المحيط البرهاني في الفقه النعماني
محمود البخارى بن مازه(/)
مقدمة المؤلف
فِقْه الإمَامْ الأعظم أبِيْ حَنيفَة الكوفِي رَحمة اللهِ عليْه
الحمد لله خالق الأشباح بقدرته، وفالق الإصباح برحمته، شارع الشرائع بفضله، ومبدع البدائع بطوله، منزِّل الكتب على الأنبياء، منشىء الشهب في السماء، مالك الرقاب....، رافع العلم ومن يليه وواضع الجهل ومن يليه، أرسل الرسل حجة على الجاحدين، وختم باب الرسالة بنبينا خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
قال العبد الضعيف الراجي لفضل الله، الخائف من عدله، المعتمد على كرمه محمود بن الصدر الكبير، تاج الدين أحمد بن الصدر الشهيد، برهان الأئمة عبد العزيز بن عمر:
إن معرفة أحكام الدين من أشرف المناصب وأعلاها، والتفقه في دين الله من أنفع المكاسب وأزكاها، فحوادث العباد مردودة إلى استنباط خواطر العلماء ومداركهم، مربوطة بإصابة ضمائر الفقهاء قال الله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) ، وكفى العالم شرفاً أن يُحشر يوم النشور مغفوراً، ويُرى سعيه الجميل في العقبى مشكوراً قال عليه السلام: «يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة، ثم يبعث العلماء، ثم يقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» ، وكفى العالم شرفاً أن بين درجته ودرجة الأنبياء حرفاً واحداً، قال عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، وقال عليه السلام في صفة أمته: «هم فقهاء كأنهم من العلم أنبياء» ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمورضي عنهم صابرين على التعلم والتفقه في الدين، ولذلك صاروا مقتدى للعالمين، قال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم» فحفظوا رضوان الله عليهم ما نشر رسول الله صلى الله عليه وسلّممن درر الآثار، ونصبوا قواعد الفوائد(1/28)
لمن بعدهم من الأخيار، ولما انقرض الصدر الأول من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين قام ينصر هذا الدين الإمام الأعظم سراج الأمة ومنهاج الملة هادي الخلق وناصر الحق أبو حنيفة وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهم الذين حدوا ديباجة الشريعة بحدها ومهدوا قواعد الملة الزهراء تمهيداً، فصوروا المسائل تصويراً، وقرروا الدليل تقريراً، فمضوا إلى رحمة الله وموائد فوائدهم منصوبة للأنام، وساروا إلى المنازل الموعودة وآثارهم باقية إلى يوم القيامة، ثم من بعدهم من علماء الملة بالغوا في شرح المعضلات، وجَدّوا في كشف المشكلات، وصنفوا الكتب تصنيفاً، ورصفوا النوازل ترصيفاً، ولم يزل العلم مورثاً من أول ومنقولاً من كابرٍ إلى كابر حتى انتهى إلى
جدود وأسلاف السبعة، تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، فكلهم رضوان الله عليهم أجمعين شرحوا ما بقي من الفقه مجملاً وفتحوا ما ترك مقفلاً، فمصنفاتهم متداولة بين الورى يستعان بها عند القضاء والفتوى (على) ما ترك، وقد وقع على رأيي أن أتشبه بهم بتأليف أصل جلل يجمع جمل الحوادث الحكمية، والنوازل الشرعية ليكون عوناً حال حياتي وأجراً حسناً بعد وفاتي، فقد قال عليه السلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» ، وذكر من جملتها علماً ينتفع به.
وقد انضم إلى هذا الرأي الصائب التماس بعض الإخوان فقابلت التماسهم بالإجابة، وجمعت مسائل «المبسوط» ، «والجامعين» ، «والسير» ، «والزيادات» ، وألحقت بها مسائل «النوادر» ، والفتاوى والواقعات، وضممت إليها من الفوائد التي استفدتها من سيدي ومولاي والدي تغمده الله بالرحمة. والدقائق التي حفظتها من مشايخ زماني رضوان الله عليهم أجمعين، وفصلت الكتاب تفصيلاً، وحللت المسائل تحليلاً، وأيدت بدلائل عول عليها المتقدمون واعتمد عليها المتأخرون، وعملت فيه عمل من طب لمن خب، ووسمت الكتاب بالمحيط، وتوقعت ممن ينظر فيه وينتفع به مدة حياتي أو بعد انقراضي أن يدعو لي بأن يتقبل الله في دينه جهدي، ويجعل كتابي هذا نقلاً من ميراثي وقد لا يصرف به وجهي عنه، نستعيذ من ردة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هو حسيب عباده ونعم الحسيب.(1/29)
كتاب الطهارات
هذا الفصل يشتمل على تسعِ فصول:
1 * في الوضوء.
2 * في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب
3 * في تعليم الاغتسال
4 * في المياه التي يجوز التوضؤ بها، والتي لا يجوز التوضؤ بها
5 * في التيمم
6 * في المسح على الحفين
7 * في النجاسات وأحكامها
8 * في الحيض
9 * في النفاس.(1/31)
الفصل الأول في الوضوء
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان فرائضه
فنقول: فرض الوضوء غسل الوجه، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل القدمين مع الكعبين.
وحد الوجه: من قصاص الشعر من الرأس إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذن، وإيصال الماء إلى داخل العين ساقط، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يغسل الرجل الوجه وهو مغمض عينه، وفي رواية الحسن أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِل أَتُغْسل العين بالماء؟ قال: لا، وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن من غسل وجهه وغمض عينه تغميضاً شديداً لا يجوز ذلك وقيل فمن رمدت عينه فرمصت فأصبح رمصها في جانب العين يجب إيصال الماء تحت مجتمع الرمص، ويجب إيصال الماء إلى المآقي.. وتكلموا قال بعضهم: الشفة تبع للفم فلا يجب إيصال الماء إليه، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ما ظهر من الشفتين عند الانضمام، فهو من الوجه، فيجب إيصال الماء إليه، وما انكتم منه عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب إيصال الماء إليه، ومسح بللآ في بشرة الوجه من اللحية ما يذكره في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله في غسل الأصول روايتان.
في رواية قال: يفرض إيصال الماء إلى اللحية أو ربعها كأنه أراد بهذا الكناية عن الذقن الجفن، وهو قول أبي يوسف، وذكر الحسن في «المجرد» عنه أنه يفرض إيصال الماء إلى ما يوازي الذقن.
ولكن عند بعض مشايخنا يسن، قالوا وكذلك إمرار الماء على ظاهر الشارب على الروايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله اتفقوا أن عليه أن يمس الماء شعرها(1/33)
غسله بالماء، فإذا لم يصبه الماء لا يجوز، وإن لم يكن إيصال الماء إلى أصل المنبت على وجه الغسل شرطاً.
قال رحمه الله: وكذلك في الشارب عليه إيصال الماء إلى شاربه، وفي «القدوري» : مسح ما يلاقي بشرة الوجه من اللحية واجبة رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وأشار في باب الوضوء إلى أنه يفرض إيصال الماء إلى مواضع الوضوء ما ظهر منها.
وذكر الزندويستي في «نظمه» أن حاصل الجواب أن على قول أبي حنيفة رحمه الله مسح ثلثها، وعلى قول محمد والشافعي وأبو يوسف في رواية يمسح كلها وهو(1/34)
أحسن الأقاويل؛ لأن الوجه ما يواجه به الناس واللحية هي التي تواجهها الناس، ولا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر اللحية عندنا باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب (إيصال) الماء إلى ما استرسل من الشعر من الذقن عندنا.
وأما البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن. ذكر شمس الأئمة (1أ1) الحلواني رحمه الله إن ظاهر المذهب أن عليه أن يغسل ذلك الموقع ليس عليه سواه، وذكر الطحاوي أن عليه غسل ذلك الموضع.
وفي «القدوري» : أنه يجب غسله عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وزعم الطحاوي: أن ما ذكر هو الصحيح، عليه أكثر مشايخنا، لكن فيه كلفة ومشقة، فالأولى أن يقال يكفيه بلّ الماء بناءً على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أن المتوضي إذا بل وجهه وأعضاء وضوئه بالماء ولم يسل الماء على عضوه جاز، ولكن قيل تأويل ما روي عن أبي يوسف: أنه إذا سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك.
وذكر الفقيه أبو إسحاق الحافظ: روي عن أبي يوسف، ومحمد، وزفر رحمهم الله يفترض عليه غسله. قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: إن غسل فحسن، وإن لم يغسل أجزأه.
أما فرض غسل اليد: فمن رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ويدخل المرفقان في الغسل عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن اسم اليد يقع على هذه الجملة، وهل يجب إيصال الماء إلى ما تحت الأظافر؟ قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يجب، حتى إن(1/35)
الخباز إذا توضأ وفي أظفاره عجين أو الطيان إذ توضأ وفي أظفاره طين يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وكان يفرق بين الطين والعجين وبين الدرن أن الدرن يتولد من الآدمي فيكون من أجزائه ولا كذلك الطين والعجين.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله في «شرحه» : أن الظفر إذا كان طويلاً بحيث يستر رأس الأنملة يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان قصيراً لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان في أصبعه خاتم إن كان واسعاً لا يجب تحريكه ولا نزعه، وإن كان ضيقاً ففي ظاهر الرواية (قال) أصحابنا رحمهم الله لا بد من نزعه أو تحريكه، وروى الحسن عن أبي حنيفة، وأبو سليمان عن أبي يوسف ومحمد أنه لم يشترط النزع أو التحريك وبين المشايخ اختلاف في هذا الفصل.
وأما فرض مسح الرأس: مقدر بالناصية وذلك قدر ربع الرأس وقدره بعض العلماء رحمهم الله بثلاثة أصابع، هكذا ذكر «القدوري» ، وفي صلاة «الأصل» قدره بثلاثة أصابع وفي «المجرد» : قدره بربع الرأس، ولو أخذ الماء بثلاثة أصابع ووضعها عليه وضعاً ولم يمدها أجزأه على قول من قدره بثلاثة أصابع ولم يجزئه على قول من قدره بالربع حتى تستكمل بالإمرار، هكذا ذكره «القدوري» .
وذكر الزندويستي في «نظمه» وقال: روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإبراهيم بن رستم عن محمد رحمهم الله: أنه يجوز، وقال في اختلاف زفر لا يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن يمسح بقدر ثلث رأسه أو ربعه، وذكر في صلاة الأثر أنه يجوز من غير ذكر خلاف، وإن مسح بأصبع واحد بجوانب الأصبع قدر ثلاثة أصابع روى زفر عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وهذا الجواب مستقيم على الرواية التي قدر المسح فيها بثلاثة أصابع، ولو مسح بالأصبعين لا يجوز إلا أن يمسح بالإبهام والسبابة مفتوحتين فيضعها مع ما بينهما من الكف على رأسه فحينئذ يجوز، لأنهما أصبعان وما بينهما من الكف قدر أصبع، فيصير ثلاثة أصابع فيجوز، وإن كان على رأسه شعر طويل فمسح بثلاثة أصابع إلا أن مسحه وقع على شعره، إن وقع على شعر تحته رأس يجوز عن مسح الرأس، وإن وقع على شعر تحت جبهته أو رقبته لا يجوز عن مسح الرأس(1/36)
لأن المسح على الشعر عن المسح على البشرة التي تحته، ولو مسح على بشرة الجبهة أو العنق لا يجوز عن مسح الرأس، ولو مسح على بشرة الرأس أجزأه فكذا إذا مسح على الشعر، وذكر الزندويستي هذه المسألة بهذه العبارة، وفي موضع آخر ذكر بعبارة أخرى.
ولو كان شعره طويلاً، فمسح ما تحت أذنيه لا يجزئه عن مسح الرأس، ولو مسح ما فوقه يجوز، وإن وضع إصبعاً واحداً على رأسه ومدها قدر ثلاثة أصابع لم يجزه، هكذا ذكر في «نوادر ابن رستم» وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه ماء: قد توضأ به فالتحق به بمسألة لو أخذ الماء ووضعه على جبهته ومدها إلى أصل الذقن حتى استوعب جميع الوجه أجزأه، وأشار إلى المعنى فقال: لأن بملاقاة الماء الجبهة لا يصير الماء مستعملاً إلا بالسيلان؛ لأن فرض الوجه الغسل، ولا يتأتى الغسل إلا بالسيلان على العضو، والماء في عضو واحد لا يصير مستعملاً.
أما في فصل الرأس الماء بملاقاة بشرة الرأس يصير مستعملاً؛ لأن فرض الرأس المسح؛ والمسح يحصل بمجرد الملاقاة فيصير الماء مستعملاً بمجرد الملاقاة.
ذكر الناطفي في «الهداية» إذا اختضب ومسح برأسه عند وضعه على خضابه لا يجزئه وإن وصل الماء إلى شعره، قال: وهو كالمرأة إذا مسحت على الوشاح ووصل الماء إلى شعرها وذلك لا يجوز فههنا كذلك.
ورأيت مسألة الخضاب في شرح بعض المشايخ: أنه إذا اختلط البلة بالخضاب، وخرج من حكم الماء المطلق لا يجوز المسح وهو بمنزلة ماء الزعفران.
ورأيت مسألة مسح المرأة على الخمار في نسخ بعض المشايخ أيضاً أنّ الماء إن كان متقاطراً بحيث يصل إلى الشعر يجوز المسح، وإلا فلا.
وذكر الزندوستي في نظمه قال بعض في العلماء: إذا وصل الماء إلى الشعر جاز وإلا فلا.
وقال بعضهم إن كان الخمار غير لا يجوز؛ لأنه لا يصل الماء.
وقال بعضهم إن ضربت يديها المبلولتين فوق الخمار جاز وما لا فلا لأن بالضرب يصل الماء إلى الشعر.
ولو كان ذؤابتان مشدودتان حول الرأس كما يفعله النساء فوقع مسحه على رأس الذؤابة بعض مشايخنا قالوا بالجواز إذا لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شعر تحته رأس، فصار كما لو مسح على الشعر الأصلي، وعامتهم على أنه لا يجوز أرسلهما أو لم(1/37)
يرسلهما؛ لأنه مسح على شيء مستعار، فصار كما لو مسحت المرأة فوق الخمار ولم يصل الماء إلى ما تحته.
وإذا نسي المتوضي مسح الرأس، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاث أصابع فمسحه بيده أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس؛ لأن الله تعالى وصف الماء بكونه طهوراً، والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره، فلا يتوقف حصول التطهير على فعل يكون منه كان كالذي هو محرق لا يتوقف حصول الإحراق على فعل يكون من الغير.
وإذا نسي أن يمسح برأسه، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه لا يجوز؛ لأن هذا مسح بالمستعمل والماء يأخذ حكم الاستعمال عندنا كما زايل العضو استقر على الأرض أو لم يستقر، وههنا زايل العضو بدليل أنه يخرج عن الجنابة بالإجماع، وفي المسألة أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولو كان في كفه بلل فمسح به رأسه أجزأه قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا إذا لم يستعمله في عضو من أعضائه بأن أدخل يده في إناء حتى ابتلت، فأما إذا استعمله في عضو من أعضائه بأن غسل بعض أعضائه وبقي على كفه بلل لا يجوز، وأكثرهم على أن قول الحاكم خطأ.
والصحيح أن محمداً رحمه الله أراد بذلك ما إذا غسل عضواً من أعضائه وبقي البلل في كفيه، بدليل أن محمداً رحمه الله، قال: وهذا بمنزلة ما لو أخذ الماء من الإناء، ولو كان المراد ما قاله الحاكم لم يكن لهذا التشبيه معنى.
وفرّقوا بين بلل اللحية وبين بلل الكف، والفرق أن بلل الحلية ما سقط به فرض غسل الوجه وصار مستعملاً، فلا يقام به فرض آخر.
أما بلل الكف ما لم يسقط به فرض الغسل؛ لأن فرض غسل الأعضاء أقيم بالماء الذي زايل العضو لا بالبلل الذي على الكف، فلم يصر هذا البلل مستعملاً، فجاز أن يقام به فرض مسح الرأس.
ولو أمر الماء على رأسه ولحيته ثم حلقها لا يلزمه إعادة المسح عليهما هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله.
قال الناطفي: ورأيت في كتاب الصلاة محمد بن مقاتل أن في الرأس لا يلزمه(1/38)
الإعادة، وفي اللحية يلزمه الإعادة.
وأشار إلى الفرق فقال: إن في الرأس قبل نبات الشعر كان فرضه المسح كما بعد نباته، فزوال الشعر لا يغير صفة الفرض.
أما في الوجه صفة الفرض قد تغيرت ألا ترى أن قبل ما نبت الشعر على الوجه، فرضه الغسل وبعد نباته لا يكون فرضه الغسل.
وفي «القدوري» يذكر هذه المسألة بعبارة أخرى فيقول: وليس في زوال عضو من وضوء ولا إمرار ماء على موضع المزال، يريد به إذا توضأ ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: بإعادة المسح في الرأس واللحية وأشباههما، وكان يقيس هذه الصورة على المسح على الخف فإنه لو مسح على الخفين ثم نزعمهما يسقط حكم ذلك المسح ويفرض غسل القدمين.
ونقل ابن سماعة عن محمد رحمه الله فرقاً بين المسح على الخف وبين هذه الصورة فقال: الجلد والشعر (2ب1) والرأس شيء واحد ذهب بعضه وبقي البعض فلم يرتفع حكم ذلك المسح بمرة فأما الخف فهو غير الرجل، فإذا نزعه فقد ارتفع حكم ذلك المسح بالمرة، قياس مسألة الخف في هذه المسألة أن لو كان الخف ذا طاقين فمسح عليه ثم نزع أحد الطاقين إذا تقشر بنفسه وهناك لا يلزمه إعادة المسح أيضاً.
وأما فرض غسل الرجلين فمن رؤوس الأصابع إلى الكعبين، ويدخل الكعبان في الغسل عند علمائنا رحمهم الله.
والكعب هو العظم الناتىء في الساق الذي يكون فوق القدم.
والذي روى هشام عن محمد رحمه الله أن الكعب هو العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك، فذاك وهم منه، لم يرد محمد رحمه الله في هذا تفسير الكعب في الطهارة والصلاة، وإنما أراد به في حق المحرم إذا لم يجد نعلين ومعه خفان قال يقطعهما أسفل من الكعبين، وأراد بالكعب العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك ليصير آلة في معنى النعلين.
وأما تفسير الكعب في الطهارة والصلاة العظم الناتىء الذي هو في الساق فوق القدم، ولو قطعت رجله من الكعب وبقي النصف من الكعب يفرض عليه غسل ما بقي من الكعب وموضع القطع، وكذلك هذا الحكم في المرفق في اليد إذا قطع اليد من المرفق وبقي نصف المرفق يفرض عليه غسل ما بقي من المرفق وموضع القطع.
وإن كان القطع فوق الكعب وفوق المرفق لم يجب غسل موضع القطع.
وتخليل الأصابع إن كانت مضمومة وتوضأ من الإناء، وإن كانت مفتوحة فترك التخليل جاز.
وإن كان توضأ في الماء الجاري أو في الحياض، فأدخل رجليه الماء وترك التخليل(1/39)
جاز، وإن كانت الأصابع مضمومة، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» .
وفي «شرح شيخ الإسلام» : أن تخليل الأصابع قبل وصول الماء إلى ما بين الأصابع فرض وبعده سنة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقاً.
قال رحمه الله: ومن الناس من قال تخليل أصابع القدم فرض قال محمد رحمه الله في «الأصل» لو توضأ مرة واحدة تامة أجزأه.
وتكلموا في تفسير الشيوع، قال بعضهم: غسل العضو بالماء أولاً ثم يسيل عليه الماء، فيتيقن بوصول الماء إلى جميع العضو.
وقال بعضهم: يسيل الماء على عضوه ويدلكه حتى يصل الماء إلى جميعه، والفقيه أبو جعفر رحمه الله مال إلى القول الأول في زمان الشتاء وإلى القول الثاني في زمان الصيف.
وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا بل الأعضاء ثلاث مرات يجزىء عن الغسل ثم إذا توضأ مرة واحدة، فإن فعل ذلك لقلة الماء أو للتبرد أو للحاجة لا يكره ولا يأثم، وإن فعل ذلك من غير عذر وحاجة يكره ويأثم هكذا قيل.
وقد قيل أيضاً إن اتخذ ذلك عادة يكره.
وإن فعل ذلك أحياناً لا يكره.
وإذا كان ببعض أعضاء الوضوء جرح قد انقطع قشره أو نحو منه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحته؟ كان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول ننظر إن كان ما يقشر يزال من غير أن يتألم لم يجزه إلا أن يصل الماء إلى ما تحته، وإن كان لا يزال من غير أن يتألم أجزأه إن لم يصل الماء إلى ما تحته، قال: لأنه بمنزلة ما لم يقشر.
وفي «مجموع النوازل» : رجل ببعض أعضائه قرحة قشر أو بأطراف وضوءه وضوء قشر القرحة موصولة بالجلد إلا الطرف الذي يخرج منه القيح، فغسل الجلد ولم يصل الماء إلى ما تحت الجلد جاز وضوءه، وجاز له أن يصلي؛ لأن ما تحت الجلد ليس بظاهر فلا يعتبر غسله.
وفيه أيضاً وإن كان على بعض أعضاء وضوئه قرحة نحو الدمل وشبهه وعليه جلدة رقيقة، فتوضأ وأمرّ الماء على الجلدة ثم نزع الجلدة قيل يلزمه غسل ما تحت الجلدة، قال: إن نزع الجلدة بعد ما بدأ بحيث لم يتألم بذلك، فعليه أن يغسل ذلك الموضع، وإن نزع محل البثر وبحيث تألم بذلك إن خرج منها شيء وسال نقض الوضوء، وإن لم يخرج لا يلزمه غسل ذلك الموضع والأشبه أنه لا يلزمه الغسل في الوجهين جميعاً.
وفي «فوائد القاضي الإمام» ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: إذا كان على(1/40)
بعض أعضاء وضوئه خرء ذباب أو برغوث، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته جاز؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
ولو كان جلد سمك وخبز ممضوغ قد جف، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته لم يجز؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وقد قيل إذا كان على أعضاء وضوئه.f
... ولا يصل الماء إلى ما تحته فتوضأ كذلك يجوز؛ لأنه يتولد من البدن فهو بمنزلة الدرن.
وفي «مجموع النوازل» إذا كان برجله شقاق، فجعل فيها الشحم وغسل الرجل ولم يصل الماء إلى ما تحته ننظر إن كان يضره إيصال الماء إلى ما تحته يجوز، وإن كان لا يضره لا يجوز والله أعلم.
نوع منه فى تعليم الوضوء
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ولم يذكر كيفيته، وحكي عن الفقيه أي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه ينظر إلى الإناء إن كان الإناء صغيراً يمكنه رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثاً، وإن كان الإناء كبيراً لا يمكن رفعه كالحب وشبهه، وكان معه كوز صغير يرفع الماء بالكوز، ولا يدخل يده فيه ثم يغسل يديه بالكوز على نحو ما بينا.
وإن لم يكن معه كوز صغير أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ولا يدخل الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، فيفعل كذلك ثلاثاً ثم يدخل يده اليمنى بالغاً ما بلغ في الإناء، وقوله عليه السلام: «لا يَغْمُسَنَّ في الإناء» محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة أو كانت كبيرة، ولكن معه آنية صغيرة.
وأما إذا كان الإناء كبيراً وليس معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة.
ثم يستنجي والكلام في الاستنجاء يأتي بعد هذا في النوع الذي يلي هذا النوع.
وبين المشايخ اختلاف في أنه يغسل يديه قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء.
قال بعضهم: قبل الاستنجاء.
وقال بعضهم: بعد الاستنجاء.(1/41)
وأكثرهم على أنه يغسل يديه مرتين، من قبل الاستنجاء ومن بعد الاستنجاء، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم يقل ثم يغسل يديه.
من أصحابنا من قال: إنما ذكر ذراعيه؛ لأنه سبق غسل اليدين، فلا يجب الإعادة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه يعيد غسل اليدين؛ لأن الأول كان شبه افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء وأنه مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير، فإذا حصل التطهير بأي طريق حصل فقد حصل المقصود، فلا معنى لإعادة الغسل. ثم يمسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء واحد ثم يغسل رجليه مع الكعبين والله أعلم.
نوع منه فى بيان سنن وضوئه وآدابه
فنقول: السنّة سنّتان.
سنّة الرسول عليه السلام.
وسنّة أصحابه.
فسنّة الرسول: هي الطريق التي فعلها رسول الله عليه السلام وواظب عليها كركعتي الفجر والأربع قبل الظهر وأشباهها.
وسنّة أصحابه رضوان الله عليهم: هي الطريق التي فعلها الصحابة، وواظبوا عليها كالتراويح، فإن التراويح يقال: سنّة عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر فعلها وواظب عليها.
والأدب: ما فعله رسول الله عليه السلام مرة وترك مرة، فنقول: من السنّة أن يغسل يديه إلى الرسغ ثلاثاً، ويغسلها قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء، فيه كلام وقد ذكرناه، وهذا إذا لم يكن على بدنه نجاسة حقيقية، أما إذا كانت فإنه يفترض غسلها.
قال الطحاوي رحمه الله: ويسمي، فيقول: (بسم) الله العظيم والحمد لله على الإسلام، وفي كون التسمية سنّة كلام.
ففي ظاهر الرواية ما يدل على أنه أدب فإنه قال: ويستحب له أن يسمي، وذكر في «صلاة الأثر» أنها سنّة، وهكذا ذكر الطحاوي والقدوري رحمهما الله.
وفي محل التسمية اختلاف المشايخ، قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء وقال بعضهم يسمي بعد الاستنجاء.(1/42)
فصلفي الاستنجاء وكيفيته
ومن السنة الاستنجاء، وإنه نوعان:
أحدهما: بالماء.
والثاني: بالحجر أو المدر أو ما يقوم مقامها من الخشب أو التراب.
والاستنجاء (3أ1) بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن لم يمكنه ذلك إلا بكشف العورة يستنجي بالأحجار، ولا يستنجى بالماء، وإتباع الماء الأحجار أدب وليس بسنّة؛ لأن النبي عليه السلام فعله مرة وتركه مرة.
من مشايخنا من قال: هذا كان أدباً في زمن النبي عليه السلام وأصحابه، أما في زماننا فهو سنّة، واستدل هذا القائل بما روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال: هو سنّة، فقيل له: كيف يكون سنّة وقد تركه رسول الله عليه السلام مرة وفعل مرة، وكذلك خيار الصحابة، فقال الحسن: إنهم كانوا يبعرون بعراً وأنتم تثلطون ثلطاً، ولا خلاف لأحد في الأفضلية، فإتباع الماء الأحجار أفضل بلا خلاف، والاستنجاء من البول والغائط والمذي والمني والدم الخارج من أحد السبيلين دون غيرها من الأحداث.
وينبغي أن يستنجي بالأشياء الطاهرة نحو الحجر والمدر، والرماد، والتراب، والخرقة، وأشباهها، ولا يستنجي بالأشياء النجسة مثل السرقين ووضع الإنسان، وكذلك بحجر استنجى به مرة هو أو استنجى به غيره إلا إذا كان حجراً له أحرف، فيستنجى في كل مرة بحرف لم يستنج به في المرة الأولى، فيجوز من غير كراهته.
وكذلك لا يستنجى بالعظم والروث، فقد قيل العظم طعام الجن والروث علف دوابهم، فلا يفسد عليهم طعامهم وعلف دوابهم، وكذلك لا يستنجى بمطعوم الآدمي وعلف دوابهم نحو الحنطة والشعير أو الحشيش وغيرها.
وذكر الزندويستي أنه يستنجي بالمدر والحجر والتراب، ولا يستنجي بما سوى هذه الأشياء.
وعدد الثلاثة في الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها ليس بأمر لازم، والمعتبر هو الإنقاء، فإن أنقاه الواحد كفاه وإن لم ينقه الثلاث زاد عليه.
وقيل في كيفية الاستنجاء بالأحجار أن الرجل في زمن الصيف يدبر بالحجر الأول، ويقبل بالحجر الثاني، ويدبر بالثالث، وفي الشتاء يقبل بالحجر الأول ويدبر بالثاني ويدبر بالثالث؛ لأن في الصيف خصيتاه متدليتان، ولو أقبل بالأول تتلطخ خصيتاه، فلا يقبل ولا كذلك في الشتاء. والمرأة تفعل في الأحوال كلها مثل ما يفعل الرجل في الشتاء.(1/43)
وقد قيل المقصود هو الإنقاء، فيفعل على أي وجه يحصل المقصود.
قيل في كيفية الاستنجاء بالماء: أنه ينبغي أن يجلس كأفرج ما يكون ويرخي كل الإرخاء حتى يطهر ما بداخل فرجه من النجاسة، فيغسلها وإن كان صائماً لا يبالغ في الإرخاء حتى لا يصل الماء إلى باطنه، فيفسد صومه.
وعن هذا قيل: لا ينبغي أن يقوم عن موضع الاستنجاء حتى ينشف ذلك الموضع بخرقة حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وكذلك قيل: لا ينبغي أن يتنفس في الاستنجاء للمعنى الذي ذكرنا، ويستنجي بيساره سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجر، ويستنجي بأصبع أو أصبعين أو ثلاث، ولا يستعمل جميع الأصابع لأن ذلك الموضع لا تتسع فيه الأصابع كلها، فلو استعمل الأصابع كلها يخرج الماء النجس من بين أصابعه، ويسيل على فخذيه فينجس به فخذاه وعسى لا يشعر به.
أو نقول المقصود يحصل بالثلاث، ففي الزيادة على الثلاث استعمال النجاسة بلا ضرورة، وإن كان المستنجي رجلاً يستنجي بأوساط أصابعه، وإن كان امرأة تستنجي برؤوس الأصابع عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تستنجي بأوساط الأصابع.
بقي الكلام بعد هذا في عدد سكب الماء، وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من لم يقدر في ذلك تقديراً وفوضه إلى رأي المستنجي، وقال: يغسل إلى أن يقع في قلبه أنه قد طهر، وبعضهم قدروا في ذلك تقديراً، واختلفوا فيما بينهم، فمنهم من قدره بالثلاث، ومنهم من قدره بالسبع، ومنهم من قدره بالتسع، ومنهم من قدره بالعشر، ومنهم من قدره في الإحليل بالثلاث، وفي المقعد بالخمس.
وينبغي أن يستنجي بعد ما خطا خطوات حتى لا يحتاج إلى إعادة الطهارة، وإن كان المستنجي لابس الخفين وماء الاستنجاء يجري تحت خفه يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، إلا إذا كان على الخف خروق، ويدخل ماء الاستنجاء باطن الخف، فحينئذٍ يغسل باطن الخف، وإن كانت الخروق بحالٍ يدخل الماء فيها من جانب ويخرج من جانب آخر يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.
وفي قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه سئل عن رجل شلت يده اليسرى، ولا يقدر أن يستنجي بها كيف يستنجي؟ قال: إن لم يجد من يصب الماء عليه والماء في الإناء لا يستنجي، وإن قدر على الماء الجاري يستنجي بنفسه، وإن كانت يداه كلاهما قد شلتا ولا يستطيع الوضوء والتيمم، قال: يمسح يده على الأرض يعني ذراعيه مع المرفقين ويمسح وجهه على الحائط ويجزىء ذلك عنه، ولا يدع الصلاة على كل حال.(1/44)
وفيه أيضاً الرجل المريض إذا لم يكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ، وهو لا يقدر على الوضوء، قال: يوضئه ابنه أو أخوه غير الطهور، فإنه لا يمس فرجه ويسقط عنه الاستنجاء، وفرائض المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج ومن لا يقدر على الوضوء ولها أخت، قال: توضئها الأخت إلا الطهور وسقط عنها الاستنجاء.
ثم الاستنجاء بالأحجار إنما يجوز إذا اقتصرت النجاسة على موضع الحدث، وأما إذا تعدت عن موضعها بأن جاوزت الفرج أجمعوا على أن ما جاوز موضع الفرج من النجاسة إذا كان أكثر من قدر الدرهم إنه يفرض غسلها بالماء، ولا يكفيه الإزالة بالأحجار.
وإن كان ما جاوز موضع الفرج أقل من قدر الدرهم أو قدر الدرهم إلا أنه إذا ضم موضع الفرج يكون أكثر من قدر الدرهم، فأزالها بالحجر ولم يغسلها بالماء فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أنه يجوز ولا يكره.
وعلى قول محمد رحمه الله لا يجوز إلا أن يغسله بالماء، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضاً. وإذا كانت النجاسة على موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم واستجمر ولم يغسلها ذكر في «شرح الطحاوي» أن فيه اختلاف، بعضهم قالوا: إن مسحه بثلاثة أحجار والماء جاز، قال: وهو أصح، وبه قال الفقيه أبو الليث رحمه الله.
وإذا استنجى بالأحجار ثم سبح في ماء قليل أو جلس في طست ماء، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية» : إن قيل لا ينجس فله وجه، وإن قيل ينجس فلا وجه، قال: وهو الأصح، وبه كان يقول الناطفي، ذكره في «الهداية» ، وإن خرج من ذلك الموضع دم أو قيح أو أصابه نجاسة أخرى لا يجزئه الإزالة بالأحجار والله تعالى أعلم.
ومن السنة: النية، وإذا تركها تجزئه صلاته عندنا، وتكلموا في أنه إذا ترك النية هل يثاب ثواب الوضوء؟ قال الأكثر من المتقدمين من أصحابنا؛ لا يثاب، وقال بعض المتأخرين: يثاب، هكذا ذكره الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، وأشار الكرخي في «كتابه» إلى أن الوضوء الذي هو بغير النية ليس الوضوء الذي أمر به الشرع، وإذا لم ينو فقد أساء وأخطأ وخالف السنّة إلا أنه تجوز صلاته؛ لأن الحدث لا يبقى مع الوضوء ثم كيف ينوي حتى تكون متممة للسنّة، قالوا: ينوي إزالة الحدث أو إقامة الصلاة.
ومن السنّة: الترتيب في الوضوء يبدأ بيديه إلى الرسغ ثم بوجهه ثم بذراعيه ثم برأسه ثم برجله. ومن السنّة أيضاً الموالاة. ومن السنّة السواك، وينبغي أن يكون السواك من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم ويشد الأسنان ويقوي اللثة، وليكن رطباً في غلظ الخنصر وطول الشبر، ولا يقوم الإصبع مقام الخشب، حال وجود الخشب، فإن لم توجد الخشبة فحينئذٍ تقوم الإصبع مقامها.
ومن السنّة أيضاً أن يتمضمض ثلاثاً، ويستنشق الماء، والمضمضة والاستنشاق نفلان في الوضوء عندنا، ولكنهما سنّتان والمبالغة فيهما سنّة أيضاً.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: المبالغة في المضمضة أن يخرج الماء من(1/45)
جانب إلى جانب، وقال شيخ الإسلام: المبالغة (3ب1) في المضمضة الغرغرة.
وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة تكثير الماء حتى يملأ الفم فإن لم يملأ الفم يغرغر حينئذٍ، والمبالغة في الاستنشاق أن يضع الماء على منخريه ويجذبه حتى يصعد من أنفه، وبعضهم قالوا المبالغة في الاستنشاق في الاستنثار.
وتكون المضمضة باليد اليمنى والاستنشاق باليد اليسرى، وفي بعض المواضع: إذا تمضمض واستنشق، فليس عليه أن يدخل أصبعه في فمه وأنفه.
قال الزندويستي: والأولى أن يفعل ذلك وينبغي أن يأخذ لكل واحد منهما ماء على حدة عندنا، وإن أخذ الماء بكفه ورفع منه بفمه ثلاث مرات وتمضمض يجوز مثله، ولو رفع الماء من الكف بأنفه ثلاث مرات واستنشق لا يجوز؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف لأنه يرميه إلى الأرض.
ومن السنّة تكرار الغسل ثلاثاً فيما يفرض غسله نحو اليدين والوجه والرجلين، لما روي أن رسول الله عليه السلام؛ «توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله تعالى له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» قيل: المراد زاد على أعضاء الوضوء، أو نقص على أعضاء الوضوء.
وقيل زاد على الحد المحدود أو نقص عن الحد المحدود.
وقيل المراد زاد على الثلاث أو نقص متعمداً؛ لأن السنّة هذا فأما إذا زادهما بنية الطب عند السواك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما (لا) يريبه.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن من توضأ وزاد على الثلاث هل يكره؟ كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يكره، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: لا يكره، إلا أن يدعي أن السنّة في الزيادة، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان من نعته الزيادة تكره، وإن كان من نعته تجديد الوضوء لا يكره بل يستحب له ذلك.
وذكر الناطفي في «الهداية» ، أن الوضوء مرة واحدة فرض ومرتين فضيلة وثلاثاً في المغسولات سنة وأربعاً بدعة، وهذا كله إذا لم يفرغ من الوضوء، فأما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء، فلا كراهة بالاتفاق، ذكره في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والأصل فيه(1/46)
قوله عليه السلام: «من توضأ على وضوء يكتب له عشر حسنات» .
ومن السنّة: استيعاب جميع الرأس في المسح وتكرار المسح والاستيعاب بماء واحد لا بأس به، فالتثليث في المسح بماء.... بدعة، هكذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رواية أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات يأخذ لكل مرة ماءً جديداً، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّمتوضأ مرة مرة ورأيته توضأ مرتين مرتين ورأيته توضأ ثلاثاً ثلاثاً وما رأيته مسح برأسه إلا مرة واحدة» .
وبيان كيفية الاستيعاب: أن يأخذ الماء ويبل كفه وأصابعه ثم يلصق الأصابع، ويضع على مقدم رأسه من كل يد ثلاث أصابع، ويمسك إبهاميه وسبابتيه ويجافي بين كفيه، ويمدهما إلى قفاه، ثم يرسل الأصابع ويضع كفيه ويمسح على فوديه بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحتيه حتى يصير ماسحاً جميع الرأس ببلل لم يصر مستعملاً والرواية من مقدم الرأس قول عامة المشايخ.
وروي عن أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله أنه يبدأ من أعلى رأسه، فيمد يديه إلى مقدم جبينه، ثم إلى قفاه، وذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله: يبدأ في مسح الرأس من مقدم الرأس، ويجرهما إلى مؤخر الرأس ثم يعيدهما إلى مقدم الرأس، ولا تكون الإعادة استعمال المستعمل؛ لأن اليد ما دام على العضو لا يأخذ حكم الاستعمال وإذا غسل الرأس مع الوجه أجزأه عن المسح هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن في الغسل مسح وزيادة ولكن يكره لأنه خلاف ما أمر به.
ومن السنّة: مسح الأذنين بالماء الذي يمسح به الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديداً، وقال الشافعي: يأخذ لهما ماءً جديداً؛ لأنهما عضوان منفصلان؛ ولهذا كان مسح الرأس فرضاً ومسح الأذنين سنّة، ولا يكتفى فيها بماء واحد كالمضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه، ولنا قوله عليه السلام: «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم لا بيان الحقيقة؛ لأنه مشاهد ولا حكم لجعل الأذنان فيه من الرأس إلا ما قلنا، وأما المضمضة والاستنشاق، فيؤخذ لهما ماء جديد في ظاهر الرواية، وروى ابن شجاع أنه إذا أخذ(1/47)
غرفة، فتمضمض بها وغسل وجهه جاز، فإن أخذنا بهذه الرواية نحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق على ظاهر الجواب أن المضمضة والاستنشاق يكون مقدماً على غسل الوجه فلو أصابهما بماء واحد صار المفروض تبعاً للمسنون، وذلك لا يجوز، ولا كذلك الأذنان مع الرأس، وإدخال الإصبع في صماخ أذنيه أدب وليس بسنّة هو المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه كان يرى ذلك.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه يدخل الخنصر في صماخ أذنيه ويحركها، ويرويان في ذلك حديثاً عن «النبي صلى الله عليه وسلّموعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك» .
لم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مسح الرقبة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إنه سنّة وبه أخذ أكثر العلماء، وقال أبو بكر بن أبي سعيد: إنه ليس بسنّة، وبه أخذ بعض العلماء، وقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء: «أن رسول الله عليه السلام مسح على رأسه وأذنيه ورقبته في بيتها» .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار» .
وأما تخليل اللحية فليس بمسنون، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول محمد وقال أبو يوسف هو سنّة.
ومن السنّة عند غسل الرجلين أن يأخذ الإناء بيمينه وألقاه على مقدم رجله الأيسر، ودلكه بيساره، وإنما أخبرنا اليسار والدلك؛ لأن الرجل موضع الأذى واليسار للأذى، وإنما بدأنا من مقدم الرجل؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية، وكذلك في غسل اليدين يبدأ من رؤوس الأصابع، لأن الله تعالى جعل المرفق غاية.
(آداب الوضوء)
جئنا إلى بيان الأدب فنقول: من الأدب أن لا نسرف ولا نقتر، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن هذا سنّة.
ومن الأدب أن يقول عند غسل كل عضو: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام» . ومن الأدب أن لا يتكلم فيه بكلام الناس.
ومن الأدب: أن يتولى أمر الوضوء بنفسه لحديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «إنا لا نستعين على طهورنا» ، مع هذا لو استعان بغيره جاز بعد أن لا يكون الغاسل(1/48)
غيره، بل يغسله بنفسه، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام استعان بغيره، وكان المغيرة يفيض الماء ورسول الله عليه السلام كان يغسل» .
ومن الأدب: أن لا يترك عورته مكشوفة يعني بعد الاستنجاء، فقد قيل: الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم إذا وجدها مكشوفة.
ومن الأدب أن يتأهب للصلاة قبل الوقت، لما روي عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: من لم يتأهب للصلاة قبل الوقت لم يوقر لها. ومن الأدب أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله عبده ورسوله.
ومن الأدب أن لا يمسح سائر أعضائه بالخرقة التي يمسح بها موضع الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يستقبل القبلة عند الوضوء بعد الفراغ من الاستنجاء.
ومن الأدب: أن يقول بعد الفراغ من الوضوء (4أ1) أو في خلال الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
ومن الأدب: أن يشرب فضل وضوئه أو بعضه مستقبل القبلة إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زادة رحمه الله أنه يشرب ذلك قائماً قال: ولا يشرب الماء قائماً، إلا في موضعين أحدهما: هذا، والثاني: عند زمزم.
ومن الأدب: أن يصلي ركعتين بعد الفراغ من الوضوء، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال لبلال: «مالك سبقتني إلى الجنة، فقال بلال: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم «كنت أمس البارحة في الجنة، فسمعت أمامي خَشخَشَتَك (بجزم الشين أو بفتح الشين) فنظرت، فإذا هي أنت، فقال بلال: ما توضأت قط إلا رأيت لله تعالى عليّ صلاة ركعتين، فقال عليه السلام: «هي ذاك» الخشخشة بالجزم صوت النعلين وبالفتح الحركة.
ومن الأدب: أن يملأ آنيته بعد الفراغ من الوضوء لصلاة أخرى والله أعلم.x
الفصل الثاني: في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب
هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه الغائط يوجب الوضوء قل أو كثر، وكذلك البول، وكذلك الريح الخارج من الدبر، واختلف المشايخ أن عين الريح نجس، أو هو طاهر إلا أنه يتنجس بمروره على النجاسة، قالوا: وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا(1/49)
خرج منه الريح وعليه سراويل مبتلة هل تتنجس سراويله، فمن قال عينه نجس يقول تتنجس، ومن قال عينه ليس بنجس يقول لا تتنجس.
وأما الريح الخارج من قبل المرأة وذكر الرجل، فقد روي عن محمد أنه يوجب الوضوء، هكذا ذكر القدوري، وبه أخذ بعض المشايخ، وقال أبو الحسن الكرخي: لا وضوء فيه إلا أن تكون المرأة مفضاة، فيستحب لها الوضوء.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله يقول: إذا كانت المرأة مفضاة يجب عليها الوضوء، وما لا فلا، وهكذا ذكر هشام عن محمد في «نوادره» .
ومن المشايخ من قال في المفضاة: إن كان الريح، نتناً يجب عليها الوضوء ومالا فلا، والدودة إذا خرجت من قبل المرأة، فعلى الأقاويل التي ذكرنا، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» ، وفي «القدوري» : أنها توجب الوضوء.
وإن خرجت من الدبر وجب الوضوء بلا خلاف، فرق بين الخارج من الدبر وبين الخارج من الجراحة.
فإن الدودة الخارجة عن رأس الجراحة لا تنقض الوضوء، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن الخارج من الدبر يولد من محل النجاسة، فيكون نجساً والساقط عن رأس الجرح يولد من محل الطهارة لأنه يولد عن اللحم واللحم طاهر والمتولد منه يكون طاهراً.
والثاني: أن عين الساقط حيوان ليس من جملة الأحداث إنما الحدث ما عليه من البلة وهي قليلة، غير أن القليل حدث في السبيلين، وليس بحدث في سائر الجراحات، لعدم السيلان، وعلى قياس مسألة الدودة الساقطة عن رأس الجراحة استحسن المشايخ في العرق المدني الذي يقال له بالفارسية «رشته» لو خرج من عضو إنسان لا ينقض وضوؤه، وإن خرجت الدودة من الإحليل حكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه ينقض، وكان يحيله إلى «فتاوى خوارزم» .
ولو خرجت الدودة من الفم قيل لا تنقض الوضوء وكذلك الخارجة من الأذن والأنف لا تنقض الوضوء. والمذي ينقض الوضوء، وهو الماء الأبيض الذي يخرج بعد البول، وكذلك الحصاة إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء؛ لأنها لا تخلو عن بلة وتلك البلة بانفرادها إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء.
والمني إذا خرج من غير شهوة بأن حمل شيئاً، فسبقه المني أو سقط من مكان مرتفع، فخرج منه مني لم يجب عليه الغسل لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويوجب الوضوء، وكذا دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء عندنا، والأصل فيه قوله(1/50)
عليه السلام: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» ، ولأنه خارج نجس فيكون حدثاً كالغائط والبول.
وفي هذا المقام نحتاج إلى بيان حد الاستحاضة، فنقول: الاستحاضة إنما تعرف باستمرار الدم بها وقت صلاة كامل، حتى أنه لو سال الدم في وقت صلاة، فتوضأت وصلت ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى آخر الوقت، توضأت وأعادت تلك الصلاة، وإن لم ينقطع الدم في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت جازت تلك الصلاة؛ لأن في الوجه الأول السيلان لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يحكم باستحاضتها. وثبوت الطهارة مع السيلان أمر عرف بثبوتها في حق المستحاضة، فإذا لم يحكم باستحاضتها تبين أنها صلت بغير طهارة، فلزمها الإعادة.
وفي الوجه الثاني: السيلان استوعب وقت صلاة كامل، فحكم باستحاضتها، فتبين أنها صلت بطهارة، فلا يلزمها الإعادة، وإنما شرطنا استيعاب السيلان وقت صلاة كامل اعتباراً لظرف الثبوت بظرف السقوط، فإن المستحاضة إذا انقطع دمها وقت صلاة كامل خرجت من أن تكون مستحاضة، وإن كان أقل من ذلك لا تخرج من أن تكون مستحاضة،
ومتى حكم باستحاضتها في وقت صلاة إنما يحكم بذلك في وقت صلاة أخرى إذا وجد السيلان في وقت الصلاة الأخرى مقارناً للوضوء، أو طارئاً على الوضوء، ولا يكتفى بوجود السيلان في وقت الصلاة الأخرى سابقاً على الوضوء، حتى إن المرأة إذا استحيضت، فدخل وقت العصر ودمها سائل، وانقطع فتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها.
ولو حكم باستحاضتها لا تنقض طهارتها بخروج وقت العصر؛ لأن طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فينبغي أن لا تمضي على صلاتها، وحد صيرورة الإنسان صاحب جرح سائل بالسلس والرعاف والدمامل والجراحات واستطلاق البطن وحد المستحاضة سواء؛ لأن المعنى يجمعهما.
وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول: صاحب الجرح السائل أن يسيل جرحه في وقت الصلاة مرتين أو مراراً، فإن كان أقل من ذلك لا يكون صاحب جرح سائل. وفي «الفتاوى» : وينبغي لمن رعف أو سال من جرحه دم أن ينتظر آخر الوقت، وإن لم ينقطع الدم يتوضأ ويصلي.
بعد هذا يحتاج إلى معرفة أحكام المستحاضة ومن بمعناها وبمسائلها، وإنها تنبني على أصول:
أحدها: أن الثابت مع المنافي لضرورة يتقدر بقدر الضرورة؛ لأن الموجب للثبوت الضرورة، فإذا ارتفعت الضررة فقد ارتفع الموجب للثبوت، فينبغي نقضه الباقي.(1/51)
قلنا وطهارة المستحاضة ثابتة مع قيام المنافي، وهو السيلان، لضرورة وهي الحاجة إلى الطهارة، ولإسقاط ما في الذمة من الصلاة المفروضة بالأداء إذ لا أداء إلا بالطهارة، فثبتت الطهارة، وكلما مست الضرورة إلى الثبوت مست الضرورة إلى البقاء إذ لا أداء إلا بالبقاء، كما لا أداء إلا بالثبوت.
بعد هذا اختلف العلماء في تقدير هذه الطهارة، فالشافعي رحمه الله قدرها بالأداء حتى قال: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مكتوبة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل؛ لأن ثبوت طهارتها ضرورة الحاجة إلى أداء المفروضة وإذا أدى المفروضة في وقتها فقد ارتفعت الضرورة إذ المشروع في وقت فرض واحد على ما على الأصل.
ولا يجوز بقاء ما ثبت بالضرورة بعد ارتفاع الضرورة، وإليه أشار علماؤهم في قوله: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أن النوافل تابعة للفرائض، فتثبت الطهارة في حق النوافل بطريق التبعية، أما فرض آخر فليس بتبع لهذا الفرض فثبوت الطهارة في حق فرض الوقت لا يوجب ثبوت الطهارة في حق فرض آخر (4ب1) .
وعلماؤنا رحمهم الله قدروا البقاء بالوقت حتى قالوا المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل والفرائض في الوقت؛ لأن الفرض معرفة مقدار البقاء، وذلك إنما يحصل بتقديره بما هو معلوم في نفسه، وفعل الأداء يتفاوت بتفاوت الناس، فقدرناه بالوقت لكونه معلوماً في نفسه بالتفاوت، فيصير مقدار بقاء الطهارة معلوماً، ولأن ثبوت الطهارة وإن كان ضرورة الحاجة إلا أن الوقت قائم مقام الحاجة؛ لأن لها حق التنفل كل الوقت بالأداء إلا أن الشرع رخص لها صرف بعض الأزمان إلى حاجة نفسها تيسراً عليها، وشرع اليسر بطريق الرخصة لا يوجب بطلان اليسر المتعلق بالعزيمة واليسر المتعلق بالعزيمة بقاء الطهارة ما بقي الوقت، وإليه أشار عليه السلام في قوله: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» وما روي محمول على الوقت، فإن اسم الصلاة يحتمل الوقت قال عليه السلام: «إن للصلاة أولاً وآخراً» أي لوقت الصلاة أولاً وآخراً، فوجب العمل على الوقت توفيقاً بين الروايتين، وإذا تقدر بقاء الطهارة بالوقت كان لها أن تصلي في الوقت ما شاءت.
ثم إذا خرج الوقت في الصلوات التي اتصلت أوقاتها لانعدام الوقت المهمل بين أوقاتها وثبت انتقاض الطهارة تضاف بالانتقاض إلى خروج الوقت، أو إلى دخول وقت آخر، وقال عامة المشايخ: إن على قول أبي حنيفة ومحمد تضاف إلى خروج الوقت. وعند زفر تضاف إلى دخول وقت آخر. وعند أبي يوسف تضاف إلى أيهما وجد.
وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصلوات التي اتصلت أوقاتها؛ لأن ما من وقت يخرج إلا ويدخل وقت آخر وما من وقت يدخل إلا ويخرج وقت آخر، وإنما تظهر في(1/52)
الصلوات التي لا تتصل أوقاتها، ولذلك صورتان:
إحداهما: إذا توضأت بعد طلوع الفجر للفجر، وطلعت الشمس تنتقض طهارتها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخروج الوقت، حتى لم يكن لها أن تصلي صلاة الضحى بتلك الطهارة، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه يعتبر أي الأمرين وجد إما الخروج أو الدخول، وعند زفر لا تنتقض لانعدام دخول الوقت.
والثانية: إذا توضأت بعدما طلعت الشمس لا تنتقض طهارتها إلا بخروج وقت الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، حتى كان لها أن تصلي الظهر بتلك الطهارة، وعند أبي يوسف وزفر تنتقض بدخول وقت الظهر.
والصحيح ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن طهارة المستحاضة للحاجة إلى أداء فرض الوقت، وخروج الوقت يدل على انقضاء الحاجة، وانقضاء الحاجة يدل على انتقاض الطهارة، أما دخول الوقت يدل على تحقق الحاجة، وتحقق الحاجة يدل على ثبوت الطهارة يجب أن يضاف انتقاض الطهارة إلى خروج الوقت الدال على انتفاء الحاجة التي تدل على انتقاض الطهارة، لا إلى دخول الوقت الدال على تحقق الحاجة التي تدل على ثبوت الطهارة.
وأصل آخر: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت عندهما يستند الانتقاض إلى السيلان السابق، وهذا لأن خروج الوقت ليس سبباً لانتقاض الطهارة؛ لأنه ليس بحدث، ولا يثبت حكم ما بغير سبب، فيثبت الانتقاض مستنداً إلى السيلان السابق، ليكون الانتقاض بسببه هذا كما قلنا في البيع بشرط الخيار إذا سقط الخيار بمضي المدة أو بإسقاطهما ويثبت الملك، يثبت مستنداً إلى البيع ولا يقتصر، لأن الملك حكم لا بد له من السبب، ولا سبب هنا سوى البيع ويستند الملك إليه ليكون ثبوت الملك بسببه إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق القائم من الأحكام، ولا يظهر في حق المقتضي، ولهذا لا يظهر في حق الصلاة المؤداة حتى لا يبطل ما أدت من الصلاة.
وأصل آخر: أن الطهارة متى وقعت للسيلان لا يضرها سيلان مثله في الوقت ويضرها حدث آخر، وخروج الوقت. ومتى وقعت للحدث يضرها حدث آخر والسيلان، ولا يضرها خروج الوقت، وإنما تعتبر الطهارة واقعة للسيلان إذا كان السيلان مقارناً للطهارة حقيقة أو اعتباراً، فالحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة حقيقة ثم سال قبل أن يستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، ويشترط مع ذلك أن تكون الطهارة محتاجاً إليها لأجل السيلان.
وإنما تعتبر الطهارة واقعة للحدث إذا لم يكن السيلان مقارناً للطهارة حقيقة واعتباراً والحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة واستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، أما الطهارة إذا وقعت للسيلان إنما لا يضرها سيلان مثله في الوقت؛ لأن الدم يسيل مرة بعد مرة فتبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فتحرج ويضرها حدث آخر؛ لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في الوقت لا محالة.(1/53)
وإن كان يوجد إلا أنه لا يوجد مرة بعد مرة، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها خروج الوقت لما ذكرنا أن طهارة المستحاضة مقدرة بالوقت، فلا تبقى بعد خروج الوقت؛ وأما إذا وقعت الطهارة للحدث إنما يضرها حدث آخر لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها السيلان أيضاً؛ لأنه لا حرج فيه؛ لأنها لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت أيضاً؛ لأن السيلان إنما يوجد بعد مضي وقت صلاة كامل إذا كانت الطهارة واقعة للحدث، ولا يضرها خروج الوقت؛ لأن الطهارة عن الحدث ليست بطهارة ضرورية مع قيام المنافي، فكانت هذه الطهارة وطهارة الصحيح سواء، طهارة الصحيح لا يضرها خروج الوقت كذا ههنا.
مسائل الأصل الأول ذكرناها في الأصل الأول.
مسائل الأصل الثاني بعضها يأتي في فصل المسح على الخفين، وبعضها في آخر هذا النوع.
مسائل الأصل الثالث
إذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت ثم انقطع الدم بعد الوضوء، فصلت الظهر ودام الانقطاع إلى أن خرج وقت الظهر تنتقض طهارتها؛ لأن هذه الطهارة وقعت للسيلان لكون السيلان مقارناً لها، وقد ذكرنا أن الطهارة الواقعة للسيلان يضرها خروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر والدم منقطع وصلت العصر ثم سال الدم بعد ذلك في وقت العصر لا تنتقض طهارتها؛ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً بثباته، وهو من الانقطاع الناقص، وهو الانقطاع الذي لا يستوعب وقت صلاة كامل، وإنما يوجد في بعض وقت الصلاة دون البعض ليس بفاصل بين الدمين والانقطاع التام الذي يستوعب وقت صلاة كامل فاصل، وهذا لأن الدم لا يسيل على الولاء، بل ينقطع ساعة ويسيل أخرى، فلو جعلنا الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا يمكنها إقامة الصلاة في الوقت أبداً. أما لو جعلنا الكامل فاصلاً لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت فعليها الأداء في الوقت.
إذا ثبت هذا، فنقول في مسألتنا: الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يصر فاصلاً بل جعل كالدم المتوالي، فكان السيلان مقارناً للطهارة في وقت العصر اعتباراً، فكانت واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً.
فإن كان الدم لم يسل وقت العصر، بل دام الانقطاع إلى أن دخل (5أ1) وقت المغرب، فإذا توضأت تعيد الظهر، ولا تعيد العصر. وإنما تعيد الظهر لأن الانقطاع استوعب وقت صلاة كامل، فجعل فاصلاً بين الدمين، وحكم بزوال ذلك العذر، فتبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين ولا عذر بها، وإنما لا تعيد العصر؛ لأنها صلتها بطهارة كاملة، أكثر ما في الباب أن الظهر وقع فاسداً، ولكن وقوعه فاسداً ظهر للحال لا وقت أداء العصر، فوقت أداء العصر لا ظهر عليها بزعمها، فكانت في معنى الناس للظهر(1/54)
وقت أداء العصر والترتيب يسقط بالنسيان، فإن كان حين ما توضأت للظهر الدم سائل، فصلت الظهر والدم كذلك سائل ثم انقطع بعد ذلك، وسال في وقت المغرب لا تعيد الظهر؛ لأنه تبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين والعذر قائم من أوله إلى آخره، وإنما زال العذر بعد الفراغ منها، وزوال العذر بعد الفراغ لا يوجب الإعادة، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ، والعاري إذا وجد الثوب بعد الفراغ.
وإذا استحيضت المرأة فدخل وقت العصر ودمها سائل، فتوضأت والدم كذلك سائل، فقامت تصلي العصر فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس انتقضت طهارتها؛ لأن طهارتها وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها، فتنتقض بخروج الوقت. فتتوضأ وتستأنف الصلاة، ولا تبني لما ذكرنا أن انتقاض الطهارة بخروج الوقت يستند إلى وقت السيلان السابق، فتبين من وجه أن الشروع في الصلاة كان مع الحدث، وجواز البناء عرف شرعاً بخلاف القياس في موضع كان الحدث طارئاً على الشروع من كل وجه فبينما عداه يبقى على أصل القياس.
ولو دخل وقت العصر ودمها سائل وانقطع، وتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها ولا تعيد الوضوء، وإن سال الدم بعد ذلك في وقت المغرب وهي في العصر تعيد، فإنها تتوضأ وتبني على صلاتها.
طعن عيسى بن أبان رحمه الله فقال: ينبغي أن تعيد الوضوء ولا تمضي على صلاتها؛ لأن الطهارة ههنا وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها حكماً؛ لأن الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت المغرب، فلا يجعل فاصلاً بين الدمين كما قلتم في مسألة الطهر التي تقدم ذكرها، بل يجعل الدم المتوالي، فكان السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة واقعة للسيلان فتنتقض بخروج الوقت، وإذا انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض إلى الحدث، وتبين أن الشروع كان مع الحدث من وجه، فينبغي أن تستأنف الصلاة.
والجواب: أن السيلان منقطع حقيقة وقت الوضوء، إلا أن الانقطاع الناقص لا يجعل فاصلاً، ويجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها، كما في مسألة الظهر التي تقدم ذكرها، فإن هناك لو جعلنا الانقطاع الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلم يجعل فاصلاً، وجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها.
فأما ههنا لو لم يجعل الانقطاع الناقص فاصلاً، وجعلنا السيلان قائماً حكماً،(1/55)
كانت طهارتها في وقت العصر واقعة للسيلان، فتنتقض بخروج الوقت، وفي ذلك تغليظ عليها، فيعود على موضوعه بالنقض، وإنه لا يجوز، وإذا لم تنتقض طهارتها بخروج وقت العصر لا يستند الانتقاض إلى وقت الحدث السابق، فلا يتبين أن الشروع كان مع الحدث والله أعلم.
وإذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت وصلت ودمها كذلك سائل، ثم انقطع الدم وأحدثت حدثاً آخر غير الدم وتوضأت لحدثها والدم كذلك منقطع، ثم دخل وقت العصر، لا تنتقض طهارتها؛ لأن الطهارة الثانية في وقت الظهر ما وقعت للسيلان، لعدم مقارنة السيلان إياها وعدم طريانه عليها، فلا ينتقض بخروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر مع أن طهارتها لم تنتقض بخروج وقت الظهر والدم كذلك منقطع ثم سال الدم، فعليها أن تتوضأ.
وكان ينبغي أن لا تتوضأ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان؛ لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً لأن الانقطاع لو لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت العصر، فيجعل السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله في الوقت.
والجواب: أن الطهارة إنما تعتبر للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها، لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها أصلاً؛ لأن الطهارة الثابتة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها، فصار وجودها والعدم بمنزلة، والطهارة الثابتة في وقت الظهر كانت واقعة عن الحدث حتى لم تنتقض بخروج الوقت، فجاز أن تنتقض بالسيلان، ولأن الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا اعتبر السيلان قائماً حكماً؛ لأن السيلان وقت الطهارة منقطعة عنها حقيقة، وإنما يعتبر السيلان قائماً حكماً فيما كان منقطعاً حقيقة تخفيفاً عليها، وههنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان فيه تغليظ عليها.
بيانه: أنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان طهارتها الثابتة في وقت الظهر واقعة للسيلان، فيلزمها الوضوء بخروج وقت الظهر، فلا يعتبر السيلان قائماً حكماً فلم تكن الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان.
فإن قيل: في اعتبار السيلان قائماً حكماً تخفيف عليها، وإن طهارتها في وقت العصر تكون واقعة عن السيلان، فلا يلزمها الوضوء متى سال الدم بعد ذلك في وقت العصر. قلنا؛ يوجه في هذه المسألة تحقيقان واعتبارهما متعذر لما فيهما من التنافي، فكان اعتبار التخفيف فيما ذكرنا أولى، لا أنا اعتبرنا التخفيف فيما هو سابق وأصل، وأنتم اعتبرتم التخفيف فيما هو متأخر وتبع، فكان ما قلناه أولى من هذا الوجه.
وكذلك لو أحدثت حدثاً آخر غير الدم في وقت العصر، فتوضأت لذلك الحدث ثم سال الدم بعد الوضوء في وقت العصر كان عليها أن تتوضأ، وكان ينبغي أن لا تتوضأ؛ لأن طهارتها ههنا وقعت للسيلان لكون الطهارة محتاجاً إليها، ولمقارنة السيلان إياها، فينبغي أن لا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً.(1/56)
والجواب: الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها؛ لأجل السيلان؛ لأنها إنما تكون محتاجاً إليها لأجل السيلان إن لو كانت الطهارة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان إليها بل كانت محتاجاً إليها لأجل الحدث، فاعتبرت واقعة عن الحدث، فجاز أن تنتقض بالسيلان وإن كانت في الوقت.
وفي «الفتاوى» : وينبغي لصاحب الجرح أن يعصب الجرح، ويربط تقليلاً للنجاسة، ولو ترك التعصيب لا بأس به، وإن سال الدم بعد الوضوء حتى نفذ الرباط يصلي كذلك، وتجوز صلاته.
وإن أصابت ثوبه من ذلك الدم أكثر من قدر الدرهم لزمه غسل الثوب إذا علم أنه لو غسله لا يصيبه الدم ثانياً وثالثاً، أما إذا علم أنه يصيبه ثانياً وثالثاً لا يفترض عليه غسله.
وفي «واقعات الناطفي» : إذا كان له جرح سائل، وقد شد عليه خرقة، فأصابها أكثر من قدر الدرهم أو أصاب ثوبه أكثر من قدر الدرهم، إن كان بحال لو غسل يتنجس قبل الفراغ من الصلاة ثانياً جاز له أن لا يغسل ويصلي قبل أن يغسله، وإلا فلا. قال الصدر الشهيد رحمه الله هو المختار.
وفي «الأجناس» : رجل يسيل من أحد منخريه دم فتوضأ والدم سائل، ثم احتبس الدم من هذا المنخر وسال من المنخر الآخر انتقض وضوءه، وإن كان به دمامل (5أ1) أو جدري منها ما هي سائلة، ومنها ما ليست بسائلة وبعضها سائلة، ثم سالت التي لم تكن سائلة انتقض وضوؤه، والجدري قروح وليست بقرحة واحدة.
وفي «المنتقى» : أبو سليمان عن محمد رحمهما الله: رجل به جرحان لا يرقآن، فتوضأ ثم رقأ أحدهما قال: يصلي، وكذلك إن سكن هذا الآخر وسال الذي كان ساكناً؛ لأنهما في هذا بمنزلة جرح واحد.
الحائض إذا حبست الدم عن الخروج لا تخرج من أن تكون حائضاً، وصاحب الجرح السائل إذا منع الدم عن الخروج لا يخرج من أن يكون صاحب جرح سائل، فعلى هذا المفتصد لا يكون صاحب جرح سائل، وأما المستحاضة إذا منعت الدم عن الخروج هل تخرج من أن تكون مستحاضة؟ ذكر هذه المسألة في «الفتاوى الصغرى» .... إنها تخرج من أن تكون مستحاضة حتى لا يلزمها الوضوء في وقت كل صلاة وذكر في موضع آخر إنها لا تخرج من أن تكون مستحاضة.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف أنه سئل عن المستحاضة تحتشي ثم تصلي ولا يسيل الدم؟ الاحتشاء إذا منع ظهور الدم في حق المستحاضة لم يمنع حكم الاستحاضة، وفي الدبر الاحتشاء إذا منع ظهور الحدث منع حكمه، وهو الوضوء حتى إن من به(1/57)
استطلاق بطن إذا حشا دبره كيلا يخرج منه شيء، فلم يخرج فلا وضوء عليه، وليس بحدث حتى يظهر منه. وإذا حشا إحليله بقطنة خوفاً من خروج البول، ولولا القطنة يخرج منه البول، فلا بأس به، ولا ينتقض وضوءه حتى يظهر البول على القطنة، وإن ابتل الطرف الداخل من القطنة ولم ينفذ أو نفذ لكن الحشو متسفل عن رأس الإحليل لا يعطى له حكم الخروج حتى لا ينتقض وضوءه، وإن كان الحشو عالياً عن رأس الإحليل أو محاذياً لرأس الإحليل إن نفذ يعطى له حكم البروز، وينتقض وضوءه، وإن لم ينفذ لا يعطى له حكم البروز ولا ينقض وضوءه، وإن سقطت القطنة إن كانت رطبة يثبت لها حكم البروز، وإن كانت يابسة لا يثبت لها حكم البروز.
وإذا احتشت المرأة فإن كان الاحتشاء في الفرج الخارج والفرج الخارج بمنزلة الألسن والقلفة، فإذا ابتل داخل الحشو ونفذ إلى خارجه أو لم ينفذ انتقض وضوءها، وإن كان الاحتشاء في الفرج الداخل فابتل داخل الحشو إن لم ينفذ إلى خارجه لا ينتقض وضوءها، وإن نفذ إلى خارجه إن كان الكرسف عالياً عن حرف الفرج الداخل، أو كان محاذياً له ينتقض وضوءها، وإن كان متسفلاً عنه لا ينتقض وضوءها، وإن سقط الحشو إن كان يابساً لا ينتقض وضوءها، وإن كان رطباً ينتقض وضوءها وفي حق هذا الحكم يستوي الفرجان جميعاً والله أعلم.
(نوع آخر) مما يوجب الوضوء
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نفطة قشرت فسال منها ماء أو غيره عن رأس الجرح، ينتقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينتقض الوضوء، وشرط السيلان لانتقاض الوضوء في الخارج من غير السبيلين، وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإنه استحسان.
وقال زفر رحمه الله: إذا علا وظهر على رأس الجرح ينتقض وضوءه، وهو القياس. وأجمعوا على أن في الخارج من السبيلين لا يشترط السيلان، ويكتفى بمجرد الظهور، وجه الاستحسان: ما روى تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من الدم السائل» ، وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من كل دم سائل» .
والمعنى: أن الحدث هو الخارج النجس، وإنما يتحقق الخروج بالانتقال عن موضع النجاسة، وإنما يتحقق الانتقال في غير السبيلين بالسيلان؛ لأن بدن الآدمي موضع الدماء والرطوبات السائلة، وإذا انقطعت الجلدة كانت الدماء بادية ظاهرة لا منتقلة عن موضعها، كالبيت إذا انهدم كان الساكن فيه ظاهراً لا منتقلاً عن موضعه، بخلاف ما إذا(1/58)
ظهر البول عن رأس الإحليل؛ لأن موضع البول المثانة لا رأس الإحليل، فإذا ظهر على رأس الإحليل كان منتقلاً عن ضعه بيقين أما ههنا بخلافه.
يوضحه: أن ما يواري الدم من أعلى الجرح محله كان كمن سكن داراً (كان) ما يوازيه من الأعلى مكانه وحقاً له، وإذا كان ما يوازيه من الأعلى محلاً له، فبمجرد الظهور والعلو على رأس الجرح لا يتحقق الانتقال عن موضعه، فلا يتحقق الخروج، فلا يكون حدثاً كما لو لم يسل عن رأس الجرح والأعيان الخارجة من النفطة كلها مثل الدم، والقيح والصديد والماء سواء فقد تكون النفطة أولاً دماً ثم تنضج، فتصير قيحاً ثم تزداد نضجاً، فتصير صديداً ثم قد تصير دماً، وقد تكون ماءً في الأصل.
وفي لفظ النفطة لغتان: أحدهما بكسر النون، والأخرى بضم النون، وإنها اسم القرحة التي امتلأت وحان قشرها مأخوذ من قولهم: انتفط فلان إذا امتلأ غيظاً، ولو نزل الدم من الرأس إلى موضع يلحقه حكم التطهير من الأنف والأذنين ينقض الوضوء، ولو نزل البول إلى قصبة الذكر لم ينقض الوضوء والفرق: أن في المسألة الأولى النجاسة خرجت بنفسها عن محلها الباطن إلى موضع له حكم الظاهر، ولا كذلك المسألة الثانية حتى أثبت في المسألة الثانية، لو خرج إلى القلفة نقض الوضوء لزواله عن ما لَه حكم الباطن.
وكذلك إذا خرج عن فرج المرأة إلى..... لزواله عمَّاله حكم الباطن، والموضع الذي يلحقه حكم التطهير من الأنف ما لان منه، فإذا وصل الدم إلى ما لان منه انتقض وضوءه، وإن لم يظهر على الأرنبة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه أدخل أصبعه في أنفه، فأدمت فلما أخرجه رأى على أنملته دماً فمسحه ثم قام، فصلى ولم يتوضأ» وتأويله عندنا أنه بالغ في إدخاله حتى جاوز ما لان من أنفه إلى ما صلب وكان الدم فيما صلب من أنفه، وكان قليلاً بحيث لو ترك لا ينزل إلى موضع اللين، ومثل هذا ليس بناقض عندنا.
وعن محمد رحمه الله: فيمن.... فسقط من أنفه كتلة دم لم تنتقض طهارته، وإن نَقَطَ من أنفه قطرة دم انتقضت طهارته.
وإذا تبين الخنثى أنه رجل أو امرأة، فالفرج الآخر منه بمنزلة الجرح لا ينقض الوضوء ما يخرج منه ما لم يسل، وإذا كان بذكر الرجل جرح له رأسان أحدهما يخرج منه ما يسيل في مجرى البول، والآخر يخرج منه ما لا يسيل في مجرى البول، فالأول: إذا ظهر على رأس الإحليل ينقض الوضوء، وإن لم يسل بمنزلة البول؛ لأنه سال عن موضعه إلى مكان له حكم الظاهر، ولا كذلك الثاني.
المجبوب إذا ظهر منه ما يشبه البول من الموضع الذي يخرج منه البول إن كان(1/59)
قادراً على إمساكه إن شاء أمسكه، وإن شاء أرسله إذا ظهر على رأس الثقب فهو بول ينقض الوضوء، وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم يسل، هكذا حكي عن علي الرازي.
المعلّى عن أبي يوسف إذا زال الدم عن رأس الجرح لا ينتقض وضوءه حتى يسيل.
ولو غرز رجل إبرة في يده وخرج منه الدم وظهر أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض وضوءه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: كان محمد بن عبد الله يميل في هذا إلى أن ينتقض وضوءه ورآه سائلاً.
وفي «مجموع النوازل» : إذا حزت في عضوه شوكة أو إبرة أو نحوهما مما جرح ذلك، وظهر منه الدم ولم يسل ظاهراً انتقض وضوءه؛ لأن الظاهر أنه سال عن رأس الجرح.
وفي «فتاوى خوارزم» : الدم إذا لم ينحدر عن رأس الجرح، ولكن علا، فصار أكثر من رأس الجرح لا ينتقض وضوءه، والفتوى على أنه لا ينتقض وضوءه في جنس هذه المسائل، وإذا عصرت القرحة، فخرح منها شيء كثير، وكانت بحال لو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينتقض الوضوء.
وفي «مجموع النوازل» وفيه أيضاً: جرح ليس فيه شيء من الدم والقيح والصديد دخل صاحبه الحمام أو الحوض، فدخل الماء الجرح، فعصر الرجل الجرح وخرج منه الماء وسال لا ينتقض الوضوء، لأن الخارج ماء، وليس بنجس وإذا مسح الرجل الدم عن رأس الجراحة ثم خرج ثانياً، فمسحه ينظر: إن كان ما خرج (6أ1) بحال لو تركه سال أعاد الوضوء، وإن كان بحيث لو تركه لا يسيل لا ينقض الوضوء، ولا فرق بين أن يمسحه بخرقة أو أصبع وكذلك إذا وضع عليه قطنة حتى ينشف ثم صعد ففعل ثانياً وثالثاً وإنه يجمع جميع ما ينشف، فإن كان بحيث لو تركه سال جعل حدثاً، وإنما يعرف هذا بالاجتهاد وغالب الظن.
وكذلك إن كان ألقى عليه التراب ثم ظهر ثانياً وتربه ثم ثالثاً أو ألقى عليه دقيقاً أو نخالاً فهو كذلك يجمع كل ذلك، قالوا: وإنما يجمع إذا كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى، أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع، وكذلك إذا وضع عليه دواءً حتى ينشف جميع ما يخرج منه، فلم يسل عن رأس الجرح، فإن كان ينشف بحيث يسيل بنفسه يجعل حدثاً، ومالا فلا.
وإذا خرج من أذنه قيح أو صديد ينظر، إن خرج بدون الوجع لا ينقض وضوءه، وإن خرج من وجع ينقض وضوءه؛ لأنه إذا خرج من الوجع، فالظاهر أنه خرج من الجرح، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: الشيخ إذا كان في عينيه رمد، وتسيل الدموع منها آمره بالوضوء لوقت كل صلاة: لأني أخاف أن ما يسيل قيح أو صديد، فإنه(1/60)
قد يكون في الجفون جرح. وإذا جرح دبره إن عالجه بيده أو بخرقة حتى أدخله تنتقض طهارته، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن بمجرد خروج المقعد ينتقض وضوءه لخروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر.
وإذا عض شيئاً فرأى عليه أثر الدم من أصول أسنانه لا وضوء عليه، وكذلك.... لأنه ليس بسائل، هكذا ذكر في بعض الفتاوى، وذكر الشيخ الإمام علاء الدين في كتاب..... أن من أكل خبزاً أو شيئاً من الفواكه، ورأى فيه أثر الدم من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كمه على ذلك الموضع، إن وجد فيه أثر الدم فيه ينتقض وضوءه، وإلا فلا.
وفي «فتاوى سمرقند» : القراد إذا مص من عضو إنسان وامتلأ دماً إن كان صغيراً لا ينتقض وضوءه، لأن الدم فيه ليس بسائل، وإن كان كبيراً انتقض وضوءه؛ لأن الدم فيه سائل.
العلقة إذا أخذت بعض جلد إنسان ومص حتى امتلأ من دمه بحيث لو سقط لسال انتقض الوضوء؛ لأن الدم فيه سائل، والذباب أو البعوض إذا مص عضو إنسان وامتلأ دماً لا ينتقض وضوءه، وكذلك الذباب إذا مص عضو إنسان وظهر الدم لا ينتقض وضوءه.
(نوع آخر)
وفي «الأجناس» : إذا احتقن الرجل بدهن ثم عاد، فعليه الوضوء؛ لأنه لا ينفك عن نجاسة، وإن أقطر في إحليله دهناً ثم عاد، فلا وضوء عليه عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وفيه أيضاً: إذا صب دهناً في أذنه ومكث في دماغه يوماً ثم سال وخرج فلا وضوء عليه، وإن خرج من الفم نقض وضوءه، وذكر هذه المسألة في «القدوري» ، وقال: روي عن أبي يوسف أنه لو خرج من فمه، فعليه الوضوء، وأشار إلى أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن خرج من الفم، فلا وضوء عليه، وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يخرج من الفم إلا بعد نزوله الجوف، فصار كالقيء. ولهما أن الرأس ليس موضع النجاسة، والوصول إلى الجوف ليس بمعلوم، فلا ينتقض وضوءه بالشك.
وفي «نوادر هشام» : لو دخل الماء أذن رجل في الاغتسال ومكث ثم خرج من أنفه، فلا وضوء عليه.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في رجل أدخل عوداً في دبره أو قطنة في إحليله وغيبها كلها، ثم أخرجها أو خرجت بنفسها، فعليه الوضوء، علل فقال: لأنه حين غيبها صارت بمنزلة طعام أكله ثم خرج منه، ولو كان طرف العود بيده ثم أخرجه لم يجب عليه شيء، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل لو أدخل المحقنة ثم أخرجها فلم يكن عليه الوضوء، هكذا ذكر، ولكن تأويله إذا لم يكن على العود والمحقنة بلَّة، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل يتوضأ، فيدخل يده أي إصبعه في الاستنجاء، ولا ينقض الوضوء، وقال: من(1/61)
استنجى فلم يدخل إصبعه، فليس بتنظيف. قال أبو العباس رحمه الله: مراده في المسح الظاهر فإنه متى جاوز المسح الظاهر كان تفتيتاً للنجاسة لا تطهيراً والله أعلم.
(نوع آخر) منه في مسائل القيء وما يتصل بها
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل قلس أقل من ملء فمه لا ينقض وضوءه، وإن ملء قلس فمه مرة أو طعاماً أو ماء نقض الوضوء، وهذا مذهبنا وهي مسألة الخارج من غير السبيلين.
والأصل فيه ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» والمعنى في ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النجاسة متى خرجت يتنجس شيء من ظاهر البدن وثبت احتمال النجاسة في كل البدن، لأنه يحتمل أن يده أصابت ذلك الموضع، وتنجس ثم أصاب يده موضعاً آخر وتنجس، وإذا ثبت هذا الاحتمال وجب غسل كل البدن، لتحصيل القيام إلى الصلاة ببدن طاهر بيقين، هذا وجه مناسب، والشرع ورد به في بعض الأحداث وهو الجنابة، فيمكن إيجاب غسل كل البدن عليه.
والثاني: أن النجاسة إذا أصابت موضع الخروج يجب غسل ذلك الموضع؛ لإزالة النجاسة يقيناً، لأن القيام بين يدي ... وعليه شيء مما تستقذره الطباع قبيح عند الناس في الشاهد، فكذا في الغائب وهو معنى قوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح» .
وإذا وجب غسل موضع الإصابة يجب غسل الباقي لا لإزالة، ولكن لأن غسل بعض البدن يخل بالزينة كغسل بعض الثوب من الوسخ، والزينة مطلوبة، قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} (الأعراف:31) أي عند كل صلاة، فيجب غسل كل البدن صيانة للزينة المطلوبة عن الخلل، فهذان الوجهان يثبتان وجوب غسل كل البدن، إلا أن الشرع أقام غسل الأعضاء الأربعة مقام غسل كل البدن دفعاً للحرج، بهذا الطريق وجب غسل الأعضاء الأربعة في الخارج من السبيلين. ثم القليل منه حدث في القياس، وهو قول زفر. وفي الاستحسان: ليس بحدث لم يشترط أن يكون ملء الفم، واختلفت الأقاويل في تفسيره ملء الفم، بعضهم قالوا: إذا كان بحيث لو ضم شفتيه لم يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو أقل من ملء الفم، وإن انتفخ شفتاه وخداه حتى كان يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو ملء الفم.(1/62)
وقال أبو علي الدقاق في «كتابه» : إذا كان القيء بحيث يمنعه من الكلام كان ملء الفم، وإن كان لا يمنعه لا يكون ملء الفم، وقال الحسن بن زياد: إن كان القيء بحيث لا يمكن للرجل ضبطه وإمساكه كان ملء الفم، وإن كان يمكن ضبطه وإمساكه لا يكون ملء الفم.
زاد على هذا بعض المشايخ، فقال: إن كان القيء بحيث لا يمكن ضبطه وإمساكه إلا بتكلف كان ملء الفم، وإن كان بحيث يمكن ضبطه وإمساكه من غير تكلف، لا يكون ملء الفم. وإليه مال كثير من المشايخ، وهو الصحيح. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله (يقول) الصحيح أنه مفوض إلى صاحبه إن وقع في قلبه أنه قد ملأ فاه، فقد ملأ فاه.
وجهُ القياس في القليل: أن الخارج من غير السبيلين لما كان حدثاً يجب أن يستوي فيه القليل، والكثير كالخارج من السبيلين.
وجه الاستحسان: أن ما روي عن علي رضي الله عنه أنه عد الأحداث، وذكر من جملتها دسعة تملأ الفم، وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه، والدسعة: القيء، فقد قيداه بملء الفم، والمعنى أن الحدث هو الخارج النجس، والخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر، والفم ظاهر من وجه باطن من وجه، حقيقة وحكماً.
أما من حيث الحقيقة: باطن (من) وجه فلأن للفم اتصالاً بالباطن بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك متى ضممت شفتيك صار باطناً كالبطن (6ب1) وظاهر من وجه؛ لأن له اتصالاً بالوجه بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك لو فتحت شفتيك صار الفم ظاهراً كالوجه، وأما من حيث الحكم باطن من وجه، فإنه لا يجب غسله في الوضوء كما لا يجب غسل الباطن، وإذا جمع الصائم ريقه في فمه ثم ابتلعها لم يفطره كما لو انتقل الطعام من زاوية البطن إلى زاوية، ظاهر من وجه فإنه يجب غسله في الجنابة كما يجب غسل وجهه، وإذا كان ظاهراً من وجه باطناً من وجه وفّرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه باطناً فيما بينه وبين البطن، فالمنتقل إليه من البطن كالمنتقل من زواية البطن إلى زواية أخرى، وجعلناه ظاهراً فيما بينه وبين الوجه، فالمنتقل منه إلى الوجه كالمنتقل من الظاهر إلى الظاهر.
قلنا والقيء إذا كان قليلاً، وتفسيره الصحيح: أن يمكنه الإمساك من غير تكلف لا تقع الحاجة فيه إلى فتح الفم، فتبقى النجاسة في الفم صورة، وفي البطن معنى، فلا يتحقق الخروج من الباطن إلى الظاهر فبعد ذلك إن ابتلعه فبها، وإن ألقاه قائماً وجد الخروج من الظاهر إلى الظاهر، وإنه ليس يعتبر هذا إذا كان قليلاً مرة واحدة.
وإن قاء مراراً قليلاً قليلاً(1/63)
وكان بحيث لو جمع يبلغ ملء الفم هل يجمع؟ وهل يحكم بانتقاض الطهارة؟ لم يذكر هذا الفصل في «ظاهر الرواية» . وذكر في «النوادر» خلافاً بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فقال: على قول أبي يوسف رحمه الله: إن اتحد المجلس يجمع، وإن اختلف لا يجمع؛ لأن المجلس الواحد عرف جامعاً في الشرع، والمجالس المختلفة لا.
وقال محمد رحمه الله: إن اتحد السبب يجمع وإن اختلف لا يجمع، وتفسير اتخاذه عند محمد أن تكون المرة الثانية والثالثة قبل سكون الغثيان الأول، وعن أبي علي الدقاق أنه كان يقول بالجمع، اتحد المجلس أو اختلف، اتحد السبب أو اختلف، هذا إذا قاء مُرة أو طعاماً أو ماءً، وإن قاء بلغماً إن كان نزل من الرأس لا ينتقض وضوءه، وإن كان ملء الفم بالاتفاق، وإن صعد من الجوف على قول أبي يوسف رحمه الله ينتقض وضوءه إذا كان ملء الفم، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينتقض، وإن كان ملء الفم، وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من ملء الفم إنه لا ينتقض وضوءه.
والحاصل: أن نجاسة الخارج أمر لا بد منها لكون الخارج حدثاً، والبلغم طاهر عندهما، وعند أبي يوسف نجس، وكان الطحاوي يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه قال: يكره للإنسان أن يأخذ البلغم بطرف ردائه أو كمه ويصلي معه، فمن مشايخنا من أسقط الخلاف، وقال: قولهما محمول على ما إذا نزل من الرأس وذلك طاهر بالإجماع، وقول أبي يوسف محمول على ما إذا خرج من المعدة وذلك نجس بالإجماع لما نبين إن شاء الله تعالى.
ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة، وهو الصحيح، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الخارج من المعدة جاور أنجاس المعدة، فيصير نجساً بحكم المجاورة. دليله الطعام. وجه قولهما قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواسية» (قرن) النخامة بالماء الذي في ركوته فيدل على طهارتها، والدليل عليه: أن الناس من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا تعارفوا أخذ البلغم بأطراف أرديتهم من غير نكير منكر، ولو كان نجساً لوجد الإنكار من منكر كما في سائر الأنجاس، وما قال من المعنى بأنه جاور أنجاس المعدة فمسلم، إلا أن البلغم شيء لزج لا يحتمل النجاسة للزوجته كالسيف الصقيل، فلا يصير نفسه نجساً، وإنما تكون النجاسة على ظاهره، وإنه قليل لا يبلغ ملء الفم بخلاف الطعام والشراب، لأنهما يحملان النجاسة فينجسان بمجاورة أنجاس المعدة، وإن قاء طعاماً أو ما أشبهه مختلطاً بالبلغم ننظر إن كانت الغلبة للطعام، وكان بحال لو انفرد الطعام بنفسه كان ملء الفم نقض وضوءه، وإن كانت الغلبة للبلغم وكان بحال لو انفرد البلغم بلغ ملء الفم كانت المسألة على الاختلاف، وإنما كان كذلك، لأن العبرة في أحكام الشرع للغالب، والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلة الغالب.(1/64)
وإن قاء دماً إن نزل من الرأس وهو سائل انتقض وضوءه، وإن كان علقاً لا ينتقض وضوءه، وإن صعد من الجوف إن كان علقاً لا ينتقض وضوءه إلا أن يملأ الفم؛ لأنه يحتمل أنه صفراء تجمد أو سوداء انعقد أو بلغم احترق، فيشترط فيه ملء الفم، وإن كان سائلاً وقد صعد من الجوف على قول أبي حنيفة رحمه الله ينتقض وضوءه، وإن لم يكن ملأ الفم، وقول أبي يوسف مضطرب، وإنما يعرف بسيلانه، وعلى قول محمد رحمه الله: لا ينتقض وضوءه إلا إذا كان ملأ الفم إذا خرج بقوة نفسه لا بقوة البزاق.p
وجه قول محمد رحمه الله أنه صاعد من الجوف، والفم أعطي له حكم الباطن فيما بينه وبين الجوف إلا أن يخرج منه دماً دون ملء الفم ليس له حكم الخارج على ما مر، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفم في حق الدم ظاهر من كل وجه؛ لأن الفم إنما أعطي له حكم الباطن، فيما يخرج من المعدة، لأن الفم متصل بالمعدة بمنفذ أصلي، والمعدة ليست بمحل للدم، إنما محل الدم العروق، والفم لا يتصل بالعروق بمنفذ أصلي، وله اتصال بالوجه، فيكون الفم ظاهراً في حق الدم من كل وجه، فكان كالخارج من الأسنان، فيشترط فيه السيلان لا غير، بخلاف ما يخرج من المعدة؛ لأن الفم أعطي له حكم الباطن فيما يخرج من المعدة؛ لأن للفم اتصالاً بالمعدة بمنفذ أصلي، فيشترط فيه ملء الفم على ما مر، أما ههنا بخلافه، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف في المسألة على الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله محمول على ما إذا خرج الدم من منابت الأسنان، من اللهوات وكان أقل من ملء الفم.
وعند محمد رحمه الله في هذه الصورة الجواب كما قال أبو حنيفة، وما قاله محمد محمول على ما إذا خرج من المعدة، وعند أبي حنيفة الجواب في هذه الصورة كما قاله محمد، ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة على نحو ما بينا والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل: روى ابن رستم في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا دخل العلق حلق إنسان ثم خرج من حلقه دم رقيق سائل لا ينتقض وضوءه ما لم يملأ الفم، وإذا بزق وخرج في بزاقه دم، إن كان الدم هو الغالب ينتقض وضوءه وإن كان أقل من ملء الفم، وهذا لأن الحدث هو الخارج النجس، وقد تحقق الخروج إذا كانت الغلبة للدم لأنه إذا كانت الغلبة للدم على أنه خرج بقوة نفسه، وما أخرجه البزاق وإن كانت الغلبة للبزاق لا ينتقض وضوءه؛ لأنه إذا كانت الغلبة للبزاق علم أن البزاق أخرجه، وما خرج بقوة نفسه، وإن كانا سواء، فالقياس أن لا تنتقض طهارته؛ لأنه يحتمل أنه خرج بقوة نفسه، ويحتمل أن البزاق أخرجه فوقع الشك في انتقاض الطهارة.
وفي الاستحسان: ينتقض وضوءه؛ لأنه لما احتمل الخروج بقوة نفسه، رجحنا جانب الخروج احتياطاً لأمر العبادة؛ بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأن الموجود هناك مجرد الشك ولا عبرة لمجرد الشك مع اليقين بخلافه، وههنا الحدث وجد من وجه دون وجه، فرجحنا جانب الوجود احتياطاً.(1/65)
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في هذا الفصل: وهو ما إذا كان الدم والبزاق على السواء، عامة مشايخنا على أن وضوءه بهذا ينتقض، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: آمره بإعادة الوضوء احتياطاً، وهو باقٍ على وضوئه الأول، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن كان لونه يضرب إلى الصفرة، فليس بناقض، وإن كان يضرب إلى الحمرة فهو ناقض، وإذا كانت عروق الدم تجري بين البزاق كالعلقة لم يكن ناقضاً.
وفي «النوادر» عن أبي حنيفة: إذا بزق أو امتخط ورأى في ذلك علقة من الدم لم ينتقض وضوءه، وإن كان الذي يرى من الدم في جميع البزاق أو النخامة، فكانت حمرته أو صفرته غالبة على البزاق (7أ1) فعليه الوضوء، وإن كان الذي فيه شبيه غسالة اللحم، وكان البياض غالباً، فلا وضوء.
وذكر هشام عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اصفر البزاق من الدم، فلا وضوء، وإن احمر فعليه الوضوء، وهذه الرواية موافقة لقول الفقيه أبي جعفر على ما تقدم ذكره، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن كان البزاق يخرج من لهاته أو لسانه فهو على التفصيل إن (كان) الدم غالباً أو مغلوباً، أو كانا على السواء، فأما إذا خرج ذلك من جوفه فالأمر فيه أسهل، والله أعلم.
(نوع آخر) في النوم والإغمام والغشي والجنون والسكر
إذا نام في صلاته قائماً أو راكعاً أو ساجداً، فلا وضوء عليه، ولو نام مضطجعاً أو متوركاً، فعليه الوضوء، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نام في صلاته، ومضى فيها، فلما فرغ قال: «إذا نام الرجل راكعاً أو ساجداً أو قائماً، فلا وضوء عليه، إنما الوضوء على من نام مضطجعاً فإنه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله» فهذا الحديث حجة لنا في الفصول كلها من حيث النص، وإنه ظاهر، وكذلك من حيث التعليل حجة؛ لأن النبي عليه السلام علل لوجوب الوضوء باسترخاء المفاصل، ولم يرد به أصل الاسترخاء؛ لأن أصل الاسترخاء موجود في حالة الركوع والسجود، لأن الاسترخاء نتيجة النوم، والنوم موجود في الأحوال كلها. ولو حمل آخر الحديث على أصل الاسترخاء صار كأن النبي عليه السلام، قال في صدر الحديث: «لا وضوء على من استرخت مفاصله» ، ثم قال في آخر الحديث: «إنما الوضوء على من استرخت مفاصله» وفيه تناقض ظاهر، فلضرورة رفع التناقض يحمل آخر الحديث على النهاية في الاسترخاء، وإذا حمل عليه صار كأن النبي عليه السلام قال: إذا وجد استرخاء المفاصل على النهاية والمبالغة، بأن زال التماسك من كل وجه وجب الوضوء، فالاسترخاء على النهاية والمبالغة، لا توجد في حال القيام والركوع والسجود، لأن بعض التماسك في هذه الأحوال باقٍ؛ إذ لو لم يكن باقياً لكان سقط، وإذا كان بعض التماسك باقياً في هذه(1/66)
الأحوال لم يكن الاسترخاء في هذه الأحوال على سبيل النهاية
والمبالغة، والنبي عليه السلام إنما جعل النوم حدثاً حال وجود الاسترخاء على سبيل النهاية والمبالغة.
ثم لم يفصل محمد رحمه الله في «الأصل» بينما إذا غلبه النوم، وبينما إذا نام متعمداً، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إنما لا ينتقض وضوءه إذا غلبه النوم، أما إذا نام متعمداً ينتقض وضوءه على كل حال، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح الأصل» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله في السجود إذا تعمد النوم. والصحيح: ما ذكر في ظاهر الرواية: إذ لا فصل في الحديث.
وإن نام قاعداً وهو يتمايل في حال نومه ويضطرب، وربما يزول مقعده عن الأرض، إلا أنه لم يسقط، ظاهر المذهب أنه ليس بحدث، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه حدث، وفي النوم مضطجعاً، الحال لا يخلو إن غلبت عيناه، فنام ثم اضطجع في حال نومه، فهو بمنزلة ما لو سبقه الحدث، فيتوضأ ويبني، ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعاً، فإنه يتوضأ ويستقبل الصلاة، هكذا حكي عن مشايخنا رحمهم الله.
وفي «الفتاوى» : في المريض لا يستطيع أداء الصلاة إلا مضطجعاً، فنام في الصلاة انتقض وضوءه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قيل: لا ينتقض، والأول أصح.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله إذا قعد في الصلاة وإحدى إليتيه على قدمه فنام، فلا وضوء عليه، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما روي عن محمد رحمه الله في «الأصل» ، هذا إذا نام في الصلاة، وأما إذا نام خارج الصلاة إن نام مضطجعاً أو متوركاً ينتقض وضوءه، وإن نام قائماً أو على هيئة الراكع أو الساجد ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» أنه لا ينتقض وضوءه.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المبسوط» فيما إذا نام ساجداً أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر هو أيضاً عن علي بن موسى العمّي أنه قال: لا نص في هذه الصورة عن أصحابنا رحمهم الله، وينبغي أن لا ينتقض وضوءه إذا نام على هيئة الساجد على وجه السنّة، بأن كان رافعاً بطنه عن فخذيه جافياً عضديه عن جنبيه.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا نام ساجد في غير الصلاة، فظاهر المذهب أن يكون حدثاً.
قال رحمه الله: وقد ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» ، وقد قال بعض العلماء: إن النوم في حالة السجود لا يكون حدثاً وإن كان خارج الصلاة، وذكر محمد(1/67)
رحمه الله في «صلاة الأثر» أن من نام قاعداً أو واضعاً إليتيه على عقبيه وصار شبه المكب على وجهه واضعاً بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه، وعن علي بن يزيد الطبري قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول: من نام هكذا على وجهه لا ينتقض وضوءه.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الشرط عند محمد رحمه الله أن يضطجع على غيره، أما اضطجاعه على نفسه لا يعتبر، وقال أبو يوسف رحمه الله: اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره في زوال الاستمساك، فيكون حدثاً ولم يذكر قول أبي حنيفة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد نقل عنه فصل يدل على أنه كان يميل إلى ما قاله أبو يوسف رحمه الله، فإنه قال فيمن كان محدودباً، فسجد على فخذه أو ركبته بأن وضع أنفه على طرف ركبتيه صح سجوده، وجعل سجوده بمنزلة السجود على الوسادة أو اللبنة، فجعل سجوده على نفسه كسجوده على غيره، فجاز أن يجعل اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره.
وجه قول من يقول إنه ينتقض وضوءه أنه نام والمسكة زائلة عن مستوى جلوسه، فيكون حدثاً كما لو نام مضطجعاً على غيره، وكان القياس في حالة الصلاة كذلك لكن عرفناه بالأثر.
وجه قول من قال: إنه لا يكون حدثاً أن النوم في هذه الأحوال إنما لم يجعل حدثاً في الصلاة لانعدام استرخاء المفاصل على سبيل النهاية والمبالغة، وهذا المعنى موجود في غير حالة الصلاة، وأما إذا نام قاعداً مسوياً إليتيه على الأرض لا ينتقض وضوءه، وإن نام قاعداً (على) مستوى الجلوس، ولكن مستنداً إلى جدار أو أسطوانة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن ظاهر المذهب أنه لا ينتقض وضوءه.
وعن الطحاوي رحمه الله: أنه قال: إن كان بحيث لو أزيل السناد سقط، فهو كالمضطجع، وعلى هذا بعض المشايخ، وهذا لأنه إذا كان بهذه الصفة، فقد وجد زوال التماسك من كل وجه؛ لأنه لم يقعد لقوة نفسه إنما قعد لقوة الأسطوانة أو الحائط، فينتقض وضوءه.
وفي «القدوري» : روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينتقض وضوءه إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، وذكر شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة غير مقيدة بما إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، ومنهم من قال: إن جعل عقبه عند مقعده، واستند إلى شيء ونام، لا يكون حدثاً، وقيل: إذا كان مستقراً على الأرض غير مستوقر لا ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد سقط، وإن كان مستوقراً غير مستقر على الأرض ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد لا يسقط، ولو نام قاعداً مستوي الجلوس فسقط على الأرض ذكر شمس الأئمة رحمه الله: أن ظاهر الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعده الأرض في حال سقوطه لم تنتقض طهارته.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو استيقظ حتى يضع جنبيه على الأرض، فلا وضوء عليه، وإن وضع جنبيه وهو نائم بطل وضوءه؛ لأنه وجد شيء من النوم مضطجعاً فينتقض وضوءه. وعلى قولهما لا تنتقض طهارته حتى يسقط على الأرض قبل أن ينتبه، ويشترط لانتقاض الطهارة عند أبي يوسف رحمه الله أن يكون الانتباه بعدما استقر نائماً على الأرض، وهكذا روى ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمه الله في رواية كلما اضطجع إذا انتبه فعليه أن يتوضأ، لأنه وجد شيء من النوم(1/68)
مضطجعاً.
وإذا نام راكباً على دابة والدابة عريانة، فإن كان في حالة الصعود والاستواء لا ينتقض وضوءه (7ب1) لأن مقعده يكون متمكناً على ظهر الدابة، فلا يخاف خروج شيء منه، كما لو كان جالساً على الأرض ومقعده متمكن من الأرض، أما حالة الهبوط يكون حدثاً؛ لأن مقعده لا يكون متمكناً على ظهر الدابة حالة الهبوط، فهو بمنزلة ما لو نام على الأرض متوركاً، هذا هو الكلام في النوم.
وأما النعاس في حالة الاضطجاع، فلا يخلو إما أن يكون ثقيلاً أو خفيفاً، فإن كان ثقيلاً فهو حدث، وإن كان خفيفاً لا يكون حدثاً، والفاصل بين الخفيف (والثقيل) أنه إن كان يسمع ما قيل عنده، فهو خفيف، وإن كان يخفى عليه عامة ما قيل عنده فهو ثقيل، هكذا حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
والنوم في سجده التلاوة لا ينقض الوضوء، كالنوم في السجدة الصلبية، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وكذلك في سجدة الشكر عند محمد، وعند أبي حنيفة رحمه الله حدث؛ لأن سجدة الشكر عنده ليست بمروية، وفي «فوائد القاضي» الإمام أبي علي النسفي قوله مثل قول محمد، قال القاضي الإمام رحمه الله: وسواء سجده على وجه السنة، والنوم في سجدة السهو ليس بحدث.
والإغماء ينقض الوضوء وإن قل، وكذلك الجنون والغشي؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء سبب لخروج النجاسة بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فيقام مقام خروج النجاسة.
والسكر ينقض الوضوء أيضاً؛ لأنه سبب لخروج الحدث بواسطة استرخاء المفاصل، فيقام مقام خروج الحدث احتياطاً.
بعد هذا الكلام في حده وذكر بعض المشايخ في «شرح المبسوط» أن حد السكران هنا ما هو حد السكران في باب الحد، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، فإنه قال: إن كان لا يعرف الرجل من المرأة ينتقض وضوءه، وهذا الحد ليس بلازم إذا دخل في بعض مشيته تحرك، فهو سكر ينتقض به وضوءه، كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الصحيح، وهذا لأن السكر إنما أوجب انتقاض الوضوء لكونه سبباً لخروج الحدث بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فلما دخل في مشيته تحرك فقد زالت المسكة والله أعلم.
(نوع آخر) في القهقهة
يجب أن يعلم بأن القهقهة في كل صلاة فيها ركوع وسجود تنقض الصلاة والوضوء عندنا لحديث خالد الجهني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى، فوقع في بئر أدركته هناك، فضحك بعض القوم قهقهة، فلما فرغ النبي عليه السلام من الصلاة(1/69)
قال: «ألا من ضحك منكم، فليعد الوضوء والصلاة» ، والقهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة بخلاف القياس؛ لأن انتقاض الطهارة بخارج نجس، ولم يوجد ذلك، وليست القهقهة خارج الصلاة في معنى القهقهة في الصلاة؛ لأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى فتعظم الجناية بالقهقهة فيها، ولا كذلك القهقهة خارج الصلاة، فبقيت القهقهة خارج الصلاة على أصل القياس.
وكذلك القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة، والسنّة وردت في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقاً، فيعمل فيها بالقياس؛ ولكن تبطل صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وكذلك القهقهة من النائم في الصلاة لا تنقض الوضوء، هكذا وقع في بعض الكتب.
وذكر الزندوستي في «نظمه» : إذا نام في صلاته قائماً أو ساجداً ثم قهقه: لا رواية لهذا في الأصول، قال شداد بن أوس: وقال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته، ولا يفسد وضوءه، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد رحمه الله، قال الحاكم أبو محمد الكفيني: فسدت صلاته ووضوءه جميعاً، وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطاً.
ولو نسي كونه في الصلاة ثم قهقهة قال شداد: قال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته ولا يفسد وضوءه، وقال الحاكم الكفيني والفقيه عبد الواحد: فسدا جميعاً.
وجه قول من قال بفسادهما: أن هذه قهقهة حصلت في خلال الصلاة، فتنقض الوضوء كما في الذاكر المستيقظ.
وجه قول من قال بعدم فساد الوضوء: أن السنّة وردت في حق اليقظان الذاكر، وليس النائم والناسي في معنى المستيقظ الذاكر؛ لأن فعل النائم والناسي لا يوصف بكونه جناية، فيعمل فيه بالقياس، وقضية القياس أن لا يفسد الوضوء.
والقهقهة من الصبي في حالة الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بالجناية، فيعمل فيه بالقياس.
وإذا أحدث الرجل فذهب وتوضأ وعاد إلى مكانه وقهقه في الطريق حكي عن بعض المشايخ أنه ينقض وضوءه، وذكر الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي، رحمه الله أنها تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء استحساناً.
ولو تبسم في صلاته لا ينقض وضوءه لما روي «أن رسول الله عليه السلام كان إذا رأى جرير بن عبد الله تبسم ولو في الصلاة» ، وقال عليه السلام في قصة الأعمى الذي(1/70)
وقع في الركية: «ومن تبسم فلا شيء عليه» ؛ ولأن القهقهة عرفت ههنا بالسنّة بخلاف القياس، والتبسم ليس في معناها؛ لأن في القهقهة من المأثم والحرمة ما ليس في التبسم، فلم يكن التبسم في الجناية يظهر القهقهة، فيرد التبسم إلى أصل القياس.
ثم في حدّ القهقهة اختلاف المشايخ، قال بعضهم: القهقهة ما تكون مسموعاً له ولجيرانه، وقال بعضهم: ما يظهر فيه القاف والهاء، والتبسم: ما لا يكون مسموعاً له ولجيرانه، وما بينهما وهو ما يكون مسموعاً له ولا يكون مسموعاً لجيرانه، فسمي ضحكاً، وإنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح المبسوط» .
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح المبسوط» أن ما فوق التبسم ودون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، قال: وكان القاضي الإمام يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة أو عن التسبيح نقض وضوءه، قال رحمه الله: وغيره من المشايخ على أنه لا ينتقض الوضوء حتى يسمع صوته وإن قل.
والقهقهة عامداً كان أو ناسياً تنقض الوضوء ويبطل التيمم كما يبطل الوضوء، ولا تبطل طهارة الاغتسال، وقد قيل: تبطل طهارة الأعضاء الأربعة، لهذا إن المغتسل في الصلاة إذا قهقه بطلت الصلاة، وجاز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد على القول الأول، وعلى القول الآخر: لا يجوز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد.
ولو صلى الفريضة بالإيماء بعذر وقهقه فيها انتقض وضوءه؛ لأن هذه صلاة لها ركوع وسجود وقام الإيماء بعذر مقام الركوع والسجود، ولو صلى المكتوبة أو التطوع راكباً خارج المصر أو القرية وقهقه فيها انتقض وضوءه، وإن كان في مصر أو قرية لا ينتقض عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه ليس في الصلاة، وكذلك لو افتتح التطوع راكباً خارج المصر، ودخل المصر ثم قهقه، فلا وضوء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله.
ولو صلى في المصر ركعة من التطوع راكباً ثم خرج من المصر يريد السفر وقهقهة لا وضوء عليه في قول أبي حنيفة. ولو صلى راكباً وهو منهزم من العدو والدابة واقفة أو سائرة أو تعدو به وهو يومىء إيماء إلى القبلة أو إلى غيرها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلم، فضحك بعده من خلفه، فعليهم الوضوء، علل فقال: لأني كنت آمرهم أن يسلموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضل: قد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لا آمرهم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة، فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحليل.
ذكر الحاكم في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد، ولم يتشهد والقوم على مثل حاله، فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه، قال: أما في قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى(1/71)
الإمام الوضوء، ولا وضوء على القوم من قبل أن الإمام قد أفسد عليهم ما بقي (8أ1) من صلاتهم، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً.
ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا، فعليهم الوضوء عندهما، لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً أو الضحك يفسد عليهم ما بقي، وعند محمد رحمه الله: لا وضوء على القوم في هذه الصورة، وهو ما إذا ضحكوا بعدما سلم الإمام؛ لأن عند سلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منهم لم يصادف حرمة الصلاة، فلا يوجب الوضوء.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله فيمن سها عن التشهد خلف الإمام في الثانية حتى يسلم الإمام في آخر الصلاة ثم ضحك هذا الرجل، فلا وضوء عليه، وليس هذا كسهوه عن التشهد في الرابعة.
في «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن إماماً انصرف من غير أن يسلم وخرج عن المسجد وضحك أو ضحك بعض القوم، فلا وضوء عليه ولا عليهم.
وابن سماعة عن أبي يوسف في «النوادر» : إذا صلى الجمعة ركعة ثم خرج وقتها ثم قهقهة، فلا وضوء عليه، وهذه المسألة تبنى على أصل أبي يوسف رحمه الله أن خروج الوقت في صلاة الجمعة توجب الخروج عن الجمعة، فالقهقهة بعد ذلك لم تصادف حرمة صلاة مطلقة.
أبو سليمان عن محمد رحمه الله: ظن القوم أن الإمام كبر ولم يكن كبر، فكبروا ثم قهقهوا، فلا وضوء عليهم.
عمرو بن أبي عمرو في مسافر صلى ركعة من الظهر بغير قراءة ثم قهقه، فعليه الوضوء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد وزفر: لا وضوء عليه، وكذلك في المقيم: إذا صلى ركعة من الفجر بغير قراءة ثم قهقه، وكذلك قال أبو يوسف فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر ثم قهقه، وقاس على قول أبي حنيفة، وكذلك إن ذكر صلاة عليه وهو في صلاة أخرى ثم قهقه، وكذلك إن نوى الإمام إمامة النساء، فجاءت امرأة فقامت إلى جنبه تأتم به ثم قهقه، فعليه الوضوء، وأما في قول محمد وزفر، فلا وضوء عليه في شيء من ذلك إذا فسدت الصلاة، فكأنه تكلم فيها ثم قهقه.d
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا إذا وقفت بجنب الإمام وكبرت بعد تكبيره، فأما إذا كبرت مع الإمام لا تنعقد تحريمة الإمام، فلا تنتقض طهارته. ولو وقفت المرأة بجنب إمام يؤمها ثم ضحكت قهقهة هل تنتقض طهارتها؟ في رواية لا تنتقض، وفي رواية تنتقض، والأول أصح، لأنها ليست في صلاة. وإذا صلى فريضة عند طلوع الشمس أو عند غروبها سوى عصر يومه لم يكن داخلاً في الصلاة حتى لا تنتقض طهارته بالقهقهة. وإذا شرع في التطوع عند طلوع الشمس أو عند غروبها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.(1/72)
حكي عن بشر عن أبي يوسف: كل صلاة افتتحت صحيحة ثم دخل فيها ما يفسدها على وجه ما سمينا ثم ضحك، فعليه الوضوء. وهو إشارة إلى المسائل المتقدمة.
وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في رجل صلى ركعتين تطوعاً ولم يقرأ في إحديهما ثم قهقه، فلا وضوء عليه. وهذا الجواب يخالف جوابه في المسائل المتقدمة، وقال: في «التحري» : إذا تبين له في خلال الصلاة أنه صلى إلى غير القبلة ثم ثبت على صلاته بعد العلم به فسدت صلاته، وإن قهقه، فلا وضوء عليه، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: إن عليه الوضوء.
فالحاصل أن في جنس هذه المسائل روايتين عن أبي يوسف، وقال فيمن انقضى وقت مسحه في صلاته ثم قهقه، فلا وضوء عليه، لأن هذا صار غير طاهر، وكذلك في الجبائر: إذا برىء في صلاته، قال: ولو أن صحيحاً افتتح مكتوبة قاعداً أو مضطجعاً من غير عذر ثم قهقه أعاد الوضوء، وكذلك: لو افتتح الصلاة خلف مومىء أو خلف أخرس أو أمي ثم قهقه، فعليه الوضوء، وكذلك لو افتتح المتوضىء خلف المتيم والمتوضىء يرى الماء والمتيمم لا يراه، وكذلك من يأتم بمن يعلم أن عليه صلاة قبلها ولا يعلمها الإمام أو الإمام على غير القبلة ولا يعلمها والمؤتم يعلم، وإن كان الإمام يعلم أنه افتتح لغير القبلة، فلا وضوء على المؤتم.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: لو سلم على تمام في نفسه ثم تذكر سجدة تلاوة عليه ثم قهقه قبل أن يسجد لها، فلا وضوء عليه. ولو اقتدى رجل بهذا الرجل بعد السلام لم يكن الرجل داخلاً في صلاته، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» ، فقد ذكر في «الأصل» عليه الوضوء، ولو كان مسافراً ينوي الإقامة بعد السلام قبل الضحك كانت نيته قاطعة للصلاة، ولم يكن عليه أن يتمها وهو كمن سلم وعليه سجدتا السهو.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: في رجل لا يقرأ صلى ركعة بغير قراءة ثم تعلم سورة، قال: ينصرف على شفع وهو في الصلاة، وعليه الوضوء إن قهقه.
وعنه أيضاً: إذا صلى العريان ركعة ثم وجد ثوباً، فلبس في الصلاة، قال: ينصرف على شفع، ولا وضوء عليه إن قهقه. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: عليه الوضوء، فصار في المسألة روايتان، ويجب أن تكون المسألة الأولى على الروايتين أيضاً، إذ لا تفاوت بينهما.
وعنه أيضاً: أمة صلت بغير قناع ركعة ثم أعتقت، فصلت ركعة أخرى بغير قناع وهي تعلم بالعتق، قال: إنها ليست في صلاة، لا وضوء عليها إن قهقهت، وقال في(1/73)
موضع آخر من هذا الكتاب: عليها الوضوء.
وعنه أيضاً: لو دخل بنية العصر في صلاة رجل يصلي الظهر لزمه المضي معه وهو متطوع، وعليه الوضوء إن قهقه.
إذا سلم المقتدي قبل سلام الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم قهقهه لا وضوء عليه؛ لأنه صح خروجه عن الصلاة قبل خروج الإمام، فلا تنتقض طهارته بالقهقهة، وإذا قهقه القوم بعد التشهد دون الإمام تمت صلاتهم، وانتقضت طهارتهم، ولا تنتقض طهارة الإمام، ولو قهقه القوم بعد التشهد معاً تمت صلاتهم وانتقضت طهارتهم.
(نوع آخر) من هذا الفصل
مس الرجل المرأة أو المرأة الرجل لا ينقض الوضوء، وقال مالك إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض؛ لأن المس عن شهوة سبب لاستطلاق وكاء المذي، فيقام مقامه في حق إيجاب الوضوء احتياطاً لأمر العبادة، كما فعله أبو حنيفة رحمه الله في المباشرة الفاحشة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ولنا حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ» ولأن عين المس ليس بحدث، بدليل مس ذوات المحارم، وإنما الحدث ما يخرج عند المس، وذلك ظاهر، فلا حاجة إلى إقامة السبب مقامه.
ومس الذكر لا ينقض الوضوء بحال. وقال الشافعي: ينقض إذا مسه بباطن الكف من غير حائل، لحديث بُسْرة أن النبي عليه السلام قال: «من مس ذكره فليتوضأ» ولأنه سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقامه، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عمن مس ذكره هل عليه أن يتوضأ؟ قال: «لا وهل هو إلا بضعة منك؟» ولأن إقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي عند تعذر الوقوف على الخفي، وذلك غير موجود ههنا؛ لأن المذي يرى.
فإذا باشر امرأته مباشرة فاحشة بتجرد وانتشار وملاقاة الفرج الفرج، ففيه الوضوء(1/74)
في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف استحساناً، وقال محمد: لا وضوء عليه، وهو القياس؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «الوضوء مما خرج» وقد تيقن أنه لم يخرج منه شيء، فهو كالتقبيل. ولهما أن الغالب من حال (8ب1) من بلغ في المباشرة هذا المبلغ خروج المذي منه فيجعل كالمذي بناء للحكم على الغالب دون النادر، ألا ترى أن من نام مضطجعاً ينتقض وضوءه وهو وإن تيقن أنه لم يخرج منه شيء اعتباراً للغالب كذا ههنا.
والكلام الفاحش لا ينقض الوضوء وإن كان في الصلاة؛ لأن الحدث اسم لخارج نجس، ولم يوجد هذا الحدُّ في الكلام الفاحش.
ولا وضوء في أكل ما مسته النَّار أو لم تمسه، فقد صح «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ» .
وليس في حمل الميت وغسله وضوء إلا أن يصيب يده أو جسده شيء من الماء، فيغسل ذلك الموضع.
وإذا ذبح شاة، فلا وضوء عليه إلا أن تتلطخ يده بدمها فيغسل يده.
قال القدوري رحمه الله: وليس في مزال عن بدن ولا موطوء عليه وضوء، ولا إمرار ماء على موضع المزال.
يريد به: إذا توضأ، ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وقد مرت مسألة الشعر من قبل، ومعنى الموطوء عليه: أن يطأ نجاسة لا يلصق به شيء منها، وإن لصقت فعليه غسلها والله أعلم.
(نوع آخر)
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ومن شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه؛ لأن غسله لا يريبه وتركه يريبه، وقد قال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ولأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع، وفي شك من غسله، واليقين لا يزال بالشك، فأما إذا كان يرى ذلك كثيراً لم يلتفت ومضى؛ لأنه من الوساوس، والسبيل في الوساوس قطعها، وترك الالتفات إليها؛ لأنه لو التفت إليها تقع في مثل ذلك ثانياً وثالثاً، فبقي في أكثر عمره في ذلك.
قالوا: وهذا إذا كان الشك في خلال الوضوء، فأما إذا كان هذا الشك بعد الفراغ من الوضوء لا يلتفت إليه ومضى، وهو نظير ما إذا شك في صلاته أنه صلاها ثالثاً أو أربعاً إن كان هذا الشك في خلال الصلاة كان معتبراً، وإن كان بعد الفراغ من الصلاة لا يعتبر، حملاً لأمره على ما كان وهو الخروج عن الصلاة بعد التمام كذا ههنا.
وتكلموا في قوله: وهو أول ما شك فيه، من المشايخ من قال: أراد به أول ما شك في عمره، ومنهم من قال: أراد به أن الشك في هذا لم تصر عادة له.(1/75)
ومن شك في الحدث، فهو على وضوئه، لأنه على يقين من الطهارة، وعلى شك من الحدث واليقين لا يزال بالشك بالشك.
ومن شك في الوضوء، فهو محدث؛ لأنه على يقين من الحدث، وعلى شك من الوضوء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: لا مدخل للتحري في باب الوضوء إلا في فصل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان مع الرجل آنية وهو يتذكر أنه جلس للوضوء إلا أنه شك أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعدما توضأ يتحرى ويعمل بغالب رأيه.
وإن شك أنه جلس للتوضؤ أولا والآنية هناك موضوعة، فهو محدث، ولا يجوز له التحري قال ابن سماعة في «نوادره» : وهو نظير الخلاء، فإنه إذا كان يتذكر أنه دخل الخلاء للتخلي لكنه شك أنه خرج منها قبل أن يتخلى أو بعدما تخلى جعل محدثاً، ولا يجوز له التحري. ولو شك أنه دخل الخلاء أولم يدخل جاز له التحري، والعمل بغالب رأيه وهذه رواية مستحسنة.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد أنه سئل عن المتيقن بالوضوء إذا لم يذكر حدثاً، فقال له رجل: إنك بلت في موضع كذا فشك الرجل، وقد صلى بعد ذلك صلوات، فقال: إذا شهد عنده عدلان قضاها، وإن شهد واحد عدل لم يقض.
وفي «الأصل» عن محمد رحمه الله: إذا وقع في قلب المتوضىء أنه أحدث وكان على ذلك أكثر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن صلى بوضوئه الأول كان في سعة من ذلك عندنا.
وإن أخبره مسلم عدل رجل أو امرأة حرة أو مملوكة أنه أحدث أو رعف أو نام مضطجعاً لم يسع له أن يصلي حتى يتوضأ؛ لأن هذا أمر من أمور الدين وخبر الواحد حجة في أمور الدين.
ولو استيقن بالحدث وشك في الوضوء، فأخبره عدل أنه توضأ، ولم يعرف المخبر بكونه عدلاً، إلا أنه وقع في قلبه أنه صادق، وسعه أن يصلي، فإن كان مبتلى بهذا كثيراً ويدخل عليه فيه الشيطان، فاستيقن بالحدث، واستيقن أنه قعد للوضوء، فإن كان أكثر رأيه أنه توضأ ورأى البلل سائلاً من ذكره بعد وضوئه، فإن كان الشيطان يريه ذلك كثيراً ولا يستيقن أنه بلل ماء أو بول مضى في صلاته، ولا يلتفت إليه.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وتأويل هذا في الذي يرى البلل على طرف ذكره وقد استنجى، فيحتمل أن يكون ذلك من بلل الغسل، فأما إذا علم الرجل أنه خرج من داخل الإحليل فعليه أن يتوضأ.
ومن أصحابنا من قال: وإن علم أنه خرج من ذكره لا ينتقض وضوءه ما لم يستيقن أنه بول أو مذي إذا كان قد استنجى، فقد ذكر في بعض «النوادر» أن المستنجي إذا دخل الماء في ذكره ثم خرج لا ينقض وضوءه، فيحتمل أن يكون هذا الخارج من ماء الاستنجاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحيلة في قطع هذه الوسوسة أن ينضح فرجه بالماء، فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء.(1/76)
وقد روى أنس رضي الله «أن رسول الله عليه السلام كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ، وقال: نزل جبريل صلوات الله عليه وأمرني بذلك» ، قالوا: هذا الاحتيال إنما ينفعه إذا كان العهد قريباً بحيث لم يجف البلل، فأما إذا مضى عليه زمان ثم رأى بللاً، فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه لا يمكننا الإحالة على ذلك الماء والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام المحدث
المحدث لا يمس المصحف ولا الدرهم الذي كتب عليه القرآن، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) ، ولا بأس بأن يقرأ القرآن، لما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله عليه السلام: «كان لا يحجزُهُ شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة» .
والمعنى في الفرق بين القراءة والمس أن الحدث حل باليد دون الفم، ولهذا يفرض على المحدث إيصال الماء إلى اليد ولا يفترض عليه إيصال الماء إلى الفم. وإن أراد أن يغسل اليد ويأخذ المصحف لا يحل له ذلك؛ لأن الحدث لا يتجزأ زوالاً وثبوتاً.
وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض أيضاً، وإن لمس المصحف بغلافه فلا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه المتصل عند بعض المشايخ، وعن بعضهم المنفصل كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف من المصحف، ولهذا يدخل في بيع المصحف من غير ذكر.
وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه ألا ترى لو قام على النجاسة في الصلاة، وفي رجليه نعلان أو جوربان، لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه أو جوربيه وقام عليهما جازت صلاته، وألا ترى أن من حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها وبينه وبينها ثيابه يحنث في يمينه واعتبر ثوبه تبعاً له حتى لم يعتبر حائلاً، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد بلا حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للأجنبي أن يأخذ يدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمس بحائل، وفي باب اليمين المعتبر هو العرف، وفي العرف يعتبر الجالس في ثيابه على الأرض جالساً على الأرض.
ويكره له مس كتب التفسير، وكذلك يكره له مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنه لا يخلو عن آيات القرآن وإن لم يكن فيها آيات (أ1) القرآن، ففيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون وسعوا في مس كتب الفقه بالكم للبلوى والضرورة.
وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به بأساً........... التوضؤ وفي التأخير تضييع القرآن، ويكره(1/77)
له أن يدخل المسجد وأن يطوف بالبيت وفي الأذان روايتان، وتكره الإقامة رواية واحدة، والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل الثالث في تعليم الإغتسال
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً.
نوع منه في تعليم الاغتسال
قال محمد رحمه الله: ويبدأ في غسل الجنابة بيديه، فيغسلهما ثلاثاً ثم يأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على شماله حتى يغسل فرجه ثلاثاً وينقيه، وكذلك المرأة إذا اغتسلت بدأت وغسلت فرجها، ثم يتوضأ وضوء الصلاة غير غسل القدمين، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى عن مغتسله فيغسل قدميه؛ فقد أمر بتأخري غسل القدمين في حق الجنب.
وقد اختلفت الروايات في فعل رسول الله عليه السلام، روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غسل القدمين في الوضوء» ، وروت ميمونة «أنه عليه السلام لم يغسل القدمين في الوضوء، بل أخره إلى ما بعد الاغتسال» ، وعلماؤنا رحمهم الله أخذوا برواية ميمونة، لأن غسل القدمين قبل إفاضة الماء على رأسه لا يقبل؛ لأن قدميه في مستنقع الماء المستعمل، فيتنجس ثانياً وثالثاً بوصول الماء المستعمل إليه فلا يفيد الاغتسال في الوضوء، حتى لو أفاد بأن كان قائماً على حجر أو لوح لا يؤخر غسل القدمين عن الوضوء، ثم أشار ههنا إلى مسح الرأس في الوضوء، فإنه قال: يتوضأ وضوءه للصلاة، والوضوء اسم يشمل المسح والغسل جميعاً، وهو ظاهر المذهب.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمسح برأسه في وضوئه؛ لأنه قد لزمه غسل الرأس، وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل، والصحيح أن يمسح برأسه، فقد روت عائشة وميمونة رضي الله عنهما في بيان كيفية اغتسال رسول الله عليه السلام أن رسول الله عليه السلام «توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً» .
واسم الوضوء مشتمل على الغسل والمسح جميعاً، وما قال من المعنى ليس(1/78)
بصحيح لأن تقديم الوضوء على الإفاضة يقع سنة لا فرضاً ليقال فرضيته لا تظهر مع فرضية الغسل، وإن أفاض الماء على رأسه مرة واحدة تجزئه، وهذا الترتيب الذي ذكرنا مذكور في «الأصل» .
وفسر في «النوادر» فقال في موضع: يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا يغسل قدميه ثم يبدأ بمنكبه الأيمن فيفيض الماء عليه ثلاثاً بمنكبه الأيسر ويفيض الماء عليه ثلاثاً، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى فيغسل قدميه.
قال في «المعلى» : وقال أبو حنيفة رحمه الله: من اغتسل من الجنابة فليس عليه أن يضع في عينيه الماء.
قال في «الأصل» : والدلك في الاغتسال ليس بشرط عندنا، خلافاً لمالك؛ لأن الواجب بالنص التطهير، فاشتراط الدلك يكون زيادة على النص. وفي «المنتقى» : وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأمالي» : الدلك في الغسل شرط.
وإذا اغتسلت المرأة من الجنابة ولم تنقض رأسها إلا أنه بلغ الماء أصول شعرها وأبلها وإنه جائز بلا خلاف أجزأها، هكذا ذكر في «الأصل» .
واعلم أن ههنا فصلان: أحدهما: إذا بلغ الماء إلى (أصول الشعر) لما روي أن أم سلمة سألت رسول الله عليه السلام وقالت: «إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضها إذا اغتسلت؟ فقال: لا» ، وفي حديث جابر أن النبي عليه السلام قال: «لا يضر الجنب والحائض أن ينقض الشعر إذا اغتسل بعد أن يصل الماء سور الشعر» ، أي: أصول الشعر. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكان لا ينقض شعري» .
وأما إذا بلغ الماء أصول شعرها ولكن لم يدخل شعب عقاصها فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئها لقوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، ألا فبلوا الشعر» ولم يوجد بلّ الشعر ههنا.
وعن عبيد الله بن عمر أنه كان يأمر جواريه بنقض شعورهن عند الاغتسال من الحيض والجنابة، ويؤيد هذا القول ما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: تبل ذوائبها ثلاثاً، مع كل بلة عصرة، وفائدة اشتراط العصر أن يصل الماء تحت قرونها.
سئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن هذه المسألة فروى عن رسول الله عليه السلام أنه(1/79)
علم أم سلمة الاغتسال، وقال لها: «احثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء مع كل حثية عصرة» قال: وفائدة اشتراط العصرة أن يبلغ الماء تحت قرونها، قاله الراوي عن الفقيه على أهل المجلس يذكر هذه المسألة.
وقال بعضهم: يجزئها لظاهر ما روينا من حديث أم سلمة وجابر وعائشة، ولأنها إذا نقضت شعرها احتاجت إلى الضفر ثانياً وقال: فليحقها بذلك حرج وربما يتأثر بذلك شعرها، وفيه فساد، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثناء اللحية، فيجب إيصال الماء إليه حتى إن المرأة إذا كانت لا تتحرج في إيصال الماء إلى أثناء الشعر بأن كانت منقوضة الشعر يفرض عليها إيصال الماء إلى أثناء الشعر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله. وتأويل حديث جابر على هذا القول أن المراد منه إذا لم تكن منقوضة الشعر.
وأما الرجل إذا كان على رأسه شعر وقد ضفره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب عليه إيصال الماء إلى أثناء الشعر؟ فظاهر حديث جابر يدل على أنه لا يجب، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب، والاحتياط في إيصال الماء إليه، والله أعلم.
وسئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن امرأة تغتسل من الجنابة هل تتكلف لإيصال الماء إلى ثقب القرط، قال: إن كان القرط فيه وتعلم أنه لا يصل الماء إليه من غير تحريك فلا بد من التحريك كما في الخاتم، وإن لم يكن القرط فيه إن كان لا يصل الماء إليه لا تكلف، وكذلك إن انضم ذلك بعد نزع القرط وصار بحيث لا يدخل القرط فيه إلا بتكلف لا تتكلف أيضاً، وإن كان بحيث لو أمرَّت الماء عليه دخله، ولو عدلت لم يدخله أمرت الماء عليه حتى يدخله، ولا تتكلف إدخال شيء فيه سوى الماء من خشب أو نحوه لإيصال الماء إليه.
الأقلف إذا اغتسل من الجنابة ولم يدخل الماء داخل الجلدة جاز؛ لأنها خلقة، وقال في الأقلف إذا خرج بوله من طرف ذكره حتى صار في قلفته فعليه الوضوء.
ذكر القاضي الإسبيجابي هاتين المسألتين على هذا الوجه في «شرحه» وكل(1/80)
واحدة ترد إشكالاً على الأخرى، والجواب في هاتين المسألتين على هذا الوجه منقول عن ابن سلمة رحمه الله، وذكر في آخر «النوادر» قبيل باب التأويلات عن الفقيه أبي بكر رحمه الله أن الأقلف إذا لم يدخل الماء داخل الجلدة، ففي الغسل لا يجزئه، وفي الوضوء يجزئه، وجعله كالمضمضة والاستنشاق والله أعلم.
نوع منه فى بيان فرائضه وسننه
والفرض فيه أن يغسل جميع بدنه ويتمضمض ويستنشق، والمضمضة والاستنشاق فرضان في الغسل، نفلان في الوضوء، والأصل فيه قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعرة والبشرة» ، وفي الأنف شعر وفي الفم بشرة. قال ابن الأعرابي: البشرة اسم لجلدة تقي اللحم من الأذى، ولأن الأنف والفم عضوان يمكن إيصال الماء إليهما من غير حرج، فيجب في الغسل عن الجنابة كما في سائر الأعضاء وهذا لأن الواجب تطهير البدن، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (المائده:6) واسم البدن يتناول الكل إلا ما لا يمكن إيصال الماء إليه يسقط اعتباره لمكان الضرورة، فأما إذا أمكن إيصال الماء إلى هذين العضوين من غير حرج لا ضرورة إلى إسقاط اعتبارهما. أما في الوضوء الواجب غسل الوجه، والوجه اسم لما يواجه الناظر، والمواجهة لا تقع بباطن الفم والأنف.v
وتقديم الوضوء على الاغتسال في الجنابة سنة، وليس فرضاً عند علمائنا رحمهم الله، حتى إنه لو لم يتوضأ وأفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً أجزأه إذا كان قد تمضمض واستنشق.
رجل اغتسل من الجنابة ولم يتمضمض، إلا أنه شرب الماء، هل يقوم شرب الماء مقام المضمضة؟ كان الفقيه أحمد بن إبراهيم يقول لعمرو هكذا كان جواب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله (9ب1) حسب ما بلغ: إذا تمضمض يجوز، وما لا فلا، وبنحوه روى الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عن محمد، والذي روي عنه جنب شرب الماء قال: إن كان الشرب أتى على جميع فمه يجزئه عن المضمضمة، وإن كان مص الماء مصاً، فلم يأت على جميع فمه لم تجزئه عن المضمضمة.(1/81)
وفي «نوادر هشام» : جنب تمضمض وأدار الماء، قال: إن أصاب ذلك الفم كله أجزأه قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: إن أبا يوسف قال: لا يجزئه إلا أن يمجه، قال محمد: قال أبو يوسف: يجزئه إذا أصاب الفم كله، وعن بعض مشايخنا: إن الرجل إذا كان عالماً لا يجزئه، وإن كان جاهلاً أجزأه، فإنه إذا كان عالماً يمص الماء مصاً، وليس فيه مبالغة، فلا يصل الماء إلى جميع فمه، وإذا كان جاهلاً يغب الماء غباً والتقريب ما ذكرنا. وفي «واقعات الناطفي» : أنه لا يجزئه كيف ما شرب ما لم يمجه.
وإذا اغتسل من الجنابة وبقي بين أسنانه طعام ولم يصل الماء تحته جاز؛ لأن ما بين الأسنان رطب، فلا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، وذكر الناطفي في «واقعاته» أنه لا يجزئه ما لم يقلع ذلك الطعام ويجري الماء عليه.
وإذا كان على ظاهر بدنه جلد سميك أو خبز ممضوغ قد جف واغتسل ولم يصل الماء إلى ما تحته، لا يجوز ولو كان مكانه خرء ذباب أو برغوث وباقي المسألة بحالها جاز، وقد مر هذا في فصل الوضوء.
والمرأة إذا عجنت وبقي العجين في ظفرها فاغتسلت من الجنابة لم يجز، ولو بقي الدرن جاز يستوي فيه القروي والمدني عند عامة المشايخ وهو الصحيح، وقد مرت هذه المسألة في فصل الوضوء أيضاً، وذكرنا ثمة قول الإمام الزاهد الصفار رحمه الله.
نوع منه فى بيان أسباب الغسل
فنقول أسباب الغسل ثلاثة: الجنابة، والحيض، والنفاس، وهذا النوع لبيان الغسل عن الجنابة وأحكامها، ومسائل الحيض والنفاس تأتي في آخر الباب في فصل على حدة إن شاء الله تعالى فنقول: الجنابة تثبت بشيئين:
أحدهما: انفصال المني عن شهوة، والثاني: الإيلاج في الآدمي، واختلفت عبارة أصحابنا رحمهم الله في الإيلاج الذي تثبت به الجنابة، فالمروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة إنه يجب الغسل، والمروي عن أبي يوسف أنه إذا توارت الحشفة في قبل أو دبر من الآدمي يجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل.
والكرخي في «كتابه» يقول في الإيلاج في أحد السبيلين: إذا توارت الحشفة يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل، وهذا هو المذهب لعلمائنا رحمهم الله، فوجوب الغسل عند علمائنا رحمهم الله غير مقصور على التقاء الختانين، فإن الإيلاج في الدبر يوجب الغسل عليهما بالإجماع، وإن لم يوجب التقاء الختانين والإيلاج في البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال؛ لأنه ناقص في قضاء الشهوة، فأشبه الاستمتاع بالكف، وذلك لا يوجب الغسل بدون الإنزال كذا ههنا.
الإيلاج في الميتة بمنزلة الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل والإيلاج في الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا يوجب الغسل، هكذا ذكر في «الأجناس» ، وفي «شرح الشافي» في كتاب الحدود أن عليه الغسل وإن لم ينزل.(1/82)
وفي «الفتاوى» : إذا أتى امرأته وهي بكر، فلا غسل عليه ما لم ينزل، لأن البكارة تمنع من التقاء الختانين وبدونه لا يجب الغسل ما لم ينزل، كذلك لا غسل عليها لانعدام السبب في حقها، وكذلك إذا كانت ثيباً ولم يوار الحشفة، فلا غسل عليه ما لم ينزل ولا غسل عليها أيضاً لما قلنا، وقال محمد رحمه الله: في البكر إذا جومعت فيما دون الفرج فدخل من مائه فرجها: فلا غسل عليها؛ لأن الغسل إنما يجب بالتقاء الختانين أو بنزول الماء ولم يوجد واحد منهم حتى لو حبلت يجب الغسل لنزول مائها.
غلام ابن عشر سنين جامع امرأته البالغة، فعليها الغسل لوجود السبب في حقها وهو مواراة الحشفة بعد توجه الخطاب، ولا غسل على الغلام لعدم الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقاً واعتباراً كما يؤمر بالصلاة تخلقاً واعتباراً، ولو كان الرجل بالغاً والمرأة صغيرة يجامع مثلها، فعلى الرجل الغسل، ولا غسل عليها لوجود السبب في حقه وانعدام السبب في حقها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به لوجود السبب هو مواراة الحشفة.
والكافر إذا أجنب ثم أسلم ففي وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، قال بعضهم يجب، وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير» ، والمذكور في «السير» : وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل غسل الجنابة، وعلل فقال؛ لأن المشركين لا يغتسلون من الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في ذلك، وإنما أراد بما قال والله أعلم: إن من المشركين من لا يدين الاغتسال من الجنابة، ومنهم من يدين كقريش وبنو هاشم عامتهم توارثوا من إسماعيل عليه السلام إلا أنهم لا يدرون كيفيته، فكانوا لا يتمضمضون ولا يستنشقون، وهما فرضان ألا ترى فرضية المضمضمة والاستنشاق في الاغتسال قد خفي على كثير من العلماء، فكيف على الكفار.
على (أن) ما أشار إليه في «الكتاب» لا يخلو عن أحد شيئين: لا إما يغتسلون عن الجنابة أو يغتسلون عنها، ولكن لا يدرون كيفيتها وأي ذلك ما كان يؤمرون بالاغتسال بعد الإسلام لبقاء حكم الجنابة.
ثم فيما ذكر محمد رحمه الله بيان أن صفة الجنابة تتحقق في حق الكفار عند وجود سببها، وبه تبين أن ما ذكر بعض مشايخنا أن الغسل بعد الإسلام مستحب، وذلك في حق من لم يكن قبل ذلك أجنب، وبه تبين أن ما قال بعض المشايخ بأن الجنابة في حق الكفار لا توجب الاغتسال بعد الإسلام لأن الكفار غير مخاطبين، غير سديد.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ؛ لأن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أو لا يخاطبون بها؟ فمن قال: يخاطبون بها، يقول: الغسل يجب عليه في حال كفره ولهذا لو أتى به يصح، وهذا ظاهر، ومن قال بأنهم لا يخاطبون بها، لا ينبغي أن يقول: بوجوب الغسل بعد الإسلام، ولذلك وجهان:(1/83)
أحدهما: أن الاغتسال لا يجب بالجنابة ليقال إنه وقت وجوب الاغتسال غير مخاطب في الشرائع، إنما وجوبه بإرادة الصلاة وهو جنب كما أن الوضوء لا يجب بالحدث، وإنما يجب بإرادة الصلاة وهو محدث، قلنا: وهو عند إرادة الصلاة جنب مسلم، فلذلك يلزمه الاغتسال.
والثاني: أن صفة الجنابة مستدامة، فاستدامتها بعد الإسلام كإنشائها، ولهذا قلنا: لو انقطع دم الحيض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال؛ لأنه لاستدامة للانقطاع حتى يجعل دوامه كابتدائه، فلم يوجد سبب وجوب الاغتسال في حقها بعد الإسلام لا حقيقة ولا حكماً، فلا يلزمها الاغتسال. فظهر الفرق على هذا المعنى بين الكافر إذا أجنب ثم أسلم وبين الكافرة إذا حاضت وانقطع دمها ثم أسلمت. هذا هو الكلام في طرف الإيلاج.
جئنا إلى طرف انفصال المني؛ يجب أن يعلم بأن المني ماء دافق خاثر أبيض ينكسر منه الذكر هو المذكور في عامة الكتب، وزاد في «الشافي» : ويخلق منه الولد، فمتى كان حركته * يعني مفارقته عن مكانه * وخروجه عن شهوة، سواء كان بمس أو نظر أو فكرة، أو ما أشبه ذلك من الملاقاة وغيرها يجب الغسل بلا خلاف، ومتى كان مفارقته عن مكانه وخروجه لا عن شهوة لا يوجب الغسل عند علمائنا المتقدمين وعامة مشايخنا المتأخرين.
وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال: يجب الغسل بخروج المني على كل حال، وهو قول الشافعي: حتى إن من حمل شيئاً، فسبقه المني، فلا غسل عليه عند علمائنا المتقدمين وعامة المتأخرين، خلافاً لعيسى والشافعي. وكذلك الرجل إذا أصاب (10أ1) الضرب ظهره فسبقه المني لا غسل عليه عند عامة علمائنا المتقدمين، وعامة المتأخرين خلافاً لعيسى والشافعي.
ومتى كان مفارقته عن مكانه عن شهوة وخروجه لا عن شهوة، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب الغسل، وعلى قول أبي يوسف لا يجب الغسل، فالعبرة عند أبي حنيفة ومحمد لانفصال المني عن مكانه على وجه الدفق والشهوة، لا لظهوره على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف العبرة لخروجه وظهوره على وجه الشهوة. وثمرة الخلاف تظهر في مسائل:
إحداها: إذا استمتع بالكف فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف.
الثانية: إذا جامع امرأته فيما دون الفرج ثم انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف.
الثالثة: إذا احتلم فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة استيقظ وأخذ بإحليله حتى انكسرت شهوته ثم خرج المني.(1/84)
الرابعة: إذا جامع امرأته واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني وجب الغسل عندهما، وكذلك إذا خرج مذي، وأجمعوا على أنه إذا بال ثم اغتسل أو نام ثم خرج المني أنه لا غسل عليه.
وفي «الأجناس» : لو جامع واغتسل قبل أن يبول وصلى، ثم بال فإنه يعيد الغسل عندهما ولا يعيد الصلاة بلا خلاف، وإذا بال فخرج من ذكره مني، فإن كان ذكره منتشراً فعليه الغسل، وإن كان منكسراً فعليه الوضوء.
وفي «مجموع النوازل» : المرأة؛ إذا اغتسلت بعدما جامعها زوجها ثم خرج منها مني الزوج، فعليها الوضوء دون الغسل؛ لأن الخارج ليس ماءها بل هو حدث.
ومما يتصل بطرف خروج المني مسائل الاحتلام
إذا استيقظ الرجل ووجد على فراشه بللاً وهو يذكر احتلاماً، إن تيقن أنه مني أو تيقن أنه مذي أو شك أنه مني أو مذي، فعليه الغسل، وليس في هذا إيجاب الغسل بالمذي بل فيه إيجاب الغسل بالمني؛ لأن سبب خروج المني قد وجد وهو الاحتلام، فالظاهر خروجه إلا أن طبع المني الرقة بإطالة المدة، فالظاهر أنه مني إلا أنه رق قبل أن يستيقط، وإن تيقن أنه ودي لا غسل عليه.
وإن رأى بللاً إلا أنه لم يتذكر الاحتلام، فإن تيقن أنه (مذي) لا يجب الغسل؛ لأن سبب خروج المني ههنا لم يوجد، فلا يمكن أن يقال بأنه مني ثم رق لطول المدة، بل هو مذي حقيقة، والمذي لا يوجب الغسل وإن شك أنه مني أو مذي، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يوجب الغسل حتى يتيقن بالاحتلام، وقالا يجب الغسل، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وإذا تذكر الاحتلام ولم ير بللاً فلا غسل عليه لظاهر قوله عليه السلام: «من احتلم ولم ير بللاً فلا شيء عليه» ، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: ذكر هشام في «نوداره» عن محمد رحمه الله: إذا استيقظ الرجل فوجد البلل في إحليله ولم يذكر حلماً إن كان ذكره منتشراً قبل النوم، فلا غسل عليه، إلا إذا تيقن أنه مني، وإن كان ذكره ساكناً قبل النوم فعليه الغسل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون، فيجب أن تحفظ.
إذا نام الرجل قاعداً أو قائماً أو ماشياً ثم استيقظ ووجد بللاً فهذا وما لو نام مضطجعاً سواء، وإذا احتلم الرجل وانفصل المني عن مكانه إلا أنه لم يظهر على رأس الإحليل، فلا غسل عليه، لأن الخروج بهذا لا يتحقق، ألا ترى أنه لا يلزمه الوضوء بنزول البول إلى هذا الموضع.(1/85)
المرأة إذا احتلمت، ولم تر بللاً روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذذ فعليها الغسل وإن لم تر بللاً، وبه أخذ بعض المشايخ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولا يؤخذ بهذه الرواية؛ لأن النساء يقلن: إن مني المرأة يخرج من الداخل كمني الرجل، وفي ظاهر الرواية: أنه يشترط الخروج من الفرج الداخل إلى الفرج الظاهر لوجوب الغسل، حتى لو انفصل منها عن مكانه ولم يخرج عن الفرج الداخل إلى الفرج الخارج لا غسل عليها، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليهما.
وفي «صلاة ابن عبد الله» : امرأة قالت...... حتى يأتيني في النوم مراراً وأجد في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، وذكر (وجب) أنه غسل عليها.
رجل وامرأة ناما واستيقظا وجدا منياً بينهما وكل واحد منهما ينكر الاحتلام وينكر أن المني منه، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: بوجوب الغسل عليهما وهو الاحتياط، ومن المشايخ من قال: إن (كان) ذلك الماء غليظاً أبيض فهو من الرجل، وإن كان رقيقاً أصفر فهو من المرأة، ومنهم من علل إن وقع طولاً فهو من الرجل وإن وقع مدوداً فهو من المرأة.
الرجل إذا صار مغشياً عليه ثم أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثيابه، فلا غسل عليه، وكذلك السكران إذا أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثوبه، فلا غسل عليه، وليس هذا كالنوم والله تعالى أعلم.
نوع منه فى سبب وجوب الاغتسال
اختلف المشايخ في سبب وجوب الاغتسال، قال بعضهم: سبب وجوبها الجنابة، وقال بعضهم: سبب وجوبها إرادة ما حرم عليه بسبب الجنابة، وسيأتي بيان ما حرم عليه بسبب الجنابة في النوع الذي يلي هذا النوع.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع لحديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كان يغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكف؟ فغضب قال: لقد كفى من هو خير منكم، وأكثر شعراً» والصاع ثمانية أرطال، كل رطل نصف مَنّ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الصوم إن شاء الله، وهذا التقدير لماء الإفاضة فإن أراد تقديم الوضوء زاد مداً، وكل ذلك ليس بتقدير لازم بل يستعمل من الماء بقدر ما يقع عنده أنه حصل التطهير، ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكنت أقول له: أبقِ لي(1/86)
وهو يقول لي: أبقِ لي» .
وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض فهي بالخيار إن شاءت اغتسلت؛ لأن فيه زيادة تنظيف وإزالة أحد الحدثين، وإن شاءت أخرت الاغتسال حتى تطهر؛ لأن الاغتسال للتطهير حتى تتمكن من أداء الصلاة، ألا ترى أن الجنب إذا أخر الاغتسال إلى وقت الصلاة لا يأثم، دل أن المقصود من الطهارة الصلاة، ومن لا يتمكن من الصلاة، فكان لها أن لا تغتسل.
وفي صلاة «فتاوى أبي الليث» : ثمن ماء الاغتسال على الزوج، وكذا ماؤها عليه غنية كانت أو فقيرة. وفي وصايا الطحاوي: روي عن محمد بن سلمة أن على الزوج الماء الذي تغسل المرأة (به) ثوبها أو بدنها من الوسخ، وليس عليه أن يشتري لها ماء الوضوء والغسل كما لا يلزمه الدواء، قال محمد: وهكذا قول أصحابنا رحمهم الله، وقد قيل: ينبغي أن يجب عليه ماء الاغتسال، ولا يجب عليه ماء الوضوء؛ لأنه سبب لوجوب الاغتسال عليها، وليس سبباً لوجوب الوضوء عليها، بل وجوب الوضوء بإيجاب الله تعالى، وينبغي للجنب أن يدخل أصبعه في سرته إلا إذا علم أنه يصل الماء إليها من غير إدخال الأصبع، فحينئذٍ لا يلزمه ذلك.
المرأة إذا أجنبت ثم أدركها الحيض أو الحائض إذا أجنبت ثم طهرت حتى وجب عليها الاغتسال، فهذا الاغتسال يكون من الجنابة أو الحيض؟ حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي محمد عبد الرحيم بن محمد الكرميني رحمه الله أنه كان يقول: اختلفت عبارات أصحابنا رحمهم الله: وظاهر الجواب أن الاغتسال يكون منهما جميعاً. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول، ولا يكون من الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال، فإن الوضوء يكون من الأول لا من الثاني على قوله (10ب1) وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن كانا من جنسين متحدين يكون من الأول لا من الثاني، كما إذا بال ثم بال أما إذا كانا من جنسين مختلفين، فإنه يكون منها جميعاً، كما إذا رعف ثم بال.
وروي عن خلف بن أيوب أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله يسأله عمن رعف ثم بال إن الوضوء يكون من الثاني أو من الأول؟ فكتب إليه أن الوضوء يكون منهما، ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول أن الوضوء يكون منهما جميعاً.
وثمرة الخلاف إنما تظهر بمسألة، وصورتها: إذا قال الرجل: إن توضأت من الرعاف فامرأته طالق، فرعف ثم بال ثم توضأ، فإنه يقع الطلاق عليها على الأقوال كلها أما على أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه وجد الرعاف أولاً، وأما على قول الفقيه أبي جعفر وهو رواية عن أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، فلأن الوضوء منهما، وأما إذا بال ثم(1/87)
رعف ثم توضأ، فعلى قول أبي عبد الله الجرجاني لا يقع الطلاق عليها في هذه الصورة لأن شرط وقوع الطلاق عليها الوضوء من الرعاف والوضوء ههنا وقع من البول عنده، ولأنه هو الأول وعلى الأقوال الأخر يقع الطلاق؛ لأن على الأقوال الأخر الوضوء منهما.
قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم رحمه الله: كنا نقول: الوضوء يكون بأغلظها حتى إن الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون منهما لاستوائهما، فأما إذا رعف ثم أجنب أو بال ثم أجنب فالوضوء الذي يكون في الاغتسال من الجنابة لأنها أغلظ. ثم وجدنا رواية أبي حنيفة: أن الوضوء منهما. فرجعنا عن ذلك وأخذنا بقول أبي حنيفة والله أعلم.
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن الاغتسال على أحد عشر نوعاً، خمسة منها فريضة: الاغتسال من الحيض والنفاس، ومن التقاء الختانين، وغيبوبة الحشفة، ومن الاحتلام إذا أنزل، ومن إنزال المني عن شهوة دفعاً.
وأربعة منها سنّة: غسل يوم الجمعة وفي العيدين، والغسل يوم عرفة عند الإحرام. وواحد منها واجب وهو غسل الميت حتى لا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل، والآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، يريد بها: إذا لم يجنب قبل الإسلام فإنه يستحب له أن يغتسل.
وههنا فصل آخر، أن الكافرة إذا أسلمت بعدما انقطع دم الحيض والنفاس فإنه يستحب لها أن تغتسل، ولا يجب عليها ذلك، وإن كان انقطاع الدم بعد الإسلام فرض عليهم الغسل.
والكافر إذا أجنب قبل الإسلام فقد ذكرنا أن في وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، وذكرنا أن الصحيح أنه يجب وفرقنا بين الحيض وبين النفاس. وههنا فصلان آخران: أحدهما: الصبي إذا بلغ بالاحتلام. والثاني: الصبية إذا بلغت بالحيض هل يجب عليهما الغسل؟ وفي الفصلين جميعاً اختلاف المشايخ والاحتياط في القول بالوجوب والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام الجنابة
وإنها كثيرة: منها حرمة الصلاة لقوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} معطوفاً على قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء: 43) .
ومنها دخول المسجد وإنها ثابتة بالسنّة عندنا وهو قوله عليه السلام: «إني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» . وعند الشافعي بالكتاب وهو قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (النساء: 43) حتى يجوز له الدخول في المسجد عنده على سبيل العبور دون القعود.
وعندنا لا يجوز له الدخول في المسجد أصلاً لا للعبور ولا للقعود لأنه لا فصل(1/88)
في السنة، والمراد من قوله تعالى: {إلا عابري سبيل} عندنا: المسافرون. سمّاهم الله تعالى بهذا الاسم لعبورهم على السبيل، كما أن المسافر يشبه ابن السبيل في المرور في السبيل.
ومنها حرمة الطواف بالبيت؛ لأن البيت في المسجد، ولا يحل له الدخول في المسجد فلا يحل له الطواف ضرورة. ومنها حرمة قراءة القرآن، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان نهى الجنب عن قراءة القرآن. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة، الآية وما دونها في تحريم القراءة سواء عند الكرخي؛ لأن الكل قرآن. وقيد الطحاوي حرمة القراءة بآية تامة؛ لأن المتعلق بالقراءة حكمان: أحدهما: جواز الصلاة به، والثاني: حرمة القراءة على الجنب في أَحَد حكمين وهو جواز الصلاة يفصل بين الآية وما دونها. /
فكذلك في الحكم الآخر وهو حرمة القراءة على الجنب، وهذا إذا قصد القراءة، فإن لم يقصدها فلا بأس به نحو قوله: الحمد لله، على سبيل الشكر. وكذلك إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم إن قصد القراءة يكره، وإن قصد به افتتاح الكلام لا يكره، وكذلك إذا ذكر دعاء في القرآن وهو آية تامة يريد به الدعاء لا يكره.
ولا يكره له قراءة دعاء القنوت في ظاهر مذهب أصحابنا لأنه ليس بقرآن. وعن محمد رحمه الله أنه يكره لأنه قرآن عند بعض الصحابة. ولا يكره التهجي بالقرآن لأن التهجي بالقرآن ليس بقراءة القرآن. ويكره له قراءة التوراة والزبور والإنجيل. ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «الفتاوى» : ولا يمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا الدرهم المكتوب (عليه) سورة الإخلاص لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى بعض القبائل: «لا يمس القرآن حائض ولا جنب» . وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض وإن مسّ المصحف بغلافه فلا بأس به. والكلام في الغلاف في حق الجنب نظير الكلام فيه في حق المحدث. وإذا مسه بكمه أو ذيله فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في المحدث.
وإذا أراد أن يغسل الفم ويقرأ القرآن أو يغسل اليد ويمس المصحف، فإنه لا يحل له القراءة والمس لأن الجنابة لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً. ويكره مسّ كتب التفسير ومس كتب الفقه وما هو من كتب الشريعة، وقد ذكر هنا الوجه في حق المحدث، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه.(1/89)
ويكره له كتابة القرآن عند محمد، وهو قول الشعبي ومجاهد وابن المبارك لأنه في حكم الماس للصحيفة. وبقوله أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وكذلك الفقيه أبو جعفر أفتى بقوله إلا أن يكون أقل من آية، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض؛ لأنه ليس بحامل للقرآن والكتابة توجد حرفاً حرفاً. وإذ أراد الجنب الأكل فينبغي له أن يغسل يديه ثم يتمضمض ثم يأكل والله أعلم.
الفصل الرابع في المياه التي يجوز التوضؤ بها والتي لا يجوز التوضؤ بها
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه فى الماء الجاري
ويجوز التوضؤ بالماء الجاري، ولا يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وبعدما تغير أحد هذه الأوصاف وحكم بنجاسته لا يحكم بطهارته ما لم يزل ذلك التغير بأن يزاد عليه ماء طاهر حتى نزيل ذلك التغير، وهذا لأن إزالة عين النجاسة عن الماء غير ممكن فيقام زوال ذلك التغير الذي حكم بالنجاسة لأجله مقام زوال عين النجاسة.
والدليل على أن العبرة في الماء الجاري لتغير إحدى الأوصاف التي ذكرنا ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة: إذا صُبّ حِبٌّ من الخمر في الفرات ورجل أسفل منه يتوضأ به أجزأه إذا لم تتغير إحدى أوصاف الماء.
بعد هذا الكلام في تحديد أدنى ما يكون من الجريان في حق جواز الوضوء، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إذا كان يذهب بالنجاسة قبل اغتراف الغرفة الثانية فهو ماء جار.
وقال بعضهم: إذا كان بحال لو ألقي فيه تبن أو ورق يذهب به فهو جاري. وقال(1/90)
بعضهم: إذا كان بحال لو اغترف المتوضىء في أعمق موضع من الجدول انقطع جريانه ثم امتلأ (11ب1) حتى يجري فهو ليس بجار وإن لم ينقطع فهو جار، وقال بعضهم: إن كان بحال لو وضع إنسان يده عليه عَرْضاً فقطع الجري فهو ليس بجار، وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط.
قال بعضهم: إن كان بحال لو رفع باليد حسر ما تحته وينقطع الجريان فهو ليس بجار وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط الاغتراف من أعمق المواضع إذا كانت النجاسة غير مرئية فإن كانت النجاسة مرئية فلا يتوضأ من الموضع الذي فيه النجاسة وإنما يتوضأ من موضع آخر، هكذ قاله بعض المشايخ وبعض المشايخ قالوا: إن توضأ من الموضع الذي وقع فيه النجاسة بقرب النجاسة جاز إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء.
وإذا جلس الناس صفوفاً على شط نهر وتوضؤوا بمائه جاز وهو الصحيح، وفي «النوازل» : إذا كانت مياه تجري ضعيفاً فأراد إنسان أن يتوضأ منه فإن كان وجهه إلى مورد الماء يجوز، وإن كان وجهه إلى مسيل الماء لا يجوز إلا أن يمكث بين كل غرفتين مقدار ما يذهب الماء بغسالته، قالوا: ودلت المسألة على فضيلة أهل..... حيث تجوز طهارة عالمهم وباطنهم.
وفي «نظم الزندويستي» إذا توضأ في الماء الجاري وهو كثير أو قليل فالأفضل أن يجعل يمينه إلى أعلى الماء، يعني إلى مورد الماء ويأخذ الماء من الأعلى، وإن لم يفعل كذلك وجعل يمينه أسفل الماء يعني إلى مسيل الماء وأخذ الماء من الأسفل ففي الماء الكثير يجوز، وفي الماء القليل ينبغي أن يتوضأ على التأني والوقار حتى يمر عنه الماء المستعمل وهذا إذا كان الماء لا يجري جرياً عاجلاً.
وأما إذا كان جرياً عاجلاً يجوز كيفما فعل، ومشايخ بخارى توسعوا في ذلك وجوزوا كيفما توضأ لعموم البلوى إذا كان الماء كثيراً، أما النهر إذا انقطع من أعلاه وبقي الجريان في أسفل النهر فتوضأ رجل من أسفل النهر جاز لأنه ماء جار. هكذا ذكر في «واقعات الناطفي» وفيه أيضاً عن أبي يوسف ساقية صغيرة فيها كلب ميت قد سدّ عرضها فجرى الماء عليه لا بأس بالتوضؤ أسفل منه، وذكر الناطفي هذه المسألة بعينها في «الأجناس» وأجاب بما أجاب في «الواقعات» ثم قال: وعندي أن هذا قول أبي يوسف.
وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا يجوز التوضؤ به، وفي «الطحاوي» و «النوازل» : لو كان القدر الذي يلاقي الجيفة من الماء دون الذي لا يلاقي الجيفة جاز التوضؤ أسفل منه، وإن كان مثله أو أكثر لا يجوز، قال: وإذا كانت الجيفة تُرى من تحت الماء لقلة الماء لا لصفائه كان الذي يلاقيها أكثر إذا كان سدّ عرض الساقية فيها، وإن كانت لا ترى أو لم تأخذ أقل من النصف لم يكن للذي يلاقيها أثر.
ونظير ما ذكر في «الطحاوي» و «النوازل» : ماء المطر إذا جرى في ميزاب السطح(1/91)
وكان على السطح عذرة فالماء طاهر لأن الماء الذي يجري على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب إن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي العذرة فهو نجس وإلا فهو طاهر.
وإن كان على السطح نجاسات كثيرة إن كان أكثر الماء يجري على النجاسة أو نصفه فالماء نجس، وإن كان أقل الماء يجري على النجاسة فالماء طاهر، وقال محمد رحمه الله: إن كانت النجاسة في جانب واحد من السطح فالماء طاهر، وكذلك إذا كان في جانبين. وإن كان في ثلاث جوانب فالماء نجس.
ورأيت مسألة المطر في بعض الفتاوى وكان المذكور: قال مشايخنا: ماء المطر ما دام يُمطر فله حكم الجريان حتى إذا أصاب العذرات على السطح ثم أصاب ثوباً لا يتنجس إلا أن يتغير. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» : المطر إذا أصاب السقف وفي السقف نجاسة فوكف وأصاب الماء ثوباً ننظر إن كانت النجاسة في جميع السقف فجميع ما وكف السقف طاهر فيكون الغالب الماء الطاهر فلا يحكم بنجاسته وعامة السقف طاهر، فما وكف من السقف لا يكون نجساً وتكون العبرة للغالب كماء جار في بعضه نجاسة والغالب هو الطاهر. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يزيف هذا التفصيل وكان يقول: النجاسة وإن كانت في بعض السقف إلا أن الماء قدم عليها فتنجس فهذا ماء جار نجس ولكن الصحيح أنه ينظر في الذي يسيل من السقف، إن كان مطراً دائماً لم ينقطع بعد فما سال من المنقب فهو طاهر، وأما إذا انقطع المطر وسال من المنقب شيء فما سال فهو نجس.
وسئل الفقيه أبو جعفر عن كلب ميت احتبس في نهر والماء يجري في جانبي الكلب قال؛ ينظر إن كان للماء الذي يجري في جانبي الكلب قوة الجريان، ومعناه: أنه لو انفرد يجري بنفسه، يجوز التوضؤ به فكذلك إذا كان الماء يجري على أعلى كلب يجوز التوضؤ به. وإن كان جميع الماء يجري في جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان فإنه نجس.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفرق بينهما ويقول الماء نجس في الأحوال كلها. وفي «المنتقى» : إذا كان يظن النهر نجساً، وهذه المسألة نظير مسألة «الطحاوي» و «النوازل» والله أعلم.
(نوع آخر) في الحياض والغدران والعيون
يجب أن يعلم أن الماء الراكد إذا كان كثيراً فهو بمنزلة الماء الجاري لا يتنجس جميعه بوقوع النجاسة في طرف منه إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. على هذا اتفق العلماء وبه أخذ عامة المشايخ، وإذا كان قليلاً فهو بمنزلة الحباب والأواني يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تتغير إحدى أوصافه. وقال مالك: لا يتنجس ما لم تتغير إحدى أوصافه. وقال الشافعي رحمه الله: فيما دون القلتين مثل قولنا، وإذا بلغ قلتين وزيادة مثل قول مالك.
والقلتان: خمس قرب كل قربة خمسون مناً فتكون الجملة مئتان وخمسون، وقد(1/92)
قيل الجملة ثلاثمئة. وحجة مالك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من النجاسات فقال عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» فالنبي عليه السلام نفى تنجس المياه إلا بتغير إحدى الأوصاف الثلاثة.
