد المختط له، تثبت على هذا المال حكماً لا حقيقة، ويد الواجد تثبت عليها حقيقة، فاعتبار الحكم إن كان(2/366)
يقتضي ثبوت الملك للمختط له فاعتبار الحقيقة يقتضي ثبوت الملك للواجد، فيترجح الواجد؛ لأن الحقيقي فوق الحكمي.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن يد المختط له على الكنز سبقت يد الواجد، فيكون ملكاً له كالمعدن، وهذا لأن اليد على ما في باطن الأرض تثبت حكماً لثبوتها على الظاهر؛ لأن قبل القسمة تلك يد عموم، وبعد الاختطاط تصير يد خصوص، واليد الحكمية تكفي لثبوت الملك في المباح إذا كانت يد خصوص، ولا تكفي إذا كانت يد عموم تعتبر اليد الحكمية باليد الحقيقية، واليد إذا كان يد خصوص تفيد الملك على وجه يكفي لنفاذ التصرف.
ألا ترى أن تصرف الغازي في الغنيمة قبل القسمة لا ينفذ، وبعد القسمة ينفذ، فكذا اليد الحكمية، فيثبت الملك للمختط باليد الحكمية، ثم المختط له إن باع، وتناولته الأيدي لا يبطل ملكه في الكنز؛ لأن البيع تناول الدار، والكنز ليس من أجزاء الدار، والمشتري وإن استولى على الكنز لا يملكه، لأن الكنز للمختط له، وإنه مسلم، ومال المسلم لا يملك بالاستيلاء.
الوجه الثاني: إذا وجد كنزاً في دار الحرب، فاعلم بأن محمداً رحمه الله وضع هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي «الأصل» في الركاز، فقال:
m
مسلم دخل دار الحرب بأمان، ووجد في دار بعضهم ركازاً رده عليهم، وإن وجده في الصحراء يريد به موضعاً، لا يكون مملوكاً لأحد كالمغارة ونحوها، فهو له، ولا شيء فيه، قال شيخ الإسلام: أراد بالركاز في هذه المسألة المعدن دون الكنز؛ لأن الموجود في الصحراء إن كان كنزاً يلزمه الرد عليهم؛ لأن الداخل دار الحرب بأمان التزم أن لا يغدر بهم، وفي أخذ الكنز من دارهم غدر وخيانة لما فيه من التعرض بملكهم؛ لأن المدفون ملكهم سواء في الصحراء، أو في دار.
والقدوري ذكر هذه المسألة في «شرحه» ، ووضعها في الكنز، وجعل الجواب فيه على نحو ما ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، فهذا يبين لك أن الكنز والمعدن في هذه الصورة واحد.
ووجه ذلك: أن يد صاحب الدار حقيقة، فتعتبر ثابتة على ما في باطن الدار حكماً، والأمان يمنع إزالة يدهم عما فيها، فأما الصحراء، فلا يد لأحد ظاهرة حقيقة حتى تعتبر ثابتة على ما في باطنه حكماً، فلا يمنع الأمان أخذه كما لا يمنع أخذ الحطب والحشيش.
ولا خمس في العنبر والروح الذي يوجد في الجبال، وكذا في الياقوت والزمرد؛ لأنه ليس له حكم الغنيمة؛ لأنه لم يكن في يد أحد، وليس له معدن إنما يوجد بالطلب، فكان كالصيد بخلاف الكنز؛ لأن الكنز كان مملوكاً للكفرة، وكان في أيديهم، ثم كنزوها، فيكون له حكم الغنيمة، فيجب فيه الخمس.
ولا خمس في الذهب والفضة يستخرجان من البحر، وكذلك جميع ما يستخرج من(2/367)
البحر كالعنبر واللؤلؤ، فلا خمس فيه ليس بغنيمة؛ لأن الغنيمة ما كان في أيدي الكفرة، ثم صار في أيدينا بحكم القهر والغلبة، وباطن البحر لا يرد عليه يد أحد، ولا قهر أحد، فلم يكن غنيمة، وفي كل موضع وجب الخمس لو دفع الواجد الخمس بنفسه إلى الفقراء، ولم يدفعه إلى السلطان لا يأخذ منه السلطان (156ب1) ثانياً بخلاف زكاة السوائم، ولو دفع الواجد الخمس إلى والديه، أو إلى والده، وهم فقراء يجوز بخلاف الزكاة والكفارات وصدقة الفطر، ويجوز له أن يحبس الخمس لنفسه إذا كان أربعة الأخماس لا يكفيه لحديث علي رضي الله عنه.
قال محمد رحمه الله: في آخر كتاب الزكاة من «الأصل» فصل في بيان بيوت الأموال: يجب أن تكون بيت الأموال أربعة:
أحدها: بيت مال الزكاة والعشور والكفارات إذا وصلت إلى يد الإمام.
والثاني: بيت مال الخراج والجزية التي نقلت، وما يأخذه العاشر من الكفرة.
والثالث: فصل في بيان بيوت الأموال: بيت مال الخمس يعني خمس الغنائم والمعادن والركاز والكنوز.
والرابع: بيت مال اللقطات والتركات، وإنما وجب أن يكون بيوت المال أربعة أما بيت مال الزكاة والخراج والخمس؛ فلأن بكل مال منها حكم يختص به لا يشاركه مال آخر فيه، فمتى جعل الكل في بيت واحد، وخلطه لا يمكنه إقامة حكم كل مال، وأما بيت مال اللقطات والتركات؛ لأنه ربما يظهر لها مستحق بعينها، فلو خلطها بغيرها لا يمكنه ردها بعينها على مستحقها، فيجعل بيوت المال أربعة لهذا.
بيان ذلك: إن مال الزكاة، وعشور الأراضي مصروفة إلى المذكور في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: 60) إلا أنه لا يجوز صرفها إلى المقاتلة، ولا إلى فقراء بني هاشم، وقال: الخراج والجزية تصرف إلى المقاتلة، وإلى سد ثغور المسلمين، وبناء الحصون في الثغور، وإلى مراصد الطريق في دار الإسلام ليقع الأمن عن قطع الطريق من جهة اللصوص، وإلى كري الأنهار العظام الذي فيه صلاح المسلمين، وإلى من فرغ نفسه لعمل المسلمين نحو القضاة والمحتسب والمفتين والمؤذنين والمعلمين، وإلى عمارة المساجد والقناطر، وإلى معالجة المرضى إذا كانوا فقراء، وإلى تكفين الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل حياته، وما أشبه ذلك.
والحاصل: أن هذا النوع يصرف إلى ما فيه صلاح الدين، وصلاح دار الإسلام والمسلمين، ومال الخمس يصرف إلى فقراء المسلمين الهاشمي وغيره سواء، اللقطات والتركات تصرف إلى ما فيه صلاح المسلمين كمال الخراج والجزية، إلا أنه يجعل لها بيت على حدة، لما ذكرنا أنه ربما يظهر لها مستحق بعينها.
ولو كان في بعض بيوت هذه الأمور مال، ولم يكن في البعض مال، فللإمام أن يصرف مال ذلك البيت إلى هذا البيت عند الحاجة حتى إذا لم يكن في بيت مال الخراج مال، وفي بيت مال الصدقة مال، فالإمام يأخذ بيت مال الصدقة، ويصرفه إلى المقاتلة،(2/368)
ثم إذا وصل إليه مال الخراج، يرد على بيت مال الصدقة مثل ما أخذ؛ لأنه لا حق للمقاتلة في مال الصدقة، وإنما صرف إليهم على وجه القرض، فيرد مثله عند القدرة، إلا إذا صرف إلى فقراء المقاتلة، فحينئذٍ لا يرد؛ لأنه صرفه إلى مصرفه.
ولو لم يكن في بيت مال الصدقة مال، وصرف مال الخراج إلى الفقراء، ثم وصل إليه مال الصدقات، لا يرد مثله إلى بيت مال الخراج؛ لأن الخراج له حكم الغنيمة، وللفقراء حظ من الغنيمة، وإنما كان لا يعطي الفقير من مال الخراج؛ لاستغنائه بالصدقات، فإذا احتاج وصرف إليه كان الصرف إلى المصرف، فلا يصير قرضاً، والله أعلم.(2/369)
كتاب الصوم
هذا الكتاب يشتمل على أربعة عشر فصلاً:
1 * في بيان وقت الصوم وما يتصل به.
2 * فيما يتعلق برؤية الهلال.
3 * فيما يتعلق بالنية.
4 * فيما يفسد الصوم، وما لا يفسد.
5 * في وجوب الكفارة في إفساد الصوم.
6 * فيما يكره للصائم أن يفعله، وما لا يكره.
7 * في الأسباب المبيحة للفطر.
8 * في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم.
9 * فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة.
10 * في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم.
11 * في النذور.
12 * في الاعتكاف.
13 * في صدقة الفطر.
14 * في المتفرقات.(2/371)
الفصل الأول في بيان وقت الصوم وما يتصل به
قال أصحابنا رحمهم الله: وقت الصوم من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق إلى وقت غروب الشمس خروج وقت الصوم، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني، أو لاستطارته وانتشاره، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: العبرة لأوله، وبعضهم قالوا: العبرة لاستطارته، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القول الأول أحوط، والثاني أوسع.
وإذا شك في الفجر قال في «الأصل» : أحب إليّ أن يدع الأكل والشرب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الخليلي رحمه الله: الواجب على من شك في طلوع الفجر أن يطالع الفجر أو يأمر من ينوبه حتى يطالعه، فإن طالع وليس في السماء علة بأن لم تكن السماء مقمرة، ولا متغيمة وليس ببصره علة، وهو ينظر إلى مطلع الفجر، فله أن يأكل ما لم يطلع الفجر، فإن كان في موضع لا يرى طلوع الفجر، أو يرى، إلا أن السماء كانت مقمرة، أو متغيمة، فإن انضم إلى الشك علامة أخرى تدل على طلوع الفجر من حيث الظاهر بأن كان له ورد يوافق فراغه طلوع الفجر، ففرغ منها. (157أ1)
وشك في طلوع الفجر، أو كان يرى نجماً إذا أخذ مكاناً من السماء يوافق ذلك طلوع الفجر، فإذا انضم إلى الشك مثل هذه العلامة يدع الأكل والشرب، ويكون مسيئاً إذا أكل أو شرب، ويكون عليه القضاء إن كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهرزاده.
وذكر القدوري: أن في هذا الفصل روايتين، وقال: الصحيح أنه لا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ونحن على ذكر الأصل حتى يقوم الدليل بخلافه، إلا أنه يستحب له القضاء احتياطاً لأمر العبادة، وإن لم يصم إلى الشك مثل ما ذكرنا من العلامة يستحب له أن يترك الأكل.
وإن أكل لا يكون مسيئاً، ولا قضاء عليه، إلا إذا كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، فحينئذٍ يستحب له القضاء، وإن أمر إنساناً ليطالع طلوع الفجر، فأخبره بالطلوع، فإن كان المخبر عدلاً يجوز له أن يأكل حراً كان أو مملوكاً ذكراً كان أو أنثى، وإن أخبره صبي عاقل لا يأكل إذا غلب على ظنه أنه صادق، وإن أخبره عدل بالطلوع، وعدل آخر بعدم الطلوع يتحرى سواء كان أحدهما حراً، والآخر مملوكاً، وإن كان من أحد الجانبين عدلان، أو من الجانب الآخر عدل يأخذ بقول العدلين، وإن كان من أحد الجانبين عدلان حران، ومن الجانب الآخر مملوك يأخذ بقول الحرين، وإن كان يأكل، فأخبره(2/373)
عدل أن الفجر طالع، فأتم الأكل لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أكل قبل الإخبار، وفسد صومه، لا عن كفارة، فلا تلزمه الكفارة بأكل يوجد بعد ذلك حتى لو لم يكن أكل قبل الإخبار، وإنما أكل بعد الأخبار تلزمه الكفارة، وإن كان يأكل فقال: له واحد عدل محوركه سهده دمدمي أو قال: مي دمد، فأكل مع ذلك، وظهر أن الفجر كان طالعاً لزمه الكفارة.
في «مجموع النوازل» ؛ لأن قوله: دمدمي إخبار أنه يطلع الآن، فما كان من الأكل قبل الإخبار، فإنما كان قبل طلوع الفجر، فلم يفسد به الصوم، وما وجد من الأكل بعد ذلك وجد بعد طلوع الفجر، وبعد العلم به فيكون عمد وقصد، فيوجب الكفارة.
ولو أخبره عدلان أن الفجر قد طلع، وعدلان أنه لم يطلع، فأكل بعد ذلك، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً هل تلزمه الكفارة؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا تلزمه الكفارة؛ لأن البينتين قد تعارضتا، فتساقطتا، وكان سحراً على ظن أن الفجر لم يطلع، وهناك لا تلزمه الكفارة، وبعضهم قالوا: تلزمه الكفارة.
ولو شهد واحد على طلوع الفجر، واثنان على أنه لم يطلع لم تجب الكفارة، ولو أراد أن يتسحر بالتحري، فإن ذلك إذا كان بحال لا يمكنه مطالعة الفجر بنفسه أو بغيره، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن من تسحر بأكبر الرأي لا بأس إذ كان هذا الرجل ممن لا يخفى على مثله، مثل ذلك، وإن كان ممن يخفى عليه مثل ذلك قبيله أن يدع الأكل، وإن أراد أن يتسحر بضرب طبل سَحَرِيَ، فإن كثر ذلك الصوت من كل جانب، وفي جميع أطراف البلدة، فلا بأس به، وإن كان يسمع صوتاً واحداً، فإن علم عدالته يعتمد عليه وإن عرف فسقه لا يعتمد عليه وإن لم يعرف حاله يحتاط ولا يأكل.
وإن أراد أن يعتمد بصياح الديك، فقد أنكر ذلك بعض مشايخنا، وقال بعضهم: لا بأس به إذا كان قد جربه مراراً، وظهر له أنه يضبط الوقت، إذا تسحر فدخل عليه قوم، وقالوا له: الفجر طالع، فقال: إذاً حصل الفطر آكل أكلاً مشبعاً، فأكل، ثم ظهر أن الأكل الأول كان قبل الصبح، والثاني بعد الصبح قال الحاكم أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن كانوا مما عرف عدالتهم؟ لا كفارة.
وإن كان المخبر واحداً إلا أنه عدل، فكذلك الجواب، وإن كان فاسقاً، فعليه الكفارة،
وإذا قالت المرأة لزوجها: طالعت الفجر، فلم يطلع بعد، فجامعها، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً قال الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن صدقها، وهي ثقة لا كفارة عليه، وقال عبد الرحمن بن أبي الليث، في «فتاويه» : لا كفارة عليه من غير تقييد، وعليها الكفارة، وكذا أفتى القاضي الإمام أبو علي، والخطيب مصطفى بن اليمان، هذا كله بيان الأحكام المتعلقة بأول وقت الصوم.
جئناً إلى بيان الأحكام المتعلقة بآخر الوقت قال بعض مشايخنا: لا يجوز الإفطار بالتحري، وعن محمد: إن كان في موضع يمكنه معاينة غروب شمس لا يمنعه عن ذلك(2/374)
مانع لا يفطر بالتحري، بل يفطر بالمعاينة، وإن منعه عن ذلك مانع يفطر بالتحري بعد أن يتيقن فيه، ويحتاط نحو أن يتبع العلامة من الظلام ونحوه وبنحوه، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني أن ظاهر مذهب أصحابنا: أنه يجوز الإفطار بالتحري،
وإن أفطر وغالب رأيه أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب بعد كان عليه قضاء ذلك اليوم، بخلاف ما إذا تسحر، وغالب رأيه أن الفجر لم يطلع؛ ثم تبين أنه قد طلع، فإنه لا يجب عليه القضاء، بل يستحب له القضاء على الرواية الصحيحة؛ لأن ثمة الأصل بقاء الليل، فلا يترك إلا بيقين مثله، وههنا الأصل بقاء النهار، فلا يترك إلا بيقين مثله
وأما إذا شك في غروب الشمس، والشك يساوي اليقين، فلو فطر، ثم تبين (157ب1) أن الشمس ما غربت تلزمه الكفارة، هكذا قاله الفقيه أبو جعفر، ووجه ما ذكرنا: أن الأصل بقاء النهار، وروى ابن رستم عن محمد أنه لا كفارة عليه استحساناً، وإن أخبره مخبر بغروب الشمس، من المشايخ من قال: لا يجوز له الفطر بقول الواحد بل شرط المثنى.
قال شمس الأئمة الحلواني: كان الجواب أنه لا بأس بأن يعتمد على قوله إذا كان عدلاً، ويميل قلبه إلى صدقه كما في السحر،
ولو أخبره عدلان أن الشمس قد غربت، وأخبره عدلان أنها لم تغرب، فلا كفارة عليه؛ لأن اللذان شهدا بعدم الغروب لم تقبل شهادتهما، إما لأن هذه شهادة على النفي، أو لأن الأصل هو النهار، وإن بانت بدون شهادتهما، أو اللذان شهدا على الغروب شهدا على إثبات ما ليس بثابت بشهادتهما، فيثبت الغروب بشهادتهما؛ فلهذا لا تجب الكفارة، وبهذا الطريق تجب الكفارة عند بعض المشايخ في مسألة طلوع الفجر، وهو الصحيح
سئل شمس الأئمة الحلواني عن الإفطار يوم الغيم، فقال: جواب هذه المسألة لا يؤخذ في الكتب، والجواب فيها كالجواب في مراعاة الوقت ليصلي، وهناك قال أصحابنا: يؤخر المغرب فكذا ههنا يؤخر الإفطار يأخذ فيه بالثقة ما استطاع، والله أعلم.
الفصل الثاني فيما يتعلق برؤية الهلال
الواحد إذا شهد برؤية هلال رمضان، فإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة الواحد إذا كان مسلماً رجلاً كان، أو امرأة، أو عبداً، أو أمة أو محدوداً في قذف تائباً بعد أن يكون عدلاً في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي: أنه تقبل شهادة الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة.
أما إذا كان مستور الحال، فالظاهر أن لا تقبل شهادته، وروى الحسن عن أبي(2/375)
حنيفة: أنه تقبل شهادته، وهو الصحيح، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن فضل رحمه الله يقول: إذا كانت السماء متغيمة إنما تقبل شهادة الواحد إذا فسر، وقال: رأيت الهلال خارج البلدة في الصحراء، ويقول: رأيته في البلدة بين الخلل السحاب في وقت يدخل في السحاب ثم ينجلي، أما بدون هذا التفسير لا تقبل شهادة الواحد في ظاهر الرواية، خلافاً لما روي الحسن عن أبي حنيفة، بل يحتاج فيه إلى زيادة العدد، واختلفوا في مقدار ذلك،
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه تقبل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وعن أبي يوسف أنه قال: يعتبر في ذلك جمع عظيم، وروي عنه أنه قدره بعدد القسامة.
وعن خلف بن أيوب أنه قال: خمسمائة ببلخ قليل، وعن أبي حظ الكبير أنه يعتبر الوفاء، وعن محمد أنه قال: يفوض مقدار القلة والكثرة إلى رأي الإمام، ثم إنما لا تقبل شهادة الواحد على هلال رمضان، إذا كانت السماء مصحية، إذا كان هذا الواحد في المصر، فإذا جاء من خارج المصر، أو جاء من أعلى الأماكن في مصر ذكر الطحاوي أنه تقبل شهادته، وهكذا ذكر في كتاب الاستحسان، وذكر القدوري: أنه لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية هذا الذي ذكرنا في هلال رمضان.
وأما إذا قامت الشهادة برؤية هلال شوال، أو برؤية هلال ذي الحجة، إن كانت السماء مصحية، فالجواب فيه كالجواب في رؤية هلال رمضان يعني لا تقبل فيه شهادة الواحد، بل بشرط زيادة العدد، ولا بد من اعتبار العدالة والحرية في شهادات خواهرزاده، وفي «شرح الطحاوي» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه تقبل في ذلك شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين،
فأما إذا كانت السماء متغيمة، فلا تقبل ما لم يشهد بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان في ظاهر الرواية، وفي «المنتقى» أنه يقبل في ذلك شهادة الواحد، علل محمد في «المنتقى» القبول شهادة الواحد على هلال رمضان، فقال: لأن هذا أمر يدخل في فريضة وحق، وفي فصل الإفطار يقول: ههنا خروج عن فرض وحق.
قال: ألا ترى لو شهد مسلم عدل على نصراني أنه أسلم قبل موته، وبرأ من دينه قبلت شهادته حتى يصلى عليه، ولو شهد مسلم عدل على مسلم أنه ارتد، والعياذ بالله لا تقبل شهادته، ولا تترك الصلاة عليه لهذا إن الإسلام دخول في حق وفرض، وتقبل شهادة الواحد العدل عليه، والارتداد خروج حق وفرض، فلم تقبل شهادة الواحد العدل عليه،
وذكر شيخ الإسلام في شرح الشهادات: أن شهادة المثنى في الفطر والأضحى إنما تقبل إذا كان بالسماء علة، أو كانت مصحية وجاءا من مكان آخر، أما إذا كانت مصحية، وما جاءا من مكان آخر لا يكتفى بشهادة اثنين، بل يشترط فيه شهادة جماعة، وعن أبي يوسف في «المنتقى» : ما هو قريب من هذا، فقال: إنما أقبل شهادة الرجلين على هلال شوال إذا كانا قادمين، أو أخبرا أنهما رأياه في غير البلد، أما إذا أخبرا أنهما رأياه في البلد، وكان البلد كثير الأهل يراه الناس لا بد وأن يكونوا جماعة كثيرة.(2/376)
وروى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : أن أبا حنيفة كان يجبر على هلال شهر رمضان شهادة (158أ1) الرجل الواحد العدل، والمولى، والعبد، والأمة، والمحدود في القذف إذا كان عدلاً، ولا يجبر بشهادة الكافر والفاسق، ولا يجبر في هلال ذي الحجة والفطر، إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يجبر بشهادة العبد والأمة والمحدود في القذف، قال: وهو قول أبي يوسف.
وعن الفقيه أبي جعفر أنه قال: في هلال رمضان في الصوم يقبل قول رجل واحد عدل، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وروى الحسن بن زياد أنه قال: يحتاج إلى شهادة رجلين في الفطر والصوم جميعاً، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وأما هلال ذي الحجة ذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال شوال، وذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال رمضان، وتقبل شهادة الواحد على شهادة الواحد في هلال رمضان، ولا يشترط لفظة الشهادة، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الاستحسان، وذكر شيخ الإسلام في شرح نوادر الصوم يشترط فيه لفظة الشهادة، وأما في شهادة الفطر، والأصح فيعتبر لفظ الشهادة ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب الشهادات.
في «المنتقى» : هشام عن محمد: شهادة العبد في هذا الباب بمنزلة شهادة الحر في المعاملات، ثم شهادة الحر على شهادة الحر مقبولة في المعاملات، فكذا شهادة العبد على شهادة العبد في هذا الباب،
ثم الواحد إذا أري هلال رمضان وحده هل يلزمه أن يشهد عند الحاكم؟ لا ذكر لهذا في «المبسوط» ؛ قال: شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان عدلاً يلزمه أن يشهد عند الحاكم حراً كان أو عبداً أو أمة، حتى الجارية المخدرة، وهو من فروض العين، ويجب أن يشهد في ليلته تلك، كيلا يصبح الناس مفطرين، وللجارية المخدرة أن تشهد بغير إذن وليها، فأما إذا كان الرائي فاسقاً يكون فيه شبهة قول الطحاوي، إن علم أن القاضي يميل إلى قول الطحاوي، ويقبل شهادته يلزمه أن يشهد، وأما إذا كان مستوراً دخل فيه شبهة الروايتين عن أصحابنا، وهذا في المصر، أما في السواد إذا أري أحدهم هلال رمضان يشهد في مسجد قريته، وعلى الناس أن يصوموا بقوله بعد أن يكون عدلاً، إذا لم يكن هناك حاكم يشهد عنده.
وفي «فتاوى القاضي» : إذا أخبر رجلان برؤية هلال شوال في الرستاق، والسماء مصحية، وليس هناك والي، فلا بأس بالناس أن يفطروا فيه أيضاً، الإمام إذا رأى هلال شوال وحده، لا ينبغي له أن يخرج، وأن يأمر الناس بالخروج، وإذا أبصر هلال رمضان وحده، وشهد عند القاضي، فرد القاضي شهادته، فعليه أن يصوم خلافاً للحسن البصري وعثمان البتي، فإن أفطر بعد ما رد الإمام شهادته، فلا كفارة عليه عندنا.
وإن أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته، أو قبل أن يشهد عند القاضي هل تلزمه الكفارة عندنا؟ فيه اختلاف المشايخ، ذكره شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم، وأما إذا قبل الإمام شهادته، وأمر الناس بالصوم، فأفطر هو، أو واحد من البلدة هل تلزمه(2/377)
الكفارة؟ قال عامة مشايخنا: تلزمه، وقال الفقيه أبو جعفر: لا تلزمه، ثم الواحد إذا شهد عند القاضي، وردّ القاضي شهادته، وأكمل هذا الرجل ثلاثين يوماً لا يفطر إلا مع الإمام.
في شرح «القدوري» : الواحد إذا شهد على هلال رمضان عند القاضي، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادته، وأمر الناس بالصوم، فلما أتموا ثلاثين يوماً غم عليهم هلال شوال، قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يصومون من الغد، وإن كان يوم الحادي والثلاثين ولا يفطرون، وقال محمد: يفطرون، قال شمس الأئمة الحلواني: هذا الاختلاف فيما إذا لم يروا هلال شوال، والسماء مصحية، فأما إذا كانت السماء متغيمة، فإنهم يفطرون بلا خلاف، هذا إذا شهد على هلال رمضان واحد، فأما إذا شهد على هلال رمضان شاهدان، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادتهما، وصاموا ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، إن كانت السماء متغيمة يفطرون من الغد بالاتفاق، وإن كانت مصحية يفطرون إليه أشار.r
في «القدوري» ، وفي «المنتقى» وهكذا حكى فتوى شيخ الإسلام أبي الحسن قبل، وفي «فوائد ركن الإسلام» علي السغدي أنهم لا يفطرون، والصحيح هو الأول.
أهل مصر صاموا رمضان بغير رؤية الهلال، وفيهم رجل لم يصم حتى رأوا الهلال من الغد، فصام أهل المصر ثلاثين يوماً، وصام هذا الرجل تسعة وعشرين، ثم أفطروا جميعاً، فإن كان أهل المصر رأوا هلال شعبان، وعدو شعبان ثلاثين يوماً، كان على هذا الرجل قضاء اليوم الأول، وإن كان أهل المصر صاموا من غير عد شعبان ثلاثين يوماً، ومن غير رؤية هلال رمضان ليس على هذا الرجل قضاء اليوم الأول في «الكافي» .
وفي «القدوري» إذا صام أهل المصر تسعة وعشرين يوماً للرؤية، وفيهم مريض لم يصم، فعليه قضاء تسعة وعشرين؛ لأن القضاء لحق الفائت، فيكون على عدد الفائت، فإن لم يعلم هذا الرجل ما صنع أهل المصر صام ثلاثين ليخرج عن العهدة بيقين؛ قال محمد رحمه الله: ولا عبرة لرؤية الهلال نهاراً قبل الزوال ولا بعده، وهي لليلة (158ب1) المستقبلة، وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه.
وقال أبو يوسف: إذا كان قبل الزوال، فهي الليلة الماضية، قيل: قول أبي حنيفة، كقول محمد، وفي صوم شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة: أنه إذا غاب في هذه الليلة قبل الشفق، فهي من هذه الليلة.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة إن كان مجراه أمام الشمس، والشمس تتلوه، فهو لليلة الماضية، وإن كان مجراه خلف الشمس، فهو لليلة المستقبلة.
أهل بلدة رأوا الهلال هل يلزم ذلك في حق أهل بلدة؟ روي عن محمد أنه قال: يعتمدون على قول أهل تلك البلدة، ويأخذون بقولهم، ويصومون بصومهم، وينظرون كذلك، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا: لا يلزم وإنما المعتبر في حق كل بلدة رؤيتهم، وبنحوه «ورد الأثر(2/378)
عن ابن عباس رضي الله عنه» .
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف وإبراهيم عن محمد: إذا صام أهل بلدة ثلاثين يوماً لرؤية، وصام أهل بلدة تسعة وعشرين يوماً للرؤية، فعليهم قضاء يوم، وفي «القدوري» إذا كان بين البلدتين تفاوتاً لا تختلف المطالع لزم حكم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى، فأما إذا كان تفاوتاً تختلف المطالع لم يلزم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى،
وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله أن الخبر إذا استفاض، وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم أهل هذه البلدة الأخرى،
وفي «مجموع النوازل» شاهدان شهدا عند قاضي مصر لم ير أهله الهلال على أن قاضي مصر كذا شهد عنده شاهدان برؤية الهلال، وقضى به، ووجد استجماع شرائط صحة الدعوى قضى القاضي بشهادتهما حكاه عن شيخ الإسلام.
وفيه أيضاً: قال نجم الدين رضي الله عنه: أهل سمرقند رأوا هلال رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بسمرقند ليلة الاثنين، وصاموا كذلك، ثم شهد جماعة عند قاضي القضاة يوم الاثنين، وهو اليوم التاسع والعشرين، إن أهل كثر رأوا الهلال ليلة الأحد، وهذا اليوم آخر الشهر، فقضى به، ونادى المنادي في الناس أن هذا آخر يوم، وغداً يوم العيد، فلما أمسوا لم ير أحد من أهل سمرقند الهلال، والسماء مصحية لا علة بها أصلاً، ومع هذا عيدوا يوم الثلاثاء.
قال نجم الدين: وأنا أفتيت بأنه لا يترك التراويح في هذه الليلة، ولا يجوز الإفطار يوم الثلاثاء، ولا صلاة العيد، قال: فالصحيح هذا، وكأنه مال إلى أن حكم إحدى البلدتين لا يلزم البلدة الأخرى أصلاً وعيد اختلاف المطالع، وعلم أن المطالع مختلفة إلا أن تلك المسألة مختلفة، وقد مضى بقول البعض، فارتفع الخلاف، فلم يتضح لنا وجه جواب نجم الدين ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح صومه، أن الواحد إذا رأى هلال شوال، وشهد عند القاضي ورد القاضي شهادته، ماذا يفعل؟ قال محمد بن سلمة: يمسك يومه، ولا ينوي صومه.
وبعض مشايخنا قالوا: إن أيقن برؤية الهلال أفطر لكن يأكل سراً، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يفطر، قال الفقيه أبو جعفر: قوله: لا يفطر معناه أنه لا يأكل ولا(2/379)
يشرب، ولكن ينبغي أن يفسد صوم ذلك اليوم، ولا يتقرب به إلى الله تعالى، وإن أفطر في ذلك اليوم الكفارة عليه بلا خلاف، ولو شهد هذا الرائي عند صديق له سراً، فصدقه وأفطر لا كفارة عليه، والله أعلم.
الفصل الثالث في النية
قال أصحابنا رحمهم الله: إذا صام رمضان بنية ما قبل الزوال جاز، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها، إذا صام رمضان بنية قبل انتصاف النهار جاز، وإنما تظهر ثمرة اختلاف اللفظين فيما إذا نوى عند قرب الزوال، أو عند استواء الشمس في كبد السماء، فاللفظ الأول يدل على الجواز، واللفظ الثاني يدل على عدم الجواز،
والصحيح هو اللفظ الثاني؛ لأن قضية القياس قران العزيمة يجمع أجر العمل لكن سقط اعتباره بمكان التعذر، واكتفى بقران العزيمة بأول جزء يمكن من غير حرج، وما قبل انتصاف النهار من أجر العلم يمكن قران العزيمة بها من غير حرج، فلا يسقط اعتباره بهذا الطريق لم يجز الصوم بنيته بعد الزوال،
وكذلك الصوم المنذور في وقت بعينه يجوز بنية ما قبل انتصاف النهار،
وما وجب في ذمته من الصوم، وليس له وقت معين كالقضاء، والنذور المطلقة، والكفارات لا يجوز بنية، ما قبل انتصاف النهار، وإذا نوى قبل غروب الشمس من اليوم أن يصوم غداً لا تصح نيته، حتى لو أغمي عليه قبل غروب الشمس، وبقي كذلك إلى ما بعد الزوال من الغد أو نام، هكذا لا يصير صائماً في الغد،
ولو نوى بعد غروب الشمس جاز؛ لأن الجواز بنية متقدمة بخلاف القياس لرفع الحرج، والحرج يندفع بتقديم النية في الليل، فلا يعتبر تقديم النية قبل الليل، وإن نوى في الليل أن يصوم غداً ثم بدا له في الليل أن لا يصوم، وعزم على ذلك، ثم أصبح من الغد وأمسك، ولم ينو الصوم لا يعتبر صائماً؛ لأن عزيمته انتقضت بالرجوع عنها، وبعد ذلك لم توجد العزيمة أصلاً، فإذا أصبح في رمضان لا ينوي صوماً، ولا فطراً، وهو يعلم أنه من رمضان ذكر شمس الأئمة الحلواني عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن عن أصحابنا يصير.... صائماً روايتين، والأظهر أنه لا يصير صائماً ما لم ينو الصوم انتصاف النهار.
وإذا قال: نويت أن أصوم غداً (159أ1) إن شاء الله، أو قال: أصوم غداً بمشيئة الله، فلا رواية في هذه المسألة عن أصحابنا قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وفيها قياس واستحسان؛ القياس أن لا يصير صائماً؛ لأن بالاستثناء تبطل النية، وفي(2/380)
الاستسحان يصير صائماً؛ لأن قوله: إن شاء الله ههنا ليس على معنى حقيقة الاستثناء؛ بل هو على معنى الاستعانة، وطلب التوفيق حتى لو أراد به حقيقة الاستثناء بقوله إن نوى أن يفطر غداً، إن دعي إلى دعوة، وإن لم يدع لصوم، لا يصير صائماً بهذه النية، وإن لم يدع.
ونظيره في نية صوم يوم الشك أكل السحر يكون بنية الصوم هكذا حكي عن نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: إذا نوى واجباً آخر في رمضان، ففي الصحيح المقيم يقع صومه عن رمضان، وأما في المسافر فكذلك عندهما، وعند أبي حنيفة يقع عما نوى، ولو نوى المسافر التطوع فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يقع عن الفرض، وفي رواية يقع عن التطوع، والمريض إذا نوى التطوع، فالصحيح أنه والمسافر سواء، وهو على الروايتين إذا كان عليه قضاء يومين من رمضان واحد، فأراد القضاء ينبغي أن ينوي أول يوم وجب عليه قضاؤه من هذا الرمضان أو آخر يوم، وجب عليه قضاؤه وإن لم يعين اليوم، ونوى قضاء رمضان لا غير يجزئه سواء كان عن رمضان واحد، أو عن رمضانين، مذكور في غريب الرواية،
ولو أصبح صائماً ينوي من اليومين الذين وجبا عليه أجزأه عن واحد منهما استحساناً، وكذلك لو أصبح ينوي صومه من ظهارين أجزأه عن واحد منهما استحساناً، ولو كان عليه قضاء يوم، فصام يوماً، ونوى به قضاء رمضان، وصوم التطوع أجزأه عن رمضان عند أبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز عنه ويكون تطوعاً؛ لأن بين النيتين تنافياً في أن من نوى النفل أو القضاء، ثم نوى الآخر في الليل انتقض الأول بالثاني، فبطلت عند التعارض، والصوم لا يتأدى بدون النية.
ولأبي يوسف: أن نية الفرض محتاج إليها، ونية النفل غير محتاج إليها، فاعتبر ما يحتاج إليها، وبطل ما لا يحتاج إليها.
ولو نوى صوم القضاء، وكفارة اليمين لم يكن عن واحد منهما عند أبي يوسف للتعارض، وعند محمد لمكان القضاء بين النيتين، ولكن يصير متطوعاً؛ لأنه لم يبطل أصل النية، وأصل النية يكفي للتطوع، ولو نوى قصاء رمضان، وكفارة الظهار كان عن القضاء استحساناً في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن النفل وهو القياس؛ لأن كل واحد منها مثل الآخر، فتشاقدت قطب النيتان لمكان التعارض بقي أصل النية، فيقع عن التطوع، ولأبي يوسف أن القضاء أقوى؛ لأنه يدل عما وجب بإيجاب الله، وصوم النذر والكفارة وجب بسبب وجد من العبد، وما وجب بإيجاب الله تعالى أقوى، فاندفع.
ولو نوى النذر لمعين وكفارة اليمين، فهو عن النذر في رواية عن محمد، ولو نوى صوم رمضان، وهو يرى أنه فيه، ثم تبين أنه قد مضى أجزأه، وإن تبين أنه لم يأت لم يجزئه.
أصل المسألة ما ذكر محمد في «الأصل» : في رجل أسره العدو واشتبهت عليه(2/381)
الشهور، فلم يدر أي شهر رمضان؟ فتحرى شهوراً، إن وافق صومه رمضان جاز، وإن صام شهراً قبل شهر رمضان لم يجزه، وإن صام شهراً بعد شهر رمضان أجزأه، ولكن بشرطين:
أحدهما: إكمال العدة.
والثاني: ثبوت النية؛ لأنه قاضي ما عليه، وفي القضاء يعتبر الشرطان، فإن قيل: كيف جوز هذا وإنه نوى الأداء دون القضاء؟ قلنا: هو ناوي ما هو واجب عليه في هذه السنة، وهذا ونية القضاء سواء.
الفصل الرابع فيما يفسد الصوم وما لا يفسد صومه
فإن عاد شيء إلى جوفه، فهذا على وجهين: إما إن كان القيء ملء الفم، أو أقل من ملء الفم، فإن عاد بإعادته يفسد صومه بالإجماع، وإن عاد لا بإعادته، قال أبو يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد هكذا ذكر القدوري، وذكر شيخ الإسلام الخلاف على خلاف ما ذكره القدوري، فذكر أن على قول أبي يوسف: يفسد صومه، وعلى قول محمد: لا يفسد.
وإن كان القيء أقل من ملء الفم، فعاد شيء منه لا بإعادته لا يفسد صومه بالاتفاق، وإن أعاده، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد صومه، وأما إذا تقيأ، فإن كان ملء الفم يفسد صومه بالاتفاق، عاد شيء منه إلى جوفه، أو لم يعد، وإن كان أقل من ملء الفم، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه عاد شيء إلى جوفه أو أعاده، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول محمد: يفسد عاد شيء إلى جوفه، أو أعاده، أو لم يعد أصلاً.
فالحاصل أن محمداً: لا يعتبر الصنع في طرق الإخراج، أو الإدخال، وأبو يوسف يعتبر ملء الفم، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: فيما إذا تقيأ أقل من ملء الفم، فعاد شيء إلى جوفه، إن عن أبي يوسف روايتين، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» .... في هذه الفصول بالاتفاق في مفهوم «الأصل» ، وإذا قاء بلغماً لا ينتقض صومه في قول أبي حنيفة ومحمد وأما قول أبي يوسف: ينتقض الصوم، القدوري؛ ثم على قول من يشترط ملء الفم في التقىء إذا تقيأ أقل من ملء الفم، مراراً يجمع إن كان بنفس ذلك السبب يجمع، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله،
والمذكور في شرح «الجامع الصغير» على قول أبي يوسف (159ب1) . إن كان الغثيان واحد يجمع، وإن سكن غثيانه، ثم تقيأ لا يجمع.(2/382)
وحدّ ملء الفم ما لا يمكن ضبطه، وفي بعض المواضع ما لا يمكن ضبطه ألا يخرج، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ملء الفم أن يعجزه عن الكلام، ومن المشايخ من اعتبر في هذا أن يبلغ نصف الفم.
وإذا استعط، أو أقطر في أذنه، إن كان شيئاً يتعلق به صلاح البدن، نحو الدهن والدواء يفسد صومه من غير كفارة، وإن كان شيئاً لا يتعلق به صلاح البدن كالماء قال مشايخنا: ينبغي أن لا يفسد صومه، إلا أن محمداً رحمه الله: لم يفصل بينما يتعلق به صلاح البدن، وبينما لا يتعلق.
ولو اغتسل، فدخل الماء في أذنه لا يفسد صومه، بلا خلاف، وفي الإقطار في الأذن لم يشترط محمد رحمه الله الوصول إلى الدماغ حتى قال مشياخنا: إذا غاب في أذنه كفى ذلك لوجوب القضاء، وبعضهم شرطوا الوصول إلى الدماغ.
وإذا حك أذنه، فأخرج العود، وعلى رأسه شيء من الدرن؛ ثم أدخله ثانياً مع ذلك الدرن، ثم أخرجه، وبقي الدرن ثم في الأذن لا يفسد صومه، وإذا أوجر فما دام في فمه لا يفسد صومه، وإذا أوصل إلى الجوف يفسد صومه، ولا تلزمه الكفارة في ظاهر الرواية من غير تفصيل بين حالة الاختيار، وبين حالة الاضطرار.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بينهما، وقال: أرأيت لو استلقى على قفاه، وقال: صبوا في حلقي ماء أكان لا تلزمه الكفارة؟
وعامة المشايخ في هذه المسألة على أنه إن فعل ذلك به باختياره، ولا عذر به تلزمه الكفارة، وإن فعل ذلك من غير اختياره، أو باختياره، لكن به عذر ألا تلزمه الكفارة.
وروى هشام عن أبي يوسف: أن عليه الكفارة في هذه المسائل، وإذا احتقن يفسد صومه، وإذا استنجى، وبالغ حتى وصل الماء إلى موضع الحقنة يفسد صومه، ومن غير كفارة، وإذا أقطر في إحليله لا يفسد صومه عند أبي حنيفة، ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وروى الحسن عن محمد: أنه توقف في هذه المسألة في آخر عمره.
قال الفقيه أبو بكر البلخي: إنما يفسد الصوم على قول أبي يوسف: إذا وصل إلى الجوف، أما إذا كان في القصبة بعد لا يفسد، وهكذا ذكر في «المنتقى» : وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن الصب في الإحليل بمنزلة الحقنة يفسد الصوم إذا أوصل في الجوف.
وتكلم المشايخ في الإقطار في قبل النساء، منهم من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: يفسد الصوم بلا خلاف كالحقنة، وهو الصحيح.
وفي الجائفة والآمة إذا داواهما بدواء يابس لا يفسد صومه، وإذا داواهما بدواء رطب يفسد صومه عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وأكثر المشايخ اعتبروا الوصول إلى الجوف في الجائفة والآمة إن عرف أن اليابس وصل إلى الجوف يفسد صومه بالاتفاق، وإن عرف أن الرطب لا يصل إلى الجوف لا يفسد صومه، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله،(2/383)
وأما إذا اكتحل، أو أقطر شيئاً من الدواء في عينه لا يفسد صومه عندنا، وإن وجد طعم ذلك في حلقه، وإذا بزق فرأى أثر كحل ولونه في بزاقه، هل يفسد صومه؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن فيه اختلاف المشايخ، عامتهم على عدم الفساد.
شد طعاماً بخيط، وعلقه في حلقه ما دام مشدوداً في الخيط لا يفسد صومه، وإن سقط من الخيط في حلقه يفسد صومه هكذا روي عن أبي يوسف.
في شرح شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا طعن الصائم برمح، فإن نزعه لم يفطره، وإن بقي الرمح أفطر، هكذا ذكر في عامة الكتب، وذكر سيدنا رحمه الله في «شرح التجريد» بيان في هذا الفصل، وهو ما إذا أبقي الرمح اختلاف المشايخ.
في «البقالي» : السهم إذا أصابه، ونفذ من الجانب الآخر لا يفسد صومه، وإذا أدخل إصبعه في دبره أكثر المشايخ على أنه لا يجب الغسل والقضاء، وإذا أدخل خشبة في دبره، إن كان طرفها خارجاً لا يفسد صومه.
في الباب الأول من «الواقعات» ، وعلى هذا إذا ابتلع حنطة، وأخذ طرفها في يديه، ثم أخرها لم يفطره، وإن ابتلع كلها فطر، إذا كان بين أسنانه شيء، فدخل جوفه، وهو كاره لذلك لا يفسد صومه هذا هو لفظ محمد رحمه الله، وأما إذا ابتلعه، فيه اختلاف المشايخ، ونص في «الجامع الصغير» : على أنه لا يفسد، وهذا كله إذا كان شيئاً قليلاً، فأما إذا كان كثيراً يفسد صومه دخل جوفه، أو ابتلعه، والحمّصة وما فوقها كثير ذكره في اختلاف زفر ويعقوب عن أبي حنيفة.
وفي «الجامع الأصغر» : أن أبا نصر الدبوسي قدر الكثير بأن يقدر على ابتلاعه من غير ريق، وهذا إذا لم يخرجه من فمه، فإن أخرجه، ثم ابتلعه يفسد صومه بالاتفاق، ثم إذا فسد صومه إذا كان قدر الحمصة، أو كان أقل لا أنه أخرجه من الفم، ثم ابتلعه هل تلزمه الكفارة؟ قال أبو يوسف: لا تلزمه؛ لأنه ليس من جنس ما يتغذى به، والطباع لا تميل إليه، فهو بمنزلة التراب، وإذا ابتلع سمسمة كانت بين أسنانه لا يفسد صومه، وإن تناولها من الخارج إن مضغها لا يفسد صومه، إلا أن يجد طعمه في حلقه، وإذا مص إهليلجة يابسة، ولم يدخل عينها في جوفه لا يفسد صومه، ولو فعل هذا بالفانيد أو السكر يفسد صومه.
وفي «الجامع الصغير» : إذا وقع ثلجة أو مطرة في فم الصائم، وابتلعها يفسد صومه هو المختار، والغبار والدخان وطعم الأدوية، وريح العطر، إذا وجد في حلقه لم يفطره؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
وإذا وضع البزاق على كفه، ثم ابتلعه فسد صومه بالاتفاق، وإن كان البزاق شيئاً (160أ1) ، فيدلي من فمه لكن لم يزايل فمه، ثم ابتلعه لم يفسد صومه، في صوم شمس الأئمة الحلواني، وعن الفقيه أبو جعفر أنه إذا أخرج البزاق على شفتيه، ثم ابتلعه فسد صومه.
في «المنتقى» : الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: البزاق إذا خرج من الفم(2/384)
ثم رجع إلى فمه، فدخل حلقه، وقد بان من الفم، أو لم يبن، فإن كان ذلك قدر ما إذا أصاب الصائم فطره، فإنه يفطره، وإذا ابتلع بزاق غيره فسد صومه من غير كفارة، إلا إذا كان بزاق صديقه، فحينئذٍ تلزمه الكفارة؛ لأن الناس قلما يعافون بزاق أصدقائهم،
وفي «المنتقى» : إذا شرب النائم، فعليه القضاء قال: ثمة، وليس هو كالناسي، وأشار إلى الفرق، فقال: ألا ترى أن النائم أو الذاهب العقل، إذا ذبح لم تؤكل ذبيحته، والناسي للتسمية تؤكل ذبيحته؟
وفي «الواقعات» : للصدر الشهيد رحمه الله: الدمع إذا دخل فم الصائم إن كان قليلاً، كالقطرة والقطرتين لا يفسد صومه، وإن كان كثيراً حتى وجد ملوحته في جميع فمه، وابتلعه يفسد صومه، وكذلك الجواب في عرق الوجه.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» إن تلذذ بابتلاع الدموع، فعليه القضاء مع الكفارة.