حجة الشافعي: قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثاً» . حجتنا على مالك قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم اليسير ولا يغتسلن فيه عن جنابة» ، والغسل عن الجنابة لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن الماء الراكد اليسير يتنجس بوقوع النجاسة فيه على كل حال وإلا لم يكن لهذا النهي معنى وفائدة. قال عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده» . أمر بغسل اليد بطريق الاحتياط حال توهم النجاسة، وإدخال مثل هذه اليد في الإناء لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن النجاسة إذا كانت متيقنة يتنجس الماء على كل حال وإلا لم يكن لهذا الاحتياط حالة التوهم معنى، ولأن القياس في الكثير أن يتنجس أيضاً لأن الجزء الذي لاقاه النجاسة يتنجس بملاقاة النجاسة إياه كما في غير الماء من المائعات وإذا تنجس ذلك الجزء والذي يجاوره ثم وثم حتى يصير الكل نجساً كما في غير الماء من المائعات لكن تركنا القياس في الكثير لأجل الضرورة لأن صون الكثير بالأواني غير ممكن والضرورة في القليل لأن صون القليل بالأواني ممكن فنعمل في القليل بالقياس وأما حديث بئر بضاعة فليس بثابت، ولو ثبت فهو محمول على أن ماءه كان كثيراً، أو كان جارياً فإنه روي أنه كان يُسقى منه خمسة بساتين أو سبعة بساتين.
وحجتنا على الشافعي أن رسول الله عليه السلام حكم بنجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة فيه وكذلك الصحابة أجمعوا على نجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة وفيه، ماء البئر في العادة تكون أكثر من مئتين وخمسين منّاً. وأما ما تعلق به الشافعي رحمه الله قلنا: لا يصح التعلق به من وجوه فإن في سنده ضعفاً، روي عن علي بن المديني إسناد البخاري أنه قال: لا يصح هذا الحديث عن رسول لله عليه السلام وفي متنه اضطراب، روي «إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً» وروي «إذا بلغ الماء أربعين قلة» ، والقلّة مجهولة تذكر ويراد بها قامة الرجل، وتذكر ويراد بها رأس الجمل وتذكر ويراد بها الجرة، فلا يتعين البعض إلا بدليل، وقوله «لا تحمل خبثاً» يحتمل معنيين. يحتمل ما قاله الشافعي، ويحتمل معنى(1/93)
(11ب1) الضعف، يعني لا يحتمل النجاسة لضعفه فيتنجس لقلته كما يقال: فلان لا يحتمل الضرب أي يضعف عن تحمل الضرب، وهذه الدابة لا تحتمل هذا الحمل أي لا تطيق حمله، فلا يصح التعليق ... ، وعن أبي يوسف في تأويل الحديث أن تكون عيناً تنبع وهو مقدار القلتين وهو جار ولها معان فتوضأ رجل.... فلا بأس به لأنه في معنى الماء الجاري.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: وقال بعض المتأخرين: الوضوء بالماء الراكد لا يجوز وإن كان عشراً في عشر أو أكثر منه، ووجه ذلك: أنا أجمعنا على أن الحوض إذا كان أقل من عشر فإنه لا يجوز التوضؤ فيه وإنما لا يجوز لأن بالاستنجاء يصير الماء نجساً لكونه قليلاً فيحصل الوضوء بالماء النجس.
وإذا كان عشراً في عشر فبالاستنجاء يتنجس من ذلك الجانب مقدار ما يتنجس إذا كان أقل من عشرة من ذلك الجانب، فيحصل التوضؤ بالماء النجس ولكن هذا ليس بشيء لأن فيه كلام أن النجاسة إذا كانت غير مرئية هل يتنجس موضع وقوع النجاسة وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى..
وإن سلمنا ذلك إلا أنه لا يطهر بالتحريك في حالة الاغتراف لأن الماء النجس يطهر بالاختلاط بالماء الطاهر، ألا ترى أن الماء الراكد في النهر إذا تنجس فنزل من أعلاه ماء طاهر وأجراه وسيّله فلا يطهر، وإنما يطهر باختلاط بالماء الطاهر، وبورود الماء الطاهر عليه فكذا هنا ما بقي من الماء طاهراً وارداً على ما تنجس توسعة الأمر على الناس.
ثم لابد من حد فاصل بين القليل والكثير فنقول: إذا كان الماء بحيث يخلص بعضه إلى بعض بأن تصل النجاسة من الجزء المستعمل إلى الجانب الآخر كان قليلاً، وإن كان لا يخلص كان كثيراً.
وإذا اشتبه الخلوص فالجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يخلص، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله في الكتب المشهورة بأن الخلوص يعتبر بالتحريك إذا حرك طرف منه إن لم يتحرك الطرف الآخر فهو مما لا يخلص، وإن تحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، فنستدل بوصول الحركة إلى الجانب الآخر على أن النجاسة وصلت إليه، وتقدم وصول الحركة على أن النجاسة لم تصل إليه، وهذا لأنه تقدر معرفة الخلوص بوصول عين النجاسة لأن من النجاسات مما لا يرى وصوله إلى الجانب الآخر كالبول والخمر فيعتبر الوصول بشيء آخر.
فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله اعتبروا الخلوص بالتحريك،(1/94)
والمتأخرون اعتبروا الخلوص بشيء آخر، فعن أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله أنه قال: إن كان الماء بحال لو اغتسل فيه وتكدّر الجانب الذي اغتسل فيه وصلت الكدرة إلى الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض، وأبو حفص الكبير رحمه الله اعتبر الخلوص بالصبغ فقال يلقى فيه الصبغ من جانب، فإن أثر الصبغ في الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض.
وأبو سليمان الجوزجاني رحمه الله كان يقول: إن كان عشراً في عشر فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، وإن كان أقل من ذلك فهو مما يخلص، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أنه سئل عن هذه المسألة فقال: إن كان مثل مسجدي هذا فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فلما قام مسح مسجده فكان ثمان في ثمان في رواية، وعشراً في عشر في رواية، واثني عشر في اثني عشر في رواية، وأكثر مشايخ بلخ على أنه إن كان خمسة عشر في خمسة عشر لا تبقى فيه شبهة، وإن كان ثمانية يحتاط فيه، وعامة المشايخ أخذوا بقول أبي سليمان وقالوا: إذا كان عشراً في عشر فهو كبير، وبعضهم اعتمدوا على التحريك لأنه تعذر اعتبار الكدرة والصبغ لأن في النجاسة ما (لا) يرى نحو البول والخمر، فيصل إلى الجانب الآخر قبل وصول اللون والكدرة إليه لأن قدر الصبغ يتفاوت، والكدرة قد تكون وقد لا تكون وتعذر اعتبار المساحة لأن الروايات فيه اختلفت عن محمد، وقد صح أنه رجع عنه فيعتبر التحريك.
بعد هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتبر التحريك بالاغتسال لأن حاجة الإنسان إلى الغسل في المياه الجارية والحياض أكثر من حاجته إلى الوضوء، فإن الوضوء يكون في البيوت غالباً.
وفي رواية أخرى عنه يعتبر التحريك بالوضوء لأن التحريك بالوضوء أخف، ومبنى الماء في حكم النجاسة على الخفة دفعاً للضرورة، فإن القياس أن يتنجس الكثير، ولكن سقط حكم النجاسة عن الكثير تخفيفاً فلما اعتبر التخفيف في أصل الماء كنّا نعتبر التخفيف في التحريك، وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر التحريك بغسل اليد لأن التحريك باليد أخف.
قال مشايخنا: وإنما يعتبر تحريك الجانب الآخر من ساعته لا بعد المكث، ولا يعتبر نفس التحرك وحباب الماء، فإن الماء وإن كثر يعلو الحباب ويتحرك، وإنما الشرط أن يرتفع وينخفض من الجانب الآخر من ساعته، وبنحوه روى الحسن عن أبي حنيفة.
جئنا إلى بيان مقدار العمق فنقول: ذكر المعلى في «كتابه» : أنه ينبغي أن يكون عمقه قدر ذراعين، وهذا على قول من يعتبر التحريك بالاغتسال لأن على قوله: ينبغي أن يكون الماء بحال يتأتى فيه الاغتسال وذلك قدر ذراعين. وقال بعضهم قالوا: اشترط أن يكون بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه لا ينحسر ولا يظهر ما تحته، وقال بعضهم: يشترط أن يكون بحال لو حُرك وجه الماء لا يتكدر ماء وجه الأرض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي بكر بن حامد رحمه الله أنه قال: قدّر مشايخنا العمق بأربعة أصابع مفتوحة.(1/95)
ثم الحوض إذا كان كبيراً بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض حتى وقع فيه نجاسة حتى لا يتنجس جميعه هل يتنجس شيء منه؟ فهذا على وجهين: أما إن كانت النجاسة مرئية أو غير مرئية.
فإن كانت مرئية لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من ناحية أخرى كما في الماء الجاري.
بعد هذا اختلف المشايخ قال بعضهم: يحرك الماء بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء والاستعمال فإن تحركت النجاسة لم يستعمل الماء من ذلك الموضع. وقال بعضهم: يتنجس حول البعرة مقدار حوض صغير وما رواه ظاهر.
وقال بعضهم: يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ وشرب منه. ويبنى على هذا ما إذا توضأ في بعضه فوجد في النجاسة بعدما فرغ من الوضوء.
وأما إذا كانت النجاسة غير مرئية بأن بال فيها إنسان واغتسل فيها جنب، حكي عن مشايخ العراق أنهم قالوا: لا فرق بين النجاسة المرئية وغيرها فإنما يجوز له التوضؤ من جانب آخر. ومشايخ بخارى ومشايخ بلخ رحمهم الله فرقوا بين المرئية وغيرها فقالوا: في غير المرئية يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة كما يتوضأ من الجانب الآخر بخلاف المرئية لأن الحوض الكبير بمنزلة الماء الجاري.
والجواب في الماء الجاري على هذا الوجه: إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة ويتوضأ من موضع آخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من أي جانب شاء، بدليل مسألة كتاب الأشربة وقد مرّ ذكرها.
وينبني على هذا ما إذا غسل وجهه في حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء في موضع الوقوع قبل التحريك. قالوا على قول أبي يوسف لا يجوز ما لم يتحرك الماء؛ لأن الذي وقع فيه الماء مستعمل، والماء المستعمل عنده نجس. وإلى هذا القول كان يميل القاضي الإمام أبو جعفر الاستروشني رحمه الله.
وغيره من مشايخ بخارى جوزوا ذلك وجعلوا كالماء الجاري الكثير لما توسعوا فيه لعموم البلوى.
ومن هذا الجنس مسألة أخرى وصورتها: إذا كانت به قرحة فغسل الدماء أو القيح فيها أو غسل النجاسة عن موضع من أعضائه أو ثوبه أو استنجى ودفع ذلك في الماء، أما إذا تغير الماء لا شك أنه يتنجس موضع التغير، وإن لم يتغير يدخل فيه شبهة (في) قول أبي يوسف رحمه الله.
وفي «أجناس الناطفي» أن من اغتسل من حوض فلا حرج أن يتوضأ في ذلك المكان، وليس لرجل أن يغتسل في الحوض الكبير بناحية الجيفة، وإذا كان الماء في ... أو خندق وله طول مثلاً مائة ذراع وعرضه ذراع أو ذراعان فاعلم بأن في جنس هذه المسألة أقوال ثلاثة، على قول أبي سليمان الجوزجاني يجوز التوضؤ منه. (12أ1) من غير تفصيل به ولو وقع فيه نجاسة يتنجس وطول عشرة أذرع. وقال محمد بن إبراهيم: الكبير إن كان هذا الماء مقدار ما لو جعل في حوض عرضه عشرة في عشرة ملأ الحوض(1/96)
وصار عمقه قدر شبر يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر طرخان يقول: لا يجوز الوضوء فيه وإن كان من بخارى إلى سمرقند، فقيل له فما الحيلة في جواز الوضوء منه، قال يحفر حفيرة قريباً من الخندق ثم يحفر نهيرة من الخندق إلى الحفرة حتى يسيل الماء من الخندق إلى الحفيرة في النهيرة فيصير الماء في الخندق جارياً فيتوضأ إن شاء من الخندق وإن شاء من النهيرة وهذه حيلة حسنة.Y
الحوض الكبير إذا تجمد فثقب إنسان ثقباً فتوضأ فهذه المسألة على أربعة أوجه:
الوجه الأولى: أن يخرج الماء من الثقب وصار على وجه الجمد والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان على وجه الأرض من اعتبار العرض والطول والعمق.
الوجه الثاني: أن يكون الماء تحت الجمد منفصلاً عن الوجه وفي هذا الوجه يجوز التوضؤ منه ويكون الجمد كالسقف.
الوجه الثالث: أن يكون الماء تحت الجمد إلا أنه متصل بالجمد، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم اعتبروا الثقب وقالوا: إن كان ماء الثقب كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به، وما لا فلا، وبعضهم اعتبروا جملة الماء وقالوا: إذا كان جملة الماء كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به وما لا فلا، وبه كان يفتي عبد الله بن المبارك والشيخ الإمام الزاهد أبو حفص البخاري رحمهما الله.
وعلى هذا جملة التوابيت التي في المشارع، فعند بعض المشايخ يعتبر جملة الماء، وعند بعضهم: بقية ماء التوابيت إذا كان الماء متصلاً بالألواح، واتصال ماء المشرعة بالماء الخارج منها لا ينفع كحوض كبير شعب منه حوض صغير فإنه لا يجوز التوضؤ من الحوض الصغير، وإن كان ماء الحوض الصغير متصلاً بماء الحوض الكبير، وكذلك لا يعتبر اتصال المشرعة بما تحتها إذا كانت الألواح مشدودة. وإن كان الماء أسفل من الألواح المشرعة قلنا: يجوز التوضؤ.
والزندويستي رحمه الله اعتمد على الجواز في مسألة الجمد في هذه الصورة ولكن شرط تحريك الماء في كل مرة برفع الماء.
الوجه الرابع: أن يكون الماء في الثقب كالماء في الطست، ذكر الزندويستي في «نظمه» : أن التوضؤ منه لا يجوز عند عامة العلماء إلا إذا كان الثقب عشراً في عشر بأن يتنجس الماء الذي في الثقب ثم ذاب الجمد ذكر هذا الفصل في «فوائد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» ، وذكر أن الماء طاهر، وعن أبي يوسف رحمه الله في مشرعة يدخل فيها الماء ويخرج إلا أنه لا تظهر حركة الماء أنه هل يجوز التوضؤ فيها؟ وإن كان الماء لا يذهب كما وقع من يده ويدور فيها فلا خير فيه.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: لو توضأ في أعمدة القصب، فإن كان لا يخلص بعضها إلى بعض جاز، قال: واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء بالماء، وكذا لو توضأ من أرض فيها زرع وبعض الزرع متصل بالبعض يجوز. وإذا توضأ من غدير وعلى جميع وجه الماء ... فقد قيل: إن كان بحال لو حرك يتحرك الماء يجوز.(1/97)
إذا توضأ في حوض تجمد ماؤه إلا أنه رقيق ينكسر بتحرك الماء جاز وضوءه فيه، وإن كان الجمد على وجه الماء قطعا قطعاً؛ إن كان كثيراً لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء به، وإن كان قليلاً يتحرك بتحرك الماء يجوز الوضوء به، بمنزلة ما لو كان على وجه الماء عود لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء فيه، وإن كان يتحرك يجوز.
الحوض إذا كان أقل من عشر في عشر لكنه عميق فوقعت فيه النجاسة حتى تنجس ثم انبسط وصار عشراً في عشر فهو نجس لأن النجس لا يطهر بالانبساط والتفرق.
ولو وقعت فيه النجاسة وهو عشر في عشر ثم اجتمع الماء فصار أقل من عشر في عشر فهو طاهر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
وفيه أيضاً: حوض هو عشر في عشر قل ماؤه ووقعت فيها نجاسة حتى تنجس ثم امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيء لا يجوز التوضؤ به، لأنه كلما دخل الماء تنجس.
وفي «الجامع الصغير» : سئل أبو نصر الدبوسي عن غدير كبير لا يكون فيه ماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يمتلىء في الشتاء ويرفع عنه الناس الجمد ويتوضؤون منه قال: إن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان نجس فالماء والجمد نجس وإن كثر الماء بعد ذلك لأنه كلما دخل صار نجساً فلا يطهر بعد ذلك وإن كان كثيراً.
وإن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان طاهر ويستقر فيه حتى يصير عشراً في عشر ثم انتهى إلى النجاسة فالماء والجمد طاهران لأن الماء صار كثيراً قبل وصوله إلى النجاسة، والماء الكثير لا يتنجس باتصال النجاسة به ما لم يظهر فيه أثر النجاسة. وكذلك الغدير إذا قلّ ماؤه وصار أربعاً في أربع ووقعت فيه نجاسة ثم دخل الماء بأن صار الداخل عشراً في عشر قبل أن يصل إلى النجاسة فهو طاهر وما لا فلا.
وفي «نظم الزندويستي» الحوض الكبير الخالي إذا بال فيه صبي أو تغوط ثم جاء الماء وملأه قال أكثر أهل بلخ وأبو سهل الكبير البخاري: الماء نجس، وقال الفقيه أبو جعفر والفقيه إسماعيل بن الحسن الزاهد البخاري: الماء طاهر ويجعل كأنه بال أو تغوط بعد ما قلّ. قال الزندويستي: وبه أخذ مشايخ بخارى، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد ألف مرة وقعت واقعة من هذا الجنس في زماننا ببخارى.
وصورتها: ماء المطر مرّ على النجاسات واجتمع بعد ذلك ودخل حوض خان وهو حوض كبير وماء المطر كان أكثر من ماء الحوض واتفقت أجوبة المفتين أن ماء الحوض لا يتنجس؛ لأن جميع ماء المطر لا يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة وإنما يتصل بدفعات وكل دفعة تتصل بماء الحوض، فماء الحوض غالب عليها فلا يتنجس ماء الحوض بها حتى لو صغرت يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة أكثر من ماء الحوض يتنجس ماء الحوض إذا كان أعلاه عشرة في عشرة، وأسفله أقل من ذلك وهو ماء يجوز التوضؤ والاغتسال فيه.
وإن نقص الماء حتى صار سبعاً في سبع لا يجوز التوضؤ منه وإن كان دون العشر(1/98)
أن يكون حوله ثمانية وأربعون ذراعاً لأن هذا أقصى ما قالوا فيه فكان أحوط.
والمعتبر عند بعض من اعتبر التقدير بالذراع في الحوض ذراع الكرباس، لا ذراع المساحة توسعة للأمر على المسلمين وعند بعضهم: المعتبر ذراع المساحة لأن هذا من الممسوحات، وذراع المساحة في الممسوحات، والأصح أن يقال: يعتبر في حق أهل كل زمان ومكان ذراعهم.
فإذا كان أعلى الحوض أقل من عشر في عشر وأسفله عشر في عشر أو أكثر ووقعت نجاسة في أعلى الحوض حكم بنجاسة الأعلى ثم انتقص الماء وانتهى إلى موضع هو عشر في عشر فتوضأ فيه إنسان أو اغتسل هل يجوز؟ صارت هذه المسألة واقعة الفتوى واختلفت فيه أجوبة المفتين، والأصح أنه يجوز التوضؤ والاغتسال فيه ويجعل كأن النجاسة وقعت فيها الآن.
وهو نظير الحوض المتجمد إذا كان الماء في ثقبه وبقيته أقل من عشرة في عشرة فوقع في الثقب نجاسة حكم بنجاسة ماء الثقب، ثم إذا سفل الماء كان ذلك الماء طاهراً يجوز التوضؤ، والاغتسال منه كذا هنا.
حوض صغير تنجس ماؤه فدخل الماء الطاهر فيه من جانب وسال ماء الحوض من جانب آخر كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: كما سال ماء الحوض من جانب لآخر يحكم بطهارة الحوض، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله. وكان الفقيه أبو بكر بن سعد رحمه الله يقول: لا يحكم بطهارة الحوض حتى يخرج منه ثلاث مرات مثل ما كان في الحوض من الماء النجس، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، ومن المشايخ من شرط خروج مثل ما كان في الحوض من الماء النجس مرة واحدة.
حوض صغير يدخل الماء فيه من جانب ويخرج من جانب فتوضأ فيه إنسان، ذكر في «مجموع النوازل» عن الإمام أبي الحسن الرستفضني أنه قال: إن كان أربعاً في أربع فما دونه يجوز التوضؤ فيه، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز إلا في موضع دخول الماء وخروجه، لأن في الوجه الأول ما يقع فيه من الماء المستعمل يخرج من ساعته ولا يستقر فيه ولا كذلك الوجه الثاني. وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه سئل عن الماء. إذا كان خمساً في خمس وكان يخرج الماء منه قال: إن كان يتحرك الماء من جوانبه ويستفيض بالحركة يجوز، وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله عن هذه المسألة وأجاب بالجواز مطلقاً. ففي الحوض الصغير (12ب1) إن كان يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يكون هكذا لأن هذا ماء جار، والماء الجاري يجوز التوضؤ به وعليه الفتوى.
وإذا كان على شط النهر أو على شط الحوض مسيل لغدير يدخل فيه الماء من الحوض أو النهر والماء الذي فيه متصل بماء الحوض والنهر، إلا أن جريان الحوض لا يظهر فيه، فتوضأ رجل في ذلك الموضع، إن كان مقدار ما فيه من الماء من حيث الطول يبلغ ذراعين ونصف لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل ذلك تبعاً للحوض، وإن كان أقل من(1/99)
ذلك يجوز ويجعل ذلك تبعاً للحوض والنهر هكذا قيل. وقيل: لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل تبعاً للحوض والنهر على كل حال.
حوض صغير كرى رجل منه نهراً وأجرى الماء فيه وتوضأ، ثم اجتمع ذلك الماء في مكان آخر فكرى منه رجل نهراً آخراً وأجرى فيه الماء وتوضأ جاز وضوء الكل إذا كان بين المكانين قليل مسافة وكذلك حفرتان يخرج الماء من إحداهما ويدخل في الأخرى فتوضأ إنسان فيما بينهما، فإن كان بين الحفرتين قليل مسافة فماء الحفرة الثانية طاهر، هكذا قال خلف بن أيوب ونصر بن يحيى، وإن لم يكن بينهما مسافة فماء الحفرة الثانية نجس. وكذلك في الحوض إذا لم يكن بين المكانين مسافة لا يجوز وضوء الثاني.
والفرق: أنه إذا كان بين المكانين مسافة فالماء الذي استعمله الأول يرد عليه ماء جار قبل اجتماعه في المكان الثاني فلا يظهر فيه حكم الاستعمال، فأما إذا لم يكن بينهما مسافة فالماء الذي استعمله الأول لا يرد عليه ماء جار قبل أن يجتمع في المكان الثاني فيظهر فيه حكم الاستعمال فلا يطهر بعد.
وعلى قياس مسألة الثقب ينبغي أن تشترط المسافة على قول بعض المشايخ. وصورة تلك المسألة: المسافر إذا كان معه ميزاب واسع ومعه إداوة من ماء يحتاج إليه ولا يتيقن وجود الماء لكنه على طمع من ذلك ماذا يصنع؟ قيل: ينبغي أن يأمر أحداً من رفقائه حتى يصب الماء في طرف من الميزاب وهو يتوضأ، وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء طاهر يجتمع فيه الماء فإنه يكون الماء طاهراً وطهوراً.
هذا قول بعض المشايخ، وبعض المشايخ رفضوا ذلك وقالوا: الماء بالجري إنما لا يصير مستعملاً إذا كان له مدد العين والنهر وما أشبههما أما إذا لم يكن له مدد فلا، ويجوز للرجل أن يتوضأ من الحوض الذي يخاف أن يكون فيه قذر أو لا يستيقن به قبل أن يسأل عنه وليس عليه أن يسأل. ولا يدع التوضؤ حتى يستيقن أن فيه قذر للأثر.
وإذا أسِن ماء الحوض وهو كثير ولا يعلم بوقوع النجاسة فلا بأس بالتوضؤ منه لأن الماء قد يتغير بطول الزمان، وقد يتغير بوقوع الأوراق فيه فالتغير لا يدل على وقوع النجاسة فيه لا محالة، فيجوز التوضؤ منه والله أعلم.
(نوع آخر) في ماء الآبار
البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير يفسد ماؤه بما يفسد به ماء الحوض الصغير لأن عرض الآبار في الغالب يكون أقل من عشر في عشر حتى لو كان بئراً عرضه عشرة في عشرة لا يحكم بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير لون الماء أو طعمه أو أثره.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله أنه قال: اجتمعت أنا وأبو يوسف على أن نحكم على ماء البئر أنه لا يتنجس لأنه ماء جار ثم قلنا: وما علينا أن نأمر بنزح دلاء على ما جاءت به الأخبار حتى نتبع السلف فنكون قد حكمنا فيه بالأمرين. أشار إلى أن قضية القياس بالآبار والآبار تأتي من بعد، وإنما جاء ماء آخر جار لأنه ينبع من جانب ويستخرج من جانب.(1/100)
وقيل: وأرادا بقولهما ماء جار ماء أُلْحق بالماء الجاري حكماً لأجل الضرورة لأن التحرز عن وقوع النجاسة في البئر غير ممكن.
ثم ما يقع في البئر نوعان: نوع لا يفسد الماء، وهذا النوع في نفسه قسمان: قسم يستحب فيه نزح بعض الماء، وقسم لا يستحب فيه نزح شيء من الماء.
أما القسم الذي لا يستحب فيه نزح بعض الماء: الآدمي الطاهر، إذا دخل في البئر لطلب الدلو أو للتبرد وليس على أعضائه نجاسة وخرج منها حياً وهذا جواب ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزح عشرون دلواً ويريد به بطريق الاستحباب لأن الماء يلاقي أعضاء الطهارة. وذلك يوجب استعمال الماء لو قصده، واعتبر هذا في إيجاب نزح أدنى ما ورد التقدير بنزحه، وذلك عشرون احتياطاً. وإن كان محدثاً ينزح أربعون لأن الحدث يزول به فصار حكمه أكثر من حكم المتطهر فضوعف في النزح فصار أربعين.
وكذلك سائر الجمادات الطاهرة كالخشب الطاهر والحجر الطاهر والمدر الطاهر وأشباهها لا يفسد الماء ولا يستحب نزح شيء منه. وكذلك كل حيوان طاهر السؤر، وما ينفصل عنه نحو الحمام وما أشبهه إذا وقع فيه وأُخرج حيّاً لا ينزح منه شيء.
وأما القسم الذي يستحب فيه نزح بعض الماء:
إذا وقع في البئر فأرة أو عصفور أو دجاجة أو سنور أو شاة وأخرجت منها حيّة لا ينجس الماء. ولا يجب نزح شيء منه، وهذا استحسان لأن هذه الحيوانات ما دامت حيّة فهي طاهرة. والقياس أن يتنجس البئر بوقوع واحد من هذه الحيوانات فيه وإن أخرج حياً لأن سبيل هذه الحيوانات نجس فتحل النجاسة في الماء فيوجب تنجس الماء، لكن تركنا القياس لحديث رسول الله عليه السلام. وآثار الصحابة فإنهم لم يعتبروا نجاسة السبيل حتى يأمروا بنزح بعض ماء البئر بعد موت الفأرة ولو اعتبروا نجاسة السبيل لأمروا بنزح جميع الماء، ولكن مع هذا إن كان الواقع فأرة يستحب لهم أن ينزحوا عشرين دلواً. وإن كان الواقع سنوراً أو دجاجة مخلاة يستحب لهم أن ينزحوا أربعين دلواً؛ لأن سؤر هذه الحيوانات مكروه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والغالب أن الماء يصيب فم الواقع حتى لو تيقنا أن الماء لم يصب فم هذه الحيوانات لا ينزح شيء من الماء، فإن كانت الدجاجة غير مخلاة لا ينزح منها شيء. هذا الذي ذكرنا كلّه ظاهر الرواية.
وفي «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله في مسألة الشاة روايتان. في رواية قال: لا ينزح منه شيء كما هو جواب ظاهر الرواية. وفي رواية قال: ينزح ماء البئر كلّه، وعلق لهذه الرواية فقال: لأن البول الذي يجري على فخذيها ورجليها فيها، فكان المراد من الرواية الأخرى ومن ظاهر الرواية: إذا لم يكن على فخذيها ورجليها بول.
وفي «القدوري» : الشاة التي تلطخ فخذها ببولها إذا وقعت في البئر قال أبو حنيفة رحمه الله: ينزح عشرون دلواً لأن نجاسة بولها خفيفة توجب إظهار الحرمة في إيجاب(1/101)
نزح أدنى ما ورد التقدير به، وقال أبو يوسف: تنزح جميعها لأن أثر حرمة النجاسة يظهر في الثوب دون الماء، ألا ترى لو وقع فيه فرس فأخرج حياً فعلى قولهما لا ينزح شيء منها لأن عينه طاهر عندهما وسؤره كذلك. وعلى قول أبي حنيفة ينزح منها دلاء بطريق الاستحباب لأنه طاهر في نفسه وهو لا يلطخ فخذه ببوله إلا أن سؤره مكروه على إحدى الروايتين عنه فينزح دلاء لهذا، ثم في كل موضع كان النزح مستحباً لا ينقص من عشرين دلواً، إليه أشار محمد رحمه الله في «النوادر» برواية إبراهيم عنه.
وصورة ما ذكر في «النوادر» فأرة أو هرة أو دجاجة مخلاة وقعت في بئر فأخرجت منها حيّةً قال: إن توضأ منه أجزأه وأحب إليّ أن ينزح منها عشرون دلواً، ثم قال: ولا يكون النزح في شيء من الأشياء أقل من عشرين دلواً. فقد قدّر النزح في هذه المسألة بعشرين دلواً. والنزح في هذه المسألة بطريق الاستحباب ثم عطف عليه قوله:
ولا يكون النزح في شيء أقل من عشرين دلواً، فيعلم بدلالة الحال أنه أراد بقوله ولا يكون النزح أقل من عشرين النزح المستحب. وقال أبو يوسف رحمه الله: النزح الواجب لا يكون أقل من عشرين، أما النزح المستحب يكون أقل من عشرين، ولا يكون أقل من عشرة، ألا ترى أنه قال في السّنور ينزح عشر دلاء أو نحو ذلك بطريق الاستحباب (13أ1) .
النوع الثاني: وهو الذي يفسد ماء البئر أقسام. قسم يفسد جميع ماء البئر لا محالة، وقسم يفسد جميع ماء البئر على أحد الاعتبارين، وقسم فيه اختلاف، وقسم يفسد بعض الماء.
أما القسم الأول: فسائر النجاسات، نحو بول الآدمي ورجيعه، وبول ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات على الاتفاق، وبول ما يؤكل لحمه على الخلاف. وسيأتي بيان النجاسات بعد هذا في فصل على حدة، وكذلك إذا وقع فيه خمر أو ما سواها من الأشربة التي لا يحل شربها وكذلك إذا وقع فيه خنزير أو سبع وجب نزح جميع الماء.
وكذلك لو دخل في البئر جنب أو محدث لطلب الدلو وعلى أعضائه نجاسة بأن لم يكن مستنجياً أو كان مستنجياً بالخذف ينزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع كافر في البئر وأخرج حيّاً نزح ماء البئر كلّه. ذكره في «كتاب الصلاة» للحسن.
وكذلك السقط إذا وقع في البئر قبل الغسل أو بعده ينزح ماء البئر كله، وذكر ابن رستم في السقط كذلك وفيما استهل قبل الغسل كذلك. وذكر فيما استهل بعد الغسل أنه لا يفسد الماء.
وفي «فتاوى أبي الليث» عن أبي القاسم الصفار: في الإنسان الميّت وقع في البئر يفسد الماء غسل أو لم يغسل. وكذلك إذا وقع شيء من الحيوانات في البئر ومات وانتفخت يجب نزح ماء البئر كله لأنه ينفصل منه بلّة نجسة وتلك البلّة مائعة. ومتى وقع في البئر نجس مائع وجب نزح ماء البئر كله لأن النجاسة تصير مجاورة للماء كله فيجب إخراج الكل، كما لو وقع فيه قطرة من خمر أو بول.
وعن هذا قلنا: لو وقع ذنب الفأرة في البئر يجب نزح جميع الماء، لأنها لا تخلو(1/102)
عن بلة وتلك البلّة بانفرادها، لو وقعت في الماء وجب نزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع فيها آدمي طاهر ومات فيها، يجب نزح ماء البئر كلّه انتفخ أو لم ينتفخ. فقد روي أنه وقع زنجي في ماء زمزم ومات فأمر عبد الله بن عباس بأن تُسدّ منابع الماء وينزح جميع الماء.
وكذلك لو كان الواقع في البئر شاة أو كلب ومات وانتفخ أو لم ينتفخ، وجب نزح الماء كله، لأن جثة الشاة والكلب تعدل جثة الآدمي وقد ورد الأثر الآدمي بنزح جميع الماء، وكذلك إذا كان الواقع بغل أو حمار أو فرس ومات وانتفخ أو لم ينتفخ ينزح جميع الماء.
القسم الثاني
الحمار والبغل إذا وقع في البئر وأخرج قبل أن يموت، فإن أصاب الماء فمه ينزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه لا يجب نزح شيء لأن سؤرهما مشكل فيصير ماء البئر باتصاله بسؤرهما بمنزلة سؤرهما.
القسم الثالث
الكلب إذا وقع في الماء فأخرج حيّاً؛ إن أصاب فمه الماء فهو من جملة القسم الأول يجب نزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه الماء فعلى قولهما يجب نزح جميع الماء لأن عين الكلب نجس عندهما حتى قالا: إذا وقع الكلب في ماء وخرج وانتفض فأصاب ثوباً أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه. وعن أبي حنيفة رحمه الله في «الكتاب» إذا وقع في الماء ثم خرج حيّاً أنه لا بأس به، وهذه إشارة إلى أن عين الكلب ليس بنجس.
وقال أيضاً: في كلب وقع في ماء وخرج حيّاً، فاعجنوا منه فلا بأس بذلك، هكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي «الجامع الأصغر» إذا وقع الكلب في البئر لم يتنجس الماء. وقال غيره: يتنجس.
وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : كلب مشى على الثلج فوضع إنسان رجله على ذلك الموضع أو جعل ذلك الثلج في المثلج فإن لم يكن رطباً ويقال بالفارسية أن تاك لا بأس به، وإن كان رطباً فهو نجس لأن عينه نجس، وكذا إذا مشى على طين وردغة فوضع إنسان رجله على أثر رجله تنجس رجله لأن عينه نجس.
وفيه أيضاً: الكلب إذا دخل الماء ثم خرج وانتفض فأصاب ثوب إنسان أفسده، ولو أصابه ماء مطر وباقي المسألة بحالها لم يفسده لأن في الوجه الأول الماء أصاب جلده وجلده نجس، وفي الوجه الثاني: أصاب شعره وشعره ليس بنجس. وذكر مسألة المطر في موضع آخر وفصلها تفصيلاً فقال: إن أصاب المطر جلده يمنع جواز الصلاة وإن لم يصب جلده لا يمنع جواز الصلاة.
القسم الرابع
إذا ماتت فأرة أو عصفور في بئر فأخرجت حين ماتت قبل أن تنتفخ فإنه ينزح منها عشرون دلواً إلى ثلاثين بعد إخراج الفأرة، والعشرون على سبيل الحتم، والزيادة على(1/103)
سبيل الاحتياط. ولو توضأ بماء البئر إنسان قبل نزح العشرين لا يجوز، وكان يجب أن يجوز التوضؤ به بعد إخراج الفأرة إذا لم تكن قد انتفخت؛ لأن الماء بوقوع النجاسة فيه، إنما تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة أجزاء الماء وإذا أخرجت الفأرة من ساعته لم يبق من أجزائها في الماء شيء، فكان يجب أن لا يحكم بنجاسة الماء متى أخرجت وهي ميتة كما لا يحكم بنجاسته متى أخرجت وهي حيّة إلا أنا تركنا القياس بالآثار.Y
روى القاضي الإمام أبو جعفر والفقيه أبو علي الحافظ بإسنادهما عن رسول الله عليه السلام أنه قال في الفأرة: «إذا وقعت في البئر فماتت فيه فأخرجت من ساعته أنه ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون» . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة إذا وقعت في البئر فماتت فيها فأخرجت: ينزح منها سبع دلاء، وفي رواية ينزح منها دلاء ولا يفسد بئر في هذه الرواية.
وفي رواية ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون، وفي رواية ينزح منها ثلاثون دلواً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الفأرة إذا وقعت في البئر وماتت فيها إنه ينزح منها أربعون دلواً فتركنا القياس بهذه الآثار. والسلف اتفقوا على هذا أيضاً فتركنا القياس اتباعاً لقولهم أيضاً.
وقد روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في الفأرة تموت في البئر فأخرجت من ساعته، فاتفق رأينا أنه لا يجب نزح شيء بعد إخراج الفأرة إلا أنا حكمنا بنجاسة الماء بالآثار، أشار إلى أنه ترك القياس بالآثار وأقوال السلف، ثم إنما قدرنا بالعشرين لأنها أوسط الأعداد التي ذكرت في الآثار، والقياس بعد ما جرى الحكم بنجاسة البئر أحد الشيئين.
أمّا ما قاله بشر أنه يطم البئر طماً ويحفر في موضع آخر، ولا يحكم بطهارته بالنزح لأنه يتقاطر من الدلو في البئر وتلك القطرات نجسة فوجب تنجس الماء ولأن غاية ما في الباب أنه ينزح جميع الماء ويبقى الطين والحجارة نجساً ولا يمكن كنسه ليغسل فيطم لهذا وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه ينبغي أن يحكم بطهارة الماء إذا نزح منها دلو واحد أو اثنين أو ثلاثاً؛ لأنه كلما نزح من أعلاه يبقى في أسفله فيصير بمعنى الماء الجاري لكن تركنا كلا القياسين اتباعاً للآثار ولأقوال السلف على نحو ما بيّنا وهو معنى ما ذكر ابن رستم في «نوادره» لا يؤخذ في البئر شيء من القياس. ونوع من المعنى يدل على الفرق بين الماء الجاري والذي لا يخلص بعضه إلى بعض وبين ماء البئر: أن الشيء إذا أصابته النجاسة لا يحكم بطهارته إلا بإزالة النجاسة عن الموضع الذي أصابته كما في غير الماء، إلا أنه لا يمكن اعتبار حقيقة الإزالة في الماء فتعتبر الإزالة بقدر الإمكان، فقيل: متى كان الماء جارياً ورد الطاهر على النجس وأزالها عن موضعها، فحكم بالطهارة بطريق زوال النجاسة بقدر الإمكان، وكذلك في الماء الذي لا يخلص بعضه إلى بعض فالطاهر اعتبرو(1/104)
على النجس، لأن الجانب الذي وافته النجاسة إن يتنجس بالجانب الآخر بقي طاهراً، فيرد على هذا الماء النجس ماء طاهر فيطهر بإزالة النجاسة عن موضعها، فكان هذا قولاً بإزالة النجاسة عن الماء بعد ما تنجس بقدر الإمكان.
ولا يمكن اعتبار هذا المعنى في البئر لأن ماء البئر لا يرد عليه ماء طاهر لأن جوانب البئر قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، فلا يمكن اعتبار الإزالة عن موضع الإصابة إلى موضع آخر لم يصبه، فاعتبرت الإزالة بالإخراج من الوجه الذي ورد به الأثر.
ثم جعل في «الكتاب» العصفور بمنزلة الفأرة لأنه في الجثة مثل الفأرة، فالتقدير الوارد في الفأرة يكون وارداً في العصفور.
وإن كان الواقع في البئر سنوراً أو دجاجة فأخرجت ساعة ما ماتت ينزح أربعون (13ب1) أو خمسون، في «ظاهر الرواية» أربعون على طريق الحتم والإيجاب، وخمسون على طريق الاستحباب لأن السنور يعدل الدجاجة في الجثة وقد ورد الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الدجاجة تموت في البئر أنه ينزح أربعون دلواً فيكون وارداً في السنور دلالةً.
ففي «ظاهر الرواية» جعل جنس هذه المسائل على ثلاث مراتب: بعضهم أوجب نزح عشرين دلواً إلى ثلاثين، وذلك العصفور والفأرة وأشباههما، وفي بعضهما أوجب نزح ماء البئر كلّه وذلك في الشاة والآدمي، وفي بعضها يجب نزح أربعين دلواً أو خمسين وذلك السنّور والدجاجة ونحوهما.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله جعل جنس هذه المسائل على مراتب ثلاث ما ذكرنا والرابعة أوجب في الفأرة التي هي صغيرة الجثة وفي.... عشر دلاء والخامسة أوجب في الحمامة نزح ثلاثين دلواً.
وإذا وقع في البئر بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم فأخرجت قبل التفتت لم يتنجس البئر وإن أخرجت بعد التفتت تنجس البئر وهذا استحسان والقياس أن يتنجس البئر على كلّ حال لأن هذه نجاسة وقعت في ماء قليل فتنجسه كما لو وقعت في وعاء ووعاء الماء قليل.
وللاستحسان وجهان: أحدهما: الضرورة والبلوى بيان ذلك أن آبار الفلوات ليس لها روشن حاجز والإبل والغنم تسقى بها فتبعر حولها فتسقط في البئر أو الرياح تلقيها في البئر، فلو حكمنا بالنجاسة لضاق الأمر على الناس.
والثاني: أن البعر شيء صلب متماسك لا يمازج الماء منه شيء، والمشايخ فيما بينهم اختلفوا منهم من اعتبر الوجه الأول ومنهم من اعتبر الوجه الثاني.(1/105)
وأما سائر الأوعية فعلى الوجه الأول نجسه لأنه لا ضرورة ولا بلوى في سائر الأوعية، وعلى الوجه الثاني لا تنجسه لأن كونه صلباً لا يختلف. وإذا خرج من الجب بعرة فعلى الوجه الأول يحكم بنجاسته وعلى الوجه الثاني لا يحكم بنجاسته. وأما إذا كان الواقع نصفاً فعلى الوجه الأول لا ينجسه لأن البلوى والضرورة لا تفصل بين الصحيح والنصف وعلى الوجه الثاني ينجسه لأن الماء تداخل أجزاؤه من الجانب الذي انكسر.
وأما إذا كان البعر رطباً فنقول: في «ظاهر الرواية» لم يفصل بين الرطب واليابس وكأن في «ظاهر الرواية» اعتبر الوجه الأول لأن الريح الشديد يقوى على نقل الرطب وعليه كثير من المشايخ، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أن الرطب بعيد وكأنه لم يعتبر الضرورة والبلوى في اليابس على هذه الرواية إنما اعتبر الوجه الثاني وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ.
ووجه هذه الرواية: أن الرطوبة تمزج بالماء وتلك الرطوبة نجسة وهذا القائل يقول: بأن الرطوبة التي على البيضة والسخلة نجسة إلا أنها إذا يبست طهرت، ومن اعتبر الوجه الأول في البعرة إذا كانت يابسة يقول: البلة التي على الرطبة طاهرة لأنها بلة الأمعاء وهذا القائل يقول: البلة التي على السخلة والبيضة طاهرة، وهذا كله إذا كانت البئر في المفازة.
فأما إذا كانت في المصر فقد اختلف المشايخ فيه فمن اعتمد على الوجه الأول يقول: نجسة لأنه لا ضرورة ولا بلوى في الأمصار لأن الآبار في الأمصار لا تخلو عن حاجز حولها فلا يقع فيها شيء ومن اعتمد على الوجه الثاني يقول: لا تنجسه، لأن الوجه الثاني لا يوجب الفصل بين المصر والمفازة، وهذا كلّه إذا كان البعر قليلاً.
وأما إذا كان كثيراً فإنه ينجس الماء لأنه لا ضرورة في الكثير.
وقد اختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القليل والكثير، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن ما استكثره الناس فهو كثير وما استقلّه الناس فهو قليل، وعن محمد رحمه الله أنه إن كان بحال يأخذ ربع وجه الماء كان كثيراً، وإن كان أقل من ذلك فهو قليل، ومن المشايخ من قال: إن كان بحال لو جمع يأخذ ثلث وجه الماء فهو كثير وما دونه قليل، ومن المشايخ من قال: إن أخذ وجه جميع الماء فهو كثير، ومنهم من قال: إن كان لا يخلو دلو عن بعرة فهو كثير، وإن كان يخلو فهو قليل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» روث الحمار وخثي البقر، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: ينجسه على كل حال، يريد به قليلاً كان أو كثيراً، رطباً كان أو يابساً، وقال بعضهم: إن كان من روث الحمار شيئاً مدور مستمسكاً فهو والبعر سواء، وكذلك إن كان من خثي البقر شيئاً صلباً مستمسكاً فهو والبعر سواء.
وأكثر المشايخ على أنه تعتبر فيه الضرورة والبلوى إن كان فيه ضرورة وبلوى لا يتنجس، وإن لم يكن فيه ضرورة وبلوى يتنجس.(1/106)
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في روثة رطبة وقعت في بئر قال: ليستقى منها عشرون دلواً، وإن وقعت وهي يابسة فابتلت وتفرقت فكذلك، وإن أخرجت يابسة فلا شيء وعن الحسن بن زياد رحمهما الله في السرقين والبعر والأخثاء إذا وقع في الماء لم يتوضأ منه وهو قول أبي يوسف ما خلا البعرة اليابسة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله في اليابس من البعر يقع في الإناء أو البئر لا بأس به إذا كانت واحدة أو اثنتين، وإن كان كثيراً أفسد، وإن كان رطباً فقليله وكثيره يفسد، وهذه الرواية توافق ما ذكرنا من رواية أبي يوسف.
والسرقين قليله وكثيره يفسد. وقال أبو يوسف رحمه الله: إلا أني استحسن شيئاً لا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان يسيراً لا يفسده. وعن ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الأبعار الرطبة وبول ما يؤكل لحمه: إذا وقع في البئر يفسد الماء.
وإذا حلب شاة أو ضأناً فوقع بعره في المحلب حكي عن المتقدمين من المشايخ أنهم توسعوا في ذلك، إذا رمي من ساعته، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» والمتأخرون اختلفوا فيه.
وإذا وقع في البئر خرء الحمام أو خرء العصفور لا يفسده، وهذا مذهبنا لما روي عن ابن مسعود رضي الله أنه ذرق عليه حمامة فأخذ حصاة ومسح بها وصلى ولم يغسل، وهكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأن هذا الحيوان يذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه.
وهنا لو جعلناه مانعاً جواز الصلاة ضاق الأمر على الناس وبهذا الحرف يقع الفرق بين خرء هذه الحيوانات وبين خرء الدجاج لأن الدجاج لا يذرق من الهواء، فيمكن التحرز عن خرئه فلو جعلناه مانعاً جواز الصلاة لا يضيق الأمر عن الناس.
وأما خرء البط فقد ذكر القاضي صدر الإسلام رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلاة أن البط صنفان: صنف يعيش فيما بين الناس ولا يطير كالدجاج فيمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الدجاج.
وصنف لا يعيش فيما بين الناس ويطير ويذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الحمام والعصفور.(1/107)
ولو وقع في البئر أكثر من فأرة واحدة فالمروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح عشرون دلواً إلى الأربع. فإذا كانت خمساً ينزح أربعون إلى التسع، فإذا كانت عشراً ينزح ماء البئر كلّه. وعن محمد رحمه الله: أن الفأرتان كفأرة والثلاث كالحمامة.
وإذا توضأ رجل في بئر وصلى إماماً ثم وجد فيها فأرة ميتة أو دجاجة ميتة فإن علم وقت وقوعها يعيد الوضوء والصلاة من ذلك الوقت بالإجماع؛ لأنه علم أنه صلى بغير وضوء، والصلاة بغير وضوء لا تجوز. أما إذا لم يعلم وقت وقوعها فالقياس أن لا يجب عليه إعادة شيء من الصلاة ما لم يتيقن أنه توضأ منها وهو فيها، سواء وجدها منتفخة متفسخة أو لا. وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلا أن حنيفة رحمه الله استحسن وقال: إن وجدها منتفخة متفسخة يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وإن وجدها غير منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة.
قال بشر قال أبو يوسف: كان قولي قول أبي حنيفة حتى رأيت يوماً في بستاني حدأة في منقارها فأرة ميتة طرحتها في بئر الماء فرجعت عن قوله. وفي «الإملاء» قال أبو يوسف: الفأرة كانت ميتة منتفخة ألقاها صبي ساعتئذٍ فلا يعيد (14أ1) الصلاة حتى يعلم أنه توضأ وهي فيها، وكذلك ما عجن من العجين بذلك الماء، القياس أن لا بأس بأكله ما لم يعلم أنه عجن به وهي فيه، وبه أخذ محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: إن كانت منتفخة متفسخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ ثلاثة أيام.
وإن كانت غير منتفخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ يوم، وبه أخذ أبو حنيفة. عن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في «الأصل» قوله كقول محمد، وفي «الإملاء» كقول أبي حنيفة.
وجه القياس: أنا تيقنا بطهارة الماء في الأصل وتيقنا بنجاسته في الحال وشككنا في نجاسته من قبل (أنه) إن وقعت وهي منتفخة لا تكون النجاسة ثابتة من قبل، وإن وقعت وهي حيّة ثم ماتت وانتفخت كانت النجاسة ثابتة من قبل فلا تثبت نجاسته من قبل بالشك.
وجه الاستحسان: أن الماء سبب لموت الحيوان الدموي فيه فيضاف إليه، وإن احتمل الموت بغيره كمن جرح إنساناً ومات يحال بالموت على الجرح وإن احتمل الموت بغيره غير أنه كما وقع لا يموت فلا بد من التقدير بشيء، فقدرنا الوقوع والموت بلا انتفاخ بيوم وليلة لأن له حكماً في باب الصلاة من سقوط الترتيب وغيره، ولأن ما دونه ساعات لا يمكن التقدير بها، وقدرنا الوقوع والموت مع الانتفاخ بثلاثة أيام ولياليها لأن الانتفاخ لا يحصل بيوم واحد غالباً ويحصل بثلاثة أيام، ألا ترى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه يُصلى عليه في القبر إلى ثلاثة أيام، ولا يجوز بعدها لأن الصلاة شرعت على البدن لا على الأعضاء، وقبل الثلاث البدن لا يتفرق وبعد الثلاث يتفرق.
وإن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته، ستأتي هذه المسألة في كتاب الصلاة مع ما فيها من اختلاف الروايات إن شاء الله تعالى.(1/108)
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: لو ماتت فأرة في ماء في طست ثم صب ذلك الماء في بئر ينزح عشرون دلواً وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وذكر بعد هذه المسألة: لو ماتت فأرة في حُبّ فأريق في البئر ماء الحب، قال محمد رحمه الله ينزح من البئر أكثر من عشرين دلواً وكما في الحب من الماء، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية قال: ينزح مثل ماء الحب وثلاثون دلواً، وقال في رواية أخرى ينزح مثل ماء الحب وعشرون.
ثم في كل موضع وجب نزح جميع الماء ينزح حتى يغلبهم ماؤه ولم يقدر أبو حنيفة رحمه الله في الغلبة شيء وإنما يعمل فيه بغالب الظن، وهذا أصل ممهد له في مسائل كثيرة هكذا ذكر «القدوري» ، ومعنى المسألة: أنه إذا وجب نزح جميع الماء وأخذوا في النزح فكلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عليهم أن ينزحوا مقدار ما يغلب على ظنهم أنه جميع ما كان فيه عند ابتداء النزح، وعنه في «النوادر» أنه ينزح منها مائتان، وفي رواية مائة، فإذا نزحوا هذا المقدار يحكم بطهارة البئر، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» روايتان: في رواية قال: مائتا دلو أو ثلاثمائة. وفي رواية قال: مائتان وخمسون. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح مقدار ما كان فيها من الماء، وقيل في طريق معرفة ذلك أن يرسل قصبة في البئر ويُعلّم على مبلغ الماء علامة ثم ينزح منها دلاء فينظر كم انتقص فينزح بقدر ذلك، وقيل: ينظر إلى عمق البئر وعرضه ثم يحفر حفرة مثل ذلك ثم ينزح الماء من البئر ويصبّ في تلك الحفيرة فإذا امتلأت الحفيرة علم أنهم نزحوا مقدار ما كان فيها.
وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه ينظر إلى ماء البئر رجلان لهما بصارة في أثر الماء، فأي مقدار قالا إنه في البئر فإنه ينزح في ذلك المقدار، وهذا القول يريب بما حكينا من قول أبي حنيفة رحمه الله في الابتداء.
ثم إذا وجب نزح جميع الماء فلم ينزح حتى زاد الماء فقد اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: ينزح مقدار ما كان في البئر وقت وقوع النجاسة وقال بعضهم: مقدار ما فيه وقت النزح، وكذلك اختلفوا في التوالي في النزح: فبعضهم شرطوا التوالي، وبعضهم لم يشترطوا، ثم على قول من لا يشترط التوالي إذا نزح بعض الماء في اليوم وتركوا النزح ثم جاؤوا من بعد فوجدوا الماء قد ازداد فعند بعضهم ينزح كل ما فيه وعند بعضهم: مقدار ما بقي عند ترك النزح من الأمس.
ثم عند بعض المشايخ يعتبر في كل بئر دلو ذلك البئر، وقال القدوري في «كتابه» : يعتبر الدلو المعتاد الوسط. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بما يسع صاعاً ليتمكن كل أحد من النزح من رجل أو امرأة أو صبي.
ولو جاؤوا بدلوٍ عظيم يسع عشرين دلواً بدلوهم فاستقوا به جاز. قال القدوري: وهو أحب إليّ، وقال زفر والحسن بن زياد: لا يجوز، هما يقولان: الطهارة معلقة بعدد معلوم شرعاً بخلاف القياس فيراعى عين ما ورد به النص.(1/109)
ولنا: أن النزح إنما وجب لمجاوزة بعض الماء الواقع في البئر، وفي حق هذا المعنى لا فرق بين أن يؤخذ ذلك بدلو عظيم واحد أو بعشرين دلواً بل هذا المعنى في الدلو العظيم أظهر لأن الفضل العائد إلى البئر منه أقل فلهذا قال: وهو أحبّ إليّ.
وإذا نزح الماء وحكم بطهارة البئر حكم بطهارة الدلو والرشاء؛ لأن نجاستهما كانت بنجاسة البئر، فطهارتهما تكون بطهارة البئر، ألا ترى أن الخمر التي في الحب إذا صارت خلاً وحكم بطهارته يحكم بطهارة الحب تبعاً، وكذلك إذا غسل يده النجس من قمقمه وحكم بطهارة اليد يحكم بطهارة العروة بطريق التبعية.
قال في «القدوري» : وإذا جفت البئر ونضب ماؤها ثم عاد لم يطهر إلا بالنزح في قول أبي يوسف لأن الطهارة معلقة بالنزح بالآبار، وقال محمد رحمه الله تطهر بالجفاف لأن النزح ما كان واجباً لعينه وإنما كان ليذهب ما جاور النجاسة من الماء، وهذا المعنى في الجفاف أبين، وإذا نزح الماء وبقي الدلو الأخير؛ إن كان في الماء ولم ينح عن رأس الماء لا يجوز التوضؤ من ماء البئر وإن خرج من البئر ونحي عن رأس الماء إلا أنه لم يصب بعد جاز التوضؤ من البئر، وإن نحي عن رأس الماء إلا أنه لم ينح عن رأس البئر لم يجز التوضؤ من البئر في قول أبي يوسف رحمه الله حتى ينحى عنها. وقال محمد رحمه الله يجوز، وذكر الحاكم قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وليس بمشهور. وجه قول محمد: أن الطهارة موقوفة على إخراج هذا القدر من الماء وقد وجد ما يعود إليه من القطرات عفواً بالإجماع، فلا يتغير به الحكم، ولأبي يوسف رحمه الله أن الماء النجس متصل بالبئر حكماً بدليل أن التقاط لا تصير دلواً والاتصال لا يفسد ماء البئر لوقوع النجس في البئر فصار بقاء الاتصال حكماً كبقائه حقيقة وذلك يمنع التوضؤ في البئر فكذا الاتصال حكماً.
ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : أن حكم النجاسة لا يختلف باختلاف الآبار فيما يطهر البئر الأول يطهر البئر الثاني، كماء النجاسة لو انتقلت من ثوب إلى ثوب آخر لا يختلف حكم إزالتها. هذا لفظ الناطفي.
بيان هذا فيما ذكر في مسألة «الأصل» : إذا وقعت فأرة في البئر وماتت فنزح منها دلو وصب في بئر آخر نزح منها عشرون دلواً لأن ماء هذا الدلو لو كان في البئر الأول لا يطهر البئر الأول إلا بنزح عشرين دلواً كذلك في الثاني.
ولو صب الدلو العاشر في البئر الثاني نزح من الثاني عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص ينزح أحد عشر دلواً، وهذا ظاهر لأن الدلو العاشر لو كان في البئر الأول لا يطهر إلا بنزح أحد عشر دلواً، كذا في البئر الثاني، وذكر في رواية أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء.
ولا فرق بين الروايتين من حيث المعنى؛ لأن مراد أبي سليمان من قوله عشر دلاء ما وراء الدلو العاشر، وهو مقدار ما يطهر به البئر الأول.
ولو وقعت فأرة في بئر، وفأرة أخرى في بئر أخرى، وفأرة أخرى في بئر ثالث، ثم(1/110)
نزح من كل بئر منها عشرون بعد إخراج الفأرة، وصب الكل في البئر الثالث، فإنه ينزح من البئر الثالث أربعون دلواً. ينظر إلى ما وجب في البئر الثالث، وإلى قدر المصبوب فيها فينزح قدر المصبوب ويسقط حكم ما وجب فيه، كنجاسة على الثوب زيادة على قدر الدرهم أصابته نجاسة أخرى، كان حكمها وحكم ما لم يكن عليه نجاسة سواء، فكذا في البئر المصبوب فيه حكم البئرين اللتين أخرج منهما الماء فيكتفي بأربعين دلواً (14ب1) من كل واحد عشرون دلواً، وقال محمد بن الحسن رحمه الله في «صلاة الأثر» عشرة آبار إن وقع في كل بئر فأرة وماتت فينزح من كل بئر عشرون دلواً، لوصب في واحدة إنه إن اجتمع فأرات فبلغ بقدر الدجاجة تنزح أربعون دلواً من البئر التي صب فيها.
وفي «القدوري» : إذا وقع عظم الميتة في البئر، فإن كان عليه لحم أو دم ينجس لأن ذلك لا يخلو عن بلّة نجسة وهي في حكم النجاسة المائعة، وإن لم يكن عليه لحم لا يتنجس؛ لأن نفس العظم عندنا طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.o
وفي «مجموع النوازل» : عظم تلطخ بنجاسة ووقع في البئر ولم يمكن استخراجه فإذا نزحوا ماءها فقد طهرت. وفي «الأصل» : أدنى ما ينبغي أن يكون بين بئر الماء والبالوعة خمسة أذرع، وهذا في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص سبعة أذرع.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ليس هذا بتقدير لازم، بل الشرط أن يكون بينهما برزخ يمنع خلوص طعم البالوعة أو ريحها إلى ماء البئر ولا يقدر عليها بالزرعان حتى إذا كان بينهما عشرة أذرع، وكان يوجد في البئر أثر البالوعة، فماء البئر نجس وإن كان بينهما ذراع واحد وكان لا يوجد أثر البالوعة في البئر فماء البئر طاهر. قال رحمه الله: إلا أن محمداً رحمه الله بنى هذا الجواب على ما علم من حال أراضيهم صلبة، والجواب يختلف باختلاف صلابة الأراضي ورخاوتها.
وفي «المنتقى» : أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أدنى ما يكون بين البالوعة وبين الماء خمسة أذرع، قال: وسبعة أذرع أحبّ إليّ. طعن بعض الناس على أبي حنيفة رحمه الله، وقال إنه استعمل الرأي في المقادير، ومشايخنا رحمهم الله قالوا: فتواه تخرج في مكان علم سؤال أهل الذكر أن قدر خمسة أذرع يمنع التعدي.
وفي «النوازل» : بئر بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء فإن حفروها مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجس، وإن حفروها أوسع من الأول فالكل طاهر والله أعلم.
(نوع آخر) في الحباب والأواني
قال في «الأصل» : الكوز الذي يوضع في نواحي البيت ليغترف من الحب، فإن له أن يشرب منه ويأخذ منه ما لم يعلم أنه قذر، لأن نواحي البيت طاهر أو الماء طاهر في الأصل فهو على الطهارة ما لم نتيقن بنجاستها أو نجاسة أحدهما وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يكره أن يستخلص الإنسان من نفسه إناء يتوضأ به ولا يتوضأ به غيره.(1/111)
وفي «الأصل» أيضاً إذا أدخل الصبي يده في كوز ماء أو رجله فإن عُلم أن يده طاهرة بيقين يجوز التوضؤ بهذا الماء، وإن علم أن يده نجسة بيقين لا يجوز التوضؤ به، وإن كان لا يعلم أنه طاهر أو نجس فالمستحب أن يتوضأ بغيره لأن الصبي لا يتوقى النجاسات عادة، مع هذا لو توضأ به أجزأه لأن الطهارة أصل، وفي النجاسة شك.
وفي كتاب «فقه الأمر» للإمام عبد الصمد القلانسي أنه إن كان مع الصبي رقيب فالماء طاهر وطهور، وإن كان مسيّباً في السكة فالماء مكروه كسؤر الدجاجة المخلاة، وهذا إذا أدخل الصبي يده في الإناء ولم ينو القربة، فأمّا إذا نوى القربة وتوضأ في الإناء سيأتي هذا الفصل بعد هذا في المياه المستعملة.
الجنب إذا اغتسل وانتضح من غسالته في إنائه أو على ثوبه قطرات صفار لا يستبين أثرها في الماء ولا في الثوب لا ينجسها، وإن استبان أثرها وهي ما إذا جمعت كانت أكثر من قدر الدرهم نجسته، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
وسئل أبو سليمان عن ماء الجنابة إذا وقع في الإناء وقوعاً يستبين أنها ليست بشيء، ومعنى قوله يستبين: أن ينفرج وجه ماء الإناء عند وقوع القطرات أو يرى عين القطرات ظاهرة.
وذكر هذه المسألة في «المبسوط» وقال: إن كان الواقع قليلاً لا يفسد الماء وإن كان كثيراً يفسده، تكلموا في حد القليل والكثير: روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن كان مثل رؤوس الإبر وأطراف الإبر فهو قليل، وإن زاد على ذلك فهو كثير.
وذكر الكرخي في «كتابه» : أنه إن كان مواقع القطر يستبين في الإناء فهو كثير يفسد الماء وإن كان لا يستبين فهو قليل لا يفسد الماء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جنب نزح دلواً مرة من ماء بئر وصبه على رأسه ثم استقى دلواً آخر فتقاطر من جسده في البئر، قال: هذا ليس بشيء، وإن كان الماء المستعمل نجساً عنده فكأنه أسقط اعتبار نجاسته ضرورة أن التحرز عنه غير ممكن.
حب فيه ماء أو زيت استخرج منه شيء وجعل في خابية ثم استخرج من حُب آخر فيه ماء أو زيت شيء منه، وجعل في تلك الخابية حتى امتلأت الخابية ثم وجد في الخابية فأرة ميتة ولا يدرى أن الفأرة من أي الحبين ويعلم قطعاً أنها لم تكن في الخابية قبل ذلك فما حال الحبين؟
حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة قال: إن غاب هذا الرجل عن الخابية ساعة يتوهم وقوع الفأرة في الخابية فالنجاسة للخابية والحبّان طاهران، وإن لم يغب حتى علم أنها من أحد الحبين، فالنجاسة تصرف إلى آخر الحبين لأن الحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات، هذا تمام جوابه.
قالوا: ينبغي أن يقال: إذا كان كلا الحبين لرجل واحد وتحرّى ولم يقع تحرّيه على شيء تصرف النجاسة إلى آخر الحبين، فأما إذا وقع تحريه على شيء يعمل به، وهذا(1/112)
الجواب على هذا الإطلاق ليس بصحيح، فقد ذكر في كتاب التحري أنه إذا كان مع الرجل في السفر أوان بعضها نجسة كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء؛ إن كانت الحالة حالة الاختيار لا يتحرى للشرب ولا للوضوء، وإن كانت حالة الاضطرار يتحرّى للشرب بالإجماع ولا يتحرى للوضوء عندنا ولكنه تييمم.
ولو كان كل حب لرجل على حدة وكل واحدٍ منهما يقول: حبي طاهر يجعل كلا الحبين طاهراً.
وسئل الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أيضاً عن فأرة ميتة كانت يبست وهي في خابية جعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية؟ فأجاب: أن الزيت نجس، وهكذا أجاب شيخ الإسلام الإسبيجابي. قال نجم الدين * هذا * رحمه الله لأن الفأرة الميتة إذا يبست وإن قالوا: إنها تطهر حتى لو صلى وفي جيبه فأرة ميتة تجوز صلاته، لكن إذا أصابها بلل حتى ابتلت تعود نجساً في أصح الروايتين عن أبي حنيفة بمنزلة الأرض النجسة إذا يبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء.
وفي «فتاوى ما وراء النهر» : كوز فيه فأرة ميتة أدخل الكوز في حُبّ الزيت قال: إن اغترف ولم يخرج منه شيء لم يفسد الحب، وإن صُبّ ماء فيه ثم أدخله ثانياً في الحب فسد الحب، لأنه فم الكوز صار ملطخاً بزيتٍ نجس. وإذا وجد في البئر بعرة فقد ذكرنا هذه المسألة في النوع المتقدم على هذا النوع، وذكرنا ثمة أيضاً مسألة بعرة الشاة إذا وقعت في الحليب عند الحلب
وإذا فرت الفأرة من الهرة ومرت على قصعة ماء ذكر هذه المسألة في مسائل ندرت لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله على التفصيل، أن الهرة إن جرحتها تتنجس القصعة وما لا فلا.
وقال في «شرح الطحاوي» : إن القصعة تتنجس مطلقاً وأشار إلى المعنى فقال: إنها تبول عن خوف الهرة.
حُبّ الماء إذا ترشح منه الماء، أو آنية الماء إذا ترشح منها الماء، فجاء كلب ولحسه لا يتنجس الماء الذي في الحب والآنية.
سمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغنياني رحمه الله: إذا كان للرجل ثلاث حباب في أحدها الدهن وفي أحدها الخل وفي أحدها الدبس، فأخذ من كل واحدة من الحباب شيئاً وجعل في طست ثم وجد في الطست فأرة ميتة فإنه يشقُّ بطنها فإن كان في بطنها الدهن فالنجاسة لحب الدهن، وإن كان في بطنها الدبس فالنجاسة لحب الدبس وإن كان في بطنها الخل فالنجاسة لحب الخل، وإن لم يكن في بطنها شيء تلقى بين يدي الهرة فإن أكلتها فالنجاسة لحب الدهن والدبس وإن لم تأكلها فالنجاسة لحب الخل لأن الهرة تأكل الدهن (15أ1) والدبس ولا تأكل الخل والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عقرب أو نحوه مما لا دم له يموت في بئر الماء أو ضفدع أو سمكة أو سرطان أو نحوه مما يعيش في الماء يموت في الحب لم يفسد الماء عندنا خلافاً للشافعي.(1/113)
يجب أن يعلم أن ما ليس له دم سائل إذا مات في الماء أو مائع آخر سوى الماء لا يوجب تنجس ما مات فيه برياً كان أو مائياً عندنا.
والأصل: ما روى سليمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن إناء فيه طعام أو شراب يموت فيه ما ليس له دم سائل فقال: «هو الحلال أكله أو شربه أو الوضوء به» وهذا نص في الباب.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فامقلوه ثم امقلوه ثم امقلوه فإن في أحد جناحيه داء والأخرى دواء وإنه ليقدم الداء على الدواء» .
ومعلوم أن مقل الذباب في الطعام الحار مرتين توجب موته لو كان ذلك ينجس الماء لما أُمر به، ولأن في الأشياء التي ليس لها دم سائل هنا لا يمكن صون الأواني عنها نحو: البق والذباب والزنابير، فالقول بالنجاسة بموت هذه الأشياء يؤدي إلى أن (لا) يوجد عصير أو خل يوصف بالحل وهذا أمر قبيح، ولأن الحيوان إنما يتنجس بالموت، فيسبب اختلاط الدم المسفوح بسائر الأجزاء ألا ترى أن العظم والشعر وما أشبههما لا يتنجس بالموت لانعدام الدم فكذا لا تتنجس هذه الحيوانات. وإذا لم تتنجس هذه الحيوانات بالموت لا يتنجس ما ماتت فيه.
وأما ما له دم سائل إن كان برّيّاً بحيث لا يعيش في الماء فموته يوجب نجاسة ما مات فيه، الماء وغيره من المائعات في ذلك على السواء؛ لأن بالموت يختلط الدم المسفوح بسائر أجزاء هذه الأشياء فتنجس هذه الأشياء بالموت فيتنجس ما مات فيه.
وإن كان مائياً بأن كان لا يعيش إلا في الماء، إن مات في الماء لا يتنجس الماء في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن مات في غير الماء أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس. وفي غير السمكة نحو الضفدع المائي والكلب المائي والسرطان اختلف المشايخ فيه.
حكي عن نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة وأبي معاذ البلخي وأبي مطيع رحمهم الله: أنه يتنجس. وحكي عن أبي عبد الله ومحمد بن مقاتل أنه لا يتنجس. وعن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر» في الكلب المائي إذا مات في الماء أنه يفسد الماء.
وهذه المسائل تنشأ عن أصل أن الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء ليس لها دم سائل على الحقيقة، وللناس فيه كلام، بعضهم قالوا: لها دم على الحقيقة؛ لأن اللون لون الدم والرائحة رائحة الدم، وبعضهم قالوا: ليس لها دم على الحقيقة، وما يرى من لون الدم فهو ماء ملون بلون الدم، ألا ترى أن الدم إذا شُمس يَسْوَدّ وهذا إذا شمس تبيض.(1/114)
إذا ثبت هذا فنقول: إذا ماتت هذه الحيوانات في الماء إنما لا ينجس الماء. أما على قياس من يقول لا دم لهذه الحيوانات دم سائل، ولأن الماء معدن هذه الحيوانات، ومصابها والشيء في معدنه ومصابه لا يعطى حكم النجاسة، ألا ترى أن الرجل إذا صلى وفي كمه بيضة حال محُّها دماً فصلاته جائزة.
ولو صلى وفي كمه قارورة بول لا تجوز صلاته، إلا رواية عن محمد رحمه الله فإنه قال: إذا كان رأس القارورة أقل من الدرهم جازت صلاته وما أقرها إلا باعتبار أن النجاسة في فصل البيضة في معدنها. وفي فصل القارورة: النجاسة في غير معدنها فاعتبرت.
ومعنى آخر يخص السمكة على قول هؤلاء أن الشرع أسقط اعتبار دمها حتى أباحها بغير ذكاة فالتحق دمها بالعدم، والتحقت السمكة بما ليس له دم سائل.
وأما إذا ماتت هذه الحيوانات في غير الماء من المائعات أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس، أما على قول الفريق الأول فظاهر، وأما على القول الفريق الثاني؛ فلأن الشرع أسقط اعتبار دمها فالتحق بما ليس له دم سائل.
وفي غير السمكة اختلاف المشايخ على ما مرّ.
وجه قول من قال بأنه ينجس، أن لهذه الأشياء دم سائل، والشرع ما أسقط اعتبار دمها، فإنه لا يباح تناول هذه الأشياء.
وجه قول من قال بأنه لا ينجس: أنه ليس لهذه الأشياء دم سائل على الحقيقة على ما مرّ، وأما الحيوان الذي يعيش في البر والماء جميعاً وله دم سائل كالطير المائي إن مات في غير الماء نجسه لأن له دماً سائلاً ولم يسقط اعتبار دمه شرعاً، فإنه لا يحل بدون الذكاة. وإن مات في الماء؛ فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينجس الماء؛ لأنا إن نظرنا إلى عيشه في الماء لا نحكم بنجاسة الماء، وإن نظرنا إلى عيشه في البر نحكم بنجاسة الماء، فحكمنا بنجاسة الماء ورجحنا عيشه في البر احتياطاً.
والضفدع البري إذا مات في الماء إن كان كبيراً له دم سائل نّجس الماء، وإن كان صغيراً ليس له دم سائل لا ينجس كالذباب والزنبور وما أشبههما. والعقرب ليس له دم سائل فموته في الماء لا ينجس الماء.
في «القدوري» : إذا ماتت فأرة في مائع كالسمن ونحوه، فإن كان ذائباً تنجس وجاز الانتفاع به في غير الأبدان وجاز بيعه، على البائع أن يبين ذلك للمشتري. وإن كان جامداً تلقى ويُقوّر ما حولها ويلقى وينتفع بالباقي أكلاً وغير ذلك، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن سمن وقعت فيه فأرة وماتت قال: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوا الباقي وإن كان ذائباً فانتفعوا به ولا تأكلوه» ؛ ولأن في الجامد النجاسة جاورت موضعاً واحداً، فإذا قوِّر ذلك فالباقي طاهر، وفي الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجساً.(1/115)
وحد الجمود والذوبان: أنه إذا كان بحال لو قوِّر ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب. ثم في الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصناع به، دبغ الجلد للحديث، ولأن النجس أجزاء الفأرة وإنها مجاورة للدهن مجاورة لازمة فحرم الأكل لأنه لا ينفك عن حلول جزء من النجاسة.
فأما الانتفاع في غير الأكل يقع بالدهن لا بأجزاء الفأرة، فصار الاستعمال في حق الحرمة النجس استهلاكاً لا انتفاعاً، والبيع يرد على المذكور، والمذكور الدهن لأجزاء الفأرة بخلاف الأكل.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا وقعت النجاسة في الماء، فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال، فإن لم يتغير جاز الانتفاع به مثل بل الطين وسقي الدواب، لأن في الوجه الأول النجاسة قد غلبت عليه حتى غيرته فصار كعين النجاسة، ولا كذلك الوجه الثاني.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا وجب نزح الماء كله من البئر فعجن من ذلك لا يطعم ذلك بني آدم. ولا بأس بإطعامه وإلقائه للكلاب والسنانير، ولا بأس برش تلك المياه في الطريق. وروي عنه في غير هذه الصورة: يطعم ذلك العجين البهائم ولا يسقي ذلك الماء البهائم وأشار إلى العلة فقال: لأن ما يدخل عليه من إلقاء الطعام أشد من إطعام البهائم والماء لا بأس بصبه، وفي هذا التعليل أشار إلى أن هذا العجين لا يلقى في الطريق، والمفسدة في إلقائه في الطريق أعظم من المفسدة في إطعام الكلاب والسنانير، والماء يصب في الطريق المفسدة في الصب في الطريق دون المفسدة في سقي البهائم.
(نوع آخر) في الحمَّام
روى المعلّى عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري إذا أدخل يده فيه وفيه قذر لم يتنجس، واختلف المتأخرون في بيان هذا القول فمنهم من قال: مراد أبي يوسف حالة مخصوصة: وهي ما إذا كان الماء يجري إلى حوض الحمام والاغتراف منه متدارك، فهذا الماء في هذه الحالة في حكم الماء الجاري. ومنهم من قال: ماء الحمام عنده بمنزلة الماء الجاري على كل حال لأجل الضرورة، ألا ترى أن الماء الراكد وهو الحوض العظيم ألحق بالماء الجاري (15ب1) لأجل الضرورة، فكذا ماء الحمام. ويجوز التوضؤ بماء الحمام، وإن كان الماء في الحوض ساكناً لا يدخل من أنبوبه شيء ما لم يعلم بوقوع النجاسة فيه، فإن أدخل رجل يده فيه في هذه الحالة وفي يده قذر؛ فعلى قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذهب إليه بعض المشايخ لا ينجس الحوض، وعامة المشايخ على أنه ينجس، وكذلك إذا كان الناس يغرفون بقصاعهم إلا أن الماء لا يدخل من الأنبوب، فأدخل رجل يده وفي يده قذر ينجس الحوض عند عامة المشايخ، وإن كان يدخل الماء في الحوض من الأنبوب والاغتراف منه...... عامة(1/116)
المشايخ على أنه ينجس وعليه الفتوى.
وإذا فسد ماء الحوض فأخذ رجل من ذلك الماء بالقصعة، وأمسك القصعة تحت الأنبوب فدخل الماء في القصعة من الأنبوب و ... ماء القصعة فتوضأ منه لا يجوز، وإذا أفاض الرجل في الماء المصبوب على وجه الحمام بعدما غسل قدميه وخرج فإن لم يعلم أن في الحمام جنب أجزأه أن لا يغسل قدميه. وإن علم أن في الحمام جنب قد اغتسل يلزمه أن يغسل قدميه إذا خرج، هكذا ذكر في «العيون» .
وقال الصدر الشهيد في «واقعاته» وعلى ما أحبرنا في الماء المستعمل أنه طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ينبغي أن يلزمه غسيل القدمين، ولكن اشتثنى الجنب في «العيون» فإنه موضوع الاستثناء وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
ومن المشايخ من قال: إنما استثنى الجنب لأن الجنب يكون على يديه قذر غالباً حتى لو لم يكن كان مستعمل الجنب والمحدث سواء؛ ويكون طاهراً على رواية محمد رحمه الله، ولا يلزمه غسل الرجلين وهو الظاهر.
وذكر في «المنتقى» رواية أخرى: أنه يلزمه غسل الرجلين على كل حال سواء، علم أن في الحمام جنباً أو لم يعلم.
حوض الحمام إذا تنجس ودخل فيه الماء لا يطهر ما لم يخرج منه ما كان فيه ثلاث مرات. وقال بعضهم: إذا خرج منه مثل ما كان فيه مرة واحدة وفي «المنتقى» ما يدل على هذا القول. والمذكور في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا كان في حوض الحمام قذر لم يغتسلوا منه حتى ذهب قدر ما كان في الحوض ثم دخل ماء آخر في الحوض ثم اغتسلوا والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان المياه التي لا يجوز التوضؤ بها على الوفاق وعلى الخلاف وإنها أنواع
منها ماء الفواكه وتفسيره: أنه يدق التفاح والسفرجل دقاً ناعماً ثم يعصر فستخرج منه الماء أو يكون تفسيره: أن يدق التفاح أو السفرجل ويطبخ بالماء ويعصر ويستخرج منه الماء. وفي الوجهين جميعاً لا يجوز التوضؤ به. وكذا لا يجوز التوضؤ بماء البطيخ والقثاء والعنب ولا بالماء الذي يسيل من الكرم في الربيع. كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولا بماء الورد وفي «جوامع أبي يوسف» عنه: أنه يجوز التوضؤ بماء الكرم.
ومنها الماء ... وذكر في «نوادر بن رشيد» عن محمد رحمه الله من الماء يطرح فيه الريحان والأشنان فإن تغير لونه بأن سوده الريحان، أو حمره الأشنان، أو كان(1/117)
الغالب عليه أثر الأشنان أو أثر الريحان لا يتوضأ به، وإن كان الغالب عليه أثر الماء، فلا بأس بالتوضؤ به، وكذلك البابونج، فأما الزعفران إذا كان قليلاً والغالب الماء فلا بأس به، فمحمد رحمه الله اعتبر الغلبة في هذه المسائل، إلا أن في بعضها أشار إلى الغلبة من حيث اللون، وفي بعضها أشار إلى الغلبة من حيث الأجزاء.
وفي «الأمالي» برواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو توضأ بماء غلي بأشنان أو آسٍ أو لشيء يتعالج به الناس ويغتسلون به، فإن الوضوء بذلك الماء يجزىء ما لم يغلب عليه. ولو توضأ بماء به ردح العصفر أجزأه إذا كان رقيقاً يستبين الماء منه، وإن غليت المجمرة وصارت ... لا يجوز التوضؤ به، وكذلك ماء الصابون إذا كان ثخيناً قد غلب على الصابون لا يجوز التوضؤ به، وإن كان رقيقاً، لكن علاه بياض الصابون جاز التوضؤ به.
قال الحاكم الشهيد رحمه الله ورأيت عن ابن سماعة عن أبي يوسف مثله، قال: وكذلك ماء الزعفران، ورأيت عنه أيضاً: لا يجوز التوضؤ بماء الحمص والباقلاء، يريد الماء الذي طبخ فيه الحمص أو الباقلاء، وكذلك ما طبخ به ليؤكل أو ليشرب أو ليتداوى به، وإذا طبخ الآس في الماء والبابونج فإن غلب على الماء حتى يقال: ماء البابونج، أو ماء الآس لا يجوز التوضؤ به، وإن طبخ في الماء السِّدْر أو الأشنان وتغيّر لونه إلا أنه لم يذهب برقته جاز التوضؤ به.
والحاصل من مذهب أبي يوسف رحمه الله: أن كل ما خلط به شيء يناسب الماء فيما يقصد من استعمال الماء وهو التطهير، فالتوضؤ به جائز بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، يعني من الأجزاء حتى لا يزول به الصفة الأصلية وهو الرقة، وذلك مثل الأشنان والصابون، وهذا لأن الخلط الذي يناسب الماء يتعالج به الناس ويغتسلون به مبالغة في التطهير، فجعل الحكم فيه كالحكم في الماء، لكن بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، وكل ما خلط به شيء لا يناسب الماء فيما قصد من استعمال الماء وهو التطهير، ففي بعض الروايات شرط عليه ذلك الشيء الماء من حيث الأجزاء لمنع جواز التوضؤ به، وفي بعض الروايات لم يشترط الغلبة من حيث الأجزاء.
ويجوز التوضؤ بالماء الذي ألقي فيه الحمص والباقلاء وتغير لونه، إلا أنه لم يُذهِب رقته، هكذا ذكر في بعض الكتب، وكذا إذا ألقي فيه الزاج حتى اسود ولكن لم تذهب رقته جاز التوضؤ به، وهذا لا يستقيم على قول محمد رحمه الله على القول الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون.
ولو بلَّ الخبز بالماء وبقيت رقته جاز الوضوء به، وإن صار ثخيناً لا يجوز، وهذا لا يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله على الرواية لا يشترط الغلبة في خلط ما لا يناسب الماء في التطهير، ولو وقع في الماء وصار ثخيناً لا يجوز التوضؤ به، لأنه بمنزلة الخمر، هكذا ذكر في بعض الكتب.
وفي «الفتاوى» : ذكر مسألة التوضؤ بالثلج وذكر فيها تفصيلاً، فقال: إن كان الثلج يذوب ويسيل إلى أعلى أعضائه ويتقاطر يجوز، وما لا فلا، يجب أن يكون الجواب في(1/118)
المسألة المتقدمة على هذا التفصيل أيضاً.
وفي «أجناس الناطفي» ، وفي «صلاة الأثر» : لا بأس بالتوضؤ بماء السبيل إذا كانت رقة الماء غلبة غالبة، وإن لم تكن غالبة لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه طين مسح على وجهه.
وفي «القدوري» : إذا اختلط الطاهر بالماء ولم يزل اسم الماء، ولا رقته فهو طاهر طهور تغير لونه أو لا، ولم يذكر فيه خلافاً، وهذا لا يستقيم على قول محمد على القول الذي يعتبر الغلبة من حيث اللون.
قال: وكل ما طبخ فيه شيء حتى تغير مثل الباقلاء وغيره لم يجز التوضؤ به لزوال اسم الماء عنه، ولم يذكر فيه خلافاً أيضاً، فإن أراد بهذا التغير التغير من حيث اللون فهو قول محمد رحمه الله على الفصل الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون، وإن أراد بهذا التغير التغير من حيث الأجزاء فهو قول محمد رحمه الله أيضاً على أحد قوليه، وقول أبي يوسف رحمه الله أيضاً على أحد قوليه على ما تقدم.
وفي «شرح الطحاوي» : كل ما خالط ما سواه من المائعات وغلب ذلك الشيء على الماء فحكمه حكم ذلك الشيء لا حكم الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به، فإن كانت الغلبة للماء فحكمه حكم الماء المطلق يجوز التوضؤ به.
بيانه في اللبن أو الخل أو العصير إذا اختلط بالماء، فإن كانت الغلبة للماء جاز التوضؤ، وإن كانت الغلبة للبن أو الخل أو العصير لا يجوز التوضؤ به.
وسئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن الماء الذي تغير لكثرة الأوراق الواقعة فيه حتى يظهر لون الأوراق في الكف إذا رفع الماء منه، هل يجوز التوضؤ به؟ قال: لا، لكن يجوز شربه وغسل الأشياء به، أما جواز الشرب وغسل الأشياء به فلأنه طاهر، وأما عدم جواز التوضؤ به، لأنه لما غلب لون الأوراق عليه صار ماء مقيداً كماء الباقلاء وغيره.
ومنها الماء الذي غلب على ظننا وقوع النجاسة فيه. قال القدوري في «كتابه» : كل ماء تيقنا بوقوع النجاسة فيه أو غلب على ظننا لم يجز التوضؤ به، وبعض مشايخنا قالوا: يعتبر التغير، ولا تعتبر غلبة الظن، لأن الماء طاهر بيقين، فلا ترفع عنه صفة الطهارة بمجرد الظن، والأصح ما ذكره القدوري، ألا ترى أن الواحد إذا أخبر بنجاسة الماء لا يجوز الوضوء به، وخبره يوجب (16أ1) غلبة الظن لما لا يوجب اليقين، لأن غلبة الظن تلحق باليقين خصوصاً في باب العبادات والله أعلم.
ومنها الماء المستعمل في البدن: الكلام في الماء المستعمل في مواضع:
أحدها: في نجاسته وطهارته، فنقول: اتفق أصحابنا أن الماء المستعمل ليس بطهور حتى لا يجوز التوضؤ به، ولا يجوز غسل شيء من النجاسات به.
واختلفوا في طهارته، قال محمد رحمه الله: هو طاهر، وهو رواية أبي حنيفة رحمه الله وعليه الفتوى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو نجس نجاسة خفيفة، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقال الحسن بن زياد: نجس نجاسة غليظة، كالبول والدم، وهو رواية عن(1/119)
أبي حنيفة وعند زفر: هو طاهر طهور. وقال الشافعي: إن كان المستعمِل محدثاً فهو كما قال محمد طاهر غير طهور، وإن كان المستعمِل طاهراً فهو كما قال زفر طاهر وطهور.
أما ما ذهب إليه زفر أنه طاهر طهور لأنه غسل به عين طاهر، فلا تتغير صفته كما لو غسل به الثياب والقصاع الطاهرة. وإنما قلنا: إنه غُسل به عين طاهر؛ لأن أعضاء المحدث والجنب والحائض طاهرة، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يمر في بعض سكك المدينة فاستقبله حذيفة بن اليمان، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن يصافحه، فامتنع حذيفة رضي الله عنه، فسأله رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: إني جنب، فقال عليه السلام: «المؤمن لا ينجس» وقال لعائشة رضي الله عنها: «ليست حيضتك في يدك» .
وجه قول من قال: بأنه نجس قول عليه السلام: «من توضأ وغسل وجهه تناثر عنه خطايا وجهه مع آخر قطرة من الماء، ولو غسل يديه تناثر عنه خطايا يديه مع آخر قطرة من الماء ... » الحديث إلى آخره، فجعل الماء مطهراً من الذنوب، والذنب نجس حكماً، والنجس حكماً لا يختلف عن النجس حقيقة، ثم الماء الذي يرفع فيه النجاسة يتنجس، فكذا الذي يرفع النجاسة الحكمية.
ثم على رواية الحسن: نجاسته غليظة اعتباراً بالنجاسة الحقيقية، وعلى رواية أبي يوسف خفيفة لمكان البلوى ولاختلاف الآثار فيه.
وجه قول محمد: إنه طاهر طهور ما ذكر بالرقة في إثبات الطهورية، فإن ما يدل على الطهورية يدل على الطهارة من طريق الأولى، ويدل عليه ما روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام ورضي عنهم، كانوا يتبركون بوضوء رسول الله عليه السلام، وكانوا يغسلون به وجوههم وأبدانهم ولو كان نجساً لما فعلوا ذلك، ولأن الماء إذا استعمل في محل فانقص أحواله أن يصير في مثل حال المحل، وأعضاء المحدث والجنب طاهر حتى لو صلى وهو حامل لجنب أو محدث تجوز صلاته، ولو عرق الجنب والمحدث في ثيابهم لم تتنجس ثيابهم، ولكن لا يحل أداء الصلاة ببدن محدث، فالماء المستعمل في هذا المحل تصير بهذه الصفة، فإذا أصاب الثوب يجوز الصلاة فيه، ولو توضأ به لا تجوز الصلاة.
قال مشايخنا: ولنا مسائل تدل على نجاسة الماء المستعمل، منها: أجمعنا على أن المسافر إذا كان له ما يحتاج إليه لعطشه أنه يمسك الماء ويتيم، ولو كان الماء المستعمل طاهراً لتوضأ به ثم شرب.
ومنها: أن الجنب إذا أراد أن يغتسل فتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجله، وإنما أمر(1/120)
بغسل رجليه كيلا تتنجس رجله ثانياً. ولو كان الماء المستعمل طاهراً لكان لا يتأخر غسل رجليه إلى ما بعد الاغتسال.
ومنها: أجمعنا على أنه يباح إراقة الماء المستعمل، ولو كان طاهراً لا يباح إراقته.
الموضع الثاني: أن الماء متى يأخذ حكم الاستعمال، فنقول: إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط، هذا هو مذهب أصحابنا، وما ذكر في «شرح الطحاوي» أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، فذاك قول سفيان الثوري وإبراهيم النخعي رحمهما الله وبعض مشايخ بلخ، وهو اختيار الطحاوي رحمه الله، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، أما مذهب أصحابنا ما ذكرنا، وعن هذا قلنا: إن من نسي مسح رأسه فأخذ ماءً من لحيته ومسح به رأسه لا يجوز، لأنه كما أخذه من لحيته فقد أخذ حكم الاستعمال؛ لأنه زايل العضو فحصل المسح بماء مستعمل.
وفي نظم «الزَّنْدويستي» : إن عند مشايخ بخارى يصير الماء مستعملاً وإن كان في الهواء، حتى قالوا: إن أصاب ثوبه يتنجس بأن كان متقاطراً، وكذا الخرقة التي يمسح بها أعضاء الوضوء، فإن كان متقاطراً يتنجس، يعني على قول من يقول بنجاسة الماء المستعمل.
وفي «شرح الطحاوي» : لو بقي على العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على ذلك العضو إلى تلك اللمعة جاز، ولو صرف البلل الذي في اليمنى إلى اللمعة التي في اليسرى، أو من اليسرى إل اليمنى لا يجوز. ولو كان هذا في الجنابة جاز؛ لأن الأعضاء في الجنابة كعضو واحد والله أعلم.
معرفة سبب استعمال الماء
فنقول: اختلف المشايخ المتأخرون، قال الشيخ أبو بكر الرازي وجماعة من مشايخ العراق: الماء على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إنما يصير مستعملاً بأحد أمرين: إما برفع الحدث بأن يتوضأ تبرداً وهو محدث، أو باستعماله على قصد إقامة القربة بأن يتوضأ وهو متوضىء ناوياً الوضوء.
وعلى أصل محمد رحمه الله: الماء إنما يصير مستعملاً بشيء واحد وهو الاستعمال على قصد إقامة القربة، واستدلوا بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: الماء بحاله طاهر، والرجل بحاله جنب لأنه لو حكم بطهارة الرجل صار الماء مستعملاً أول الملاقاة، والماء المستعمل عنده نجس فلا يطهر به الشخص، وإذا لم تجر الطهارة ينتقض الحكم بالاستعمال فيقع الدور، فقال من الابتداء: الماء بحاله والرجل بحاله احترازاً عن الدور.
قال محمد رحمه الله: الماء طاهر والرجل طاهر، أما الرجل طاهر؛ لأنه وصل إلى الماء والماء مطهر بداية من غير نية، كما وقع في الماء الجاري، وأصابه المطر، والماء(1/121)
طاهر بحاله؛ لأنه لا نجاسة عليه حقيقة وإنما يتغير بقصد القربة لما فيه من تطهير عن الآثام ولم يوجد، فلا يصير مستعملاً.
قال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء؛ لأن المقصود قد حصل بها كما لو قصد القربة ولا معنى لهذا الخلاف إذ لا نص عنهما على هذا الوجه، ولا يجوز أن يؤخذ هذا من مسألة البئر؛ لأنه أمكن تخريجها على المقولتين من غير إثبات الخلاف، محمد رحمه الله يقول في دخول الجنب في البئر ضرورة، وفي تكليف الغواص بالغسل حرج، فيحمل ذلك لضرورة، وهذا كما قلنا في المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الأناء، أو الحبِّ لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملاً بلا خلاف، إلا إذا نوى بإدخال اليد الاغتسال، وإنما لا يصير مستعملاً لأجل الضرورة؛ لأن الإنسان عسى لا يجد إناء صغيراً ولا يمكنه صب الماء على يده من الإناء الكبير، فيضطر إلى الإدخال فيسقط اعتبار القياس، وأقام اليد مقام الإناء الصغير. وإذا نوى الاغتسال ولم يستعمل اليد استعمال الإناء، فبقي على أصل القياس.
ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاستعمال، ذكر شيخ الإسلام: أنه يصير مستعملاً عند أبي يوسف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه لا يصير مستعملاً وعلل: لأن الرجل تجري مجرى اليد في الإناء، فعلى قول هذا التعليل لو أدخل الرجل في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وكذلك لو أدخل رأسه أو عضواً آخر في البئر أو في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الحب، فأدخل يده في الحب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملاً لمكان الضرورة، ويشترط إدخال عضو تام لصيرورة الماء مستعملاً في الرواية المعروفة عن أبي يوسف.
وفي «الفتاوى» : لو أدخل في الإناء أصبعاً أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم ينجس الماء، وإن أدخل الكف يريد غسله يتنجس؛ لأن في الأول ضرورة، ولا ضرورة في الثاني. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا إنما يتأتى على قول من يجعل الماء المستعمل نجساً لا على من لا يجعله نجساً.
وفي «العيون» عن محمد رحمه الله: جنب أصاب يده أو ثوبه قذر أخذ الماء بفيه (16ب1) ولم يرد به المضمضة وغسل اليد أو الثوب يجوز، وكذلك لو توضأ به يجوز، ولو أراد به المضمضة لم يجز الغسل ولا الوضوء؛ لأن في الوجه الأول لم يقصد القربة، فلم يصر الماء مستعملاً، وفي الوجه الثاني قصد القربة فصار الماء مستعملاً.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز الوضوء ولا الغسل؛ لأنه قد ارتفع به الحدث، وإنه كافٍ لصيرورة الماء مستعملاً عنده، وعلى هذا إذا أخذ الماء بفيه وملأ به الآنية.
قال الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» : ولا يجوز التوضؤ بالماء المستعمل في وضوء أو غسل شيء من البدن، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله: أو غسْل شيء من البدن أورده الحاكم في «المختصر» ، ولم يذكره محمد رحمه الله في(1/122)
«المبسوط» وتفسير هذا الكلام: إذا غسل جنبه أو فخذه، لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال؟ وهذا شيء تكلم فيه المشايخ، ولا نص فيه عن أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وإنما المنصوص عنهم أنه إذا غسل أعضاء الوضوء وهو محدث متبرداً أو غسل به أعضاء الوضوء وهو طاهر.... الوضوء.
فأما الذي غسل عضو الفرض من الحدث، وهو طاهر تكلم المشايخ فيه، منهم من قال: هو مستعمل، وكثير من مشايخنا قالوا: لا يأخذ من هذا حكم الاستعمال، وذكر الطحاوي: أن من تبرّد بالماء صار مستعملاً. قال القدوري رحمه الله: وهو محمول على ما إذا كان محدثاً، وهذا لأن الماء إنما يصير مستعملاً عند أبي يوسف رحمه الله برفع الحدث أو بقصد القربة عند محمد رحمه الله وبقصد القربة على ما عليه عامة المشايخ ولم يوجد ههنا قصد القربة ولا رفع الحدث أو لم يحمله على المحدث فلا معنى للاستعمال فيحمل على المحدث ليصير مستعملاً برفع الحدث.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «العيون» وغيره أنه لو أدخل المحدث رأسه في الإناء أو خفه يريد به المسح يجزئه المسح ولا يفسد الماء في رواية المعلى عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن المسح يتأدى بماء اتصل به من الماء لا بأكمله، وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يصير مستعملاً فلا يجزئه من المسح لإقامة القربة بهذا الماء، وكذلك لو كانت على يده جبائر فغمسها في الإناء يريد المسح، فهو على هذا الاختلاف، ولو لم يقصد المسح أجزأه المسح ولا يعد الماء مستعملاً على اختلاف المذهبين عند محمد رحمه الله لعدم قصد لقربة، وعند أبي يوسف رحمه الله لأن الفرض لا يتأدى بما بقي بل بما اتصل من الماء بقول الفرض يسقط بالإصابة لا الإسالة والاستعمال شرط بالإسالة.
لرجل إذا غسل يده للطعام قبل الأكل أو بعده صار الماء مستعملاً؛ لأنه قصد إقامة السنة، فإن من سنة الطعام غسل اليدين قبله وبعده كما جاء به الحديث، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ أو العجين لا يعد مستعملاً به لا قربة ثمة ولا إزالة الحدث.
وإذا أدخل يده الصبي في إناء على قصد إقامة (القربة) ؛ ذكر في هذه المسألة في شيء من الكتب، وقد وصل إلينا أن هذه المسألة صارت واقعة، فاختلف فيها فتوى الصدر الشهيد حسام الدين عمر، وفتوى القاضي الإمام جمال الدين ... فتوى، قال رحمهما الله: والأشبه أن يصير مستعملاً إذا كان الصبي عاقلاً؛ لأنه من أهل القربة، ولهذا صح إسلامه وصحت عباداته حتى أمر بالصلاة إذا بلغ سبعاً ويضرب عليها إذا بلغ عشراً، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل بيان حكم الأسآر
يجب أن تعلم بأن الأسآر أربعة: طاهرة كراهة فيه، وطاهر مكروه، ونجس، ومشكوك.(1/123)
أما الطاهر الذي لا كراهة فيه سؤر الآدمي وسؤر ما يؤكل لحمه سوى الدجاجة المخلاة، أما سؤر الآدمي فلما روي أن رسول الله عليه السلام «أُتي بعسلٍ من لبن فشرب بعض وناول الباقي أعرابياً كان على يمينه فشربه ثم ناول أبا بكر فشربه» ، ولأن عين الآدمي طاهرة لا كراهة فيه إلا أنه لا يؤكل لكرامته ولعابه متولد من عينه، فإذا كان عينه طاهر من غير كراهة كان سؤره طاهراً من غير كراهة أيضاً، ويستوي فيه المسلم والكافر عندنا. وقال الشافعي: سؤر الكافر نجس؛ لأن عين الكافر نجس، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: 28) فإذا كان عينه نجساً كان لعابه نجساً فيكون سؤره نجساً.
وإنا نقول: عين الكافر ليس بنجس، ألا ترى أن وفد بني ثقيف أنزلوا في مسجد رسول الله عليه السلام وكانوا مشركين، ولو كان عين الكافر نجساً لما أنزلوا في المسجد.
والآية محمولة على نجاسة اعتقادهم، لا على نجاسة أعضائهم، ونجاسة الاعتقاد لا تؤثر في نجاسة الأعضاء وكذا يستوي فيه الطاهر والمحدث والجنب والحائض لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن رسول الله عليه السلام كان يشرب من الإناء الذي شربت فيه وأنا حائض، فربما كان يضع فمه على موضع فمي» ، وعن رسول الله عليه السلام أنه قال: «من شرب سؤر أخيه كتب له عشر حسنات» وفي رواية «سبعون حسنة» ، ولأنه لم يتحول إلى الماء نجاسة حقيقية لا حكمية ولا أقيم به قربة، أما لم يتحول نجاسة حقيقية لأنه لا نجاسة لشفتيَ الجنب والحائض من حيث الحقيقة، وأما لم يتحول إليه نجاسة حكمية:
أما على قول محمد رحمه الله فلأن الماء عنده على ما عليه اختيار بعض المشايخ لا يتغير بسبب الاستعمال من حيث أنه يتحول إليه شيء بسبب الاستعمال، وإنما يتغير من حيث أنه يقصد به إقامة القربة على ما مرّ، ولم يوجد ههنا قصد إقامة القربة حتى لو قصد إقامة القربة يفسد الماء عنده.
وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلأن على أصله الماء إنما يتغير بالاستعمال بقصد إقامة القربة أو برفع الحدث وهو اختيار بعض المشايخ على قول محمد على ما مر، ولم يوجد ههنا واحد منهما. أما قصد إقامة القربة فظاهر، وأما رفع الحدث فلأن الحدث عنده لا يرتفع ههنا على إحدى الروايتين لأجل الضرورة، وعلى الرواية الثانية وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن ارتفع الحدث ولكن لا يحكم بتغير الماء دفعاً للحرج، إذ لو حكم بتغير الماء يحتاج كل من أجنب أو حاضت إلى إناء على حدة، وفيه من الحرج ما(1/124)
لا يخفى، هذا كما يقولان في الجنب والحائض إذا أدخل يده في الحب عند انعدام الآلة الصغيرة، لا يفسد الماء إذا لم يكن على يده قذر، وإنما لا يفسد لمكان الحرج والضرورة على ما بينا.
وأما سؤر ما يؤكل لحمه من الطيور سوى الدجاجة المخلاة فلما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: «كنا في السفر مع رسول الله عليه السلام فلما انتهينا إلى حوض شربت ناقة رسول الله عليه السلام من ذلك الحوض فتوضأ النبي عليه السلام من ذلك الحوض وتوضأت أنا» ، وروي أن رسول الله عليه السلام «توضأ بسؤر بعير أو شاة» ، ولأن نجاسة السؤر لمكان نجاسة اللعاب واللعاب متولد من اللحم، ولحم هذه الحيوانات طاهر من غير كراهة فكذا لعابها.
وأما الطاهر الذي هو مكروه فهو: سؤر الدجاجة المخلاة، لأنها تفتش الجيف والأقذار بمنقارها، ومنقارها لا يخلو عن نجاسة، مع هذا إذا توضأ به أجزأه، لأن منقارها في الأصل طاهر؛ لأن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها بدليل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأكل لحم الدجاجة، وكان يقول: «رأيت رسول الله عليه السلام يأكل كل لحم الدجاجة» ، فثبت أن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها، وفي نجاسة منقارها شك؛ لأن تفتيشها النجاسة والأقذار ليست بقطعية بل هي محتملة، والمحتمل لا يعارض المتيقن، فلعدم التيقن بنجاسة المنقار لم يحكم بنجاسة السؤر ولإمكان الاحتمال أثبتنا الكراهة.
فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر من غير كراهة؛ لأن منقارها في الأصل طاهر وقد وقع الأمن عن أن تفتش النجاسات إذا كانت محبوسة.
واختلف المشايخ في صفة المحبوسة، بعضهم قالوا: المحبوسة أن تحبس في بيت وتعلف هناك، وهذا لأنها إذا كانت محبوسة في بيت لا تجد نجاسات غيرها لنفسها، وهي لا تفتش نجاسة نفسها وليس من عادتها ذلك، فوقع الأمر عن النجاسة، ومنقارها طاهر في الأصل فلهذا كان سؤرها طاهراً من غير كراهة.
وقال بعضهم: صفة المحبوسة أن يحفر لها حفرة (17أ1) فيجعل رجلاها فيها، ورأسها والعلف أمامها أو يجعل لها بيتاً ويكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها، وهذا القائل يقول بأنها ربما يعتبر ما يكون منها إذا عم نجاسات غيرها، فلا يؤمن أن يصيب منقارها نجاسة، فهي والمخلاة سواء.
وكذلك سؤر سباع الطير كالصقر والبازي والشاهين مكروه، وهذا استحسان، والقياس أن يكون نجساً قياساً على سؤر سباع البهائم، نحو الأسد والذئب والنمر وما(1/125)
أشبه ذلك، وهذا لأن سؤر سباع الوحش لا يخلو عن لعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيكون لعابها نجساً يوجب تنجس الماء، وهذا المعنى موجود في سباع الطير.
وفي الاستحسان: فرق بين سباع البهائم وبين سباع الطيور، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن سؤر سباع الوحش إنما كان نجساً، لأن سباع الوحش تشرب بلسانها ولسانها مبتل بلعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيصل شيء من لعابها إلى الماء، وإنه نجس فيوجب تنجس الماء، فأما سباع الطير فإنها تشرب بمنقارها، وكلما رفعت قطرة بمنقارها رفعت رأسها و (ابتلعت) تلك القطرة، فلا يسيل شيء من لعابها إلى الماء، وإنما يصل منقارها إلى الماء (وهو) عظم جاف لا يحتمل النجاسة.h
والثاني: علمنا أنه يسيل شيء من لعابها إلى الماء، إلا أن في سباع الطيور ضرورة وبلوى لأنها تنزل من الهواء، فإذا وجدت آنية ماء تشرب منها، فلا يمكن الاحتراز عن سؤرها، وللضرورة أثر في إسقاط حكم النجاسة بخلاف سباع الوحش؛ لأنها تكون في المغاور والصحارى، ولا تنزل من الهواء، فيمكن الاحتراز عن سؤرها، فلم يسقط اعتبار النجاسة عن سؤرها، إلا أنه يكره التوضؤ بسؤر سباع الطير.
واختلف المشايخ في معنى الكراهة، بعضهم قالوا: إسقاط النجاسة عن سؤرها إنما يكون للضرورة على ما بينا في الفرق الثاني، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة فانتفت النجاسة لوجود أصل الضرورة، وبقيت الكراهة؛ لأن الضرورة ليست ثابتة، وبعضهم قالوا: إنها لا تتوخى عن النجاسات، بل يكون عامة مأكولاتها النجاسات، فلا يؤمن أن يكون على منقارها النجاسة، فيصل إلى الماء، غير أن الأصل لما كان طهارة منقارها واتصال النجاسة بمنقارها ليست بيقين حكمنا بالكراهة، ولم نحكم بالنجاسة كما في سؤر الدجاجة المخلاة، فهذا القائل يقول: إذا تيقن أنه لم يكن على منقارها نجاسة، كالبازي المأخوذ وغيره من الصقر والشاهين وأشباهها فإنه لا يكره التوضؤ بسؤرها كما في الدجاجة المحبوسة، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، فكأن أبا يوسف رحمه الله اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة بمنقارها، لا لوصول لعابها إلى الماء.
واستحسن المتأخرون من مشايخنا رواية أبي يوسف وأفتوا بها.
وكذلك سؤر ما يسكن البيوت من الحشرات كالفأرة والحية والوزغة مكروه، والقياس أن يكون نجساً باعتبار أن عينها نجسة ولعابها يتولد من عينها، إلا أننا أسقطنا اعتبار القياس ضرورة الطواف علينا على ما نبين في سؤر الهرة، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست بماسَّة.
وكذلك سؤر الهرة مكروه عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تكره، ذكر لفظة الكراهة عندهما في «الجامع الصغير» وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وذكر في صلاة «الأصل» : المستحب أن (لا) يتوضأ بسؤر الهرة، وإن توضأ به أجزأه.(1/126)
وعن أبي يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله وابن أبي ليلى عن سؤر الهرة فكرهاه، وأما أنا فلا أدري به بأساً، وهو قول الشافعي.
حجة أبي يوسف والشافعي عليهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يصغي الإناء للهرة ويشرب ما بقي ويتوضأ منه» ، وهو قوله عليه السلام: «الهرة ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات عليكم» صرح أن الهرة عينها ليست بنجسة، وإذا لم تكن عينها نجسة لا يكون سؤرها نجساً.
ولهما: قوله عليه السلام: «الهرة سبع» وقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة» ، واختلف المشايخ في علة المسألة فالمحكي عن الطحاوي أنه كان يقول: الهرة تشرب بلسانها، ولسانها رطب بلعابها، ولعابها متولد من عينها، وعينها نجس، فكذا لعابها، لقضية هذا (وجب) أن يكون سؤرها نجساً لكن أسقطنا النجاسة ضرورة الطواف، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست ماسَّة لا يمكن الاحتراز عنها.
والمحكي عن الكرخي رحمه الله أنه كان يقول: عين الهرة ليست بنجسة ولعابها ليس بنجس، وكيف تكون نجسة مع أن الشرع أسقط نجاستها، إلا أن عامة مأكولاتها نجس، فإنها تأكل الفأرة والجيف، وعلى هذا التقدير يصير فمها نجساً، لكن هذا ليس بأمر متيقن حتى يحكم بنجاسة السؤر، ولكنه غالب، فأثبتنا الكراهة كما في يد الصبي، والمستيقظ من المنام.
بعض مشايخنا قالوا: على قياس سؤر الهرة يجب أن يكون سؤر سواكن البيوت مكروهاً على الاختلاف، وبعضهم قالوا: سؤر سواكن البيوت مكروه بالاتفاق؛ لأن أبا يوسف رحمه الله إنما لم يقل بالكراهة في سؤر الهرة بالنص، ولا نص في سؤر سواكن البيوت، والله تعالى أعلم.
ومما يتصل بفصل الهرة
إذا أكلت فأرة وشربت من إناء على فورها ذلك يتنجس الماء بلا خلاف، وإن مكثت ساعة أو ساعتين ثم شربت لا يتنجس الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: يتنجس.
فأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا مكثت ساعة أو ساعتين فقد غسلت فمها بلعابها، ولعابها طاهر، وإزالة النجاسة بما هو سوى الماء من المائعات عندي جائز، فشربت بعد ذلك وفمها طاهر. وأبو يوسف رحمه الله يقول: النجاسة وإن كانت لا تزول عندي إلا بصب الماء عليه لكن في مثل هذا الموضع يحكم بالزوال بدون الصب للضرورة.(1/127)
ومحمد رحمه الله يقول: إزالة النجاسة بما سوى الماء من المائعات عندي لا يجوز، فبقي فمها نجساً كما كان.
ونظير هذا ما قالوا فيمن شرب الخمر ثم تردد في فمه البزاق ما لو كانت تلك الخمر على ثوب طهرها ذلك البزاق: إنه يطهر فمه عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك الرجل إذا أصابته نجاسة في بعض أعضائه أو أصاب بدنه فلحسها بلسانه أو مسحها بريقه حتى ذهب أثره طهر وكذلك الصبي إذا قاء على ثدي أمه ثم مص ذلك مراراً حكم بطهارته عند أبي حنيفة رحمه الله.
وعلى قياس مسألة السؤر قالوا في الهرة: إذا لحست كف رجل يكره له أن يدعها تفعل ذلك، لأن ريقها ليس بطيب ولأجل ذلك كره التوضؤ بسؤرها. وكذلك قالوا: الهرة إذا أكلت بعض الطعام كره للرجل أن يأكل الباقي؛ لأن ما بقي لا يخلو عن ريقها، وريقها ليس بطيب على ما بينا.
وأما النجس سؤر سباع البهائم، وقدَّ الكلام فيه ونجاسته غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف رحمه الله فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر (سباع) البهائم وطهارته فأوجب اختلافهم تخفيفاً فيه كبول ما يؤكل لحمه. وكذلك سؤر الخنزير وسؤر الكلب نجس، أما سؤر الخنزير: فلأن لعابه يتولد من عينه، وعينه نجس قال الله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (الأنعام: 145) والنجس والرجس واحد.
وأما سؤر الكلب فنجاسته مذهبنا، وقال مالك: طاهر، فمن المشايخ من يسلم أن لحمه نجس ولعابه نجس بلا خلاف، إلا أنه يجعل هذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة هل يتنجس؟ عندنا يتنجس، وعنده لا يتنجس إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وولوغ الكلب لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه، فلا ينجسه، ومنهم من يقول: بأن لحمه طاهر، ولعابه كذلك عند مالك فيكون سؤره طاهراً. وعندنا لحمه نجس ولعابه كذلك، فيكون سؤره نجساً.
حجة مالك: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) أي خلق لمصالحكم ومنافعكم، والانتفاع يكون بالطاهر (17ب1) لا بالنجس، والنص يفيد طهارة لحمه ولعابه، ومن ضرورته طهارة سؤره.
وإنا نحتج بقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» وهذا أمر بصيغة الجبر، وعن رسول الله عليه السلام «أنه أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» والأمر بغسل الإناء لا يكون تعبداً؛ لأن غسل الظروف لا تعد قربة فيدل ذلك على تنجسه، وإنما تنجس الإناء بولوغه إذا كان لعابه نَجسَاً وإنما يكون لعابه نجساً إذا كان لحمه نجساً.(1/128)
وكذلك سؤر الفيل نجس كسؤر السباع، هكذا روي عن محمد رحمه الله وإنه ظاهر؛ لأن الفيل سبع، لأنه ذوناب.
وأما المشكل فهو سؤر الحمار واختلف المشايخ المتأخرون في أن الإشكال في طهارته أو في طهوريته، وعامتهم على أن الإشكال في طهوريته، وإنما وقع الإشكال في طهارته. إما لأن الصحابة اختلفوا في نجاستهِ وطهارته، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه نجس، وعن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أنه طاهر، وليس أحد القولين بأولى من الآخر فبقي مشكلاً، أو لأن الحمار يربط في الدور والأخبية فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ليست نظير الضرورة في الهرة لأن الهرة تدخل مضايق البيوت والحمار لا يدخل مضايق البيوت.
ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلاً كما في سؤر الكلب وسؤر سباع البهائم وجب الحكم بنجاسة سؤره بلا إشكال. ولو كانت الضرورة في الحمار نظير الضرورة في الهرة لوجب الحكم بإسقاط نجاسته وبقائه على الطهارة بلا إشكال. فإذا ثبتت الضرورة من وجه دون وجه عملنا بهما، ولوجود أصلها لم يحكم بنجاستهِ، ولانعدام ما يمنعها لم يحكم بالطهارة فبقي مشكوكاً فيه.
والأصح ما نقل عن عامة المشايخ أن الإشكال في طهوريته لا في طهارته، فقد روي عن محمد رحمه الله نصاً في «النوادر» : أن سؤر الحمار طاهر ولكن الإشكال في طهوريته ما ذكرنا أن الحمار يربط في الأجنبية والدور فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ماسَّة من وجه دون وجه، لوجود أصلها لم يحكم بنجاسته لانعدام تمامها. أخرجناه من أن يكون طهوراً فلا يطهر ما كان نجساً، ولا ينجس ما كان طاهراً.
والحكم في سؤر البغل مثل الحكم في سؤر الحمار لأن البغل متولد من الحمار ومخلوق من مائه.
وبعض مشايخنا قالوا: حكم سؤر الحمار أخف من سؤر البغل لأن البلوى في حق الحمار أكثر من البلوى في البغال لكثرة الحمر وقلة البغال فيما بين الناس. وبعض الناس فرقوا في الحمير بين الفحل والأتان فقالوا: سؤر الفحل يكون نجساً؛ لأنه يشم الأبوال فتتلطخ شفتاه وتتنجس. فإذا دخل في الماء القليل يتنجس الماء ضرورة، ولا كذلك الأتان لأنها لا تشم الأبوال.
وعندنا الكل مشكل لأن غمس الشفة في البول موهوم، والأصل هو الطهارة فلا تثبت النجاسة في شفتها بالشك، كما قلنا في الدجاجة المخلاة سؤرها طاهر، فاعتبار الأصل وإن كان الظاهر من حالها الجولان في العذرات. وعن الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن سؤر الحمار نجس؛ لأن لعابه لا يخلو عن قليل الدم لما يلحقه من التعب بحمل الأثقال، ولكن هذا المعني يشكل بسؤر الدواب التي يؤكل لحمها ويحل عليها نحو البعير والقر. وذكر البلخي في «اختلاف زفر ويعقوب» : أن سؤر الحمار نحسٌ عند زفر والحسن نجاسة حقيقية طاهر عند أبي يوسف. وفي باب السهو من «الأصل» وقال أبو(1/129)
يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا سقط شيء من لعابها في وضوء رجل قليلاً كان أو كثيراً يفسد الماء ولا يجزىء من توضأ به.
وذكر في باب الوضوء من «الأصل» الجواب في لعاب ما لا يؤكل لحمه ولم يضفه إلى أحد. قال بعض مشايخنا في «شرحه» : أراد بفساد الماء ههنا أن لا يعد طهوراً. وروى البغداديون عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن سؤر ما لا يؤكل لحمه بمنزلة بوله إذا كان أكثر من قدر الدرهم الكبير أفسد الصلاة.
وأما سؤر الفرس فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أربع روايات. قال في رواية: أحبّ إليّ أن يتوضأ بغيره، وهذه رواية البلخي عنه، وفي رواية الحسن: أنه مكروه كلحمه. وفي رواية أخرى قال: هو مشكوك كسؤر الحمار، لأن لحم الفرس عنده حرام كلحم الحمار.
وفي رواية كتاب «الصلاة» قال: هو طاهر وهو الصحيح من مذهبه لأن كراهية لحمه عنده ما كانت لنجاسته بل لاحترامه لأنه آلة الجهاد، وحرمة اللحم لأجل الاحترام لا توجب نجاسة السؤر كسؤر الأدمي. وعندهما: سؤره طاهر والله أعلم.
(فصل في) بيان حكم عرق الحيوانات ولعابها
ذكر الكرخي والطحاوي رحمهما الله في «مختصريهما» أن عرق كل شيء مثل سؤره في النجاسة والطهارة والحرمة والكراهة. وفي باب السهو من «الأصل» : أن عرق الحمار والبغل ولعابهما لا ينجس الثوب وإن فَحُشَ.
وإذا وقعا في الماء القليل أفسداه وإلا فلا. قال بعض مشايخنا وهذا بتفرقةٍ بين الثوب والماء كما ظنه بعض المشايخ لأنه لم يحكم بنجاسة الثوب الطاهر بالشك ولم يحكم بزوال الحدث بذلك الماء بالشك حتى لو وقع ذلك الثوب في الماء القليل لا يجوز التوضؤ به.
ولو أصاب ذلك الماء الثوب لا يمنع جواز الصلاة فيه وإن فحش.
وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن الماء يتنجس بوقوع عرق الحمار فيه. وفيه أيضاً: أن عرق الحمار نجس نجاسة خفيفة حتى إن الكثير الفاحش على ربع الثوب يمنع جواز الصلاة وما دونه لا يفسد الصلاة. وهكذا روى عنه «الأمالي» ، وفي «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة رواية أبي يوسف في عرق الحمار: أنه إذا كان أكثر من قدر الدرهم أفسد الصلاة. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمهما الله أن عرق الحمار ولعابه إذا وقع في البئر مثلاً كيف ينزح ماء البئر.
يحتمل أنه إنما قال: ينزح حتى يصير طهوراً، ويحتمل أنه إنما قال ذلك حتى يصير البئر طاهراً.
وعن أبي حنيفة رحمه الله في عرق الحمار ثلاث روايات، في رواية قال: هو طاهر، فقد روي أن رسول الله عليه السلام «كان يركب الحمار معرورياً» ... .... .... .....(1/130)
فلا بد أن يعرق الحمار، والمعنى أن للناس في عرق الحمار ضرورة لأنهم يركبون الحمار عرياً في الصيف والشتاء في الحضر والسفر، فلا بدّ وأن يعرق الحمار، ولو لم يحكم بطهارته ضاق الأمر على الناس ووقعوا في الحرج.
وفي رواية قال: هو نجس نجاسة خفيفة؛ لأن في عرق الحمار ضرورة على ما بينّا، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة لأنه يمكن التحرز عنها، ولوجود أصل الضرورة أسقطنا الغلظ. ولما أن الضرورة ليست ماسَّة أثبتنا النجاسة عملاً بالدليلين جميعاً.
وفي رواية أخرى قال: هو نجس نجاسة غليظة؛ لأن عرقه يتولد من لحمه ولحمه نجس نجاسة غليظة، وما يتولد من لحمه يكون بهذه الصفة.
وفي «القدوري» : أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن عرق الحمار والبغل نجس وإنما جعل عفواً في الثوب والبدن لمكان الضرورة.
ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أنه طاهر ولا يؤكل.
وروي عن أصحابنا في لبن المرأة الميتة أنه طاهر وكذا لبن الشاة الميتة والبقرة الميتة والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
بيان ما يجوز التوضؤ من المائعات سوى الماء وما لا يجوز.
ولا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات سوى الماء نحو الخل والدهن والمرئي وما أشبه ذلك. وأما التوضؤ بالأنبذة اتفقوا على أنه لا يجوز حال وجود الماء، وأما حال عدم الماء قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، فقد ذكر في «الجامع» عن أبي حنيفة رحمه الله في المسافر إذا لم يجد إلا نبيذ التمر: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، وقال في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة: لو تيمم مع ذلك أحب إليّ وإن لم يتيمم أجزأه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة: أنه رجع عن ذلك، وقال: لا يتوضأ به ويتيمم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله والشافعي (18أ1) ومالك، وقال محمد رحمه الله يجمع بينهما، وستأتي المسألة في باب التيمم إن شاء الله تعالى.
وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه يقول: إنما اختلاف أجوبة أبي حنيفة في نبيذ التمر باختلاف السيولة، كأنه سئل عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كان الماء غالباً على الحلاوة فأجاب وقال: يتوضأ به ولا يتيمم. وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانت(1/131)
الحلاوة غالبة قال: يتيمم ولا يتوضأ به وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانا سواء قال: يتوضأ به ويتيمم، فعلى هذا يرتفع الخلاف.
قال القدوري في «كتابه» وكان أصحابنا يقولون: إن التوضؤ بالنبيذ على أصولهم يجب أن لا يصح إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم؛ ولهذا لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء إلا أنه مقدم على التيمم بالحين، لما كان بدلاً لا يجوز التوضؤ به بدون النية كالتيمم.
ولا نصّ عن أبي حنيفة في الاغتسال بنبيذ التمر، واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز؛ كالوضوء، وبعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأن جواز الوضوء عرف بخلاف القياس بالخبر، والاغتسال فوق الوضوء لا يلحق به في حق حكم ثبت بخلاف القياس، ثم لم يصف محمد رحمه الله نبيذ التمر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» .
وإنما وصفه في «النوادر» فقال: على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا كان رقيقاً يسيل على العضو إذا صب عليه، وأما إذا كان مثل الزيت غليظاً بأن ألقى تمرات في الماء وطبخ ذلك الماء حتى صار غليظاً، أو عصيراً لرطب حتى سال منه الماء فذلك يسمى دبساً فلا يجوز التوضؤ به، ثم الرقيق منه ما دام حلواً وحامضاً فالتوضؤ به جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد يجوز التوضؤ به عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً ذكره أبو الليث رحمه الله في «كتابه» ، وذكر أبو طاهر الدباس وأبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه لا يجوز التوضؤ به بعدما اشتد وصار مسكراً بالإجماع، وهذا إذا كان نيئاً أما إذا كان طبخ أدنى طبخة قال الكرخي رحمه الله: يجوز التوضؤ به مراً كان أو حلواً عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن المشايخ من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: إن كان حلواً يجوز التوضؤ به؛ لأنه مَاءٌ طبخ مع التمر فصار كماء طبخ مع الصابون والأشنان، وإن اشتد فهو نجس على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله فلا يجوز التوضؤ به.
ولا يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة عندنا، خلافاً لبعض الناس، فإنهم قاسوا سائر الأنبذة على نبيذ التمر، ونحن نقول: جواز التوضؤ بنبيذ التمر عرف بالسنة فلا تجوز سائر الأنبذة بالقياس والله أعلم بالصواب.
الفصل الخامس (في التيمم)
الأصل في جواز التيمم قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة(1/132)
تيممت وصليت» . وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في كيفيتهِ وصفته.
قال محمد رحمه الله في بعض روايات «الأصل» : يضع يديه على الأرض، وقال بعضهم يضرب يديه على الأرض ضربة، والآثار جاءت بلفظة الضرب أفضل لأن بالضرب يدخل التراب إلى الأصابع وبالوضع لا يدخل. ثم قال بعضهم: ويمسح بهما وجهه، والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أن ينفضهما مرتين، والمروي عن محمد رحمه الله أن ينفضهما مرة. قالوا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن ما روي عن أبي يوسف محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء كثير، وما روي عن محمد محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء قليل والمرة تكفي، والمرتان لا بأس بهما، وهذا لأن الواجب المسح بكف موضوع على الأرض لا استعمال التراب لأن ذلك مثله.
قال: ثم يضرب يديه ضربة أخرى على الأرض ثم ينفضهما ويمسح اليمن باليسرى ويمسح اليسرى باليمن، يمسح كفيه وذراعيه إلى المرفقين، هذا هو مذهب علمائنا. وللعلماء في المسألة أقاويل كثيرة، والصحيح مذهبنا، لما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» . وعن بعض موالي رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين» .
ولم يذكر في «الكتاب» نصاً أنه يضرب ظاهر كفيه على الأرض أو باطنهما، وإنما أشار إلى أنه يضرب باطنهما فإنه قال: فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لا يجوز، وإنما يستقيم وضع المسألة على هذا الوجه إذا كان يضرب باطن كفيه على الأرض، قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التيمم فقال: الوجه والذراعان إلى المرفقين، فقلت: كيف؟ قال: بيده على الصعيد فأقبل بيديه وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعاً على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رجعهما ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين.
وفي قوله: فأقبل بهما وأدبر وجهان:
أحدهما: أنه ضرب ببطن كفيه وظهرهما على الأرض. وعلى هذا الوجه يصير هنا رواية أخرى، بخلاف ما أشار إليه محمد رحمه الله.
والثاني: أنه أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفيه شيء يصير حائلاً بينه وبين الصعيد، وقال بعض مشايخنا في كيفية التيمم: أنه إذا ضرب يديه على الأرض في المرة الثانية. ونفضها ينبغي أن يضع بطن كفه اليسرى على ظهر كفّه اليمنى ويمسح بثلاثة أصابع(1/133)
يده اليمنى أصغرها ظاهر اليد اليسرى إلى المرفق ثم يمسح باطنه بالإبهام، والمستحب إلى رؤوس الأصابع.H
وهل يمسح الكف؟ تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يمسح لأنه مسحه مرة حين يضرب يديه على الأرض. ثم يفعل باليد اليسرى على نحو ما ذكرنا في اليد. اليمن ولو مسح وجهه وذراعيه بضربة واحدة لا يجزئه.
ولو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل. وفي بعض المواضع ذكر المسألة من غير شرط نية التيمم، والصحيح ما قلنا؛ لأن النية في التيمم شرط لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو قام فهبت الريح أو هَدَمَ حائِطَاً فأصاب الغبار وجهه وذراعيه فمسحه بنية التيمم جاز في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن المقصود قد حصل، وبدون المسح بنية التيمم لا يجوز. وعلى هذا إذا ذرّ رجل على وجهه تراباً لم يجز، فإن مسح ينوي به التيمم والغبار على وجهه جاز على قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا.
ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه: أن استيعاب العضوين بالتيمم واجب في ظاهر رواية أصحابنا حتى لو ترك المتيمم شيئاً قليلاً من مواضع التيمم لا يجزئه وهذا ظاهر؛ لأن التيمم قائم مقام الوضوء. ولو ترك المتوض شيئاً قليلاً من مواضع الوضوء في الوضوء لا يجزئه كذا هذا.
وروي عن محمد رحمه الله في «النوادر» ما يؤكد هذا القول، فإنه روي عنه في «النوادر» أنه إذا لم يدخل الغبار من أصابعه فعليه أن يخلل ما بين أصابعه، وفي هذه الحالة يحتاج إلى ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة لليدين وضربه لتخليل الأصابع، وهذا دليل على أنه إذا كان في أصبعيه خاتم أو على يدي المرأة سوار فلم ينزع في حالة التيمم أنه لا يجزئه. وروى الحسن عن أصحابنا أنه إذا ترك أقل من الربع يجزئه.
وفي «المجرد» رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا مسح أكثر الكف والذراعين أنه يجوز كما في مسح الرأس ومسح الخف فعلى هذه الرواية الغرض استيعاب أكثر المحلّ لأن استيعاب جميع المحل؛ في الممسوحات لا يكون شرطاً يحرج لأن لا ...
وعلى هذه الرواية لا يجب تخليل الأصابع وينزع الخاتم والسوار. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذه الرواية حداً لكثرة البلوى فيه، وروي عن محمد رحمه الله ما يخالف رواية الحسن فإنه روي عنه أنه لو ترك المسح على ظهر كفه لا يجزئه وظهر الكف أقل من الربع، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ظاهر الرواية ما رواه الحسن أن المتروك لو كان أقل من الربع أنه يجوز وتخريج مسألة ظهر الكف: أن (18ب1) الكف عضو على حدة، فظهر الكف لا يكون أقل من الربع، فعلى رواية(1/134)
الحسن يحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الوضوء:
وجه الفرق: أن حكم الوضوء أغلظ من حكم التيمم لذا شرع التيمم في عضوين والوضوء في أربعة أعضاء، واختلف العلماء في وجوب التيمم في الذارعين، قال الشافعي في القديم لا يجب، وهو قول مالك............ وقدروا الكبير بالربع، وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرافق فعليه أن يمسح موضع القطع عندنا ولا يجزئه تركه، وعند زفر رحمه الله لا يمسح بناءً على أن المرفق عنده لا يدخل في فرض الطهارة.
فإن قيل: كيف يجب مسح ذلك الموضع وإنه لم يكن واجباً قبل القطع قلنا: إنما لم يجب قبل القطع؛ لأنه كان مستوراً فلما قطع صار مكشوفاً، فإن كان القطع من فوق المرفق بأن كان من المنكب أو دون ذلك لم يكن عليه مسحه؛ لأنه لا يجب عليه غسله في الوضوء قبل القطع فلا يجب مسحه في التيمم بعد القطع والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان شرائطه
فنقول من شرط صحته: النية وهذا مذهبنا، وقال زفر رحمه الله النية ليست شرطاً لصحته، حجته: أن التيمم طهارة بالنص فلا يحتاج إلى النية كالوضوء. لنا: أن التيمم ليس بطهارة حقيقية. وإنما جعل طهارة بطريق الضرورة في حق المريد لإقامة القربة ولا إرادة إلا بالنية. واسم التيمم دليل عليه، فإنه عبارة عن القصد والقصد بدون النيّة لا يكون.
وتكلموا في كيفية النية روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: ينوي الطهارة لقربة لا تتأدى من غير طهارته؛ لأنها شرعت لأجلها، وذكر القدوري فقال: ينبغي أن ينوي الطهارة واستباحة الصلاة. وعن محمد رحمه الله في الجنب إذا تيمم يريد بها الضوء أجزأه من الجنابة؛ لأن التيمم طهارة فلا تعتبر نية إستباحتها كالوضوء. وعن أبي بكر الرازي رحمه الله: أنه لا بُدّ من التمييز فينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلا بد من التمييز بالنية كالصلاة التي تقع عن الفعل والعرض لما كانت على صفة واحدة شرط نية التعيين كذا هذا.
وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لو تيمم للنافلة جاز أداء الفرض به، وقال الشافعي: لا يجوز لأنها طهارة ضرورية فلا تظهر إلا فيما فيه ضرورة، ولنا: أن الضرورة إنما اعتبرت لضرورة التيمم طهارة. فإذا صارت طهارة بحكم الضرورة لا يفصل بين نوع ونوع، ألا ترى أنه لو تيمم للفرض جاز أداء النافلة به، ولم يعتبر ما قال كذا هذا.
وعلى هذا الخلاف إذا تيمم لفرض جاز أداء فرض آخر به عندنا خلافاً للشافعي. والمعنى من الجانبين ما ذكرنا وقوله عليه السلام: «التراب كافيك ولو إلى عشر حجج» ، دليل لنا في المسائل كلها وفي «الفتاوى» : إذا تيمم الجنب لقراءة القرآن أو(1/135)
لمس المصحف أو لدخول المسجد لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند عامة العلماء إلا على قول أبي بكر ابن سعيد البلخي.
ولو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أجزأه أن يصلي به المكتوبة بلا خلاف؛ لأن في الوجه الأول التيمم لم يقع في صلاة ولا لجزء من الصلاة. وفي الوجه الثاني وقع للصلاة أو لجزء من الصلاة، وقوله: لو تيمم لسجدة التلاوة دليل على أنه يجوز التيمم لسجدة التلاوة. وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لا يجوز التيمم لسجدة (التلاوة) لأنها غير قربة فلا، يخاف فوتها لو أخّر إلى وقت الوضوء، والحاصل: أن على قول عامة العلماء: لو وقع التيمم للصلاة أو لجزء من الصلاة جاز أن يصلي به صلاة أخرى وما لا فلا.
وعلى هذا: إذا تيمم يريد به تعليم غيره أو تيمم لزيارة القبر لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم. ولو تيمم الكافر ثم أسلم لم يجزئه أن يصلي بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
ومن جملة الشرائط: طلب الماء في العمرانات حتى لو تيمم في العمرانات قبل الطلب لا يجزئه التيمم، وهذا بخلاف. وأما في الفلوات لا يشترط الطلب عندنا خلافاً للشافعي، حجته في ذلك: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) . ومعناه: بعد الطلب لأنه لا يقال لغير الطالب، لم يجد.
ولنا: أن الطلب غير منصوص عليه في الآية، والوجود لا يقتضي الطلب قال الله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف: 102) ، وقال عليه السلام: «من وجد لقطة فليعرفها» ويقال: يجد فلان مرضاً في نفسه. فمن شرط الطلب فقد زاد على النص.
والمعنى فيه: أنه تيمم حال عدم الماء من حيث الحقيقة والظاهر وعدم الدليل عليه فيجزئه كما بعد الطلب، بيانه: أن العدم ثابت وجه الحقيقة وإنه حد الوجود وانعدم الدليل الدال على الوجود أيضاً من حيث الظاهر لأن الظاهر في الفلوات عدم الماء بخلاف العمرانات؛ لأن العدم من حيث الحقيقة إن كان ثابتاً فمن حيث الظاهر غير ثابت، فإن قيام العمارة بالماء فلم يثبت العدم من حيث قيام الدليل الدال على الماء وشرط الجواز عدمٌ مطلق.
وإذا غلب على ظن المسافر أن بقربه ماء لو طلبه وجده أو أخبر به، وجب عليه الطلب بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا لم يغلب على ظنه ذلك أو لم يخبر به.
والترتيب في التيمم ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو بدأ بذراعيه في التيمم يجوز عندنا، وكذلك الموالاة ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو مكث بعدما يمّم وجهه ساعة ثم يمّم ذراعيه أجزأه عندنا اعتباراً للتيمم بالوضوء والله أعلم.
ومن جملة الشرائط: عجزه عن استعمال الماء، وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب(1/136)
وهو لا يعلم أجزأه تيممه، لأنه عاجز عن استعماله، حين عَدِمَ آلة الوصول إليه وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم فكذلك ههنا. فإن كان عالماً بالماء لم يجز التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن كان الماء بعيداً عنه جاز له التيمم وإن كان عالماً به، يذكر في «الكتاب» حد القرب والبعد. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه اليتيم ويكون قريباً وإن كان ميلاً أو أكثر أجزأه التيمم لكونه بعيداً، والميل ثلث فرسخ، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إنما يكون الميل بعيداً عن يمينه أو عن يساره أو خلفه حتى يصير ميلين ذهاباً ورجوعاً. فأما هنا إذا كان قدامه فإنه يكون الميل قريباً فيعتبر ميلين لجواز التيمم. كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في رواية أبي حنيفة مع محمد رحمهما الله وفسّر الميل بثلاثمئة ذراع وخمسمئة ذراع إلى أربعة آلاف. هكذا فسره ابن شجاع في «كتابه» . وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه حدّ لهذا بحد آخر وقال: إن كان بحال لو اشتغل به تذهب القافلة وتغيب عن بصره يكون بعيداً وإن كان على العكس فهو قريب.
وذكر شيخ الإسلام هذه الرواية. وذكر زفر رحمه الله: إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم، وإن كان على العكس يجزئه لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولكنا نقول: التفريط جاء من قبله بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريباً منه. هذا الذي ذكرنا في حق المسافر.
وأما المقيم إذا خرج من مصره لا يريد سفراً وقد بعد عن المصر وليس معه ماء، هل يجوز له التيمم؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا كان بحيث يبلغه صوت أهل الماء يكون قريباً، لا يجوز له التيمم، فإن كان لا يبلغه صوتهم يكون بعيداً فحينئذ يجوز له التيمم.
وإذا كان مع رفيقه ماء ولم يكن معه ماء فإنه يسأل، هكذا ذكر في «الأصل» رأيت في موضع آخر عن أصحابنا: إذا كان غالب ظنه أنه يعطيه لم يجز له أن يتيمم بل يسأل. وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: لا يسأل فإن سأله فأبى أن يعطيه إلا بالثمن ولم يكن معه ثمنه فإنه يتيمم بالإجماع لعجزه عن استعمال الماء، وإن كان معه ثمنه فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع، أو بغبنٍ يسير، أو بغبن فاحش.
ففي الوجه الأول والثاني ليس له أن يتيمم بل يشتري ويتوضأ، هكذا ذكره في بعض المواضع، وفي بعض المواضع إذا باعه (19أ1) . بمثل القيمة أو بغبن يسير ومعه مال زيادة عليها يحتاج إليه في الزاد مقدار ثمن الماء لا يتيمم بل يشتري الماء، وفي الوجه الثالث يتيمم، وقال الحسن البصري رحمه الله: يلزمه الشراء بجميع ماله لأنه لا......... لأن حرمة مال المسلم كحرمة النفس قال عليه السلام: «من قتل دون(1/137)
ماله فهو شهيد» . ثم لو خاف تلف عضو جاز له التيمم، فإذا خاف............ أولى أن يجوز التيمم.
ولم يذكر في «الأصل» للغبن الفاحش تقديراً، وقد ذكر في «النوادر» إن كان المال الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه صاحب الماء إلا بدرهم ونصف يلزمه أن يشتري ولا يتيمم، وإن أبى أن يعطيه إلا بدرهمين يتيمم ولا يشتري، فجعل الغبن الفاحش في تضعيف الثمن.
وإنما قلنا: إذا كان يعطيه بمثل ثمنه أو بنصف يسير فعليه أن يشتري لأن قدرته على بذل الماء كقدرته على عينه، كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من التكفير بالصوم، وقال بعضهم: الغبن الفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.
وفي «القدوري» : إذا زاده على ثمن المثل بما لا يتغابن الناس فيه يتيمم، ولم يلزمه الشراء، وهو والذي قبله سواء، وتعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يشتري فيه، وقد أشار في مسألة «النوادر» إلى أعشار قيمته في المكان الذي يشتري فيه، وذكر الشيخ الإمام الصفار: المسافر إذا كان في موضع عز الماء في ذلك الموضع فالأفضل أن يسأل، وإن لم يسأل وتيمم وصلى فإنه تجوز صلاته، لأن الظاهر أنه يجري الشح في الماء في مثل ذلك الموضع، ولو أعطاه بعد ذلك لا تجوز صلاته، وعليه أن يعيد تلك الصلاة لأنه لما أعطاه كان الظاهر أنه لم يسأل قبل ذلك العطاء. فإذا لم يسأل جاء التقصير من قبله فلا يجوز.
فأما إذا كان في موضع لا يرى فيه الماء فإنه يسأل حتى أنه لو لم يسأل وصلى بالتيمم لا تجوز صلاته كما في....... الظاهر أنه لا يجري الشح والصفة في مثل هذا الموضع، فلو أنه سأل فأبى أن يعطيه فتيمم وصلى ثم أعطاه بعد ذلك فإنه تجوز صلاته، لأنه عجز عن استعمال الماء وقت أداء الصلاة، فالقدرة على استعماله بعد ذلك لا ينفع كما إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء. وقد ذكرنا هذا.
قال شمس الأئمة: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمهما الله يقول: إن بعض الحجاج إذا انصرفوا من حجّهم يضعون ماء زمزم في آنية الاستستقاء أو للعطية، ويجعلون رأس الآنية مرصصاً ولا يخافون على أنفسهم العطش، فربما يعزّ الماء في بعض المواضع فيتيممون وماء زمزم في رحلهم ويرون ذلك جائزاً، وهذا منهم جهل وحمق لأنهم واجدون للماء فلا يجزئهم التيمم.
وذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وذكر فيها حيلة فقال: الحيلة أن يهب ذلك الماء لمن يسلمه إليه ثم إن الموهوب له يستودعه منه فيجوز له التيمم، إلا أن(1/138)
هذه الحيلة عندنا ليست بصحيحة؛ لأن القدرة على استعمال الماء بواسطة الرجوع في الهبة ثابتة فيمنع جواز التيمم، ألا ترى أن القدرة على استعمال الماء بالشراء منعت جواز التيمم فههنا أولى.
فإن كان مع رفيقه دلو وليس معه دلو فإنه لا يجب عليه أن يسأل، وفي الماء يجب عليه أن يسأل. والفرق: وهو أن الوضوء يحصل بالماء لا بالدلو فربما يمكنه الاستقاء بالدلو وربما لا يمكنه وربما يعطيه وربما لا يعطيه، فلا حلية بالسؤال، فإن سأل الدلو، فقال له: انتظر حتى استقي الماء ثم أدفع إليك الدلو فالمستحب عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينتظر إلى آخر الوقت فإن خاف فوات الوقت صلى، وعندهما ينتظر وإن خاف فوات الوقت.
وعلى هذا الاختلاف: إذا كان عرياناً ومع رفيقه ثوب فقال: انتظر حتى أصلي ثم أدفع إليك الثوب. وأجمعوا على أنه إذا قال لغيره: أحل لك مالي لتحج فإنه لا يجب عليه الحج، وأجمعوا أن الماء ينتظر وإن خرج الوقت.
وحاصل الاختلاف راجع إلى أن القدرة على ما سوى الماء هل تثبت بالإباحة، عند أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت بالإباحة، وإنما تثبت بالملك، ولم يوجد ههنا الملك، فلم تثبت القدرة فيجزئه التيمم. وعندهما القدرة على ما سوى الماء كما تثبت بالملك تثبت بالإباحة، وقد وجدت الإباحة ههنا فثبتت القدرة وصار كما لو كان معه دلو مملوك له، ولو كان هكذا يجوز التيمم كذا ههنا.
وإذا انتهى إلى بئر وليس معه دلو كان له أن يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وكذا إذا كان معه دلو إلا أنه ليس معه رشاء فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء قالوا: إذا لم يكن معه منديل طاهر يصلح لذلك، فإن كان ذلك لا يتيمم، فإذا أتى حيّاً من الأحياء وطلب الماء فلم يجد فصلى بالتيمم فهو على وجهين: إن رأى قوماً من أهله ولم يسألهم وصلى بالتيمم ثم سألهم وأخبروه بالماء لم تجز صلاته. وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يَرَ قوماً من أهله جازت صلاته.
فإن كان معه سؤر حمار أو بغل وليس معه غير ذلك، يتوضأ ويتيمم، يريد به الجمع والترتيب، وإنما أمره بالجمع؛ لأن سؤر الحمار مشكل على ما مر، فأمر بالجمع احتياطاً، وبأيهما بدأ جاز عندنا؛ لأن الاحتياط في الجمع لا في الترتيب، ولكن الأفضل أن يبدأ بالوضوء ليكون عارياً للماء الطاهر فيتعين، فإن لم يفعل إلا أحدهما وصلى، أعاد الصلاة لأن في أداء الصلاة بالطهارة شكاً. فإن كان في الجمع احتياطاً، من الوجه الذي قلتم ففيه ترك الاحتياط من وجه آخر، لأنه إن كان الإشكال في طهارته ونجاسته كما ذهب إليه بعض المشايخ فعلى تقدير أنه نجس تتنجس أعضاؤه ويصلي مع الأعضاء النجسة.
قلنا: موضوع المسألة أنه لا ماء غير سؤر الحمار، ومن كان أعضاؤه نجسة وليس معه ماء طاهر حتى يغسلها جاز له أن تيمم ويصلي، فليس في الجمع ترك الاحتياط، فإن(1/139)
توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم تيمم وصلى تلك الصلاة في الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة، وكذلك لو بدأ بالتيمم وصلى ثم توضأ بسؤرالحمار وصلى لا يلزمه الإعادة.
ولو تيمم وصلى ثم أهراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة لاحتمال أن سؤر الحمار كان طاهراً. فإن كان معه نبيذ التمر وليس معه غيره قال أبو حنيفة رحمه الله يتوضأ ولا يتيمم. هكذا ذكر في «الزيادات» وفي «الجامع الصغير» وذكر في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله: وأن يتيمم مع ذلك أحبّ إليّ، غير أنه لو ترك التيمم أجزأه. ولو ترك التوضؤ به لا يجزئه.
وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة رحمه الله: أن التوضؤ بنبيذ التمر منسوخ فيتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف ومالك والشافعي. وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما كما في سؤر الحمار وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، فإن لم يجد إلا سؤر الكلب يتيمم ولا يتوضأ به عندنا.
وإن مرّ المسافر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد ثم يدخل المسجد ويستقي من البئر، وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا ما يستطيع به أن يفترق منه ولكنه يستطيع أن يقع فيها؛ فإن كان ماءً جارياً، أو حوضاً كبيراً اغتسل فيه، وإن كان عيناً صغيراً لا يغتسل فيه، لأنه لو اغتسل فيه يتنجس الماء ولا يطهر فلا يشتغل به ولكنه يتيمم للصلاة. وهذا إشارة إلى أنه لا يصلي بالتيمم الأول لأن قصده من ذلك دخول المسجد لا الصلاة. وقد مرّ جنس هذه المسائل.
قال في «الجامع الصغير» : رجل يصلي وفي رحله ماء قد نسيه فتيمم وصلى ثم تذكر الماء بعد فراغه من الصلاة والوقت قائم يجزئه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجزئه. أبو يوسف يقول: التيمم شرع حال عدم الماء بالنص وهو واجدٌ للماء فالنسيان لا يضاد الوجود إنما يضاد العلم ولأنه تيمم قبل طلب الماء في مقرب الماء فلا يجوز قياساً على ما إذا تيمم في العمرانات قبل طلب الماء......... المسافر مقرب الماء كما أن العمرانات موضع الماء. وهما قالا: إن الوجود المذكور في النص عبارة عن القدرة فكأن الله تعالى قال: فإن لم تقدروا على استعمال الماء. ألا ترى أنه لو كان (19ب1) مريضاً يضره استعمال الماء، أو كان ثمة سبع، أو ليس معه دلو فهو واجد للماء لكن لم يقدر على استعماله جاز له التيمم، وهاهنا عجز عن استعماله عند البلوى وهو النسيان، والنسيان مما لا يمكن دفعه عن نفسه كالمرض بل النسيان أبلغ من المرض، فإن المريض لو تكلّف يمكنه استعمال الماء، والناسي وإن تكلف لا يمكنه استعمال الماء.
وقوله: إن على المسافر......... موضع الحاجة إلى الماء، والماء الذي في الرحل ليس له فلا يفصل عن الحاجة، فوقع التعارض فسقط فرض الطلب بخلاف القرية(1/140)
العامرة، والثاني: أن......... اعتبار ظنه بمنزلة الاختيار، إنسان في العمرانات يعدم الماء ثم هناك تيمم فكذا هذا.
ثم قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : رجل في رحله ماء قد نسيه، دليل على أن الخلاف فيما إذا علم بكون الماء في رحله في الابتداء ... بأن وضعه بنفسه أو وضع غيره بأمره، ثم خفي عليه لأن النسيان إنما يكون بعد العلم، فعلى هذا لو كان الواضع غيره وهو لا يعلم به فإنه يجوز التيمم بالاتفاق. وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا. وقال بعض مشايخنا: الخلاف في الكل واحد وإليه أشار في كتاب الصلاة، فإنه قال في كتاب الصلاة: مسافر تيمم وفي رحله ماء وهو يعلم، وهذا يتناول النسيان وغيره، وإنما إذا صلى عرياناً وفي رحله ثوب وهو لا يعلم به، فمن المشايخ من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: لا تجوز الصلاة ههنا بلا خلاف، قال الكرخي رحمه الله: لم تزل هذه المسألة مشكلة عليَّ حتى وجدتُ الرواية عن محمد رحمه الله أنه قال: تجزئه صلاته ولا يلزمه الإعادة.h
والجواب في هذه المسائل فيما إذا تذكر في الوقت وفيما إذا تذكر بعد خروج الوقت سواء، وإن قيده في الكتاب بالوقت لأن المعنى لا يوجب الفصل. وإذا تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به فصلى بتيممه جاز عندهما، خلافاً لأبي يوسف رحمة الله عليهم، وكذلك إذا ضرب خباء على رأس بئر قد علا رأسها وفيها ماء وهو لا يعلم أو كان على شط النهر ولا يعلم فتيمم وصلى به فهو على هذا الخلاف.
وإذا كانت الإداوة معلقة من عنقه وفيها ماء فنسيه وصلى بالتيمم، بعض مشايخنا على أنه على هذا الخلاف أيضاً، وحكي عن الحاكم الإمام عبد الرحمن رحمه الله أنه كان يقول في فصل الإداوة أنه لا يجوز بلا خلاف لأنه نسي ما لا ينسى وجهل ما لا يجهل.
ولو كان الماء معلقاً على الأكتاف فهو على وجهين: إما أن يكون سائقاً أو راكباً فلا يخلو إما إن الماء مقدم الرحل أو مؤخره، فإن كان راكباً والماء في مؤخرة الرحل يجزئه لأنه نسي ما ينسى عادة، فإن كان الماء في مقدم الرحل لا يجزئه لأنه نسي ما لا ينسى عادة، وإن كان سائقاً وكان الماء في مؤخرة الرحل لا يجزئه، وإن كان مقدمه يجزئه.
ولو كفّر بالصوم وفي ملكه رقبة أو ثياب أو طعام قد نسيه فلا رواية فيه، وقد قيل يجزئه عندهما، والصحيح أنه لا يجزيه لأن الوجود في الكفارة عبارة عن الملك ولم ينعدم الملك بالنسيان، والوجود في التيمم عبارة عن القدرة وبالنسيان انعدمت القدرة والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان وقت التيمم
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : المسافر الذي لا يجد الماء ينتظر إلى آخر الوقت، فإذا خاف الفوت يتيمم، وإنما قال ذلك ليصير مؤدياً الصلاة بأكمل الطهارتين،(1/141)
وذكر القدوري رحمه الله: ويؤخر المسافر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان على طمع من وجود الماء، فقد شرط القدوري زيادة لم تشترط في «الأصل» وهو أن يكون على طمع من وجود الماء.
معناه: إذا كان يرجو وجود الماء وهو الصحيح، حتى أنه إذا كان لا يرجو وجود الماء لا يؤخر الصلاة عن الوقت المعهود إذ لا فائدة فيه. قال القدوري رحمه الله: وهذا استحباب وليس بحتم يريد به أن التأخير إلى آخر الوقت استحباب، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه حتم لأن الطمع غلبة الظن وغلبة الظن حجة فصار هو باعتبار هذه الحجة قادراً على الاستعمال حكماً.
وجه ظاهر الرواية: أن العجز الحقيقي للحال ثابت بيقين وما ثبت بيقين لا يسقط حكمه إلا بيقين مثله، وهذا إذا كان الماء بعيداً عنه، فأما إذا كان قريباً منه لا يجزئه التيمم وإن خاف فوت الوقت. واختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القريب والبعيد، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا.
ثم إذا أخَّر لا يفرط في التأخير حتى لا تقع الصلاة في وقت مكروه فلا يؤخر العصر إلى تغير الشمس ولكن يؤخرها إلى أن يصلي قبل التغير، واختلف المشايخ في المغرب، قال بعضهم: لا يؤخر المغرب ولكنه يتيمم ويصليها في أول الوقت، فأكثرهم على أنه لا بأس بالتأخير إلى وقت غيبوبة الشفق لأن وقت المغرب يمتد إلى هذا الوقت، والدليل عليه أن المريض والمسافر إذا أخّرَا المغرب حتى جمعا بين المغرب والعشاء جاز.
قال «القدوري» رحمه الله في «شرحه: ويجوز التيمم قبل الوقت، وقال الشافعي: لا يجوز لأن التيمم طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة. ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) شرط عدم الماء فقط، فمن زاد دخول الوقت يحتاج إلى الدليل.
(نوع آخر) ما يجوز التيمم به وما لا يجوز
فنقول على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض التراب والرمل والحصاة والزرنيخ والجص والكحل والمردا رسنح، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، وروي عنه أخيراً: أنه لا يجوز إلا بالتراب، وهو قول الشافعي.
حجتهما قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} قال ابن عباس رضي الله عنه: المراد منه تراب الحرث، ولأن الأرض الطيب هو الأرض المنبت، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (الأعراف: 58) والمنبت هو التراب. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» إلا أن أبا يوسف زاد الرمل في رواية بحديث آخر،(1/142)
وهو ما روي أن قوماً من الأعراب جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام وقالوا: «إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً وشهرين وفينا الجنب والحائض» ، فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن المراد من الصعيد المذكور في الآية الأرض، قال عليه السلام: «يحشر العلماء في صعيد واحد كأنه شبكة فضة» الحديث والمراد هو الأرض. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» .
وجه الاستدلال بالحديث من وجهين:
أحدهما: أن رسول الله عليه السلام جعل نفس الأرض طهوراً من غير فصل بين أن تكون تراباً أو غيره.
والثاني: أنه قال: أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وقد كان تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما كان تدركه في موضع التراب. ولا حجة للخصم في اسم الطيب لأنه اسم مشترك يحتمل الطاهر من غير أن يكون منبتاً ومن المنبت ما لا يكون طاهراً والمشترك لا عموم له، وابن عباس رضي الله عنهما فسرّه بالمنبت ورسول الله عليه السلام فسرّه بالطاهر حتى جوزه بالرمال بالحديث الذي روينا.
ولا يجوز التيمم بما ليس من جنس الأرض نحو الذهب والفضة والحديد والرصاص والزجاج والحنطة والشعير وسائر الحبوب والأطعمة لأن المنصوص عليه في الكتاب الصعيد. وفي الحديث الأرض وغيرها ليس بمنصوص عليه. وهذا أمر توقيفي فلا يلحق بهما غيرهما.
وقد ذكر بعض المشايخ في مسألة الذهب والفضة والحديد والرصاص فقال: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا كان مشتركاً، ولم يكن مختلطاً بالتراب بأن كان بعد التخليص. فأما إذا لم يكن مشتركاً وكان مختلطاً بالتراب بأن كان قبل التخليص جاز التيمم به عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنه صحيح. وقالوا أيضاً في الحنطة والشعير وسائر الحبوب إن كان عليها غبار جاز التيمم وإنه صحيح.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الرواتين عن محمد رحمه الله: الشرط مجرد المسّ.
ولا يشترط استعمال جزء من الصعيد حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وكذا، إذا (20أ1) وضع يده على الأرض الندية ولم يعلق معه شيء جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا بد من استعمال جزء من الصعيد، حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها، أو على أرض ندية ولم يعلق بيده شيء، لا يجوز.(1/143)
حجته على هذه الرواية قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة: 6) يعني من الصعيد ولأنه بناء على قوله: {فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وكلمة «من» للتبعيض، فكأنه قال: ببعض الصعيد، ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله: {صعيداً طيباً} (النساء: 43) يقتضي الجواز مطلقاً من غير فصل بين ما عليه غبار وما ليس عليه غبار، وكلمة «من» لتمييز الصعيد من غيره، فلا تجوز زيادة العبد به في صريح الآية، ولا يقال: بأن التمييز حصل في ابتداء الكلام لقوله: {فتيمموا صعيداً} بدون كلمة «من» لأنا نقول على هذا الاعتبار كلمة «من» لتأكيد التمييز، فتصير لتمييز الصعيد من غيره، ولا يقال بأن المسح يقتضي ممسوحاً سوى اليد، كما في مسح الرأس والخف، لأنا نقول: في هذا القياس إثبات زيادة القيد على المطلق، وأنه لا يجوز، والذي يؤيد قول أبي حنيفة رحمه الله، ما روي «أن رسول الله عليه السلام بال، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى لحيطان المدينة، فضرب يده على الحائط ورد عليه السلام» وحيطانهم كانت من الحجر فدل ذلك على جواز التيمم بالحجر على كل حال.
ويجوز التيمم بالآجر مدقوقاً أو غير مدقوق في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن الآجر طين مستحجر، والتيمم بالحجر الأصلي جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، فكذا بالطين المستحجر، هكذا ذكر القدوري، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفّار: أن في التيمم بالآجر عن أبي حنيفة روايتان: والأصح أنه يجوز، وفي رواية أخرى عن محمد لا بد وأن يكون مدقوقاً، أو يكون عليه غبار، فإن على إحدى الروايتين عن محمد: استعمال جزء من الصعيد شرط، وعند أبي حنيفة ذلك ليس بشرط.
ولو تيمم بغبار ثوبه أوغير ذلك، أجزأه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف يقول أولاً يتيمم بالغبار إذا لم يجد غيره ثم رجع وقال: الغبار عندي ليس من الصعيد، والصحيح قول أبي حنيفة لما روي: أن عمر رضي الله عنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا..... فأمرهم بأن ينقضوا لبودهم وسروجهم ويتيمموا بغبارها، ولأن الغبار وإن قل من نفض ثوبه من التراب إلا أنه رقيق، فكما يجوز التيمم بالخشن من التراب فكذا برقيقه.
وصورة التيمم بالغبار: أن يضرب بيده ثوباً أو لبداً أو وسادة أو ما أشبه ذلك من الأعيان الطاهرة التي عليها غبار، فإذا وقع الغبار على يديه يتيمم، أو ينفض ثوبه حتى يرتفع غباره ويرفع يديه في الهواء، فإذا وقع الغبار على يديه تيمم، ولو كان في مفازة فهبت الريح، وارتفع الغبار فأصاب وجهه وذراعيه فمسحه (جاز) التيمم، أو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه فقد ذكرنا هذا في أول هذا الفصل.
ولو تيمم بالملح، إن كان......... وإن كان جبلياً كالمكسة، بعض مشايخنا قالوا(1/144)
يجوز لأنه بمنزلة الحجر، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الصحيح عندي أنه لا يجوز لأنه يذوب بالنار فلا يكون من جنس الأرض والسبخة بمنزلة الملح مائية وترابية وقال محمد رحمه الله في «الأصل» : في المسافر إذا كان في طين وردغة أصابه مطر وأبل سرجه وثيابه، ولم يجد ماء يتوضأ به فإنه يلطخ ثوبه بالطين ويجففه ثم يفركه ويتيمم به، قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : وهذا قول محمد رحمه الله لأنه يعتبر استعمال جزء من الصعيد يغني على إحدى روايتيه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن محمد: فلا يعتبر استعمال جزء من الصعيد، وإنما يعتبر المس، والطين من جنس الأرض، فيضع يده على الطين ويتيمم. من المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» قول الكل، ولا يجوز التيمم بالطين عند الكل، لأن التراب لا يصير طيناً ما لم يصر مغلوباً بالماء، والعبرة للغالب فكان الكل لذا ماءً فلا يجوز التيمم به. ألا ترى أن الماء الذي خالطه اللبن لا يجوز التوضؤ به إذا كان اللبن غالباً، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي للإنسان أن لا يتيمم بالطين إذا تلطخ به وجهه.... ولو فعل ذلك يجوز، ويجوز التيمم بالحصى والكيزان والحباب والحيطان من المدر، ولا يجوز بالعصارة إذا كان مطلياً بالأيك بطن العصارة وظهرها على السواء، إلا إذا كان عليه تراب فحينئذ يجوز، وإن لم يكن مطلياً بالأيك جاز التيمم به سواء كان عليه غبار أولم يكن، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا يجوز إلا إذا كان عليه غبار.
ولو تيمم بالخزف، إن كان عليه غبار جاز، وإن لم يكن الخزف عليه غبار إن كان متخذاً من التراب الخالص، ولم يجعل فيه شيء من الأدوية جاز، وإن جعل فيه شيء من الأدوية لا يجوز، وإذا تيمم بالرماد لا يجوز، لأنه ليس من جنس الأرض.
وإذا احترقت النخل التي في الأرض واختلط رمادها بتراب الأرض، إن كانت الغلبة لتراب الأرض يجوز، وإن كانت الغلبة للرماد لا يجوز، وكذلك التراب إذا اختلطه غير الرماد، ومما ليس من أجزاء الأرض يعتبر فيه الغلبة، وإذا أصابت الأرض النجاسة فجفت وذهب أثرها، لا يجوز التيمم به ويجوز الصلاة عليه، هذا جواب ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أصحابنا: أنه يجوز التيمم به أيضاً، فإن أخذنا برواية ابن كاس لا نحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الصلاة، وإن أخذنا بظاهر الرواية نحتاج إلى الفرق، والفرق: أن قضية القياس أن يجوز التيمم كما تجوز الصلاة لأن الأرض تطهر بالجفاف، قال عليه السلام: «أيما أرض جفت فقد ذكت» أي طهرت، وقال عليه السلام: «ذكاة الأرض يبسها» أي طهارة الأرض، والمعنى في ذلك أن طبيعة الأرض استحالة النجاسة، وللاستحالة أثر في التخليل كالخمر يتخلل إلا أن مع التخلل يبقى قليل النجاسة وإنه لا يمنع الطهارة، أما لا يمنع جواز الصلاة عليه.(1/145)
فإذا تيمم الرجل من موضع فجاء رجل آخر، وتيمم من ذلك الموضع أيضاً أجزأه لأن الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول فيكون طاهراً وطهوراً في حق الباقي والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان من يجوز له التيمم ومن لا يجوز
فنقول: يجوز للمسافر التيمم إذا لم يكن معه ماء، وكذلك إذا كان معه ماء وهو يخاف على نفسه من العطش أو دابته، لأنه عاجز عن استعمال الماء حكماً لكونه مستحقاً لحاجته الأصلية فيعتبر بما لو كان عاجزاً عن استعمال الماء حيقيقة.
وكذلك إذا كان مقيماً خرج عن المصر لحاجة له نحو الاحتطاب والاحتشاش لا للسفر وقد صار بعيداً عن المصر فله أن يتيمم.
وتكلموا في تقدير البعيد، قال بعض مشايخنا: إذا كان بينه وبين المصر ميل وذلك قدر ثلث فرسخ فهو بعيد وبعضهم قدر البعيد بالفرسخ، وبعضهم بما لو خرج مسافة قصر الصلاة عنه وبعضهم بما إذا كان لا يسمع الأذان، وبعضهم: بما إذا كان بحيث لو نودي من أقصى المصر لم يسمع، وعن محمد رحمه الله: أنه قدره بالميلين، ومن الناس من قال: لا يجوز التيمم لمن خرج من المصر، إلا إذا قصد سفراً صحيحاً، لأن الله تعالى قيده بالسفر حيث قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (النساء: 43) .
ويجوز التيمم للمريض إذا خاف زيادة المرض باستعمال الماء، وقال الشافعي: لا يجوز إلا إذا خاف التلف: واعلم بأن هذه المسألة على أربعة أوجه:
(20ب1) إما أن يخاف على نفسه الهلاك بسبب استعمال الماء، أو خاف تلف عضو من أعضائه، وفي هذين الوجهين يجوز له التيمم، وأما أنه لا يخاف على نفسه الهلاك ولا تلف عضو من أعضائه، ولكن يخاف من زيادة المرض، أو يخاف إبطاء البرء بسبب الاستعمال، وهو الوجه على الخلاف بيننا وبين الشافعي، على ما ذكرنا، وإن كان لا يخاف على نفسه شيئاً من ذلك، وفي هذا الوجه لا يجوز له التيمم بلا خلاف لأن الآدمي لا يخلو عن نوع مرض، ولو جوزنا التيمم بكل مرض أدى إلى إباحة التيمم على كل حال سفراً كان أو حضراً..........