وفي «الواقعات» أيضاً الدم إذا خرج من الأسنان، ودخل الحلق إن كانت الغلبة للبزاق لا يفسد صومه، وإن كانت الغلبة للدم فسد صومه، وإن كان على السواء فسد صومه احتياطاً، ولا كفارة إذا كانت الغلبة للدم، أو كانا على السواء، لأنه لا كفارة في الدم الخالص في ظاهر الرواية، فهذا أولى.
إذا أكل لحماً غير مطبوخ يلزمه القضاء بلا خلاف، وتكلموا في الكفارة قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : والمختار أنه تلزمه، وإذا أكل لحماً غير مطبوخ تلزمه الكفارة بلا خلاف؛
الصائم إذا دخل المخاط من أنفه رأسه، فاستشمه، فأدخل حلقه على عمد منه لا يفسد صومه، وهو بمنزلة ريقه،
إذا رمت المرأة القطنة في قبلها إن انتهت إلى الفرج الداخل، وهو رحمها انتقض صومها؛ لأنه تم الدخول.
قيل لرجل يأكل: إنك صائم، وهو لا يتذكر، تكلموا فيه، واختيار الصدر الشهيد: أنه يلزمه القضاء، وإذا فتل خيطاً، أو سلكاً، فبله ببزاقه، ثم أدخله في فمه ثم أخرجه، وفعل كذلك مراراً لا يفسد صومه في صوم شمس الأئمة الحلواني؛ الصائم إذا عمل عمل الإبريسم، فأدخل الإبريسم في فمه، فخرجت به خضرة الصبغ، أو صفرية، أو حمرية، واختلطت بالريق، فصار الريق أخضراً أو أحمراً أو أصفراً، فيبلع هذا الريق، وهو ذاكر لصومه فسد صومه.
وفي «البقالي» : إذا أمسك في فمه شيئاً لا يؤكل، فوصل إلى جوفه لا يفسد صومه، وفيه أيضاً: إذا اغتسل فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه.
وفيه أيضاً: عن نصر إذا اغتسل، فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه؛ لأنه لم يصب فيه متعمداً.
نوع منه: إذا عالج ذكره بيده حتى أمنى، قال أبو بكر، وأبو القاسم: لا يفسد صومه، وعامة مشايخنا استحسنوا، وأفتوا بالفساد، وكذلك على هذا الخلاف إذا أتى(2/385)
بهيمة فأنزل، وإن لم ينزل لا يفسد صومه بلا خلاف،
وأما إذا قبل بهيمة أو مس فرج بهيمة، فأنزل لا يفسد صومه بالاتفاق في صوم شمس الأئمة الحلواني رحمه الله،
وإذا قبل امرأته، وأنزل فسد صومه من غير كفارة، وإذا قبلت المرأة زوجها، فكذلك في حقها، وهذا إذا رأت بللاً، فأما إذا وجدت لذة الإنزال لكنها لا ترى بللاً قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال: ينبغي أن لا يفسد صومها عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وهو نظير الاختلاف، فيما إذا رأت في منامها، ووجدت لذة إلا أنها لم تر بللاً قيل: يلزمها الاغتسال؛
l
جامع في نهار رمضان قبل الصبح، فلما جيء الصبح خرج، فأمنى بعد الصبح لا يفسد صومه؛ لأنه لم يوجد بعد الصبح الجماع لا صورة ولا معنى؛
ولو نظر إلى امرأته بشهوة، فأمنى لا يفسد، وإذا مسها، وأمني يفسد صومه، والمراد مس ليس بينهما ثوب، فأما إذا مسها من وراء ثياب، فإن كان يجد حرارة أعضائها فسد صومه إذا أمنى، وإن كان لا يجد حرارة أعضائها لا يفسد صومها، وإن أمنى، في صوم شمس الأئمة.
وإذا مست المرأة زوجها حتى أنزل لم يفسد صومه، ولو كان تكلف بذلك، ففيه اختلاف المشايخ.
في «البقالي» : مس الصائم امرأته، وأمذى لا يفسد صومه، ومن المشايخ من فصل القول وقال: إذا خرج المذي على سبيل الدفق يفسد، وإن خرج لا على سبيل الدفق لا يفسد. جماع الميتة بمنزلة جماع البهيمة يفسد صومه، إذا أنزل،
إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها، فقام عنها، أو جامعها ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها قال محمد رحمه الله: هما سواء، ولا قضاء عليه، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه لم يوجد بعد التذكر وانفجار الصبح.... عن الجماع، ولو وجد بجزء من المجامعة ومخالطة، فذاك مما لا يستطاع الامتناع عنه، وقال إسماعيل: قال إسماعيل: قال أبو يوسف يقضي الذي كان يطأها الليل، ولا يقضي الذي كان يطأها بالنهار، وإن طلع الفجر، وهو مخالطها وبقي، فعليه قضاء لا كفارة، وكذلك إذا جامع ناسياً، فتذكر، فبقي، رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، (160ب1) وأبي يوسف، وهشام عن محمد.
وعن أبي يوسف: إذا بقي بعد الطلوع، فعليه الكفارة، وإن بقي بعد الذكر، فلا كفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه ما لم يصح الشروع لا تجب الكفارة، واقتران المجامعة بالشروع يمنع صحة الشروع، وعلى هذا إذا كان يأكل ويشرب ناسياً، فتذكر، أو كان طلع الفجر، وهو يأكل ويشرب، فقطع الشرب، أو ألقى اللقمة، فصومه تام.(2/386)
في «الحاوي» في امرأتين عملتا عمل الرجال من الجماع، إن أنزلتا، فعليها القضاء، وإن لم تنزلا، فلا قضاء عليهما، والله أعلم.
الفصل الخامس في وجوب الكفارة في فساد الصوم
ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان:
أحدهما: أن الصائم إذا أكل ما يتداوى به، أو ما يؤكل عادة، إما مقصوداً بنفسه، أو تبعاً بغيره تلزمه الكفارة، وهذا لأن الكفارة إنما شرعت بخلاف القياس زجراً عن جناية إفساد الصوم، وإنما يحتاج إلى الزجر فيما يميل الطبع إليه، والطبع إنما يميل إلى ما يعتاد أكله، أو يتداوى به، أما لا يميل إلى ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى به،
والثاني: أن ما يصلح للدواء والغذاء يجب في ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى إلا بأقله الكفارة قصد الغذاء، أو الدواء أو لم يقصد.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا أكل ورق الشجر إن أكل ما تؤكل عادة كرام زكيد مر تلزمه الكفارة، وإن أكل التاك والحلبوي، فكذلك إن أكل في الابتداء تلزمه الكفارة، وإن أكل بعد ما كبر هذه الأشياء لا تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يعتاد أكله كذلك، وعن هذا قلنا: إذا ابتلع جوزة يابسة، أو لوزة يابسة لا كفارة عليه، وإن ابتلع لوزة رطبة، فعليه الكفارة.
وكذلك إذا ابتلع بطيخة صغيرة، فعليه الكفارة، ولو مضغ الجوزة اليابسة، أو اللوزة حتى وصل الممضوغ إلى جوفه، فعليه الكفارة روي ذلك عن أبي يوسف مطلقاً من غير فصل، وذكر هشام عن محمد في «المنتقى» المسألة مطلقة أيضاً من غير فصل،
قال مشايخنا رحمهم الله: إن وصل القشر أولاً إلى حلقه، فلا كفارة؛ لأن الفطر حصل بالقشر، وإنه لا يوجب الكفارة، وإن وصل اللب أولاً إلى حلقه، فعليه الكفارة.
في «نوادر» صوم شمس الأئمة الحلواني، وفي «المنتقى» ، وابن سماعة في «نوادره» : لو أكل قشور الرمان بشحمه، أو ابتلع رمانة، فعليه القضاء، ولا كفارة،
أكل قشر البطيخ، إن أكل يابساً أو كان بحال يتقذر منه، فلا كفارة، وإن كان طرياً وكان بحال لا يتقذر منه، فعليه الكفارة، وإذا أكل الحنطة، فعليه الكفارة؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تلزمه الكفارة، وإن أكل حبة، وفي «القدوري» يقول: إذا قضم حنطة، فعليه الكفارة، وإن أكل الشعير، فلا كفارة عليه، إلا إذا كان مقلياً، في «نوادر الصوم» لشيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «نوادر» صومه أن فيه اختلاف المشايخ، ولم يتعرض للمقلي وغير المقلي، وأكل الأرز والجاورس لا يوجب الكفارة وإن أكل عجيناً، فعليه الكفارة عند محمد، وعند أبي يوسف لا كفارة عليه؛ لأنه لا يؤكل عادة، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، وفي موضع آخر الخلاف على عكس هذا وإن أكل عجين الحوك الذي سمي بالفارسية تبعه، ينبغي أن تجب الكفارة كما لو أكل العصيدة(2/387)
في «نوادر» شمس الأئمة أيضاً، ودقيق الذرة إذا لته بالسمن والدبس تجب الكفارة بأكله؛ لأنه يؤكل كذلك عادة، ودقيق الحنطة أو الشعير غسل بالماء وخلط بالسكر وسمي بالفارسية تيست تجب الكفارة بأكله؛ لأنه دواء، وإن أكل الطين الأرمني، فعليه الكفارة لأنه يتداوى به، وعن أبو يوسف أنه لا يجب في «البقالي» ، وإن أكل الطين الذي يأكله الناس على سبيل العلة ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في صومه أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر رحمه الله في «نوادر» صومه عن محمد أنه لا كفارة، قال: تدري أن كثيراً من مشايخنا استحسنوا، وأوجبوا الكفارة، وفي «البقالي» عن ابن المبارك مطلقاً أنه تجب الكفارة، فقيل له: ترويه عن أحد، قال: هو قول محمد و «شرحه» .
في بعض روايات «المنتقى» الأكل للتداوي، ولو أكل كافوراً، أو مسكاً، أو زعفراناً، فعليه الكفارة؛ لأنه يتداوى بهذه الأشياء ولو ابتلع إهليلج ففيه روايتان، وإذا أخذ لقمة من الجبن ليأكلها، فلما مصها تذكر أنه صائم، فإن ابتلعها كذلك، فعليه القضاء والكفارة، وإن أخرجها من فمه، ثم أعادها، وابتلعها، فلا كفارة؛ لأن بالإخراج صارت نحلاً يعاف عنها، وإذا أكل الملح وحده، فقد قيل: بأنه لا تلزمه الكفارة، وقد قيل: بأن عليه الكفارة، وقيل: تجب الكفارة بأكل القليل منه، ولا تجب بأكل الكثير؛ لأن الكثير منه مضر؛
نوع منه
إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها فقام عنها، أو جامع ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها حتى لم يفسد صومه، أو عاد وهو ذاكر، في بعض الكتب أن عليه الكفارة من قبل إن عاد وهو على صومه، وذكر في بعض الكتب أن عن محمد في وجوب الكفارة روايتين، في رواية قال: تلزمه الكفارة لما قلنا، وفي رواية قال: إن كان الرجل فقيهاً يعلم أن الأول لم يفطره، ثم عاد تلزمه (161أ1) الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه الكفارة.
وهو نظير ما لو أكل ناسياً، ثم أكل ناسياً، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، إن كان الرجل فقيهاً تلزمه الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه كذا ههنا.
الجماع في الدبر عندهما يوجب الكفارة، وكذلك عند أبي حنيفة على إحدى الروايتين، وهو الصحيح، لأن وجوب الكفارة بالجماع؛ لأنه قضاء الشهوة على سبيل التمام، وقد وجد ذلك ههنا، ووجوب الحد بالزنا لتضييع الولد، وفساد الفراش، وهذا المعنى لم يوجد ههنا.
وإذا طاوعت المرأة زوجها في الجماع، فعليها الكفارة، وإن كانت مكرهة، فلا كفارة عليها قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الشرط كونها مكرهة وقت الإيلاج؛ لأن الصوم إنما يفسد بالإيلاج، ولو أكرهت المرأة زوجها على الجماع، فعلى الزوج الكفارة، هكذا ذكر في بعض المواضع؛ لأن الزوج لا يجامعها إلا بعد انتشار الآلة، وإذا جاء الانتشار زال الإكراه، وذكر محمد في «الأصل» أن الكفارة عليه، وعليه الفتوى؛ لأن هذا إفطار بقدر،(2/388)
إذا علمت بطلوع الفجر، وكتمت عن زوجها حتى جامعها، والزوج لم يعلم بطلوع الفجر، فعليها الكفارة، والله أعلم.
الفصل السادس فيما يكره للصائم أن يفعله وما لا يكره
إذا أراد أن يحتجم إن أمن على نفسه من الضعف لا بأس به، فأما إن خاف أن يضعفه ذلك، فإنه يكره، وينبغي له أن يؤخر إلى وقت الغروب هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده شرط الكراهة ضعفاً يحتاج إلى الفطر والقصد يكون فطر الحجامة.
ويكره المبالغة في المضمضة، والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة، وإنه معروف، وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ويفسر ذلك أن يكثر إمساك الماء في فمه، ويملأ فمه لا أن يغرغر، ويكره مضغ العلك للصائم، قال مشايخنا: والمسألة على التفصيل، إن لم يكن العلك مصلحاً ملتئماً فطره، وإن كان مصلحاً ملتئماً، فإن كان أسود فطره، وإن كان أبيض لم يفطره إلا أن في «الكتاب» لم يفصل.
قال في «الأصل» : ويكره للصائم أن يذوق شيئاً بلسانه، ومن أصحابنا من قال: هذا في صوم الفرض، أما في صوم التطوع لا يكره في صوم شمس الأئمة، ومنهم من قال: في صوم الفرض إنما يكره إذا كان له بد أما إذا لم يكن بد بأن احتاج إلى شراء شيء مأكول، وخاف أنه لو لم يذق يغبن فيه، أو لا يوافقه، لا يكره في صوم خواهر زاده رحمه الله، ونص على الكراهة في هذه الصورة في «فتاوى أهل سمرقند» .
قال: ويكره للصائم أن يذوق العسل والدهن عند الشراء ليعرف جيده ورديئه. وفيه أيضاً: يكره للصائم ذوق المرقة.
وفي «فتاوى البلخي» : إن كان زوجها سيء الخلق يضايقها في ملوحة الطعام، فلا بأس به.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن أبا حنيفة كان يكره أن تمضغ المرأة لصبيها طعاماً، وفي «القدوري» : لا بأس للمرأة أن تمضغ لصبيها طعاماً إذا لم تجد منه بدّاً، ولا بأس بالسواك الرطب واليابس، وأن يغمر في الماء قال عليه السلام «خير خلال الصائم السواك» ، وقال أبو يوسف: يكره المعلوك، ولا يكره الرطب.......؛ لأن في(2/389)
المعلوك إدخال الماء في الفم من غير حاجة،
وفي «المنتقى» : كان أبو حنيفة رحمه الله يكره للصائم أن يمضمض، ويستنشق بغير وضوء، وأن يصب الماء على وجهه ورأسه، وأن يستنقع في الماء، وأن يذوق شيئاً بلسانه، وعن أبي يوسف أنه يكره له أن يتمضمض بوضوء، ولا بأس بأن يستنقع ويغسل على رأسه ويبل ثوبه.
وفي «القدوري» : ولا بأس للصائم أن يقبل ويباشر إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه كره المعانقة والمباشرة والمصافحة، وليس بين الروايتين تنافي، فرواية الحسن محمولة على المباشرة الفاحشة، بأن يعانقها، وهما متجردان، ويمس فرجه فرجها، وهذا مكروه بلا خلاف، ولأن المباشرة إذا بلغت هذا المبلغ يفضي إلى الجماع غالباً، وما ذكر في ظاهر الجواب محمول على ما إذا لم تكن المباشرة فاحشة، وفي المباشرة إذا لم تكن فاحشة، إذا كان يخاف على نفسه يكره أيضاً.
الفصل السابع في الأسباب المبيحة للفطر
إذا أفطر في صوم التطوع فإن كان بعذر يحل، واختلفت الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في الضيافة، أنه هل تكون عذراً؟ فعن أبي يوسف أنه إذا دعاه أخ له إلى الطعام فهذا عذر يفطر ويقضي، وروى هشام عن محمد: إذا دخل على أخ له، فسأله أن يفطر لا بأس بأن يفطر قالوا: إن الصحيح من المذهب أنه ينظر في ذلك، إن كان صاحب الدعوة ممن يرضى بمجرد حضوره، ولا يتأذى بترك الإفطار لا يفطر، وإن كان يعلم أنه يتأذى بترك الإفطار يفطر قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أحسن ما قيل في هذا الباب: إن كان يثق من نفسه بالقضاء يفطر، دفعاً للأذى عن أخيه المسلم، وإن كان لا يثق من نفسه بالقضاء لا يفطر وإن كان في ترك الإفطار أذى المسلم،
وقد اختلف مشايخ بلخ فيمن حلف على صائم (161ب1) بطلاق امرأته أن يفطر قال خلف بن أيوب: لا ينبغي له أن يفطر، وقال الفقيه أبو الليث: الأولى أن يفطر، ثم يقضي، وعلى قياس ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في مسألة الضيافة يجب أن يكون الجواب في مسألة الحلف على ذلك التفصيل أيضاً.
وهذا إذا كان الإفطار قبل الزوال، فأما بعد الزوال، فلا يفطر إلا إذا كان في ترك الإفطار عقوق بالوالدين أو بأحدهما، وأما الإفطار بغير عذر بشرط القضاء ذكر في «المنتقى» عن أبي يوسف أنه يحل.
وهكذ روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ذكر أبو بكر الرازي عن أصحابنا أنه لا يحل، والمتأخرون اختلفوا فيه وهذا كله في التطوع، أما في الفرض والواجب لا يحل الإفطار إلا بعذر، والسفر ليس بعذر في اليوم الذي أنشأ السفر فيه، وعذر في سائر الأيام(2/390)
بخلاف ما لو مرض بعدما أصبح صائماً؛ لأن المرض عذر جاء من قبل الله.... سبيل من إسقاطه، فجاز أن يسقط عن المعني في الصوم، وأما السفر معني في مهنة من، وعليه لا يقدر على إسقاط ما عليه إلا بالأداء، والسفر الذي يبيح الفطر ما يبيح القصر، والمرض الذي يبيح الفطر ما خاف منه الموت، أو زيادة علة، حتى لو خاف أنه لو لم يفطر يزداد عنه وحفا أو حماة شدة حل له أن يفطر، وقد فرق بين المرض وبين السفر، فجعل أصل السفر مبيحاً، ولم يجعل أصل المرض مبيحاً، والوجه في ذلك: أن العلة الأصلية في إباحة الفطر المشقة، والمرض أنواع منها ما يكون الصوم خير المريض، فلا يصلح لإباحة الفطر على الإطلاق، فأما السفر، فالصوم فيه يوجب المشقة بكل حال.
إذا ثبت هذا: فنقول المريض إذا خاف على نفسه التلف، أو ذهاب عضو منه يفطر بالإجماع، وإن خاف زيادة العلة وامتداده، فكذلك عندنا، وعليه القضاء إذا أفطر لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} (البقرة: 185) وقال في «الأصل» : إذا خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما، أو ولدها جاز الفطر، وعليهما القضاء، وهو بناءً على ما قلنا، ولم يذكر في شيء من الكتب أنه إذا زال المرض، وبقي الضعف هل له أن يفطر؟ قيل: وينبغي أن لا يفطر لأن المبيح هو المرض دون الضعف، ولا يعتبر فوت المرض دون الضعف أيضاً لما ذكرنا أن المبيح هو المرض لا خوفه.
سئل أبو القاسم عمن لدغته حية، فأفطر بشرب الدواء ينفعه، فلا بأس به.
في «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عن صغير رضيع مبطون يخاف موته بهذا الدواء. وله ظئر، ويزعم الأطباء إن شربت دواء كذي يبرأ هذا الصغير، وتحتاج الظئر أن تشرب ذلك نهاراً في رمضان هل لها الإفطار بهذا العذر؟ قال: نعم إذا قال الأطباء البصراء بذلك.
في «الحاوي» : إن أفطرت يوماً في شهر رمضان لضعف أصابها في عمل البيت من طبخ أو خبز أو غسيل ثياب، فإن خافت على نفسها بسبب الصوم لو لم تفطر كان عليها قضاء ذلك اليوم لا غير؛ لأنه إفطار بعذر؛ لأنها تحت يد المولى، ولها أن تمنع من الائتمار لأمر المولى إذا كان يعجزها عن أداء الفرض؛ لأنها مبقاة على أصل الحرفة حق الفرائض، وفي هذه المواضع أيضاً: إذا سافر في شهر رمضان وخرج من مصره، ولم يفطر، وقد نسي شيئاً، فرجع إلى منزله يحمل ذلك الشيء، وأكل في منزله شيئاً، وخرج كان عليه الكفارة لأنه لما رجع فقد رفض سفره، وكان مقيماً.
نوع منه
إذا استدام السفر أو المرض حتى مات، فلا قضاء عليه؛ لأن وجوب القضاء مؤخر إلى وقت زوال العذر، فيبقى التأخير ما بقي العذر، وإن زال العذر بالصحة أو الإقامة وجب القضاء، واختلف أصحابنا في وقت القضاء، منهم قال: بأن القضاء على الفور،(2/391)
ومنهم من قال: بأنه مؤقت بما بين رمضانين، وبه أخذ أبو الحسن الكرخي، والصحيح أنه على التراخي لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} (البقرة: 184) من غير فصل، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: لا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بالصوم؛ لأن الوجوب ليس على الفور قد قال أصحابنا: إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، فلا فدية عليه، وهو بناءً على ما قلنا: إن القضاء غير مؤقت، فكان رجاء القضاء ثانياً، ومع رجاء القضاء لا تلزمه الفدية، فإن لم يصم بعدما صح، أو أقام حتى مات، فعليه أن يوصي أن يطعم عنه؛ لأنه عجز عما هو واجب عليه، فينقل إلى ما يقوم مقامه، وكان عليه أن يوصي بالإطعام، ولا يجوز لابن أن يصوم عنه، وكذا لا يجب عليه الإطعام بدون الوصية؛ لأن العبادات لا يجوز أداؤها عن الغير إلا بالوصية كسائر العبادات وكحالة الحياة.
وقد روي عن عصام ومحمد بن يسار رحمه الله: أن من أراد الاحتياط لميته فليصم، وليطعم عنه؛ لأن السنة وردت بالأمرين «قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّممن مات وعليه صيام أطعم عنه وليه» نحن، وإن لم نأخذ بهذا الحديث بغريب اجتهاد بقي نوع شبهة، فيجمع احتياطاً، ولو صح المريض أياماً، فإن صح عشرة أيام مثلاً، ثم مات لزمه من القضاء بقدر ما صح، هكذا ذكر في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي ههنا خلافاً، فقال: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: يلزمه قضاء جميع الشهر حتى يلزمه أن يوصي جميع الشهر، وقال محمد: يلزمه بقدر ما صح.
والصحيح: أن لا خلاف ههنا، وإنما الخلاف في المريض إذا نذر بصوم شهر، فمات قبل أن يصح لم يلزمه شيء، وإن صح يوماً يلزمه أن يوصي بجميع الشهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، قال محمد: يلزمه بقدر ما صح.