حجة الشافعي: أن التيمم مشروع في حال عدم الماء، وهذا واجد للماء حقيقة، وإنما يعتبر عاجزاً حكماً عند خوف التلف، ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف التلف.
ولنا: أن زيادة المرض تسبب التلف، فصار الخوف عنها خوفاً عن سبب التلف، فيصير خوفاً عن حقيقة التلف معنى.
وإن كان المريض بحال لا يضره استعمال الماء أصلاً إلا أنه عجز عن استعماله بحكم المرض فهذا على وجهين:(1/146)
الأول: أن لا يجد أحداً يوضئه، وفي هذا الوجه يجوز له التيمم في ظاهر مذهب أصحابنا، وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز له التيمم في المرض هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه يجوز له التيمم بالاتفاق، وأما إذا وجد أحداً يوضئه فهذا على وجهين: الأول: أن يكون ذلك الإنسان الذي يوضئه حراً وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة رحمه الله: يجز ئه التيمم، وقالا: لا يجزئه وكذلك على هذا الاختلاف إذا كان مريضاً لا يستطيع استقبال القبلة أو في فراشه نجاسة، ولا يستطيع التحول ووجد من يحوله ويوجهه إلى القبلة لا يفترض عليه ذلك عنده، وعندهما يفترض، وكذلك الأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الحج لا يفترض عليه الحج عنده، وعندهما يفترض. والمقعد إذا وجد من يحمله إلى الجمعة، ذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: أنه لا جمعة عليه عند الكل، قال: وينبغي أن لا يكون عليه الحج، ولا حضور الجماعات بلا خلاف، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: أن الكل على الخلاف.
الوجه الثاني: إذا كان الذي يوضئه مملوكاً له بأن كان عبداً له أو أمة له، لا شك أن على قولهما لا يجوز له التيمم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلف المشايخ، والصحيح أنه لا يجوز، حجتهما: أنه تيمم وهو قادر على الوضوء، والوضوء لا يضره فلا يجزئه التيمم قياساً على عديم الماء إذا....، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن وجوب الوضوء علق باستطاعة مملوكه لا باستطاعة مباحة له قال الله تعالى: {لا يكلف انفساً إلا وسعها} (البقرة: 268) معناه إلا ما وسعها فلو أوجبنا الوضوء فيما إذا كان الموضىء حراً، فقد كلفناه نظافة الغير، وأنه خلاف اليسر.
يوضحه: أن الإيجاب يعتمد القدرة، والقدرة على التوضؤ في الأصل بفعله وفعله مملوك له، وفيما لم يصر فعل غيره مملوكاً له لا تثبت الاستطاعة، ومنافع العبد مملوكة له، بخلاف منافع الأجنبي وليس كالماء لأنه يوجد مباح الأصل غالباً، والحظر عارض فتعلق الوجوب بالقدرة الثابتة بالإباحة فإن الأحكام تتعلق بالأصول لا بالعوارض، أما ههنا بخلافه، والدليل على أن المعتبر لحالة مملوكه لا لحالة مباحة أن الابن إذا بذل الزاد والراحلة لأبيه والأب معدم لا يفترض عليه الحج، وكذا المكفر إذا بذل له أبوه المال لا يلزمه التكفير بالمال، والذي يؤيد ما قلنا: العاجز عن القيام تجزئه الصلاة قاعداً وإن وجد من يقيمه عبداً كان أو غيره، وهذا الفصل دليل على أنه لا فرق بين العبد والحر وهذا لأن القدرة وصف القادر، فلا يصير الإنسان قادراً بقدرة الغير.
وإذا كان بدن الجنب جريحاً أو أعضاء المحدث، فإنه يتيمم ولا يستعمل الماء فيما(1/147)
كان صحيحاً، وإن كان على العكس فإنه يغسل، والمسح على الجراحة إن أمكنه أو فوق الخرقة إن كان المسح يضره، ولا يتيمم، وهو قول علمائنا، وقال الشافعي: بأنه يغسل ما كان صحيحاً ثم يتيمم بعد ذلك، حجته: أن سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة الماء فتتقدر بقدرها، حجتنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه أباح للمحذور التيمم» ، وبعض أعضاء المحذور يكون صحيحاً، ولم يأمر بإيصال الماء إليه، وهذا حديث روي عنه ولم يرو عن أقرانه خلافه فحل محل الإجماع، والمعنى فيه: أنه اجتمع فيه ما يوجب الغسل والتيمم، ولا وجه للجمع، لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل، وهذا لا أصل له لما عرف في الكفارات فيصار إلى الترجيح، ورجحنا بالكثرة، وإن استويا في الرواية في هذا الفصل من مشايخنا من قال: يتيمم ولا يستعمل الماء ومنهم من يقول: يغسل ما كان صحيحاً ويمسح على الباقي إذا كان المسح لا يضره، أما من قال يغسل حجته: أنه لما تعذر الترجيح من حيث الكثرة ترجح من وجه آخر فنقول: الغسل طهارة حقيقة وحكماً، فإيجابه أولى من إيجاب التيمم الذي ليس بطهارة حقيقة، وأما الفريق الآخر يقولون: بأن التيمم طهارة كاملة، وغسل البعض وإن كان طهارة حقيقة وحكماً، إلا أنها ناقصة في نفسها، فكان اعتبار التيمم هو طهارة كاملة أولى.
ثم اختلف مشايخنا في حد الكثرة: فمنهم من اعتبر الكثرة من حيث عدد الأعضاء في الكثرة في نفس العضو، بيانه: إذا كان برأسه ووجهه وبدنه جراحة والرجل صحيح، فإنه يتيمم، سواء كان الأكثر من الأعضاء الجرحة جريحاً أو أقله، ومنهم من اعتبر الكثرة في نفس العضو فقال: إن كان الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء جريحاً كان كثيراً يبيح له التيمم.
المسافر أو المريض إذا أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك على نفسه من شدة البرد، أو تلف عضو إن اغتسل، فإنه يباح له التيمم، وأما إذا كان مقيماً صحيحاً أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك أو تلف عضو أو زيادة مرض إن اغتسل، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يتيمم ولا يغتسل خلافاً لهما.
وكذلك المحدث على هذا الخلاف، إذا كان يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن المحدث يتوضأ ولا يتيمم بالإجماع، وذكر في غير رواية الأصول قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما الله، فمنهم من قال: لا خلاف في الحقيقة، فأبو حنيفة رحمه الله إنما قال هذا في بلد لا يوجد فيه ماء حار، وهما أقاما في بلد يوجد فيه ماء حار لكن بالتكليف، ومنهم من يحقق الاختلاف، حجتهما: أن عدم الماء السخين أو عدم مكان يدفأ به في المصر نادر ما ينزله عادماً (للماء) حكماً، ولهذا لا يتيمم المقيم دون عدم الماء، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأن عدم الماء السخين والمكان الذي يدفأ ليس بنادر لأنه قد يكون فيه غرباء وفقراء لا يجدون ماء سخناً يدفؤون به أو لا يكون في القرية حمام، أو لا يكون له أجرة الحمام، حتى قالوا في موضع فيه حمام وتوجد الأجرة عند الخروج عادة: لا(1/148)
يباح له التيمم، بعض مشايخنا قالوا: هذا كله في ديارهم، فأما في ديارنا لا يباح له التيمم لأنه يمكنه أن يحتال بحيلة يتوضأ ويغتسل بأن يدخل الحمام فيتطهر، وهذا لأن في عرف ديارنا لا يطالب بالأجر عند دخول الحمام وإنما يطالب بعد الدخول فيمكنه الدخول، وبعدما خرج إذا علم أنه ليس معه شيء لا يطالب بشيء.
المحبوس في السجن إذا لم يجد الماء فهو على وجهين:
الأول: أن يكون محبوساً في موضع نظيف، وهو على وجهين أيضاً: إن كان خارج المصر، قال أبو حنيفة رحمه الله يصلي بالتيمم ولا يعيد، وإن كان في المصر لم يصل بتيمم، رجع أبو حنيفة وقال: يصلي ثم يعيد، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وجه قول أبي حنيفة الأول: أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعاً حتى لا يسقط الفرض عنه بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهوراً له ولا صلاة إلا بطهور، وجه قوله الآخر: أن عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر لأن ذلك نادر، فأما في السجن عدم الماء ليس بنادر فكان معتبراً فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وهل يعيد؟، ففي القياس: لا، وهو رواية عن أبي يوسف كما لو كان في السفر وفي الاستحسان يعيد لأن عدم الماء كان بمنع من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة، وحق الله لا يسقط بمنع العباد (21أ1) بخلاف المسافر لأن جواز التيمم هناك لعدم الماء لا للحبس ولاصنعة للعباد.
الوجه الثاني: أن يكون محبوساً في مكان نجس لا يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً وإنه على وجهين: إن أمكنه حفر الأرض أو الحائط بشيء واستخراج التراب الطاهر فعلى ذلك يصلي بالتيمم. وإن لم يمكنه ذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلي بل ينتظر حتى يجد الماء أو التراب الطاهر. وقال أبو يوسف رحمه الله: يصلي بالإيماء تشبهاً بالمصلين، وقول محمد رحمه الله مضطرب ذكر في «الزيادات» وفي كتاب الصلاة في رواية أبي حفص قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ذكر في رواية الصلاة لأبي سليمان قوله مع أبي يوسف. قال بعض المشايخ: على قول أبي يوسف إنما يصلي بالإيماء إذا لم يكن الموضع يابساً، أما إذا كان يابساً يصلي بركوع وسجود.
وأما العاري إذا لم يجد ثوباً أو اللابس إذا كان له ثوب كلّه نجس ولا يجد ما يغسله، فإنه يصلي ولا يترك الصلاة ولا يعيد. وفي مسألة السجن: إذا لم يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصلي، وعلى قول أبي يوسف: يصلي ويعيد، والفرق أن الشرع أسقط فرض ستر العورة عند العجز، وأسقط غسل النجاسة الحقيقية عند العجز عن استعمال الماء، فجاز الصلاة من غير إعادة.
أما ما أسقط فرض الطهارة الحقيقية والحكمية جملة بحال فلا يصلي من غير طهارة عند أبي حنيفة رحمه الله الخطاب بالطهارة، وعند أبي يوسف رحمه الله يصلي تشبهاً ولا يعيد.
قال الأسير في دار الحرب إذا منعه الكفار عن الوضوء أو الصلاة يتيمم ويصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج، وكذا إذا قيل لرجل: حبستك إن توضأت، أو إن توضأت(1/149)
حبسناك قتلناك، فإنه يصلي بالتيمم ويعيد.
«فأما بيان ما يتيمم عنه» فنقول بجواز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس كما يجوز التيمم عن الحدث. وقال بعض الناس: لا يجوز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ومذهبنا يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، والحديث الذي روينا أن قوماً من الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام وقالوا: إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً أو شهرين وفينا الجنب والحائض فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» دليل لنا في المسألة.
«وأما بيان ما يتيمم لأجله نقول: يجوز التيمم لصلاة العيد إذا كان بحال لو توضأ تفوته الصلاة عندنا، لأن صلاة العيد إذا فاتت لا تقضى عندنا لأنها لم تشرع إلا بجماعة وسلطان، والمنفرد عاجز عن تحصيلها، فيكون قولنا من كل وجه فيجوز التيمم صيانة عن الفوات، وعن هذا قلنا: إن الإمام لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت لأن الناس ينتظرونه، وكذلك غير الولي يتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف الفوت لها لأنها لا تعاد.
والولي لا يتيمم لصلاة الجنازة لأنه لا يخاف الفوت لأنه ليس لغير الولي حق الصلاة على الجنازة، ولو صلى غير الولي على الجنازة فللولي حق الإعادة. ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لأن الجمعة تفوت إلى خلف فلا يكون فواتاً مطلقاً.
ويتيمم لمس المصحف ودخول المسجد. وفي سجدة التلاوة اختلاف على ما مر قبل هذا، وفي «شرح الأصل» : ويتيمم لسجدة التلاوة في السفر ولا يتيم لها في الحضر.
وإذا سبق المؤتم الحدث في صلاة العيد في الجماعة فهذا على وجهين:
الأول: إذا سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة وإنه على وجين: الأول إن كان يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام لو توضأ، لا يباح له التيمم لأنه لا يخاف الفوت لأنه يمكنه أن يصلي بقية الصلاة وحده.
وإن كان لا يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام يباح له التيمم لأنه يخاف الفوت إذ لا يمكنه أن يصليها وحده لأن الإمام والجماعة شرط الأداء بها.
الوجه الثاني: إذا سبقه الحدث بعد الشروع في الصلاة فهذا على وجهين أيضاً:
الأول: أن يكون شروعه بالتيمم في هذا الوجه يتيمم، وهنا لا خلاف لأنا لو أمرناه بالوضوء تفسد الصلاة برؤية الماء فلا يمكنه الإدراك، وإن كان شروعه بالوضوء إن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم بالإجماع لأن بعد زوال الشمس تفوت صلاة العيد أصلاً لذهاب الوقت.
وإن كان لا يخاف زوال الشمس فإن كان يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ لا يباح له التيمم بالإجماع، وإن كان لا يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ تيمم، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن مشايخنا قال: هذا اختلاف عصر وزمان(1/150)
ومكان، فكان في زمن أبي حنيفة يصلي صلاة العيد في جماعة قريبة بحيث لو انصرف الرجل إلى بيته ليتوضأ لا تزول الشمس فلم يكن خوف الفوت قائماً فأفتيا على وفق زمانهما.
وكان شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يقولان: في ديارنا لا يجوز التيمم لصلاة العيد لا ابتداءً ولا بناءً لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ، والناسي غير خوف الفوت حتى لو خيف الفوت يجوز التيمم، ومن المشايخ من قال: هذا اختلاف حجة وبرهان، واختلفوا فيما بينهم. قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذه المسألة بناءً على أن من شرع في صلاة العيد ثم أفسدها لا قضاء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله فكان تفوته الصلاة على أصله لا إلى بدل لو لم يجزئه التيمم فأجاز له التيمم، وعندهما يلزمه القضاء فلا تفوته الصلاة إلى بدل فلم يجوّزا له التيمم، وقبل الشروع إذا فاتته الصلاة لا يمكنه القضاء بالإجماع فكان الفوات لا إلى بدل فيجوز له التيمم بالإجماع.
وغيره من المشايخ جعل هذا اختلافاً مبتدأً فبقولهما: إن المبيح خشية الفوات واللاحق أمن من ذلك فإنه يتوضأ ويتم صلاته بعد فراغ الإمام. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: البناء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاح العيد بالتيمم فلأن يجوز البناء عليها بالتيمم أولى، ولأن خوف الفوت ههنا قائم لأنه ربما يصير منشغلاً بالمعالجة مع الناس لكثرة الزحام فتفسد صلاته، ولا يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان ما يبطل التيمم وما لا يبطل
يجب أن يعلم بأن ما يبطل الوضوء يبطل التيمم لأن التيمم خلف عن الوضول وبدل عنه، وما لا يبطل الأصل لا يبطل الخلف والبدل ضرورة.
قال ويبطل إذا رأى الماء لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» فبعد ذلك المسألة على وجوه:
إن رأى الماء قبل الشروع في الصلاة توضأ به وصلى، وإن رأى الماء بعدما صلى لا يعيد الصلاة وإن كان في الوقت.
والأصل فيه: ما روي «أن رجلين من الصحابة كانا في سفر فتيمما في أوّل الوقت وصليّا، فلما فرغا من الصلاة وجدا ماءً قبل خروج الوقت فتوضأ أحدهما وأعاد صلاته ولم يفعل الآخر ذلك، فلما رجعا إلى رسول الله عليه السلام أخبراه بذلك فقال عليه السلام للذي أعاد «لك أجران وقال للآخر: أجزأتك صلاتك» .
والمعنى فيه أن هذه صلاة أديت بطهارة كاملة قد حكم بصحتها وجوازها فلا يرتفع هذا الحكم برؤية الماء بعد ذلك. أكثر ما في الباب أن التيمم خلف وقد قدر على(1/151)
الأصل، إلا أنه إنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يسقط حكم البدل على ما عرف في موضعه، وبهذا الحرف يقع الفرق بين هذا الوجه وبين ما إذا رأى الماء في خلال صلاته حيث يتوضأ ويستقبل الصلاة، لأن هناك قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، وفي مثل هذا يسقط حكم البدل.
وإن رأى ماءً بعدما قعد قدر التشهد فسدت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله في آخر صلاته، وقالا: لا تفسد وهي من المسائل الإثني عشرية المعروفة بين أهل الفقه، وعلى هذا الخلاف الماسح على الخف إذا انقضى وقت مسحه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلّم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله (21ب1) : تفسد صلاته، وعلى قولهما لا تفسد، وعلى هذا الاختلاف الماسح على الخف إذا وجد في خفه نجاسة فنزعه وكان ذلك بعدما قعد قدر التشهد، والمراد بهذه النجاسة أن تكون قدر الدرهم أو أقل حتى يصح شروعه، أما إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا يصح شروعه فيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الاختلاف فيما إذا كان الخف واسعاً بحيث يخرج من رجله من غير معالجة كثيرة، فأما إن كان الخف بحال يحتاج في نزعه إلى معالجة كثيرة، بحيث لو وجد في خلال الصلاة أوجب فساد الصلاة، فإن صلاته تكون باطلة بالإجماع، لأنه يكون خروجاً عن الصلاة بصنعه.
وعلى هذا الخلاف: مصلي الجمعة إذا خرج وقت الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا الخلاف مصلي الفجر إذا طلعت الشمس، والعاري إذا وجد ما يستتر به بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا إذا علم الأميُّ سورة بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا: القارىء إذا استخلف أميّاً بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا المومي إذا قدر على الركوع والسجود بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا: المصلي إذا تذكر فائتة بعدما قعد قدر التشهد وفي الوقت سعة، وعلى هذا: المستحاضة أو صاحب الحدث الدائم إذا ذهب الوقت أو برىء مرضه. وعلى هذا إذا كان بثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فوجد الماء في هذه الحالة. والشيخ الإمام شيخ الإسلام: يزيد على هذه المسائل فائتة الفجر إذا شرع في قضائها فزالت الشمس في هذه الحالة، وكذلك إذا مسح على الجبائر فسقطت الجبائر عنه عن برء وبعدما قعد قدر التشهد.
من أصحابنا من قال هذه المسائل تنبني على أصل وهو: أن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليس بفرض.
هما احتجا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «إذا رفع المصلي رأسه من آخر السجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته» ولأن بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمداً أو حاذت المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد صلاته ولو بقى شيء من فرائض الصلاة لفسدت صلاته بهذه الأمور كما تفسد قبل العقدة، فثبت(1/152)
بهذا أن وجود هذه المعاني في هذه الحالة لوجودها خارج الصلاة. ولو وجد هذه المعاني خارج الصلاة لا تفسد صلاته، فكذا إذا وجد في هذه الحالة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: هذه عبادة لها تحريم وتحليل، ثم التحريم لا يكون إلا بصنعه، فكذلك التحليل كما في الحج.
وتقدير هذا الكلام وتحقيقه: وهو أنه إذا أحرم بالظهر يجب عليه الخروج عن الظهر ليؤدي صلاة العصر، ولا يتوصل إلى أداء العصر إلا بالخروج عن الظهر، والأصل أن ما لا يتوصل إلى شيء إلا بغيره صار غيره كعينه، وأداء العصر فرض عليه، فكذلك خروج عن الظهر يكون فرضاً عليه.
وتأويل الحديث: قارب التمام. كما قال: الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام.
والكلام والحدث والقهقهة والمحاذاة صنع منه، فإن قيل: نزع الخف أيضاً بصنعه قلنا: إنما يكون صنعه إذا كان يحتاج إلى معالجة كثيرة، وعند ذلك صلاته تامة بالاتفاق أما إذا كان الخف واسعاً لا يحتاج إلى صنعه، ومن أصحابنا من قال: هذا الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقوى لاستحالة أن يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد، ولكن الوجه الصحيح عند أبي حنيفة أن التحريمة باقية بعد الفراغ من التشهد، وهذه العوارض مغيرة للفرض فاعتراضها في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة، كنية الإمامة بخلاف الكلام، فإنه قاطع وليس بمفير.
والقهقهة والحدث العمد مبطل وليس بمفير، فإن قيل: طلوع الشمس في خلال الصلاة مبطل وليس بمفير، وقد جعلتموه على الخلاف قلنا: بل هو بمفير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا يصير به خارجاً من التحريمة. وجميع ما قلنا فيما إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود السهو أو بعدما فرغ منها قبل أن يتشهد أو بعدما تشهد قبل أن يسلّم هكذا ذكر في «الأصل» .
وإن وجد هذه الأشياء بعدما سلّم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة، أما عندهما فلا يشكل، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالسلام خرج عن التحريمة، ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة، فكذلك إن كان سلّم إحدى التسليمتين لأن انقطاع التحريمة يحصل بتسليمة واحدة والله أعلم.
متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر الحمار مضى على صلاته، فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة لأن سؤر الحمار مشكوك في طهوريته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فيُتم الصلاة ثم يتوضأ به ويعيد الصلاة احتياطاً لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهراً. ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك عند محمد رحمه الله لأن عنده نبيذ التمر كسؤر الحمار وعند أبي يوسف رحمه الله: يتم صلاته ولا يعيد لأن النبيذ عنده ليس بطهور، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقطع صلاته لأن نبيذ التمر عنده بمنزلة الماء حال عدم الماء فتنتقض صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة.
وإن وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعاً فعند أبي حنيفة رحمه الله تفسد صلاته فيتوضأ(1/153)
بهما ثم يستقبل لأن سؤر الحمار إن كان طاهراً فالنبيذ معه ليس بطهور لأن التوضؤ بالنبيذ إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان عادماً الماء، فإذا كان السؤر طاهراً لا يكون عادماً للماء فلا يكون النبيذ طهوراً.
وإذا لم يكن السؤر طاهراً فالنبيذ طهور فقد وقع الشك في سؤر الحمار فلهذا يتوضأ بهما. وعند أبي يوسف رحمه الله يمضي (على) صلاته، فإذا فرغ توضأ بالسؤر خاصة وأعاد الصلاة وعند محمد رحمه الله يمضى على صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطاً.
وإذا رأى المتيمم في صلاته سراباً فظن أنه ماء فمشى إليه ساعة فإذا هو سراب فعليه أن يستأنف الصلاة سواء جاوز مكان الصلاة أو لم يجاوز. وإن شك أنه ماء أو سراب واستوى الظنان فإنه يمضي على صلاته لأنه صح شروعه في الصلاة، وإن وقع الشك في الانصراف إن كان ماء فحل له الانصراف، وإن كان سراباً لا يحل له، والحرمة كانت ثابتة بيقين فلا يثبت الحل بالشك فيمضي على صلاته، فإذا فرغ من صلاته ذهب. إن كان ماءً توضأ واستقبل القبلة لأنه متيمم وجد الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته. وإن كان سراباً لا يلزمه الإعادة لأنه أتم الصلاة وهو عادم للماء فلا تفسد صلاته ولا يلزمه الإعادة.
قال: المسافر إذا مرّ في الفلاة بماء موضوع في حب أو نحوه لا ينتقض تيممه وليس له أن يتوضأ منه لأنه وضع للشرب لا للوضوء، والمباح في نوع لا يجوز استعماله في (نوع آخر) إلا أن يكون الماء كثيراً فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب والوضوء جميعاً فحينئذ يتوضأ ولا يتيمم.
وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله عن أستاذه عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر بن محمد بن الفضل رحمه الله أن الماء الموضوع للشرب يجوز منه التوضؤ، والموضوع للوضوء لا يباح منه الشرب.
قال: وإذا اقتدى المتوضىء بالمتيمم ثم رأى المقتدي ماء ولم ير إمامه فسدت صلاة المقتدي دون صلاة الإمام. وكذا إذا أمّ المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى فرغوا فسدت (صلاة) من أبصر خاصة، وهذا قول علمائنا الثلاثة. وقال زفر رحمه الله: لا تفسد صلاته، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وكذلك على هذا الاختلاف إذا أمَّ الرجل قوماً في صلاة الظهر ولم يصل الفجر ولا يعلم به الإمام وقد علم به القوم فصلاة القوم فاسدة استحساناً عند علمائنا الثلاثة، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله: لا تفسد.
وجه القياس وهو أن صلاة المقتدي لو فسدت إنما تفسد بأحد الأشياء الثلاثة، إما بالحدث العمد ولم يوجد وإما برؤية الماء، وذلك لا يضره لأنه متوضىء. وإما بفساد صلاة الإمام وصلاة الإمام صحيحة، فلا معنى لإفساد صلاته، فلا تفسيد صلاته وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة المقتدي. وطهارة الإمام هنا بتيمم، فيجعل (22أ1) في حق من(1/154)
أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته ولأنه اعتقد فساد صلاة الإمام، فإن عنده أن الإمام يصلي بالتيمم مع وجود الماء، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، كما لو اشتبهت القبلة على الإمام والقوم، فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى وهو عالم أن الإمام صلى إلى غير جهته فإنه لا يصح اقتداؤه به.
وكذلك في مسألة الترتيب، صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي لأن الترتيب من شرط الجواز، وأنه ثابت في حق المقتدي بعلمه أن على الإمام صلاة الفجر، وبعلم الإمام أنه ليس عليه شيء فكانت صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي، جائزة في حق الإمام فلا يصح اقتداؤه به كذا هذا.
وأجمعوا أن المتيمم إذا أمّ المتيممين ثم رأى بعض من خلفه الماء أو علم بمكانه ولم يعلم الإمام تفسد صلاة من علم بالماء لما ذكرنا أن المفسد للصلاة أحد الأشياء الثلاثة.
ومن جملة ذلك: رؤية الماء في حق المتيمم، وهذا متيمم فيكون رؤية الماء مفسد للصلاة في حقه لا في حق غيره، لأن صلاة الغير لا تتعلق بصلاته. قال: المتيمم إذا وجد الماء فلم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم، لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثاً بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه، فعليه التيمم للصلاة.
قال: جماعة من المتيممين إذا رأوا في صلاتهم قدر ما يكفي لأحدهم إن كان الماء مباحاً فسدت صلاة الكل. وإن كان مملوكاً لرجل فقال: أبحت الماء لكل واحد منكم أو قال: من شاء فليتوضأ فسدت صلاتهم. وإن قال: أبحت لكم جميعاً لم تفسد صلاتهم.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : جماعة من المتيممين انتهوا إلى رجل في السفر معه من الماء ما يكفي لأحدهم فأباح لهم وقال: خذوه فليتوضأ به أيكم شاء، ينتقض تيممهم، لأن هذا الماء بالإباحة والتحق بالمباح الأصلي، وهناك ينتقض تيمم الكل لأن هذا الماء يمنعهم عن ابتداء التيمم لأنه يفيد القدرة على الطهارة لكل واحد منهم فيمنع البقاء فكذا ههنا.
فإن توضأ به أحدهم جاز وأعاد الباقون تيممهم. ولو كان قال: هذا الماء لكم فاقبضوه فقبضوه لم ينتقص تيممهم، لأنه ما أباح الماء لهم بل ملكه منهم فلا يصيب كل واحد منهم إلا شيئاً يسيراً، وذلك القدر لا يفيد القدرة على الطهارة فلا يبطل التيمم، ألا ترى أن ذلك القدر لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع بقاؤه، قال بعض مشايخنا: وهذا على قولهما لأن عندهما هبة المشاع فيما يحتمل من رجلين هبة جائزة تامة، فكان هذا تمليكاً منهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين أو جماعة غير جائزة فلا يكون هذا تمليكاً منهم بل يكون مجرد إباحة، فصار نظير الوجه الأول. وبعضهم قالوا: هذا قولهم جميعاً وهو الصحيح، وإنما كان كذلك لوجهين:(1/155)
أحدهما: أن عند أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين فاسدة والهبة الفاسدة تفيد الملك عند اتصال القبض بها.
والثاني: إن لم يثبت التمليك لا تثبت الإباحة أيضاً لأن التنصيص على الإباحة لم يوجد ههنا لو ثبتت الإباحة، إنما تثبت في ضمن التمليك، فإن أبطل التمليك بطلت الإباحة الثانية في ضمنه ضرورة.
فإن أباح كل واحد منهم لأصحابه يبطل تيممهم، وكذلك لو أباحوا لواحد بعينه بطل تيممه. قال مشايخنا: وهذا على قولهما لأن هذه الهبة وقعت صحيحة عندهما فثبت الملك فيعمل إِذْنُ كل واحد وإباحته في حق أصحابه فينتقص تيممهم.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: إذنهم فيما بينهم لا يعمل قبل القبض لعدم الملك وبعد القبض لفساد الملك إذ الملك الفاسد لا يفيد إطلاق الاستمتاع لا بالملك ولا بغيره بإذنه فانعدمت القدرة على الماء.
قال: المتيمم إذا صلى بقوم متيممين ركعة فجاء رجل معه كوز من ماء يكفي أحدهم وقال: هو لفلان لرجل من القوم فسدت صلاة ذلك الرجل، ويمضي القوم على صلاتهم. فإذا فرغوا سألوه الماء، إن أعطى الإمام توضأ الإمام واستقبل الصلاة ويستقبل القوم معه، وإن منع الإمام والقوم فصلاة الكل تامة.
ولو أن الذي جاء بالكوز قال للمتيممين قبل الشروع في الصلاة: من شاء منكم فليتوضأ به انتقص تيممهم.
قوم من المتيممين شرعوا في الصلاة فجاء رجل بماء يكفي أحدهم وقال: من يريد منكم الماء؟ ينتقض تيممهم.
قوم من المتيممين منهم متيمم للجنابة ومنهم متيمم للحدث وإمامهم متوضىء فجاء رجل بكوز من الماء يكفي أحد المتيممين عن الحدث وقال: هذا الكوز من الماء لمن شاء منكم فسدت صلاة المتيممين عن الحدث ولم تفسد صلاة المتيممين عن الجنابة لوجود القدرة على الماء لكل واحد من الفريق الأول دون الثاني. ولو كان الإمام متيمماً عن الحدث فسدت صلاة الكل.
قال: رجلان يصليان أحدهما عرياناً والآخر متيمم، فجاء رجل وقال: معي ماء فتوضأ أيها المتيمم ومعي ثوب فخذه أيها العريان فسدت صلاتهما. كذا قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
قال: المصلي بالتيمم إذا قال له نصراني: خذ الماء فإنه يمضي على صلاته ولا يقطع لأنّ كلامه قد يكون على وجه الاستهزاء، وقد صح الشروع بيقين فلا يقطع بالشك. فإذا فرغ من الصلاة سأله، فإن أعطاه أعاد الصلاة، وما لا فلا.
ذكر أبو الحسن في «جامعه» في المصلي إذا وجد مع رفيقه ماءً كثيراً لا يدري يعطيه أم لا أنه يمضي على صلاته، فإذا فرغ سأله فإن أعطاه توضأ وأعاد، لأنه لما أعطاه للحال فالظاهر أنه كان يعطيه في ذلك الوقت لو طلب، فقد صلى بالتيمم مع القدرة على(1/156)
استعمال الماء فيلزمه الإعادة، فإن أبى حين سأله فقد تمت صلاته لعدم القدرة، فإن أعطاه بعدما أبى لم ينتقض ما مضى من صلاته، لأن العجز استحكم بالإباء، فلا يظهر بطلان ما مضى ولزمه الوضوء لصلاة أخرى لارتفاع حكم الإباء في المستقبل بالإعطاء.
وعن محمد رحمه الله: إذا رأى في الصلاة مع غيره ماءً وفي غالب ظنه أنه يعطيه بطلت صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذه المسائل
ما قاله محمد رحمه الله في «الزيادات» وصورته: مسافر يغتسل عن جنابة فبقي منه لمعة لم يصبها الماء وليس معه ماء فإنه يتيمم ويصلي لأن الجنابة حلت بجميع البدن. قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة» وإنها لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً، فما لم يَطْهر جميع بدنه بالماء لا يخرج عن حكم الجنابة ولم يوجد، فبقي جنباً وهو عادم الماء، فيجب عليه التيمم حتى يصلي.
فإن تيمم للجنابة ثم أحدث حدثاً يوجب الوضوء وليس معه ماء فإنه يتيمم أيضاً للحدث ويصلي لأن تيممه للجنابة كان متقدماً على الحدث، والتيمم المتقدم لا يجوز عن الحدث المتأخر، ألا ترى أنه لو اغتسل عن الجنابة ثم أحدث كان عليه أن يتوضأ ولم يجز الاغتسال المتقدم عن الحدث المتأخر كذا ههنا.
فإن وجد ماءً قبل التيمم للحدث فهذا على وجوه خمسة:
الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع ابتداء تيممه للجنابة فيمنع البقاء، فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.(1/157)
الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع ابتداء تيممه للجنابة فلا يمنع البقاء، ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه للوضوء، ويستعمل ذلك الماء في اللمعة (22ب1) تقليلاً للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة وما يكفي للوضوء: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة فيغسل اللمعة ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي غسل اللمعة، وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ويتوضأ للحدث لأن بالتيمم الأول طهر من الجنابة إلى أن يجد ماءً يكفيه لما بقي ولم يجد، فلا يبطل تيممه للجنابة، ولكن يتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.
الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكل واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما على الجمع: وفي هذا الوجه يصرف الماء إلى اللمعة ثم يتيمم للحدث، لأن الجنابة أغلظ الحدثين، ألا ترى أن الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والمحدث غير ممنوع عنه، فعلم أن الجنابة أغلظ الحدثين، والصرف إلى أغلظ الحدثين عند التعارض أولى.
قال: فإن توضأ بهذا الماء جاز ويعيد التيمم للجنابة لأن الماء صار مستحق الصرف إلى اللمعة فقد وجد من الماء ما يكفيه لما بقي فانتقض تيممه للجنابة. والتيمم متى انتقض لا يعود بعد ذلك. فإذا صرف الماء إلى الوضوء بقي جنباً، وهو عادم الماء فيتيمم للصلاة. فلو أنه لم يتوضأ بهذا الماء ولكن بدأ بالتيمم للحدث ثم صرف إلى اللمعة هل يعيد التيمم للحدث؟
ذكر في «الزيادات» أنه يعيد، وعلى رواية «الأصل» لا يعيد قيل: ما ذكر في «الزيادات» قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف رحمه الله، وجه قول محمد: أنه تيمم وفي يده من الماء ما يكفيه للوضوء فلا يجوز التيمم.
وجه قول أبي يوسف: أن الماء مستحق الصرف إلى اللمعة فالمستحق بجهة معدوم فيما عدا تلك الجهة، ألا ترى أن الماء المستحق بحاجة العطش جعل كالمعدوم في حق جواز التيمم كذا ههنا.
هذا الذي ذكرنا إذا وجد الماء قبل أن يتيمم للحدث، وأما إذا وجد الماء بعدما تيمم للحدث فهو على وجوه خمسة أيضاً:
الوجه الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة والحدث لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع التيمم لهما ابتداءً، فيمنع البقاء لهما أيضاً فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث.
الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ولا للحدث لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع التيمم لهما ابتداءً فلا يمنع البقاء أيضاً، ولكن يصرف الماء إلى اللمعة تقليلاً للجنابة.
الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة دون الوضوء: وفي هذا الوجه يبطل تيممه للجنابة فيصرف الماء إلى اللمعة ولا يبطل تيممه للحدث.
الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي اللمعة، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة ويبطل تيممه للحدث فيتوضأ به ويصلي.
وفي الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكلّ واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما جميعاً: وههنا يصرف الماء إلى اللمعة، وهل ينتقض تيممه للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله: ينتقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا ينتقض، لأن وجود الماء عند محمد يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء، وعند أبي يوسف لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع البقاء.
قال: جنب اغتسل ونسي أن يبدأ بمواضع الوضوء يعني لم يغسل مواضع الوضوء(1/158)
ونسي غسل ظهره أيضاً ثم أراق الماء، فإنه يتيمم لأنه جنب بعد، فإن تيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما إما لمواضع الوضوء وإما لغسل الظهر لا ينتقض تيممه، لأن وجود هذا القدر من الماء في الابتداء لا يمنع التيمم فلا ينقضه في الانتهاء، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء لأن الثابت فيهما نجاسة الجنابة فاستويا فكان له خيار الصرف، ولكن الأفضل أن يستعمله في مواضع الوضوء، فإنما كان هكذا لأنه ليس في الصرف إلى أحدهما إزالة الجنابة بل فيه تقليل الجنابة والسنة أن يبدأ بمواضع الوضوء فكان إلى ما فيه إقامة السنة أولى.
قال: جنب اغتسل وبقي من جسده ظهره لم يصبه الماء وليس معه ماء آخر فعليه أن يتيمم، فإن لم يتيمم حتى أحدث حدثاً يوجب الوضوء فعليه أن يتيمم تيمماً واحداً للجنابة والحدث جميعاً. وإنما كان هكذا لأن التيمم خلف عن الماء، ثم استعمال الماء مرة واحدة يكفي عن الحدثين، حتى إن الحائض إذا طهرت من حيضها وأجنبت يكفيها غسل واحد فكذا التيمم.
قيل: وينبغي له عند التيمم أن ينوي عن الحدثين لأن التيمم لا يكون طهارة إلا بالنيّة، فإذا لم ينو عنهما بقي التيمم في حق أحدهما بلا نيّة فلا يكون طهارة. وإن تيمم لهما ثم وجد من الماء ما يكفي لأحدهما إما لغسيل الظهر وإما لمواضع الوضوء صرفه إلى غسيل الظهر لما ذكرنا أن الجنابة أغلظ الحدثين ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله.
استشهد محمد في «الكتاب» لإيضاح مذهبه بمسألة: ألا ترى أن الرجل إذا كان بثوبه أو جسده نجاسة أكثر من قدر الدرهم وأحدث ولم يجد ماءً وتيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما فإنه يصرفه إلى غسل النجاسة لأنها أغلظ من الحدث لأنه يتوهم أن يغمر البدن وليس للماء بدل في تطهيرها، والحدث لا يغمر البدن، وللماء بدل في رفعه فعلم أنها أغلظ فلهذا يصرف الماء إليها، ثم يعيد تيممه للحدث، مع أن هذا الماء استحق الصرف إلى النجاسة فكذا في مسألتنا.
قال مشايخنا: لا نحفظ لهذا رواية عن أبي يوسف رحمه الله والصحيح أن يقال: لا ينتقض تيممه فلا يلزمه إعادة التيمم عند أبي يوسف.
قال: جنب وجد من الماء قدر ما يكفي للوضوء دون الاغتسال فإنه يتيمم ولا يلزمه استعمال ذلك الماء عندنا لأن هذا القدر من الماء لا يفيد القدرة على الطهارة عن الجنابة فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فإن تيمم وتوضأ ثم أحدث فعليه أن يتيمم لأن الوضوء السابق لا يجزىء عن الحدث اللاحق، فإن تيمم ثم وجد ما يكفيه لأحدهما، إما لبقية جسده أو لمواضع وضوئه صَرَفَهُ إلى الجنابة لأنها أهم ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله.
وفي «نوادر» ابن سماعة: مسافر أجنب فتيمم وشرع في الصلاة ثم أحدث وقد وجد من الماء ما يكفيه للوضوء يتوضأ ويبني على صلاته في قول محمد رحمه الله الآخر،(1/159)
مروي ذلك عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً والله أعلم.
(نوع آخر)
..... إذا أحدث. وفي إمامة المتيمم للمتوضئين إذا افتتح الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وكذلك لو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وإن وجد بعدما تيمم توضأ واستقبل الصلاة سواء وجد الماء بعدما عاد إلى مكانه أو قبل أن يعود إلى مكانه، هكذا ذكره الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» .
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله يقول: وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يتوضأ ويبني، قال: وهذا أقيس على مذهبه لأن اقتداء المتوضىء بالمتيمم يجوز عنده، فكذا بناء الوضوء على التيمم، فيحتمل أن يكون ما ذكر للحاكم في المختصر قول محمد.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن المتوضىء إذا سبقه الحدث فذهب وتيمم ثم وجد الماء بعد ما عاد إلى مكانه استقبل الصلاة، وإن وجد الماء قبل أن يعود إلى مكانه ففي القياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتوضأ ويبني على صلاته.
وفي «البقالي» مسافر أجنب وشرع في الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث فوجد ماءً قدر ما يكفي للوضوء فإنه يتوضأ ويبني قال: وهذا هو القول الآخر لمحمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضىء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز، وهو قول علي رضي الله عنه.
حجته: أن التيمم طهارة ضرورية، وطهارة الماء أصلية فلا يجوز بناء الأصلي على الضروري، ألا ترى أن صاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء لهذا، ومذهبهما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أن رسول الله عليه السلام بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه أميراً على سريّة فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا: كان حسن السيرة (23أ1) ولكنه صلى بنا يوماً وهو جنب فسأله عن ذلك، فقال: احتلمت في ليلة باردة وخشيت الهلاك إن اغتسلت فتلوت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 29) فتيممت وصليت بهم، فضحك في وجهه وقال: «ما لك من فقه عمرو بن العاص» ولم يأمرهم بإعادة الصلاة لأن المتيمم صاحب بدل صحيح فيؤم المتوضئين كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين.
وبه فارق صاحب الجرح السائل فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، فإذا كان الإمام(1/160)
متيمماً وخلفه متوضئون فأحدث واستخلف متوضىء ثم وجد الإمام الأول الماء فسدت صلاته لأنه متيمم رأى الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته، ولا تفسد صلاة القوم ولا صلاة الخليفة لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، وصار الإمام الأول مقتدياً بالخليفة كواحد من القوم. وفساد صلاة واحد من القوم لا يوجب فساد صلاة غيره، كما لو تقيأ متعمداً أو قهقه أو تكلم فسدت صلاته، ولا يوجب ذلك فساد صلاة غيره.
وإن كان الأول متوضئاً والخليفة متيمماً فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الإمام الأول والقوم جميعاً لأن الإمامة تحولت إلى الثاني وصار الإمام الأول مقتدياً بالثاني على ما ذكرنا وقد فسدت صلاة الإمام الثاني برؤية الماء، وفساد صلاة الإمام يوجب فساد صلاة القوم.
وهذا التفريع إنما يتأتى على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن عندهما اقتداء المتوضىء بالمتيمم جائز، فأما على مذهب محمد رحمه الله لا يتأتى هذا التفريع لأن من مذهبه أن اقتداء المتوضىء بالمتيمم لا يجوز والله أعلم.
(نوع آخر) من هذا الفصلفي المتفرقات
ويصلي الرجل بتيممه ما شاء من الصلوات من الفرائض والنوافل والفوائت ما لم يحدث، أو تزول العلة أو يجد الماء. قال الشافعي: يصلي بتيمم واحد فرضاً واحداً وما شاء من النوافل، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن حكم التيمم عند عدم الماء مادي:
قال أصحابنا رحمهم الله: حكمه زوال الحدث مطلقاً من كل وجه إلى وقت الحدث كما في الماء، إلا أن في الماء الزوال يؤقت إلى غاية الحدث. وفي التيمم يؤقت إلى غاية الحدث أو وجود ماء أو زوال العلة. وعند الشافعي: حكمه رفع الحدث مقدراً بالحاجة إلى فرض الوقت كما في طهارة المستحاضة والصحيح مذهبنا لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» ، فإن وجد ولم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم لأنه لما وجد الماء بطل تيممه والباطل لا يعود. وقد مرت المسألة من قبل.
قال: إذا أجنب المسافر ووجد (من) الماء قدر ما يتوضأ به لا غير فإنه يتيمم ولا يتوضأ به عندنا، وقال الشافعي رحمه الله يتوضأ بذلك الماء ثم يتيمم، وقد مرت المسألة أيضاً، وكذلك على هذا الاختلاف: المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء يتيمم عندنا، وعند الشافعي يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم.
احتج الشافعي بظاهر قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) الله تعالى ذكره منكراً، والمنكر في موضع النفي يعم، فيتناول القليل والكثير، فما دام واجداً لشيء من الماء لا يكون له أن يتيمم، والفقه فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما يكفيه، فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من الحلال لا يكون له أن(1/161)
يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة، والدليل أن من وجد سؤر حمار يلزمه استعماله فكذلك ههنا، بل هذا أولى؛ لأن سؤر الحمار طهور من وجه دون وجه، وهذا الماء طهور من كل وجه، فلما لزمه استعمال سؤر الحمار فهذا أولى، ولأن الطهارة شرط جواز الصلاة، وقد عجز عن استعمال البعض، والعجز عن استعمال البعض لا يسقط الكل قياساً على الطهارة عن النجاسة الحقيقية وقياساً على ستر العورة، فإنه لو وجد من الماء قدر ما يغسل بعض النجاسة أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة يلزمه ذلك حتى لو لم يفعل لا تجوز صلاته كذلك ههنا.
وعلماؤنا احتجوا بهذه الآية أيضاً، فالله تعالى شرط جواز التيمم عدم الماء الذي يطهر، ألا ترى أن الماء النجس لا يمنعه من التيمم وقد عدم ههنا الماء الذي يطهره، فيجوز له التيمم، ولأنه معطوف على ما سبق، فقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله: {فلم تجدوا ماء} (النساء: 43) فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضؤون به، ويغتسلون عند الجنابة، وهو غير واجد لذلك الماء، ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله إلا تضييعه، والماء من أعز الأشياء في السفر، فلا فائدة في استعماله كالمكفر بالصوم إذا وجد بعض الرقبة جاز له الصوم، وكذلك إذا وجد قبل الشروع في الصوم لا يلزمه الإعتاق، ويجوز له الصوم؛ لأن ذلك القدر من الرقبة لا يقع به التكفير، فكذلك ههنا، فتكون الآية حجة لنا من الوجه الذي بينا.
قوله: واجد للماء، قلنا: نعم، ولكن هذا القدر من الماء لا يكفي لإباحة الصلاة، وأما المخمصة، قلنا: لا يلزمه مراعاة الترتيب، فإن ما معه من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق، فله أن يتناول معه الميتة.
وأما سؤر الحمار قلنا ذلك لأن ... الحدث.... فيمنع لهذا ... أما ههنا لا يزول الحدث بهذا القدر من الماء بيقين، فلم يكن هذا نظير ذلك.
قوله: الطاهر عن الحدث شرط من شرائط الجواز، فصار كالنجاسة الحقيقية وستر العورة، قلنا: من مشايخنا من سوى بينهما، وقال: إذا وجد من الماء قدر ما لا يزيل كل النجاسة بل يبقى على الثوب بعدما غسل مقدار ما يمنع من جواز الصلاة، فإنه لا تلزمه الإزالة، وكذلك في الثوب.
ولئن سلمنا فنقول: إن غسل بعض النجاسة الحقيقية مفيد؛ لأن بعض النجاسة يزول على الحقيقة، وكذا بعض الانكشاف يزول ببعض الستر، وهو مأمور بإزالة النجاسة والستر حقيقة وحكماً فإذا قدر عليها يفرض عليه ذلك، وإذا قدر على إزالته حقيقة دون الحكم، فما عجز عنه يسقط، وما قدر عليه لزمه، أما ههنا غسل بعض الأعضاء لا يفيد له إباحة الصلاة وهي مشروعة لإباحة الصلاة، فإذا لم تُفِدْ له الإباحة، فوجوده وعدمه(1/162)
بمنزلة، وكذلك لو وجد الماء هذا المتيمم، فإن كان يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه، وإن كان لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتباراً للانتهاء بالابتداء.
فإن تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به لصلاة أخرى، لأن التيمم الأول أخرجه من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بماء يكفيه للاغتسال، فلم يغتسل حتى صار عادماً للماء، ثم حضرت الصلاة ومعه من الماء مقدار ما يتوضأ به فإنه يتيمم، ولا يتوضأ به لأنه لما وجد من الماء قدر ما يغتسل عاد جنباً كما كان فصار بهذه الحالة والحالة الأولى على السواء، وفي الحالة الأولى يتيمم ولا يتوضأ كذا ههنا.
ولا يلزمه نزع الخف لأنه لا تيمم في الرجل، فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث، فإنه يتوضأ به، لأن بالتيمم السابق خرج من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال ولم يجد بعد ذلك ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه ما يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه، لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال بعد لبس الخف وجب نزع الخف، فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء قبل ذلك مسح على خفيه؛ لأن اللبس حصل على طهارة ما لم يجد ما يمكنه الاغتسال، فكان له أن يمسح.
وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض تيممه، وكذلك إذا أصاب ثوبه، لأن التيمم إنما ينتقض بأحد شيئين: أما برؤية الماء أو بالحدث، ولم يوجد واحد منهما، فلا ينتقض تيممه ولكن يمسح تلك النجاسة بخرقة أو خشبة أو تراب ثم يصلي؛ لأنه بالمسح تزول العين، إن كان لا يزول الأثر فهو قادر على إزالة البعض. ولو أمكنه (23ب1) إزالة الكل يؤمر به، فإذا أمكنه إزالة البعض، يؤمر به أيضاً وصار كالعاري إذا وجد من التراب ما يستر به عورته، فإن ترك المسح فإنه يضره لا ترك الأثر، فالأثر لا يكفي لمنع جواز الصلاة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في مسلم تيمم ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم فهو على تيممه، وقال زفر رحمه الله: يبطل تيممه، وأجمعوا على أنه إذا توضأ ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم أنه يكون على وضوئه، فوجه قول زفر: أن الكفر يمنع ابتداء التيمم لكونه عبادة فيمنع البقاء، كالصوم والصلاة، وبه فارق الوضوء؛ لأن الكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا يمنع البقاء قلنا: إن التيمم قد صح، وأفاد حكمه وهو الطهارة والحال حال بقاء الطهارة والكفر لا ينافي بقاء الطهارة فيبقى بعد الردة، ألا ترى أن لو توضأ ثم ارتد يبقى طاهراً، بخلاف الصوم والصلاة لأنهما حكمهما بعدالفراغ عنهما الثواب، والكفر ينافيه، والسبب لا يبقى بدون الحكم، فأما التيمم، فله حكمان الثواب والطهارة عن الحدث، والثواب إن بطل بالردة، فالطهارة عن الحدث لم تبطل لأن الكفر لا ينافيها فينتفي التيمم، لأن السبب يبقى ببقاء أحد الحكمين، ألا ترى أنه لو توضأ بنية الصلاة ثم ارتد يبطل الثواب وتبقى الطهارة كذا ههنا.(1/163)
وإنما لا يصح ابتداء التيمم لأنه جعل طهوراً بشرط إرادة العبادة التي لا صحة لها إلا بالطهارة، وإرادة العبادة من الكافر لا تصح أما في حالة البقاء لا حاجة إلى الإرادة.
قال: ولو تيمم النصراني يريد به الإسلام، لا يصح تيممه، حتى لا يصلي بهذا التيمم لو أسلم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يصح تيممه، شرط في «الجامع الصغير» إرادة الإسلام على مذهب أبي يوسف رحمه الله لم يشترط إرادة الإسلام في كتاب الصلاة والصحيح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن بدون إرادة الإسلام حصل التيمم لا بنية القربة، والمسلم لو تيمم لا بنية القربة لا يصح تيممه بالإجماع فههنا أولى.
فوجه قول أبي يوسف أنه تيمم بنية قربة تصح منه فيصح أما بنية القربة؛ لأن الإسلام أصل القرب ورأس العبادات، وإما نية قربة تصح منه فظاهر بخلاف ما لو تيمم بنية الصلاة، لأن نية الصلاة منه لا تصح، غاية ما في الباب أنه لم ينو الصلاة، إلا أن نية الصلاة ليست بشرط لازم، ألا ترى أنه لو تيمم لمس المصحف أو لقراءة القرآن صح.
وجه قولهما: أنه يتيمم بنية قربة تصح بغير طهارة، لأن الإسلام صحيح بدون الطهارة، فلا يعتبر، كما لو تيمم بنية الصوم، أو بنية الزكاة، وبه فارق ما لو تيمم لمس المصحف، أو لقراءة القرآن.
والفقه في ذلك أن التيمم صار طهوراً بخلاف القياس شرعاً بنية قربة لا تتأدى بدون الطهارة. ولو توضأ في حال كفره ثم أسلم وصلى بذلك الوضوء يجوز عندنا خلافاً للشافعي بناء على أن نية الصلاة عنده شرط صحة الوضوء ونية الصلاة من الكافر لا تصح، وعندنا نية الصلاة ليست بشرط لصحة الوضوء، والمسألة معروفة.
وللمسافر أن يطأ جاريته، وإن علم أنه لا يجد الماء، وقال مالك: يكره ذلك، حجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت فإذا وجدت الماء فاغتسل، والمعنى فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة حال عدم الماء، والصلاة مع الجنابة عظيم فلا ينبغي له أن يتعرض لذلك من غير ضرورة، ولنا قوله تعالى: {أو لامستم النساء} (النساء: 43) فلذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة، فكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء، فكذلك اكتساب سبب الجنابة لأن في منع النفس بعد الشبق بعض الحرج، وما شرع التيمم إلا لرفع الحرج.
سُئل شيخ الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن رجل ضرب يده على الأرض للتيمم فرفعها، فقبل أن يمسح بهما وجهه وذراعه أحدث بصوت أو ريح أو نحو ذلك ثم مسح بهما، هل يجوز ذلك التيمم؟ قال: وقعت هذه المسألة أيام أستاذنا فقال القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب رحمه الله: يجوز التيمم بمنزلة من ملأ كفيه ماء فأحدث ثم استعمله في بعض أعضاء الوضوء، أليس أنه يصح ذلك؟ كذا ههنا، وقال السيد الإمام الأجل أبو شجاع رحمه الله: لا يجوز؛ لأن الضربة من التيمم، قال عليه السلام: «التيمم(1/164)
ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» فقد أتى ببعض التيمم ثم أحدث فينتقض كما ينتقض الكل إذا حصل بعد الكل بمنزلة الوضوء إذا حصل الحدث في خلاله ببعض ما وجد كما إذا حصل بعد تمامه ينتقض الكل.
قال: ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، إن كان الماء لأحدهم فهو أحق وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحد أن يغتسل لأن للميت نصيب وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به وتتيمم المرأة، لأن غسل الجنب فريضة ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة ولأن غسل الجنب بنص الكتاب، وغسل الميت ثبت بالسنة فيوسم الميت ويصلي الرجل وتقتدي به المرأة بالتيمم، وكذا لو كان مكانَ الحائض محدث يصرف إلى الجنب بالإجماع، لأن في كون التيمم شبيهاً بالجنابة خلاف، فإن عمر وابن مسعود لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى.
وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعدما يمم وجهه ساعة ثم يمم ذراعيه أجزأه، وعند الشافعي لا يجوز في الترتيب بناء على مسألة الترتيب في الوضوء، وعند مالك لا يجوز في الموالاة بناء على مسألة الموالاة في الوضوء، وقد بيناهما في باب الوضوء فكذلك ههنا، والمعنى فيهما أن هذا ترك السنّة وترك السنّة لا يمنع الجواز.
قال: متيمم مر على الماء وهو نائم، ذكر في بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة رحمه الله أنه ينتقض تيممه، وقيل ينبغي أن لا ينتقض عند الكل، إنما الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فيما إذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به.
رجل يرى التيمم إلى الرسغ أو الوتر ركعة واحدة ثم رأى التيمم إلى المرفق، والوتر ثلاثاً لا يعيد ما صلى وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحداً ثم سأل فأمر بثلاث يعيد ما صلى لأنه في الوجه الأول مجتهد وفي الوجه الثاني لا، يعني في الوتر.
قال: المسافر إذا وجد ماء قدر ما يغسل به كل عضو مرة واحدة لا يجوز له أن يتيمم إلا أن يخاف العطش على نفسه أو على دابته، ولو كان متيمماً فوجد ماءً قدر ما يكفي كل عضو مرة واحدة، فغسل بعض أعضائه ثلاثاً ثلاثاً فلم يبق الماء فإنه يعيد التيمم.
قال: وإذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن استخلف متوضئاً ثم تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعاً، فإن تيمم هذا الذي أحدث وأم الناس فأتم جازت صلاة الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد وزفر رحمهما الله: صلاة المتوضىء فاسدة وصلاة المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف، ويصح فيها اقتداء المتوضىء بالمتيمم كما في غيرها من الصلوات.
قال: المسافر إذا لم يجد الماء ووجد الثلج، إن كان ذلك في مكان البرد وزمانه جاز له التيمم لأن التوضؤ بالثلج لا يجوز، إلا أن يسيل الماء على أعضائه ويتقاطر منها،(1/165)
وذلك لا يتصور في زمان الشتاء، فإذا عجز عن الوضوء جاز التيمم.
قال: مسافر أحدث ومعه ثوب نجس، فوجد ماء قدر ما يكفي للوضوء أو لغسل الثوب ولا يكفيهما فإنه يغسل الثوب به ويتيمم للحدث ويصلي وإن توضأ بالماء وصلى في الثوب النجس يجزئه وكان مسيئاً فيما فعل.
وإذا تيمم لصلاة الجنازة وصلى جاز له أن يصلي بذلك التيمم على جنازة أخرى قبل أن يقدر على الوضوء كما لو تيمم للمكتوبة جاز له أن يصلي بذلك التيمم مكتوبة أخرى.
قال: مسافر معه ماء طاهر وسؤر حمار، ولا يعرف أحدهما من الآخر قال محمد رحمه الله: يتوضأ بهما جميعاً ولا يتيمم.
قال: جنب تيمم للظهر وصلى ثم أحدث فحضرته العصر ومعه ماء يكفي للوضوء فإنه يتوضأ به لأن الجنابة زالت بالتيمم، فإذا أحدث بعد التيمم ومعه ما يكفي للوضوء يتوضأ فإن توضأ للعصر وصلى ثم مر بماء يتأتى منه الاغتسال، وعلم به ولم يغتسل حتى حضرت المغرب وقد أحدث أو لم يحدث (24أ1) ومعه ماء قدر ما يكفيه الوضوء فإنه يتيمم ولا يتوضأ به لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال عاد جنباً فهذا جنبٌ معه من الماء ما لا يكفي الاغتسال فيتيمم. ومن تيمم ثم شك أنه أحدث أو لم يحدث فهو على تيممه ما لم يستقين بالحدث، كما لو شك في الحدث بعدما لو توضأ.
قال: مسافر أجنب، فغسل وجهه وذراعيه، ولم يبق الماء فإنه يتيمم، فإن تيمم وشرع في الصلاة ثم قهقه ثم وجد ماءاً يكفي الاغتسال، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله، ويغسل ما بقي من جسده ما لم يكن غسله في المرة الأولى بلا خلاف، فالضحك في الصلاة ينقض طهارة الوضوء بالإجماع، وهل ينقض طهارة الاغتسال؟ فيه خلاف وقد مرت المسألة من قبل.
(الفصل السادس) في المسح على الخفين
يجب أن يعلم بأن المسح على الخفين جائز عند عامة العلماء بآثار مشهورة قريبة من التواتر، روى عمر وعلي والعبادلة الثلاثة وصفوان بن عسال المرادي وغيرهم رضي الله عنهم عن رسول الله عليه السلام، وعن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال «توضأ رسول الله عليه السلام في سفر وكنت أصب عليه الماء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت: نسيت غسل القدمين فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزّ وجلّ» . وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه مسح على(1/166)
خفيه وقال: «رأيت النبي عليه السلام فعل ذلك، فقالوا لجرير: أبعد نزول سورة المائدة، وعنوا به وأرجلكم على قراءة النصب الدالة على فرضية الغسل، فقال جرير: وهل كان إسلامي إلا بعد سورة المائدة» ، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين نفراً من أصحاب رسول الله عليه السلام كلهم يرون المسح على الخفين.
ولكثرة الأخبار قال أبو حنيفة رحمه الله: ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاء في مثل ضوء النهار، وفي رواية قال: حتى رأيت له شعاعاً كشعاع الشمس. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئل عن السنّة والجماعة فقال: أن تحب الشيخين ولا تطعن في الحسنين وتمسح على الخفين. وقال الكرخي رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يخشى عليه الكفر. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يكفر لأن حديث المسح على الخفين بمنزلة التواتر عنده، ومن أنكر التواتر يكفر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في صورة المسح وكيفيته ومقداره
فنقول: قال أصحابنا رحمة الله عليهم: مسح الخف مرة واحدة ولا يسن فيه التكرار، ويبدأ من قبل الأصابع فيضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفيه الأيمن، ويضع أصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر ويمدهما إلى أصل الساق، هكذا روى مغيرة بن شعبة فعل رسول الله عليه السلام، والمعنى: أن المسح قائم مقام الغسل، والسنّة في الغسل البداية من قبل الأصابع فكذلك في المسح.
وعن محمد رحمه الله: أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: أن يضع أصابع يديه على مقدم خفيه ويجافي كفيه ويمدهما إلى الساق أو يضع كفيه مع الأصابع ويمدهما جملة، قال محمد رحمه الله: كلاهما حسن قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأحسن تحصيل المسح بجميع اليد، ولو بدأ من قبل الساق يجوز لأنه أتى بأصل المسح إلا أنه ترك السنّة، وترك السنّة لا يمنع الجواز. ألا ترى أن في الغسل لو بدأ من أصل الساق يجوز؟، وطريقه ما قلنا.
ولو مسح برؤوس الأصابع وجافى أصول الأصابع والكف لا يجوز، إلا أن يبلغ ما ابتل من الخف عند الوضع مقدار الواجب وذلك ثلاثة أصابع، ولو مسح بظاهر كفيه يجوز والمستحب المسح بباطن كفيه.(1/167)
ولو مسح بأصبع أو أصبعين لا يجوز؛ لأن المسح على الخفين نظير المسح على الرأس لأنه معطوف على الرأس في إحدى الروايتين على ما مر * ثم لو مسح على الرأس بأصبع أو أصبعين لا يجوز، ولو مسح بثلاثة أصابع جاز فههنا كذلك. وعلى قياس رواية الحسن في مسح الرأس انه لا يجوز * ما لم يمسح مقدار الربع، لا يجوز في مسح الخفين إلا مقدار الربع أيضاً ولو مسح بالإبهام والسبابة: إن كانا مفتوحين جاز لأن ما بينهما مقدار أصبع آخر، وقد ذكرنا هذا في مسح الرأس، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن التقدير بثلاثة أصابع اليد أو بثلاثة أصابع الرجل، وكان الكرخي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع الرجل اعتباراً لمحل المسح. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع اليد اعتباراً لآلة المسح، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
ولو مسح بأصبع واحد ثم بله ومسح ثانياً وثالثاً، إن مسح كل مرة غير الموضع الذي مسحه مرة (لا) يجوز كأنه مسح بثلاثة أصابع اليد، ويجوز المسح على الخف ببلل الغسل سواء كانت البلة متقاطرة أو غير متقاطرة، ولا يجوز المسح ببلل المسح، وتفسير هذا: إذا توضأ ثم مسح الخف بلة بقيت على كفه بعد الغسل يجوز، ولو مسح رأسه ثم مسح الخف ببلة بقيت لا يجوز، لأن في الفصل الأول: البلة لم تصر مستعملة لأن الغرض منها ما أقيم بها، وفي الفصل الثاني: البلة صارت مستعملة، لأن الغرض أقيم بها.
ولو توضأ ونسي مسح خفيه، ثم فاض الماء، فأصاب الماء ظاهر خفيه، يجزئه عن المسح، لأن المقصود والمأمور به وصول البلة وقد وجد، وهو نظير ما لو نسي مسح الرأس فأصاب رأسه ماء المطر هل يصير الماء مستعملاً؟ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يصير، وقال محمد رحمه الله: يصير.
وإذا لم يمسح على خفيه ولكن مشى في الحشيش فابتل ظاهر خفيه ببلل الحشيش، إن كان الحشيش مبتلاً بالماء أو بالمطر يجزئه بالإجماع، وإن كان مبتلاً بالطل، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز لأن الطل من الماء كالمطر، وفيه أن الطل سبيل في بيت المقدس كالمطر.
ولو أَمَرَ إنساناً حتى مسح على خفيه جاز لحصول المقصود وهو إيصال البلة والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان محل المسح
فنقول: محل المسح ظاهر الخف دون باطنه، حتى لو مسح باطن خفيه دون ظاهرهما لم يجزئه، وقال الشافعي رحمه الله: المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه سنة، والأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف، ويده اليسرى على باطن الخف فيمسح بهما كل رجل.
احتج الشافعي رحمه الله بما روي عن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «أن النبي عليه(1/168)
السلام: مسح على خفيه أسفله وأعلاه» ، ولأن الاستيعاب في مسح الرأس سنة، فكذا في مسح الخفين.
وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا: بما روينا من حديث المغيرة، وبما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على ظاهر الخفين دون باطنهما» ، ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصب يده ذلك اللوث وفيه بعض الحرج.
والمسح بالخف إنما شرع لرفع الحرج. وأما الجواب عن الحديث: فكذلك الحديث فلا يوجه به، وأما الجواب عن استيعاب الرأس قلنا: جميع الرأس محل المسح بدليل: أنه لو مسح بعض أطرافه دون البعض يجوز بالإجماع، وههنا لو اقتصر على المسح على باطن الخف، لا يجوز بالإجماع، دل أن باطن الخف ليس بمحل للمسح، وإذا لم يكن محلاً للمسح لا يسن المسح عليه وكذلك إذا مسح على العقب لا يجوز؛ لأن محل المسح المقدم دون المؤخر، ولو مسح على ما يلي الساق أو على ما يلي مقدم ظاهر الخف يجوز، ولو مسح على فوق الكعبين لا يجزئه والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان ما يجوز عليه المسح من الخفاف وما بمعناها وما لا يجوز
قال: الخف الذي يجوز عليه المسح ما يُمَكّن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وستر الكعبين وما تحتهما. وستر ما فوق الكعبين ليس بشرط، لأن ما فوق الكعبين زيادة في إطلاق اسم الخف عليه، وإن كان يرى من الكعب قدر أصبع أو أصبعين جاز المسح عليه، وإن كان ثلاثة أصابع فصاعداً (24ب1) لا يجوز المسح نص عليه محمد رحمه الله في «الزيادات» .
والمذكور في «الزيادات» : رجل عليه خفاف لا ساق عليهما جاز أن يمسح عليهما، إذا كان الكعب مستوراً، وإن كان خرج منها شيء من مواضع الوضوء نحو الكعب وغيره، وإن كان ما خرج مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل لا يجوز المسح عليهما، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: إذا لبس المكعب ولا يرى من كعبه إلا إصبع أو إصبعان جاز المسح عليه لأنه بمنزلة الخف الذي لا ساق له.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمع الله: الصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله روى عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود، قال مشايخنا: كان أبو حنيفة رحمه الله لم يعرف صلابة هذا النوع من الخف وصلاحيته لقطع السفر وتتابع المشي به أما لو عرف ذلك لأفتى به، لأن مثل هذا الخف صالح لقطع السفر وتتابع المشي به فكان كالخف المتخذ من الأديم وغيره.
وأما المسح على الجوارب، فلا يخلو: إما إن كان الجوارب رقيقاً غير منعل، وفي(1/169)
هذا الوجه لا يجوز المسح بلا خلاف، وأما إذا كان ثخيناً منعلاً، وفي هذا الوجه يجوز المسح بلا خلاف، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه فكان بمعنى الخف، والمراد من الثخين: إن كان يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء، ولا يسقط، فأما إذا كان لا يستمسك ويسترخي فهذا ليس بثخين، ولا يجوز المسح عليه، وأما إذا كان ثخيناً غير منعل، وفي هذا الوجه لا يجوز المسح عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز.
ثم بين المشايخ اختلاف في مقدار النعل الذي يكفي لجواز المسح على الثخين عند أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: إذا كان في باطن الخف أديم وهو ما يكفي لكف القدم، جاز المسح عليه، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) حتى تكون الأديم على أصابع الرجل وظاهر القدمين، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) يكون الأديم إلى الساق ليكون ظاهر قدميه وكعباه مستوراً بالأديم فعلى قول هذا القائل: لو كان المستور بالأديم ما دون الساق، والساق مجورب لا يجوز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسألت الشيخ الإمام الأستاذ عن تفسير الجورب المنعل عند أبي حنيفة رحمه الله، أراد به الجلد الرقيق، الذي اعتاد الناس حوزه على جواربهم، أو أراد الصرم العلنطنطر الصرم الذي يكون على جوارب أهل مرو، وقال: إن كان هذا الجورب المنعل كجوارب الصبيان يمشون عليهما في تخرجة وغلظ النعل جاز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة: هذا في شرح كتاب الصلاة الجورب أنواع: منها ما يكون من غزل وصوف، ومنها ما يكون من غزل، ومنها ما يكون من شعر.
والأول: أن لا يجوز عليه المسح عندهم جميعاً.
وأما الثاني: فإن كان رقيقاً: لا يجوز المسح عليه بلا خلاف، وإن كان ثخيناً مستمسكاً ويستر الكعب ستراً لا يراه الناظر كما هو جوارب أهل مرو، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز المسح عليه، إلا إذا كان منعلاً أو مبطناً، وعلى قولهما: يجوز.
وأما الثالث: ذكر في «النوادر» : أنه لا يجوز المسح عليه، قالوا: إذا كان صلباً مستمسكاً يمشي معه فراسخ أو فرسخاً، يجب أن يكون على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.
وأما الرابع، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز المسح عليه، والمتأخرون قالوا: الصحيح أن المسألة على الخلاف.
وأما الخامس: فلا يجوز المسح عليه كيف ما كان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : حكي أن أبا حنيفة رحمه الله مسح على جوربيه في مرضه الذي مات فيه، وقال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، قال رحمه الله: استدلوا به على رجوعه إلى قولهما، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: هذا كلام محتمل يحتمل أنه كان رجوعاً إلى قولهما، ويحتمل أن لا يكون رجوعاً ويكون اعتذاراً إليهم، أي إنما أخذت بقول المخالف للضرورة، فلا يثبت الرجوع بالشك.(1/170)
وأما المسح على الحاروق فإن كان يستر القدم والكعب، فهو بمنزلة الخف الذي لا ساق له، فكل جواب ذكرناه ثمة فهو الجواب ههنا، وإن كان لا يستر الكعب والقدم أكر بدهش حاروق يوست برد وفيه باسر جنابك عادت بعضي مرديان أست مسح روا يودوا بن بمعنى جوربي ما شدان يوست كه بليس معه النعليه وإنما مسح رواست باتفاق كذا ذكره الطحاوي رحمه الله، واكر وني حاروق توست في برد وضنة است عليه عامة مشايخ برا يندكه لا يجوز المسح عليه، وجوز بعضهم ذلك لأن عوام الناس يسافرون به خصوصاً في بلاد الشرق، وإذا كان مشقوقاً بمعنى ما يلي ظاهر القدم فكان يبدو قدمه من ذلك، أو كان جورباً ثخيناً منعلاً إلا أن ما يلي ظاهر القدم مشقوق، وقد بينا لذلك الشق أزراراً مكان حشوهما أو هيأ له خيطاً أو ستراً فكان يسدها سداً يستر قدميه فهو كغير المشوق، وإن كان يستر بعضه دون بعض ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن ذلك بمنزلة الخرق في الخف، وسيأتي الكلام في الخرق بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا لبس الجرموقين، وأراد أن يمسح عليهما فالمسألة على وجهين: إما أن يلبسهما وحدهما أو يلبسهما فوق الخفين، وكل مسألة على وجهين: إما إن كان الجرموق من كرباس أو ما يشبه الكرباس، أو من أديم، أو ما يشبه الأديم فإن لبسهما وحدهما، فإن كان من كرباس، أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما، لأنه لا يمكن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وإن كان من أديم أو ما يشبه الأديم يجوز المسح عليهما، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه، وإن لبسهما فوق الخفين، فإن كانا من كرباس أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكونا رقيقين يصل البلل إلى ما تحتهما، وإن كانا من أديم أو ما يشبه الأديم أجمعوا أنه إذا لبسهما بعدما أحدث قبل أن يمسح على الخفين أو بعدما أحدث ومسح على الخفين أنه لا يجوز المسح عليهما، وإن لبسهما قبل أن يحدث جاز المسح عليهما عندنا، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام فقد روى عنه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أنه مسح على الموق والموق هو الجرموق، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر رضي الله عنه مسح على جرموقيه.
وحاصل مذهب أصحابنا رحمهم الله: أنه متى لبس الجرموق على الخف قبل الحدث والجرموق يصير بدلاً عن الخف، فلا يؤدي إلى أن يكون للبدل بدلاً، ومتى لبس الجرموقين على الخف، فلو جاز المسح على الجرموق أدى إلى أن يكون للبدل بدلاً وأنه لا يجوز، وإن مسح على جرموقيه ثم نزعهما أعاد المسح على خفيه.
فرق بين هذا وبين ما إذا مسح على خف ذي طاقين ثم نزع أحد طاقيه، فإنه لا يلزمه إعادة المسح على الطاق الثاني، وكذلك إذا مسح على خفيه فقشر جلد ظاهر الخفين ثم رفعه فإنه لا يلزمه إعادة المسح، وكذلك إذا كان الخف مشعوراً كالخف اليماني فمسح على ظاهر الشعر ثم حلق الشعر، فإنه لا يلزمه إعادة المسح.
والفرق: أن الخف إذا كان ذا طاقين وكل طاق متصل بالآخر غير مزايل عنه(1/171)
فيصيران بحكم الاتصال كشيء واحد كالشعر مع بشرة الرأس اعتبرا شيئاً واحداً في حكم الاتصال، حتى كان المسح على شعر الرأس كالمسح على البشرة، فكذا ههنا يجوز المسح على أحد الطاقين كالمسح على الطاق الآخر فالممسوح لم يزد من حيث الحكم والاعتبار فلم يجب إعادة المسح، فأما الجرموق غير متصل بالخف بل هو مزايل عنه فلا يجعل المسح على الجرموق كالمسح على الخفين، فالممسوح زال حقيقة وحكماً فيحل الحدث بما تحته، فيلزمه إعادة المسح، كما لو أحدث في هذه الحالة. وإذا لبس الخفين فوق الخفين، فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا: فيما إذا لبس الجرموقين فوق الخفين.
وإذا لبس (25أ1) الجرموقين فوق الخفين ثم نزع أحدهما قال: عليه أن يعيد المسح على الخف الثاني والجرموق الثاني هكذا ذكر في ظاهر الرواية، ووقع في بعض كتاب الصلاة أنه يخلع الجرموق الثاني ويمسح على الخفين وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية، «الأصول» .
ووجه ذلك: أن الحدث حل بالخف الأدنى فيحل في الخف الآخر لأنه خلف الخف فلا يتجزأ، ووجه ما ذكرنا في «ظاهر الرواية» : أن الحدث إنما حل بالخف الأدنى لزوال المانع وهو الجرموق وهذا المعنى معدوم في الخف الآخر، فلا يحل الحدث بالخف الآخر، وإنما يحل بالجرموق الذي على الخف الآخر، فلا يلزمه إعادة المسح على الخف الآخر، وإنما لزمه إعادة المسح على الجرموق الذي على الخف الآخر؛ لأن المسح انتقض في حق الخف الأدنى فينتقض المسح في حق الجرموق الآخر، لأن انتقاض المسح لا يتجزأ.
فإن قيل: ما ذكرتم يشكل بما إذا نزع أحد خفيه، فإن هناك يحل الحدث بالرجل الأخرى حتى يلزمه غسل الرجل الأخرى مع أن المانع من حلول الحدث في الرجل الأخرى قائم وهو الخف.
قلنا: قضية القياس فيما إذا نزع أحد خفيه ألا يحل الحدث في الرجل الأخرى لقيام المانع به لكن سقط اعتبار القياس فيه لضرورة وهي ألا يصير جامعاً بين البدل والمبدل منه، وهذه الضرورة معدومة فيما نحن فيه فيبقى المانع معتبراً، وهذه المسائل كلها دليل على أن من لبس الجرموق فوق الخف ومسح على الجرموق ثم أحدث ونزع الجرموق جاز له المسح على الخف.
وإذا كان في الخف خرق فإن كان يسيراً لا يمنع وإن كان كبيراً يمنع، والقياس في الخرق الكبير أن يمنع جواز المسح أيضاً لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل لا رافعاً حدثاً حل بالرجل، وإذا كان بعض القدم مكشوفاً، ولا مانع في حق ذلك البعض فسرى الحدث إلى ذلك البعض، ومن ضرورته سراية الحدث إلى الكل، لأن الحدث لا يتجزأ إلا أنا استحسنا في اليسير لضرورة لأن الخف قل ما يخلو عن قليل خرق، لأنه وإن كان جديداً ما بان الدروب والأسافي فيه خرق ولهذا يدخله التراب، ولا ضرورة في(1/172)
الكبير فيبقى الكبير على أصل القياس.
بعد هذا الكلام في معرفة الحد الفاصل بين اليسير والكبير فنقول: إذا كان الخرق قدر إصبع أو إصبعين فهو يسير، وإذا كان قدر ثلاثة أصابع فهو كبير، ثم على رواية «الزيادات» : اعتبر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع الرجل، وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة: اعتبر ثلاثة أصابع اليد، ثم الخرق الكبير إنما يمنع جواز المسح إذا كان منفرجاً يرى ما تحته، فأما إذا كان لا يرى ما تحته، فإن كان الخرق جلياً إلا أنه إذا أدخل فيه الأصابع يدخل فيها ثلاثة أصابع لا يمنع جواز المسح وإن كان يبدو قدر ثلاثة أصابع حالة المشي، لأن في حال وضع القدم على الأرض يمنع جواز المسح، لأن الخف يلبس للمشي، فكان المعتبر حالة المشي، وهذا لأن جواز المسح على الخفين بطريق الرخصة لرفع الحرج عن الناس، فإذا كان الجرموق بحال لا يرى ما تحته حالة المشيء فالناس يلبسون مثل هذا الخف عادة لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لوقعوا في الحرج، وإذا كان الخرق بحال يرى ما تحته حالة المشيء، فالناس لا يلبسون مثل هذا الخف عادة، لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
ثم اختلف المشايخ في فصل أنه إذا كان يبدو قدر ثلاثة أنامل من أصابع الرجل هل يمنع جواز المسح؟ قال بعضهم يمنع، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وقال بعضهم: لا يمنع ويشترط أن يبدو قدر ثلاثة أصابع بكمالها، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الأصح.
ولو ظهر من الخرق الإبهام، وهي مقدار ثلاثة أصابع من غيرها جاز عليه المسح ويعتبر التقدير في تقدير الأصابع الصغير والكبير على السواء، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وسواء كان الخرق في باطن الخف أو ظاهره أو في ناحية العقب فالحكم لا يختلف، يعني إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع من أي جانب كان، فذلك يمنع جواز المسح؛ لأن الخرق إذا كان مقدار ثلاثة أصابع يمنع قطع السفر وتتابع المشيء به من أي جانب كان الخرق فلا يلبس عادة مع هذا الخرق، فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
وذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إذا كان المكشوف من قبل العقب أكثر من المستور لا يجوز المسح عليه، وإن كان المكشوف أقل من المستور يجوز المسح، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب.
ويجمع الخروق في خف واحد ولا يجمع في خفين.
بيانه: إذا كان في أحد الخفين خرق قدر أصبع، وفي الآخر قدر إصبعين جاز المسح عليهما، ولو كان في خف واحد خرق في مقدم الخف قدر أصبع وفي العقب مثل ذلك، وفي جانب الخف مثل ذلك لايجوز المسح عليه، فرق بين الخرق وبين النجاسة،(1/173)
فإن النجاسة تجمع في خفين كما تجمع في خف واحد متى كان في كل موضعين وكذلك الخرق في موضع العورة يجمع، والفرق أن في باب العورة المانع انكشاف العورة وقد وجد ذلك، وأما في باب النجاسة المانع هو النجاسة لأنها تنافي الطهارة، وإن كانت في مواضع متفرقة، فأما الخرق فما كان مانعاً لعينه، بل لكونه مانعاً تتابع المشي به، وهذا إنما يحصل إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع في خف واحد لا في خفين، وإن كان الخرق على الساق لا يمنع جواز المسح وإن كان أكثر من ثلاثة أصابع؛ لأن الخرق على الساق لا يكون أعلى حالاً من عدم الساق، ولو لم يكن للخف ساق وكان الكعب مستوراً يجوز المسح عليه فههنا أولى.
(نوع آخر) في بيان شرط جواز المسح على الخف
شرط جواز المسح على الخف أن يكون الحدث بعد اللبس طارئاً على طهارة كاملة، حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أحدث لم يجزه المسح، لأن الحدث ما طرأ على طهارة كاملة وسواء كملت الطهارة قبل اللبس أو بعده جاز المسح في الحالين عندنا حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث جاز له المسح على الخف عندنا، وقال الشافعي: الشرط أن يدخلهما في الخف بعد إكمال الطهارة.
وثمرة الخلاف مع الشافعي لا تظهر في هذه المسألة، لأن عنده الترتيب في الوضوء شرط وقد عدم الترتيب ههنا، وإنما تظهر في مسألة أخرى، وهي:
ما إذا توضأ وغسل رجله اليمنى ولبس عليه الخف ثم غسل رجله اليسرى ولبس عليه الخف ثم أحدث وتوضأ وأراد المسح جاز المسح عندنا وعند الشافعي لا يجوز واعتبر بما لو أحدث بعد اللبس ثم أكمل الطهارة فإنه لا يجوز المسح هناك، ونحن فرقنا بينما إذا أكمل الطهارة قبل الحدث، وبينما إذا لم يكمل حتى أحدث، والفرق أن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل لا رافعاً لحدث حل بالرجل، فإذا أكمل الطهارة قبل الحدث كان الخف مانعاً سراية الحدث من كل وجه ولم يكن رافعاً بوجه ما، لأن الحدث قد ارتفع عن الرجلين حقيقة لغسلهما، وحكماً لغسل ما بقي ولهذا جاز أداء الصلاة بتلك الطهارة فجاز المسح، فأما إذا أحدث قبل إكمال الطهارة كان الخف رافعاً الحدث من وجه لأن الحدث إن ارتفع عن القدمين حقيقة بغسلهما لم يرتفع حكماً، ولهذا لو أراد أن يصلي بتلك الطهارة لا يجوز فيكون الخف رافعاً لحدث كان قائماً فيه من وجه وإنه لا يجوز، ولهذا لا يمسح.
والنية ليست بشرط لجواز المسح على الخفين حتى إن من قال لغيره: علمني الوضوء والمسح على الخفين، فتوضأ ذلك الغير ومسح على الخفين وكان قصده التعلم جاز عندنا وهذا لأن المنصوص عليه المسح دون النية فاشتراط النية يكون زيادة على النص وإنه لا يجوز، ألا ترى أنه لا تشترط (25ب1) النية لجواز مسح الرأس، وإنما لا تشترط لما قلنا.(1/174)
وكذلك الترتيب ليس بشرط عندنا، بيانه: فيما ذكرنا أنه إذا غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث وتوضأ، جاز له المسح على الخفين.
ويمسح من كل حدث أو خبث في الوضوء بعد اللبس، فأما الجنابة فلا يجوز المسح فيها لحديث صفوان بن عسال المرادي قال: «كان رسول الله عليه السلام يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم» ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن بالنص ومع الخف لا يتأتى ذلك، ولأن جواز المسح لضرورة دفع المشقة، وذلك في الحدث أظهر لتكرير وقوعه في كل يوم عادة، وعدم تكرير وقوع الجنابة في كل يوم عادة، فامتنع الاستدلال.
ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : كل طهارة تنتقض بغير حدث، فإذا انتقض مع الحدث يمنع جواز المسح على الخفين، وكل طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، فإذا انتقض بالحدث الصغرى لا يمنع جواز المسح على الخفين.
وأشار إلى الفرق فقال: ما يبطل بغير حدث كان الحدث موجوداً عند ابتداء لبسه فلم يصادف الحدث طهارة ولا كذلك طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، لأن ابتداء اللبس صادف طهارة كاملة، فكان الحدث طارئاً على لبسه.
وتفسير هذا: المسافر إذا لم يجد الماء وتيمم ولبس خفيه ثم أحدث ووجد من الماء ما يكفيه للوضوء فإن عليه أن يتوضأ ويغسل قدميه ولا يجوز المسح على خفيه، لأن تيممه قد بطل بوجود الماء، وكان الحدث موجوداً في رجليه لأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك المستحاضة، ومن به جرح سائل.
وكذلك لو توضأ بنبيذ التمر ولبس الخفين ومسح على الخفين بنبيد التمر ثم وجد الماء نزع خفيه وتوضأ به وغسل قدميه لأنه لا يرفع الحدث وهو كالتراب.
وإذا توضأ بسؤر الحمار ولبس خفيه ولم يتيمم حتى أحدث فإنه يتوضأ بما بقي معه من سؤر الحمار ويمسح على الخفين ثم يتيمم ويصلي لأن سؤر الحمار إن كان طاهراً مطهراً فقد حصل اللبس على طهارة كاملة فجاء شرط جواز المسح على الخفين، وإن كان نجساً أو كان طاهراً غير طهور ففرضه في هذه الحالة التيمم، والرِّجْلُ لاحظ لها من التيمم، فتيقنا لسقوط غسل الرجلين فلهذا جاز المسح.
ولو توضأ بنبيذ التمر، ولبس الخف ثم أحدث ومعه نبيذ التمر، فإنه يتوضأ وينزع خفيه ويغسل قدميه في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يمسح على خفيه وفي سؤر الحمار قال: يمسح على وخفيه، ونبيذ التمر عنده مقدم على سؤر الحمار حتى قال في سؤر الحمار: يجمع بينه وبين التيمم، ولم يقل بالجمع في نبيذ التمر.
والفرق: أن الطهارة الحاصلة بنبيذ التمر طهارة ناقصة، ولهذا تنتقض برؤية الماء،(1/175)
ورؤية الماء ليست بحدث علم أنه يصير محدثاً بالحدث السابق، إلا أنه جوز أداء الصلاة بها عند انعدام الماء بالنص، إنما هي في نفسها طهارة ناقصة فكان اللبس حاصلاً على طهارة ناقصة فلا يجوز المسح، فأما سؤر الحمار، فإنما يجوز التوضؤ به على تقدير أنه طاهر مطهر، وعلى هذا التقدير هو وسائر المياه سواء كان اللبس حاصلاً على طهارة كاملة والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان مدة المسح على الخفين
قال علماؤنا رحمة الله: عليهم: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها، والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام» ، وعن صفوان بن عسال المرادي أنه سأل رسول الله عليه السلام عن المسح على الخفين فقال: «المقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ، والمعنى المجوز للمسح الضرورة، والضرورة في حق المسافر أكثر من الضرورة في حق المقيم، لأن المسافر لا ينزع الخف في كل مرحلة غالباً أو يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة، فقدر في حقه بأقل مدة السفر، إذ لا نهاية لما وراءه، فأما المقيم ينزع الخف في كل يوم وليلة عادة، ولا يُحرج في ذلك، فقدر في حقه بيوم وليلة لهذا.
وابتداء المدة يعتبر من وقت الحدث عند علمائنا، حتى إن من توضأ في وقت الفجر وهو مقيم وصلى الفجر ثم طلعت الشمس فلبس الخفين ثم زالت الشمس وصلى الظهر ثم أحدث ثم دخل وقت العصر فتوضأ ومسح على الخفين فقدرنا مدة المسح باقية إلى الغد إلى الساعة التي أحدث فيها اليوم، حتى جاز له أن يصلي الظهر في الغد بالمسح، ولا يجوز له أن يصلي العصر في الغد بالمسح، وإنما اعتبر بابتداء المدة من وقت الحدث لأن وجوب الطهارة باعتبار الحدث.... القدم بالخف مانع سراية الحدث إلى القدم، وإنما يصير مانعاً عند الحدث، وإذا كان علمه يظهر عند الحدث تعتبر المدة من وقت الحدث ضرورة.
قال في «الأصل» : وإذا انقضى وقت المسح ولم يحدث في تلك الساعة فعليه نزع خفيه وغسل رجليه وليس عليه إعادة الوضوء، وأراد بقوله: ولم يحدث في تلك الساعة، أنه لم يحدث بعد الحدث الأول من وقت اللبس لا أنه لم يحدث أصلاً من وقت اللبس، فإن لابس الخفين إذا استكمل يوماً وليلة وهو على وضوء ولم يحدث أصلاً لا يجب عليه غسل القدمين بالإجماع، لأن انقضاء المدة إنما عتبر في حق ماسح الخفين لا في حق لابس الخفين، وهذا الرجل لابس الخفين وليس بماسح الخفين، فلا يعتبر انقضاء المدة(1/176)
في حقه، فأما إذا أحدث بعد لبس الخفين فتوضأ ومسح على الخفين، ثم استكمل يوماً وليلة، وهو على وضوء ولم يحدث حدثاً آخر، يجب عليه نزع الخفين، وغسل القدمين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل ما دامت مدة المسح باقية، فإذ انقضت مدة الحدث لم يبق المانع، فيسري الحدث السابق إلى الرجل، فصار كما لو توضأ وأخر غسل الرجلين، ولو توضأ وأخر غسل الرجلين، يجب عليه غسل الرجلين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء كذا ههنا، علمنا أن المراد من المسألة ما ذكرنا، وإن كان أحدث في تلك الساعة نزع خفيه وغسل رجليه وأعاد الوضوء.
وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة، ثم سافر نزع خفيه وغسل رجليه. وإن لم يستكمل مسح الإقامة حتى سافر: إن سافر قبل أن يحدث فإنه يستكمل مدة مسح السفر بالإجماع لأن ابتداء المدة انعقد وهو مسافر، لأن ابتداء المدة من وقت الحدث، وأما إذا أحدث ومسح على الخفين أو لم يمسح وسافر فكان ذلك قبل استكمال مسح الإقامة، فإنه يستكمل مدة مسح المسافر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وإذا قدم المسافر مصره، وكان ذلك بعد ما مسح يوماً وليلة أو أكثر نزع خفيه لأنه صار مقيماً، ولا يلزمه إعادة شيء من تلك الصلوات وإن كان قدومه بعدما مسح أكثر من يوم وليلة؛ لأنه حين مسح كان مسافراً.
وإن قدم المصر قبل استكمال يوم وليلة يمسح مسح المقيمين بالاتفاق، وإذا انقضت مدة المسح وهو مسافر ويخاف ذهاب الرجل من البرد لو نزع خفيه، جاز له المسح لمكان الضرورة، وإن كان لا يخاف ذهاب الرجل ينزع خفيه ويغسل رجليه، وإذا أحدث الماسح في صلاته وانصرف للتوضؤ وانقضت مدة المسح قبل أن يتوضأ يغسل رجليه ويبني على صلاته، كالمصلي بالتيمم إذا أحدث وانصرف ووجد ماءً، فإنه يتوضأ ويبني على صلاته.
إذا انقضت مدة مسحه وهو في الصلاة، ولم يجد ماء فإنه يمضي على صلاته؛ لأنه لا فائدة في قطع الصلاة؛ لأن حاجة الماسح بعد انقضاء مدة المسح إلى غسل الرجلين، ولو قطع الصلاة وهو عاجز عن غسل الرجلين فإنه يتيمم ولاحظ للرجلين من التيمم، ولهذا يمضي على صلاته، ومن المشايخ من قال: تفسد صلاته، والأول أصح والله أعلم.
(نوع آخر)
بيان ما يبطل المسح على الخفين
قال رضي الله عنه: وإذا مسح على الخف (26أ1) ثم دخل الماء وابتل من رجله قدر ثلاثة أصابع أو أقل، لا يبطل مسحه، ولو ابتل جميع القدم وبلغ الماء الكعب بطل المسح، روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله، ويجب غسل الرجل الأخرى، ذكره في «حيرة الفقهاء» .
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا أصاب الماء أكثر أحد رجليه ينتقض مسحه، ويكون بمنزلة الغسل وبه قال بعض المشايخ، وقد حكي أيضاً عن الفقيه هذا رحمه الله أنه(1/177)
قال مرة على نحو ما ذكرنا في كتاب «الحيرة» ، وبعض مشايخنا قالوا لا ينتقض المسح، على كل حال لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم، فلا يقع هذا غسلاً معتبراً فلا يوجب انتقاض المسح.
وإذا نزع خفيه بعد المسح أو أحدهما غسل رجليه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه، فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض مسحه، وهذا قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وجه ذلك: أن موضع المسح فارق مكانه، فكأنه ظهر رجله، وهذا لأن ساق الخف غير معتبر حتى لو لبس خفاً لا ساق له، جاز له المسح إذا كان الكعب مستوراً، فكون الرجل في الساق وظهوره في الحكم سواء هذا إذا نزع كل القدم إلى الساق.
فأما إذا نزع بعض القدم عن مكانه ذكر الفقيه أبو محمد الجويني عن أبي حنيفة رحمه الله في «الإملاء» : أنه إذا زال عقب الرجل عن عقب الخف أو زال أكثر عقب الرجل عن عقب الخف انتقض المسح ووجب غسل الرجل، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن اللبس وقع للمشي المعتاد، وقد تعذر المشي إذا خرج أكثر عقب الرجل عن موضعه، فصار وجود هذا اللبس والعدم بمنزله، فيبطل المسح ضرورة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى: إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه، وعن محمد رحمه الله: إذا بقي من ظهر القدم في موضع المسح قدر ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه الجملة في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه المسألة في «شرحه» ، وقال: ذكر في بعض الروايات أنه إذا كان بحيث يمكنه المشي بعد ما تحرك قدمه عن موضعه لا ينتقض مسحه وإن كان بحيث لا يمكنه المشي ينتقض مسحه، وذكر في بعض الروايات: إذا خرج أكثر ما يفترض غسله ينتقض مسحه، وما لا فلا، وفي بعض الروايات: إن بقي في موضع قرار القدم مقدار ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، قال: وأكثر المشايخ على هذا، وهو مروي عن محمد رحمه الله على نحو ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وفي كتاب «الصلاة» لأبي عبد الله الزعفراني رحمه الله: رجل أعرج يمشي على صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف أو كان لا عقب للخف وصدور(1/178)
قدميه في الخف، أو رجل صحيح أخرج عقبه من عقب الخف، إلا أن مقدم قدمه في الخف في موضع المسح، له أن يمسح ما لم يخرج صدر قدمه عن الخف إلى الساق، وفي بعض المواضع إذا كان صدور القدم في موضعه والعقب يخرج ويدخل لا ينتقض مسحه، ولو كان الخف واسعاً إذا رفع القدم قع (عن) القدم حتى يخرج العقب، فإذا وضع القدم عادت العقب إلى موضعها لا ينتقض مسحه.
ذكر أبو علي الدقاق رحمه الله صاحب «كتاب الحيض» : رجل لبس خفين ولبس فوقهما جرموقين واسعين يفضل من الجرموق على الخف مقدار ثلاثة أصابع، فمسح على تلك الفضلة لم يجز، وإن مسح على تلك الفضلة وقد قدم رجله إلى تلك الفضلة ومسح عليه، ثم زال رجله عن ذلك الموضع، أعاد المسح والله أعلم.t
(نوع آخر)
المرأة في المسح على الخفين بمنزلة الرجل؛ لاستوائهما في المعنى المجوز للمسح، وإذا استحيضت المرأة ولبست خفيها بعدما توضأت، ثم أحدثت في الوقت حدثاً آخر حتى انتقضت طهارتها لما عرف، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفهيا، فهذه المسألة على أربعة أوجه:
أما إذا كانت الدم سائلاً وقت الوضوء واللبس، أو كان منقطعاً وقت الوضوء واللبس، أو كان سائلاً وقت الوضوء منقطعاً وقت اللبس، أو كان منقطعاً وقت الوضوء سائلاً وقت اللبس، وفي الوجوه كلها لها أن تمسح على خفيها؛ لأن طهارتها ما دام الوقت باقياً طهارة معتبرة يجوز أداء الصلاة بها، فكان اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة، فيجوز المسح.
ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولكن خرج الوقت حتى انتقضت طهارتها بخروج الوقت، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفيها ففيما إذا كان الدم منقطعاً وقت الوضوء واللبس لها أن تمسح، وفيما عدا ذلك من الوجوه ليس لها أن تمسح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله لها أن تمسح.
وجه قول زفر: أن اللبس حصل على طهارة معتبرة، لأن طهارة المستحاضة طهارة معتبرة حتى ينبني عليها جواز الصلاة، وما وجد من السيلان أسقط الشرع اعتباره وألحقه بالعدم، فيجوز لها أن تمسح كما لو كان الدم منقطعاً وقت الوضوء واللبس جميعاً.
وجه قول علمائنا الثلاثة: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض ويظهر الاستناد في حق القائم من الأحكام على ما عرف، وجواز المسح حكم قائم فيظهر الاستناد في حقه ويظهر أن اللبس حصل مع الحدث في حق هذا الحكم، بخلاف ما إذا كان الدم منقطعاً وقت اللبس والوضوء؛ لأن هناك وإن استند الانتقاض إلا أنه إنما يستند إلى سيلان، متأخر عن اللبس، فلا يظهر أن اللبس حصل مع الحدث.
فإن قيل: لو استند الانتقاض بخروج الوقت يجب أن يقال إذا شرعت في التطوع ثم خرج الوقت أن لا يجب عليها القضاء؛ لأنه ظهر أن الشروع حصل مع الحدث، قلنا: هذا ليس بظهور من كل وجه، بل هو ظهور من وجه، اقتصار من وجه؛ لأن انتقاض(1/179)
الطهارة حكم الحدث والحدث وجد في تلك الحالة، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من تلك الحالة، إلا أن صيرورتها محدثة معلقة بخروج الوقت وخروج الوقت وجد الآن، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من كل وجه فلا يجوز لها المسح، ولا يجب عليها القضاء، ولو كان اقتصاراً من كل وجه يجوز لها المسح، ويجب عليها القضاء، فإذا كان ظهوراً من وجه اقتصاراً من وجه، قلنا: لا يجوز لها المسح ويجب عليها القضاء أخذاً بالاحتياط في كل فصل.
وصاحب الجرح السائل في حق هذه الأحكام بمنزلة المستحاضة؛ لأنه بمعناها والله أعلم.
(نوع آخر)
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل قطعت إحدى رجليه، وبقي من موضع الوضوء مقدار ثلاثة أصابع أو أكثر أو أقل حتى بقي شيء منها من موضع الوضوء، فتوضأ وغسل ذلك الرجل، والرجل الصحيحة، ولبس الخف على الرجل الصحيحة ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له أن يمسح على الرجل الصحيحة؛ لأنه إذا بقي من الرجل المقطوعة شيء من موضع الوضوء يجب غسله، فيجب غسل الرجل الصحيحة كي لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة.
وإن لبس الخفين، فإن كان ما بقي من الرجل المقطوعة سأقل من مقدار ثلاثة أصابع لا يجوز المسح على الخفين؛ لأن محل المسح قدر ثلاثة أصابع ولم يبق من الرجل المقطوعة قدر ثلاثة أصابع، فلم يجز المسح عليه بل وجب غسله، فوجب غسل الرجل الصحيحة لما ذكرنا، وهذا بخلاف ما إذا لبس الخفين وظهر من أحدها أقل من مقدار ثلاثة أصابع من موضع الوضوء ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على خفيه؛ لأن هناك ليس يلزمه غسل ما ظهر من إحدى الرجلين، فلا يلزمه غسل الباقي، فلا يلزمه غسل الرجل الأخرى، أما هنا لزمه غسل ما بقي من الرجل المقطوعة فيلزمه غسل الرجل الصحيحة.
وإن كان الباقي من الرجل المقطوعة مقدار ثلاثة أصابع، فإن لم يكن الباقي من ظاهر القدم لا يجوز المسح، وإن كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح؛ لأن محل المسح ظهر القدم على ما مر، فإذا لم يكن الباقي من ظاهر القدم لم يجز المسح بل وجب غسله فيجب غسل الرجل الصحيحة، فأما إذا كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح عليه، فيجوز المسح على الرجل الصحيحة أيضاً هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا كان الباقي مقدار ثلاثة أصابع من جانب الأصابع، جاز المسح وإن لم يبق من جانب الأصابع شيء، وإنما بقي ما يلي العقب مقدار ثلاثة أصابع أو أقل أو أكثر لم يجز المسح، وهو الصحيح لأن محل المسح ظاهر القدم من جانب الأصابع، (26ب1) وقد مر هذا في أول هذا الفصل.
رجل قطعت إحدى رجليه من الكعب، أو من نصف الكعب ولبس الخف على الرجل الصحيحة لم يجز له أن يمسح عليها، إلا على قول زفر رحمه الله؛ لأن عنده(1/180)
الكعب لا يدخل في الغسل، وعندنا الكعب يدخل في الغسل فإذا بقي أحد طرفي الكعب يجب غسله، فيجب غسل الرجل الأخرى، فإن قطعت إحدى رجليه فوق الكعب جاز له المسح على الأخرى، لأنه لم يبق شيء من هذه الرجل من موضع الوضوء، فكأنها ذاهبة أصلاً.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله في مقطوع الرجل من الكعب عليه أن يمسح موضع القطع وإن كان عليه خفاف جاز أن يمسح عليها والله أعلم.
(نوع آخر)
قال محمد في «الزيادات» : رجل بإحدى رجليه جراحة لا يستطيع غسلها، ولكن يستطيع أن يمسح على الخرق التي عليها، فإنه يتوضأ ويمسح على الخرق التي عليها ويغسل الرجل الصحيحة، فإن توضأ وغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها ومسح على الخرقة التي على الرجل الأخرى إلا أنه لم يستطع أن يلبس الخف عليها ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له المسح على الخف الذي لبسه على الرجل الصحيحة؛ لأنه لو مسح على الخف مسح على الجبيرة، والمسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، فيجتمع له البدل والمبدل في وظيفة واحدة، وذلك لا يجوز، وعلى قياس ما قيل عن أبي حنيفة رحمه الله: أن من ترك المسح على الجبائر والمسح لا يضره أنه يجزئه عنده لما تبين ينبغي أن يجوز ههنا المسح على الخف؛ لأن المسح على الجبائر عنده ليس بفرض لما تبين وسقط وظيفة هذا الرجل المجروحة أصلاً، فكأنها ذهبت أصلاً، وهناك جاز المسح على الخف في(1/181)
الرجل، إذ لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل منه في وظيفة واحدة كذا ههنا.
وإن كان حين غسل الرجل الصحيحة ومسح لبس الخفين ثم أحدث جاز المسح على الخفين على الجبائر بمنزلة غسل ما تحتها، فصار كأنه لبس الخفين بعد غسل الرجلين وهناك يجوز المسح؛ لأنه لو مسح مسح على الخفين، فلا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة، كذا ههنا، فقد جوز المسح على الخف الذي لبسه على الرجل المجروحة، وإن كان ما تحته ممسوحاً.
وإذا مسح على الخفين ثم لبس عليهما الجرموقين لا يجزئه المسح على الجرموق، والفرق أن المسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، ولهذا لا يتوقت هذا المسح بمدة، ويجب الاستيعاب فيه كالغسل وإذا كان بالغسل لما تحتها صار في الحكم لابساً الخفين بعد غسل القدمين، فلو جوزنا المسح على الخفين كان المسح بدلاً عن الغسل لا عن المسح، فلا يؤدي إلى أن يكون البدل بدلاً من جنسه، فأما المسح على الخف ليس كالغسل لما تحته، بدليل عكس هذه الأحكام، بل هو بدل عن الغسل، فلو جاز المسح على الجرموق صار البدل بدلاً آخر من جنسه، وإنه لا يجوز.
وإن كانت الجراحة بحال لا يقدر على المسح عليها وعلى ربط الخرق والجبائر، فغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها، ثم أحدث وتوضأ جاز المسح على الخف في الرجل الصحيحة؛ لأن الجراحة إذا كانت بهذه الصفة لا يلزمه في الرجل المجروحة لا فرض الغسل ولا فرض المسح، فجعلت كالدامية وصار كأن له رجلاً واحدة وهي الصحيحة لا غير فيمسح عليها إذ المسح لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل.
قال: وفي «نوادر الصلاة» لأبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل انكسرت يده وهو على وضوء وربط الجبائر عليها ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ، ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت اليد، قال: يغسل موضع الجبائر ويصلي، ولو كان على غير وضوء، حين انكسرت يده وربط الجبائر عليها ثم توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت، قال: ينزع خفيه.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وجدت في بعض «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله، فيمن أحدث وعلى بعض مواضع وضوءه جبائر فتوضأ ومسح عليه ثم لبس الخف ثم برىء، فعليه أن يغسل قدميه، قال: ولو أنه لم يحدث بعد لبس الخفين حتى برأ الجرح، وألقى الجبائر، وغسل مواضعه ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على الخفين.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا مسح على جبائر إحدى رجليه وغسل الأخرى ولبس خفيه، ثم أحدث، فإنه ينزع الخف الذي على الرجل الذي عليه الجبائر، ويمسح على الجبائر، ويمسح على الخف الآخر.
رجل بإحدى رجليه بثرة، فغسل رجليه ولبس الخف عليهما، ثم أحدث ومسح على الخفين وصلى صلوات، فلما نزع الخف وجد البثرة قد انشقت وسال منها الدم وبطل مسحه وهو لا يعلم أنها متى انشقت حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: ننظر إذا كان رأس الجرح قد يبس، وكان الرجل لبس الخف عند طلوع الفجر ونزعه بعد العشاء فإنه لا يعيد الفجر، ويعيد باقي الصلوات، وإن نزع الخف ورأس الجراحة يسيل بالدم لا يعيد شيئاً من الصلوات.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» : إذا كان الرجل مقطوع الأصابع، وبعض خفيه خالٍ عن القدم، فمسح عليه؛ ننظر إن وقع المسح على المغسول مقدار ثلاثة أصابع جاز وما لا فلا، وكذلك إذا كان الخف واسعاً وبعضه خالٍ عن القدم ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح، والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل المسح على الجبائروعصابة المفتصد ومسألة الشقاق
قال ذكر في كتاب الصلاة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية» : من ترك المسح على الجبائر وذلك لا يضره أجزأه، ولم يبين القائل، قال: وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: ذلك قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال الحسن: قال أبو حنيفة(1/182)
رحمه الله: إذا مسح على العصابة، فعليه أن يمسح على موضع الجرح، وعلى جميع العصابة، صغيراً كان الجرح أو كبيراً أو على الأكثر منها، فقد أوجب المسح، فصار عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله * والله أعلم * أيهما الأول وأيهما الآخر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص السفكردري رحمه الله في «مختصر غريب الرواية» ليس في روايتنا ما حكاه الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن كتاب الصلاة، وإنما الذي في روايتنا: وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: إذا ترك المسح على الجبائر، وذلك لا يضره لا يجزئه، فلعل ما ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في رواياتهم.
وفي باب الوضوء والغسل من «الأصل» إذا اغتسل من الجنابة فمسح بالماء على الجبائر التي على بدنه أو لم يمسح؛ لأنه يخاف على نفسه إن مسح يجزئه، ذكره مطلقاً من غير أن يضيفه إلى أحد، ثم ذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: أنه إذا ترك المسح على الجبائر ولا يضره ذلك لا يجزئه.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلف الرواية» : اختلاف المتأخرين في قول أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: لا يخالف قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما قالا بعدم جواز الترك فيمن لا يضره المسح، وأبو حنيفة رحمه الله قال: يجوز إن ترك المسح فيمن يضره ذلك وبعضهم حققوا الخلاف فيما إذا ترك المسح والمسح لا يضره، فقالوا على قول أبي حنيفة رحمه الله يجزئه وعلى قولهما لا يجزئه.
وفي «شرح الطحاوي» : إن المسح على الجبيرة ليس بفرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي «تجريد القدوري» : إن الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن المسح على الجبيرة ليس بفرض، وإن كان لا يضره المسح.
وكان القاضي الإمام أبو علي الحسين بن الخضر النسفي رحمه الله يقول: المسح على الجبائر إنما يجوز إذا كان لا يقدر على القرحة كما كان لا يقدر على غسلها بأن كان يضرها الماء، أما إذا كان يقدر على القرحة على المسح لا يجوز المسح على الجبائر، كما لو كان قادراً على غسلها، فلم يغسلها وكان يقول ينبغي أن يحفظ هذا، فإن الناس عن هذا غافلون.
وإذا كان بإصبعه قرحة أدخل المرارة في إصبعه والمرارة تجاور موضع القرحة، فمسح عليها جاز، وهل يكره إدخال المرارة في إصبعه لأجل الاستشفاء؟ لا شك أنه إذا لم يكن فيه شيء من بول الشاة أنه لا يكره، وإن كان فيه شيء من بول الشاة يكره، هكذا روي عن (27أ1) محمد رحمه الله. ويجب أن يكون قول أبي يوسف رحمه الله في هذا كقول محمد رحمه الله؛ لأن عندهما يجوز شرب بول الشاة للتداوي، فيجوز الاستشفاء به وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يكره؛ لأن على قوله لا يجوز شربه للتداوي، فقد كره الاستشفاء به.
وكذلك إذا كان على بعض أعضائه جراحة، فجعل عليها الجبائر، والجبائر تزيد(1/183)
على موضع الجراحة، فمسح عليها جاز، وكذلك في المفتصد.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله لا يجيز المسح على عصابة المفتصد، وإنما يجيزه على خرقة المفتصد لا غير، وذكر القاضي علاء الدين محمود النسفي رحمه الله في، «مختلف الرواية» في حق المفتصد: أنه إن كان في موضع يمكنه الشد بنفسه من غير إعانة أحد لا يجوز المسح على العصابة، وإن كان في موضع يحتاج إلى العون يجوز المسح على العصابة.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إذا كان حل العصابة وغسل ما تحتها يضر بالجراحة يجوز المسح على العصابة وما لا فلا.
قال رحمه الله: وكذلك الحكم في كل خرقة جاوزت موضع القرحة وأما القرحة التي تبقى من اليد بين العقدتين، فقد اختلف المشايخ فيها؛ بعضهم قالوا يجب غسلها؛ لأنها.... به.
بعضهم قالوا: لا يجب غسلها، ويكفي المسح؛ لأنه لو أمر بالغسل ربما تبتلّ جميع العصابة وتنفذ البلّة إلى موضع الفصد، فيتضرر وإذا مسح على الجبيرة أو على عصابة المفتصد، هل: يشترط الاستيعاب؟ فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم شرطوا الاستيعاب، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «الأسرار» .
وبعضهم لم يشترطوا ذلك؛ لأنه عسى يؤدي إلى إفساد الجراحة، ولكن إذا مسح على أكثر العصابة يجوز، وإن مسح على النصف فما دونه لا يجوز، وبه كان يقول شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وهل يشترط تكرار المسح اختلفوا فيه أيضاً؟ قال بعضهم يشترط إلى الثلاث؛ لأنه لو كان بارئاً يغسل ثلاثاً، فكذا يمسح عليه ثلاثاً، إلا أن تكون الجراحة في الرأس، فلا يشترط التكرار أيضاً، ومنهم من قال لا يشترط ويكتفي بالمسح مرة واحدة وهو الصحيح.
وإذا انكسر عضو من أعضائه، وهو محدث فشد عليه العصابة ثم توضأ ومسح على العصابة جاز؛ لأن المسح على العصابة بمنزلة غسل ما تحتها.
ولو غسل ما تحت العصابة ثم عصب عليها أليس إنه يجوز؟ كذا ههنا، وهذا بخلاف المسح على الخفين، فإن اللبس إذا حصل مع الحدث لا يجوز المسح على الخف، فالمسح على الجبائر يخالف المسح على الخف في حق أحكام من هذه، ومن أن المسح على الخفين ينتقض بمضي مدة المسح، والمسح على الجبائر لا ينتقض إلا بالحدث كالغسل، ومن جملتها أن ماسح الخف إذا نزع أحد خفيه يلزمه غسل الرجلين وإذا سقطت الجبائر لا عن برء لا يلزمه الغسل أصلاً، وإن سقطت عن برء يجب غسل ذلك الموضع خاصة.(1/184)
وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا مسح على الجبائر ثم نزعها ثم أعادها كان عليه أن يعيد المسح عليها وإن لم يعد أجزأه، ورأيت في موضع آخر: إذا سقطت العصابة فبدلها بعصابة أخرى، فالأفضل والأحسن أن يعيد المسح عليها، وإن لم يعد أجزأه؛ لأن المسح على الأولى بمنزلة الغسل لما تحتها.
وفيه عن أبي يوسف رحمه الله: رجل به جرح يضره إمساس الماء فعصبه بعصابتين ومسح على العليا ثم رفعها، قال: يمسح على العصابة الباقية بمنزلة الخفين والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح.
وفي «الأصل» : إذا انكسر ظفره، فجعل عليه الدواء أو العلك، فتوضأ وقد أُمِر أن لا ينزع عنه يجزئه، وإن لم يخلص إليه الماء، ولم يشترط المسح ولا إمرار الماء على الدواء والعلك من غير ذكر خلاف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشرط إمرار الماء على العلك، قال: ولا يكفيه المسح، وذكر رحمه الله أيضاً: إذا ألقى علقة على بعض أعضائه، فسقطت العلقة، فجعل الجبائر في موضع العلقة، ولا يمكنه الغسل ولا إمرار الماء يلزمه المسح، فإن عجز عن المسح أيضاً سقط فرض الغسل والمسح جميعاً، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع، فإن سقطت الجبائر، فإن كان السقوط عن برء يلزمه غسل ذلك الموضع وما لا فلا.
وذكر رحمه الله أيضاً: إذا كان في أعضائه شقاق، وقد عجز عن غسله سقط عنه فرض الغسل ولزمه إمرار الماء، فإن عجز عن إمرار الماء يكفيه المسح، فإن عجز عن المسح أيضاً سقط عنه فرض الغسل والمسح، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع.
قال: وإذا كان الشقاق في يده ولا يمكنه استعمال الماء، وقد عجز عن الوضوء يستعين بغيره حتى يوضئه، فإن لم يستعن وتيمم وصلى جازت صلاته عند أبي حنيفة خلافاً لهما رحمهم الله، وإذا كان الشقاق في رجله فجعل (فيه) الدواء أو الشحم أو العلك، ولا يمكنه إيصال الماء إلى قعره يؤمر بإمرار الماء فوق الدواء، ولا يكلف إيصال الماء إلى قعره ولا يكفيه المسح، وإذا توضأ وأمرَّ الماء على الدواء ثم سقط الدواء: إن سقط عن برء يفترض غسل ذلك الموضع وما لا فلا كما في المسح على الجبائر والله أعلم.
الفصل السابع في النجاسات وأحكامها
هذا الفصل يشتمل على نوعين:
الأول: في معرفة الأعيان النجسة وحدّها، فنقول: الأعيان النجسة نوعان: مائع وغير مائع، وكل نوع على قسمين: نجس باعتبار نفسه، ونجس باعتبار غيره وسنذكر ههنا بعضها، وبعضها في كتاب الصلاة.(1/185)
قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يوجب الوضوء أو الغسل فهو نجس، كالغائط والبول والدم والمني وغير ذلك، وقال الشافعي رحمه الله: المني طاهر لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّموهو يصلي» ، والمراد: حال الصلاة كما يقال فلان دخل الدار وهو راكب، ولأنه أصل الآدمي يجب أن يكون طاهراً كرامة له، ولهذا اكتفي بالفرك، ولنا قوله عليه السلام في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يغسل الثوب من خمسة من البول والغائط والمني والقيء والدم» ، وهو دليل على نجاسته إلا أنه اكتفى فيه بالفرك، إما لأنه شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب كثيراً، وإنما يصيب ظاهره، وذلك يزول بالفرك، ولا يبقى منه إلا شيء قليل، وإنه عفو، أو لمكان الحرج، فإن إصابة المني اليابس إنما تكون باعتبار أن الجماع غالباً إنما يكون في الثياب ويتعذر صيانة الثياب عنها، فلو كلف الغسل عند كل إصابة يؤدي إلى الحرج، فسقط اعتباره وأقيم الفرك مقامه.
والأرواث والأخثاء كلما نجسة، وقال زفر ومالك: كلها طاهر، حجتهما أن الأرواث وقود أهل الحرمين فإنهم يطبخون ويخبزون به ولو كان نجساً لما انتفعوا (بها) ، وروي أن الشبان من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا نزلوا في أسفارهم يترامون بالأبعار ويتلاعبون بها، فلو كان نجساً لما استعملوها، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «طلب مني رسول الله صلى الله عليه وسلّمأحجار الاستنجاء ليلة الجن؛ فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة، وقال: إنها رجس» أي نجس، وروى المعلى عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً، قيل: هذا آخر قوله رجع إلى هذا القول حين طلع مع الخليفة إلى الري، ورأى أسواقهم وسككهم مملوءة من الأرواث، فرجع إلى هذا القول لدفع البلوى.r
قال مشايخنا على قياس هذه الرواية لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً، مع أن التراب مخلوط في العذرات دفعاً للبلوى، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله لا يعتمد على هذه الرواية، وكان يقول البلوى إنما تكون في النعال والنعال مما يمكن خلعها، وقد اعتاد الناس خلع النعال، وليس فيه كثير ضرورة والصلاة بغير النعل أحمد، والكثير الفاحش فيه يمنع جواز الصلاة.
وقد ذكرنا خرء ما يؤكل لحمه من الطيور (27ب1) كالحمامة والعصفور والبط والحدأة.(1/186)
وأما خرء ما لا يؤكل لحمه نحو سباع الطير، كالصقر والبازي وغيرها من الحدأة وأشباهها، فهو طاهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: هو نجس، فوجه قول محمد رحمه الله، وهو الفرق له بين خرء هذه الطيور، وبين خرء العصفور والحمامة، أن هذه الطيور لا تخالط الناس فيمكن التحرز عن خرئها بخلاف الحمامة والعصفور؛ لأنهما تخالطان، فلا يمكن التحرز عن خرئهما.
ولهما أن هذه الحيوانات تذرق من الهواء، وفي التمييز بينما يخالطونا وبينما لا يخالط الناس، فيحتاج إلى التأمل في كل جانب، وفيه حرج على أن ما قال من المعنى لا يتأتى في الصقر والبازي والشاهين، فإن الناس يخالطوهما أكثر مما لا يخالطون الحمام والعصفور.
والأبوال كلها نجسة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: بول ما يؤكل لحمه طاهر حجته في ذلك حديث العرنيين، فإنه روى «أن قوماً من عرينة جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام بالمدينة فاجتووها فانتفخت بطونهم واصفرت ألوانهم، فأمرهم رسول الله عليه السلام أن يخرجوا إلى إبل الصدقات، فيشربوا من أبوالها وألبانها» ، فقد أمرهم بشرب الأبوال، فلو كانت نجسة لما أمرهم بذلك مع قوله عليه السلام: «إن الله تعالى لم يجعل في نجس شفاء» وإذا ثبت أنه طاهر، فإذا أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلوة فيه وإن فحش، وإذا وقع في الماء القليل لا يمنع التوضؤ به إلا أن يغلب على الماء، فحينئذٍ لا يجوز التوضؤ به لا لأنه نجس، ولكن لأنه صار شيئاً آخر، ألا ترى أنه لو وقع اللبن في الماء القليل واللبن غالب لا يجوز التوضؤ به، وإنما لا يجوز لأنه صار شيئاً آخر لا لنجاسة اللبن، كذا ههنا.
لهما ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» ، ولأن بول الآدمي نجس مع أنه أطهر الحيوانات فبول هذه الحيوانات أولى، وأما حديث العرنيين، فالتمسك به لا يصح؛ لأنه روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله عليه السلام أمرهم بشرب ألبانها» ، ولم يذكر الأبوال، ولو ثبت فهو محمول على أن رسول الله عليه السلام عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ويحل تناول النجس إذا علم حصول الشفاء، ألا ترى أن من اضطر إلى ميتة إن أصابه جوع مفرط يخاف منه الهلاك ولم يجد إلا ميتة يباح له التناول؛ لعلمه أنه يزول به الجوع والجوع داء، وكذلك إذا اضطر إلى خمر بأن أصابه عجز مفرط ولا يجد إلا(1/187)
خمراً جاز له الشرب منها بقدر ما يزول به العطش، لعلمه أنه يزول به العطش والعطش داء.
ويحتمل أنه كان مباحاً في الابتداء، ثم انتسخ إباحته بقوله عليه السلام: «استنزهوا (من) البول» .
ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله اختلفا فيما بينهما، قال أبو حنيفة لا يجوز شربه للتداوي ولغيره، وقال أبو يوسف يجوز شربه للتداوي، ولا يجوز شربه لغيره. فأبو يوسف قال القياس ما قاله أبو حنيفة، ولكن تركنا القياس بالأثر والأثر أباح شربه للتداوي، فبقي الشرب لغير التداوي على أصل القياس.
وبول الهرة نجس لو أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة هو الظاهر من المذهب، وحكي عن محمد بن محمد بن سلام رحمه الله أنه كان يقول: لو ابتليت به لغسلت ولكن آمر غيري بإعادة الصلاة.
وأما بول الفأرة إذا وقع في الماء أفسد الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به بخلاف سؤره، والقياس أن يكون سؤره نجساً لأن لعابه نجس لنجاسة لحمه، لكن أسقطنا النجاسة في اللعاب لمكان الضرورة، فإنها تقصد الماء وتشرب، وصون الأواني عنها غير ممكن، أما الضرورة في البول (فتنتفي) لأنها لا تقصد الماء لتبول فيه، فيحكم بنجاسته.
وأما بول الفأرة إذا أصاب الثوب، فقد قال بعض مشايخنا إنه ينجس الثوب وقاسه على الماء، وقال بعضهم: لا ينجسه وفرق بين الثوب والماء، والفرق أن صيانة الثوب في الغالب يكون بالثياب؛ بأن يلف البعض في البعض ومتى صين على هذا الوجه، وبال على الثوب الأعلى يصل إلى باقيه ويتنجس، فصيانة الثياب عن بول الفأرة غير ممكن، فصار البول معفواً عنه في الثياب.
أما الماء يصان في الأواني، والأواني مما يُخمر وبعد التخمير تقع الصيانة للماء لا محالة، فلم يكن البول معفواً عنه في الماء، وعن محمد رحمه الله أنه قال: ولا أرى ببول الفأرة بأساً، وذهب في ذلك إلى أن البلوى في بولها ظاهر، وإن وجد رائحته في الثوب، ولا يستيقن فالتنزه أولى، وإن صلى فيه لم أقل بأنه لا يجزئه، وبعض مشايخنا قالوا: لا ينجسه، إلا أن هذا القائل يجعل أثر البلوى في التخفيف لا في صلب أصل النجاسة.
وقال الحسن بن زياد رحمه الله لو أن بعرة من بعر الفأرة وقعت في وقر حنطة، وطحنت لم يجز أكلها، ولو وقعت في دهن فسد الدهن.
وقال محمد بن مقاتل رحمه الله لا تفسد الحنطة والدهن ما لم يتغير طعمه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ.
وفي مسائل أبي حفص رحمه الله في بعر الفأرة: إذا وقع في الزيت أو الخل إنه لا يفسده.
وعن الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن الفضل الخيزاخزي رحمه الله أنه قال: وقعت في هذه المسألة، فسألت أبا إسحاق الضرير، فقال: لو كان لي لشربت وأنا لم(1/188)
أشرب، وليس بول الخفاش وخرؤه بشيء؛ لأنه لا يستطاع الامتناع عنه، وليس دم البق والبراغيث بشيء وإن كثر لأنه ليس بدم مسفوح، وأما دم الحلم والأقراد فنجس لأنه دم مسفوح والاحتراز عنه ممكن، وإذا أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلوة.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الدم يخرج من الكبد إن لم يكن من غيره متمكناً فيه فهو طاهر؛ لأن الكبد دم جامد وكذلك اللحم المهزول إذا قطع، فالدم الذي فيه ليس بنجس، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يرفض هذا القول ويقول: إن لم يكن هذا دماً فقد جاور الدم، والشيء ينجس بنجاسة المجاور.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في موضع آخر: ذكر مسألة اللحم مطلقة، ولم يقيد بالمهزول.
ورأيت في موضع آخر: الطحال إذا شق وخرج منه دم فليس بشيء، وكذلك الدم الذي في القلب ليس بشيء، ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بين دم ودم.
وفي «عيون المسائل» : الدم الملتزق باللحم إن كان ملتزقاً من الدم السائل بعدما سال كان نجساً، وإن لم يكن ملتزقاً من الدم السائل لم يكن نجساً، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أن غسالة الدم إذا أصابت الثوب لم تجز الصلاة فيه، وإن صب في بئر يفسد الماء يريد به الدم الذي بقي في اللحم ملتزقاً به، ولو طبخ اللحم.
وفي «القدوري» صفرة أو حمرة، فلا بأس به، ورد الأثر في غير هذه الصورة عن عائشة رضي الله عنها، وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه إنما يحرم الدم المسفوح وهو السائل، فأما ما يكون في اللحم ملتزقاً به فلا بأس، وعن أبي يوسف رحمه الله يفسد برواية ابن سماعة، إنما يحرم الدم المسفوح الذي يسكن العروق، وإذا فجر سال، فهذه الروايات تبين لنا أن في الطعن في مسألة اللحم المهزول كلام.
وفي «الجامع الأصغر» عن أبي جعفر الكبير: أن الطين إذا جعل فيه السرقين وطُين به شيء ويبس، لا بأس بأن يوضع عليه منديل مبلول.
وسئل هو عن سرقين جاف أو التراب النجس إذا هبت به الريح وأدخلته في الثوب لا ينجسه ما لم ير أثره.
التبن النجس، إذا استعمل في الطين، إن كان يرى مكانه كان نجساً، وإن لم ير مكانه لا يكون نجساً؛ لأنه مستهلك في الوجه الأول دون الثاني.
ولو يبس يحكم بطهارته، ولو أصابه الماء فهو على الروايتين إذا كان الماء أو التراب نجساً، أما الطين فيها يكون طاهراً، هكذا حكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله.
وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يقول: العبرة للماء، إن كان الماء طاهراً فالطين طاهر، وإن كان الماء نجساً، فالطين نجس، وقد قيل على العكس أيضاً وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: الطين نجس، وبعضهم قالوا على (28أ1) قول محمد رحمه الله: الطين يكون طاهراً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون نجساً،(1/189)
وجعلوه فرعاً لمسألة أخرى: إن السرقين أو العذرة إذا احترقت وصارت رماداً، فالمذهب عند محمد رحمه الله أن النجس يطهر بالتغيير والاستحالة، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله.
إذا لف الثوب النجس في ثوب طاهر، والنجس رطبة مبتلة، فظهر ندوته على الثوب الطاهر، ولكن لم يصر رطباً، بحيث لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر اختلف المشايخ فيه:
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً، وكذلك الثوب الطاهر اليابس إذا بسط على أرض نجسة مبتلة، وظهر أثر بلة النجاسة في الثوب، إلا أنه لم يصر رطباً ولم يصر بحال لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر، اختلف المشايخ، قال شمس الأئمة رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً ذكر هذين الفصلين في «صلاة المستفتي» إذا وضع رجله على أرض نجسة، أو على لبد نجس، إن كانت الرجل رطبة والأرض أو اللبد يابساً، وهو لم يقف عليه بل مشى لا تتنجس رجله، ولو كانت الرجل يابسة والأرض رطبة وظهرت الرطوبة في الرجل تتنجس رجله، وفي بعض المواضع لا يشترط ظهور الرطوبة في الرجل؛ لأنه يظهر أثر الرطوبة في الرجل لا محالة.
وإذا نام الرجل على فراش قد أصابه مني ويبس، فعرق الرجل وابتل الفراش من عرقه، إن لم يصب بلل الفراش جسده لا يتنجس جسده، وإن أصاب بلل الفراش جسده يتنجس جسده.
وفي «مجموع النوازل» : عن أبي بكر الوراق رحمه الله سئل عمن توضأ بشط نهر ومشى حافياً إلى المسجد، قال: كاد أن ينكسر ظهري في زعم بعض الناس يتوضؤون على شطوط الأنهار، ويغسلون أقدامهم ويمشون حفاة ورجلاهم رطبة إلى مساجدهم، فينجسون الحصر والبواري وتفسد صلواتهم وصلاة أهل المسجد، ووبال ذلك عليهم، ثم ينصرفون كذلك حفاة إلى منازلهم، وينامون مع أزواجهم، فتتنجس فرشهم وأيدي أزواجهم وأرجلهم وجميع أعضائهن، فيصلين ولا يشعرن بذلك، فتفسد صلاتهن، ووبال ذلك عليهم وأكثر هذا الخوف على أرباب الدواب، وأهل الرساتيق الذين يحتاجون إلى الدخول على الدواب والمرابط كل يوم كذا مرة، وقد قيل في.....: إنه يرمى بالدم، فإن كان كذلك نجساً والثوب المصبوغ به أيضاً يكون نجساً، فيغسل ثلاث مرات ويحكم بطهارته عند أبي يوسف رحمه الله، وقد سألنا عن معارف النجار فأخبرونا أنه لا يرمى بالدم، وسمعنا أيضاً أن أهل فارس يستعملون البول في الديباج عند النسج، ويقولون: إن البول يزيد في بريقه، فإن كان كذلك لا شك أن ديباجهم يكون نجساً، ولا تجوز معه الصلاة إلا بعد الغسل ثلاث مرات عند أبي يوسف رحمه الله، وقد وقع عند بعض الناس أن الصابون نجس؛ لأنه يتخذ من دهن الكتان، ودهن الكتان نجس لأن(1/190)
أوعيته تكون مفتوحة الرأس، والغالب يقصد شربها ويقع فيها غالباً، ولكنا لا نفتي بنجاسة الصابون لأنا لا نفتي بنجاسة الدهن؛ لأن الأصل الطهارة، والنجاسة يعارض أمراً نادراً وقع، إنما نفتي بنجاسة الدهن، ولا نفتي بنجاسة الصابون؛ لأن الدهن قد تغير وصار شيئاً آخر، وقد ذكرنا أن من مذهب محمد رحمه الله أن النجس يصير طاهراً بالتغيير، يفتى فيه بقول محمد رحمه الله لمكان عموم البلوى.
وفي «الجامع الأصغر» : سئل خلف عمن ألقى حجراً ملطخاً بالعذرة في نهر كبير جار، فارتفعت قطرات من الماء فأصاب ثوبه، قال: إن كان ذلك من الماء المتصل بالحجر، فسد وإن كان من غير ذلك الماء، فلا بأس به، وإن لم يعلم، فأحب إليّ أن يغسله، ويسعه أن يصلي فيه من غير أن يغسله.
وفي «الفتاوى» : سئل ابن شجاع عن هذه المسألة، فقال عليه أن يغسله، وبه قال نصر بن يحيى رحمه الله، وقال إبراهيم بن يوسف لا يضره ذلك، وبه قال أبو بكر إلا إن ظهر فيه لون النجاسة، قال أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ. وفيه عن إبراهيم: حمار يبول في الماء، فيصيب من ذلك الرش ثوب إنسان، قال: لا يضره وهو ماء حتى يستيقن أنه بول، قال الفقيه: وبه نأخذ.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : في الفرس إذا مشى على الماء وعليه راكب وأصاب ثوبه من ذلك الماء، عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه إذا كان في رجل الفرس نجاسة نحو السرقين وغيره صار الثوب نجساً، سواء كان الماء جارياً أو راكداً، وإن لم يكن في رجله نجاسة لا يضره.
سئل أبو نصر عمن يغسل الدابة، فيصيب من مائها أو من عرقها، قال لا يضره ذلك، قيل: فإن كانت تمرغت في بولها وروثها، قال: إذا جف وتناثر وذهب عينه لا يضر أيضاً.
وفي «الأصل» : رجل مر بكنيف فسال عليه من ذلك الكنيف شيء، قال: إن علم بنجاسته فعليه غسله، وإن علم بطهارته لا يجب عليه غسله، وإن لم يعلم بنجاسته ولا بطهارته، ولم يجد من يسأل عنه يتحرى، ويبني الأمر على ما يستيقن عليه رأيه، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إنما بنى هذا الجواب على عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يغسله لا محالة؛ لأن الكنيف في ديارنا معد لصب النجاسة لا يصب فيه إلا النجاسة، أما في ديارهم: الكنيف كما يعد لصب النجاسة يعد لصب غسالة القدر، قال شيخ الإسلام: هذا وقياس كنيفهم بما عندنا الميازيب، فإنه يصب فيه الماء وغيره، فلا جرم لو أصابه شيء من الميزاب كان الجواب على ما ذكره في «الكتاب» .(1/191)
وعن أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: أن من مر بكنيف وسال منه شيء وهبت به الريح وانتضح عليه منه شيء مثل رؤوس الإبر، قال: هذا ليس بشيء، ولا يجب عليه الغسل وإن استيقن أنه بول، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، والمذكور في «الأصل» إذا انتضح عليه البول مثل رؤوس الإبر، فليس ذلك بشيء، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: قوله: رؤوس الإبر دليل أن الجانب الآخر من الإبرة معتبرة، وليس عندنا هكذا، بل لا يعتبر.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذ انتضح من البول بشيء يرى أثره لا بد من غسله، ولو لم يغسل، وصلى كذلك، فكان إذا جمع كان أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة.
ذباب المستراح إذا جلس على ثوب رجل فقد قيل لا بأس به؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، وقيل: لا بأس به إذا فحش.
ذكر النوع الثاني من الفصلفي بيان مقدار النجاسة التي تمنع جواز الصلاة
يجب أن يعلم بأن القليل من النجاسة عفو عندنا، لما روي أن عمر رضي الله عنه سئل عن قليل النجاسة في الثوب، فقال: «إذا كان مقدار ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة» ، ولأن التحرز عن قليل النجاسة غير ممكن، فإن الذباب يغفو على النجاسة ثم يغفو على ثياب المصلي، لا بد وأن يكون (في) أجنحتهن وأرجلهن نجاسة، فجعل القليل عفواً لمكان البلوى، وقد صح أن أكثر الصحابة كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار، وإنه لا يزيل أصل النجاسة لولا أن القليل من النجاسة عفو، وإلا لما اكتفوا به.
ثم النجاسة نوعان: غليظة، وخفيفة، فالغليظة إذا كانت قدر الدرهم أو أقل فهي قليلة لا تمنع جواز الصلاة، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم منعت جواز الصلاة، ويعتبر الدرهم الكبير دون الصغير، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدرهم ولم يبين أنه أراد بالكبير من حيث العرض والمساحة أو من حيث الوزن، وذكر في «النوادر» أن الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدراهم كالدراهم السود الزبرقانية، درهم كبير أسود ضربه الزبرقان، وقال في موضع آخر: الدرهم ما يكون عرض الكف كالدرهم السهيلي، فهذا اعتبار التقدير من حيث العرض.
ومن المشايخ من قال: إنما يعتبر أكبر ما تكون الدراهم من نقود زمانهم أما ما كان من النقود وانقطع لا يعتبر، وذكر في «كتاب الصلاة» : واعتبر الكبير من حيث الوزن، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله يوفق بين ألفاظ محمد رحمه الله، فنقول (28ب1) أراد بالتقدير من حيث الوزن تقدير النجاسة الغليظة، وهو الصحيح من المذهب أن في الرقيقة يعتبر الدرهم من حيث العرض، وفي الغليظة يعتبر الدرهم من حيث الوزن، ثم إنما قدروا بالدرهم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قدره بظفره، وظفره كان يبلغ قدر الدرهم الكبير واعتباراً لموضع الحدث؛ لأن الشرع عفى عن النجاسة التي في موضع الحدث،(1/192)
فإنه حكم بطهارته بالاستنجاء بالحجر، وإنه يزيل العين لا الأثر، والأثر مانع جواز الصلاة كالعين، فدل أن الشرع عفا عن النجاسة التي في موضع الحدث، وموضع الحدث يبلغ قدر الدرهم الكبير لكن استقبحوا ذكر موضع الحدث، فكنوا عنه بالدرهم، هكذا قاله إبراهيم النخعي رحمه الله.
وأما النجاسة الخفيفة، فالتقدير فيها بالكثير الفاحش هكذا ذكر محمد رحمه الله في هذا «الكتاب» ، وفي «الأصل» ولم يبين لذلك حداً، وروى بشر بن غياث عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله عن حد الكثير الفاحش فكره أن يحد فيه حداً، فقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس ويكثرونه، وكان لا يقدر ما استطاع؛ لأن المقادير لا تعرف قياساً.
وروى الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش شبر في شبر في «كتاب الصلاة» للمعلى قال: هو شبر أو أكثر، وعن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش هو ربع الثوب، وذكر أبو علي الدقاق رحمه الله في كتاب «الحيض» : الكثير الفاحش عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ربع الثوب، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش مقدار باطن الخفين معاً، وأن يستوعب القدمين، وروي عن محمد رحمه الله أن الفاحش في الخف أكثر الخف، وإنما خص الخف بالأكثر على هذه الرواية؛ لأن الضرورة فيه مستدامة خصوصاً لسايس الدواب، فقدر الفاحش فيه بالأكثر إظهاراً لتوسعه، وقد اختلفت الروايات فيه عن أبي يوسف رحمه الله، ذكر في «كتاب الصلاة» : أنه شبر في شبر، قاله الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا ذكر في «الأمالي» .
وفي «صلاة الأثر» قال أبو يوسف رحمه الله في لعاب الحمار: قدر شبر فاحش يعيد منه الصلاة، وفي عرفه الفاحش أكثر من شبر، وفي الوضوء أكثر من شبر على أصله، وذكر الطحاوي في «مختصره» عن أبي يوسف ذراعاً في ذراع، وقيل على قوله على قياس مسائل كثيرة، الكثير الفاحش أكثر من النصف، في النصف روايتان.
قال مشايخنا: الأصح التقدير بالربع؛ لأن الربع أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام، المسح ربع الرأس أقيم مقام الكل، وكحلق ربع الرأس في الإحرام أقيم مقام حلق الكل، وكذا كشف ربع العورة أقيم مقام كشف الكل.
ثم اختلف المشايخ في كيفية اعتبار الربع بعضهم، قالوا: يعتبر ربع جميع الثوب لأن اسم الثوب يقع على المحيط بجميع أجزائه، فيصير ربع جميع الثوب إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، حكي عن أبي بكر الرازي أنه يعتبر ربع السراويل احتياطاً؛ لأنه أقصر الثياب، ومنهم من قال: يعتبر ربع ثوب كامل، وقال بعض المشايخ: يعتبر ربع الطرف الذي أصابه النجاسة، يعني: ربع الكم أو الذيل أو الدخريص.
بعد هذا يحتاج إلى الحد الفاصل بين الغليظة والخفيفة: قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة رحمه الله كل عين ورد في نجاستها نص ولم(1/193)
يعارضه نص آخر اختلف الناس فيها أو اتفقوا فيها، أشار إلى أنه إذا عارضه نص آخر فهي خفيفة اتفق الناس فيها أو اختلفوا، وهذا لأن النص يعارض النص، فإن لم يعمل بأحدهما بدليل فلا أقل من أن يؤثر في تخفيف حكمه، أما إذا لم يعارضه نص لا يخفف حكم النجاسة، اختلف الناس فيها أم اتفقوا؛ لأنه لم يعارض النص (إلا الاختلاف) ، والاختلاف ليس بحجة بمقابلة النص إلى النص حجة، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: ما شاع الاجتهاد في طهارته فهو مخفف؛ لأن الاجتهاد حجة في حق وجوب العمل كالنص.d
وثمرة الاختلاف تظهر في الأرواث: عند أبي حنيفة رحمه الله نجاستها غليظة؛ لأنه ورد فيه النص، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما روينا، ولم يعارض هذا الحديث نص آخر فيتغلظ؛ وعندهما نجاستها خفيفة لاختلاف العلماء فيه، ولمكان البلوى، فإن الطرق مملوءة فيها، وقد يحتاج الإنسان إلى سوق الدواب فيمشي عليها، فيصيبه الروث على وجه لا يمكنه الدفع عن نفسه، وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في سؤر الهرة، فلأن يكون لها أثر في التخفيف أولى وقد ذكرنا رواية «المعلى» عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً.
ونجاسة بول ما يؤكل لحمه على قول من يقول بنجاسته خفيفة، حتى لو أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلاة ما لم يكن كثيراً فاحشاً، وإذا وقع قطرة في الماء أفسده؛ لأن القليل في الماء يصير كثيراً، وإنما كانت نجاسته خفيفة إما لأن بنجاسته اختلاف، فتخفف نجاسته، أو لأن فيه ضرورة وللضرورة أثر في التخفيف.
قال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن أصحابنا جعلوا القيء في «ظاهر الرواية» كالعذرة والبول، حتى قالوا إذا أصاب يده القيء، وهو أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة معه، وفي رواية الحسن رحمه الله ما جعله كذلك حتى كان التقدير فيه بالكثير الفاحش على رواية الحسن، ووجه ذلك أن القيء في الأصل طعام طاهر وقد تغير عن حاله، فلا هو طعام طاهر على الكمال ولا استحال غائطاً على الكمال، فلا تعطى له درجة الطاهر ولا درجة البول والغائط، بل يحكم له بحكم التخفيف؛ ليكون حكمه مأخوذاً من كل الأصل، فيتقدر فيه بالكثير الفاحش، كما في سائر النجاسات الخفيفة.
ونجاسة سؤر سباع البهائم غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر سباع البهائم وطهارته، فأوجب ذلك تخفيفاً فيه كبول ما يؤكل لحمه.
والخمر: وهي التي من ماء العنب إذا غلى وقذف بالزبد واشتد، نجاستها غليظة، وإذا طبخ أدنى طبخة وغلى واشتد وقذف بالزبد، فنجاستها غليظة، إليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الأشربة، قالوا: هكذا روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمة الله عليهما، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن على قول(1/194)
أبي حنيفة، وأبي يوسف يجب أن تكون نجاستها خفيفة، والفتوى على الأول أن نجاستها غليظة والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في أسآره أن النجاسة إذا أخرجت من البئر ولم ينزح شيء من الماء بعد، فنجاسة الماء غليظة، ثم بقدر ما ينزح من الماء تخف النجاسة وتقل قال: وهذا كما قلنا في الكلب إذا ولغ في إناءين، فغسلت إحداهما مرة وغسلت الأخرى مرتين، إن كل واحد منهما نجس ثم غسلا مرة مرة، فإن الذي غسل في المرة الأولى مرتين طهر والآخر لا يطهر ما لم يغسل مرة باليد.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: نجاسة الثوب إذا غسل الثوب ينبغي أن يكون على هذا القياس.
بيانه: في الثوب النجس إذا غسل في ماء طاهر وعصر ثم غسل في ماء آخر على هذا القياس طاهر، وعصر ثم غسل في ماء ثالث طاهر وعصر، فإن الثوب يطهر والمياه كلها نجسة، ولو أنه أصاب هذا الماء الثالث ثوباً ينبغي أن يطهر هذا الثوب بالعصر، وإن لم يغسل؛ لأن ما دخل فيه من النجاسة لو كانت في الثوب الأول، فكان يطهر بالعصر، ولا يحتاج فيه إلى الغسل، ولو أصاب الماء الثاني كانت طهارته بالعصر والغسل مرة، ولو أصاب الماء الأول كانت طهارته بالعصر والغسل مرتين، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن الماء الثاني أو الثالث من غسالة الثوب النجس إذا أصاب الثوب لا يطهر الثوب إلا بالغسل ثلاثاً، وفرق (29أ1) بين مسألة البئر وبين مسألة الثوب، وفي «شرح الجامع» من تعليقي في مسألة الثوب أن نجاسة المياه على نمط واحد عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله نجاستها مختلفة.
فمن حكم الماء الأول أنه إذا أصاب ثوباً آخر لا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات، ومن حكم الماء الثاني أنه إذا أصاب الثوب لا يطهر إلا بالغسل مرتين، ومن حكم الماء الثالث أنه إذا أصاب الثوب يطهر بالغسل مرة؛ لأن بالغسل تحولت النجاسة من الثوب إلى الماء، فيصير الماء والذي أصابه هذا الماء على الصفة التي كان الثوب الأول، والثوب الأول حال إصابته النجاسة كان بحال لا يطهر إلا بالغسل ثلاثاً، وبعد الغسل الأول كان بحال لا يطهر إلا بالغسل مرتين، وبعد الغسل الثاني كان بحال يطهر مرة بالغسل، فكذا الذي أصابته هذه المياه على هذا الترتيب والله أعلم.
في تطهير النجاسات
يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول(1/195)
الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ، والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً.
في تطهير النجاسات
يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ، والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً.
وقال بعضهم وإن زال العين بالمرة الأولى ما لم يغسله مرتين لا يحكم بطهارته اعتباراً بغير المرئي، وهذا لأن المرئي لا يخلو عن غير المرئي، فإن رطوبته التي اتصلت بالثوب لا تكون مرئياً، وغير المرئي لا يطهر إلا بالغسل ثلاثاً، فكذا هذا إذا كانت النجاسة مرئية.
وإن كانت غير مرئية كالبول والخمر، ذكر في «الأصل» ، وقال يغسلها ثلاث مرات ويعصر في كل مرة، فقد شرط الغسل ثلاث مرات، وشرط العصر في كل مرة. وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه إذا غسل ثلاث مرات وعصر في المرة الثالثة تطهر.(1/196)
وفي «القدوري» ما لم تكن مرئية، فالطهارة موكولة إلى غلبة الظن، وقدرنا بالثلاث؛ لأن غلبة الظن يحصل عنده.
وفي «شرح الطحاوي» إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأشباه ذلك يغسله حتى يطهر ولا وقت في غسله ووقته سكون قلبه إليه.
وهذا الذي ذكرنا من اشتراط الغسل ثلاث مرات مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا كانت النجاسة غير مرئية فإنه يطهر بالغسل مرة والعصر إلى أن يخرج الماء، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله مثل قول الشافعي، وإنه ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عنه: أنه إذا غسل مرة واحدة ما معه طهر، فالشافعي رحمه الله اعتبر النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية، والنجاسة الحكمية تزول بالغسل مرة، وكذا الحقيقية، بل أولى لوجهين:
أحدها: أن الحكمية أغلظ من الحقيقية لأن الحكمي، وإن قل يمنع جواز الصلوة، ولا يكون عفواً والحقيقي ما لم يكن كثيراً لا يمنع جواز الصلوة خصوصاً على أصلكم.
والثاني: أن الحكمي لا يسقط اعتبارها عند عدم ما يزيلها، فإنه إذا لم يجد الماء وكان على بدنه نجاسة يصلي كذلك، وفي الحكمي ينتقل إلى التراب، فصح أن الحكمية أغلظ من الحقيقية والتقريب ما ذكرنا.
ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا استيقظ من منامه، فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، إنه لا يدري أين باتت يده» فالنبي عليه السلام أمر بغسل اليد ثلاثاً من نجاسة غير مرئية إذا كانت متوهمة، فلأن يجب عن نجاسة متحققة أولى وأحرى.
واعتبار النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية باطل؛ لأن الحكمية عرف ثبوتها بالحكم لا بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحكم والحكم حكم بالزوال مرة واحدة، لما روي عن النبي عليه السلام «أنه توضأ مرة مرة، وقال «هذا وضوء من لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» فقد حكم بزوالها مرة واحدة، فأما الحقيقية عرف ثبوتها بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحقيقة، والحقيقية المرئية في الأغلب لا يزول إلا بالثلاث، فاعتبر غير المرئي بها ثم يشترط «الأصل» ثلاث مرات في ظاهر رواية الأصل، وإنه أحوط، وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة، وإنه أوسع وأرفق بالناس.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» أن النجاسة إذا كانت بولاً أو ماءً نجساً وصب الماء عليه كفاه ذلك، ويحكم بطهارة الثوب على قياس قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه روي عنه أن الجنب إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده من جنب الظهر والبطن حتى خرج عن الجنابة ثم صب الماء على الإزار يحكم بطهارة(1/197)
الإزار، وإن لم يعصره. وقال في رواية أخرى: إذا صب الماء على الإزار وأمرّ الماء يكفيه فوق الإزار فهو أحسن وأحوط، فإن لم يفعل يجزئه.
وفي «المنتقى» شرط العصر على قول أبي يوسف رحمه الله، فقد روى ابن سماعة عنه في الثوب يصيبه مثل قدر الدرهم من البول، فصب عليه الماء صبة واحدة وعصره طهر، وكذلك إذا غمسه غمسة واحدة في إناء أو نهر جار وعصره، فإن ذلك يطهره وإن غمسه غمسة سابغة، فلم يطهره، قال الحاكم الشهيد رحمه الله يريد به إذا لم يعصره.
وبعض مشايخنا قالوا على قول أبي يوسف إذا كانت النجاسة رطبة لا يشترط العصر، وإذا كانت يابسة يشترط.
واستدلوا بما روي عنه أنه قال عقيب مسألة الجنب: إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده ثم صب الماء على الإزار إنه يحكم بطهارة الإزار، ثم قال: وكذلك في الثوب، فقد عطف الثوب على الإزار ونجاسة الإزار رطبة؛ لأن نجاستها بنجاسة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل عند أبي يوسف نجس، ثم في كل موضع شرط العصر ينبغي أن يبالغ في العصر في المرة الثالثة، حتى يصير الثوب بحال لو عصر بعد ذلك لا يسيل منه الماء، ويعتبر في حق كل شخص قوته وطاقته ثلاثاً.
و (لو) عصر في كل مرة ثم تقاطر منه قطرة، فأصاب شيئاً قال ينظر إن عصر في المرة (29ب1) الثالثة عصراً بالغ فيه حتى صار بحال لو عصر لم يسل منه، فالثوب طاهر واليد طاهرة وماتقاطر طاهر، وإن لم يبالغ في العصر في المرة الثالثة، وكان الثوب بحال لو عصر سال الماء، فالماء نجس، والثوب نجس، وما تقاطر نجس؛ لأن الأول بله والتحرز عنه غير ممكن، والثاني ماء والتحرز منه ممكن.
ثم الغسل يكون بطرفين، تورد الماء على العين النجس بأن يصب الماء على العين النجس، ويغسل، ويورد الماء على العين النجس على الماء بأن يجعل الماء في طست ويلقى فيه الثوب النجس، والقياس: أن يطهر العين النجس سواء ورد الماء عليه أو ورد هو على الماء؛ لأن الماء لاقى النجاسة في الحالين، فينجس بأول الملاقاة وتحتمل الغسل بالماء النجس، ولكن ترك القياس حال ورود الماء على النجس، وحكم بالطهارة بالإجماع.
وفي حال ورود النجس على الماء خلاف، والمسألة في «الجامع» ، وصورتها: إذا غسل الثوب النجس في إجانة ماء وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى، وعصر فقد طهر الثوب والمياه كلها نجسة، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» .
وذكر بعد هذه المسألة في «الجامع» : إذا غسل العضو النجس في ثلاث إجانات فقد طهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يطهر ما لم يصب عليه الماء صباً، ذكر الخلاف في فصل العضو ولم يذكره في فصل الثوب، والمشايخ المتأخرون يختلفون في ذلك، فمشايخ عراق على أن الخلاف في الفصلين(1/198)
واحد عند أبي يوسف رحمه الله لا يطهر الثوب ما لم يصب عليه الماء صباً كالعضو، قيل وهكذا روى عنه في «النودار» ، ومشايخ بلخ رحمهم الله على أن الخلاف في فصل العضو لا غير، وفرقوا على قول أبي يوسف بين فصل العضو وبين فصل الثوب، قيل: وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» ، فإن حملنا فصل الثوب على الخلاف، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله في الفصلين أن القياس أن لا يطهر العين النجس في الأحوال كلها؛ لأن الماء يلاقي النجس في الحالتين، فينجس بأول الملاقاة.
ويحتمل بالماء النجس لكن عرفنا الطهارة حال ورود الماء عليه بالنص على ما مر، والنص الوارد حال ورود الماء عليه لا يكون وارداً حال وروده على الماء؛ لأن الماء حالة الصب على النجس بمعنى الماء الجاري؛ لأنه ينزل على الماء الذي تنجس بأول الملاقاة ماء طاهر مرة بعد أخرى، فيصير بمعنى الماء الجاري؛ لأن ما يلاقي النجس من الماء الجاري، يتنجس بأول الملاقاة ثم ينزل على ما يتنجس من الماء ماء طاهر مرة بعد أخرى فيطهره.
وإذا أورد النجس على الماء لايرد على الماء الذي يتنجس ماء طاهر ليطهره، فيكون بمعنى الماء الراكد لا يرد عليه ماء طاهر مرة بعد أخرى، والماء الجاري أقدر على إزالة النجاسة، وألقى لها من الماء الراكد.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنا تركنا القياس حال ورود الماء على النجس ضرورة إمكان التطهير، يجب أن يترك القياس حال ورود النجس على الماء ضرورة إمكان التطهير أيضاً، أكثر ما في الباب أن الضرورة تندفع بورود الماء على النجس، إلا أنه ليس أحدهما بالتعيين بأولى من الآخر إذا كان كل واحد منهما مؤثراً أو كل واحد منهما مؤثر؛ لأن الماء تداخل أجزاء الثوب في الحالين، وبالعصر يخرج ويخرج النجاسة مع نفسه، ألا ترى أن أبا يوسف رحمه الله كما ترك القياس حال ورود الماء على النجاسة ضرورة إمكان التطهير، ترك القياس حال ورود النجاسة على الماء ضرورة إمكان التطهير، وإن كانت الضرورة تندفع بالماء ما كان الطريق إلا ما قلنا إن كل واحد منهما مؤثر، وليس أحدهما بالتعيين أولى من الأخرى كذا ههنا.
وقوله بأن الماء حال وروده على النجس، يصير بمعنى الماء الجاري على ما قدر قلنا الماء الثاني والثالث يتنجس أيضاً بملاقاة النجاسة إياه إلا أن النجاسة في المرة الثالثة والثانية يكون أقل من النجاسة في المرة الأولى، لكن قليل النجاسة في تنجيس الماء القليل والكثير سواء، ثم وجب ترك القياس في أحد الموضعين ضرورة إمكان التطهير، فكذا في الباقي، وإن حملها فصل الثوب على الوفاق، فوجه الفرق لأبي يوسف بين الثوب وبين العضو أن في الثوب تركناالقياس، لتعامل الناس، فإن الناس يتعاملون بغسل الثياب في الإجانات من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والقياس يترك بالتعامل، والتعامل في العضو بصب الماء لا بإدخال العضو في الماء القليل، فيبقى فصل العضو على أصل القياس.(1/199)
والدليل على ترك القياس في الثوب كان للتعامل، ما حكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أنه لو غسل ثلاثة أثواب مختلفة في ثلاثة إجانات وعصرها في كل مرة لا تطهر؛ لأنه لا تعامل فيه، إنما التعامل في ثوب واحد، ثم إذا طهر الثوب بالغسل في الإجانات على قول من قال به طهرت الإجانة، لأن نجاسة الإجانة كانت تبعاً لنجاسة الثوب، فإذا طهر الثوب طهرت الإجانة بطريق التبعية، وهو نظير ما قلنا في طهارة الدلو والرشاء تبعاً لطهارة البئر، هذا إذا أصابت النجاسة شيئاً يتأتى فيه العصر.
فأما إذا أصابت شيئاً لا يتأتى فيه العصر، فقام إجراء الماء فيه مقام العصر حتى حكي عن الفقيه أبي إسحق الحافظ رحمه الله: أنه إذا أصابت النجاسة البدن يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات؛ لأن العصر متعذر فقام التوالي في الغسل مقام العصر.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: خف بطانة ساقه من الكرباس، فدخل جوفه ماء نجس، فغسل الخف ودلكه باليد ثم ملأه بالماء ثلاثاً وأهراقه إلا أنه لم يتهيأ له عصر الكرباس، فقد طهر الخف وعلل ثمة فقال: لأن جريان الماء قد يقام مقام الغسل واستشهد، فقال: ألا ترى أن البساط النجس إذا جعل في نهر وترك فيه يوماً وليلة حتى جرى عليه الماء يطهر، وإذا أصابت النجاسة الأرض، فإن كانت رخوة طهرت بالصب عليها؛ لأنها صارت بمنزلة العصر في الثوب، وإن كانت صلبة فاندفع الماء عن موضع النجاسة طهر ذلك المكان، وينجس الموضع الذي انتقل الماء إليه، وإن لم ينتقل الماء عن ذلك المكان يحفر ذلك الموضع، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، ومعنى قوله يحفر ذلك الموضع أنه يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها.
وفي «الطحاوي» : إذا كانت الأرض محددة، وكانت صلبة، فإنه يحفر في أسفلها حُفيرة، فيصب الماء عليها، فيجمع الماء في تلك الحفيرة فيغسل الأرض ثم يكنس الحفيرة، وإن كانت الأرض مستوية وكانت صلبة، فلا حاجة إلى غسلها بل يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويطهر.
وفي «الفتاوى» : البول إذا أصاب الأرض واحتيج إلى الغسل يصب الماء عليه عند ذلك وينشف ذلك ... أو خرقة، فإذا فعل ذلك ثلاثاً طهر وإن لم يفعل كذلك، ولكن صب عليه ماءً كثيراً حتى عرف أنه زالت النجاسة، ولا يوجد في ذلك لون ولا ريح ثم تركه حتى تنشفه الأرض كان طاهراً، وعن الحسن بن أبي مطيع رحمه الله قال: لو أن أرضاً أصابها نجاسة، فصب عليها الماء، فجرى عليها إلى أن أخذت قدر ذراع من الأرض طهرت الأرض، والماء طاهر ويكون ذلك بمنزلة الماء الجاري.
وفي «المنتقى» : أرض أصابها بول أو عذرة ثم أصابها ماء المطر، وكان المطر غالباً قد جرى ماؤه عليه فذلك مطهر له، وإن كان المطر قليلاً لم يجر ماؤه عليها لم يطهر، ثم قال: وليغسل قدميه وخفيه؛ لأن غسل كل شيء إنما يكون على حسب ما يليق(1/200)
بذلك الشيء واللائق بالأرض إجراء الماء عليه قد وجد إذا كان المطر غالباً، ولم يوجد إذا كان المطر قليلاً، فبقي نجساً، فإذا وضع عليها خفه أو قدمه فقد تنجس، فيجب الغسل، فإذا كان ذلك الموضع قد يبس قبل المطر، فلا يغسل (30أ1) قدميه يريد به إذا كان المطر قليلاً، وهذه إشارة إلى إحدى الروايتين في الأرض النجسة يبست ثم أصابها الماء.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه سئل عن غسل أرض أصابها نجاسة، قال: إذا صب عليها من الماء مقدار ما يغسل به ثوب أصابته هذه النجاسة ثلاث مرات، وعصر في كل مرة يطهر وطهرت الأرض بهذا المقدار، فبلغ هذا القول أبا عبد الله محمد بن سلمة رحمه الله، فأعجبه وقال: ما أحد أتى أبا يوسف رحمه الله إلا وجد عنده فائدة.
حصير أصابه نجاسة، فإن كانت النجاسة يابسة لا بد من الدلك حتى تلين، وإن كانت رطبة إن كان الحصير من قصب أو ما أشبه ذلك، فإنه يطهر بالغسل ولا يحتاج فيه إلى شيء آخر؛ لأن النجاسة لا تدخل أجزاء القصب، بل تبقى على ظاهر، فيطهر بالغسل، وإن كان الحصير من بردي أو ما أشبه ذلك غسل ويوضع عليه شيء ثقيل أو يقوم عليه إنسان حتى يخرج الماء من أثنائه، هكذا ذكر في بعض المواضع ذكر عن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن الحصير إذا كان من بردي يغسل ثلاثاً، ويجفف في كل مرة ويطهر عند أبي يوسف رحمه الله، خلافاً لمحمد رحمه الله.I
وفي «شرح الطحاوي» أنه لا يؤقت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر أو شيئاً من الأواني، بل يغسله مقدار ما يقع في أكبر رأيه أنه قد طهر، ويشترط مع ذلك أن لا يوجد منه طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها، فأما إذا وجد هذه الأشياء لا يحكم بالطهارة قال ثمة: وسواء كانت الآنية من خزف أو غيره، وسواء كانت قديمة أو جديدة.
وعن محمد رحمه الله أن الخزف الجديد إذا وقع فيه خمر أو بول أنه لا يطهر أبداً.
وفي «النوازل» : إن تشربت النجاسة في النصاب بأن غمس السكين بماء نجس أو كان الخزف أو الآجر جديدين على قول محمد رحمه الله لا يطهر أبداً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يمر الحديد بالماء الطاهر ثلاثاً ويغسل الآجر الجديد والخزف الجديد بالماء ويجفف في كل مرة ويطهر.
وحدّ التجفيف أن يترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس.
وعلى هذا الاختلاف الحنطة إذا أصابتها خمر وتشربت فيها وانتفخت من الخمر فغسلها عند أبي يوسف أن تنقع في الماء حتى تشرب الماء كما تشربت الخمر ثم تجفف، يفعل ذلك ثلاث مرات ويحكم بطهارتها عند أبي يوسف، وقيل: مثل هذا في غسل الخزف الجديد أن يوضع في الماء حتى يتشرب فيه الماء كالنجاسة، ويطهر في قول أبي يوسف.
ورأيت في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله ثوب كان فيه خمر فتطهيره أن يجعل الماء فيه ثلاث مرات كل مرة بساعة إذا كان الثوب جديداً.(1/201)
إذا أصابت الحنطة الخمر إلا أنها لم تنتفخ من الخمر فغسلت ثلاثاً ولا يوجد لها طعم ولا رائحة ذكر في بعض المواضع عن أبي يوسف أنه لا بأس بأكلها، وفي «شرح الطحاوي» : أنه لا يحل أكلها، وكأن المذكور في «شرح الطحاوي» قول محمد رحمه الله.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله لو طبخت الحنطة بخمر حتى تنتفخ وتنضج فطبخت بعد ذلك ثلاث مرات وانتفخت في كل مرة وجفت بعد كل طبخة فلا بأس بأكلها وفيه أيضاً: الدقيق إذا أصابه خمر لم يؤكل وليس لهذا حيلة. وفيه أيضاً: قدر يطبخ فيه لحم وقع فيه خمر فغلى فيه لا يؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يطبخ بالماء ثلاث طبخات ويرد بعد ذلك كل طبخة ويؤكل.
وفي مسائل: امرأة تطبخ بقدر فطار طير ووقع في القدر ومات لا تؤكل المرقة بالإجماع لأنه تنجس بموت الطير فيه، وأما اللحم ينظر إن كان الطير وقع في القدر حالة الغليان لا يؤكل لأن النجاسة سرت فيه، وإن كان الطير قد وقع في القدر حالة السكون يغسل ويؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله: فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا كان الوقوع في القدر حالة الغليان يطبخ في الماء ثلاث مرات ويرد في كل مرة ويؤكل.