فأما الشيخ الفاني يفطر، ويفدي يطعم عن كل يوم مقدار صدقة (162أ1) الفطر؛ لأنه وقع الناس له عن الصوم؛ لأن الشيخ الفاني أن يكون عاجزاً عن الأداء في الحال، ويزداد عجزه كل يوم إلى أن يموت، وفرق بينه وبين المريض إذا لم يدرك عدة من أيام أخر حيث لم يوجب عليه الفدية؛ لأن من شرط وجوب الفدية تحقق الناس وفي حق الشيخ الفاني تحقق الناس أما في حق المريض لا يتحقق الناس لا في آخر برء من آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن قبل ذلك احتمال البرء قائم، وفي آخر جزء من أجزاء حياته، هو عاجز عن الإيصاء، قال مشايخنا: إذا كان مريضاً يعلم أن آخره الموت، وابتدأ ذلك حتى أمكنه الإيصاء يجعل في هذه الحالة بمنزلة الشيخ الفاني وهذا شيء يجب أن يحفظ جداً.(2/392)
الفصل الثامن في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم
صوم ست من شوال مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله متفرقاً كان أو متتابعاً، وقال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صياماً خوفاً من أن يلحق بالفريضة.
وعن مالك قال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغنا عن أحد من السلف، قال: وكان أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون أن يلحق برمضان ما ليس منه إذا رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يفعلون ذلك، فلفظ مالك ولفظ أبي يوسف دليل على أن الكراهة في حق الجهال الذين لا يميزون.
وعن أبي يوسف أنه قال: أكره متتابعاً ولا أكره متفرقاً. ومن المشايخ من قال: ينبغي للعالم أن يصوم سراً، وينهى الجهال عنه، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: كراهية، وفي نسخة أخرى لشمس الأئمة رحمه الله أن الكراهة في المتصل برمضان، أما إذا أكل بعد العيد أياماً، ثم صام لا يكره بل يستحب.
قال الحاكم الشهيد في «المنتقى» : وجدت عن الحسن أنه كان لا يرى لصوم ستة أيام متتابعاً بعد الفطر بأساً، وكان يقول: كفى بيوم الفطر مفرقاً بينهن وبين شهر رمضان،
وعامة المتأخرين لم يروا به بأساً، واختلفوا فيما بينهم الأفضل هو التفرق أو التتابع، قال القدوري: ورد النهي عن صوم الوصال، وهو أن يصوم ولا يفطر، واختيار الصدر الشهيد في صوم الوصال أنه إن كان يفطر في الأيام المنهية لا يكره، وكان يقول: تأويل النهي أن يصوم جميع الأيام ولا يفطر الأيام المنهية،
قال أيضاً: ونهي عن صوم الصمت، وهو أن لا يتكلم في حال صومه.
قيل: هو فعل المجوس، ولا بأس بصوم عرفة، وهو أفضل لمن قوي عليه في السفر والحضر رواه الحسن، وقد روي فيه نهي، وكذا صوم التروية، وقيل: النهي في حق الحاج إن كان يضعفه، أو يخاف الضعف، وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفلم يصم، وكذا مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يصوموا، وأنا لا أصومه ولا آمر بصيامه ولا أنهى عنه» .
ولا بأس بصوم يوم الجمعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: جاء حديث في كراهيته إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده.
ويكره صوم النيروز والمهرجان إذا تعمده، ولم يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك، وهكذا قيل: في صوم السبت والأحد، ومن المشايخ من قال: إن صامه تعظيماً لعيد المجوس، فهو مكروه وإن صامه شكراً لانقضاء الشيء فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد(2/393)
في «واقعاته» : أن صوم يوم النيروز جائز من غير كراهة، هو المختار، فإن كان يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن يصوم، فإن كان لا يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن لا يصوم؛ لأنه يشبه تعظيم هذا اليوم وإنه حرام.6
وعن أبي يوسف رحمه الله، أنهم كانوا يستحبون صيام أيام البيض، وصوم يوم الاثنين والخميس، وبعضهم كره توقيت الصوم، ومن صام يوماً فأفطر يوماً، فحسن، وقيل: ذلك صوم داود صلوات الله عليه ومن صام شعبان، ووصل بصوم رمضان، وكانوا يستحسنون أن يصوموا قبل عاشوراء وبعده خلاف أهل الكتاب، وعن أبي يوسف أنه قال بعض الفقهاء: من صام الدهر وأفطر أيام خمسة، فهذا ما صام الدهر، قال: وليس هذا عندي، كما قال، والله أعلم هذا قد صام الدهر، ودخل في النهي.
ومما يتصل بهذه المسألة صوم يوم الشك، والكلام فيه من وجهين: من حيث الكراهة والإباحة، ومن حيث الأفضلية. أما الكلام في الكراهة والإباحة فنقول: إما أن ينوي الصوم وبت النية، أو ردد النية، فإن بت النية فهو على وجوه:
أحدها: أن ينوي صوم رمضان، فهو مكروه، وقال عليه السلام: «من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله» وقال عليه السلام: «لا تتقدموا الصيام شهر رمضان عن جماعة الناس بيوم وبيومين إلا أن يوافق يوم الشك صوم يوم أحدكم» .
وتأويله: إذا كان من عادته أن يصوم كل خميس، أو في كل جمعة، فوافق يوم الشك، فلا بأس أن يصوم فيه أورده، وإن حاك في صدره أنه من رمضان كره، وأثم وأما إذا لم يحك في صدره ذلك فلا بأس به.
الثاني: أن يصوم بنية التطوع من غير أن يقع في قلبه أنه من رمضان، فلا بأس بذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد يكره هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع أن فيه اختلاف المتأخرين من المشايخ، قال بعضهم: يكره وأكثر المشايخ على أنه لا يكره سواء كان يصوم قبل هذا اليوم (162ب1) أو كان لا يصوم، وهو مروي عن أصحابنا رحمهم الله، ثم إذا نوى صوم رمضان فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صومه تطوعاً، وإن كان نوى صوم التطوع، فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان؛ لأنه صام بنية التطوع، وإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان كان صومه تطوعاً.
الثالث: إذا نوى واجب آخر يكره، ولكنه في الكراهية دون الأول، وهو ما إذا نوى(2/394)
صوم رمضان؛ لأن النهي في الحقيقة عن أداء صوم رمضان في شعبان، وهذا ليس بصوم رمضان، ولكنه مثله في الفريضة، فيكره دون الأول، فبعد ذلك إن ظهر أن هذا اليوم من رمضان كان صومه عن رمضان عندنا؛ لأنه صحيح مقيم صام رمضان بنية واجب آخر، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان قد اختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا: يقع صومه عن النفل ولا يقع عن ما نوى، وعامة المشايخ على أن صومه يقع عما نوى، فإن صام وظهر أن هذا اليوم من شعبان أو رمضان لا يسقط عنه ما نوى من الواجب بلا خلاف، فإن أطلق النية إطلاقاً، فهو مكروه أيضاً، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان أيضاً كان صومه عن رمضان، هذا الذي ذكرنا كله إذا بت النية، فأما إذا ردد النية، فهذا على وجهين:
كان الترديد في أصل النية.
أو كان الترديد في وصف النية.
فإن كان الترديد في أصل النية بأن نوى إن كان غداً رمضان فهو صائم عن رمضان، وإن كان غداً من شعبان، فهو غير صائم أصلاً، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن كان غداً من رمضان، فهو يصير ما لو نوى أن فطر غداً متى دعي أي دعوة يصوم إن لم يدع، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن لم يدع إلى دعوة.
وإن كان الترديد في وصف النية بأن نوى أن يصوم غداً عن رمضان، إن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم عن واجب آخر، فهو مكروه، فبعد ذلك إن ظهر أن غداً من رمضان صار صائماً عن رمضان؛ لأنه لا ترديد ههنا في أصل النية، وإنما الترديد في جهته فتلغو النية بحكم الترديد، وتبقى أصل النية، وإنه يكفي لصوم رمضان عندنا، وإن ظهر أنه من شعبان لا يصير صائماً عما نوى؛ لأن النية قد بطلت بحكم الترديد بقي أصل النية لا يكفي لإسقاط الواجب، ولكن يصير صائماً تطوعاً، فإن أفطر فيه لا يلزمه القضاء، فإن لم يظهر أن غداً من شعبان، أو من رمضان لا يسقط الواجب عنه، وإن نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً، فهو مكروه، فإن ظهر أنه من رمضان كان صائماً عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صائماً تطوعاً، ولكن لو أفسده لا يلزمه القضاء،
وإن نوى أن يصوم غداً عن رمضان وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان، فهو صائم أطلق، وما عين شيئاً، فهذا وما لو نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً سواء هلآت..... هو الكلام في الكراهة والإباحة جئنا إلى الأفضلية،
فنقول: اتفق مشايخنا على أنه إذا كان يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك بأن اعتاد(2/395)
رجل صوم يوم الخميس ويوم الجمعة، فوقع الشك في ذلك اليوم أن الأفضل أن يصومه تطوعاً، وإن لم يوافق ما كان يصومه قبل ذلك، فالأفضل أن يتلوم، فلا يأكل ولا ينوي الصوم ما لم يقرب انتصاف النهار، فإن قرب انتصاف النهار، ولم يتبين الحال اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: الأفضل أن يصوم، وبعضهم قالوا: الأفضل أن يفطر، وعامة المشايخ على أنه ينبغي للقاضي والمفتي أن يصوم تطوعاً، ويفتي بذلك في حق خاصته، ويفتي للعامة بالفطر.
وفيه حكاية أبي يوسف، وإنها معروفة حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن نصير بن يحيى كان يختار الصوم يوم الشك، ومحمد بن سلمة كان يختار الفطر، فدخل أبو نصر بن سلام على نصير بن يحيى فقال له نصير: لما اختار صاحبك الفطر يوم الشك، والصوم أحوط قال أبو نصر: الفطر أحوط؛ لأنهم أجمعوا على أن من أفطر لا إثم عليه واختلفوا في الصوم قال بعضهم: يكره ويأثم، وقال بعضهم: لا يكره، فدل أن الفطر أحوط، والله أعلم.
الفصل التاسع فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة
إذا جامع امرأته في نهار رمضان، ثم حاضت امرأته، ومرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها عندنا.
وكذلك إذا مرض الرجل سقط عنه الكفارة، وكذلك إذا أكلت أو شربت، ثم حاضت أو مرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها، وإذا جامع أو أكل أو شرب، ثم سافر في ذلك اليوم لا تسقط عنه الكفارة، وإن سوفر به مكرهاً بأن ركب على الدابة، وخرج إلى السفر مكرهاً روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه، وعندهما تجب الكفارة حجتهما أن العذر جاء لا من جهة من له الحق، فصار بمنزلة ما لو سافر بنفسه وأكره على السفر، فخرج بنفسه.
وجه قول أبي حنيفة إن العذر جاء لا من جهة المفطر، فصار كالحيض والمرض إذا حسبت المرأة أن هذا اليوم يوم حيضها، فأفطرت فيه، ثم لم تحض، أو كان لها (163أ1) نوبة حمى، ففطرت فلم تصم في ذلك اليوم أجمعوا أن في فصل الحمى تجب الكفارة، وفي فصل الحيض اختلاف المشايخ، والصحيح أنه تجب.
في «فتاوى القاضي» : إذا أكل بعد الفجر، أو قبل غروب الشمس، وهو لا يعلم، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، فعليه القضاء دون الكفارة، أصبح في رمضان لا ينوي الصوم فأكل أو شرب، فلا كفارة عليه، قال أبو يوسف رحمه الله: إن أكل بعده، فلا كفارة عليه، وإن نوى الصوم قبل الزوال، ثم أفطر في باقي اليوم، فعليه الكفارة عند أبي يوسف ومحمد؛ لأن هذا إفطار في صوم جائز، وعند أبي حنيفة لا كفارة عليه؛ لأن ظاهر قوله(2/396)
عليه السلام «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» يورث شبهة عدم الجواز، والكفارة تدرأ بالشبهات.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا أكل أو شرب أو جامع في نهار رمضان ناسياً، وظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه، وإنما لم تجب الكفارة لمكان الشبهة، والشبهة نوعان: شبهة اشتباه بالنظير، وهو أن يجد لما ظن، واشتبه عليه نظير أو شبهة حكمية، وقد وجد لما اشتبه نظيراً، وهو الأكل حالة العمد؛ لأن أكل الناسي ينافي الإمساك في الظاهر كأكل العامد، وكذلك وجدت الشبهة الحكمية، فإن الصوم قد فسد بالأكل الأول عند أهل المدينة، وإنه قياس غير مهجور، فصار شبهة في الاستحسان.
وعن أبي حنيفة: أنه إن بلغه الحديث لزمه الكفارة؛ لأنه علم أن القياس متروك، فلا يعتبر القياس سبباً للشبهة في حقه، وفي رواية أخرى عنه لا تلزمه الكفارة على كل حال، وهو الصحيح.
وإذا احتجم، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فإن لم يستفت أحداً، ولا بلغه الخبر الوارد في هذا الباب، أو بلغه، وعرف نسخه، فعليه الكفارة، وإن لم يبلغه النسخ، أو استفتى أحداً ممن يؤخذ منه الفقه، ويعتمد على فتواه، فأفتي أن صومه فاسد، فلا كفارة عليه؛ لأن على العامي العمل بفتوى المفتي، فإذا فعل كان ذلك موزوراً فيما صنع، وإن كان المفتي مخطئاً فيما أفتى،
وإذا ذرعه القيء فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود شبهة الاشتباه بالنظير، فالقيء والمقيوء سواء، وإذا اكتحل، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فعليه الكفارة لانعدام الشبهتين، ولو أوصى بالفطر فلا كفارة عليه وإذا قبل امرأته أو مسها، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود الاشتباه، فإن له نظيراً، وهو الفعل في حالة التيقظ والله أعلم.
الفصل العاشر في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم
قال محمد رحمه الله: إذا جن (في) رمضان كله، فليس عليه قضاؤه، وإن أفاق شيئاً لزمه قضاء ما مضى، ولم يذكر ما إذا أفاق في الليلة الأولى، ثم أصبح مجنوناً، واستوعب الشهر كله، وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة أنه يلزمه القضاء، وكذا ذكر(2/397)
الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أنه لا قضاء عليه، وهو الصحيح؛ لأن الليلة لا يصام فيها، وعلى هذا إذا أفاق في ليلة في وسط الشهر، ثم أصبح مجنوناً لا قضاء عليه، وإن أفاق في آخر يوم من رمضان إن أفاق بعد الزوال، فقد اختلفوا فيه.
والصحيح: أن لا يلزمه؛ لأنه لا يصح الصوم فيه، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله أنه لا فرق بين الجنون الطارىء، والأصلي إذا أفاق في شيء من الشهر لزمه قضاء ما مضى.
ومن أصحابنا من فرق بين الجنون الأصلي والطارىء، فقال: إن المجنون الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر بأن بلغ مجنوناً، ثم أفاق في بعض الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى، وهكذا روي عن ابن سماعة في «نوادره» عن محمد ونص في «المنتقى» عن أبي يوسف أن الجنون الأصلي إذا لم يكن مستغرقاً، فإنه لا يسقط القضاء، ولو أغمي عليه شهر رمضان، أو بعضه، فعليه قضاء ما مضى، ولو أغمي عليه بعدما غربت الشمس من الليلة الأولى رمضان، وبقي كذلك جميع الشهر، فعليه قضاء جميع الشهر إلا اليوم الأول، فإنما استثني اليوم الأول.
أما إذا نوى بعد دخول الليل قبل الإغماء؛ فلأنه نوى الصوم في محله، فصحت النية وصح صوم ذلك اليوم، وكذلك إذا لم يعلم أنه نوى قبل الإغماء؛ لأن كل مؤمن في كل ليلة من رمضان عليه قصد صوم الغد، هذا هو الظاهر، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعلم بخلافه، حتى لو كان هذا الرجل مسافراً، ولم يعلم وجود النية منه في الليلة الأولى كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن نية صوم الغد في الليالي من المسافر ليس بظاهر.
وكذلك إذا كان هذا الرجل متهتكاً يعتاد الفطر في رمضان كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن حال مثله لا يدل على عزيمة بصوم الغد، فأما إذا أغمي عليه قبل دخول الليلة الأولى لزمه قضاء اليوم الأول أيضاً؛ لأن الإغماء حصل قبل دخول وقت النية، فلا يمكن جعل النية موجودة ظاهراً.
قال القدوري في «شرحه» : إذا أغمي عليه في ليلة من رمضان، فأفاق من الغد قبل الزوال، (163ب1) فينوي ذلك اليوم أجزأه، وكذلك المجنون، ومعنى المسألة: ما إذا علم أنه نوى، فصومه في الغد جائز، ولا حاجة إلى النية في الغد.
قال في «الجامع الصغير» : غلام بلغ في النصف من رمضان في نصف النهار يأكل بقية يومه، ويصوم بقية الشهر، ولا قضاء عليه فيما مضى، وإن أكل في اليوم الذي أدرك فيه ليس عليه قضاؤه، وعلى هذا الكافر إذا أسلم في النصف من رمضان في نصف النهار، وإنما لم يجب قضاء اليوم الذي أسلم الكافر فيه، وأدرك الصبي فيه؛ لأن صوم يوم واحد لا يتجزأ وجوباً وسقوطاً، وقد امتنع الوجوب في صدر النهار، فيمتنع في الباقي، فلا يلزمه قضاؤه أكل فيه أو لم يأكل، وإن كان لم يأكل، في يومه ذلك، وقد أسلم لم يجزئه عن رمضان.(2/398)
أسلم الكافر أو أدرك الصبي قبل الزوال، فنوى أن يصوم ذلك اليوم عن رمضان لم يجزئه عن رمضان، هكذا ذكر المسألة ههنا.
قال مشايخنا: وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في رجل ارتد عن الإسلام في صدر النهار من رمضان، والعياذ بالله، ثم رجع إلى الإسلام قبل الزوال، ونوى الصوم أجزأه، وأنه يكون صائماً عن رمضان يجب أن يصير صائماً عن رمضان في هذه المسألة.
ورواية في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا احتلم الصبي، وأسلم النصراني ضحى النهار، فعليهما أن يصوما ذلك اليوم، ولو أفطرا، فعليهما القضاء؛ لأنه إذا أسلم أو أدرك قبل الزوال، فقد أدرك وقت النية، فصار كما لو أدرك أو أسلم في الليل، ولو كانت جارية حاضت، فعليها قضاء ذلك اليوم، ولو كان ذلك بعد الزوال لم يلزمهم القضاء علل فقال: إنهم لو صاموا لا يكون صوماً، فهذا التعليل إشارة إلى أن وجوب القضاء يعتمد وجوب الأداء، ولا أداء بعد الزوال.
قال في «الجامع الصغير» : ولو كان هذا خارج رمضان يعني بلغ الصبي قبل الزوال، ونوى النفل صح؛ لأن الصبي أهل للنفل، فإذا نوى قبل الزوال، فقد نوى الصوم في وقته، والأهلية ثابتة من أول اليوم إلى آخره فيصح.
والحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الزوال خارج رمضان ونوت النفل لا يصح صومها لعدم الأهلية في أول النهار، والكافر إذا أسلم قبل الزوال خارج رمضان، ونوى التطوع، فقد ذكر في بعض «النوادر» : صومه صحيح، والذي عليه عامة مشايخنا صومه لا يصح إلحاقاً له بالحائض.
قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في مسافر نوى الإفطار، ثم قدم المصر قبل الزوال، فعليه أن يصوم إن كان في رمضان؛ لأن الصوم واجب على المسافر نظراً للسبب والأهلية لكن رخص له الترك؛ لأجل السفر، فإذا انتهى السفر نهايته، والوقت قابل للصوم لزمه الأداء، ولكن مع هذا لو أفطر لا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة عرف وجوبها بخلاف القياس في صوم لا يكون إباحة الإفطار فيه ثابتة في أول النهار، والله أعلم.
الفصل الحادي عشر في النذور
قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة لزمه كذلك؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأن قوله: شهراً عقيب ذكر اليوم يذكر بتقدير ما أوجب على نفسه مكانه، قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة، ولو نوى أن يصوم هذا اليوم كلما دار في الشهر، فهو كما نوى، ويلزمه صوم هذا اليوم أربع مرات كلما دار في الشهر؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه بإضمار في، وإن لم تكن له نية اختلفت الرواية فيه، قال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم كلما دار في الشهر أربع مرات(2/399)
وخمس مرات يلزمه الزيادة بالشك، وقال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم ثلاثين مرة احتياطاً لأمر العبادة.
«المنتقى» : المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم اثنين، ونوى كل الاثنين يأتي عليه، فعليه ما نوى، وكذلك صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ولو قال: عليّ صوم غد ورأس الشهر، ونوى كلما يأتي عليه، فليس بشيء، وعليه أن يصوم ذلك اليوم الذي تكلم به، ولو قال: عليّ صوم هذا الشهر يوماً كان عليه أن يصوم هذا الشهر في أي الوقت ما شاء.
ويصير تقدير هذه المسألة لله عليّ أن أصوم شهراً في وقت ما، وإذا قال: عليّ صوم هذا اليوم غداً، فإنه ينظر إن كان قال هذه المقالة بعد الزوال وبعد الأكل، فلا شيء عليه؛ لأن ذكر الغد لغو ههنا إذ لا يتصور صوم هذا اليوم في الغد، فإذا لغا ذكر الغد صار كأنه قال: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهناك الجواب على التفصيل الذي ذكرنا.
ولو قال: لله عليّ أن أصوم غداً اليوم لزمه صوم الغد؛ لأن ذكر اليوم لغو ههنا، لأنه لا يتصور صوم الغد في اليوم، فصار حاصلاً مثلما لله عليّ أن أصوم أمس لا يلزمه شيء، ولو قال: لله عليّ حج السنة الماضية في هذه السنة لزمه الحج؛ لأن ذكر الوقت لغو في باب الحج؛ لأن الحج مقدم بأفعاله لا بالوقت، وإذا لغا ذكر الوقت صار النذر مضافاً إلى صوم لا يتصور فيه.
في «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ صوم يوم الفطر، فإنه يفطر، ولا قضاء عليه. روى هشام عن محمد،
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم يوم الأضحى قال: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا شيء عليه، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الصوم يوم، فإن أفطر يوم الأضحى، وقضاه يوم الفطر أجزأه إذا علق النذر بالصوم بالشرط، وأداه قبل وجود الشرط لا يجوز إجماعاً، وإذا كان مضافاً إلى وقت (164أ1) وأداه قبل مجيء الوقت بأن قال: لله عليّ أن أصوم رجباً، فصام ربيع الأول مكانه، فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وعلى قول محمد: لا يجوز، وأما إذا كان مضافاً إلى مكانه، وأداه في مكان آخر إن كان المكان الذي أدى فيه أفضل أو مثله يجوز بالإجماع، وإن كان دونه، فعلى قول علمائنا الثلاثة يجوز خلافاً لزفر.
إذا قال: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً، وما نوى شهراً بعينه، فشرع في صوم شهر، وأفطر يوماً لزمه الاستقبال، ولو قال: لله عليّ أن أصوم هذا الشهر متتابعاً، فأفطر يوماً منه لا يلزمه الاستقبال؛ لأنه لو لزمه الاستقبال في الفصل الثاني وقع جميع الصوم وأكثر في غير الوقت المضاف إليه النذر، وكذلك ما إذا كان الشهر تعين بعينه.
قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : قال رجل: لله عليّ صوم يوم، فأصبح من الغد لا ينوي صوماً، فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصوم اليوم الذي أوجب على نفسه، فإن ذلك لا يجزئه من قضاء ذلك اليوم، فرق بين هذا، وبينما إذا قال: لله عليّ أن أصوم(2/400)
غداً، فأصبح من الغد لا ينوي صومه مما عليه قبل الزوال إثراً..... وإنما كان كذلك اعتبار الواجب بإيجاب العبد بالواجب بإيجاب الله تعالى في كل فصل.
إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً بعينه، ثم إنه ظاهر من امرأته، وصام شهرين متتابعين عن ظهاره أحدهما رجب أجزأه من الظهار، وكان عليه أن يقضي رجباً بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان، حيث لم يجز ذلك عن الظهار، وكان من رمضان خاصة، وإذا وقع صوم رجب من الظهار، ولم يقع عن رجب لا كفارة عليه إن أراد يميناً؛ لأنه صام رجباً كما حلف في الأصل، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهر، ونوى شهراً بعينه نحو إن نوى رجباً أو شعبان أو ما أشبهه، فأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، وليس عليه الاستقبال، ولو نوى شهراً بغير عينه، فأما إن نوى شهراً بالأهلة أو بالأيام، وأي ذلك ما نوى صحت نيته، فبعد ذلك إن لم ينو التتابع فله الخيار، إن شاء صام متتابعاً وإن شاء صام متفرقاً، وإن نوى متتابعاً وشرع في صوم شهر وأفطر يوماً لزمه الاستقبال كما صرح بالتتابع، وقد مرت المسألة.
وإذا قال: لله عليّ أن أصوم سنة، فهذه المسألة على وجهين:
إما إن قال: هذه السنة وإنه على وجهين: إما إن قال: في أول السنة، وفي هذا الوجه يلزمه بنذره أحد عشر شهراً لا يدخل في ذلك أيام العيد ولا يدخل شهر رمضان، وأما إن قال ذلك في بقية السنة، وفي هذا الوجه يلزمه ما بقي للسنة من.... يكون شهر رمضان في الباقي، وأما إن قال: سنة وإنه على وجهين:
إما إن عين السنة بأن قال: سنة كذا، والجواب فيه كالجواب فيما إذا قال نذر على الصوم هذه السنة يلزمه بنذره أحد عشر شهراً وإن لم يعين السنة إن لم ينص على التتابع يلزمه اثنا عشر شهراً، بخلاف ما إذا عين السنة، فإن هناك يلزمه أحد عشر شهراً.
والفرق: أن النذر إذا تناول سنة معينة كان النذر مضافاً إلى رمضان وإلى غيره من الشهور، والنذر المضاف إلى رمضان لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً، أو إذا تناول سنة غير معينة، فالنذر هنا أضيف إلى رمضان؛ لأن السنة إذا كانت بغير عينها إذا صام اثني عشر شهراً متفرقاً يجوز، فلزمه اثنا عشر شهراً وإن نص على التتابع يلزمه أن يصوم أحد عشر شهراً؛ لأن السنة المتتابعة لا تخلو عن رمضان، فيكون النذر مضافاً إلى رمضان وإنه لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً هذا الذي ذكرنا في حق الرجل.k
وأما المرأة إذا نذرت صوم سنة بعينها، فالجواب في حقها كالجواب في حق الرجل يلزمها أحد عشر شهراً بنذرها، وتقضي أيام حيضها؛ لأن النذر إذا كان مضافاً إلى سنة بعينها كان مضافاً إلى كل يوم من تلك السنة، فيلزمها صوم يوم حيضها.
في «الفتاوى» إذا قال: لله علّي أن أصوم شوال وذا العقدة وذا الحجة، فصامهن بالرؤية، وكان ذو العقدة تسعة وعشرون، فعليه قضاء خمسة أيام إن لم يصم في العيدين،(2/401)
وأيام التشريق؛ لأنه أبرم صوم ثلاثة أشهر متفرقاً وقد صام ما عدا هذه الأيام الخمسة.
ولو قال: لله عليّ أن أصوم ثلاثة أشهر، فصامهن على نحو ما قلنا، فعليه قضاء ستة أيام؛ لأنه أشار إلى غائب، فيلزمه كل شهر ثلاثين، وإذا قالت المرأة: عليّ صوم يوم حيضي لا يلزمها شيء، وكذلك إذا قالت: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهي حائض، وكذلك لو قال رجل أو امرأة: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم، وكان أكل فيه، أو قال ذلك بعد الزوال لا يلزمه شيء.
وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان بعد الزوال، أو قبل الزوال، ولكن بعد الأكل، فإنه لا يلزمه شيء، ولو قالت: لله عليّ أن أصوم غداً يوم حيضها لزمها صوم الغد حاضت أو لم تحض.
كذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان قبل الزوال، وهي حائض، فعليها أن تقضي، وكذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم يوم الخميس، فجاء يوم الخمس، وهي حائض، فعليها القضاء. وروى هشام عن محمد إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان في يوم هي حائض، فلا قضاء عليها (164ب1) .
وروى ابن رستم عن محمد إذا قالت المرأة: لله عليّ أن أصوم غداً، وهي اليوم حائض وغداً من أيام حيضها، فلم تطهر غداً، فعليها يوم مكانه، قال: لأني لا أدري لعل الدم ينقطع غداً، وكذلك في النفاس، وقد ولدت اليوم، وقالت: لله عليّ أن أصوم غداً، وإذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان يوم أضحى فعليه يوم مكانه. إذا نذر بصوم شهر بعينه، وأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، ولا يلزمه الاستقبال، وقد مر هذا. قال محمد: وإن أراد بقوله: لله عليّ اليمين كفر يمينه مع قضاء ذلك اليوم.
واعلم أن هذه المسألة على تسعة أوجه:
إما أن نوى بقوله: لله عليّ النذر، ولا نية له في اليمين،
أو نوى اليمين ولا نية له في النذر،
أو نوى أن لا يكون يميناً،
أو نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذراً، أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً،
أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذر،
أو نوى النذر واليمين جميعاً، أو لم يكن له نية أصلاً، فإن لم ينوِ شيئاً أو نوى النذر، ولا نية له في اليمين،
أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً كان نذراً، ولا يكون يميناً في هذه الوجوه، وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون يميناً، ولا يكون نذراً، إن نوى النذر واليمين كان يميناً ونذراً عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يكون نذراً، ولا يكون يميناً، فأبو يوسف يقول: بأن هذه الصيغة للنذر حقيقة، ولليمين مجاز؛ لأن النذر يوجب المنذور به لعينه، فكان واجباً من كل وجه، واليمين يفيد وجوب المحلوف به بغيره؛ إذ ليس في لفظ اليمين ما يقتضي الوجوب، وكان واجباً من وجه، واللفظ الموضوع لإفادة معنى لا يفيد ما دونه إلا مجازاً، والحقيقة والمجاز يرادان بلفظ واحد، فتترجح الحقيقة على المجاز
وهما يقولان: هذا التصرف نذر صيغة يمين معنى، أما نذر صيغة، فظاهر، وأما(2/402)
يمين معنى؛ لأنه نوى اليمين، وصحت نيته لكون اللفظ محتملاً لليمين بإقامة حرف اللام مقام حرف الباء، فيجب العمل باللفظ المعنى كما في الهبة بشرط العوض، والعمل باللفظ والمعنى ليس من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن اللفظ إذا صار مجازاً عن غيره تسقط حقيقته في نفسه، كالهبة المضافة إلى الحرة والعمل باللفظ والمعنى لا يوجب سقوط اعتبار اللفظ، بل يبقى اللفظ على حاله مقرراً في وصفه لكن زاد عليه شيء آخر كما في الهبة بشرط العوض، وقد وجد هذا الحد في مسألتناً؛ لأن حقيقة هذا اللفظ للنذر، ومتى نوى اليمين يبقى مقرراً على حاله، لكن يزاد عليه حرف القسم وهو الباء، أو تقام اللام مقام حرف الباء، فهذا من باب العمل باللفظ والمعنى، وإنه جائز، وإن نوى اليمين ولا نية في النذر، فعلى قول أبي يوسف يكون يميناً، ولا يكون نذراً؛ لأنه لا يرى الجمع، وقد تعين اليمين مراداً بنيته، فلا يبقى النذر مراداً.
وعلى قولهما: يكون يميناً ونذراً؛ لأنهما يريان الجمع ونيته اليمين صار معنى اليمين معتبراً في النذر، فيكون يميناً ونذراً، وإذا نذر بصوم كل خميس يأتي عليه، فأفطر خميساً واحداً، فعليه قضاؤه وكفارة يمين إن أراد يميناً مع النذر، وإن أفطر خميساً آخر، فلا كفارة عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن نية اليمين لما صحت في النذر عندهما صار كأنه قال: لله عليّ صوم كل خميس، وقال مع ذلك: والله لأصوم كل خميس، ولو صرح بالأمرين جميعاً، ثم أفطر جميعاً بقي النذر، ولم يبق اليمين؛ لأن يمين واحدة حيث فيها مرة، فلا تجب مرة أخرى، فلم تتكرر الكفارة، فأما القضاء إنما يجب بالإفطار، والإفطار قد تكرر، فيتكرر القضاء.
إذا قال: لله عليّ صوم الأبد يفطر أيام العيد، ويطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من حنطة؛ لأنه وقع الناس عن قضاء هذه الأيام بالصوم، فيفدي كما في الشيخ الفاني هكذا ذكر في صوم «الأصل» .
وفي «المنتقى» : هشام عن محمد فيمن جعل على نفسه صوم الأبد، فأفطر يوم الفطر ويوم الأضحى لا يطعم عن هذه الأيام في حياته، وعليه أن يقضي أن يطعم بخلاف الشيخ الفاني، فإنه يطعم في حياته. إذا قال: لله عليّ أن أصوم جمعة إن أراد أيام الجمعة يلزمه صوم جمعة، وإن أراد أيام الجمعة يلزمه سبعة أيام، وإن أراد به يوم الجمعة يلزمه صوم يوم الجمعة، وإن لم يكن له نية يلزمه صوم سبعة أيام؛ لأن الجمعة تذكر، ويراد بها يوم الجمعة، وتذكر ويراد بها الأيام السبعة لكن الأيام السبعة أغلب، فانصرف المطلق إليه، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهراً مثل شهر رمضان إن نوى المماثلة في التتابع يلزمه صوم شهر متتابعاً، وإن نوى المماثلة في العدد، أو لم يكن له نية يلزمه أن يصوم ثلاثين يوماً إن شاء متفرقاً، وإن شاء متتابعاً.
وهو نظير ما ذكر في أيمان «الفتاوى» : إذا قالت المرأة: إن كلمت فلاناً عليّ صوم شهر كشهر رمضان، فكلمت فلاناً، فإن شاءت فرقت، وإن شاءت تابعت إلا إذا نوت التتابع والفرق النية إلى أصل الوجوب وإلى العدد لا إلى صفة الواجب به إذا نوت.(2/403)
ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فلان في يوم هو فيه صائم من رمضان أم من كفارة يمين أو تطوع، فإن ذلك اليوم يجزئه لما هو صائم به، وعليه أن يصوم لقدوم فلان، وستأتي هذه المسألة بعد هذا الخلاف ما ذكر ههنا.
وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهرين متتابعين (165ب1) من يوم يقدم فيه فلان في أيام ثبتت من شعبان، فإنه يصوم ما بقي من شعبان لنذره ويصوم رمضان من الفريضة، ويقضي بعد الفطر ما بقي من نذره، فإن جعل على نفسه أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبداً..... فلان في اليوم الذي قدم فيه فلان، فعليه صوم ذلك اليوم وحده أبداً، ولا شيء عليه غير ذلك.
وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم الشهر، فعليه أن يصوم بقية الشهر الذي هو فيه، وإن نوى شهراً، فهو كما نوى.
هشام عن أبي يوسف: إذا قال: إن شفى الله مريضي صمت كذا وكذا، فلا شيء عليه حتى يقول: فعليّ أن أفعل، هشام عن محمد إذا قال: والله؛ لأن صوم الأبد يعني يوماً واحداً من الأبد، أو قال: لله عليّ أن أصوم الأبد، وذلك يعني يوماً واحداً من الأبد، وذلك أن ينوي صوم الخميس والجمعة، فهو على ما نواه.
هشام قال: سألت محمداً عن رجل أراد أن يقول: لله عليّ صوم يوم، فجرى على لسانه صوم شهر، فعليه صوم شهر، وكذلك الطلاق والعتاق والنذر، وإن كان نيته خلاف ما قال، قال: وقال أبو حنيفة: الطلاق لا يقع فيما بينه وبين الله تعالى، والعتاق يقع، قال هشام: قلت لمحمد: ما كان حجة أبي حنيفة؟ قال: لا أدري، قال محمد: أما أنا أراه واقعاً، وهو قول أبي يوسف.
عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم رأس الشهر، فعليه صوم اليوم الأول، ولو قال: آخر الشهر، فعليه أن يصوم اليوم الآخر، ولو قال: لله عليّ صوم يومين متتابعين من أول الشهر، وآخره كان عليه أن يصوم الخامس عشر والسادس عشر.
إذا قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام متتابعة، فصامها متفرقة لم يجزئه؛ لأنه أداء الكامل بالناقص، ولو أوجبها متفرقة، فقضاها متتابعة أجزأه؛ لأنه أوجبها ناقصاً، وأداها كاملاً، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات بتسليمة، فصلاها بتسليمتين لا تجزئه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي أربعاً بتسليمتين، فصلى أربعاً بتسليمة أجزأئه.
في آخر «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم في رمضان فصامه أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عليه، ولا كفارة عليه، وإن كان أراد العين؛ لأن زمان رمضان يتعين لرمضان، فلم يتعلق بنذره حكم، وقوله: أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عينه، فإنما أراد بالجواز أنه لا تلزمه بالنذر شيء ولا كفارة؛ لأن اليمين انعقدت على الصوم، وقد صام، ولو كان قال: لله عليّ أن أصوم(2/404)
اليوم الذي يقدم فيه فلان شكراً لله تعالى تطوعاً لقدومه، وأراد اليمين، فصامه عن كفارة يمين، ثم قدم فلان في ذلك اليوم بعد ارتفاع النهار، فعليه القضاء والكفارة.
ولو قدم في يوم من رمضان، فعليه الكفارة، ولا قضاء عليه، أما الفصل الأول فإنما لزمه القضاء؛ لأنه التزم الصوم للقدوم، وصامه عن الكفارة، وهي غير متعينة فيه، فكان عليه القضاء، وعليه الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ لأنه لم يحلف على الصوم المطلق إنما حلف على الصوم عن القدوم، وقد صام عن غيره فحنث.
وأما الفصل الثاني: فإنما لا يلزمه القضاء؛ لأن الزمان متعين لرمضان، فلا يصح إلحاقه بغيره، وإنما لزمه الكفارة؛ لأنه لم يصم لما حلف عليه.
إذا نذر أن يصوم يوم كذا ما عاش، ثم كبر، وضعف عن الصوم يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وإن لم يقدر لعسرته يستغفر الله تعالى، فإن ضعف عن الصوم في ذلك اليوم لمكان الصيف كان له أن يفطر، وينتظر حتى إذا كان في الشتاء صام يوماً مكانه؛ لأنه لو سافر في ذلك اليوم يفطر، ويصوم مكانه فكذا ههنا؛ لأن المرض والسفر كلاهما سبب العذر، ومن جنس هذه المسألة إذا قال: لله عليّ أن أصوم أبداً، فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة كان له أن يفطر؛ لأنه لو لم يفطر يقع الخلل في جميع الفرائض، ويطعم كل يوم نصف صاع من الحنطة؛ لأنه متيقن أنه لا يقدر على قضائه أبداً.
الفصل الثاني عشر في الاعتكاف
قال علماؤنا رحمهم الله: الاعتكاف سنة مشروعة، وهو ضربان:
تطوع: وهو أن يشرع. وواجب: وهو أن يوجبه على نفسه وجوازه، قال القدوري: ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد الجماعات، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يصح إلا في مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، قيل: أراد أبو حنيفة رحمه الله غير المسجد الجامع، فإن هناك يجوز الاعتكاف، وإن لم يصلوا فيه الصلوات كلها بجماعة.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، وغير الواجب يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والأفضل اعتكاف الرجل في الجامع إذا كان ثمة قوم يصلون بجماعة، وإن لم يكن، فاعتكافه بالمسجد أفضل، والأفضل في حق المرأة الاعتكاف في مسجد بيتها يريد به الموضع المعد للصلاة، ولو خرجت واعتكفت في مسجد الجماعة جاز اعتكافها.
والصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، واختلفت روايات في النفل، وروى الحسن عن أبي حنيفة الصوم شرط لصحته، وفي ظاهر الرواية ليس بشرط، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولا يخرج المعتكف من معتكفه ليلاً ولا نهاراً إلا بعذر، وإن خرج من غير عذر ساعة فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف (165ب1) ومحمد: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم.(2/405)
من الأعذار الخروج للغائط والبول أولى، والجمعة، فبعد ذلك ينظر إن كان منزله بعيداً من الجامع يخرج حين يرى أنه يبلغ الجامع عند البداء، فإن كان منزله قريباً يخرج حين تزول الشمس،
وفي «القدوري» : يخرج عند الأذان، فيكون في المسجد مقدار ما يصلي أربعاً أو ستاً قبل الجمعة الأربع السنة والركعتان تحية المسجد، وروي عن أبي حنيفة ما يصلي قبلها أربعاً، وبعدها أربعاً وذكر في «الأصل» أربعاً قبلها وأربعاً أو ستاً بعدها على حسب اختلاف الأخبار في النافلة بعد الجمعة،
ولو أقام في المسجد الجامع يوماً وليلة ينتقض اعتكافه؛ لأن الجامع محل ابتداء الاعتكاف، فيكون محل مقامه من طريق الأولى، ولا يخرج لأكل وشرب، ولا لعيادة المريض ولا لصلاة الجنازة، قيل: وينبغي أنه إذا لم يكن ثمة أحد يقوم بأمور الميت وبالصلاة عليه أنه يخرج، وإذا مرض، فليس له أن يخرج.
وإذا انهدم المسجد الذي هو فيه، أو أخرج منه، فدخل مسجداً آخر من ساعته صح استحساناً، والقياس في الإكراه أن يعيد، وإن صعد المئذنة للتأذين لا يفسد اعتكافه، وإن كان باب المئذنة خارج المسجد، كذا ذكر في «الأصل» ، وفي «أمالي الحسن بن زياد» عن أبي حنيفة أنه يبطل اعتكافه، وإذا خرج لغائط أو بول لا بأس بأن يدخل فيه، ويرجع إلى المسجد كلما فرغ من الوضوء، ولو مكث في بيته فسد اعتكافه، وإن كان ساعة عند أبي حنيفة؛ لأن بيته ليس بمحل لابتداء الاعتكاف، فالبقاء فيه بعد فراغه من الحاجة يبطل اعتكافه، ولو انتقل من مسجد إلى مسجد من غير عذر انتقض اعتكافه عند أبي حنيفة، وعندهما لا ينتقض، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة الخروج ناقض للاعتكاف قليلاً كان أو كثيراً، وعندهما الخروج القليل ليس بناقض، وهذا كله في الاعتكاف الواجب،
فأما في الاعتكاف النفل، وهو أن يشرع فيه من غير أن يوجبه على نفسه لا بأس بأن يخرج بعذر وغير عذر، وهذا على ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقدر.... الاعتكاف بشيء، فإن محمد رحمه الله قال في «الأصل» : المعتكف بقدر تارك، له....: إذا خرج ولهذا لم يشرط الصوم على ظاهر الرواية لصحة اعتكاف النفل وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة اعتكاف النفل أقله مقدر بيوم، ولهذا شرط لصحت اعتكاف النفل الصوم.
ويحرم على المعتكف الجماع ودواعيه نحو المباشرة والتقبيل واللمس، الليل والنهار في ذلك على السواء، وبالجماع يفسد الاعتكاف على كل حال، واللمس والمباشرة تفسد الاعتكاف إذا أنزل، وإذا لم ينزل لا يفسد اعتكافه، ولو نظر فأنزل لم يفسد اعتكافه، والجماع ناسياً يفسد الاعتكاف كالجماع عامداً، والأكل ناسياً لا يفسد الاعتكاف؛ لأن الأكل ليس من محظورات الاعتكاف، بل هو من محظورات الصوم.(2/406)
ولهذا تؤقت حرمته بحرمة الصوم وهو النهار وبالأكل ناسياً لا يفسد الصوم، فلا يفسد الاعتكاف بخلاف الجماع؛ لأن الجماع من محظورات الاعتكاف، قال الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (البقرة: 187) فيستوي فيه العامد والناسي كما في الإحرام.
نوع منه
يجب أن يعلم بأن النذر بالاعتكاف صحيح.
أما على قول من يقول بأن الشرط صحة النذر أن يكون المنذور به عبادة لا أن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب، فظاهر؛ لأن الاعتكاف عبادة مقصودة بنفسه؛ لأنه لبث وقرار في المسجد، وانتظار للصلاة في مكان الصلاة،
وأما على قول من يقول بأن شرط صحة النذر كون المنذور به عبادة، وأن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب؛ فلأن للاعتكاف شبهاً بالصلاة من حيث إنه لبث وقرار في مكان الصلاة لانتظار الصلاة، والمنتظر للصلاة كأنه في الصلاة إيجاب، أو يقول: النذر بالاعتكاف نذر بالصوم؛ لأن الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، والتزام الشيء التزام لشرائطه، ولله تعالى من جنس الصوم إيجاب.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً، فهذه المسألة على وجهين:
إن نوى شهراً، فهو كما نوى.
وإن لم ينوِ شهراً بعينه، فله أن يعتكف أي شهر شاء، ولا يتعين الشهر الذي يليه، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، ولم ينوِ شهراً بعينه كان له أن يصوم في أي شهر شاء، وإن بين مسألة الاعتكاف، وبين مسألة الصوم فرقان.
مسألة الاعتكاف إذا عين شهراً، وشرع في الاعتكاف يجب التتابع نص على التتابع أو لم ينص، وفي مسألة الصوم لا يجب التتابع إلا إذا نص على التتابع، وإن قال: نويت أن أعتكف بالنهار دون الليل لم تصح نيته لا قضاء، ولا فيما بينه وبين الله.
إذا أصبح الرجل صائماً متطوعاً، ثم قال في بعض النهار: لله تعالى عليّ أن أعتكف هذا اليوم، فلا اعتكاف عليه في قياس قول أبي حنيفة؛ لأن الاعتكاف الواجب لا يصح إلا بالصوم، فلو وجب الاعتكاف وجب الصوم، والصوم في أول اليوم انعقد تطوعاً، فلا يمكن جعله واجباً بعد ذلك،
وقال أبو يوسف: إن قال ذلك بعد الزوال، فلا اعتكاف، وإن كان قبل الزوال، فعليه الاعتكاف، وكذلك قال أبو يوسف في رجل أصبح مفطراً، ثم قال: لله عليّ أن أعتكف هذا اليوم وكان ذلك قبل انتصاف النهار فإنه يلزمه ويعتكفه بصومه وإن لم يفعل، فعليه القضاء، ولو نذر اعتكاف ليلة لا يلزمه شيء، وإن نوى اليوم معها لم تصح نيته، وعن أبي يوسف أنه يلزمه، ويصير تقدير المسألة كأنه قال: لله عليّ أن أعتكف ليلة بيومها، ولو نذر اعتكاف يومين أو ليلتين أو أكثر من ذلك صح نذره، ودخل فيه الأيام والليالي.(2/407)
يجب أن يعلم أن ذكر الأيام يستتبع ما بإزائها من الليالي، (166أ1) .