وكذلك الجمل المشوي إذا كان في بطنها بعر فأصابت بعض اللحم في حالة الشي، فطريق غسله ما ذكرنا عند أبي يوسف رحمه الله.
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: رجل اتخذ من سمك وملح وخمر إذا صار مرقاً فلا بأس للأثر الذي جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبو يوسف رحمه الله يقول كذلك إلا في مسألة واحدة أن السمك إذا كان هو الغالب والخمر قليل فأراد أن يتناول شيئاً منه ليس له ذلك وهو كالخبز عجن بالخمر وإذا كان غالباً وتحول الخمر عن طبيعتها إلى المرق فلا بأس بذلك.
وفيه أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله لو أن رجلاً اتخذ من الخمر طيباً أو ألقى فيه ... فإنه لا يحل له أن يتطيب به وأن..... به، ولا يحل له بيعها لأن ذلك لا يغيرها عن طبها.
وكذلك ما خالط الخمر من الإدام فإن الخمر يحرمه ماخلاً حصيلة واحدة أن تكون الخمر غالبة فتتحول عن طباعها إلى الحل أداء المرئي.
وعن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رغيفاً من الخبز المعجون بالخمر وقع في دنّ خلّ وذهب فيه حتى لا يرى فلا بأس بأكل الخل، فأما الرغيف نفسه فلا يؤكل، وفيه أيضاً لو أن خرقة أصابها خمر ثم سقطت في دن خل فلا بأس بأكل الخل، ولو وقع رغيف طاهر في خمر ثم وقع في خل طهر الخل.
ورأيت في موضع آخر الرغيف إذا وقع في الخمر ثم تخلل فههنا اختلف المشايخ فيه، إذا أصابت النجاسة خُفاً أو نعلاً لم يكن لها جرم كالبول والخمر فلا بُدّ من الغسل رطباً كان أو يابساً.(1/202)
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا أصاب نعله بول أو خمر ثم مشى على التراب أو الرمل ولزق به بعض التراب وجف ومسحه بالأرض يطهر عند أبي حنيفة رحمه الله وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمه الله. وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك إلا أنه لم يشترط الجفاف.
وأما التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل فإن كانت رطبة لا تطهر إلا بالغسل، هكذا ذكر في «الأصل» ألا ترى أن الرطوبة التي فيها لو أصابته لا يطهر إلا بالغسل فكذا إذا أصابته مع غيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا مسحه في التراب أو الرمل على سبيل المبالغة يطهر، وعليه فتوى من مشايخنا للبلوى والضرورة.
وإن كانت النجاسة يابسة يطهر بالحت والحك عند أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله لا تطهر إلا بالغسل، الصحيح قولهما لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه وإن كان بهما أذىً فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور» .
والمعنى فيه أن الجلد شيء صلب لا تتسرب فيه رطوبات النجاسة إلا بعد زمان وجرم النجاسة ... يبس قل أن تتشرب في الجلد الرطوبة وتجذب بأعلى النعل من الرطوبة إلى نفسه، فإذا حكّه وحتهّ يزول الجرم وتزول الرطوبة معه ولا يبقى معه إلا شيء قليل والقليل من النجاسة معفو وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا القول بالري لما رأى من كثير السرقين في طرقهم، قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : معنى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أن الخف والنعل يطهر لجواز الصلاة معه.
أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجساً على إحدى الروايتين وأصل المسألة: الأرض إذا ثبت أصل النجاسة فيها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على إحدى الروايتين، وجعل القدوري رواية عود النجاسة في الأرض بإصابة الماء «ظاهر الرواية» ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» في النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل وحكّه أو حتّه بعدما يبس إنه يطهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وذكر في «الأصل» : إذا مسحه بالتراب يطهر، قال مشايخنا لولا المذكور في «الجامع الصغير» لكنا نقول لا يطهر ما لم يمسحه بالتراب لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة، فإن محمداً رحمه الله قال: المسافر إذا أصابت (30ب1) يده نجاسة يمسحه بالتراب، وأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة فالمذكور في «الجامع الصغير» من أن للحك أثراً كما أن للمسح بالتراب أثراً، ثم إذا وجب غسل الخف أو النعل في الموضع الذي وجب فإن كان الجلد يشف رطوبات النجاسة فقد قال بعض مشايخنا: إنه(1/203)
لا يطهر أبداً على قول محمد رحمه الله إذا كان لا يمكن عصره، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينقع ثلاثاً في ماء طاهر ويجفف في كل مرة في رواية، وفي المرة الثالثة في رواية، وقاسوا الخف والنعل على الخزف الجديد والآجر الجديد وسائر المسائل التي مرّ ذكرها من هذا الجنس.
وبعض مشايخنا قالوا هذا التفصيل خلاف ظاهر لفظ محمد رحمه الله، فإن محمداً رحمه الله قال: لا يجزئه حتى يغسل موضع النجاسة في الخفٍ وغيره من غير فصل بين خف وخف وهو الظاهر، فإن.... الذي يتخذ منه الخف والنعل أو لا ينقع في الماء ويعالج بالدهن والشحم فلا يتسرب منه رطوبات النجاسة فلايكون نظير الكوز والحب. ولأجل هذا المعنى مال بعض مشايخنا (إلى) اشتراط التجفيف في الخف، ألا ترى إلى ما حكي عن أبي القاسم الصفار رحمه الله في الرجل يستنجي ويجري ماء استنجائه بين رجليه وخفه ليس بمنخرق أن له أن يصلي مع ذلك الخف لأن الماء الآخر يطهر خفه كما يطهر موضع استنجائه ولم يشترط الجفاف، فعلى قول هذا القائل الخف أو المكعب إذا أصابته نجاسة يغسل ثلاث مرات بدفعة واحدة ويحكم بطهارته.
والمختار أنه يغسل ثلاث مرات ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس وفي «مجموع النوازل» : الخف الخراساني الذي صرمه موشًّى بالغزل حتى صار ظاهر الصرم كله غزلاً فأصابه نجاسة فحته وصلى فيه، قال نجم الدين النسفي رحمه الله: لا تجوز صلاتهُ إلا إذا غسله بالماء ثلاثاً وجففه في كل مرة، وحكم هذا حكم الثوب لا حكم الخف أو السيف أو السكين إذا أصابه بول أو دم. ذكر في «الأصل» أنه لا يطهر إلا بالغسل.
فإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك الجواب، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله لا يطهر إلا بالغسل.
والكرخي رحمه الله ذكر في «مختصره» أن السيف يطهر بالمسح من غير فصل بين الرطب واليابس وبين العذرة والبول، وعلل فقال: لأن السيف متى صقل لا تتداخل النجاسة في أجزائه بل تبقى على ظاهره، فإذا مسحها لا يبقى إلا شيء قليل وذلك غير معتبر.
وفي «الفتاوى» سئل أبو القاسم عمن ذَبَحَ بالسكين ثم مسح السكين على صوفها أو بما يذهب به أثر الدم عنه يطهر، وعنه أنه لحس السيف بلسانه حتى ذهب الأثر فقد طهر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن السيف إذا أصابه دم أو عذرة فمسحت بخرقة أو تراب إنه يطهر حتى لو قطع بطيخاً بعد ذلك أو ما أشبهه كان البطيخ طاهراً ويباح أكله، وقد صح أن الصحابة كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم ويمسحون السيوف ويصلون معها.
وإذا وقع على الحديد نجاسة من غير أن يمره بها فكما يطهر بالغسل يطهر بالمسح بخرقة طاهرة أيضاً، إذا كان الحديد صقيلاً غير خشن كالسيف والسكين والمرآة ونحوها.(1/204)
الحديد إذا أصابه نجاسة فأدخله في النار قبل أن يمسحه أو يغسله، ينبغي أن يطهر إذا ذهب أثر النجاسة ويكون الحرق كالغسل، ألا ترى إلى ما ذكر في «الفتاوى» : إذا أحرق رجل رأس شاة ملطخ وزال عنه الدم فإنه يحكم بطهارته كذا هنا بخلاف ما إذا مرّ الحديد بالماء النجس على قول محمد رحمه الله لأن النجاسة تسير فيه بالتمويه، أما بدون التمويه لا تتسرب فيه النجاسة بل يبقى على ظاهره فتزول بالإحراق.
وإذا سعرت التنور ثم مسحه بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه فإن كانت حرارة النار أكلت بلّة الماء قبل إلصاق الخبز بالتنور لا يتنجس الخبز لأن النجاسة لا تبقى إذا نشف التنور بالنار كما لا تبقى نجاسة الأرض إذا يبست بالشمس.
قال الزنرويستي رحمه الله في «نظمه» : شيئان يطهران بالجفاف: الأرض إذا أصابها نجاسة فجفّت ولم يُرَ أثرها جازت الصلاة فوقها. والتلة والحشيش وما نبت في الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت طهرت لأنها من نبات الأرض والأرض تطهر بهذا فكذا نباتها.
ورأيت في موضع آخر أن الكلأ أو الشجر ما دام قائماً على الأرض ففي طهارته بالجفاف اختلاف المشايخ، وحكى الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: الحمار إذا بال على السك فوقع عليه الظل ثلاث مرات والشمس ثلاث مرات فقد طهر ويجوز عليه الصلاة الحشيش إذا أصابه النجاسة وأصابه المطر بعد ذلك كان له بمنزلة الغسل.
وفي بعض النسخ حكم الحصى حكم الأرض إذا تنجست فجفت وذهب أثرها، يريد به: إذا كان الحصى في الأرض متداخلاً، فأما إذا كان على وجه الأرض لا يطهر، وكذا الحجر على وجه الأرض إذا أصابته نجاسة.
في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والآجرة إذا كانت مفروشة فحكمها حكم الأرض تطهر بالجفاف وإن كانت موضوعة تُنقل، وتجول من مكان إلى مكان لا بُدّ من الغسل، وكذلك اللبنة إذا أصابتها نجاسة وهي غير مفروشة لا تطهر بالجفاف، وإن كانت مفروشة وصلى عليها بعد الجفاف يجوز لأن في الوجه الثاني صارت من وجه الأرض بخلاف الوجه الأول، فإن خلعت بعد ذلك هل تعود نجسة؟ ففيه روايتان.
الخف أو النعل أو الثوب إذا أصابه مني فإن كان رطباً فلا بُدّ من الغسل. وإن كان يابساً يجوز فيه الفرك، عرف ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لها: «إذا وجدت المني على الثوب، فإن كان رطباً فاغسليه وإن كان يابساً فافركيه» .
قال الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا كان رأس الذكر طاهراً وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن طاهراً لا يطهر(1/205)
قالوا: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله، قيل أيضاً: إذا كان رأس الذكر طاهراً إنما تطهر الثياب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك.
وإذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهارة الثوب ثم أصاب الماء ذلك الثوب هل يعود نجساً فهو على الروايتين، وقد مرّ نظير هذا فيما تقدم.
وإذا كانت النجاسة على بدن الآدمي ذكر في «الأصل» أنها لا تطهر إلا بالغسل رطباً كان أو يابساً لها جرم أو لا جرم لها. وفي «القدوري» : لا يطهر شيء كان فيه نجاسة من ثوب أو بدن إلا بالغسل إلا المني فإنه يجوز فيه الفرك إذا كان يابساً على الثوب، وإن كان على البدن لا يكتفى بالحتّ ويغسل في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله، لأن البدن لا يمكن أن يفرك ولأن لمس البدن وتجاذ به فلا يزول بالحت منه ما يزول بالفرك في الثوب فبقي على الأصل.
وذكر الكرخي رحمه الله مسألة المني في «مختصره» وذكر أنها تطهر بالفرك من غير فصل بين العضو وغيره. ويجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل شيء ينعصر بالعصر كالخل وبماء الريق في قولهما، وقال محمد وزفر لا يزول إلا بالماء، وروي عن أبي يوسف في البدن كذلك، وفرّق أبو يوسف رحمه الله على هذه الرواية بين الثوب والبدن ووجه الفرق: أن البدن كما يقبل النجاسة الحقيقية يقبل النجاسة الحكمية ثم النجاسة الحكمية اختص زوالها بالماء فكذا النجاسة الحقيقية ولا كذلك الثوب.
وفي «المنتقى» رجل على ساقه دم أخذ كفّاً من ماء وغسل به ذلك الدم وسال الماء على يده أجزأه وطهّره، ولو غمس يده في الماء ولم يأخذ في يده شيئاً منه ثم مسح به موضع الدم حتى ذهب أثره لم يجزه، يريد به إذا مسح موضع الدم بعدما أخرجه من الماء، أما لو مسح به في الماء حتى ذهب أثره يجزئه وهذا ظاهر.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: كل ما غسل به الثوب من شيء نحو الدم وأشباهه يخرج منه الدم بعصره فانعصر حتى سال فقد أذهب النجس. قال: والأدهان لا تخرج الدم لأن لها رسوبة ولصوقاً بالمحل فلا يقدر على الاستخراج. قال: ولو غسله بلبن أو خل فانعصر موضع الدم (31أ1) . حتى خرج من الثوب فقد طهر، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله إذا غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى يذهب أثره جاز، ولو أصاب يديه لم يجز إلا أن يغسله بالماء، وقد ذكرنا الفرق بين البدن والثوب على رواية أبي يوسف.
وفي «المنتقى» وقال أبو يوسف في المحتجم لا يجزئه أن يمسح الدم عن موضع الحجامة حتى يغسله، قال الحاكم: رأيت عن أبي حفص عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه إذا مسحه بثلاث خرق رطاب نظاف أجزأه.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد في حمار وقع في الملاحة ومات وترك حتى صار ملحاً أكل الملح، وقال أبو يوسف: لا يؤكل، وكذلك رماد عذرة أحرقت وصلى عليه(1/206)
على هذا الاختلاف، وحكى أبو عصمة: خشبة لو أصابها بول فاحترقت ووقع رمادها في بئر قال أبو يوسف رحمه الله يفسد الماء، وقال محمد رحمه الله: لا يفسد.
الطين النجس إذا جعل منه الكوزأ والقدر فطبخ يكون طاهراً.
إذا قاء ملء الفم ينبغي أن يغسل فاه، فإن لم يغسل ومضى زمان ينبغي أن تجوز صلاته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويطهر فمه ببزاقه.
وعلى هذا إذا شرب الخمر وصلى بعد زمان، وإذا شرب الخمر ونام وسال من فمه شيء على وسادته إن كان لا يرى عين الخمر ولا يوجد رائحته ينبغي أن يكون طاهراً، على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما بناء على ما قلنا.
العنب إذا تنجس يغسل ثلاثاً ويؤكل، وضع المسألة في «مجموع النوازل» في العنقود إذا أكل الكلب بعضه وذكر أنه يغسل العنقود ثلاثاً ويؤكل. كذا قال ثمة وكذا يفعل بعد يبس العنقود، ولو عصر عنباً فأدمى رجله وسال في العصير والعصير يسيل ولا يظهر أثر الدم فيه قال لا ينجس العصير، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما كما في الماء الجاري.
الفأرة إذا وقعت في دن تشاسته ومات واين تشاسة وسيده بودشت، قال الشيخ الإمام نجم الدين رحمه ا: أقتاده باشدكه آب درخم كرد بودنه ديك رود شرخم كشاده بوداب دنكر رنجيشد دشرخم يستندوبعه أن جنه سبانروز سرخم كسادنه موش ماقنية اما سيده أماومعلوم شه كه موشرهم ان اول انذر اقتاده اشت قال الاحتياط في هذا أن يُراق لأن القلب لا يسكن إلى طهارته وزوال نجاسته، ولو بذر هذا في الأرض صار نجساً وهذا الذي ذكر قول محمد رحمه الله أما على قول أبي يوسف رحمه الله يغسل التساستح ثلاثاً ويجفف في كل مرة ويحكم بطهارته.
رجل اتخذ عصيراً في خابية فغلى واشتد وقذف بالزبد وانتقص مما كان ثم صارت خلاً طهر الحب كله حتى يخرج الخل طاهراً إذا زالت رائحة الخمر، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها: إذا تخلل وتطاول مكثه في الدن طهر الحب كله، ولو رفع من الدن كما تخلل من غير مكثه فالموضع الذي لوّث بالخمر نجس، فأما إذا عالج ذلك الموضع بالخل على أن يتطاول مكثه فعلى قول من يرى إزالة النجاسة الحقيقية بغير الماء يطهر الدن الذي فيه العصير.
إذا غلى واشتد وصار خمراً وعلى رأسه ... فرفع ذلك ... بعد زمان يعني بعدما صار خلاّ وتطاول مكثه فإنه يكون طاهراً لو وضع على قدر مرقة لا تتنجس المرقة أما إذا رفع قبل أن يصير خلاً فإنه يكون نجساً فتنجس المرقة وكذلك إذا رفع بعدما صار خلاً ولكن قبل أن يتطاول مكثه.
وقع كوز من خمر في دن خل أو صب فيه ولا يوجد طعمها ولا رائحتها يباح الخل(1/207)
من ساعته. ولو وقع قطرة من خمر في دن خل لا يباح خل من ساعته، والفرق: أن الخمر الذي في الكوز كثير لو لم يتغير المصبوب ولو لم يصر خلاً توجد رائحته، فإذا لم يوجد علمنا أنه تغير وصار خلاً، فأما القطرة فشيء قليل لا يكون لها رائحة فلا يستدل بعدم الرائحة على التغيير، فلعل أنها على حالها ولم تتغير فلا يحكم بالخل في الحال. هكذا ذكر في «مجموع النوازل» وينبغي أن يقال في القطرة: إذا كان غالب ظنه أنه صار خلاً يطهر.
الخمر إذا وقع في الماء، والماء إذا وقع في الخمرة صار خلاً ففيه اختلاف المشايخ، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يطهر، وكذلك في خل..... اختلف المشايخ فيه واختياره أنه يطهر.
وإذا صب الخل المتنجس في الخمر حتى صار الكل خلاً تبقى النجاسة في الكل، وإذا وقعت فأرة في دن خمر وصارت الخمر خلاً فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يباح تناول الخل وقال بعضهم: لا يباح، وقال بعضهم: إن تفسخت الفأرة فيها لا يباح، وإن لم تتفسخ يباح.
الكلب إذا وقع في عصير فتخمّر العصير ثم تخلل لا يحل شربه لأن لعاب الكلب فيه قائم وإنه لا يصير خلاً، وعلى قياس خل.... ينبغي أن يحلّ شربه.....
الحديدة إذا أصابها نجاسة فبالغسل ثسلاثاً تطهر ظاهراً لا باطناً حتى لو وقع قطعة منها في ماء قليل يتنجس الماء.
الفصل الثامن في الحيض
ثوب أصابه عصير ومضى على ذلك أيام إلا أنه يوجد منه رائحة الخمر لا يحكم بنجاسته لأن العصير لا يصير خمراً في الثوب والله أعلم بالصواب.
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في تفسيره بيان فنقول:
الحيض لغة: اسم لدرور الدم من أي شخص كان، تقول العرب حاضت الأرنب إذا خرج الدم من فرجها.
وشرعاً: اسم لدم دون دم، فإنها: اسم لدم خارج من رحم المرأة، فأما الخارج من فرج المرأة دون الرحم فهو استحاضة وليس بحيض شرعاً، الدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّموقالت: «إني امرأة أستحاض فلا أطهر الشهر والشهرين فقال عليه السلام: ليس تلك بالحيضة إنما هي دم عرق انقطع فإذا أجليت(1/208)
الحيضة فدعي الصلاة أيام أقرائك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة» .
وفي «الفتاوى» لأبي الليث رحمه الله: أن الدم الخارج من الدبر لا يكون حيضاً، ويستحب لها أن تغتسل عند انقطاع الدم. وإن أمسكت زوجها عن الاستمتاع بها أحب إلي لجواز أنها خرجت من الرحم، ولكن من هذ السبيل.
ثم الدم الخارج من الرحم نوعان: حيض ونفاس، فالنفاس: هو الدم الخارج بعقب الولادة وسيأتي الكلام فيها في نوعها وأما الحيض: فقد قال الكرخي رحمه الله في «مختصره» الحيض: الدم الخارج من الرحم تصير المرأة بالغة بالبداية بها. كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: الحيض هو الدم التي ينفضها رحم المرأة السالمة عن الداء والصغر والله أعلم.
(نوع آخر)
في بيان الدماء الفاسدة التي لا يتعلق بها حكم الحيض.
وإنها كثيرة فمن جملة ذلك القاصر ... عن أقل مقدار الحيض لأنه مقدر شرعاً، والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر، وعند ذلك يحتاج إلى بيان أقل مقدار الحيض فيقول: أقل الحيض مقدر بثلاثة أيام ولياليها في «ظاهر رواية» أصحابنا، وروى ابن سماعة في «نوادره» وأبو سليمان في «نوادر الصلاة» عن أبي يوسف رحمه الله أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث، وجه «ظاهر الرواية» ما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام» وقال عليه السلام لفاطمة بنت حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» .
والأيام اسم جمع وأقل الجمع ثلاثة. وعن عمر وعثمان وعلي وزيد وثابت وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ومعاذ وأنس بن مالك وعائشة وجابر وعبد الله وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم مثل مذهبنا.
ومن جملة ذلك الدم الذي جاوز أكثر مدة الحيض فإن أكثر الحيض مقدر شرعاً والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر كيلا تفوت فائدة التقدير. وفي هذا المقام يحتاج إلى بيان أكثر مقدار الحيض فنقول: أكثر الحيض عشرة أيام، وقال الشافعي: خمسة يوماً، فالحجة لعلمائنا ما روينا من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
ومن جملة ذلك الدم المتخلل في أقل مدة الطهر ولا يمكن معرفة ذلك إلا بعد معرفة أقل الطهر وأقله خمسة عشر يوماً عندنا، وقال عطاء بن أبي رباح ويحيى بن أكثم(1/209)
ومحمد بن شجاع رحمهم الله إنه تسعة عشر يوماً، هم يقولون: إن الشرع أقام الشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام الحيض والطهر إذ هما يوجدان في الشهر عادة والشهر قد ينتقص بيوم، والحيض لا يزيد على عشرة فيبقى الطهر تسعة عشر، وعلماؤنا قالوا: إن مدة الطهر نظير مدة الإقامة من حيث إنه يجب فيها ما كان سقط من الصوم والصلاة. ثم أقل مدة الإقامة تقدر بخمسة عشر يوماً على ما عرف في موضعه فكذا أقل مدة الطهر، وقد قسنا أقل مدة الحيض بأقل مدة السفر من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة، فجاز لنا أن نقيس أقل مدة الطهر بأقل مدة الإقامة من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة أيضاً.
وأما أكثر مدة الطهر فالمنقول من أصحابنا أنه لا غاية له. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحواني رحمه الله يقول: قول أصحابنا لا غاية له أن كانوا عَنَوا به أن الطهر طهر وإن طال فصحيح، وإن عنوا به أن الطهر الذي يصلح لنصب العادة عند وقوع الحاجة إليه لوقوع الاستمرار غير مقدر، فهو ليس بصحيح بل هو مقدر عندهم جميعاً إلا عند أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله فإنه لا يقدر طهرها بشيء إذا احتيج إلى بقية العادة لها إذا استمر بها الدم وصلت أيامها لكنها تبني على ما رأت وإن امتدت.
وعامة مشايخنا قالوا بتقديره واختلفوا فيما بينهم، وبيان هذا: مبتدأة رأت عشرةً دماً وستةً طهراً واستمر بها الدم. قال أبو عصمة سعد بن معاذ: حيضها وطهرها ما رأت لأنها (رأت) دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً والمبتدأة إذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً يجعل ذلك عادة لها حتى إن على قوله تنقضي عدتها إذا طلقها زوجها بثلاث سنين وثلاثين يوماً.
وقال محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تجعل عادتها من الطهر ستة أشهر إلا ساعة اعتباراً بمدة الحبل، فإن أقل مدة هي طهر كلها ستة أشهر مدة الحبل، غير أن مدة الحبل تكون أمد من مدة الطهر عادة فينقص عنها شيء ليقع الفرق بينهما.
وأقل ذلك ساعة حتى إن عدة هذه المرأة إذا طلقها زوجها على قول محمد بن إبراهيم الميداني تنقضي عدتها ثمانية عشر شهراً إلا ثلاث ساعات لجواز أن يكون وقوع الطلاق عليها في حالة الحيض فيحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وإلى ثلاث حيض كل حيض عشرة أيام.
وقال بعضهم: تجعل عادتها من الطهر سبعة وعشرون يوماً لأن المرأة ترى الدم والطهر في كل شهر عادة.
وأقل الحيض ثلاثة أيام، فيجعل الباقي وذلك سبعة وعشرون طهراً ثم تكمل الحيض عشرة أيام مع هذه الثلاثة في الثاني وهكذا دأبها ما دام بها الاستمرار عشرة حيضها وسبعة وعشرون طهرها. وقال أبو علي الدقاق: يجعل عادتها من الطهر سبعة وخمسون يوماً. وكان أبو عبد الله الزعفراني رحمه الله يجعل عادتها من الطهر ستون يوماً(1/210)
وحيضها عشرة، وهكذا أثبته الحاكم الشهيد في المختصر.
ومن جملة ذلك ما تراه الحامل من الدم فقد ثبت عندنا أن الحامل لا تحيض، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها وعرف أن المرأة إذا حبلت يُسدّ فم رحمها فلا يكون ذلك الدم خارجاً من الرحم فكان فاسداً.
ومنها الدم الذي جاوز أكثر مدة النفاس فإن أكثر النفاس مقدر شرعاً، والتقدير الشرعي ينفي أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر حتى لا تبطل فائدة التقدير وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة أكثر مدة النفاس، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ومن جملة ذلك ما تراه الصغيرة جداً من الدم لأن هذا دم سبق أوانه فلا يعطى له حكم الحيض، إذ لو أعطي له حكم الحيض يحكم ببلوغها، وإنه محال في الصغيرة.
هذا واختلف في أدنى المدة التي يحكم ببلوغ الصغيرة فيه برؤية الدم، فكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقدرها بتسع سنين لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين. والظاهر أنه كان يبني بها بعد البلوغ. وكان لأبي مطيع البلخي بنّية صارت جدة وهي بنت تسع عشرة سنة وكان أبو مطيع يقول فضحتنا هذه الجارية.
وبعضهم قدروها بسبع سنين قال عليه السلام: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً» والأمر للوجوب، ولا وجوب إلا بعد البلوغ. ولا تصور له إلا في هذا الموضع. وقد سئل أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي عن بنت ست سنين إذا رأت الدم هل يكون حيضاً؟ قال: نعم إذا تمادى هذا مدة الحيض فلم يكن نزوله عن آفة. وأكثر مشايخ زماننا على ما قاله محمد بن مقاتل، وبعض مشايخ زماننا قدروا ذلك بثنتي عشر سنة.
فإذا رأت الدم وهي صحيحة لأداء بها فهو حيض وإلا فهو من المرض، والأغلب في زماننا رؤية الدم في ثلاثة عشر سنة أو في أربع عشر سنة. وأصحابنا المتقدمون لم يجدوا في ذلك حدّاً لأن ذلك يختلف باختلاف الهواء وباختلاف البلدان والبيئة ولكن قالوا: إذا بلغت مبلغاً فرأت الدم ثلاثة أيام فهو حيض.
ومن جملة ذلك ما تراه الكبيرة جدّاً هكذا وقع في بعض الكتب. وقد ذكر محمد رحمه الله في «نوادر الصلاة» أن العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض. قال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله رواية «النوادر» محمولة على ما إذا لم يحكم بإياسها، فأما إذا انقطع الدم وحكم بإياسها وهي بنت تسعين سنة أو نحوه فرأت الدم بعد ذلك لا يكون حيضاً كما وقع في بعض الكتب، وهو مروي عن عطاء بن أبي رباح(1/211)
والشعبي وجماعة من التابعين رحمهم الله. وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: ما ذكر في «النوادر» محمول على ما إذا رأت دماً سائلاً و (ذلك) حيض، وما وقع في بعض الكتب محمول على ما إذا رأت بلة مدة يسيرة وذلك ليس بحيض، وعامة المشايخ أن على رواية «النوادر» لا تقدير في حد الآيسة بالستين. وتفسير الآيسة على هذه الرواية أن تبلغ من السن ما لا يحيض مثلها، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع دمها يحكم بإياسها. فإن رأت بعد ذلك دماً فلا يكون حيضاً على هذه الرواية ويظهر كونها حيضاً في حق بطلان الاعتداد بالأشهر، وفي حق فساد الأنكحة.
وعلى رواية بعض الكتب لحد الآيسة تقدير واختلفت الأقاويل في التقدير: قال بعضهم: إذا بلغت المرأة مبلغاً لا تحيض نساء تلك البلدة في ذلك المبلغ. ولم يرد ما يحكم بإياسها. وقال بعضهم: يعتبر إبراؤها من قرائنها وقال: يعتبر ستركيبها وهذا لأن طبائع النساء يختلف باختلاف الهواء والبلدان والأغذية، ألا ترى أن المرأة المنعمة يبطىء إياسها والفقيرة البائسة يسرع إياسها فلا يمكن التقدير فيهن بالزمان فقدرنا ببراءتها وتركيبها وكثير من المشايخ منهم أبو علي الدقاق اعتبروا ستين سنة، وهو مروي عن محمد رحمه الله أيضاً: واعتبر بعضهم خمسين سنة وهو مذهب عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أنها قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم يُرَ في بطنها قرة عين.
ومشايخ مرو أفتوا بخمس وخمسين سنة، وكثير من مشايخ بخارى كذلك أفتوا بخمس وخمسين سنة وهو أعدل الأقوال، فإن رأت بعد ذلك دماً هل يكون حيضاً؟ على هذه الرواية اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يكون حيضاً ولا يبطل به الاعتداد بالأشهر لأن الحكم بالإياس بعد خمسين سنة وأشباه ذلك كان بالاجتهاد. والدم حيض بالنص وإذا رأت الدم فقد وجد النص بخلاف الاجتهاد فيبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، وهذا القائل يقول: الدم المرئي بعد هذه المدة إنما يكون حيضاً إذا كان أحمر أو أسود، فإذا كان أخضر أو أصفر لا يكون لأن كون هذا المرئي حيضاً ثبت بالاجتهاد فلا يبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد فعلى قول هذا القائل يبطل الاعتداد بالأشهر. ويظهر فساد الأنكحة وقال بعضهم: إن كان القاضي قضى بجواز ذلك النكاح ثم رأت الدم (32أ1) لا يقضى بفساد ذلك النكاح.
وطرق القضاء أن يدعي أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه وبانقضاء العدة بالأشهر، وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يفتي بأنها لو رأت الدم بعد ذلك على أي صفة رأت يكون حيضاً ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الاعتداد بالأشهر ولا يفتي ببطلان الاعتدال بالأشهر ولا بفساد النكاح إن كانت رأت الدم بعد تمام الاعتداد بالأشهر قضى القاضي بجواز ذلك النكاح أو لم يقض.(1/212)
ومن جملة ذلك ما رأته المرأة على غير ألوان الدم، وعند ذلك يحتاج إلى معرفة ألوان الدم: ما تراه المرأة في حالة الحيض من الدماء ستة: بعضها على الوفاق وبعضها على الخلاف. أما الذين على الوفاق إنهم قالوا: السواد والحمرة والصفرة حيض، وهذا لأن الأصل بالدم الحمرة، إلا أن غلبة السواد انصرف إلى السواد، وعند غلبة الصفرة انصرف إلى الصفرة. فأما الذات واحد.
وكان الشيخ الإمام الزاهد الماتريدي رحمه الله مرة يقول في الصفرة إذا رأتها ابتداء في زمان الحيض: إنها حيض، فأما إذا رأتها في زمان الطهر واتصل ذلك بزمان الحيض فإنها لا تكون حيضاً، ومرة يقول: إذا اعتادت المرأة أن ترى أيام الطهر صفرة وأيام الحيض حمرة فحكم صفرتها يكون حكم الطهر حتى لو امتدت هي بها لم يحكم لها بالحيض في شيء من هذه الصفرة لأن الحال دل على أن طهرها بهذه الصفة فقيل يحتمل أنه اعتبر ذلك في صفرة يغلب على لونها البياض وحكمها حكم الطهر على قول أكثر المشايخ.
ثم إن بعض مشايخنا ... بصفرة القز، وبعضهم بصفرة التين وبعضهم بصفرة السّبر وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أن يعتبر فيه أدنى ما ينطلق عليه اسم الصفر، وهذا كله في المرأة إذا كانت في ذوات الأقراء، فأما إذا كانت آيسة وحكم بإياسها ثم رأت شيئاً قليلاً يباشر الصفرة لا يكون حيضاً لأن ذلك أثر البول فلا يبطل به حكم الإياس وأما الذي على الخلاف فمن جملتها الكدرة وهي كالماء الكدر فإنها حيض عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقدمت على الدم أو تأخرت عنها، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن تقدمت على الدم لا يكون حيضاً وإن تأخرت يكون حيضاً.
ثم اختلف المشايخ على قوله في الكدرة المتأخرة على الدم أنها متى تصير حيضاً، والصحيح: ما ذكره أبو علي الدقاق رحمه الله أن ما دون خمسة عشر يوماً لا يفصل بينها وبين الدم كما لا يفصل هو بين الدمين.
ومن جملة ذلك: الخضرة، وقد أنكر بعض مشايخنا وجودها حتى محمد بن محمد بن سلام البلخي رحمه الله حين سئل عن الخضرة كأنها أكلت قصيلاً على سبيل الاستبعاد. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله إنها كالكدرة. والخلاف فيهما واحد، وعنه(1/213)
أيضاً أنها حيض من غير ذكر الخلاف. قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمة الله عليه: والذي عليه عامة المشايخ أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء فالخضرة منها حيض، وإن كانت كبيرة يعني آيسة ولا ترى عندها الخضرة لا يكون حيضاً، ويحمل هذا على فساد المنبت، والأول على فساد الغذاء.
ومن جملة ذلك التُرْبِيَّة وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: من الناس من يخفق هذه اللفظة، ومنهم من يشددها، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني يقول: التُرْبِيَّة ليست بشيء. ويقول قيل لأن موضع الفرج إذا اشتدت فيه الحرارة يخرج منه ماء رقيق فهو التُرْبِيَّة، وقيل: هي بين الكدرة والصفرة وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يقول: هي على لون التربة مشتقة منها، وقيل: هي التربة بزيادة الياء مستوية إلى التراب وهي التي على لون التراب، وعامة المشايخ على أنها حيض، فقد صح عن أم عطية رضي الله عنها وقد كانت غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمثنتي عشر غزوة أنها قالت كنّا نعد التربية والخضرة حيضاً.
والأصل فيه قول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} (البقرة:222) وجميع هذه الألوان هي في معنى الأذى على السواء وقد صح أن النساء كن يبعثن بالكراسف إلى عائشة رضي الله عنها فكانت تنظر إليها وتقول: لا حتى ترين القصة البيضاء. جعلت ما سوى القصة البيضاء حيضاً قيل: هي شيء كالخيط الأبيض فالقصة الحيض ومنه النهي عن تفصيص القبور، أي عن لا تجصيصها فإنما يعتبر اللون على الكرسف حتى يرفع وهو طري لا حين يجف لأنه قد يتغير بالجفاف.
(نوع آخر)
في بيان أنه متى يثبت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
يجب أن يعلم بأن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بخروج الدم، وظهوره هذا هو مذهب أصحابنا وعليه عامة مشايخنا، وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت في حقها إذا أحسّت بالنزول وإن لم يظهر ولم يخرج ولا يثبت حكم الاستحاضة في حقها إلا بالظهور.
وأشار إلى الفرق فقال: للحيض والنفاس وقت معلوم، فجاز أن يثبت حكمها باعتبار وقتها إذا أحست بالنزول فأما الاستحاضة فليس لها وقت معلوم، وهي حدث كسائر الأحداث، فلا يثبت حكمه بالظهور، والفتوى على «ظاهر الرواية» فقد صح أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها بإن فلانة تدعو المصباح ليلاً لتنظر إلى نفسها، فقالت «عائشة ما كانت إحدانا تكلف لذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمولكنها تعرف ذلك بالمسّ» ، وذلك منها إشارة إلى الظهور ولأنه ما لم يظهر فهو في معدنه والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم، وإنما يعطى الحكم له إذا ظهر ويستوي في جميع ما ذكرنا من دم الحيض والنفاس والاستحاضة أن تكون كثيراً سائلاً أو قليلاً غير سائل.
ولكن لا بد من معرفة الخروج والنزول ولا بد لمعرفة ذلك من معرفة مقدمة أخرى وبيانها: أن للمرأة فرجان فرج ظاهر وفرج باطن على صورة الفم وللفم شفتان وأسنان وجوف الفم.(1/214)
فالفرج الظاهر بمنزلة ما بين الشفتين والأسنان، وموضع البكارة بمنزلة اللسان، الإليتان بمنزلة الشفتين والفرج الباطن بمنزلة المأكل ما بين الأسنان وجوف الفم. وحكم الفرج الباطن حكم قصبة الذكر لا يعطى للخارج إليه حكم الخروج والفرج الظاهر بمنزلة القلفة يعطى للخارج إليه حكم الخروج.
وإذا وضعت المرأة الكرسف في الفرج الخارج وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج فإن ذلك يكون حيضاً لأنه صار ظاهراً وإن وصعته في الفرج الداخل وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج لا يكون حيضاً، وإن نفذت البلة إلى الجانب الخارج فإن كان الكرسف غالباً عن جزء الفرج الداخل وإن كان محاذياً له فذلك حيض. وإن كان الكرسف متسفلاً متجانباً عنه فذلك ليس بحيض.
وعلى هذا: الرجل إذا حشا إحليله فابتل الجانب الداخل دون الجانب الخارج لا ينتقض وضوءه وإن ابتل الجانب الخارج فكذلك إذا كانت القطنة متسفلة عن رأس الإحليل متجافية عنه، وإن كانت القطنة غالبة على رأس الإحليل أو محاذية له ينتقض وضوءه، وهذا كله إذا لم تسقط القطنة أو الكرسف، فأما إذا سقط وقد ابتلّ الجانب الداخل كان حيضاً، وينتقض وضوءه نفذت البلة إلى الجانب الخارج أو لم تنفذ.
وذكر الشيخ الإمام الأجل أبو الفضل الكرماني رحمه الله في «شرح كتاب الحيض» أن الدم إذا نزل من الرحم إلى الفرج، فإن خرج فهو حيض وإلا فلا عند أبي حنيفة رحمه الله استدلالاًبقصبة الذكر إذا نزل إليها البول، فإن ظهر على رأس الإحليل ينتقض وضوءه وما لا فلا. وقال محمد رحمه الله هو حيض وإن لم يخرج استدلالاً بقصبة الأنف إذا أنزل إليها الدم فإنه ينتقض وضوءه، وإن لم يخرج ولم يفصل بين الفرج الداخل والخارج وإنه مشكل، لأنه إن أراد بقوله نزل الدم من الرحم إلى الفرج الداخل، فذلك ليس بحيض بلا خلاف إلا رواية عن محمد رحمه الله في غير «الأصول» وإن أراد به الفرج الخارج فذلك حيض بلا خلاف.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل (32ب1) أن اتخاذ الكرسف سنّة عند الحيض، الثيّبْ يستحب لها اتخاذ الكرسف بكل حال لأنها لا تأمن خروج شيء منها فيحتاط في ذلك خصُوصاً في حالة الصلاة. وأما البكر فيستحب لها وضع الكرسف في حالة الحيض فلا يستحب لها ذلك في غير حالة الحيض. والطاهر إذا صلّت بغير كرسف وأمنت أن يخرج منها شيء جازت صلاتها، والأحسن أن تضع الكرسف. وعن محمد بن سلمة البلخي رحمه الله أنه يكره للمرأة أن تضع الكرسف في الفرج الداخل، قال: لأن ذلك يشبه النكاح بيدها.
وإذا وضعت الكرسف في أول الليل وهي حائض ونامت فنظرت إلى الكرسف حتى أصبحت رأت البياض الخالص فعليها قضاء العشاء للتيقن بطهرها من حين وضعت الكرسف ولو كانت هي طاهرة حين وضعت الكرسف ونامت ثم انتبهت بعد طلوع الفجر فوجدت البلة على الكرسف فإنها تجعل كأنها رأت الدم في آخر يومها حتى لا يسقط عنها العشاء احتياطاً، وكذلك حكم النفاس وانقطاعه.(1/215)
(نوع آخر) في الأحكام التي تتعلق بالحيض يجب أن يعلم بأن الأحكام
فمنها: أنها لا تصوم ولا تصلي قال عليه السلام: «تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي» والمراد منه: زمان الحيض.
ومنها أنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا على عهد رسول الله نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة.
ومنها: أن لا يأتيها زوجها. قال تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . (البقرة: 222)
ومنها: أن لا تمس المصحف ولا الدرهم المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن لقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} . (الواقعة: 79) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه كتب إلى بعض القبائل: «لا يمس مصحف القرآن حائض ولا جنب» .
وهل يكره لها مس المصحف بكمها أو ذيلها؟ قال بعض مشايخنا: يكره لأن الكم والذيل تبع لها. ألا ترى لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها مفترشاً ثوبه يحنث في يمينه، وجعل ثوبه تبعاً له حتى لم يعتبر حائلاً. وعامتهم على أنه لا يكره لأن المحرّم هو المس وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل. ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في ردغة حلّ للأجنبي أن يأخذ بيدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمسّ بحائل بخلاف مسألة اليمين لأن مبنى الأيمان على العرف والجالس على الأرض بثوبه يعد جالساً على الأرض عرفاً وعادة.b
ولا بأس لها بأن تمس المصحف بغلاف، والغلاف هو الجلد الذي عليه في أصح القولين. وقيل: هو المنفصل كالخريطة ونحوها لأن المتصل بالمصحف من المصحف. ألا ترى أنه يدخل في بيع المصحف من غير ذكر، وهو نظير الاختلاف في المس بالكم.
ولا بأس لها بكتابة القرآن عند أبي يوسف رحمه الله إذا كانت الصحيفة على الأرض لأنها لا تحمل المصحف، والكتابة تقع حرفاً حرفاً وليس الحرف الواحد بقرآن، وقال محمد رحمه الله أحب إليّ أن لا تكتب لأنه في حكم المساس للحروف وهي بكليتها قرآن.
ومنها أن لا تقرأ القرآن عندنا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان «نهى الحائض والجنب عن قراءة القرآن» والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء. هكذا ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه لأنه قرآن فتمنع الحائض من قراءة كالآية التامة، وقيد الطحاوي القراءة بآية تامة لأنه تعلق بقراءة القرآن حكمان: جواز الصلاة وحرمة(1/216)
القراءة على الحائض والجنب. ثم فصّل في حق جواز الصلاة من بين الآية التامة وما دونها فكذا في حق حرمة القراءة على الحائض وهذا إذا قصدت القراءة.
فإن لم تقصدها نحو أن تقرأ الحمد لله رب العالمين شكراً للنعمة فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في مختصر كتاب الحيض أن الآية إذا كانت طويلة فقرأتها حرام عليها، وإن كانت قصيرة إن كانت تجري على (اللسان عند) عن الكلام كقوله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يحرم أيضاً، وإن كانت لا تجزىء على اللسان عند الكلام كقوله: {ثم نظر} (المدثر: 21) ، كقوله: {لم يولد} (الإخلاص: 3) فلا بأس به، وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي رحمه الله، وعلى قول الصحاوي تعلم نصف آية وتقطع ثم تعلم نصف آية.
ولا يكره لها التهجي بالقرآن وكذا لا يكره لها قراءة دعاء القنوت «اللهم إنا نستعينك» .
ومنها: أن لا تدخل المسجد قال عليه السلام: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» . ولأن ما بها من الأذى فوق الجنابة لتمكنها من إزالة أذى الجنابة دون أذى الحيض، ثم الجنابة تمنعها عن دخول المسجد فالحيض أولى.
ومنها: أنها لا تطوف بالبيت للحج والعمرة لأن البيت في المسجد وقد منعت عن الدخول في المسجد وقد صح أن رسول الله عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف «اصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» مع هذا لو طافت بالبيت تحللت.
ومنها: أن يلزمها الاغتسال عند انقطاع الدم.
ومنها: أن يتقدر الاستبراء قال صلى الله عليه وسلّم «لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة» .
ومنها: أن تنقضي بها العدة قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء} (البقرة: 288) وهي عبارة عن الحيض. وإذا مضت مدة الحيض وهي أكثر المدة عشرة أيام يحكم بطهارتها انقطع الدم أو لا، اغتسلت أو لم تغتسل مبتدأة كانت أو معتادة. ولا تؤخر الاغتسال لوقوع التيقن بخروجها من الحيض، لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، وتنقطع الرجعة ويحل لها التزوج بزوج آخر، ولكن لا يستحب لها ذلك، ويحل للزوج قربانها ولكن لا يستحب له ذلك، وهي بمنزلة الجنب ما لم تغتسل.
وإن انقطع دمها فيما دون العشرة إن كانت مبتدأة ومضى عليها ثلاثة أيام فصاعداً أو كانت معتادة وانقطع الدم على عادتها أو فوق عادتها، أخرّت الغسل إلى آخر وقت(1/217)
الصلاة فإذا خافت فوت الصلاة اغتسلت وصلّت، وإنما أخرت الاغتسال والصلاة احتياطاً لاحتمال أن يعاودها الدم في العشرة، وليس في هذا التأخير تفويت، شيء، وإنما تؤخر الاغتسال والصلاة إلى آخر الوقت المستحب دون الوقت المكروه، فإذا اغتسلت حكم بطهارتها في حق جميع الأحكام التي ذكرنا حتى حلّ قربانها، وكذلك لو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة.
ولو كانت مسافرة فتيمّمت، أو كانت في الحضر وتيممت لمكان المرض إن صلّت أو مضى عليها أدنى وقت الصلاة فكذلك، وإن لم تصل ولم يمض عليها أدنى وقت الصلاة لا يحل للزوج قربانها، ولا يحل لها التزوج بزوج آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما. وإن كانت معتادة وانقطع الدم فيما دون العادة ولكن بعدما مضى ثلاثة أيام واغتسلت أو مضى عليها الوقت كره للزوج قربانها، وكره لها التزوج بزوج آخر حتى تأتي عادتها وتغتسل وتصوم وتصلي في هذه الأيام، ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع الدم دون عادتها أخرت الاغتسال إلى آخر الوقت أيضاً.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: تأخر الاغتسال في هذه الصورة على طريق الاستحباب دون الإيجاب، وفيما إذا انقطع الدم فيما دون عادتها وباقي المسألة بحالها فتأخر الاغتسال بطريق الإيجاب. ولو كان حيضها عشرة أيام فحاضت ثلاثة أيام وطهرت ستة لا يحل للزوج قربانها عند أبي يوسف رحمه الله لأن احتمال بأن يصير الكل حيضاً قائم بأن رأت الدم في اليوم العاشر أو تمام اليوم العاشر ساعة وعلى هذا القياس تخرج جنس هذه المسائل والله أعلم.
(فرع)
إذا عاودها في العشرة بطل الحكم بطهارتها مبتدأة كانت أو معتادة وكأنها لم تطهر أصلاً عند أبي يوسف رحمه الله، لأن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر لا يكون فاصلاً عنده ويكون كالدم المتوالي، وهذا الذي ذكرنا إذا عاودها الدم في العشرة ولم يزد على العشرة وطهرت بعد ذلك طهراً صحيحاً خمسة عشر يوماً، ويكون جميع ذلك حيضاً.
أما إذا زاد على العشرة أو لم يزد لكن انتقص الطهر بعد ذلك عن خمسة عشر، ففي المبتدأة العشرة حيض، وفي المعتادة أيامها (33أ1) المعتادة حيض لأنه صار كالدم المتوالي، وفي الدم المتوالي الجواب على نحو ما ذكرنا.
وإن انقطع الدم بعدما رأت يومين وهي مبتدأة أو معتادة أخرت الصلاة إلى آخر الوقت، فإذا خافت الفوت توضأت وصلّت، وليس عليها مراعاة الترتيب صلّت في أول الوقت أو في آخر الوقت، وإن انقطع الدم بعدما رأت يوماً أو أقل وتوضأت؛ فإن أرادت أن تصلي في أول الوقت فعليها مراعاة الترتيب بقضاء الفوائت أولاً.
وإن كانت معتادة وعادتها في أيام حيضها أنها ترى يوماً دماً ويوماً طهراً هكذا إلى العشرة، فإن رأت الدم في اليوم الأول تترك الصوم والصلاة، وإن طهرت في اليوم الثاني تتوضأ وتصلي، فإن رأت الدم في اليوم الثالث فإنها تترك الصلاة والصوم لأنه تبين أنه حيض فإذا طهرت في اليوم الرابع تغتسل وتصلي هكذا تفعل إلى العشرة والله أعلم.(1/218)
(نوع آخر) من هذا الفصل
مراهقة رأت الدم تركت الصلاة كما رأته وهو اختيار الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير والفقيه محمد بن إبراهيم الميداني والفقيه محمد بن سلمة البلخي رحمهم الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول أنها لا تترك الصلاة ما لم يستمر بها الدم ثلاثة أيام، وبه كان يقول بشر بن غياث المريسي وجه هذا القول: أنها على يقين بالطهارة وفي شك من الحيض لجواز أن ينقطع الدم فيما دون الثلاث، ولا يُزال اليقين بالشك فلا تترك الصلاة والصوم برؤيتها الدم، فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فصاعداً إلى عشرة تبين أنها كانت حيضاً فلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلوات. وجه القول: أن الله تعالى وصف الحيض بكونه أذىً قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (البقرة 222) وقد رأته المرأة في وقته فتعلق به حكمه.
وإنما يخرج المرئي من أن يكون حيضاً بالانقطاع فيما دون الثلاث، وفي ذلك شك، فإن انقطع دمها على رأس العشرة، فالعشرة كلها حيض، وإن جاوز العشرة، فالعشرة من أول ما رأت حيض، وباقي الشهر يكون طهراً، لما ذكرنا أن الحيض لا يزيد على العشرة والشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة، فإذا جعلت العشرة من أول ما رأت حيضاً كان باقي الشهر طهراً ضرورة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تأخذ بالاحتياط فتغتسل بعد ثلاثة أيام ثم تصوم وتصلي سبعة أيام بالشك ولا يقربها زوجها ثم تغتسل هي بعد تمام العشرة وتقضي صيام الأيام السبعة لكن الاحتياط في باب العبادة واجب، ومن الجائز أن حيضها كان أقل الحيض فيحتاط لهذا، ولكن هذا ضعيف لأنا عرفنا هذه المرأة حائضاً، ودليل كونها حائضاً ظاهر هو سيلان الدم فلا معنى للاحتياط، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقدر حيضها بحيض نساء عشيرتها وهو ضعيف لأنها تختلف باختلاف الطبائع والأغذية.
(فرع)
في دائرة هذا الفصل الأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة آخراً أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوماً لا يفصل بين الدمين ويجعل الكل كالدم المتوالي. وإذا كان خمسة عشر أو أكثر يعتبر فاصلاً ثم ينظر إلى الدمين إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضاً يجعل ذلك حيضاً.
ومن أصله أيضاً إذا أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضاً يجعل كل واحد منهما حيضاً. ومن أصله أنه يبتدأ الحيض بالطهر ويختمها بالطهر وإن كان قبل البداية وبعد الختم دم. وجه قوله في ذلك: بأن طهر ما دون خمسة عشر يوماً طهرٌ فاسدٌ فلا يتعلق به حكم الطهر الصحيح ولا يفصل بين الدمين، فمن حكم الطهر الصحيح، بيان قوله في أن طهر ما دون خمسة عشر لا يفصل بين الدمين في المبتدأة، أما إذا رأت يوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً فالعشرة من أول ما رأت حيض بحكم بلوغها به، وكذلك إذا رأت يوماً دماً وتسعة طهراً أو يوماً دماً وتسعة طهراً أو يومين دماً في المعتادة فمعروفها حيض وما زاد على ذلك استحاضة.(1/219)
وبيان قوله في ابتداء الحيض بالطهر وفي ختمه بالطهر يشرط بأن يكون قبل البداية وبعد الختم دم في المرأة إذا كانت عادتها في الحيض في كل شهر خمسة، فرأت قبل أيامها يوماً دماً ثم طهرت خمستها ثم رأت يوماً دماً، فعنده خمسها حيض لإحاطة الدمين بها، ويقع الختم والابتداء ههنا بالطهر، وفي المبتدأة لا يتصور الابتداء إلا بالدم، وكذلك لو رأت قبل خمستها يوماً دماً ثم طهرت أول يوم من خمستها ثم رأت ثلاثة دماً ثم طهرت آخر يوم من خمستها ثم استمر بها الدم فحيضها خمستها عنده وإن كان ابتداء الخمسة وختمها بالطهر لوجود الدم قبلها وبعدها.
وبعض مشايخنا أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله، وبه كان يفتي القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله وكان يقول: قول أبي يوسف أيسر وأسهل على النساء وعلى المفتي، ولا حرج في ديننا فكان الأخذ بقوله أولى، وعليه استقر رأي الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله وبه يفتي، والأصل عند محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعليه فتوى كثير من المشايخ أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً بين الدمين ويجعل ذلك كله كالدم المتوالي.
وإن كان ثلاثة أيام فصاعداً إن كان الطهر مثل الدمين أو أقل من الدمين لا يعتبر فاصلاً أيضاً، ويجعل ذلك كله بمنزلة الدم المتوالي لأن الثلاثة من الدم نصاب شرعي، ألا ترى أنه يصلح لنصب العادة والثلاثة من الطهر نصاب ضروري، ألا ترى أنه لا يصلح لنصب العادة، فكان اعتبار النصاب الشرعي عند الاستواء أولى من اعتبار النصاب الضروري ولأن المرأة لا تخلو في زمان الحيض عن طهر قليل غالباً، فلو اعتبر هو فاصلاً لا يتصور وجود الحيض أصلاًأما (لا) تخلو هي في زمان الحيض عن طهر كثير غالباً. فلو اعتبر هو فاصلاً يتصور معه وجود الحيض فأصبح ثلاثاً الحد الفاصل بين القليل والكثير فقدر الكثير بثلاثة أيام لأن الكثيرة ثبت بالجمع، وأقل الجمع المتيقن عليه ثلاثة إلا إذا كان أقل من الدمين لا يعتبر فاصلاً، وإن كان الطهر ثلاثة فصاعداً لأن الطهر مغلوب، والمغلوب ساقط الاعتبار شرعاً بمقابلة الغالب ولأن من عادة النساء غلبة دمهن على الطهر في زمان الحيض، فلو اعتبر الطهر فاصلاً حال غلبة الدم لا يتصور وجود الحيض أصلاً، وكذلك إذا كان الطهر مثل الدمين لا يعتبر هو فاصلاً أيضاً لأن الدم يتناول الطهر في العدد فيجعل الدم راجحاً لكونه مرئياً في وقته، وكون الطهر مرئياً في غير وقته والوقت وقت الحيض لا وقت الطهر ولأن الدم يحرم عليها أداء الصلاة والطهر يبيح لها أداء الصلاة والمبيح مع المحرم إذا اجتمعا كانت العبرة للمحرم فصار الدم في حكم الغالب، فسقط اعتبار الطهر بمقابلته فلم يصح الفصل بين الدمين.
وأما الطهر إذا كان أكثر من الدمين فيصير فاصلاً لأن الطهر غالب على الدم، والعبرة للغالب، وليس من عادة النساء غلبة الطهر على الدم في زمان الحيض فلو اعتبر الطهر فاصلاً والحالة هذه لا يؤدي إلى أن لا يتصور الحيض فجعل حاصلاً، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين بانفراده حيضاً يجعل ذلك حيضاً وهذا ظاهر، وإن أمكن(1/220)
اعتبارهما حيضاً يجعل المتقدم حيضاً لأنهما استويا في إمكان الاعتبار ويترجح السابق منهما بقوة السبق.
وإذا اعتبر المتقدم حيضاً لا يعتبر المتأخر حيضاً معه لأنه لا بد من وجود طهر تام بين الحيضتين وأقله خمسة عشر يوماً ولم يوجد.
(نوع آخر) من الجنس
اختلف المشايخ فيه على قول محمد رحمه الله أنه إذا اجتمع طهران معتبران يفتى به أن كل واحد منهما يصلح للفصل بين الدمين، وصار أحدهما لإحاطة لدمين بطرفيه واستوائه، فالطهر كالدم المتوالي هل يتعدى حكمه إلى الطهر الآخر؟ قال أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق: بأنه يتعدى. وقال الفقيه أبو سهل الغزالي: لا يتعدى.
صورة المسألة: مبتدأة رأت يومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالسنة الأولى حيض بلا خلاف لاستواء الدم والطهر فيها، والأربعة بعدها حيض عند أبي زيد الكبير (33ب1) لأن الأولى صارت كالدم المتوالي فصار كأنها رأت ستة دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً، وعند أبي سهل: حيضها الستة الأولى، فأما الأربعة بعدها لا تكون حيضاً.
وجه قول أبي زيد وأبي علي الدقاق: وهو أن الطهر الأول صار مغلوباً بالدم لما عرف، والمغلوب في حكم المعدوم فصار من حيث الحكم كأنه لم يوجد ورأت كل الستة حيضاً ولو رأت كذلك وباقي المسألة بحالها كانت العشرة حيضاً بالإجماع، وكذا هذا.
وجه قول أبي سهيل وهو أن طهر ثلاثة أيام سقط اعتباره لإحاطة الدم بطرفيه واستوائه بالدم، فيعتبر هو حيضاً في حق نفسه، ولا يصير هو حيضاً في حق غيره لأن ما صار حيضاً تبعاً لغيره لا يصير غيره حيضاً تبعاً له.
قال مشايخنا رحمهم الله؛ والأول هو الأصح لأنهم أجمعوا أن المرأة إذا رأت يوماً دماً ويومين طهراً أو يوماً دماً وخمسة طهراً ويوماً دماً كانت العشرة حيضاً، ولم يقل أحد إن طهر يومين لما صيّر حيضاً تبعاً لغيره لا يصير غيره حيضاً تبعاً له، وكذلك لو رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالستة الأولى حيض بالإجماع، وفي الأربعة الأخيرة خلاف.
فإن رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق يجر يومان من أول الاستمرار إلى ما سبق، فتكون العشرة كلها حيضاً عند محمد رحمه الله، وعلى قول أبي سهيل حيضها عشرة بعد اليوم والثلاثة الأولى، فيكون ستة من أول الاستمرار حيضاً عنده.
ولو رأت يومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ثم استمر بها الدم، فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق حيضها عشرة من أول ما رأت فيكون أول يوم من الاستمرار من جملة حيضها تتم به العشرة لأن الستة الأولى صارت كدم الاستمرار(1/221)
لاستواء الدم والطهر فيها فيتعدى حكمها إلى الطهر الآخر، وعند أبي سهيل: حيضها ستة من أول ما رأت ولا يكون شيء من أول الاستمرار حيضاً لها فتصلي إلى موضع حيضها الثاني لأنه لا يتعدى عنده حكم الستة إلى الطهر الآخر إن صارت هي كالدم المتوالي.
في الأوقات الساعات وآخر النهار.
(نوع آخر)
هذا النوع لا يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله، وإنما يتأتى على قول محمد رحمه الله فنقول: يجب أن يعلم بأن الوقت الواحد لا يتكرر وجوده في يوم واحد: كطلوع الفجر وطلوع الشمس، فإذا كان ابتداء الوقت من عند طلوع الشمس فتمام اليوم والليلة يكون قبيل طلوع الشمس من الغد لأن قبل اسم الوقت يتصل به الوقت المذكور بخلاف قبيل. وبيانه فيمن قال لامرأته وقت الضحوة: أنت طالق قبل غروب الشمس طلقت قبل غروب الشمس، طلقت في الحال. ولو قال: قبيل غروب الشمس لا تطلق حتى تغرب الشمس. فإذا عرفت هذا وسئلت عن امرأة رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع دمها ثم رأت الدم قبل طلوع الشمس من اليوم الرابع فقل: ان الثلاثة كلها حيض لأن الكل ثلاثة أيام، وقد رأت الدم فيها في جزأين فنقص الطهر عن ثلاثة أيام فلم يفصل وجعل الكل كالدم المتوالي.
وكذلك لو رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام غير ساعة فيجعل كالدم المتوالي. وإن رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأنه ختم المدة بقبيل طلوع الشمس من اليوم الرابع، فإذا ضمت إلى ذلك وقت الطلوع وبعد الطلوع صار ثلاثة أيام وساعتين، والدم وجد في ساعتين فيبقى الطهر المتخلل ثلاثة أيام فصار فاصلاً، فلهذا لم يجعل شيء من ذلك حيضاً.
فإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من اليوم الرابع عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من الغد من اليوم السابع بعد طلوع الشمس فالكل حيض لأن الطهر الأول لما قصر عن الثلاث صار كالدم المتوالي فصار الدم غالباً حكماً. وإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت في اليوم الرابع قبل طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت الدم في اليوم السابع بعد طلوع الشمس ثم رأت الدم في العاشر بعد طلوع الشمس. فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق: الكل حيض على قول محمد رحمه الله لأن الطهر الأول لقصوره عن الثلاث فصاركالدم المتوالي، وصار الطهر الباقي مغلوباً به فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث.
وعلى قول أبي سهل: الأحوال الستة الأولى حيض وما بعدها ليس بحيض لأن الطهر الثاني ثلاثة أيام، وهو وإن صار مغلوباً بالدم إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث على ما مرّ قبل هذا.
جئنا إلى بيان الساعة فنقول: الساعة اسم الوقت ممتد على ما يقوله المنجمون فيحتمل اليوم والليلة عندهم على أربعة وعشرين ساعة، فتارة ينتقص الليل حتى يكون تسع(1/222)
ساعات ويزداد النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة، وتارة ينتقص النهار حتى يكون تسع ساعات ويزداد الليل حتى يكون خمس عشرة ساعة. وهذا أمر حقيقي إلا أنها إذا أطلقت يراد بها في عرف لسان الفقهاء جزءاً من النهار.
فإذا عرفت هذا وسئلت عن مبتدأة رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعتين طهراً وساعة دماً (فقل) إن الكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام فكان الطهر دون الثلاث فصار كالدم المتوالي.
وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ثلاث ساعات طهراً وساعة دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأن الكل دون ثلاثة أيام إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقيم الأكثر من اليوم الثالث في رؤية الدم مقام كله، إن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعة طهراً وساعة دماً فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام وساعة وقد رأت الدم في ساعتين فيقصر الطهر عن ثلاثة أيام فكان كالدم المتوالي.
وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً عند محمد رحمه الله لأن الطهر ثلاثة أيام.
تفصيل: وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعة طهراً وساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً، فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق رحمهما الله: الكل حيض لأن الطهر الأول لقصوره عن الثالث صار كالدم المتوالي فصار الطهر الثاني مغلوباً بالدم فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث وعلى قول أبي سهل: حيضها ستة أيام وساعة من أول ما رأت لأن الطهر الثاني كامل، وهو وإن صار مغلوباً إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث وأما آخر النهار فيحسب ما تذكر من ربع أو وثلث أو غيره.
فإذا سئلت عن مبتدأة رأت ربع يوم دماً ثم يومين وثلث يوم طهراً ثم ربع يوم دماً فقل: لا يكون شيء منه حيضاً لأن الكل دون الثلاث فيقدر بسدس يوم وإن رأت ربع يوم دماً ثم يومين ونصف يوم طهراً ثم ربع يوم دماً فالكل حيض، لأن الكل ثلاثة أيام والطهر فيه قاصر، وإن رأت ربع يوم دماً وثلاثة أيام طهراً وربع يوم دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأن الطهر ثلاثة أيام، فيصير فاصلاً عند محمد رحمه الله.H
وهذا النوع من المسائل لا يقع غالباً ولكن وضعت لتشحذ الخاطر.
(فرع)
هو قريب مما تقدم من المسائل مبتدأة رأت يوماً دماً ويوماً طهراً واستمر كذلك أشهر، فعلى قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة أخراً الجواب في جنس هذه المسائل واضح، فإنه يرى بداية الحيض بالطهر وختمه بالطهر فيكون العشرة في أول ما رأت حيضَها، وطهرُها عشرون وذلك دأبها في كل شهر وعليه الفتوى. وأما على قول محمد رحمه الله: حيضها من أول ما رأت تسعة وطهرها أحد وعشرون لأن اليوم العاشر طهر كله، وهو لا يرى ختم الحيض بالطهر.
ويحتاج على قول محمد إلى معرفة ختم العشرة وإلى معرفة ختم الشهر ليتبين به حكم بداية الحيض في الشهر الثاني، ولذلك طريقان. أحدهما: (34أ1) أن الأوتار من(1/223)
أيامها دم والشفوع طهر، واليوم العاشر من الشفوع فعلم أنه كان طهراً واستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان في الشهر الأول والثاني، وهو طريق الحساب وعليه تخرج هذه المسائل فنقول في معرفة ختم العشرة اعدد دماً وطهراً، وذلك اثنان ونضربه فيما يوافق العشرة وذلك خمسة، واثنان في خمسة فكان آخره طهراً، وفي معرفة ختم الشهر نأخذ دماً وطهراً ونضربه فيما يوافق الشهر، وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين، فيكون آخره طهراً وكذلك في الشهر الثاني حيضها عند محمد رحمه الله تسعة من أول ما رأت وطهرها أحد وعشرون، فإن رأت يومين دماً ويوماً طهراً واستمر كذلك فالعشرة من أولها حيض عند محمد أيضاً لأن ختم العشرة بالدم.
وإذا أردت معرفة في حق العشرة فخذ دماً وطهراً وذلك ثلاثة واضربها فيما يقارب العشرة وذلك ثلاثة لأنك لا تجد ما يوافقها وثلاثة في ثلاثة يكون تسعة فآخر المضروب طهر ثم بعده يوم دم فيكون ختم العشرة بالدم.
وإن أردت معرفة ختم الشهر فخذ دماً (و) طهراً وذلك ثلاثة واضربه فيما يقارب الشهر وذلك عشرة فيكون ثلاثون وآخر المضروب طهر، أو استقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان لها في الشهر الأول، ويكون دورها في كل شهر عشرة حيضها وعشرون طهراً.
وكذلك إن رأت يوماً دماً ويومين طهراً فهو على هذا التخريج وإن رأت يومين دماً ويومين طهراً واستمر كذلك فحيضها عشرة من أول ما رأت عند محمد رحمه الله لأن ختم العشرة بالدم.
وطريق معرفته: أن نأخذ دماً وطهراً وذلك أربعة، ونضربه فيما يقارب العشرة، وذلك اثنان فيكون ثمانية، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام العشرة، فعلم أن ختم العشرة بالدم فكانت العشرة من أول ما رأت حيضاً.
وإن أردت أن تعرف ختم الشهر فخذ دماً وطهراً وذلك أربعة واضربها فيما يقارب الشهر وذلك سبعة فيكون ثمانية وعشرين، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام الشهر، واستقبلها في الشهر الثاني يومان طهراً وبداية الحيض بالطهر لا يكون عند محمد رحمه الله فتصلي في هذين اليومين ثم بعدها يومان دم ويومان طهراً ويومان دم. فهذه السبعة تكون حيضاً لها في الشهر الثاني لأن ختم العشرة في الشهر الثاني بيومين طهر وهو ما يختتم الحيض بالطهر ثم ينظر إن ختم الشهر الثاني فماذا يكون فتأخذ دماً وطهراً وذلك أربعة، ونضربه فيما يوافق الشهرين وذلك خمسة عشرة فيكون ستين وآخر المضروب طهر فتصلي إلى هذا الموضع، واستقبلها في الشهر الثالث يومان دم فكان دورها في كل شهرين في الشهر الأول عشرة حيض واثنان وعشرون طهر وفي الشهر الثاني ستة حيض بعد يومين فصار اثنان وعشرون طهر، وعلى قياس ما قلنا نخرج ما يسأل عن هذا الجنس من المسائل.
(نوع آخر)
في نصيب عادة المبتدأة.
يجب أن يعلم بأن المبتدأة على وجهين: أما إن ابتدأت وبلغت بالحيض إذا ابتدأت(1/224)
فبلغت بالحبل فنبدأ بما إذا بلغت بالحيض وإنه على وجوه.
أما إن رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً ثم ابتليت بالاستمرار، وفي (هذا) الوجه يعتبر المرئي عادة لها في زمان الاستمرار لأنه لو لم يعتبر ذلك عادة لها ودت هي إلى العشرة والعشرين ولم تر هي ذلك قط فكان ردها إلى ما كانت رأته مرة أولى، بخلاف صاحبة العادة إذا رأت بخلاف عادتها مرة ثم استمر بها الدم لا تنتقل عادتها إلى المخالف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن هناك لو لم يعتبر المخالف عادة لها ردت هي إلى أول العادة الأصلية، وذكر مزية مؤكدة بالتكرار أما ههنا بخلافه، توضيحه أن الحاجة في حق صاحبة العادة إلى فسخ العادة الأولى ونصب العادة الثانية، والشيء إنما ينفسخ بما هو مثله أو فوقه لا ما هو دونه، والثانية ردت الأولى لأن الأولى تأكدت بالتكرار والثانية لم تتأكد أما في حق المبتدأة الحاجة إلى نصب العادة، فلو لم يجعل المرئي مرة واحدة عادة لها يحتاج إلى ردها إلى غير المرئي، ولا شك أن اعتبار المرئي أولى من اعتبار غير المرئي.
ثم تفسير الدم الصحيح أن لا ينتقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على عشرة أيام، ولا يصير مغلوباً بالطهر.
وتفسير الطهر الصحيح أن لا يكون أقل من خمسة عشر، ولا يصل المرأة فيه شيء من الدم من أوله أو أوسطه أو آخره، وأن يكون بين الحيضتين.
فإذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً مرة واحدة على التفسير الذي قلنا، ثم ابتليت بالاستمرار تجمل أيام حيضها في زمان الاستمرار (ما رأت) من الدم قبل الاستمرار، وأيام طهرها ما رأت من الطهر قبل الاستمرار.
بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة دماً وعشرين يوماً طهراً ثم استمر بها الدم أشهراً فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة وتصلي عشرين، وذلك دأبها في جميع زمان الاستمرار.
الوجه الثاني: إذا رأت دماً فاسداً ثم ابتليت بالاستمرار، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أربعة عشر يوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً واستمر بها الدم، فههنا الدم والطهر كلاهما فاسدان، الدم للزيادة على العشرة والطهر للنقصان عن خمسة عشر، فيجعل كأنها ابتليت بالاستمرار من الابتداء، فيجعل حيضها عشرة من أول ما رأت: أربعة عشر يوماً دماً وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه ثمانية عشر إلى زمان الاستمرار فيجعل من أول الاستمرار يومين من طهرها فتصلي في هذين اليومين، ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين وذلك دأبها.
وكذلك إذا كان الدم خمسة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت خمسة عشر دماً وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها. ومعناه بتسعة عشر فيجعل من أول الاستمرار يوماً من طهرها فتصلي فيه ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين.
وكذلك إذا كان الدم ستة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت الدم ستة عشر وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه عشرين فأول الاستمرار في(1/225)
هذه الصورة يوافق ابتداء حيضها، فتدع الصلاة عشرة أيام من أول الاستمرار وتصلي عشرين وذلك دأبها، ثم تسوق المسألة هكذا إلى أن اتفق الدم ثلاثة وعشرون والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فإن العشرة من أول ما رأت حيض، وما بعد ذلك ابتداء طهرها سبعة أيام، فمن الأربعة العشر التي هي طهرها تسعة أيام تمام طهرها وسبعة من موضع حيضها الثاني ولم تر فيه شيئاً جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها الثاني ثلاثة أيام والثلاثة حيض كامل، فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها.
وإن (رأت) الدم أربعة وعشرون والمسألة بحالها يعني: والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فستة من طهر أربعة عشر بقية طهرها.
بقي ثمانية أيام من موضع حيضها الثاني ولم تر فيها دماً ثم جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها يومان فلا يكون حيضاً، فهذه امرأة لم تر مرة فيصار إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يوماً من أول الاستمرار ثم تدع الصلاة عشرة وتصلي عشرين، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول بالإبدال على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وأبو يوسف رحمه الله يقول بنقل العادة لعدم الرؤية، حتى إن على قوله من هذه الصورة أن المرأة تستأنف الحساب من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي عشرين فتنتقل عادتها من حيث المكان والعدد على حاله وهذا دأب لكل امرأة لم تر (دماً) في موضع حيضها مرة ثم استمر بها الدم إنها تسأنف الحساب من أول الاستمرار، فيجعل حيضها من أول الاستمرار فينتقل المكان والعدد على حاله.
الوجه الثالث: إذا رأت دماً فاسداً وطهراً صحيحاً من حيث الظاهر، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أحد عشر يوماً دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، فالدم ههنا فاسد لكونه زائداً على العشرة، والطهر الصحيح طاهر لأنه يستكمل خمسة عشر يوماً إلا أنه فسد معنىً بفساد الحيض لأنها صلت في أول يوم منه (34ب1) بالدم، فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يكون حيضها عشرة من أول ما رأت وطهرها عشرون، كما لو بلغت واستمر بها الدم تيقناً من طهرها ستة عشر اليوم الحادي عشر من الدم، خمسة عشر بعد ذلك لم تر فيها الدم، جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أربعة فتصلي أربعة من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين، وعلى قول أبي علي الدقاق حيضها عشرة وطهرها ستة عشر وقد مضت ستة عشر يوماً فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
فوجه أبي علي الدقاق: أن فساد الدم في اليوم الحادي عشر لم يؤثر في الدم حتى جعلت العشرة عادة لها في الحيض في زمان الاستمرار فكذا لا يؤثر في الطهر لأن المفسد واحد، فإذا لم يؤثر في جنسه لا يؤثر في خلاف جنسه من طريق الأولى. وجه قول محمد بن إبراهيم أن اليوم الحادي عشر من الطهر لا من الحيض، ورؤية الدم العاشر مؤثر في الطهر.(1/226)
الوجه الرابع: إذا رأت دماً صحيحاً وطهراً فاسداً واستمر بها الدم. بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة أيام دماً وأربعة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، فحيضها خمسة وطهرها بقية الشهر خمسة وعشرون. جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أحد عشر يوماً فتصلي أحد عشر يوماً من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي خمسة وعشرون وذلك دأبها.
الوجه الخامس: إذا رأت دماً وطهراً كل واحد منهما صحيح من حيث الظاهر ولكنها يفسدان بطريق الضرورة فلا يصح لنصب العادة.
وبيان ذلك: مبتدأة رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم يوماً دماً ثم يومين طهراً واستمر بها الدم فههنا وجد دم صحيح في الظاهر وهي ثلاثة أيام وطهر صحيح في الظاهر وهو خمسة عشر يوماً، ولكنها لما رأت يوماً دماً بعدها ويومين طهر لا يمكن اعتبار هذه الثلاثة حيض لأن ختمها بالطهر. ومحمد رحمه الله لا يرى ذلك ولا وجه فيه إلى الإبدال لأنه لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يوماً.
ولا يجوز الإبدال في المسألة على ما يأتي بيانه بعد هذا فتصلي في هذه الأيام ضرورة فيفسد به ذلك الطهر لأنها صلت فيه بالدم، ويخرج من أن يكون صالحاً لنصب العادة، فيكون حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهر تسعة وعشرون، وقد مضى منه ثمانية عشر يوماً، فتصلي من أول الاستمرار تسعة أيام ثم تدع الصلاة ثلاثة وتصلي سبعة وعشرين، وهذا الذي ذكرنا قول محمد رحمه الله. فأما على قول أبي يوسف رحمه الله لما رأت بعد طهر خمسة عشر يوماً دماً ويومين طهراً، واستمر بها الدم أمكن اعتبار هذه الثلاثة حيضاً لأنه يرى ختم الحيض بالطهر إذا كان بعده دم، فجعلنا تلك الثلاثة حيضاً فلم يفسد بالطهر بل يبقى صحيحاً، فيجعل الطهر عادتها في الدم. فالطهر ما رأت، وقد وافق ابتداء الطهر ابتداء الاستمرار، فتصلي من أول الاستمرار خمسة عشر وتدع الصلاة ثلاثة وذلك دأبها.
ولو رأت في الابتداء أربعة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم يوماً دماً ويومين طهراً ثم استمر بها الدم، وههنا الطهر صحيح صالح لنصب العادة لأن بعده دم يوم وطهر يومين ويوم من أول الاستمرار تمام الأربعة، فابتداء الحيض الثاني وختمه بالدم. فيمكن أن يجعل ذلك حيضاً، فبقي الطهر على الصحة فيصلح لنصب العادة فتدع الصلاة من أول الاستمرار يوماً ثم تصلي خمسة عشر ثم تدع الصلاة أربعة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها في زمان الاستمرار. وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
فإن رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر ثم استمر بها الدم يوماً، ثم الطهر ثلاثة ثم الدم يوماً، ثم الطهر ثلاثة، ثم استمر بها الدم، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: هذا بمنزلة ما لو رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر، ثم استمر بها الدم فيجعل حيضها من أول الاستمرار عشرة وطهرها خمسة عشر. فأما على قول محمد رحمه الله فقد اختلف أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق وأبو سهل الغزالي رحمهم الله.(1/227)
قال أبو زيد وأبو علي يجر من أول الاستمرار يومان ويصير إلى ما رأت بعد الخمسة عشر فتصير العشرة بعد الخمسة عشر حيضاً فيصلح البناء عليه فتدع الصلاة من أول الاستمرار يومين ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وذلك دأبها، وعلى قول أبي سهيل تقعد من أول الاستمرار سبعة ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها.
فإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً ويوماً دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دماً صحيحاً وطهراً فاسداً لأن الدم المتخلل بين الطهرين لا يصلح حيضاً لأنه قصر عن ثلاثة أيام فيفسد الطهر لأنه صار مستوياً بدم أمرت بالصلاة فيه فيكون أيام حيضها ما رأت ابتداء وذلك ثلاثة وأيام طهرها بقية الشهر سبعة وعشرون فنقول: موضع حيضها الثاني من ثلاثين إلى ثلاثة وثلاثين، ومن ابتداء ما رأت إلى يوم الاستمرار أربعة وثلاثين فقد مضى أيام حيضها الثاني بكماله ولو لم تر فيها شيئاً، فتنتقل عادتها من حيث المكان، والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله فتستأنف الحساب من أول الاستمرار فتقعد ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها في زمان الاستمرار.
وإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً، ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً، لأن الطهر الثاني لما كان أقل من خمسة عشر لم يعتبر، وصار كأنها رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم فيجعل ذلك عادة لها في زمان الاستمرار. ويجعل بعد طهر خمسة عشر ثلاثة أيام من حيضها، وخمسة عشر من طهرها ومن بعد طهر خمسة عشر إلى يوم الاستمرار خمسة عشر، فجاء الاستمرار وقد بقي من طهرها الثاني ثلاثة: فتصلي من أول الاستمرار ثلاثة أيام بقية طهرها الثاني وتقعد عشرة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، بخلاف ما إذا رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، فإن هناك جعلنا حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهرين سبعة وعشرون؛ لأن هناك الطهر الثاني لم يصر كالدم المتوالي لأنه بلغ خمسة عشر وصار فاصلاً بين الدم يوم وبين دم الاستمرار، ودم يوم لا يمكن أن يجعل حيضاً فتصلي فيه، فيفسد الطهر الأول لمكان هذا اليوم لأنه شابه دم أمرت بالصلاة فيه.
أما أن يصير الطهر الثاني كالدم المتوالي فلا. أما ههنا: الطهر الثاني قصر عن خمسة عشر فصار كالدم المتوالي فلهذا افترقا. والله أعلم.
هذا إذا رأت دماً وطهراً، فأما إذا رأت دماً صحيحاً وأطهاراً ثم استمر بها الدم فإنه على وجوه:
الأول: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين.
نحو أن ترى ثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً وثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم. وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر لأن ما رأت صارت عادة قديمة لها بالتكرار، ولو كانت رأته مرّة واحدة تعتبر عادة لها في زمان الاستمرار، وأراد به مرتين أولى.(1/228)
الوجه الثاني: إذا رأت يومين دمين مختلفين وطهرين مختلفين، فإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً وأربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم فلا رواية في هذا الفصل. وقد اختلف المشايخ فيه، وقال الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى. وتفسير ذلك أنها لما رأت أربعة دماً فثلاثة من ذلك مدة حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها إلا أنها تترك الصلاة فيه لرؤية الدم، فلما طهرت ستة عشر فأربعة عشر منها تمام طهرها ويومان مدة حيضها، فلا تترك الصلاة فيه لأن ابتداء الحيض بالطهر لا يكون، فجاء الاستمرار وقد بقي من مدة حيضها يوم، واليوم الواحد لا يكون حيضاً فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر أبداً.
وجه قوله: أن المرة الواحدة في حق المبتدأة لنصب العادة كالمرتين في المعتادة، فصار ما رأته أول مرة عادة لها، وصاحبة العادة تبني عند الاستمرار ما لم يُوجد ما ينقصها، كما إذا كانت رأت ذلك مرتين ولم يوجد ما ينقصها لأنها لم تر ما يخالف عادتها مرتين، وقال الفقيه أبو عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله: لا تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى ولكن تستأنف الحساب وتبني في زمان الاستمرار على أول المرئي.
ووجه قوله: أن ما رأته أول مرة لم يصر عادة لها لأن العادة مشتقة من العود، ولا عود في حق المرئي أولاً لترد إليه فلا ترد إليه بخلاف ما إذا رأت الأول مرتين، والثاني مرة واحدة، ثم جاء الاستمرار حيث تبني الثاني على الأول لأن هناك ما رأته أول مرة صار عادة لها بالتكرار فجاز أن تبني الثاني على الأول، أما ههنا بخلافه ولكن تستأنف الحساب من أول الاستمرار وتبني على أول المرتين لوجود الأقل في الأكثر فتقعد في أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وهذا الاختلاف إنما يتأتي على قول محمد رحمه الله.
أما على قول أبي يوسف رحمه الله تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخر مرة لأن عنده العادة تنتقل برؤية المخالف، مرة فأكثر ما فيه أن ما رأته أول مرة صار عادة لها إلا أنها انتقلت إلى ما رأته الأمر فتبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخراً.
الوجه الثالث: أن ترى ثلاثة دماء مختلفة وثلاثة أطهار مختلفة كلها صحاح بأن رأت الدم ثلاثة والطهر خمسة عشر ثم رأت الدم أربعة والطهر ستة عشر، ثم رأت الدم خمسة والطهر سبعة عشر، وفي هذا الوجه لا تبني البعض على البعض بلا خلاف، فرّق الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني على قول محمد رحمه الله بين هذا الوجه وبين الوجه الثاني من حيث إن ههنا رأت خلاف ما رأته أولاً مرتين والعادة تنتقل برؤية المخالف مرتين بخلاف الوجه الثاني لأن هناك رأت المخالف مرة واحدة.
ثم إذا لم تبني البعض على البعض في هذا الوجه. ماذا تصنع قال الفقيه محمد بن إبراهيم رحمه الله: تبني أمرها هي على أوسط الأعداد، وهو قول أبي نصر أحمد بن سهل(1/229)
وأبي عثمان سعد بن معاذ المروزي وأبي بكر الأعمش رحمهم الله، وعلى قول أبي عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله أمرُها على أول المرتين الآخرتين، وهو قول أبي يعقوب الغزالي وأبي سهل الغزالي وأبيه أبي نصر رحمهم الله.
وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصورة التي ذكرها، فإن أوسط الأعداد في هذه الصورة أربعة وستة عشر. وأقل المرتين الآخرتين أيضاً أربعة وستة عشر، وإنما تظهر ثمرة الخلاف عند قلب هذه الصورة بأن كانت رأت خمسة دماً وتسعة عشر يوماً طهراً ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، فعلى قول من يقول بأوسط الأعداد تقعد من ابتداء الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها، وعلى قول من يقول بأقل المرتين الآخرتين تقعد من ابتداء الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر.
وجه قول من قال بأوسط الأعداد: أن الوسط هو العدل لأن له حظاً من الجانبين وتأكد ذلك بالأثر قال عليه السلام: «خير الأمور أوساطها» فكان اعتباره أولى، وجه قول من قال بأقل المرتين الآخرتين تأكد التكرار لوجود الأقل من الأكثر، فكان اعتباره عادة لها من زمان الاستمرار أولى، والفتوى على هذا لأنه أيسر على النساء، وعلى المفتين، فإن على قول من يقول بأقل المرتين الآخرتين يحتاج إلى حفظ عددين ولا شك أن حفظ عددين أيسر من حفظ ثلاثة أعداد، ويجب أن يكون مبنى الحيض على السعة واليسر لأنه يتعلق بالنساء، وفي عقلهن نوع نقصان، ألا ترى أن مشايخنا أفتوا وأجازوا قول أبي يوسف رحمه الله في انتقال العادة برؤية المخالف لأنه أيسر عليهن.
وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا الاختلاف صاحبة العادة إذا اختلفت أيامها في الحيض والطهر ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم ينظر إلى أوسط الأعداد الثلاثة في آخر الطهر والحيض، وعلى قول أبي عثمان ينظر إلى أقل المرتين الآخرتين، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام على البزدوي رحمه الله يفتي بأوسط الأعداد إذا كانت المرأة تذكرها وإن لم تذكرها فبأقل المرتين الآخرتين إذا ذكرتهما، وإن لم تذكرهما فبالأخيرة أخذاً بقول أبي يوسف رحمه الله في انتقاض العادة بمرّة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: إذا رأت دمين متفقين وطهرين متفقين، ثم إذا رأت بعد ذلك مخالف لهما بأن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تصلي من أول الاستمرار بستة عشر لأن عندهما العادة لا تنتقل(1/230)
برؤية المخالف فيجب البناء على تلك العادة فإذا رأت أربعة دماً فثلاثة من ذلك من حساب حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها، فإذا رأت بعد ذلك ستة عشر يوماً طهراً وأربعة عشر من ذلك تمام طهرها ويومان من حساب حيضها ولم تر هي فيهما دماً فلا يمكن اعتباره حيضاً فجاء الاستمرار وقد بقي من حيضها يوم، ولا يمكن اعتبار يوم واحد حيضاً فتصلي هي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر يوماً ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة وهو المختار للفتوى فتقعد من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
الوجه الخامس: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما ما يخالفهما بأن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً. ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه تقعد من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر، ويكون ذلك عادة جميلة لها، وإنما سميت هذا عادة جميلة لأنه تكرر على الاتفاق لكنها صحت لتخلل المخالف فسميت جميلة لهذا. أو قيل: إنما سميت هذا عادة جميلة لأنها لو رأت المتفقين على الولاء كان ذلك عادة أصلية لها. وإذا كان بينها ما يخالفهما يجعل ذلك عادة لها على معنى أن يعتبر ما رأته آخراً كالمضمومة إلى ما رأته أولاً لما بينهما من الموافقة فتتأكد هي بالتكرار ويصير عادة لها في زمان الاستمرار، وتغيير العادة الجعلية وأحكامها يأتي بعد هذا على سبيل الاستقصاء إن شاء الله.
وهذا التكلف إنما يحتاج إليه لتخريج المسألة على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا على قول أبي يوسف رحمه الله لأن على قوله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة، فحين رأت أول مرة ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية لها. فإذا رأت بعد ذلك أربعة وستة عشر صار ذلك عادة أصلية لها، فإذا رأت بعد ذلك ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية يبنى عليها في زمان الاستمرار.
هذا الذي ذكرنا إذا ابتدأت وبلغت بالحيض، فأما إذا ابتدأت وبلغت بالحبل وقد يكون ذلك بأن حبلت من زوجها قبل أن تحيض فيكون بلوغها بالحبل فولدت (واستمر) بها الدم فنفاسها أربعون يوماً عندنا، وعند الشافعي ساعة وهو يعتبر أقل النفاس لكونه منتفعاً به.
ونحن نعتبر أكثرها للإمكان لأنها مبتدأة في حق النفاس، ألا ترى أن في المبتدأة بالحيض اعتبرنا أكثر الحيض وهي عشرة إذا استمر بها الدم لوجود الإمكان، فكذا في حق النفاس ولأن الصلاة قد تسقط عنها برؤية دم النفاس بيقين فلا يرتفع السقوط إلا بيقين مثله قبل الأربعين وبعد الأربعين يجعل عشرون يوماً طهراً لأنه لا يتوالى نفاس وحيض لا طهر بينهما كما لا يتوالى حيضان لا طهر بينهما، وإنما قدرنا الطهر بالعشرين في حقها لأن العشرة الأخيرة من النفاس استحق العشرة الأولى من الشهر الثاني. ولو صارت العشرة من الشهر مستحقة بالحيض كما (35ب1) في المبتدأة بالحيض إذا استمر بها الدم كان الباقي من الشهر وذلك عشرون طهراً فلذا إذا استحقت بالنفاس لأن النفاس نظير(1/231)
الحيض ثم بعد ذلك حيضها عشرة لأنها مبتدأة في حقّ الحيض وطهرها عشرون وذلك دأبها.
وكذلك لو طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر ثم استمر بها الدم كان الجواب كما قلنا لأن هذا طهر قاصر لا يصلح للفصل بين الحيض والنفاس فكان كالدم المتوالي. فإن طهرت بعد الأربعين خمسة عشر يوماً ثم استمر بها الدم فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة أيام لأن طهر خمسة عشر طهر صحيح فتصير عادة لها بالمرة الواحدة. ولا عادة لها في الحيض فيكون حيضها عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر ويكون دورها في كل خمسة وعشرين ثم نسوق المسألة إلى أن تقول طهرت بعد الأربعين أحد وعشرين ثم استمر بها الدم ولا رواية في هذه الصورة، وقد اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن إبراهيم رحمه الله: تدع الصلاة من أول الاستمرار تسعة وتصلّي أحد وعشرون وذلك دأبها قال: لأن طهر أحد وعشرين طهر صحيح وعادتها في الطهر والحيض على ما عليه الغالب توجد في كل شهر فإذا صار أحد وعشرون طهراً لا يبقى الحيض إلا تسعة.
قال أبو عثمان سعد بن إبراهيم: تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي أحد وعشرون ويكون دورها في كل أحد وثلاثين يوماً.
قال: لأن أكثر الحيض وهو عشرة معلوم في نفسه فلا ضرورة إلى تقديره....... الشهر بخلاف الطهر إذ ليس لأكثر الطهر غاية معلومة فإذا تعين بعض الشهر للحيض تعين الباقي للطهر قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا القول أليق مذهب أبي يوسف رحمه الله ظاهراً فيفتى به.
ثم يسوق المسألة إلى أن تقول: طهرت بعد الأربعين تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله حيضها من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي لأنه هو الباقي من الشهر، ويمكن أن يجعل حيضها فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها، وعلى قول أبي عثمان: حيضها من أول الاستمرار عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي سبعة وعشرين وذلك دأبها ويكون دورها على قول أبي عثمان في كل سبعة وثلاثين.
وإن طهرت بعد الأربعين ثمانية وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم فههنا حيضها من أول الاستمرار عشرة ودورها في كل ثمانية وثلاثين بالاتفاق لأنه لم يبق من الشهر ههنما ما يمكن أن يجعل حيضاً، فرجعنا إلى أكثر الحيض وتركنا معنى اجتماع الحيض والطهر في شهر واحد على قول من قال بذلك في الفصل المتقدم.
فإن رأت بعدما ولدت أحداً وأربعين يوماً دماً ثم خمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله: نفاسها أربعون وطهرها عشرون لأنها صلت(1/232)
في اليوم الحادي والأربعين بالدم فيفسد طهر خمسة عشر ولا يصلح لنصب العادة فصار كما لو ولدت واستمر بها الدم، وهناك يجعل نفاسها أربعون، وبعد الأربعين يجعل عشرين لطهرها، وبعد ذلك عشرة لحيضها، ومن بعد الأربعين إلى وقت الاستمرارستة عشر، بقي إلى تمام طهرها أربعة، فمن ابتداء الاستمرار تصلي أربعة وتدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة، وذلك دأبها.
على قول أبي علي الدقاق رحمه الله طهرها ستة عشر وحيضها عشرة، فمن أول الاستمرار تدع الصلاة عشرة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
(نوع آخر) في الانتقال
يجب أن يعلم بأن الانتقال نوعان: أنتقال الحيض عن موضعه وانتقاله عن عدده، فصورة أنتقال الموضع أن يكون لها أيام حيض معروفة، فلا ترى هي في موضع حيضها مرتين على الولاء، فينتقل حيضها عن موضعه والعدد على حاله، وتستأنف الحساب من أسرع ما يمكن وذلك من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام ثم تصلي خمسة عشر، ثم تدع ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وكما تنتقل العادة في الحيض بعدم الرؤية في موضعه مرتين تنتقل بعدم الرؤية في موضعه مرة واحدة والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى.
وعلى قوله لا تتفرع مسائل الإبدال لأن مسائل الإبدال، إنما يتفرع على قول من لا يرى الانتقال بعدم الرؤية مرة.
صورة انتقال العدد أن يكون لها أيام معروفة في الحيض والطهر، فرأت خلاف عادتها مرتين متفقتين على الولاء، فإنه تنتقل عادتها في الحيض والطهر عن موضعها وعددها، وتصير عادتها ما رأت مرتين في الحيض والطهر بلا خلاف لأن العدد الأول إنما صار عادة لها لرؤيتها ذلك مرتين متفقتين على الولاء فإذا رأت خلاف ذلك مرتين فقد زال ما ثبت لها به العادة الأولى، ووجد مثل ذلك في حق الثانية عادة لها. وتبطله الأولى حتى ترد عند الاستمرار إلى ما رأته آخراً.
وإن رأت خلاف عادتها الأصلية مرة ثم استمر بها الدم لم تنتقل عادتها إلى ما رأته آخراً في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنها تنتقل.
وجه «ظاهر الرواية» : أن الأولى صارت عادة لها لتأكدها بالتكرار على الولاء ولم يوجد التكرار في الثانية فلم تكن الثانية مثل الأولى بل كانت دونها فلا تبطل بها الأولى.
ووجه رواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن القياس ما قال. إلا أني استحسنت هذا لتيسير الأمر على النسوان لأن العادة الأصلية إذا لم تنتقض برؤيتها خلافها مرة احتاجت هي إلى حفظ ثلاثة دماً وثلاثة أطهاراً إن كانت رأت دماً وأطهاراً مختلفة على قول من يقول بأوسط الأعداد وإلى حفظ دمين وطهرين على قول من يقول بأقل المرتين الأخريين.(1/233)
وإذا انتقلت عادتها الأصلية برؤية المخالف مرة تحتاج هي إلى حفظ دم واحد وطهر واحد، ولا شك أن حفظ الشيء الواحد أيسر من حفظ المثنى والثلاث. وكثير من المشايخ أفتوا برواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله، ونحن نفتي به أيضاً والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع: معرفة أنواع العادة فنقول:
العادة نوعان: أصلية وجعلية فالأصلية أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين على الولاء أو دماء متفقة وأطهاراً متفقة على الولاء.
والجعلية أنواع:
جعلية في حق الطهر والدم جميعاً: وذلك بأن ترى أطهاراً مختلفة ودماء مختلفة أو ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما مخالف ثم استمر بها الدم، فيجب البناء، إما على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الأخريين على حسب ما اختلفوا فنسمي ذلك عادة جعلية في الدم والطهر جميعاً.
وجعلية في الطهر دون الدم بأن ترى هي أطهاراً مختلفة، أو ترى طهرين متفقين وبينهما طهر يخالفهما ثم يستمر بها الدم فيجب البناء في حق الطهر على أوسط الأعداد الثلاثة (36أ1) الأخيرة أو على أعلى المرتين الأخرتين تصير عادتها في الطهر جعلية.
وجعلية في حق الدم دون الطهر بأن ترى دماء مختلفة أو دمين متفقين وبينهما دم يخالفهما ثم يستمر بها الدم، فيجب البناء في حق الدم على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الآخرتين فتصير عادتها في الدم جعلية، وهذا لأن العادة مشتقة من العود، ومطلق العود إنما ينطلق على العود على الولاء اسماً ومعنىً.
فإذا اختلفت الدماء والأطهار والعود في أوسط الأعداد أو أقل المرتين الآخرتين على حسب ما اختلفوا، وجد من حيث المعنى دون الاسم، وكذلك في حق الطهرين والدمين وبينهما مخالف، والعود في حق المعنى: أن يوجد اسماً لم يوجد التوالي، فلوجود بعْض ما اشتق منه العادة اعتبرناها عادة لها عند الضرورة، ولعدم بعض ما اشتق منه لم يسمها عادة أصلية، بل سميناها عادة جعلية.
وهذه العادة الجعلية إذا اعترضت على العادة الأصلية ثم جاء الاستمرار هل تنتقض العادة الأصلية؟ قال مشايخ بلخ: لا تنتقض الأصلية، وقال مشايخ بخارى: تنتقض، وبيان ذلك: أن المرأة إذا كانت لها عادة أصلية في الحيض والطهر فرأت دماء مختلفة وأطهاراً مختلفة ونصبت بأوسط الأعداد. وأقل المرتين الآخرتين عادة لها، ثم جاء الاستمرار فإنها تبني الأمر في بيان الاستمرار على ما جعل عادة لها عند مشايخ بخارى، وعند مشايخ بلخ: تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما كانت عادة لها في الأصل.
وجه قول مشايخ بلخ أن العادة الجعلية دون العادة الأصلية على ما مرّ، فلا تنتقض العادة الأصلية ولأن الجعلية اعتبرت عادة لها بطريق الضرورة ليمكن اعتبار حكم الحيض والطهر في حقها مع وجود المنافي لكونه عادة لها، وهو كونها فرداً والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، ولا ضرورة إلى نقض العادة الأصلية، فلا ينتقض بها.(1/234)
وجه قول مشايخ بخارى: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية إلا أنه مختلف في نفسه ولكن مع اختلافه على مخالفة الأصل، فكان هذا بعض المكرر بالمكرر وإنه جائز، وهذه العادة الجعلية تنتقض برؤية المخالف مرة بالإجماع لأن العادة الجعلية فرد في نفسه لأنه أوسط الأعداد الثلاثة أو أقل المرتين الأخريين، والفرد ينتقض بالعدد.
والحاصل: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية لكن وجب، فيعتبر واحد من هذه الأعداد بضرب اجتهاد ضرورة نصب العادة لها، وذلك الواحد فرد في نفسه فنقض بالعدد لكونه مثلاً له، ولكن الجملة المخالفة لأصل عدد في نفسها فانتصبت بها العادة الأصلية، وهذا الكلام في غاية الظهور ونهاية الوضوح والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع من المسائل
إذا كان للمرأة عادة أصلية في الحيض والطهر، فوقعت الحاجة إلى نصب العادة لها برؤية أطهار مختلفة ودماء مختلفة، ونصب العادة أوسط الأعداد عادة لها على قول من يقول به، فوافق ذلك العادة الأصلية، فإنه يطرح المأخوذ ثم ينظر إلى أوسط الأعداد من الباقي أو إلى أقل المرتين الآخرتين، فإن وافق ذلك العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية باقية فتبني عليها، فإن لم توافق هذه العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية قد بطلت فيصير المطروح عادة جعلية لها.
بيان هذا: المرأة عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، طهرت ثلاثين يوماً ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت أربعين يوماً، ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم عشرة أيام، ثم طهرت عشرون ثم استمر بها الدم. فنقول: أوسط الأعداد في الطهر عشرون لأنها طهرت مرة ثلاثين ومرة أربعين ومرة خمسة عشر ومرة عشرون، فعشرون أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة.
وإنما يعتبر أوسط الأعداد من الثلاثة التي قبل الاستمرار فإنه موافق للعادة الأصلية فيطرح ذلك، فيبقى بعده خمسة عشر وثلاثون وأربعون. وأوسط الأعداد منها ثلاثون فإنه ليس بموافق للعادة الأصلية، فعلم أن العادة الأصلية قد انتقضت لأنها رأت بخلافها مرتين فتبني على المطروح، وهو دم عشرة وطهر عشرين ويصير ذلك عادة جعلية لها.
ولو رأت الدم عشرة والطهر ثلاثين والدم عشرة والطهر خمسة عشر والدم عشرة والطهر عشرين ثم استمر بها الدم، فأوسط الأعداد عشرون وإنه يوافق العادة الأصلية فيطرح ذلك، فتبني بعده خمسة عشر وثلاثون، وما كان في الأصل عادة لها وذلك عشرون فالأوسط عشرون، فعلمنا أن العادة الأصلية لم تنتقض لأنه لم ير بخلافها إلا مرة فيبنى عليها ما بعدها.
فإذا طهرت ثلاثين يوماً فعشرون منها زمان طهرها وعشرة من حساب حيضها، ثم رأت الدم عشرة وهو ابتداء طهرها فإن رأت الطهر خمسة عشر فعشرة من ذلك من حساب طهرها وخمسة من حساب حيضها، ثم رأت الدم بعده عشرة فخمسة من ذلك بقية حيضها(1/235)
وخمسة من حساب طهرها ثم رأت الدم بعده عشرين يوماً فخمسة عشر يوماً من ذلك بقية طهرها وخمسة من حساب حيضها ثم استمر بها الدم، وقد بقي من مدة حيضها فتدع الصلاة خمسة أيام من أول الاستمرار ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة وذلك دأبها والله أعلم بالصواب.
(نوع آخر)
في الإبدال على قول من يرى ذلك. إذا كان للمرأة أيام حيض وأيام طهر معروفة فلم تر هي في موضع حيضها بمرة فإنها تصلي إلى موضع حيضها بمرة الثاني ولا يبدل لها في وقت طهرها وإن رأت الدم فيه عند أبي حنيفة رحمه الله لما فيه من نقل العادة بمرة وقال محمد رحمه الله: يبدل لها بقدر أيامها إذا أمكن الإبدال.
وإنما يثبت الإمكان بأن كان يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يوماً، فإن كان لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر إلا أنه يمكن أن يجر من موضع حيضها الثاني إلى بقية طهرها ما يتمه خمسة عشر يوماً ويبقى بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يكون حيضاً فإنه يجر لأن مبنى الحيض على الإمكان وإنه موجود إذا بقي بعد الإبدال مدة طهر تام أو أمكن تتميمه بالجر، وهذا لأن المرأة لا تبقى عادتها في الحيض على صفة واحدة ولكنها تتقدم تارة وتتأخر أخرى، فيعتبر المرئي فيها حيضاً ما أمكن اعتباره حيضاً من الوجه الذي بيّنا.
وكان أبو زيد الكبير وأبو يعقوب الغزالي يأخذان بقول محمد رحمه الله بالبدل ما لم يحتج إلى الجر، فإذا احتيج إليه لا يأخذان بقوله، وكان الشيخ الإمام الزاهد وأبو حفص الكبير البخاري رحمه الله والفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقولان يبدل لها بقدر ما يفني فيه عن الجر وكثير من المشايخ المتأخرين أخذوا بقول محمد رحمه الله واختاروا قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله.
حجة أبي حنيفة رحمه الله في نفي البدل أصلاً، ما ذكرنا في البدل اتهام بنقل العادة برؤية المخالف مرة واحدة.
وجه قول محمد رحمه الله في إثبات أصل البدل أن هذا دم خارج من قبل المرأة في وقته لخروجه عقيب طهر صحيح فيجعل هو حيضاً كالأصل وهو الدم المرئي في وقته، وهذا لأن الغالب من عادات النساء أنها لا تدوم على وقت واحد وعلى عدد واحد، بل تتقدم مرة وتتأخر مرة وتزداد مرة وتنقص مرة أخرى، ثم يجوز أن يسقط اعتبار العدد برؤية المخالف مرة، فإن المرأة إذا كان أيام حيضها خمسة، رأت خمسها واستمر بها الدم إلى العشرة كانت العشرة كلها حيضاً بالإجماع، فكذا يجوز أن يسقط اعتبار الوقت مرة لم تر في وقتها المعروف مرة، وما قال أبو حنيفة رحمه الله من إيهام النقل برؤية المخالف مرة فكذلك من حيث الصورة لا من حيث الحكم لأن البدل يلتحق بموضع الأصل، ألا ترى أن الإمام إذا لم يقرأ في الأوليين من الظهر وقرأ في الأخريين فإنه تنتقل قراءته إلى (36ب1) الأوليين، حتى لو اقتدى به رجل في الأخريين ولم يقرأ فيما، يقضي في ركعة(1/236)
واحدة أو في ركعتين تفسد صلاته؛ لحصولها بغير قراءة، لانتقال قراءة الإمام إلى الأوليين كذا ههنا، وإذا ثبت الإبدال على قول محمد رحمه الله يبدل لها ما أمكن، والإمكان بالطريق الذي قلنا.
وإذا لم يبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يصلح أن يكون حيضاً لا يبدل لها؛ لأن إثبات البدل في هذه الحالة يؤدي إلى إسقاطه ثابتاً؛ لأنما يثبت البدل لها عن عادتها الأولى، فإذا لم تبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يمكن اعتباره حيضاً لم يرَ الحيض في موضعها مرتين على الولاء، فيجب الانتقال، وإبطال العادة الأولى واستئناف الحساب في موضع البدل، فيفسد البدل؛ لأنه كان بدلاً عن العادة الأولى، وقد بطلت العادة الأولى، فلم يجز القول بالبدل في هذه الحالة فتصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما قاله أبو حنيفة رحمه الله.
وجه قول أبي زيد وأبي يعقوب الغزال: أن القول بالجر يؤدي إلى محال وهو إيجاب الصلاة عليها في حالة الحيض، وإيجاب ترك الصلاة في حالة الطهر.
بيانه: أن المجرور حيض حقيقة، وإذا صح الجر يصير طهراً فتصلي فيه، والبدل حيض حقيقة إن كان دماً فهو في حالة الطهر؛ إذ العادة لم تنتقل برؤيتها خلافها مرة لا من حيث الموضع، ولا من حيث العدد، فتعينت هذه الحالة طهراً حكماً، فلو صح البدل تركت من الصلاة فيه فهو معنى قولنا: إن الجر يؤدي إلى المحال وما يؤدي إلى المحال فهو محال، ومحمد رحمه الله يقول: في الجر وقوع الخلل في بعض الحيض، وهو الصلاة في المقدار الذي يُجره وفي نفي الجر وقوع الخلل في دم البدل، فإنه دم خارج عن القبل في أوانه، فكان حيضاً كالأصل، فيجب ترك الصلاة فيه.
وإذا لم تجز صلّت هي في جميعه، ولا شك أن وقوع الخلل في البعض أهون من وقوع الخلل في الكل ثم يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها وأقل من أيامها، ولا يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها إلا أن يكون قبله أو بعده طهر تام؛ وهذا لأن البدل في أصول الشرع قد يكون مثل الأصل كضمان المتلفات وأروش الجنايات، وقد يكون هو دون الأصل كالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء، فللبدل مثل أيامها وأقل من أيامها نظير في الشرع فيجوز البدل به أما لا يوجد في أصول الشرع بدل هو أكثر من المبدل، فإن البدل لا يربو حاله قط على حال المبدل، فلا يمكن اعتباره بدلاً على الإطلاق، فقيل: إذا كان قبله وجد طهر ناقص لم يكن اعتباره أصلاً، فجعل قدر أيامها بدلاً لا غير؛ لأنه دم فاسد؛ لأنه دم استحاضة، ولا يراد حيض المستحاضة على أيامها، وقيل: إنه إذا كان هو تاماً بين طهرين تاميين بأن كان حيضها ثلاثة فرأت في عشرة دماً، ولم يجاوز كان كله حيضاً؛ لأنه دم خال عن الاستحاضة، فكان هو أصلاً لا بدلاً، ثم يجوز البدل بعد أيامها كيف ما كان، ولا يجوز البدل قبل أيامها إلا أن تكون على أثر طهر تام؛ لأن الطهر الصحيح متى وجد إنما وجد بتوقع بعدها وجود دم حيض عند محمد رحمه الله، فإن من مذهبه أن المرأة إذا رأت عشرة أيام دماً خمسة قبل أيامها، وخمسة في أيامها إن كل ذلك(1/237)
حيض إذا كان الطهر قبله وبعده تاماً، فإذا انقضت أيامها ولم ترَ فيه ما يكون حيضاً بتوقع منها بعده وجود دم الحيض، فإذا وجد كيف ما كان حكم بالبدل منه.
وكذا الذي قبل أيامها إذا كان على إثر طهر تام، فإنه مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعاً منها، فجعل هو حيضاً وحكم بالبدل منه تامّاً إذا لم يكن هو على إثر طهر تام، فهو غير مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعاً منها؛ لأن المرئي بعد الطهر الناقص لا يكون حيضاً ولم تجىء عادتها بعد، فإذا رأت الدم فقد رأتْهُ في وقت لم تتوقع منها دم الحيض، فأُمرت بالصلاة فيه.
ثم اختلف المشايخ في مراد محمد رحمه الله في قوله: لا يبدل لها قبل أيامها إلا أن يكون على إثر طهر تام، قال الحاكم أبو نصر أحمد بن مهروبه: أراد التصحيح الخالص الذي لا يشوبه دم تؤمر المرأة بالصلاة فيه لا التام مع الفساد، وقال بعض المشايخ: أراد بالتام أن يكون خمسة عشر يوماً، لا أن يكون صحيحاً خالصاً؛ لأن الصحة والخلوص في الطهر إنما يشرط لتنقل العادة؛ لأن الأصل صار عادة لها لرؤيتها الدم الخالص من طهرين خالصين، فلا تنتقل هي إلا برؤيتها، خلافاً على هذه الصفة، فأمّا الخلوص لغير شرط لضرورة الدم بعده حيضاً، وإذا أمكن البدل من موضعين يبدل من أسرعهما، وهو معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذا أمكن البدل قبل أيامها، وبعد أيامها يبدل لها قبل أيامها، وهذا لأن البدل يعتبر بالأصل وفي الأصل، وهي المبتدأة متى أمكن اعتبار الحيض في الموضعين جعل هو من أسرعهما إمكاناً، فكذا في البدل.
ثم علامة مسائل البدل على قول محمد رحمه الله: أن كل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر أو أقل من ذلك، فلا يبدل لها عند محمد رحمه الله، وكل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني ثمانية عشر أو أكثر من ذلك يبدل لها عنده.
جئنا إلى تخريج المسائل على الأصول فنقول: المرأة إذا كانت عادتها في الدم خمسة، وفي الطهر عشرون وطهرت من اثنين وعشرين ثم استمر بها الدم يجعل حيضها من أول الاستمرار ثلاثة؛ لأنها رأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضاً، ولو طهرت ثلاثة وعشرون ثم استمر بها الدم، فعند أبي حنيفة رحمه الله: أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني، ذلك اثنان وعشرون يوماً، وعند محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام من أول الاستمرار؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر يوماً، وكذلك إن طهرت أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم، فإنه يبدل لها خمسة أيام عند محمد رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني ستة عشر أو خمسة عشر، فتدع الصلاة من أول الاستمرار خمسة، ثم تصلي خمسة عشرة ثم تدع خمسة وتصلي عشرين.
ولو طهرت بستة وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي يعقوب، وأبي زيد(1/238)
الكبير لا يبدل لها، لأن الباقي بعد البدل أربعة عشر، فلا يمكن القول بالبدل إلا بطريق الجر، وهما لا يريان الجر، ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، فتصلي من أول الاستمرار تسعة عشر يوماً ثم تدع الصلاة خمسة، وتصلي عشرين، قول محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام؛ لأن البدل بطريق الجر ممكن، فيجر من موضع حيضها الثاني يوماً إلى بقية طهرها حتى يتم خمسة عشر يوماً، وتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي عشرين، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين، وعلى قول الشيخ الإمام أبي حفص، والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله: تبدل لها أربعة حتى يستغنى عن الجر فتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي خمسة عشر، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وكذلك إن طهرت تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم، فالتخريج على هذا.
وإن طهرت في ثمانية وعشرين يوماً، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني؛ لأنه يبقى بعد الإبدال من طهرها اثنا عشر يوماً، فلو جررنا إليها ثلاثة من موضع حيضها الثاني ما أمكن اعتباره حيضاً، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، وذلك سبعة (عشر) يوماً، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي عشرين إذا كان أيام حيضها خمسة وأيام طهرها عشرون، وطهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأت خمسة دماً وطهرت أيامها فعند محمد رحمه الله يبدل لها الخمسة المتقدمة.
ولو طهرت أربعة عشر يوماً ثم رأت ستة دماً طهرت أيامها فلا يبدل لها من المتقدم لفساده؛ لأنها صلّت في يوم منه، وهو اليوم الخامس عشر، وإنه يريد قول الحاكم أبي نصر، ولو كانت عادتها في الحيض ثلاثة وفي الطهر سبعة وعشرون، فطهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدم ثلاثة ثم طهرت في اثني عشر يوماً ثم رأت الدم؛ (37أ1) فإنها لم ترَ في أيامها شيئاً، فيبدل لها الثلاثة التي رأتها بعد طهر خمسة عشر؛ لأنها مرئية عقيب طهر صحيح، فيبدل لها تلك الثلاثة إلا ما رأته بعد أيامها؛ لأن تلك الثلاثة أسرعهما إمكاناً.
(نوع آخر) في الزيادة والنقصان في أيام الحيض
صاحبة العادة المعروفة في الحيض إذا رأت الدم زيادة على معروفها يجعل ذلك كلّه (حيضاً) ما لم يجاوز المرئي عشرة، فإن جاوز المرئي العشرة ردت إلى معروفها، والثاني يكون استحاضة؛ وهذا لأن طبعها لا يكون على صفة واحدة بل قد يقوى ويزداد حيضها وقد يضعف فيتعين حيضها ومبنى الحيض الإمكان، فإذا اقتصر على العشرة أمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضاً.
وإذا جاوز العشرة لا يمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضاً؛ لأنه تجاذبه جانبان فاعتباره بمعروفها يجعله حيضاً واعتباره بما زاد على العشرة يجعله استحاضة، والترجيح بجانب ما زادت على العشرة؛ لأن الزيادة على معروفها لم تظهر إلا مع مدة الاستحاضة، فالظاهر أنه عن علة.(1/239)
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة فرأت الدم في اليوم السادس، فعلى قول مشايخ بلخ رحمهم الله: تؤمر هي بالاغتسال والصلاة؛ لأن الدم في اليوم السادس متردد أن يكون حيضاً بأن اقتصر على العشرة، وبين أن يكون استحاضة بأن تزيد هي على العشرة، فلا تترك هي الصلاة مع التردد؛ لأن الدم في موضع الدم في اليوم السادس لا يكون حيضاً إلا بشرط الانقطاع على رأس العشرة، وإنه موهوم، فلا تترك الصلاة باعتبار أمر موهوم.
وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: لا تؤمر بالصلاة ولا بالاغتسال لأنا عرفناها حائضاً بيقين لرؤيتها ما يكون حيضاً في حقها ودليل بقائها حائضاً ظاهر، وهو سيلان الدم وهذه الزيادة لا تكون استحاضة إثباتاً للاستمرار حتى تجاوز العشرة، وإنه غير ثابت للحال، فتبقى حائضاً حتى يستبين أمرها، فإن جاوز الدم العشرة حينئذٍ تؤمر بقضاء ما تركت من الصلاة بعد أيامها واعتبر هذه بالمبتدأة فإن المبتدأة لا تؤمر بالصلاة والاغتسال مع رؤية الدم ما لم تجاوز العشرة، وكان الصدر الشهيد حسام الدين يفتي في هذه الصورة: بأنها تؤمر بالاغتسال ولا تؤمر بالصلاة؛ لأن هذا أقرب إلى الاحتياط.
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة، فطهرت في اليوم الرابع، فإنها تؤمر بالاغتسال إذا خافت فوت الوقت، وتؤمر بالصلاة ههنا؛ لأن هذه طهرٌ ظاهر وفي المسألة المتقدمة: هو دم ظاهر فأخذنا في كل ذلك بالاحتياط.
ولو كانت عادتها في الحيض خمسة في أول كل شهر، فرأت ثلاثة وماً في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة أيام ثم رأت يوماً فخمسة من أول الشهر حيض عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه يجوز ختم الحيض بالطهر، وعند محمد رحمه الله الثلاثة الأول هي الحيض؛ لأنه لا يرى ختم الحيض بالطهر، هكذا ذكر محمد رحمه الله المسألة في «الأصل» والمسألة في الستة مشكلة؛ ثلاثة قبل الستة دم ويوماً بعدها دم فالجملة عشرة، فيمكن جعل الكل حيضاً عند أبي يوسف رحمه الله، وقد أجاب أن حيضها خمسة عند أبي يوسف.
والصحيح أن يزاد على طهر ستة ساعة أو ما أشبهها أو على يوم الحيض بعدها، ويصير تقدير المسألة: فرأت ثلاثة دماً في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة وساعة ثم رأت يوماً دماً، أو يصير تقدير المسألة: رأت ثلاثة دماً في أول الشهر ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة ثم رأت يوماً دماً أو أكثر أو زيد على العشرة فيردّ إلى معروفها عند أبي يوسف رحمه الله.
ولو رأت يومين دماً في أول العشرة ويومين دماً في آخر العشرة، فخمستها المعروفة هي الحيض عند أبي يوسف رحمه الله: إذا كان اليومان الآخران هي اليوم العاشر واليوم الحادي عشر، فأما إذا كان اليومان الآخران هي اليوم التاسع فالعاشر، والكل حيض عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله شيء من ذلك لا يكون حيضاً؛ لأن الطهر غالب على(1/240)
الدمين، فصار فاصلاً بينهما، وكل واحد من الدمين بانفراده لا يصلح حيضاً فلا يجعل شيء من ذلك حيضاً.
ولو رأت في العشرة يومين دماً فرأت اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر دماً فحيضها خمستها عند أبي يوسف؛ لأن الطهر فيه قاصر، فصار كالدم المتوالي، وعند محمد الثلاثة الأخيرة حيض؛ لأن الإبدال ممكن فيه؛ لأنه يبقى إلى موضع حيضها الثاني مُدّة طهر كامل.
ولو رأت في أول خمستها يوماً دماً ويوماً طهراً، حتى جاوز العشرة فخمستها هي الحيض عندهم جميعاً؛ لأن ابتداء الخمسة وختمها كان بالدم والطهر قاصر، فإن طهرت يوماً من أول الشهر، ثم رأت يوماً دماً ويوماً طهراً حتى جاوز العشرة، فاليوم الأول ليس بحيض عندهم؛ لأنه لم يتقدَّمه دم وهو طهر في نفسه، وأبو يوسف رحمه الله إنما يجوز ابتداء الحيض بالطهر إذا تقدمّه دم الاستحاضة، والأربعة الباقية من أيامها حيض عند أبي يوسف؛ لأنه يختم الحيض بالطهر إذا تعقبه دم، وعند محمد رحمه الله حيضها اليوم الثاني، والثالث والرابع؛ لأن اليوم الأول والخامس كانا طهرين وإن وقف الدم على العشرة؛ لأن ما بعد اليوم الأول حيض كلّه، ولو رأت يوماً دماً قبل رأس الشهر ومن أول الشهر يوماً طهراً ثم يوماً دماً إلى العشرة، فجميع ذلك حيض عند أبي يوسف إلا اليوم العاشر؛ لأنه لم يُرَ فيه، ولا بعده وما سواه وجد فيه شرط إمكان الحيض، فيعتبر حيضاً، فإن جاوز الدم العشرة، فحيضها خمستها المعروفة عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله حيضها ثلاثة أيام من معروفها، وهو اليوم الثاني والثالث والرابع لطهرها في اليوم الأول والخامس، والله أعلم.
(نوع منه) في تقدم الحيض وتأخره
هذا النوع يشتمل على ثلاثة أقسام: قسم في المتقدم، وقسم في المتأخر، وقسم في الجمع بينهما.
أما القسم الأول: فهو على وجوه:
الأول: إذا رأت في أيامها ما يكون حيضاً، فرأت قبل أيامها ما لا يكون حيضاً، بأن كان المرئي في أيامها ثلاثة، والمرئي قبل أيامها أقلّ من ثلاثة، وفي هذا الوجه روايتان عن أبي حنيفة، روى محمد عنه: أن المتقدم لا يكون حيضاً، وروى الحسن عنه: أن الكل حيض.
وجه رواية محمد رحمه الله: أن المتقدم لو جعل حيضاً، جعل تبعاً لأيامها، ولا وجه إليه؛ لأن السابق لا يعتبر تبعاً إلا في وجه رواية الحسن أن المتقدم إذا كان أقلّ من ثلاثة أيام إن لم يمكن أن يعتبر هو حيضاً تبعاً لأيامها من حيث اللحوق، لكونه سابقاً على أيامها أمكن أنه يعتبر حيضاً تبعاً لأيامها من حيث إنه يستقل بنفسه، والمرئي في أيامها يستقل بنفسه. وذكر بعض مشايخنا في «شرح كتاب الحيض» في الوجه: أنّ الكل حيض من غير ذكر خلاف، وذكر بعضهم: أن الكل حيض بالاتفاق.(1/241)
الوجه الثاني: إذا رأت قبل أيامها ما يصلح حيضاً، ولم ترَ في أيامها شيئاً، وفي هذا الوجه حكمها موقوف عند أبي حنيفة رحمه الله فإن طهرت أيامها مرّة أخرى في الشهر الثاني صار حيضها ما رأته، وانتقلت عادتها في الحيض عن موضعها، وإلا فالمرئي استحاضة، وعند أبي يوسف رحمه الله المتقدم حيض، ويصير ذلك عادة لها؛ لأنه يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة وعليه الفتوى، وهو قول محمد، وعلى قول محمد رحمه الله يكون المتقدم حيضاً بدلاً عن أيامها ولكن لا يصير عادة لها؛ لأنه لا يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة.
الوجه الثالث: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت قبل أيامها ما يصلح حيضاً، الجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثاني؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً كان المرئي في أيامها في حكم العدم.
الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما يصلح أن يكون حيضاً ولم يجاوز الكل العشرة وفي هذا الوجه عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، روى محمد والحسن بن زياد عنه أن المتقدم على أيامها لا يكون حيضاً، وروى بشر بن الوليد والمعلّى وغيرهما عن أبي يوسف رحمهم الله (37ب1) عنه: أن المتقدم حيض، غير أن في بعض روايات أبي يوسف أنه على قول أبي حنيفة، وفي بعض رواياته أنه قاس قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن المتقدم حيض إذا لم تجاوز به العشرة.
وجه الرواية الأولى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المتقدم على أيامها لا يمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها، والسابق لا يعتبر تبعاً للاحق، فلو اعتبر حيضاً اعتبر بطريق الاتصال، ولا وجه إليه أيضاً لما فيه من نقل عادتها من حيث الموضع برؤية المخالف مرّة، وأبو حنيفة رحمه الله لا يقول به.
وجه رواية الأخرى وهو قولهما: إن هذا دم رأته المرأة بين طهرين تامين ولم تجاوز العشرة فيكون حيضاً كالمتأخر؛ هذا لأن حيض المرأة قد يتقدّم وقد يتأخر، فإذا اعْتُدَّ بأحد الأمرين فكذا بالأمْر الآخر، ثم عند أبي يوسف يصير ذلك عادة لها، وعند محمد لا تصير عادة لها.
الوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت قبل أيامها ما لا يصلح حيضاً وإذا جمعا صلحا حيضاً، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه نظير الوجه الثاني والثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً كان المرئي في أيامها كالعدم، وقال بعضهم: الجواب فيه كالجواب في الوجه الرابع؛ لأنها إذا لم ترَ في أيامها ما يكون حيضاً بنفسه، وإنما يصير حيضاً بوجود ما قبله صار كأنها رأت في أيامها ما يكون حيضاً، ورأت قبل أيامها ما يكون حيضاً، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «شرح كتاب الحيض» : أن شيئاً من ذلك لا يكون حيضاً إلا أن ترى في بعض موضعها الثاني مثل ذلك، فتنتقل العادة إليها في الابتداء والله أعلم.(1/242)
ومما يتصل بهذا القسم
امرأة تستفتي أنها ترى الدم قبل أيامها ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» : أنها تؤمر بترك الصلاة إذا كان الباقي من أيام طهرها ما لو ختم إلى أيام حيضها لا يجاوز العشرة؛ لأنها رأت الدم عقيب طهر صحيح، فكان حيضاً لكن بهذا الشرط؛ لأن الظاهر أنها ترى الدم في أيامها المعروفة، وإذا عُدم هذا الشرط يكون استحاضة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله في كتاب «الخصائل» : أن على قولهما تؤمر بترك الصلاة إذا كان المتقدم مع أيامها لا يجاوز العشرة، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: إذا كان المتقدم ثلاثة أيام لا تترك الصلاة، وإن كان أقل، فكذلك على قوله على ما اختاره مشايخ بخارى، وعلى ما اختاره مشايخ بلخ: تترك.
وأما القسم الثاني فهو على وجوه أيضاً:
الأول: إذا رأت في أيامها ما يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً وفي هذا الوجه الكل حيض، وأيامها تستتبع ما بعدها وانتقلت العادة؛ لأن ما بعدها لا يستقل بنفسها وقد تتبعت أيامها مشاهدة فتتبعها حكماً.
الوجه الثاني: إذا رأت في أيامها، ورأت في آخر أيامها ما يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً أيضاً، وفي هذا الوجه إن لم تجاوز الكل العشرة فالكل حيض، وإن جاوز فالمعروفة حيض، وما زاد على ذلك استحاضة؛ لأن المتأخر عن أيامها يمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها؛ لأنه لاحق بأيامها واللاحق يتبع السابق.
ألا ترى أنه جميع أيامها مشاهدة فتتبع أيامها حكماً، وإذا أمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها تعتبر ولم تنتقل عادته كما كانت عليه من حيث الحقيقة، إن انتقلت من حيث الصورة؛ لأن التبع حكمه حكم الأصل فصار من حيث الحكم كأنه جعل في أيامها.
الوجه الثالث: إذا لم ترَ في أيامها شيئاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً، وفي هذا الوجه الكل حيض ذكر المسألة في «الأصل» من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، قال أبو علي الدقاق والزعفراني في كتابيهما والقدوري في «شرحه» ، وعامة مشايخ خراسان: إن ما ذكر في «الأصل» قول الكل، وقال أبو سهل الفرائضي وجماعة من البلخيين، وعامة من البخاريين: إن هذا على الاختلاف الذي بيناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم، فإن كانت المسألة على الخلاف الذي بيّناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم؛ وإن كانت هذه المسألة على الوفاق، فوجه الفرق بين المتقدم والمتأخر ظاهر إن وجود الشيء بعد وقته لا يمنع ثبوت حكمه خصوصاً في أمر الحيض، فإن المرأة ترى الدم بعد أيامها بأشهر ولا يتغير به الحكم، ولهذا قلنا: إن العجوزة الكبيرة إذا رأت الدم كان حيضاً على رواية «النوادر» فأما وجود الشيء قبل وقته فلا يعتد به في أكثر الأحكام خصوصاً في باب الحيض، ألا ترى أن الصغيرة جداً قد ترى الدم ولا يعتدّ به أصلاً.
الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح(1/243)
حيضاً، والجواب في هذا الوجه كالجواب في الوجه الثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح أن يكون حيضاً كان المرئي في أيامها ملحقاً بالعدم.
والوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما لا يصلح حيضاً أيضاً، ولكن إذا جُمعا صلحا حيضاً، فالجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثالث والرابع؛ لأنها لها رأت في أيامها ما لا يصلح حيضا كأنها لم ترَ في أيامها شيئاً والله أعلم.
ومما يتصل بهذا القسم
امرأة جاءت تستفتي عما رأت بعد أيامها، ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في كتاب الخصائل أنّ الأصح أنها تؤمر بترك الصلاة إلا إذا جاوز العشرة فتؤمر بالقضاء.
أما القسم الثالث: وهو ما إذا اجتمع المتقدم والمتأخر، وذلك كله دون العشرة كان المتأخر حيضاً، والمتقدم يكون هل حيضاً على ما فسّرنا، هو على وجوه:
إما أن يكون المتقدم والمتأخر كل واحد منهما نصاباً.
وصورتها: امرأة عادتها في الحيض أربعة، فرأت أيامها دماً، ورأت قبل أيامها ثلاثة دماً ورأت بعد أيامها ثلاثة دماً، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى المتقدم ليس بحيض، وإذا لم يكن المتقدم حيضاً على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة؟ فقد اختلف فالمشايخ فيه، والصحيح: أن يجعله.
وإما أن لا يكون المتقدم ولا المتأخر نصاباً.
وصورتها: امرأة أيام حيضها ستة فرأت أيامها دماً ورأت قبل أيامها يومين دماً وقد رأت بعد أيامها يومين دماً، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة في رواية.
وإما أن يكون المتقدم نصاباً والمتأخر لا يكون نصاباً.
وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت بأيامها دماً ورأت ثلاثة قبل أيامها دماً ورأت يومين بعدها دماً فعندما العشرة حيض، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى: المتقدم ليس بحيض، فإذا لم يكن المتقدم حيضاً على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة فقد اختلف المشايخ، والأظهر أن لا يجعله، هكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله.
وإما أن لا يكون المتقدم نصاباً والمتأخر يكون نصاباً:
وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت أيامها دماً، ورأت يومين قبل أيامها دماً ورأت ثلاثة بعد أيامها دماً فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية على نحو ما بينا.
وإن كان عند الجمع يزيد على العشرة، فإن كان كل واحد منهما على انفراده(1/244)
استحاضة بنفسه فحيضها أيامها المعروفة، والمتقدم والمتأخر يكون استحاضة ونعني بقولنا: إذا كان كل واحد منهما استحاضة بنفسه أن يكون كل واحد منهما يعني المتقدم والمتأخر بحال لو انفرد وضم إلى أيامها ازداد على العشرة.
وبيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة ورأت قبلها يومين دماً، ورأت التسعة دماً ورأت بعدها يومين دماً فحيضها معروفها، وكذلك إذا كان أيام حيضها ستة فرأت قبلها ستة وبعدها ستة أو رأت قبلها خمسة وبعدها خمسة فحيضها معروفها.g
وإن كان أحدها استحاضة:
ومعناه: أن يكون أحدها بحال لو ضم إلى أيامها يزيد على العشرة، والآخر لم يكن استحاضة على هذا التفسير فأيامها حيض والتي هي استحاضة لا يلحق بأيامها وهل يتعدى إلى الآخر حتى يجعله استحاضة فعن أبي حنيفة روايتان، ذكر في «الأصل» عنه أنه لا يتعدى؛ لأن أيامها فاصل من الدمين فبطل الجمع بين المتقدم والمتأخر.
بيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة فرأت قبلها يومين دماً وبعدها يوماً دماً فالمتقدم استحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها يزيد على العشرة، فالمتأخر ليس باستحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها لا يزيد على العشرة.
ففي هذه الصورة: (38أ1) أيامها حيض والمتقدم استحاضة، وهل يصير المتأخر استحاضة؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان في رواية «الأصل» : يعتبر استحاضة، وهو قولهما وهو الصحيح، وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا كان أيامها أربعة ورأت قبلها ثلاثة دماً إن المتقدم استحاضة في إحدى الروايتين عنه، ولا يجعل المتأخر استحاضة؛ لأن ذلك الدم بنفسه ليس باستحاضة، وإنما جعل استحاضة ضرورة العجز عن القول بالتبعية، فلا يعتبر استحاضة في غير موضع الضرورة، فأما هذا فاستحاضة مطلقة فجاز أن يؤثر في غيره.
وإذا كان أيامها ستة فرأت قبلها أربع وبعدها خمسة فههنا المتأخر استحاضة والمتقدم ليس باستحاضة، وهل يؤثر المتأخر في المتقدم فيجعله استحاضة فهو على ما قلنا.
ومن جملة صورة هذه المسألة: إذا كان أيامها خمسة فرأت أيامها دماً، ويومين قبلها وستة بعدها فههنا المتأخر دم استحاضة والمتقدم ليس بدم استحاضة وإن رأت أيامها دماً وستة قبلها أو يومين بعدها فههنا المتقدم دم استحاضة.
ومما يتصل بالمقدم من المسائل
امرأة أيام حيضها خمسة من رأس كل شهر فرأت هي قبل خمسها خمسة دماً وطهرت أيامها ثم رأت بعد ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة دماً فمعروفها هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله.
وقال محمد رحمه الله: المتقدم هو الحيض، وكذلك إذا رأت يومين دماً من أول أيامها أو من آخر أيامها مع ذلك، فإن المرئي في أيامها لا يمكن اعتباره حيضاً بانفراده،(1/245)
وإن رأت ثلاثة دماً في أيامها مع ذلك من أولها أو آخرها فهذه الثلاثة حيض عند محمد رحمه الله؛ لأنه يمكن جعله حيضاً ثلاثة من أول الشهر فتقدم حيضها قبل ذلك أحد عشر يوماً ثم طهرت أيامها فلم تر فيها ولا فيما بعدها دماً.
ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: هو استحاضة إلا أن يعاودها الدم في مثل ذلك الحال أحد عشر، فإن عاودها كانت ثلاثة أيام من الأيام الأولى من أولها حيضاً، وثلاثة أيام من أول هذه الأحد عشر الآخرة؛ لأنه لا يرى الإبدال فيجعل ذلك موقوفاً بأن تأكد بالتكرار تنقل العادة ومالا فلا.
وأما على قول محمد رحمه الله: فثلاثة أيام من أول أحد عشر الأولى حيض بطريق البدل برؤيتها ذلك عقيب طهر صحيح، وحكمة انتقال العادة موقوفة على ما يرى في الشهر الثاني كما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وإن كان حيضها خمسة من أول كل شهر فحاضتها ثم استمر بها الدم أيام الشهر، فانقطع خمسها ثم استمر بها بعدها، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله حيضها خمستها لإحاطة الدمين.
وقال محمد رحمه الله: حيضها خمسة أيام بعد أيامها؛ لأن شرط الإبدال في المتقدم رؤيته عقيب طهر صحيح لا دم فيه، ولم يوجد ذلك، فيبدل لها بعد أيامها؛ لأنه يبقى بعدها الإبدال إلى موضع حيضها الثاني مدّة طهر تام.
وإن لم ترَ كذلك، ولكن رأت خمسة دماً قبل أيامها وطهرت أيامها فتلك الخمسة هي الحيض عند محمد رحمه الله أو وجود شرط الإبدال في المتقدم، فإن رأت في المرة الثانية تلك الخمسة، وأيامها المعروفة وزيادة يوم دماً فحيضها معروفها؛ لأن عادتها لم تنتقل؛ لأنها رأت المخالف مدّة، وإن لم ترَ في الثانية كذلك، ولكنها رأت الخمسة التي قبل أيامها، وطهرت أيامها ثم رأت في المرة الثالثة تلك الخمسة وأيامها ورأت زيادة يوم، فحيضها خمسة من أول ما رأت لانتقال العادة من حيث الموضع لعدم رؤيتها الدم في معروفها الدم مرتين.
وإن كانت هي طهرت أيامها مرة واحدة فحيضها من الخمسة المعروفة؛ لأن انتقال العادة لا يحصل بعدم الرؤية مرة إلا على قول أبي يوسف رحمه الله، وإن لم ترَ قبل أيامها لكن رأت بعدها خمسة ثم في المرة الثانية طهرت خمسها، وهذه الخمسة ثم استمر بها الدم فحيضها خمسة من حين استمر بها الدم؛ لأن عادتها قد انتقلت إلى موضع الرؤية بعدم الرؤية في أيامها مرتين.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وما بعدها طهر إلى تمام الشهر من حين استمر بها الدم تكون حائضاً، كثير من مشايخنا قالوا هذا الجواب غلط والصحيح: أنها بعد ما تركت الصلاة من أول الاستمرار خمسة أيام تصلي ثلاثين يوماً؛ لأن عادتها في الطهر قد انتقلت إلى ثلاثين لرؤيتها ذلك مرتين على الولاء فف الشهر الأول طهرت خمسها بعدما مضى عن طهرها خمسة وعشرون، فذلك ثلاثون ثم رأت خمسة دماً ثم طهرت عشرون مقدمة الشهر وطهرت أيامها من أول الشهر الآخر وخمسة بعدها فذلك ثلاثون أيضاً فعلم(1/246)
أنها طهرت ثلاثين يوماً على الولاء وانتقلت عادتها إليه في الطهر فتبقى هي على ذلك في زمان الاستمرار، ومن المشايخ من صحح ما ذكر في «الكتاب» وقال: المكان قد انتقل أما العدد لم ينتقل فبقي اعتبار العدد الأول والله أعلم.
(نوع آخر) في رسم الفتوى
المرأة إذا أخبرت أنها طهرت عشرة أيام ينبغي للمفتي أن يسألها إنك طهرت اليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر إن قالت: اليوم العاشر أخذ تسعة، وإن قالت اليوم الحادي عشر أخذ عشراً، واعلم بأن تمام العشرة الأيام في اليوم الحادي عشر قبل الساعة التي رأت الدم فيه في اليوم الأول بلا فصل، أما لو استقصينا في الساعات في مثل هذا تعسّر عليها الأمر فلا يستقصي في ذلك ولكن يسألها على نحو ما بيّنا.
وكذلك في هذا الأطهار، إذا أخبرت أنها طهرت عشرين ينبغي للمفتي أن يسألها أنك رأيت الدم دم العشرين أو يوم الحادي والعشرين، فإن قالت: يوم العشرين أخذنا تسعة عشر، وإن قالت: ويوم الحادي والعشرين أخذنا عشرين يفعل هكذا في جميع الصور إلا في دم ثلاثة أيام في طهر خمسة عشر، فإنا نستقصي في دم ثلاثة أيام إذا أخبرت أنها طهرت في اليوم الرابع في الساعات فخامة أن ينتقص الدم إليه عن ثلاثة أيام ولياليها، وكذلك تستقصي في طهر خمسة عشر إذا أخبرت أنها رأت الدم يوم السادس عشر، فخامة أن يقصر الطهر عن خمسة عشر.
وينبغي للمفتي أنها إذا أخبرت أنها اغتسلت من حيضها وطهرت، فلا تنقطع أن يسألها عن أيام حيضها وطهرها فإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون وعادتها في الحيض عشرة أمرها بالصلاة من تمام العشرة عشرين يوماً ثم تدع الصلاة عشرة إذا رأت الدم وتصلي عشرين.
وإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون، وفي الحيض ستة أيام أمرها بإعادة ما تركت من الصلاة بعد تمام الستة، وذلك أربعة وهو أول الطهر ثم يأمرها أن تصلي من ذلك الوقت إلى تمام طهرها، وذلك ستة عشر يوماً حتى يتم أيام طهرها عشرون يوماً ثم تدع الصلاة ستة أيام من موضع حيضها إن رأت الدم وهذه المرأة قد كانت أصابت كما رأت أيام حيضها ستة أيام، فتركت الصلاة إلى تمام العشرة؛ لأن هذا دم على إثر طهر تام فيكون حيضاً، وهكذا الجواب في كل دم كان على إثر طهر تام، إن المرأة تؤمر بترك الصلاة فيه من غير تقدير؛ لأن ما زاد على أيام حيضها دم على إثر الحيض فيكون تبعاً للمحيض حتى يظهر أنه ليس بحيض وذلك بأن تجاوز العشرة أو إن لم تجاوز، ولكن الطهر بعده ينتقص عن خمسة عشر.
ففي هذه الصورة كان حيضها معروفها، وما تأخر عن أيام حيضها يكون استحاضة، وتؤمر هي بإعادة الصلاة في ذلك، فأما إذا انقطع الدم على رأس العشرة أو فيما دون العشرة، والطهر بعده خمسة عشر يوماً لا يخالطه دم كان جميع ما رأته في أيامها وبعد أيامها حيضاً.(1/247)
وإن أخبرت أن عادتها في الطهر كان عشرين يوماً، ولكن كان يختلف دمها إلا أنها تعلم أن الدماء كلها صحاح سألها عن دم واحد قبل هذا الدم الذي جاءت فيه وهي تستفتي، فيسألها: كم كان الدم الذي قبل الطهر الآخر، فإن قالت: عشرة لا يسألها عن شيء آخر عند أبي يوسف رحمه الله، وظهر له جواب مسألتها لأن العادة عنده تنتقل برؤية المخالف مرة، فإذا أخبرت أن الذي كان قبل الطهر الآخر عشرة والدماء كلها صحاح فقد عرف المفتي أن عادتها انتقلت إلى عشرة، فيأمرها أن تصلي إلى تمام عشرين يوماً ثم تترك الصلاة عشرة أيام إن رأت الدم، والفتوى على القول عشرة.
وإن أخبرت أن الدم الذي قبل الطهر الآخر كان سبعة أمرها بقضاء الصلاة ثلاثة أيام من هذه العشرة؛ لأنه ظهر أن عادتها في الحيض قد انتقلت إلى سبعة أيام، وقد رأت في هذه المدة فيأمرها بقضاء، وزيادة عليها فيكون حيضها عادتها، وذلك سبعة ويكون ما زاد على ذلك استحاضة، وذلك ثلاثة أيام..... ثلاثة أيام من هذه العشرة، لهذا.
فإن أخبرت أنها لا تحفظ الأطهر (38ب1) خمسة عشر ودم عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنها لو أخبرت عن ثلاثة أطهار، كأنها خمسة عشر وعن ثلاثة دماً كلها عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف لما نبين بعد هذا، فهذا أولى.
وإذا لم يصلح ذلك الاستئناف وجب البناء، ولا تدري على ما تبني فيقول لها المفتي اذهبي، وتذكري أيامك وإلا وأنت والضالة سواء، الحكم في الضالة يذكر بعد هذا أو إن أخبرت أن ما قبل ذلك من الأطهار كان خمسة عشر، إلا أنها لا تدري هل كان بينهما استحاضة أو لو لم يكن، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأتيقنا بخلوص طهر خمسة عشر يوماً؛ لأنه بين دمين؟ يرى، وكانت الأطهار قبل هذا أكثر من خمس عشرة، فتنقل إليها أيامها برؤية خلافها مرة وتيقنا بخلوص دم عشرة؛ لأنه بين طهرين تامين فتجددت العادة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف فمن أول الاستمرار عشرة حيض وخمسة عشر طهر فيأمرها بالصلاة تمام خمسة عشر، وتترك الصلاة بعد ذلك عشرة إن رأت الدم، وإن أخبرت أن أقل ذلك من الأطهار أكثر من خمسة عشر، وإنها لم تكن مستحاضة، فهذا اعلى ثلاثة أوجه:
أما إن أخبرت أن ما قبله من الأطهار المتقدمة كانت متفقة أو كانت مختلفة أو لا تدري، وفي الوجوه الثلاثة يكفيها ذلك الاستئناف؛ لأن عادتها المتقدمة أصلية كانت أو جعليه تنتقل إلى طهر خمسة عشر برؤية المخالف مرة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف.
وإن أخبرت عن طهرين قبل هذا الدم الذي جاءت، وهي فيه كلاهما خمسة عشر وبينهما دم عشرة لا يحفظ ما قبل ذلك، فهذا لا يكفيها الاستئناف؛ لأن ما قبلها لعله لا يكون أكثر من طهر خمسة عشر، فلا تنتقل العادة إلى طهر خمسة عشر ولم تجدد العادة،(1/248)
والعادة إذا لم تتجدد بالانتقال لا يجب الاستئناف، ويجب البناء وما تدري على ماذا تبني فتكون هي والضالة سواء.
وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة إلا أنها لا تدري أن الأطهار المتقدمة كانت خمسة عشر أو أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأنها إذا لم تكن مستحاضة قبل ذلك، فالأطهار المتقدمة إن كانت خمسة عشر تبقى كذلك، وإن كانت أكثر من خمسة عشر أو رأت طهراً طويلاً صار الطهر الطويل عادة لها؛ لأنها خالص ثم انتقلت العادة إلى خمسة عشر، فتترك الصلاة والصوم من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر بخلاف المسألة الأولى؛ لأن ثمة يحتمل أن الأطهار المتقدمة خمسة عشر ورأت طهراً طويلاً، خالطة دم لما تبين، فيجب البناء ثم لم ترَ طهراً أكثر من خمسة عشر لتنتقل العادة إليه، فلم تنتقل إلى خمسة عشر، فيجب البناء لا تدري على ماذا تبني.
وإن أخبرت أن الأطهار التي كانت قبل هذين الطهرين كانت أكثر من خمسة عشر لكنها لا تدري أنها كانت مستحاضة أو لم تكن فهذا أيضاً يكفيها للاستئناف؛ لأن الطهر الآخر خالص بتيقين؛ لأن الطهر الخالص ما بين دمين..... وقد وجد، وقد علم أن ما قبلها من الأطهار وأكثر منهما فتنتقل إليها العادة والعادة إذا تجددت بالانتقال يجب الاستئناف، فتدع عشرة وتصلي خمسة عشر.
وإن أخبرت عن ثلاثة أطهار كلها خمسة عشر، وعن المائة دماً كلها عشرة عشرة وليست تحفظ قبل هذا شيئاً، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنه يتوهم أن العادة كانت خمسة عشر ثم طهرت طهراً طويلاً أو هو ثلاثة وثلاثون في خلاله دم، فيجب البناء ولا تدري على ماذا تبني.
وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة ولكن لا تدري أن ما قبل هذه الأطهار، وهذه الدماء الأطهار كانت أكثر من خمسة عشر أو خمسة عشر والدماء كانت عشرة أو أقل، فإن هذا يكفيها الاستئناف؛ لأنها لم تكن مستحاضة من قبل، فإن كانت الأطهار المتقدمة أكثر من خمسة عشر انتقلت إلى خمسة عشر، وإن خمسة عشر تبقى خمسة عشر، أكثر ما في الباب أنه يتوهم طهر طويل خالص، فيصير ذلك عادة لها في الطهر؛ لأن العادة تنتقل برؤية المخالف مرة ثم تتقل العادة إلى خمسة عشر، فإن أخبرت أن الأطهار المتقدمة كانت أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف من طريق الأولى.
والحاصل: أن شرط الاستئناف من أول الاستمرار شيئان اثنان:
أحدهما: أن تخبر عن طهر صحيح، والطهر الصحيح أن يكون خمسة عشر فصاعداً بين دمي....
والثاني: أن تخبر أنها لم تكن مستحاضة من قبل أو تخبر عن طهر صحيح آخر مخالفاً لهذا الطهر والله أعلم.(1/249)
وإذا كانت للمرأة أيام حيض وطهر معروفة، فاستحاضت فلم تهتم لرؤيتها حتى أتى عليها زمان ثم ندمت على ما فرطت، فجاءت تستفتي وهي موضع حيضها ولا موضع طهرها، وتعلم عادتها في الحيض والطهر أو لا تعلم، فإنها تتحرى عندنا؛ لأن هذا اشتباه وقع في أمر من أمور الدين، فاشتبه اشتباه القبلة والسهو في أعداد الركعات، فإن استقرّ أكثر رأيها وظنها على موضع حيضها، وعددها فظنت على ذلك كما في باب القبلة، فتصلي في كل زمان هي طاهر بغالب الظن، ولكن بالوضوء لوقت كل صلاة، وتدع الصلاة في كل وقت هي خالص بغالب ظنها، وكل زمان لم يستقر رأيها فيه على شيء، وترددت بين الحيض والطهر لم تمسك عن الصلاة الفرض لاحتمال أنها طاهرة في ذلك الزمان، فعليها ذلك.
ويحتمل أنها خالص فليس عليها ذلك فاستوى فعل الصلاة وتركها في حق الحل والحرمة، والباب باب العبادات، فتحتاط فيها وتصلي؛ لأنها إن صلت وليس عليها ذلك خيراً لها من أن تتركها، وعليها ذلك، فعند ذلك ينظر إن كان التردد بين دخول الحيض، والطهر صلت فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وإن كان التردد بين الطهر وبين الخروج عن الحيض صلت فيه لا تغسل لوقت كل صلاة بالشك استحساناً، والقياس أن تغتسل في كل ساعة؛ لأنه ما من ساعة إلا وتتوهم وقت خروجها من الحيض، فتغتسل احتياطاً.
وجه الاستحسان: أن إيجاب الاغتسال عليها في كل ساعة حرج عظيم؛ لأنها تصير مشغولة عن إقامة الصلوات وإصلاح أمر المعيشة؛ ولأن الاغتسال لأداء الصلاة، فإنها تغتسل لتصير أهلاً لأداء الصلاة ولو وجب عليها الاغتسال في كل وقت لتقاعدت هي عن الصلاة، وإنا اكتفينا باغتسال واحد في كل صلاة؛ لأن لها حق شغل جميع الوقت بالصلاة، فهي وإن لم تفعل جعل حكماً كأنه شغلته وأقيم الوقت مقام الصلاة للضرورة.
قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: والصحيح: أنها تغتسل لكل صلاة للنصوص، فإن زينب بنت جحش استحيضت سبع سنين فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالاغتسال لكل صلاة وبه أمر حبيبة رضي الله عنها أيضاً. وهكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، وعن الفقيه أبي سهيل أنها إذا اغتسلت في وقت صلاة وصلت ثم اغتسلت في وقت صلاة أخرى أعادت الصلاة الأولى ثم تصلي الوقتية، وهكذا تصنع في كل صلاة احتياطاً لاحتمال أنها كانت حائضاً في وقت الصلاة الأولى وتكون طاهرة في وقت الصلاة الثانية، فتفعل كذلك لتتيقن بأداء أحدهما بصفة الطهارة ولها أن تصلي السنن المشهورة، لكنها تبعاً للفرائض، لأنها شرعت جبراً النقصان لكن في الفرائض فيكون حكمها حكم الفرائض، وتصلي الوتر أيضاً، ولا تصلي تطوعاً سوى هذه السنن المشهورة، لترددها بين المباح والبدعة.(1/250)
وإذا صلت الفريضة لا تطيل المرأة بل تقرأ الفاتحة وسورة قصيرة، وقال بعض مشايخنا: تقرأ في الأوليين عند أبي حنيفة رحمه الله آية واحدة وثلاث آيات قصار، وعندهما بقدر ما تجوز به الصلاة، وقيل: تقرأ الفاتحة في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، ولا تقرأ غيرها.
وقيل: إنها تقرأ في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، الفاتحة وسورة قصيرة أو ثلاث آيات؛ لأنها واجبة وهو الصحيح ولا تقرأ في الأخريين من المكتوبات أصلاً عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تقرأ وهو الصحيح، لأن قراءتها واجبة في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله.
قال بعض مشايخنا (39أ1) : ولا تقنت باللهم إنا نستعينك؛ لأنهما سورتان من القرآن عند عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وغيرهما من الدعوات تقوم مقامه احتياطاً، ولا تقرأه احتياطاً وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» : أنها تقرأ اللهم إنا نستعينك.
ولا تقرأ القرآن في غير الصلاة لاحتمال قيام الحيض، هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعض النسخ نقول: ولا تقرأ آية تامة في غير الصلاة، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، فإن سمعت سجدة وسجدت للحال سقطت عنها؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد أدت ما لزمها وإن كانت حائضاً لم تلزمها، وإن سجدت بعد ذلك أعادتها بعد عشرة أيام، لجواز أن السماع كان في الطهر والأداء في الحيض، فإذا عادت بعد عشرة أيام، فقد تيقنت بالأداء في الطهر في إحدى المرتين. وإن كان عليها صلاة فائتة تقضيها، فعليها إعادتها بعد عشرة أيام عند مشايخ بخارى تيقناً أن إحدى العشرين أيام طهرها.
وقال أبو علي الدقاق: إعادتها بعد تمام العشرة قبل أن تزيد على خمسة عشر وهو الصحيح؛ لأن بعد انقضاء خمسة عشر يجوز أن يعود حيضها.
ولا تطوف للتحية؛ لأنه تردد بين البدعة وبين السنّة، وتطوف الزيارة ثم تعيد بعد عشرة أيام؛ وهذا لأن طواف الزيارة ركن فلا تتركه لاحتمال الحيض وتعيدها بعد عشرة أيام، لتتيقن بصحة أحدهما فتتحلل بيقين وتطوف للصدر ثم لا تعيدهأما تطوف؛ لأن طواف الصدر واجب، فلا تتركه لاحتمال الحيض ولا تعيده؛ لأنها إن كانت طاهرة، فقد خرجت عن العهدة، وإن كانت حائضاً فليس عليها طواف الصدر.
ولا يأتيها زوجها أبداً، ومن المشايخ من قال: يأتيها زوجها بالتحري؛ لأن الطهر غالب على الحيض؛ لأنه أكثر من الحيض وعند غلبة الحلال الحرام يجوز التحري كما في المشايخ، ولكن هذا باطل فقد نص محمد رحمه الله في كتاب التحري أن التحري في باب الفروج لا يجوز.
ولا تفطر في شيء من شهر رمضان لتوهم الطهر في كل يوم ثم بعدما مضى رمضان(1/251)
تقضي أيام الحيض في الشهر، وأكثر ما يكون حيضها في الشهر عشرة أيام سواء كان الشهر كاملاً أو ناقصاً، لأن باقي الشهر يكون للطهر، فإن نقص الشهر ينقصو، في الطهر لا في الحيض.
وهذا إذا كان يعرف أن حيضها في كل شهر مرة إلا أنها لا تعرف مقدار حيضها، فإن في هذه الصورة يجعل حيضها عشرة ثم المسألة على ثلاثة أوجه:
إن علمت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل فعليها قضاء عشرين يوماً؛ لأن أكثر ما فسد صومها في الشهر عشرة، فربما وافق القضاء أيام حيضها في الشهر الثاني، فعليها أن تقضي عشرة أخرى لتخرج عن العهدة بيقين، ويستوي إن كانت تقضي بعد الفطر من غير تأخر أو كانت تؤخر القضاء مدة معلومة؛ لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإن أكثر ما يفسد من صيامها أحد عشر؛ لأن ابتداء الحيض إذا كان في بعض النهار فتمام العشرة يكون في اليوم الحادي عشر، فعليها أن تقضي بعد الفطر اثني وعشرين يوماً قضت هي بعد الفطر من غير تأخر أو أخرت القضاء مدة طويلة، لجواز أن يوافق شروعها في القضاء حيض عشرة أيام، فيفسد صوم أحد عشر يوماً، فعليها أن تصوم أحد عشر يوماً أخرى لتخرج عن العهدة بيقين.
وإن لم تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار يحمل على أنه يكون بالنهار؛ لأن هذا أحوط الوجوه، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله، وغيرُه من المشايخ قالوا: تقضي من صيام عشرين يوماً؛ لأن الحيض في كل شهر تسعة أيام، وطهرها بقية الشهر إلا أنها لا تعرف موضع حيضها، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية عشر يوماً.h
فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية وعشرين يوماً؛ لأن أكثر ما تفسده من صيامها في الوجه الأول تسعة، وفي الوجه الثاني عشرة، فتقضي ضعف ذلك لاحتمال اعتراض الحيض في أول يوم القضاء.
وإن لم تعلم ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار فإنها تقضي عشرين يوماً بلا خلاف، هذا إذا علمت أن دورها كان في كل شهر، وإن لم تعلم أن دورها في كل شهر، فعليها أن لا تفطر في شيء في رمضان احتياطاً، وعليها إن عرفت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل قضاء خمسة عشر يوماً؛ لأنه يجعل حيضها عشرة وطهرها خمسة عشر، وفي هذه الصورة بطريق الاحتياط، فإنها يفسد صومها، أما عشرة من أول الشهر وخمسة في آخره وخمسة من أول الشهر بقيّة حيضها وعشرة من آخر الشهر.
فبعد ذلك المسألة على وجهين: إما إن كانت تقضيه موصولاً لا بشهر رمضان، وفي هذا الوجه عليها قضاء خمسة وعشرين يوماً؛ لأنه إن كان فسد من صومها عشرة من أول الشهر وخمسة من آخر الشهر، فيوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه ثم يجزئها الصوم في أربعة عشرة، ثم لا يجزئها في عشرة ثم يجزئها في يوم فمن هذا الوجه كان عليها أن تصوم خمسة وعشرين فمن الوجه الأول عليها أن تصوم تسعة عشر فكان(1/252)
الاحتياط في أن تصوم خمسة وعشرين.
وإن كانت تقضيه مفصولاً فكذلك تقضي خمسة وعشرين يوماً للاحتمال أن ابتداء القضاء يوافق أول اليوم من حيضها، فلا يجزئها الصوم في عشرة ثم يجزئها في خمسة عشرة، وهذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، فأما إذا كان تسعة وعشرين يوماً، فعليها أن تصوم بعد الفطر؛ إذا وصلت عشرين يوماً وإذا وصلت أربعة وعشرين، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» .
فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فأكثر ما فسد من صومها في الشهر ستة عشر يوماً إلى أحد عشره من أوله وخمسة في آخره وأما خمسة من أوله بقية الحيض وأحد عشر من آخر.
فبعد ذلك المسألة على وجهين: أما إن كانت تقضيه موصولاً برمضان، وفي هذا الوجه عليها أن تقضي اثنين وثلاثين يوماً؛ لأن الاحتياط في هذه الأوجه يجوز أنها فسد من صومها أحد عشر من أول رمضان وخمسة من آخر رمضان ويوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه، ثم لا يجزئها صومها في خمسة أيام ثم يجزىء في أربعة عشر بعدها، ثم لا يجزىء في أحد عشر يوماً ثم يجزىء في يومين فتكون الجملة اثنا وثلاثون.
وإن كانت تقضيه مفصولاً عن رمضان فعليها قضاء ثمانية وثلاثون يوماً يجوز أن يوافق ابتداء القضاء أول زمان حيضها، فلا يجزئها صومها في أحد عشر يوماً ثم يجزئها في أربعة عشر يوماً لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يومين، فجملة ذلك ثمانية وثلاثون فإذا صامت هذا العدد تيقنت بجواز صومها في ستة عشر يوماً، وذلك القدر كان واجباً عليها.
هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، فأما إذا كان تسعة وعشرين يوماً فعليها أن تصوم بعد الفطر إذا وصلت اثنين وثلاثين يوماً فكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» ، وإن كانت لا تدري أن هذا الحيض كان يكون بالليل أو بالنهار، فعند الفقيه أبي جعفر رحمه الله يأخذ بأحوط الوجهين، فتقضي ثمانية وثلاثين إن قضت مفصولاً، وإن قضت موصولاً تقضي اثنين وثلاثين، وعند عامة المشايخ تقضي خمسة وعشرين والصحيح قول أبي جعفر.
وإن كانت تعلم أن أيام حيضها ثلاثة ونسيت أيام طهرها يحمل طهرها على أقل الأطهار وخمسة عشر، فإذا صامت شهر رمضان كله ثم أرادت أن تقضي، فإن علمت بأن إنهاء حيضها كان يكون بالليل، وكان شهر رمضان ثلاثين يوماً صامت تسعة أيام وصلت بيوم الفطر أو فصلت.
أما إذا وصلت به؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في أول شهر رمضان ثلثه ثم طهرت خمسة عشر ثم حاضت ثلاثة ثم طهرت خمسة عشر، فقد فسد من صومها ستة أيام، فإذا وصلت، فقد جاز صيامها بعد يوم الفطر خمسة أيام، ثم تحيض ثلاثة فيفسد صومها، فصار ثمانية بقي عليها صوم يوم، فيصير تسعة، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها من(1/253)
القضاء ستة أيام، ويحتمل (39ب1) اعتراض الحيض في أول يوم القضاء، فيفسد صومها في ثلاثة ثم يجوز في ستة، فتصير تسعة.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار تصوم إثني عشر يوماً بعد يوم الفطر وصلت بيوم الفطر أو فصلت، أما إذا وصلت؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في شهر رمضان، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في أربعة عشر، ثم يفسد في أربعة أيام، فقد فسد من صومها ثمانية، فإذا قضت موصولاً بالشهر جاز بعد الفطر صوم خمسة أيام ثم يستقبلها الحيض، فيفسد صوم أربعة أيام، وقد بقي عليها قضاء ثلاثة أيام، فجملة ذلك اثنا عشر، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها قضاء ثمانية ويحتمل أن بابتداء الحيض وافق أول يوم القضاء، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في ثمانية فجملة ذلك اثنا عشر.
هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، وإن كان تسعة وعشرين يوماً فتخريجه على قياس المسائل المتقدمة يعرف عند التأمل، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.
وإن وجب على هذه المرأة صوم شهرين متتابعين في كفارة القتل أو في كفارة الفطر بأن كانت أفطرت قبل هذه الحالة، فإن الفطر في هذه الحالة لا توجب الكفارة لتمكن الشبهة في كل يوم لتردده بين الحيض والطهر فهذا على وجهين:
إن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم تسعين يوماً؛ لأن الواجب عليها صوم ستين يوماً، فإذا كان دورها في كل شهر يجوز صومها في عشرين يوماً من كل ثلاثين يوماً، فإذا صامت تسعين، فقد تيقنت بجواز صومها في ستين يوماً.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم مائة يوم وأربعة أيام، لجواز توافق ابتداء صومها ابتداء حيضها فلا يجوز صومها في أحد عشر يجزئها في تسعة عشر، ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في تسعة عشر، فبلغ العدد تسعين يوماً، وإنما جاز صومها في سبعة وخمسين يوماً ثم لا يجزئها أحد عشر ثم يجزئها في أربعة عشر تتمة ستين، فبلغ العدد مائة وخمسة عشر، وجاز صومها في ستين يوماً بتيقن.
وإن كانت لا تدري كيف ابتداء حيضها بالنهار أو بالليل فهو على الاختلاف الذي بينّا على قول الفقيه أبي جعفر رحمه الله: نأخذ بأحوط الوجهين، فتصوم مائة وأربعة أيام، وعلى قول أكثر مشايخنا تصوم تسعين يوماً.
وإن كانت لا تدري أن دورها كان في كل شهر، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم مائة يوم لأنا نجعل في هذه الصورة عشرة وطهرها خمسة عشر، فكلما صامت خمسة وعشرين نتيقن بجواز صومها في خمسة عشر، فإذا صامت مائة جاز صومها في ستين يوماً بتيقن، فتسقط عنها الكفارة.
وإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم مائة وخمسة عشر يوماً؛ لأن من الجائز أن ابتداء الصوم ابتداء حيضها، فلا يجزيها في أحد عشر ثم(1/254)
يجزيها في أربعة عشر ثم لا يجزيها في أحد عشر ثم يجزيها في أربعة عشر، فبلغ العدد مائة، وإنما جاز الصوم في ستة وخمسين منها ثم لا يجزيها في أحد عشر، ثم يجزيها في أربعة عشر تتمة ستين فيبلغ العدد مائة وإنما جاز صومها فيه في ستين.