وكذا ذكر الليالي يستتبع ما بإزائها من الأيام باتفاق الروايات، وكذا ذكر اليومين والليلتين يستتبع ما بإزائهما من الليلتين واليومين في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه لا يستتبع ما بإزائهما، على هذه الرواية نفي النذر باعتكاف يومين وباعتكاف ليلتين، والنذر باعتكاف اليومين صحيح، وتدخل الليلة المتوسطة تحت النذر، والنذر باعتكاف الليلتين غير صحيح، فلا يلزمه شيء، ولو نذر باعتكاف ثلاثين يوماً وقال: عنيت به النهار خاصة، فهو كما نوى وإن يفرقه، ولو قال: أردت بالليل خاصة لم يصدق، وإن قال: ثلاثين ليلة، ونوى بالليل خاصة لم يلزمه شيء.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً بغير صوم، فعليه أن يعتكف شهراً، ويصوم فيه،
إذا أوجب الاعتكاف في وقت معين، ولم يعتكف قضى؛ لأن الاعتكاف قد لزمه في ذلك الوقت، فلا يخرج عن العهدة إلا بالأداء في الوقت أو بالقضاء خارج وقت كما في الصوم.
إذا نذر اعتكاف يوم دخل المسجد قبل طلوع الفجر، وأقام فيه إلى أن تغرب الشمس، ولو نذر اعتكاف يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس، وأقام الليلة ويومها وليلته الأخرى ويومها، وعن أبي يوسف: أنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، وهذا بناءً على ما روينا عن أبي يوسف أن من نذر الاعتكاف يومين تدخل فيه الليلة المتوسطة، ولا تدخل الليلة الأولى، وحكى أبو يوسف برواية بشر عن أبي حنيفة مثل قوله، ولو أوجب الاعتكاف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس؛ لأن الشهر اسم له من الهلال إلى الهلال والبداية بالليل.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رمضان صح نذره كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً أو ما أشبهه.
فإن قيل: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت يقع صومه بجهة الاعتكاف، فكان المنذور به اعتكافاً بصومه هذا معنى ههنا معدوم.
قلنا: إذا نذر اعتكاف رجب إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى محل يقبل الصوم؛ لأنها محل تقبل الصوم بجهة الاعتكاف؛ لأن من شرط صحة الاعتكاف ذات الصوم لا الصوم بجهة الاعتكاف. قال عليه السلام: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ولم يقل لا اعتكاف إلا بالصوم بجهة الاعتكاف، فلو أنه صام رمضان، ولم يعتكف كان عليه أن يقضي اعتكافه يعتكف شهراً آخر مكانه متتابعاً، ويصوم فيه،
وعن أبي يوسف برواية بشر: أنه يبطل نذره، ولا يلزمه القضاء، وإن لم يعتكف حتى دخل رمضان آخر، فصامه واعتكف قضاء عن الاعتكاف في شهر الأول لا يجوز؛(2/408)
لأن تفويت رمضان.
كما وجب الاعتكاف ديناً في الذمة وجب الصوم لأجل الاعتكاف ديناً، وكل صوم وجب ديناً في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان، فلو أفطر في رمضان الأول من عذر، ووجب عليه قضاؤه باعتكاف متتابع؛ لأن الأول إذا كان واجباً عليه بهذه الصفة؛ فإن قضى صوم رمضان، واعتكف فيه متتابعاً أجزأه كما لو صام رمضان واعتكف فيه؛ لأن القضاء يقوم مقام الأداء.
إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، ولم يعتكف حتى مات يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة؛ لأنه لزمه صوم بهذا النذر، وقد عجز عن الأداء بالموت، فينقل إلى الفداء، وإن كان مريضاً وقت الإيجاب، فلم يبرأ حتى مات، فلا شيء عليه اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وإن كان صحيحاً حين أوجب، وعاش عشرة أيام أطعم عنه لجميع الشهر.
قيل: هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد: يطعم عنه بقدر ما كان صحيحاً، والله أعلم بالصواب.
الفصل الثالث عشر في صدقة الفطر
اختلفت الروايات في صفة صدقة الفطر ذكر في «الأصل» : وتجب صدقة الفطر عن نفسه وعبيده،
وذكر في «المجرد» : عن أبي حنيفة: أن صدقة الفطر سنة لا ينبغي تركها، والمذهب أنها واجبة؛ لأنه ورد الأثر بها، قال عليه السلام: «أدوا عمن تمونون» ، وقال عليه السلام: «أدوا عن كل حر وعبد» والأمر للوجوب، ومعنى قول أبي حنيفة في «المجرد» أنها سنة: أن وجوبها ثابت بالسنة،
ووقت وجوبها من حين يطلع الفجر الثاني من يوم الفطر حتى إن مات قبل ذلك، فلا وجوب،
ومن ولد أو أسلم قبله وجب، وأفضل لو قال: الأداء قبل خروجه إلى الصلاة.
ومن حكمها أنها لا تسقط بالتأخير، وإن طالت المدة، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأن يجوز تعجيلها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين في رواية الكرخي، وعن أبي حنيفة لسنة أو سنتين، وعند بعض المشايخ يجوز التعجيل في شهر رمضان، ولا يجوز قبله، وذكر الصدر الشهيد في شرح كتاب الصوم أن ذكر اليوم والسنة في رواية الكرخي، ورواية أبي حنيفة وقع اتفاقاً، لا لتقييد الجواز به.(2/409)
ولا تجب هذه الصدقة إلا على حر مسلم غني، والغني أن يملك نصاباً أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه وثيابه على نحو ما يعتبر في حرمة الصدقة، وما تأدى به هذه الصدقة في المشهور من الأخبار ثلاثة أشياء الحنطة والشعير والتمر، ومقدارها من الحنطة نصف صاع، ومن الشعير والتمر صاع، وأما الزبيب فهو مروي في بعض الأخبار، ومقداره نصف صاع عند أبي حنيفة على رواية «الجامع الصغير» ، وروى الحسن عنه أنه صاع والزبيب جوازه باعتبار..... العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ودقيق الشعير وسويقة كالشعير عندنا، والجواز باعتبار العين؛ لأن الدقيق منصوص عليه في بعض الروايات، والخبر يجوز باعتبار العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، وهو أصح، وفي سائر الحبوب الجواز باعتبار القيمة، وإذا أراد أن يعطي قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر يؤدي قيمة (166ب1) أي ثلث شاء عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي قيمة الحنطة.
ذكره الصدر الشهيد في شرح الصوم، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: أداء الحنطة أفضل، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: أداء القيمة في ديارنا أفضل، وعن أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه قال: الدقيق أحب إليّ من الحنطة، والدراهم أحب إليّ من الدقيق،
ويؤدي نصف صاع تمر، أو شعير، ومد حنطة لا يجوز، وجوزه في الكفارة، ولو أدى نصف صاع تمر تساوي نصف صاع حنطة لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما منصوص عليه، والمقصود من الكل واحد، ولو أدى الحنطة رديئة جاز، وإن كان عفناً، أو به عيب أدى لنقصان، وقد اعتبر الحسن في رواية قيمة الوسط في الجواز، وأما إذا كان قيمته دون قيمة الوسط لا يجوز.
فقد ذكر في كتاب الزكاة لو أخرج قيمة نصف صاع حنطة لم يجز إلا إن أخرج قدر نصف صاع وسط، فإن كان ما أخرج لا يساوي نصف الصاع حنطة وسط، ولكن يساوي قيمة صاع من شعير وسط، أو صاع تمر وسط، ففي هذه الصورة نوع اضطراب ذكر في بعض نسخ الحسن أنه يجوز، وذكر في بعض نسخه أنه لا يجوز، قال البلخي في «كتابه» في حياته: والصحيح عندي جوازه.
وفي «المنتقى» : إذا أعطى قيمة نصف صاع رديئة لم يجزه، وعليه أن يعطي قيمة نصف صاع حنطة وسط، وإن أعطى قيمة صاع دقيق أو سويق جيد، وذلك لا يساوي نصف صاع حنطة وسط لا يجزئه، وكان عليه تمام قيمة نصف صاع حنطة وسط، والصاع الذي تقدر الحنطة بنصفه والشعير والتمر بكله، قال الطحاوي: ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه قبل معناه إن سوى بالعديس والماش، وإن أعطى بالوزن سويق من الحنطة عند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز، وقال محمد: لا يجوز إلا كيلاً.(2/410)
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويجب على الرجل الحر المسلم الغني أن يؤدي صدقة الفطر عن نفسه، ورقيقه كفاراً كانوا أو مسلمين إذا لم يكونوا للتجارة، وكذا عن مدبريه وأمهات أولاده ولا يخرج عن مكاتبه، ولا عن رقيق مكاتبه، ولا يجب على المكاتب أيضاً، والمعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب، وعندهما بمنزلة حر عليه دين، فإن كان الفاضل عن دين السلعة ما يساوي مائتي درهم سوى ما يحتاج إليه في الحال تجب عليه صدقة الفطر.
ويخرج عن عبده الذي في يدي غيره بإجارة أو عارية أو وديعة وكالعبد المرهون، ففي ظاهر الرواية تجب صدقة الفطر على الراهن إذا كان عبده وفى له بالدين وفضل مائتي درهم، وإن كان فضل مائتي درهم في المرهون فهما سواء، ولا يخرج عن الآبق والمغصوب المجحود، ويخرج صدقة الفطر عن عبده المأذون المديون، وأما مماليك هذا العبد فإن كانوا للتجارة، فلا يخرج عنهم سواء كان على المأذون دين أو لم يكن، وأما إذا كان اشتراهم المأذون للخدمة بإذن المولى، فإن لم يكن على المأذون دين يجب على المولى صدقة فطرهم، وإن كان على المأذون دين لا يجب على المولى صدقة فطرهم عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وإذا كان العبد بين رجلين فلا صدقة على واحد منها عندنا، وهذا بناءً على أن عندنا الوجوب على المولى بسبب الملك، والملك لم يكتمل، وإذا كان عدد من العبيد بين رجلين، فلا صدقة على واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: تجب على كل واحد منهما ما يحصه بالقسمة من العدد، لو قسم بناءً على أنه عند أبي حنيفة الرقيق لا يقسم قسمة واحدة، فلم يملك كل واحد منهما ملكاً تاماً، ومحمد رحمه الله يرى قسمة الرقيق، وكذلك أبو يوسف؛ لأن أبا يوسف رحمه الله لم يوجب ههنا لعدم الولاية،
وإذا كانت الجارية مشتركة بين رجلين، فجاءت بولد، فادعياه، فلا صدقة على واحد منهما في الأم، فأما الولد، فقال أبو يوسف: على كل واحد منهما صدقة تامة، وقال محمد: عليهما صدقة واحدة، وإن كان أحدهما فقيراً والآخر موسراً، أو كان أحدهما ميتاً، فعلى الآخر صدقة تامة عندهما.
ولا يجب على الرجل صدقة الفطر عن أولاده الكبار سواء كان لهم مال، أو لم يكن، وسواء كانوا أصحاء أو زمنين في ظاهر رواية أصحابنا، وأما الأولاد الصغار، فإن كان لهم مال، فإنه يؤدي من مالهم صدقة فطرهم وصدقة فطر مماليكهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وكذلك الوصي على هذا الخلاف،
وإن لم يكن للصغير مال، فإنه يجب على الأب صدقته دون صدقة فطر مماليكه،
وفي «البقالي» : والقاضي كالولي في الأداء من مال الصغير، والمعتوه والمجنون بمنزلة الصغير، سواء كان الجنون أصلياً بأن بلغ مجنوناً، أو كان الجنون عارضاً، هو الظاهر من المذهب، ولا يخرج عن سائر قرابته، وإن كانوا في عياله، وكذا لا يخرج عن(2/411)
نوافله في ظاهر الرواية، وكذا لا يخرج أحد الزوجين عن صاحبه.
ويجوز أن يعطي ما يجب عن جماعة مسكيناً واحداً، وإن أعطى ما يجب عن واحد مسكينين يجوز عند الكرخي، ولا يجوز عند غيره.
عن أبي يوسف: يعطي الرجل صدقة الفطر عن نفسه، ويكتب إلى أهله، فيعطون حيث هم، وإن أعطى عن نفسه، وعنهم حيث هو، أو كتب إليهم حتى يعطوا عن أنفسهم وعنه يجوز.
وعنه أيضاً: لو أعطى صدقة الفطر عن زوجته وأولاده الكبار الذين هم في عياله أجزأه وإن لم يأمروه بذلك، ولا يجوز أن يعطي عن غير عياله إلا بأمره، ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو، وفي زكاة المال، وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع، وقال: يؤدي عن العبد حيث العبد،
وروي عن أبي يوسف: أن العبد إذا كان حياً يعتبر مكان العبد، وإن كان ميتاً يعتبر مكان المولى،
فلا تجب هذه الصدقة عن الحمل، وتجب عن عبد الجناية عمداً أو خطأً، وأما عبد الموصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر صدقة فطره على مالك (167أ1) الرقبة،
وإذا اشترى عبداً شراءً صحيحاً، ومر يوم الفطر قبل قبضه لزمه صدقة الفطر إن قبضه وقيل: هو قولهما، وإن مات قبل القبض، فلا صدقة، وإن رده قبل القبض، فعلى البائع، وإن كان بعده، فعلى المشتري، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر في المتفرقات
إذا كان عليه قضاء يوم الخميس مثلاً، وظن أنه يوم الجمعة، فصامه ينوي قضاء الجمعة لم يجز،
ولو نوى قضاء اليوم الذي عليه غير أنه ظن أنه يوم الجمعة أجزأه في «الجامع» للكرخي.
ابن سماعة عن محمد: صائم جن وشرب في حال جنونه، فعليه القضاء.
إذا نذر صوم رجب، فدخل رجب، وهو مريض لا يستطيع الصوم ولا.... أفطر وقضى، لو مات الناذر قبل دخول الوقت فلا قضاء عليه، وكذلك إن أدرك الوقت، وهو مريض، ثم مات قبل أن يبرأ، فإن برأ فعليه القضاء.
الحسن عن أبي حنيفة في المجنون إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً فلم يزل مجنوناً، ثم مضى رجب ثم أفاق، فعليه قضاؤه هذه المسألة بناءً على أن النذر المضاف(2/412)
إلى وقت معين بسبب المحال، والمسألة معروفة.
بشر عن أبي يوسف: أصبح يوم النحر ينوي الصوم، ثم أفطر فعليه قضاؤه، وروى الحسن في اختلاف مثله، وهذه المسألة على روايتين في رواية جعل الشروع بمنزلة النذر، والجواب في النذر كما ذكرنا، وفي رواية فرق بين الشروع وبين النذر.
لا بأس للمعتكف أن يبيع ويشتري في المسجد، وعن أبي يوسف أنه قال: هذا إذا لم يحضر السلعة في المسجد، فأما إذا أحضر، فهو مكروه.
وقيل: إذا كان يبيع ويشتري للتجارة، فهو مكروه، وللمعتكف أن يلبس ما شاء، ويأكل ويدهن، ويعصب بما شاء.
في «الأصل» : وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج، وكذلك ليس للعبد والأمة أن يعتكف بغير إذن المولى، وإن نذرت المرأة بالاعتكاف، فللزوج أن يمنعها عن ذلك، وكذلك العبد والأمة إذا نذر بالاعتكاف، فللمولى أن يمنعه عن ذلك، وإن أذن الزوج للمرأة بالاعتكاف، ثم أراد أن يمنعها ليس له ذلك، وإن أذن المولى للمملوك بالاعتكاف، فله أن يمنعه لكن يكره له المنع،
ولا تصوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها، فإن كان صيامها لا يضر به بأن كان صائماً أو مريضاً، فلها أن تصوم وليس له منعها، وهذا بخلاف العبد والأمة، فإنه ليس لهما أن يتطوعا بغير إذن المولى، وإن لم يضر ذلك بالمولى، وللزوج والمولى أن ينقضه إذا كان الشروع بغير رضا، وتقضي المرأة إذا أذن لها زوجها أو بانت منه، ويقضي العبد إذا أذن له المولى أو عتق، والأجير الذي استأجره للخدمة لا يصوم تطوعاً إلا بإذن المستأجر إذا كان الصوم يضر به في الخدمة، وإن كان لا يضر، فله أن يصوم بغير إذنه.
إذا أفطر المريض والمسافر في رمضان لا تسقط عنه صدقة الفطر.
في «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لعبده الذي هو للخدمة: إذا جاء يوم الفطر فأنت حر، فجاء يوم الفطر عتق، وعلى المولى صدقة الفطر لوجود السبب، وهو رأس يمونه وقت الوجوب، وهو وقت طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر؛ لأن العتق ثبت بعده في هذا الموضع.
أيضاً: زوج ابنته الصغيرة من رجل وسلمها إليه، ثم جاء يوم الفطر لا يجب على الأب صدقة الفطر. في فتاوى «خوارزم» .
وفي «البقالي» : إذا تزوج امرأة على عبد في يوم الفطر، والعبد في يد الزوج بعد، فلا صدقة، وأيضاً: إذا أجاز المالك البيع الموقوف بعد الفطر، فعليه الصدقة.
وفي «القدوري» : من افتقر بعد يوم الفطر لم تسقط عنه الصدقة، والله أعلم بالصواب.(2/413)
كتاب المناسك
هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً.
1 * في بيان شرائط الوجوب.
2 * في بيان ركن الحج، وكيفية وجوبه.
3 * في تعليم أعمال الحج.
4 * في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها بغير إحرام.
5 * فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه، وما لا يحرم وهو أنواع:
منها في الصيود والدلالة على الصيد، ومنها في المحرم يضطر إلى الصيد، ومنها في المحرم شاركة غيره في فعل المفسد، ومنها لبس المخيط، ومنها في الجماع، ومنها في حلق الشعر والأظفار، ومنها في الدهن والطيب والخضاب.
6 * في صيد الحرم وشجره وحشيشه، وحكم أهل مكة.
7 * في بيان وقت الحج والعمرة.
8 * في الطواف والسعي.
9 * في القارن.
10 * في التمتع.
11 * في الإحصار.
12 * في معرفة فائت الحج، وبيان أحكامه.
13 * في الجمع بين إحرامين.
14 * في الحلق والتقصير.(2/415)
15 * في الرجل يحج عن آخر.
16 * في الوصية بالحج.
17 * في إحرام المرأة والمماليك.
18 * في التزام الحج والتزام الهدي والبدن، وما يتصل بذلك.
19 * في الخطأ في الوقوف بعرفة، والشهادة فيه.
20 * في المتفرقات.(2/416)
الفصل الأول: في بيان شرائط الوجوب
شرائط وجوب الحج: العقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وتكلموا في تفسير الاستطاعة.
قال أبو حنيفة رحمه الله في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملائمة البدن وملك الزاد والراحلة، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف ومحمد في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملك الزاد والراحلة لا غير، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، حتى إن في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب الحج على الزّمِن، والمفلوج، والمقطوع الرجلين، وإن ملكوا الزاد والراحلة وهو رواية عنهما، وفي ظاهر روايتهما يجب الحج على هؤلاء، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة إذا كان ملكه من الزاد والراحلة قدر ما يحج به، ويحج معه من يرفعه ويقوده إلى المناسك وإلى حاجته، وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا ملك هؤلاء الزاد والراحلة، ففي ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجب عليهم الإحجاج بمالهم؛ لأن الإحجاج بالمال بدل عن الحج بالبدن ولم يجب (167ب1) عليهم الحج بالبدن لمكان العجز فكيف يجب عليهم البدل؟ وفي ظاهر روايتهما يجب؛ لأنه لزمهم الأصل وهو الحج بالبدن في الذمة، وقد عجزوا عنه فيلزمهم البدل.
ولو ملك الزاد والراحلة وهو صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمناً أو مفلوجاً، لزمه الإحجاج بالمال بلا خلاف؛ لأن الحج قد لزمه في الذمة بلا خلاف لوجود الشرط، وهو الاستطاعة، وقد وقع العجز عن الأداء بنفسه فيلزمه البدل.
وأما الأعمى إذا وجد الزاد والراحلة ولم يجد قائداً يقوده، أجمعوا على أنه لا يلزمه الأداء بنفسه.
وهل يلزمه الإحجاج بالمال؟ فهو على الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي «المنتقى» : عن أبي عاصم قال: سمعت أبا عصمة الكبير قال: سمعت إبراهيم بن رستم وأبا سليمان في المرأة والأعمى لهما مال ليس لهما من يخرجهما إلى الحج قال أحدهما عن محمد: الحج واجب عليهما ويستأجر الأعمى من يخرجه ويقود المرأة المحرم حتى يخرجها، وقال الآخر: ليس عليها حج، وإذا وجد الأعمى قائداً يقوده إلى الحج ووجد مؤنة القائد فعلى قول أبي حنيفة في المشهور لا يلزمه على قياس الجمعة،
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنه يلزم الحج عنده، فأما على قولهما فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن على قياس قولهما في الجمعة يلزمه، وهكذا ذكره(2/417)
ابن سماعة في «نوادره» عن محمد، قال محمد في رواية ابن سماعة: ولا يشبه الأعمى عندي المقعد والذي يفسده الريح حتى لا يستطيع القيام؛ لأن الأعمى هو الذي يقوم ويقعد ويمشي، وإنما هو بمنزلة رجل لا: يعرف الطريق، فيحتاج إلى مرشد يدله عليه.
قال: والحاصل من قول محمد في حق أهل الآفات إنَّ كل من كان من أهل آفة يعمل مع ذلك الآفة إلا أنه يحتاج إلى معونة لو وجد تلك المعونة، فعليه الجمعة والجماعة والحج، وكل من كان من أهل آفة لا يقدر أن يجد تلك ويقوم ويمشي وإن أُعِين على ذلك حتى يحمل ويوضع، فليس عليه جمعة ولا جماعة ولا حج.
وذكر القدوري في «شرحه» : أن في وجوب الحج عليهما في هذه الصورة روايتان: فعلى إحدى الروايتين يحتاجان إلى الفرق بين الجمعة والحج، والفرق: أن القدرة على أداء الحج بالغير نادر، فلم يعتبر، والقدرة على أداء الجمعة بالغير ليس بنادر، فجاز أن يعتبر.
وإن كان صحيح البدن إلا أنه لا يملك الزاد والراحلة لكن بذل له غيره الزاد والراحلة في طريق الحج، ومعناه أنه أباح له ذلك غيره لا تثبت الاستطاعة به عندنا، وكان الكرخي يقول: إنما تشترط الراحلة في حق من بَعُد عن مكة، فأما أهل مكة ومن حولها لا تشترط الراحلة في حقهم، ثم المراد من الاستطاعة بملك الزاد والراحلة أن يكون عنده مال فاضل عن حوائجه الأصلية قدر ما يشتري أو يكري به شقّ محمل أو راحلة، وقدر نفقته ونفقة عياله مدة ذهابه ومجيئه من غير سرف ولا تقتير، وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني يقول: وأن يكون عنده قدر نفقة يوم بعدما رجع إلى وطنه؛ لأنه بعدما رجع إلى وطنه لا يمكنه أن يشتغل بالكسب لنفقة يومه، وعن أبي يوسف أنه شرط نفقة شهر بعد رجوعه.
وفي «الأصل» : إذا كان له دار يسكنها، وعبد يستخدمه وثياب يلبسها، ومتاع يحتاج إليه، لا تثبت به الاستطاعة، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه، فعليه أن يبيعه ويحج به، وكل ذلك يشير إلى اعتبار الفراغ عن الحاجة الأصلية.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا كان له منزل يسكنه، ويمكنه أن يبيع ويشتري بثمنه منزلاً دون منه، ويحج بالفضل لم يلزمه ذلك، لأنه محتاج إلى منزله للسكنى، ولا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه، ألا ترى أنه لا يلزمه بيع المنزل والاقتصار على السكنى؟
وفي «المنتقى» بشر بن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» إذ كان له مسكن وخادم، وكفاف من ملبس ومتاع لنفسه وعياله فوق شهر أو سنة، وأي ذلك باع كان فيه جهاز للحج، فليس عليه حج إلا أن يكون في شيء من ذلك فضل على الكفاف ويبلغه إلى الحج، ولو لم يكن له مسكن ولا شيء من ذلك، وعنده دراهم تبلغه الحج، وتبلغه من مسكن وخادم وطعام وقوت كان عليه أن يحج، وإن جعلها في غير الحج أثم، فإن كان ذلك قبل شهر الحج وقبل أن يخرج أهل بلده إلى الحج، فهو في سعة من صرفها إلى أي الأصناف التي سمّينا إن شاء.(2/418)
قالوا في كتب الفقه: إذا كانت لفقيه وهو يحتاج إلى استعمالها أنه لا تثبت بها الاستطاعة، وإن كان لجاهل تثبت الاستطاعة وإذا كان كتب الطب والنجوم، ثبتت له الاستطاعة سواء كان يحتاج إلى استعماله والنظر فيه، أو لا يحتاج.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه كان يقول: اختلف الناس في وجوب الحج على الرجل إذا كان عنده طعام، قال بعضهم: إذا كان عنده طعام سنة فهو فقير، ولا يلزمه الحج؛ لأن هذا القدر من الطعام مباح له إمساكه، وإن كان أكثر فهو من المحتكرين، وعليه الحج، وقال بعضهم: إذا كان عنده قوت شهر، فهو فقير لا يلزمه الحج، وإن كان أكثر من ذلك فهو غني، ويلزمه الحج.
وأما أمن الطريق، فقد روى أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه من جملة الاستطاعة لا يثبت الوجوب بدونه كالزاد والراحلة، ومن أصحابنا من جعله شرط الأداء، وثمرة الخلاف إنما تظهر في حق وجوب الوصية بالحج، فمن جعله شرط الوجوب قال: لا تجب عليه الوصية، ومن جعله شرط الأداء يقول: تجب عليه الوصية.
وجه من جعله شرط الوجوب ظاهر أنه لا وصول إلى الحج إلا بأمن الطريق، كما لا وصول إليه إلا بالزاد والراحلة، ومن جعله شرط الأداء، وهو الفرق بين الزاد والراحلة أن بالزاد والراحلة (168أ1) يثبت التمكن من الأداء، فلا تثبت الاسطتاعة بدونهما، فأما خوف الطريق مبني بعجزهما عن الأداء، فهو في معنى المعارض والمانع، فلا تنعدم به الاستطاعة يعتبر هذا بالمحسوسات، فإن المقيد الممنوع عن المشي لا يكون نظير المريض الذي لا يقدر.
والمحرم في حق المرأة شرط، شابة كانت أو عجوزاً إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام، واختلفوا في كون المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء حسب اختلافهم في أمن الطريق، والمحرم: الزوج، ومن لا يجوز له مناكحتها على التأبيد برضاع أو صهريه؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ؛ لأن النساء عرضة للفتنة، والزوج يحفظها، وكذا سائر محارمها يحفظونها، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد، والحر والعبد والمسلم والذمي سواء؛ لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد.
قال القدوري في «شرحه» : إلا أن يكون مجوسياً يعتقد إباحة المناكحة، فلا تسافر معه؛ لأنه لا ينقطع طمعه عنها، ولهذا لا يجوز لها أن تخلو به، فكذا لا يجوز لها أن تسافر معه؛
قال القدوري أيضاً: وكذا المسلم إذا لم يكن مأموناً لا تسافر معه؛ لأن ما هو الغرض من المحرم لا يحصل به، والصبي الذي لم يحتلم لا غيرة له، وكذا المجنون الذي لا يفيق؛ لأن ما هو المقصود من المحرم وهو الحفظ لا يحصل بهما، ولا يجب عليها أن تتزوج إذا لم يكن لها زوج.
وإذا وجدت محرماً، ولا يأذن لها زوجها أن تخرج، فلها أن تخرج بغير إذنه في حجة الإسلام دون التطوع؛ لأن حق الزوج لا يظهر في العبادات المفروضة.(2/419)
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في المرأة القادرة على نفقة نفسها ونفقة المحرم أن الحج يفرض عليها، واضطربت الروايات عن محمد في هذا، وأكثر المتأخرين على أنها إن وجدت محرماً لا يكون عليها نفقته يفترض عليه الحج، وإلا فلا.
الفصل الثاني: في بيان ركن الحج وكيفية وجوبه
فنقول: ركن الحج شيئان: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة إلا أن الوقوف بعرفة في الركنية فوق طواف الزيارة؛ لأن الوقوف يؤدى في حال قيام الإحرام من كل وجه، والطواف يؤدى حال قيام الإحرام من وجه؛ لأنه يؤدى بعد الحلق، وقد حصل التحلل بالحلق عن جميع المحظورات إلا النساء، ولأجل ذلك قلنا: إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه القضاء، ولو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة لا يفسد حجه، ولا قضاء عليه.
وأما كيفية وجوبه، فنقول: ذكر الحسن الكرخي رحمه الله أنه يجب على الفور ولا يجوز التأخير عن أول أوقات الإمكان، وهذا قول أبي يوسف روى عنه بشر والمعلى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أصح الروايتين.
وقال محمد: يجب على التراخي، وهو قول الشافعي.
محمد احتج بتأخير رسول الله عليه السلام الحج من غير عذر، بيانه: فيما روي أن فرضية الحج نزلت في سنة ثلاث من الهجرة ورسول الله حج سنة عشر، وما كان به عذر. وأبو يوسف يحمل ذلك على العذر التأخير بعذر جائز.
الفصل الثالث: في تعليم أعمال الحج
في «المنتقى» روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة فإذا قضى نسكه أتى المدينة، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذ أراد الرجل الإحرام ينبغي له أن ينوي بقلبه الحج والعمرة أيَّ ذلك أراد الإحرام له، ويلبي ولا يصير داخلاً في الحرام بمجرد النية، ولم يضم إليها التلبية، أو يسوق هدياً.
واعلم بأن الروايات قد اختلفت في هذا الفصل في رواية ابن سماعة بمجرد النية، لا يصير محرماً إلا أن يلبي أو يكبر أو يذكر الله، يريد به الإحرام.
وفي رواية أخرى عنه: أنَّ بتقليد الهدي والسوق والتوجه معه يصير محرماً كما يصير محرماً بالتلبية وبذكر الله تعالى، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أن من نوى الدخول في الإحرام، فهو محرم.(2/420)
وذكر هذه الروايات في الباب الرابع من حج «المنتقى» ، وفي باب الخامس من حج «المنتقى» داود بن رشيد عن محمد رجل خرج يريد الحج، فأحرم لا ينوي شيئاً، فهو حج بناءً على أن العبادات لصيرورته سابقة عليها جائز، وهذه المسألة دليل على أن التلبية والذكر ليس بشرط لصيرورته محرماً.
وفي هذا الباب أيضاً الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل أتى الحج، وهو يريد العمرة وأتى بالعمرة وهو يريد الحج فهو كان ما نواه، وإن قال: لبيك بحجة وهو ينوي الحج والعمرة كان قارناً، وفي المسألة إشكال من وجهين:
أحدهما: أنه اعتبر النية، ولم يعتبر اللفظ. والثاني: أن الحج في قوله: لبيك بحجة يكره في موضع الإثبات، فكيف جعله قارناً إذا نوى الحج والعمرة جميعاً؟ الجواب.
أما الأول: قلنا: الحج اسم لزيارة أماكن مخصوصة قصد الزائر تعظيمها، والعمرة كذلك، فإنها تسمى حجة صغرى، فالمنوي من محتملات اللفظ، فيكون هذا اعتبار اللفظ فيما يحتمله اللفظ لاعتبار النية بانفرادها.
وأما الثاني قلنا: القارن حاج كما أن المفرد حاج لكن القارن حاج بأبلغ جهات الحج، ففي الحقيقة هذا يرجع إلى صيغة الملتزم، ولا يرجع إلى العموم، والإحرام (168ب1) عندنا شرط جواز الحج حتى جاز تقديمه على أشهر الحج؛ لأن تقديم شرط العبادات على أوقاتها جائز، كتقديم الطهارة على وقت الصلاة، والمحرمون أنواع أربعة:
مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وقارن، ومتمتع.
فالمفرد بالحج: أن يحرم بالحج من الميقات، أو قبل الميقات في أشهر الحج، أو غير أشهر الحج، ويذكر الحج بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، ويقول: لبيك بحجة، أو ينوي الحج بقلبه، ولا يذكر بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الوقوف بعرفة من وقت الزوال يوم عرفة، وطواف الزيارة يوم النحر، وواجباته أربعة: الوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر.
وأما المفرد بالعمرة، فإنه يحرم للعمرة من الميقات أو قبل الميقات في أشهر الحج، ويذكر العمرة بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بعمرة، أو يقصد العمرة بقلبه ولا يذكرها بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الطواف، وواجبه السعي بين الصفا والمروة.
وأما القارن أن يحرم بالحج والعمرة معاً، ويذكرهما بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بحجة وعمرة، أو يقصدهما بالقلب، ولا يذكرهما بلسانه، والذكر باللسان أفضل، فإذا لبى على هذا الوجه يصير محرماً بإحرامين، فيعتمر في أشهر الحج، أو قبله ويحج من عامه ذلك.
أما المتمتع: فهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو قبله في أشهر الحج، أو قبله ويعتمر، ويحرم للحج، ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله إلماماً صحيحاً، وسيأتي بيان المواقيت بعد هذا إن شاء الله تعالى.(2/421)
ويستحب لمن أراد الإحرام أن يقص شاربه وأظفاره، ثم يغتسل أو يتوضأ، والغسل أفضل، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام اغتسل» وهذا الاغتسال للنظافة، وليس بواجب، ويلبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزار ورداء؛ لأنه منهي عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة مما يحصل به دفع الحر والبرد،
وإذا لبس إزار ورداء، فقد حصل ستر العورة ودفع الحر والبرد، وقد صح برواية جابر وأبي بريدة رضي الله عنهما «أن رسول الله عليه السلام أحرم ولبس إزاراً ورداء» ، غير أن الجديد أفضل لقوله عليه السلام لأبي ذر «تزين لعبادة ربك» وبالإزار يحصل ستر العورة، ويدهن شاربه؛ لأن الغالب من أحوال أهل الحجاز الحرارة والنتونة والدهن يزيل ذلك، ويتطيب بأي طيب شاء في المشهور، وروي عن محمد أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام بأن يلطخ رأسه أو جبهته بالغالية أو المسك،
والصحيح ما ذكر في المشهور لحديث عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: «كنت أطيب رسول الله عليه السلام؛ لإحرامه قبل أن يحرم» لأن الحج أمر مهم، ومن قصد أمراً مهماً يطلب التيسير من الله تعالى، ثم يلبي في دبر صلاته، وإن شاء بعدما يستوي بعيره، والأفضل أن يلبي بعد صلاته، ثم يصلي ركعتين، ويقرأ فيها بما شاء، وإن قرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و «قل يا أيها الكافرون» ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و «قل هو الله أحد» تبركاً بفعل رسول الله عليه السلام، فهو أفضل.
ثم إذا فرغ من صلاته يطلب من الله التيسير، فيدعو: «اللهم، إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني» من قبل أن يزور بالبيت ذكرت الطيب مطلقاً من غير فصل.
وصفة التلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «النبي لبى كذلك» ، وقوله إن الحمد والنعمة لك مروي بفتح الألف حتى روي أنه كان ينشد في حرمه شعر وبين يائسين سام.... إن تصديق الطير قل ... فقلى له أثر....(2/422)
ى وأنت محرم فقال إنما أ.... النساء مروي بفتح الألف وبكسرها، وبالكسر أصح لأنه ابتداء الذكر قال الكرخي: يأتي بها ولا ينقص؛ لأن التعيين وجد.... إن لم يوجد.... إن لم يوجد قضاء؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة للتنقل إذا كان عليه حجة الإسلام والتعين النهاية قضاء سواء على ما عرف ههنا؛ لأن النبي عليه السلام أتى بها وإن زاد عليها فهو حسن، فإذا لبى ونوى بقلبه يصير محرماً.
قال القدوري في «شرحه» : ويصير داخلاً في الإحرام بكل ذكر يحصل به التعظيم سواء كان بالعربية أو بالفارسية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يصير داخلاً في الإحرام إلا بالتلبية، فقد فرّق محمد رحمه الله بين الصلاة والإحرام، فقيد بالعربية ثمة، ولم يقيد بالعربية ههنا؛ لأن باب الحج أوسع.
ألا يرى أن غير الذكر، وتقليد الهدي يقام مقام الذكر، فكذا غير العربية يقام مقام العربية بخلاف الصلاة؟ وإذا أتى ينوي الإحرام، ولم تحضره نية في حج أو عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت، فإذا طاف بالبيت شوطاً واحداً كان إحرامه إحرام عمرة؛ لأن طواف العمرة ركن، وطواف التحية في الحج ليس بركن، ولا معارضة بين الركن وغير الركن.
ومن كان عليه حجة الإسلام، فأحرم بحجة لا ينويها فريضة ولا تطوعاً، فهي عن حجة الإسلام استحساناً، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) .
ثم إذا صار محرماً يتقي ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال في قوله: {فلا رفث ولا فسوق لا جدال في الحج} (البقرة: 197) واختلفوا في تفسير الرفث المذكور ههنا، بعضهم قالوا: إنه الجماع، وبعضهم قالوا: الكلام الفاحش، وهو الذي فيه الكلام عن الجماع. غير أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: «الكلام الفاحش رفث بحضرة النساء» (من عيتهن للصلاة، لتكبير التشريق، فقلنا: الأفضل أن يلبي بعد صلاته؛ لأن التلبية ذكر فيسن له أوقاتها وما أتى بها إلا في مصلاه وأخذ بالرواية ابن عباس ذلك قوم آخرون، فظنوا (169أ1) أنه أول تلبيته فتتلوا، وأيم الله وظنوا أنه أول تلبيته فيقبلوها، ثم أتى حين علا البيداء، فسمع ذلك القوم في دبر صلاته، فسمع قوم من أصحابه فيقبلوا، وكان القوم الله عليهم وأخذه، فقال لبى رسول الله عليه السلام اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله عليه السلام ورسول البيداء) ، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس كيف لبى «حين استوت به راحلته» وعن جابر «أنه لبى(2/423)
حين علا» ، وروى ابن عباس أنه لبى بعدما صلى، وعن عمر رضي الله عنه، وروى ابن عباس، واختلفت الرواية في وقت التلبية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم
والفسوق المعاصي وإنه منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أن الحرمة في الإحرام أشد.
فأما الجدال فقد قيل: المراد منه المخاصمة مع رفيقه بسبب كأنه السفر وضيق الصدر، وقيل: المراد المجادلة مع المشركين في تحرمة العباد في التقديم والتأخير في أشهر الحج، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحجون في ذي الحجة إذا فرغوا، وإذا لم يفرغوا أخّروه وحجوا عاماً في صفر وعاماً في شهر ربيع الأول، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) ، فلما حج رسول الله عليه السلام في شهر ذي الحجة استقر الوقت وحرم المجادلة فيه، وههنا أشياء أخر يأتي بيانها في الفصل الذي يلي هذا الفصل.h
ويكثر من التلبية ما استطاع في أدبار الصلوات، وكلما لقي ركباً علا شرفاً أو هبط وادياً وبالأسحار وحين يستيقظ من منامه، ثم يتوجه نحو مكة.
وإذا ركب البعير يقول: باسم الله وبالله الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
وإذا دخل الحرم يقول: اللهم هذا البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، فوفقني لما تحب وترضى، وإذا وقع بصره على البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام جئنا يا ربنا بالسلام اللهم زد بيتك تعظيماً وتشريفاً ومهابة، وزد من عظمه ممن حج واعتمر تعظيماً ومهابة، ويبدأ بالحجر الأسود، فيستلمه، والاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله، يفعل ذلك إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، ويقول عند الاستلام: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اغفر لي ذنوبي، وطهر لي قلبي، واشرح لي صدري ويسر لي أمري، وعافني فيمن عافيته. وإن لم يقدر على الاستلام والتقبيل من غير إيذاء أحد لا يستلمه، ولا يقبله بل يستقبله، ويشير إليه بباطن كفه، ويكبر ويهلل، فيقول: الله أكبر الله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنّتك وسنّة نبيك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، آمنت بالله، وكفرت بالجبت والطاغوت.
وإن أمكنه الاستلام من غير إيذاء أحد، ولكن لم يمكنه التقبيل من غير ذلك لا يقبله، بل يستلمه، ويقبل يديه، ثم يأخذ من يمينه على باب الكعبة، ويطوف بالبيت سبعة(2/424)
أشواط كل شوط من الحجر إلى الحجر، فهذا الطواف يسمى طواف التحية، وله أسامي أخرى يأتي بعدها إن شاء الله تعالى، ويرمل في هذا الطواف في الثلاث الأول ويمشي على هينته في الأربع.
وفسّر الرمل بأن يسرع في المشي ويتبختر كهيئة مشية المبارز يتبختر بين الصفين، ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر، وكلما انتهى إلى الحجر الأسود استلمه، وينبغي أن يكون طوافه من وراء الحطيم؛ لأن الواجب هو الطواف حول البيت والحطيم من البيت وجعلت له بابين باباً شرقياً للبيت (والعنت القبعة بالباب الله عليه، وأوصلت الحطيم في وأظهرت قواعد الخليل صلوات ببناء الكعبة البيت، ولو لأحد ثان عمد قومك قد لهم وأخرجوه من وقال صلي؟ فإن الحطيم من البيت) ، إلا أن أخذ رسول الله عليه السلام يدها وأدخلها الحطيم ركعتي إن فتح الله تعالى مكة على رسوله، فبعد الفتح بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها «نذرت أن تصلي في البيت» وإن زحمه الناس في الرمل قام جانباً، فإن وجد فرجة رمل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» استلام الركن اليماني في الطواف، وذكر الكرخي في «مختصره» ، ويستلم الركن اليماني.
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن الركن اليماني في الاستلام والتقبيل كالحجر الأسود، وعن أبي حنيفة رحمه الله في «المجرد» أن استلامه حسن وتركه لا يضره، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» أنه يفتح الطواف من غيره وباباً غربياً هل يجزئه؟
وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئه، وهكذا ذكر في «الرقيات» والمذكور في «الرقيات» : لو افتتح الطواف من الركن اليماني، وختم به لا يجوز، وعامة المشايخ على أنه يجوز؛ لأن المأمور به هو الطواف بالبيت، وقد طاف بالبيت ذكر في بعض المواضع أن الطائف يقول في طوافه: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، وموقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
في «المنتقى» روى الفهر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه، ولا بأس بذكر الله تعالى،
فإذا فرغ من الطواف أتى مقام إبراهيم، ويصلي ركعتين، وإن لم يقدر على الصلاة(2/425)
في المقام بسبب الزحمة يصلي حيث تيسر له عليه من المسجد، وهاتان ركعتان واجبتان عندنا قال عليه السلام: «ويصلي الطائف كل أسبوع ركعتين» ويقرأ في الركعة الأولى {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الركعة الثانية {قل هو اأحد} تبركاً بفعل رسول الله فإذا فرغ من الصلاة يدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يقول: اللهم وفقني لما تحب وترضى، وجنبني ما تسخط وتكره وثبتني على ملة حبيبك وخليلك عليهما السلام، ثم يعود إلى الحجر بعد ركعتي الطواف.
أما كل طواف ليس بعده سعي، فلا عود (169ب1) فيه إلى استلام الحجر، ويدعو تحت الميزاب: اللهم أظلني تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك لا إله غيرك يا أرحم الراحمين، ثم يخرج إلى الصفا من أي باب شاء، ويصعده ويستقبل البيت، ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي عليه السلام، ويكبر ويهلل، ويدعو الله لخاصته ويلبي.
وقد روى جابر أن النبي عليه السلام لما صعد الصفا استقبل البيت، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ، ثم ينزل من الصفا ويتوجه نحو المروة ويقول: اللهم استعملني لسنّة نبيك وتوفني على ملة رسولك، وأعذني من معضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين، ويمشي على هينته حتى يصل إلى بطن الوادي، فإذا وصل إليه سعى بين الميلين الأخضرين، ويقول في سعيه: «رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اهدني للتي هي أقوم، فإنك تعلم وأنا لا أعلم» ، فإذا جاوز بطن الوادي يمشي على هينته حتى يأتي المروة ويصعدها، ويستقبل البيت ويقول مثل ما قال على الصفا، ثم ينزل من المروة، ويتوجه إلى الصفا.
يطوف هكذا بينهما سبعة أشواط يسعى بين الميلين الأخضرين كل شوط، اتفق على هذا رواة نسك رسول الله، وإن لم يقف على الصفا والمروة يجزئه سعيه رواه عيسى بن أبان عن محمد.
وعنه أيضاً: لو ابتدأ السعي من الصفا، وسعى حتى إذا بقي بينه وبين المروة مقدار ثلاثة رجع إلى الصفا حتى سعى هكذا بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم رجع إلى أهله لم يكن عليه دم، قال: لأنه طاف الأكثر، وعليه صدقة يتصدقها، والسعي بين الصفا والمروة عندنا واجب وليس بركن، حتى لو ترك يقوم الدم مقامه، ويتحلل عن جهة النساء بدونه لحديث جابر «أن النبي عليه السلام طاف بينهما سبعة أشواط، بدأ بالصفا، وختم بالمروة» أي بدأ بالشوط الأول بالصفا وختم بالمروة الشوط السابع بالمروة؛ لأنه ذكر(2/426)
بداية واحدة وختماً واحداً لجميع السبعة، ولم يقل: بدأ بالصفا وختم بالمروة في كل مرة، وإنما يستقيم ذكر بداية واحدة، وختم واحد لجميع السبعة إذا اعتبرنا بالذهاب من الصفا إلى المروة شوطاً، والرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً.
ثم لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من أشواط السبعة، أما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الكتاب» نصاً، ولكن أشار إلى أنه شوط آخر.
وقال الطحاوي: لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً آخر، والصحيح ما أشار إليه في «الكتاب» ، ثم إذا فرغ من ذلك يقيم بمكة حراماً حتى يجيء يوم التروية يطوف بالبيت كلما بدا له، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، ولكن لا يسعى عقيب سائر الأطواف في هذه المدة، ثم إذا جاء يوم التروية خرج من مكة بعدما طلعت الشمس.
روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا صلى الصلاة بمنى غدا إلى عرفة، ونزل به في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضر بالمارة، وينتظر زوال الشمس، فإذا زالت الشمس يصعد الإمام المنبر، ويجلس ويؤذن، ويخطب الإمام خطبتين بينهما جلسة خفيفة، فإذا فرغ من الخطبة يقيم المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر ركعتين إن كان مسافراً، ثم يقوم المؤذن، ويقيم ثانياً، ويصلي الإمام بهم العصر في وقت الظهر من غير أن يشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعني غير سنّة الظهر، وإنما قدمنا الخطبة على الصلاة ههنا؛ لأن المقصود من الخطبة ههنا تعليم الناس المناسك.
ومن جملة المناسك الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وإذا اشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعيد الأذان للعصر، إلا رواية شاذة عن محمد.
وإن لم يدرك الجمع مع الإمام الأكبر، فأراد أن يصلي وحده في رحله أو بجماعة بدون الإمام الأكبر صلى كل صلاة في وقتها عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: كما فعل مع الإمام الأكبر، فالحاصل أن عند أبي حنيفة شَرْط جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر يوم عرفة إحرام الحج، والإمام الأكبر، وعندها إحرام الحج لا غير.