وإن كانت لا تدري كيف كان ابتداء حيضها، فهو على الاختلاف الذي بيّنا ولو وجب عليها صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين، فإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم خمسة عشر يوماً؛ لأنه إن وافق ابتداء حيضها لم يجزها صومها في عشرة، ويجزئها في ثلاثة بعده وذلك ثلاثة عشر.
وإن كان عند ابتداء صومها قد بقي من طهرها يوم أو يومان جاز صومها فيهما، ثم لم يجز صومها في عشرة، وانقطع التتابع، فإن صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين يجب متابعة، وعدد الحيض فيه لا يكون عفواً لأنها تمر ثلاثة أيام خالية عن الحيض بخلاف الشهرين، وقد عرف ذلك في موضعه، فعليها أن تحتاط وتصوم خمسة عشر يوماً، حتى إذا كان الباقي من طهرها يومان حين شرعت في الصوم لم يجز صومها فيها عن الكفارة لانقطاع التتابع، وفي العشرة بعدها يقدر الحيض وجاز في ثلاثة بعده فكانت الجملة خمسة عشر، وإن شاءت صلّت ثلاثة أيام هي ثم بعده عشرة أيام وتصوم ثلاثة أخرى، فيتعين أن إحدى الثلاثين واتفقت زمان طهرها، وجاز صومها فيه من الكفارة.
وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم ستة عشر يوماً؛ لأن الجائز أن الباقي من طهرها حين شرعت في الصوم يومان فلا يجزيها صومها فيه عن الكفارة لانقطاع التتابع، ثم لا يجزيها في أحد عشر يوماً بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يوماً بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يوماً ثم أفطرت أحد عشر يوماً ثم صامت ثلاثة أيام، فيتعين أن إحدى الثلاثين كان في زمان طهرها فتجزيها عن الكفارة، كذا قاله محمد رحمه الله.
قال القاضي الإمام الشهيد المحسن بن أحمد المروزي رحمه الله هو خطأ فإنه يجوز أن يكون اليوم الأول من الثلاثة الأولى يوم خروجها من الحيض، واليوم الثاني من الثلاثة الأخرى يوم دخولها في الحيض، فلا يجزيها إحدى الثلاثين، قال: والصحيح ما قاله أبو علي الدقاق: إنها تصوم ثلاثة أيام، وتفطر سبعة أيام وتصوم أربعة أو تفطر على وتطهر وعلى هذا قضاء رمضان أيضاً بأن كان الواجب عليها قضاء عشرة أيام بأن كان دورها في كل شهر، فإن شاءت صامت عشرين يوماً كما بيّنا، وإن شاءت صامت عشرة أيام في شهر ثم في شهر آخر عشرة أخرى سوى العشرة الأولى، للتيقن أن إحدى العشرين حيضها كان يكون في كل شهر ثلاثة أو أربعة، فعليها بعد مُضي رمضان قضاء ضعيف عدد أيامها، وإن شاءت صامت أيامها في عشرة من شهر ثم في شهر آخر صامت مثل ذلك، لتتيقن أن إحداهما يوافق زمان طهرها، فيجزيها من القضاء إلا أنا لم نشتغل به في قضاء رمضان؛ لأنه لا يتحقق عليها لنقصان العدد، وقد بيّناه في صوم كفارة اليمين؛ لأن التحقيق متحقق فيه، ولو وجب عليها قضاء صلاة تركتها في زمان طهرها صلت تلك الصلاة بالاغتسال ثم(1/255)
أعادتها بعد عشرة أيام ليخرج ما عليها بيقين، ليكون أحد الوقتين زمان طهرها.
ولو أن هذه المسألة كانت أمة، فاشتراها إنسان فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله استبرأها بستة أشهر وعشرين يوماً إلا ساعتين، لجواز أن الشراء كان بعد ما مضى حيضها، فلا تُحتسب بهذه الحيضة من الاستبراء لأنه عشرة أيام إلا ساعة ثم بعده طهر ستة أشهر إلا ساعة ثم بعده الحيض عشرة أيام، فتكون الجملة ست أشهر وعشرون يوماً إلا ساعتين فيستبر ئها به.
قال مشايخنا: هذا على قول من يجوز وطأها بالتحري، لأن المقصود من الاستبراء استباحة الوطء، أما على قول من لا يجوز وطأها أصلاً وهو الصحيح فلا حاجة له إلى هذا التكليف، ولو كانت المبتدأة حرّة وطلقها زوجها بعد الدخول بها، فعلى قول أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: لا تنقضي عدتها في حكم التزوج بزوج آخر أبداً، لما بيّنا أنها لا يقدر أكثر الطهر بشيء، وعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تنقضي عدتها بمضي تسعة أشهر وعشرة أيام غير أربعة ساعات من وقت الطلاق؛ لأنه يقدر أكثر الطهر ستة أشهر غير ساعة على ما مرّ. ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مُضي ساعة من حيضها، فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة ثم بعده يحتاج إلى ثلاثة أطهار، كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وثلاث حيض كل حيض عشرة أيام، فإذا جمعت بين هذه الجملة كانت الجملة سبعة عشر شهراً وعشرة أيام غير أربع ساعات، فيحكم بانقضاء عدتها بمضي هذه المدة من وقت الطلاق، ويجوز لها أن تتزوج بزوج آخر بعدها.
وعلى قول من يقدر طهرها تسعة وعشرين على ما يأتينا تتزوج بزوج آخر بعد مضي أربعة أشهر ويوم واحد غير ساعة من وقت الطلاق؛ لأن من الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها، (40أ1) فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة على ما مر، ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها إلى الحيضة التي تنقضي بها العدة، وهي عشرة أيام بعد غير ساعة بعد ذلك يحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر سبعة وعشرون إلى ثلاث حيض كل حيض عشرة، فتبلغ الجملة مائة وإحد وعشرين يوماً غير ساعة، فتتزوج بعد مضي هذه المدة وأما حكم انقطاع.
الرجعة للزوج في هذه المرأة، فنقول:
إذا مضى من وقت الطلاق تسعة وثلاثون يوماً يحكم بانقطاع الرجعة؛ لأن هذا أمر يُحتاط فيه. ومن الجائز أن حيضها كان ثلاثة وطهرها كان خمسة عشر، وكان وقوع الطلاق في آخر جزء من أجزاء طهرها، فتنقضي عدتها بمضي تسعة وثلاثين في هذه الصورة تنقضي عدتها بثلاثة حيض كل حيض ثلاثة وبطهرين كل طهر خمسة (عشر) ، وهذا الجواب في حق امرأة لا تعرف مقدار حيضها في كل شهر، والله أعلم.
في المرأة تضل عدداً في عدد
إن سئل المفتي عن امرأة أقبلت أيامها فيما دونها من العدد بأن قبل أيامها كانت عشرة وأضلت في أسبوع، فهذا السؤال محال لامتناع وجودها في أسبوع، وكذلك إذا(1/256)
سئل عن امرأة أضلت أيامها في مثلها من العدد بأن قبل أيامها كانت سبعة، فأضلت ذلك في أيام خمسة، فهذا السؤال محال أيضاً؛ لأنها واجدة أيامها عالمة بها.
وإن سئل عن امرأة أضلت أيامها فيما فوقها من العدد، فهذا السؤال مستقيم ثم الأصل فيه ما ذكرنا أنّ كل زمان يتيقن بالحيض فيه تترك الصلاة والصوم، ولا يأتيها زوجها فيه بيقين وكل زمان يتردد فيه بين الحيض، والطهر لا تترك المكتوبات وصوم رمضان، فبعد ذلك إن كان التردد بين الطهر والخروج عن الحيض، فتصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة على حسب ما اختلفوا بالشك، وإن كان التردد بين الطهر والدخول في الحيض تتوضأ لكل صلاة بالشك.
وأصل آخر أن المرأة متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر منها، فإنها لا تتيقن بالحيض في شيء منه، ومتى أضلت أيامها فيما دون ضعفها من العدد، فإنها تتيقن بالحيض في شيء منها نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثة، فأضلتها في خمسة، فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث منه، فإنه أول الحيض أو آخر الحيض أو الثاني منه بيقين فتترك الصلاة فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن علمت أن أيامها كانت ثلاثة، فأصلتها في العشرة الآخرة من الشهر، ولا تدري هي في أي موضع من العشرة ولا رأي لها في ذلك فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر ثم بعده تصلي إلى آخر الشهر بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على حسب ما ذكرنا من الاختلاف بين المشايخ، للتردد بين الطهر والخروج من الحيض، إلا إذا تذكرت أن خروجها من الحيض في أي وقت من اليوم كان يكون، ففي هذه الصورة تغتسل في كل (يوم) في ذلك الوقت مرة، وإن لم تتذكر ذلك تغتسل لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، وإن أضلت أربعة في العشرة، فإنها تصلي أربعة من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل بعد ذلك إلى آخر العشرة لكل صلاة أو لوقت كل صلاة للتردد بين الطهر والخروج عن الحيض.
وإن أضلت خمسة في العشرة، فإنها تصلي خمسة في أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تغتسل لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على ما ذكرنا.
وإن أضلت ستة في العشرة من أول العشرة أربعة أيام أو بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع يومين، ثم تصلي أربعة أيام بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة؛ لأن الخامس والسادس حيض بيقين؛ لأن أيامها إن كانت من أول العشرة، فالخامس والسادس آخر حيضها، وإن كانت من آخر الشهر فالخامس والسادس من أول حيضها ثم إلى أخرها ويتم الخروج، فتغتسل فإن أضلت سبعة في عشرة صلت في ثلاثة من أولها بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع أربعة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي ثلاثاً بالاغتسال لكل صلاة، أو لوقت كل صلاة.
وإن أضلت ثامنية في عشرة فإنها تصلي في يومين من أولها بالوضوء لكل صلاة ثم(1/257)
تدع الصلاة في ستة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي يومين بالاغتسال لتوهم الخروج عن الحيض؛ وإن أضلت تسعة في عشرة فإنها تصلي من أول العشرة يوماً بالوضوء ثم الصلاة ثمانية ثم تصلي يوماً بالاغتسال.
فإن قالت أضللت عشرة في عشرة، فهي واحدة عالمة بها، وهذا السؤال منها محال وإن علمت أنه كانت تطهر في آخر الشهر، ولا تدري كم كان أيامها توضأت لوقت كل صلاة، إلى تمام سبعة وعشرين من الشهر وصلت ثم تدع الصلاة ثلاثة أيام ثم اغتسلت غسلاً واحداً في آخر الشهر، هكذا.
وذكر محمد رحمه الله في «الأصل» قالوا: والجواب الذي ذكره صحيح إلا أنه مبهم لأنه لم تميز وقت تيقنها بالحيض من وقت الطهر، وإنما تمام الجواب أنها إلى العشرين تتيقن بالطهر؛ لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، فتتوضأ لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم في تسعة بعد العشرين تردد حالها فيه بين الحيض والطهر؛ لأنه إن كان حيضها ثلاثة فهي السبعة من جملة طهرها، فتصلي فيها بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وتترك الصلاة في ثلاثة أيام من آخر الشهر لتيقنها بالحيض فيه وقت الخروج من الحيض معلوم لها، وهو عند انسلاخ الشهر، فتغتسل في ذلك الوقت غسلاً واحداً، فإن ذكرت أنها كانت ترى الدم إذا جاوزت عشرين يوماً، لكن لا تدري كم كانت، فإنها بعد العشرين تدع الصلاة ثلاثاً بيقين؛ لأن الحيض لا يكون أقل منها ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخره لما قلنا.
وإن علمت أنها كانت ترى الدم يوم الحادي والعشرين، ولا تتذكر سوى ذلك، فالجواب أنها تتيقن بالطهر إلى الحادي عشر من الشهر، فتصلي بالوضوء لوقت صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم تصلي سبعة أيام بالوضوء بالشك لجواز أن اليوم الحادي والعشرين آخر حيضها وأيامها عشرة، ولا يأتيها زوجها في هذه السبعة، ثم تدع الصلاة في اليوم الحادي والعشرين؛ لأن فيه تيقن الحيض ثم تصلي إلى آخره بالاغتسال لكل صلاة، وإن علمت أنها كانت ترى الدم بعد مضي تسعة عشر من الشهر، ولا تدري كم كانت أيامها، فقد ذكر في بعض النسخ أنها تدع ثلاثة أيام بعد سبعة عشر لتيقن الحيض، ثم تصلي سبعاً بالاغتسال لكل صلاة بالشك.
وتأويل هذا إذا كانت تذكرت أن ابتداء حيضها كان يكون بعد سبعة عشر وفي عامة النسخ كانت تصلي بالوضوء ثلاثة أيام ثم بالاغتسال سبعة أيام، وهو الذي ذكره الحاكم في «المختصر» . وإنما خالف بين جواب هذه المسألة وبين جواب المسألة الأولى؛ لأن موضوع هذه المسألة أنها لا تعلم أن حيضها، كان يكون متصلاً بمضي سبعة عشر من الشهر وإنما تعلم كونه في العشرة التي بعدها وإذا كان موضع المسألة هذا فهذه امرأة أضلت أيامها في العشرة، ولا تدري كم كان أيام حيضها وأقل الحيض بيقين ثلاثة، وقد بيّنا فيمن أضلت ثلاثة في عشرة أنها تتوضأ لوقت كل صلاة وثلاثة أيام من أولها، ثم الباقي بالغسل إن علمت أنها كانت تحيض في كل شهر مرّة في أوله أو آخره، ولا يدرى(1/258)
كم كان حيضها، فإنها تتوضأ من أوّل الشهر لوقت كل صلاة ثلاثة أيام، ولا يأتيها زوجها لترددها بين الحيض والطهر ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ولا يأتيها زوجها ثم تتوضأ إلى آخر الشهر.
ولم يتميز في هذا الجواب بالزمان الذي فيه تيقُّن الطهر، فنقول في العشرة الأوسط تتوضأ لوقت كل صلاة؛ لأنها تتيقن بالطهر ههنا، ويأتيها زوجها فيها ثم في العشرة الأخيرة، تتوضأ لوقت كل بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل هي أيام الشهر مرة واحدة.
وإن علمت أن أيامها خمسة، وأنها كانت ترى الدم (40ب1) في اليوم الحادي والعشرون، ولا تحفظ شيئاً آخر صلت بالوضوء من أول الشهر إلى خمسة عشر يتيقن الطهر ثم تصلي بالوضوء بالشك أربعة أيام، ثم تترك الصلاة في اليوم العشرين؛ لأنه من أيام الحيض بيقين ثم تغتسل بعدها أربعة أيام بالشك، لاحتمال الخروج عن الحيض.
وإذا كان للمرأة أيام معلومة في كل شهر انقطع عنها الدم أشهراً ثم عاودها الدم واستمر، ونسيت أيامها تركت من أول الاستمرار ثلاثة أيام لتيقنها بالحيض فيها، فإن عادتها قد انتقلت إلى موضع الاستمرار، لعدم رؤيتها الدم في موضعها مرتين وزيادة فتتيقن بالحيض في ثلاثة أيام، فتترك الصلاة فيها ثم تغتسل لوقت كل صلاة في سبعة أيام لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض ثم تتوضأ عشرين يوماً لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها فيها، وذلك دأبها.Y
هكذا ذكر محمد رحمه الله جواب المسألة في «الكتاب» : وتأويلها أنه يُعلم أن دورها في كل شهر، وإن لم يعرف ذلك فلا ذكر له في «الكتاب» عن محمد رحمه الله، والجواب أن هذا لا يخلو من وجوه إما إذا كانت لا تعرف مقدار حيضها ومقدار طهرها.
وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثاً بيقين ثم تصلي بالاغتسال بالشكل لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض، ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة لاحتمال الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ويأتيها زوجها في هذه الثمانية لتيقنها بالطهر فيها، فإنه إن كان حيضها ثلاثة فهذا آخر طهرها، وإن حيضها عشرة، فهذا أول طهرها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها، فقد بلغ الحساب أحد وعشرين، ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنه لم يبق بعده تيقين بالحيض أو بالطهر في شيء فما من وقت لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، أما بالزيادة في حيضها على ثلاثة أو بالزيادة في طهرها على خمسة عشر.
وأما إن عرفت مقدار طهرها، ولم تعرف مقدار حيضها وفي هذا الوجه تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام بيقين ثم تصلي سبعة أيام بالغسل لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنها تتوهم في كل وقت أنه وقت خروجها من الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، فبلغ الحساب أحد وعشرين، فلو كان حيضها ثلاثة، فابتداء(1/259)
طهرها الثاني بعد أحد وعشرين، فلو كان حيضها عشرة، فابتداء طهرها الثاني من خمسة وثلاثين ففي هذه الأربعة عشر أعني بعد أحد وعشرين إلى خمسة وثلاثين تصلي بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك، لاحتمال خروجها عن الحيض من كل وقت من ذلك ثم تصلي يوماً واحداً بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، وذلك بعدما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين؛ لأن هذا اليوم من طهرها بيقين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض.
والطهر ثم تغتسل بعد ذلك بالشك أبداً لوقت كل صلاة؛ لأنه لم يبق لها يقين الطهر بعده في شيء فما من ساعة لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، فأما إن عرفت مقدار حيضها، ولم تعرف طهرها بأن عرفت أن حيضها كان ثلاثة، ولا تدري كم كان طهرها وفي هذا الوجه تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار بيقين، وتغتسل ثم تصلي خمسة عشر يوماً بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها فيها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، فبلغ الحساب أحد وعشرين يوماً، ولم يبق لها يقين في شيء بعد ذلك فتصلي فيها بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأن ما من وقت بعدها إلا وتتوهم أنه وقت خروجها من الحيض.
وأما إن عرفت أنّ مقدار طهرها خمسة عشر وتردد رأيها في الحيض بين الثلاثة والأربعة وفي هذا الوجه تركت من أول الاستمرار ثلاثة ثم اغتسلت وصلّت في اليوم الرابع بالوضوء بالشك، ثم تغتسل عند مضي اليوم الرابع مرة أخرى ثم تصلي بالوضوء أربعة عشر يوماً بيقين، فبلغ الحساب ثمانية عشر ثم تصلي اليوم التاسع عشر بالوضوء بالشك، ثم تدع اليوم الحادي والعشرين بيقين، وتغتسل لتمام الحادي والعشرين، لاحتمال أنه وقت خروجها من الحيضة الثالثة بأن كان حيضها ثلاثة وتصلي اليوم الثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل لتمام الثاني والعشرين؛ لأنه ما على الحيض في حال بأن كان حيضها أربعة وطهرها في حال بأن كان حيضها ثلاثة، فلا تغتسل فيه، ولكن تصلي فيه بالوضوء بالشك ثم تغتسل عند تمام الثلاث والعشرين، لاحتمال أوان أن خروجها من الحيضة الثانية بأن كان حيضها ثلاثة، وتصلي للثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل للثاني والعشرين في أربعة ثم تصلي بثلاثة عشر يوماً بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب ستة وثلاثين ثم تصلي يومين بالوضوء بالشك، ثم تدع الصلاة يوماً واحداً؛ لأن هذا اليوم آخر حيضها إن كان حيضها ثلاثة وأول حيضها إن كان حيضها أربعة فتتيقن فيه بالحيض، فبلغ الحساب تسعة وثلاثين ثم تغتسل لجواز الخروج من الحيض ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك، فبلغ الحساب اثنين وأربعين، ثم تغتسل لاحتمال أن هذا أوان خروجها من الحيض بأن كان حيضها أربعة ثم تصلي اثني عشر بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثلاثة بالشك ثم تغتسل وتصلي أربعة بالوضوء بالشك ونسوق المسألة هكذا، ونأمرها بالاغتسال في كل وقت يتوهم خروجها من الحيض؟...........(1/260)
إذا كانت المستحاضة لا تذكر أيامها غير أنها تستيقن بالطهر في اليوم العاشر والعشرين والثلاثين، فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول الشهر بالوضوء لوقت كل صلاة، لترددها بين الحيض والطهر ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة، لاحتمال خروجها من الحيض في كل ساعة، ثم تصلي اليوم العاشر بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين الطهر ثم تصلي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لترددها فيه بين الحيض والطهر، ثم تصلي بعد ذلك لستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة، لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة ثم تتوضأ في اليوم العشرين، وتصلي بيقين الطهر ثم تصلي ثلاثة أيام بعدها بالوضوء بالشك، ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال ثم تصلي اليوم الثلاثين بالوضوء بيقين الطهر.
ولا يجزيها صومها في سبعة أيام من رمضان ولتصم ضعفها ثمانية عشر يوماً قال الحاكم الشهيد رحمه الله: لو قضت صوم رمضان في هذه الأيام الثلاثة اليوم العاشر واليوم العشرين واليوم الثلاثين كفاها لتيقنها بالطهر فيها، والسابع في صوم القضاء ليس بشرط وما قضت من الفوائت في غير هذه الثلاثة، فلتعدها في هذه الأيام الثلاثة، ولا يأتيها زوجها إلا في هذه الأيام لأنا لا نتيقن بالطهر إلا فيها، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع
إذا كان على المستحاضة صلوات فائتة قضت ما عليها في يوم إن قدرت عليها أو في يومين بالاغتسال لكل صلاة، ثم تعيدها بعد مضي عشرة أيام في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لتتيقن بالأداء في زمان الطهر، والله تعالى أعلم.
(نوع آخر) في استخراج معروفة
امرأة كان حيضها عشرة وطهرها عشرين وطهرت أشهراً ثم استمرّ بها الدم فلم تستفت في ذلك حتى عليها سنون لعارض اعترض بأن جنت أو تركت الاستفتاء فسقاً أو مخافة ثم ندمت على ذلك جاءت تستفتي أنها في الحيض أو في الطهر في أوله أو آخره، وهي تعلم يوم الاستمرار أي يوم ومن أي شهر، ومن أي سنة بأن علمت أن يوم الاستمرار مثلاً يوم الأربعاء ااخامس من محرم سنة ثمان وستين وخمسمائة، ويوم الاستفتاء يوم الخميس الثامن عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فإن على المفتي أن يجمع عدد الأيام من أول الاستمرار إلى يوم الاستفتاء، فيأخذ السنين الكوامل وهي في هذه الصورة ثلاث سنين، ويضربها في شهور السنة وهي اثنا عشر فيصير ستة وثلاثين (41أ1) ويأخذ أيضاً الشهور الكوامل بعد ثلاث سنين وذلك ههنا ستة، فتضم إلى الأول وذلك ستة وثلاثين، فيصير اثنين وأربعين ثم يضرب ما اجتمع، وذلك اثنين وأربعين في عدد أيام الشهور، وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفاً ومائتين وأربعين في عدد أيام الشهور وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفاً ومائتين وستين يضم إليها ما بقي من الأيام من يوم الاستمرار إلى يوم الاستفتاء بعد السنين الكاملة، والشهور الزائدة عليها وهي ثلاثة عشر، فيصير ألف ومائتين وثلاثة وسبعين إلا أن كل الشهور لا تكون كاملة(1/261)
كلها، ولا تكون ناقصة بل يكون نصفها كاملة ونصفها ناقصة هذا هو الغالب. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه والذي أجتمع عندنا من الشهور اثنان وأربعون ينقص عما اجتمع عندنا عن الأيام أحد وعشرون، والذي اجتمع عندنا من الأيام ألف ومائتين وثلاثة وسبعين، فيطرح عنها أحد وعشرون يبقى هناك ألف ومائتان واثنان وخمسون، ثم ينظر المفتي إلى دورها، وذلك ثلاثون يوماً حيضها عشرة من أولها ثم طهرها عشرون، وهذا عدد له ثلث صحيح وعشر صحيح، فيطرح من جملة ما اجتمع عندنا ما له ثلاث صحيح وعشر صحيح، وذلك ألف ومائتان وثلاثون يبقى هناك اثنان وعشرون إلى
تمام ألف ومائتين وخمسين ليس ثلث له صحيح وعشر صحيح، فعشرة منها من أولها حيض واثنا عشر مضى من طهرها، وقد بقي من طهرها ثمانية ثم بقي معنا إن المعنى يجوز أن يكون مصيباً في أخذ الطرح بأن كان عدد الكوامل من الشهور مثل عدد النواقض من الشهور يجوز أن يكون مخطئاً فيها بأن كان عدد الكوامل أو النواقص أكثر، فالوجه في معرفة الصواب والخطأ في الطرح أن بعد المفتي ما حصل معه من الأيام من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء بأيام الجمعة سبعة سبعة؛ إذ أيام الجمعة تزيد على السبعة ولا تنتقص، فيحط سبعة سبعة ويحفظ عدد أيام التي تنتقص من السبعة في العافية، فيعامله بعدما مضى من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء في أيام الجمعة، وذلك سبعة، فإن استويا ظهر أنه كان مصيباً في الطرح. وإن تفاوتا ظهر أنه كان مخطئاً في الطرح، فيرفع الخطأ بأن يزيد في الطرح أو ينتقص في الطرح.
إذا ثبت هذا فنقول: أجتمع عندنا من الأيام من أول الاستمرار إلى يوم ستفتاء بعد طرح أحد وعشرين ألفاً، فيطرح منها سبعة يطرح أولاً سبعمائة، ثم يطرح نصفها ثلاثمائة وخمسون ثم؛ مائة وأربعون ثم ست وخمسون، فجملة المطروح ألف ومائتان وستة وأربعون، يبقى هناك ستة إلى تمام ألف ومائتين واثنين وخمسين، وأول الاستمرار كان يوم الأربعاء. والسؤال يوم الخميس، فذلك يومان والباقي ههنا ستة، فوقع الخطأ بأربعة، فيزيد المفتي في النواقص أربعة أيام ويلحقها بالكوامل، ويزيد هذه الأربعة على أصل الحساب، وذلك ألفاً ومائتان وخمسون، فيصير ألف ومائتين وستة وخمسين، وقد طرحنا من الابتداء ألفاً ومائتان وثلاثين بقي إلى تمام ما اجتمع عندنا في الآخرة، وذلك ألف ومائتين وستة وخمسون ستة وعشرون عشرة من أولها حيض وستة عشر يوماً مضت من طهرها بقي من طهرها أربعة، فتصلي أربعة ثم تفصل عشرة ثم تصلي عشرين.
الفصل التاسع في النفاس
هذا الفصل يشتمل على أقسام:
الأول: يجب أن يعلم بأن النفاس هو الدم الذي يخرج عقيب الولادة.
قيل: إنه مشتق من النفس التي هو عبارة عن الولد بخروج الولد لا ينفك عن بلّة دم.(1/262)
وقيل: هو عبارة عن نفس الولادة يقال: نفست المرأة ولداً فهي نفساء، والولد منفوس والولد لا ينفك عن بلّة دم ولو ولدت ولم ترَ هي دماً، فهي نفساء في رواية الحسن عن أبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثم رجع أبو يوسف، وقال هي طاهرة.
وثمرة الخلاف تظهر في حق وجوب الغسل، فأما الوضوء فواجب بالإجماع؛ لأن الولد لا ينفك عن بلّة تخرج معه، وتلك البلّة حدث يوجب الوضوء بالإجماع، فوجه قول أبي يوسف الآخر أن النفاس عبارة عن الدم الخارج من الرحم، يقال للمرأة إذا رأت الدم عقيب الولد: نفست، فإذا لم ترَ الدم لم تكن نفساء والغسل من حكم النفاس في هذه الصورة.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن النفاس مأخوذ من كل واحد مما ذكرنا وكل واحد منهما لا يخلو عن بلّة دم، وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة رحمه الله وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله، وبعضهم أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله.
ثم الأمة أجمعت على وجوب الغسل بالنفاس، فإما أن يكون باجتماعهم بناءً على نص ورد فيه، واكتفوا بالإجماع عن نقل النص لكون الإجماع أكثر منه، أو يكونوا قاسوه على دم الحيض لعلة أنه دم خارج عن الرحم، ويجوز انعقاد الإجماع عن القياس، وليس لعله له غاية على ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله؛ لأنه لم يرد الشرع بتقديره، القليل منه كالكثير من حق كونه حدثاً فيكون هو نفاساً، بخلاف قليل الحيض حيث يقدّر وهو في نفسه لورود الشرع بتقديره، ولا تقدير ههنا فيتبع فيه القياس؛ ولأن دم الترك ما يكون من الرحم ولديه النفاس علامة يستدل بها على أنه من الرحم وهو خروج الولد بخلاف دم الحيض، فإنه له علامة عليه، فيستدل على ذلك بالامتداد ومقدار الاعتداد عرف بالشرع.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه قال أقل مدة النفاس مقدر بأحد عشر يوماً. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بخمسة وعشرين يوماً وأكثر مدة النفاس مقدر بأربعين يوماً عندنا. وقال الشافعي: بستين يوماً، وقال مالك: بسبعين يوماً واعتمادنا على حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت: كانت النفساء تعتد على عهد رسول الله عليه السلام أربعين يوماً، وفي حديث أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: «وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلّمللنفساء أربعين صباحاً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك» ، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: وقّت رسول الله عليه السلام للنفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، وإن زاد الدم على الأربعين فالزيادة على الأربعين استحاضة والأربعون نفاس في المبتدأة، وصاحبة العادة معروفها نفاس والزيادة عليها استحاضة (نوع منه)(1/263)
في الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس
قال أبو حنيفة رحمه الله: الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس لا يعتبر فاصلاً بين الدمين، سواء كان أقل من خمسة عشر أو كان خمسة عشر أو أكثر منها، ويجعل إحاطة الدمين بطرفه كالدم المتوالي؛ لأن الأربعين في النفاس عنده بمنزلة العشرة في الحيض، ثم الطهر بين العشرة في الحيض لا يعتبر فاصلاً بين الدمين عنده، وتجعل إحاطة الدمين بطرفيه كالدم المتوالي، وكذا في النفاس.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان الطهر المتخلل بين أربعين خمسة عشر فصاعداً، يصير فاصلاً بين الدمين، ويجعل الأول نفاساً والثاني حيضاً إن أمكن وإن كان أقل من خمسة عشر لا يصير فاصلاً بين الدمين، ويجعل كالدم المتوالي، فأبو يوسف رحمه الله سوّى بين النفاس وبين الحيض، فلم يجعل الطهر أقل من خمسة عشر فاصلاً بين الدمين فيها ومحمد رحمه الله (فرق) بينهما فجعل الطهر أقل من خمسة عشر في العشرة فاصلاً، ولم يجعله في الأربعين فاصلاً.
ووجهه: أنه إنما جعل ما دون خمسة عشر من الطهر في العشرة فاصلاً إذا كان الطهر غالباً على الدم، ويتصور أن يكون طهرما دون خمسة عشر غالباً على الدم في العشرة، أما لا يتصور أن يكون طهر ما دون خمسة عشر، فالأربعين غالباً على الدم، في افترقا.
إذا رأت بعد الولادة يوماً دماً وثمانية وثلاثين يوماً طهراً ويوماً دماً، فالأربعون كلها نفاس عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما نفاسها الدم الأول. ولو رأت مبتدأة خمسة دماً بعد الولادة، فإن بلغت بالحبل وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت خمسة دماً ثم رأت خمسة عشر يوماً طهراً ثم استمرّ بها الدم، فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله نفاسها هي الخمسة وعادتها في الطهر تكون خمسة عشر؛ لأنها رأت ذلك مرتين ولو رأت ذلك مرّة أليس أنها تصير عادتها لها، فههنا أولى ويكون حيضها هي الخمسة التي رأتها بعد العشرين، ويصير ذلك عادة لها برؤيتها إياها مرّة (41ب1) لكونها مبتدأة في الحيض.
وعند أبي حنيفة رحمه الله نفاسها يكون خمسة وعشرون، الطهر الأول غير معتبرة عنده أصلاً لإحاطة الدم بطرفيه في الأربعين، والطهر الثاني صحيح معتبر؛ لأنه تم الأربعون ما أحاط الدم بطرفيه في مدة الأربعين، وتصير عادتها في الطهر خمسة عشر لرؤيتها ذلك مرة لكونها مبتدأة ولاعادة لها في الحيض، فيجعل حيضها من أول الاستمرار خمسة؛ لأنها صارت عادة لها عندهما وطهرها خمسة عشر وتصير عادة لها في النفاس عند أبي حنيفة خمسة وعشرون، وعندهما خمسة.
قسم آخر في معرفة وقت النفاس
وقد اختلف العلماء قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فهو من ولادة الولد الأول، وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو من الولد الثاني.(1/264)
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا ولدت وفي بطنها ولد آخر. قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: كما ولدت الولد الأول تصير نفساء، وقال محمد (وزفر) رحمه الله: لا تصير نفساء ما لم تلد الولد الثاني.
حجة محمد وزفر رحمهما الله: أن النفاس حكم يتعلق بالولادة، كانقضاء العدة في حق انقضاء العدة يعتبر الولد الآخر، فكذا في حق النفاس وربما يقولان النفاس بمنزلة الحيض من حيث إن كل واحد منهما ينزل من الرحم ثم الحبل ينافي الحيض، فينافي النفاس أيضاً.
ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أن النفاس مأخوذ من واحد مما ذكرنا، فإنه يحصل بولادة الولد ودم الحامل إنما لا يعطى له حكم الحيض؛ لأنه ليس من الرحم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنّ المرأة إذا حبلت ينسد فم رحمها، وهذا المعنى لا يوجد ههنا؛ لأن فم الرحم قد انفتح بخروج الولد الأول، فكان نفاساً. اعتبار النفاس بانقضاء العدة لا يصح، لأن انقضاء العدة متعلق بفراغ الرحم، ولا فراغ مع بقاء شيء من التنفل، فأما النفاس يتعلق بخروج الولد، وقد وجد خروج الولد.
وإن كان بين الولدين أربعون يوماً فصاعداً، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله قال بعضهم يجب عليها النفاس من الولد الثاني أيضاً عنده؛ لأن سبب النفاس ولادة الولد، وقد تحقق ولادتان فاستقام إيجاب نفاسين بخلاف الحيض؛ لأن سبب الحيض الوقت، ولا يجتمع وقتا الحيض على التوالي، وقال بعضهم: لا يجب عليها النفاس من الولد الثاني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الصحيح، وإلى هذا أشار في «الجامع الصغير» ، فإنه ذكر المسألة الأولى، وذكر بعدها، وكذلك لو كان بين الولدين أربعون يوماً.
وحكي أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة رحمهما الله: أرأيت لو كان بين الولدين أربعون يوماً، قال: هذا لا يكون، قال أبو يوسف: وإن كان قال: لا نفاس لها من الولد الثاني، وإن رغم أنف أبي يوسف ولكنها تغتسل كما تضع الولد الثاني وتصلي، وهذا صحيح لأنه لا يتوالى نفاسان ليس بينهما طهر صحيح، كما لا يتوالى حيضان ليس بينهما طهر صحيح.
ومما يتصل بهذا القسم
امرأة ولدت ثلاثة أولاد بين كل ولدين أقل من ستة أشهر بين الولد الأول والثالث أكثر من ستة أشهر، فالأولاد الثلاثة هل تجعل من حَبَلٍ واحد؟ اختلف المشايخ: قال بعضهم منهم أبو علي الدقاق: يجعل من حَبَل واحد؛ لأن المحتمل يحمل على المقطوع به، وكون الأول مع الثاني من حَبَل واحد مقطوع به، وكذلك كون الثاني مع الثالث من حَبَل واحد مقطوع به، بخلاف ما إذا لم يكن الثاني؛ لأنه تمة ليس بمقطوع به يحمل عليه، أما ههنا بخلافه.(1/265)
ومما يتصل بهذا القسم أيضاً
امرأة خرج بعض ولدها منها، فرأت الدم يسيل تصير نفساء. واختلَفت فيه الروايات روى خلف بن أيوب عن أبي يوسف رحمهما الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه يعتبر فيه خروج أكثر الولد كما عرف أن أكثر الشيء له حكم كماله. وروى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنه إذ خرج بعض الولد صارت به نفساء، وروى هشام عن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج الرأس ونصف اليدين والرجلين، وأكثر من نصف البدن.
وعن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج جميع ولدها، وهذا على أصله مستقيم، فإن عنده النفاس معلق بوضع الحمل كله، وعن أبي حنيفة أيضاً رحمه الله أنها تصير نفساء بخروج بعض الولد؛ لانفتاح فم الرحم بخروج بعض الولد، وهو مستقيم على أصله أن النفاس من الولد الأول، وكذلك لو انقطع الولد الثاني في بطنها، فخرج أكثره تصير نفساء في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله وبخروج بعضه تصير نفساء على الرواية الأخرى.
ومما يتصل بهذا القسم أيضاً
المرأة إذا أسقطت سقطاً، فإن كان استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، فإن لم يستبن شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها، ولكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضاً بأن تقدّمه طهر تام يجعل حيضاً، وإن لم يمكن جعله حيضاً بأن لم يتقدمه طهر تام فهي استحاضة، وإن رأت دماً قبل إسقاط السقط، ورأت دماً بعد إسقاط السقط، فإن كان السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط لا يكون حيضاً؛ لأنه تبيّن أنها حين رأته كانت حاملاً، وليس الحامل الحيض، وهي نفساء فيما رأت بعد إسقاط السقط، فإن لم يكن السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط حيض إن أمكن جعله حيضاً بأن وافق أيام عادتها أو كان مرئياً عقيب طهر صحيح؛ لأنه تبين أنها لم تكن حاملاً.u
ثم إن كان ما رأت قبل السقط مدة تامة بأن كان أيامها ثلاثة، فرأت قبل الإسقاط ثلاثة دماً استمر بها الدم بعد الإسقاط، فما رأته بعده يكون استحاضة، وإن لم تكن مدة تامة بأن رأت قبل الإسقاط يوماً أو يومين دماً تكمل مدتها، فما رأت بعد إسقاط السقط ثم هي مستحاضة بعده.
وإن كان لا يدرى حال السقط بأن أسقطت في المخرج، ولا يدرى أنه كان مستبين الخلق أو لم يكن واستمر بها الدم، وهي مبتدأة في النفاس، وصاحبة عادة في الطهر، والحيض كان عادتها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرون، فنقول: على تقدير أن السقط مستبين الخلق هي نفساء، ونفاسها يكون أربعون يوماً لأنها مبتدأة في النفاس، وقد استمر الدم، فيجعل نفاسها أكثر النفاس كما يجعل حيض المبتدأة في الحيض إذا استمر بحما الدم أكثر الحيض، وهي عشرة أيام، وعلى تقدير أن السقط لم يكن مستبين الخلق لا تكون نفساء، وتكون عشرة الأيام عقيب الإسقاط حيضاً إذا وافق عادتها أو كان ذلك(1/266)
عقيب طهر صحيح، فنرك الصلاة هي عقيب الإسقاط عشرة أيام بيقين؛ لأنها فيه إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يوماً بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والنفاس، ثم تترك الصلاة عشرة أيام بيقين؛ لأنها في هذه العشرة إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل لتمام مدة النفاس والحيض ثم بعد ذلك يكون طهرها عشرون وحيضها عشرة، وذلك دأبها.
وإن كانت رأت قبل الإسقاط دماً، فإن كان ما رأت قبل الإسقاط مستقلاً بنفسه لا تترك هي الصلاة بعد الإسقاط، وإن لم يكن ما رأت قبل الإسقاط مستقلاً بنفسه، فإنها تترك بعد الإسقاط قدر ما تتم به مدة حيضها، لا تترك الصلاة فيما رأت قبل الإسقاط على كل حال، ولو تركت فعليها صلاتها.
وإنما لا تترك الصلوات فيما رأت قبل الإسقاط؛ لأن على تقدير أن السقط مستبين الخلق فهي مستحاضة فيما رأت قبل الإسقاط، ثم إذا كان معروفها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرين يوماً بعد السقط عشرة دماً اغتسلت وصلت عشرين يوماً بعد السقط؛ لأنه تردد حالها فيه بين النفاس والطهر ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنها فيها نفساء لأنها مبتدأة في النفاس أو حائض إن كان السقط مستبين الخلق فهي نفساء، فيكون نفاسها أربعون، وإن لم يكن السقط مستبين الخلق فهي حائض فيها ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يوماً عشرة بالشك، لتردُّدِ حالها فيه بين الطهر والنفاس ثم تغتسل وتصلي عشرة أخرى بيقين الطهر ثم تصلي عشرة أخرى بالشك لتردد حالها فيه بين (42أ1) الطهر والحيض ثم تغتسل، وهكذا دأبها أن تغتسل في كل وقت يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض أو النفاس، فإن رأت قبل الإسقاط خمسة دماً ثم أسقطت هكذا، فإنها تترك الصلاة خمسة أيام بعد السقط؛ لأن السقط إن لم يكن مستبين الخلق، فهذه الخمسة تتم مدة حيضها.
وإن كان مستبين الخلق فهو أول نفاسها فتترك الصلاة في الخمسة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين يوماً بالوضوء بالشك للتردد بين النفاس والطهر، ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنه حيض أو نفاس، فبلغ الحساب خمسة وثلاثين ثم تغتسل وتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل لتمام الأربعين، ثم تصلي خمسة عشر يوماً بالوضوء بيقين؛ لأنه طهر فبلغ الحساب خمسة وخمسين ثم تصلي خمسة بالوضوء للتردد بين أول الحيض إن لم يكن السقط مستبين الخلق وبين آخر الطهر إن كان مستبين الخلق، فبلغ الحساب ستين ثم تترك خمسة أيام؛ لأنها أول حيضها أو آخر حيضها ثم تغتسل وتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل مرة أخرى؛ لأنه آخر أيام حيضها إن كان مستبين الخلق ثم تصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين.
وإن كانت المرأة معتادة في الحيض والطهر والنفاس، وكانت عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، وفي النفاس أربعون، فأسقطت في أول أيام حيضها، ولم تدر حال السقط فإنها تترك الصلاة عشرة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين بالوضوء بالشك؛ لأنه نفاس أو طهر ثم تترك الصلاة عشرة؛ لأنها حيض أو نفاس(1/267)
ثم تغتسل وتصلي عشرين؛ لأنه طهر في الأحوال كلها، والله تعالى أعلم.
قسم في الضلال في النفاس
المرأة إذا كانت لها عادة معروفة في النفاس، فنسيت عادتها، وولدت بعد ذلك ولداً ورأت الدم، فعليها أن تقعد عن الصلاة أربعين يوماً إن كانت ترى الدم، فإن لم يجاوز دمها أربعين، وطهرت من بعد الأربعين طهراً كاملاً لم تعد هي شيئاً مما تركت من الصلاة؛ لأن الأربعين يعتبر نفاساً في حقها، كما إذا زاد دمها في الحيض على عادتها، ولم يُجاوز الدم العشرة، فإنه يعتبر ذلك كله حيضاً في حقها، فإن جاوز الدم الأربعين أو لم يجاوز ولكن طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر يوماً؛ فإنّ عليها أن تتحرى في ذلك، فإن وقع أكثر رأيها وغالب ظنها على عدد أنه كان عادة نفاسها ذلك مضت على ذلك، وأعادت ما تركت من الصلاة في أكثر أيام نفاسها المعتادة.
وإن لم يكن لها رأي في ذلك احتاطت، فصلّت صلاة الأربعين كلها لجواز أن نفاسها كان ساعة، وإن كان دمها مستمراً للحال انتظرت هي عشرة أيام قضت صلاة هذه الأربعين ثانباً، لاحتمال حصول القضاء في أول مرة في حالة الحيض، والاحتياط في العبادات واجب.
قسم آخر
وإذا ولدت ولداً فاستمر بها الدم وشكت في حيضها أو في طهرها أو فيهما، فهي ثلاثة أوجه: فإن شكت في حيضها أنه خمسة أو عشرة وتيقنت في الطهر أنه عشرون، فإنها تعد الأربعين للنفاس، فتغتسل وتصلي عشرين يوماً بيقين ثم تدع خمسة بيقين الحيض ثم تغتسل، فبلغ الحساب خمسة وعشرين يوماً ولها حسابان الأقصر والأطول ففي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من حيضها خمسة فتصلي فيها بالوضوء بالشك، ثم تغتسل وتصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين الطهر، فبلغ خمسة وأربعين وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب خمسين ثم تغتسل، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي عشرة بيقين، فبلغ سبعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من حيضها عشرة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ خمسة وسبعين فتغتسل ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة فتصلي خمسة بالوضوء بيقين فبلغ مائتين، ثم في الأقصر بقي من طهرها خمسة عشر وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالوضوء بالشك فبلغ تسعين، فتغتسل، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي خمسة بالوضوء بيقين بلغ خمسة وتسعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة(1/268)
عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها عشرة، فتصلي عشرة بيقين بلغ مائة وعشرة ثم في الأقصر بقي من طهرها عشرة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالشك ثم تغتسل، فبلغ مائة وعشرين ثم في الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك، فبلغ مائة
وخمسمائة وعشرين، ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بيقين، فبلغ مائة وأربعين، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة فتصلي خمسة بالوضوء بالشك بلغ مائة وخمسة وأربعين، ثم في الأطول بقي من حيضها خمسة وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة فتترك هذه الخمسة بيقين ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة وخمسين، واستقام دورها.
وعلى هذا: يخرج إذا شكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون واستقامة دورها يكون في مائة وخمسين.
وعلى هذا يخرج إذا شكت ههنا شك في الحيض أنه خمسة أو عشرة، وشكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون، واستقامة دورها يكون في ثلاثمائة والله أعلم
نوع آخر
امرأة ولدت وانقطع دمها بعد يوم أو يومين، فانتظرت إلى آخر الوقت واغتسلت وصلّت أمّا الانتظار إلى آخر الوقت لتوهم أن يعاودها الدم، وأما الاغتسال في آخر الوقت والصلاة فلكونها طاهرة ظاهراً وقد بيّنا نظير ذلك في الحيض.
قسم آخر في المرأة إذا طلقها الزوج فأخبرت عن انقضاء العدة في كم تُصدَّق
وهذا فصل اختلف فيه العلماء، روى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة رحمه الله رضي الله عنه: أنها لا تصدق في أقل من خمسة وثمانين يوماً، وفي رواية الحسن عنه لا تُصدق في أقل من مائة يوم.
وذكر أبو سهل الفرائضي في «كتاب» الحيض عن أبي حنيفة رحمه الله: أنها لا تصدق، في أقل من مائة وخمسة عشر يوماً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوماً، وقال محمد رحمه الله: لا تصدق في أقل من أربعة وخمسين يوماً وساعة هذا إذا كانت حرة.
فأما إذا كانت أمة وقد طلقها الزوج بعد الولادة، فعلى رواية محمد عن أبي حنيفة لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوماً، وعلى رواية الحسن عنه لا تصدق هي في أقل من خمسة وسبعين يوماً، على رواية أبي سهل الفرائضي لا تصدق هي في أقل من تسعين يوماً، وعلى قول أبي يوسف: لا تصدق في أقل من سبعة وأربعين يوماً. وعلى قول محمد: لا تصدق في أقل من ستة وثلاثين يوماً وساعة والله أعلم.(1/269)
قسم آخر في ختم النفاس بالطهر الفاسد
يجب أن يعلم بأن أبا يوسف رحمه الله كان يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد كما يرى ختم الحيض بالطهر الفاسد؛ إذ الأصل عنده أن كل طهر بين الدمين يكون هو أقل من خمسة عشر، فهو كدم مستمر وأبو حنيفة رحمه الله على ما يروي عنه أبو يوسف يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد، وعلى ما يروي عنه محمد لا يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد.
واختلف المشايخ فيه على قول محمد، الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، والفقيه أبو بكر الأعمش رحمهما الله أن محمداً رحمه الله لا يرى ختم النفاس به كما لا يرى ختم الحيض به، وقال جماعة منهم إن محمداً رحمه الله يرى ختم النفاس به، وفرقوا بين النفاس وبين الحيض.
وبيان ذلك: امرأة بلغت بالحبل فرأت الدم ثلاثين يوماً ثم طهرت أربعة عشر يوماً، ثم استمر بها الدم (42ب1) أشهراً، فعند من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها أربعون يوماً عادة أصلّية لها وطهرها عشرون عادة أصلية لها وحيضها عشرة، فتصلي بعد الأربعين عشرين يوماً وتدع الصلاة عشرة أيام وتصلي عشرين، وذلك دأبها ما دامت ترى الدم وعلى قول من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها ثلاثون يوماً عادة أصلية لها، وطهرها عشرون عادة أصلية وحيضها عشرة عادة لها أصلية، فتصلي بعد الثلاثين عشرين وتقعد عشرة ثم عشرين، والله أعلم.
قسم آخر في انتقال عادة النفاس
يجب أن يُعلم بأن انتقال العادة في النفاس إنما يكون بالخالص من النفاس، وخالصه أن يكون عقيب النفاس طهر تام خمسة عشر يوماً فصاعداً، وإذا قصّر الدم بعد النفاس عن خمسة عشر يوماً، فكذلك النفاس فاسد غير خالص، ولا يفسد دم النفاس بدم يُرى قبل الولادة؛ لأنه لم يخرج من الرحم لانسداد فم الرحم بالولد، وتنتقل العادة في النفاس برؤية المخالف مرّة عند أبي يوسف رحمه الله، ويصير ذلك عادة لها، وعليه الفتوى.
وبيانه: امرأة كانت أيام حيضها، نفاسها أربعون يوماً عادة أصلية لها وأيام طهرها عشرون وأيام حيضها عشرة، فولدت فرأت الدم ثلاثين ثم طهرت خمسة عشر، ثم استمر بها الدم انتقلت عادتها في النفاس إلى ثلاثين، وفي الطهر إلى خمسة عشر وبقيت عادتها في الحيض عشرة، فتترك الصلاة من أول الاستمرار عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وعلى هذا القياس فافهم، والله تعالى أعلم.(1/270)
كتاب الصلاة
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلاً:
1 * في المواقيت.
2 * في بيان فضيلة الأوقال.
3 * في بيان اللوقات التي تكره فيها الصلاة.
4 * في كيفيتها.
5 * في الأذان.
6 * في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد.
7 * في بيان مقام الإمام والمأسوم.
8 * في الحث على الجماعة.
9 * في المرور بين يدي المصلي.
10 * في صلاة التطوع.
11 * في التطوع قبل الفرض.(1/271)
الفصل الأول في المواقيت
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في بيان أول المواقيت وآخرها
فنقول: أول وقت الفجر من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق، فإذا طلع الفجر الثاني خرج وقت العشاء، ودخل وقت الفجر هذا هو المنقول عن أصحابنا رحمهم الله، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني أو لاستطاره وانتشاره.
وقد اختلف المشايخ فيه، وآخر وقت صلاة الفجر طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس خرج وقت الفجر، ولا يدخل وقت صلاة أخرى حتى تزول الشمس، فمن حين طلوع الشمس إلى زواله وقت مهمل، وأول وقت الظهر من حين نزول الشمس.
وإذا أردت معرفة زوال الشمس، فالمنقول عن أبي حنيفة: أنه ينظر إلى القرص، فما دام في كبد السماء، فإنها لم تزل، وإذا انحطّت يسيراً فقد زالت، والمنقول عن محمد في ذلك أن يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا مالت الشمس عن يساره فهو الزوال، وقد قيل: في معرفة ذلك أن يغرز خشبة مستوية في أرض مستوية قبل زوال الشمس، ويحط في ضلع ظلها علامة، فإن كان الظل يقصر عن العلامة فاعلم بأن الشمس لم تزل؛ لأن ظل الأشياء يقصر إلى زوال الشمس. وإن كان الظل يطول ويجاوز الخط، فاعلم بأن الشمس قد زالت، وإن امتنع الظل عن القصر ولم يأخذ في الطول، فهذا هو وقت الزوال وهو الظل الأصلي.
واختلفوا في آخر وقت الظهر روى الحسن عن أبي حنيفة أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الظل الأصلي، فإذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وذكر في «الأصل» : أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولم يتعرض لآخر وقت الظهر، وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثله، وروى أبو(1/273)
يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا صار الظل أقل من قامتين خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، قال أبو الحسن: وهذه الرواية أصح، فعلى هاتين الروايتين يكون بين الوقتين وقت مهمل، لا من الظهر ولا من العصر وهو الذي يسميه الناس بين الصلاتين، وإنما يعتبر ظل كل شيء مثله أو مثليه سوى فيء الزوال.
واعلم أن ما مِنْ شيء إلا وله ظل عند الزوال إلا بمكة وبمدينة في أطول أيام السنة، فإن في أطول أيام السنة بمكةوبمدينة لا يبقى للأشياء ظل عند الزوال على الأرض، أما بمكة لأنه سرّة الأرض ومنها بسطت الأرض وأما بمدينة، فلأن الشمس تأخذ الحيطان الأربعة، فأما في غيرهما من الأماكن فلا تخلو الأشياء عن الظل عند الزوال غير أنه تصغر وتكبر وتطول وتقصر بحسب قرب الأماكن إلى مكة، فلا يعتبر ذلك المقدار في تقدير ظل كل شيء مثله أو بمثليه.
فأول وقت العصر عند أبي يوسف ومحمد إذا صار الظل قامة وزاد عليها. وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف أنه لم يعتبر الزيادة. قال أبو الحسن الخلاف في آخر وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر، وآخر وقت العصر وقت غروب الشمس.
وأول وقت المغرب حتى تغيب الشمس وآخر وقت المغرب حتى يغيب الشفق.
وأول وقت العشاء حتى يغيب الشفق، وآخر وقتها يمتد إلى طلوع الفجر وتفسير.
الشفق في قول أبي حنيفة رحمه الله البياض، وفي رواية أسد بن عمرو أنه الحمرة، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، وكان فيه أنا بخير وقت العشاء في بلدن، فإن الشمس كما تغرب تطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا صلاة العشاء؟ فكتب في الجواب أنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني.
وأما الوتر فوقته ما هو وقت العشاء إلا أنه مأمور بتقديم العشاء عليه، ووقت الجمعة ما هو وقت الظهر والله أعلم.
الفصل الثاني في بيان فضيلة الأوقات
قال أصحابنا رحمهم الله: الإسفار بالفجر أفضل في الأزمنة كلها إلا صبيحة يوم النحر للحاج بالمزدلفة، فإن هناك التغليس أفضل، وإنما كان الإسفار في سائر الأزمنة أفضل لقوله عليه السلام «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» وقال إبراهيم النخعي؛ ما اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على شيء كما اجتمعوا على الإسفار بالفجر، فإنه سبب لتكثير الجماعة فكان أفضل إلا أنه لا ينبغي أن يؤخر تأخيراً يقع الشك في طلوع(1/274)
الشمس؛ لأنه حينئذ يقع الشك في فساد صلاته، واختيار الطحاوي رحمه الله في الفجر الجمع بين التغليس والإسفار يبدأ بالتغليس، ويطول القرءاة ويختم بالإسفار.
وأما الظهر فتأخير هما في زمان الصيف أفضل، قال عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهم» وتعجيلها في زمان الشتاء أفضل لحدث إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يعجلوا الظهر في الشتاء.
وأما العصر فتأخيرها أفضل في الأزمان كلها ما لم تتغير الشمس، لحديث رافع بن خديج أن رسول الله عليه السلام «كان يأمرنا بتأخير العصر» ولكن يكره تأخيرها إلى أن تتغير الشمس، هكذا ذكر في «الأصل» ، في «القدوري» . وذكر الطحاوي إلى أن تحمرّ الشمس مع هذا لو صلى جاز؛ لأنه صلى في الوقت ثم على ما ذكره في «الأصل» يعتبر التغير في عين القرص أو في الضوء الذي يقع على الجدران والحائط، قال سفيان وإبراهيم النخعي في الضوء، وهكذا حكى الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد عن الحاكم الشهيد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في «النوادر» أنه يعتبر التغير في القرص، وبه كان يقول مشايخ بلخ والشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل ببخارى.
ثم تكلموا في معرفة التغير في القرص قال بعضهم إذا قامت الشمس للغروب قدر رمحين أو رمح لم تتغير، وإذا صارت أقل من ذلك فقد تغيرت.
وقال بعضهم يوضع طست ماء في الصحراء وننظر فيه، فإن كان القرص يبدو للناظر، فقد تغيرت، وقال بعضهم: إذا كان بحال يمكنه إحاطة النظر إلى القرص، ولا تحار عيناه فما..... مما تغيرت. وقال بعض أصحابنا التأخير إلى هذا الوقت مكروه، فأما الفعل فغير مكروه؛ لأنه مأمور بالفعل ولا يستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به.
فأما المغرب فيكره تأخيرها إذا غربت الشمس، لقوله عليه السلام: «لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» .
وأما العشاء فتأخيرها أفضل إلى ثلث الليل في رواية وفي رواية: إلى نصف الليل هكذا ذكر في «القدوري» (43أ1) ، وذكر الطحاوي بأن تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبعده إلى نصف الليل مباح غير مكروه، قال الطحاوي وبعد نصف الليل إلى طلوع الفجر مكروه إذا كان التأخير بغير عذر.
وأما الوتر فإن كان لا يثق من نفسه الاستيقاظ أوتر أول الليل، فإن كان يثق فالأفضل آخر الليل، وفي يوم القيم يؤخر الفجر والظهر والمغرب، ويعجل العصر والعشاء في الأزمنة كلها، وأراد بقوله تؤخر المغرب، التأخير قدر ما يستيقن بغروب(1/275)
الشمس، وأراد بقوله تعجل العصر التعجيل قدر ما يقع عنده أنه لا تقع في الوقت المكروه، فإن التأخير إلى آخر الوقت قبل أن تتغير الشمس مستحب وأراد بقوله تعجل العشاء التعجيل قليلاً أو على الوقت المعتاد؛ لأن التأخير إلى ثلث الليل مستحب في رواية، وفي رواية إلى نصف الليل وما بعده يقع في حد الكراهة، فتعجل قليلاً احترازاً عن الوقوع في الوقت المكروه، ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر إلا عرفة ومزدلفة، فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات في وقت الظهر ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة.
وقيل: الجمع بين الصلاتين فعلاً لعذر المطر جائز إحرازاً لفضيلة الجماعة، وذلك بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء، قال مشايخنا: المستحب للإنسان أن لا يؤخر الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثله، ولا يصلي العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، حتى يصير مؤدياً كل صلاة في وقتها بالإجماع.
الفصل الثالث في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة
الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة، ثلاثة يكره فيها التطوع والفرض:
وذلك: عند طلوع الشمس، ووقت الزوال، وعند غروب الشمس إلا عصر يومه، فإنه لا يكره عند غروب الشمس، وعن أبي يوسف أنه جوز التطوع وقت الزوال يوم الجمعة، ولا يجوز في هذه الأوقات صلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة ولا سجدة سهو ولا قضاء فرض.
ولو قضى فرضاً من قضاء الفائتات في هذه الأوقات لا يعيدها، ولو صلى صلاة الجنازة لا يعيدها، وكذلك لو سجد لتلاوة في هذه الأوقات لا يعيدها وتسقط عنه، وإذا تلا آية السجدة في هذه الأوقات، فالأفضل أن لا يسجد في هذه الأوقات ولو سجد جاز ولا يعيدها.
ووقتان آخران يكره فيهما التطوع وهو ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلا ركعتي الفجر. وما بعد صلاة العصر إلى وقت غروب الشمس ولا يكره فيها الفرائض ولا صلاة الجنازة ولا يجوز أداء المنذورة في هذين الوقتين، وإن كانت الصلاة المنذورة واجبة إلا أنها وجبت بإيجاب العبد.
والواجبات على قسمين: قسم وجب بإيجاب العبد، كالمنذورة، وقسم وجب بإيجاب الله تعالى، كالوتر على إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله وسجدة التلاوة وسجدتي السهو، فما وجب بإيجاب الله تعالى يجوز أداؤه في هذين الوقتين، وما وجب بإيجاب العبد لا يجوز أداؤه في هذين الوقتين، ولو أوجب على نفسه صلاة في هذه الأوقات، فالأفضل له أن يصلي في وقت مباح، ولو صلى في هذا الوقت سقط عنه ولا تجوز ركعتي الطواف في هذين الوقتين.(1/276)
وههنا وقت آخر، وهو ما بعد غروب الشمس قبل أن يصلي المغرب والصلاة فيه مكروه، لكن لا لمعنى في الوقت، بل لتأخير المغرب.
بقي الكلام في الوقت الذي تباح فيه الصلاة: إذا طلعت الشمس، والمذكور في «الأصل» : إذا طلعت حتى ارتفعت قدر رمحين أو قدر رمح تباح الصلاة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس، فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح فيه الصلاة، وقال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل ما دامت الشمس محمرة أو مصفرة على رؤوس الحيطان والجبال والأشجار فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة. فإذا ابيضت فقد طلعت وحلّت الصلاة وقال الفقيه أبو حفص السفكردري رحمه الله: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع في حيطانه فهو على الطلوع فلا تحل له الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة.
ولو شرع في النفل في الأوقات الثلاثة، فالأفضل له أن يقطعها، وإذا قطعها لزمه القضاء في المشهور من الرواية. ولو شرع في الوقتين في النافلة، ثم أفسدها لزمه القضاء، ولو افتتح الصلاة النافلة في وقت مستحب ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعد العصر قبل غروب الشمس لا يقضيها، وإن كانت واجبة؛ لأنها وجبت بشروعه فأَشْبَهَ المنذورة.
وعلى هذا لو شرع في سنة الفجر ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس لا يقضيها. هكذا قيل: وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن له أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس، وصورة ما حكي عن رجل جاء إلى الإمام في صلاة الفجر وخاف أنه لو اشتغل بالسنّة يفوته الفجر بالجماعة، قال: فقد جاز له أن يدخل في صلاة الإمام ويترك السنّة ويقضيها بعدما طلعت الشمس عند محمد، وإن أراد أن يقضيها قبل طلوع الشمس فالحيلة أن يشرع ثم يفسدها على نفسه ثم يشرع في صلاة الإمام من الفريضة ثم يقضيها قبل طلوع الشمس ولا يكره؛ لأنه بإفساده إياها صارت ديناً عليه، ويصير كمن شرع في التطوع ثم أفسد وما على نفسه ثم قضاها في هذا الوقت، وذلك لا يكره كذا ههنا.
ومن المشايخ من قال: في هذه الحيلة نوع الخطأ؛ لأن فيها أمراً بإفساد العمل، والله تعالى يقول: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} (محمد: 33) والأحسن أن يقال يشرع في السنّة ويكبر لها ثم يكبّر مرة ثانية للفريضة، فيخرج بهذه التكبيرة من السنة ويصير شارعاً في الفريضة ولا يصير مفسداً للعمل بل يصير مجاوزاً من العمل إلى العمل، وهو كمن كبّر للظهر في وقت العصر على ظن أنه لم يصلِ الظهر ثم يذكر أنه صلى الظهر في وقتها فكبّر ثانياً من غير سلام ولا كلام، ينوي الدخول في العصر يصير شارعاً في العصر خارجاً عن الظهر كذا ههنا.
ولو غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد عصره ويتمها، ولو طلعت الشمس في(1/277)
خلال الفجر يفسد فجره، والفرق: أن بالغروب يدخل وقت فرض مثله فلا يكون منافياً، وبالطلوع لا يدخل وقت الفرض، ألا ترى أنه لو خرج وقت الجمعة في خلال الجمعة تفسد الجمعة، لأنه لا يدخل وقت فرض مثله، وعن الحسن بن زياد: يفسد إن صلى عصر يومه عند غروب الشمس لم يجزه، كما إذا صلى الفجر عند طلوع الشمس، وعن أبي يوسف أن من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت الشمس لم تفسد صلاته، ولكنه يلبث كذلك إلى أن ترتفع الشمس وتبيض ثم تتم الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل
ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلي الفجر إلا بخير، لأثر عمر وابن مسعود، وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلا بخير، وقوله: هم كناية عن الصحابة، فإذا صلى الفجر فلا بأس بأن يتكلم في حاجته ويمشي في حاجته المعتادة ومعاشه والمراد من هذا الكلام الكلام المباح. أما الفاحش فحرام في جميع الأوقات، وقال بعض الناس يكره الكلام بعد صلاة الفجر أيضاً إلى طلوع الشمس، وقال بعضهم إلى أن ترتفع الشمس، وعن الحسن بن علي: أنه كان لا يتكلم إلى أن ترتفع الشمس، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في كتاب «البستان» أن السمر بعد العشاء مكروه عند البعض، قال: وهو الكلام لأجل المؤانسة، وفي شرح كتاب الصلاة لبعض المشايخ ذكر الكراهة ولم ينسبه إلى البعض، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا سمر بعد العشاء» والله أعلم.
الفصل الرابع في فرائض الصلاة وسننها وآدابها وواجباتها
فرائض الصلاة نوعان: أحدهما: قبل الشروع فيها على سبيل المتهيؤ لها وإنها كثيرة، فمن جملتها ستر العورة للرجل من تحت سرته حتى يجاوز ركبتيه، وقال زفر: من فوق السرة إلى تحت الركبة بناءً على أن سرة الرجل ليست بعورة عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر وركبته عورة عند علمائنا جميعاً وهي مسألة كتاب الاستحسان إلا أن (43ب1) الرجل إذا ستر مقدار ما ذكرنا، وصلى كذلك كان مسيئاً؛ لأنه ترك الزينة أصلاً والمصلي مأمور بها، قال الله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) أي عند كل صلاة.
بخلاف ما إذا صلى في ثوب واحد متوشحاً وتفسير التوشح أن يفعل بالثوب مثل ما يفعله القصار في المقصرة إذا لف الكرباس على نفسه حيث لا يكون مسيئاً؛ لأن هناك أتى بأصل الزينة، أما ترك التمام.. عن أبي حنيفة رحمه الله، أن الصلاة في سراويل(1/278)
واحد يشبه فعل أهل الجفاء، وفي الثوب الذي يتشح به أبعد من الجفاء وفي قميص وإزار خلاف الناس تحملهم وذكر ابن شجاع أنه إذا كان محلول الإزار، وكان إذا نظر رأى عورة نفسه من زيقه لم تجز صلاته. وهكذا ذكر هشام في «نوادره» ، والمذكور في «نوادر هشام» ، إذا صلى في قميص واحد وهو محلول الجيب فانفتح جيبه حتى لو نظر رأى عورة نفسه فصلاته فاسدة، وزاد فقال: وإن لم ينظر وإن كان مدلوق الثوب بصدره، فلم ير عورته لو نظر إليها لا تفسد صلاته، فعلى هذه الرواية جعل ستر العورة من نفسه شرطاً.
حتى فرق بعض أصحابنا على هذه الرواية بين أن يكون المصلي خفيف اللحية وبين أن يكون كث اللحية فقال إذا كان المصلي كث اللحية تجوز صلاته، لأن لحيته سترت عورته، وقال بعضهم لا تجوز صلاته ولا تنفعه لحيته ذكر الزندوستي هذا القول في «نظمه» ، وعامة أصحابنا جعلا الشرط ستر العورة من غيره لا من نفسه؛ لأن العورة لا تكون عورة في حق صاحبها إنما تكون عورة في حق غيره.
ألا ترى أنه يجوز لصاحب العورة مسَّها والنظر إليها، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة وأبي يوسف أيضاً أنه إذا كان محلول الجيب، فنظر إلى عورته لا تفسد صلاته، وإن كان عليه قميص لبس غيره، فكان إذا سجد لا يرى أحد عورته، ولكن لو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشيء.
وأما المرأة يلزمها أن تستر نفسها من فرقها إلى قدميها ولا يلزمها ستر الوجه والكفين بلا خلاف، وفي القدمين اختلاف المشايخ واختلاف الروايات عن أصحابنا رحمهم الله، وكان الفقيه أبو جعفر يتردد في هذا فيقول مرة؛ إن قدميها عورة، ويقول مرة: إن قدميها ليس بعورة، فمن يجعلها عورة يقول يلزمها سترها ومن لا يجعلها عورة يقول: لا يلزمها سترها، والأصح أنه ليس بعورة، وهي مسألة كتاب الاستحسان آنفاً.
وفي «الجامع الصغير» : امرأة صلت وربع ساقها أو ثلث ساقها مكشوفة لم تجز صلاتها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إن كان المكشوف أكثر من النصف لم تجز صلاتها، وإن كان أقل من النصف جازت صلاتها، وفي النصف عنه روايتان، يجب أن تعلم أن قليل الانكشاف عفو؛ لأن الناس فيه بلوى وضرورة؛ لأن ثيابهم لا تخلو عن قليل خرق، فيجعل عفواً بالإجماع فلا بلوى في الكثير؛ لأن الثياب تخلو عن كثير خرق، فلا يجعل عفواً بعد هذا.
قال أبو حنيفة ومحمد: الربع وما فوقه كثير، وما دون الربع قليل، وقال أبو يوسف: ما فوق النصف كثير وما دونه قليل، وفي النصف عنه روايتان، والصحيح قولهما؛ لأن ربع الشيء أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام كمسح ربع الرأس في الوضوء، وكحلق ربع الرأس في حق المحرم.
قال في «الجامع الصغير» : وكذلك حكم البطن والظهر والفخذ والشعر نظير حكم الساق، قال بعض مشايخنا: لولا هذه الرواية لكنا نقول بأن حكم الظهر والبطن أغلظ، ألا ترى أنه لا يحل للرجل بأن ينظر إلى بطن أمه وظهرها، ويحل له أن ينظر إلى ساقها،(1/279)
فبهذه الرواية عرفنا أن حكم الظهر والبطن والفخذ والشعر والساق سواء، ثم إن كان المراد من الشعر في «الكتاب» ما يواري المنبت ما ذكر من الجواب على الروايات كلها، وإن كان المراد منه الشعر المسترسل، فما ذكر من الجواب على إحدى الروايتين؛ لأن في كون المسترسل عورة روايتان، واختار الفقيه أبي الليث رحمه الله رواية العورة، لأن الرواية الأخرى تقتضي للرجل النظر إلى طرف وصرع الأجنبية وطرف ناصيتها كما ذهب إليه أبو عبد الله البلخي، وهذا أمر يؤدي إلى الفتنة، فكان الاحتياط فيما قلنا.
وأما العورة الغليظة، فالتقدير فيها على الخلاف الذي ذكرنا، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الكرخي في «كتابه» أنه يعتبر في السوءيتن قدر الدرهم، وفيما عدا ذلك الربع.
وإنما قال ذلك؛ لأن العورة نوعان غليظة وخفيفة كما أن النجاسة نوعان: غليظة وخفيفة، ثم في النجاسة الغليظة اعتبر الدرهم، وفي الخفيفة اعتبر الربع فكذا في العورة، ولكن هذا وهم من الكرخي؛ لأنه قصد به الغليظه في العورة الغليطة، وهذا في الخفيفة تخفيف؛ لأنه اعتبر في الدبر قدْر الدرهم والدبر لا يكون أكثر من قدر الدرهم، فهذا يقتضي جواز الصلاة، وإن كان جميع الدبر مكشوفاً وهذا تناقض.
والركبة تعتبر عضواً على حدة أم تعتبر مع الفخذ عضواً واحداً؟ فقد اختلف المشايخ فيه منهم من قال: الركبة عضو على حدة حتى يعتبر فيه انكشاف الربع منه ومن المشايخ من قال: يعتبر مع الفخذ عضواً واحداً حتى يعتبر الربع منهما.
وأما الخصيتان مع الذكر ففيهما اختلاف المشايخ أيضاً، قال بعضهم يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة اعتباراً بالدية، فإن في باب الدية يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة، ومنهم من قال يعتبران عضواً واحداً؛ لأن الخصيتين كالتبع للذكر.
وأما ثدي المرأة إن كانت مراهقة فهي تبع للصدر وإن كانت كبيرة فالثدي أصل بنفسه.
ومن جملتها طهارة ما يستر به عورته إذا كان مقيماً وله ثوب آخر (وليس له ثوب آخر) ، وإذا كان مسافراً وله ثوب آخر لا تجوز صلاته مع ثوب للنجس إذا كانت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وإن لم يكن له ثوب آخر وعجز عن غسله لعدم الماء أو معه ماء بحال العطش جاز له الصلاة فيه، وإن كان كله مملوءاً من الدم كان هو بالخيار، إن شاء صلى عرياناً قاعداً نائماً، وإن شاء صلى قائماً بركوع وسجود، وعن محمد يلزمه أن يصلي به قائماً بركوع وسجود قال: هذا أهون الوجهين، لأن فيه ترك فرض واحد وهو طهارة الثوب، وفي الآخر ترك الفرائض من ستر العورة والقيام والركوع والسجود.
ولهما: أن الوجهين قد استويا في حق حكم الصلاة، فإن الصلاة عرياناً لا تجوز حالة الاختيار، وكذلك الصلاة في الثوب المملوء من الدم لا تجوز حالة الاختيار فكان له الاختيار، وما يقول بأن في الصلاة عرياناً ترك الفرائض قلنا: ليس كذلك؛ لأن القاعد يأتي بالأركان كلها لكن بالإيمان وفيه ضرب قصور ولكن مع إحراز الطهارة، وفي الجانب الآخر يأتي بها مع استعمال بالنجاسة، وفيه ضرب قصور أيضاً فاستويا، فإن كان(1/280)
ربعه طاهراً وثلاثة أرباعه نجساً لم تجز الصلاة عرياناً بالإجماع، لأن للربع حكم الكل في الجملة، فثبت للثوب شبهة الطهارة، فصار أولى من العري الذي لا شبهة فيه، وإن كان أقل من الربع طاهراً فله الخيار على الاختلاف الذي مر.
ولو وجدت المرأة ثوباً تستر به جسدها ورأسها لا يزيد على ذلك فغطت به جسدها، ولم تستر به رأسها لم تجز صلاتها، لأن للربع حكم الكل، ألا ترى أنه لو انكشف ربع ساقها لم تجز صلاتها عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا جعل انكشاف الربع كانكشاف الكل يجعل القدرة على تغطية الربع كالقدرة على تغطية الكل، ولو كانت تقدر على أن تغطي بذلك الثوب جسدها أقل من ربع رأسها فالأفضل لها أن تغطي ما قدرت عليه من رأسها تقليلاً عورة، وإن لم تغط رأسها وغطت جسدها جاز، لأن ما دون الربع ليس له حكل الكل، ألا ترى أن في حق الانكشاف فرقاً بين الربع وما دونه، فكذا في حق التغطية والله أعلم.
وإذا صلى وهو لابس منديلاً أو ملاءة وأحد طرفيه فيه نجس والطرف الذي فيه النجاسة على الأرض فكان النجس يتحرك بتحرك المصلي لم تجز صلاته، وإن كان لا يتحرك تجوز صلاته؛ لأن في الوجه الأول مستعمل للنجاسة، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا صلى في ثوب وعنده أنه نجس، فلما فرغ من صلاته تبيّن له أنه طاهر تجوز صلاته. وبمثله لو صلى إلى جهة عنده أن القبلة إلى جهة أخرى فلما فرغ من صلاته تبين أنه أصاب القبلة لا تجوز صلاته. المسألة في «مجموع النوازل» .
ومن جملة (44أ1) ذلك: طهارة موضع الصلاة، فإن كان موضع قدميه وركبتيه وجبهته وأنفه طاهراً جازت صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه طاهراً وموضع أنفه نجساً وموضع جبهته وركبتيه طاهراً تجوز صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه وموضع ركبتيه وموضع أنفه طاهراً وموضع جبهته نجساً سجد على أنفه، وتجوز صلاته بلا خلاف للقذر الذي في الجبهة، وإن كان موضع قدميه وركبتيه طاهراً وموضع جبهته وأنفه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه» قال أبو حنيفة: يسجد على أنفه دون جبهته وتجوز صلاته؛ لأن الأرنبة لا تأخذ من الأرض والنجاسة أكثر من قدر الدرهم وفرض السجود عنده يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر وعندهما لا تجوز صلاته؛ لأن فرض السجود، عندهما لا يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر، والجبهة تأخذ من الأرض، والنجاسة أكثر من قدر الدرهم.
وفي «القدوري» : أن عن أبي حنيفة في هذا الفصل روايتين: روى محمد عنه لا تجوز، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز، فإن أعاد تلك السجدة في الصلاة في مكان طاهر تجوز ذكره في «القدوري» أيضاً.
وإن كان موضع قدميه وجبهته وأنفه طاهراً، وموضع ركبتيه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه»(1/281)
أن في ظاهر الأصول لا تجوز صلاته لعجزه عن السجدة بدون الركبتين، وقال الطحاوي تجوز، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا تجوز، وذكر الشيخ شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» في باب الحدث إذا كانت النجاسة في موضع الكفين والركبتين جازت صلاته عندنا خلافاً لزفر، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله إلا أنه لم يذكر خلاف زفر، وهكذا ذكره القدوري.
وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في «الأمالي» : إذا سجد على دم أو وضع يديه أو ركبتيه عليه، فإنه لا يعيد الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إن سجَدَ عليه يعيد الصلاة، وإن وضع يديه أو ركبتيه لا يعيد الصلاة، أما إذا وضع يديه أو ركبتيه؛ لأنه ليس بفرض من فرائض الصلاة فأقلّ حاله أن يجعل كالعدم، وأما إذا سجد فالكلام فيه بناءً على ما قلنا إن فرض السجود يتأدى بوضع الأنف لا غير، وعندهما بوضع الجبهة.
وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أنه قال فيمن صلى قائماً وموضع القدمين نجس: فسدت صلاته، ولا يفترق الحال بين أن يكون جميع موضع القدمين نجساً، وبين أن يكون موضع الأصابع؛ لأن القدم وموضع الأصابع شيء واحد، فكان حكمها واحداً، وإذا كان موضع إحدى القدمين طاهراً، وموضع الأخرى نجساً؛ فوضع قدميه اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تجوز صلاته؛ لأن القيام يحصل برجل واحدة فيكون وضع الآخر كلا وضع، وفي نسخة الإمام الزاهد الصفار؛ الأصح أنه لا تجوز صلاته؛ لأنه لما وضعهما صار القيام مراداً بهما، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، فإن وضع إحدى القدمين التي موضعها طاهر ورفع القدم الأخرى التي موضعها نجس وصلى، فإن صلاته جائزة.
وفي «القدوري» إذا افتتح الصلاة على مكان نجس منع ذلك انعقاد الصلاة، وإن افتتح الصلاة على مكان طاهر ثم نقل قدميه إلى مكان نجس ثم عاد إلى مكان طاهر صحت صلاته، إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها.
ولو صلى على بساط في ناحية منها نجاسة إن كانت النجاسة في موضع قيامه لا تجوز، وإن كانت في موضع سجوده فعلى ما ذكرنا فيما إذا كانت النجاسة على الأرض، وإن كانت غير هذين الموضعين فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز صغيراً كان البساط (أو لبيا) وحدّه أنه إذا رُفِعَ أحد طرفيه لا يتحرك الطرف الآخر، في الوجهين جميعاً تجوز صلاته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وقال بعضهم: إذا كان البساط صغيراً على التفسير الذي قلنا: لا يجوز، وإن كان كبيراً على التفسير الذي قلنا يجوز.
ولو كان البساط مُبطّناً فأصابته النجاسة البطانة فصلى على الظهارة، وقد قام على ذلك الموضع، فعن محمد أنه يجوز، وهكذا ذكر في «نوادر» الصلاة، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز، وقيل: جواب محمد في مخيط غير مُضَرَّب حكمه حكم ثوبين وجواب أبي(1/282)
يوسف في مخيط مضرب حكمه حكم ثوب واحد، فلا خلاف بينهما في الحقيقة في «شرح الطحاوي» ؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «نوادره» الضم بالخياط غير معتبر، وهو كثوبين منفصلين، الأسفل منهما نجس وأبو يوسف يقول: الضم قد جمعهما فهو كثوب واحد غليظ.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف في جبّة مبطنة أصابها دم قدر درهم وخلص إلى البطانة وهو إن جمع كان أكثر من قدر الدرهم فصلى فيه جازت صلاته، والجسد بمنزلة ثوب واحد، وروى أبو سليمان عن محمد أنه لا يجوز؛ لأن هذا بمنزلة ثوبين عنده وصار كالبساط المبطن.
وفي «النوازل» : ثوب ذو طاقين فأصابته نجاسة أقل من قدر الدرهم ونفذت النجاسة إلى الجانب الآخر، حتى صارت أكثر من قدر الدرهم لا يجوز، ولو كان الثوب ذو طاق واحد فأصابته نجاسة، ونفذت إلى الجانب الآخر وصارت أكثر من قدر الدرهم، لم يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأن هذا من الجانبين واحد فلا يعتبر منفرداً، فأما ذو الطاقين متعدد وما ذكر من الجواب في الثوب إذا كان ذا طاقين فذاك قول محمد، أما على قول أبي يوسف لا يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأنها بمنزلة ثوب واحد عنده بدليل المسائل الذي ذكرنا قبل هذا.
وفي «القدوري» لو كانت على بطانة مصلاه أو في حشوها جازت الصلاة عليها، بخلاف ما إذا كانت النجاسة في حشو جبته، وإذا صلى على موضع نجس وفرش نعليه وقام عليهما جاز، ولو كان لابساً لهما لا يجوز لأنهما يكونان تبعاً له حينئذٍ.
في «النوازل» : إذا قام على مكعبه وعلى نعله نجاسة جاز عند محمد خلافاً لأبي يوسف، ولو كان لم يخرج رجليه وصلى فيهما إن كان واسعاً فهو على الخلاف، وإن كان ضيقاً لم تجز بلا خلاف، فلو كانت النجاسة في خفه لا تجوز بلا خلاف، وقول أبي حنيفة لا يحفظ في باب المسح من «نوادر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا صلى على مكان طاهر وسجد على مكان طاهر إلا أنه إذا سجد تقع ثيابه على أرض نجسة يابسة أو ثوب نجس جازت صلات؛ لأنه أدى الصلاة في مكان طاهر، وفي اختلاف زفر: إذا كانت النجاسة على باطن اللبنة أو الآجرّة وهو على ظاهرها قائم يصلى لم تفسد صلاته.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: البول إذا كان على الأرض فبنى عليه أو فرشه بطين وجص حتى رفع به أحكام الفعل وقام عليه البول وصلى أجزأه، وإن أرق البول بباطن البناء وليس البناء في هذا كالثوب، ولو فرشه بالتراب ولم يطين بجص، والبول اتصل بباطنه، القياس أن لا تجوز، وعنه أيضاً لبنة أو آجرّة أصابها بول فجف حتى ذهب أثره ثم بنى عليها بناءً أو فرشها أجزأه أن يصلي عليها.
وعنه أيضاً: آجرّة حلت بها نجاسة فقلبها رجل وسجد عليها جاز، وبمثله لو حلت نجاسة بخشبة، فقلبها وسجد عليها لم يجز، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر مسألة(1/283)
الخشبة في موضع آخر، وذكر أنه إذا كان غلظ الخشب بحيث يقبل القطع تجوز الصلاة وعن أبي يوسف رواية أخرى في الآجر واللبن يقلب: نظر في ذلك، فإن وضع للبناء أو للفرش جازت صلاته، وإن وضع لغير ذلك لكن يرفع لم تجز صلاته، وكذلك الأرض إذا أصابته نجاسة فألقى عليها التراب وصلى عليها، فإن كان ذلك......... غير أن يفعل إلى غيرها جازت صلاته وإلا فلا، وقال محمد في هذه الفصول كلها: إن صلاته جائزة ولو كان لبأ أصابه فقلب حلت وصلى على الوجه الثاني؛ روى عن محمد أنه يجوز، وقال أبو يوسف: لا يجوز.
ومن جملة ذلك الوضوء والتييم: إذا كان مسافراً عادماً الماء، ومسائل الوضوء والتيمم مرت في كتاب الطهارة.
ومن جملة ذلك الوقت حتى لو صلى قبل دخول الوقت لا يجوز، وقد ذكرنا مواقيت الصلاة في الفصل المتقدم.
ومن جملة ذلك استقبال القبلة، قال الله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (القرة:144) فكل من كان بحضرة الكعبة يجب عليه إصابة عينها، ومن كان نائياً عنها ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهذا قول الشيخ أبي الحسن (44ب1) الكرخي والشيخ أبي بكر الرازي رحمه الله؛ لأنه ليس في وسعه سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، وعلى قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني من كان غائباً عنها، ففرضه عينها، لأنه لا فصل في النص.
وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول أبي عبد الله تشترط، وعلى قول أبي الحسن وأبي بكر: لا تشترط؛ وهذا لأن عند أبي عبد الله لما كان إصابة عينها فرضاً لا يمكنه إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية، شرط نيّة عينها، وعند أبي الحسن وأبي بكر لما كان الشرط إصابة جهتها لمن كان غائباً، وذلك يحصل من غير نيّة العين لا حاجة إلى اشتراط العين، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يشترط نيّة الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ الإمام أبو بكر بن فضل لا يشترط ذلك وبعض المشايخ يقول: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان في الصحراء فكما قال الفضلي وذكر الزندوستي في «نظمه» : إن الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل العالم، قال وقيل: مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى يمين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى يسار من توجه إلى المغرب، فإذا صلى بمكة صلى إلى أي جهات الكعبة شاء مستقبلاً بشيء منها، فإن كان منحرفاً عنها غير متوجه إلى شيء منها لم تجز.(1/284)
قال القدوري: إن صلوا جماعة استداروا حول الكعبة، هكذا جرت العادة، ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، فإن كان في الجماعة التي يصلي إليها الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم على الإمام، فإن كان في جهة أخرى جاز.
وإن صلت امرأة إلى جنب الإمام في ذلك الجهة فسدت صلاة الإمام وصلاة القوم، وإن صلت إلى غير ذلك الجهة فسدت صلاة من يحاذيها خاصة، والكلام في فساد صلاة الرجل بحسب المحاذاة يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وسواء كانت الكعبة مبنيّة أو منهدمة يتوجه إليها، لأن الكعبة ليست للحيطان ألا ترى لو وضع الحيطان في موضع آخر وصلى إليها لا يجوز.
وفي «الأصل» يقول: وإذا كانت الكعبة تبنى جاز له أن يصلي إليها، وأراد به انهدام الحيطان، لكن يكره إطلاق لفظ الهدم عليها، ولو صلى في جوف الكعبة أو على سطحها جاز إلى حيث ما توجه؛ لأنه مستقبل الجزء منها واستدبار الباقي لا يضر؛ لأن استقبال الكل متعذّر ولو صلى على جدار الكعبة فإن كان وجهه إلى سطح الكعبة يجوز وإلا فلا، ولو صلوا في جوف الكعبة بجماعة استداروا خلف الإمام وينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة، ولو صلى وظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن كان ظهره إلى وجه الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم.
الإمام إذا صلى فنوى مقام إبراهيم، ولم ينوِ الكعبة إن كان هذا الرجل قد رأى مكة، لم يجز وإن لم يكن رأى مكة، وعنده أن المقام أو البيت واحد أجزأه؛ لأنه نوى البيت، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في الباب الأول من صلاته من نوى مقام إبراهيم لا يجزيه إلا أن ينوي الجهة، فحينئذٍ يجوز، ومن شرط نية الكعبة يقول إذا نوى الكعبة أو نوى الفرضة يجوز، ولو نوى البناء لا يجوز إلا أن يريد بالبناء الجهة، ولو صلى مستقبلاً بوجهه إلى الحطيم لا يجوز.
ولو أن مريضاً صاحب فراش لا يمكن أن يحول وجهه إلى القبلة وليس يحضر به أحد يوجهه تجزيه صلاته إلى جهة ما توجه، وكذا إذا كان صحيحاً لكنه يختفي من العدو أو غيره ويخاف أنه إذا تحرك واستقبل القبلة أن يتبصر به العدو جاز له أن يصلي قاعداً أو قائماً بالإيماء أو مضجعاً حيث ما كان بوجهه، وكذلك إذا انكسرت السفينة وهي على لوح وخاف أنه لو استقبل القبلة يَسقط في الماء يتأتى له أن يصلي حيث ما كان وجهة المصلي إذا حوّل وجهه عن القبلة إن حول صدره فسدت صلاته، وإن لم يحول صدره لا تفسد صلاته إذا استقبل من ساعة القبلة؛ لأنه قل ما يمكن التحرز عن هذا، قالوا: وهذا الجواب أليق بقول أبي يوسف ومحمد أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن لا تفسد صلاته في الوجهين بناءً على أن عندهما الاستدبار إذا لم يكن لقصد الإصلاح تفسد الصلاة، وعند أبي حنيفة إذا لم يكن لقصد ترك الصلاة لا تفسد ما دام في المسجد.
أصل هذا إذا انصرف عن القبلة على ظن أنه أتم الصلاة فتبيّن أنه إن لم يتم فعند أبي حنيفة يبني ما دام في المسجد، وعندهما لا يبني، والمسألة مع أجناسها تأتي بعد هذا(1/285)
إن شاء الله، ومن جملة ذلك النية، قال عليه السلام: «لا عمل لمن لا نية له» وقال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيّات» .
وفي «الأصل» يقول: إذا أراد الدخول في الصلاة فظن بعض أصحابنا أن محمداً لم يذكر النية، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه ذكر إرادة الدخول في الصلاة، وإرادة الدخول في الصلاة هي النية. والكلام فيها في فصلين في كيفيتها وفي محلها.
الفصل الرابع في كيفيتها
نقول المصلي لا يخلو، إما أن يكون متنفلاً أو مفترضاً، فأما إن كان متنفلاً لا تكفيه نية مطلق الصلاة، لأن الصلاة أنواع في منازلها لو أدياها منزلة النفل، فانصرف مطلق النية إليه، وفي صلاة التراويح يكفيه أيضاً مطلق النية عند عامة المشايخ؛ لأنها سنّة الصحابة، وفي سائر السنن تكفيه مطلق النية على ظاهر الجواب، وبه أخذ عامة المشايخ.
وإن كان المصلي مفترضاً فلا يخلو، إما إن كان منفرداً أو إماماً أو مقتدياً، فإن كان منفرداً لا يكفيه نية مطلق الفرض سواء كان يصلي في الوقت أو خارج الوقت أما إذا كان يصلي في الوقت فلأن كل وقت كما هو قابل لفرض الوقت، فهو قابل لفرض آخر بطريق القضاء، وأما إذا كان يصلي خارج الوقت، فلأن خارج الوقت قابل لجميع الفرائض الظهر أو العصر أو المغرب وغير ذلك بطريق القضاء ثم إذا عين الظهر، وكان في وقت الظهر هل يشترط نية فرض الوقت فيه اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يشترط؛ لأن الظهر أنواع في منازلها ظهر الفائت وغير الفائت وليست إحديهما بأن يصرف النية إليها بأولى من الأخرى، وقال بعضهم: لا يشترط لأن فرض الوقت مشروع الوقت، والفائت غير مشروع الوقت، فإذا وقع التعارض انصرفت إلى ما هو مشروع الوقت كما في نقد البلد.
وإن نوى فرض الوقت ولم يعين أجزأه إلا في فرض الجمعة فإن في فرض الوقت يوم الجمعة خلافاً على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وإذ نوى فرض الوقت ظهر الوقت أو عصر الوقت، ولم ينوِ أعداد الركعات جاز؛ لأنه نوى الظهر، فقد نوى عدد الركعات، هذا إذا كان يصلي في الوقت، وإن كان يصلي بعدما خرج وهو لا يعلم بخروج الوقت فنوى فرض الوقت لا يجوز؛ لأن بعد خروج(1/286)
وقت الظهر فرض الوقت يكون هو العصر، فإذا نوى فرض الوقت كان ناوياً العصر وصلاة الظهر لا تجوز بنية العصر.
رجل افتتح المكتوبة ثم ظن أنها تطوع، فصلى على نية تطوع العصر حتى فرغ، فالصلاة هي المكتوبة؛ لأن فوات النية بكل جزء من أجزاء العبادة متعذر فيشترط قران النية بالجزء الأول، وكذا لو شرع في التطوع ثم ظن أنها مكتوبة وأتمها على نية المكتوبة، ولو كبّر ينوي التطوع ثم كبر ينوي الفرض يصير شارعاً في الفرض، فإذا أراد أن يصلي ظهر يومه، وعنده أن وقت الظهر لم يخرج، وقد خرج الوقت، فنوى ظهر اليوم جاز، لأنه لما خرج الوقت ظهر اليوم في ذمته؛ فإذا نوى ظهر اليوم فقد نوى عليه إلا أنه قضى ما عليه بنية الأداء وقضاءها عليه بنية الأداء جاز هذا إذا كان منفرداً، فأما إذا كان إماماً فكذلك الجواب في حقه؛ لأنه بمنزلة المنفرد في حق نفسه، ولا يحتاج إلى نية الإمامة؛ لأن الأداء لا يختلف عليه إلا في حق النساء، فإنه لا يصير إماماً لهن إلا بالنية: وإن كان مقتدياً لا تكفيه نية الفرض والتعيين حتى ينوي الاقتداء؛ لأن الأداء مقتدياً يخالف الأداء منفرداً، والمخالفة من هذا الوجه أظهر من المخالفة بين الظهر والعصر، وكذلك في صلاة التراويح إذا كان مقتدياً يحتاج إلى نية الاقتداء مع نية التراويح.
وإن نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين الصلاة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الاقتداء بالإمام متنوع إلى نفل وفرض والنفل أدنى، فانصرفت إليه النية المطلقة، وقال بعضهم: تجزئه؛ لأنه جعل نفسه تبعاً للإمام مطلقاً، وإنما يظهر تعيينه مطلقاً إذا صار شارعاً في صلاة الإمام وهو الفرض، وكذلك إذا قال: نويت أن أصلي مع الإمام، وذكر رحمه الله في باب الحديث إذا اقتدى بالإمام ينوي صلاة الإمام ولم يعلم أن الإمام في أية صلاة في الظهر أو في الجمعة (45أ1) أجزأه أَيُّها كانت؛ لأنه نوى الدخول في صلاة الإمام مقتدياً به؛ فيصير شارعاً في صلاته، وإن نوى صلاة الإمام لا تجزئه بالاتفاق؛ لأن صلاة الإمام قد يكون منفرداً وقد يكون مقتدياً إلا بالنية.
وإن نوى الشروع في صلاة الإمام فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تجزئه، وقال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الشروع في صلاة الإمام متنوع إلى نفل وفرض، والنفل أدنى يفيد الإطلاق، فينصرف إليه، فيصير شارعاً في صلاة الإمام ولكن متنفلاً، والأول أصح؛ لأنه جعل نفسه تبعاً من كل وجه فلا تثبت التبعية من كل وجه مع المخالفة من وجه.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولكن لم ينوِ صلاة الإمام إنما نوى الظهر، فإذا هي الجمعة لا يجوز؛ لأن اختلاف الفرضين يمنع الاقتداء، وإذا أراد المقتدي بنية الأمر على نفسه ينبغي أن ينوي صلاة الإمام والاقتداء به أو ينوي أن يصلي مع الإمام، ولو نوى الجمعة ولم ينوِ الاقتداء بالإمام اختلفوا فيه، بعضهم قالوا لا يجوز؛ لأن الجمعة لا تكون إلا مع الإمام.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز اقتداؤه، ولو نوى(1/287)
الاقتداء بالإمام وهو يرى أنه زيد فإذا هو عمرو صح اقتداؤه؛ لأن العبرة لما ينوي لا لما يرى وهو قد نوى الاقتداء بالإمام، ولو قال: اقتديت بزيد أو نوى الاقتداء بزيد، فإذا هو عمرو لا يصح اقتداؤه.
ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على قول من يرى صحة الشروع فهذه النيّة والإمام لم يشرع بعد وهو يعلم بذلك يصير شارعاً في صلاة الإمام إذا شرع الإمام؛ لأنه ما قصد الشروع في صلاة الإمام للحال إنما قصد الشروع في صلاة الإمام إذا شرع الإمام، والأفضل أن ينوي الاقتداء بعدما قال الإمام أكبّر حتى يكون مقتدياً بمصلي.
ولو نوى الاقتداء حتى وقف الإمام موقف الإمامة يجوز نيته عند عامة العلماء، وبه كان يفتي الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن الكاتب، وقال أبو سهيل الكبير والفقيه عبد الواحد والقاضي أبو جعفر، وبه أخذ أهل بخارى، لا تجوز نية الاقتداء ما لم يكبر الإمام وقال الفقيه الزاهد ينوي الاقتداء بعد قول الإمام الله قبل قوله أكبر وقول إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن: أحوط، ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على ظن أن الإمام قد شرع ولم يشرع الإمام بعد، اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يجوز وإذا كان المقتدي يرى شخص الإمام؛ فقال اقتديت بهذا الإمام الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر جاز، وكذا إذ كان في أحد الصفوف لا يرى شخص الإمام، فقال: اقتديت بالإمام الذي هو قائم في المحراب الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر.
ولو شرع في صلاة ثلاثية على ظن أنها. سنية فإذا هي أحادية لا يصح شروعه، ولو شرع على ظن أنها أحادية، فإذا هي سنية يصح شروعه، فإذا جاء إلى المسجد.
ولو قال إن كان الإمام زيداً فأشرع، وإن كان عمرواً فلا، قال محمد بن مقاتل: فهو على ما نوى وقال أبو جعفر الهندواني: لا يصح شروعه فعلاً، ولو نوى الصلاة ولم ينوِ الصلاة لله تعالى جاز، ويكون فعلاً لأن المسلم لا يصلي لغير الله تعالى، وإذا لم يعرف الرجل أن الصلوات الخمس فريضة ولكن يصليها في مواقيتها لا يجوز، وعليه قضاؤها؛ لأنه لم ينوِ الفرائض، وكذلك لو علم أن منها فريضة ومنها سنّة إلا أنه لم يعلم الفريضة من السنّة ولم ينوِ الفريضة في الكل لم تجز الفرائض.
ولو صلى سنين ولم يعرف النافلة من المكتوبة؛ إن ظن أن الكل فريضة جاز ما يصلي، لأنّ النفل يتأدى به. وإن كان ما يعلم أن البعض فريضة والبعض سنّة فكل صلاة صلاها خلف الإمام جاز إذا نوى صلاة الإمام.
وإن كان يعلم الفرائض من النوافل، ولكن لا يعلم ما في الصلاة من الفريضة والسنّة، فصلى الفرائض بنيتها فصلواته جائزة، وإذا كان لا يعلم الفرائض من النوافل، قام يوماً ونوى الفرض في الكل، فقد ذكرنا أن صلوات الأيام كلها جائزة، وأما صلاة القوم فكل صلاة قبلها مثلها من التطوع كالفجر والظهر لا تجوز صلاتهم، وكل صلاة ليس قبلها مثلها من التطوع كالعصر والمغرب والعشاء تجوز صلاتهم وهذا؛ لأنّ كل صلاة قبلها مثلها إذا نوى الإمام السنن نيّة الفرض يقع ذلك عن الفرض، فالتي يأتي بعدها(1/288)
تصير نفلاً وللقوم فريضة، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.
وإذا كان الرجل شاكاً في وقت الظهر هل هو باقي ينوي ظهر الوقت، فإذ الوقت قد خرج يجوز بناءً على أن القضاء يجوز بنية الأداء، والأداء بنية القضاء وهو المختار.
رجل صلى الظهر ونوى هذا من ظهر يوم الثلاثاء، فتبين أن ذلك يوم الأربعاء جاز ظهره؟ في تعيين الوقت، ثم في هذه الفصول هل يستحب أن يتكلم بلسانه؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا؛ لأن الله تعالى مطلع على الضمائر، وبعضهم قالوا: يستحب وهو المختار، وإليه أشار محمد رحمه الله في أول كتاب المناسك حيث قال: وإذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء لله، فقل: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، هذا هو الكلام في كيفية النية.
بقي الكلام في معرفة وقتها فنقول: لا شك أنها لو كانت مقارنة للشروع يجوز؛ لأنها شُرعت لتعيين العمل بالعبادة، وذلك إنما يحتاج إليه حالة الأداء وحالة الشروع وحالة الأداء، وصار هذا كسائر العبادات، أما إذا تقدمت النية على حالة الشروع لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية.
وذكر محمد بن شجاع في «نوادره» عن محمد أن من توضأ يريد به الصلاة يعني صلاة الوقت، فصلى وقد عديت النية أجزأه وفي الوقت فيمن خرج من منزله يريد الصلاة أي الصلاة التي كان القوم فيها، فلما انتهى إلى القوم كبّر ولم تحضره النية، فهو داخل مع القوم، وذكر في المناسك إذا خرج يريد الحج أحرم ولم تحضره النية جاز إحرامه، وذكر هشام في «نوادره» أن من جعل دراهم في صرة يتصدق بها عن زكاة ماله؟ ولم تحضره النية عند الفعل لا تجزئه الزكاة عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله أرجو أن تجزئه.
فالحاصل: أن الشروع في الصلاة، وفي جملة العبادات صحيح بالنية المتقدمة عند محمد إذا لم يشتغل بعدها بعمل آخر لا يليق بالصلاة، وقال أبو يوسف: لا تجزئه إلا في الصوم خاصة، هو يقول بأن النية شرط للتعيين بشرط حالة الأداء وحالة الأداء حالة الشروع فلا يسقط هذا الشرط وفي باب الصوم مسّت الضرورة؛ لأن حالة الشروع فيه حالة السهو والغفلة، فسقط، ولا كذلك في سائر العبادات، ومحمد رحمه الله يقول باقي النية قد وجدت، وبعد الوجه تبقى حكماً حتى؟ بخلاف ما إذا اشتغل بعمل آخر؛ لأن الصلاة نفسها تبطل بالعمل، فالنية تبطل به أيضاً، وذكر الطحاوي رواية أنه ينوي مقارناً للتكبير ومخالطاً له، وهو مذهب الشافعي رحمه الله هو يقول بأن الأصل أن يعتبر وجودها في كل الصلاة، وإنما لم يعتبر لما فيه الحرج، فاكتفينا بالوجود في حالة العقد على الأداء، وهي التجربة دفعاً للحرج.
ونحن نقول: فيه أيضاً ضرب حرج فيما قاله الطحاوي أحوط، وما قاله محمد(1/289)
رحمه الله أيسر، وأبو يوسف رحمه الله اعتبر الوجود حالة الشروع ممسكاً بما هو الأصل وما اعتبر المخالطة لما فيه من الحرج كما لم يعتبر ما في كل الصلاة، ومحمد رحمه الله يقول: إذا اكتفينا بالوجود حكماً عند فعل الصلاة أولى أن يكتفي به عند الشرط، هذه الجملة من «شرح الأصل» .
وفي القدوري: تقديم النية على التحريمة جائز إذا لم يتخلل بينهما عمل يمنع الاتصال، ولم ينسب هذا القول إلى أحد، ثم قال: وروي عن أبي يوسف فيمن خرج من منزله يريد الفرض بالجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبّر ولم تحضره النيّة في تلك الساعة أنه يجوز؟ قال: ولا أعلم أحداً من علمائنا خالف أبا يوسف ذلك، هذه الجملة من القدوري.
ومن أصحابنا رحمهم الله من قال: إذا كان عند التحريمة بحيث لو قيل له: أي صلاة هذه؟ أمكنه أن يجيب على البديهة فهو نية صحيحة، وإن كان لا يقدر على أن يجيب إلا بتباطىء فهو ليس يتأتى، ولا تجزيه الصلاة، وله إذا تأخرت النية عن الشروع بأن؟ النية وقت التكبير، ونوى بعد التكبير ففي ظاهر الرواية لا تصح، وقال أبو الحسن الكرخي: تصح ما دام في البناء، وقال بعض الناس يصح إذا تقدمت على الركوع. وجه ما ذهب إليه أبو الحسن أن التسابيح للتكبير وهو صالح للدخول به في الصلاة وإحضار النيّة عنده كإحضاره عند التكبير، وجه ما ذهب به أولئك أن النيّة وجدت في أكثر الركعة والأكثر ينوب الكل كالصوم.
النوع الثاني: من فرائض الصلاة هي عند الشروع في الصلاة، وبعد الشروع فيها (45ب1) وهي منه بنيته على الوقت وهي تكبيرة الافتتاح، والقيام في حق القادر عليه والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة، وبنيّة أن على الخلاف، وهي القومة بين الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين والخروج عن الصلاة بفعل المصلي على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فرعفي تكبيرة الافتتاح أو ما يقوم مقامها
مع النية فرض الدخول في الصلاة إلا بهما، قال عليه السلام: «لا يقبل الله تعالى صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» وقال عليه السلام: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير» ، وإذا أراد التكبير يرفع يديه ويكبّر، واختلف الناس في أن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح هل هو سنّة؟ والصحيح أنه(1/290)
سنّة؛ لأن رسول الله عليه السلام واظب عليه، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما واظب عليه رسول الله عليه السلام يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي حنيفة أيضاً، فإن ترك رفع اليدين هل يأثم؟ تكلموا فيه بعضهم قالوا: يأثم، وبعضهم قالوا: لا يأثم، وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على هذا القول، فإنه قال: إن ترك رفع اليدين جاز وإن رفع فهو أفضل، وكان الشيخ الإمام الزاهد الصفار يقول: إن ترك أحياناً لا يأثم وإن اعتاد ذلك يأثم.l
وكذلك اختلفوا في وقت رفع اليدين، قال بعضهم: يرفع ثم يكبّر، وقال بعضهم: يرسل يديه أولاً إرسالاً ويكبّر ثم يرفع يديه، وقال الفقيه أبو جعفر: يستقبل ببطون كفيّه القبلة وينشر أصابعه ويرفعهما، فإذا استقرتا في موضع المحاذاة يعني محاذاة الإبهامين شحمة الأذنين يكبّر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وعليه عامة المشايخ، وعن بعض المشايخ أن الصواب أن يقبض أصابعه قبضاً ويضمهما ضماً في الابتداء ثم إذا جاء أوان التكبير ينشرهما، وعن بعضهم أنه لا يفرج أصابعه كل التفريج، ولا يضمهما كل الضم بل يتركهما على ما عليه العادة، وهو المعتمد.
وذكر ابن رستم في «نوادره» لا يفرج أصابعه كل التفريج في حالة الصلاة، ولا يضم كل الضم إلا في موضعين؛ في حالة الركوع يفرج كل التفريج؛ لأنه يحتاج إلى أخذ الركبة، والتفريج أمكن للأخذ، وفي حالة السجود يضم كل الضم؛ لأنه يحتاج إلى الاعتماد على راحتيه، وعند الضم يكون أقدر على الاعتماد، وفيهما سواء فتركه على ما عليه العادة، وعن أبي يوسف أنه ينبغي أن يقول التكبير موضع اليدين، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد الصفار؛ وهذا لأن رفع اليدين سنّة التكبير، وما كان سنّة الشيء يكون مقارناً لذلك الشيء، كتسبيحات الركوع والسجود، وينبغي أن يرفع يديه حذاء أذنيه ويحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه.
وأما المرأة ترفع يديها كما يرفع الرجل في رواية الحسن عن أبي حنيفة، وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ، وقال بعضهم: حذاء يديها، قال بعضهم: حذو منكبيها وهو الأصح؛ لأن هذا أستر في حقها، وما يكون أستر لها فهو أولى.
فلا يطأطىء رأسه عند التكبير، ذكره في كتاب الصلاة للحسن بن زياد، ثم تكبيرة الافتتاح ليست من جملة أركان الصلاة، بل هي شرط الدخول في الصلاة، وقال الشافعي هي من أركان الصلاة.
وفائدة الخلاف تظهر في جواز بناء التنفل على تحريمة الفرض وجاز بناء ركعتي الظهر على تحريمة الظهر، وبناء التنفل على تحريمة الفرض عندنا يجوز، وعند الشافعي لا يجوز.
ووجه بناء هذه المسائل على هذا الأصل: أن عندنا التكبير لما كان شرطاً كان هو مؤدياً للنفل بشرط أتى به الفرض، ومؤدياً للفرض بشرطٍ أتى به لفرض آخر، وذلك جائز، وعند الشافعي التكبير لما كان ركناً كان مؤدياً للتنفل بركن الفرض ومؤدياً الفرض بركن آخر وكل ذلك لا يجوز.(1/291)
حجته: أن هذا ذكر مفروض شرط في حالة القيام، فيكون من الصلاة كالقراءة، ولهذا شرط لصحتهما شرط لسائر أفعال الصلاة.
وجه قول علمائنا: قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) جاء في التفسير أن المراد منه تكبيرة الافتتاح، فالاستدلال بالآية أن الله تعالى عطف الصلاة على تكبيرة الافتتاح، والشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره، فهذا بذلك على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، وقال عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» فالاستدال بالحديث أن النبي عليه السلام جعل الطهارة، فاستقبال القبلة والتكبير سواء ثم الطهارة واستقبال القبلة شرط، فكذا التكبير إلا أن التكبير متصل بالركن وهو القيام، فشرط هذه الشرائط لصحة ما يتصل بها من الركن لا لصحة التكبير.
ولو افتتح الصلاة بالتهليل، بأن قال: لا إله إلا الله، أو بالتحميد بأن، قال: الحمد لله، وبالتسبيح، بأن قال: سبحان الله أو، قال: الله أجل الله أعظم، أو قال: لا إله غيره أو، قال: تبارك الله يصير شارعاً، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول النخعي، والحكم بن عيينة، وينوي إن كان يحسن التكبير أو لا يحسن، وكذلك يستوي إن كان يعرف أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعرف.
وقال أبو يوسف في «الجامع الصغير» : إذا كان يحسن التكبير لم يجزه إلا بقوله الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولم يفصل بين ما إذا كان يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعلم وذكر في كتاب الصلاة، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا يصير شارعاً إلا بما ذكرنا من الألفاظ، فأما إذا كان لا يعرف الافتتاح بالتكبير يجزيه، وإن كان يحسن التكبير، وقال الشافعي: إذا كان يحسن التكبير لا يصير شارعاً إلا بقوله الله أكبر الله أكبر، وقال مالك: لا يصير شرعاً إلا بقوله الله أكبر حجة مالك ظاهر قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» .
وجه قول الشافعي: إن في قوله الله الأكبر ما في قوله الله أكبر وزيادة، وأبو يوسف يقول: الله أكبر والله الكبير سواء؛ لأن أفعل وفعيل في صفات الله تعالى واحد؛ لأن أفعل لا نذكر إلا من مذكورين وليس ههنا إلا مذكور واحد، وأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) علق بالصلاة بمطلق ذكر اسم الله تعالى، وعن مجاهد وعبد الرحمن أن الأنبياء كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله؛ ولأن المقصود هو التعظيم وبأي ذكر أتى فقد حصل معنى التعظيم، فلا حجة لهم في الحديث؛ لأن التكبير قد يجيء بمعنى التعظيم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 31) أي عظمته، وقال الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ(1/292)
تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) وعندنا إنما يجوز إذا ذكر اسماً آخر على وجه التعظيم، ولو قال الله أكبر؛ روي عن أبي يوسف أنه لا يصير شارعاً.
ولو قال الله الكبار؛ روي عن أبي يوسف أنه يصير شارعاً؛ لأن الكبار لغة في التكبير، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر أنه إذا افتتح الصلاة بالتهليل أو بالتسبيح أو بالتحميد أنه يصير شارعاً ولم يذكر أنه هل يكره ذلك عندهما؟ فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره والأول أصح، فقد ذكر القدوري رواية عن أبي حنيفة أيضاً أنه كره الافتتاح إلا بقوله؛ الله أكبر ولو قال أكبار لا يصير شارعاً، ولو قال هكذا في خلال الصلاة تفسد صلاته، لو قال اللهم اغفر لي أو قال اللهم ارزقني كذا لا يصير شارعاً بلا خلاف؛ لأن هذا سؤال والسؤال غير الذكر، قال عليه السلام: «فيما يرويه عن ربه «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وعلى هذا إذا قال أستغفر الله أو قال نعوذ بالله أو قال: بالله أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو قال: ما شاء الله لا يصير شارعاً، ولو قال الله يصير شارعاً عند أبي حنيفة.
فعن رواية الحسن اكتفى بذكر اسم، وفي ظاهر رواية «الأصل» اعتبر الصفة مع الاسم، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع» والشيخ الإمام الزاهد الصفار في شرح كتاب الصلاة أن على قول أبي حنيفة: يصير شارعاً، وعلى قول محمد: لا يصير شارعاً؛ لأن تمام التعظيم بذكر الاسم والصفة، ولو قال: بالله يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عند محمد، ولو قال الله أكبر بالكاف يصير شارعاً، فالعرب قد تبدل الكاف بالكاف، ولو قال اللهم فقد اختلف، أهل النحو فيه على قولهما؛ قال البصريون يصير شارعاً لأن الميم بدل عن ياء النداء فكأنه قال يا ألله، وهناك يصير شارعاً؛ وقال الكوفيون: لا يصير شارعاً والأول أصح، وفي «فتاوى النسفي» إذا افتتح الصلاة بالتعوذ أو بالتسمية لا يصير شارعاً، أما قوله سبحانك اللهم وبحمدك يصير شارعاً.
ولو كبر بالفارسية بأن قال خداي ندر كست خداي تررك ندنام خداي تررك جاز عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن إلا أنه إذا كان يحسن العربية يكره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز إذا كان يحسن العربية (46أ1) وعلى هذا الخلاف قراءة القرآن بالفارسية، وعلى هذا الخلاف لو دعا بالفارسية في الصلاة أو سبّح أو أثنى على الله تعالى أو تعوذ أو هلل أو صلى على النبي أو استغفر الله تعالى بالفارسية في الصلاة، وفي القراءة بالفارسية كلمات كبيرة، سيأتي بعد هذا في فصل القراءة إن شاء الله.
وفي «نوادر ابن سماعة» : لو افتتح المؤتم الصلاة مع الإمام، ففرغ من قوله الله قبل(1/293)
فراغ الإمام من قوله الله لم يجز سواء قال أكبر مع الإمام أو قبله أو بعده، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: يجزئه إذا قال أكبر مع الإمام أو بعده؛ لأن كل لفظ التكبير فرض عند أبي يوسف حتى لا يصير داخلاً عنده بقوله الله للتفسير المتقدم والمتأخر في كل لفظ التكبير.
وعندهما بقول الله: يصير شارعاً فيعتبر التقدم، والتأخر فيه، ولو قال الله مع الإمام أو بعده، وفرغ في قوله أكبر قبل فراغ الإمام من قوله أكبر على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأنه لو اقتصر على قول الله مع الإمام أو بعده يجوز، فههنا كذلك.
وقيل: ينبغي ههنا أن لا يجوز بالاتفاق؛ لأنه إنما يصير شارعاً بقول الله عند أبي حنيفة إذا اقتصر عليه، أما إذا قال أكبر يصير شارعاً بالكل، ويصير الكل فرضاً، وإذا نوى الاقتداء وكبّر ووقع تكبيره قبل تكبير الإمام، فيصلي الرجل بصلاة الإمام لم يجز؛ لأنه لم يصر إماماً؛ لأنه حين اقتدى به لم يكن هو في الصلاة، وهل يصير شارعاً في صلاة نفسه؟
أشار في كتاب الصلاة إلى أنه يصير شارعاً، فإنه قال متى جدد تكبيراً مستأنفاً ونوى صلاة الإمام كما في تكبيره قطعاً للصلاة، الأولى شروعاً في صلاة الإمام، وذكر في «النوازل» : لأبي سليمان أنه لا يصير شارعاً، فإنه قال: إذا قهقهه لا تنتقض طهارته، ولو صار شارعاً لا تنتقض طهارته.
فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان على رواية «النوادر» : لا يصير شارعاً، وعلى رواية «الأصل» يصير شارعاً، ومن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم على رواية «النوادر» يصير شارعاً؛ لأنه نوى نيتيّن الاقتداء والصلاة، فبطلان إحدى النيتين لا يوجب بطلان النية الأخرى، وما ذكر من عدم انتقاض الطهارة بالقهقهة لا يدل على عدم الشروع؛ لأن حرمة هذه الصلاة قاصرة، فإنه شرع مقتدياً وقد ظهر فيه بخلافه، فصار كالصلاة المظنونة، ولا رواية فيها فلا تكون في معنى المنصوص، وهذا الحكم وهو انتقاض الطهارة بالقهقهة عرف بالنص، ومنهم من قال على رواية كتاب الصلاة لا يصير شارعاً؛ لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة، فصار كما لو اقتدى بجنب أو محدث، والروايات ثمة متفِّقَة، وإنما سمّاه قطعاً في زعم المصلي غير أن كلا القولين ضعيف، أما الأول؛ لأن القهقهة في الصلاة المظنونة توجب انتقاض الطهارة؛ لأنها لاقت حرمته صلاة مطلقة، وإن كانت لا توجب القضاء كما لو قهقه قبل السلام، وذلك روي عن أبي يوسف.
وأما الثاني: فلأنه سمّاه قطعاً للصلاة مطلقاً فيجب العلم بحقيقته، ما يكون قطعاً للصلاة بزعم المصلي يكون قطعاً بصورته فلا يكون قطعاً مطلقاً أو لا يكون قطعاً حقيقة، بل يكون مجازاً.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن ما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف، وما ذكر في «النوادر» قول محمد بناءً على أصل أن الجهة إذا فسدت قبل: تبقى أصل الصلاة على قول أبي يوسف تبقى، وعلى قول محمد: لا تبقى، وعن أبي حنيفة(1/294)
روايتان، والمسألة تأتي بعد هذا، وعامة المشايخ على أنه إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وموضع ما ذكر في «الأصل» : أنه يذكر قبل الإمام ولم يقتد به، فلمّا كبّر الإمام نوى هو بقلبه الاقتداء بالإمام فلا يصير مقتدياً، ولكن يصير شارعاً في صلاة نفسه، وموضوع ما ذكر في «النوادر» : أنه كبّر قبل تكبير الإمام مقتدياً به، ثم كبر الإمام، فلا يصير شارعاً في صلاة الإمام ولا في صلاة نفسه، وإلى هذا قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، فلو أنه كبّر بعد ما كبّر الإمام، ونوى الشروع في صلاة الإمام يصير شارعاً في صلاة الإمام قاطعاً لما كان فيه، وهذه التكبيرة تعمل عملين، ومثل هذا جائز كمن كان في النافلة فكبّر ينوي الفريضة.
ثم إذا شرع في صلاة الإمام في هذه الصورة وقطع ما كان فيها هل يلزمه قضاء ما قطعها؟ ينظر إن كانت تلك الصلاة نفلاً لزمه القضاء بالشروع، وإن كانت فرضاً ينظر إن كانت تلك الصلاة، والصلاة التي اقتدى بالإمام واحداً لا يلزمه شيء؛ لأنه أداها على أكمل الوجوه، وإن كانت مختلفة يلزمه القضاء، ثم الأفضل في تكبيرة الافتتاح في حق المقتدي أن تكون تكبيرة مع تكبير الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد يكبّر مع تكبير الإمام، ذكر الاختلاف على هذا الوجه في اختلاف زفر ويعقوب لهما قوله عليه السلام: «فإذا كبّر فكبروا» والفاء للتعقيب.
ولأبي حنيفة القيام ركن من أركان الصلاة، فيكون الأفضل للمؤتم المشاركة في جميع ذلك قياساً على الركوع والسجود، وإذا كبر بعد تكبير الإمام تفوته المشاركة في جزء من القيام وأما الحديث قلنا: الفاء إنما توجب التعقيب إذا دخل على الجزاء.
وقوله: «فكبروا» ليس بجزاء ولكن هذا بيان الحال، كما يقال إذا دخلت على الأمير ألا ترى أنه عليه السلام عطف عليه قوله، «وإذا ركع فاركعوا» ، ثم المقتدي لا يؤخر الركوع عن ركوع الإمام كذا ههنا فرع على قولهما، فقال: لو كبر مقارناً؛ قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: تجزيه ويكره، وقال في رواية: لا يجزيه ذكر الرواية الأولى المعلى في «نوادره» ، وقال محمد أجزأه وقد أساء ذكر في الكنايات، ودليل عدم الجواز ما ذكرنا أن الشرع علّق شروع المؤتم بتكبير يوجد منه بعد الأمام؛ ولأنه يأتي، فلا يصح قبل شروع الإمام، دليل الجواز أن المشاركة حصلت بالشروع مع الإمام فيصح الاقتداء لكن يكره لمخالفة السنّة فلا يُسلّم بأنه يأتي على سبيل التعقيب، بل على سبيل المشاركة كما في سائر الأركان وإذا لم يعلم المؤتم أنه كبّر قبل الإمام، أو بعده ذكر المسألة..... روايات وجعلها على ثلاثة أوجه: (إن) كان أكثر رأيه أنه كبّر قبل الإمام لا يجزيه، وإن كان أكثر رأيه أنه كبّر بعد الإمام يجزيه؛ لأن أكثر الرأي يقوم مقام العلم في الأحكام، وإن(1/295)
استوى الظنّان عنده يجزيه لأن أمره محمول على الصواب، وقد علم أنه في الاقتداء قصد الشروع في صلاة الإمام، فهو على الصواب حتى يظهر الخطأ.
وإذا نسي المصلي تكبيرة الافتتاح، وقرأ ثم تذكر ذلك فكذا للركوع ينوي أن يكون ذلك عن تكبيره لم يجزئه ذلك عن تكبيرة الافتتاح؛ لأن تكبيرة الافتتاح شرعت في حالة القيام وحالة الركوع ليست بحالة القيام مطلقاً، وكذلك هذا في التطوع إذا كبّر في حالة الركوع الافتتاح لا يجوز وإن كان التطوع يجوز قاعداً من غير عذر.
والفرق: أن التكبير إنما شرع في قيام مطلق، والقيام المطلق إنما يكون باستواء الشق الأعلى والأسفل والشق الأعلى أصل؛ لأن الآدمي لا يعيش إلا به والشق الأسفل تبع؛ لأنه يعيش بدونه، فإذا كبّر في حالة الشروع، فقد كبّر في غير محلّه فلم يجزئه، فأما صلاة التطوع شرعت عند قيام النصف الأعلى، فإذا صلى قاعداً فقد صلى، قال: قيام النصف الأعلى وهو الشرط، فأجزأه مسائل هذا الفصل تأتي في فصل صلاة المريض إن شاء الله تعالى.
يجب أن يعلم أن القراءة في الصلاة ركن، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) ، وقال الله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أَمَرَ بالقراءة والأمر على الوجوب والمراد حالة الصلاة؛ لأن القراءة لا تجب خارج الصلاة، فتعين حالة الصلاة، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» وإذا أثبت أن القراءة ركن، فنقول: لا بد من معرفة حدِّها ومحلّها وقدرها وصفتها.
أما معرفة حدها، فنقول: تصحيح الحروف أمر لا بد منه، ولا تصير قراءة إلا بعد تصحيح الحروف، فإن صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه؛ حكي عن الكرخي أنه يجزيه، وبه كان يفتي الفقيه أبو بكر الأعمش؛ لأن القراءة فعل اللسان، وذلك بإقامة الحروف، لا بالسماع، فإن السماع فعل السامع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال:
وإن كان وحده وكانت صلاة يجهر فيها بالقراءة قرأ في نفسه إن شاء، وإن جهر وأسمع نفسه داخلاً في القراءة، لكان إسماع نفسه مستفاداً من قوله قرأ في نفسه، فيكون قوله وأسمع نفسه تكراراً، وحكي عن الفقيه أبي جعفر (46ب1) الهندواني والشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه لا يجزيه ما لم يسمع نفسه، وبه أخذ المشايح؛ لأن هذا الكلام ما هو مسموع مفهوم، ألا ترى أنّ ألحان الطيور لا تسمى(1/296)
كلاماً مع أنها مسموعة لأنها غير مفهومة، وألا ترى أن الكتاب لا يسمى كلاماً مع أنه بشرط وجود القراءة في نفسه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الأصح أنه لا يجزيه ما لم يُسمع أذناه ويسمع من بقربه، قال بعض مشايخنا التسمية على الذبيحة، والاستثناء في اليمين والطلاق والعتاق والإيلاء والبيع فهو على هذا الاختلاف، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح مختلفاته» أن الصحيح عندي أن في بعض يكتفي بسماعِهِ، وفي بعضها يشترط سماع غيره مثلاً في البيع ولو أدنى المشتري صماخه من فم البائع فسمع يكفي، ولو سمع البائع بنفسه، ولم يسمعه المشتري لا يكتفى، وفيما إذا حلف لا يكلم فلاناً، فناداه من بعيد بحيث لا يسمع لا يحنث، نصّ على هذا في كتاب الأيمان؛ لأن شرط الحنث وجود الكلام في محلها، فنقول في التطوع محل القراءة الركعات كلها.
وفي الفرائض محل القراءة الركعتان، حتى تفترض القراءة في الركعتين إن كانت الصلاة من ذوات المثنى يقرأ فيهما جميعاً، وإن كانت الصلاة من ذوات الأربع يقرأ في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح، وإن شاء سكت.
وقال الشافعي: هي فرض في الأربع؛ لأن القراءة ركن، وكل ركعة تشتمل على أركان الصلاة ثم سائر..... كان كالركوع والسجود، والقيام فرض في كل ركعة، فكذا ركن القراءة، ولهذا كان ركناً في التطوع في كل ركعة.
ولنا: أن قضية القياس الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة، فإن الأمر بالفعل اقتضى التكرار لا أن الركعة الثانية مثل الأولى من كل وجه فأوجدنا القراءة فيها استدلالاً بالأولى، فأما الأخريات فهما زائدتان على الأوليين؛ لأن الصلاة في الأصل كانت ركعتين كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت الصلاة في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأُقِرّت في السفر» ، فلم يجز قياس الآخرين على الأوليين، ولهذا لا يقاس الأخريان على الأوليين في حق وصف القراءة وهو الجهر والإخفاء، وكذا في حق القدر وهو السورة، فكذا في أصل القراءة، وإن ترك القراءة والتسبيح لم يكن عليه حرج، ولم تكن عليه سجدتا السهو إن كان ساهياً، لكن القراءة أفضل، هذا هو الصحيح من الروايات، كذا ذكره القدوري في «شرحه» .
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات أجزأه، وقراءة الفاتحة أفضل، فإن لم يقرأ ولم يسبح كان مسيئاً إن كان متعمداً أو كان ناسياً فعليه سجدتا السهو؛ لأن القيام في الأخروين مقصود، فيكره إخلاؤه عن الذكر والقراءة جميعاً كما في الركوع أو السجود، وقد كره ذلك رسول الله عليه السلام لأصحابه(1/297)
حيث قال:؟ أي واقعين.....h
والأوّل أصح؛ إذ الأصل في القيام القراءة، فإذا سقطت القراءة في الأخراوين بقي القيام المطلق، فيكون قيامه كقيام المؤتم بخلاف الركوع والسجود، ولأن القراءة فيهما ليست بمسموعة، وإنما المشروع فيهما الذكر، فلا يجوز أصلاً؟ عن الذكر، وعن أبي يوسف أنه قال: يسبح فيهما فلا يسكت، إلا أنه إن أراد أن يقرأ الفاتحة، فليقرأ على جهة البناء لا على جهة القراءة، وبه أخذ بعض المتأخرين من أصحابنا.
وفي الوتر محل القراءة الركعات كلّها حتى تفترض القراءة في الركعات كلها، وهذا على أصلهما لا يشكل؛ لأن الوتر على أصلهما سنّة، والقراءة في السنن في جميع الركعات واجبة، وإنما يشكل على أصل أبي حنيفة، فإنه يقول فرض عملاً لا اعتقاداً، ولزوم القراءة من أمارات النفل، والجواب عن هذا أن دليل الفرضية عنده قاصر؛ لأنه من؟....... بإيجاب القراءة في الكل احتياطاً، فإن القراءة في الكل في الفرائض لا يوجب الفساد، وترك القراءة في ركعة من النوافل يوجب الفساد.
وأما الكلام في قدر القراءة متنفلاً فرض القراءة عند أبي حنيفة يتأدى بأية واحدة، وإن كانت قصيرة وهو مذهب ابن عباس، فإنه قال: إقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا يتأدى إلا بأية طويلة كآية المداينة، وكآية الكرسي أو ثلاث آيات قصار مما يقولان أن ما دون ذلك لا يقصد بالقراءة عرفاً، فلا يتناوله مطلق اسم القراءة، وكان المعنى فيه أنه لا يتم به الإعجاز.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن المأمور به قراءة ما تيسر عليه من القرآن والآية القصيرة من القرآن حقيقةً وحكماً، أما حقيقةً لا يشكل، وأما حكماً، فإنها تحرم قرائتها على الجنب والحائض، أما ما دون الآية ليس لها حكم القرآن، ولهذا لا يحرم على الجنب والحائض قراته، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله.
وهما يقولان: الأمر المطلق ينصرف إلى ما يسمى قرآناً عرفاً وقوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) وقوله: {لَمْ يَلِدْ} (الصمد: 3) لا يسمى قرآناً عرفاً، لا يقصد بالقراءة عرفاً للأمر المطلق لا ينصرف إليهما على قول أبي حنيفة إذا قرأ آية قصيرة هي كلمات أو كلمتين نحو قوله فقيل: كيف قدرتم..... ما أشبه ذلك يجوز بلا خلاف بين المشايخ، كذا ذكر بعض المشايخ في «شرحه» ، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وأما إذا قرأ آية قصيرة هي كلمة واحدة نحو قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) أو آية قصيرة هي حرف واحد نحو قوله ق. س. ز، فإن هذه آيات عند بعض القُرّاء؟ اختلف المشايخ فيه، وإذا قرأ آية طويلة في ركعتين نحو آية الكرسي وآية المداينة قرأها في ركعتين والبعض في ركعة والبعض في ركعة، اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، بعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأنه ما قرأ آية تامة في كل ركعة، وعامتهم على أنه يجوز فإن(1/298)
بعض هذه الآيات تزيد على ثلاث آيات قصار أو تقدمها، فلا تكون قراءته أقل من قراءة ثلاث آيات قصار.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف إذا كان الرجل لا يحسن إلا هذه الآية وهو قوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة) فله (أن) يقرأها مرّة واحدة في الركعة، ولا يكررها في الركعة وتجوز صلاته، وهو قول أبي حنيفة، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة في؟...... سورة في القرآن مثل {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر) وإن قرأ بآيتين طويلتين أو بآية طويلة يكره مثل أقصر سورة في القرآن وإن لم تكن تلك الآيتين أو تلك الآية تشمل أقصر سورة في القرآن لا يجزيه وقراءة الفاتحة على التيقن ليس بفرض عندنا ولكنها وجب حتى يكره تركها، وقال الشافعي رحمه الله: فرض، حتى لو ترك حرفاً منها لم تصح، واستدل بقوله عليه السلام «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ولمواظبة النبي عليه السلام على قراءتها في كل صلاة.
ولنا: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فهذا يقتضي جواز الصلاة بقراءة القرآن مطلقاً، والعمل بالحديث الواحد إنما يجب على وجه لا يكون نسخاً لما في الكتاب، وذلك بأن يثبت في الحديث وجوب الفاتحة حتى يكره ترك قراءتها، إما أن تثبت الركنية فلا والله أعلم.
في صفة القراءة، فنقول لا يخلو إما أن يكون إماماً أو منفرداً، والصلاة لا تخلو إما أن تكون مكتوبة أو نافلة.
أما إذا كانت الصلاة مكتوبة، فإن كان يجهر في موضع الجهر ويسرّ في موضع السر.
وموضع الجهر الفجر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين.
وموضع الإسرار الظهر والعصر؛ وهذا لأن الجهر والإسرار في حق الأئمة في موضعها...... ظاهرتان يقيناً من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
وإن جهر فيما يخافت أو خافَتَ فيما يجهر فقد أساء؛ لأنه خالف السنّة، وأما إذا كان منفرداً؛ إن كانت صلاة يُخافَتْ فيها فخافِت، وإن جهر فيها يكون مسيئاً، هكذا ذكر(1/299)
الحسن بن زياد في كتاب صلاته، وإن كانت صلاة يجهر فيها فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء أسرّ فقرأ في نفسه، أمّا له أن يجهر؛ لأنه سبقه الإمام وله أن يخافت؛ لأن الإمام بالجهر يُسمع غيره، والمنفرد لا يسمع غيره، هكذا ذكر في عامة الروايات، وذكر في رواية أبي حفص أن الجهر أفضل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من صلى بنية الجماعة صلت بصلاته صفوف الملائكة» (47أ1) والجهر سنّة الصلاة بجماعة فيما يجهر، فإن قيل..... الجهر جار الأئمة لحاجتهم إلى سماع غيرهم والمنفرد لا يحتاج إلى إسماع غيره، فلا يشرع الجهر في حقه، قبل له المنفرد الإمام في نفسه فيجهر لإسماع نفسه.
فإن قيل: إذا اعتبر إماماً في نفسه لماذا جازت له المخافتة في حقه؟ قيل: له، لأن القراءة دون غيره، فكان تخافته كجهره.
وأما النوافل لا تخلو إما أن تكون نوافل النهار أو نوافل الليل، فإن كانت نوافل النهار يكره الجهر فيها؛ لأنها تابعة للفرائض، والأصل فيه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «صلاة النهار عجماء» .
وأما نوافل الليل لا بأس بالجهر فيها؛ لأنه مشروع في فرائض الليلة لكن الأفضل أن يكون بين الجهر والإخفاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه خرج ذات ليلة، فمرّ بأبي بكر رضي الله عنه، وهو يُسرّ بالقراءة جزءاً، ومرّ بعمر وهو يجهر بالقراءة جزءاً، ومرّ ببلال رضي الله عنه، وهو يتنقل من سورة إلى سورة، فلما أصبح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّمذلك لهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت أسمع من أناجيه، وقال عمر رضي الله عنه كنت أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وقال بلال رضي الله عنه: كنت أنتقل من بستان إلى بستان، فقال عليه السلام لأبي بكر: ارفع من صوتك قليلاً، وقال لعمر اخفض من صوتك قليلاً، وقال لبلال: إذا افتتحت سورة، فلا تنتقل إلى غيرها حتى تفرغ عنها.
وأما المخافتة في بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السورة، فهو عند أصحابنا رحمهم الله وهو قول الثوري، رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» .
بقي الكلام بعد هذا في القدر المسنون، قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : القراءة في الصلوات في السفر سواء، تقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت، وفي الحضر تقرأ في(1/300)
الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، وكذلك في الظهر والعصر والعشاء، سواء القراءة فيهما على النصف من القراءة في الظهر وفي المغرب يقرأ بالقصار..... هذا هو المذكور في ظاهر الرواية؛ وفي روايات الحسن، ويقرأ في الظهر في الركعتين مثل قراءته في الركعة الأولى من الفجر.
اعلم بأن ما كان من باب المقادير لا يثبت قياساً بل يتبع فيه للنص، والنص قد يرد معقول المعنى والنص الوارد في تقدير القراءة في الصلوات كلها معقول المعنى، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والحال حالتان، حالة السفر وحالة الحضر.
وقال: السفر نوعان حالة الضرورة، وهو أن يعجل السير أو يكون خائفاً من جهة العدو، وحالة الاختيار وهو أن يكونوا آمنين في السفر، ولا يعجل السير.
وحالة الحضر أيضاً نوعان؛ حالة الاختيار، وهو أن يكون في الوقت سعة، وحالة الضرورة وهو أن يخاف فوت الوقت، إذا عرفنا هذا، فنقول.
بدأ محمد رحمه الله في «الكتاب» ببيان حالة السفر فقال: يقرأ في السفر بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت؛ لأن السفر لمّا أوجب قصر الصلاة تخفيفاً أوجب قصر القراءة من طريق الأولى، وقد صح أنّ النبي عليه السلام «قرأ في صلاة الفجر في السفر المعوذتين» ، وهذا في حالة الضرورة، أما في حال الاختيار في السفر يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت، ليحصل الجمع بين مراعاة السنّة في القراءة وبين التخفيف، وفي الظهر مثل ذلك، وفي العشاء والعصر دون ذلك، وفي المغرب يقرأ بالقصار جداً، وأما في حالة الحضر.
فإن كانت الحالة حالة الضرورة بأن كان يخاف خروج الوقت يقرأ مقدار ما لا تفوته وقت الصلاة.
وإن كانت الحالة حالة الاختيار بأن كان في الوقت سعة، ذكر في هذا «الكتاب» أنه يقرأ في الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين أو ستين آية سوى فاتحة الكتاب، ولم يرد بقوله بأربعين أو خمسين أو أربعون أو خمسون في كل ركعة، بل أراد به أربعون فيهما في كل ركعة عشرون، وذكر في «الأصل» : أنه يقرأ بأربعين آية سوى فاتحة الكتاب.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقرأ ما بين الستين إلى مائة وفي غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) والآثار قد اختلفت عن رسول الله عليه السلام، فقد روى أبو برزة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام «كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة آية» ، وعن بعض الصحابة أنه(1/301)
قال: تلقيّت من رسول الله عليه السلام سورة ق والنازعات، لكثرة ما يقرأها في صلاة الفجر وعنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر، {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (التكوير: 1) و {إِذَا السَّمَآء انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1) . وروي عنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر سورة المزمّل والمدثر، وعنه عليه السلام أنه قرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى فاتحة البقرة، وفي الركعة الثانية خاتمتها. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى سورة النمل، وفي الركعة الثانية سورة بني إسرائيل ولما اختلفت الأخبار في مقادير القراءة، اختلفت مقادير محمد رحمه الله، وباختلاف الآثار تدل على أن في الأمر سعة.
والمشايخ وفقوا بين الروايات فمنهم من قال الأربعون للكسالى، وما فوق ذلك إلى الستين للوسط من الناس، وما بين الستين إلى المائة للذين يجهدون، ويستأنسون بالقراءة ولا يملون.
ومنهم من وفق من وجه آخر، فقال: المراد من الأربعين إذا كان الآي طوالاً، كسورة الملك، فإنها مع طولها ثلثون آية، والمراد من الخمسين والستين إذا كانت الآي متوسطة بين الطول والقصر أو مختلطة فيها القصار والطوال...... فما بين الستين إلى المائة إذا كانت الآية قصار، كسورة المزمل والمدثر وسورة الرحمن.
ومنهم من وفق وجه آخر فقال: إن كان الوقت وقت كدَ وكسب نحو الصيف يقرأ أربعين، فإن كان وقت فراغ كالشتاء يقرأ ما بين الستين إلى مئة، وإن كان فيما بينهما يقرأ خمسين إلى ستين، ومنهم من يقول إذا كانت الليالي قصاراً يقرأ أربعين، وإن كانت طوالاً يقرأ (ما) بين الستين إلى مئة، وإذا كان..... ذلك يقرأ خمسين أو ستين هذا في صلاة الفجر.
وذكر في «الأصل» : يقرأ في الظهر بمثل الفجر أو دونه وكل ذلك، منقول عن النبي عليه السلام روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه السلام..... الظهر {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، و...... أنه قرأ في الفجر أيضاً {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، فكان الظهر مثل الفجر في القراءة؛ ولأن وقت الفجر ووقت الظهر مُتَّسِع، لا يخاف بالتأخير.... يستحب تطويل القراءة ... ، وإحراز الأربع قبل الظهر، ويقرأ دون(1/302)
الفجر أيضاً، لما روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أنهم قالوا: أحرزوا قراءة رسول الله عليه السلام في..... ثلاثين إلى أربعين، و.... الظهر وقت اشتغال بالكسب، فتطويل القراءة يؤدي إلى السآمة، بخلاف وقت الفجر؛ لأنه وقت فراغ عن الكسب.
وأما في صلاة العصر يقرأ في الركعتين بعشرين آية سوى فاتحة الكتاب، لحديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة العصر في الأولى سورة البروج وفي الثانية والسماء والطارق» ، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: أحرزوا ما قرأ رسول الله عليه السلام في العصر، فوجدناه على النصف من قراءة في الظهر؛ وهذا لأن المستحب في العصر هو التأخير..... للناظر إذ النفل بعد العصر مكروه، فإذا أخّر العصر ... بأنه يطول القراءة فيها ... أن يتصل بالوقت المكروه، وأما في العشاء يقرأ بمثل ما يقرأ في العصر، لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن قومه شكوه إلى رسول الله عليه السلام عن تطويل قراءته في العشاء، فقال النبي عليه السلام: «أفتّان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها» ؛ ولأن المستحب هو تأخير العشاء إلى ثلث الليل، فلو أطال القراءة يؤدي إلى الملالة.
وأما في المغرب يقرأ في كل ركعة سورة قصيرة، فإن النبي عليه السلام قرأ فيهما بالمعوذتين، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصّل، والعشاء بأواسط المفصّل، وفي المغرب بقصار المفصّل؛ ولأن مبنى المغرب على التعجيل، وعلى أن لا يحل تأخيرها كذا جاءت الآثار، قال (47ب1) عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ، فيجب تخفيف القراءة ليحصل التعجيل وهذا عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يقرأ في المغرب مثل سورة {وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) و {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ} (النبأ: 1) ، وروي في ذلك خبر أن النبي عليه السلام قرأ في المغرب والطور، وتأويل الحديث عندنا: أنه افتتحها إلا أنه ضمها.
وأما الوتر فما قرأ فيه فهو حسن، بلغنا عن رسول الله عليه السلام «أنه قرأ في الوتر في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) وفي الثانية ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وروى(1/303)
أنه كان يوتر بتسع سور من المفصّل في الركعة الأولى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} (القدر: 1) و {إِذَا زُلْزِلَتِ} (الزلزلة: 1) و {أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1) ، وفي الركعة الثانية والعصر وإنا أعطيناك وإذا جاء نصر الله، وفي الركعة الثالثة ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 109) وتبّت و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) ، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة تامة.
ولو قرأ بعض السورة في ركعة والبعض في ركعة أخرى، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا يكره؛ لأنه خلاف ما جاء به الأثر، وذكر عيسى بن أبان رحمه الله في كتاب الحج أنه لا يكره، وروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، وروى حديثاً بإسناد له عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ في صلاة الفجر سورة بني إسرائيل، فلما بلغ أنهى التلاوة ركع وسجد، ثم قام إلى الثانية وختم السورة.
ولو قرأ في الركعتين من وسط (سورة) أو من آخر سورة، فلا بأس به، ولو قرأ في الركعة الأولى من وسط سورة أو من آخر سورة وقرأ في الركعة الأخرى من وسط سورة أخرى أو من آخر سورة، فلا ينبغي أن يفعل ذلك على ما هو ظاهر الرواية، ولكن لو فعل لا بأس به، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» في نسخة شمس الأئمة رحمه الله قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره.
وفي «الفتاوى» : سئل عن القراءة في الركعتين من آخر السورة أفضل أم قراءة سورة بتمامها؟ قال: إن كان آخر السورة أكثر آية من سورة التي أراد قراءتها كان قراءة آخر السورة أفضل، وإن كانت السورة أكثر فهي أفضل، ولكن ينبغي أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة، ولا ينبغي أن يقرأ في كل ركعة آخر سورة على حدة، قال ذلك مكروه عند أكثرهم، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» .
وإذا انتقل من آية إلى آية أخرى من سورة أخرى أو من هذه السورة وبينهما آيات يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى بلالاً عن ذلك حين سمعه ينتقل من سورة إلى سورة، فقال: «اقرأ كل سورة على نحوها» ، وكذلك يكره اختيار قراءة أواخر السور دون أن يقرأ السّور على الولاء في الصلاة وخارج الصلاة؛ لأنه يخالف فعل السلف، وكذلك إذا جمع بين سورتين بينهما سور أو سورة واحدة في ركعة واحدة، فإنه يكره.
وأما في الركعتين إن كان بينهما سور لا يكره، وإن كان بينهما سورة واحدة هل يكره؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم إن كانت السورة طويلة لا يكره وقال بعضهم لا يكره أصلاً.
وإذا قرأ في ركعة سورة وقرأ في الركعة الأخرى سورة فوق تلك السورة أو قرأ في ركعة سورة ثم قرأ في تلك الركعة سورة أخرى فوق تلك السورة يكره، وإذا قرأ في الركعة الأولى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ، ينبغي أن يقرأ في الركعة الثانية {قُلْ أَعُوذُ(1/304)
بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) أيضاً؛ لأن قراءة سورة واحدة في الركعتين غير مكروهة، وإذا قرأ في الركعة آية، وقرأ في الركعة الأخرى آية فوق تلك الآية أو قرأ في ركعة آية، ثم قرأ بعد هذا في تلك الركعة آية أخرى فوق تلك الآية، فهو على ما ذكرنا في السور.
وإذا جمع بين آيتين بينهما آيات أو آية واحدة في ركعة واحدة أو في ركعتين، فهو على ما ذكرنا في السور أيضاً.
ولو قرأ في ركعة سورة، وقرأ في الركعة الثانية سورة أطول منها، إن كان التفاوت قليلاً لا يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام: «كان يقرأ في الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ} ، وهل أتاك أطول من سبح اسم ربك بقليل، فإن كان التفاوت كبيراً يكره. وهذا كله في الفرائض فأما في السنن فلا يكره، هكذا ذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله في زلة القاري.
وإذا قرأ الفاتحة وحدها في الصلاة، أو قرأ الفاتحة ومعها آية أو آيتين، فذلك مكروه.Y
ذكر في «شرح الطحاوي» : المقتدي إذا قرأ خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام أبو حفص، وبعض مشايخنا ذكروا في شرح كتاب الصلاة أن على قول محمد: لا يكره، وعلى قولهما: يكره، ولا بأس بقراءة القرآن على التأليف، فقد صح أن الصحابة فعلوا ذلك، ومشايخنا استحسنوا قراءة المفصل ليسمع القوم ويتعلموا.
وإذا كبّر للركوع في الصلاة ثم بدا له أن يزيد في القراءة لا بأس به ما لم يركع، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن مؤقتاً لشيء من الصلوات، يعني لا يقرأ غيرها في تلك الصلوات؛ لأن في هجرها سؤا وإذا فعل ذلك في بعض الأوقات لا بأس به، وفي بعض شروح «الجامع الصغير» أن هذه الكراهة فيما إذا اعتقد أن الصلاة لا تجوز بدونها، إلا أن قراءة هذه السورة أيسر عليه لا بأس به، وإذا كرر آية واحدة مراراً، فإن كان ذلك في التطوع الذي يصلي وحده، فكذلك غير مكروه فقد ثبت عندنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يُحيون ليلتهم بآية العذاب أو آية الرحمة أو آية الرجاء أو آية الخوف، وإن كان ذلك في صلاة الفريضة فهو مكروه؛ لأنه لم ينقل إلينا عن واحد من السلف أنه فعل ذلك. وهذا كلّه في حالة الاختيار وأما في حالة العدو والنسيان فلا بأس به والله أعلم.
(نوع آخر)
في معرفة طوال المفصّل وأوساطه وقصاره
فنقول طوال المفصّل من سورة الحجرات إلى سورة والسماء ذات البروج، والأوساط من سورة والسماء ذات البروج إلى سورة لم يكن، والقصار من سورة لم يكن إلى الآخر.
(نوع آخر)
في إطالة القراءة في الركعة الأولى على الركعة الثانية
قال أبو حنيفة رحمه الله في «الجامع الصغير» : يطول الركعة الأولى من الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء وقال محمد: أحب أن يطول الركعة الأولى على الثانية في(1/305)
الصلوات كلها، يجب أن يعلم بأن إطالة القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الفجر مسنونة بالإجماع، ليدرك الناس ركعتي الفجر بجماعة، وفي سائر الصلوات كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إطالة القراءة في الركعة الأولى في سائر الصلوات غير مسنونة.
احتج محمد رحمه الله بحديث أبي قتادة في غير هذه المسألة وحين وصف أبو حميد الساعدي صلاة رسول الله عليه السلام كان من جملة ما وصف «أن النبي عليه السلام كان يطول الركعة الأولى في كل صلاة» ؛ وهذا لأن التفضيل في صلاة الفجر باعتبار أنه وقت غفلة، فتفضيل الأولى ليدرك الناس الجماعة، وهذا المعنى موجود في سائر الأوقات، إلا أن الغفلة في وقت الفجر بسبب النوم، وفي سائر الأوقات باشتغال الناس بالكسب، ومما احتجا بما روي أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، وقرأ مرّة أُخرى في صلاة الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} (الغاشية: 1) ، وهما متقاربان أو الثانية أطول من الأولى؛ ولأن الثانية تكرار الأولى، فتكون مثل الأولى، ألا ترى أنه يتكرر بصيغته، وهو الجهر والسورة فكذلك يتكرر بمقداره.
والقياس في الفجر هكذا، وإنما تركنا القياس بعذر؛ لأنه وقت نوم وغفلة بخلاف سائر الأوقات، فإنها وقت علم ويقظة، فلو تغافلوا.... بسبب اشتغالهم بأمور الدنيا، وذلك يضاف إلى تقصيرهم واختيارهم، والنوم لا يكون باختيارهم، فالتفضيل هناك لا يكون تفضيلاً ههنا، ثم يعتبر التطويل من حيث الآيات، إذا كان بين ما يقرأ في الأولى، وبينما يقرأ في الثانية مقارنة من حيث الآي، أما إذا كان بين الآيات تفاوت من حيث الطول والقصر تعتبر الكلمات والحروف.
بعد هذا اختلف المشايخ، قال بعضهم: ينبغي أن يكون التفاوت فيهما بقدر الثلث والثلثين، الثلثان في الأولى والثلث في الثانية، وفي «شرح الطحاوي» قال ينبغي أن يقرأ في الأولى ثلاثين آية وفي الثانية بقدر عشر آيات، أو عشرين، وهذا هو بيان الأولى، وأما بيان الحكم فنقول: التفاوت وإن كان فاحشاً بأن قرأ بأربعين آية وفي الثانية بثلاث آيات لا بأس به، به ورد الأثر (48أ1) .
وأما إطالة الركعة الثانية على الركعة الأولى فمكروه بالإجماع، كذا ذكر صدر الإسلام وفجر الإسلام رحمهما الله في «شرح الجامع الصغير» قالا: وهذا إذا كان الفتاوت كبير بثلاث آيات فما فوقها، وأما إذا كان قليلاً نحو آية أو آيتين لا يكره والله أعلم.(1/306)
(نوع آخر) في القراءة بالفارسية
وإذا قرأ في الصلاة بالفارسية جاز قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن، غير أنه إن كان يحسن العربية يكره، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية لا تجوز قراءته، وإن كان لا يحسن العربية يجوز.
فالعبرة عند أبي حنيفة للمعنى وعندهما للفظ والمعنى إذا قدر عليهما، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» رجوع أبي حنيفة إلى قولهما رحمهما الله، وقال الشافعي: لا تجوز قراءته على كل حال، وأجمعوا على أنه لا تفسد صلاته بالقراءة بالفارسية إنما الخلاف في الجواز، احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) الله تعالى أخبر أن القرآن عربي، والفارسي غير العربي، فلا يكون قرآناً، فلا تجوز صلاته و؟.... القرآن اسم للمعجز، والإعجاز في النظم والمعنى، فإذا قدر عليهما لا يتأدى الفرض إلا بهما، وإذا عجز عن التعلم أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود، فإنه يصلي بالإيماء.
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي أن الفرس كتبوا إلى سليمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتبها إليهم، وكانوا يقرؤون في الصلاة حتى لانت ألسنتهم بالعربية، والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ} (الشعراء: 196) ، ولا شك أن في زبر الأوليين هو المعنى دون اللفظ.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز قراء القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة يعني قرأ ترجمة آية قصيرة؛ لأن الصلاة عنده تجوز بأدنى الآيات، ثم ذكر أبو سعيد البردعي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوّز القراءة بالفارسية خاصة، دون غيرها من الألسنة، أَمَرَ به بالعربية على ما جاء في الحديث «لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية» ، والأصح أن الاختلاف في جميع الألسنة واللغات، نحو التركية والهندية والرومية خلاف واحد، ثم إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما أتى به هو المعنى، ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93) ستراي وي دونغ ونحو قوله تعالى {فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعاً} (الكهف: 99) ..... وقال تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه: 124) ، فأما إذا لم يكن على نظم القرأن لا يجوز.
قال الإمام الزاهد الصفار رحمه الله يجوز كيف ما كان ذكر في باب السهو، قال بعضهم؛ إنما يجوز إذا كان ذلك..... كسورة الإخلاص، فأما إذا كان من القصص،(1/307)
فإنه لا يجوز، كقوله تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} (يوسف: 9) فقال بكشند يوسف لا، فإنه لا يجوز وتفسد صلاته، والصحيح أنه يجوز في الكل، والله أعلم.
ولو اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك أشدّ المنع، وإن فعل ذلك في آية أو آيتين لا يمنع من ذلك، ذكره شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» ، ولو كتب القرآن وكتب تفسير كل حرف وترجمته تحته؛ روي عن الفقيه أبي حفص رحمه الله لا بأس بهذا في ديارنا؛ لأن معانِ القرآن وفوائدها لا يضبطها العوام إلا بهذا، وإنما يكره هذا في ديارهم؛ لأن القرآن نزل بلغتنا.
إذا قرأ الرجل في صلاته شيئاً من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تجز صلاته، سواء كان يحسن القرآن أو لا يحسن، علل فقال: لأن هذا كلام وليس بقرآن ولا تسبيح، والذكر الذي يجري في الصلاة إما قرآن أو تسبيح وما يجري مجراه، قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني حاكياً عن استاذه القاضي الإمام هذا رحمهما الله، هذا التعليل من محمد يشير إلى أنه لا بأس للجنب أن يقرأ شيئاً من هذه الكتب؛ لأن محمداً رحمه الله حطه درجة عن درجة التسبيح حيث قال: لأن هذا ليس بقرآن ولا تسبيح، ثم لا بأس للجنب أن يسبح؛ فلأن لا يكون له بقراءة هذه الكتب بأساً من (باب) أولى.
وفي «النوادر» : ويكره للجنب قراءة التوراة.
ووجه ذلك: أنه منزل كالقرآن فيكره للجنب قراءته كالقرآن، وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال، إن عرف أنه منزل لم يقرأه الجنب، قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، ونحن لا نعلم أنها كيف أنزل، لأنهم حرفوها وغيروها، فينبغي أن لا ينهى عن قراءتها، ثم قال رحمه الله: وجدت في بعض النسخ أنه إن كان ما قرأ من التوراة وأشباهها مؤدياً للمعنى الذي في القرآن يجوز في قول أبي حنيفة.
وإن لم يكن مؤدياً المعنى الذي في القرآن لا شك أنه لا يجزيه عن صلاته، ولكن هل تفسد صلاته؟ ينظر: إن علم أنه هو التوراة الذي أنزل على موسى لا تفسد صلاته؛ لأنه بمنزلة التسبيح إلا أن يكون ذكر قصة، فحينئذٍ تفسد صلاته؛ لأنه كلام الناس، وكثير من مشايخنا اختاروا ما حكاه شمس الأئمة الحلواني عن بعض النسخ أن ما قرأ في صلاته من التوراة: إن كان موافقاً لمعنى القرآن جازت صلاته في قول أبي حنيفة؛ لأن العبرة عنده للمعنى، والله أعلم.
من هذا الفصل في المتفرقات
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى: في رجل قرأ في الأوليين من(1/308)
العشاء سورة سورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب في الأخريين، يريد بقوله: لم يعد فاتحة الكتاب لم يقضها، وإن قرأ في الأولين بفاتحة الكتاب، ولم يقرأ بالسورة، قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجهر، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» .
واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: القراءة واجبة في الأوليين، فيحتاج إلى بيان كيفيتها، ينظر أنه هل يمكن القضاء بمثلها في الأخريين، فنقول: القراءة وجبت في الأوليين بصفة أن يفتتح بفاتحة، ويترتب عليها السورة، فإذا ترك الفاتحة في الأوليين، لا يمكن أن يقضيها كذلك.... الفاتحة في الركعتين الأخراوين مرّة واحدة، وإذا ترك السورة في الأوليين أمكنه القضاء؛ لأن الفاتحة مشروعة في الأخريين، فيقرأها، ويبني السورة عليها كما في الركعة الأولى، فيمكنه القضاء بالمثل، وبعضهم قالوا: الأخريين محل الفاتحة، فلم يتسع للقضاء، وليستا بمحل السورة فوسعتا للقضاء.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يقضي السورة؛ لأنه عجز عن القضاء، لأن قراءة السورة غير مشروعة في الأخراوين، ألا ترى أنه لو ترك الفاتحة في الأوليين لا يقضيها في الأخريين، وإنما لا يقضيها لعجزه عن القضاء كذا هذا، فإن أراد أن يقرأ السورة وحدها في الأخريين، ويترك الفاتحة ويقول: كنت بالخيار قبل هذا في قراءة الفاتحة في الأخريين بين أن أقرأها، وبين أن أدع قراءتها، فأمضي على خياري، فلا أقرأها هل له ذلك لم يذكر هذا «في الكتاب» ، ومشايخنا فيه مختلفون منهم من قال: له أن لا يقرأ الفاتحة؛ لأنها لم تكتب عليه في الأخريين، وهو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، ومنهم من قال ليس له أن يترك الفاتحة هنا لتقع السورة بعد الفاتحة كما هو سنة القراءة في الصلاة، ثم قول محمد في «الجامع الصغير» .
وإن قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب ولم يقرأ بالسورة قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة مقتضى وجوب قضاء السورة وذكر هذه المسئلة في «الأصل» : وقال: إذا ترك السورة في الأوليين فأحب إلي إلى أن يقرأها في الأخريين نص على أن قضاء السورة في الأخريين بطريق الاستحباب، فصار في المسألة روايتان على رواية «الأصل» يستحب قصاء السورة، وعلى رواية «الجامع الصغير» يجب قضاء السورة، وقول محمد في «الجامع الصغير» قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجَهَرَ يحتمل أنه أراد به الجهر بالسورة والفاتحة جميعاً، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله حتى لا تؤدى بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة، فإن ذلك غير مشروع ... الفاتحة تبعاً للسورة؛ لأنها سنّة والسورة واجبة، لكونها قضاء، فيكون على حسب الثواب واجبة والسنّة تبع الواجب، ومن حق السورة الجهر، فكذا ما هو تبع لها، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا رحمهم الله، ويحتمل أنه أراد بالجهر بالسورة دون الفاتحة، وإليه ذهب بعض المشايخ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة أداء والسورة قضاء، والأداء يكون على حسب محله،(1/309)
والقضاء على حسب الفوائت وقد فات (48ب1) مع الجهر، فيقضي مع الجهر. ويلتحق بالركعة الأولى، فلا يؤدي إلى الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة تقديراً، ومنهم من قال، فإنه يخافت بهما، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة تتقدم على السورة، فكانت أصلاً، والسورة تبع لها ومن حق الفاتحة في هذه الركعة المخافتة، فيخافت بالسورة تبعاً لها.
ومما يتصل بهذه المسألة
إذا نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ قرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة، هكذا ذكر في «الأصل» : وروى الحسن في «الأصل» : وروى الحسن عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه نقص الفرض (لا) يؤد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضاً وقراءة الفاتحة واجبة.
وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال، هذا نقص الفريضة لأجل الفرض، فإنه إذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضاً، وصار كما لو تذكر السورة في الركوع، فإنه يرجع، إلا أنّ أبا يوسف ربما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة، والله أعلم.
ولو لم يقرأ في الركعتين الأوليين أصلاً وقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب خاصة، فإن صلاته جائزة وفوت هذا عن الأوليين، ولو قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب خاصة، أليس أنه تجوز صلاته كذا هنا، إلا أن يزيد بقراءة الفاتحة في الأخريين ... على ما جرى من السنّة، فحينئذٍ لا تجز صلاته، ولا ينوب هذا عن القراءة.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل فات العشاء فصلاها بعدما طلعت الشمس إن لم فيها جهر بالقراءة؛ لأن القضاء بدأ على حسب الأداء، ويدل عليه حديث ليلة التعريس، فإن النبي عليه السلام قضى الوتر والفجر ضحى ليلة التعريس على حسب الفوائت من الأذان والإقامة والجهر، وإن كان صلى وحده اتفق المشايخ أنه مُخيّر بين المخافتة والجهر، والجهر أفضل إن كان في الوقت، وإن كان بعد ذهاب الوقت اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يخافت حتماً، وبعضهم قالوا: يخيّر والجهر أفضل كما في الوقت، وأصل هذا إن الجهر بالقراءة من شعار الدين، وإنه شرع واجباً في الجماعات، لما أنّ مبنى الجماعة على الإشهاد، أما لا يجب على التفرّد، وكذلك قال في «الأصل» : إذا جهر المنفرد فيما يخافت أو خافت فيما يجهر، لا يلزمه سجود السهو، وإذا لم يجب الجهر على المنفرد يخير في الوقت بالإجماع والجهر أفضل؛ لأنه مأمور بأداء الصلاة بالجماعة، ومن سنّتها الجهر، فإن عجز عن الجماعة لم يعجز عن الجهر، فأما بعد خروج الوقت؛ منهم من قال مخافتة؛ لأنه لا يجب عليه أداء الصلاة بالجماعة(1/310)
بعد خروج الوقت؛ إذ لا يجد بجماعة بعد خروج الوقت، وإذا لم يجب أداء الصلاة بالجماعة لا تنوب إلى إقامة سنّة الجماعة، وهي الجهر، ومنهم من قال: كلاهما سواء، والجهر أفضل ليكون القضاء على حسب الأداء، وهذا أصح.
واختلف مشايخنا في حدّ الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصيل الحروف، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: أدنى الجهر أن يسمع غيره وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد. والله أعلم.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في إمام يصلي في رمضان أو غيره، ويقرأ من المصحف، فصلاته فاسدة عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا تفسد صلاته ويكره، وعند الشافعي رحمه الله لا يكره، حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني أنه قال: هذه المسألة دليل على أن الصحيح من مذهب أصحابنا أنه لا بأس بذكر رمضان مطلقاً من غير التقيد بالسهو، وإن مذهبهم بخلاف مذهب مجاهد.
ألا ترى أنهم ذكروا رمضان هنا مطلقاً من غير تقييد حجة الشافعي في المسألة حديث ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه كان يؤم عائشة رضي الله عنها في رمضان، وكان يقرأ من المصحف، ولو كان مكروهاً لما رَضِيْت به، وأن النظر في المصحف عبادة، والصلاة أيضاً عبادة، فقد أضافت عبادة إلى عبادة فلا تكره، يبقى هذا العذر أنه نسبة بأهل الكتاب، فإنهم يفعلون كذلك، ولكن لا كل ما يفعله أهل الكتاب يكره.
ألا ترى أنهم يقرؤون عن ظهر قلب، ونحن نقرأ كذلك أيضاً ولا يكره، ومما احتجا بجواز الصلاة بحديث ذكوان أيضاً؛ ولأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً، وقد قرأ القرآن، فيجوز كما لو قرأ عن ظهر القلب؛ وهذا لأن المفسد إنما يكون محل المصحف أو النظر فيه، أو تقليب الأوراق وحمل المصف لا يصلح مفسداً، فإن حمل ما هو أكثر من ذلك لا تفسد، فإن النبي عليه السلام كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، وكان يضعها إذا سجد ويرفعها إذا قام، والنظر في المصحف لا يصلح مفسداً كالنظر إلى نقوش المحراب بل أولى؛ لأن النظر في المصحف عبادة، والنظر إلى نقوش المحراب ليس بعبادة، وتقليب الأوراق عمل يسير لا يقطع الصلاة، إلا أنه يكره؛ لأنه يشبه أهل الكتاب في صلاتهم فيما عنه بد بخلاف القراءة عن ظهر القلب؛ لأنه لا بد منه، فصار كالصلاة....، فإنه يكره لأن.
ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان: حمل المصحف وتقليب الأوراق، والنظر فيه عمل كثير والصلاة منه بد فتفسد الصلاة، فعلى هذا الوجه نقول: إن كان المصحف بين يديه على رجل وهو لا يحمل، ولا يقلب الأوراق تصح صلاته، وكذلك لو قرأ آية مكتوبة على المحراب تصح صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله على قياس هذا التعليل.(1/311)
والوجه الثاني: أن هذا تعلم من المصحف في الصلاة، والتعلم في الصلاة، مفسد للصلاة كما لو تعلّم من معلم؛ وهذا لأن التعلم نوعان: تعلم من الكتاب، وهما علم الصحيفتين، وتعلم من معلم، ثم التعلم من المعلم يفسد الصلاة، فكذا من الكتاب، فعلى هذا الوجه نقول: وإن كان المصحف بين يديه، وهو لا يحمله ولا يقلب الأوراق تفسد صلاته عن أبي حنيفة، وأورد الحاكم في «المختصر» مسألة تصلح حجة لأبي حنيفة.
وصورتها: إذا كان لا يحفظ شيئاً من القرآن ويمكنه القراءة من المصحف، لو صلى بغير قراءة يجوز، ووجه الاحتجاج: أن القراءة من المصحف لو كانت جائزة لما جازت الصلاة في هذه الصورة من غير قراءة، ولكن الظاهر من مذهبهما أنهما لا يسلمان بهذه المسألة، وبه قال بعض المشايخ، وأما حديث ذكوان.
قلنا: قوله وهو كان يقرأ من المصحف، هذا قول الراوي ذكره على وجه التعريف لذكوان أي لم يكن ذكوان ممن يقرأ القرآن كله عن ظهر القلب، لكنه استظهر فصار المفصّل فيقرأ في صلاته ويؤمها بالسور القصار، وكان لا يمكنه أن يختم في الصلاة؛ لأنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، وكان يحتاج في قراءة السور الطوال إلى المصحف؛ لأنه إن كان يقرأ في الصلاة من المصحف، فيكون فيه دليلاً على أنه لا بأس بأن لا يختم القرآن في صلاة التراويح، بخلاف ما اعتاده العوام في يومنا هذا.
ومما يحفظ في هذا المقام، ولو نظر إلى مكتوب في المحراب ينوي القرآن وماثل وفهم قيل: على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قياس قول محمد: تفسد، أصل المسألة، فإذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه حتى فهم؛ عند أبي يوسف لا يحنث، وعند محمد يحنث، وقيل: لا تفسد صلاته إجماعاً، بخلاف مسألة اليمين على قول محمد.
والفرق: أن جواز الصلاة تتعلق بصورة القرآن ولم توجد أما الحنث في قراءة الكتاب تتعلق بالمعنى وهو الفهم، وقد وُجد ثم فرّق بينهما، إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه وفهم، فإنه لا يحنث، وبينما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه وفهم، فإنه يحنث.
والفرق عرف في كتاب الأيمان، والله أعلم.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم: في رجل صلى أربع ركعات تطوعاً، لم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات. واعلم بأن هنا ثمان مسائل.
إحداها: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأوليين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.(1/312)
والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: (49أ1) إذا قرأ في ركعة من الأولييين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الأخريين.
والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، وفي إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف، فيُصبح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، فإن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع، وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحديهما فسد بهذا الشفع، وكان عليه قضاء الشفعين، وعند محمد ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحديهما يرفع التحريمة ويقطعها، فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول، فلا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة، كما هو قول محمد باتفاق الراويات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده، ولا يلزمه قضاؤه.
واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين، روى محمد أنه لا يقطع التحريمة، كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع، كذا ذكر في صلاة «الأصل» . وفي «الجامع الصغير» .
وروى بشر بن الوليد وعلي بن الجعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا رحمهم الله في المسألة قياس واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان، ورواية أبي يوسف عنه قياس.
وجه قول محمد: أن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، به ورد الحديث، قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأراد به التطوع، فكانت القراءة في الركعتين فرضاً، كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في إحداهما فقد فاتت الفرائض على وجه لا يمكن إصلاحه، كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء، ومتى فسدت التحريمة لم يصح بناء الأخريين عليها، فلم يلزمه قضاؤه، ويتألف ترك القراءة منهما، أو في إحداهما حجة أبي يوسف أن فساد الأداء لا يكون أعلاها لا من عدم الأداء، وعدمُ الأداء لا يفسد التحريمة، ففساد الأداء أولى أن لا يفسد التحريمة أدنى الفساد لا ينعدم.... الجواز، والفقه ما عرف في موضعه أن التحريمة شرط الأداء، فلا يفسد بفساد الأداء، وإذا لم(1/313)
يفسد بفساد الأداء صح بناء الأخريين على التحريمة وإن ترك القراءة في الأوليين.
وجه قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد، والاستحسان على قوله وجهان.
إحداهما: أن التحريمة شرط الأداء كما قال أبو يوسف إلا أنها مشروعية الأداء لا تقبل الفصل عن الأداء، والأداء يتم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة، فإذا قرأ في الركعة الأولى، فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة وانتهت في الصحة بها ههنا، فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الأخريين عليها، بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء، فما صحت إلا بالأداء، والأداء على سبيل التمام لم يوجد، فيفسد الأداء لفوات بعضه، ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.
الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول بترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به بل هو مجتهد فيه، ظن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين، وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأولى على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا تجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى يحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً، فأخذنا في كل حكم بالاحتياط.
وإذا عرفنا هذا الأصل فنقول: جئنا إلى تخريج المسائل، فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً، فعلى قول أبي يوسف أو جبنا: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، فعند أبي حنيفة ومحمد قضى ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذا عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه يترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات.
وعند محمد رحمه الله يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الشفع الثاني عليها، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها، وقد ترك القراءة في الشفع الثاني فصحت، يجب عليه قضاؤه، وإذا(1/314)
قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة، فيلزمه قضاؤه.
وأما الشفع الثاني فعند محمد لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، لا يلزمه القضاء، فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، وقد فسد الشفع الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني، ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه صح وفسد الأداء.
وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فيصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأداء؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني ما عليه والبناء على الفاسد فاسد، وكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعلى رواية محمد عنه، ولأن عند أبي حنيفة وعلى رواية محمد عنه التحريمة لا تقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين، فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير، وعند أبي يوسف عليه قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده، وكذلك عند أبي حنيفة لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف عليه قضاء الأربع كصحة الشروع في الشفع الثاني عنده إذا أوتر وترك القراءة في الركعة الثانية يفسد بالإجماع؛ لأن الوتر ليس بفرض في حق القراءة.
في «الفتاوى» : وإذا ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فسدت صلاته، وكذلك المسافر إذا ترك القراءة في إحدى الركعتين، وإذا افتتح الصلاة ثم نام فقرأ وهو نائم ذكر المسألة في «الفتاوى» في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالجواز، وأجاب في الموضع الآخر بعدم الجواز، والمختار عدم الجواز.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم في تفسير قوله عليه السلام: «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة، أي: النفل لأشبه الفرض، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» حتى لا يصلي بعد الظهر والعصر والعشاء أربعاً يقرأ في الركعتين الأوليين، لا يقرأ في الأخريين.
وذكر هذا الباب في كتاب الصلاة وقال: تفسير الحديث روي عن عمر وعبد الله بن(1/315)
مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وإنما حمل الحديث على ذلك؛ لأن هذا الحديث ثبت خصوصية بالاتفاق، فإن الرجل يصلي سنّة الفجر ركعتين ثم يصلي الفجر ركعتين، والمسافر يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي السنّة ركعتين، والمقيم يصلي سنّة الظهر أربعاً، ثم يصلي الظهر أربعاً، فيحمل على وجه صحيح (49ب1) وهو ما قلنا.
ومن العلماء من قال المراد منه الزجر على تكرار الصلوات التي أدّاها، وهو..... من الشيطان، فإنه يكره للإنسان أن يقضي صلوات عمره ثانياً، فإن النبي عليه السلام قضى صلاة الفجر ضحى ليلة التعريس، وقال له أصحابه من الغد ألا تعيد صلاة الأمس، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى نهاكم عن الربا فنقبلها منكم» والله تعالى أعلم.
ومما يحفظ ههنا (ما) ذكر في «الأصل» افتتح الصلاة وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه وقرأ وركع، فالمعتبر هذا للركوع الثاني حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة فهو يأتي بها، ومحل القراءة قبل الركوع يرفض الركوع الأول، لتقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم يتم القراءة، وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة، ولم يقرأ الفاتحة، وركع ثم رفع رأسه، وأتم القراءة وركع؛ لأن المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة ولم يأت به، فإذا كان مأموراً بالإيتان به، فإذا أتى به وحمل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بد وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محلّه، فإذا أتمّ القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وركع، ذكر في باب الحديث أن المعتبر هو الركوع الأول، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع لا يصير مدركاً للركعة، وذكر في باب السهو أن المعتبر هو الركوع الثاني.
وجه ما ذكر في باب الحديث أن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة، فوقع معتداً به فلا يصح الثاني؛ لأنه يكون تكراراً فلا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.
وجه ما ذكر في باب السهو أن الركوعين جميعاً وجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية لو لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة، وهو معنى قولنا: أن الركوعين حصلا بعد القراءة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع، إنما يعتبر بإيصال السجود به، فكانت العبرة للركوع الثاني، فلو أنّ هذا الإمام ركع ولم يقرأ، فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث واستخلف رجل، فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل، واقتدى به يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ(1/316)
السورة وركع، فلما رفع رأسه سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ الخليفة السورة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة.
وكذلك لو قرأ الإمام السورة ولم يقرأ الفاتحة، وباقي المسألة على حالها، فإنه يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع، فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الخليفة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث لا يصير مدركاً للركعة، والمعنى في الكل أن الخليفة قائم مقام الأول، فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل، فكذلك في حق الخليفة، والله أعلم بالصواب.
فرع في زلة القارىء
يحتاج لتخريج مسائل هذا النوع إلى معرفة مخارج الحروف، لتعرف اتفاق المخارج وقربها، وإلى معرفة جواز إبدال الحروف بعضها عن البعض فنبدأ أببيان مخارج الحروف، فنذكر الحروف، وهي تسعة وعشرون حرفاً على ترتيب مخارجها، فنقول: أولها الهمزة والألف والهاء، ثم الحاء والعين والغين والخاء ثم القاف والكاف، ثم الجيم والشين والتاء، ثم الضاد، ثم اللام والراء والنون، ثم الظاء والذال والثاء، ثم الصاد والزاي والسين، ثم الطاء والدال والتاء ثم الباء والميم والواو والفاء.
ولهذه الحروف ستة عشر مخرجاً، للحلق منها ثلاثة مخارج، فأقصاها مخرجاً الهمزة والألف والهاء، وأوسطها مخرجاً الغين والخاء وأدناها من الفم العين والحاء، ومن أقصى اللسان مخرج القاف والكاف، ومن وسط اللسان مخرج الجيم والشين والتاء ولطرف اللسان جهة مخارج.
فالطاء والدال والتاء من مخرج واحد وهو طرف اللسان، وطرف الثنايا العليا، والصاد والسين والزاي من مخرج واحد، وهو من طرف اللسان، وفوق الثنايا العليا، ويبقى، وجه قليل بين اللسان والثنايا عند الذكر يمنة وبين ما فوق الثنايا، ومخرج النون المتحركة من طرف اللسان، وما يتصل بالخياشيم، ووراء مخرج النون من ظهر اللسان والحنك مخرج الراء، ولحافة اللسان مخرجان وحرفان، فمن حافة اللسان من أقصاها إلى ... الأضراس الضاد، فبعضهم يخرجها من الجانب الأيمن وبعضهم يخرجها من الجانب الأيسر، ومن حافة اللسان من أدناها.... الثنايا، ومنتهى طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام وللشفة مخرجان، فالفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، والباء والميم والواو والفاء من بين الشفتين، ومخرج النون الخفيفة، وهو نون منك وعنك من الخياشيم ليس له في الفم موضع.
ولهذه الحروف فروع، بعضها مستحسنة وبعضها مستقبحة، فالمستحسنة مستعملة في العربية الصحيحة واللغة الفصيحة، وهي خمسة: النون الخفيفة وصفتها ما ذكرنا والهمزة(1/317)
الخفيفة، وهي التي لا تكون ممن.... من غير..... محضاً من غير همزة، وذلك نحو قوله سأل، فإنه ليس بمهموز محض ولا بلين محض، وألف التفخيم وهو الألف التي تجد ما بين الألف والواو، نحو الصلاة والزكاة والحياة واللام وألف الإمالة، وهي الألف التي تجد ما بين الألف والياء، كما في قوله عالم حاتم، والصاد التي كالراء غير أن الصاد التي كالراء إنما تقع مستحسنة إذا وقعت قبل الدال فقط.
(وأما المستقبحة، فهي السين التي كالجيم والباء التي كالفاء والجيم التي كالشين والجيم التي كالكاف والحاء التي، كالراء والقاف التي كالكاف عند قوم قالوا في مثل قال وكال والطاء التي كالتاء، فهي سبعة أحرف، وإنها خارجة عن الفصحاء.
جئنا إلى الإبدال، فنقول: الهمزة تبدل من خمسة أحرف، الألف والواو والهاء والياء والعين، والياء تبدل عن الواو، والباء في القسم وتبدل عنه الواو، والتاء في القسم والتاء تبدل من الواو والياء والسين والصاد والطاء والذل والياء تبدل من الياء والجيم تبدل من الياء والحاء، لا تبدل من حرف هاء إلا نادراً، وكذا الحاء.
وقيل: الحاء تبدل عن العين، والحاء تبدل عن الخاء والدال تبدل عن الياء، والذال لا تبدل، وقيل: تبدل والثاء والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام، والراء تبدل عن السين والصاد، والشين تبدل عن الذال والياء، والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام والراء تبدل عن السين، والصاد والسين تبدل من الشين، ومن الكاف التي هي خطاب المؤنث، والصاد تبدل من السين إذا جاوره فاء أو غين أو قاف أو طاء، والصاد لا تبدل.
وقيل: تبدل عن الصاد والطاء، والطاء تبدل عن.... افتعل، والطاء تبدل عن الدال عند بعضهم، والعين تبدل من الهمزة، والحاء والعين تبدل عن الغين عند بعضهم، والفا تبدل عن الياء والقاف تبدل عن الكاف، والكاف تبدل من القاف، واللام تبدل من الصاد والنون، والميم تبدل من الواو والنون والياء واللام، والنون تبدل عن الهمزة والألف والياء والهاء تبدل عن الهمزة والألف والياء والتاء، والألف الساكنة في لا، وهي التي تسمى الألف تبدل عن الهمزة والياء والنون الخفيفة والواو. والباء تبدل من الألف والواو والهمزة والهاء والسين والباء والراء والنون واللام والصاد والضاد والميم والدال والعين والكاف والثاء والتاء والجيم) .
وبعد الشروع في هذه الجملة نشرع في المسائل فنقول: الذي يعرض من الخطأ في القراءة على وجوه، فيجعل كل وجه فصلاً تيسيراً على الطالبين، ونذكر عقيب كل فصل ما يتصل به من المسائل:
فرع في ذكر حرف مكان حرف
وإنه على وجهين، الأول: أن تخرج الكلمة بحرف البدل من ألفاظ القرآن، ومعناه أن هذه الكلمة مع حرف البدل توجد في القرآن نحو أن تقرأ تألمون مكان تعلمون أو ما(1/318)
أشبه ذلك، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته ويُجعل كأنّه ابتدأ من هذه الكلمة.
الوجه الثاني: إنه لا توجد الكلمة مع حرف البدل في القرآن، وإنه على قسمين.
القسم الأول: يكون مع موافقة في المعنى، نحو أن تقرأ.... مكان قوله ثواباً أو يقرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ} (البقرة: 222) أو يقرأ {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ} (البقرة: 65) وفي هذا القسم لا تفسد صلاته (50أ1) عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وأصل هذا الاختلاف أن قراءة القرآن بالمعنى جائزة عند أبي حنيفة ومحمد، ولهذا تجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة عنده، وعند أبي يوسف ومحمد لا تجوز قراءته بالمعنى غير أن عند محمد يجوز استبدال اللفظ بغيره من الألفاظ القريبة بعد اتفاقهما في المعنى، وعند أبي يوسف لا يجوز، ويعتبر اللفظ المنقول ومعنى آخر لأبي حنيفة أن هذه لغة مستعملة عند العرب، والمصدر واحد، والله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) ولم يقل مائة لغة، فعلى أنه لغة..... قرأ القرآن فيجوز، فقد كتب في مصحف عبد الله بن مسعود الحي القيام في سورة البقرة وآل عمران، وعلى هذا إذا قرأ ... عليم لا تفسد صلاته؛ لأن أهل اللغة يقولون: إنه في الأصل من ذوات الواو.
والقسم الثاني: من هذا الوجه أن يكون مع مخالفة في المعنى نحو أن يأتي بالطاء مكان الضاد أو بالضاد مكان الطاء، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، واستحسن بعض مشايخنا وقالوا: بعدم الفساد للضرورة في حق العوام خصوصاً للعجم، وهذا في الحروف المتقاربة في المخرج فأما في الحروف المتباعدة في المخرج وما يفسد المعنى، نحو أن يقرأ ونيسرك مكان...... تفسد صلاته.
والحاصل من الجواب في جنس هذه المسائل أن الكلمة مع حرف الدال إذا كانت لا توجد في القرآن، والحرفان من مخرج واحد أو بينهما قرب المخرج، ويجوز إبدال أحد الحرفين عن الآخر لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى.6
وعن هذا قلنا إذا قرأ في صلاته {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ} (الصخر: 9) تكهر بالكاف لا تفسد صلاته على ما اختاره المشايخ؛ لأن جماعة العرب يبدلون الكاف عن القاف ومخرجها واحد، والمعنى في ذلك كلّه أن الحرفين إذا كانا من مخرج واحد كان بينهما قرب المخرج، وأحدهما يبدل عن الآخر كان ذكر هذا الحرف كذكر ذلك الحرف، فيكون قرآناً معنى، فلا يوجب فساد الصلاة، وكذلك إذا لم يكن من الحرفين اتحاد المخرج ولا قربة، إلا أن فيه بلوى العامة نحو أن يأتي بالدال مكان الصاد أو يأتي بالزاي المحض مكان الذال والطاء مكان الضاد لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ. ولو قرأ الحمد لله بالخاء لا تفسد صلاته بعض المشايخ؛ لأن الحاء والخاء قرب المخرج.
وفي الباب الأول من صلاة «الواقعات» إذا قال الحمد لله بالهاء تفسد صلاته إن كان لا يجهد لتصحيحه، وينبغي أن لا تفسد صلاته؛ لأن الهاء تبدل عن الحاء أن يقال(1/319)
مدحته ومدهته، وإذا قرأ الصمد بالسين حُكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه لا تفسد صلاته؛ لأن السمد بالسين هو السند، وهكذا حكى فتوى القاضي الإمام الزاهد أبي بكر الزرنجري رحمه الله، وكذا لو قرأ إهدنا الصراط بالتاء الصغيرة أو قرأ المستقيم بالطاء العظيمة لا تفسد صلاته؛ لأنها من مخرج واحد وفيه بلوي العامة؛ لأنهم لا يعقلون بينهما.
ولو قرأ إهدنا الصراط بالسين أو بالراء الخالصة أو بالصاد التي بين الراء والسين لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة مشهورة، ولو قرأ.... لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ..... مكان حتى لا تفسد صلاته، وهو قراءة عائشة، ولو قرأ..... لا تفسد؛ لأنه قراءة. وإن كانت شاذة.
والحاصل: أن ما كان قراءة لا تفسد بها الصلاة وإن كانت شاذة. ولو قرأ الدال مكان الذال وعلى العكس أو ذكر العين مكان القاف أو اللام مكان النون أو على العكس تفسد صلاته بالاتفاق؛ إذ ليس بين هذه الحروف اتحاد المخرج ولا قربه ولو قرأ في دعاء القنوت ونستخفرك بالخاء لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ؛ لأنه بين الغين والخاء اتحاد المخرج، وبينهما قرب المعنى، فالاستخفار طلب الأمان، والاستغفار طلب المغفرة، ومن رزق الأمان فقد رزق المغفرة، ومن رزق المغفرة فقد رزق الأمان.
ولو قرأ..... مبثوثة تفسد صلاته؛ لأنه إبدال من..... الأخيرة ... المشددة...... وإبدال..... من..... بعيد حتى ولو قرأ وذرابيج لا تفسد صلاته؛ لأن إبدال الجيم من الياء ليس ببعيد.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا زاد حرفاً هو ساقط وأهل المشتق من الفعل واحد، نحو أن يقرأ...... على مكان ردوها ونحو أن يقرأ إنّا رادوه إليك لا يوجب فساد الصلاة؛ لأنه رده إلى ما توجبه الكلمة والصرف في الأصل، وإن كانت العرب تسقط أحد الحرفين لعلة، ويؤيد ذلك ما كتب في مصحف ابن مسعود {وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا} (الإسراء) بباء بعد الشين، وإن كانت العرب تسقط الباء لعلة، وكذلك كتب في مصحفه، وانهى عن المنكر بباء بعد الهاء، وكتب في مصحف آخر {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم} (المائدة: 54) بدالين، كتب فيه ما مكنني بنونين.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا زاد حرفاً لا توجبه الكلمة في الأصل إلا أنه لا يغير النظم والحكم، ولا يقبح المعنى، نحو أن يقرأ {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَذِبِينَ} (الشعراء: 186) مكان ما أنت، لا تفسد صلاته، فقد كتب في مصحف عثمان في العنكبوت: {خَلَقَ اللَّهُ(1/320)
السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} (العنكبوت: 44) بالواو، وكتب في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئِرَ الإثْمِ وَالْفَوحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) ، بزيادة واو في هو، وكتب في اقتربت رحمة من عندنا، {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} (القمر: 35) ، بزيادة واو في كذلك، وكتب في الممتحنة: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ} (الممتحنة: 1) بزيادة واو في تسرون، وإن زاد ما لا توجبه الكلمة في الأصل ويفسد النظم ويقبح المعنى، نحو أن يقرأ {يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ} (يس: 1، 2) و {تِلْكَ آيَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة: 252) بزيادة واو في إنك، أو تقرأ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3) و {مَا
وَدَّعَكَ} (الضحى: 3) بزيادة واو في ما، أو تقرأ {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (الليل: 2) و {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4) فقد قال بعض مشايخنا أخاف أن تفسد صلاته؛ لأن في إدخال الواو في هذه السورة تغيير وتعطيل للقسم؛ لأن إدخال الواو يخرج ما أُلحق الواو به من أن يكون جواب القسم، هذا هو المنقول عن أهل اللغة، فتوجب هذه الزيادة إفساد المعنى وتعطيل القسم، فلهذا قال أخاف أن تفسد صلاته.
ومما يتصل بهذا الفصل
الألثغ الذي لا يقدر على التكلم ببعض الكلمة، فيقرأ مكان الواو ياء، فيقرأ مكان الرحيم؟..... أو ما أشبه ذلك، ولا يطاوعه لسانه على غير ذلك، وإنه على وجهين: إما أن يؤم أو يصلي وحده.
ففي الوجه الأول: لا ينبغي له أن يؤم إلا لمن كان حاله مثل حاله، لأنه إذا كان لا يقدر على التكلم ببعض الحروف كان في حق تلك الحروف.....، ولا تجوز إمامة الأمي للقارىء، ويجوز لمن كان بمثل حاله، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وكذلك قول أبي حنيفة إذا لم يكن في القوم من يقدر على التكلم ببعض الحروف فأما إذا كان في القوم من يقدر على التكلم بتلك الحروف فسدت صلاته وصلاة القوم عند أبي حنيفة قياساً على الأمّي إذا صلّى بأميين وبقارئين.
وكذا من يقف في غير مواضعه، ولا يقف في مواضعه لا ينبغي له أن يؤم، وكذا من يتنحنح عند القراءة كثيراً لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنه يؤدي إلى تقليل الجماعة، وكذلك من كان به تمتمة، وهو أن يتكلم بالتاء مراراً أو فأفأة، وهو أن يتكلم بالفاء مراراً حتى يتكلم بعده لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنهما ربما يعجزان عن المضي عن القراءة، ويفسدان الصلاة على القوم.(1/321)
وأما الذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد، ولا يتكلم بالتاء مراراً ولا بالفاء، وإذا أخرج الحروف أخرجها على الصحة، فصلاته وقراءته جائزتان، ولا يكره أن يكون إماماً.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان يصلي وحده ينظر إن لم يكن فيه تبديل الكلام، ولا يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف تجوز صلاته بالاتفاق، وإن كان يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف...... إلا فاتحة الكتاب، فإنه لا يدع قراءتها، وإن كان فيه تبديل، فإن كان يجد آيات ليس فيها تلك الحروف يتخذ تلك الآيات التي ليس فيها تلك الحروف، ولو قرأ مع ذلك الآيات التي فيها تلك الحروف هل تجوز صلاته؟ ذكر في بعض نسخ زلة القاري فيه اختلاف المشايخ، والصحيح لا تجوز صلاته؛ لأنه تكلم بكلام الناس مع قدرته على أن لا يتكلم، ومثل هذا يوجب فساد الصلاة، وذكر في بعض النسخ: القياس أن لا تجوز صلاته وفي الاستحسان: تجوز، وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما ذكرنا (50ب1) .
وجه الاستحسان: أن الآفة في لسانه خِلْقَة و...... لا يقدر على أن يزيلها عن نفسه بالجهد، فصار كالذي خلق فهو أخرس، وعلى جواب القياس يُفرّق بين الأخرس وبين الألثغ أن الأخرس لا يقدر على الإتيان بالقراءة أصلاً، فأما الألثغ ما درُ، على قراءة بعض السور بوصف الصحة، فهو نظير من حفظ سورة واحدة، ولا يحفظ غيرها، وهناك لا تجوز الصلاة من غير قراءة كذا ههنا.
فإن قيل: الأخرس قادر على القراءة بأن يقتدي بالقارىء، فتصير قراءة الإمام له قراءة ما نطق به الحديث.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإنسان إنما يخاطب بفعل نفسه لا بفعل غيره، فلا تكون قراءة الإمام فرضاً عليه، وإن كان لا يجد آيات ليس لها تلك الحروف. قاله بعض المشايخ، فيسكت ولا يقرأ. ولو قرأ تفسد صلاته، وقال بعضهم يقرأ ولا يسكت، ولو سكت تفسد، وعلى قول من يقرآ نختار أنه يقرأ فيها تلك الحروف.
والمختار للفتوى في جنس هذه المسائل: أن هذا الرجل إن كان يجهد آناء الليل والنهار في تصحيح هذه الحروف، ولا يقدر على تصحيحها، فصلاته جائزة؛ لأنه جاهد، وإن ترك جهده، فصلاته فاسدة؛ لأنه قادر، وإن ترك جهده في بعض عمره لا يسعه أن يترك في باقي عمره، ولو ترك تفسد صلاته إلا أن يكون الدهر كلّه في تصحيحه والله أعلم.
فرع في ذكر كلمة مكان كلمة على وجه البدل
وإنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن، وإنه على قسمين: الأول: أن(1/322)
يوافق البدل المبدل في المعنى، نحو أن يقرأ الفاجر مكان الأثيم في قوله طعام الأثيم، والجواب فيه أن صلاته تامة على قول أصحابنا رحمهم الله، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أمران علم أن شجرة الزقوم طعام الفاجر حتى عجز المتعلم أن يقول طعام الأثيم.
القسم الثاني: أن يخالف البدل المبدل من حيث المعنى، وإنه على وجهين: إن كان اختلافاً متقارباً، نحو أن يقرأ الحكيم مكان العليم، أو السميع مكان البصير. ويجوز أن يقرأ خبيراً مكان بصيراً، أو يقرأ كلا إنها موعظة مكان قوله تذكرة، وفي هذا النوع صلاته تامة، روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ في موضع الحكيم العليم، وإن كان اختلافاً متباعداً، نحو أن يختم آية الرحمة بآية العذاب أو آية العذاب بآية الرحمة أو أراد أن يقرأ {الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة: 268) يجري على لسانه الرحمن يعدكم الفقر؛ فعلى قول أبي حنيفة ومحمد تفسد صلاته.
وأما على قول أبي يوسف اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تفسد إذا لم يتعمد بقصد ذلك، ومرّ على لسانه غلطاً، ويجعل على أنه ابتدأ بكلمة من كلمات القرآن، وهذا لأنه قصد قراءة القرآن على ما أنزل، فيجعل التقدير كأنه ترك القراءة من هذا الموضع، وأخذ بالقراءة من ذلك الموضع، وهو في ذلك الموضع قرآن، فلا تفسد صلاته، وبه كان يفتي الفقيه أبو الحسن، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي.
وقيل: في المسألة عن أبي يوسف روايتان:
الوجه الثاني: أن لا توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن وإنه على قسمين أيضاً:
الأول: أن يوافق البدل المبدل نحو أن يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} (النساء: 48) أن يكفر به مكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) أو يقرأ {فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا} (الرحمن: 13) تجحدان مكان قوله: {تُكَذّبَانِ} (الرحمن: 13) أو يقرأ {الم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2) لا شك فيه مكان قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) أو ما أشبه ذلك، وفي هذا القسم لا تفسد صلاته عن أبي حنيفة ومحمد، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه يعتبر المعنى مع لفظ العربية، وعند أبي يوسف تفسد صلاته؛ لأنه يعتبر اللفظ المنقول.
القسم الثاني: أن لا يوافق البدل المبدل من حيث المعنى نحو أن يقرأ: قوسرة مكان قسورة، أو كعفص مكان كعصفٍ، أو فسحقاً لأصحاب السعير تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذه الألفاظ ليست بمنقولة في القرآن، وليس بين هذه الألفاظ وبين الألفاظ المنقولة في القرآن مقارنة من حيث المعنى، فلهذا فسد عند الكل والله أعلم.(1/323)
ومما يتصل بهذا الفصل
فصل استبدال النسبة، وإنه على وجهين: الأول: أن لا يكون المنصوص المنسوب إليه في القرآن، نحو أن يقرأ {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) عيلان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) مكان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) أو يقرأ عيسى بن سارة مكان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87) ، وفي هذا الوجه تفسد صلاته؛ لأنه لم يقرأ القرآن، ولا يذكر الله تعالى، فكان متكلماً بكلام الناس فتفسد صلاته.
الوجه الثاني: أن يكون المنسوب إليه في القرآن نحو أن يقرأ ومريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى وموسى بن مريم وما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ المتأخرون، منهم من قال: في الصور كلها تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، عند أبي يوسف روايتان في رواية لا تفسد؛ لأن لقمان وموسى ومريم مذكور في القرآن، وكذلك لفظ ابن وابنة مذكور في القرآن، فصار كأنه وقف عند قوله ومريم ابنت، وابتدأ من قوله لقمان، ومن المتأخرين من قال في مريم ابنت لقمان، وعيسى بن موسى الجواب على الخلاف، أما في موسى بن مريم وعيسى بن عمران لا تفسد صلاته بلا خلاف، أما الفساد في قوله مريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى عندهما وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن هذا الكلام مركب من مضاف ومضاف إليه والمضاف، والمضاف إليه يجريان مجرى اسم واحد، وهذا الاسم بهذا اللفظ غير موجود في القرآن فصار كما لو قال جعفر بن زيد أو قال عمر بن الخطاب فصار من جملة كلام الناس، فتفسد صلاته.
وأما الجواز في قوله موسى بن مريم مكان عيسى بن مريم؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن يجعل مكان العين الذي في عيسى ميماً، ومكان الياء واواً، فأما باقي الاسمين على السواء.
قلنا وإبدال الواو عن الياء وإبدال الياء عن الواو شائع، لم يبق التفاوت إلا في أول الحرف وهو العين والميم والحرف الواحد لا يكون كلاماً، فلا يصير آتياً بكلام الناس، وصار الحاصل في فصل النسبة أنه إذا كان التفاوت في حرف واحد لا يعتبر بلا خلاف. وإذا كان التفاوت في حرفين أو أكثر فالمسألة على الخلاف والله أعلم.
الفصل في القراءة بغير ما في المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأن قرأ بما في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب
روى نصر بن يحيى عن أبي سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن أنه قال؛ قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قرأ القارىء في الصلاة بغير ما في مصحف العامة(1/324)
فصلاته....؟، قال وهو قول أبي يوسف وقولنا.
وروى أيضاً نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة قال سمعت أبا يوسف يقول: إذا قرأ القارىء في الصلاة بحروف أبي وابن مسعود، وليس ذلك في مصاحفنا، فإن الصلاة لا تجوز، وروى عبد الصمد بن الفضل عن عصام بن يوسف أنه كان يقول: من قرأ بقراءة ابن مسعود في الصلاة فسدت صلاته.
والمتأخرون من مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يثبت من وجه يلزم به الحكم أن هذه قراءة ابن مسعود أو قراءة أبي، بأن لم تثبت لهما رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنه قرأ، كذلك إنما وجه ذلك في المصحف؛ لأن لمجرد وجوده في المصحف لا تثبت قراءتهما، ولا يجوز العمل بما في المصاحف إذا لم توجد لهما رواية.
الدليل على صحة ما قلنا ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: كَتَبَ رسول الله عليه السلام كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض ثم الصحابة لم يعملوا بما في ذلك الكتاب؛ لأن رسول الله عليه السلام مات قبل أن يخرجه إلى عماله، وقبل أن يأمر به، فلم يجعلوا مجرد الوجود حجة الإلزام.
فإن قيل: ذكر في الخبر عمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به (عمر) حتى قبض.
قلنا: عملهما بذلك غير مشهور ولو ثبت يحتمل أنهما عملا به لأنهما قد سمعا ما في الكتاب عن رسول الله عليه السلام، والدليل عليه ما روي في الأخبار أنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان صدراً من خلافته، ولو كان العمل به واجباً لكان لا يقتصر على العمل به واجباً في بعض خلافته، فأما إذا ثبتت رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنهما قرءا كذلك لا تفسد صلاته؛ لأنا لو قلنا تفسد صلاته، فقد قلنا أن عبد الله بن مسعود وأبي لم يصليا صلاة جائزة إذا كانا لم يجعلا للتلاوة قراءة على حدة غير التي كانا يقرءان في الصلاة، والذي يؤيد ما قلنا قول النبي عليه السلام: «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» ، فقد أخبر أن القرآن أنزل بقراءة عبد الله ورغب (51أ1) في القراءة بقراءته ولا يتوهم على النبي عليه السلام أنه يرغب في التلاوة بقراءة لا تجوز معها الصلاة، والجواب عن هذا أن يقال بأن من شرط جواز الصلاة قراءة القرآن قطعاً، ولم يثبت كون ما في مصحف ابن مسعود قرآناً عندنا قطعاً؛ لانعدام شرط وهو الفعل المتواتر، فلم تجز الصلاة بما في مصحفه لنا. أما كون ما في مصحفه قرآناً عنده، قد ثبت قطعاً؛ لأنه سمعه من رسول الله، فجازت صلاته من مصحفه، وقوله عليه السلام «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً إلى آخره» ، فمعناه إذا ثبت قراءته عنده بشرط وهو النقل المتواتر، فليقرأ بقراءته وذكر بعض المشايخ أنه إذا قرأ ما يغير في(1/325)
مصحف معروف ما لا يؤدي معنى بما في المصحف المعروف، تفسد صلاته بالاتفاق إذا لم يكن ذلك دعاءً، ولا ثناءً في نفسه؛ لأنه صار تاركاً النظم والمعنى.
وإن قرأ ما يؤدي معنى ما في المصحف المعروف، فعلى قولهما لا تفسد، وعلى قول أبي يوسف تفسد، والصحيح من الجواب في هذا إذا قرأ بما في مصحف ابن مسعود أو غيره لا يعتد به من قراءة الصلاة أن لا تفسد صلاته؛ لأنه إن لم يثبت ذلك قرآناً ثبتت قراءة شاذّة، والمقروء في الصلاة إذا كانت قراءة لا توجب فساد الصلاة. وما روينا في أول هذا الفصل عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعصام بن يوسف أن المصلي إذا قرأ بغير ما في المصحف العامة أن صلاته فاسدة، فتأويله إذا قرأ هذا، ولم يقرأ معها شيئاً مما في المصحف العامة، فتفسد صلاته لتركه قراءة ما في مصحف العامة، لا لقراءته في مصحف ابن مسعود حتى لو قرأ مع ذلك مما في مصحف العامة مقدار ما تجوز به الصلاة تجوز صلاته.
فرع في ذكر آية مكان آية
يجب أن يعلم أن المتأخرين اختلفوا في هذا الفصل، منهم من قال: تجوز على كل حال؛ لأنه قارىء بالآيتين جميعاً، والآية منفصلة عن الآية بخلاف الكلمة، ومنهم من فصَّله تفصيلاً، فقال: إن وقف على الآية وقفاً تاماً، ثم ابتدأ بآية أخرى لا تفسد. وإن تغيّر المعنى نحو أن يقرأ {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1) {وَطُورِ سِينِينَ} (التين: 2) {وَهَذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ} (التين: 3) ووقف وقوفاً تاماً، ثم قرأ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى كَبَدٍ} (البلد: 4) ؛ لأن هذا انتقال من سورة إلى سورة والكل قرآن، فأما إذا لم يقف ووصل الآية بالآية، إن كان لا يتغير المعنى نحو أن يقرأ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس: 40، 41) ، ولم يقف ثم قرأ {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 151) .l
أو قرأ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم جزاء الحسنى لا تفسد صلاته وأما إذا تغير به المعنى بأن قرأ وجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم المؤمنون حقاً، قال عامة أصحابنا: تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بقرآن؛ لأنه إِخبار بخلاف ما أخبر به الله، وليس بذكر، وبعض أصحابنا قالوا: لا تفسد صلاته؛ لأن في هذا بلوى العامة، فلا يحكم بالفساد، ويجعل كأنه وقف على الآية الأولى ثم انتقل إلى الأخرى والله أعلم.
الفصل الخامس: في حذف حرف من كلمة
فنقول: إن كان الحذف على سبيل الترخيم والإيجاز يكون عين تلك الكلمة، فلا يوجب الفساد وللحذف على وجه الترخيم شرائط ثلاثة.
أحدها: إما أن يكون ذلك في اسم النداء حتى لا يجوز الترخيم في الأفاعيل، ولا في الحروف، ولا في اسم المعرف بالألف واللام، ولا في النعت.(1/326)
والثاني: أن يكون المنادى معرفاً نحو قوله يا حارث وما أشبه ذلك، ولا يصح في المنكر نحو قوله: يا قاتل يا ضارب إلا في قوله: يا صاحب يا فلان.
والثالث: أن يكون اسم المنادى على أربعة أحرف صحاح أو ما زاد على ذلك أما إذا كان ثلاثة أحرف لا يجوز الترخيم، إلا إذا كان ثالث الحروف الهاء، فأما فيما عدا ذلك، فلا يجوز الترخيم، فإذا وجدت هذه الشرائط، وحذف الحرف الأخير نحو أن يقرأ {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) لا تفسد صلاته؛ لأن الاستعمال قد ورد على هذا الوجه، تقول العرب لعائشة يا عائش، ولفاطمة يا فاطم، وكتب في مصحف ابن مسعود {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وكذلك لو ترك حرفين من آخر الكلمة والباقي ثلاثة أحرف أو ما زاد على ذلك، فذلك جائز.
والحاصل: أنه ينظر في مثل هذا إلى الباقي إن كان الباقي من اسم النداء ثلاثة أحرف فصاعداً، لا تفسد صلاته، نحو أن يترك من طالوت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هاروت وماروت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هارون الواو والنون، وبعض مشايخنا قالوا: إذا حذف حرفاً زائداً وأتى بجميع أصول الكلمة، ولم يكن قاصداً لا تفسد صلاته على قول أبي حنيفة وعبد الله ابن المبارك وهو مذهب عبد الله بن مسعود، وذلك نحو أن يقرأ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بحرف الهاء أو قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) بحذف الميم؛ وهذا لأن المحذوف إذا كان حرفاً زائداً لا يتغير المعنى الأصلي في الكلمة، فلا يوجب الفساد.
ثم اختلف أهل النحو فيما بينهم في فصل أنه إذا ترك حرفاً أو حرفين فالحرف الباقي قبل المتروك هل يبقى على حركته، وأكثر أهل النحو على أنه يبقى على حركته حتى يقال: يا حارِ بكسر الراء * من حارث، ويقال يا عائشَ بنصب الشين من عائشة.
وبعضهم على أنه يرفع الحرف الآخر، يقال: يا حارُ برفع الواو يا عائش برفع الشين، هذا إذا كان الحذف على وجه الإيجاز والترخيم، فأما إذا لم يكن على وجه الإيجاز والترخيم إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته، نحو أن يقرأ {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32) بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) ، بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) بترك الواو، قبل قوله(1/327)
ما أنت أو يقرأ {فَسُبْحَنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) بترك الفاء من سبحان، وإن غير المعنى تفسد صلاته عند عامة المشايخ، نحو أن يقرأ {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الإنشقاق: 20) بترك لا أو يقرأ {وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ} (الإنشقاق: 21) بترك لا أو يقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) بترك لا، فإنه تفسد صلاته. ألا ترى أنه لو تعمد ذلك مع علمه، ويعتقد ذلك يكفر فإذا كان مخطئاً تفسد به الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل
إسقاط حرف من الكلمة بآيات.... مكانها إذا قرأ {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) وقرأ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 206) وما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة في ظاهر الرواية، وهو قول عبد الله بن المبارك: لا تفسد صلاته، وهو مذهب ابن مسعود، وعلى قول أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة تفسد؛ لأنه قرأ ما ليس في مصحف العامة.
(فصل)
أن تزاد كلمة لا على وجه البدل.
مسائل هذا الفصل على وجهين.
أحدهما: أن تكون الكلمة الزائدة موجودة في القرآن وإنه على قسمين: إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته بالإجماع، نحو أن يقرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (الرحمن: 68) ويقرأ كلوا من ثمره إذا أثمر واستحصد، فعند عامة المشايخ لا تفسد صلاته، وزعموا أن هذا قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف تفسد صلاته. وإن كان يغير المعنى نحو أن يقرأ إنما غلي لهم(1/328)
ليزدادوا إثماً؟...... لا تفسد صلاته بلا خلاف والله أعلم.
الفصل السابع في الخطأ في التقديم والتأخير
وإنه على وجوه: أحدها: أن يقدم بجملة على جملة، ويفهم بالتقديم ما يفهم بالتأخير، نحو أن يقرأ يوم تسود وجوه وتبيض وجوه، أو يقرأ وكتبنا عليهم فيها أن العين بالعين والنفس بالنفس، أو يقرأ العبد بالعبد والحر بالحر، ونحو ذلك لا تفسد صلاته، وإن غير المعنى نحو أن يقرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فخافوهم ولا تخافون، تفسد صلاته. وكذلك إذا قرأ إن هذا صراطي مستقيماً، لا تتبعوه واتبعوا السبل.
والثاني: أن يقدم كلمة على كلمة، ولا يغير المعنى بأن يقرأ لهم فيها شهيق وزفير أو يقرأ...... لا تفسد صلاته، وكذلك إذا قرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فخافون ولا تخافوهم لا تفسد صلاته، وإن تغير المعنى تفسد صلاته (51ب1) .
في «مجموع النوازل» : إذا قرأ إذ الأعناق في أغلالهم لا تفسد صلاته؛ لأن المعنى لم يتغير لأن الأغلال إذا كانت في الأعناق كانت الأعناق في الأغلال أيضاً.
الثالث: أن يقدم حرفاً على حرف، فنقول: تقديم الحرف أبطل الكلمة لا محالة، فيكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ذكر كلمة مكان كلمة قالوا: هذا إذا لم يكن من باب المقلوب، فإن كان من باب المقلوب مثل..... و.....، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا تفسد صلاته؛ لأن في المقلوب التقديم، والتأخير سواء، وعلى قول أبي يوسف إن كانت الكلمة الثانية في القرآن أن لا تفسد صلاته، وإن لم تكن في القرآن تفسد والله أعلم.
الفصل الثامن: في الوقف والوصل والابتداء
إذا وقف في غير موضع الوقف أو ابتدأ من غير موضع الابتداء وإنه على وجهين؛ الأول: أن لا يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً، لكن الوقف والابتداء قبيح، نحو إن وقف على الشرط قبل ذكر الجزاء ثم ابتدأ في الجزاء، فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} (البروج: 11) ووقف ثم ابتدأ بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) ونحو إن فصل بين النعت والمنعوت والصفة والموصوف، فقرأ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا} (الإسراء: 3)(1/329)
ووقف وابتدأ ب {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء: 3) لا تفسد صلاته بالإجماع بين علمائنا رحمهم الله.
الوجه الثاني: أن يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً بأن قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ} (آل عمران: 18) ووقف ثم قرأ {إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18) وقرأ {وَقَالَتِ النَّصَرَى} (البقرة: 113) ، ووقف ثم قال: {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17) ... وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته عند علمائنا، وعند بعض العلماء تفسد صلاته، والفتوى على عدم الفساد على كل حال؛ لأن في مراعاة الوقف والوصل والابتداء، إيقاع الناس في الحرج، خصوصاً في حق العوام، والحرج مدفوع شرعاً.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا وصل حرفاً من كلمة بكلمة أخرى بأن قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ووصل كاف إياك بنون نعبد، أو أقرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1) ووصل كاف إنا أعطيناك بألف الكوثر، أو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) ووصل الباء بالعين أو ما أشبه ذلك، فعلى قول بعض العلماء تفسد صلاته، وعلى قول العامة لا تفسد صلاته، لأن القارىء عسى لا يجد بُدّاً عن الوقف في مثل هذا الموضع، أما لانقطاع النفس أو غيره، فلو راعينا ذلك يقع الناس في الحرج، وبعض المشايخ ذكروا في ذلك تفصيلاً، فقالوا: إذا علم أن القرآن كيف هو إلا أنه جرى على لسانه هذا لا تفسد، وإن كان في اعتقاده أن القرآن كذلك، تفسد صلاته. وعلى هذا إذا قرأ {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1) بطريق الاستفهام.
الفصل التاسع في ترك المد والتشديد في موضعهما والإتيان بهما في غير موضعهما
ترك المد والتشديد في موضعهما، والإتيان بهما في غير موضعهما إن كان لا يغير المعنى، ولا يقبح الكلام لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان يغير المعنى، ويقبح الكلام اختلف المشايخ قال بعضهم: لا تفسد صلاته دفعاً للحرج، وقال عامتهم: تفسد صلاته.
مثال الأول: في ترك التشديد إذا قرأ المعوذتين إنما..... أخذوا وقبلوا بغير التشديد؛ لأنه قريب من قوله قبلوا بالتشديد.
مثال الثاني: إذا قرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ذكر الرب من غير تشديد وقرأ {وَمَآ أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53) ذكر الأمارة بغير تشديد، ولو قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بغير تشديد قال بعضهم تفسد صلاته؛ لأن.... نعبد، وقال عامتهم لا(1/330)
تفسد؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَآءهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَفِرِينَ} (الزمر: 32) شدد الذال في كذب اختلف المشايخ فيه، ولو قرأ {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآء ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون: 7) وشدد الدال تفسد صلاته بلا خلاف.
ومثال الأول: في ترك المدّ إذا قرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ} (الكوثر: 1) بدون المد.
ومثال الثاني: إذا قرأ {سَوَآء عَلَيْهِمْ} (البقرة: 6) بدون المد ونحو إن قرأ {دُعَآء وَنِدَآء} (البقرة: 171) بدون المد اختلف المشايخ فيه، كما في ترك التشديد والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا فرغ المصلي من فاتحة الكتاب، وقال آمين بالمدّ والتشديد فقد قيل تفسد صلاته، وقيل لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأن هذه الكلمة مع المدّ والتشديد منقولة في القرآن، قال الله تعالى {وَلآ ءامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة: 2) ، وقيل: لا تفسد على قولهما أيضاً؛ لأن هذه قراءة، وعليه الفتوى.
وينبغي أن يقول آمين بغير مد ولا تشديداً، أو آمين بالمد دون التشديد، وأصله يا آمين استجب لنا، إلا أنه لما سقط عنه ياء النداء أدخل فيه المد، وأقيم المد مقام النداء، ولو قرأ من بالمد وحذف الياء لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأنه مذكور في القرآن، ولو قرأ آمن بترك المد وحذف الياء ينبغي أن تفسد؛ لأن مثله لا يجد في القرآن والله أعلم.
الفصل العاشر في اللحن في الإعراب
إذا لحن في الإعراب لحناً، فهو على وجهين: إما أن يتغير المعنى بأن قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) أو قرأ {إن الذين يفضون أصواتهم} (الحجرات: 3) أو قرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} (طه: 5) بنصب الرحمن، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته بالإجماع. وأما إن غيّر المعنى، بأن قرأ {هو االخالق البارىء المصور} (الحشر: 24) بنصب الواو ورفع الميم، وقرأ {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ} (طه: 121) بنصب الميم ورفع الباء، أو قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع إبراهيم ونصب الرب، أو قرأ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بنصب الجيم، أو قرأ {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) بكسر الكاف والتاء.
وفي هذا الوجه اختلف المشايخ، قال بعضهم؛ لا تفسد صلاته وهكذا روي عن أصحابنا وهو الأشبه؛ لأن في اعتبار الصواب في الإعراب إيقاع الناس بالحرج، والحرج مرفوع شرعاً.
وروى هشام عن أبي يوسف إذا لحن القارىء في الإعراب، وهو إمام قوم وفتح عليه رجل إن صلاته جائزة، وهذه المسألة دليل على أن أبا يوسف كان لا يقول بفساد(1/331)
الصلاة بسبب اللحن في الإعراب في المواضع كلها، وعن أبي حنيفة..... فيمن قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع الميم ونصب الباء أنه لا تفسد صلاته، قال: ومعناه سأل إبراهيم ربه فأجابه...... وابتلاؤه وباختباره السؤال هل يجب أولاً بحيث، وسأله مخبراً..... سواء، لا كما أن الدعاء سؤال، وإن كان بلفظ الدعاء.
وعنه أيضاً إن من قرأ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} بنصب الألف إنه لا تفسد صلاته، ومعناه إنما نجازى على خشية العلماء الله عزّ وجلّ، وهذا كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) إلى أن يقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} (البينة: 8) .
الفصل الحادي عشر في ترك الإدغام والإتيان به
إذا أتى بالإدغام في موضع لم يدغمه أحد من الناس لبعد مخرج الحرفين، وتقبح العبارة وتخرجه عن معرفة معنى الكلمة، نحو أن يقرأ {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} (آل عمران: 12) أدغم الغين في اللام، وشدد اللام، فقرأ {ستبلون} وأدغم الحَاء في الشين وشدد السين فقرأ وتسرون فسدت صلاته، وإن أتى بالإدغام في موضع لم يدغم أحد إلا أن المعنى لا يتغير به ويفهم ما يفهم مع الإظهار نحو أن يقرأ {قُلْ سِيرُواْ} أدغم اللام في السين وشدد السين لا تفسد صلاته؛ لأن اللام قد تدغم في الشين، أدغم حمزة والكسائي اللام في الشين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} (يوسف: 18) ، وإذا ترك الإدغام بأن قرأ {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} أو قرأ: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف: 109) أو قرأ: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ} (البصرة: 4) وأشباه ذلك، وكذلك كلما التقى الحرفان من جنس واحد، والأول ساكن والآخر متحرك، فلم يدغم الأول في الثاني، أو اجتمع ثلاثة أحرف، والأول ساكن، فلم يدغم الأوسط في الثالث نحو أن يقرأ، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} ، (طه: 37) فأظهر النونات
الثلاث كلها، أو اجتمع ثلاثة أحرف والأول منهما ساكن، فلم يدغم الأول في الثاني، كما في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد: 31) ، {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} (آل عمران: 12) وكذلك في نظائره لا تفسد صلاته، لأن فحش من حيث العبارة؛ لأن هذا أراد إلى ما أوجبه أصل موضعها في اللغة، وامتناع عن اختيار التخفيف،(1/332)
وتحمل المشقة في العبارة، وليس فيه المعنى، ولا يقبحه إنما فيه تثقيل العبارة فقط، فكذلك لا تفسد صلاته.
الفصل الثاني عشر في الإمالة في غير موضعها
إذا قرأ باسم الله بالإمالة أو قرأ مالك يوم الدين بالإمالة أو قرأ ذلك الكتاب بالإمالة أو قرأ حتى أو قرأ كانتا تحت عبدين وما شاكل ذلك لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يغير (52أ1) نظم الحروف، ولا غيّر المعنى الذي وضعت العبارة له، وقد جرت هذه في..... العامة المميز منهم وغير المميز، وقد روي عن أبي يوسف أنه قال ليس كل لحن يفسد الصلاة، ولا يعلم لحن أخف من هذا وروي عن أبي صالح أنه كان يعلم الصبيان..... على الإمالة، ولم يرو عن أحد عن فقهاء السلف في وقته مع صلابتهم في أمر الدين، ومعرفتهم بالأحكام وإقدامهم على النهي، واشتهار هذه القراءة في المساجد، والمحاريب بإنكارها وقد روي أنه مكتوب في مصحف عثمان الذي فيه أثر الدم {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} (النساء: 87) وكذلك في أول الإدغام في قرطاس، فلمسوه. وكذلك مكتوب في أول آل عمران آيات الله، وكذلك مكتوب {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ} (النحل: 51) بالتاء بين اللام والهاء والله أعلم.
الفصل الثالث عشر في حذف ما هو مظهر وإظهار ما هو محذوف
إما إظهار ما هو محذوف نحو أن يقرأ {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (الفتح: 25) فيحذف من الميم من هم ويظهر الألف من الذين، وكانت الألف محذوفة في الوصل غير مدغمة، بدلالة أنه لم يخلفها إلا التشديد الذي في اللام هو التشديد الذي هو موجود مع إظهار الألف، ونحو أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة: 2) فأظهر الألف من العالمين وكانت محذوفة، بدليل أنه لم يخلفها تشديد البدل على الإدغام، وهذا لا يفسد الصلاة؛ إذ ليس فيه تغيير المعنى، ولا تغيير النظم إنما ثقل العبارة، وكانت العرب خففوها، ومثل هذا لا يوجب الفساد، وكذلك إذا أظهر حرفين إحداهما محذوفة والآخر مدغمة، نحو أن يقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى} (الليل: 3) أظهر الألف وكانت محذوفة، وأظهر اللام للتخفيف وكانت مدغمة في الذال لأجل التسهيل لا تفسد صلاته؛ لأن هذا رد اللفظ.t
.... أصل موضوعه وامتناع عن اختيار التخفيف من غير أن يكون فيه تغيير المعنى، فلا تفسد صلاته.(1/333)
وأما حذف ما هو مظهر نحو أن يقرأ وهم لا يظلمون أفرأيت فحذف الألف من أفرأيت، ووصل نون يظلمون بفاء أفرأيت ونحو أن يقرأ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} (الكهف: 104) فحذف الألف من أنهم ووصل النون بالنون، وإنه لا يفسد الصلاة؛ لأنه ليس فيه تغيير المعنى، ولا يصبح الحكم، وقد اختلف القرّاء في حذف ألف..... من هذه نحو قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} ، بل أتيناهم من أجل ذلك، وفي مصحف عثمان مكتوب في الصافات {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ} {} (الصافات: 168) بحذف الألف من أن.
ومما يتصل يتصل بهذا الفصل
إذا قرأ ألهاكم، القارعة، الحاقة وحذف اللام، فإنه تفسد صلاته؛ لأن فيه تغيير المعنى الذي مع اللام، ويصير الكلام أفحش من كلام الناس.
الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة
إذا ذكر بعض الكلمة وما أتمها، إما لانقطاع النفس، أو لأنه نسي الباقي ثم تذكر، فذكر الثاني نحو أراد أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} (الفاتحة: 2) ، فلما قال: {أل} انقطع نفسه أو نسي الباقي ثم تذكر، فقال {حمد ا} ولم يذكر الباقي، نحو إن قرأ فاتحة الكتاب، والسورة ثم نسي قراءته، فأراد أن يقرأ فلما قال إن تذكر أنه قد كان قرأ، فترك ذلك وركع أو ذكر بعض الكلمة، وترك تلك الكلمة ثم ذكر كلمة أخرى، وفي هذه الصور كلها وما شاكلها تفسد صلاته عند بعض مشايخنا، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني.
ومن المشايخ من فصّل الجواب تفصيلاً، فقال: إن ذكر شطر كلمة لو ذكر كلها يوجب ذلك فساد الصلاة، فذكر شطرها يوجب فساد الصلاة، وإن ذكر شطر كلمة ذكر كلها لا يوجب فساد الصلاة، فذكر شطرها لا يوجب فساد الصلاة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين النسفي في الخصائل، في فصل زلة القارىء هذه المسألة.
وفرّق بين الاسم وبين الفعل، فقال في الاسم نحو الحمد لا تفسد صلاته إذا ذكر البعض وترك البعض، وفي الفعل إذا ذكر البعض، وترك البعض نحو إن أراد أن يقرأ تشكرون، فقال تش وترك الباقي تفسد صلاته.
والفرق: أن الألف واللام في الأسماء زوائد، وترك الزائد لا يفسد الصلاة، فأما في الأفعال الكل يكون أصلاً، وترك الأصل يوجب الفساد إلا أن هذا الفرق إنما يستقيم فيما إذا قال أل في الحمد وترك الباقي، فأما إذا قال الح وترك الباقي.....، هذا الفرق، فتفسد الصلاة ومن المشايخ من قال إن كان لما ذكر من الشطر وجهاً صحيحاً في(1/334)
اللغة، ولا يكون لغواً ولا يتغير به المعنى ينبغي أن لا يوجب فساد الصلاة وإن كان الشطر المفرد لا معنى له ويكون لغواً أو إن لم يكن لغواً أو يكون مغير للمعنى يوجب فساد الصلاة وصيانة الصلاة في هذا أكثر، وعامة المشايخ على أنه لا تفسد؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز عنه، فصار كالتنحنح المرفوض في الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا خفض صوته ببعض حروف الكلمة والصحيح أنه لا تفسد صلاته، لأن فيه بلوى العامّة.
الفصل الخامس عشر في إدخال التأنيث في أسماء الله
إذا قرأ في صلاته {هل ينظرون إلا أن تأتيهم افي ظلل من الغمام} (البقرة: 210) قال علي بن محمد الأديب الزندواني تفسد صلاته؛ لأن التأنيث لا يجوز إدخاله في أسماء الله تعالى كما لا يجوز قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 255) وكما لا يجوز في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الإخلاص: 3) وأشبهها ذلك. وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته؛ لأن الإتيان فعلى غير الله تعالى، ولا فرق في ذلك بين التذكير والتأنيث، وبعض مشايخنا صححوا ما ذكره الفضل من الجواب، ولكن أشاروا إلى معنى آخر، فقالوا إنما لا تفسد صلاته في هذه الصور بإضمار الكلمة وصار تقديراً؛ لأن {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} (البقرة: 210) كلمة الله كما في وجه القراءة بالياء، ليس المراد إتيان الله، بل المراد إتيان أمر الله، هكذا في القراءة بالياء يكون المراد، إتيان كلمة الله، ويمكن أن يقال أما تقدم ذكر الملائكة في القراءة، ويصير تقديراً،؛ لأنه {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في ظلل في الغمام} والله والتقديم والتأخير شائع في اللغة والله تعالى أعلم.
الفصل السادس عشر في التغني والألحان
هذا الفصل على وجهين: إن كانت الألحان لا تغير الكلمة عن وصفها، ولا يؤدي إلى تطويل الحروف التي حصل التغني لها، حتى لا يصير الحرف حرفين، بل...... تحسين الصوت ويزيّن القراءة لا يوجب ذلك فساد الصلاة، وذلك مستحب عندنا في الصلاة، وخارج الصلاة، وإن كان يغير الكلمة عن وضعها يوجب فساد الصلاة؛ لأن(1/335)
ذلك منهي، وإنما يجوز إدخال المد في حروف المد واللين والهوائية، والمعتل نحو الألف والواو والياء والله أعلم.
فصل الركوع
اختلف المشايخ في وقت الركوع؛ عامتهم على أن وقته بعد ما فرغ من القراءة، وبعضهم قالوا: إذا أتم بقية القراءة في حالة للركوع، لا بأس به بعد أن يكون ما بقي من القراءة حرفاً أو كلمة. والأول أصح، لأن القراءة شرعت في القيام المحض، فلا يؤمر بها في حالة الركوع، وإذا ركع يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه؛ لأن هذا أمكن الأخذ، وقد قال عمر رضي الله عنه: أمرنا بالركب، فخذوا بالركب. ولا يطبق عندنا، وكان ابن مسعود وأصحابه يقولون بالتطبيق.
وصورته: أن يضم أحد الكفين إلى الأخرى، ويرسلهما بين فخذيه، حجتنا في ذلك ما روي أن سعد ابن أبي وقاص رأى ابناً له يطبق فيها، فقال: رأيت عبد الله يفعله، فقال سعد رحمه الله أن أم عبد..... أمرنا بهذا ثم نهانا عنه...... أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر، فلا ينكس رأسه ولا يرفعه.
معناه: فسوى رأسه بعجزه لما روي عن رسول الله عليه السلام، نهى أن يذبح المصلي بذبح الحمار يعني إذا.... البول أو أراد أن يتمرغ، فإذا اطمأن راكعاً رفع رأسه، والطمأنينة (ليست) بفرض عند أبي حنيفة ومحمد حتى لو تركها لا تفسد صلاته، وعند أبي يوسف والشافعي فرض، حتى لو تركها تفسد صلاته.
والحاصل: أن الركنيّة متعلقة بأدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع عند أبي حنيفة ومحمد والطمأنينة المفضلة والكمال (52ب1) عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي الركنية متعلقة بالطمأنينة، ولم يذكر الخلاف في ظاهر الرواية. ولكن ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة: عمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وقال: تجزيه صلاته، قال أبو يوسف: وأنا أقول لا تجزيه صلاته.
وفي كتاب «البرامكة» أن رجلاً سأل أبا حنيفة عمن لم يقم صلبه في صلاته، قال: الشيء خير من لا شيء، وفي صلاة.... عن هشام عن محمد مسألة تدل على أن قول محمد مع أبي حنيفة، وسيأتي قبل قول أبي يوسف، ولكن مشايخنا ذكروا قول محمد مع أبي حنيفة، وستأتي الحجج من الجانبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن طأطأ رأسه في الركوع قليلاً ولم يعتدل، ظاهر الجواب عن أبي حنيفة أنه يجوز، وروى الحسن عنه أنه إن كان إلى الركوع أقرب يجوز، وإن كان إلى القيام أقرب لا يجزيه، وقال بعض مشايخنا: إذا كان بحال لو نظر الناظر إليه من بعيد لم يشكل عليه(1/336)
أنه في الصلاة يجوز. وإن أشكل عليه أنه في الصلاة أو خارج الصلاة لا تجزيه ...
السجود السنّة في السجود أن يسجد على الجبهة، والأنف واليدين والقدمين، وأما فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة والأنف والقدمين في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر الأنف، وهو اسم لما صلب من الأنف دليل على أنه لا يكفيه أن يسجد على ما لان من الأنف، وهو الأرنبة، وإنّ عليه إن تمكن بما صلب من آنفه (على) الأرض بقدر الممكن، والسجود على اليدين والركبتين ليس بواجب عندنا، وقال زفر والشافعي: هو واجب.
ولو سجد على كور عمامته جاز ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه ويوجه أصابعه نحو القبلة ويعتمد على راحتيه ويبدي ضبعيه والمرأة في السجود تلزق بطنها بفخذيها وعضديها بجسمها؛ لأن ذلك أستر لها، ويعتدل في سجوده، ولا يفترش ذراعيه، وتفسير الاعتدال الطمأنينة، وإنه ليس بفرض عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لو ترك يكره أشد الكراهة، رأيت في بعض الشروح روي عن أبي حنيفة أنه قال: أخشى أن لا تجوز صلاته، والمرأة تلصق بطنها بركبتيها، ولا تجافي عضدها، وهي في الباقي كالرجل، ثم الاعتدال في الركوع والسجود إذا لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة يكون واجباً أو سنة عنده، قال أبو عبد الله الجرجاني هو سنة، لو تركها ساهياً تلزمه سجدة السهو، ولو تركه متعمداً ذكر صدر الإسلام أنه تلزمه الإعادة، وههنا كلمات كثيرة تأتي في فصل ما ينبغي للمصلي أن يفعله في صلاته.
فصل: القعدة الأخيرة
يجب أن يعلم بأن القعدة الأخيرة فرض عندنا، وقدر الفرض فيها مقدار قراءة التشهد، والسنّة في القعدة الأولى والثانية أن يفترش رجله اليسرى، فيقعد عليها وينصب اليمنى نصباً، وتقعد المرأة كأستر ما يكون لها والله تعالى أعلم.
فصل للقومة التي بين الركوع والسجود
والجلسة بين السجدتين ليست بفرض وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: العود إلى القيام والجلسة فرض، وعن أبي حنيفة أن الانتقال فريضة، فأما رفع الرأس من الركوع والعود إلى القيام، فليس بفرض، وهو الصحيح من مذهبه، والصحيح مذهب أبي حنيفة أن المأمور الركوع والسجود، والركوع عبارة عن الميلان وانحناء الظهر، يقال ركعت الشجرة.... إذا مالت.
والسجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وإذا انتقل إلى السجود من الركوع، فقد حصل الميلان، ووضع الجبهة على الأرض مكان..... بالركوع، والسجود(1/337)
مكان..... بالمأمور به، إلا أن الانتقال إلى السجدة من السجدة بدون رفع الرأس لا يمكن، فيشترط رفع الرأس لتحقق الانتقال، لا؛ لأن رفع الرأس فرض بنفسه، حتى لو تحقق الانتقال من السجدة إلى السجدة من غير رفع الرأس بأن سجد على وسادة، ثم نزعت الوسادة من تحت رأسه وسجد على الأرض يجوز، ولا يشترط رفع الرأس، هكذا ذكر القدوري في كتاب شيخ الإسلام في «شرحه» على رواية التي شرط رفع الرأس من الركوع يكتفي بالتي ما ينطلق عليه اسم الرفع.
وكذلك في السجدة إذا شرطنا رفع الرأس يكتفي بالتي ما ينطلق عليه الاسم، والعود إلى القيام عند رفع الرأس من الركوع، والجلسة بين السجدتين إن لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة، فهو سنّة عنده، بلا خلاف، هكذا ذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والله تعالى أعلم.
فصل الخروج عن الصلاة بفعل المصلي
قال أبو حنيفة الخروج من الصلاة بفعل المصلي فرض، وذلك بأن يبني على صلاته صلاة، إما فرضاً أو نفلاً، أو ضحك قهقهة أو أحدث عمداً، أو تكلم أو يذهب أو يُسلّم، وقالا: ليس بفرض، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا طلعت الشمس بعد ما قعد قدر التشهد، ولم يسلم ولم يفعل شيئاً مما ذكرنا فسدت صلاته عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وينبني على هذا اثنتا عشرة مسألة.
وأما واجبات الصلاة فالمذكور في شروح المشايخ أنها سنّة.
إحداها: تعديل الأركان عند أبي حنيفة ومحمد.
والثانية: تعيين الفاتحة للقراءة في الأوليين، والاقتصار على قراءتها مرة، وتقديمها على السورة، وتعيين الأوليين لقراءتها وقراءة ثلاث آيات بعدها، وقراءة الفاتحة في الأخريين عندهما في ظاهر الرواية عند الكل في رواية الحسن بن زياد.
والثالثة: القعدة الأولى من ذوات الأربع والثلاث من الفرائض والواجبات.
والرابعة: قراءة التشهد في القعدة الأولى والأخيرة.
والخامسة: قراءة القنوت في الوتر، والسادسة: تكبيرات صلاة العيدين.
وههنا أشياء أخرى من جملة الواجبات.
إحداها: الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، والإنصات عند قراءة الإمام للمقتدي، ومتابعة الإمام على أي حال و..... إن لم يكن..... من صلاته، وسجدة التلاوة وسجدتي السهو.
وأما سنن الصلاة فمن جملتها رفع اليدين مقارناً لتكبيرة الافتتاح، وقد ذكرنا المسألة مع فروعها في فصل تكبيرة الافتتاح، ومن جملتها نشر الأصابع عند رفع اليدين وجهر الإمام بالتكبير إعلاماً للناس بالشروع، وتكبير المقتدي في أقل القيام مع الإمام عند(1/338)
أبي حنيفة، وبعد تكبير الإمام عندهما، وقد مرت المسألة من قبل، والتعوذ و.... والتعوذ لأجل القراءة، عند محمد، فيأتي به من يقرأ وحين يقرأ حتى قال لا يتعوذ المقتدي، والمسبوق، إذا قام إلى قضاء ما سبق يتعوذ وعند أبي يوسف التعوذ يتبع الثناء، فيتعوذ المقتدي، ولا يتعوذ المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق والتسمية و (اثناء) ، والتأمين يأتي بها الإمام والقوم جميعاً.
وكفوفه الاعتماد بيمناه على يساره، ويكون موضع الوضع تحت السرة عندنا، والتكبيرة إذا انحط للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، والتسبيح في الركوع ثلاثاً، وأخذ الركبتين باليدين في الركوع، وتفريج الأصابع، والتكبير إذا خرّ ساجداً، والتسبيح في السجود ثلاثاً وافتراش رجله اليسرى، والقعود عليها وينصب اليمنى نصباً، وقد مرّت المسألة من قبل.
والصلاة على النبي عليه السلام عند القعود، والدعاء بما يشبه ألفاظ القرآن، ولا يشبه كلام الناس.
وقد قيل: رفع سبابة اليد اليمنى في التشهد عند قوله؛ أشهد أن لا إله إلا الله عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي، وقال في ظاهر الأصول: لا يرفعها، وكذا روي عن أبي يوسف، وقد قيل قراءة الفاتحة في الأخريين في الفرائض سنة، والخروج بلفظ السلام والسلام عن يمينه ويساره سنّة.
ومن جملة السنن الأذان ومسائله أنواع نوع في بيان صفته.
فنقول: إنه من سنن الصلاة، وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله قالوا إنه واجب، والصحيح أنه سنّة، وعليه عامة المشايخ إلا أنه سنّة مؤكدة، ثبت ذلك بفعل النبي عليه السلام، وإجماع الصحابة ومن بعدهم وروي عن أبي حنيفة في يوم صلوا في مسجد بغير أذان ولا إقامة أنهم آخطؤوا إلى السنّة لما مرّ أن الأذان سنّة مؤكدة، والإعراض عنه يكون خطاً، وروي عن محمد أنه قال: إذا اجتمع أهل بلدة على ترك الأذان قاتلناهم، ولو ترك واحد ضربته وحبسته، وكذلك سائر السنن (53أ1) .
وقال أبو يوسف: إذا امتنعوا عن إقامة الفرض، نحو صلاة الجمعة وسائر الفرائض وأداء الزكاة يقاتلون، ولو امتنع واحد ضربته، وأما السنن نحو صلاة العيد، وصلاة الجماعة والأذان فإني آمرهم وأضربهم ولا أقاتلهم لتقع التفرقة بين الفرائض والسنن. ومحمد رحمه الله يقول: الأذان وصلاة العيد، ونحو ذلك، وإن كانت من السنن إلا أنها من إعلام الدين، فالإصرار على تركها استخفاف بالدين، فيقاتلوا على ذلك.
لهذا وقد نقل عن مكحول أنه قال: السنّة سنّتان سنّة أحدها: هدي وتركها لا بأس به، وسنّة أحدها: هدي وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيد والجماعة، يقاتلون(1/339)
على الضلالة إلا أن الواحد إذا ترك ذلك يُضرب ويحبس، لتركه سنّة مؤكدة، ولا يقاتل؛ لأن فعله لا يؤدي إلى استخفاف بالدين.
نوع في بيان سبب ثبوت الأذان
وقد تكلموا فيه، قال بعضهم: نزل به جبريل صلوات الله عليه حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب، وعن أبي جعفر محمد بن علي أن النبي عليه السلام حين أسري به إلى المسجد الأقصى، وجمع له النبيون أذن ذلك وأقام، فصلى بهم رسول الله عليه السلام.
والأشهر من ذلك روي أن النبي عليه السلام لمّا قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أُخرى، فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أداء الصلاة، ليكلا تفوتهم الجماعة، فقال بعضهم؛ ننصب راية، فلم يعجبه ذلك، وأشار بعضهم بضرب الناقوس، فكره لأجل النصارى، وبعضهم بالنفخ في الصور فكره لأجل اليهود، وبعضهم بالبُوق فكره؛ لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء.
قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري رضي الله عنه: فبت لا يأخذني النوم، وكنت بين النائم واليقظان إذ نزل شخص من السماء، وعليه ثوبان أخضران، وفي يده شبه الناقوس، فقلت أتبيعيني هذا؟ فقال ما تصنع به؟ فقلت: نضربه عند صلاتنا، فقال: أنا أدلك على ما هو خير منه فقلت: نعم، فقام إلى هدم حائط مستقبل القبلة، وقال: الله أكبر الله أكبر الأذان المعروف ثم سكت هنيهة، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى، وزاد في آخره؛ قد قامت الصلاة مرتين، فأتيت رسول الله عليه السلام، وأخبرته بذلك، فقال عليه السلام: رؤيا صدق أو قال رؤيا حق ألقها على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فألقيتها عليه، فقام على سطح بيت امرأة أرملة بالمدينة وجعل يؤذن، فجاء عمر رضي الله عنه وهو في إزار وهو يهرول، ويقول: لقد طاف بي ما طاف بعبد الله بن زيد إلا أنه سبقني، فقال عليه السلام الحمد لله أنه لا، ورُوي أن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم رؤوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة.
(نوع آخر) في بيان ما يفعل فيه
المستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة استقبالاً، هكذا روي عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النازل من السماء، فلأن قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح دعاء إلى الصلاة، وخطاب للناس بالحضور، وما قبله وبعده ثناءً على الله، فما كان ثناءً يستقبل القبلة، وما كان دعاء للناس يحول وجهه يميناً وشمالاً، ليتم سماع جميع الناس ذلك، ومن الناس من يقول إذا كان يصلي وحده لا يحول وجهه؛ لأنه لا حاجة إلى الإعلام، وهو قول شمس الأئمة الحلواني.
والصحيح: أنه يحول على كل حال؛ لأنه صار سنّة الأذان، فيؤتى به على كل(1/340)
حال، قال حتى قالوا في الذي يؤذن لمولود: ينبغي أن يحول وجهه يمنةً ويسرةً عند هاتين الكلمتين، وإن استدار في الصومعة فحسن؛ لأنه دعاء إلى الصلاة، فيحتاج فيه إلى ذلك لإسماع الجميع، وهذا الأداء لم يستطع سنة الصلاة والفلاح، وهو تحويل الرأس يميناً وشمالاً مع ثبات قدميه لاتساع الصومعة، فأما بغير حاجة، فلا يفعل ذلك، ويؤذن قائماً لما روينا أن النازل من السماء قام على هدم حائط وأذن، ولتوارث الأمة ذلك.
وإن أذن راكباً ففي السفر لا بأس به، ويؤذن حيث كان وجهه، هكذا روي عن أبي يوسف وينزل للإقامة، فأما الأذان والإقامة راكباً في الحضر، فظاهر الرواية أنه يكره أن يؤذن راكباً، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به، وإن لم ينزل المسافر للإقامة، وأقام كذلك أجزأه لحصول المقصود، وإن اقتصر المسافر على الإقامة وترك الأذان جاز؛ لأن السفر عذر مسقط شطر الصلاة، فلا يكون مسقطاً أحد الأذانين أولى، وإن تركهما أو ترك الإقامة، فقد أساء.
وذكر في «الجامع الصغير» : جازت صلاته ويكره، ويكون التكبير الأول في الأذان أربعاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر وقال مالك مرتين، وهكذا روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، وقيل: إنه قول الحسن بن زياد، اعتمادهم على حديث أبي محذورة، قال: علمني رسول الله عليه السلام الأذان، وقال الله أكبر مرتين، وقياساً على الطرف الأخير من الأذان.
ولنا: أن النازل من السماء كرر التكبير الأول أربعاً؛ ولأنه لما شرع في آخره مرتين يجب أن يكون في أوله ضعف ذلك قياساً على التهليل، ويختم الأذان بالتهليل لا إله إلا الله عندنا، وعند مالك بالتكبير لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول أهل المدينة، ومن الناس من قال: إذا قال: لا إله إلا الله يقول بعده محمد رسول الله في نفسه، فيسمع نفسه، فمالك قاس الانتهاء على الابتداء، ونحن اعتمدنا على حديث عبد الله بن زيد، وهو حكى أن النازل من السماء ابتدأ بالتكبير وختم بالتهليل.
ولا يرجّع في الأذان عندنا، وقال مالك والشافعي فيه ترجيع، وذلك أن يبتدىء بالشهادتين يريد به أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله يخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما فيرفع بهما صوته، لهما حديث أبي محذورة أن النبي عليه السلام علمه الأذان تسعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشر كلمة، وأن يكون الأذان تسعة عشر كلمة إلا بالترجيع، وروي أنه أمره بالترجيع نصّاً:
t
ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل في الأذان، وليس فيه ذكر الترجيع؛ ولأنه أحد الأذانين، فلا يسن فيه ترجيع الشهادتين كالإقامة بل أولى؛ لأنه زيد في الإقامة ما ليس في الأذان، فلا يحذف عنهما ما كان مشروعاً في الأذان، وأما حديث أبي محذورة، فقد ترك الخصم الأخذ به في حق الإقامة؛ لأن عند الشافعي الإقامة تكون أحد عشر كلمة، فلا يجوز تعلقه به في حق الأذان، ثم إن ما أمره النبي عليه السلام بذلك؛ لأنه(1/341)
كان مؤذن مكة وكان في ابتداء إسلامه، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله عليه السلام أنه خفض صوته استحياءً من أهل مكة؛ لأنه كان حديث العهد بالإسلام (فأمسك) رسول الله عليه السلام أذنه، وأمره بأن يعود، فيرفع صوته ليكون تأدياً.
قال والأذان والإقامة مثنى مثنى عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الإقامة فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها مرتين لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام «أمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» ؛ ولأن الأذان لإعلام الغائبين، والتكرار فيه أبلغ والإقامة لإقامة الصلاة، والإفراد بها يكون أعجل لإقامة الصلاة، فهي أولى.
ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل. وقد حكى فيه الإقامة مثل الأذان، ولأن المحض بالإقامة قوله قد قامت الصلاة، ولا إفراد في هذه الكلمة، ففي غيرها أولى، وحديث أنس فمعناه أمر بلالاً أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال عليه السلام (لبلال) رضي الله عنه: «إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك، فإنه أندى وأرفع لصوتك» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام، وذلك برفع الصوت وجعل الإصبعين في الأذنين يزيد في رفع الصوت، وعن هذا قلنا الأولى أن يؤذن حيث يكون أسمع للجيران، وإن ترك ذلك لم يضره.
وقال في «الجامع الصغير» : فهو حسن، قالوا خلاف السنّة كيف يكون حسناً؟ والجواب أنه ليس بسنّة أصلية؛ أنه ليس في حديث النازل من السماء ذلك، ولكن أمر رسول الله عليه السلام بلالاً بذلك؛ لأن صوته يدخل أذنه، فربما يضعفه فإذا كان ذلك لا يؤثر فيه لا يكون بتركه (53ب1) بأس ولا يجهد نفسه لما روي أن عمراً رضي الله عنه رأى مؤذناً يجهد نفسه في الأذان فقال: أما يخاف أن تنقطع من تطاوللك والتثويب في الفجر حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح بين الأذان والإقامة حسن، ويكره التثويب في سائر الصلوات، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» ولا تثويب إلا في صلاة الفجر عندنا، والأصل فيه قوله عليه السلام لبلال رضي الله عنه «ثوِّب في الفجر، ولا تثوب في غيرها» .
والمعنى في المسألة أن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحسنوا زيادة الإعلام لتنبيه الناس، فيدركون فضيلة الصلاة بالجماعة، أما أوقات سائر الصلوات أوقات انتباه، فلا حاجة إلى التثويب فيها، وقال يعقوب: لا أرى بأساً أن يذهب المؤذن إلى باب الأمير في جميع الصلوات، ويقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حيّ على الصلاة(1/342)
حيّ على الفلاح الصلاة يرحمك الله؛ لأن له زيادة شغل للنظر في أمور الرّعية، وتسوية أمر الجند مستحب في حقه، وزيادة إعلام، وكذلك كل من اشتغل لمصالح المسلمين كالمفتي والقاضي يُخص بنوع إعلام، والمعنى أنه لو لم يخص بنوع الإعلام لا يعرف هو وقت الحضور فربما يحضر كما يسمع الأذان، ولم يحضر القوم بعد، فيحتاج إلى انتظار القوم، فتتعطّل مصالح المسلمين. ومشايخنا رحمهم الله اليوم لم يروا بالتثويب بأساً في سائر الصلوات في حق جميع الناس فلا بأس لأنه حدث تكاسل في الأمور الدينية، واشتغلوا بأمور زائدة من أمور الدنيا، وتغافلوا عن أداء الصلاة لأوقاتها، فنزل سائر الأوقات في زماننا منزلة صلاة الفجر في زمن رسول الله عليه السلام، ثم على ما اختاره المشايخ من التثويب في سائر الصلوات في زماننا يعتبر في ذلك ما يتعارفه كل قوم، حكي عن محمد بن سلمة أنه كان يتنحنح وكان عادة أهل سمرقند قبل هكذا، واختار مشايخ بخارى الصلاة الصلاة..... قامت قامت.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي للمؤذن أن يمكث بعد الأذان قدر ما يقرأ الإنسان عشرين آية ثم يثوب ثم يصلي ركعتي الفجر ثم يمكث قليلاً ثم يقيم، وعن أبي يوسف أن التثويب بعد الأذان ساعة، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، وهو التثويب المحدث، ولم يبين التثويب القديم.
وذكر في «الأصل» : أن التثويب الأول في صلاة الفجر بعد الأذان «الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن، ولم يبين المحدث بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: أراد محمد رحمه الله بقوله في «الأصل» ، فأحدث الناس هذا التثويب فأحدث الناس مكان التثويب لا نفس التثويب، فإن التثويب الأول في صلاة الفجر «الصلاة خير من النوم» بعد الأذان، فالناس جعلوها في الأذان، ولكن هذا مُشكل، فإن محمداً رحمه الله أضاف الإحداث إلى الناس، وإدخال هذا التثويب في الأذان غير مضاف إلى الناس، بل هو مضاف إلى بلال، فإنه هو الذي أدخل هذا التثويب في الأذان ولكن بأمر رسول الله عليه السلام.
فإنه روي أن بلالاً أتى النبي يؤذنه في الصلاة، فوجده راقداً فقال: الصلاة خير من النوم، فانتبه النبي عليه السلام، وقال: «ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك» ، ومن المشايخ من قال: أراد بقوله، فأحدث هذا التثويب نفس التثويب، فإن التثويب الأول الصلاة خير من النوم، ثم إن التابعين، وأهل الكوفة أحدثوا هذا التثويب، وهو قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة، ولفظ «الجامع الصغير» يدل على هذا.(1/343)
فإن لفظ «الجامع الصغير» التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، هذا هو التثويب المحدث، وروي عن أبي حنيفة أيضاً ما يدل على صحة هذا القول، فإنه روي عنه أن التثويب الأول كان في صلاة الصبح، ولم يكن في غيرها، وكان «الصلاة خير من النوم» ، فأحدث الناس حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين، وهو حسن.
ومعنى التثويب العود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول مشتق من قولهم ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ وعاد إلى الصحة، وأصل اللغة ثاب يثوب بمعنى رجع والكعبة تسمى مثابة؛ لأن الناس يرجعون إليها مرة بعد مرة، وإنما سمي هذا التثويب الذي أحدثه الناس حسناً، لأنهم رأوه حسناً، وقد قال عليه السلام «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» قال ويترسّل في الأذان، ويحدر في الإقامة، قال عليه السلام لبلال: «إذا أذنت فترسّل، وإذا أقمت فاحدر» وأن يرسل في الإقامة، ويحدر في الأذان، أو يرسل فيهما أو يحدر فيهما فلا بأس.
(نوع آخر)
في أذان المحدث والجنب وبيان من يكره أذانه ومن لا يكره
قال محمد رحمه الله: في مؤذن أذن على غير وضوء وأقام: أجزأه ولا يعيد، والجنب أحب إليَّ أن يعيد وإن لم يعيد أجزأه. يجب أن يعلم بأن الكلام هنا في فصلين في الكراهة، وفي الإعادة.
أما الكلام في الكراهة، فنقول: ذكر بعض المشايخ في شروحهم تكره الإقامة مع الحدثين باتفاق الروايات؛ لأنه يقع الفعل بين الإقامة والصلاة، وموضوع الإقامة يتصل بها أداء الصلاة، وكذلك يكره الأذان مع الجنابة باتفاق الروايات، وفي كراهته مع الحدث روايتان: فعلى الرواية التي قال: يكره الأذان مع الحدث، قاس الأذان على الإقامة، وجمع بينهما بمعنى جامع، وهو أن الأذان بينهما بالصلاة حتى يقام مستقبل القبلة، إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، والصلاة بدون الطهارة لا تجوز أصلاً فما كان مشبهاً بالصلاة يجوز مع الكراهة، وعلى الرواية التي لا يكره الأذان مع الحدث.
فرقٌ بين الأذان والإقامة؛ ووجه ذلك: أن كراهة الإقامة مع الحدث، إنما كان لئلا يقع الفصل فيه بين الإقامة والصلاة، وإنه غير مشروع، وهذا المعنى لا يتأتى في الأذان؛ لأن الفصل بين الأذان والصلاة مشروع.
ثم في الأذان فرق بين الجنابة وبين الحدث على إحدى الروايتين فقال: لا يكره الأذان مع الحدث، ويكره مع الجنابة.
ووجه ذلك ما ذكرنا: أن للأذان شبهاً بالصلاة إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، ولو كان صلاة لا يجوز مع الحدث والجنابة، فإذا كان مشبهاً بالصلاة.
قلنا: يكره مع الجناية اعتباراً لجانب الشبه، ولا يكره مع الحدث اعتباراً لجانب(1/344)
الحقيقة إلا أنا اعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبر في الحدث؛ لأنا لو اعتبرنا في الحدث يلزمنا اعتباره في الجنابة من طريق الأولى؛ لأن الجنابة أغلظ الحدثين، فحينئذٍ يتعطل جانب الحقيقة، فاعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبره في الحدث لهذا.
وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم عن أبي حنيفة أن أذان المحدث، وإقامته جائزة من غير كراهة، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأن الأذان والإقامة لا يدنوا درجتها على درجة القرآن، ثم المحدث لا يمنع من قراءة القرآن، هكذا لا يمنع من الأذان والإقامة.
وأما الكلام في الإعادة، فأذان المحدث لا يعاد، وكذلك إقامته، وأذان الجنب، وإقامته تعاد على طريق الاستحباب، وفي رواية اختلط حكم الجنابة وجهه حكم الحدث، وفي رواية لا يعاد، قال بعض مشايخنا: والأشبه أن يقال: يعاد أذان الجنب ولا تعاد إقامته؛ لأن تكرار الأذان مشروع في الجملة كما في صلاة الجمعة، فأما تكرار الإقامة، فغير مشروع أصلاً.
ثم إن محمداً رحمه الله، قال: في الجنب أحب إليّ أن يعيد، وإن لم يعد أجزأه، قيل تحتمل أن يكون معنى قوله أجزأه جواز الصلاة بغير أذان، وتحتمل الجواز في أصل الأذان لحصول المقصود.
قال في «الأصل» وليس على النساء أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بجماعة، وليس على النساء الصلاة بجماعة، فلا يكون عليهن أذان ولا إقامة، وإن صلين بجماعة وصلين بغير أذان وإقامة، وإن صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة.
قال في «الجامع الصغير» والمرأة (54أ1) إذا أذّنت يعاد أذانها، وإن لم يعيدوا جاز، هكذا ذكرنا، وذكر في «الأصل» ويكره أذان المرأة، ولم يذكر أنه هل يعاد؟، ووجه الكراهة: أنه رفع الصوت منها معصية رفعت صوتها تكتب المعصية، وإن لم ترفع صوتها، فقد أخلت بما هو المقصود من الأذان، وهو الإعلام وقوله في «الكتاب» وإن لم يعيدوا أجزأه، فيحتمل جواز الصلاة بغير أذان، ويحتمل الجواز في أصل الأذان على ما مرّ.
ولم يذكر في «الجامع الصغير» حكم أذان الصبي، وذكر القدوري في «شرحه» : وإن آذان الصبي (الذي) لا يعقل أو مجنون يُعاد ذلك؛ لأن ما هو المقصود وهو الإعلام لا يحصل بأذانهما؛ لأن الناس لا يعتبرون كلام غير العاقل، فهو وصوت الطير سواء، ويكره أذان السكران، ويستحب إعادته، وكذلك يكره أذان الفاسق؛ لأنه أمانة شرعية فلا يؤمن الفاسق عليه، ولا يعاد أذانه، لحصول المقصود به، وإن اشترط على الأذان أجزأه، فهو فاسق كذا ذكره في الخصائل، ويجوز أذان العبد والقروي وأهل المفاوز، وولد الزنا والأعمى من غير كراهة، ولكن غير هؤلاء أولى، وكذلك يجوز أذان ... ويؤذن في بعض الصلاة دون البعض بأن كان في السوق نهاراً أو في السكة ليلاً يجوز من غير كراهة وغيره أولى.(1/345)
وإن أذن رجل فأقام رجل آخر إن غاب الأول جاز من غير كراهة، وإن كان حاضراً ويلحقه الوحشة بإقامة غيره يكره، وإن رضي به لا يكره عندنا، وإن أذن وأقام ولم يصلّ مع القوم يكره؛ لأنه إن كان صلى، فهذا تنفل في الأذان، وإنه غير مشروع، فإن كان لم يصلِ؟ وفارقهم فيكره.
(نوع آخر)
في الفصل بين الأذان والإقامة
قال في «الجامع الصغير» : ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجلس في المغرب أيضاً جلسة خفيفة يجب أن يعلم بأن الفصل بين الأذان والإقامة في سائر الصلوات مستحب.
والأصل في ذلك قوله عليه السلام لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرع الأكل من أكله، والشارب من شربه» ، واعتبر الفصل في سائر الصلوات بالصلاة، حتى قلنا: إن في الصلوات التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب، فالأولى للمؤذن أن يتطوع بين الأذان الإقامة.
جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَلِحاً} (فصلت: 33) أنه المؤذن يدعوا الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة، ولم يعتبر الفصل في المغرب بالصلاة؛ لأن الفصل بالصلاة في المغرب يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقته، وتأخير المغرب مكروه، وقال النبي عليه السلام؛ «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ويؤيده قوله عليه السلام: «بين كل أذانين صلاة إلا المغرب» ، وأراد بالأذانين الأذان والإقامة، وإذا لم يفصل بالصلاة في المغرب يتأدى. بفصل، قال أبو يوسف ومحمد: يفصل بجلسة خفيفة؛ لأن الجلسة صالحة للفصل.
ألا ترى أنها صلحت للفصل بين الخطبتين يوم الجمعة، فهنا كذلك، وقال أبو حنيفة يفصل بالسكوت، لأن لمّا لم يفصل بالصلاة التي هي عبادة، لتكون أقرب إلى الأداء أبعد عن التأخير فلأن لا يفصل ... بعبادة أولى، والفصل يحصل بالسكوت حقيقة، فلا حاجة إلى اعتبار الجلسة للفصل، ثم عند أبي حنيفة مقدار السكتة ما يقرأ ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وروي عنه أنه قال: مقدار ما يخطو ثلاث خطوات، وعندهما مقدار الجلسة ما جلس الخطيب بين الخطبتين من غير أن يطول، وتمكن مقعده على الأرض.(1/346)
(نوع آخر) بيان الصلاة التي لها أذان والتي لا أذان لها وفي بيان أنه في أي حال يؤتى به
وليس بغير الصلوات الخمس والجمعة والتطوعات والسنن والوتر، وغيرها أذان ولا إقامة، أما السنن والتطوعات؛ فلأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بالجماعة والسنن والتطوعات لا تؤدى بجماعة، فلا يشرع فيها أذان ولا إقامة، ولأن الأذان شرع الإعلام للدخول بوقت الصلاة، ولا حاجة للتطوعات إلى ذلك، فإن جميع الأوقات وقت للتطوعات، ولأن التطوعات تبع للسنن، والسنن تبع للفرائض شرع مكملاً للفرائض، فلا حاجة إلى أتباعه للتبع.
وأما الوتر فعندهما الوتر تطوع، ولا أذان ولا إقامة في التطوعات بالإجماع على ما ذكرنا، وأما عند أبي حنيفة، فلأن الوتر إن كان واجباً عنده إلا أنها لا تؤدى بالجماعة إلا في شهر رمضان، وعند أدائها هم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام وخارج رمضان لا تؤدى بالجماعة، والأذان سنّة أداء الصلاة بجماعة.
وأما التراويح وإن أَدي بالجماعة لكنه تبع للعشاء، وهم مجتمعون عند أدائها.
وأما العيدين، فلحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله عليه السلام العيدين بغير أذان ولا إقامة ولم يصل قبلها ولا بعدها» ، هكذا جرى التوارث إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر، ولأن صلاة العيدين سنّة، وقد ذكرنا أنه لا أذان للسنن.
فأما الجمعة يؤذن لها ويقام؛ لأنها فرض مكتوب وفرضيتها آكد من فريضة الظهر حتى ترك الظهر لأجلها، والأذان والإقامة مشروعان في الظهر، فكذلك في الجمعة؛ ولأن الأذان لها منصوص في القرآن، قال الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اوذروا البيع} (الجمعة: 9) ؛ ولأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الاجتماع والجمعة أولى بهذا؛ لأنه لا يجوز قضائها خارج الوقت، ولا يجوز أدائها بدون الجماعة، وسائر الصلوات يجوز أداؤها بغير جماعة، ولا يجوز قضاؤها خارج الوقت، ولا يؤذن لصلاة قبل دخول الوقت.
وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يؤذن لصلاة الفجر في النصف الآخر من الليل، حجتهما في ذلك؛ ما روي أن بلالاً كان يؤذن على عهد رسول الله عليه السلام بالليل.
ولنا: ما روي أن رسول الله عليه السلام قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضاً» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام بدخول الوقت، فقبل الوقت يكون الأذان تجهيلاً لا إعلاماً، وأما الجواب عن فعل بلال قلنا: إن بلالاً ما كان يؤذن بالليل، لصلاة الفجر، وإنما كان يؤذن لقيام النائم، وإنما كانت صلاة الفجر(1/347)
بأذان ابن أم مكتوم، كما قال عليه السلام: «لا يغرنكم أذان بلال؛ لأنه يؤذن ليرجع غائبكم ويتسحر صائمكم وينام قائمكم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ، وكان هو أعمى كان لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون: أصبحت، أصبحت وأجمعوا أن الإقامة قبل الوقت لا تجوز؛ لأن الإقامة لإقامة الصلاة ولا يمكنه إقامة الصلاة قبل الوقت، وإن لم يعد الأذان في الوقت جازت صلاته؛ لأنه لو ترك الأذان أصلاً جازت صلاته فها هنا أولى، ولم تذكر الكراهة ههنا لاختلاف العلماء وشبهة الحديث.
(نوع آخر) في تدارك الحد الواقع فيه
إذا غشي على المؤذن ساعة في الأذان أو في الإقامة، قال محمد رحمه الله: أحبّ إليّ أن يقتدي به من أولها؛ لأن لكل واحد منهما شبهاً بالصلاة، ولو غشي عليه في صلاة الأصل ثم أفاق، فإنه سوّى بها ولا شيء، كذا ههنا، فلو لم يقتد بها، وأتمها جازت صلاته؛ لأنه لو تركهما جازت صلاته، فههنا أولى.
وكذلك لو رعف فيها أو أحدث، فذهب وتوضأ ثم جاء، فأحب إليّ أن يقتدي بها من أولها لما ذكرنا أن لها شبهاً في الصلاة ولو أحدث في الصلاة فكان، الأولى أن يقتدي بها، ولو ... عليها يجوز كذا هنا؛ فلأنه ربما يشتبه على الناس أنه يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان، قال مشايخنا، والأولى أن يتم الأذان إن أحدث في الأذان، ويتم الإقامة إن أحدث في الإقامة ثم يذهب ويتوضأ ويصلي؛ لأن ابتداء الأذان والإقامة مع الحدث جائز فأما بهما، أولى. ونزول الاشتباه الذي ذكرنا، لهذا إذا كان الأفضل إتمامهما قبل التوضىء، وكذا إذا مات المؤذن في الأذان أو ارتد، فالأولى أن يقتدي غيره؛ لأن بالموت انقطع عمله، وبالردة حبط عمله؛ ولأننا على المنقطع والباطل، وإن لم يقتد غيره وأتمه جاز وإذا أذن بتمامه ثم ارتد، فإن اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم، ويصلي بهم جاز. وإن استعادوا الأذان (54ب1) فذلك أولى؛ لأن بالردة بطل، وصار كأنه لم يؤذن أصلاً، وإذا قدّم المؤذن في أذانه وإقامته بعض الكلمات على البعض، نحو أن يقول أشهد أن محمداً رسول الله قبل قوله أشهد أن لا إله إلا الله، فالأفضل في هذا أن ما سبق أوانه لا يعتد به حتى يعيده في أوانه وموضعه؛ لأن الأذان شرعت متطوعة مرتبة فتؤدى على نظيره وترتيبه إن مضى على ذلك جازت صلاتهم.
ولو افتتح الأذان يظن أنها الإقامة، فأقام في آخرها وصلى بالقوم جازت صلاتهم؛ لأنه ترك آخر الأذان وأتى بأولها، وأتى بآخر الإقامة وترك أولها، ولو ترك الأذان والإقامة أصلاً يجوز، فههنا أولى.
وإن استيقن قبل الشروع في الصلاة بأن علم بعدما قال قد قامت الصلاة، فإنه في الأذان فإنه يتم الأذان ثم يقيم؛ لأنه أتى بأول الأذان على وجهها، إلا أنه غيّر آخرها(1/348)
فكان عليه أن يصلح ما غير إذا أمكنه الإصلاح، وقد أمكنه الإصلاح إذا استيقن قبل الشروع في الصلاة ثم يستقبل الإقامة؛ لأنه لم يأت بأولها.
فرقٌ بين الإقامة وبين الأذان، فإن في الأذان لم يقل استقبل الأذان، وإنما قال يتم الأذان، وفي الإقامة قال: استقبل الإقامة.
والفرق: أنه أتى بأول الأذان إلا أنه غير آخرها، وأمكنه إصلاح ما غيّر، فلا حاجة إلى الاستقبال، أما في الإقامة لم يأت بأولها، وإنما أتى بآخرها، ولا يمكن بناء الآخر على الأول؛ لأن الأول لم يؤُخر بعده فلهذا قلنا بالاستقبال.
ثم في فصل الأذان قال يتم الأذان، ولم يبين صورة الإتمام.
وقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار صورة، فقال؛ يعود إلى قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وإذا ظن الإقامة من أولها أداها وأتمها أذاناً ينبغي أن يعيد الإقامة؛ لأن التغيير في كله، ولو ألحق بأخرها قد قامت الصلاة، فصلى بها جاز ولو أنه حتى فعل في الإقامة بأفعل ظن بأن ذلك لا يجزيه، فاستقبل الأذان من أوله ثم أقام وصلى، فإنه يجوز؛ لأنه أتى باجتهاد وأكملها.
(نوع آخر) فيمن يقضي الفوائت بأذان وإقامة أو بغير أذان وإقامة
ومن فاتته صلاة عن وقتها، فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحداً كان أو جماعة لحديث ليلة التعريس حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي وادٍ، فقال: من يكلؤنا الليلة، فقال؛ بلال أو أنس رضي الله عنهما أنا، فغلب رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنوم يومئذٍ إلى مؤخر وحمله ونام، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، وكان عمر رضي الله عنه رابعهم، فاستيقظ ونادى فاستيقظ النبي عليه السلام من صياحه، وأمر بلالاً فأذن، فصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالاً، فأقام، وصلى بهم الفجر.
وشُغل رسول الله عليه السلام عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهُنّ بعد ... من الليل.
قال ابن مسعود رضي الله عنه أمر بلالاً، فأذن وأقام الأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها، وقال جابر أمره فأذن وأقام لكل صلاة، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أمره بالإقامة لكل صلاة، والمعنى فيه وهو أن القضاء على نية الأداء وسنية الأداء بالأذان، والإقامة بجماعة، فكذلك القضاء، فإن اكتفوا بالإقامة لكل صلاة جائز؛ لأن الأذان لإعلام الناس، ولا حاجة إلى ذلك في القضاء، والإقامة لإقامة الصلاة، وهو محتاج إلى ذلك، ولكن الأحسن أن يؤذن ويقيم لكل صلاة، ليكون القضاء على سنّة الأداء، ولأنه إن لم يكن محتاجاً إلى الإعلام، فهو محتاج إلى أجر الثواب، وقد عرف ثواب الأذان والإقامة ذكره الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: والأحسن أن يؤذن ويقيم الأولى، ثم بعد ذلك يقضي كل صلاة(1/349)
بإقامة بغير أذان؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام وهم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام أما الإقامة للتأهب والتحريم، وهو محتاج إلى ذلك. ذكره الإمام الصفار رحمه الله.
وإن صلوا بغير أذان وإقامة وجماعة يجوز؛ لأن فعل النبي عليه السلام يدل على الجواز، ولا يدل على الوجوب، وفي «الجامع الهاروني» قدّم ذكر، وإفساد صلاة صلوها في غير وقت تلك الصلاة قضوها بأذان وإقامة في غير المسجد الذي صلوا فيه تلك الصلاة مرّة، وإن ذكروها في وقتها صلوها في ذلك المسجد، ولا يعيدون الأذان والإقامة، فإن صلوا بإقامة في ذلك المسجد صلوها وحدانا، والله أعلم.
(نوع آخر) في المتفرقات من هذا الفصل
إذا صلى رجل في بيته واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه من غير كراهة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود في بيت، فقيل له: ألا تؤذن وتقيم؟ فقال: أذان الحي يكفينا، ولأن مؤذن الحي نائب عن أهل المحلة في الأذان والإقامة؛ لأنهم هم الذين نصبوه لها، فكان نائباً عنهم، فيكون الأذان والإقامة من المؤذن كأذان الكل بالكل وإقامتهم من حيث الحكم والاعتبار، وإذا جعل أذانه وإقامته من له أذانهم وإقامتهم، فقد وجد الأذان والإقامة منهم من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد جميعه.
فرق بين هنا وبين المسافر إذا صلى وحده وترك الأذان والإقامة أو ترك الإقامة، فإنه يكره له ذلك. والمقيم إذا صلى وحده بغير أذان ولا إقامة، لا يكره.
والفرق: أن المقيم إن صلى بغير أذان وإقامة حقيقة، ولكنه صلى بأذان وإقامة من حيث الحكم والاعتبار، فأما المسافر فقد صلى بغير أذان وإقامة حقيقية وحكماً، فيكره لهذا.
وإن أذن وأقام وحده فهو أحسن؛ لأن المستفرد مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الجماعة، ولهذا كان الأفضل أن يخفي بالقراءة في صلاة الجهر، وكذلك إن أقام ولم يؤذن؛ لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا، وذلك غير موجود ههنا، والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها.
والدليل عليه ما روى طاوس: أنه قال: إذا صلى الرجل وحده إن صلى بإقامته صلى معه ملكاه، وإن صلى بأذان وإقامة صلى من وراءه من الملائكة ما يسد الأفق، قال القاضي الإمام صدر الإسلام؛ إذا لم يؤذن في تلك المحلة يكره له تركهما، ولو ترك الأذان وحده لا يكره.
والقدوري في «شرحه» روى عن أبي حنيفة في الجماعة: إذا صلوا في منزل أو مسجد فنزل بغير أذان ولا إقامة بهم أساؤوا، ولا يكره للواحد؛ لأن أذان الجماعة يقع الأفراد وأما لا يقع لجماعة أخرى ومن سمع الأذان، فعليه أن يجيب، قال عليه السلام: «من لم يجب الأذان فلا صلاة له» قال شمس الأئمة الحلواني تكلم الناس في الإجابة،(1/350)
قال بعضهم هي الإجابة بالقدم لا باللسان حتى لو أجاب باللسان ولم يمشِ إلى المسجد لا يكون مجيباً ولو كان حاضراً في المسجد حتى سمع الأذان، فليست بالإجابة.
وقوله عليه السلام. «من قال مثل ما يقوله المؤذن، فله من الأجر كذا» فهو كذلك إن قاله نال الثواب الموعود، وإن لم يقل لم ينل الثواب الموعود فأما إني نائم أَوَ يكره له ذلك، فلا وإذا رد الجواب باللسان لنيل الثواب الموعود، فكل ما هو ثناء وشهادة يقول كما قال المؤذن، وعند قوله حيَّ على الصلاة حيّ على الفلاح، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان.
رجل دخل مسجداً صلى فيه أهله، فإنه يصلي وحده من غير أذان وإقامة، ويكره أن يصلي بجماعة بأذان وإقامة، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله خرج ليصلح بين الأنصار، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، فرجع بعدما صلى عبد الرحمن فدخل جميع أصحابه وصلى بهم، ولو كان يجوز إعادة الصلاة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد، مع أن الصلاة في المسجد أفضل، وبأن في هذا التعليل الجماعة؛ لأن الجماعة إذا كانت لا تفوتهم لا يعجلون للحضور، فإن كل أحد يعتمد على جماعته، وبه وقع الفرق بين هذا وبينما إذا صلى فيه قوم ليسوا من أهله حيث كان لأهله أن يصلوا فيه بجماعة بأذان وإقامة؛ لأن تكرار الجماعة هنا لا يؤدي إلى تقليل الجماعة.
وروي عن أبي يوسف في الفصل الأول أنه قال: إنما يكره تكرار الجماعة إذا كان القوم كثيراً، أما إذا صلى واحد بواحد أو باثنين بعدما صلى فيه أهله فلا بأس، لما روي أن رسول الله عليه السلام صلى بأصحابه، فدخل أعرابي وقام يصلي فقال عليه السلام: «من يتصدق على هذا فيقوم ويصلي معه» (55أ1) .
فقام أبو بكر وصلى معه، وروي عن محمد أنه لم يرَ بالتكرار بأساً إذا صلوا في زاوية من المسجد على سبيل الخفية إنما يكره على سبيل التداعي والاجتماع.
قال القدوري في «كتابه» : وإن كان المسجد على قارعة الطريق ليس له قوم معينين، فلا بأس بتكرار الجماعة فيه؛ لأن تكرار الجماعة في هذا الفصل لا يؤدي إلى تقليل الجماعة جماعة من أهل المسجد إذا نوى في المسجد على وجه المخافتة بحيث لم يسمع غيرهم، وصلوا ثم حضر قوم من أهل المسجد، ولم يعلموا ما صنع الفريق الأول، وإذا نوى على وجه الجهر والإعلان ثم علموا ما صنع الفريق الأول، فلهم أن يصلوا بالجماعة على وجهها لا غيره بالجماعة الأولى؛ لأنها ما أقيمت على وجه السنّة بإظهار الأذان والإقامة، ولا يبطل حق الباقين.
ولا بأس بالتطريب في الأذان، وهو تحسين الصوت من غير أن يتغير، فإن تغير بلحنه أو ما أشبه ذلك كره، قال شمس الأئمة الحلواني؛ إنما يكره ذلك فيما كان من(1/351)
الأذكار، أما قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لا بأس بإدخال المد فيه.
المؤذن إذا لم يكن عالماً بأوقات الصلاة لا يستحق ثواب المؤذنين، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في الأذان والإقامة أو بشيء لما ذكرنا أن لهما شبهاً بالصلاة، وإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه الاستقبال، وإذا انتهى المؤذن في الإقامة إلى قوله قد قامت الصلاة، له الخيار إن شاء أتمها في مكانه، وإن شاء مشى إلى مكان الصلاة إماماً كان المؤذن أو لم يكن.
وإذا سلم رجل على المؤذن في أذانه أو عطس رجل؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام في نفسه، ويشمته في قلبه، ولا يلزمه شيء من ذلك إذا فرغ، وعن محمد أنه لا يفعل شيئاً في الأذان، وإذا فرغ من الأذان رد السلام وشمت العاطس إن كان حاضراً، وعن أبي يوسف أنه (لا) يفعل شيئاً من ذلك؛ لا قبل الفراغ من الأذان ولا بعده، وهو الصحيح ولا يؤذن بالفارسية، ولا بلسان آخر غير العربية، وإن علم الناس أنه أذان فقد قيل يجوز.
آداب الصلاة
جئنا إلى بيان آداب الصلاة فنقول: من آداب الصلاة إخراج الكفين من الكمين عند التكبير.
ومنها: أن يكون نظره في قيامه إلى موضع سجوده وفي الركوع إلى أصابع رجليه وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي القعود إلى حجره، ومنها كظم الفم إذا تثاءب، فإن لم يقدر غطاه بيده أو كُمِّه، قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليغط فاه إن الشيطان يدخل فيه» .
ومنها: دفع السعال عن نفسه ما استطاع، ومنها أن لا يمسح التراب، والعرق عن وجهه بعدما قعد قدر التشهد في آخر الصلاة، هكذا ذكر نجم الدين النسفي في «الخصائل» . واعلم بأن هذه المسألة على وجوه:
أحدها: إذا مسح جبهته بعد السلام وأنه لا بأس به بل يستحب ذلك؛ لأنه قد خرج من الصلاة ونية إزالة الأذى عن نفسه.
والثاني: إذا مسح جبهته بعد الفراغ من أعمال الصلاة قبل السلام، وإنه لا بأس به أيضاً؛ لأن هذا دون الخروج عن الصلاة والذهاب، وقد أُبيح الخروج وأبيح له الذهاب قبل الخروج، حتى لو ذهب ولم يسلم قبلت صلاته فيما دون الخروج والذهاب أو إلى أن يكون ... حاله.
والثالث: إذا مسح جبهته بعد ما رفع رأسه من السجدة. ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا بأس به، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه اختلفت ألفاظ الكتب في هذا(1/352)
الوجه، ذكره في بعضها لست أكره ذلك، وذكر في بعضها أكره ذلك، وذكر في بعضها لا أكره ذلك بعض مشايخنا قالوا: لا مقطوع عن قوله أكره، فقوله لا، نهي وقوله أكره تأكيد له معناه لا يفعل، فصار هذه اللفظ وقوله ذلك أكره ذلك سواء.
وهذا القائل يستدل بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع من الجفاء وذكر من جملتها، وأن تمسح جبهتك قبل أن تفرغ من صلاتك، وقال بعضهم قوله؛ لا متصل بقوله وأكره، فصار هذا اللفظ على قول هذا القائل، وقوله لست أكره ذلك سواء، ويستدل هذا القائل بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «بت في بيت خالتي ميمونة، فقمت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقمت عن يساره فحوله إلى يمينه، ورأيته يمسح العرق عن جبينه» .
الرابع: إذا مسح جبهته في خلال الصلاة وفي ظاهر الرواية لا بأس به، وقال أبو يوسف؛ أحب إليّ أن يدعه فرّق أبو يوسف بين هذا الوجه، وبينما تقدم من الوجوه.
والفرق: أنّ في هذا الوجه لو مسح جبينه ثانياً وثالثاً، فلا يفيد، ولو فعل ذلك في كل مرة كان عملاً كثيراً لولاء (الحركات) كذلك الوجوه الثلاثة؛ لأنه لا يحتاج إلى السجدة ثانياً في الوجوه الثلاثة، فكان المسح مفيداً.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان الإمام مع القوم في المسجد، فإني أحب لهم أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن حيّ على الفلاح، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يكون المؤذن غير الإمام أو يكون هو الإمام، فإن كان غير الإمام وكان الإمام مع القوم في المسجد، فإنه يقوم الإمام والقوم إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وقال الحسن بن زياد وزفر إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قاموا في الصف، وإذا قال مرة؟ والصحيح قول علمائنا الثلاثة؛ لأن قوله قد قامت الصلاة إخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق الإخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة إذا كان القيام سابقاً على قوله قد قامت الصلاة، ومتى سبق القيام على قوله قد قامت الصلاة يحصل القيام عند قوله حيّ على الفلاح؛ ولأنهم يحتاجون إلى إحضار النية؟.... أن يقوموا عند قوله حيّ على الفلاح حتى يمكنهم إحضار النية.
هذا إذا كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر في المسجد، فأما إذا كان الإمام خارج المسجد، إن دخل المسجد من وراء الصفوف اختلفوا فيه، قال بعضهم: كلما رأوا الإمام يقومون، وقال بعضهم؛ ما لم يأخذ الإمام مكان الصلاة لا يقومون.
وقال بعضهم: إذا اختلط الإمام بالقوم قاموا: وقال بعضهم: كلما جاوز صفاً قام ذلك الصف، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام خواهر زاده(1/353)
والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه كلما جاوز صفاً صار ذلك الصف بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤه، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة في ذلك الصف، وإن كان الإمام دخل المسجد يبدأ منهم يقولون كما.....؟ الإمام؛ لأن في تلك الحالة صاروا بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤهم، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة، فيقومون.
وإن كان الإمام والمؤذن واحد فإن أقام في المسجد فالقوم لا يقومون ما لم يفرغ من الإقامة؛ لأنهم لو قاموا قاموا لأجل الصلاة. ولا وجه إليه؛ لأنهم تابعون لإمامهم وقيام إمامهم في هذه الحالة؛ لأجل الإقامة، لا لأجل الصلاة. وإن أقام خارج المسجد، فلا ذكر. فهذه المسألة في «الأصل» ، ومشايخنا اتفقوا على أنهم لا يقومون ما لم يدخل الإمام في المسجد، لما روي أن النبي عليه السلام كان في حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما أقام بلال الصلاة، وخرج رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فرأى الناس ينتظرونه، فقال لهم رسول الله عليه السلام: «ما لي أراكم سامدين» أي واقفين مُتحيِّرين، وفي رواية قال: «لا تقوموا في الصف حتى تروني قد خرجت» ؛ ولأنهم لا يقدرون على التكبير ما لم يدخل الإمام المحراب وينتصب للصلاة، فإذا قاموا هنا اشتغلوا بعمل غير مفيد فيكره.
ثم المؤذن هل يتم الإقامة في المكان الذي بدأ، فإن كان الإمام والمؤذن واحد اختلفوا فيه: روي عن أبي يوسف أنه يتمها في المكان الذي بدأ؛ لأن هذا أحد الأذانين، فيعتبر بالآخر ثم الآخر يتمها في المكان الذي بدأ، فكذا هذا. وبه أخذ بعض المشايخ. وقال بعض مشايخنا: إذا انتهى إلى قوله قد قامت الصلاة سكت ويأخذ في المشي فإذا أخذ مكان الصلاة أتمها، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار وشيخ الإسلام خواهر زاده أنه بالخيار إن شاء أتمها في المكان الذي بدأ، وإن شاء أتمها إذا شاء.
وإن كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر، فيتمها في المكان الذي بدأ ثم الإمام يأتي بالتكبير.
قال أبو حنيفة رحمه الله: يكبر قبل قوله قد قامت الصلاة، هكذا فسر في «النودار» ؛ وظاهر ما ذكر في «الكتاب» وجب أن يكبر (55ب1) بعد فراغه عن قوله قد قامت الصلاة، قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح ما ذكرنا في «النوادر» ، وقال أبو يوسف ينتظر فراغ المؤذن من الإقامة فإذا فرغ منها كبّر، هذا بيان الأفضل، ولو كبّر بعد ما فرغ المؤذن من الإقامة كما قال أبو يوسف جاز عند أبي حنيفة، ولو كبّر قبل قوله قد قامت الصلاة كما قاله أبو حنيفة جاز عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: ليس المراد من قوله قد قامت الصلاة حقيقة الإخبار عن الإقامة، بل المراد الإخبار عن المقاربة يعني قرب(1/354)
إقامة الصلاة، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل:1) أي قرب إتيان أمر الله وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر:3) أي قرب، ثم اختلفوا في وقت إدراك فضيلة تكبيرة الافتتاح، ذكر شيخ الإسلام اختلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه، فقال على قول أبي حنيفة: إذا كبّر مقارناً لتكبير الإمام، فيصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وما لا فلا، وعندهما إذا أدرك الإمام في الثناء وكبّر يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح وما لا فلا.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن شداد بن الحكيم كان يقول: إن كان الرجل حاضراً وأراد أن يدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح ينبغي أن يشرع قبل قراءة سبع آيات، وقال بعضهم: إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وهذا أوسع بالناس والله أعلم.
فرع في بيان ما يفعله المصلي بعد الافتتاح
وإذا افتتح وضع يمينه على يساره تحت السرة وقد مرّ هذا، ولم يذكر في «الأصل» موضع وضع اليمين على اليسار، واختلف المشايخ فيه قال: يضع باطن كف اليمين على ظاهر كفه اليسرى، وقال: بعضهم يضع باطن كفه اليمين على ذراعه اليسرى، وقال أكثرهم: يضع كفه اليمنى على مفصل اليسرى وبه أخذ الطحاوي، وفي رواية الأصول قال أبو يوسف يقبض بيده اليمنى رسغه اليسرى، وقال محمد يضع كذلك. وقال الفقيه أبو جعفر قول أبي يوسف؛ أحبُّ إليّ؛ لأن في القبض وضعاً وزيادة، قال الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده كما كبّر يضع يمينه على يساره عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن محمد في «النوادر» أنه في حالة الثناء يرسل يديه، ولا يعتمد، إنما يعتمد إذا فرغ من الثناء، وأما في صلاة الجنازة وقنوت الوتر وتكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود يرسل، ولا يضع عند محمد.
والحاصل: أن الوضع عنده سنّة قيام فيه قراءة، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في قنوت الوتر، قال بعضهم: يرسل وهو قول أبي يوسف، وقال بعضهم: يضع، وأما في القومة التي بين الركوع والسجود ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة أنه يرسل على قولهما كما هو قول محمد. وذكر في مواضع أُخر أن على قولهما يعتمد، ومشايخ ما وراء النهر اختلفوا.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص: السنّة في صلاة الجنازة، وفي تكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود الإرسال، وقال أصحاب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل منهم القاضي الإمام أبو علي النسفي، والحاكم عبد الرحمن بن محمد الكاتب، والشيخ الإمام الزاهد عبد الله.... والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، السنّة(1/355)
في هذه المواضع الاعتماد والوضع، وقالوا؛ مذهب الروافض الإرسال من أول الصلاة، فنحن نعتمد مخالفة لهم.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني يقول كل قيام فيه ذكر مسنون، فالسنّة فيه الاعتماد كما في حالة الثناء والقنوت وصلاة الجنازة، كل قيام ليس فيه ذكر مسنون كما في تكبيرات العيد، فالسنّة فيه الإرسال، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي والصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام الأئمة رحمهم الله ثم يقول: سبحانك اللهم إلى آخره، ولم يذكر في «الأصل» ولا في «النوادر» وجلّ ثناؤك؛ لأنه لم ينقل في التفاسير وذكر شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي أن محمداً رحمه الله ذكر في كتاب الحجج على أهل المدينة، قال شمس الأئمة الحلواني: قال مشايخنا: إن قال وجلّ ثناؤك لم يمنع عنه، وإن سكت عنه لم يؤمر به، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: سبحانك اللهم بحمدك تبارك اسمك بحذف الواو، فقد أصاب وهو جائز، روى محمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام مثل ذلك، وعن أبي يوسف في «الإملاء» أحب إليّ أن يزيد في الافتتاح «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً إلى قوله وأنا أول المسلمين» .
بعد هذا عن أبي يوسف روايتان في رواية قال: يقول وأنا من المسلمين وفي رواية قال يقول، وأنا أول المسلمين، والطحاوي أخذ بهذا إلا أنه يقول: المصلي بالخيار إن شاء قال ذلك قبل الثناء، وإن شاء قال ذلك بعد الثناء، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف يقول ذلك بعد الثناء، قيل: هو الصحيح من مذهبه، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: وفي ظاهر رواية أصحابنا: لا يقول ذلك بعد افتتاح الصلاة، وهل يقول قبل افتتاح الصلاة؟ فعن المتقدمين لا يقول، وقال المتأخرون يقول، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، ثم اختلف المتأخرون فيما بينهم أنه يقول؛ وأنا أول المسلمين؛ لأن المنزل في كتاب الله، هكذا فيتبرك بالمنزَّل.
وقال بعضهم: يقول: وأنا من المسلمين، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني؛ لأنه لا يريد تلاوة القرآن، وإنما يريد الثناء فيختار ما هو أقرب إلى الصدق ثم على قول من يقول. وأنا من المسلمين، لو قال: وأنا أول المسلمين في الصلاة هل تفسد صلاته؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تفسد، وقال بعضهم لا تفسد وفي قوله: ولا إله غيرك أربع لغات لا إله غيرك لا له غيرك لا إله غيرك لا إله غيرك، لا إله غيرك ولا يقول لا إله خيرك، ولو جرى ذلك على لسانه خطأ هل تفسد صلاته؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا تفسد، وبه كان يفتي الشيخ الزاهد الصفار، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه.
واعلم بأن الكلام في التعوذ في فصول.
أحدها: في أصله قال علماؤنا رحمهم الله: يتعوذ، وقال: لا يتعوذ، حُجته حديث(1/356)
أنس قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر، وكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» ، ولم يذكر التعوذ، حجتنا حديث أبي الدرداء، فإنه روى أنه قام ليصلي، فقال له رسول الله عليه السلام «تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن» .
والثاني: في وقته ومحله، قال علماؤنا يتعوذ بعد الثناء قبل القراءة، وقال بعض أصحاب الظواهر، يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل:98) ذكر بحرف الفاء أنه للتعقيب، وإنا نقول التعوذ لدفع وسوسة الشيطان وإنما يحتاج إلى دفع الوسوسة قبل الشروع في القراءة.k
والثالث: في لفظ التعوذ، وهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف فيه القراء قال بعضهم أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال بعضهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنّ الله هو السميع العليم.
وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه اختار أحد اللفظين أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة، ولا يقول بعد التعوذ: إن الله هو السميع العليم؛ لأن ههنا ثناءً، ومحل الثناء قبل التعوذ لا بعده، ثم إن محمداً رحمه الله قال: يتعوذ في نفسه، فهو إشارة إلى أن السنّة فيه الإخفاء، وهو المذهب عند علمائنا رحمهم الله؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام الجهر به، والذي روى عن عمر أنه جهر بالتعوذ فله تأويلان:
أحدهما: أنه وقع ذلك اتفاقاً لا قصداً.
والثاني: أن قصده كان تعليم السامعين أنه ينبغي للمصلي أن يتعوذ، وكان عطاء يقول: الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وإنه مخالف لإجماع السلف والسلف كانوا مجمعين على أنه سنّة. وهذا الذي ذكرنا في الإمام والمنفرد.
وأما المقتدي هل يأتي بالتعوذ؟ على قول أبي يوسف يأتي، وعلى قول محمد لا يأتي، ولم يذكر قول أبي حنيفة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار في شرح كتاب الصلاة (56أ1) إن قول أبي حنيفة قبل قول محمد ... إلى «الزيادات» ، فطلبنا قول أبي حنيفة في «الزيادات» ، واستقصى في ذلك، فلم يجد قوله ثمة ولا في شيء من الكتب، فلعلّ الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، وقد رأيت في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مثل قول محمد.
ومنشأ الخلاف أن التعوذ يتبع للثناء أو يتبع للقراءة، فوقع عند أبي يوسف أنه تبع(1/357)
للثناء، والمقتدي يأتي بالثناء يأتي بالتعوذ تبعاً له، ووقع عند محمد أن التعوذ تبع للقراءة، والمقتدي لا يأتي بالقراءة فلا يأتي بالتعوذ، وثمرة الخلاف تظهر في ثلاث مواضع.
أحدها: هذه المسألة.
والثانية: أن في العيدين المصلي يأتي بالتعوذ بعد الثناء قبل تكبيرات العيد عند أبي يوسف، وعند محمد يأتي بالثناء بعد تكبيرات العيد.
والثالث: أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، فعلى قول أبي يوسف لا يأتي بالتعوذ؛ لأنه تعوذ حين شرع في الصلاة، وعن محمد في هذه الصورة روايتان في رواية يتعوذ، وفي رواية لا يتعوذ، هكذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والقاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله، قال صدر الإسلام قول أبي يوسف رحمه الله أصح، والتعوذ عند افتتاح القراءة في الركعة الأولى لا غير، إلا على قول ابن سيرين، فإنه كان يقول يتعوذ في كل ركعة ثم يفتتح القراءة، ويأتي بالتسمية ويخفيها.....؟ بأن الكلام في التسمية في مواضع: أن التسمية تُتلى هي من القرآن، فعندنا هو من القرآن، وعند مالك ليس من القرآن حجته في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين» .
حجتنا في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام، وخلف أبي بكر وعمر وكانوا يفتتحون ببسم الله الرحمن الرحيم» ، والدليل عليه أن محمداً أدخل التسمية في القراءة، حيث قال ثم يفتتح القراءة، ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدلك على أنها قرآن، والدليل عليه أنها مكتوبة في سورة النمل وسورة النمل قرآن، فما يكون فيها كان قرآناً ضرورة.
والثاني: أنها هل هي من الفاتحة ومن رأس كل سورة أم لا؟ قال أصحابنا رحمهم الله: إنها ليست من الفاتحة ومن رأس كل سورة ولكنها آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة قولاً واحداً، وله في كونها من رأس كل سورة قولان، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» .
وفي «القدوري» قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا أعرف هذه المسألة بعينها عن متقدمي أصحابنا، والأمر بالإخفاء دليل على أنها ليست من السورة، وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أن التسمية هل هي آية من الفاتحة؟ أكثرهم على أنها آية من الفاتحة، وبه تصير سبع آيات.
والثالث: أنه هل يجهر بها على قول أصحابنا لا يجهر بها، وقال الشافعي: يجهر.(1/358)
والرابع: أنه هل تكرر؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: المصلي يُسمي في أول صلاته ثم لا يعيد، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يأتي بها في أول كل ركعة، وهو قول أبي يوسف وذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة: أنه إذا قرأها مع كل سورة فحسن.
وروى ابن أبي رملة عن محمد أنه يأتي بالتسمية عند افتتاح كل ركعة، وعند افتتاح السورة أيضاً، إلا أنه إذا كان صلاة يجهر فيها بالسورة.
لا يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة، وعند الشافعي يأتي بالتسمية في كل ركعة، ويأتي بها أيضاً في رأس السورة، سواء كان صلاة يجهر فيها بالقراءة أو يخافت، وذكر أبو علي الدقاق أنه يقرأ قبل فاتحة الكتاب في كل ركعة، قال: وهو قول أصحابنا ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أحوط؛ لأن العلماء اختلفوا في التسمية أنها هل هي من الفاتحة أم لا؟ وعليه إعادة الفاتحة في كل ركعة، فكان عليه إعادة التسمية في كل ركعة لتكون أبعد عن الاختلاف.
قال صدر الإسلام في «شرحه» : لم يذكر محمد رحمه الله في التسمية خلافاً بين أبي يوسف وبين ... أنها للصلاة، أو للقراءة كما ذكر في التعوذ، وما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يُسمي في الركعة الأولى فحسب، تدل على أنها للصلاة.
وإذا فرغ من الفاتحة قال آمين والسنّة فيه الإخفاء، لقوله عليه السلام: «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين» فإن الإمام يقولها، ولو كان تأمين الإمام مسموعاً يستغني عن قوله، فإن الإمام يقولها والمقتدي يؤمن في ظاهر الرواية، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يؤمِّن، رواه الحسن وإذا سمع المقتدي من الإمام ولا الضالين في صلاة لا يجهر فيها مثل الظهر والعصر والعشاء هل يؤمن؟ فعن بعض المشايخ أنه لا يؤمن وعن الفقيه أبي جعفر أنه يؤمن، ومن سمع الإمام أمَّن في صلاة الجمعة أمّن هو.
ثم إذا فرغ من القراءة يركع، وقد ذكرنا بعض مسائل الركوع في الفصل المتقدم، قال محمد وإذا أراد أن يركع يكبر، قال بعض مشايخنا ظاهر ما ذكر محمد يدل على أن تكبير الركوع يؤتى به في حال القيام، فإنه قال: وإذا أراد أن يركع يكبّر، وقال بعضهم: يكبّر عند الخرور للركوع، فيكون ابتداء تكبيره عند أول الخرور والفراغ عند الاستواء للركوع؛ لأن هذا تكبير الانتقال، ويؤتى بجميع الانتقال والطحاوي في كتابه يقول يخر راكعاً سكوتاً، وهذا إشارة إلى القول الثاني.
ولا يرفع يديه عندنا لا في حالة الركوع ولا في حالة رفع الرأس من الركوع، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة،(1/359)
وعند القنوت في الوتر، وعند كل تكبيرة من صلاة العيدين» وذكر الأربعة الأُخرى في المناسك.
ويقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه وإن زاد فهو أفضل بعد أن يختم على وتر. فيقول خمساً أو سبعاً، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهر زاده، هذا في حق المنفرد، وأما الإمام فلا ينبغي له أن يطول على وجه يُمل القوم؛ لأنه يصير سبباً للتغيير، وذلك مكروه، وكان الثوري يقول: ينبغي أن يقول ذلك خمساً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» والطحاوي في كتابه بقوله: إذا كان إماماً، بعضهم قالوا: يقول ثلاثاً، وبعضهم قالوا: يقول أربعاً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، ثم لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وذلك أدناه أدنى الجواز؛ لأن الركوع بدون هذا الذكر جائز في ظاهر الرواية، فإنما أراد به أدنى الفضيلة.
وروي عن محمد رحمه الله في غير رواية «الأصل» أنه إذا ترك التسبيح أصلاً أو أتى مرة واحدة يجوز ويكره، وكان أبو مطيع تلميذ أبي حنيفة يقول: كل فعل هو ركن يستدعي ذكراً فيه كان ركناً كالقيام، فقد أشار إلى أن تسبيح الركوع ركن.
ولكنا نقول: إن النبي عليه السلام علّم الأعرابي الركوع ولم يذكر له شيئاً، ولو كان التسبيح ركناً لبين؛ لأنه بين الأركان، ولو كان الإمام في الركوع فسمع خفق النعال هل ينتظر أم لا؟ قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة؛ أخشى عليه أمراً عظيماً يعني الشرك، وروى هشام عن محمد أنه كره ذلك، وعن أبي مطيع أنه كان لا يرى به بأساً، وقال الشعبي لا بأس به مقدار التسبيحة والتسبيحتين، وقال بعضهم يطول التسبيحات، ولا يزيد في العدد، وقال أبو القاسم الصفار: إن كان الجائي غنّياً لا يجوز له الانتظار، وإن كان فقيراً جاز له الانتظار.
وقال الفقيه أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره؛ لأنه يُشبه الميل إليه، وإن لم يعرفه فلا بأس بذلك؛ لأن في ذلك إعانة على الطاعة، وقال بعضهم: إن أطال الركوع لإدراك الجائي الركوع خاصة، فلا يزيد إطالة الركوع للتقرب إلى الله تعالى، فهذا مكروه؛ لأن أول ركوعه كان يقدر آخر ركوعه للقوم فهذا شرك في صلاته غير الله، فكان أمراً عظيماً إلا أنه لا يكفر؛ لأن إطالة الركوع ما كانت على معنى التذلل والعبادة للقوم، وإنما كان لإدراك الركوع، وعلى هذا يحمل قول أبي حنيفة، وإن أطال الركوع تقرباً إلى الله تعالى كما شرع فيه تقرباً إلى الله لا ليدرك الجائي الركعة، فيكون الركوع من أوله إلى آخره خالصاً له تعالى، فلا بأس به.(1/360)
ألا ترى أن الإمام يطيل الركعة الأولى في الفجر (56ب1) على الثانية، وإنما يفعل ذلك لإدراك القوم الركعة، فلا يتحقق الإشراك كذا هنا، وعلى هذا يعمل بما نُقل عن أبي مطيع والله أعلم.
ثم يرفع رأسه من الركوع فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون المصلي إماماً أو مقتدياً أو منفرداً.
فإن كان إماماً يقول: سمع الله لمن حمده بالإجماع، وهل يقول ربنا لك الحمد؟ على قول أبي حنيفة: لا يقول وعلى قولهما يقول، حجتهما في ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد» ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، قال فإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد» ، فالنبي عليه السلام قسم هذين الذكرين بين الإمام وبين المقتدي، ومقتضى منطلق الحسن أن لا يشارك أحد.... إن كان قيل كيف؟ لِمَ تقولوا هكذا في حق التأمين، فإن النبي عليه السلام قال: وإذا قال «الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين» ، وبالإجماع إذا لم يقول آمين قلنا لو وظاهر القسمة بأن الإمام لا يقول، إلا أنا تركنا هذا الظاهر بدليل، وهو قوله عليه السلام: «إذا أمّن الإمام فأمِّنوا» ، لا دليل فيما تنازعنا فيه، فيعمل فيه بظاهر القسمة كيف.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام يقول آمين، فإن أخذنا بهذه الرواية يسقط السؤال.
فإن قيل قد ثبت رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن هذه الرواية بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر في صلاة الأصل ثلاث يخفيها الإمام القعود والتشهد وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين، وربنا لك الحمد، وسؤال محمد لا بد أن يكون عن أبي حنيفة.
قلنا: هذا السؤال كما يحتمل أن يكون عن أبي حنيفة، يحتمل أن يكون عن أبي يوسف؛ لأن محمداً قرأ الكتب على أبي يوسف إلا ما فيه اسم الكتب الكبير، فلا يثبت الرجوع عن أبي حنيفة بالشكل، والمعنى في المسألة لأبي حنيفة أن الإمام لو أتى بالتحميد يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وأذكار الصلاة ما ثبتت على هذا، فإن ما(1/361)
يشترك فيه الإمام، والمقتدي إما أن يأتيا به معاً أو يأتي به؟ ... الإمام أو لا، فأما أن يأتي به المقتدي أو فلا أصل له، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني كان شيخنا القاضي الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يميل إلى قولهما، وكان يجمع بين التسميع والتحميد فيمن كان إماماً، والطحاوي كان يختار قولهما أيضاً، وهكذا نقل عن جماعة من المتأخرين بأنهم اختاروا قولهما، وهو قول المدينة لم يذكر الكتاب لفظين ربنا لك الحمد، واللهم ربنا لك الحمد، والثاني أفضل؛ لأن فيه زيادة ثناء، وهذا لفظ آخر لم يذكر محمد في «الكتاب» ، وهو قوله ربنا ولك الحمد، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه لا فرق بين قوله ربنا لك الحمد وبين قوله ربنا ولك الحمد، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده ذكر في بعض الآثار ربنا ولك الحمد اللهم ربنا ولك الحمد، ولا يزيد على هذا شيئاً في ظاهر مذهب أصحابنا، وإن كان مقتدياً يأتي بالتحميد، ولا يأتي بالتسميع بلا خلاف.
وإن كان منفرداً لا شك على قولهما يأتي بالتسميع والتحميد، وأما على قول أبي حنيفة ذكر الطحاوي؛ إذ لا رواية فيه نصّاً عن أبي حنيفة. واختلف مشايخنا فيه، والأصح أنه يأتي بهما.
وفي القدوري: أن عن أبي حنيفة فيه روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما وروى المعلى عن أبي يوسف أنه يأتي بالتحميد لا غير، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بالتسميع لا غير.
قال: والصحيح من مذهبه أنه يأتي بالتحميد لا غير، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله؛ وهذا لأن التسميع حث لمن معه على التحميد، وليس هنا معه أحد ليحثه عليه، فلا معنى للإتيان بالتسميع فيأتي بالتحميد لا غير، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أن المنفرد يأتي بالتسميع باتفاق المرويات، وفي التحميد اختلفت الروايات، والصحيح ما قلنا: أنه يأتي بالتحميد لا غير.
وإذا ركع المقتدي قبل الإمام وأدركه الإمام في الركوع أجزأه، وقال زفر لا يجزيه؛ لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به، والباقي بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد، ولنا أن القدر الذي وجد فيه المشاركة مع الإمام يكفي لجواز الصلاة، فهب أن ما وجد قبله بطل، وصار بمنزلة العدم، فهذا القدر كافي لجواز الصلاة.
يوضحه: إن فعله مع الإمام فقبل القطع عما قبله، فيجعل مقتدياً به لا ثابتاً عليه، فتصح ولكن يكره للمقتدي أن يسبق الإمام، قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» .
وإن رفع رأسه قبل أن يركع الإمام لم يجز الركوع لانعدام المشاركة أصلاً وهي(1/362)
شرط، وهذا كله إذا ركع بعد فراغ الإمام من القراءة، فأما إذا ركع قبل (فراغ) هذا الإمام في القراءة ثم قرأ الإمام وركع والرجل راكع، فقد قال الفقيه أبو محمد أنه لا يجزيه من ركوعه؛ لأنه ركع قبل أوانه باعتبار الإمام وهو تابع الإمام، ولو ركع بعد ما قرأ الإمام ثلاث آيات ثم أتمّ القراءة وأدركه جاز، ولو ركع الإمام بعد قراءة الفاتحة ونسي السورة وركع المقتدي معه ثم عاد الإمام إلى قراءة السورة ثم ركع والمقتدي على ركوعه الأول أجزأه ذلك الركوع، ولو تذكّر الإمام في ركوعه في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة من الركعة الثانية وركع للثالثة، والرجل على حالة ركوع لم يجزء المقتدي ذلك الركوع عن سائل الركوع.
جئنا إلى السجود: قال ثم يخر ساجداً ويكبّر في حالة الخرور وذكر لفظ الخرور في «النوادر» وفي «الأصل» ذكر ثم ينحط ويكبّر، ويسجد مكانه.... لفظة الخرور اتباعاً «للكتاب» ، وإخبار لفظة الانحطاط اتباعاً للسنّة، ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى: ثلاثاً، وذلك أدناه، وإن زاد فهو أفضل والكلام في تسبيحات السجود نظير الكلام في تسبيحات الركوع ثم يرفع رأسه، ويكبّر حتى يطمئن، ثم يكبّر وينحط للسجدة الثانية ويسبح فيها مثل ما يُسبح في السجدة الأولى، وإذا سجد ورفع رأسه قليلاً ثم سجد أخرى إن كان إلى السجود أقرب لا يجزيه عن السجدتين؛ لأنه يعد ساجداً وإن كان إلى الجلوس أقرب يجزيه عن السجدتين، هكذا ذكر في «العيون» ؛ لأنه يعتد بالبناء.
وبعض مشايخنا قالوا؛ إذا أرسل جبهته عن الأرض، ثم أعادها جاز ذلك عن السجدتين، وعن الحسن بن زياد؛ هو قريب من هذا، فإنه قال إذا رفع رأسه بقدر ما يجري فيه الريح يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يكون عنهما ما لم يرفع جبهته مقدار ما يقع عند الناظر أنه رفع رأسه ليسجد أخرى، فإن فعل ذلك جاز عن السجدتين، وإلا يكون عن سجدة واحدة وهو قريب كما ذكر في «العيون» . وفي القدوري بأنه يكتفي بأدنى ما ينطلق عليه اسم الرفع، وقد مرّ شيء من هذا في الفصل الثاني.
وفصل الطمأنينة في الركوع والسجود والفرجة التي بين الركوع والسجود، فالجلسة بين السجدتين مرّ في الفصل الثاني أيضاً، وإذا سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام فيها جاز على قول علمائنا الثلاثة، ولكن يكره للمقتدي أن يقول ذلك، وقال زفر: لا يجوز، والكلام فيه نظير الكلام في الركوع، وإذا سجد قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو سجد للثانية قبل رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، ثم شاركه الإمام فيها، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإذا رفع المقتدي رأسه من السجدة الأولى، فرأى الإمام ساجداً، فظن أنه في السجدة الثانية وهو في السجدة الأولى تفسد، فالمسألة على ستة أوجه:(1/363)
في الجمعة يصير ساجداً السجدة الأولى منها إذا لم ينوِ شيئاً حملاً لأمره على الصواب، وتلو المتابعة.
والثانية: إذا نوى الأولى.
والثالثة: إذا نوى المتابعة.
والرابعة: إذا نوى الأولى والمتابعة، والجواب فيها أظهر.
والخامسة: إذا نوى الثانية والمتابعة؛ لأنه تقع المعارضة بين الثنتين، فصلى كأنه لم ينوِ أو يترجح بما هو الصواب.
والسادسة: إذا نوى الثانية فحسب وههنا يصير ساجداً عن الثانية؛ لأن هذه ثانية باعتبار فعله، فالسنة صادفت محلها، ولم توجد في معارضته نيّة أخرى (57أ1) ثم إذا صار ساجداً عن الثانية، فرفع الإمام رأسه عن السجدة الأولى وأدركه في هذه السجدة قد ذكرنا رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز، وعن محمد روايتان؛ فإن أطال المقتدي السجدة الأولى وسجد الإمام الثانية، ثم رفع المقتدي رأسه، فرأى الإمام ساجداً وظن أنه في السجدة الأولى فسجد فالمسألة أيضاً على ستة أوجه، وفي الوجوه كلها يصير ساجداً عن الثانية، أما إذا لم تحضره النية؛ لأن هذه ثانية باعتبار حاله، وقال الإمام: وأما إذا نوى الثانية أو نوى المتابعة أو نوى المتابعة والثانية فظاهر، وأما إذا نوى المتابعة والأولى فلما ذكرنا، وأما إذا نوى الأولى فحسب؛ لأن النية لم تصادف محلها لا باعتبار حاله ولا باعتبار حال الإمام، فتلغوا والله أعلم.
أجمع أصحابنا رحمهم الله على أن فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة، وإذا لم يكن بالأنف عذر، وهل يتأدى بوضع الأنف؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: يتأدى وإن لم يكن بجبهته عذر، قالا: لا تتأدى إلا إذا كان بجبهته عذر فأبو حنيفة يقول: سجد على بعض ما تعين محلاً للسجدة، فيجوز كما لو سجد على الجبهة لا غير.
بيانه: ما أجمعنا على أنه لو كان بجبهته عذر، فسجد على الأنف لا غير يجوز، ولو لم يكن الأنف مسجداً لما صار مسجداً بالعذر كالخدّ والذقن سئل نصير عمن يضع جبهته على حجر صغير، قال: إذا وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز، وإلا فلا يقبل إن وقع مقدار الأنف على الأرض لم لا يجوز على قول أبي حنيفة قال: لأن الأنف عضو كامل، وهذا القدر من الجبهة ليس بعضو كامل، ولا بأكثره فلا يجوز.
وسئل الفقيه عبد الكريم عمن وضع جبهته على الكف ليسجد قال: لا يجوز، وقال غيره من أصحابنا يجوز كما لو كان منفصلاً عنه، وقال بعضهم: لا يجوز لأن كمه تبع له، واستدل هذا القائل ما ذكر في كتاب الأيمان إذا حلف لا يجلس على الأرض فجلس على زيله يحنث؛ لأن زيله تبع له كذا ها هنا، وإذا سجد على ظهر غيره بسبب الزحام، ذكر في «الأصل» أنه يجوز.
وقال الحسن بن زياد والشافعي: لا يجوز، حجتهما قوله عليه السلام: «تمكن جبهتك من الأرض» .(1/364)
حجتنا حديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «هذا المسجد بناه رسول الله عليه السلام، ويحضر فيه المهاجرون والأنصار فمن وجد فيه موضعاً سجد فيه ومن لم يجد فيه موضعاً سجد على ظهر أخيه» ، فلأن فيه ضرورة؛ لأن الزحام أصل في أداء الصلوات بالجماعات، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إنما يجوز إذا سجد على ظهر المصلي، أما إذا سجد على ظهر غير المصلي لا يجوز؛ لأن الجواز بحكم الضرورة، والضرورة لا تتحقق في حق غير المصلي؛ لأن غير المصلي لا يمكن في المسجد، وذكر المسألة في «العيون» على نحو ما روى الحسن، وذلك مرّ.... ولو سجد على فخذه إن كان بغير عذر، فالمختار أنه لا يجوز؛ لأن الساجد يجب أن يكون غير محل السجود، وإن كان بعذر فالمختار أنه يجوز، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رضي الله عنه.
ولو سجد على ركبتيه لا يجوز بعذر أو بغير عذر، وإذا لم يضع المصلي ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزيه هكذا اختاره الفقيه أبي الليث؛ لأنا أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء، وفتوى مشايخنا على أنه يجوز؛ لأنه لو كان موضع الركبتين نجساً يجوز، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، والفقيه أبي الليث لم يصحح هذه الرواية أنه لو كان موضع الركبتين نجساً أنه يجوز، وإذا بسط كُمه وسجد عليه أن.... يُبقي التراب عن وجهه يكره، ذلك؛ لأن هذا نوع يبقي التراب عن ثيابه ويسجد عليه لا يكره؛ لأن هذا ليس مكره.
وفي أول كراهية «النوازل» : رجل يصلي على الأرض ويسجد على حرفها وضعها بين يديه يبقى به الحر لا بأس به، وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه فعل ذلك، فمرّ به رجل وقال ما يُسبح لا تفعل مثل هذا، فإنه مكروه، فقال له أبو حنيفة: من أين أنت، فقال: من خوارزم، فقال أبو حنيفة: الله أكبر ما التكبير ... من الصف الآخر، ومراده إن علم الشريعة يحمل من ههنا إلى خوارزم، لا من خوارزم إلى ههنا والله أعلم.
ثم قال أبو حنيفة: في مساجدكم حشيش، فقال: نعم، فقال له أبو حنيفة: فيجوز السجدة على الحشيش ولا يجوز على الخرقة وإذا سجد رفع أصابع رجليه على الأرض لا يجوز، كذا ذكر الكرخي في «كتابه» والجصاص في «مختصره» .
وفي «النوازل» : إذا سجد على أرض الثلج إن لبد جاز؛ لأنه بمنزلة الأرض، وإذا لم يلبد وكان تغيّب وجهه فيه، فلا يجد حجمه لم يجز؛ لأنه بمنزلة الساجد على الهواء، وعلى هذا إذا لقي في المسجد حشيش كثير، فسجد عليه إن وجد حجمه يجوز وإلا فلا حجمه وإذا صلى على التبن أو القطن المحلوج، وسجد عليه إن استقر جبهته وأنفه على ذلك ووجد الحجم يجوز وإن لم تستقر جبهته لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول هو في معنى الأرض، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا سجد على ظهر ميت إن كان على الميت لبد، ولا يجد حجم الميت يجوز؛(1/365)
لأنه سجد على اللبد، وإن وجد حجم الميت لا يجوز؛ لأنه سجد على الميت، وإن كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين...... ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أنه إن كان التفاوت بمقدار لبنة أو لبنتين يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز، وأراد باللبة اللبنة المنصوبة دون المفروشة، ثم إذا فرغ من السجدة ينهض على صدور قدميه ولا يقعد. وقال الشافعي؛ يجلس ثم يقوم.
حجتنا ما روى وائل بن حجر أن رسول الله عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود الثاني قام كأنه على الرصيف، أي: على الحجارة المحراة، وفي قوله ينهض على صدور قدميه إشارة إلى أنه لا يعتمد على الأرض بيده عند قيامه، وإنما يعتمد على يديه، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وقال الشافعي: يعتمد بيده على الأرض، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله الخلاف في الأفضل حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي رحمه الله، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا، ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى من القيام والقراءة والركوع والسجود.
وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الثانية يقعد قدر التشهد في ذوات الأربع والثلاث من الفرائض، وهذه القعدة سنّة لو تركها لا تفسد صلاته، ولكن يكره تركها متعمداً وقد مرّ هذا من قبل، وصفة القعدة مرّت من قبل أيضاً، وإذا قعد يضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه.
والتشهد أن يقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى، فإن زاد فصلى على النبي ودعا لنفسه ولوالديه، فإن كان عامداً كان ذلك مكروهاً، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان ساهياً: روي عن أبي حنيفة أنه يلزمه سجدتا السهو، وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يلزمه سجدتا السهو حالاً؛ لأنه لو لزم ذلك لزمه بالصلاة على النبي، وإنه يسبح وأبو حنيفة يقول سجود السهو لا يلزمه بالصلاة على النبي، وإنما تلزمه بتأخير الركن، فإذا فرغ من قراءة التشهد قام.
ولا بأس بأن يعتمد بيده على الأرض، هكذا ذكر الطحاوي، وإذا قام فعل في الشفع الثاني مثل ما فعل في الشفع الأول من القراءة والركوع والسجود، غير أنه في القراءة بالخيار: إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت، وقد ذكرنا هذا في فضل القراءة، وإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة من الشفع الثاني فقعد وهذه القعدة فرض، وقد مرّ هذا فيما تقدم، ويتشهد في هذه القعدة أيضاً، وقراءة التشهد فيها ليست بفرض حتى لو تركها لا تفسد صلاته عندنا، وإن قرأ بعض التشهد وقرأ البعض في ظاهر الرواية تجوز صلاته أيضاً؛ لأنه لو ترك الكل تجوز صلاته، فإذا ترك البعض أولى.
وذكر في بعض الروايات فيما إذا قعد قدر التشهد، وقرأ بعض التشهد اختلاف بين(1/366)
أبي يوسف ومحمد: على قول أبي يوسف تجوز صلاته كما لو ترك الكل، وعلى قول محمد: لا تجوز صلاته؛ لأنه إذا شرع في القراءة افترض عليه الإتمام، فإذا تركها، فقد ترك الفرض فتفسد صلاته، قال: وهو نظير من سلّم (57ب1) ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو ذهب ولم يسجد لها، فصلاته ثابتة، ولو خرّ ساجداً ثم رفع رأسه وذهب، ولم يعد القعدة فسدت صلاته، كذا في مسألتنا.
فإذا فرغ من التشهد يصلي على النبي عليه السلام، ويدعو للمؤمنين وللمؤمنات ولنفسه ولوالديه إن كانا مسلمين هكذا ذكر الطحاوي، ولم يذكر محمد الصلاة على النبي هنا في «الأصل» ، والصحيح ما ذكره الطحاوي ثم يدعو بما شاء مما أشبه ألفاظ القرآن، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، والصلاة على النبي في هذه القعدة ليست من الواجبات، وقال الشافعي هي واجبة هكذا ذكره القدوري.
وقال أبو الحسن الكرخي: الصلاة على النبي واجبة على الإنسان في العمر مرّة، إن شاء فعلها في الصلاة أو في غيرها، وعن الطحاوي: أنه يجب عليه الصلاة كلما ذكر، قال شمس الأئمة السرخسي: وما ذكر الطحاوي مخالف الإجماع فعامة العلماء قالوا: إن الصلاة على النبي كلما ذكر مستحبة، وليست بواجبة. وقال أبو عبد الله الجرجاني: الصلاة على النبي ليست بفرض أصلاً.
بقي الكلام بعد هذا في كيفية الصلاة على النبي، ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج على أهل المدينة أن محمداً سئل عن الصلاة على النبي فقال: على النبي نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وإنه خرج موافقاً لحديث كعب بن عجرة أنه قال: يا رسول الله عرفنا السلام عليك كيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد» إلى آخره كما ذكرنا، وتكلم أصحاب رسول الله عليه السلام في كيفية الصلاة على النبي عليه السلام، وكان ابن عباس وأبو هريرة يصليان عليه على نحو ما بيّنا إلا أنهما كانا يزيدان، وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وحكي عن محمد بن عبد الله: أنه يكره قول المصلي وارحم محمداً وآل محمد وكان يقول هذا نوع ظن بتقصير الإنسان فإن أحداً لا يستحق الرحمة لا بإتيان ما يُلام عليه، ونحن أمرنا بتعظيم الأنبياء وبتوقيرهم، وإذا ذكر النبي لا يقال: رحمه الله، ولكن يصلى عليه وكذا إذا ذكرت الصحابة لا يقال رحمهم الله ولكن يقال رضي الله عنهم هكذا(1/367)
(ذكر) شيخ الإسلام خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي ذكر بأنه لا بأس به؛ لأن الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ولا عيب على من اتبع الأثر، ولأن أحداً لا به يستغني عن رحمة الله.
واختلفت الآثار في قوله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يذكر في بعضها إبراهيم، ولم يذكر آل وذكر في بعضها الآل ولم يذكر نفس إبراهيم، وفي بعضها جمع بينهما، وكان الفقيه أبي جعفر يقول: وأما أنا أقول: وارحم محمداً وآل محمد، واعتمادي عليه للتوارث الذي وجدته في أهل بلدي وبلدان المسلمين، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن رحمه الله يقول: لا بأس به، وكان يقول: معنى قولنا: ارحم محمداً؛ ارحم أُمّة محمد فهو راجع إلى الأمة، هذا كمن حيّ وللجائي أب شيخ كبير، وأراد أن تقيموا العقوبة على الجائي فالناس يقولون للذي بحاجة ارحم هذا الشيخ الكبير، وذلك الرحم راجع إلى الابن الجائي حقيقة، ويكون معناه ارحم هذا الشيخ الكبير بالرحمة على ابنه الجائي، كذا ههنا الرحمة راجعة إلى الأمة، والله أعلم.
وينبغي أن يهتم بالتكبيرات كلها تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع والسجود لحديث إبراهيم النخعي موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «الأذان جزم والتكبير جزم» فلأن أكثر على وزن أفعل، وكل ما كان على هذا الوزن لا يحتمل المد.
واعلم بأن المد في التكبير لا يخلو، إما أن يكون في الله وفي أكبر، فإن كان في الله لا يخلوا إما أن يكون في أوله أو أوسطه أو آخره، فإن كان في أوله كان خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة، وقال بعض مشايخنا يوهم الكفر، وقال الإمام الزاهد الصفار: لا يوهم. فإن كان في أوسطه فهو الصحيح، وهو المختار. وإن في آخره فهو خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة أيضاً.
أما إذا كان المد في أكبر، فإنه تفسد الصلاة سواء كان في أوله أو أوسطه أو آخره، وإذا تعمد ذلك في وسطه يكفر؛ لأن الإكبار اسم الشيطان، وإن لم يتعمد لا يكفر ويستغفر ويتوب، وينبغي أن يقول: الله برفع الهاء ولا يقول بجزم الهاء وفي قوله أكبر هو بالخيار إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم وإن كرر التكبير مراراً ذكر الله بالرفع في كل مرة وذكر أكبر، فيما عدا المرة الأخيرة بالرفع وفي المرة الأخيرة هو بالخيار، إن شاء ذكر بالرفع، وإن شاء ذكره بالجزم.
قال محمد في «الأصل» : ويكون انتهى نظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، لحديث أبي قتادة، أن رسول الله عليه السلام إذا صلى رمى ببصره إلى السماء، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) رمى ببصره إلى موضع سجوده، وقال أبو طلحة لرسول الله عليه السلام حيث نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنون: 1، 2) (فقال كيف) الخشوع: يا رسول الله؟ فقال عليه السلام:(1/368)
«أن يكون منتهى بصر المصلي إلى موضع سجوده» ، قال أبو طلحة؛ ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال إذاً في المكتوبة» ، فهذا يدلك على أن الأمر في التطوع أسهل، ولم يزد محمد على ذكرنا.
وذكر الطحاوي والكرخي: ينبغي أن يكون منتهى بصره في قيامه إلى موضع سجوده، قال الطحاوي: وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي قعوده إلى حجره، وزاد بعضهم: وعند التسليمة الأولى إلى كتفه الأيمن، وعند التسليمة الثانية إلى كتفه الأيسر، ومن الناس من يقول: يكون بصره أمامه، كمن يناجي غيره وهو بين يديه يكون بصره أمامه، وما ذكر الطحاوي بيان الاستحباب لا بيان الوجوب حتى لو نظر في حالة القيام أمامه، وفي حالة الركوع والسجود على الأرض لا بأس به، فلا يأثم إذا أخذ في التشهد، وانتهى إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله، هل يشير بإصبعته السبابة من اليد اليمنى؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في «الأصل» .
وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يشير؛ لأن مبنى الصلاة على السكينة والوقار، ومنهم من قال: يشير، وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثاً عن النبي عليه السلام أنه كان يشير، قال محمد: يصنع بصنع النبي عليه السلام، ثم قال هذا قولي وقول أبي حنيفة.
ثم كيف يصنع عند الإشارة؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بسبابته، وروي ذلك عن النبي عليه السلام، ثم إذا فرغ من التشهد وصلى على النبي دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فسلم بتسليمتين تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن شماله، ويحول في التسليمة الأولى وجهه عن يمينه وفي التسليمة الثانية عن يساره، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام «كان يحول وجهه في التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده الأيمن، وكان يسلم عن شقه الأيسر حتى يرى بياض خده الأيسر» ثم من الناس من يقول في السلام: سلام عليكم ورحمة الله بحذف الألف واللام، وعندنا يقول: السلام بالألف واللام ولا يقول في هذا السلام في آخره وبركاته عندنا.
والسنّة في السلام: أن تكون التسليمة الثانية أخفض من الأولى، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعن محمد في «النوادر» أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية والخروج؛ لأن من يحرم للصلاة، فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه، وعند التحليل كأنه يرجع إليهم فيسلم، فإن سلّم أولاً عن يساره يسلم عن يمينه، ولا يعيد عن يساره، وإذا سلّم تلقاء وجهه يعيد ذلك عن يساره، هكذا روي عن أبي حنيفة، وينوي(1/369)
بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء، وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم، هكذا ذكر محمد في «الكتاب» ، ولم يذكر كيفية النيّة.
واختلف المشايخ فيه منهم من قال في نيّة الحفظة نوى الكرام الكاتبين، وهما ملكان مكرمان مع الآدمي يكون أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، ويكون الآخر عن يساره يكتب السيئات، ومنهم من قال: ينوي جميع من معه من مؤمن الملائكة؛ لأنه اختلف الإحصاء، وعددهم في بعضها إن مع كل مؤمن خمس منهم واحد عن يمينه، وواحد عن يساره، ويكتبان أعماله كما ذكرنا، وواحد أمامه يلقيّه الخيرات، وواحد وراءه يدفع عنه المكاره، وواحد على ناصيته يكتب (58أ1) ما يصلي على النبي، ويلقنه النية ما يصلي عليه، وقال بعضهم: مع كل مؤمن ستون ملكاً، وقال بعضهم مائة وستون.
وفي نية الرجال والنساء واختلاف المشايخ أيضاً، منهم من قال: ينوي من كان معه في الصلاة؛ لأن التسليم خطاب والخطاب للحاضرين، فعلى هذا القول في زماننا لا ينوي النساء، ومنهم من قال: ينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحضر؛ ولأنه لا ... ، وفي الثانية ينوي جميع عباد الله الصالحين؛ لأنه دعى كما في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ينوي جميع عباد الله الصالحين من الملائكة والإِنس. روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قال هذا فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض» ، ولكن هذا القول بخلاف ما روينا عن محمد، فقد روينا عن محمد أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية، وللخروج، ومنهم من قال في التسليمتين جميعاً: ينوي جميع المؤمنين، وإليه أشار الحاكم في «مختصره» ؛ لأن المصلي غيب عن الناس كلهم بالتحريمة لا يكلمونه ولا يكلموهم، فإذا سلّم الناس فكأنه قال..... كواحد منكم في أمور الدنيا فيكلمون، وهذا الذي ذكرنا في حق الإمام، والمقتدي يحتاج إلى نية الإمام مع نية من ذكرنا، فإن كان الإمام في جانب الأيمن نواه فيهم، وإن كان في جانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بجانبه نواه في الجانب الأيمن عند أبي يوسف ترجيحاً لجانب الأيمن، وعند محمد ينويه فيهما الإمكان الجمع عند التعارض ذكر الخلاف على نحو ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام أن على رواية الحسن بن زياد ينويه بالتسليمتين، ولم يذكر قول محمد.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن على رواية الحسن ينويه في الجانب الأيمن، ولم يذكر قول محمد، والمنفرد لا ينوي إلا الحفظة عند بعض المشايخ، فإن غير الحفظة ليسوا بحضور وخطاب غير الحاضر لغو، ومنهم من يقول: ينوي جميع من يتم على يمينه(1/370)
من الرجال والنساء، وجميع من يتم على يساره من الرجال والنساء، ثم قدم الحفظة على بني آدم في الذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» قدم بني آدم على الحفظة في الذكر.
فمن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب بل تقتضي مطلق الجمع، فينويهم من غير ترتيب كما لو سلّم على جماعة فهم الشيوخ والشبان، لا ترتيب في التسليم بل يجمعهم.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ لأن الواو إن كانت لا تقتضي الترتيب إلا أن البداية بالذكر دليل الترجح وزيادة الاهتمام به.
ومنهم من جعل هذه المسألة بناءً على مسألة أخرى أن الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فحين صنف محمد كتاب الصلاة كان من رأيه تفضيل الملائكة، وحين صنف «الجامع الصغير» كان من رأيه تفضيل بني آدم، ولكن مع هذا بعيد لأنهم كانوا قليل الخوض في الكلام، والمذهب الصحيح أن خواصّ البشر أفضل من جملة الملائكة، وخواصّ الملائكة أفضل من أوساط البشر، وأوساط البشر أفضل من أوساط الملائكة، وكأن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يحكي عن استملاء الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه قال: من غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عَقله فهو شرّ من البهيمة، فكأنه أراد به الغلبة من كل وجه حتى يكفر أما المؤمن الفاسق لا يكون شراً من البهيمة.
ثم المقتدي متى يسلّم؟ فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلم مع الإمام فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير، وفي رواية يسلم بعد الإمام فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير.
والفرق: أن في مقارنة التكبير شرعة إلى العبادة فيكون أولى وفي مقارنة التسليم شرعة إلى الخروج عن العبادة، والاشتغال بأمور الدنيا، ولأنه ينقل في حرمة الصلاة حين (من أن) يخرج عن حرمة الصلاة، وعلى قولهما يسلم بعد الإمام كما يكبّر بعد الإمام، وبعض مشايخنا قالوا: عند محمد يسلم مقارناً للإمام.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن عطاء وإبراهيم يقولان: المقتدي بالخيار، إن شاء سلّم بعد فراغ الإمام، وإن شاء سلّم مع الإمام، وقال محمد بن سلمة: إذا سلّم الإمام عن يمينه بعده، وإذا سلّم الإمام عن يساره فيسلم المقتدي بعده عن يساره، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: يسلم المقتدي مع الإمام حتى يصير خارجاً سلام نفسه، فذهب الفقيه أبو جعفر إلى أن المقتدي يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام، فيشترط أن يسلّم مع الإمام، حتى يصير خارجاً بسلام نفسه، فيكون مقيماً السنّة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان: في رواية يصير المقتدي خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وفي رواية لا يصير خارجاً، فمال الفقيه أبو جعفر إلى الرواية التي تصير خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وإضافة لفظة السلام واجبة عندنا، وليست بفرض حتى لو خرج عن الصلاة بكلام أو يُفعل بناءً في الصلاة يجوز، ولا يلزمه الإعادة، وعند الشافعي تلزمه الإعادة.(1/371)
وإذا فرغ الإمام من التسبيحات قبل فراغ المأموم فالمأموم يتابع الإمام، ولا يتم التسبيحات، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، وعلى قياس قول أبي مطيع البلخي يتم التسبيحات؛ لأن التسبيحات عنده فريضة حتى قال بفساد الصلاة بتركها كُلاً أو بعضاً، والاشتغال بإتمام الفرض أولى من الاشتغال بالواجب، فإذا فرغ الإمام من التشهد، والمؤتم لم يفرغ بعد من القعدة الأولى لا يتابع الإمام ما لم يتمم التشهد، وفي القعدة الأخيرة يتابع الإمام ويُسلم معه، والله أعلم.6
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه الإمام بشيء من صلاته، هل يأتي بالثناء؟ فهذا على وجوه:
الأول: إذا أدركه في حالة القيام في الركعة المسبوقة هل يأتي بالثناء إذا فرغ في الصلاة أو في الركعة الثانية؟ وفي هذا الوجه كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن استملاء الشيخ الإمام أنه كان يقول: لا يأتي بالثناء، قال: وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله يأتي، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه إن كانت الصلاة صلاة يخافت فيها بالقراءة يأتي بالثناء لا محالة؛ لأنه لو لم يأته بالثناء إنما لا يأتي، كيلا يفوته الاستماع، فإذا كانت الصلاة مما يخافت فيها بالقراءة لا يلزمه الاستماع والثناء ذكر مقصود بنفسه، فيأتي به.
فإن قيل: بأن كان لا يفوته الاستماع متى يشتغل بالثناء، فإنه يفوت فريضة الإنصات.
قلنا: الإنصات إنما يفرض حالة اشتغال القراءة؛ لأن الاستماع إنما يتحقق بالإنصات، والاستماع فرض فما لا يتحقق الاستماع إلا به يصير فرضاً تبعاً له، فأما في حالة غير الاستماع فالإنصات إنما شرع بنفسه تعظيماً لا من القراءة بقدر الإمكان لا سنّة مقصودة بنفسها، والثناء ذكر مقصود بنفسه فكان مراعاة الثناء أهم من مراعاة الإنصات.
فإن قيل: الإنصات فرض، وإن كان لا يستمع القراءة حتى سقطت عن المقتدى القراءة التي هي ركن في الصلاة لأجل الإنصات.
قلنا: القراءة ما سقطت عن المقتدي لمكان الإنصات، لكن إنما سقطت لأن بقراءة الإمام جُعلت قراءة له متى شارك الإمام في القيام الذي هو محل قراءة الإمام.
ألا ترى أنه متى أدركه في حالة الركوع صار مدركاً معتد بالركعة، وإن لم يوجد منه إنصات لقراءة الإمام؛ لأنه شاركه في القيام، فجعل قراءة الإمام له قراءة لمشاركته في القيام، فأما ثناء الإمام لم يجعل ثناء من المقتدي، فإذا لم يشتغل بالثناء يفوته الثناء أصلاً، وأما إذا كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة إن أدرك الإمام في الركعتين الأخريين، فكذلك الجواب يشتغل بالثناء؛ لأن الإمام يخافت بالقراءة في الأخريين.
وإن كان في الركعتين الأوليين، فقد اختلف فيه المشايخ، منهم من يقول: يشتغل(1/372)
بالثناء، ومنهم من يقول: لا يشتغل بالثناء، بل يستمع القراءة، وإليه كان يميل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل وهو الأصح، ومنهم من يقول: ينتظر مواضع سكتات الإمام ويأتي بالثناء فيما بينهما حرفاً حرفاً، أما من قال بأنه يشتغل بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته بسبب الاشتغال بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته (58ب1) بسبب الاشتغال بالثناء في البعض، والثناء يفوته أصلاً لو لم يشتغل بالثناء، فكان الاشتغال بالثناء أولى، وأما من يقول لا يشتغل بالثناء يقول بأنه لو اشتغل بالثناء، فإنه يفوته الاستماع وأنه فرض مقصود بنفسه، والثناء سُنُّة فكان ترك السنّة أولى من ترك الفرض بخلاف الإنصات؛ لأنه بانفراده ليس بفرض، وإنما يفترض حالة الاستماع.
ألا ترى أن الأمر به على الانفراد لم يرد، وإنما ورد مع الأمر بالاستماع، فيكون فرضاً حالة الاستماع سنّة على الانفراد، وإذا كانت سُنّة في هذه الحالة كان الاشتغال بالثناء أولى من الوجه الذي بيّنا، وأما من يقول يأتي بالثناء في سكتات الإمام ذهب في ذلك إلى أنه يمكنه إقامة هذه السنّة من غير أن يفوته فرض الاستماع بأن يأتي بها في سكتات الإمام، وكان عليه أن يأتي بالثناء في سكتات الإمام، وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر إذا جاء المسبوق إلى الإمام والإمام في الفاتحة في صلاة يجهر فيها بالاتفاق.
وإذا جاء الإمام في السورة في صلاة يجهر بها قال أبو يوسف رحمه الله يثني المسبوق وقال محمد رحمه الله: لا يثني وفي صلاة العيد والجمعة إذا كان المسبوق بعيداً من الإمام لا يسمع قراءته، هل يثني بعد تكبيرة الافتتاح؟ قال الفضلي: لا يثني؛ لأنه على يقين أنه يقرأ فيدخل تحت قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُواْ} (الأعراف: 204) وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل: يثني؛ لأنه لا يسمع فصار كما لو أدرك الإمام في الأوليين في صلاة لا يجهر فيها وهناك يثني، وإن تيقن أن الإمام في القراءة كذا ههنا، هذا الذي ذكرنا: إذا أدرك الإمام في حالة القيام، فأما إذا أدركه في حالة الركوع، وكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً هل يأتي بالثناء قائماً يتحرى فيه؟ إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به قائماً يدرك الإمام في شيء من الركوع، فإنه يأتي به؛ لأن موضع الثناء أدرك الإمام فيه ليس بموضع القراءة للإمام، وإتيان الثناء لا يؤدي إلى تفويت هذه الركعة إذا كان يدركها فقد أمكنه إدراك الأمرين، والجمع بين الأمرين وإحرازهما، فلا تترك واحدة منهما، وإن كان أكثر رأيه أنه لو اشتغل بالثناء لا يدرك الإمام في شيء من الركوع لا يأتي بالثناء، بل يتابع الإمام في الركوع؛ وذلك لأنه لو أتى بالثناء فاتته الركعة مع الإمام، وإدراك الركعة أتمّ من إتيان الثناء.
فإن قيل: الركعة لو فاتته تفوته إلى خلف، فإنه يقضي بعد فراغ الإمام من الصلاة والثناء يفوته أصلاً، فإنه لا يأتي به بعد ذلك.
قلنا: الركعة تفوته إلى خلف إلا أن نية الجماعة في هذه الركعة تفوته أصلاً، ومراعاة سنّة الجماعة أولى من مراعاة سنّة الثناء.
ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في صلاة الفجر، فإن كان أكثر رأيه أنه لا يدرك الإمام في الركعة الثانية، فإنه لا يشتغل بركعتي الفجر، وقد ورد في ركعتي الفجر من ما لم تؤدَ(1/373)
في غيره، ولكن لما كان الاشتغال بركعتي الفجر يؤدي إلى تفويت سنّة الجماعة في الركعة الثانية كان إقامته سنّة الجماعة أولى، فكذلك هنا، فإن أدركه بعدما رفع رأسه من الركوع يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى بالثناء يدرك الإمام في السجدة، وكذا لو أدرك في السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به يدرك الإمام في هذه السجدة.
وكذلك لو أدركه بعدما رفع رأسه من السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه أدرك الإمام في السجدة الثانية ثم يسجد، ولا يأتي بالركوع والسجدتين، ولو أتى بهما تفسد صلاته؛ لأنه صار منفرداً بركعة تامة بعدما شرع في صلاة الإمام، فتفسد صلاته.
وأما إذا أدركه في القعدة الأخيرة، فإنه يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ثم يقعد ويتابعه في التشهد، فلا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد عند بعض المشايخ، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف خواهر زاده؛ لأن الدعاء مشروع في آخر الصلاة، لا في وسطها.
وبعضهم قالوا: لو أتى بها متابعة للإمام، وهكذا رواه أبو عبد الله البلخي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه كان يفتي عبد الله بن الفضل؛ هذا لأن المصلي إنما لا يشتغل بالدعاء في وسط الصلاة لما فيه تأخير الأركان، وهذا المعنى لا يوجد ههنا؛ لأنه لا يأتي بشيء من الأركان قبل سلام الإمام، ثم على قول من لا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم: قال بعضهم: يكرر التشهد، وقال بعضهم: يصلي على النبي عليه السلام، وقال بعضهم يأتي بالدعوات التي في القرآن {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} (البقرة: 286) وقال بعضهم: يسكت، وقال بعضهم: هو بالخيار إن شاء أتى بالدعوات المذكورة في القرآن، وإن شاء صلى على النبي عليه السلام.
ولا ينبغي للمسبوق أن يقوم إلى قضاء ما سُبقَ به قبل سلام الإمام، فإن قام قبل أن يفرغ الإمام من التشهد، فالمسألة على وجوه: إما أن يكون مسبوقاً بركعة أو ركعتين أو ثلاث، فإن كان مسبوقاً بركعة، فإن وقع من قراءته بعد فراغه من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته لو مضى على ذلك، وإن لم تقع من قراءته ذلك المقدار بعدما فرغ الإمام من التشهد لا تجوز صلاته، لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لم يَقع معتبراً، فإذا مضى على ذلك فقد ترك من صلاته ركعة، فلا يجوز، وكذلك لو كان مسبوقاً بركعتين؛ لأنه ترك القراءة في أحديهما، ولو كان مسبوقاً بثلاث كان عليه فرض القراءة في ركعتين وفرض القيام في ركعة، فينظر إن كان قام بعد فراغ الإمام من التشهد أدى قومة، وقرأ في الأخريين ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإن ركع في الأولى قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك فسدت صلاته.(1/374)
وفي «الأصل» : إذا افتتح الصلاة، وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه، وقرأ وركع، فالمعتبر هنا الركوع الثاني، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة، فمتى أتى بها ومحل القراءة قبل الركوع يرتفض الركوع الأول تقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم تتم القراءة وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة ولم يقرأ الفاتحة وركع ثم رفع رأسه وأتم القراءة وركع كان المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة، ولم يأت به فكان مأموراً بالإتيان به، وإذا أتى به ومحل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بُدّ وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محله، فأما إذا أتم القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وقرأ، ذكر في باب الحدث: أن المعتبر هو الركوع الأول حتى لو جاء إنسان واقتدى به في الركوع الثاني لا يصير مدركاً للركعة؛ لأن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة فوقع مقتدياً به فلا يصح الثاني، حتى لا يصير تكراراً؛ لأنه لا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.
وذكر في باب السهو: أن المعتبر هو الركوع الثاني.
ووجه ذلك: أن الركوعين جميعاً وُجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية إن لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع إنما يعتبر باتصال السجود به فكان العبرة للركوع الثاني فلو أن هذا الإمام ركع ولم يقرأ فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ السورة وركع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ الرجل الخليفة السورة وركع فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة.
وكذلك لو قرأ الأول السورة ولم يقرأ الفاتحة وباقي المسألة بحالها يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ بهما الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى به فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث يصير مدركاً للركعة، والمعنى في ذلك أن الخليفة قام مقام الأول فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل فكذا في حق الخليفة والله أعلم.
فرعفي بيان ما يكره للمصلي أن يفعل في صلاته وما لا يكره للمصلي
(يكره) أن يغطي فمه في الصلاة لما روى أبو هريرة أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يغطي المصلي فاه في الصلاة» ، وهذا الذي ذكرنا في غير (59أ1) حالة العذر بأن(1/375)
غلبه التثاؤب، فلا بأس (بأن) يضع يده على فمه قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم فليغطّ فاه فإن الشيطان يدخل فاه» أو قال فيه أو قال فمه.
ويكره أن يصلي معتجراً لنهي النبي عليه السلام عن ذلك، وتكلموا في تفسير الاعتجار: قال بعضهم: أن يشد العمامة حول رأسه بالمنديل ويبدي هامته كما يفعله الشطارون، وقال بعضهم: أن يشد بعض العمامة على رأسه واليدين على بدنه، وعن محمد أنه قال: لا يكون الاعتجار إلا مع منتعب وهو أن يلف العمامة على رأسه، ويجعل طرفاً منه شبه المعتجر للنساء يلف حول وجهه، وإنه مكروه لما فيه من تغطية الفم والأنف ويكره أن يصلي وهو عاقص.... شعره لحديث أبي رافع أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والعقص هو الإحكام والشد والمراد من المسألة أن يجمع شعره على هامِتِهِ ويشده بشمع أو غيره ... عند بعض المشايخ، وعند بعضهم أن يلف ذوائبه حول رأسه كما تفعله النساء في بعض الأوقات وعند بعضهم أن يجمع الشعر كلّه من قبل القفار يحيط وخرقه كيلا يصيب الأرض إذا سجد، ويكره أن يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه إذا انحط للسجود. وإذا قام رفع يديه قبل ركبتيه، ويجوز أن يفعل خلافه حالة العذر، والأصل فيه ما روى وائل بن حجر أن النبي عليه السلام «كان يضع ركبتيه قبل يديه» ، وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام «نهى أن يبرك المصلي بروك الإبل» ، وفي رواية بروك الجمل، وقال ليضع ركبتيه قبل يديه.
ويكره أن ينقر نقر الديك، وأن يقعي إقعاء الكلب، وتفسيره: أن يضع أليتيه على الأرض وينصب فخذيه، وقيل: تفسيره: أن يضع أليته على الأرض وينصب يديه أمامه نصباً، وأن يفترش ذراعيه افتراش الثعلب، لحديث أبي هريرة قال: «نهاني خليلي عن ثلاثة أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش إفتراش الثعلب.
ويكره أن يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع لحديث جابر بن سمرة قال كنا نرفع أيدينا عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع. فخرج النبي صلى الله عليه وسلّموقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة» .
ويكره السدل في الصلاة لنهي النبي عليه السلام عن ذلك.(1/376)
قال في «الأصل» وتفسيره: أن يضع ثوبه على كتفيه ويرسل طرفيه، وفي القدوري يقول في تفسيره أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه، ومن صلى في فناء أو في مطرف أو في....... ينبغي أن يدخل يديه في كميه ويشد القباء بالمنطقة احترازاً عن السَّدل، وعن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول إذا صلى مع القباء وهو غير مشدود الوسط، فهو سيء وكان يقول كان فقيهاً يقول يخاف أن يدخل في الكراهة ويكره لبسه ... ، وذلك أن يجمع طرفي ثوبه، ويخرجهما تحت إحدى ثوبيه ويضعهما على كتفه الأخرى إذا لم يكن عليه سراويل.
وكذلك يكره له أن يضع ثوبه على رأسه ويلف به جميع بدنه بحيث لا يبقى له فُرْجَه؛ لأن فيه تغطية الفم، وإنها مكروهة، وكذلك يكره أن يلف ... أو يرفعها لئلا؛ لأن فيه نوع تجبر، ويكره للمصلى ما هو من أخلاق الجبابرة، وكذلك تكره الصلاة في إزارٍ واحد بخلاف الصلاة في ثوب واحد متوشحاً به. وقدمت المسألة من قبل، وتكره الصلاة حاسراً رأسه تكاسلاً، ولا بأس إذا فعله تذللاً خشوعاً بل هو حسن، هكذا حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله.
قال نجم الدين في «كتاب الخصائل» : قلت لشيخ الإسلام: إن محمداً يقول في «الكتاب» لا بأس بأن يصلي في ثوب واحد متوشحاً به، وقال: مراد محمد أن يكون ثوباً طويلاً يتوشح به فيجعل بعضه على رأسه وبعضه على منكبيه، وعلى كل موضع من بدنه أما ليس فيه تنصيص على إعراء الرأس والمنكبين، وقد روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة، وكذلك يتكره الصلاة في ثياب البذلة روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً فعل ذلك، فقال: أرأيت لو كنت أرسلتك إلى بعض الناس أكنت تمر في ثيابك هذه، فقال: لا، فقال عمر: الله أحق أن تتزين له، وكذلك تكره الصلاة في ثوب فيه تصاوير.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب، قميص وإزار وعمامة.
والمستحبُّ للمرأة أن تصلي في قميص وخمار ومقنعة، ولا يرفع رأسه، ولا يطأطئه ولا يعبث بشيء من جسده أو ثيابه. قال عليه السلام: «إن الله تعالى كره لكم ثلاثاً العبث في الصلاة والرفث في الصوم والضحك في المقابر» ولا يفرقع أصابعه، قال عليه السلام لعليّ «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي» .
ولا يُشبك بين أصابعه، ولا يجعل يده على خاصرته. قيل: أنه استراحة أهل النار، ولا يقلب الحصى إلا أن لا يمكنه من السجود فيسوي موضع سجوده مرة أو مرتين، فلا بأس به.(1/377)
ويكره مسح جبهته من التراب أثناء الصلاة وقد مرت المسألة من قبل. ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة، وكذلك عد السور يريد بالأصابع، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس به.
وجه قولهما: أن المصلي قد يضطر إلى هذا لمراعاة سنّة القراءة، والصلاة والعمل بما جاءت به السنّة في صلاة التسابيح ونحوها، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا عمل ليس من أعمال الصلاة ولا حاجة إليه لمراعاة سنّة القراءة؛ لأنه يمكنه أن ينظر فيما يريد أن يقرأ قبل الشروع في الصلاة، ولو احتاج إليها كما في صلاة التسابيح عدّها إشارة أو فلا حاجة إلى العد بأصابعه، ثم من مشايخنا من قال لا خلاف في التطوع أنه لا يكره ذلك، وإنما الخلاف في المكتوبة، ومنهم من قال: لا خلاف في المكتوبة أنه يكره ذلك، وإنما الخلاف في النوافل. قال الفقيه أبو جعفر؛ وجدت رواية عن أصحابنا أنه يكره فيهما.
وفي «نوادر المعلّى» عن أبي يوسف؛ لا أرى بعدّ الآي في المكتوبة ... ولا في التطوع، قال: وأراد بهذا العدّ العدّ بالقلب دون اللسان.
المصلي إذا مرّ بآية فيها ذكر النار أو ذكر الموت فوقف عندها وتعوِّذ من النار واستغفر، أو مر بآية فيها ذكر الرحمة فوقف عندها، وسأل الله تعالى الرحمة فهنا ثلاث مسائل.
مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن لحديث حذيفة، قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف؛ وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر» ، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده فكان محدثاً وشر الأمور محدثاتها.
ومسألة في الإمام: والجواب فيها أنه لا يفعل ذلك في التطوع والفرض؛ لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله عليه السلام ولا عن الأئمة العابدين بعده؛ ولأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وأنه مكروه.
ومسألة في المقتدي: والجواب فيها أنه يستمع وينصت ولا يشتغل بالدعاء. قال الله تعالى {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) أمر بالإنصات والاستماع والأمر للوجوب والدعاء يُخلّ بالاستماع والإنصات فيخلّ بالواجب فلا يجوز، وعن هذا سقطت القراءة عن المقتدي، وعن هذا قال بعض مشايخنا: تكره قراءة القرآن جملة.
ويكره له أن ينظر إلى السماء، وقد كان رسول الله عليه السلام يفضل ذلك ندباً،(1/378)
فنزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنوه: 1، 2) يومي ببصره إلى الأرض ولا يلتفت يميناً وشمالاً. قال عليه السلام: «لو علم المصلي من يناجي ما التفت» . ومراده من المسألة؛ إذا حول بعض وجهه عن القبلة، فإما أن ينظر بموفق عينيه ولا يحول بعض وجهه لا يكره، ويكره أن يسجد على كور عمامته، ويكره له التنحنح قصداً يعني عن اختيار إذا كان صوتاً لا حروف إلا أنه إذا صار له حروفاً كان في كونه مفسداً اختلافاً لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما السعال الذي هو مدفوع إليه فلا يكره، ويكره التنخم قصداً، ولا يصلي، وفي..... ولا يمنعه (59ب1) عن القراءة وإنْ منعه عن القراءة لم تجز الصلاة، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في موضع آخر إن منعه عن أداء الحروف أفسد الصلاة، وإن لم يمنعه عن عين القراءة وإنما يمنعه عن سنّة القراءة لا تفسد صلاته، ولكن يكره ذلك، وإن لم يمنعه عن شيء فلا بأس به.
ويكره النفخ في الصلاة ومراده نفخ لا يسمع؛ لأن في كون النفخ المسموع كلام يأتي بعد هذا في فصل المفسدات.d
ويكره له أن يبتلع ما بين أسنانه إذا كان قليلاً، ويكره الجهر بالتسمية في صلاة الجهر، والجهر بالتأمين، وكذا يكره له إتمام القراءة في الركوع، وكذا يكره تحصل الأركان المشروعة في الإساءات بعد تمام الانتقال، وفيه ... لأن تركها في موضعه وتحصيلها في غير موضعه.
ويكره الاتكاء على البناء، ونحوه من غير عذر في الفرائض؛ لأنه يخل بالقيام ويزيل اليد إليه عن موضع السنّة في الوضع، ويكره ذلك في التطوع، هكذا قيل، وقيل: يكره ذلك في التطوع أيضاً، وكذا يكره إمساك شيء من ثوب أو دراهم بيده؛ لأنه يشغله عن الصلاة ويمنعه عن وضع اليد موضع السنّة، فإن كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يمنعه عن وضع اليد على موضع السنّة، فلا بأس به، وكذا يكره حمل الصبي في حالة الصلاة؛ لأنه يشغله عن الصلاة، ويكره أن يخطو خطوات من غير عذر ووقف بعد كل خطوة لأنه لو والاها قطعت الصلاة على ما يأتي بيانه بعد هذا، وإن كان بعذر لا يكره.
ويكره التمايل على يمناه مرة وعلى يسراه أخرى، فقد صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام: يقول: «إذا صلى أحدكم فليسكت أطرافه ولا يتمايل تمايل اليهود» ، ويكره التربع من غير عذر، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنه نهى ابنه عن ذلك، فقال له ابنه إنك تفعل هكذا فقال له عمر إن رجلاي لا تحملاني اعتذر بالضعف.(1/379)
ولا بأس بقتل العقرب والحية في الصلاة بعد الأعذار الخمسة وغير الخمسة في ذلك على السواء، قالوا: هذا إذا لم يحتج إلى المشي والمعالجة، فأما إذا احتاج إلى المشي والمعالجة، تفسد صلاته، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا في فصل المفسدات.
وإن وجد قملة في الصلاة كره له أن يقتلها، لكن يدفنها تحت الحصا، وهذا قول أبي حنيفة وروي عنه أيضاً، لو أخذ قملة أو برغوثاً وقتله أو دفنه، فقد أساء، وعن محمد أنه يقتلها وقتلها أحب إليّ من دفنها، وأي ذلك فعل فلا بأس به، وقال أبو يوسف يكره قتلها ودفنها في الصلاة، ويكره أن يتوق في الصلاة وكذا يكره ترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أن لا يقيم صلبة، ولا بأس بالصلاة على الطنافس واللبود وسائر الفرش والصلاة على الأرض، وعلى ما ... الأرض أفضل، ويكره أن يطول الركعة الأولى في التطوع، ويكره تطويل الثانية على الأولى في جميع الصلوات ويكره نزع القميص والقلنسوة ولبسهما وخلع الخف لعمل يسير.
ويكره أن يشم طيباً أو ريحاناً وأن يرّوح بثوبه أو عرقه مرة أو مرتين ولا تفسد صلاته وكثير من مسائل هذا الفصل تأتي في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى.
ومما يتصل بهذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد ورأسه في السجود في الطاق، ويكره أن يقوم في الطاق.
أما إذا قام في الطاق، فيكره إما؛ لأنه خص لنفسه مكاناً، وذلك مكروه لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قام بالمدائن على الدكان يصلي بأصحابه، فجذبه حذيفة فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: أما علمت أن رسول الله عليه السلام كان ينهى عن ذلك فقال عمار: لقد تذكرت ذلك حين مددتني معنى وهو أن هذا بسبب بأهل الكتاب والتشبه بهم مكروه؛ وأما لأنه إذا قام في الطاق يشتبه على القوم حاله وإنما قدم الإمام على القوم حتى يظهر لهم حاله ولا يشتبه فما يوجب اشتباه حال الإمام عليهم يكون مكروهاً وإن كان المحراب مشبكاً وقام الإمام في الطاق هل يكره على أحد الطريقين، وهو طريق تخصيص المكان وعلى الطريق الآخر وهو طريق الاشتباه حال الإمام لا يكره.
ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر العدم في هذه المسألة فجعل الإمام كالخارج عن الطاق إذا كان قدماه خارج الطاق، وإن كان رأسه عند السجود في الطاق، وأنه يوافق أصول أصحابنا رحمهم الله، فإنهم قالوا فيمن حلف لا يدخل دار فلان فأدخل رجليه في دار فلان يحنث في يمينه، وإن كان جميع أعضائه خارج الدار.(1/380)
ولو أدخل جميع أعضائه في دار فلان ورجلاه خارج الدار لا يحنث، فكذا الصيد إذا كان قدماه في الحرم ورأسه خارج الحرم كان صيد الحرم، ولو كان على العكس لا يكون صيد الحرم، وكذلك المصلي إذا كان قدماه على مكان نجس لا تجوز صلاته، ولو كان قدماه على مكان طاهر وركبتاه ويداه على مكان نجس يجوز.
وكذلك قالوا في المأموم إذا كان أطول من الإمام وصلى بجنبه وهو بحال لو سجد يقع رأسه قبل رأس الإمام فصلاته جائزة، فقد اعتبروا العدم في هذه المسائل فكذا في مسألة «الكتاب» .
ونظير مسألة «الكتاب» : ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» إذا كان الإمام على الدكان والقوم على الأرض أو كان الإمام على الأرض والقوم على الدكان، ففي الفصل الأول يكره رواية واحدة وفي الفصل الثاني روايتان في رواية «الأصل» يكره، وذكر الطحاوي في «مختصره» أنه لا يكره فقال بعض مشايخنا رحمهم الله: وإنما يكره.
أن يكون الإمام وحده على الدكان أو وجد على الأرض، أما إذا كان بعض القوم مع الإمام فلا بأس، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فيما إذا كان القوم على الدكان إنما يكره على رواية «الأصل» إذا لم يكن للقوم فيه عذر أما عند العذر، فلا يكره كما في الجمعة، فإن القوم يقومون على الرفوف والإمام على الأرض ولم ينكر عليهم أحد من الأئمة لضيق المكان.
وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نظير هذا، فإنه كان يقول: الصلاة على الرفوف في المسجد الجامع من غير ضرورة مكروه وعند الضرورة بأن امتلأ المسجد، ولم يجد موضعاً يصلي فيه فلا بأس به، وهكذا حكي عن الفقيه أبي الليث رحمه الله في مسألة الطاق، فإنه كان يقول: إذا تحققت الضرورة بأن ضاق المسجد على القوم، والإمام يقوم في الطاق لا يكره، ولم يذكر محمد في «الأصل» الدكان تقديراً، وذكر شيخ الإسلام عن الطحاوي أنه قال: إن كان دون قامة الرجل لا يكره....، وإن كان مثل قامة الرجل إن كان الإمام على الدكان يكره رواية واحدة، وإن كان القوم على الدكان ففيه روايتان على ما مرّ.
قال رحمه الله: وهكذا روي عن أبي يوسف أنه قدّر الدكان بهذا، وذكر شمس الأئمة الحلواني عن الطحاوي قال رحمه الله: إن الكراهة فيما إذا جاوزت الدكان قدر القامة الوسط وإن كان دون ذلك لا يكره، قال رحمه الله: وقد قال بعض مشايخنا: إذا كان قدر ذراع يكره وإن كان دون ذلك لا يكره.
ويكره للمقتدي إذا كان وحده أن يقوم على يسار الإمام وخلفه، فإن السنّة أن يقوم على يمينه وكذا يكره للمنفرد أن يصلي أن بقوم في خلال صفوف الجماعة فخالفهم في القيام والقعود وكذا يكره للمقتدي أن يقوم خلف الصفوف وحده إذا وجد فرجة في(1/381)
الصفوف، وإن لم يجد فرجة في الصفوف، روى محمد بن شجاع والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يكره فإن جر أحداً من الصف إلى نفسه وقام معه، فذلك أولى، وتكره الصلاة في طرق العامة، وكذا تكره الصلاة في الصحراء من غير سترة، ومقدار السترة تأتي بعد هذا في فصل على حِدَة.
ويكره للرجل أن يأم قوماً هم له كارهون، وكذا يكره له أن يتنقل على قولهم بالتطويل وكذا يكره له أن يخفف عليهم على وجهٍ يعجلهم عن إكمال سننهما، وكذا يكره له أن (يحيج) القوم إلى الفتح عليه، ويقرأها ... فيه بأن عرض له شيء انتقل إلى غيره أو ركع إن قرأها تكفيه، وكذا يكره له أن يمكث في مكانه بعدما سلم طويلاً. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان لا يمكث في مكان صلاته (60أ1) بعدما سلم. ممقدار أن يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والكرام» ، فبعد ذلك ينظر إن كان في صلاة يتنقل بعدها يباشر وينتقل وإن كان في صلاة لا يتنفل بعدها انحرف واستقبل القوم إن لم يخلو من يصلي، فإنه لو حادى من يصلي يكره ذلك. والأصل فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً يصلي وآخر يواجهه فعلاهما بالدرة. والأولى للقوم أن ينحرفوا عن أمكنتهم، فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: «أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر» والله أعلم.
فصل: في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد
يجب أن يعلم بأن ما يفسد الصلاة نوعان: قول وفعل.
فنبدأ بالقول، فنقول: إذا تكلم في صلاته ناسياً أو عامداً أو خطأً أو قاصداً قليلاً أو كثيراً تكلم لإصلاح صلاته بأن قام الإمام في موضع بالقعود، فقال اقعد أو قعد والإمام في موضع القيام، فقال له، المقتدي، قم أولاً لإصلاح صلاته ويكون الكلام من كلام الناس استقبل الصلاة عندنا لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» وهذا قد تكلم فلا شيء في ظاهر هذا الحديث.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قدم من الحبشة فوجد رسول الله عليه السلام في الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه الصلاة والسلام فقال ابن مسعود فأخذني ما قرب وما بعد. فلما فرغ عليه الصلاة والسلام قال لي: «يا ابن مسعود إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن من جملة ما أحدث أن لا يتكلم في صلاتنا، وهذا إذا(1/382)
تكلم على وجه يسمع منه، فأما إذا تكلم على وجه لا يسمع منه إن كان بحيث يسمع نفسه تفسد صلاته، وإن كان بحيث لا يسمع نفسه إن لم يصحح الحروف لا يضره، وإن صحح الحروف.
حكي عن الكرخي: أنه تفسد صلاته، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته، والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف فيما إذا قرأ في صلاته ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته؟.
وفي «النوازل» إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار؛ لأن الكلام قاطع للصلاة مطلقاً. قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» .
وإذا عطس رجل فقال له رجل في الصلاة: يرحمك الله فسدت صلاته، ذكر المسألة في «الجامع الصغير» من غير ذكر خلاف، وذكر في موضع آخر، وقال أبو يوسف: لا تفسد صلاته، وجه قول أبي يوسف: أنه لم يدخل في الصلاة ما ليس منها، لأنه دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا مما يوجد في الصلاة.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد: حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: «قدمت من الحبشة فعطس رجل بجنبي في الصلاة فقلت يرحمك الله فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «إن صلاتنا هذه لا تصلح لكلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» .
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا عطس الرجل فقال رجل في الصلاة الحمد لله لا تفسد صلاته، وإن أراد به الجواب؛ لأن جواب غير العاطس للعاطس ليس هو التحميد فلم يأتِ بما يصير به مجيباً للعاطس فلم يكن جواباً.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا عطس الرجل في الصلاة حمد الله تعالى، فإن كان وجد ما يباشر به وحرك لسانه وإن شاء أعلن وإن كان خلف إمام أسر به وحرك لسانه، وقال أبو يوسف بعد ذلك: إن كان يصلي وحده أو خلف الإمام فعطس فليحمد الله في نفسه ولا يتكلم فيه، وقال أبو حنيفة: يصمت، وعن أبي حنيفة في العاطس يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك لسانه فلو حرك تفسد صلاته، وعن بعض المشايخ: إن المصلي إذا عطس وقال لنفسه يرحمك الله يعني لا تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بكلام؛ لأن الإنسان لا يتكلم مع نفسه فصار كأنه قال: يرحمني الله أو قال الحمد لله، وهناك لا تفسد صلاته كذا ههنا، ولو عطس رجل في الصلاة فقال له رجل في الصلاة يرحمك الله، فقال العاطس آمين فسدت صلاته؛ لأنه إجابة.(1/383)
وإذا أخبر المصلي بخبر يسوؤه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأراد جوابه بأن قال له: مات أبوك أو قيل له ماتت أمك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا يقطع الصلاة، وإن لم يرد جوابه لا تقطع الصلاة وذكر المسألة من غير ذلك وخلاف.
ولو أخبر بخبر يسوؤه بأن قيل له قدم أبوك، فقال: الحمد لله وأراد جوابه قطع الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تقطع، وعلى الاختلاف إذا أُخبر بما يعجبه فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله وأراد جوابه فمن مشايخنا من قال مسألة الاسترجاع على الخلاف أيضاً، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بين مسألة الاسترجاع وبين تباين المسألتين.
ومنهم من قال: مسألة الاسترجاع على الوفاق وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف، والفرق له أن الاسترجاع لإظهار المصيبة الصلاة لأجله، والتحميد لإظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله، ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الجواب منتظم الكلام فيصير كأنه قال: الحمد لله على قدوم أبي وأشباه ذلك، ولو صرح بذلك أليس إنه تفسد صلاته كذا ههنا، أو يقول: الكلام ينبني على قصد المتكلم، فمتى قصد بما قال المتعجب يجعل متعجباً لا مُسبِّحاً كأنه قال: سبحان الله على قصد التعجب كان متعجباً لا مسبحاً.
ألا ترى أن من رأى رجلاً اسمه يحيى وبين يديه كتاب موضوع قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد خطابه لا يشكل على أَحَدٍ أنه متكلم وليس بقارىء، وكذا إذا كان الرجل في سفينة؛ لأنه خارج السفينة قال يا بني إركب معنا وأراد خطابه يُجعل متكلماً لا قارئاً وكذا إذا كان تحت المصلي رجل اسمه موسى وفي يديه عصا قال: وما تلك بيمينك يا موسى وأراد خطابه يجعل متكلماً لا قارئاً.
وكذلك لو قال رجل للمصلي بأي موضع مررت فقال بئر معطلة وقصر مشيد وأراد جوابه يجعل متكلماً لا قارئاً.
وكذلك إذا أنشد شعراً فيه ذكر الله تعالى نحو قوله: تبارك ذو العلى والكبر ... يجعل متكلماً حتى تفسد صلاته في هذه الوجوه كذا في مسألتنا، وكذلك إذا قرع الباب على المصلي ونوى من الخارج فقال: ومن دخله كان آمناً وأراد به الجواب والإذن بالدخول تفسد صلاته، وإن أراد قراءة القرآن في هذه السور كلها لا تفسد صلاته، وفي القدوري يقول: وإذا عرض للمصلي شيء في صلاته فذكر الله تعالى يريد به خطاب الغير نحو أن يزجره عن فعل أو أَمَرهُ به فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا تفسد صلاته.
وإن عرض للإمام فسبح له، فلا بأس به، وكذا إذا سبح يَعْلَمُ غيره أنه في الصلاة لا تفسد صلاته، ولا يسبح الإمام إذا قام للأخريين، وإذا دعا في صلاته فسأل الله تعالى(1/384)
الرزق والعافية لا تفسد صلاته، واعلم بأن الدعاء في الصلاة مندوب إليه، قال عليه السلام: «وأما في سجودك فاجتهد في الدعاء، فإنه أرجى أن يستجاب لك بعدها» .
قال في «الأصل» إذا دعا بما يشبه في القرآن ولا يشبه كلام الناس لا تفسد صلاته؛ لأنه ذِكْرٌ وذكر الله تعالى لا يكون مفسداً للصلاة، وإن دعا بما يشبه كلام الناس تفسد صلاته لحديث معاوية بن الحكم السلمي أنه أجاب العاطس في الصلاة وقال: يرحمك الله، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاته قال لمعاوية؛ «إن صلاتنا هذه لا تصلح لشيء من كلام الناس إنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» فقد جعل رسول الله عليه السلام قوله يرحمك الله من كلام الناس.
والفرق فيما يشبه ما في القرآن وبين ما يشبه كلام الناس أن كل ما يسأل به الله تعالى ولا يسأل به غيره فهذا مما يشبه ما في القرآن، وذلك نحو قوله: اللهم اغفر لي، اللهم أدخلني الجنة؛ لأنّ المغفرة والإدخال في الجنة لا يسأل إلا من الله تعالى، وكل ما يسأل به الله تعالى ويسأل به غيره فهذا من جملة ما يشبه كلام الناس فيفسد الصلاة، وذلك نحو قوله: اللهم زوجني فلانة، اللهم اكسُني ثوباً، اللهم اقضِ ديني؛ لأن هذا كما يسأل به من الله تعالى لا يُسأل به مَنْ غيره يقول الرجل لغيره: زوجني ابنتك، اكسني ثوبك، اقضِ ديني، والذي يؤيد ما قلنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (60ب1) أنه قال لرسول الله عليه السلام: «علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي فقال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .
وذكر في «الجامع الصغير» : ادع في الصلاة بكل شيء في القرآن وبنحوه، نُقل عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فإنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا المصلي بذلك الدعاء لا تفسد صلاته، وكان يقول: إذا قال: اللهم اغفر لوالدي لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن، وكذلك إذا قال: اللهم اغفر لأبي، ولو قال: اللهم اغفر لأخي تفسد صلاته، ولو قال: اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن ولو قال: اللهم إغفر لزيد أو قال لعمرو تفسد صلاته؛ لأنه ليس في القرآن ولو قال اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد صلاته؛ لأن عينه في القرآن، ولو قال: اللهم ارزقني بقلاً وقثّاء وعدساً وبصلاً؛ لأن عين هذا اللفظ ليس في القرآن.
وقول محمد في «الأصل» : إذا دعا بما يشبه ما في القرآن لم يرد به حقيقة..؛ لأن(1/385)
الدعاء كلام العباد. والقرآن كلام الله وكلام العباد لا يشبه كلام الله، ولكن أراد به إذا دعا بدعوات يكون معناها الدعوات المذكورة في القرآن، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه إذا دعا بالدعوات التي ذكرها محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: اللهم أكرمني، اللهم أنعِم عليّ، اللهم عافني من النار، اللهم أصلح أمري، اللهم سددني ووفقني، اللهم اصرف عني شَرَّ كل ذي شر، أعوذ بالله من شر الجن والإنس، اللهم ارزقني حج بيتك وجهاداً في سبيلك، اللهم استعملني في طاعتك وطاعة رسولك، اللهم اجعلنا عابدين حامدين شاكرين، اللهم ارزقنا وأنت خير الرازقين فهذا كلّه حسن ولا يقطع الصلاة.
وإذا نفخ التراب من موضع سجوده فعلى وجهين:
إن كان نفخاً لا يسمع لا تفسد صلاته؛ لأن هذا نَفَسٌ لا بُدّ للحي منه. وإن كان نفخاً يسمع تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، فظن مشايخنا أن النفخ المسموع ما يكون له حروفاً مهجأة نحو قوله أف تف ثف وغير المسموع ما لا يكون له حروفاً مهجأة وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وبعض مشايخنا لم يشترط، والنفخ المسموع أن يكون له حروفاً مهجأة وإليه ذهب شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.
ووجه ذلك: أن الكلام ما يكون له حروفاً مهجأة بصوت مسموع فالصوت: شطر الكلام كالحروف من حيث إنه لا يحصل الإفهام إلا بهما، ثم إقامة الحروف باللسان بدون الصوت مفسد فكذا الصوت المسموع الخارج من مخرج الكلام يجب أن يكون مفسداً، أو كأنه قال إلى قول الكرخي فيما إذا صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: لا تفسد صلاته إلا إذا أراد به التأفيف يريد به لغة العرب أُفْ كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) وقال القائل: إذا..... إن.... مالت الريح هكذا، وكذا مال مع الريح إن مالت فأما إذا أراد.... موضع سجوده عن التراب لا يقطع صلاته ثم رجع وقال لا تفسد صلاته. وإن أراد به التأفيف لغة العرب.
ووجه هذا القول ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في صلاة الكسوف «أف أف ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم» وتقدم وتأخر ومضى على صلاته وقاسه بالتنحنح والعطاس، فإنه لا يقطع الصلاة، وإن كان مسموعاً وله حروف مهجأة، حجة أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام مرّ بمولى يقال له رباح وهو ينفخ التراب، فقال: أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلّم.
فلأن قوله أف من جنس كلام الناس؛ لأنها حروف مهجأة تذكر لمقصود.(1/386)
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) والكلام قاطع للصلاة. قال الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله ذكر النفخ في «الكتاب» ولم يذكر تفسيره، قال رحمه الله: وتفسير أف توقف.
والعطاس لا يقطع الصلاة على كل؛ لأنه مما لا يمكن دفعة عنه، فكان عفواً، والتنحنح إن كان مدفوعاً إليه لا يقطع الصلاة على كل حال أيضاً؛ لأنه مما لا يمكن الامتناع عنه، وإن لم يكن مدفوعاً إليه إلا أنه لإصلاح إلحاق ليتمكن من القراءة إن ظهر له حروف نحو قوله أح أح وتكلف لذلك كان الفقيه إسماعيل الزاهد يقول: تقطع الصلاة عندهما؛ لأنها حروف مهجأة وقال غيره من المشايخ: لا تقطع وإن لم تظهر له حروف مهجأة لا تقطع الصلاة عندهما على قياس ما ذكره شمس الأئمة، وإذا ساق الدابة بقوله هرا وساق الكلب فقال سر تقطع عندهما أيضاً؛ لأن له حروف مهجأة، وإن ساقها بما ليس له حروف مهجات لا تقطع عندهما على ما ذكره شمس الأئمة، وكذا إذا دعى الهرة بما له حروف مهجأة تقطع الصلاة عندهما، وإن دعاها بما ليس له حروف مهجأة لا تقطع.
وكذلك إذا يغيرها بما له حروف مهجأة قطع عندهما، وإذا تجشّأ ولم يكن معفواً به وحصل به حروف مهجاة تقطع الصلاة عندهما، وإن لم يكن معفواً به أو كان؛ إلا أنه لم يحصل به حروف لا تقطع الصلاة عندهما.
ولو أَنّ في صلاته أو تأَوّه أو بكى وارتفع بكاؤه، وإن كان من ذكر الجنة والنار فصلاته تامّة، وإن كان ذلك من وجع أو مصيبة، فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وتفسير الأنين أن يقول آه آه، وتفسير التأوه إن يقول أوه. ولهما كان الجواب كما قلنا لحديث عائشة فإنها.. في صلاته فقالت إن كان لخشية الله تعالى لا تفسد صلاته، وإن كان لألم فسدت صلاته وهنا من ما كان من ذكر الجنة والتأوه فهو لخشية الله فيكون في معنى التسبيح؛ لأنه لتعظيم الله تعالى فَعَلَ ما فعل فكان له حكم التسبيح وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114) وكان إبراهيم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
فأما ما كان من وجع أو مصيبة فهو جزع فيصير من جملة كلام الناس لوجود أحدهما فتقطع الصلاة، وعن أبي يوسف أنه إذا كان يمكن الامتناع تقطع الصلاة، وإذا كان لا يمكن لا تقطع الصلاة، وعن محمد ما هو قريب منه، فإنه قال: إذا كان المرض خفيفاً تقطع الصلاة وإن كان ثقيلاً لا تقطع الصلاة؛ لأنه لا يمكنه القعود والقيام إلا بالأنين.
وسئل محمد بن سلمة عن ذلك فقال: لا تقطع الصلاة وعلّل فقال: لأن هذا ما يبتلي به له المريض إذا اشتدّ عليه المرض لا يمكنه الامتناع عنه والمشهور عن أبي يوسف روايتان.
أحدهما: أن الأنين يوجب قطع الصلاة سواء كان من وجع أو ذكر الجنة، بعض(1/387)
مشايخنا قالوا في «شرح الجامع الصغير» : الاختلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في التسبيح في الصلاة. عند أبي حنيفة ومحمد تقطع الصلاة وعند أبي يوسف لا تقطع.
الرواية الثانية: إذا كان الأنين بحرفين نحو آه آه لا تفسد الصلاة، وإذا كان بثلاثة أحرف نحو قوله أوه تفسد الصلاة عنده وعند بعض المشايخ سواء كان من وجع أو ذكر النار هذا بناءً على أن كل كلمة اشتملت على حرفين زائدين أو أحدها أصلية والأخرى زائدة لا تقطع الصلاة عند أبي يوسف وعند محمد تقطع.
وكل كلمة اشتملت على ثلاثة أحرف وما زاد عليها، ففي الزيادة على الثلاث تفسد الصلاة عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ، وفي الثلاث اختلاف المشايخ على قوله والحروف الزوائد عشرة جمعها البغداديون في قوله: «اليوم تنساها» وقوله أوه يتولد منه أربعة أحرف؛ لأن التشديد يقوم مقام حرف واحد، وأوه بدون التشديد يتولد منه ثلاثة أحرف فيكون في أوه بدون التشديد خلاف المشايخ، قول أبي يوسف: وفي أوه مع التشديد اتفاقاً بين المشايخ، فأبو يوسف يقول: مبنى كلام العرب على ثلاثة أحرف.
أحدها: ليبتدأ به.
والثاني: ليحسن به الكلام.
والثالث: ليست عليه، إلا أنه إذا تكلم بحرفين أصيلين (61أ1) .
وحد أكثر ما يبنى عليه كلام العرب فأقيم مقام كله، وبه فارق ما إذا كان أحدهما زائداً لأن بالنظر إلى ما يبنى عليه الكلام حد الأحرف واحد، والكلام لا يقوم بحرف واحد.
والجواب عن هذا أن الزوائد من الحروف لو كانت تلغى لكان لا تفسد صلاته إذا قال أوه؛ لأن جمعها زوائد، وحكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يقول: إذا تأوه في صلاته لا تفسد صلاته وأنه خلاف الرواية، وإن جرى على لسانه حرف واحد لا تفسد صلاته عند الكل، هكذا ذكر المشايخ في شروحهم.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : أن على قول أبي حنيفة ومحمد تفسد الصلاة بالصوت المسموع بحرف واحد أولى، عن هذه المسألة تصريح على مسألة النفخ فرعا أنه المصلي إذا قال: أف مخففاً لا تفسد صلاته عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ وإذا قال: أف مشدداً ينبغي أن يكون فيه اختلاف المشايخ، وعندهما تفسد الصلاة في المخفف والمشدد جميعاً والله أعلم.
قال محمد رحمه الله: في الرجل يستفتحه الرجل وهو في الصلاة فيفتح، قال هنا كلام أصح علم بأن فتح المصلي لا يخلو من ثلاثة أحرف، إما أن يكون على إمامه أو على رجل ليس هو في الصلاة أصلاً، أو على رجل هو في صلاة غير صلاة الفاتح، فإن كان الفتح على إمامه لا تفسد صلاته لقوله عليه السلام: «إذا استطعمك الإمام فأطعمه»(1/388)
أي: إذا استفتح منك فافتح عليه، وعن عمر رضي الله عنه» أنه قرأ سورة النجم وسجد فلما عاد إلى القيام ارتج عليه فلُقِّنَ إذا زلزلت فقرأها» ولم يُنكر عليه؛ فلأنه يبتغي إصلاح صلاته؛ لأنه لو لم يفتح عليه ربما يجري على لسانه شيء تفسد صلاته، وفي إصلاح صلاة الإمام صلاح صلاة نفسه، وما يرجع إلى إصلاح صلاة المصلي لا تفسد الصلاة وإنْ كَثُر.
ألا ترى أنه إذا سبقه الحدث فذهب وتوضأ لا تفسد صلاته كذا ههنا، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا كان فيه إصلاح صلاته بأن أُرْتج على الإمام قبل أن يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة أو بعد ما قرأ إلا أنه لم ينتقل إلى آية أُخرى، أما إذا لم يكن فيه إصلاح صلاته بأن قرأ الإمام مقدار ما تجوز به الصلاة أو انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاته؛ لأنه تعليم في غير موضع الحاجة.
وبعضهم قالوا: لا تفسد صلاته على أي حال؛ لأنه يحتاج إليه لإصلاح صلاته؛ لأنه ربما يقرأ ما يفسد صلاته لما اشتبه عليه الصواب فكان بمنزلة الفتح في موضع الاستفتاح عند الحاجة ولو أخذ الإمام من الفاتح بعدما انتقل إلى آية أخرى هل تفسد صلاة الإمام حكي عن القاضي الإمام أبي بكر.... أنه قال: تفسد وغيره من المشايخ قالوا: لا تفسد.
ولا ينبغي للإمام أن يلجأ القوم إلى الفتح؛ لأنه يلجئهم إلى القراءة خلفه وأنه مكروه، ولكن إن قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة يركع، وإن لم يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ينتقل إلى آية أخرى؛ لأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً والكل قرآن.
ولا ينبغي للمقتدي أن يفتح على الإمام من ساعته؛ لأنه ربما يتذكر الإنسان من ساعته فتكون قراءته خلفه قراءة من غير حاجة.
وإن كان الفتح على رجل ليس هو في الصلاة فهو على وجهين: إن أراد التعليم تفسد صلاته وإن لم يرد به التعليم وإنما أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته.
أما إذا أراد به التعليم؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ليس من الصلاة في الصلاة يوجب فساد الصلاة؛ فلأن هذا من كلام الناس؛ لأن معنى المسألة إن غير المصلي استفتح من المصلي فيصير فتح المصلي جواباً عرفاً فيصير من كلام الناس حقيقة هذين المعنيين بأن تفسد صلاته إذا فتح على إمامه، لكن سقط اعتبار التعليم على المعنى الأول وسقط اعتبار الجواب على المعنى الثاني بالأحاديث ولمكان الحاجة إلى إصلاح صلاة نفسه، ولا نصّ في هذه الصورة ولا حاجة إلى إصلاح صلاة نفسه فيُعمل بقضيّة القياس.
وأما إذا أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته، أما على المعنى الأول: فلأنه انتصب معلماً في الصلاة.
وأما على المعنى الثاني: فلأنه ليس من كلام الناس بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر(1/389)
من الجواب فيما أراد به التعليم يجب أن يكون قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن لا تفسد؛ لأنه قرآن فلا يتغير لقصد القارىء، وأراد أصل المسألة إذا أجاب رجلاً في الصلاة بلا إله إلا الله.
وإن كان الفتح على رجل هو في صلاة الإمام فهو على هذين الوجهين أيضاً إن أراد به التعليم تفسد صلاته إلا على قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذكره بعض المشايخ.
وإن أراد به قراءة القرآن لا تفسد، وهل تفسد صلاة المستفتح في هذه الصورة وهو ما إذا لم يكن في صلاة واحدة لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار في «شرح كتاب الصلاة» : أنها تفسد؛ لأنه انتصب متعلماً لأن المستفتح كأنه يقول لغيره ماذا فذكرني، ألا ترى أنه أفسد صلاة الفاتح لانتصابه معلماً، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا فتح على غير الإمام فسدت صلاته من غير فصل.
ثم لم يشترط في «الجامع الصغير» للتكرار في الفتح، وشرط في «الأصل» فقال: إذا فتح غير مرة فما ذكر في «الأصل» يدل على أن بالفتح مرة لا يفسد الصلاة، والمعنى الثاني يؤيد ما ذكر في «الجامع الصغير» ؛ لأن الكلام يضاد الصلاة، والشيء يبطل بضده قلّ أو كثر.
والمعنى الأول: يؤيد ما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه إذا قال ما ليس من الصلاة في الصلاة إنما يوجب فساد الصلاة إذاً، أما إذا قلّ فلا، والله أعلم.
وإذا أذّن في الصلاة وأراد به الأذان فسدت صلاته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، وكذلك إذا سمع المصلي وقال مثل ما قال المؤذن وأراد به جواب المؤذن فسدت صلاته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح.
وإذا جرى على لسان المصلي نعم، فإن كان ذلك يجري على لسانه في غير الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه من كلامه، وإن لم يكن ذلك عادة له لا تفسد صلاته؛ لأنه قرآن وإن قال بالفارسية أرى هو بمنزلة قوله نعم، إن كان ذلك عادة له تفسد صلاته وإلا فلا، وكان الفقيه أبو الليث يقول: ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف الذي عرف فيما إذا قرأ القرآن بالفارسية، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن ... إذا جُعلت من القرآن صار كأنه قرأ القرآن بالفارسية وثمة لا تفسد بالإجماع، إنما الاختلاف في الاعتبار به، المصلي إذا وسوسه الشيطان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان ذلك في أمر الآخرة لا تفسد صلاته، وإن كان في أمر الصلاة تفسد صلاته، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال المصلي في صلاته صلى الله على محمد إن لم يكن مجيباً لأحد لا تفسد صلاته؛ لأنه دعا بصيغته ولم يقل جواباً حتى يغيّر والله أعلم.(1/390)
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا سمع اسم النبي فصلى عليه وهو في الصلاة فسدت صلاته لأن هذه إجابة.
ولو صلى عليه ولم يُسمع اسمه، فهذا ليس بإجابة فلا تفسد صلاته، وإذا قرأ المصلي من المصحف فسدت صلاته، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا تفسد.
حجتهما: أن عائشة أمرت ذكوان بإمامتها وكان ذكوان يقرأ من المصحف، ولأبي حنيفة وجهان:
أحدها: إن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر ليفهم ما فيه فيقرأ عمل كثير، والعمل الكثير مفسد لما نبيّن بعد هذا، وعلى هذا الطريق يفرق الحال بينهما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب والله أعلم.
الوجه الثاني: إنه تلقّن من مصحف فكأنه تلقن من معلم آخر، وذلك يُفسِد الصلاة فهذا كذلك، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يقول (61ب1) . في التعليل لأبي حنيفة: أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ من المصحف ولا يمكنه أن يقرأ عن ظهر قلبه أنه لو صلى بغير قراءة أنه يجد به، ولو كانت القراءة من المصحف جائزة لما أبيح له الصلاة بغير قراءة، لكن الظاهر أنهما لا يسلّمان هذه المسألة وبه قال بعض المشايخ، وتأويل حديث ذكوان أنه كان ينظر في المصحف ويتلقن ثم يقوم ويصلي يدل عليه أن هذا مكروه عندهما ولا يظن بعائشة أنها كانت ترضى بالمكروه، وإذا كان المكتوب على المحراب غير القرآن بأن كان المكتوب عليه كن في صلاتك خاشعاً، فنظر المصلي في ذلك وتأمل حتى فهم.
قال بعض مشايخنا على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد وعلى قياس قول محمد: تفسد، وبناء بنوا هذه المسألة على مسألة اليمين، فإن من حَلَفَ لا يقرأ كتاب فلان فوصل إليه كتاب فلان ... ونظر فيه حتى فهم، ولم يقرأ بلسانه: قال أبو يوسف: لا يحنث في يمينه؛ لأنه لم يقرأ حقيقة، وقال محمد: يحنث؛ لأنه وجد معنى القراءة وهو يفهم ما في الكتاب وهو المقصود من اليمين، فعلى تلك المسألة يجعل قارئاً هنا عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وعلى قياس هذا ينبغي للفقيه أن لا يضَّيع جزء، وتعليقه بين يديه في الصلاة؛ لأنه ربما يقع نظره على ما في الجزء ويفهم ذلك فيدخل فيه شبهة الاختلاف.
ومن المشايخ من قال على قول محمد: لا تفسد صلاته، وإن فهم ما في المصحف وما على المحراب، وروي ذلك عن محمد نصّاً، وقد روي هذا القائل عن محمد عقيب هذا القول: إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر وعلم ما فيه لا يحنث في يمينه بخلاف قراءة الكتاب.
والفرق: أن المقصود من قراءة الكتاب لفلان يفهم ما فيه، وهو معنى القراءة لا نفس القرآن، فانصرف يمينه إليه أما نفس قراءة القرآن مقصود من غير أن يفهم ويعلم نفس(1/391)
القرآن فانصرف اليمين إلى القراءة باللسان ولم توجد القراءة باللسان، وهذا إذا نظر مستفهماً، فأما إذا نظر غير مستفهم وفهم لا تفسد صلاته بلا خلاف ثم لم يفصّل في «الكتاب» في هذه المسألة، بينما لو قرأ قليلاً أو كثيراً.
قال بعض مشايخنا: إذا قرأ مقدار آية تامة تفسد صلاته عند أبي حنيفة وفيما دون ذلك لا تفسد، وقال بعضهم: إذا قرأ مقدار الفاتحة تفسد صلاته، وفيما دون ذلك لا تفسد وكذلك لم يفصّل في «الكتاب» بين ما إذا لم يكن حافظاً للقرآن وبينما إذا كان حافظاً للقرآن.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: إذا كان حافظاً للقرآن، ومع هذا نظر في المصحف أو في الكتاب المكتوب على المحراب، وقرأ جازت صلاته؛ لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقّيه من المصحف، وإن نظر إلى شيء مكتوب وفهم ما فيه، وإن نظر غير مستفهم لكنه فهم لا تفسد، وإن نظر مستفهماً وفهم تفسد عند محمد، وبه أخذ الشيخ أبو الليث، ولا تفسد عند أبي يوسف، وبه أخذ بعض مشايخنا، وعلى هذا الطريق لا يعرف الحال بين ما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب.
وفي «العيون» : المصلي إذا سلم على أحد أو ردّ السلام على غيره فسدت صلاته، فرأيت في موضع آخر إذا أراد المصلي أن يسلم على غيره...... السلام يذكر أنه لا ينبغي أن يسلم وهو في الصلاة فيسكت تفسد صلاته والله أعلم.
النوع الثاني
في بيان الأفعال المفسدة
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» روى ابن ثعلبة عن الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة يصلي آخذاً بقياد فرسه حتى صلى ركعتين، ثم انسل قياد فرسه من يده، فمضى الفرس على القبلة فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصاً على عقيبه حتى صلى الركعتين الباقيتين.
قال محمد في «السير الكبير» : وبهذا نأخذ الصلاة تجري مع ما صنع لا يفسدها الذي صنع؛ لأنه رجع على عقيبه ولم يستدبر القبلة بوجهه أو.... حتى جعلها خلف ظهره فسدت صلاته ثم ليس في الحديث فضل بين المشي القليل والكثير فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة وإن كثر.
بعض مشايخنا أوَّلوا هذا الحديث واختلفوا فيما بينهم في التأويل فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز الصفوف أو لم يجاوز مع سجوده، أما إذا جاوز ذلك، فإن صلاته تفسد؛ لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف كالمسجد وخطأه في مصلاه عفوٌ كما قالوا في المصلي: إذا ظن أنه رعف في صلاته قدمت للبناء مستقبل(1/392)
القبلة ثم علم أنه ما رعف قبل، إن لم يخرج من المسجد ثم عاد إلى مكانه لا تفسد صلاته، ولو خرج من المسجد ثم عاد تفسد صلاته، وكذلك إذا كان في الفضاء فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده فسدت صلاته وإن لم يجاوز لا تفسد.
وكذلك إذا رأى سواداً في صلاته فظن أنه عدو ثم ظهر أنه سواد نَفَرٍ، فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده تفسد صلاته، وإن لم يجاوز لا تفسد صلاته.
ومنهم من قال: تأويله أنّ مشيه لم يكن مبتدأ حقاً بل مشى خطوة وسكن ثم مشى خطوة وذلك قليل، وإنه لا يوجب فساد الصلاة، فأما إذا كان المشي ميلاً حقاً تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة؛ لأنه كثر العمل، ومنهم من قال: حديث أبو برزة محمول على أنه مشى مقدار ما يكون بين الصفّين ولا يستدبر القبلة لا تفسد الصلاة. وهذا كما قالوا في رجل كان في الصف الثاني فرأى فُرجةً في الصف الأول فمشى إليها فَسَدَّها لم تفسد صلاته؛ لأنه مأمور بالموافقة في الصفوف قال عليه السلام: «تراصّوا في الصفوف» فلم يوجب ذلك فساد صلاته لما كان المشي مقدار ما بين الصفين. ولو كان في الصف الثالث، فرأى فرجة في الصف الأول فمشى إلى الصف الأول وسدّ تلك الفرجة تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة، ومن المشايخ من أخذ بظاهر هذا الحديث ولم يقل بالفساد قلّ المشي أو اكثر استحساناً.
والقياس: أن تفسد صلاته إذا كثر المشي كما لو انسلّ قياد الفرس من يده فمشى مشياً كثيراً، فإنّ هناك تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة وإنه خص ماله العذر، ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يحكي عن أستاذه أنه كان يقول بجواز الصلاة وإن مشى مستقبل القبلة بعد أن يكون غازياً، وهكذا الجواب في كل حاج أو مسافر كان سفره العبادة. وهذا كله إذا لم يستدبر القبلة.
فأما إذا استدبر القبلة فسدت صلاته، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بقتل العقرب في الصلاة، وذكر في «الأصل» وذكر في صلاة «الأصل» : قتل العقرب والحية في «الأصل» لا يفسدها، ولم يذكر في صلاة «الأصل» هل يُباح ذلك، ونص على الإباحة في «الجامع الصغير» في قتل العقرب ولم يذكر الحية.
واعلم بأن ها هنا حكمان: إباحة القتل، وفساد الصلاة.
فأما حكم الإباحة فمن مشايخنا من سوّى بين قتل العقرب والحية في حكم الإباحة وقال: كما يحل قتل العقرب في الصلاة يحل قتل الحية الخبيثة هي أن تكون بيضاء تمشي مستوياً، أو غير الخبيثة وهي إن تكون سوداء تمشي ملتوية في ذلك سواء وإليه مال الطحاوي في كتابه.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين الحية والعقرب ولو كنتم في(1/393)
الصلاة» مطلقاً من غير فصل بين حية وحية، ومن مشايخنا من بين الحية والعقرب فقال: يحل قتل العقرب في الصلاة ولا يحل قتل الحية في الصلاة الجني وغير الجني في ذلك على السواء؛ لأن قتل العقرب يتأتى بعمل قليل بوضع النعل عليه وبغمزه كما فعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي عن رسول الله عليه السلام كان يصلي فارغة عقرب فوضع نعله عليه وغمزه حتى قتله، وقتل الحية لا يتأتى إلا بمعالجة وعمل كثير فلا يفعل ذلك من غير ضرورة ومن المشايخ من يقول: يحل قتل غير الجني ولا يحل الجني و «الأصل» فيه قوله عليه السلام: «إياكم والحية البيضاء فإنها من الجن» وهذا القائل هكذا يقول في غير حالة الصلاة أنه يحل قتل غير الجني ولا يحل قتل الجني إلا بعد الإنذار والإعذار وهو أن يقول لها: خلي طريق المسلمين.
فإن أتى حينئذٍ يحل قتله. ومن يقول بحل قتل الجني وغير الجني في الصلاة كذلك يقول خارج الصلاة وهو الصحيح من المذهب (62أ1) لقوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين» من غير فصل، ولأن رسول الله عليه السلام عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمته وإذا دخلوا لم يظهروا لهم وإذا فعلوا ذلك لا ذمة لهم، فالذي يظهر نفسه لأمة رسول الله عليه السلام فقد نقض العهد، فيستحق القتل لذلك، قالوا: وإنما يباح قتل الحية والعقرب في الصلاة إذا مرّا بين يديه وخاف أن يؤذيه، فأما إذا كان لا يخاف الأذى يكره، وهكذا روي عن أبي حنيفة، ذكر الحسن بن زياد في كتاب الصلاة والمذكور ثمة عن أبي حنيفة وأكره قتل الحية والعقرب في الصلاة إلا أن يخاف أن يؤذيه، فيحمل ما ذكر هنا على هذه الحالة.
وأما حكم فساد الصلاة بالقتل فمن مشايخنا من قال: إنْ احتاج في القتل إلى المشي وإلى الضربات تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل كثير والعمل الكثير مفسد للصلاة، وإن لم يحتج إلى للمشي والضربات الكثيرة بل وطئها برجله أو وضع نعله عليها وغمزها أو ضربها بحجرة ضربة واحدة لا تفسد؛ لأن هذا عمل يسير والعمل اليسير لا يفسد الصلاة.
ومن المشايخ من أطلق الجواب إطلاقاً كما أطلق محمد في «الأصل» ؛ لأن هذا عمل رخّص للمصلي فيه فهو كالمشي بعد الحدث والاستقبال من السير والتوضىء، وذلك في «الأصل» .
إذا رمى طائراً بحجر وهو في الصلاة أكره له ذلك وصلاته تامة، أم الكراهة فلأنه وليس من أعمال الصلاة وله بدٌّ منه وأما صلاته تامة؛ لأن هذا عمل قليل والعمل القليل لا(1/394)
يفسد، ألا ترى أنه لو رمى إلى حية أو عقرب لا تفسد صلاته وإنما لا تفسد؛ لأنه عمل قليل كذا هنا إلا أنه ذكر الكراهية ها هنا ولم يذكر في قتل الحية والعقرب؛ لأنَّ الحية والعقرب مما يشغلان قلب المصلي عن صلاته فكان في قتلهما إصلاح صلاته فكان من أعمال صلاته فليس مكروهاً.
أما الطير لا يشغل قلب المصلي عن صلاته فلم يكن في قتله إصلاح صلاته وله منه بدّ فيكره قتل هذا إذا كان الحجر في يده ما إذا أخذ الحجر من الأرض ورمى به طيراً تفسد صلاته ولكن هذا خلاف رواية «الأصل» ، فإن محمداً رحمه الله في «الأصل» قال: وصلاته تامة ولم يفصل بينهما إذا كان الحجر في يده أو أخذه من الأرض.
وفي «الأصل» أيضاً: فإذا أخذ قوساً ورمى بها تفسد صلاته، قالوا وهذا إذا أخذ السهم ووضعه على الوَتَر ومدّ حتى رمى؛ لأنه يصير عملاً كثيراً، فأما إذا رمى بالقوس لا تفسد صلاته؛ لأنه عمل يسير كما لو رمى بالحجر، وكذلك لو كان القوس في يده والسهم على الوتر لا تفسد صلاته إذا رمى؛ لأنه عمل قليل.
ثم اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين العمل اليسير وبين العمل الكثير، بعضهم قالوا: العمل الكثير اشتمل على عدد الثلاث، واستدل هذا القائل بما روى الحسن عن أبي حنيفة إذا تروَّح المصلي بمروحة مرة أو مرتين لا تفسد صلاته، وإن زادت على ذلك فسدت صلاته، وبعضهم قالوا: العمل الكثير عمل يكون مقصوداً للفاعل إن تفرّد له مجلس على حدة.
وهذا القائل يستدل بامرأة صلت فلمسها زوجها أو قبلها بشهوة تفسد صلاتها، وكذا إذا مص صبي ثديها وخرج اللبن تفسد صلاتها، وبعضهم قالوا: كل عمل لا يمكن إقامته إلا باليدين فهو كثير حتى قالوا: لو شدّ الإزار فسدت صلاته وكذلك إذا ... ، وكل عمل يمكن صنعه بيد واحدة فهو يسير ما لم يتكرر، حتى قالوا شد الرجل الإ زار لا تفسد صلاته.
وكذلك إذا كان عليه عمامة وانتقض منها كور فسوّاه لا تفسد صلاته، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعة بيده ... لا تفسد صلاته، وإن عالجه بمفتاح غلق أو قفل فسدت صلاته.
وقال بعضهم: كل عمل يشك الناظر في عامله أنه في الصلاة أو ليس في الصلاة فهو عمل يسير وكل عمل لا يشك الناظر أنه ليس في الصلاة فهو كثير قال الصدر الشهيد: وهكذا روى البلخي عن أصحابنا وهو اختيار الفضلي، وقال بعضهم؛ نفوض ذلك إلى رأي المبتلى به وهو المصلي إن استقبحه واستكثره فهو كثير وما لا فلا. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا القول أقرب إلى مذهب أبي حنيفة؛ لأنه في جنس هذه المسائل لا تقدر تقديراً بل يفوض ذلك إلى رأي المبتلى به.(1/395)
وإذا ادّهن أو سرّج دابته أو حملت المرأة صبيها وأرضعته أو قاتل رجلاً أو قطع ثوباً أو خاطه فهذا كله عمل كثير، وهو يخرج على الأقوال كلها.
وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا صلت ومعها صبي ترضعه، فإن مصّ الثدي ولم ينزل منه اللبن لا تفسد صلاتها وإن نزل منها اللبن فصلاتها فاسدة، وإذا تروح بمروحة فسدت صلاته وإذا تروح بكمه لا تفسد صلاته وهذا إشارة إلى القول الرابع.
وسئل أبو نصر: عن رجل نتف شعره في الصلاة قال: إن نتف ثلاثاً فسدت صلاته وإنه يرجع إلى القول الأول، وعن الحسن رحمه الله في المصلي على الدابة إذا ضربها لاستخراج السير فسدت صلاته وإن حرك رجليه لا تفسد صلاته وبعض مشايخنا قالوا؛ لأنه ضرب مرة أو مرتين لا تفسد؛ لأن الضرب يقام بيد واحدة، وإن ضربها ثلاثاً في ركعة واحدة تفسد صلاته يريد به إذا كان على الولاء، ولو كان في صلاة الظهر أو في أربع من النفل فضربها في كل ركعة مرة لا تفسد صلاته، ولو ضربها ثلاث مرات في ركعة واحدة تفسد يريد به إذا كان على الولاء.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا كان معه سوط فهيبها به ونخسها لا تفسد صلاته وإن اهوى به وضربها تفسد صلاته، وإن حرك رِجْلاً واحداً لا تفسد صلاته، وإن حرك رجليه تفسد صلاته، واعتبر هذا القائل العمل بالرجلين بالعمل باليدين والعمل برجل واحدة بالعمل بيد واحدة.
وقال بعضهم: إن حرك رجليه قليلاً لا تفسد صلاته، وإن فعل ذلك كثيراً تفسد صلاته، ولو أكل أو شرب عامداً أو ناسياً فسدت صلاته؛ لأن هذا ليس من أعمال الصلاة وهو كثير عمل اليد والفم والأسنان.
وفي «الأصل» ؛ إن كان بين أسنانه شيء فابتلعه لا تفسد صلاته؛ لأن ما بين أسنانه تبع لريقه، ولهذا لا يفسد به الصوم.
قالوا: وهذا إذا كان ما بين أسنانه قليلاً دون الحمصة؛ لأنه يبقى بين الأسنان، فأما إذا كان أكثر من ذلك تفسد صلاته، وسوى هذا القائل بين الصلاة والصوم. وقال بعض المشايخ: لا تفسد صلاته بما دون الفم.
وفرّق هذا القائل بين الصلاة والصوم وفي أول باب الحديث من «شرح الطحاوي» : إذا بقي بين أسنانه شيء فابتلعه في الصوم؛ إن كان شيئاً يفسد به الصوم وهو قدر حمصة خمضفه تفسد به صلاته وما لا فلا، وهكذا رأينا في غريب الرواية للفقيه أبي جعفر رحمه الله.
وفي «أجناس الناطفي» إذا ابتلع المصلي ما بين أسنانه أو فضل طعام ثم أكله أو شراب قد شربه قبل الصلاة....... ولم يذكر المقدار، وهذه الرواية توافق قول محمد في باب الحديث، فإن محمداً لم يذكر المقدار ثمة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في المصلي إذا مضغ العلك إن صلاته فاسدة، وعنه(1/396)
أيضاً إذا كان في فيه.... فلاكها فسدت صلاته، ولو دخل منها شيء ولم يلوكها لا تفسد صلاته إلا إذا كثر ذلك..... إذا تناول شيئاً أو ناول شيئاً صلاته تامة ما لم يكثر ذلك أو يكون حملاً ثقيلاً يتكلف بأعضائه أن يأخذه.
وعنه أيضاً: في امرأة تصلي فباشرها رجل قليل المباشرة لا تفسد بقليلها وفي كثير المباشرة تفسد، وكذا القبلة، قال الفقيه أبو جعفر: إن كان بشهوة فسدت صلاتها على كل حال وإن كان من غير شهوة فالقليل يخالف الكثير.
وإن عبث بلحيته حك جسده لا تفسد صلاته، قيل: هذا إذا فعل ذلك مرة أو مرتين وكذلك إذا فعل ذلك مراراً ولكن بين المرتين فرجه، فأما إذا فعل ذلك مراراً متواليات لا تفسد صلاته، ألا ترى أنه لو نتف شعرة مرة أو مرتين لا تفسد ولو نتف ثلاث مرات على الولاء تفسد، وعلى هذا قيل..... وعن الفقيه أبي جعفر سئل عن المصلي يُقبّل قبلة (62ب1) في صلاته قال: لا تفسد صلاته، قيل: فإن قبل اثنتين أو ثلاثة قال: إن كان ... ذلك لا تفسد وإن قبل مرة بعد مرة، وإن كان يقبل على طلبه تفسد صلاته والله أعلم.
ثم في كل عمل يحتاج فيه إلى اليدين لإقامته أو أقام ذلك العمل بيد واحدة هل تفسد على قول من يعتبر لفساد الصلاة كون العمل بحال يحتاج لإقامته إلى اليدين، وذكر نجم الدين النسفي أنه لا تفسد فإنه قال: لو تعمم بيد واحدة لا تفسد ولو تعمم بيدين تفسد، ولو رفع العمامة من الرأس ووضعها على الأرض أو رفع العمامة عن الأرض ووضعها على الرأس لا تفسد صلاته أنه يحصل بيد واحدة من غير تكرار.
ولو نزع القميص لا تفسد صلاته، ولو لبس القميص تفسد صلاته، ولو تنعّل أو خلع نعليه لا تفسد؛ لأنه لا يحتاج إلى اليدين ولا إلى المعالجة، ولو لبس الخفين تفسد صلاته لأنه يحتاج فيه إلى اليدين، وإذا صافح إنساناً يريد بذلك التسليم عليه فسدت صلاته؛ لأنه يقوم باليدين غالباً، وكذلك كل من رآه يحسب أنه ليس في الصلاة فكان عملاً كثيراً، وارتكب في صلاته خطأ مستيقناً لا تفسد صلاته إلا أن يطول فيصير عملاً كثيراً فحينئذٍ تفسد صلاته. وحد الطول أن يزيد على ثلاث كلمات ذكره في «مجموع النوازل» ، ولو كتب على يده أو على الهواء شيئاً لا يستبين لا تفسد صلاته وإن كثروا.
وإذا صبّ الدهن على رأسه بيد واحدة لم تفسد، وإن أخذ وعاء الدهن بيد ودهن رأسه بيد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.
وإذا جعل ماء الورد على نفسه فهو على التفصيل الذي ذكرنا، ولو أغلق الباب لا تفسد صلاته، لو فتح الباب المغلق تفسد صلاته واختلفوا في تخريج المسألة بعضهم؛ لأن إغلاق الباب يقام بيد واحدة على ما عليه الغالب وفتح الباب المغلق غالباً لا يقام إلا بيدين، وبعضهم قالوا:؛ كلا الفعلين يقام بيد واحدة إلا أنّ في الغلق لا يكثر العمل؛ لأن(1/397)
الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم شد المغلاق، وفي الفتح يكثر العمل؛ لأن الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم تحريك المغلاق وقت الفتح ثم إخراج الغلق من موضع السد، وقد ذكرنا قبل هذا رواية أبي يوسف فيما إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعه بيده أنه لا تفسد، وتأويل تلك الرواية كساده وفراز كرده وأبا ركرددنا زكرده لا رار كرد.
وتأويل هذه الرواية كرده وافرار كرد ومغلق برست درته على بسته وابكشاده ولو ركب دابة فسدت صلاته؛ لأن ركوب الدابة على ما عليه الغالب لا يقوم إلا باليدين، ولو نزل من الدابة لا تفسد صلاته؛ لأن النزول ممكن بدون استعمال اليدين قبل هذا بشكل منها.
إذا حمله غيره ووضعه على السرج؛ فإن هناك تفسد صلاته، وإن كان هذا أمر يحتاج فيه إلى اليد أصلاً فضلاً من اليدين، قلنا: الجواب عنه من وجهين.
أحدهما: أن الحكم ينبني على الغالب والغالب ركوب الإنسان بنفسه أما إركاب غيره فليس بغالب، وركوبه بنفسه لا يقوم إلا باليدين.
والثاني: أن غيره لا يركبه عادة إلا بأمره وفعل الغير بأمره ينتقل إليه فكأنه ركب بنفسه.
ولو تقلّد سيفاً أو نزعه لا تفسد صلاته ولو ضرب إنساناً بسوط أو يد فسدت صلاته، وهذا الجواب يوافق رواية الحسن في ضرب الدابة، وعلى قياس قول بعض المشايخ في تلك المسألة ينبغي أن يقال: إذا نخسه أن لا تفسد صلاته، وإن آهوى به وضربه تفسد صلاته.
وإذا أحدث في صلاته من بول أو غائط أو ريح أو رعاف متعمداً فسدت صلاته، وإن سبق الحدث ولم يتعمد إن كان موجبه الغسل، فكذلك وذلك نحو إن احتلم أو نظر إلى امرأة، فأنزلها وتفكر فأنزل، وإن كان موجبه الوضوء فإن كان بفعل الآدمي، فكذلك الجواب تفسد، وإن لم تكن بفعل الآدمي لا تفسد الصلاة، بل يتوضأ ويبني وإذا كان على يديه دمل أو جراجة أو سرة فغمزها بيده غمزاً فسال منه الدم، فسدت صلاته؛ لأنه تعمد الحدث، وإن لم يغمزها لكنها انشقت بإصابة الداء والثوب في الركوع والسجود، وسال منها الدم فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو بمنزلة ما لو رماه إنسان ببندقة أو حجر، وهناك تفسد صلاته عند أبي حنيفة، وكذلك لو سقط من السقف حجرٌ أو خشبٌ على المصلي.... إنسان ناداه.
وكذلك لو دخل الشوك في رِجل المصلي أو وضع جبهته على الأرض في السجود فسال منه الدم من غير قصده فسدت صلاته عندهما، وقيل: تفسد عند الكل؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، فإذا لم يحترز صار كأنه تعمد ذلك، وكذلك لو كان تحت شجرة يسقط منها تمرة فجرحته.
وإذا قاء في صلاته فها هنا فصلان: فصل في القيء، وفصل في التقيء.(1/398)
أما فصل القيء فنقول: لا تفسد صلاته بالقيء إذا كان أقل من ملىء الفم، فإن عاد إلى جوفه وهو لا يقدر على إمساكه لا تفسد صلاته أيضاً، وإن ابتلعه وهو قادر على أن يمجه يجب أن يكون على قياس الصوم عند أبي يوسف لا تفسد صلاته كما لا يفسد صومه.
وعند محمد المسألة تكون على روايتين كما في الصوم، وفي «فتاوى الفضلي» ذكر روايتان عن أبي يوسف لا عن محمد، وإن قاء ملىء الفم تنتقض طهارته ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس بحدث عمد فيتوضأ ويغسل فمه ويبني على صلاته، فإن ابتلعه بعدما قاء وهو قادر على أن يمجه فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.
وأما فصل التقيء، فإن كان أقل من ملىء الفم لم تفسد صلاته، وإن (كان) ملأ الفم فسدت صلاته؛ لأنه حدث عمد، وإذا ابتلع دماً خرج من بين أسنانه لا تفسد صلاته؛ إذا لم يكن ملىء الفم.
المصلي إذا نظر إلى فرج امرأته المطلقة طلاقاً رجعياً بشهوة يصير مراجعاً، وهل تفسد صلاته؟ حكى الناطفي في «أجناسه» : أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: تفسد صلاته، وهكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده والصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب الصلاة قبيل باب افتتاح الصلاة، وأجاب الفقيه أبو القاسم الصفار بالفساد مطلقاً حكى عند ذلك في «النوازل» . وفي «الجامع الصغير» قال ابن شجاع: إذا نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة ينبغي أن تفسد صلاته في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه استمتع بها، ألا ترى أنه تحرّم عليه أمها وأختها وابنتها.
ثم قال صاحب «الجامع الصغير» : ولنا في قياسه هذا نظر؛ لأن النظر إلى الفرج إنما جعل بمنزلة الاستمتاع في حق التحريم لا في حق شيء آخر فلا يظهر ذلك في حق فساد الصلاة فهذا شيء حكمي فيجوز أن يظهر في حق حكم دون حكم فهذا طعن (من) صاحب «الجامع الصغير» ، وقد تأيّد هذا الطعن ما ذكره ابن رستم في «نوادره» فقد ذكر ثمة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: المصلي إذا نظر إلى فرج المرأة بشهوة لا تفسد صلاته ويحرم عليه أمها وابنتها وهو قول محمد، وقال أبو يوسف في صلاة ... لا تفسد صلاته، وهو رجعة لو حصل ذلك في المطلقة الرجعية، وهكذا حكى الفقيه أبو الليث في «نوادره» جواب نصر بن يحيى قال: وهو القياس، وهذا ذكر في «الواقعات» ، فلو كان المذكور في «الجامع الصغير» قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، فهذا القياس مطعون بما مرّ من المعنى والرواية أيضاً، ولو كان المذكور في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف في المسألة روايتان.
رفع اليدين لا يفسد الصلاة منصوص عليه في باب صلاة العيدين من «الجامع» ، وذكر الصدر الشهيد في شرح «الجامع الصغير» رواية مكحول عن أبي حنيفة أنه تفسد.(1/399)
وإذا سلّم إنسان على المصلي فرد السلام بالإشارة باليد أو بالرأس أو بالأصبع لا تفسد صلاته، ولو طلب من المصلي إنسان شيئاً فأومأ برأسه أن نعم أو أراه إنسان درهماً وقال ... رأسه أي نعم لا تفسد صلاته، ولو تفكر في صلاته فتذكر حديثاً أو شِعراً أو كلاماً مرتباً ولم يذكر ذلك بلسانه لم تفسد صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا قهقه في صلاته فسدت صلاته وهذا بلا خلاف (63أ1) وإنما خالفنا الشافعي رحمه الله في كونه حدثاً وجد. القهقهة ما يكون مسموعاً له ولجيرانه. والتبسم وهو ما لا يكون مسموعاً له لا ينقض الصلاة هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شيح شمس الأئمة الحلواني ما فوق التبسم دون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، كان القاضي الإمام يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة والتسبيح نقض الصلاة، وغيره من المشايخ على أنه حتى يسمع صوته وإن قلّ. وإذا قهقه الإمام بعدما قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فصلاته تامة، وإن لم يكُ بلفظ السلام؛ لأن الخروج بلفظ السلام ليس بفرض عندنا. إنما الفرض على قول أبي حنيفة: الخروج بصنع المصلي وقد وجد صنع المصلي صحت صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر.
فرق زفر بين هذا وبينما إذا حدثت القهقهة في وسط الصلاة.
والفرق: أن القهقهة جعلت ناقض الوضوء شرعاً بخلاف القياس في موضع يوجب فساد الصلاة، والقهقهة ها هنا لا توجب فساد الصلاة فلا يوجب انتقاض الوضوء، ولا كذلك القهقهة في وسط الصلاة، ولعلمائنا الثلاثة أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة بعده.
ألا ترى لو اقتدى رجل به في هذه الحالة يصح اقتداؤه فيوجب انتقاض الطهارة كما وجدت في وسط الصلاة إلا أنه لم تنتقض صلاته؛ لأنه ليس عليه ركن من أركان الصلاة ولا واجب من واجباته، وأما صلاة القوم، فإن كانوا لاحقين أدركوا أول الصلاة فصلاتهم تامة وإن كانوا مسبوقين فصلاتهم فاسدة في قول أبي حنيفة وفي قول أبي حنيفة، وفي قولهما صلاتهم تامة.
حجتهم: أنه لم يوجد من المقتدي ما يوجب فساد صلاتهم ولو فسدت صلاتهم إنما تفسد بفساد صلاة الإمام ولم تفسد صلاة الإمام ها هنا.
حجة أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله عليه السلام: أنه قال: «إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته وصلاة من كان بمثل حاله» ولولا أنّ صلاة من ليس بمثل حاله فاسدة وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة.(1/400)
والمعنى في ذلك: أن الإمام لما قهقهة فسد ذلك الجزء والذي لاقته القهقهة، وذلك الجزء مشترك بينه وبين القوم فيفسد مشتركاً إلا أن الإمام لم يبق عليه البناء فمضت صلاته على الصحة والقوم بقي عليهم البناء، وتعذر بناء ما بقي على هذا الجزء الفاسد، ففسدت صلاتهم، وهذا بخلاف ما لو سلّم الإمام أو تكلم أو خرج عن المسجد بعدما قعد قدر التشهد حيث لا تفسد صلاة المسبوقين بل يقومون ويقضون ما بقي من صلاتهم.
والفرق: أن السلام منتهي؛ لأنه من موجبات التحريمة فتنتهي به التحريمة والكلام قاطع لا يفسد؛ لأنه لا يفوت شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق المسبوق، فأما القهقهة والحدث العمد مفسد للصلاة لا قاطع؛ لأنه لا يفوت به شرط، ولهذا لو تكلم الإمام وسلم بعدما قعد قدر التشهد فعلى القوم أن يسلِّموا، ولو أحدث الإمام متعمداً أو قهقهة لم يسلم الإمام، بل يقومون ويذهبون، دلّ أن الكلام قاطع وليس بمفسد فلا يمنع جواز البناء.
وكذلك الخروج من المسجد بمنزلة الكلام لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لابن مسعود: «إذا قلت هذا أو هذا فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد» . وإذا تمت صلاة الإمام يقوم المسبوق، ويقضي ما عليه، وإن قهقهة الإمام والقوم جميعاً، فإن كان قهقهة الإمام أولاً فعلى الإمام إعادة الوضوء والصلاة، وليس على القوم ذلك؛ لأن القوم صاروا خارجين من الصلاة، فضحكهم لم يصادف حرمة الصلاة، وهذا ظاهر إذا لم يتقدمها ما يوجب خروج القوم عن حرمة الصلاة، وكذلك قهقهة الإمام لا يخرج عن الصلاة بخروج القوم عن الصلاة.
وكذلك إن قهقهوا معاً؛ لأن قهقهة الكل صادفت حرمة الصلاة، أما قهقهة الإمام فظاهر، فكذلك قهقهة القوم لما اقترنت قهقهتهم بقهقهة الإمام أو تكلم الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم ضحك القوم لا وضوء عليهم؛ لأنهم صاروا خارجين من الصلاة بكلام الإمام، فضحكهم لم يصادف حرمة صلاتهم فلا تنتقض طهارتهم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلّم فضحك بعدُه مَن خلفه فعليهم الوضوء.
علّل، فقال:.... أَمَرَهم أن يسلِّموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضيل رحمه الله وقد روى عن محمد رحمه الله أنه قال: آمُرُهُم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحلل.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد ولم يتشهد القوم على مثل حاله فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه؛ قال: أما في قول أبي حنيفة فعلى(1/401)
الإمام الوضوء ولا وضوء على القوم من قبل الإمام قد أفسد عليهم ما بقي من صلاتهم، وقال أبو يوسف: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً.
ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلّم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا فعليهم الوضوء عندنا؛ لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً والضحك يُفسد عليهم ما بقي، وكذلك عند محمد لا وضوء على القوم في هذه الصورة وهو ما إذا ضحكوا بعد ما سلم الإمام؛ لأن عنده بسلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منه لم يصادف حرمة الصلاة فلا يوجب الوضوء، وعن محمد في عين هذه الصورة أنه ليس على القوم الوضوء، وذكر في بعض «النوادر» أنه لا تنتقض طهارته في هذه الصورة ولم ينسب هذا القول إلى أحد، والقهقهة في سجدتي السهو تنقض الوضوء ولا تفسد الصلاة لأن العود إليهما بدفع السلام دون القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل السلام فلا تفسد الصلاة.
وعن أبي يوسف رواية شاذة أن العود إلى سجدتي السهو بدفع القعدة كالعود إلى سجدتي التلاوة، فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة الصلاة كما يلزمه إعادة الوضوء.
إمام أحدث فقدّم رجلاً قد فاتته ركعة فعليه أن يصلي بهم بقية صلاة الإمام؛ لأن المسبوق شريك الإمام في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود المشاركة في التحريمة، والحاجة ماسة إلى إصلاح صلاته، فيجوز تسليمه ويتم ما بقي على الأول، وإذا قالوا إنالتسليم تأخر وقدّم رجلاً من المدركين ليسلم بهم ثم يقوم هذا المسبوق ويقضي ما سبق به.
فإن قهقه الإمام الثاني وقد بقي عليه ركعة أو ركعتان، فإن صلاته وصلاة الإمام الأول وصلاة من خلفه فاسدة، أما فساد صلاته؛ من قهقهته لا في حرمة الصلاة فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته تفسد صلاة من خلفه؛ لأن صلاة المقتدي بناءً على صلاة الإمام صحة وفساداً؛ فإذا فسدت صلاة الإمام تفسد صلاة المقتدي.n
وأما فساد صلاة الإمام الأول؛ لأن الأول لما استخلف الثاني تحولت الإمامة إلى الثاني وصار الأول مقتدياً بالثاني وتعلَّقت صلاته بصلاة الثاني صحة وفساداً كما في سائر المقتدين وقد فسدت صلاة الثاني فتفسد صلاة الأول ضرورة، ولا وضوء على القوم، ولا على الإمام الأول؛ لأن القهقهة وجدت من الثاني لا منهم، فإن لم يضحك الثاني حتى توضأ الأول والإمام الثاني في الصلاة مع القوم يتابعه الإمام الأول.
ذكرنا أن الإمام الأول صار مقتدياً به فيكون حكمه كحكم سائر المقتدين، والمقتدي يتابع الإمام فكذلك ها هنا. فإن أراد الإمام الأول أن يصلي في نيّته يُنظر إن صلى بعدما فرغ الإمام الثاني من بقيّة صلاته، فصلاته تامة، وستأتي المسألة بعد هذا في فصل الاستخلاف إن شاء الله تعالى.
وإن قعد الإمام الثاني في الركعة قدر التشهد وهي له الثالثة ثم قهقة أعاد الوضوء والصلاة؛ لأنه بقي عليه ركعة، فضحكه حصل في خلال الصلاة فتفسد صلاته وطهارته،(1/402)
وأما صلاة من خلفه إن كان مسبوقاً، فكذلك فاسدة أيضاً؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، فضحك الإمام وقد بقي عليهم ركن ولا وضوء عليهم لصلاة أُخرى (63ب1) .
لأن القهقهة وجدت من الإمام لا منهم، فلا تنتقض طهارتهم، كما لو أحدث الإمام حدثاً آخر، وصلاة المدركين تامة؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، ولم يبق عليهم ركن من أركان الصلاة، ولا تفسد صلاتهم كما لو خرجوا بضحك أنفسهم.
وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في غريب الروايات أن أبا يوسف رحمه الله قال في «الأمالي» : صلاة المدركين فاسدة أيضاً، كصلاة المسبوقين؛ لأن صلاتهم مربوطة بصلاة الإمام، فمتى فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة القوم، إلا أن ظاهر الجواب ما قلنا؛ لأن صلاة القوم وإن كانت مربوطة بصلاة الإمام لكن لم يبق عليهم شيء، فمضت صلاتهم على الصحة، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار وأما صلاة الإمام الأول، فإن كان فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته تامة بلا خلاف..... المدركين، وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة، اختلفت الروايات فيه في رواية أبي سليمان تفسد صلاته، وهو الأشبه بالصواب، هكذا ذكر الحاكم الجليل في «مختصره» ، وفي رواية أبي حفص رحمه الله: صلاة ثلاثة لأنه لأول الصلاة إلى آخره فكأنه خلف الإمام من أول الصلاة إلى آخرها من حيث الحكم والاعتبار، ولو كان خلفه حقيقة لم تفسد صلاته، فكذلك إذا كان خلفه حكماً واعتباراً.
وجه رواية أبي سليمان: أنه وإن كان مدركاً لأول الصلاة فقد بقي عليه شيء من صلاته بعد ما ضحك الإمام الثاني، وقد ذكرنا أن ضحك الإمام يوجب خروج المقتدي عن حرمة الصلاة، فقد خرج عليه شيء من صلاته، لأن الكلام فيما إذا بقي ركعة أو ركعتين فتفسد صلاته كما لو خرج بضحك نفسه. والإمام أبو نصر الصفار ومشايخ العراق صححوا رواية أبي حفص رحمه الله والله أعلم.
وإذا زاد في صلاته ركوعاً أو سجوداً ذكر في ظاهر الرواية: أنه لا تفسد صلاته هذا ظاهر، فإن من اقتدى بالإمام والإمام ساجد كان عليه أن يسجد معه، وكانت السجدة له زيادة وكذلك لو تلا آية السجدة في الصلاة لزمه سجدة التلاوة، وهذه السجدة ليست من موجبات تحريمته، فثبت أن زيادة السجدة في الصلاة لا تفسد الصلاة، وكذلك إن زاد سجدتين أو أكثر لا تفسد صلاته؛ لأن الجنس واحد، فهيَ وإن كثرت كأنها سجدة واحدة.
والدليل عليها: أن من ختم القرآن في صلاته تلزمه أربعة عشر سجدة وهي كلها زوائد في الحقيقة؛ لأنها ليست من موجبَات تحريمة الصلاة؛ ولأن ما شرع في الصلاة مثنى فللواحد حكم المثنى، فإن الركعة تنعقد بالسجدة الواحدة عندنا كما تنعقد بسجدتين، وكذلك التحلل يحصل بالسلام الواحد كما يحصل بالمثنى، فثبت أن ما شرع في(1/403)
الصلاة مثنى حكمه حكم الواحد ثم الصلاة لا تفسد بالسجدة الواحدة فكذا في المثنى، والذي هنا في السجود، كذلك في الركوع الزائد، وكذلك الركوعان وما زاد على ذلك.
فإن قيل: أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه ليس على الإمام سهو فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين.
قلنا: فساد الصلاة هناك ليس لزيادة السجدة؛ بل لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد فيه وذلك مفسد للصلاة.
وروي عن محمد أنه قال: في السجود الزائد تفسد صلاته، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه عن أبي حنيفة، وجه هذه الرواية: أن السجدة عمدة الصلاة، ألا ترى أن الركعة يُتعَبَد بها؛ ولأنها قربة بنفسها دليل سجدة التلاوة، وإذا كانت قربة في نفسها أشبهت الركعة التامة، ولو زاد فيها ركعة تامة قبل إتمام صلاته فسدت صلاته، وكذا إذا زاد سجدة ثم فرق محمد على هذه الرواية بين السجدة وبين الركوع، فقال: بزيادة السجدة تفسد الصلاة وبزيادة الركوع لا تفسد.
والفرق: أن السجدة قربة بنفسها والركوع ليس بقربة في نفسه والركوع يتعبَد بالسجدة وما يتعبد بالركوع فدل أن للسجدة من القوة ما ليس للركوع، فجاز أن تفسد الصلاة بزيادة السجدة ولا يفسد بزيادة الركوع، وإذا جاء إلى الإمام وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، فدخل في صلاته وركع وسجد معه السجدتين لا يصير مدركاً للركعة، ولا تفسد صلاته، وكذلك لو أدرك الإمام في السجدة الأولى فركع هذا الرجل وسجد سجدتين لا تفسد صلاته.
فرق بين هذا وبينما إذا ركع الإمام وسجد سجدة ورفع رأسه منها، فجاء رجل ودخل معه وركع وسجد سجدتين، فإنه لا تفسد صلاته، والفرق: أن في المسألة الأولى لم يدخل فيها إلا زيادة ركوع؛ لأنه وجب عليه متابعة الإمام في السجدتين، وذا لا يفسد الصلاة، أما هنا أدخل زيادة ركعة وهو الركوع والسجود وأنه يفسد الصلاة والله أعلم.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا زاد في الركوع أو في السجود، إن كانت الزيادة عن سهو بأن ركع ركوعاً زائداً أو سجد سجوداً زائداً تفسد صلاته بالإجماع، وأما إذا تعمد ذلك يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قول محمد: تفسد بناءً على اختلافهم في سجدة الشكر، وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقول بالفساد في صورة العمد، والله أعلم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل دخل (مع) الإمام في أول صلاته، ثم قام ثانية وقد سجد الإمام سجدة التلاوة، فظن هذا الرجل أنه قد ركع، وسجد.....؟ لرجل ويسجد يريد، اتباع الإمام، قال: لا تفسد عليه صلاته؛ لأنه متبع الإمام فيها وهي التلاوة، فإن سجد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه قد زاد في صلاته ركعة وسجدة، فلا تكون(1/404)
سجدة التلاوة فصلاً بين الركعة والسجدة الثانية والله أعلم.
(فصل) في بيان من هو أحق بالإمامة وفي بيان من يصح إماماً لغيره، ومن لا يصح، وفي بيان تفسير حال المصلي إماماً كان أو منفرداً أو مقتدياً وفي بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع
أما الكلام في بيان من هو أحق بالإمامة، نقول: الأولى بالتقديم الأعلم بالسنّة إذا كان يحسن من القراءة ما يجوز بها الصلاة؛ لأن القراءة يحتاج إليها في ركن واحد والعلم بالسُنّة يحتاج إليه من أول الصلاة إلى آخرها؛ فكان الأعلم بالسنّة أولى، والذي روي أن النبي عليه السلام قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا سواء، فأعلمهم بالسنّة» فإنما قال ذلك في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يتلقنون القرآن بأحكامه فالأقرأ فيهم كان أعلم، فأما في زماننا فيكون الرجل ماهراً في القراءة ولا حظ له من العلم، فالعلم بالسنّة أولى، قال: فإذا تساووا فأكثرهم ورعاً للحديث، فإذا تساووا فأسنهم عمراً فالقوله عليه السلام «من صلى خلف عالم تقي، فكأنما صلى خلف نبي» ؛ ولأن رغبة الناس في الإقتداء بالأورع....، وفي الحديث الذي روينا قدم أقدمهم هجرة على الأورع؛ لأن الهجرة كانت فريضة يومئذٍ ثم انتسخ لقوله «لا هجرة بعد الفتح» ؛ ولأن أقدمهم هجرة كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يهاجرون لتعلم الأحكام، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنّاً لقوله عليه السلام «الكبر الكبر» ، ولأن أكبرهم سناً يكون أعظم حرمة عادة، ورغبة الناس في الاقتداء به أكثر، والعالم بالسنّة أولى بالتقديم إذا كان تجنب الفواحش الظاهرة، وإن كان غيره أورع منه؛ لأنه أقدر على حفظ هذه الأمانة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: أكره أن يكون الإمام صاحب بدعة، ويكره الرجل أن يصلي خلفه، وهذا لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء به، فيؤدي إلى تقليل الجماعة، ولو أن رجلين هما في الفقه والصلاح سواء، إلا أن أحدهما أقرأ فقدم القوم الآخر ولم يقدموا أقرأهمها، فقد أساؤا فلا يأتمون، قال: وأما الفاسق فتجوز الصلاة خلفه لقوله عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ؛ ولأن الصحابة والتابعين لم يمنعوا عن الجمعة خلف الحجاج مع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن........(1/405)
ولكن مع هذا يكره تسليمه لما فيه من تقليل الجماعة، فقل ما رغب الناس في الاقتداء بالفاسق.
وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : في الصلاة خلف أهل الأهواء وقال: حاصل الجواب فيه، إن كان من كان من أهل قبلتنا، ولم يقل في هواه حتى لم يحكم بكونه كافراً ولا بكونه ماجناً بتأويل فاسد تجوز الصلاة خلفه، وإن كان هواه يكفر أهلها، كالجهمي والقدري الذي قال بخلق القرآن، والروافض المغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا يجوز.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف من انتحل من هذه الأهواء شيئاً (64أ1) ، فهو صاحب بدعة، ولا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب بدعة.
وعن الشيخ الفقيه الزاهد أبي محمد إسماعيل بن الحسن رحمه الله أنه قال: روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز.
وفي «نوادر ابن سماعة» وهشام عن محمد أنه لا يصحُ خلف أهل الأهواء، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف من يستثني في إيمانه؛ لأنهم شاكون في أصل دينهم.
وأما الصلاة خلف شافعي المذهب: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن من كان منهم يميل عن القبلة، أو يعلم يقيناً أنه احتجم ولم يتوضأ، أو خرج منه شيء من غير السبيلين ولم يتوضأ، أو أصاب ثوبه مني أكثر من قدر الدرهم ولم يغسله لا يجوز، وإن كان لا يميل عن القبلة، ولم يتيقن بالأشياء التي ذكرنا يجوز، وقال أبو يوسف لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق؛ لأنه بدعة فلا تجوز الصلاة خلف المبتدع، وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد أنه سئل هل يصلى خلف شارب الخمر؟، قال: لا ولا كرامته معنى قول محمد.... ينبغي، فأما الصلاة خلفهُ جائرة.
وفي «نوادر المعلى» المعلا عن أبي يوسف: معتوه يفيق أحياناً إلا أنه ليس لإفاقته وقت معلوم إن كان في أكثر حالاته معتوهاً، فهو في جميع حالاته بمنزلة المطبق عليه، فإن صلى في حال إفاقته بقوم أعادوا الصلاة، وإن لإفاقته وقتاً معلوماً فهو في حال إفاقته بمنزلة الصحيح، قال ولا بأس بأن يؤم الأعمى، لما روي أن النبي عليه السلام أمر ابن أم مكتوم على المدينة مرة وعتبان بن مالك وكانا أعميين والبصير أولى؛ لأن الأعمى لا يتوقى النجاسات.
وتكره إمامة العبد وولد الزنا، أما ولد الزنا؛ فلأنه لم يكن له أب يفقهه فكان الجهل عليه غالباً، والعبد مشغول بخدمة المولى فكان الجهل عليه غالباً أيضاً، قال: فأما الأعرابي: فإن كان عالماً بالسنّة فهو كغيره، إلا أن غيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب والتقوى نادر، قال: فلا تجوز إمامة الصبي في صلاة الفرض، وقال الشافعي: تجوز؛ لأن العمل يصح من الصبي نفلاً لا فرضاً، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا(1/406)
على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما اقتداء البالغ بالصبي في التطوع، فقد جوزه محمد بن مقاتل..... إليه خصوصاً في ليالي رمضان في التراويح، وبه قال مشايخ بلخ والأصح عندنا أنه لا يجوز؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حتى لا يلزم الصبي القضاء بالإفساد بخلاف البالغ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، كيف وقد قال النبي: عليه السلام؛ «الإمام ضامن» والصبي لا يصح منه ضمان فليس، فكيف يَصح منه ضمان صلاة المقتدي «و (في) نوادر الصلاة» إذا افتتح الصلاة خلف غلام لم يحتلم ثم قهقه لا تنتقض طهارته؛ لأنه لم يصر شارعاً في الصلاة أصلاً، ولم يفصل بين الفرض والنفل، فعلم أن الصحيح أن إمامة الصبي كما لا تجوز في الفرض لا تجوز في النفل، أو يجوز الاقتداء لمن كان معروفاً بأكل الربا، ولكن يكره روي عن أبي حنيفة نصاً وعن أبي يوسف لا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب خصومة في الدين.
وإن صلى رجل خلفه جاز قال الفقيه أبو جعفر الوزان: يكون مراد أبي يوسف الدين يناظر في دقائق الكلام، ومن صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزاً ثواب الجماعة، قال عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، أما لا ينال ثواب من يصلي خلف تقي المذكور في قوله عليه السلام: «من صلى خلف تقي عالم فكأنما صلى خلف نبي» ، الفاسق إذا كان يؤم ويعجز القوم عن منعه تكلموا: قال بعضهم: في صلاة الجمعة يقتدى به، ولا تترك الجمعة بإمامته أما في غير الجمعة من المكتوبات لا بأس أن يتحول إلى مسجد آخر، فلا يصلي خلفه، ولا يأثم بذلك؛ لأن قصده الصلاة خلف تقي، ومن أم قوم وهم له كارهون، إن كانت الكراهة لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له ذلك، وإن كان هو أحق بالإمامة لم يكره: لأن الفاسق والجاهل يكره العالم والصالح.
أبو سليمان عن محمد في «نوادره» : رجل أم قوماً شهراً ثم قال كنت على غير وضوء، وقال كان في ثوبي قذر، قال: يعيدون صلاتهم إلا أن يكون ماجناً، فحينئذٍ لا يلتفت إلى قوله ولا يعيدون الصلاة،، وقد فسر بعض المتقدمين الماجن...... إلى النرد واللعب في هذه الصورة والله أعلم.
وأما في بيان من يصلح إماماً لغيره، ومن لا يصلح
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا يؤم القاعد الذي يومي قوماً قياماً يركعون ويسجدون، فلا قوماً قعوداً يركعون ويسجدون، والأصل في هذا أن يقال بأن(1/407)
صلاة المقتدي مبني على صلاة الإمام فكان كالبيع له والشيء يستتبع ما هو دونه أو ما هو مثله، ولا يستتبع ما هو فوقه كأن كان حال الإمام مثل حال المقتدي أو فوقه جاز صلاة الكل، وإن كان حال الإمام دون حال المقتدي صحت صلاة الإمام، ولا تصح صلاة المقتدي.
بيان هذا الأصل في المسائل: إذا كان الإمام يصلي قائماً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود أو قوم يصلون قعوداً بركوع وسجود أو قوم يصلون بالإيماء مستلقياً على قفاهم، فصلاة الكل جائزة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وأقوى من حال البعض.
وإن كان الإمام يصلي قاعداً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود.
القياس: أن لا تجوز صلاة القوم، وبه أخذ محمد رحمه الله؛ لأن إحرام القوم انعقد للقيام، وإحرام الإمام لم ينعقد له، فلا تتحقق...... وحال القوم أقوى من حال الإمام، وفي الاستحسان تجوز صلاة القوم وهو قولهما فقد صح أن النبي عليه السلام صلى في آخر عمره قاعداً، والناس خلفه قيام، ولنا في رسول الله عليه السلام أسوة، لو كان القوم يصلون قعوداً بركوع وسجود كالإمام، أو يصلون قعوداً بالإيماء، فلا يقدرون على السجود، أو يصلون قياماً بالإيماء بأن كانوا لا يقدرون على القعود، فصلاة كلهم جائرة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وفوق حال البعض، فإن الصلاة قاعداً بركوع وسجود أقوى من الصلاة قاعداً أو قائماً بالإيماء، ولو كان الإمام يصلي قاعداً بالإيماء لا يقدر على السجود وخلفه قوم يصلون قعوداً بإيماء أيضاً يجوز؛ لأن حال الإمام مثل حال القوم، فإن كان خلفه قوم قيام يركعون ويسجدون، أو قوم قعود يركعون ويسجدون لا تجوز صلاة القوم، وعند زفر رحمه الله يجوز؛ لأن الكل صلاة.
ولنا: أن الاقتداء بناء والبناء على المعدوم لا يتحقق وإحرام الإمام لا ينعقد للركوع، فرع في «نوادر» الصلاة على هذا الأصل فقال: إذا كان الإمام مستلقياً يومي وخلفه من يومي مستلقياً ومن يومي قاعداً، تجوز صلاته، وصلاة من هو في مثل حاله، فلا تجوز صلاة القاعد لما فيه من بناء القوي على الضعيف، فإن حال المستلقي في الإيماء دون حال القاعد.
ألا ترى أنه لا تجوز صلاة التطوع بالإيماء مستلقياً إذا كان قادراً على القعود وبهذا فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا، وبين اقتداء القائم بالقاعد الذي يركع ويسجد؛ لأن حال الإمام هناك قريب من حال المقتدي، حتى يجوز أداء التطوع قاعداً مع القدرة على القيام، وها هنا بخلافه والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: عن أبي حنيفة في أمي صلى بقوم(1/408)
أميين، وبقوم قارئين فصلاتهم جميعاً فاسدة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله،: صلاة الإمام ومن هو بمثل حاله تامة، يجب أن يعلم أن الأمي إذا أم قوماً أميين أن صلاتهم جميعاً جائزة بلا خلاف؛ لأن الحالة مستوية فهو كالقاريء إذا أم قوماً عراة، وكصاحب الجرح السائل إذا أم قوماً جرحى، والأمي إذا أم قوماً قارئين فصلاة الكل فاسدة، بلا خلاف، وإنما فسدت صلاة الإمام؛ لأنه ترك القراءة في صلاة مع القدرة عليها؛ لأن القارىء إذا كان يصلي معه كان يمكنه أن يقتدي به حتى تصير صلاة بقراءة؛ لأن قراءة الإمام جعلت قراءة للمقتدي، فإذا ترك الاقتداء مع القدرة عليها؛ فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، وإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي ضرورة، وكان أبو الحسن الكرخي يقول اقتداء القارىء بالأمي صحيح في «الأصل» ولكن (64ب1) إذا جاء أوان القراءة تفسد صلاته، وكان أبو جعفر الطحاوي يقول: لا يصح اقتداء القارىء بالأمي أصلاً، والقارىء إذا أم قوماً قارئين فصلاتهم جميعاً جائزة، وهذا ظاهر.
وكذلك القارىء إذا أم قوماً أميين، فصلاة الكل جائزة بلا خلاف؛ لأن الإمام أعلى حالاً من المقتدي، وإنه لا يمنع صحة الاقتداء كالمتنفل إذا اقتدى بالمفترض، وكالمومي إذا اقتدى بمن يركع ويسجد، وأما الأمي إذا أم قوماً أميين وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد صلاة الإمام، ومن هو بمثل حاله من الأميين جحائزة، وصلاة القارئين فاسدة.
وفي مسألة «الجامع الصغير» : والأخرس إذا أم قوماً خرساً فصلاة الكل جائزة، وأما إذا أم أمياً ذكر في بعض المواضع: قال بعض مشايخنا: لا يجوز؛ لأن الأخرس لا يأتي بالتحريمة، وهي فرض، والأمي يأتي بها فصار كاقتداء القارىء بالأمي، وذكر في بعض المواضع لا يجوز عند علمائنا.
وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : أن الأخرس مع الأمي إذا أراد الصلاة كان الأمي أولى بالإمامة فهذا دليل على جواز اقتداء الأمي بالأخرس، والأمي إذا أم الأخرس فصلاتهما جائزة بلا خلاف وأما الأخرس إذا أم قوماً خرساً وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة، وعندهما صلاة الإمام ومن هو أخرس جائزة.
حجة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه اقتدى هذا الإمام من هو بمثل حاله قياساً على القارىء إذا أم قوماً كساة وعراة وقياساً على صاحب الجرح السائل إذا أم قوماً صحاحاً وجرحى، وقياساً على المومي إذا أم قوماً مومين وقوماً قارئين، فإن في هذه الصورة تجوز صلاة الإمام ومن وبمثل حاله بلا خلاف كذا هنا.
حجة أبي حنيفة: أن الإمام ترك القراءة مع القدرة عليها، فإنه قادر على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء بالقارىء على نحو ما بينا فهو معنى قولنا ترك القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة القوم ضرورة.
وعلى هذه الطريقة: يقول: إذا كان بجنب الأمي رجل قارىء يصلي، والأمي يعلم أن صلاته موافق لصلاة الإمام فصلى الأمي وحده لا تجوز صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا، وفي هذا الفصل كلمات تأتي عند تمام المسألة إن شاء الله تعالى.(1/409)
بخلاف القارىء إذا صلى بقوم عراة وكساة، لأن القارىء غير قادر على أن يحصل صلاته بكسوة بالاقتداء بالكاسي؛ لأن كسوة الإمام لم تجعل كسوة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد فقد ترك الكسوة مع القدرة عليها.
وبخلاف صاحب الجرح السائل غير قادر على أن يجعل صلاة بطهارة بالاقتداء بالصحيح؛ لأن طهارة الإمام لم تجعل طهارة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد، فقد ترك الطهارة مع القدرة عليها، وهذا هو تخريج المومي إذا أم قوماً مومين وقادرين، ورأيت مسألة الأمي إذا كان يصلي وحده، وهناك قارىء يصلي وحده، في بعض النسخ أن القارىء إذا كان على باب المسجد وبجوار المسجد، والأمي في المسجد يصلي وحدهُ أن صلاة الأمي جائزة بلا خلاف، وكذلك إذا كان القارىء في صلاة غير صلاة الأمي جاز للأمي أن يصلي وحده ولا ينتظر فراغ القارىء من الصلاة بالاتفاق، وأما إذا كان القارىء في ناحية من المسجد والأمي في ناحية أخرى، وصلاتهما موافقة.s
فقد ذكر أبو حازم: أن على قياس قول أبي حنيفة: لا يجوز وهو قول مالك، ولئن سلمنا أنه يجوز فوجه تخريجه تحريمه أنه لم يظهر من القارىء رغبة في أداء الصلاة بالجماعة، فلا يعتبر وجود القارىء في حق الأمي، وذكر الفقيه أبو عبد الله الجرجاني عن القاضي أبي حازم رحمه الله في مسألة الأخرس إذا صلى بقوم خرساً وبقوم قارئين.
وفي مسألة الأمي إذا صلى بقوم أميين وبقوم قارئين إنما تفسد صلاة الأمي، والأخرس عند أبي حنيفة إذا علم أن حوله قارىء، أما إذا لم يعلم لا تفسد صلاته، كما قالا، إلا أن في ظاهر الرواية لا فصل بين حال العلم وبين حالة الجهل.
ووجه ذلك: أن القراءة فرض وما يتعلق بالفرائض لا يختلف بين العلم والجهل، ألا ترى أنه لو ترك القراءة ناسياً أو جاهلاً أو عامداً لا يجوز، وطريقهم ما قلنا، وإلى هذا كان يميل الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وروى هشام عن محمد أنه قال: عَامة أصحابنا إذا أم الأخرس الأميين، فصلاة الأخرس تامة وصلاة الأميين فاسدة، وإن أم الأمي الأخرس فصلاتهما تامة، قال الفقيه أبو جعفر أراد محمد بقوله: قال عامة أصحابنا من كان معه من المتعلمين، أما لم يرد به أبا حنيفة؛ لأنه يخالفهم في ذلك، ثم إن محمداً رحمه الله لم يذكر في «الجامع الصغير» : أن القارىء إذا اقتدى بالأمي هل يصير شارعاً في الصلاة؟ وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصير شارعاً حتى لو كان في التطوع.... وبعضهم قالوا: يصير شارعاً ثم تفسد حتى لو كان في التطوع يجب القضاء، والصحيح هو الأول، نص عليه محمد في «الأصل» .
وذكر القدوري في «شرحه» : أن القارىء إذا دخل في صلاة الأمي متطوعاً ثم أفسد ما لم يلزمه القضاء عند زفر رحمه الله، قال: ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل، وإنما يلزمه القضاء؛ لأن الشروع بمنزلة النذر، ولو نذر القارىء أن يصلي بغير قراءة لا تلزمه، فكذا إذا شرع.(1/410)
وكل جواب عرفته في القارىء إذا اقتدى بالأمي ثم أفسده على نفسه، فهو الجواب في الرجل يقتدي بالمرأة والصبي والمحدث والجنب، ثم أفسده على نفسه، فلا يؤم المومي من يركع ويسجد، وقال زفر رحمه الله: يجوز، لأن الركوع والسجود هنا سقط إلى بدل والمتاوي بالبدل كالمتاوي بالأصل، ولهذا قلنا: إن المتيم يؤم المتوضئين، وبه فارق ما تقدم؛ لأن هناك الفرض سقط لا إلى بدل، فلم يمكن إلبنا عليه قلنا: إن الإيماء ليس ببدل عن الركوع؛ لأنه بعضه وبعض الشيء لا يكون بدلاً عنه، ومتى كان بعض الأصل، لو جاز الاقتداء لكان مقتدياً في بعض الصلاة ولا البعض، وكذلك لا يجوز قال: فلا تؤم المرأة الرجل كان الرجل إن قام خلفاً، فهو منهي عنه، ضرورة الأمر بالتأخير وإن قام بحزاءها لا تجوز لهذه العلة، ولعلة المحاذاة، فإنها تفسد صلاة الرجل، ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح.
والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل، بخلاف صاحب الجرح السائل، فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، ويؤم القاعد الذي يركع ويسجد قوماً قياماً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يؤم لقوله عليه السلام: «لا يؤمنّ أحد بعدي جالساً» ، ولأن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، وإنما يتحقق بناء الموجود على الموجود للبناء لموجود على المعدوم، واقتداء القائم بالقاعد بناء الموجود على المعدوم في حق القيام، ولهما ما روي أن النبي عليه السلام في مرضه صلى بالناس وهو جالس، ولأن بين القيام والقعود تفاوت، فإن القائم كلا النصفين منه، مستوي وأحد النصفين من القاعد مثني، وبينهما تقارب، والتقارب في وصف الكمال لا يمنع الاقتداء كاقتداء القائم بالراكع.
ويؤم الأحدب القائم كما يؤم القاعد، ولا يؤم الراكب النازل، والألثغ إذا أم غير الألثغ، ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل أنه لا يجوز؛ لأن ما يقول صار لغة له، وقال غيره لا تجوز إمامته.
والمفتصد إذا أم غيره إن كان يأمن خروج الدم يجوز، أمي اقتدى بقارىء بعد ما صلى ركعة فلما فرغ الإمام قام الأمي لقضاء ما عليه فصلاته فاسدة في القياس، وقيل: هذا قول أبي حنيفة، وفي الاستحسان يجزيه، وهو قولهما.
وجه القياس: وهو أنه لما اقتدى بالقارىء صارت صلاته بقراءة؛ لأن قراءة الإمام له قراءة كما روينا من الحديث،، وإن كان قراءة الإمام له قراءة صار كأنه كان قارئاً في الابتداء، ولو كان قارئاً في الابتداء ثم قام إلى قضاء ما سبق به، وعجز عن القراءة بأن نسي القرآن لا تجوز صلاته لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذلك هنا.(1/411)
وجه الاستحسان، وهو: أنه إنما تلزم القراءة ضمن الاقتداء، وهو مقتدي فيما بقي على الإمام لا فيما سبق به.
يوضحه: أنه لو بنى كان مؤدياً بعض الصلاة بقراءة، وبعضها بغير قراءة.... مستقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، ولا شك إن أداء بعض الصلاة بقراءة أولى من أداء جميع الصلاة بغير قراءة، وهذا كرجل افتتح صلاة العصر مع تذكره أن الظهر عليه، فلما صلى ركعتين فغربت بالشمس فمضى على صلاته؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة خارج الوقت، ولا شك أن أداء بعض الصلاة في الوقت (65أ1) ، وبعضها خارج الوقت أولى من إذا جمع الصلاة خارج الوقت، بخلاف ما إذا نسي القراءة حيث تفسد صلاته عند أبي حنيفة؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بقراءة، فإن قارئاً حتى يذكره، فيتذكر فتصير جميع الصلاة قراءة، أما ها هنا لو أمرنا بالاستقبال صار مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، وكذلك الجواب في الأخريين.
وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح الصلاة بقوم بعضهم أميين وبعضهم قارئين فأحدث قبل أن يصلي شيئاً، فانصرف وقدم رجلاً من القارئين، فإن صلاتهم فاسدة، وخص قول أبي حنيفة في «الكتاب» ، وأنه قولهم جميعاً أما على مذهب أبي حنيفة؛ فلأن صلاة الإمام فاسدة من الابتداء، فالاستخلاف من الأمي إنما حصل في صلاة فاسدة والاستخلاف في صلاة فاسدة فاسد.
وأما على مذهبهما؛ فلأن صلاة القارىء كانت فاسدة، فهذا قد استخلف من ليس له صلاة، فلا يصح الاستخلاف كما لو استخلف صبياً أو محدثاً أو رجلاً جانباً عنده ولم يشرع في صلاة الإمام كان الاستخلاف باطلاً؛ لأنه استخلاف من لا صلاة له كذا هنا إلا أن الذي..... إذا كبر ينوي الدخول في صلاة الإمام تجوز الخلافة؛ لأن الذي سبقه الحدث إمام ويصلح لإمامته، وفي مسألتنا القارىء وإن كبر بانياً ونوى الشروع في صلاة الإمام لا تصح الخلافة أيضاً، لأنه حصل مقتدياً بالأمي، والأمي لا يصلح إماماً للقارىء قبل سبق الحدث فبعد سبق الحدث أولى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : قرأ في الأوليين فسبقه الحدث ثم قدم أمياً في الأخريين فسدت صلاتهم، وكذلك إن قدمه في التشهد وهو قول أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه لا تفسد صلاتهم؛ لأن فرض القراءة صار مؤدى فصار الأمي والقارىء سواء في الركعتين الأخريين، ولظاهر الرواية وجهان.
أحدهما: أن تحريمة هذا الخليفة لم تنعقد للقراءة؛ لأنه لا قراءة عليه متى كان أمياً، وإذا لم تنعقد تحريمته للقراءة، لا يمكنه أن يبني على صلاة انعقدت بقراءة، ألا ترى أن الأمي إذا تعلم في وسط الصلاة فسدت صلاته لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وإنما فسدت صلاته لما قلنا.(1/412)
الوجه الثاني: أنه استخلف من لا يصلح إماماً له، ولهم فتفسد صلاته وصلاتهم كما لو قدم صبياً أو امرأة؛ وهذا لأن الاستخلاف عمل كثير إلا أنه يحمل لأجل الحاجة إلى إصلاح الصلاة وليس في تقديم من لا يصلح إماماً فتفسد.
وبيانه: أنه عاجز عن القراءة ولا صلاة في حق القارىء الإجزاء، فمن لا يقرأ لا تجوز صلاته لعدم الركن للضرورة لهذا الدليل، والفقه في ذلك أن القراءة شرط في جميع هذه العبادة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» ، واسم الصلاة اشتملت جميع هذه العبادة فينبغي أن يؤخر القراءة مشتملة على كلها غير أنه لا يمكن تحصيل ذلك تحقيقاً فجعل الحاصل في البعض موجوداً في الكل تقديراً، وإنما يمكن إثبات الشيء تقديراً ممن يكون له أهليه تحصيله فعند استخلاف الأمي تفوت القراءة في الأخريين تقديراً وتحقيقاً فتفسد، وأما إذا صلى ركعة ثم سبقه الحدث ثم استخلف أمياً لم يصح هذا الاستخلاف بلا خلاف؛ لأن القراءة فرض في الركعة الثانية، وقد تركها الخليفة فتفسد صلاتهم، كما لو استخلف قارئاً فلم يقرأ، وكان الأول في مكانه وترك القراءة، وأما بيان تعيين حال المصلي قال محمد رحمه الله.
في «الأصل» : أمي صلى بقوم بعض صلاته ثم تعلم سورة وقرأها فيما بقي، فإنه لا تجزئه صلاته، وصلاة من خلفه بمنزلة الأخرس بزوال من الخرس في حال صلاته، وهذا قول علمائنا الثلاثة؛ لأنه يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم تنعقد القراءة، فلا يصح هذا البناء قياساً على القارىء إذا اقتدى بالأمي، فإنه لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح لوجهين، أحدهما: ما مر قبل هذا، والثاني: أن المقتدي يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم ينعقد لها، وكذا القادر على الركوع والسجود إذا اقتدى بالمومي لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح اقتداؤه لما قلنا.
بيان ما قلنا: أنه بعد ما تعلم سورة لزمته القراءة وتحريمته لم تنعقد لها في الابتداء، لكونه عاجزاً عن القراءة عند التحريمة هذا لو كان إماماً وتعلم سورة في وسط الصلاة، وكذلك الجواب فيما إذا كان منفرداً وتعلم سورة في وسط الصلاة، فأما إذا كان مقتدياً بالقارىء وتعلم سورة في وسط الصلاة لا ذكر لهذه المسألة في الكتب المشهورة وقد اختلف المشايخ كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: لا تفسد صلاته؛ لأنه كان قارئاً محكماً في أول صلاته من حيث إن قراءة الإمام جعل له قراءة فانعقد تحريمته للقراءة، فإذا تعلم سورة، فإنما يبني صلاته بقراءة على تحريمة انعقدت لها فلا تفسد صلاته، كالقارىء إذا تعلم سورة.
وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد وعامة المشايخ يقول: تفسد صلاته؛ لأن تحريمة المقتدي لم تنعقد للقراءة حقيقة؛ لأنه لم يكن قادراً على القراءة حقيقة إلا أنه اعتبر...... حكمنا من حيث إن قراءة الإمام جعلت قراءة له، وحين تعلم السورة(1/413)
فقد قرأ على القراءة حقيقة، فلا يمكنه البناء على تحريمة انعقدت للقراءة من حيث الحكم؛ لأن ما لزمه فوق ذلك.
القارىء إن صلى بعض صلاته ثم نسي القراءة وصار أمياً فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويستقبلها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا تفسد صلاته ويبني عليها استحساناً، وهو قول زفر.
حجتهم في ذلك: أن فرض القراءة في الركعتين، ألا ترى أن القارىء لو ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين أجزأه، فإن كان قارئاً في الابتداء وقرأ في الركعتين فقد أدى فرض القراءة فعجز عن ذلك كتركه القراءة مع القدرة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا كان قارئاً في الابتداء فقد التزم إذاً جميع الصلاة بقراءة، ثم عجز عن الوفاء بما التزم الاستقبال.
القارىء إذا صلى بقوم وقرأ في الركعتين الأوليين ثم أحدث واستخلف أمياً فسدت صلاتهم إلا على قول زفر، فإنه يقول: الإمام الأول أدى فرض القراءة، وهي القراءة في الركعتين ولم تبق القراءة فرضاً في الركعتين الأخريين.
فاستخلاف القارىء والأمي فيه سواء، وإنا نقول القراءة فرض جميع الصلاة لصفة القراءة، والأمي عاجز عن ذلك، فلا يصح خليفة له، واشتغال الإمام باستخلاف من لا يصلح خليفة له تفسد صلاة الإمام، كما لو استخلف صبياً أو امرأة وعلى هذا إذا رفع الإمام رأسه من أحد السجدة فسبقه الحدث فاستخلف أمياً، فسدت صلاته وصلاة القوم عندنا، فإن كان قعد مقدار التشهد، ثم سبقه الحدث واستخلف فهو على الاختلاف المعروف بين أبي حنيفة وصاحبيه، عند أبي حنيفة تفسد، وعندهما لا ويبني مرحلة الاثني عشرية، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني، وذكر الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» أن على قول أبي حنيفة لا تفسد صلاته؛ لأن هذا الفعل ليس من أفعال الصلاة، فيخرجه عن الصلاة، كما لو تكلم أو خرج من المسجد.
وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح صلاة الظهر فقعد قدر التشهد وسلم، ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدتي السهو، فإنه لا يعود وصلاته جائزة عند الكل، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأنه يصير خارجاً بالسلام إذا كان عليه سهو، وإنما تعود الحرمة متى أمكنه العود إلى السجود وبعدما تعلم السورة لا يمكنه العود إلى السجود؛ لأنه متى عاد لا يكون محسوباً من السهو، لأنه يؤدي سجدتي السهو بتحريمة لم تنعقد بقراءة بعدما صار قارئاً فلا يمكنه ذلك، كما لو تعلم سورة وقد بقيت عليه سجدة أصلية، أو قعدة؛ فإنه لا يمكنه إتيان الباقي بعد ما تعلم السورة، وإنما لا يمكنه لما قلنا كذا هنا، فإذا تعذر عليه العود بقي خارجاً بالسلام السابق فتعلم السورة يحصل بعد الخروج فلا تفسد صلاته.
نظير هذا ما لو كان مسافراً فنوى الإمامة بعد السلام، وكان عليه سجدتي السهو، فإنه يصير خارجاً بالسلام؛ لأن العود تعذر بسبب الإقامة، كذا هنا، وعلى قول محمد: لا يخرج بالسلام لذا كان عليه السهو (65ب1) فكأنه تعلم السورة قبل السلام ولو تعلم(1/414)
قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد تجزيه صلاته؛ لأنه لم يبق عليه واجب كذا ها هنا.
وأما إذا عاد إلى سجدتي السهو فلما سجد سجدة تعلم السورة، فإن صلاته تفسد على قول أبي حنيفة وعلى قولهما: لا تفسد؛ لأنه عاد إلى الحرمة حين سجد فصار كما لو تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فتصير المسألة اثني عشرية.
وأما إذا سلم ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو قراءة؟ فتشهد لم يذكر هذا في «الكتاب» ويجب أن تكون المسألة اثنا عشرية؛ لأنه سلام ساهي فيجعل وجوده كعدمه، فكأنه تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فيكون على الاختلاف، وأما إذا سلم ثم تعلم سورة ثم تذكر أن عليه سجدة قال: صلاته تفسد عندهم جميعاً؛ لأنه تعلم سورة وعليه ركن من أركان الصلاة، وأما بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع، وإذا كان بين الإمام وبين المقتدي حائط أجر صلاته أطلق الجواب في «الأصل» إطلاقاً قالوا: وهذا إذا كان الحائط ذليلاً قصيراً أما إذا كان بخلافه منع صحة الاقتداء، ونص على هذا: الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» ، فإنه قال: وبينه وبين الإمام حائط ذليل قصير وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إذا كان بهذه الصفة حائلاً، واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القصير الذليل وغيره.
حكي عن القاضي أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول: الذليل الذي يصعد عليه من غير كلفة ولا مشقة يخطو خطوة ويضع قدمه عليه، وعن محمد بن سلمة رحمه الله أنه قال: الذليل الذي لا تشتبه على المقتدي حال الإمام بسببه، وغير الذليل الذي يشتبه عليه حال الإمام بسببه.
وذكر الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن الذليل الذي لا يمنع المقتدي عن الوصول إلى الإمام لو قصد الوصول إليه مثل حائط؛ لأنه إذا لم يمنع الوصول إلى الإمام لم يكن حائلاً بينه وبين الإمام، والمانع من صحة الاقتداء هو الحائل، وإن كان الحائط عريضاً طويلاً بحيث يمنعه عن الوصول إلى الإمام لو أراد الوصول إليه.
ذكر في بعض المواضع أنه يمنع صحة الاقتداء اشتبه عليه حال الإمام أو لم يشتبه، وإن كان على هذا الحائط العريض الطويل نقب إن كان لا يمنعه عن الوصول إلى الإمام لا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان النقب صغيراً يمنعه عن الوصول إلى الإمام، ولكن لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤية، فمن مشايخنا من قال: يمنع صحة الاقتداء؛ لأنه إذا لم يمكنه الوصول إلى الإمام فقد اختلف المكان، ومنهم من قال لا يمنع؛ لأن الحائط إنما يصير مانعاً لاشتباه حال الإمام عليه لا لاختلاف المكان؛ لأن القدر الذي هو مشغول بالحائط لو كان فارغاً لا يختلف المكان، وهذا هو الصحيح.
وإن كان على هذا الحائط باب إن كان الباب مفتوحاً لا يعتبر حائلاً، لأنه لا يشتبه عليه حال الإمام ولا يمنعه من الوصول إلى الإمام، فلا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان الباب مسدوداً، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: يعتبر حائلاً ويمنع صحة الاقتداء؛ لأنه ي(1/415)
منع الوصول إلى الإمام لو قصده، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا يمنع صحة الاقتداء؛ لأن الباب وضع للوصول والنفاذ فيكون على ما عليه وضع الباب كالمفتوح، وإن كان الحائط طويلاً إلا أنه مشبك، فمن اعتبر الوصول إلى الإمام يجعله حائلاً، ومن اعتبر عدم اشتباه حال الإمام لا يجعله حائلاً.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا لم يكن على الحائط العريض باب ولا خوخة ولا نقب، ففيه روايتان: في رواية يمنع الاقتداء؛ لأنه يشتبه عليه حال الإمام، وفي رواية لا يمنع، قال: وعليه عمل الناس بمكة، فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الآخر وبينهم وبين الإمام الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك، ولو كان بينه وبين الإمام طريق عظيم أو نهر عظيم لا يجوز الاقتداء عندنا لقوله عليه السلام: «ليس مع الإمام من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق من....» ؛ فلأنه يحلل بينهما ليس بمكان للصلاة حقيقة وحكماً، واختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء.
وتكلم المشايخ في مقدار الطريق الذي يمنع الاقتداء، قال بعضهم؛ أن يكون ما تمر فيه العجلة أو جمل بغيره وقال بعضهم؛ إذا كان طريقاً متطرفاً ما تمر فيه العامة يكون عظيماً يمنع الاقتداء، وإن كان طريقاً لا تمر فيه العامة، وإنما يمر فيه الواحد والإثنين لا يمنع الاقتداء، وهذا إذا لم تكن الصفوف متصلة، فأما إذا اتصلت الصفوف على الطريق الذي لا يمنع الاقتداء؛ لأن الكل بحكم اتصال الصفوف فصار مكان الصلاة، وإن كان على الطريق واحد لا يثبت الاتصال، وبالثلاث يثبت الاتصال بالاتفاق، وبالمثنى خلاف: على قول أبي يوسف يثبت وعلى قول محمد: لا يثبت، وكذلك اختلفوا في مقدار النهر العظيم الذي يمنع صحة الاقتداء، وقال بعضهم: النهر العظيم ما تجري فيه السفن والزوارق، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد.
في «المنتقى» : عن أبي حنيفة وهو الصحيح؛ لأنه إذا كان هكذا يصير حائلاً، ولكن ألا يصح الاقتداء في هذه الصورة إذا كان الناس يمرون فيه، وإن كانوا لا يمرون فيه لا تمنع الاقتداء، هذه الزيادة في متفرقات الفقيه أبي جعفر وعن أبي يوسف أنه إذا كان بحيث يمكن الشيء في بطنه كان عظيماً ومن المشايخ من قال إذا كان لا يمكن الرجل القوي أن يجتازه بوثبة فهو عظيم مانع صحة الاقتداء، وإن كان على النهر جسر وعليه صفوف متصلة لا تمنع صحة الاقتداء وللثلاثة حكم الصف بالإجماع، وليس للواحد حكم الصف بالإجماع وفي المثنى اختلاف على ما مر في الطريق، فإن كان بينه وبين الإمام بركة أو حوض إن كان بحال لو وقعت النجاسة في جانب تنجس الجانب الآخر لا يمنع(1/416)
الاقتداء، وإن كان لا يتنجس يمنع الاقتداء، ويكون كثيراً كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل يصلي بقوم في فلاة كم مقدار ما ينبغي أن يكون بينه وبين القوم حتى لا تجوز صلاتهم حكي عن الفقيه أبي القاسم: أنه قال: مقدار ما يمكن أن يصطف فيه القوم، وغيره من المشايخ قال: مقدار ما يسع فيه الصفَّان.
فرق بين هذا وبين ما إذا صلى الإمام في مصلى العيد يوم العيد حيث يجوز، وإن كان بين الصفوف فصل، والفرق: أن مصلى العيد بمنزلة المسجد في حق الصلاة بالاتفاق، وإن اختلفوا فيما عدا الصلاة؛ لأن ذلك كله جعل للصلاة ولا كذلك الفلاة.
وفي «الفتاوى» : إمام صلى بقوم على الطريق فاصطف الناس في الطريق على طول قال: إذا لم يكن بين الإمام وبين القوم مقدار ما يمر منه الجمل جازت صلاتهم وإلا فلا، وكذلك بين الصف الأول وبين الصف الثاني؛ لأن المانع من الاقتداء ها هنا هو الطريق لأن..... بكون الطريق...... وقدرنا الطريق المانع بهذا لما قلنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن المانع ثمة مجرد الانفصال، فقدرناه بالصف أو بالصفين.
رجلان أم أحدهما صاحبه في فلاة من الأرض جاء ثالث، ودخل في صلاتهما، فتقدم الإمام حتى جاوز موضع سجوده مقدار ما يكون بين الصف الأول وبين الإمام لا تفسد صلاته، وإن جاوز موضع سجوده؛ لأن في الابتداء لو كانوا ثلاثة وكان بينه وبينهم هذا القدر جاز، فكذا إذا تقدم هذا القدر.x
وفي «فتاوى الفضلي» : رجل يصلي في الصحراء فأخر عن موضع قيامه مقدار سجوده لا تفسد صلاته ويعتبر مقدار سجوده من خلفه وعن يمينه وعن يساره، ويعطى لهذا القدر حكم المسجد، كما في وجه القبلة، فما لم يتأخر عن هذا الموضع لم يتأخر عن المسجد، فلا تفسد صلاته، ولا يعتبر الخط في هذا الباب حتى لو خط حوله خطاً ولم يخرج عن الخط، ولكن تأخر عما ذكرنا من المواضع فسدت صلاته.
وفي هذا الموضع أيضاً، قوم يصلون خارج المسجد أو في صحراء ووسط الصفوف موضع لم يقم فيها أحد مقدار حوض أو...... تجوز صلاة من وراء ذلك الموضع إذا كانت الصفوف متصلة حوالي ذلك الموضع؛ لأن الصفوف إذا كانت متصلة حوالي ذلك الموضع صار الكل في حكم المسجد (66أ1) وقد مر قبل هذا (في) مسألة الحوض والبركة، بخلاف هذا، وهذه المسألة تؤيد قول من يقول بجواز الاقتداء خارج المسجد إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد، وإن لم يكن المسجد ملأناً أو في باب الجمعة في صلاة «الأصل» مسألة تدل على هذا القول.
وصورتها: إذا صلى الرجل في سوق الصيارفة صلاة الجمعة مقتدياً بإمام في(1/417)
المسجد جاز إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد اعتبر اتصال الصفوف ولم يعتبر كون المسجد ملأناً.
وإذا صلى في المئذنة مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، وكذا لو صلى على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، هكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك؛ فلأن غالب حال سطح المسجد أن لا يخلو عن كوة ومنفذ، فصار كحائط بينه وبين الإمام عليه باب، وهذا إذا كان مقامه خلف الإمام أو على يمينه أو على يساره، فأما إذا كان أمام الإمام أو بإذائه فوق رأسه لا يجوز، هذا المنقول عن أصحابنا، ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» ، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده هذه المسألة، وجعل الجواب فيها كالجواب في الحائط إن كان عليه نقب أو باب مفتوح أو مسدود إلى آخره، هذا إذا صلى على سطح المسجد.
فإن صلى على سطح بيت وسطح بيته متصل بالمسجد، ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» أنه يجوز، وعلل فقال: لأن سطح بيته إذا كان متصلاً بالمسجد لا يكون أشد حالاً من منزل يكون بجنب المسجد بينه وبين المسجد حائط.
ولو صلى رجل في مثل هذا المنزل مقتدياً بإمام في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته، فالقيام على السطح يكون كذلك، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح المختلفات» هذه المسألة، وقال: لا يجوز الاقتداء وعلل فقال: الحائط حائل كما لو كان على أرض تلك الدار.
ووجه التوفيق بين القولين يظهر لمن تأمل في المسألة المتقدمة، وإذا قام على رأس الحائط يريد به الحائط الذي بين المسجد ومنزله، وذكر علاء الدين رحمه الله في «شرح المختلفات» ، قالوا: بجوز الاقتداء؛ لأنه لا حائل هنا، وذكر علاء الدين أيضاً: إذا كان على رأس الحائط صف وصف على سطح المنزل فصحة اقتداء الذي على سطح المنزل على الخلاف فيما إذا قامت الصفوف خارج المسجد، وهناك إن كان المسجد ملأناً يصح الاقتداء، وإن لم يكن المسجد ملأناً، قال بعض المشايخ: لا يجوز الاقتداء، وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح. وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فناء المسجد له حكم المسجد حتى لو قام في فناء المسجد، واقتدى بالإمام صح اقتداؤه، وإن لم تكن الصفوف متصلة ولا المسجد ملأناً وإليه أشار محمد في باب صلاة الجمعة، فقال يصح الاقتداء في الطاقات بالكوفة، وإن لم تكن الصفوف متصلة فلا يصح في دار الصيارفة، إلا إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن الطاقات بالكوفة متصلة بالمسجد ليس بينها وبين المسجد طريق، فلا يشترط فيها اتصال الصفوف، فأما دارُ الصيارفة، فمنفصلة عن المسجد بينها وبين المسجد طريق، فيشترط فيها اتصال الصفوف، فعلى هذا يصح الاقتداء لمن قام على الدكان الذي يكون على باب المسجد؛ لأنها من فناء المسجد متصلة بالمسجد.
وفي «فتاوى أبي الليث» : إمام صلى بالناس في المسجد الجامع في غير يوم(1/418)
الجمعة، فقام صف خلف الإمام عند المقصورة وقام صف آخر في آخر المسجد، تكلموا منهم من قال: تجوز، ومنهم من قال: لا تجوز، قال الصدر الشهيد: الأعدل من الأقاويل أن الإمام إذا كان بالمقصورة والقوم..... خاصة يجوز، وكذا إذا كان الإمام بمسجد..... والقوم.... خاصة يجوز، فإن كان الإمام بمقصورة والقوم بمسجد منارة لا يجوز، واتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء، حتى لم يصح اقتداء مصلي الظهر لمصلي العصر لا من يصلي ظهراً لمن يصلي ظهر يوم غير ذلك، ولا اقتداء المفترض بالمتنفل، ويصح اقتداء المتنفل بالمفترض.
وقال الشافعي: يصح الاقتداء في جميع ذلك، ثم إذا لم يصح الاقتداء في هذه المسائل عندنا، ولم يصر شارعاً في الفرض، هل يصير متطوعاً شارعاً في الصلاة، ذكر في باب الحدث أنه لا يصير شارعاً، وذكر في باب الأذان أنه يصير شارعاً.
فمن المشايخ من قال: في المسألة روايتان، ومنهم من قال ما ذكر في باب الحدث، قول محمد وما ذكر في باب الأذان قولهما بناءً على أن الفريضة إذا بطلت هل تنقلب تطوعاً.
وذكر في «زيادات الزيادات» : إذا اختلف الفرضان قام أحدهما صاحبه لا تجوز صلاة المأموم، وإن قهقه فيها لم يكن عليه وضوء، وهذا يدل على أنه لم يصر شارعاً في الصلاة، وذكر في باب افتتاح الصلاة إذا وقع تكبير المقتدي قبل تكبير الإمام حتى لم يصر شارعاً في صلاة الإمام هل يصير شارعاً في صلاة..... تفسد، اختلفوا فيه قال بعضهم: يصير شارعاً، وإليه أشار محمد في هذا الباب حيث قال في تعليل المسألة؛ لأنه دخل في صلاة غير صلاة الإمام.
وذكر في «نوادر أبي سليمان» وأشار إلى أنه لا يصير شارعاً، والأصح أن في المسألة روايتان: قال الصدر الشهيد: والاعتماد على أنه لا يصير شارعاً ثَمَّ بين المشايخ اختلاف في اقتداء المفترض بالمتنفل قال بعضهم: اقتداء المفترض بالمتنفل كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل؛ لأن الاقتداء بناءً على سبيل المشاركة، وإنما يصح بناء الموجود على الموجود لا بناء الموجود على المعدوم، واقتداء المفترض بالمتنفل بناء الموجود على المعدوم في حق صفة الفرضية، وفي حق هذا المعنى جميع أفعال الصلاة والفعل الواحد على السواء.
وبعض مشايخنا قالوا: اقتداء المفترض بالمتنفل إنما لا يجوز في جميع أفعال الصلاة أما يجوز في فعل واحد، ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع وجاء إنسان واقتدى به فقبل أن يسجد السجدتين سبق الإمام الحدث، فاستخلف هذا الرجل الذي اقتدى به ساعتئذٍ صح الاستخلاف، ويأتي الخليفة بالسجدتين، وتكون هاتان السجدتان فعل الخليفة حتى يعيدها بعد ذلك فرضاً في(1/419)
حق من أدرك أول الصلاة، ومع هذا صح الاقتداء، وكذلك المتنفل إذا اقتدى بالمفترض في الشفع الأخير يجوز، وهذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة، ومع هذا صح وعامة المشايخ على أن اقتداء المفترض بالمتنفل، كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل على ما مر، وأما ما ذكر من المسألتين، أما المسألة الأولى قلنا؛ نحن لا نقول بأن السجدتين نفل في حق الخليفة بل هي فرض لوجود حد الفرض، فإن حد الفرض إنه إذا لم يؤده في محله يؤمر بالإعادة إذا أمكنه.
وإذا عجز عن الصلاة بأن جنح عن حرمة الصلاة تفسد صلاته، وقد وجد هذا الحد في مسألتنا؛ وهذا لأن الخليفة قائم مقام الأول فكان الأول في مكانه ولو كان الأول في مكانه كانت السجدتان فرضاً في حقه، فكذا في حق الخليفة إلا أنه لا يعتد بها في صلاته، وكم من فرض لا يعتد به، فعدم الاعتداد لا يدل على عدم الفرضية.
وأما المسألة الثانية قلنا: صلاة المقتدي أخذت حكم الفرض بسبب الاقتداء، ولهذا لزمه قضاء ما لم يدرك مع الإمام من الشفع الأول، وكذلك لو أفسد المقتدي الصلاة على نفسه يلزمه قضاء أربع ركعات، وإذا أخذت صلاة المقتدي حكم الفرض كانت القراءة نفلاً في حقه كما في حق الإمام، فكان هذا اقتداء المتنفل بالمتنفل في حق القراءة، وإذا اقتدى أحد الناذرين بصاحبه لم يجز؛ لأن سببهما مختلف واختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فصار كاختلاف الفرضين، وكذا من أفسد صلاة فقضاها مقتدياً بالمتنفل لا يجوز؛ لأن القضاء لزمه بالفساد، فصار كاقتداء المفترض بالمتنفل.
ولو نذر رجل أن يصلي ركعتين فقال رجل آخر لله عليّ أن أصلي تلك المنذورة ثم اقتدى أحدهما بالآخر جاز، وإذا نذر رجل أن يصلي ركعتين وحلف آخر، وقال والله لأصلين ركعتين جاز اقتداء الحالف بالناذر، فلا يجوز اقتداء (66ب1) الناذر بالحالف.
ولو حلف رجلان كل واحد أن يصلي ركعتين فاقتداء أحدهما بالآخر جاز بمنزلة اقتداء المتطوع بالمتطوع، ولو أن رجلين طاف كل واحد منهما أسبوعاً واقتدى أحدهما بالآخر في ركعتي الطوف لا يصح اقتداؤه بمنزلة اقتداء الناذر بالناذر.
ولو أن حنفي المذهب اقتدى في الوتر بمن يرى مذهب أبي يوسف ومحمد، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يصح اقتداؤه؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى نية الوتر، فلم تختلف نياتهما ولو اشتركا في نافلة فأفسداها ثم اقتدى أحدهما بالآخر في القضاء صح، ولا يجوز اقتداء المسبوق في قضاء ما سبق بمثله، وكذا اقتداء اللاحق بمثله.
وفي «النوادر» عن محمد: في رجلين صليا معاً صلاة واحدة ونوى كل واحد منهما إمامة صاحبه جاز؛ لأن كل واحد منهما منفرد في حق نفسه، ولو اقتدى كل واحد منها(1/420)
بصاحبه، فإن صلاتهما فاسدة؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام، وليس ها هنا إمام.
وإذا كان صف تام من النساء خلف الإمام ووراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحساناً، وفي القياس تفسد صلاة صف واحد خلف صف النساء؛ لأن المحاذاة وجدت في حقهم، فصار كالمرأة الواحدة وهناك تفسد صلاة رجل واحد خلف المرأة، فكذلك ها هنا.
وجه الاستحسان: حديث عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له» ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط بين الإمام والمقتدي، ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء، فكذلك الصف من النساء على الاختلاف الذي مر، فإن كن ثلاثاً وقفن في الصف تفسد صلاة واحد على يمينهن وواحد على شمالهن وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف، لأن الثلاث جمع متفق عليه، هذا هو جواب ظاهر الرواية، وذكر في «واقعات الناطقي» : وجعل الثلاث صفاً تاماً حتى قال بفساد تلك الصفوف إلى آخرها.
فإن كانتا امرأتين فالمروي عند محمد: أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر واحد عن يمينهما، وواحد عن يسارها، واثنان خلفهما بحذائهما؛ لأن المثنى ليس بجمع تام فها هنا قياس الواحدة لا تفسدان الصلاة من خلفهما، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية جعل الثلاث كالاثنين وقال: لا تفسدان صلاة خمسة نفر واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن، وثلاث خلفهن بحذائهن؛ لأن الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام.
وفي رواية أخرى جعل المثنى كالثلاث وقال: امرأتان تفسدان صلاة واحد عن يمينها، وواحد عن يسارهما، وصلاة رجلين خلفهما إلى آخر الصفوف؛ لأن المثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حتى يصطف خلف الإمام، وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» .
ابن سماعة عن محمد في قوم وقفوا على ظهر ظلة والمسجد تحتهم والنساء قدامهم لا تجوز صلاتهم، قال: وكذلك الطريق قال: فإن كان الرجال الذين فوق الظلة بحذائهم من تحتهم نساء أجزأتهم بمنزلة امرأة بحذاء رجل بينها وبينه حائط، وهكذا ذكر في «واقعات الناطقي» .
وفي «فوائد الرستغفني» : إذا كان في المسجد رف وعلى الرف صف من النساء اقتدين بالإمام وتحت الرف صفوف الرجال هل تفسد صلاة من وقف خلف صف النساء،(1/421)
قال: لا تفسد وإن قام ثلاث نسوة خلف الإمام أفسدن على من قام بحذائهن خلفهن إلى آخر الصفوف، ومن لم يكن بحذائهن من أهل الصفوف فصلاتهم تامة.
بشر عن أبي يوسف في إمام صلى برجال ونساء بصف النساء بحذاء صف الرجال، قال: تفسد صلاة رجل واحد الذي بين النساء والرجال وصار ذلك الرجل كسترة أو حائط بينهم وبينهن.
ألا ترى أنه لو كان بين صف النساء وبين صف الرجال سترة قدر مؤخر الرجل إن ذلك سترة للرجال، ولا تفسد صلاة أحد منهم، وكذلك لو كان بينهم حائط وكان الحائط قدر الذراع كانت سترة، وإن كان أقل من ذلك لا تكون سترة فإن كان النساء من فوق ذلك الحائط يعني الذي هو قدر الذراع فليس بسترة، وإن كان الحائط قدر قامة أو أطول، فهو سترة بأن كان على الأرض من الرجال ولا يكون سترة لمن كان على الحائط، وإن قام الرجل على الحائط والنساء على الأرض، فهذا وما لو قامت النساء على الحائط والرجال على الأرض سواء والله أعلم.
الفصل السابع عشر في بيان مقام الإمام والمأموم
وإذا كان مع الإمام رجل واحد وصبي يعقل الصلاة قام عن يمينه لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة، لأراقب صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فانتبه وقال: «نامت العيون، وغارت النجوم، وبقي الحي القيّوم» ، ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ} (آل عمران: 19) ثم قام إلى ستر معلق، فتوضأ وافتتح الصلاة فقمت وتوضأت ووقفت عن يساره، فأخذ بأذي وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه، فعدت إلى مكاني، فأعادني ثانياً وثالثاً، فلما فرغ قال: ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك، فقلت أنت يا رسول الله، ولا ينبغي لأحد أن يشاركك في الموقف، فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّمإياه إلى الجانب الأيمن، دليل على أنه هو المختار إذا كان مع الإمام رجل واحد، ثم في ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدي عن الإمام.
وعن محمد قال: ينبغي أن يكون أصابع المقتدي عند كعب الإمام، وهو الذي وقع عند العوام، ولو قام خلف الإمام لا يكره هكذا ذكر في متفرقات الفقيه أبي جعفر، ولو صلى خلف الصف ولم يلحق بالصف فالمنقول عن الشيخ أبي بكر أنه لا يكره، وذكر محمد بن شجاع في كتاب تصحيح الآثار على قول أبي حنيفة يكره.
قال: وإذا كان معه إثنان قاما خلفه؛ لأن للمثنى حكم الجماعة على ما مر قبل(1/422)
هذا، ويقدم الإمام من..... إذا الصلاة بالجماعة، وكذلك إن كان أحدهما صبياً لحديث أنس: «أن جدته مليكة دعت رسول الله عليه السلام إلى طعام فقال قوموا لأصلي بكم فأقاماني واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا» .
قال وإن كان معه رجل وامرأة أقام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه، لأن رسول الله عليه السلام في حديث أنس: أقام المرأة وراء الكل» ، ولأن المحاذاة مفسدة للصلاة على ما نبين فتؤخذ المرأة صيانة للصلاة، قال: وإن كان رجلان وامرأة أقام الرجلين خلفه والمرأة وراءهما لما مر أن في هذه المسألة يقوم الرجلان خلف الإمام؛ لأن لهما حكم الجماعة بخلاف المسألة الأولى، وإن كان معه رجلان وقام الإمام وسطهما فصلاتهم جائزة ولم يذكر الإساءة لأن للمثنى حكم الجماعة في حق بعض الأحكام عند بعضهم حتى قال ابن عباس: إذا هلك الرجل وترك ابنتين فلهما نصف المال وهذا حكم الواحدة.... هذا القول لم يذكر الإساءة إذا لم يقمها خلفه قال: وأفضل مكان المأموم حيث يكون أقرب إلى الإمام لقوله عليه السلام: خير صفوف الرجال أولها، قال: وإذا تساوت المواضع فعن يمين الإمام أولى؛ لأن النبي عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقال بعض مشايخنا: عن يسار الإمام أولى، والأول أحسن، قال: وإذا قاموا في الصفوف تراصوا وسووا من مناكبهم، لقوله عليه السلام: «تراصوا وألصقوا المناكب» .
قال: وينبغي أن يجيء إلى الصلاة بالسكينة والوقار، كذا إذا أدرك الإمام في الركوع لقوله عليه السلام: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم بالسكينة الوقار، ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .
رجلان صليا في الصحراء، وأتم أحدهما بالآخر، وقام على يمين الإمام، فجاء ثالث وجذب المؤتم إلى نفسه قبل أن يكبّر الافتتاح حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر بن طرفان أنه لا تفسد صلاة المؤتم جذبه الثالث إلى نفسه قبل التكبير أو بعده؛ لأن الثالث لما توجه إلى الصلاة وقام في مكان الصلاة (67أ1) صار ذلك الموضع مسجداً لهم، ويكون الثالث كالداخل في صلاتهما، وقال غيره من المشايخ: إذا جاء الثالث، لا ينبغي(1/423)
أن يجذب المؤتم إلى نفسه لكن يتقدم الإمام ويقوم في موضع سجوده، فيصير الثالث مع من كان على يمين الإمام خلف الإمام؛ لأن الإمام ما لم يجاوز موضع سجوده لا تفسد صلاته، وعن الفقيه أبي بكر الأعمش في رجلين أم أحدهما صاحبه، وموضع سجود المؤتم قبل الإمام وموضع قدمه وراء قدم الإمام أو بحذائه، قال: تجوز صلاته؛ لأن العبرة لموضع القدم لا لموضع السجود، ألا ترى إلى ما ذكر في «الجامع الصغير» الإمام إذا كان يصلي وهو يسجد في الطاق وقدماه في غير الطاق أنه لا يكره، ولو كان قيامه وقدميه في الطاق يكره واعتبر القدم دون موضع السجود كذا ها هنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل صلى لم ينوِ أن يؤم النساء فجاءت امرأة فدخلت في صلاته خلفه ثم قامت إلى جنبه لم تفسد صلاته عليه، ولم تجزءها صلاتها.
يجب أن يعلم أن نية الإمام إمامة المرأة شرط لصحة اقتدائها به، لأصل معروف أن محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة مشتركة، توجب فساد صلاة الرجل استحساناً، ولا توجب فساد صلاة المرأة استحساناً، فلو صح اقتداؤها به لوقع الإمام في الضرر، فإنها تقوم بحذائه فتفسد صلاته وليست لها ولاية الإضرار به فيتوقف ذلك على التزامه، وذلك بالنية، فإذا لم توجد النية لا يصح الاقتداء، وإذا لم يصح الاقتداء لا تفسد صلاة الرجل بالمحاذاة، لأن المحاذاة إنما جعلت مفسدة في صلاة مشتركة ولا تصح صلاتها؛ لأن صلاتها مع الإمام تخالف صلاتها وحدها فإذا لم تصح...... لا تصح اقتداء، أو نقول بأن الإمام باقتداءها تلزمه فرضاً كان لا يلزم قبل الاقتداء وهو مراعاة الترتيب في المقام فلا تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة كالمقتدي لما كان يلزمه مراعاة الترتيب في المقام بسبب الاقتداء وتلحق صلاته فساداً من جهته بسبب ذلك تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة، بخلاف صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة لا تتأدى إلا بالجماعة.
والجماعة تتناول الرجال والنساء فإذا نوى إمامة الجماعة فقد نوى إمامة النساء، ولم يلزم القارىء إذا اقتدى بالأمي يصح بدون نية إمامته وتلحق صلاته فساد من جهته عند أبي حنيفة؛ لأنا نقول مذهب الكرخي أنه لا تصح بدون النية وإن سلمنا فنقول بمن لا يلحقه الفساد بسبب الاقتداء، فإن القارىء لو صلى وحده والأمي وحده فصلاته لا تجوز، دل أن الإفساد ليس سبب الاقتداء حتى يدفع الفساد عن نفسه بترك النية.
ثم لا بد لمعرفة هذه المسألة من معرفة المحاذاة ومعرفة المرأة والصلاة المطلقة المشتركة، فنقول وبالله التوفيق.
معنى المحاذاة: أن تقوم المرأة بحذاء الرجل في مكان متحد من أن يكون بينهما حائل، حتى لو كان الرجل على الدكان، والمرأة على الأرض والدكان مثل قامة الرجل لا تفسد صلاة الرجل لاختلاف المكان، ولو كان في مكان متحد بأن كانا على الأرض أو على(1/424)
الدكان إلا أن بينهما أسطوانة أو ما أشبهها لا تفسد صلاة الرجل أيضاً لمكان الحائل، ونوى بالمرأة أن تكون من تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشهاة، حتى إن المجنونة إذا حاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل، وإن كانت بالغة مشتهاة؛ لأنه لا تصح منها الصلاة، والصبية التي تعقل الصلاة إذا كانت لا تشتهى، فحاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل.
ونوى بالصلاة المطلقة الصلاة المعهودة، حتى إن المحاذاة في صلاة الجنازة لا تفسد صلاة الرجل، ونوى المشتركة أن يكونا شريكين بتحريمة وأداء، ويعني بالشركة تحريمة أن يكونا ناويين تحريمتهما على تحريمة الإمام ونعني بالشركة أن يكون لهم إماماً فما يؤديان.v
.... حقيقة أو تقديراً، فإذا استجمعت المحاذاة هذه الشرائط، أو حدث فساد صلاة الرجل، ولا يوجب فساد صلاة المرأة استحساناً، وإنما أوجبت بفساد صلاة الرجل؛ لأن الرجل ترك فرضاً من فروض المقام؛ لأنه مأمور بتأخير المرأة قال عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمراد من الحديث الصلاة المطلقة بدليل سياقه، وهو قوله عليه السلام: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» ، فإذا لم تؤخرها، فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأوجبت فساد صلاته كالمقتدي إذا تقدم على الإمام تفسد صلاة المقتدي، وإنما تفسد لتركه فرضاً من فروض المقام.
فإن قيل: الأمر بالتأخير في حق الرجل عرف بهذا الخبر وأنه من أخبار الأحادد، وجواز الصلاة بدون التأخير عرف بالنص المقطوع به والخبر الواحد لا يصلح ناسخاً لما ثبت بالنص المقطوع به.
قلنا: هذا ليس ينسخ بالخبر الواحد؛ لأن النسخ بالخبر إنما يكون أن لو كان الحكم مقصوراً على الخبر، والحكم هنا وهو وجوب التأخير على الرجل غير مقصود على الخبر، فإنه وهو أن تأخير النساء إنما وجب إما تفضيلاً للرجال، فإن في تأخير النساء عن الرجال إظهار كمال الرجال ونقصان مالهن، غير أن التفضيل إنما يتحقق بتأخير المرأة في مكان واحد، وفي حرمة واحدة، وتفضيل الرجال على النساء ثابت بنص مقطوع، وهو قوله تعالى: {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وإنما وجب تأخير النساء صيانة لصلاة الرجل عن الفساد.
فإن المرأة من فوقها إلى قدمها عورة، فربما تشوش الأمر على الرجل فيكون ذلك سبباً، لفساد صلاة الرجل فصيانة الصلاة عن الفساد واجبة بالنص المقطوع به، جاء الخبر الواحد مثبتاً لما ثبت بالنص المقطوع به لا أن يكون الحكم مقصوراً على الخبر الواحد،(1/425)
وهذا الكلام في صلاة الرجل.
وأما الكلام في صلاة المرأة فنقول: صلاة المرأة لا تفسد بالمحاذاة استحساناً، وكان ينبغي أن تفسد؛ لأنها تركت فرضاً من فروض المقام أيضاً؛ لأن الرجل كما صار مأموراً بالتأخير، فالمرأة صارت مأمورة بالتأخير؛ لأنه لا يمكن للرجل تأخيرها إلا بتأخرها، فصارت مأمورة بالتأخر ضرورة، فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض الإمام.
والجواب في قول بأن الحديث لظاهرة أمر الرجال بالتأخير وليس يأمر للنساء بالتأخير ولو صارت مأمورة بالتأخر لصارت مأمورة ضرورة على الوجه الذي قلتم ولا ضرورة؛ لأنه يمكن للرجال تأخيرهم بدون تأخرها، بأن يتقدم عليها خطوة أو خطوتين، فلا ضرورة إلى إثبات الأمر في حقها.