وههنا فصل لا بد من معرفته أن إمام مكة إمام الحاج في صلاة الظهر والعصر، فإن كان مقيماً يصلي بهم صلاة المقيمين، ويصلي العصر في وقت الظهر، والإمام عند أبي حنيفة رحمه الله شرط جواز الجمع، أما القصر ليس بشرط جواز الجمع، وإن كان مسافراً يصلي صلاة المسافرين، ويقول لأهل مكة: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، ولا يجوز للإمام بمكة أن يقصر الصلاة؛ إذا لم يكن مسافراً، ولا للحجاج أن يقتدوا به إذا كان يقصر الصلاة لأنه إذا لم يكن مسافراً كانت صلاته أربعاً، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم يصير فرضه أربعاً، فإذا قصروا لا تجوز صلاتهم.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: العجب من أهل الموقف أنهم يتابعون إمام مكة في قصر(2/427)
الظهر والعصر بعرفات، وبينهم وبين مكة فرسخات، ثم يقفون للدعاء فأنى يستجاب لهم، وأنى يرجى لهم الخير وصلاتهم غير جائزة، قال شمس الأئمة هذا: كنت مع أهل الموقف، فاعتزلت وصليت كل صلاة في وقتها كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأوصيت بذلك أصحابي وإخواني والجهال كانوا يقصرون معه، وقد سمعت أن إمام مكة يتكلف كذلك، ويخرج مسيرة السفر، ثم يأتي عرفات ويقصر بهم، لو كان هكذا كان القصر جائزاً، ولو كان بخلافه لا يجوز، فيجب الاحتياط فيه.
ثم إذا فرغ من العصر راح إلى موقف، ويقف في أي مكان شاء إلا بطن عرنة لقوله عليه السلام «عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة» (170أ1) . والأفضل أن يقف الإمام، ويقف بأي صفة شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف بمستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله عليه السلام واقفاً بعرفات يدعو رافعاً يديه» الحديث، كالمستطعم المسكين، وليكن عامة دعائه بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، لا نعبد إلا إياه، ولا نعرف ما سواه، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم هذا مقام المستجير العائذ من النار أجرني من النار بعفوك، وأدخلني الجنة برحمتك، اللهم إذا هديتني للإسلام، فلا تنزعه عني حتى تقبضني وأنا عليه.
ويلبي في هذا الموقف عندنا، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه «أنه لبى في هذا الموقف، فقيل له: ليس هذا موضع التلبية، فقال: أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك، حججت مع رسول الله عليه السلام، فما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة» والأفضل أن يقف بقرب الإمام، ويقف بأيّ صفةٍ شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف مستقبل القبلة ويحمد اللَّه تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، ويكون الوقوف إلى غروب الشمس، ولم يرد به بيان امتداد وقت الوقوف يمد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، حتى إن من لم يقف عرفة، ووقف ليلة النحر، فقد تم حجه، وإنما أراد به بيان امتداد نفس الوقوف، يعني: إذا وقف بعد الزوال ينبغي أن يقف إلى وقت غروب الشمس، فإذا غربت الشمس مشى على هينته حتى يأتي المزدلفة، فإن خاف الزحام، فتعجل في الذهاب قبل غروب الشمس، فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفات قبل غروب الشمس، فإذا خرج من حد عرفة قبل غروب الشمس، فعليه عندنا دم.(2/428)
فإن عاد إلى عرفة قبل أن يرفع الإمام سقط عنه الدم، وإن عاد بعدما رفع الإمام لا يسقط عنه الدم في رواية «الأصل» ، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة أنه يسقط.
ولا يصلي المغرب في طريق المزدلفة قال عليه السلام «مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» ، ثم إذا أتى المزدلفة ينزل حيث شاء مع القوم إلا في وادي محسر، ولا ينزل على الطريق أيضاً كيلا يضر بالمارة، ثم يؤذن المؤذن، ويقيم، ويصلي الإمام المغرب بالناس، ثم يتبعها العشاء ولا يعيد الأذان والإقامة للعشاء، بخلاف القصر بعرفات، والفرق أن العصر بعرفات مقدمة على وقتها، فلا بد من تجديد الإقامة لها إعلاماً للناس، أما العشاء ههنا مؤداة في وقتها، فلا يحتاج إلى تجديد الإقامة لها، ولا يتطوع بين المغرب والعشاء، فإن تطوع بينهما أعاد الإقامة للعشاء، وإن صلى المغرب والعشاء وحده جاز بلا خلاف. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الجمع بعرفات،
الفرق أن أداء المغرب ههنا يقع بعد وقته، وهذا غير مقيد بشيء، وهناك أداء العصر يقع قبل وقته، وإنه تقيد بالجماعة مع الإمام الأكبر.
وإذا فرغ من العشاء يبيت ثمة، فإذا انشق الفجر من الغد صلى الفجر بغلس لحديث ابن مسعود، ويقف حيث شاء من المزدلفة يحمد الله تعالى في وقوفه ويهلل، ويصلي على النبي عليه السلام يدعو الله تعالى لحاجته رافعاً يديه إلى السماء، وليكن عامة دعائه بالمزدلفة مثل دعائه بعرفات، ويقول: اللهم حرّم شعري ولحمي ودمي وعظمي، وجوارحي على النار يا أرحم الراحمين، وهذا الوقوف من الواجبات عندنا، وليس بركن حتى لو تركها أصلاً يلزمه الدم، ولكن يجزئه الحج بخلاف الوقوف بعرفة، فإذا أسفر جداً ذهب قبل أن تطلع الشمس حتى نزل منى، وروي عن محمد رحمه الله أنه حد الإسفار فقال: إذا أسفر النهار بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ركعتين يذهب.
ثم إذا أتى منى يرمي الجمرة بسبع حصيات مثل حصى الخذف.
والكلام في الرمي في مواضع:
أحدها: في وقته، فنقول: اتفق العلماء على أن وقت الرمي يوم النحر وثلاثة أيام بعدها غير أن عند علمائنا رحمهم الله أول وقته من حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر،
وعند سفيان الثوري أول وقته من حين تطلع الشمس من يوم النحر، وبكل ذلك ورد الأثر، فأصحابنا عملوا بالآثار كلها، وقالوا: يجوز الرمي بعد طلوع الفجر، والأولى تأخيره إلى وقت طلوع الشمس، قال الحسن في «مناسكه» من حين تطلع الشمس من يوم النحر هو الوقت المستحب للرمي، ومن حين زالت الشمس إلى ما قبل طلوع الفجر الثاني من غده هو وقت جمار الرمي مع الكراهة والإساءة، هذا هو الكلام في اليوم الثاني والثالث، فوقت الرمي ما بعد الزوال ولو رمى قبل الزوال لا يجزئه هكذا ذكر في «الأصل» و «المجرد» ، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» قال محمد رحمه الله: كان أبو(2/429)
حنيفة يقول: أحب إليّ أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، وإن رمى قبل ذلك أجزأه، فصار في اليوم الثاني والثالث روايتان.
وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة لو أراد أن ينفر في اليوم الثالث، فله أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز الرمي قبل الزوال لمن لا يريد النفر فيه، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه لا يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن أراد أن ينفر فيه، وأما في اليوم الرابع فلا رمي فيه إلا بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال أجزأه في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بعد الزوال.
الثاني: فيما يرمي به، فنقول: يرمي بكل ما كان من جنس الأرض (170ب1) كالحديد والعنبر، وما أشبهه.
والثالث: في مقدار ما يرمي، فنقول: يرمي بالصغار مثل حصى الخذف، قال عليه السلام «عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضاً» ، قال الحسن في «مناسكه» : حصى الخذف تكون مثل النواة وأقصر، ولو رمى بحصاً أكبر من حصى الخذف يجزئه، ولكن لا يستحب ذلك.
والرابع: في بيان صفة الرمي، فنقول: ينبغي أن تكون الحصاة مغسولة، وينبغي أن تكون مأخوذة من قوارع الطريق لا من موضع الرمي، فقد جاء في الأثر «أن ما بقي من الحصى في موضع الرمي حصى من لم يقبل حجه» ، فلا يأخذ من موضع الرمي تعافياً.
والخامس: في كيفية الرمي، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يأخذ الحصى على إبهامه، ويضع إبهامه على طرف سبابته كأنه عاقد، ويرميها، وقال بعضهم: يرمي رمية الخلف المعروفة، واختار مشايخ بخارى أنه كيفما رمى فهو جائز؛ لأن المنصوص عليه في الأحاديث الرمي، فبأي طريق أتى بالرمي، فقد أتى بالمنصوص، فيجوز.
قالوا: وينبغي أن يكون بينه وبين وقوع الحصى خمسة أذرع فصاعداً؛ لأن ما يكون دونه يكون وضعاً أو طرحاً، والسنة جاءت بالرمي، وذكر في «الأصل» : لو قام عند الجمرة ووضع الحصى عندها وضعاً لا يجزئه، ولو طرحها طرحاً أجزأه؛ لأن الطرح رمي لكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله.
والسادس: في صفة الرامي راكباً وماشياً، وله أن يختار أيهما شاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: كل رمي بعده وقوف، فالرمي ماشياً أفضل، وكل رمي لا وقوف بعده، فالرامي راكباً أفضل؛ وهذا لأن كل رمي لا وقوف بعده، والمستحق على الرامي الوقوف بعد الرمي، والماشي أمكن للوقوف من الراكب فمكان الرمي ماشياً أفضل. وفي «مناسك الحسن» : ويستحب له أن يمشي إلى الجمار إذا أراد أن يرميها، وإن ركب فلا بأس، والمشي أفضل.(2/430)
والسابع: في محل الرمي فنقول: محل الرمي الجمار الثلاث أولها التي تلي مسجد الخيف والوسطى والأخيرة، وهي جمرة العقبة.
والثامن: أنه في أي موضع يرمي فنقول: الرمي من بطن الوادي يعني من أسفله إلى أعلاه به ورد الأثر، وإذا وقف للرمي جعل منى عن يمينه والكعبة على يساره ويرمي حيث يرى موضع الحصى.
والتاسع: في موضع وقوع الحصاة فنقول: ينبغي أن تقع الحصاة عند الجمرة أو قريباً منها حتى لو وقعت بعيداً منها لم يجزه؛ لأنا إنما عرفنا الرمي قربة بالشرع بخلاف القياس في مكان مخصوص إلا أن قريب الشيء حكمه حكم ذلك الشيء، فيعمل بالبعيد عن الجمرة بقضية القياس.
في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذ رمى الجمرة، فوقعت الحصاة على ظهر رجل، أو على محمل وثبتت عليه كان عليه أن يعيدها، وإذا سقط عن المحمل أو عن ظهر الرجل في المرمى ذلك أجزأه، وهكذا روى إبراهيم بن رستم عن محمد.
والعاشر: في عدد الحصاة فنقول: يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة لا يجزئه؛ لأن المنصوص عليه تفريق الأفعال.
والحادي عشر: أن يكبر عند كل حصاة فيقول: بسم الله والله أكبر رغماً للشيطان وحزبه اللهم اجعل حجي مبروراً وسعي مشكوراً وذنبي مغفوراً.
والثاني عشر: أنه في اليوم الأول يرمي جمرة العقبة لا غير، وفي بقية الأيام يرمي الجمار كلها يبدأ بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، وإذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها، هكذا روي عن رسول الله، وإذا لم يرم حتى حلق، فقد انقطعت التلبية، وهذا بلا خلاف؛ لأن التلبية إنما شرعت في الإحرام، وبالحلق حصل التحلل، فيقطع التلبية ضرورة، وكذلك إذا لم يحلق حتى زالت الشمس، فقد انقطعت التلبية أيضاً عند أبي يوسف.
وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة إلى أن تغيب الشمس، فحينئذٍ (يقطع) التلبية، وهو رواية عن محمد، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة جمرة العقبة لا يفوت وقتها إلا بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس وفات وقتها وكأنها سقطت بالفعل، وعند أبي يوسف جمرة العقبة يفوت وقتها بزوال الشمس.
وإن طاف قبل الرمي والذبح والحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة، روي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول (171أ1) الشمس يوم النحر، ثم إذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول لا يقف عندها، يعني لا يقف للدعاء عند جمرة العقبة التي رماها في اليوم الأول، بل يأتي منزله، فبعد ذلك ينظر إن كان مفرداً بالحج يحلق أو يقصر؛ لأنه جاء أوان التحلل، والتحلل بالحلق والتقصير، وإن كان قارناً أو متمتعاً يذبح، ثم يحلق أو يقصر، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «إن أول نسكنا بمنى أن نرمي،(2/431)
ثم نذبح، ثم نحلق» ورسول الله عليه السلام كان قارناً، والحلق أفضل، وإذا حلق أو قصر حل كل شيء له إلا النساء.h
ثم يدخل مكة من يومه ذلك إن استطاع، ويطوف طواف الزيارة، أو من الغد أو بعد الغد، ولا يؤخر إلى ما بعد الغد، فيطوف بالبيت أسبوعاً ويصلي ركعتين، وهذا الطواف هو الحج الأكبر المذكور في قوله تعالى: {وأذان من اورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (التوبة: 3) ووقته أيام النحر أفضلها أولها، ولا سعي بعد هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية إذ ليس على الحاج إلا سعي واحد، وإن لم يكن سعى بعد طواف التحية يسعى بعد هذا الطواف، وكذلك لا رمل في هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية، وكل طواف ليس بعده سعي، فلا رمل فيه.
وإذا طاف بالبيت على نحو ما بينا حل له النساء أيضاً، ثم لا يبيت بمكة، بل يعود إلى منى ويبيت ثمة، فإذا كان من الغد، وهو اليوم الثاني من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات على نحو ما بيّنا، ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس، فيقوم يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله بحاجته، يريد بقوله: يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس أعلى الوادي؛ لأن الرمي كان من بطن الوادي، فيعود إلى أعلاه، ويقف للدعاء، ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات على نحو ما بينا، ثم يقوم حيث يقوم فيه الناس، فيصنع في قيامه مثل ما صنع عند الأولى، ويرفع يديه بالدعاء في قيامه، ثم يرمي جمرة العقبة، ويرميها بسبع حصيات، ولا يقف عندها للدعاء أي الجمرة، وعن أبي يوسف: في الرجل يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني، فيأتيهن غداً جاز ولا يعيد شيئاً، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يرمي التي عند المسجد، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، فإذا كان من الغد وهو اليوم الثالث من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث أيضاً على نحو ما بينا، ثم يرجع في يومه إن أحب، وإن أقام من الغد، وهو اليوم الرابع رمى الجمار الثلاث أيضاً بعد زوال الشمس على نحو ما بينا.
قال في «الجامع الصغير» : ولو رمى الجمرة الوسطى والأخيرة في اليوم الثاني، ولم يرم الجمرة الأولى، واستغنى في يومه ذلك، فإن رمى الأولى، ثم أعاد على الوسطى، ثم على الأخيرة، فحسن ليصير آتياً بالترتيب المسنون، وإن رمى الأولى فحسب أجزأه؛ لأنه هو المتروك.
وفي «الأصل» : إذا بدأ في اليوم الأول بجمرة العقبة ثم بالوسطى، ثم بالأولى وقد ذكر ذلك في يومه يؤمر بأن يعيد على الوسطى، ثم على جمرة العقبة ليأتي بها اليوم الثاني مسنوناً مرتباً، ولا يعيد على الأولى؛ لأنه قد رماها لكن لا مرتباً وبالإعادة على الأولى والوسطى يحصل الترتيب، فلا حاجة إلى الإعادة على الأولى.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا رمى من كل جمرة ثلاث حصيات، ثم ذكره بعد ذلك،(2/432)
فإنه يبدأ من الأولى بأربع حصيات، فيتمها، ثم يعيد على الوسطى سبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة، ولا يعيد جماراً في الوسطى وجمرة العقبة؛ لأنه أتى بهما قبل ما يأتي بأكثر رمي عند الجمرة الأولى، فكأنه لم يرم من الأولى شيئاً، حتى لو رمى من كل جمرة أربع حصيات، فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات؛ لأنه أتى بأكثر الرمي عند كل جمرة بثلاث، وإن استقبل رميها، فهو أفضل.
وفي «مناسك الحسن» : إذا رمى الجمرة الأولى بحصاة، ثم رمى الجمرة الوسطى بحصاة، ثم رمى الجمرة الأخيرة بحصاة، ثم رجع فرماهن بحصاة حصاة حتى رمى كل واحدة منهن على ما وصفت لك، فقد تم رميه على الجمرة الأولى، ورمى أربع حصيات على الجمرة الوسطى فعليه أن يتمها برمي ثلاث حصيات، ورمى جمرة العقبة بحصاة فيها، فرمى ست حصيات.
وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة أخذاً بالاحتياط، وإن لم يرم يوم النحر جمرة العقبة حتى جاء الليل رماها ولا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من الغد رماها، وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين إلى الغد يرمي ما تركه ويتصدق لكل حصاة بنصف صاع إلا أن يبلغ دماً، فيتصدق بما شاء.
وفي «المجرد» قال أبو حنيفة رحمه الله: لو ترك رمي جمرة الوسطى والأولى فعليه دم، ولو ترك رمي جمرة العقبة أطعم لكل حصاة نصف صاع حنطة.
وفي «الأصل» : لو ترك رمي الجمار كلها في سائر الأيام إلى اليوم الرابع قضاها على التأليف في اليوم الرابع؛ لأن وقت الرمي والحبس واحد، وإن لم يرم حتى غابت الشمس من اليوم الرابع سقط عنه الرمي لفوات الوقت وعليه دم واحد بالإجماع؛ لأن الرمي كله نسك واحد، ثم إذا فرغ من الرمي أتى الأبطح، وينزل به ساعة، والأبطح اسم موضع نزل به رسول الله عليه السلام حين انصرف من منى إلى مكة ويطوف طواف الصدر إن أراد الرجوع، ويسمى هذا طواف واجب عندنا، حتى لو تركه يلزمه الدم.
قال مشايخنا: يستحب للحاج إذا أراد الرجوع أن يأتي باب الكعبة، فيقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيلزمه ساعة ويبكي، ويتشبث بأستار الكعبة، ويلصق خده بالجدار إن تمكن، ثم يأتي زمزم (171ب1) ويشرب من مائه، ويصب على جسده، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً واسعاً وعلماً نافعاً وشفاءً من كل داء يا أرحم الراحمين، ثم ينصرف ويمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متبكياً متحسراً على فراق البيت، ويقول عند رجوعه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا، ولا تجعله آخر العهد منا، وارزقنا العود إليه حتى ترضى برحمتك يا أرحم الراحمين.
فهذا هو بيان عام للحج الذي أراده رسول الله عليه السلام في قوله «من حج هذا(2/433)
البيت فلم يرفث فيه ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ثم يأتي المدينة، ويقوم قريباً من قبر النبي عليه السلام، ويقول: اللهم رب البلد الحرام والركن والمقام ورب المشعر الحرام بلغ روح محمد منا في هذا اليوم التحية والسلام، اللهم أعط محمد الدرجة والوسيلة والرفيعة والفضيلة، اللهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه، واجعلنا من رفقائه، ثم يدعوا بما أحب، والله الموفق.
الفصل الرابع: في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها من غير إحرام
إنّ رسول الله عليه السلام جعل للحج والعمرة مواقيت منها يحرم العبد، وهي خمسة في حديث عائشة رضي الله عنها: ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق. وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» وهذا الحديث ورد في حق أهل الآفاق.
والناس أصناف ثلاثة: أهل الآفاق، ومن كان أهله في الآفاق، ومن كان أهله في الميقات أو دخل الميقات إلا أنه في الحل دون الحرم. وأهل الحرم وهم أهل مكة.
وأما أهل الآفاق، فالأفضل لهم الإحرام من دويرة أهلهم جاء في التفسير قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} (البقرة: 196) إتمامها أن يحرم بها الرجل من دويرة أهله، وذكر هشام عن محمد إذا كان الرجل أول ما يحج، فالأفضل أن يحرم من أهله، وإن أخّر حتى أحرم من ميقات مصره، فهو حسن، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إن أحرم الرجل من مصره، فهو أفضل بعد أن يملك نفسه في الإحرام أن لا يقع في المحظورات.
وإذا لم يحرم الآفاقي من دويرة أهله حتى بلغ الميقات، فعليه أن يحرم من الميقات.
وأما من كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات إلى الحرم، فميقاتهم للحج والعمرة الحل الذي بين المواقيت والحرم حتى لو أخّر الإحرام إلى الحرم جاز؛ لأنه جاز لهم الإحرام من دويرة أهلهم وميقاتهم للعمرة الحل فيخرج الذي يريد العمرة إلى الحل من أي جانب شاء، وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها.(2/434)
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا أراد الآفاقي دخول مكة ينبغي له أن يحرم من الميقات بحجة أو عمرة سواء دخل مكة مريداً النسك، أو دخلها لحاجة من الحوائج، ومن كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات جاز له دخول مكة بغير إحرام لحاجة من الحوائج، وكذا من كان من أهل مكة وخرج منها لحاجة من الحوائج، وكذا من دخل مكة منها لحاجة له إلى ذلك نحو الاحتطاب، وما أشبهه جاز له أن يدخلها بغير الإحرام.
والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في خطبته عام فتح مكة: «ألا إن مكة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» ، وأراد بقوله: «لا تحل لأحد من بعدي» حلّ الدخول بغير إحرام، لأن قوله: «لا تحل لأحد بعدي» الصرف إلى ما انصرف إليه المراد من قوله: «أحلت لي ساعة من نهار» حلّ الدخول بغير إحرام، فإنه دخلها بغير إحرام؛ لأجل القتال في الحرم؛ لأن القتال مع أهل الحرب في الحرم حلال على كل حال، فهذا الحديث لا يوجب الفصل بين الآفاقي، وبين أهل مكة، ومن كان أهله داخل الميقات لكن دخل عنه أهل الميقات وأهله بمكة لمكان الحرج، فإنه يتكرر دخول أهل الميقات، ومن كان داخل الميقات بمكة لإقامة الحرج بمكة، وكذا يتكرر دخولهم؛ لأنه مكرر خروجهم لإقامة المصالح خارج مكة، فلو أوجبت الإحرام عند كل دخول لوقعوا في الحرج، فأما أهل الآفاق فلا يتكرر دخولهم مكة، فإيجاب الإحرام عليهم عند الدخول لا يوقعهم في الحرج، ويبقى أهل الآفاق داخلين تحت الحديث.
ثم إذا دخل الآفاقي مكة بإحرام، وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فعليه الدخول مكة إما حجة أو عمرة لزمه الإحرام إذا بلغ الميقات على قصد دخول مكة، والإحرام إنما يكون بحجة أو عمرة، فلزمه الإحرام بأحدهما، وما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بأدائه، فإن أحرم بالحج أو العمرة من غير أن يرجع إلى الميقات، فعليه دم لترك حق الميقات، وإن عاد إلى الميقات، وأحرم فهذا على وجهين:
إن أحرم بحجة أو عمرة عما لزمه خرج عن العهدة، وإن أحرم بحجة الإسلام، أو عمن كاتب عليه إن كان ذلك في عامه أجزأه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام استحساناً، وإن تحولت السنة وباقي المسألة بحالها لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام، وهذا لأن حق الوقت ينادي بإحرام حجة الإسلام جاز فيما بقي وقت لإحرام حجة الإسلام، فوقت ما يجب بسبب الوقت باقي فلا يصير ديناً في ذمته، فإن عاد إلى الميقات، وأحرم بحجة الإسلام فقد أدى حق الوقت، فأما إذا تحولت السنة، فقد فات وقت الإحرام بحجة الإسلام، وفات (172أ1) وقت ما يجب بسبب الوقت، فيصير ذلك ديناً عليه مقصوداً،(2/435)