وجوابٌ آخر: أن يقول بلى صارت مأمورة بالتأخر لكن لا قصداً، إلا أن الأمر بالتأخر غير ثابت في حقها قصداً أو صريحاً بل بطريق الضرورة على ما قلتم غير أن الثابت ضرورة يحفظ...... عن الثابت مقصوداً، فأظهرنا الأمر بالتأخر في حقها في حق لحوق الإثم بالترك لا في حق فساد الصلاة بالترك إظهاراً للتفرقة بين الثابت ضرورة وبين الثابت مقصوداً.
وحكى عن مشايخ العراق صورة في المحاذاة تفسد صلاة المرأة، ولا تفسد صلاة الرجل.
بيانها: إذا جاءت المرأة وشرعت في الصلاة بعدما شرع الرجل في الصلاة ناوياً إمامة النساء وقامت بحذاءه؛ وهذا لأن فساد صلاة الرجل بسبب المحاذاة لتركه فرضاً من فروض المقام، فإن الرجل مأمور بتأخير المرأة لقوله عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فإذا لم يؤخرها فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأما المرأة ما تركت فرضاً من فروض المقام وإن صارت مأمورة بالتأخر؛ لأن المرأة ما صارت مأمورة بالتأخير نصاً وإنما تصير مأمورة بالتأخير إذا وجد التأخير من الرجل، ليقع تأخير الرجل مفيداً.
فإذا كانت المرأة حاضرة حين شرع الرجل في الصلاة فصلت بحذاءه أمكنه التأخير بالتقدم عليها خطوة أو خطوتين لأن ذلك مكروه في الصلاة، وإنما تأخيرها بالإشارة لو بالنداء، أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك فقد وجد منه التأخير فيلزمها التأخر فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض المقام فتفسد صلاتها، وهذه مسألة عجيبة، وإذا قامت المرأة بحذاء الإمام واقتدت به ونوى الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم (67ب1) أما فساد صلاة الإمام؛ لأنه وجد في حقه المحاذاة في صلاة مشتركة، وأما فساد صلاة القوم لأن صلاتهم مربوطة متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا غير مرة.(1/426)
وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول: لا يصح اقتداؤها؛ لأن المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة، ولو طرأ كان مفسداً صلاتها، فإذا اقترنت منع صحة الاقتداء، وهذا فاسد؛ لأن المحاذاة غير مؤثرة في صلاتها، وإنما تفسد صلاتها بفساد صلاة الإمام، ولا تفسد صلاة الإمام إلا بعد صحة شروعها، من المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا أثر لها في الإفساد، حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد يصلي كل واحد منهما وحده لا تفسد صلاة الرجل؛ لأن الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة، كالترتيب بين الإمام والمقتدي، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله عليه السلام يصلي بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد خنست أرجلي، وإذا قام مددتها، وأما إذا لم ينوِ الإمام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى الرجل برجال ونساء صلاة مكتوبة فأحدث رجل وامرأة ممن خلفه وذهبا يتوضئان ثم جاءا وقد صلى الإمام، فقاما يقضيان صلاتهما، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد فصلاة الرجل فاسدة وصلاة المرأة تامة، ولو كانا مسبوقين بأن دخلا في صلاة الإمام بعدما سبقهما الإمام بشيء من الصلاة، فلما فرغ الإمام قاما يقضيان ما سبقها به الإمام، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد، فصليا فصلاتها تامة، وهذا بناءً على ما ذكرنا أن محاذاة المرأة الرجل في الصلاة المطلقة المشتركة يوجب فساد صلاة الرجل دون المرأة إذا استجمعت المحاذاة شرائطها، وقد استجمعت المحاذاة شرائطها في المسألة الأولى دون الثانية، لأن المكان متحد ولا حائل والمرأة ممن تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشتهاة والصلاة معهودة، والشركة........... تحريمتهما على تحريمة الإمام.
وأما إذا كان لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما الأداء مع الإمام...... الخروج عن عهدة ما التزما كما التزما، فيجعل كأنهما خلف الإمام لتمكنهما الخروج عن عهدة ما التزما، أو يقول بعبارة أخرى: أن لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما يقضيان ما فاتهما مع الإمام لعذر الحدث مع أنهما أدركا أول الصلاة، والقضاء يقوم مقام الأداء تقديراً واعتباراً.
ولو وقع الأداء في هذه الصورة حقيقة كان الأداء مع الإمام حقيقة، فإذا جاء وجد الأداء تقديراً كان الأداء مع الإمام تقديراً، ولهذا لا قراءة عليهما ولا سهو.
أما في المسألة الثانية وهي مسألة المسبوقين، لم توجد الشركة في الأداء، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء؛ لأنه ليس لهما إمام فيما يؤديان لا حقيقة ولا تقديراً، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديراً أما على العبارة الأولى؛ لأنهما ما التزما الأداء مع الإمام فيما فات حتى يجعل كأنهما خلف الإمام فلهما الخروج عن عهدة ما التزما كما(1/427)
التزما، أما على العبارة الثانية لأنهما لا يقضيان ما فاتهما مع الإمام حتى يجعل الإمام الموجود حالة الأداء، كالموجود حالة القضاء تقديراً؛ لأنهما لم يدركا ما يقضيان مع الإمام، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء، ولهذا كانت عليهما القراءة والسهو، وكان الشيخ الإمام أبو عبد الله..... يقول: أصحابنا جعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد إلا في ثلاث مسائل.
إحداها: أنه إذا قام إلى قضاء ما سبق به فجاء إنسان واقتدى به لا يصح اقتداؤه، ولو كان كالمنفرد يصح اقتداؤه، كما لو كان منفرداً حقيقة.
الثانية: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فكبّر ونوى استئناف تلك الصلاة وقطعها يصير مسابقاً وقاطعاً، ولو كان كالمنفرد لما صار مسابقاً وقاطعاً، كما لو كان منفرداً حقيقة.
الثالثة: إذا قام إلى قضاء ما سبق وعلى الإمام سجدتا السهو فعليه أن يتابعه ولو لم يتابعه حتى فرغ من صلاته كان عليه أن يسجد سجدتي السهو، ولو كان كالمنفرد لكان لما تلزمه سجدتا السهو، بسهو سهاه الإمام.
ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الكتاب» : فيما إذا تحاذيا بعد العود وفرق بين المدركين وبين المسبوقين، ولم يذكر إذا تحاذيا في الطريق، قال مشايخنا: ينبغي أن لا تفسد صلاة الرجل استحساناً سواء كانا مدركين أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة إذ لو جعلا مؤدين للصلاة حصل الأداء مع الحدث، وفي أماكن مختلفة، وكل ذلك مانع من الأداء والمحاذاة إنما أوجبت فساد صلاة الرجل لتركه فرضاً من فروض القيام وذلك مختص بحالة الأداء، وحكي عن الشيخ الزاهد أبي الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله أن القهقهة في هذه الحالة لا تكون حدثاً استحساناً، ولكن تقطع الصلاة، والله أعلم.
(فصل) في الحث على الجماعة
الجماعة سنّة لا يجوز لأحد التأخر عنها إلا بعذر، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام تخلفوا عن الجماعة فأحرق بيوتهم» ، ومثل هذا الوعيد إنما يلحق تارك الواجب أو تارك السنّة المؤكدة، والجماعة ليست بواجبة فعلم أنها سنّة مؤكدة؛ ولأنها من أعلام الدين، فكان إقامتها هدى وتركها ضلالة إلا من عذر؛ لأن العذر أثراً في إسقاط الفرائض وفي إسقاط السنن أولى.
وقد ذكرنا في باب الأذان أن أهل بلدة لو اجتمعوا على ترك الصلاة بجماعة إنا نضربهم ولا نعاملهم، والأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الجمعة لا يجب عليه الجمعة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وقال محمد: لا يجب على المقود ومقطوع اليد والرجل من(1/428)
خلاف، ومقطوع الرجلين والشيخ الكبير الذي لا يقدر على المشي، لأنهم لا يقدرون عليها إلا بمشقة زائدة على المشي المعتاد، فصاروا كالمريض: قال؛ وإذا زاد على واحد فهي جماعة في غير جمعة لا لقوله عليه السلام: «الإثنان فما فوقهما جماعة» ؛ ولأن الجماعة مأخوذة من معنى الاجتماع، وذلك حاصل بالمثنى وإن كان معه صبي يعقل كانت جماعة وهو إشارة إلى أن صلاة الصبي صلاة معتبرة، وإن لم تكن فرضاً ولو فاتته الجماعة جمع بأهله في منزله لما روينا أن النبي عليه السلام «جمع بأهله في منزله حين انصرف من صلح بعدما فرغ الناس من الصلاة» ، وإن صلى وحده جاز لما بينا أن الجماعة سنّة ولهذا لا تجب الجماعة في القضاء، وترك السنّة لا تمنع الجواز.
قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الأمصار ... أنأتي فيها المساجد أو نصلي في المنازل قال: ما أحب أن تتركوا حضور المساجد قال أبو يوسف: هذا أحسن ما سمعنا، في ابن سماعة قال: سأل رجل محمداً فقال: إن لنا مسجداً.... على الطريق أذن فيه وأقيم ولا يجتمع فيه أحد إلا أنا وابن عمي وربما كنت وحدي وبقربي مسجد يجتمع فيه جمع عظيم أترى أن أعطل هذا المسجد، وأصلي في المسجد الكبير الجماعة قال: لا تعطله ما قدرت عليه، الحسن عن أبي حنيفة في رجل جاء إلى مسجد وقد صلى فيه فسمع الإقامة في مسجد آخر قال: إن دخل فيه فلا يخرج منه حتى يصلي هنا الصلاة التي صلاها.
بشر عن عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن النساء هل يرخص لهن في حضور المساجد قال: العجوز تخرج للعشاء....، ولا تخرج لغيرها، والشابة لا تخرج في شيء من ذلك وقال أبو يوسف: العجوز تخرج في الصلوت كلها.
الفصل التاسع عشر في المرور بين يدي المصلي وفي دفع المصلي المارّ، واتخاذ السترة ومسائلها
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في امرأة تريد أن تمر بين يدي رجل وهو يصلي قال: يدرأها وإن مرت لا تقطع صلاته.
اعلم أن الكلام في هذه المسألة في مواضع: إحدها: أن المرور بين يدي المصلي لا تقطع الصلاة أي شيء كان المار، وهذا مذهبنا، وقال بعض الناس: بأن مرور المرأة والحِمار والكلب تقطع الصلاة (68أ1) وهو قول بعض الصحابة، واحتج هذا القائل بما روى عبد الله بن الزبير عن النبي عليه السلام: أنه قال: «تقطع الصلاة مرور ثلاثة المرأة(1/429)
والحمار والكلب الأسود» فقيل ما بال الأسود من الأبيض فقال: «إن الأسود شيطان» ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع مرور شيء الصلاة إلا ثلاث: الكلب والحمار والمرأة» ، ولنا ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤا ما استطعتم» ، وروي أن رسول الله عليه السلام؛ صلى في بيت أم سلمة، فأراد عمر بن أم سلمة أن يمر بين يدي رسول الله، فأشار إليه النبي عليه السلام أن قف فتوقف، ثم أرادت زينبُ بنت أم سلمة رضي الله عنها أن تمر بين يدي النبي عليه السلام، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلّمأن قفي فلم تقف، ومرت بين يدي رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته.
وروي عن عبد الله بن عباس والفضل بن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: «أتينا رسول الله عليه السلام على أتانٍ، فوجدناه يصلي فتركنا الأتان ودخلنا في صلاته، فكانت الأتان تتردد بين يدي رسول الله ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته» ، وعن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما أنه قال صلى الله عليه السلام: الجمعة فلما قعد أراد كلب أن يمر بين يديه فقلت سبحانك لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقتل هذا الكلب فخر الكلب ميتاً قبل أن يضع رجله موضع يديه فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «من الداعي على الكلب فقلت: أنا، فقال دعيت عليه في ساعة لو دعوت على أهل الأرض أن يهلكوا لهلكوا، ثم قال ما حملك على هذا الدعاء فقلت: خشيت أن يمر بين يديك فيقطع صلاتك فقال عليه السلام: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤوا ما استطعتم، وما روى من الحديث روي أن عائشة رضي الله عنها لما بلغها هذا الحديث قالت: يا أهل العراق بئس ما قرنتمونا بالكلاب والحمير، كان رسول الله عليه السلام يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة وكان إذا سجد غمز رجلي» ، ولا شك أن هذا أكثر من المرور أو كان ذلك في بدء الإسلام ثم انتسخ بما روينا من الأحاديث.
والثاني: أن المصلي هل يدرء المار وكيف يدرءه فنقول المصلي يدرء المار لما(1/430)
روينا من حديث ولدي أم سلمة وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي ذر وحديث أبي الدرداء رضي الله عنهم والأمر بالدرء في هذه الأحاديث بطريق الرخصة، والإباحة، كالأمر بقتل الأسودين في الصلاة.
واختلف المشايخ في كيفية الدرأ منهم من قال: يدرء بالإشارة لحديث ولدي أم سلمة على ما روينا، ومنهم من قال يدرء بالتسبيح؛ لأن هذه نائبة وقعت للمصلي، وقد قال عليه السلام: «إذا وقعت لأحدكم نائبة في الصلاة فليسبح» ، وذكر في «الأصل» إذا سبح وأشار بإصبعه ليصرفه عن نفسه لم تقطع صلاته، وأحب إليّ أن لا تفعل.
اختلف المشايخ في معنى قوله أحب إليّ أن لا تفعل، قال بعضهم: لأنه جمع بين الإشارة والتسبيح، وكان يكفي أحدهما، وقال بعضهم: لأنه نسخ والنص ورد بالإشارة، وقال بعضهم يحتمل أن يكون معناه أن ترك الإشارة والتسبيح للدرأ أولى؛ لأن الكراهية في المرور ثابتة من غيره وهذا ثابت بفعله، وفعل النبي عليه السلام محمول على الابتداء حين كان يجوز إدخال ما ليس من الصلاة في الصلاة، ثم أشار أو سبح أو جمع بينهما ولم يمتنع المار عن المرور، لا يزيد على ذلك، ولا يشتمل بالمعالجة، هذا هو مذهب علمائنا رحمهم الله، ومن العلماء من أطلق للمصلي أن يأخذ ببعض ثيابه أو ببعض ببدنه، فيدرأ لظاهر قوله عليه السلام: «وادرؤوا ما استطعتم» ، ومن العلماء من أطلق أن يضربه ضرباً، وجعلوا أن يقابله، فإن النبي عليه السلام قال في آخر حديث أبي سعيد الخدري «ادرؤوا ما استطعتم فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان» ، وعندنا لا يزيد على الإشارة والحديث محمول على الابتداء حين كان العمل في الصلاة مباحاً.
الثالث: أن المرور بين يدي المصلي مكروه والمار آثم، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لو علم المار بين يدي المصلي ما عليه لوقف أربعين، قال أبو أيوب لا أدري أراد بقوله أربعين، أربعين عاماً أو شهراً أو يوماً» .
الرابع: في مقدار ما يجب أن يكون بين يدي المصلي وبين المار حتى لا يكره المرور، وهذا فصل لا ذكر له في «الأصل» وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم: قالوا خمسون ذراعاً، وبعضهم قالوا: موضع صلاته وهو موضع قدمه إلى سجوده، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا مر في موضع يقع بصر المصلي عليه وبصره إلى موضع سجوده، فذلك مكروه، وما زاد على ذلك فليس بمكروه.
وقال الفقيه أبو القاسم الصفار: إذا كان بينه وبين المار مقدار ما بين صف الأول إلى حائط القبلة فمر وراءه لم يضره، وهذا إذا كان في الصحراء أو لم يكن له سترة، فإن(1/431)
كان له سترة فمر بينه وبين السترة فهو مكروه، فإن مر وراء السترة فهو ليس بمكروه، وكذلك لا يدرأه المصلي إذا مر من وراء السترة.
قال بعض مشايخنا: فإنما يكره المرور بين المصلي وبين السترة إذا كان بين المصلي والمار أقل من مقدار الصفين، أما إذا كان مقدار الصفين فصاعداً فلا يكره، وإن كان يصلي في المسجد، فإن كان بينه وبين المار أسطوانة أو إنسان قائم أو قاعد لا يكره؛ لأن به وقعت الحيلولة بين المار وبين المصلي، وإن لم يكن بينهما حائل إن كان المسجد صغيراً يكره في أي موضع يمر وإلى هذا أشار محمد في «الأصل» ، فإنه قال في الإمام إذا فرغ من صلاته، فإن كانت صلاة لا تطوع بعدها فهو بالخيار، إن شاء انحرف عن يمينه وشماله، وإن شاء قام وذهب، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلي ولم يفصل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول، أو في الصف الآخر وهذا هو ظاهر المذهب؛ لأنه إذا كان وجهه مقابل وجه الإمام في حال قيامه يكره ذلك، وإن كان بينهما صفوف.
ووجه الاستدلال بهذه المسألة: أن محمداً رحمه الله جعل جلوس الإمام في محرابه وهو مستقبل له بمنزلة جلوسه بين يديه وموضع سجوده، فكذا مرور المار في أي موضع يكون من المسجد يجعل بمنزلة مروره بين يديه، وفي موضع سجوده، وإن كان المسجد كبيراً مثل مسجد الجامع، قال بعض المشايخ: هو بمنزلة المسجد الصغير، فكره المرور في جميع الأماكن، وقال بعضهم؛ هو بمنزلة الصحراء فيكون الجواب فيه كالجواب في الصحراء ومن المشايخ من قال: الحد في المسجد قدر ثلاثة أذرع، ويترك ذلك القدر فيما وراء ذلك الأمر واسع عليه.
وإن كان الرجل يصلي على الدكان أو على السطح، فمر إنسان بين يديه على الأرض، فقد مر بين يديه إن كان السطح والدكان على أقل من قامة الرجل، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح «الأصل» .
وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : إن كان بحيث يحاذي أعضاء المار أعضاء المصلي يكره، وما لا فلا ولو مر رجلان بين يدي المصلي متحاذيين فالذي يليه هو المار بين يديه، ولو مر بين يدي المصلي خلف الدابة، فليس بمار بين يديه.
وقال محمد رحمه الله: رجل يصلي في الصحراء يستحب له أن يكون بين يديه شيء مثل العصا ونحوه، وإن كان لا يجد العصا ليستتر بحائط أو سارية أو شجرة، والكلام هنا في مواضع.
أحدها: في أصل السترة وأنه مستحب، والأصل فيه؛ ما روي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام يصلي إليها والناس يمرون من ورائها» ، وقال عليه السلام: «من كان يصلي في الصحراء فليضع بين يديه(1/432)
مثل مؤخرة رحله أو واسطة رجل ثم لا يضره مرور شيء بين يديه.
والثاني: أن السنّة فيها الفرز لما روينا من حديث بلال.
والثالث: ينبغي أن يكون مقدار طولها ذراع، لأن العبرة قدر ذراع ولم يذكر في «الأصل» قدرها عرضاً، قيل: وينبغي أن يكون في غلظ إصبع (68ب1) هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وأنه موفق لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يجزىء من السترة السهم، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : قال محمد رحمه الله في «السير» : بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال: «تجزىء من السترة السهم» بفتح الياء معناه يكفي، قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 48) ، قال: وطول السهم قدر ذراع وغلظه قدر إصبع، وقال عليه السلام: «إذا صلى أحدكم وبين يديه أجرة الرجل أو واسطة الرجل فليصلِ إليها ولا يبالي ما مر به من كل كلب أو حمار» ، وأجرة الرجل وواسطته يبلغ قدر ذراع، وأما إذا كان طول السترة أقل من ذراع ففيه اختلاف المشايخ.k
قال شيخ الإسلام خواهر زاده: فعلى هذا إذا وضع قباه أو حقيبته بين يديه إن كان ارتفع قدر ذراع يصير بلا خلاف وإن كان دون ذلك يكون فيه خلافاً.
والرابع: سترة الإمام تجزىء أصحابه، فقد صح أن رسول الله عليه السلام صلى إلى العنزة بالبطحاء؛ ولم يكن للقوم سترة.
والخامس: ينبغي للمصلي أن يقرب إلى السترة، قال عليه السلام: «من صلى إلى سترة فليدن منها» .
والسادس: ينبغي أن يجعل السترة على أحد جانبيه إما الأيمن أو الأيسر، والأفضل أن يجعلها على جانبه الأيمن، قال في «الكتاب» ؛ لأن النبي عليه السلام لم يصل إلى شجرة ولا إلى عمود إلا جعله على جانبه الأيمن.
والسابع: إذا تعذر غرز السترة أيضاً به الأرض أو للحجر لا يضعها بين يديه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم؛ يضع؛ لأن الشرع كما ورد بالغرز ورد بالوضع، ولكن يضع طولاً؛ لأنه لو أمكنه الغرز غرز طولاً ففي الوضع يكون كذلك.
والثامن: لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق؛ لأن الداعي إلى السترة قد زال، وقد فصل محمد رحمه الله في طريق مكة ذلك غير مرة.
والتاسع: إذا لم يكن معه خشبة أو شيء يغرز أو يضع بين يديه هل يخط خطاً(1/433)
بين يديه، عامة المشايخ على أنه لا يخط، وهو رواية عن محمد، وقال بعض مشايخنا: يخط، وهو قول الشافعي، وهو رواية عن محمد أيضاً والذين قالوا بالخط، اختلفوا فيما بينهم في كيفية الخط: قال بعضهم: يخط طولاً، وقال بعضهم: يخط كالمحراب، والله أعلم.
الفصل العشرون في صلاة التطوع
رجل افتتح التطوع، فنوى أربع ركعات ثم تكلم فعليه قضاء ركعتين في قول أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف ثلاث روايات، في رواية ابن سماعة عنه: أنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، وإن نواها، وفي رواية بشر بن الزهري عنه: أنه يلزمه ما نوى، وإن نوى مئة ركعة.
وفي رواية أخرى عنه: إن كان شروعه في الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العصر، والأربع قبل الجمعة وبعدها، يلزمه أربع ركعات، وإن كان في غير ذلك لا يلزمه إلا ركعتين، وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا هذا القول، والصحيح من مذهبه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وحاصل الكلام راجع إلى أن بالشروع في التطوع لم يلزم في ظاهر الرواية لا يلزم أكثر من ركعتين، وإن نوى أكثر من ذلك، وعند أبي يوسف يلزمه، واتفق أصحابنا أن الشرع في التطوع بمطلق النية لا يلزمه أكثر من ركعتين، إنما الاختلاف فيما إذا نوى أربع ركعات، هكذا ذكر الإمام الصفار رحمه الله.
وجه قول أبي يوسف على الرواية التي قال يلزمه وإن نوى بمئة ركعة: أن الشروع يلزم كالنذر، فنيته عند الشروع، كتسميته عند النذر فيلزمه ما نوى.
ووجه روايته التي قال تلزمه أربع ركعات ولا يلزمه أكثر من ذلك، وهو أن نية الأربع قارن سبب الوجوب فلزمه الأربع قياساً على النذر، فإنه إذا قال: لله عليّ صلاة ونوى أربع ركعات، وإنما قلنا النية قارنت سبب الوجوب؛ لأن الأربع قارنت الشروع، والشروع سبب كالنذر.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد: وهو أن العلماء اختلفوا في وجوب قضاء ركعتين، فعند أهل العراق: يجب، وعند أهل الحجاز: لا يجب، فاختلافهم في قضاء ركعتين اتفاق منهم على أن الأربع لا يجب؛ وهذا لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يفسد الأول، فلا يصير شارعاً في الشفع الثاني، ما لم يفرغ من الأول، وبدون الشروع أو النذر لا يلزمه شيء.
بخلاف ما لو قال: لله عليّ صلاة، ونوى أربع ركعات حيث يلزمه أربع ركعات؛ لأن النية هناك قرنت سبب الوجوب من حيث اللفظ وهو النذر، وهنا لم يوجد النذر، لو وجب إنما يجب بالشروع، ولم يوجد الشروع في الشفع الثاني على ما بينا فلا يلزمه.(1/434)
وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن معنى قول أصحابنا: إذا شرع الرجل في التطوع، ونوى أكثر من ركعتين، لا تلزمه أكثر من ركعتين: إن ذلك في غير السنن، فأما في السنن مثل الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العشاء الآخرة، فإنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، ويلزمه في كل ركعتين من القراءة والذكر والفعل ما يلزمه في صلاة الفرض، وقالوا إذا قام إلى الثالثة يستفتح كما يستفتح في الابتداء، لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة على ما مر. وإذا ترك القعدة الأولى فالقياس: أن تفسد صلاته وهو قول محمد رحمه الله، كما لو تركها من آخر الفرض، وفي الاستحسان لا تفسد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وجه ذلك: أنه لما أدى أربعاً بتحريمة واحدة صارت هذه الصلاة بمنزلة الفرض في حق القعدة الأولى الفقهٍ، وهو أن القعدة الثانية ليست من جملة الأركان على ما مر، قبل هذا، ولكنها مفروضة شرعت للختم، وختم المفروض فرض، لهذا لم تكن القعدة الأولى فرضاً، لأنها ليست بحالة الختم، فإذا قام إلى الثالثة هنا حتى صارت الصلاة من ذوات الأربع، لم تكن حالة القعدة الأولى حالة الختم، فلم يبق فرضاً كما في الفرض، وما كان مسنوناً في الفرض، فهو مسنون في التطوع إلا أن يصلي قاعداً وهو يقدر على القيام، أو يصلي التطوع على الراحلة، فإن ذلك يجزئه، ولا يجزئه في الفرض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن أفسد شيئاً من ذلك قضاه، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب القضاء؛ لأنه متبرع وذلك ينافي الوجوب والإلزام وقد قال عليه السلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء لم يصم» ، والخلاف في الصلاة والصوم واحد.
ولنا: أن ما أدى عمل لله تعالى، لأنه إمساك لله تعالى بأمره وبدنه، فيجب صيانته عن البطلان، وذلك بالإتمام ولزمه القضاء عند الإبطال بقدر ما أدى، وإذا لزمه القضاء بقدر ما عمل لله تعالى، صار الحال في القضاء كالحال في الأداء، على معنى أن يلزمه الإتمام صيانة لما أدى، كما لزمه في الأداء.
قال: وكل ركعتين أفسدهما فعليه قضاؤهما دونما قبلهما، لما مر أن كل شفع صلاة على حدة، فلا يفسد الشفع الأول لفساد الشفع الثاني، وإذا افتتح التطوع قائماً أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة استحساناً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئه وهو القياس.
وجه القياس: وهو الشروع يلزم كالنذر بدليل أنه لو أفسدها يلزم القضاء، ومن نذر أن يصلي ركعتين قائماً لم يجز أن يقعد فيهما من غير عذر، فكذلك إذا شرع قائماً.
وجه الاستحسان: وهو أن القعود في التطوع من غير عذر، كالقعود في الفرض بعذر، ثم هناك لا فرق بين الابتداء والبقاء فكذلك هنا؛ وهذا لأنه في الابتداء كان مخير(1/435)
بين القيام والقعود، فكذا في البقاء، لأن البقاء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاحها بالقعود فالبقاء أجوز، بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية، وقد نص على القيام فلزمه، أما هنا لم يلزم اللفظ شيئاً لو التزم إنما يلتزم بالشروع والمباشرة وإجزاء الذي باشره قائماً وشرع فيه وأداه قائماً، آما سائر الأجزاء لما باشرها قائماً فلا يلزمه (إلا) قائماً، فإن قيل: ينبغي أن لا يجب عليه القضاء إذا أفسدها على هذه القضية؛ لأن بإجزاء الذي باشره قد أدى سائر الأجزاء (التي) لم تباشر، فلا يلزمه القضاء (69أ1) .
قلنا: هو شرع فيما يسمى صلاة....... وإسمية الصلاة ألزمناه الأجر الآخر، أما ها هنا ليس من ضرورة استحقاق بهذا الجزاء واسمية الصلاة إلى انضمام إجراء آخر ما ضرورة استحقاق هذا.........، واسمية الصلاة التزام صفة القيام، لأن الصلاة تجوز بدون صفة القيام، لأن القيام صفة زائدة، والدليل على الفرق بين النذر، والشروع أيضاً أنه لو نذر أن يصلي ركعتين قائماً فقعد وصلى قاعداً من عذر لا يجزيه، وفي الشروع لا يلزمه الاستقبال، دل على التفرقة بينهما، إلا أن القيام أفضل بالإجماع، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، ولأن الصلاة قائماً أشق على البدن، وقال عليه السلام: «أفضل العبادات أحمزها» .
ولو نذر أن يصلي صلاة ولم يقل قائماً أو قاعداً، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا رواية لهذه المسألة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ هو بالخيار، إن شاء صلى قائماً، وإن شاء صلى قاعداً، إلا أن القيام زيادة وصف في التطوع، بدليل أنه تجوز الصلاة بدون القيام، فلا يلزم إلا بالشرط كالتتابع في الصوم، وقال بعضهم: يلزمه قائماً، لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى أوجبه قائماً، فكذا ما أوجبه العبد، بخلاف الصوم، لأنه أوجب متتابعاً وغير متتابع، فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط، وعلى بعضهم على الاختلاف قياساً على الاختلاف الذي بينا في الشروع، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً ثم بدا له أن يقوم فقام فصلى بعضها قائماً وبعضها قاعداً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يشكل، لأن عندهما التحريمة المنعقد للقعود منعقدة للقيام، بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً ثم قدر على القيام، فإن له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً، لهذا المعنى أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هنا على مذهب محمد رحمه الله، لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا يكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده إلا أنه قال هنا: تجوز صلاته، وفي المريض لا تجوز.
والفرق لمحمد رحمه الله: أن في المريض كان قادراً على القيام وقت الشروع في(1/436)
الصلاة فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً، وكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي عليه السلام كان يفتتح التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام، ومن القيام إلى القعود، فدل أن ذلك جائز في التطوع.
وإذا افتتح التطوع على غير وضوء وفي ثوب نجس، لم يكن داخلاً في صلاته، لأن الطهارة عن النجاسة الحقيقية شرط لجواز الصلاة، ولم يوجد فلا يصح شروعه فيها، وإذا لم يصح شروعه في الصلاة لا يلزمها القضاء، لأن القضاء يبنى على الأداء، وإن افتتحها نصف النهار، أو حين تحمر الشمس، أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، أو عند طلوع الشمس، فصلى فقد أساء على ما مر قبل هذا، ولا شيء عليه، لأنه أداها كما التزم، فلا يبقى عليه شيء، كمن نذر أن يصوم يوم النحر وصام، فإنه لا يبقى عليه شيء، والمعنى ما ذكرنا، كذلك هنا، وإن قطعها فعليه القضاء عندنا، وعند زفر لا قضاء عليه، زفر رحمه الله قاس الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في الصوم يوم النحر، لعلة أنه مرتكب للنهي.
والفرق لأصحابنا وهو أن بالشروع هناك يصير قائماً مرتكباً للنهي، وهنا بنفس الشروع لا يصير مصلياً مرتكباً للنهي ما لم يقيد الركعة السجدة، بدليل أنه إذا حلف لا يصلي فصلى ما دون الركعة لا يحنث، ولو حلف لا يصوم فصام ساعة يحنث، وإذا كان مرتكباً للنهي بنفس الشروع في الصوم كان النهي مقارناً للشروع، فلا يجب إتمامه، فلا يلزمه القضاء بالإفساد، ولما لم يكن مرتكباً للمنهي بنفس الشروع في الصلاة ما لم يقيد الركعة بالسجدة، لم يكن المنهي مقارناً للشروع، فصح ما أدى، وإذا صح ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي، لا لأن ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي لما تناوله المنهي ثم إن أصحابنا فرقوا بينها إذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس حدث لا يلزمه القضاء، وإذا افتتح التطوع في الأوقات المكروهة، وقطعها فعليه القضاء عندنا، خلافاً لزفر.
والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر، والنذر بالصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة، ولزمه المنذور به، فكذا بالشروع لزمه ما شرع فيه، فيلزمه القضاء بتركه، أما في النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح، فلا يلزمه النذور به، فكذا لا يلزمه بالشروع، فإذا لم يلزمه بالشروع كيف يلزمه القضاء بإفساده؟.
ثم ها هنا مسائل: إذا نذر أن يصلي ركعتين بغير وضوء، أو بغير قراءة، أو عرياناً، فعلى قول أبي يوسف في المواضع كلها يلزمه ما سمى من الصلاة الصحيحة وما زاد في(1/437)
كلامه فهو لغو، وعلى قول زفر: لا يلزمه شيء في الأحوال كلها، وعند محمد: إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شيء، وإذا سمى ما يجوز معه الأداء في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة يلزمه، والله أعلم.
وطول القيام أفضل في التطوع، لما روي «أن النبي عليه السلام سئل عن أفضل الصلاة فقال: «طول القنوت» يعني: القيام، ولأنه أشق على البدن وقال عليه السلام، «أفضل الأعمال أدومها» أي: أشقها وروي عن أبي يوسف: إذا كان له ورد من القرآن فالأفضل أن يكثر عدد الركعات؛ لأن القيام لا يختلف ويضم إليه زيادة الركوع والسجود وإذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ولا يصلي تطوع بجماعة إلا قيام رمضان فقد استثني عن النهي قيام رمضان، وكما أن قيام رمضان مستثنى عن النهي فصلاة الكسوف يجوز أداؤها بالجماعة مع أنها تطوع ذكر محمد في «الأصل» وحكى عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي دقيقة في كراهة أداء التطوع بالجماعة، وسيأتي بيانها في مسائل التراويح في نوع المتفرقات إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله: رجل صلى أربع ركعات ولم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات، واعلم بأن هنا ثمان مسائل:
إحداهما: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأولين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأولين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.
والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: إذا قرأ في ركعة من الأوليين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الآخريين، والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول من الركعتين أو في إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف فصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، إن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحداهما فسد هذا الشفع وكان عليه قضاء الشفعين.(1/438)
وعند محمد رحمه الله: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحداهما رفع التحريمة وقطعها فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة كما هو قول محمد باتفاق الروايات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده ولا يلزمه قضاؤه، واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين روى محمد عنه أنه لا يقطع التحريمة كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع كذا ذكر في كتاب الصلاة.
وفي «الجامع الصغير» : وروى بشر بن الوليد وعلي بن جعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا في المسألة قياس، واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان ورواية أبي يوسف عنه قياس وجه قول محمد: إن كل شفع من التطوع صلاة على حده، به ورد الحديث قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى» ، وأراد به التطوع كانت القراءة في الركعتين فرضاً كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في أحدهما فقد فات الفرض على وجه لا يمكن إصلاحه كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء ومتى (69ب1) فسدت التحريمة لم يصح بناء الآخرين عليها، فلم يلزمه قضاؤها إن ترك القراءة فيهما أو في إحداهما.
حجة أبي يوسف: أن فساد الأداء لا يكون....... من عدم الأداء، وعدم الأداء لا يفسد التحريمة ففساد الأداء أن لا تفسد التحريمة إذ بالفساد لا تنعدم إلا صفة الجواز والفقه: أن التحريمة شرط للأداء، فلا تفسد بفساد الأداء، وإذا لم تفسد بفساد الأداء صح بناء الآخرين على التحريمة.
حجة أبي حنيفة فيما إذا ترك القراءة في الأوليين ما قلنا لمحمد، وإن ترك القراءة في إحدى الأوليين، وجه القياس على قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد رحمه الله والاستحسان على قوله وجهان:
أحدهما: أن التحريمة شرط الأدء، قال أبو يوسف: إلا أنه مشروعة للأداء لا تقبل الفصل عن الأداء والأداء ثم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة واحدة فإذا قرأ في الركعة الأولى فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة، وانتهت في الصحة بها بناء فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الآخرين عليها بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء فما صحت إلا للأداء على سبيل التمام ولم يوجد ففسد الأداء لفوات بعضه ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.(1/439)
الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول يترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة واحدة ثبت بدليل مقطوع به، ومن الكتاب قال الله تعالى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} (المزمّل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة، أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به، بل هو مجتهد فيه، فإن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين؛ وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن أوجبنا القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأول على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا يجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى نحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً. وأخذنا في كل حكم بالاحتياط.
وإذا عرفنا هذا «الأصل» جئنا إلى تخريج المسائل فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً فعلى قول أبي يوسف: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، وعند أبي حنيفة ومحمد عليه قضاء ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين يعني قرأ في الركعة الأولى والثالثة، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه بترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات وعند محمد يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الثاني عليهما، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين إن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها بالإجماع أنه بترك القراءة في الأخريين أفسد الشفع الثاني، وفساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول.
إذا قعد في الشفع الأول كما إذا أحدث متعمداً، وإن لم يقعد على رأس الركعتين فعليه قضاء الأربع بالإجماع؛ لأن الشفع الثاني قد لزمه، وقد أفسدها بترك القراءة قبل أن يقعد على رأس الركعتين، فيؤثر في الشفع الأول.
كما لو أحدث متعمداً في الشفع الثاني قبل أن يقعد في الشفع الأول، وإذا قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة فيلزمه قضاؤه.
وأما الشفع الثاني، فعند محمد رحمه الله لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، فلا يلزمه القضاء فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فإن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه وقد فسد الشفع(1/440)
الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه.
وإن لم يقعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الأربع بالإجماع.
والجواب في هذا الفصل كالجواب فيما إذا قرأ في الأوليين فقط، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه قد صح، وفسد الأداء، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأول؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد.
وكذلك الجواب عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عند التحريمة لا تنقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد رحمه الله قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله على رواية محمد رحمه الله لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده.
وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله قضاء الأربع لصحة الشروع في الشفع الثاني عنده، فإن صلى أربع ركعات، ولم يقرأ في الأوليين وقرأ في الأخريين ينوي قضاء الأوليين لا يكون قضاء عن الأوليين؛ لأنه بنى بناءً على تحريم واحدة والتحريمة الواحدة لا يتسع فيها القضاء والأداء، فإن ترك القراءة في الأوليين ثم اقتدى رجل في الأخريين، فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين كما يقضي الإمام، لأنه لما شارك الإمام في التحريمة فقد التزم ما التزم الإمام بعد التحريمة.
وهذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف وعلى قول أبي حنيفة على ما روى عنه محمد؛ لأن التحريمة لا تنحل بترك القراءة عندهما، فأما عند محمد رحمه الله التحريمة انحلت بترك القراءة وصار الإمام خارجاً من الصلاة، فلم يصح اقتداء الرجل بالإمام، فلا يجب عليه قضاء شيء، فإن دخل معه رجل في الأوليين، فلما فرغ منهما تكلم الرجل ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات، فعلى الرجل المقتدي قضاء ركعتين الأوليين فقط؛ لأن المقتدي خرج من صلاة الإمام بالكلام قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني، وإنما يلزم الإمام الشفع الثاني بالقيام إليها، فإذا خرج المقتدي من صلاته قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شيء من هذا الشفع، وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأنه كان شارعاً فيه وقد أفسد الإمام بترك القراءة، فيلزمه قضاؤه.
وذكر الحاكم الجليل رحمه الله في «مختصره» ، وإن كانت الصلاة كلها صحيحة لم يكن على الرجل إلا قضاء الركعتين قيد بالركعتين الأوليين؛ لأنه بالكلام خرج الإمام عن(1/441)
كونه إماماً له قبل أن يدخل في الأخريين، ثم قال الحاكم الجليل أيضاً، إنما يصح هذا الجواب إذا أفسد الرجل الركعتين على نفسه قبل أن يفرغ منها والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: صلاة الليل إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعاً، وإن شئت ستاً، وذكر في كتاب صلاة «الأصل» وإن شئت ثماناً، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن في «الجامع الصغير» ، والحال في كتاب الصلاة، واعلم بأن التطوع بالليل حسن لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79) ، وبعض العلماء قالوا ركعتان في كل ليلة، كمن قرأ القرآن سنّة، وقال بعضهم فريضة، وعندنا قيام ليس بسنّة ولا فريضة، ولكنه مستحب قال عليه السلام: «خصصت بصلاة الليل» .
قال: وصلاة النهار ركعتان ركعتان أو أربع أربع، ويكره أن يزيد على ذلك وإن زاد لزمه، واعلم بأن هنا أحكام ثلاثة الجواز والكراهية والأفضلية، أما الكراهية، فالزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروه؛ لأن السنّة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار إلى الأربع وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة على ذلك لعدم ورود السنّة.
فإن قيل: وردت السنّة في صلاة الليل بالزيادة على الثمان، فإنه روي (70أ1) «أنه كان يصلي بتسليمة واحدة تسعاً» ، وروي إحدى عشر وروي ثلاثة عشر، قلنا: ما روي أنه عليه السلام صلى تسعاً بتسليمة، فتأويله أن الثلاث كان وتراً وست ركعات، لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام أنه صلى إحدى عشر ركعة، فثلاث منها كان وتراً وثمان ركعات لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام كان يصلي ثلاث عشر، ثلاث منها كان وتراً وركعتان للفجر وثمان ركعات للتطوع قال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله هذا التفسير، منقول عن النبي عليه السلام غير مستخرج من تلقاء أنفسنا؛ وهذا لأن في ابتداء الأمر كان النبي عليه السلام يوصل صلاة الليل بالوتر والوتر بركعتي الفجر صار الوتر واجباً، فصل من صلاة الليل والوتر وبين الوتر وركعتي الفجر، فاستقرت الشريعة على ثمان ركعات بتسليمة واحدة في صلاة الليل، فنكره الزيادة عليها؛ لأنه خلاف السنّة، لكن لو صلى يجوز لأن الكراهية لا تمنع الجواز كالصلاة في الأوقات المكروهة، فأما الكلام في الأفضلية، أما في صلاة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله: الأفضل أربع ركعات بتحريمة واحدة. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي؛ الأفضل مثنى مثنى، ثم احتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي عليه السلام «صلاة الليل مثنى مثنى» ، وفي كل ركعتين، فسلم ولأنها تطوع الليل، فيكون مثنى مثنى قياساً على التراويح في ليالي رمضان، فإن الصحابة أتفقوا على أن كل ركعتين من التراويح بتسليمة، فدل أن ذلك(1/442)
أفضل؛ وهذا لأن الفصل بين الركعتين بالسلام يؤدي إلى زيادة تحريمة وزيادة تسليمة ودعاء لا يوجد ذلك إذا وصل أحدهما بالآخر، وكان الفصل بتسليمة أفضل.
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن قيام رسول الله عليه السلام في ليالي رمضان، فقالت: «كان قيامه في رمضان وغيرها سواء كان يصلي بعد العشاء أربع ركعات، لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم كان يوتر بثلاث» ، ولأن في الأربع بتسليمة واحدة معنى الوصل والتتابع في العبادة فهو أفضل، ولأن التطوع نظير الفرض، والفرض من صلاة الليل العشاء وهي أربع ركعات بتسليمة، فكذلك لك النفل.
وقوله في كل ركعتين فسلم أي فتشهد، فالتشهد يسمى سلاماً لما فيه من السلام، وأما التراويح إنما جعلوا ركعتين بتسليمة، ليكون أرواح على البدن وما يشترك فيه العامة مبني على اليسر، فأما الأفضل فما هن أشق على البدن، وأما بعد الفراغ عن التراويح لو أراد أن يصلي في بيته، فإنه يصلي أربعاً بتحريمة واحدة، وإنه أفضل الأربع أدوم إحراماً، وقال عليه السلام: «أفضل الأعمال أدومها» ، وأما ما روي عن الحديث، وهو قوله عليه السلام؛ «صلاة الليل مثنى مثنى» قلنا: ما روي في رواية أربعاً أربعاً، فكليهما جائز والأربع أفضل؛ لأنه أدوم والدليل عليه أنه لو نذر أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، فصلى بتسليمتين لا يخرج عن عهدة النذر، وحيث لا يخرج دل أن الأربع بتسليمة واحدة أفضل، وأما في صلاة النهار، فالأفضل أربع ركعات بتسليمة واحدة عندنا.
وعند الشافعي بتسليمة واحدة، لما فيها من زيادة التكبير والتسليم، وحجتنا حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «كان يواظب في صلاة الضحى على أربع ركعات» ؛ ولأن التطوع نظير الفرائض وفرائض النهار أربع ركعات كالظهر والعصر، فكذلك التطوع.
فالحاصل: أن عند أبي حنيفة في تطوع الليل والنهار أربع ركعات أفضل، وعند الشافعي رحمه الله ركعتان فيهما أفضل وعندهما، وهو قول ابن أبي ليلى صلاة الليل مثنى أفضل، فصلاة النهار أربع أفضل، وإذا شرع في التطوع، وأراد أن يصلي ركعتين ثم بدا له أن يصلي أربعاً بتسليمة واحدة يستحب له ذلك؛ لأنه زاد خيراً.
وعن أبي يوسف في «الأمالي» إذا قال الرجل: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات، فصلى ركعتين بتسليمة ثم ركعتين بتسليمة لا يجوز، ولو نذر أن يصلي ركعتين وركعتين، فصلى أربعاً بتسليمة واحدة جاز والله أعلم.(1/443)
الفصل الحادي والعشرون في التطوع قبل الفرض وبعده وفواته عن وقته وتركه بعذر وبغير عذر
يجب أن يعلم أن التطوع قبل الفجر ركعتان اتفقت الآثار عليهما، وإنها من أقوى السنن، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله عليه السلام: «ركعتا الفحر خير من الدنيا، وما فيها» والتطوع قبل الظهر أربع ركعات لا فصل بينهن إلا بالتشهد، يريد به أنه يصليها بتسليمة واحدة وتحريمة واحدة، ولو أدها بتحريمتين لا يكون معتداً بها عندنا، والأصل منه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بعد الزوال أربع ركعات، يطيل فيهن القراءة، فقلت له ما هذه الصلاة التي تدوم عليها يا رسول الله، فقال: «هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في هذه الساعة، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح» ، فقلت أفي كلهن قراءة، فقال: «نعم» فقلنا بتسليمتين أم بتسليمة واحدة، فقال: «بتسليمة واحدة» ، وبعد الظهر ركعتان لحديث عائشة رضي الله عنها، وأما قبل العصر، فإن تطوع بأربع ركعات فحسن خيره بين أن يفعل وبين أن لا يفعل؛ لأن رسول الله عليه السلام كان يفعله تارة ويتركه أخرى.
والسنّة ما واظب عليها رسول الله عليه السلام، لكن لو فعل، فحسن لحديث أم حبيبة بروايتين روى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار» ، وروى شيخ الإسلام الشيخ الإمام أبو نصر الصفار: أن رسول الله عليه السلام، قال: «من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله تعالى لحمه ودمه على النار» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله تعالى له حتماً» ، ولا تطوع بعدها، والذي روي أن النبي عليه السلام صلى بعد العصر في بيت أم سلمة ركعتين، فقد سألته أم سلمة عنهما، فقال عليه السلام: «ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما، فقضيتهما» فقالت أنقضيها نحن، فقال عليه السلام: «لا» .(1/444)
والتطوع بعد المغرب ركعتان، بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله عليه السلام يصلي ركعتين بعد المغرب يطول فيهما القراءة، حتى يتفرق الناس» ، وعن سعيد بن جبير أنه قال: لو تركت ركعتي المغرب خشيت أن لا يغفر لي؛ ولأنه واظب عليها رسول الله عليه السلام، فكان سنّة.
وأما التطوع قبل العشاء، فإن تطوع قبلها بأربع ركعات فحسن، والتطوع بعدها ركعتان وروى عمر وعائشة رضي الله عنهما، وإن تطوع بأربع بعدها، فهو أفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كثمان من ليلة القدر» وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ لأن التطوع بعد العشاء حسن، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لم ينقل إلينا أن رسول الله عليه السلام واظب عليه، والسنّة ما واظب عليه رسول الله عليه السلام.
من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» : أنه يتطوع بعد العشاء بركعتين قول أبي يوسف ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة فالأفضل أن يصلي أربعاً، وجعل هذا القائل هذه المسألة.
فرع مسألة أخرى
أن صلاة الليل مثنى بتسليمة واحدة أفضل أو أربع، فعن أبي حنيفة أربع وعنهما مثنى والتطوع قبل الجمعة أربع ركعات، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يتطوع قبل الجمعة أربع ركعات» ، وقد اختلفوا في التطوع بعدها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنها أربع، وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد، وعن علي رضي الله عنه أنه يصلي بعدها ستاً ركعتين ثم أربعاً، وروى عنه رواية أخرى أنه صلى ستاً أربعاً ثم ركعتين، وبه أخذ أبو يوسف والطحاوي، وكثير من المشايخ على هذا، قال شمس الأئمة الحلواني: الأفضل أن يصلي أربعاً ثم ركعتين، فقد أشار إلى أنه تخير بين تقديم الأربع وبين تقديم المثنى، ولكن الأفضل تقديم الأربع كيلا يصير متطوعاً بعد الفرض مثلها، وأما التطوع قبل صلاة العيد وبعدها سيأتي في باب صلاة العيد إن شاء لله تعالى.
وأما سنة الضحى فقد ورد في الترغيب فيها أحاديث من ركعتين إلى إثني عشر ركعة، وفي «فتاوى الفضلي» أوكد السنن ركعتا الفجر، وهي آكد من الأربع قبل الظهر والأربع قبل الظهر آكد من ركعتي العشاء قال وركعتي الفجر، وركعتي المغرب أثر في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ} (ق: 40) ، جاء في التفسير أنها ركعتا المغرب اتفق أصحابنا على أن ركعتي الفجر إذا فاتتا وحدها، بأن جاء(1/445)
رجل ووجد الإمام في صلاة الفجر، فدخل مع الإمام في صلاته، ولم يشتغل بركعتي الفجر أنها لا تقضى قبل طلوع الشمس، وإذا ارتفعت الشمس لا تقضى قياساً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وتقضى استحساناً إلى وقت الزوال، وهو (قول) محمد وإذا فاتتا مع الفرض تقضى مع الفرض إلى وقت الزوال وإذا زالت الشمس، يُقضى الفرض، ولا تقضى السنّة، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا خلاف في الحقيقة، لأن عند محمد لو لم تقضَ لا شيء (70ب1) ، وعندهما لو قضى يكون حسناً.
ومنهم من حقق الخلاف، وقال: الخلاف في أنه إذا قضى يكون فعلاً حسناً أو سنّة. وجه قول محمد رحمه الله: أن النبي عليه السلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بعد طلوع الشمس، ولهما أن السنّة إحياء طريقة رسول الله عليه السلام، والنبي عليه السلام قضاها مع الفرض، في ليلة التعريس لا بدون الفرض، فلا يكون في قضائها بدون الفرض إحياء طريقة رسول الله عليه السلام.
وأما الأداء قبل الظهر، إذا فاتته وحدها بأن شرع في صلاة الإمام، ولم يشتغل بالأربع هل يقضيها بعد الفراغ من الظهر ما دام وقت الظهر باقياً؟ فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يقضهما وعامتهم على أنه يقضيها، وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو الصحيح، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان إذا فاته الأربع قبل الظهر» ، فقضاها بعد الظهر ثم اختلفت العامة، فيما بينهم، إن هذا يكون سنّة أو نفلاً مبتدأً، وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو قول إبراهيم النخعي وهو الأظهر، فإن عائشة رضي الله عنها أطلقت عليه اسم القضاء حيث قالت: قضاها بعد الظهر.
ثم كيف يأتي بها قبل الركعتين أو بعد الركعتين، فعلى قياس قول من يقول بأن الأربع نفل مبتدأ، يقول يأتي بها بعد الركعتين؛ لأنه لو أتى قبل الركعتين تفوته الركعتان عن وقتها، وعلى قياس من يقول بأنها سنّة، يقول بأنه يأتي بها قبل الركعتين؛ لأن كل واحد منهما سنّة إلا أن إحداهما فائتة والأخرى وقتية، ولو كان عليه قضاءان وأحدهما فائت والآخر وقتي بدأ بالفائت أولاً، كذا ها هنا، وسائر النوافل إذا فاتت عن وقتها لا تقضى بالإجماع سواء فاتت مع الفرض أو بدون الفرض، هذا هو المذكور في ظاهر الرواية. وكان الفقيه أو جعفر الهندواني يقول في ركعتي المغرب أن يقضيها، ذكره في «غريب الرواية» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل ترك سنن الصلوات الخمس إن لم ير السنن حقاً فقد كفر، وإن رأى السنن حقاً منهم من قال لا يأثم، والصحيح أنه يأثم.
وفي «النوازل» إذا ترك السنن إن تركها بعذر فهو معذور وإن تركها بغير عذر لا يكون معذوراً ويسأله الله تعالى عن تركها، والله أعلم.(1/446)
ومما يتصل بهذا الفصل
بيان الأماكن التي يؤتى فيها بالسنن.
يجب أن يعلم بأن السنّة في ركعتي الفجر أن يأتي بهما الرجل في بيته، فإن لم يفعل، فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن لم يمكنه ذلك، ففي المسجد الخارج إن كان الإمام في الداخل، وفي الداخل إن كان الإمام في الخارج، وإن كان المسجد واحداً، فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم، وهذا كله، إذا كان الإمام والقوم في الصلاة، فأما قبل الشروع في الصلاة إذا أتى بها في المسجد في أي موضع شاء لا بأس به.
فأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد في المكان الذي يصلي فيه الفريضة، والأولى أن يتنحى خطوة أو خطوتين والإمام ينأى عن المكان الذي يصلي فيه الفريضة لا محالة.
وفي «الجامع الصغير» : إذا صلى الرجل المغرب في المسجد بالجماعة يصلي ركعتي المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» .
وفي «شرح الآثار» للطحاوي أن الركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، فأما ما سواهما، فلا ينبغي أن يصلي في المسجد، وهذا قول البعض والبعض يقولون التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، وكان يتمسك بقوله عليه السلام: «نوروا بيوتكم بالصلاة، فلا تجعلوها قبوراً» ، وكان يقول كانت جميع السنن والوتر لرسول الله عليه السلام في بيته.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» إن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد وإن شاء رجع فتطوع في منزله.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً
إذا صلى ركعتين في آخر الليل ينوي بهما ركعتي الفجر، فإذا تبين أن الفجر لم يطلع لم يجزئه عن ركعتي الفجر، وكذلك إذا وقع الشك في طلوع الفجر في الركعتين أو وقع الشك في إحدى الركعتين أنها وقعت قبل طلوع الفجر لم يجزئه ذلك عن ركعتي الفجر، ولو صلى بعد طلوع الفجر ركعتين بنية التطوع كان ذلك عن ركعتي الفجر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر.(1/447)
وذكر الحسن في كتاب الصلاة أنه لا يكون عن ركعتي الفجر، ولو صلى ركعتين بنية التطوع وهو يظن أن الليل باقٍ، فإذا تبين أن الفجر قد كان طلع ذكر القاضي الإمام علاء الدين محمود المفتي في «شرح المخلفات» أنه لا رواية في هذه المسألة، وقال المتأخرون تجزئه عن ركعتي الفجر، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» : ظاهر الجواب أنه يجزئه عن ركعتي الفجر؛ لأن الأداء أصل في الوقت، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بهذا، وهذه الرواية تشهد أن السنّة تحتاج إلى النية، وفي بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة: لا يجزئه عن ركعتي الفجر، وعلى قولهما تجزئة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل دخل مسجداً قد صلى فيه، فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له في الوقت يريد بهذا إذا كان الوقت متسعاً، وإذا ضاق تركه، من مشايخنا من قال أراد بقوله. لا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة التطوع قبل العصر والعشاء، دون الفجر والظهر؛ لأن سنّة الفجر واجبة، وفي سنّة الظهر وعيد معروف قال عليه السلام: «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» .
ومنهم من قال؛ لا بل أراد به الكل، فالإنسان متى صلى صلاة المكتوبة، وحده عن غير جماعة لا بأس بأن يأتي سنة الفجر والظهر، فلا بأس بأن يتركهما؛ لأن النبي عليه السلام لم يأت بهما إلا عند أداء المكتوبة بالجماعة، فإذا أتى بهما إذا صلى وحده لم يكن أتى بسنّة رسول الله، وعن الحسن بن زياد أنه قال فيمن تفوته الجمعة، فصلى في مسجد بيته إنه يبدأ بالمكتوبة ولا يتطوع، وهو إشارة إلى ما قلنا، والقول الأول أظهر، والأخذ به أحوط.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً
رجل انتهى إلى الإمام والناس في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة من الفجر بالجماعة، ويدرك ركعة صلى سنّة الفجر ركعتين عند باب المسجد، ثم دخل المسجد فيصلي مع القوم، وإن خاف أن تفوته الركعتان جميعاً دخل مع القوم في صلاتهم.g
الأصل في هذا أن تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها، وكذلك سنّة الفجر لهما فضيلة عظيمة، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» ، والمراد سنّة الفجر، وقال عليه السلام في ركعتي الفجر: «صلوهما فإن فيهما الرغائب» ، ومهما أمكن الجمع بين الفضيلتين لا يترك أحدها، فإذا كان يدرك ركعة من الفجر مع الإمام أمكنه إجزاء الفضيلتين، فإنه إذا صلى ركعتي الفجر، فقد أحرز فضيلتهما، وإذا أدرك مع(1/448)
الإمام ركعة، فقد أدرك ركعة واحدة مع الإمام حقيقة وأدرك الركعة الأخرى، فعنى قال عليه السلام: «من أدرك ركعة من الفجر، فقد أدركها» فدل أنه أمكن الجمع بين الفضيلتين، فلا يترك إحداهما أو يقول لو ترك ركعتي الفجر، فاتته فضيلتها أصلاً، ولو اشتغل بهما ثم دخل مع الإمام ينال ثواب أصل الصلاة بالجماعة أنها تفوته كماله، فكان هذا أولى، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «خرج إلى حيين من أحياء العرب ليصلح منهم لشيء بلغه منهم، واستخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فلما رجع وجده في الصلاة، فدخل منزله وصلى ركعتي الفجر ثم خرج وصلى معه» ، عبد الله بن مسعود دخل المسجد، فوجد الإمام في صلاة الفجر، فقام خلف سارية وصلى ركعتي الفجر، ثم صلى مع الإمام.
وإذا خاف أن تفوته الركعتان جميعاً لو اشتغل بالسنّة دخل مع القوم في صلاتهم؛ لأنه تعذر إحراز الفضيلتين، فيجوز أهمهما، وإحراز فضيلة الجماعة أهم من إحراز فضيلة ركعتي الفجر؛ لأنه إن ورد في ركعتي الفجر، وعد الثواب على الإتيان بها لم يرد الوعيد على قولهما، وورد الوعيد على ترك الجماعة، فكان إحراز فضيلة الجماعة أولى.
ثم فرَّق بين صلاة الفجر وبين صلاة الظهر، فقال في صلاة الفجر: إذا كان يدرك ركعة من صلاة الإمام يصلي ركعتي الفجر، وفي صلاة الظهر قال شرع في صلاة الإمام على كل حال، وإنما كان كذلك؛ إذ ليس الأربع قبل الظهر من الفضيلة بالجماعة، فيشتغل بالجماعة إحرازاً لأهم الفضيلتين، فأما لركعتي الفجر من الفضيلة ماللجماعة (71أ1) ، فقلت بأنه يأتي بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الركعة مع الإمام إحرازاً للفضيلتين.
ثم ذكر في الكتاب إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام يأتي بركعتي الفجر، ولم يذكر ما إذا كان يرجو إدراك القعدة مع الإمام صريحاً، هل يشتغل بركعتي الفجر؟ وأشار إلى أنه يدخل مع الإمام، فإنه قال: إذا خشي أن تفوته الركعتان مع الإمام دخل في صلاة الإمام، وبه أخذ بعض المشايخ.
بخلاف ما إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام؛ لأن هناك بإدراك ركعة من الفجر يصير مدركاً للفجر حكماً؛ فإن رسول الله عليه السلام قال: «من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها» ولم يقل: من أدرك الإمام في القعدة، فقد أدركها، فلا يصير بإدراك القعدة مدركاً للفجر حكماً، ومنهم من قال على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجب أن يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الإمام في التشهد، وعلى قياس قول محمد يدخل في صلاة الإمام، ولا يشتغل بركعتي الفجر.
أصل المسألة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد يصير مدركاً للجمعة عندهما،(1/449)
وعند محمد رحمه الله لا يصير مدركاً لها، فأبو حنيفة وأبو يوسف جعلا هناك إدرك الإمام في التشهد كإدراك الركعة في حق إدراك الجمعة، فكذلك في حق هذا، ومحمد رحمه الله لم يجعل هناك إدراك الإمام في التشهد كإدراكه في حالة القيام في حق إدراك الجمعة، كذلك في هذا.
ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» إذا انتهى الرجال إلى الإمام، والإمام في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة، ويدرك ركعة من الفجر يصلي ركعتي الفجر ويدخل مع القوم في صلاتهم وذكر في كتاب الصلاة إذا انتهى إلى الإمام والإمام يريد أن يأخذ في الإقامة، وقد اختلفوا فيه قال بعضهم هذا، وذلك سواء، ويشتغل بركعتي الفجر في الحالين إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وقال بعضهم: إذا انتهى إلى الإمام، والإمام في الصلاة يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وأما إذا أراد الإمام أن يأخذ في الإقامة، يدخل في صلاة الإمام؛ لأن في الصورة الأولى تكبيرة الافتتاح فاتته حقيقة، وفي الصورة الثانية تكبيرة الافتتاح ما فاتته حقيقة، فلو دخل في صلاة الإمام يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة، وفضيلة الجماعة، فكان هذا أولى، ومن سوى بين الحالين يقول في الصورة الثانية إن كان يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة تقوم فضيلة ركعتي الفجر، وإذا اشتغل بركعتي الفجر يحرز فضيلة ركعتي الفجر، ويحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح معنى وكان هذا أولى، والله أعلم.
(فصل في الرجل يشرع في صلاة ثم أقيمت تلك الصلاة أو يشرع في النفل ثم أقيمت الفرض
أو يدخل في مسجد قد أذن فيه إذا صلى رجل ركعة من الظهر ثم أقيمت الظهر في ذلك المسجد يقطعها، ويدخل مع القوم.
يجب أن يعلم بأن نقض العبادات مقصوداً بغير عذر حرام، النقض لأداء ما هو فوقه جائز؛ لأنه ليس بنقض معنى، بل هو إكمال، فيجوز كهدم المسجد للإصلاح، وكنقص الظهر يوم الجمعة لأداء الجمعة، قلنا: والصلاة بجماعة ضرب مزية على الصلاة منفرداً، قال عليه السلام: «صلاة الرجل بجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» ، وفي رواية «بسبع وعشرين درجة» ، فيجوز نقض الصلاة منفرداً لإحراز الجماعة؛ لأن هذا النقص وسيلة إلى ما فوقه، ولكن هذا إذا لم تثبت شبهة الفراغ عن صلاة منفرداً، فأما إذا ثبت شبهة الفراغ لا ينقضها؛ لأن العبادة بعد الفراغ عنها لا تقبل البطلان إلا بالردة.(1/450)
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرناها، والجواب فيها ما ذكرنا، وإنما يقطعها ويدخل مع القوم إحرازاً لفضيلة الجماعة، ولكن يضيف إليها ركعة أخرى؛ لأنه يمكنه إحراز الجماعة مع إحراز النفل بإضافة ركعة أخرى إلى الركعة الأولى حتى تصير شفعاً، فإن التطوع شرع شفعاً لا وتراً، ومهما أمكن إحراز العبادتين لا يصار إلى إبطال إحداهما، وإن كان في الركعة الأولى قائماً لم يتمها بعد حتى أقيمت الظهر ماذا يصنع؟ يمضي في صلاته أو يقطع للحال، هذا الفصل في «الكتاب» وقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يقطعها للحال؛ لأن هذا القدر ليس له حكم فعل الصلاة، ألا ترى أن من حلف لا يصلي لم يحنث بهذا القدر، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي، فإن فعل ما أدى، إن لم يكن له حكم فعل الصلاة، فهو قربة، وفي القطع إبطال القربة والجماعة سنّة، فلم يكن إبطال القربة أولى من مراعاة السنّة؟
توضيحه: أنه لو شرع في التطوع فأقيمت الظهر، وهو قائم في الركعة الأولى، فهنا كذلك يجب، قلنا: هذا إبطال صورة، لكنه وسيلة إلى ما هو أكمل منه فيكون حكمه حكم الكمال، كمن صلى وسهى فيها وكان ذلك أول ما سهى يقطعها ويستقبل الصلاة؛ لأنه يقطعها ليؤدي أكمل منه، فكذلك هنا.
بخلاف النفل؛ لأن ذلك القطع ليس للتكميل، فلا يجوز، وقال بعضهم: لا يقطع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الميداني إذا سئل عن هذه المسألة تارة يفتي بالمضي، وتارة يفتي بالقطع، فقيل له لم لا يثبت الشيخ على قول واحد، فقال: إن قلبي لا يثبت على شيء واحد فكيف يثبت قولي، وإذا لم يقطع على قول هؤلاء ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم.
قال بعضهم: يخفف إذا شرع المؤذن في الإقامة، ويتم الصلاة، وقال بعضهم: يصلي ركعتين ثم يقطع، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان قد صلى من الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ثم أقيمت الظهر فإن لم يقيد الثالثة بالسجدة قطعها ولم يسجد؛ لأنه لو سجد لا يمكنه النقض بعد ذلك لما نبين (بعد هذا) إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف المشايخ بعد ذلك، قال بعضهم هو بالخيار إن شاء عاد فقعد وسلم ودخل في صلاة الإمام، وإن شاء كبّر قائماً ينوي الدخول في صلاة الإمام.
وبعضهم قالوا يعود إلى التشهد لا محالة ويسلم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه أراد بالخروج عن صلاة معتد بها والخروج عن صلاة معتد بها لم يشرع إلا بالقعدة، ثم إذا عاد إلى القعدة على قول من يقول اختلفوا فيما بينهم أنه هل يقرأ التشهد ثانياً أم لا، بعضهم، قالوا يقرأ؛ لأن القعدة الأولى لم تكن قعدة ختم، وقال بعضهم يكفيه التشهد الأول؛ لأن بالعود إلى القعدة يرتفض القيام؛ لأن ما دون الركعة محل الرفض فحين عاد إلى القعدة ارتفضت هذه الركعة، وجعلت، كأنها لم توجد أصلاً، فكانت هذه القعدة غير القعدة الأولى، وقد تشهد فيها، فلا يتشهد مرة أخرى ثم يسلم تسليمتين عند بعض المشايخ؛ لأنه تحلل من التحريمة، فيكون بتسليمتين، وعند بعضهم(1/451)
يسلم تسليمة واحدة؛ لأن التسليمة الثانية للتحلل، وهذا قطع من وجه؛ لأن التحلل في ذات الأربع لم يشرع على رأس الركعتين، وبعضهم قالوا: لا يعود إلى التشهد لا محالة؛ لأن القعدة شرط التحلل، وهذا قطع وليس بتحلل؛ لأن التحلل في الظهر لا يكون على رأس الركعتين، لكن يقطع بالسلام قائماً.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب في هذا الفصل: أنه لو لم يعد إلى القعدة وسلم قائماً تفسد صلاته، قال رحمه الله: وهكذا فسر في «النوادر» وإن كان قد قيد الثالثة بالسجدة أتمها؛ لأن الثلاث أكثر الصلاة وللأكثر حكم الكل، فالآتي بها كالآتي بكل الصلاة، فثبتت شبهة الفراغ، ولو ثبتت حقيقة الفراغ لا يقبل البعض، فكذا إذا وجدت شبهة الفراغ، فإذا أتمها إن شاء دخل مع الإمام بنية التطوع.
وإن شاء لم يدخل؛ لأن ما يؤدي مع الإمام تطوع له، والناس في التطوعات بالخيار، ولكن الأفضل أن يدخل في صلاة الإمام، ويكون ما صلى مع الإمام تطوعاً؛ وهذا لأن التطوع بعد الظهر مشروع لو خرج من المسجد، ولم يصل مع الإمام ربما يتهم أنه ممن لا يرى الجماعة، فلهذا يدخل مع الإمام.
وقد ورد في عين هذه الصورة نص، وهو ما روي أن رسول الله عليه السلام فرغ من الظهر، فرأى رجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه، فسألهما عن ذلك فقالا كنا صلينا في رحالنا، فقال: عليه السلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة قوم، فصليا معهم، واجعلا صلاتكما معهم سبحة» ، أي: نافلة، وإن أراد أن يكون فرضه أصلياً مع الإمام، فالحيلة له أن لا يقعد في الرابعة من صلاته التي أداها وحده، ويصلي الخامسة والسادسة فيصير ذلك نفلاً له، ويكون فرضه ما صلى مع الإمام، وكذلك الحكم في صلاة العشاء؛ لأن التنفل بعد العشاء مشروع.
فإن قيل: أليس إن أدى النفل بجماعة خارج رمضان مكروه.
قلنا: نعم، ولكن إذا كان (71ب1) الإمام والقوم مؤدّون النفل أما إذا أدى الإمام الفرض والقوم النفل لا بأس به بدليل ما روينا من الحديث وأما في العصر لا يدخل في صلاة الإمام بعدما أتم صلاته؛ لأن النفل بعد العصر مكروه، وفيما عدا هذا الحكم العصر نظير العشاء، ونظير الظهر.
ولو كان في صلاة الفجر، وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت الفجر في ذلك المسجد قطعها إحرازاً لفضيلة الجماعة، كذلك إذا قام إلى الثانية، ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيد بالسجدة، لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير....... وثبتت شبهة الفراغ منها، فلو كان في المغرب وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت في ذلك المسجد قطعها،(1/452)
وكذلك إذا قام (إلى) الثانية ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيدها بالسجدة لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير...... لأكثر. وإن قيدها الثانية بالسجدة أتمها، فلا يشرع في صلاة الإمام بعدما أتمها؛ لأنه لو شرع لا يخلو إما أن يسلم على رأس الركعتين أو يسلم مع الإمام على رأس الثالثة أو يقوم، فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير أربعاً لا وجه أن يسلم على رأس الركعتين؛ لأنه يصير مخالفاً لإمامه ومخالفة الإمام مكروه، قال عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ولا وجه أن يسلم مع الإمام على رأس الثالثة؛ لأنه يصير متنفلاً بثلاث ركعات غير مشروع، ولا وجه إلى أن نضيف إليها ركعة أخرى لتصير أربعاً؛ لأنه يصير متنفلاً بأربع ركعات، وقد قعد على رأس الثالثة، وإنه مكروه. وعن أبي يوسف له قال الأحسن أن يدخل مع الإمام، ويصلي أربعاً يصلي ثلاث ركعات مع الإمام.
وإذا فرغ الإمام قام وأتم الرابعة أكثر ما فيه أن فيهن نوع تغيير إلا أن هذا التغيير، إنما وقع بسبب الاقتداء، والتغيير بسبب الاقتداء لا بأس به، كمن أدرك الإمام في السجدة، فإنه يتابعه فيها، والسجود قبل الركوع غير مشروع، وكمن أدرك الإمام في القعدة، فإنه يتابعه فيها، والقعدة قبل أداء الأركان ليس بمشروع، فعلم أن التغيير إذا وقع بسبب الاقتداء لا بأس به، وعندنا إن دخل في صلاة الإمام فعل كما قال أبو يوسف.
وعن أبي يوسف نظرية أخرى أنه يدخل في صلاة الإمام، ويسلم على رأس الثالثة مع الإمام؛ لأن هذا تغير وقع في التطوع بسبب الاقتداء، فلا يكون به بأس كما إذا صلى الظهر وحده أولاً، ثم يدخل في هذا الظهر مع الإمام، وترك الإمام للقراءة في الأخريين، فإنه يجوز صلاة المقتدي وهذه الصلاة تطوع في حق المقتدي، وإذا تطوع منفرداً على هذا الوجه لا يجوز، ولكن لما كان هذا تغيير بسبب الاقتداء لم يكن به بأس.
وإذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة فريضة، ويصير الظهر نفلاً له، فهذا؛ لأنه مأمور بالسعي إلى الجمعة، قال الله تعالى: {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) ، ويعد أداء الظهر في بيته هذا الأمر؟ وكان مفترضاً في أداء الجمعة لا متطوعاً، ولا يجتمع فرضان في وقت واحد، فمن ضرورة كون الجمعة فرضاً ينقلب ما أداها قبلها تطوعاً، بخلاف سائر الأيام، فإن في سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته، ثم شرع فيها مع الإمام، فإن الأولى تكون فرضاً، والثانية تطوعاً؛ لأن بعد أداء الظهر في سائر الأيام في بيته لا يبقى مخاطباً بشهود الجمعة في تلك الصلاة، فإذا شهد ما كان متنفلاً بها.
يوضح الفرق بينهما: أن الجمعة عبادة مقصودة بنفسها، وليست بتبع للظهر، فلا تسقط بأداء الفرض، فأما الجمعة تبع للظهر؛ لأنه وصف للظهر، فإذا سقط الأصل سقط التبع ضرورة، وأما إذا شرع في النفل ثم أقيمت الفريضة وهو قائم في الركعة الأولى لا يقطع بالاتباع، ولكن يتم ذلك بالشفع، ويدخل في الفرض.(1/453)
وإن كان في الأربع قبل الظهر، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: الجواب فيها كالجواب في الظهر من أولها إلى آخرها؛ لأن حرمته لا تكون فوق حرمة الظهر، وقال بعضهم يتمها أربعاً؛ لأنه بمنزلة صلاة واحدة، حتى إن الشفيع إذا انتقل إلى الشفع الثاني بعدما أخبر بالبيع لا يبطل خياره، فعلم أنها بمنزلة صلاة واحدة، وبمنزلة شفع واحد.
والفرق بين الظهر وبين هذه ظاهر؛ لأن القطع في الظهر إنما شرع ليؤديها على أكمل الوجوه، وها هنا لو قطعها لا يعيدها على أكمل الوجوه؛ لأنها فائت من وقتها، فلا يكون الثاني مثل الأول فضلاً عن الزيادة، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: كنت أفتي زماناً أنه يتم الأربع هنا حتى وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يسلم على رأس الركعتين، فرجعت عن ذلك، فإن قطعها قضى على ركعتين عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قياس قول أبي يوسف يقضيها أربعاً كما في سائر التطوعات إذا شرع فيها ينوي أربع ركعات، وأفسدها يلزمه قضاء ركعتين عندهما، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء الأربع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يفتي في سنّة الظهر أنه يقضيها أربعاً متى قطعها في أي حال قطعها، وكان يقول في سائر التطوعات عندهما: إنما تقضى بركعتين؛ لأن كل شفع من التطوع في حكم صلاة على حدة.
ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول، فلا يعتبر شارعاً في الشفع الأول قبل الفراغ من الشفع الأول، ووجوب القضاء حالة الإفساد لصيانة ما أدى، وإلا لم يصر شارعاً في الشفع الثاني قبل الفراغ من الشفع الأول، وكان الإفساد في حق الشفع الثاني امتناعاً لا إفساداً ولا يلزمه قضاء الشفع الثاني، وهذا المعنى للثاني في سنّة الظهر؛ لأنها بمنزلة صلاة واحدة بدليل ما ذكرنا من مسألة الشفعة، وخيار المخيرة، ألا ترى أن في سائر التطوعات تبطل الشفعة، والخيار بالانتقال إلى الشفع الثاني بعد العلم بالبيع والخيار، وفي سنّة الظهر لا تبطل، فعلم أنها بمنزلة واحدة، والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا شرع في الأربع قبل الجمعة.
ثم افتتح الخطيب الخطبة، هل يقطع؟ فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال يصلي ركعتين ويقطع، ومنهم من قال يتم أربعاً، وبه كان يفتي الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله، قال محمد رحمه الله في رجل دخل مسجداً قد أذن فيه كره له أن يخرج حتى يصلي.
اعلم بأن هذه المسألة على وجهين: أما إن كان هذا الرجل قد صلى تلك الصلاة أو لم يصل؛ فإن لم يصل، وكان هذا المسجد مسجد حيه، لقوله عليه السلام: «لا يخرج من المسجد أحد إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجعة» ، ولأنه دعي إلى صلاة عليه فيلزمه طاعة الله تعالى عند سماع النداء بالإجابة.
توضيحه: أنه إذ خرج من المسجد يلزم الدخول ثانياً، لأداء الصلاة بالجماعة، فلا يفيد الخروج من المسجد، وما لا يفيد لا يرد الشرع به، ولأنه يتهم بترك الصلاة، وقد(1/454)
قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقفن مواقف التهم» وأما إذا كان المسجد مسجداً آخر، فإن كان أهل مسجده قد صلوا في مسجده لا ينبغي له أن يخرج أيضاً لما روينا من الحديث، فإنه مطلق، ولما ذكرنا من المعنى، فإنه لا يجب الفصل بين مسجد ومسجد.
وإن كان أهل مسجده لم يصلوا فيه فقد اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: إن خرج ليصلي في مسجد حيه، فلا بأس فيه؛ لأن لمسجد حيه عليه حقاً، وإن صلى في ذلك فلا بأس به، والأفضل أن يصلي في ذلك المسجد لما ذكرنا، وبعضهم قالوا: إن كان هذا الرجل يقوم بأمر الجماعة في مسجده كإمام أو مؤذن وتتفرق الجماعة بسبب غيبته لم يكره له الخروج استحساناً، صيانة للجمع في مسجد حيه، هذا إذا لم يصل الرجل تلك الصلاة، وإن كان صلى تلك الصلاة لا بأس بأن يخرج قبل أن يأخذ المؤذن في الإقامة؛ لأن الأذان دعاء لمن لم يصلِ، فلا يعمل في حق من صلى، فإذا أخذ المؤذن في الإقامة، ففي الظهر والعشاء لا يخرج، وشرع في صلاة الإمام، فيجعلها تطوعاً؛ لأن التطوع بعدهما مشروع، وفي العصر والفجر يخرج، ولا يشرع في صلاة الإمام؛ لأن التطوع بعدهما ليس بمشروع، وكذلك في المغرب لا يدخل في صلاة الإمام لما ذكرنا من المعنى، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
رجل له مسجد في محلته أراد أن يحضر المسجد الجامع لكثرة جمعه لا ينبغي له أن يحضر، الصلاة في مسجده أفضل قل أهل مسجده أو كثر لأن لمسجده حقاً عليه، وليس لذلك المسجد عليه حق ليترجح كثرة الجمع، ومنها أن المؤذن إذا لم يكن حاضراً لا ينبغي للقوم أن يذهبوا إلى مسجد آخر، بل يؤذن بعض القوم ويصلي، وإن كان واحداً؛ لأن لمسجده عليه حقاً، فلا يجوز تركه من غير ضرورة.
ومنه مسجد إن أراد الرجل أن يصلي في أحدهما صلى في أقدمهما بناءً؛ لأن له زيادة حرمة، فإن كانا منزلة منهما ويصلي في أقربهما، وإن استويا فهو مخير؛ لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن كان قدم أحدهما أكثر، فإن كان هو فقيهاً يذهب إلى الذين قومه أقل ليكثر جمعه بسببه، وإن لم يكن فقيهاً يذهب حيث أحب ذكر الصدر الشهيد هذه المسائل في «واقعاته» .
قال في «الجامع الصغير» : في تحية المسجد بركعتين: إنها ليست بواجبة، وهذا مذهب علمائنا، وقال الشافعي، إنها واجبة، حجته: قوله عليه السلام: «من دخل مسجداً، فليحيه بركعتين» والأمر للوجوب، وإن قول النبي عليه السلام كما أمر، فقد ذكر التحية، وإنه يدل على عدم الوجوب، فيحمل الأمر على الندب ليكون عملاً بلفظة الأمر، والتحية جميعاً، والله تعالى أعلم (72أ1) .(1/455)
الفصل الثالث عشر في التراويح والوتر مسائل التراويح تشتمل على أنواع:
النوع الأول في بيان صفتها وكميتها وكيفية أدائها
أما الكلام في صفتها، فنقول: التراويح سنّة هو الصحيح من المذهب، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه نصاً، والدليل على أنها سنّة قوله عليه السلام: «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسننت لكم قيامه» ، وقد صح أنه عليه السلام أقامها في بعض الليالي، وبين العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا ثم واظب عليها الخلفاء الراشدون، وقال عليه السلام: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، وقال عليه السلام في حديث سلمان؛ «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسن لكم قيامه» ، فهذا الخبر يشير إلى أنه سنّة الله، ومعناه: موضع الله ومرضاته وإنها سنة الرجال والنساء جميعاً ما روى عرفجة بن عبد الله الثقفي عن علي رضي الله عنه، بدليل أنه كان يأمر النساء بصيام رمضان، وكان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال عرفجة: فأمرني فكنت إماماً للنساء. وعن هشام بن عروة عن أبي مكية أن عائشة رضي الله عنها أعتقت ديجون عن دين، مكان قومها ومن معها في رمضان في المصحف، وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يرد ذلك، فإنه روى في إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يكرهون أن يؤم الوصل في المصحف، لما فيه من الشبه باليهود.
وأما الكلام في كمها، فنقول إنها مقدرة العشرين ركعة عندنا والشافعي رحمه الله، وعند مالك رحمة الله عليه أنه مقدرة بست وثلاثين ركعة اتباعاً لعمر وعلي رضي الله عنهما، فإن قاموا بما قال مالك بالجماعة، فلا بأس به عند الشافعي، وعندنا يكره بناءً على أن التنفل بجماعة.......، والمكروه عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، وإن أتوا ما على العشرين إلى تمام ست وثلاثين فرادى، فلا بأس به وهو مستحب.
وأما الكلام في كيفيته أدائها، روي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن الإمام يصلي بالقوم ويسلم في كل ركعتين، وكلما يصلي ترويحة ينتظر بعد الترويحة قدر ترويحة، وينتظر بعد الترويحة الخامسة قدر ترويحة ويوتر بهم والانتظار بين كل(1/456)
ترويحتين مستحب بقدر ترويحة عند أبي حنيفة رحمه الله. وعليه عمل أهل الحرمين، غير أن أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعاً، وأهل المدينة يصلون بدل ذلك أربع ركعات، وأهل كل بلدة بالخيار يسبحون أو يهللون أو ينتظرون سكوتاً، وهل يصلون؟ اختلف المشايخ، ومنهم من كره ذلك فكان أبو القاسم الصفار وإبراهيم بن يوسف، وخلف وشداد رحمهم الله، لا يكرهون ذلك، وكان إبراهيم بن يوسف يقولون: ذلك حسن جميل، وأما الانتظار والاستراحة على رأس خمس تسليمات، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يكره، وعامتهم على أنه يكره؛ لأنه يخالف أهل الحرمين.
وإذا صلى كل تسليمة إمام على حدة حتى يصير لكل ترويحة إمامان، فقد جوزه وبعض المشايخ. وعامتهم على أنه مكروه، وينبغي أن يؤدي كل ترويحة إمام على حده، وهو عمل أهل الحرمين وغيرهم.
نوع آخر في بيان أن الجماعة
ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء عن المعلى، عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في شهر رمضان، فأحب إليّ أن يصلي في بيته، وذكر نحوه عن مالك، وكان الشافعي رحمه الله يقول في القائم صلاة المنفرد في قيام رمضان أحب إليّ.
أن قال الطحاوي رحمه الله: وقد قال قوم: إن الجماعة في ذلك أفضل، منهم عيسى بن أبان رحمه الله، وقد ذكر الطحاوي في «مختصره» استحب له أن يصلي التراويح في بيته، إلا أن يكون فقيهاً عظيماً يقتدى به، ويكون في حضوره ترغيب لغيره في الامتناع عن الحضور تقليل الجماعة، فحينئذٍ (لا) يستحب له أن يصلي في بيته ينبغي أن يحضر المسجد.
وفي «نوادر هشام» قال سألت محمداً رحمه الله عن القيام في شهر رمضان في المسجد أحب إليك أم في البيت؟ قال: إن كان عمله يقتدى به فصلاته في المسجد أحب إليّ، وقال أبو سليمان كان محمد بن الحسين رحمه الله يصلي مع الناس التراويح ويؤم ثم يرجع، وهكذا كان يفعل أبو مطيع وخلف وشداد وإبراهيم بن يوسف رحمهم الله، فمن المشايخ من قال: من صلى التراويح منفرداً كان تاركاً للسنّة، وهو مسيء، وبه كان يعني ظهير الدين المرغيناني رحمه الله لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقدر ما صلى التراويح صلى بجماعة، وهكذا نقل عن الصحابة رضون الله عليهم، ومن المشايخ من قال يكون تاركاً لفضيلة، فلا بأس به، فقد صح عن ابن عمر وسالم ونافع أنهم كانوا ينصرفون، ولا يقومون، فدل عن الجماعة، وليست السنّة ولكن المشايخ على أن إقامتها بالجماعة سنّة على سبيل ثبوته حتى لو ترك أهل مسجد كلهم إقامتها بالجماعة، فقد أساؤوا وتركوا السنّة.
وإن أقيمت التراويح بالجماعة في المسجد و........، وزاد الناس وصلى(1/457)
في بيته، فقد ترك الفضيلة، ولم يكن مسيئاً، وإن صلوا بالجماعة في البيت، فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أن للجماعة في البيت نصيبه؟...... فضيلة أخرى، فهذا قد جاء إحدى الفضيلتين وترك الفضيلة الزائدة.
ولو أن إماماً يصلي التراويح في مسجدين في كل مسجد على الكنار لا يجوز؛ لأنه لو؟....... هكذا حكي عن أبي بكر الإسكاف رحمه الله، ثم قال أبو بكر، سمعت أبا نصر يقول يجوز لأهل كل المسجدين، قال أبو الليث رحمه الله: قول أبو بكر أحب إليّ، وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله فمن صلى العشاء والتراويح والوتر في مسجد، ثم أم قوماً آخرين في التراويح ونوى الإمامة كره له، ولا يكوه للمأمومين.
ولو لم ينوِ الإمامة وشرع في الركوع، فاقتدى الناس لم يكره لواحد منهما، والمقتدي إذا صلى في مسجدين لا بأس به؛ لأن اقتداءه في المسجد الثاني يكون اقتداء المتطوع بمن يصلي السنّة، ولكن ينبغي أن يوتر في المسجد الثاني، هكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله معناه لا يوتر في المسجد الأول، ويوتر في المسجد الثاني.
ولو صلى التراويح ثم أرادوا أن يصلوا....... يصلون فرادى.
نوع آخر في بيان وقت التراويح
قال الشيخ الإمام الزاهد إسماعيل المستملي، وجماعة من متأخري مشايخ بلخ رحمة الله عليهم إلى وقت طلوع الفجر وقت إنهاء بعد العشاء قبل الوتر وبعد الوتر؛ لأنها مقام الليل فوقتها الليل.
وقال كافة مشايخ بخارى رحمة الله عليهم: وقتها ما بين العشاء والوتر، فإن صلاها قبل العشاء، أو بعد الوتر لم يؤدها في وقتها، وأكثر المشايخ على أن وقتهما ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، حتى لو صلاها قبل العشاء لا تجوز، ولو صلاها (72ب1) بعد الوتر يجوز؛ لأنها نوافل سنّت بعد العشاء، فأشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: هذا القول يصح قال القاضي الإمام هذا أراد مشايخ بلدتنا تقديم التراويح على العشاء، لتعجيل الناس العشاء في ليالي رمضان؛ لأجل التراويح مخافة أن يقع العشاء قبل الوقت، لكن كرهوا مخالفة السلف.
وفي «الفتاوى» : إمام صلى العشاء بغير وضوء وهو لا يعلم، ثم صلى بهم إمام أخر التراويح ثم علموا، فعليهم أن يعيدوا العشاء والتراويح، وهذا الجواب في التراويح على قول من يقول أن وقت التراويح ما بين العشاء إلى آخر الليل.(1/458)
نوع آخر في نية التراويح
إذا نوى التراويح أو سنة الليل (أو) الوقت، أو قيام الليل في النيتين يجوز وصار كما إذا نوى الظهر أو فرض الوقت، فإنه يجوز وإن نوى صلاة مطلقة، أو نوى تطوعاً فحسب، اختلف المشايخ فيه، ذكر بعض المتقدمين أنه لا يجوز؛ لأنها سنّة والسنّة لا تتأدى بنية التطوع أو بنية الصلاة المطلقة روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ذلك في ركعتي الفجر، أو يقول: هذه الصلاة مخصوصة كالمكتوبات، فلا تتأدى بمطلق النية ولا بنية التطوع كالمكتوبات، وأكثر المتأخرين على أن التراويح وسائر السنن تتأدى بمطلق النية، لأنها نافلة لكن واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم والنوافل تتأدى بمطلق النية، والاحتياط في التراويح أن ينوي التراويح، أو بنية الوقت أو قيام الليل، وفي سائر السنن الاحتياط أن ينوي الصلاة متابعاً لرسول الله عليه السلام.
ولو صلى التراويح بنية الفوائت من صلاة الفجر لم تكن محتسبة في التراويح........ ليشترط النية في كل شفع، فقد اختلف المشايخ فيه.
نوع آخر في بيان قدر القراءة في التراويح
اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في المغرب؛ لأن التراويح أخف من أخف المكتوبات، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في العشاء، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعتين في عشرين أية إلى مائتين.
وعن أبي حنيفة رحمة الله عليه: أنه يقرأ في كل ركعة عشر آيات.
والحاصل: أن السنّة الختم في التراويح مرة، والختم مرتين فضيلة، والختم ثلاث مرات في كل عشر مرة أفضل؛ لأن كل عشر من رمضان مميز مخصوص، والختم مرة يقع بقراءة عشر آيات في كل ركعة؛ لأن عدد ركعات التراويح في ثلاثين ليلة ستمائة، وآيات القرآنستة آلاف وشيء، فيكون في كل ركعة عشر آيات والختم مرتين يقع بقراءة عشرين آية في كل ركعة والختم ثلاث مرات يقع بقراءة ثلاثين آية في كل ركعة.
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه، إذا قرأ بعض القرآن في سائر الصلوات بأن كان القوم الختم في التراويح، فلا بأس به. ويكون لهم ثواب الصلاة، ولا يكون لهم ثواب الختم.
وسئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله عن الإمام في شهر رمضان أيجرد للفريضة قراءة على حدة، أو يخلط قراءة الفرض بقراءة التراويح؟ قال سهل إلى ما هو أخف للقوم.
وسئل أيضاً: عن الإمام إذا فرغ من التشهد هل يزيد عليها أو يقتصر، قال؛ إن علم(1/459)
أن ذلك لا يمل القوم يزيد في الصلوات والاستغفار ما شاء. وإن علم أنه يثقل على القوم لا يزيد.
قالوا: ويكره للإمام إذا ختم في التراويح أن يقرأ الإمام في ركعة واحدة إذا علم أن القوم يملون، وكذا يكره له أنه يعجل، ويختم القرآن في ليلة إحدى وعشرين إذا علم أن القوم يملون.
قال مشايخ بخارى: وينبغي للإمام إذا أراد الختم أن يختم في ليلة السابع والعشرين، أكثره ما جاء في الأخبار فيها أنها ليلة القدر، وإذا غلط في القراءة في التراويح، فترك سورة أو آية وقرأ ما بعدها، فالمستحب له أن يقرأ المتروكة ثم المقروءة ليكون قد قرأ القرآن على نحوه
وإذا فسد شفع وقد قرأ فيه هل يعتبر بما قرأ؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعتد ليكون الختم في صلاة صحيحة، وقال بعضهم: إذا فسد شفع وقرأ..... يعتد؛ لأن المقصود هو القراءة ولا فساد في القراءة؛ وإذا ختم القرآن، فله أن يبدأ من حيث شاء بقية الشهر.
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وإذا ختم في التراويح مرة وصلى العشاء يقية الشهر من غير تراويح يجوز من غير كراهة؛ لأن التراويح ما شرعت بحق نفسها بل لأجل القراءة فيها، فالسنّة هو الختم مرة وقد ختم مرة، فلو أمرناه بالتراويح بعد ذلك أمرناه بهابحق نفسها وإنها ما شرعت بحق نفسها.
وعن هذا قلنا: إن في النساء من كانت قارئة تصلي عشرين ركعة في كل ليلة وتختم القرآن في الشهر مرة، ومن لم تكن قارئة منهن تصلي ستاً وثمانياً وعشراً.
قال القاضي الإمام هذا رحمه الله: إذا كان إمامه يخلط لا بأس بأن يترك مسجده ويطوف، وكذلك إذا كان غيره أخف قراءة وأحسن صوتاً، وهذا يبين أنه إذا كان لا يختم في مسجد حيّه يطوف. وما ذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه إذا كان يقرأ في مسجد حيه قدر المسنون لا يترك مسجد حيه لم يتضح في معناه.
ومما يتصل بهذا النوع
أن الفضل تعديل الصراط بعد التسليمات، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه وإن خالف هذا، فلا بأس؛ لأن السنّة هي الختم، وإنها لا تفوت بترك التعديل، وأما في التسليمة الواحدة، فلا يستحب تطويل الركعة الثانية على الركعة الأولى، كما في سائر الصلوات، أما تطويل الركعة الأولى على الركعة الثانية فقد قيل لا بأس به، من غير ذكر خلاف، وقد قيل ذكر يجب أن..... المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله لا يطول.(1/460)
بل يسوي وقال محمد رحمه الله: يستحب تطويل الأولى كما في الظهر والعصر والعشاء.
نوع آخر في القوم يصلون التراويح قعوداً
اعلم بأن هذا النوع على وجوه:
الأول: أن يصلي الإمام والقوم جميعاً التراويح قعوداً من غير عذر، والكلام فيه في موضعين في الجواز وفي الاستحباب. أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأنها سنّة فصار كركعتي الفجر، وقال بعضهم: يجوز وهو القائل بفرق بين التراويح وبين سنّة الفجر.
والفرق: أن هذه نافلة لم تختص بزيادة تأكيد، فأشبهت سائر النوافل بخلاف ركعتي الفجر. وعلى قول من يقول بالجواز يكون ثوابه على نصف ثواب القائم، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله، وأيضاً الكلام في الاستحباب بلا خلاف أنه لا يستحب؛ لأنه (73أ1) خلاف المتوارث، وخلاف عمل السلف.
الوجه الثاني: أن يصلي القوم والإمام جميعاً قعوداً بعذر، وإنه جائز بغير كراهة، والكلام فيه ظاهر.
الوجه الثالث: أن يصلي الإمام التراويح قاعداً بعذر أو بغير عذر، واقتدى به قوم قيام، والكلام فيه في موضعين أيضاً، في الجواز والاستحباب، أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يجوز بناءً على اختلافهم في اقتداء القائم بالقاعد في الفرض.
ومنهم من قال يجوز الاقتداء إجماعاً، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه هو الصحيح، وإذا صح الاقتداء على الوفاق على قول هؤلاء هل يستحب للقوم القيام؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: لا يستحب احترازاً عن صورة المخالفة، وقال بعضهم عن قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما يستحب القيام، وعلى قول محمد يستحب القعود.
وذكر أبو سلمان عن محمد رحمهما الله: في رجل أم قوماً في رمضان جالساً أيقومون؟ يعني القوم قال: نعم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فبعض مشايخنا قالوا: إن محمداً خص قول أبي حنيفة وأبي يوسف في بيان حكم الجواز، يعني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يجوز لقوم أن يصفوا قياماً، والإمام قاعد وتخصص قولهما في بيان حكم الجواز دليل على أنه لا يصح اقتداؤهم به عند محمد رحمة الله عليه، وبعض مشايخنا قالوا خص قوليهما في بيان حكم الاستحباب يعني يستحب لهم القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وعند محمد رحمه الله لا يستحب، وهذا لأن عند محمد رحمه الله الاختلاف بين الإمام والقوم في القيام والقعود اختلاف معتبر حتى يمنع الفرض من الجواز، فيمنع النفل في الاستحباب أيضاً.(1/461)
نوع آخر
فيما إذا صلى ترويحة واحدة أو أكثر أو أقل بتسليمة واحدة.
يجب أن يعلم بأن هذه المسلة على وجهين:
الأول: أن يقعد على رأس الركعتين، في هذا الوجه اختلاف المشايخ، قال بعض المتقدمين: لا يجزئه إلا عن تسليمة واحدة، وقال بعض المتقدمين، وعامة المتأخرين: إنه يجزئه عن تسليمتين، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: لأنه أكمل ولم يجد بشيء إنما جمع المتفرق، واستدام التحريم، وإنه لا يؤثر في المنع في الجواز.
ألا ترى أن من أوجب على نفسه أن يصلي أربع ركعات بتسليمتين فصلى أربعاً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس الركعتين يجوز عن جميع ما أوجبه على نفسه، كذا ها هنا. روى ذلك أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمة الله عليه.
ولو صلى ستاً أو ثمانياً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين لم يجزئه إلا عن ركعتين في قول بعض المتقدمين، وبعض المتقدمين وعامة المتأخرين الذين قالوا بالجوار عن تسليمتين إذا صلى أربعاً وقعد على رأس الركعتين اختلفوا فيما بينهم، عامتهم على أنه يجزئه كل ركعتين عن تسليمه تسليمتين؛ لأنه أكمل كل ركعتين بالقعود في آخرهما، وسائر الأفعال والتسليم قطع، وخروج، وليس بمقصود.
وقال بعضهم: متى صلى عدداً بتسليمة واحدة، وهي مستحبة في صلاة الليل، وكل ركعتين من ذلك يجزىء عن تسليمة واحدة، ومتى صلى بتسليمة واحدة عدداً بعضها مستحبة في صلاة الليل، وبعضها غير مستحبة في صلاة الليل فإنما يجزئه عن القدر المستحب؛ لأنه في الزيادة مسيء، فكيف ينوب..... عن التراويح وما كان في..... اختلاف كان في هذا اختلاف أيضاً.
فعلى هذا إذا صلى ستاً أو ثمانياً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزئه عن تسليمتين؛ لأن عندهما الزيادة على الأربع في صلاة الليل بتسليمة واحدة مكروهة، فلا تنوب الزيادة عن التراويح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: فيما إذا صلى ستاً يقع ذلك عن ثلاث تسليمات باتفاق الروايات؛ لأن عنده إلى الست بتسليمة واحدة لا تكره باتفاق الروايات.
وفيما إذا صلى ثمانياً يقع عن أربع تسليمات على ما ذكر في «الأصل» وعلى ما ذكر في «الجامع الصغير» يقع عن ثلاث تسليمات، وعلى ما قاله بعض المشايخ: إنه ليس في المسألة اختلاف الروايتين، ولكن طول في الأصل وأوجز في «الجامع» يجوز عن أربع تسليمات.
ولو صلى عشر ركعات بتسليمة وقعد في كل ركعتين، فعلى قولهما: يجوز عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله في الروايات الظاهرة يجوز عن أربع تسليمات؛(1/462)
لأن ما زاد على الثماني ليس بمستحب عنده باتفاق الروايات الظاهرة، وعلى قول العامة وهو الصحيح يجوز عن خمس تسليمات كل ركعتين عن تسليمة.
ولو صلى التراويح كلها بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين، فعندهما يجزئه عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن ثماني ركعات وعلى قول عامة المشايخ: يجوز على كل ركعتين عن تسليمة عن أبي حنيفة رحمه الله.
ولو صلى أربعاً بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين، ففي هذا الوجه القياس، وهو قول محمد رحمه الله وزفر وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله: إنه تفسد صلاته، ويلزمه قضاء هذه الترويحة.
وفي الاستحسان وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو المشهور، وقول أبي يوسف رحمه الله: يجوز، ولكن يجوز عن تسليمة واحدة، وعن تسليمتين، وقال بعضهم: عن تسليمتين، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو عبد الله الخيزاخزي رحمه الله، وكان يقول التراويح سنّة مؤكدة، فكان كسنّة الظهر.
ولو صلى سنّة الظهر أربعاً، ولم يقعد على رأس الركعتين أجزأه عن الأربع، كذا ههنا، وكان الفقيه أبو جعفر الهنداوي رحمه الله يقول: يجزئه عن تسليمة واحدة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي قول الفقيه أبي جعفر والشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أقرب إلى الاحتياط، فكان الأخذَ بالاحتياط، فكان الأخذ به أولى فهكذا اختار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وعليه الفتوى.
فهذا لأن القعدة على رأس الثانية في التطوع فرض، فإذا تركها كان ينبغي أن تفسد صلاته أصلاً، كما هو وجه القياس.
وإنما جاز استحساناً، فأخذنا بالقياس، فقلنا بفساد الشفع الأول، وأخذنا بالاستحسان في حق بقاء التحريمة.
وإذا بقيت التحريمة صح الشروع في الشفع الثاني، وقد أتمهما بالقعدة فجاز عن تسليمة واحدة.
وعن أبي بكر الإسكاف رحمه الله: أنه سئل عن رجل قام إلى الثالثة في التراويح، (73ب1) ولم يقعد على رأس الثانية، قال: إن تذكر في القيام، فينبغي أن يعود إلى القعدة فيعود ويسلم، وإن تذكر بعد ما ركع الثالثة وسجد، فإن أضاف إليها ركعة أخرى كانت هذه الأربعة عن تحريمة واحدة، ورأيت في نسخة فيما إذا صلى أربعاً بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين إن على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن تسليمتين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون عن تسليمة واحدة.(1/463)
وأما إذا صلى ثلاثاً بتسليمة واحدة، إن قعد على رأس الثانية يجرئه عن تسليمة واحدة، وعليه قضاء ركعتين؛ لأنه شرع في الشفع الثاني وصح الشروع فيه، وقد أفسده فيجب عليه قضاء الشفع الثاني.
وإن لم يقعد على رأس الثانية، ساهياً أو عامداً لا شك أن صلاته باطلة قياساً، وهو قول محمد وزفر وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله في المشهور، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله اختلف المشايخ، قال بعضهم: يجزيه عن تسليمة، وقال بعضهم: لا يجزيه أصلاً، وكذلك الاختلاف في غير التراويح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثالثة قد صحت حيث حكم بصحة التحريمة إن قعد في آخر الصلاة، ولم يكملها بضم أخرى إليها فيلزمه القضاء، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاثة أصلاً لزمه قضاء الأوليين، وهل يلزمه؛ لأجل الثالثة شيء؟ إن كان ساهياً لا شيء عليه، لأنه شرع في مظنون. وإن كان عامداً لزمه ركعتان في قول أبي يوسف لبقاء التحريمة، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يلزمه شيء؛ لأن التحريمة قد فسدت حين لم يقعد على رأس الثالثة، ولم يأتِ بالرابعة، فإذا قام إلى الثالثة، فقد قام إليها بتحريمة فاسدة، وذلك موجب القضاء عند أبي يوسف رحمه الله، وعند أبي حنيفة لا في الصحيح من مذهبه.
فعلى هذا إذا صلى التراويح....... تسليمات كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين، فعلى جواب القياس، وهو قول محمد وزفر رحمه الله: عليهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمة الله عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك.
وأما قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
فعلى قول من يقول: إذا صلى ثلاث ركعات لا غير بتسليمة واحدة يجزئه عن تسليمة واحدة أجزأه هنا عن التراويح كلها، ولا شيء عليه إن كان قام ساهياً، وإن كان قام عامداً فعليه قضاء عشرين ركعة، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاث عن تسليمة واحدة عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله كيف ما كان. وفي قول أبي يوسف رحمه الله: إن كان ساهياً فهو كذلك، وإن كان عامداً فعليه مع التراويح قضاء عشرين ركعة أخرى أيضاً.
وإذا صلى التراويح كلها ثلاثاً ثلاثاً يصلي إحدى وعشرين ركعة بسبع تسليمات، كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين ساهياً رأيت في نسخة «مجموع النوازل» : أن عليه قضاء ركعتين لا غير عندهما، وعند محمد رحمه الله يعيد التراويح كلها، ولا يلزمه بالقيام إلى الثالثة شيء قال ثمة: والصحيح قولهما؛ لأنه لما صلى ثلاثاً ولم يقعد في الثانية وسلم ساهياً على رأس الثالثة فهذا السلام لم يخرجه عن حرمة الصلاة، ولو قام وكبّر وصلى ثلاث ركعات صار ست ركعات قد قعد في آخرهن فقام مقام ثلاث تسليمات، ثم الثلاث....... لهذه التسليمة عما عليه، فكان عليه قضاء الركعتين وثلاث وثلاث هكذا، فتصير ثماني عشرة ركعة قائمة مقام تسع تسليمات بقي(1/464)
عليه تسليمة واحدة، فإذا صلى ثلاث ركعات وترك القعدة على رأس الركعتين من هذا الوجه حتى لو تذكر، وضم إلى الثالثة ركعة أخرى جاز ترويحه، ولا شيء عليه.
نوع آخر في الشك في التراويح
إذا سلم الإمام في ترويحة، فاختلف القوم عليه قال بعضهم: صلى ثلاثاً وقال بعضهم: صلى ركعتين، قال أبو يوسف رحمه الله يأخذ الإمام بعلم نفسه، ولا يدع علمه بقول غيره، وقال محمد رحمة الله عليه: يقبل قول غيره، ويكتمل بقول من معه. وإن كانوا أقل، وكذلك إذا وقع الاختلاف بين الإمام، وجميع القوم، وإن شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما.
وإذا شك أنه صلى عشر تسليمات، أو تسع تسليمات اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعيدون تسليمة؛ لأن الزيادة على التراويح ليست بمشروعة، وقال بعضهم: عليهم أن يعيدوا تسليمة بالجماعة، وليس في هذا زيادة على التراويح بجماعة، بل هو إتمام التراويح، فالزيادة على التراويح إن يتموا التراويح، ثم يصلوا ويريدوا الزيادة بنية التراويح، وها هنا يشرعون في هذه التسليمة بنية إتمام التراويح، فلا يكره.
وهو نظير التطوع بعد العصر إذا شرع فيه مع العلم أنه يكره، وإذا شرع في التطوع بنية العصر، ثم علم أنه كان أذن فإنه يتم صلاته، ولا يكره كذا هنا.
وقال بعضهم: يريدون، ولا...... تسليمة أخرى احترازاً عن الزيادة على التراويح. وقال بعضهم: يصلون تسليمة واحدة فرادى، حتى يقع الاحتياط من بعد السنّة بتمامها، ويقع الأخير من غيره إذ النافلة غير التراويح في الجماعة، وهو الصحيح.
نوع آخرإذا صلى التراويح مقتدياً بمن صلى مكتوبة أو نافلة غير التراويح
اختلف المشايخ فيه، منهم من بنى هذا الاختلاف في النية، حتى قال..... المشايخ: إن التراويح لا تتأدى إلا بنيتها نقول ها هنا لا يصح؛ لأنها لو كانت لا تتأدى إلا بنيتها منه لا تتأدى بنية إمامه، وهي تخالف نيته، ومن قال بأنها تتأدى من غير نيتها بل بنية مطلقة يجب أن يقول بصحة الاقتداء هاهنا، ومنهم من قال: لا يصح، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وهو الأظهر والأصح.
وعلى هذا الخلاف إذا لم يسلم من العشاء حتى بنى عليه التراويح الصحيح: إنه لا يصح، وهذا أظهر؛ لأنه مكروه وعلى هذا الخلاف إذا بناها على السنة بعد العشاء الصحيح أنه لا يصح.
وكذلك لو كان الإمام يصلي التراويح واقتدى به رجل، ولم ينوِ التراويح، ولا صلاة للإمام لا يجوز، كما لو اقتدى رجل يصلي المكتوبة فنوى الاقتداء به، ولم ينوِ(1/465)
المكتوبة ولا صلاة للإمام لا يجوز وفي التراويح للقاضي الإمام أبو علي (74أ1) النسفي رحمه الله:
رجل صلى العشاء بمنزله ثم أتى مجسداً، ووجد الإمام في الصلاة ظن أنه في التراويح، فاقتدى به ثم ظهر أنه في العشاء، قال هذا متنفل اقتدى بمفترض بتحريمة، ولم يقل يجزيه عن التراويح أو عن النفل.
وفي «فتاوى النسفي» : إذا ظن المقتدي أن إمامه افتتح الوتر وأتم التراويح، ونوى الوتر ثم تبين أنه في التراويح فتابعه في ذلك قال: يجوز عن شفع يتأدى بنية النفل، هكذا: ونحوه في «فتاوى النسفي» وقد ذكرنا في قصد النية أن التراويح لا تتأدى إلا بنية التراويح، أو بنية سنّة الوقت أو قيام الليل في شهر رمضان عن بعض المشايخ.
وفي التراويح للقاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله: إذا اقتدى الإمام في التراويح ينوي العشاء، بأن لم يأت لسنّة العشاء حتى قام الإمام إلى التراويح أجزأه.
وإذا اقتدى في التسليمة الأولى أو الثانية ثم يصلي التسليمة الخامسة أو السادسة، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله؛ فالصحيح أنه يجوز قال؛ لأن الصلاة واحدة ونية الأولى أو الثانية لغو الأولى أنه لو نوى الثالثة بعد الأولى لم يكن إلا الثانية.
وألا ترى أنه لو اقتدى في الركعتين بعد الظهر، فمن يصلي الأربع بعد الظهر يجوز، فهذا كذلك. وإذا لم يدر المقتدي أن الإمام في التراويح أو العشاء، فنوى أنه إن كان في العشاء، فقد اقتديت به. وإن لم يكن في العشاء وكان في التراويح ما اقتديت به لا يصح الاقتداء، سواء كان في العشاء أو في التراويح.
وإن نوى أنه إن كان في العشاء اقتديت به وإن كان في التراويح أيضاً اقتديت، فظهر أنه كان في التراويح أو في العشاء صح الاقتداء، وإذا فاتته ترويحة أو ترويحتان، وقام الإمام إلى الوتر يتابعه في الوتر أم يأتي بما زاد فإنه من الترويحات؟ فقد اختلف مشايخ زماننا فيه.
وذكر في «واقعات الناطفي» عن أبي عبد الله الزعفراني أنه يوتر مع الإمام، ثم يقضي ما فاته من الترويحات.
نوع آخر في إمامة الصبي في التراويح
جوزها أكثر علماء خراسان، ولم يجوزها مشايخ العراق، وفي «الفتاوى» عن نصر بن يحيى قال: لا بأس بأن يؤم الصبي في شهر رمضان، إذا بلغ عشر سنين يعني في التراويح، وقال أحمد بن سلمة رحمه الله: إنه لا يجوز، وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أنه قال: يجوز في التراويح خاصته.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يؤم عائشة رضي الله عنها في التراويح، وإنه صبي، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: يفتي بالجواز وكان شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يفتي بعدم الجواز، وكان يقول الإمام ضامن والصبي لا يصلح(1/466)
للضمان، ولأن صلاة القوم صلاة حقيقية، وصلاة الصبي ليست حقيقية، ولا يجوز بناء الحقيقي على غير الحقيقي، فعلى..... لو أن هذا الصبي أم صبياً....
وفي «المنتقى» : لو أن قوماً صلوا خلف صبي لا تجوز صلاتهم؛ لأنهم يصلون للتقيد لا تقيد فيما ينفله الصبي، ولهذا قلنا إن الصبي لو أحرم ثم بلغ لا يمضي على إحرامه.
نوع آخرإذا فاتت التراويح عن وقتها هل تقضى؟
اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يقضي ما لم يدخل وقت تراويح آخر، وقال بعضهم: يقضي ما لم يمضِ رمضان، وقال بعضهم: لا يقضي أصلاً وهو الأصح؛ لأن التراويح ليست بأكثر من في السنّة بعد المغرب والعشاء، وهي لا تقضى، فهذا أولى.
والدليل عليه: أنها لا تقضى بالجماعة بالإجماع، ولو كانت تقضى لقضيت كما فانت، فإن قضاها منفرداً كان نفلاً مستحباً كسنّة المغرب إذا قضيت.
وفي «الفتاوى» ، من ترك السنّة سئل عن تركها وإذا فاتت عن وقتها لا يؤمر بالقضاء، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: من ترك السنّة بعذر، فهو معذور في تركه بغير عذر، فهو غير معذور، وإذا تذكرها في الليلة الثانية أنه فسد عليهم شفع سنّته الأولى، فأرادوا أن يقضوا يكره لهم؛ لأنهم لو قضوا بنية التراويح تزيد على تراويح هذه الليلة، وإنه مكروه.
نوع آخر في المتفرقات
إمام شرع في الوقت على ظن أنه...... التراويح، فلما صلى ركعتين تذكر أنه ترك تسليمة يسلم على رأس الركعتين، لم يجزىء ذلك عن التراويح؛ لأنه ما صلى بنية التراويح، ويكره للمقتدي أن يقعد في التراويح، فإذا أراد الإمام أن يركع يقوم؛ لأن هذا إظهار للكاسد في الصلاة والتشهد كالمنافقين، قال الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} (النساء: 142) وكذلك إذا غلبه النوم يكره له أن يصلي، بل ينصرف حتى يسقط لأن في الصلاة مع النوم تهاوناً وغفلة وترك تقيد.
وكذا لو صلى على السطح في شدة الحر، لقوله تعالى {قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا بفقهون} (التوبة: 81) ، وكذا يكره أن يضع يديه على الأرض عند القيام، بل يقوم بواحدة؛ لأن وضع اليد على الأرض تشبه بالمنافقين، إلا أن لا يستطيع، فحينئذٍ لا يكره، ويكره عد الركعات في التراويح لما فيه من إظهار الملالة، ولا يصلي تطوعٌ بجماعة إلا قيام رمضان، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجده إلا مكتوبة» ، ولو كان أداء النافلة بالجماعة لكان أداؤها في المسجد أفضل،(1/467)
كما في المكتوبة، ولأن الجماعة لإظهار السعاية، فيختص بالمكتوبات فأما قيام رمضان، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي المسجد..... الحديث، واستشهاد عمر رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم أن يجمع الناس على قارىء فلم يخالفوه، فجمعهم على أبي بن كعب، فدل ذلك على جوازه فباعده، فردوه إلى الأصل وحكي من الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن التطوع بالجماعة إذا صلوا التطوع...... سبيل التداعي أما إذا اقتدى واحد بواحد لا يكره، وإذا اقتدى ثلاثة بواحدة، ذكر هو رحمه الله: أن فيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره. وإذا اقتدى أربعة بواحد يكره بلا خلاف.
(فصل في الوتر)
جئنا إلى مسائل الوتر: ذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أن الوتر بالجماعات أحب إليّ في رمضان، قال وأجاز علماؤنا رحمهم الله: أن يوتر في منزله في رمضان كما اجتمعوا على التراويح فيها بعمر رضي الله عنه كان يؤمهم فيها في رمضان، وأبي بن كعب كان لا يؤمهم فيها.
والوتر ثلاث ركعات عندنا. وقال الشافعي إن شاء أوتر بركعة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو إحدى عشرة، لقوله عليه السلام: «من شاء أوتر بركعة، ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس» .
ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام «أوتر بثلاث ركعات» ، وقال الحسن أجمع المسلمون أنه يصلى الوتر (74ب1) ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، وما روى الخصم محمول على ما قبل استقرار الوتر، وإنها سنّة عن أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما وعن أبي حنيفة رحمه الله في الوتر ثلاث روايات، في رواية هي واجبة، وفي رواية قال هي سنّة وفي رواية هي فرض.
وفي الصحيح أنها واجبة عنده، ومعنى قولنا إنه فرض عنده أنها فرض عملاً لا اعتقاداً حتى إن جاحده لا يكفر، ومعنى قوله على رواية: إنها سنّة أن وجوبه ثلاث بالسنّة.
حجة أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما في المسألة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الوتر والضحى والأضحى» ، وفي رواية: «خصصت بثلاث وهي لكم سنّة الوتر الضحى والأضحى» ؛ ولأن هذه صلاة لم يشرع لها أذان ولا(1/468)
إقامة، ولا جماعة ولا يشرع لها وقت على حدة وشرعت القراءة في الركعات، وكل ذلك إبانة كونها سنّة.
ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي عن..... رضي الله عنه خرح علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّممستبشراً وقال: «إن الله تعالى زادكم صلاة على صلواتكم الخمس ألا وهي الوتر، فحافظوا عليها» فالاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: أن النبي عليه السلام سمى الوتر زيادة، والزيادة من جنس المزيد عليه، لا يقال زادني الثمر إذا وهب.
والثاني: أمر بالمحافظة عليها، والأمر للوجوب، وما روي من الحديث محمول على الابتداء، وإنما لم يشرع لها أذان وإقامة وجماعة؛ لأن هذه الأشياء شرعت فيما هو فرض عملاً واعتقاداً والوتر عندنا، فرض عملاً لا اعتقاداً، ولأنه شرع باسم الزمان، فلا يلحق بالأصل في حق الشرائط، وإنما شرعت القراءة في الكل لأنها سنّة عملاً، فأوحينا القراءة في الكل احتياطاً على أنه يجوز أن تجب القراءة في الفريضة في جميع الركعات احتياطاً، فإن من دخل في صلاة إمام قد سبقه بركعتين وأحدث الإمام، واستخلف هذا المسبوق يجب عليه أن يقرأ في هاتين الركعتين، وإذا أتم صلاة الإمام..... يستخلف أحداً أدرك أول الصلاة حتى يسلم بهم، يقوم ويصلي ركعتين بقراءة فهذه صلاة فريضة مع ذلك افترضت القراءة فيها في جميع الركعات.
وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوتر فريضة واجبة فقد جمع بين صفة الفرضية وصفة الوجوب، والواجب عند أهل الفقه غير الفريضة.
والجواب: أنها فريضة عملاً لا علماً، وواجبة علماً، وتفسيره أن من نفى فرضيته لا يكفر أو نقول بين بقوله واجبة أن وجوبها لم يثبت بطريق قطعي، كسائر الواجبات في اليوم والليلة.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: الوتر سنّة واجبة قيل في طريق الجمع بين السنّة والواجب إنه أراد بالسنّة الطريقة بمعنى قوله الوتر سنّة واجبة ووجوب الوتر طريقة مسنونة.
وقيل أراد به بيان الطريق الذي عرفنا وجوب الوتر به؛ لأن وجوب الوتر ما عرف إلا بالسنّة، ففي القولين استناد إلى أن الوتر واجبة عند أبي يوسف رحمه الله، وإنه خلاف المشهور من قوله.
وفي «النوازل» : أهل قرية اجتمعوا على ترك الوتر آذاهم الإمام وحبسهم، فإن لم(1/469)
يمتنعوا قاتلهم، هذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة، وكذلك على قولهما على ما اختاره........ بخارى رحمهم الله، فإنهم قالوا إذا اجتمع أهل البلدة على الامتناع من أداء الوتر فجواب أئمة بخارى أن الإمام يقاتلهم كما يقاتلهم على ترك الفريضة.
ولو ترك الوتر حتى يطلع الفجر، فعليه قضاؤها في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه لا قضاء عليه، وعن محمد رحمه الله في غير رواية «الأصول» أحب إليّ أن يقضيها، وما ذكر في الجواب في ظاهر الرواية ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوتر على مذهبه واجب، والواجب تقضى بعد فواتها يشكل على قولهما لأنها سنّة عندهما، والسنّة إذا فاتت عن وقتها لا تقضى وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة رحمه الله أن قضية القياس أن لا تقضى، لكن تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي أن النبي عليه السلام قضى الوتر ليلة....... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «من نام عن وتر أو نسيه، فليصله إذا ذكره» ، وربما تذكر بعد ذهاب الوقت، والله أعلم.
ومتى قضي الوتر قضي بالقنوت؛ لأنه لا وتر بدون القنوت، فإذا وجب قضاء الوتر وجب قضاؤه بقنوته.
ثم إذا أراد أن يصلي الوتر كبر وفعل بعد التكبير ما يفعل في سائر الصلوات فإذا فرغ من نوع القراءة في الركعة الثالثة كبّر ورفع يديه حذاء أذنيه ويقنت، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر في جملتها قنوت الوتر» .
والكلام في الوتر في مواضع.
أحدها: أنه لا قنوت إلا في الوتر عندنا.
والثاني: أن القنوت في الوتر مشروع عندنا قبل الركوع، وعند الشافعي بعد الركوع.
والثالث: أن القنوت في الوتر في جميع السنّة عندنا. وقال الشافعي لا قنوت إلا في النصف الآخر من شهر رمضان.
والرابع: أن مقدار القيام في القنوت قدر سورة إذا السماء انشقت وليس فيه دعاء مؤقت؛ لأن القراءة أهم من القنوت، فإذا لم يؤقت في القراءة بشيء من الصلاة، ففي الدعاء أولى، وقد روي عن محمد رحمه الله أن التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يريد بقوله ليس فيه دعاء مؤقت ليس فيه سوى قوله: اللهم إنا نستعينك دعاء مؤقت، والصحابة اتفقوا على هذا في الوتر وقال بعضم لا بل ليس فيه شيء مؤقت أصلاً مما ذكرنا والأولى أن يقأ: اللهم إنا نستعنيك ويقرأ بعده(1/470)
اللهم اهدنا فيمن هديت، هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلّمالحسن بن علي رضي الله عنهما.
والخامس: إذا نسي القنوت حتى ركع فذكر في الركوع، ففي أصحابنا عنه روايتان نسي القنوت، وتذكر في الركوع في رواية يعود إلى القيام ويقنت؛ لأن الركوع له حكم القيام الأولى أنه لو أدرك الإمام في الركوع كان مدركاً للركعة، وهي رواية أخرى يمضي على ركوعه، ولا يرفع رأسه للقنوت؛ لأنها شيء فائت عن وقتها فتسقط بخلاف تكبيرات العيد إذا تذكرها في الركوع، فإنها لا تسقط.
والفرق: أن محل القنوت القيام المحض، فكذا محل القنوت، ولا يمكن أن يأتي به في الركوع؛ لأن الركوع ليس بمحله ولا يمكن نقض الركوع لأجله؛ لأن الركوع فرض والقنوت سنّة، ولا يجوز نقض الفرض لأداء السنّة، وأما تكبيرات العيد فكما شرعت في القيام المحض شرعت (75أ1) فيما له حكم القيام، وهو الركوع.
وذكر في بعض المواضع يعود إلى القيام، ويأتي بهما ثم إذا عاد إلى القيام وقنت على إحدى الروايتين، لا يعيد الركوع؛ لأن ركوعه لم يرتفض بالعود إلى القيام للقنوت لأن الركوع فرض والقنوت واجبة، ولا يجوز رفض الفرض لإقامة الواجب.
ولو أوتر وقرأ في الثالثة القنوت ولم يقرأ الفاتحة ولا السورة أو قرأ الفاتحة دون السورة، وركع ثم تذكر ذلك في الركوع فإنه يعود إلى القيام ويقرأ ثم يركع؛ لأن ركوعه قد ارتفض في هذه الصورة، أما إذا لم يقرأ أصلاً لأن القراءة فرض وجاز أن يرتفض الفرض بالفرض، وأما إذا قرأ الفاتحة دون السورة؛ فلأن ضم السورة إلى الفاتحة، وإن كان من الواجبات، ولكن إذا ضم السورة إلى الفاتحة يصير الكل فرضاً، فيكون هذا نقض الفرض، لأجل الفرض، ثم قال: وعليه السجود للسهو عاد أو لم يعد قنت أو لم يقنت.
السادس: إنه يجهر بالقنوت أو يخافت به وقع في بعض الكتب أن على قول محمد رحمه الله يخافت؛ لأنه دعاء والسبيل في الدعاء الإخفاء، على قول أبي يوسف رحمه الله يجهر به لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه كان يجهر به، حتى روي أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا القنوت في قراءة رسول الله عليه السلام، ووقع في بعض الكتب الخلاف على عكس هذا على قول أبي يوسف رحمه الله (كانت) به، وعلى قوله محمد رحمه الله يجهر به وذكر القاضي الإمام علاء الدين المعروف.... رحمه الله في «شرح المختلفات» : أن المنفرد يخافت بالقنوت، والإمام يخافت عند بعض المشايخ.
منهم: الشيخ الإمام أبو بكر بن محمد الفضل، والشيخ الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله فلولا علم في إشارة محمد بن الحسن رحمة الله عليه: أنه من سنّته المخافتة وإلا لما خالف أستاذه، وهذا لأنه دعاء على الحقيقة وخير الدعاء الخفي قال رحمه الله، وقد كانوا يستحسنون الجهر في بلاد العجم، ليتعلموا كما جهر عمر رضي الله عنه إلينا حين قدم وفد العراق، وقال بعض مشايخ زماننا إن كان الغالب في الفقه أنهم لا يعلمون دعاء القنوت،(1/471)
فالإمام يجهر به ليتعلموا منه. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمجهر به، والصحابة تعلموا القنوت في قراءته، وإن كان الغالب فيهم أنهم يعلمون يخفي به، لأنه دعاء، والسبيل في الدعاء الخفية، وقال بعض المشايخ: يجب أن يجهر به، لأن له شبهاً بالقرآن، فإن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا فيه، قال بعضهم هما سورتان من القرآن ويجهر بما هو فرض على الحقيقة، فكذا بما له نسبة بالقرآن، وقال صاحب «شرح الطحاوي» : الإمام يجهر بالقنوت، ويكون ذلك الجهر دون الجهر بالقراءة في الصلاة.
السابع: في بيان المقتدي هل يقرأ القنوت؟
ذكر القاضي الإمام عز الدين في «شرح المختلفات» : إن على قول أبي يوسف رحمه الله: يقرأ، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يقرأ، وهكذا ذكر في «الفتاوى» ، وذكر في موضع آخر أن القوم يُؤمنون عند محمد رحمه الله ويسكتون، عند أبي يوسف رحمه الله القوم بالخيار إن شاؤوا قرأوا، وإن شاؤوا سكتوا.
وقال محمد رحمه الله: إن شاؤوا قرؤوا وإن شاؤوا أمنوا لدعائه، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن القوم يتابعونه إلى قوله؛ إن عذابك بالكفار ملحق، فإذا دعا الإمام، فعند أبي يوسف رحمه الله يتابعونه، وعند محمد رحمه الله يؤمنون.
الثامن: أن في حالة القنوت يرسل يديه أو يعتمد: كان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يعتمد، وكان الفقيه أبو بكر بن أبي سعيد يرسل، وكذلك في صلاة الجنازة، وكذلك في الركوع والسجود، وكان الفقيه أبو جعفر يختار هذا القول.
التاسع: في الصلاة على النبي عليه السلام في القنوت، وفي الشك الواقع فيه.
قال بعضهم: هذا ليس موضع الصلاة على النبي عليه السلام يعني لا يصلي عليه، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا دعاء، والأفضل في الدعاء أن يكون فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فإن صلى على النبي في القنوت وفي الشك الواقع فيه لم يصلِ في القعدة الأخيرة عند بعضهم، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن عليه السهو، وقال محمد رحمه الله:؟..... أن ألزمه السهو لأجل الصلاة على النبي عليه السلام. وإذا قنت في الركعة الأولى أو الثانية ساهياً لم يقنت في الثالثة لأنه لا يتكرر في الصلاة الواحدة، وإن شك أنه قنت أم لا يعني في الثالثة وهو في قيام الثالثة تحرى، فإن لم يحضره شيء قنت، لأنه عسى لم يقنت.
وذكر في «الواقعات» : رجل شك في الوتر وهو في حالة القيام أنه في الأولى أو الثانية أو في الثالثة فإنه يأخذ بالأقل احتياطاً إن لم يقع تحريه على شيء ويقعد في كل ركعة، ويقرأ، وأما القنوت: فقد قال أئمة بلخ: إنه يقنت في الركعة الأولى لا غير، وعن أبي حفص الكبير رحمه الله: إنه يقنت في الركعة الثانية أيضاً، وبه أخذ القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله.(1/472)
ولو شك في حالة القيام أنه في الثانية أو في الثالثة تمت تلك الركعة، ويقنت فيها، لجواز أنها الثالثة ثم يقعد ويقوم فيضيف إليها أخرى، ويقنت فيها أيضاً على قول أبي حفص الكبير، والقاضي الإمام أبي علي النسفي، فرقا بين هذا وبين المسبوق ركعتين في الوتر في شهر رمضان إذا قنت مع الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الإمام حيث لا يقنت في الركعة الأخيرة إذا قام إلى القضاء في قولهم جميعاً.
والفرق: أن المسبوق هو مأمور بأن يقنت مع الإمام فصار ذلك موضعاً له فما أدى به مع الإمام وقع في موضعه فلا يقنت مرة أخرى لأن تكرار القنوت ليس بمشروع.
أما في مسألة الشك لم يتيقن بوقوع الأولى في موضعها فيقنت مرة أخرى، وعن الشيخ الإمام أبي بكر الفضل رحمه الله أن في مسألة الشك لا يقنت مرة أخرى كما هو قول أئمة بلخ في المسألة الأولى.
وإذا صلى الفجر خلف (من) لا يقنت فيها لا يتابعه في القنوت في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يتابعه، ولو صلى الوتر خلف من يقنت في الوتر بعد الركوع تابع فيه.
وكذلك لو اقتدى بمن نوى سجود السهو قبل السلام تابعه فيه، وكذلك لو اقتدى بمن يرى الزيادة في تكبير العيد يتابعه فيها ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإن اقتدى في صلاة الجنازة بمن يرى التكبير خمساً لا يتابعه في الخامسة.
الفصل الرابع عشر فيمن يصلى ومعه شيء من النجاسات
صلى ومعه نافجة مسك ذكر الفضلي في «فتاويه» إن كانت النافجة بحال متى أصابها الماء لم تفسد جاز وصلاته، لأنها بمنزلة جلد ميتة دبغ، فإن كانت وأصابها تفسد فإن كانت هذه نافجة..... لم تزل تجز صلاته بمنزلة جلد ميتة لم يدبغ.
وفي «البقالي» : فأما نافجة المسك فيبسها دباغها فهذا إشارة إلى جواز الصلاة معها على كل حال.
وفي «القدوري» : وكل شيء دبغ به الجلد مما يمنعه من الفساد ويعمل عمل الدباغ فإنه يطهر وإذا ألقى جلداً للنشر في الشمس حتى يبس أو عولج بالتراب حتى نشف فهو طاهر، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهذا لأن الدباغ إنما يؤثر في الجلد لاستحالته، فإذا استحال بالشمس والتراب، كان كما لو استحال..... والقرظ حتى قيل: لو لم يستحل وخف لم يطهر، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا أتاه من الشمس والدبغ ما لو ترك لم يفسد كان دباغاً، وذكر الكرخي رحمه الله في «جامعه» عن محمد(1/473)
رحمه الله في جلد الميتة إذا يبس ووقع في الماء لم يفسده من غير فصل، وكذا روى عنه داود بن رشيد.
ذكر رواية داود في «المنتقى» : وقيل: في جلد الميتة إذا يبس بالتراب أو الشمس ثم أصابه الماء هل يعود نجساً فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان، واختلاف الروايات في عود النجاسة عند إصابة الماء دليل على الطهارة (75ب1) قبل إصابة الماء، وهذا يعني أن الصحيح في مسألة النافجة جواز الصلاة معها من غير التفصيل.
ولو صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة، مذبوحة كانت أو غير مذبوحة، لأن جلدها لا يحتمل الدباغ لتقام الذكاة فيه مقام الدباغ، فأما قميص الحية فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» قال بعضهم: هو نجس، (وقال بعضهم) هو طاهر. وأشار إلى أن الصحيح أنه طاهر، فإنه قال عين الحية طاهر، حتى لو صلى وفي كبد حية خرء الحية يجوز، وإذا كان عين الحية طاهراً كان قميصها طاهراً، وخرء الحية وبولها نجس نجاسة الطير.
وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: رجل صلى ومعه حية أو سنور أو فأرة أجزأه، ولو صلى ومعه جرو كلب أو ثعلب لم تجزئه صلاته. وذكر لجنس هذه المسائل أصلاً فقال: كل ما يجوز التوضؤ بسؤره تجوز الصلاة معه، وما لا يجوز التوضؤ بسؤره لا تجوز الصلاة معه.
وذكر مسألة الجرو في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله فقال: إذا كان فم الجرو أكثر من قدر الدرهم فمه خارج الفم.
وفي «القدوري» : عين الكلب نجس، فإن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب» : وليس الكلب بأنجس من الخنزير وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها في الاختلاف في كتاب الطهارات.
وفي «البقالي» : في قطعة من جلد كلب ترق على جراحة في الرأس فيثبت أنه في معنى الدباغ ويعيد ما صلى قبل ذلك، وفي صلاة «النوازل» إذا صلى ومعه مرارة الشاة فمرارة كل شيء كقوله فكل حكم ظهر في البول فهو الحكم في المرارة والله أعلم.
وتطهر الجلود كلها بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وهذا قول علمائنا رحمهم الله في المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله في جلد الخنزير إنه يطهر بالدباغ، وفي بعض الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في جلد الكلب روايتان: في رواية يطهر وهو الصحيح، وما طهر جلده ولحمه (بالدباغ، فإنه يطهر) بالذكاة. وقال الشافعي رحمه الله لا تؤثر الذكاة فيما لا يؤكل لحمه.
قيل: ويشترط عند علمائنا رحمهم الله أن تكون الذكاة من أهلها ما بين اللبة واللميين وتكون الذكاة مقرونة بالتسمية بحيث لو كان المذبوح مأكولاً تحل بتلك التسمية.(1/474)
حكي فصل التسمية عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
قال أصحابنا رحمهم الله بأن صوف الحيوانات الميتة وعصبها ووبرها وشعرها وعظمها طاهر. ألا ترى أنه يكون على العظم دسم سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم حتى تجوز الصلاة مع هذه الأشياء عندنا جز قبل الموت أو بعده.
وقال الشافعي رحمه الله: إن كانت هذه الأشياء في مأكول اللحم جُزَّ منها قبل موتها فهي طاهرة يجوز الانتفاع بها، وإن جز منها بعد موتها فإنها نجسة، وإن كانت هذه الأشياء في غير مأكول اللحم، فإنها نجسة لا يجوز الانتفاع جز قبل الموت أو بعده.
حاصل الاختلاف راجع إلى أن لهذه الأشياء روح أم لا، فعندنا لا روح في هذه الأشياء. وعند الشافعي رحمه الله في هذه الأشياء روح كما في اللحم، وإذا لم يكن فيها روح عندنا لا تحلها الوفاة فيجعل وجود الموت في الأصل وعدمه سواء وعندنا لما كان في هذه الأشياء، فالشافعي رحمه الله احتج بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) والميتة اسم لجميع أجزائها فيحرم الانتفاع بجميع أجزائها عملاً بهذا الطاهر، والدليل عليه قوله عليه السلام: «لا تنتفعوا في الميتة بشيء» ، والمعنى فيه أن هذا جزء، ويتصل بذي روح....... الأصل فيتنجس بالموت قياساً على سائر الأطراف.
والدليل على (أن) في العظم حياة أنه يتألم المرء بكسر العظم كما يتألم يقطع اللحم فتلحقه الوفاة ويتنجس بالموت، وكذا العظم وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بقوله تعالى: {أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومقاماً إلى حين} (النحل: 80) الله تعالى من علينا بأن يجعل هذه الأشياء مستمتعاً لنا من غير فصل بينما إذا أخذ منه قبل الموت أو بعده، في مأكول اللحم أو من غير مأكول اللحم، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا...... الجلود الميتة إذا دبغت ولا بقرونها ولا بشعورها إذا غسلت بالماء» والمعنى فيه. وهو أن هذا بمعنى لو انفصل منه حالة الحياة حكم بطهارته، فكذلك إذا انفصل بعد الموت قياساً على البيض والولد.
والدليل على أنه لا روح في هذه الأشياء أن الحي لا يتألم بقطعها، فلو كان فيه حياة لتألم بقطعها كما في اللحم، ولا نقول إن العظم يتألم بل ما هو متصل به من اللحم يتألم.
فالحاصل: أن عظم ما سوى الخنزير والآدمي من الحيوانات، إذا كان الحيوان ذكاة إنه طاهر سواء كان العظم رطباً أو يابساً، وأما إذا كان الحيوان ميتاً، فإن كان عظمه رطباً فهو نجس، وإن كان يابساً فهو طاهر؛ لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ من حيث(1/475)
إنه يقع الأمن في العظم باليبس عن الفساد كما يقع الأمن في الجلد بالدباغ، فكذا العظم باليبس، وأما عظم الخنزير فنجس وفي عظم الآدمي اختلفوا، بعض مشايخنا قالوا: إنه نجس، وبعضهم قالوا: إنه طاهر، واتفقوا (أنه) لنقص بكرامته؛ لأن الآدمي مكلف بجميع أجزائه، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به، والله أعلم.
وأما العصب ففيه روايتان: في رواية لا حياة ((فيه، فلا ينجس، وفي رواية) فيه حياة فيتنجس بالموت، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وأما شعر الآدمي ففي (قول) محمد رحمه الله فيه روايتان: في رواية نجس وفي رواية طاهر حتى لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم تجوز صلاته، نص عليه الكرخي رحمه الله وهو الصحيح. وحرمة الانتفاع به لكرامته لحرمة الانتفاع بعظمه، وهذا لا يدل على النجاسة.
وأما شعر الخنزير فهو نجس هو الظاهر في مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، وروي أنه رخص للخزازين استعماله؛ لأن منفعه الخرز عادة لا تحصل إلا به وجرت العادة في زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا في استعماله في الخرز من غير نكير منكر، وعن أبي يوسف رحمه الله؛ أنه لا يفسد إلا أن يغلب على..... هل يجوز بيعه؟
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا لم يجد الخزاز شعر الخنزير إلا بالشراء يجوز له الشراء، ويكره للبائع بيعه لأنه لا ضرورة للبائع بخلاف المشتري، وعن ابن سيرين وجماعة من الزهاد رحمهم الله أنه لم يجوزوا الانتفاع به كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار رحمه الله، وكانوا يقولون غيره يقوم مقامه وهو......
وأما عظم الفيل روي عن محمد رحمه الله أنه نجس؛ لأن الفيل لما يزكى كالخنزير، فيكون عظمه كعظم الخنزير، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه طاهر، وهو الأصح.
ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله لحديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم «اشترى لفاطمة سواراً من عاج سوارين» وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير منكر، والعاج عظم الفيل فدل أنه طاهر.
وأما السبع إذا ذبح (هل) تجوز الصلاة مع لحمه؟ ولو وقع في الماء القليل هل ينجسه؟ قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: تجوز الصلاة مع لحمه ولا ينجس الماء لا يؤكل، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا تجوز الصلاة وينجس، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بطهارة لحمه، وجواز الصلاة معه مطلقاً من غير قيد.
وأما سباع الطير كالبازي وأشباهه، والفأرة، والحية تجوز الصلاة مع لحمها إذا(1/476)
كانت مذبوحة؛ لأن سؤر هذه الأشياء ليس بنجس، وما لا يكون سؤره نجساً لا يكون لحمه نجساً، فتجوز الصلاة معه.
وعن نصر بن يحيى أنه كان يفرق بين سباع ما يكون سؤرها نجساً، وبين سباع ما يكون سؤره طاهراً، وكان يجوز الصلاة (مع) ما يكون سؤره (76أ1) طاهراً، ولا يجوزها مع مع تجوز ما يكون سؤره نجساً، وفي صلاة «المنتقى» لشمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن لحم الكلب وغيره من السباع سوى الخنزير يطهر بالذكاة، إذا كانت من اللبة واللحيين فيها إنهار الدم وإفراء الأوداج، وأما إذا عقر ومات من ذلك لا يطهر جلده. قال ثمة: وهذا إذا كان الكلب ألفاً، فأما إذا توحش فرمي بسهم، فمات من ذلك، فذلك ذكاة له، فيطهر جلده ولحمه وكذا الذئب والأسد والثعلب.
وفي «العيون» جلد ومعها صبي ميت هي حامل له، فإن كان لم يستهل فصلاتها فاسدة، غسل لو لم يغسل لأن بالغسل إنما يطهر الميت الذي كان حياً، وكذلك إن استهل ولم يغسله، وإن استهل وغسل فصلاتها جائزة.
وكذلك إذا صلى الرجل وهو حامل رجلاً ميتاً إن غسل فصلاته جائزة وإن لم يغسل فصلاته فاسدة، وهذا في المسلم، فأما إذا كان حاملاً ميتاً كافراً فصلاته فاسدة وإن غسل الميت، وإن صلى وهو حاملٌ شهيداً عليه دمه جازت صلاة، وإن أصاب دم الشهيد ثوب إنسان أفسده.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمهما الله: من صلى وهو حامل ميتاً قد غسله، فعليه إعادة الصلاة.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: لو أن رجلاً صلى ومعه صبي، وعلى صبي يستمسك بنفسه وهو الذي يركب عليه فإن صلاته معه تجوز، وإن كان لا يستمسك بنفسه، ويحتاج إلى من يمسكه عليه فصلاته فاسدة.
وفي «العيون» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قطع فضل أذنه أو قلع سنّه، وأعاد ذلك فصلى مع ذلك أول إلى مكانه، وإن أعاد سنّه وأذنه المقطوع أو السن المقلوعة في كمه، فصلاته قائمة وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن كانت سنّه جازت صلاته، وإن كان شيء غيره لم تجز صلاته، قال: وبينهما فرق وإن لم يحضرني.
وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر رحمة الله عليه: إذا صلى ومعه عظم إنسان عليه لحم أو قطعة من لحمه لا تجوز، وإن كان ذلك مغسولاً، وفي العضو، نحو اليد والرجل إذا كان مغسولاً روايتان.
وفي «الجامع الأصغر» : في سن الإنسان وعظمه إذا كان أكثر من قدر الدرهم لم(1/477)
تجز الصلاة معه، واعتبر الوزن، وفي شعر الآدمي على الرواية التي تقول بأنه نجس اعتبر...... حتى قال: لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته.
وفي «صلاة المستفتي» إن أسنان الكلب الميت طاهرة لو صلى معها يجوز وأسنان الإنسان إذا سقطت بحبسه لو...... معها لا تجوز.
وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله عن المتقدمين أصحابنا رحمهم الله أن من أثبت مكان أسنانه أسنان آدمي آخر منع ذلك جواز صلاته؛ لأن فمه...... من النجاسة، ولو أثبت مكان أسنّته أسنان الكلب لا يمنع ذلك جواز الصلاة.
قال الفقيه أبو جعفر هذا رحمه الله: وتأويله عندي إذا أمكن قلع أسنانه من غير إلحاح ولا ضرر، أما إذا كان لا يمكن قلعها إلا بالإلحاح بالإجماع لا يمنع جواز الصلاة، وكذا إذا كسر ساقه ووصل فيه ساق إنسان أو عظم آخر من عظامه منع جواز الصلاة، وإن وصل فيه عظم كلب لا يمنع جواز الصلاة، وتأويله عند الفقيه أبي جعفر رحمه الله ما قلنا وكذا إذا احتمل الدباغ، فعولج ودبغ يطهر حتى لو صلى معه تجوز الصلاة، ولو جعل منه.... كرش الميتة يتنجس، وإن كان مائعاً.
وإذا استنجى رجل بالماء ثم خرج منه ريح بعد أن..... لا يتنجس من.... الموضع الذي يمر فيه الريح عند عامة المشايخ، وكذلك لو كان السراويل مبتلاً وأصابه هذا الريح لا يتنجس سراويله عند عامة المشايخ، وكذلك إذا دخل إنسان المربط في الشتاء وبدنه مبتل بالماء أو بالعرق يجفف البلل من حر المربط وأدخل شيء مبتل في المرابط يجف ذلك الشيء من حر المربوط، لا يتنجس البدن وذلك الشيء عند عامة المشايخ إلا (أن) يظهر أثره كصفرة ظهرت في السراويل المنبذ بعد خروج الريح، أو في ذلك الشيء بعد الإدخال في المربط إذا نشر، فإن هذا يتنجس، لأنه صار متجمد الظهور......، وكذلك بخار المربط إذا ارتفع؟...... واستجمد أو خرج من شق الباب، واستجمد أو ارتفع بخار الكنيف إلى السقف، واستجمد ثم ذاب فأيما أصاب فتلك البلة تنجسه.
وإذا ارتفع بخار البيت إلى الطاق، واستجمد إن كان ارتفاعه من موضع نجس، فهو نجس، وإذا ذاب ذلك، وأصاب شيئاً نجسه. وإن كان ارتفاعه من طاهر فهو طاهر ورأيت في موضع..... الطاق نجس قياساً وليس بنجس استحساناً، فصور ذلك فقال: إذا أحرقت...... في بيت فأصاب ماء الطاق ثوب إنسان لا يفسده استحساناً ما لم يظهر أنه النجاسة فيه وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله، وهو اختيار ظهير الدين المرغيناني رحمة الله عليه.
وكذلك الإصطبل إذا كان حالاً أو على كوته طاق أو بيت أو على كونه طابقاً أو(1/478)
ثبت البالوعة إذا كان عليه طائق فعرق الطائق، وتقاطر منه، وكذلك الحمام ارتفعت فيه النجاسات فعرقت حيطانه وكوته وتقاطرت، وكذلك لو كان في الإصطبل كوز معلق فيه ماء يترشح من أسفل الكوز وتقاطر في القياس ويكون نجساً؛ لأن أسفل الكوز صار نجساً بنجاسة الإصطبل.
وفي الاستحسان: لا يكون نجساً؛ لأن الكوز كان طاهراً في الأصل، وكذا الماء الذي فيه وصيرورة..... نجساً موهوم والمتيقن لا يزول بالموهوم.
وإذا صلى وفي كمه بيضه حال محها دماً مذرة وما جازت صلاته، وكذلك البيضة فيه فرخ ميت والبيضة الرطبة أو السحلة إذا وقعت في...... لا تفسده في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
وفي «الجامع الأصغر» والبيضة المذرة لا يجوز معها الصلاة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وعلى قياس أبي حنيفة والحسن بن زياد رحمهما الله يجوز.
وفي «الفتاوى» عن أبي عبد الله البلخي: إن الصلاة مع البيضة المذرة جائزة، فإذا صلت امرأة ومعها دود القز لا تفسد صلاتها؛ لأنها ليست بنجسة، ولو صلى..... من شعر الكلب لا تفسد صلاته، وإذا اختصت...... نجسته وصلت بعدما غسلت اليد ثلاثاً بماء طاهر جازت صلاتها؛ لأن الذي في وسعها هذا، وقد مرت المسألة في كتاب الطهارات، وإذا كان على يد الرجل نفطة يبست ما تحتها من الرطوبة ولم تذهب الجلدة عنها، فتوضأ وأمر الماء على الجلدة جاز، وإن لم يصب الماء تحتها لأن الواجب غسل الظاهر دون الباطن.
إذا صلى ومعه درهم تنجس جانباه لا يمنع جواز الصلاة؛ لأن الكل درهم واحد إذا صلى وفي كمه قارورة فيها بول لا تجوز الصلاة سواء كانت ممتلئة أو غير ممتلئة؛ لأن هذا ليس في؟.
..... ولا في معدته.
إذا صلى الرجل وفي كمه فرخة حية فلما فرغ من الصلاة رآها ميتة، فإن لم يكن في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة بأن كان مشكلاً لا يعيد الصلاة؛ لأنه لم تجب الإعادة غالباً، وإن كان في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة أعادها؛ لأنه وجبت الإعادة غالباً، وإذا شق جبته فوجد فيها فأرة ميتة، ولا يعلم متى دخلت فيها إن لم يكن للجبة ثقب يعيد صلوات ثلاثة أيام ولياليها، وعندهما لا يعيد إلا أن يعلم متى ماتت فيها كما في مسألة البئر.
وإن صلى في ثوب أياماً ثم اطلع على نجاسة (76ب1) بدون أن يعلم متى أصابت الثوب، لا يعيد شيئاً مما صلى حين يتيقن هو متى الإصابة.
ذكر في «الكتاب» : أن هذا قولهم جميعاً، قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة رحمة الله عليه عن هذه المسألة، فقال؛ لا يعيد صلاة صلاها قبل ذلك حين يتيقن بوقت الإصابة(1/479)
ولا أرى هذا يشبه البئر، وروى أبو حمزة السكوتي عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال في الثوب يعيد صلاة يوم وليلة، وروي عنه في رواية أخرى إن كان ظنياً يعيد صلاة يوم وليلة، وإن كان متيقناً يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وبعض مشايخنا قالو: إن كان بولاً يجوز لأول ما بال فيه، وإن كان رعافاً، فلأول ما ترعف، وإن كان منياً فلأول ما احتلم أو جامع فيه.
وذكر ابن رستم في «نوادره» : إن وجد منياً في ثوبه يعيد الصلاة من آخر نومة نامها فيه، وعن ابن رستم رحمه الله أيضاً: إن وجد في ثوبه منياً يعيد الصلاة من آخر ما احتلم، أو جامع فيه، وإن رأى لا يعيد حتى يتيقن أنه صلى وهو فيه، هذا إذا كان ثوباً يلبسه بنفسه، وإن كان الثوب قد يلبسه غيره، فالنطفة والدم في ذلك سواء لا يلزمه الإعادة حتى يتيقن بوقت الإصابة، رطباً كان أو يابساً....... التي خرجت في المقعد أو غسلت وأمسكها مصلي، وصل معها جازت صلاته. والله أعلم. هذه المسائل قد ذكرناها في كتاب الطهارات.
رجل به جرح سائل لا يرقأ ومعه ثوبان، أحدهما نجس، والآخر طاهر فأيها صلى فيه يجوز إذا كان الثوب الطاهر يفسده الدم إن لبسه؛ لأن لبس الطاهر غير مأجور عليه إذا كانت الحالة هذه؛ لأنه يفسده من ساعته.
وفي «نوادر هشام» رحمه الله، قال: سألت محمداً رحمه الله عن رجل صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم من النبيذ السكر أو نبيذ المنصف أو من نقيع الزبيب، يعني إذا غلى..... أن أبا حنيفة رحمه الله، قال يعيد الصلاة.
وكذلك قول أبي يوسف رحمه الله، قلنا: فما قول أبي حنيفة فيمن صلى وفي ثوبه نبيذ نقيع يعني نبيذ الزبيب المطبوخ، قال: صلاته تامة؛ لأنه كان لا يرى بشربه بأساً، قال؛ وهو قول أبي يوسف رحمه الله، قال محمد: وأما أنا فأرى يعيد الصلاة بناءً على أن محمداً رحمه الله لا يرى للطبخ أثراً في الجلد، فسوَّى بين الطبيخ؛ إذ في طبخه وهي غير الطبيخ، والله أعلم.
قد ذكرنا في أول هذا الفصل بعض مسائل الجلود قال محمد رحمه الله: وما لا تقع الذكاة عليه إذا دبغ جلده لم يطهر مثل الخنزير، أما الأسد إذا دبغ جلده فقد طهر، وكذا الثعلب المفتى عن أبي يوسف رحمهما الله في شعر الخنزير يفسد الماء وقد ذكرنا قول أبي يوسف في شعر الخنزير قبل هذا أنه يفسد الماء إنما أوردنا رواية المعلى لزيادة فائدة فيها، فإن رواية المعلى شعر الخنزير يفسد الماء إن كانت شعرة، وعنده أيضاً برواية المعلى لو صلى في جلد خنزير مدبوغ، فصلاته تامة وقد أساء، قد ذكرنا حكم عظم الفيل مثل هذا، وذكرنا الخلاف فيه نهي أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وفي كتاب الحج لمحمد قال أبو حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره(1/480)
من الميت إذا نزع عنه اللحم ويبس وغسل، وكذلك جلدها إذا دبغ.
وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمة الله عليهما: امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها سن ثعلب، أو كلب أو أسد، فصلاتها تامة؛ لأنه لا يقع عليها الذكاة، قال ألا ترى أنه أجيز بيع الكلب، فأجيز بيعه وبيع جلد الأسد والثعلب، والله أعلم.
إبراهيم عن محمد رحمهما الله مصارين شاة وصلى وهو معه، فصلاته جائزة، ألا ترى أنه يتخذ منه الأوتار قال: وكذلك لو دبغ المثانة، وأصلحها، فجعل فيها لبناً جاز ولا يفسد اللبن، قال؛ وأما الكرش فإن كنت تقدر على إصلاحه كما تقدر على إصلاح المثانة، فلا بأس بجعل اللبن فيه، وإن صليت وهو معك أجزأك، وعن أبي يوسف رحمه الله في الكرش أنه مثل اللحم أكرهه، وإن يبسه والله أعلم.
وفي «عيون المسائل» : رجل زحمه الناس يوم الجمعة فخاف أن يضيع نعله، فرفعه وهو يجيء الصلاة وكان فيه نجاسة أكبر من قدر الدرهم فقام ثم وضعه لا تفسد صلاته حتى يركع ركوعاً تاماً أو يسجد سجوداً تاماً، والنعل في يده حتى يصير مؤدياً ركناً تاماً مع النجاسة من غير خلاف، بخلاف حالة القيام لأنه له في رفع النعل حالة القيام حالة كيلا يضيع نعله، وبخلاف ما إذا شرع في الصلاة، والبول النجس في يده لأن الشروع في الصلاة لم يصح.
وفي «المنتقى» : عن إبراهيم عن محمد رحمه الله، لو أن مصلياً حمل نعله وفيه قذر أكثر من قدر الدرهم، ووضعه من ساعته فصلاته جائزة، وكذا ذكر ثمة أصلاً فقال جر النجاسة أكثر من قدر الدرهم إذا كان قليلاً لا يوجب فساد الصلاة، وإذا كان كثيراً، ولا كذلك......
الفصل الخامس عشر في الحدث في الصلاة
قال: رجل دخل في الصلاة ثم أحدث حدثاً من بول أو غائط أو ريح أو شيء.... لا يتعمد به، فلا يخلو إما إن كان إماماً أو مقتدياً أو منفرداً،.
فإن كان إماماً تأخر وقدم رجلاً من خلفه ليصلي بالقوم، ويذهب هو فيتوضأ ويبني صلاته إن لم يتكلم عندنا استحساناً.
وفي القياس: وهو قول الشافعي رحمه الله يستقبل الصلاة وكان مالك يقول أولاً يبني ثم رجع وقال: يستقبل فعابه محمد رحمه الله في كتاب الحج ارجوعه من الآثار إلى القياس، ولم يذكر في «الكتاب» أن المستحب أن هذا، وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال: المستحب أن يقطع الصلاة ويستقبل، وأجمعوا أنه لو أحدث متعمداً لا يجوز له البناء، إنما الاختلاف فيا إذا سبقه الحدث من غير قصد.(1/481)
وأجمعوا أنه لو نام في الصلاة واحتلم لا يجوز له البناء استحساناً، وأجمعوا على أنه لو أغمي عليه أوجن في الصلاة لا يجوز له البناء، احتج الشافعي رحمه الله في المسألة، وقال هذا حدث وجد في وسط الصلاة، فيمنع البناء مقاساً على الحدث العمد، والاحتلام في النوم والجنون والإغماء، هذا لأن الطهارة كما هي شرط صحة التحريمة فهي شرط بقاء التحريمة؛ لأن المقصود لا يحصل بدون الطهارة، فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون الطهارة، فكذلك بقاؤها؛ لأن الحدث منافٍ للصلاة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» ولا بقاء للعبادة مع وجود ما ينافيها، والدليل عليه أنه لو أخلد ساعة بعدما أحدث ثم انصرف وتوضأ لا يبني، فكذلك ها هنا.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا القياس ما قال الشافعي رحمه الله، إلا أنا تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، وليبنِ على صلاته ما لم يتكلم» وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من قاء أو رعف انصرف وتوضأ وليبنِ على صلاته ما لم يتلكم» .
وفي المسألة إجماع في صلاة الصحابة رضوان الله عليهم، فإنه روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وسلمان الفارسي رضوان الله عنهم أجمعين أنهم قالوا مثل قولنا، وترك علماؤها القياس بهذه الآثار وبقينا التحريمة بالآثار بخلاف القياس، والآثار وردت في الحدث السماوي، فلا يقاس عليه الحدث العمد؛ لأن الحدث العمد فوق السماوي.
ألا ترى أن الشرع ما أوجب القضاء والكفارة في أكل الناسي، وأوجب في أكل العامد فنأخذ (به) ولا نقيس هذا على ذلك فكذلك ها هنا (77أ1) .
والدليل على الفرق بينهما: أن في الحدث العمد يأثم، وها هنا لا يأثم وليس هذا كالاحتلام؛ لأنا عرفنا البناء في الحدث الصغرى بخلاف القياس، والنص الوادر في شيء يكون وارداً لما هو مثله أو دونه، (أو ما لا) يكون وارداً فيما هو فوقه، والجنابة فوق الحدث الصغرى فالنص الوارد ثم لا يكون وارداً ها هنا.
وليس هذا كالإغماء والجنون؛ لأنه إذا أغمي عليه أو جن صار محدثاً من ساعته، وكما صار محدثاً لا يمكنه الانصراف في تلك الساعة نفسها به، بل يمكث ساعة ثم يفيق، والمفيق إذا سبقه الحدث في الصلاة، فمكث ساعة ثم انصرف تفسد صلاته فلا يمكنه البناء بعد ذلك؛ وهذا لأنه متى مكث ساعته يصير مؤدياً جزءاً من الصلاة مع الحدث، وأداء الصلاة مع الحدث لا تجوز، ففسد ما أدى، وإذا أفسد ما أدى يفسد الباقي ضرورة، وإن كان مقتدياً يذهب ويتوضأ، وإن كان فرغ من الوضوء قبل أن يفرغ(1/482)
الإمام من الصلاة فعليه أن يعود إلى مكانه لا محالة؛ لأنه بقي مقتدياً ولو أتم يعيد الصلاة في بيته لا يجزئه؛ لأن بينه وبين إمامه ما يمنع صحة الاقتداء..... لوقوع إمامه تجير المقتدي بين أن يعود إلى المسجد، وبين أن يتمه في بيته على ما بين، وإن كان منفرداً يذهب ويتوضأ ثم يتخير بين الرجوع إلى المسجد ليكون مؤدياً جميع الصلاة في مكان واحد وبين أن يتم في بيته إذ ليس..... المشي في الصلاة، وذلك لا يضره، واختلف المشايخ في فضله للمنفرد وللمقتدي إذا فرغ الإمام من صلاته.
ذكر الإمام السرخسي رحمه الله، والإمام خواهر زاده رحمه الله: أن العود إلى المسجد أفضل، وبعض مشايخنا قالوا: الصلاة في بيته أفضل لما فيه من تقليل المشي.
وذكر في «نوادر ابن سماعة» : في المقتدي أنه إذا عاد إلى المسجد بعد ما فرغ الإمام تفسد صلاته؛ لأنه مشى في صلاته من غير حاجة، إلا أن محمد بن الحسين رحمة الله عليه لم يقسم هذا التقسيم، والصحيح ما بينا.
والرجل والمرأة في حق حكم البناء سواء، هكذا ذكر محمد رحمة الله عليه في الباب الأول من «الجامع الكبير» : وهذا لأن جواز البناء عرف بالحديث الذي روينا أنه يتناول الرجل والمرأة لأن النبي عليه السلام ذكره بكلمة (من) عامة للرجال والنساء جميعاً.
وعن أبي يوسف رحمة الله عليه في غير رواية «الأصول» : إذا أمكنها البناء من غير كشف العورة بأن أمكنها غسل ذراعها مع الكمين، وأمكنها مسح الرأس مع الخمار بأن كانا رقيقين يصل الماء إلى ما تحتهما فكشفتها لا تبني، لأنها كشفت عورتها من غير حاجة، فهو نظير الرجل إذا كشف عورته حالة البناء من غير حاجة، وإن لم يمكنها المسح والغسل بدون الكشف بأن كان عليها جبة وخمار ثخين لا يصل الماء إلى ما تحتها، فكشفت الذراعين والرأس فإن لها البناء لأنها كشفت عورتها لحاجة.
فهو نظير الرجل إذا كشف عورته لحاجة بأن جاوزت النجاسة موضع الخروج أكثر من قدر الدرهم، حتى وجب عليه غسل ذلك الموضع يجوز له البناء، كذا هنا إلا أن محمداً رحمه الله أطلق الجواب في «الجامع» : إطلاقاً لأنه لا يمكنها غسل الذراعين من غير الكشف إلا بالغسل مع الكمين وفي ذلك حرج عليها، والحرج في الأحكام ملحق بالعجز ولو عجزت عن البناء إلا بعد كشف العورة جاز لها البناء، وكذا إذا خرجت.
وعن إبراهيم بن رستم رحمه الله: أنه قال: لا يجوز للمرأة البناء، لأن المرأة من قرنها إلى قدمها عورة فتحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء.
بعض مشايخنا قالوا: ليس الأمر كما قال إبراهيم، والإطلاق في الجواب أنه لا يجوز لها البناء لا وجه إليه، لأن وجه المرأة ليس بعورة، وكذا الذراعين منها ليس بعورة في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، والقدم منها ليس بعورة في رواية أبي حنيفة رحمه الله، بقي الرأس منها، فإن أمكنها أن تمسح على خمارها وتصل البلة إلى شعرها لا(1/483)
يحتاج إلى كشف العورة فيجوز لها البناء، وإن لم يصل البلة إلى شعرها، لأن يحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء، ولكن كلا القولين بخلاف قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وعن محمد رحمه الله في «النوادر» : أن الرجل إذا سبقه الحدث لا يستنجي، إن استنجى من تحت ثيابه فإن صلاته لا تفسد وبنى، وإن كشف عورته فسدت صلاته، ولا يبني، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وهذا لأنه إن لم يكن مصلياً فهو في حرمة الصلاة وقد حصل الكشف عن غير ضرورة وحاجة؛ لأن الاستنجاء سنة فإن قاء في صلاته مرة أو طعاماً أو ماء أو تقيأ هل يبني على صلاته؟ فهذا على وجهين:
إن كان أقل من ملء الفم لا تفسد صلاته ولا حاجة إلى البناء، القيء والتقيؤ في سواء، وإن كان ملء الفم ففي القيء، وهو ما إذا ذرعه القيء من غير قصد، فيذهب ويتوضأ ويبني عليه صلاته ما لم يتكلم كما في الرعاف، وفي التقيؤ: لا يبني، لأن هذا حدث عمد فيفسد الصلاة، فيمنع البناء، وإذا فعل بعدما سبق الحدث فعلاً ينافي الصلاة، فإن كان فعلاً لا بد منه كالمشي والاغتراف من الإناء لا يمنع البناء، وإن كان فعلاً له منه بد بأن دخل المخرج أو جامع أهله أو تغوط أما أشبه ذلك منع البناء، لأن تحمل ما لا بد منه لأجل الضرورة، وذلك لا يوجد فيما له منه بد، فيرد إلى ما يقتضيه القياس.
وكذلك إذا فعل فعلاً لا بد منه بحكم الحال، وله منه بد في الجملة نحو أن يستقي ماء الوضوء من البئر؛ لا يبني لأن الأحوال يعتبر لبقاء الأحكام الشرعية وإنما تعتبر الجملة وفي الجملة لا يحتاج إلى الاستقاء من البئر؛ لأن الحاجة تندفع بالاغتراف من الجب.
وفي «الفتاوى» : إذا سبقه الحدث والماء بعيد ويقربه بئر يذهب إلى الماء لأنه لو نزح الماء من البئر استقبل الصلاة.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: إذا سبقه الحدث وفي إناء (ماء) فيتوضأ بذلك الماء حمل ذلك الإناء إلى موضع صلاته جاز له البناء إن كان حمل الإناء على..... حده لأنه عمل يسير، وإن ملأ الإناء وحمل مع نفسه ليتوضأ لا يبني.
ولو أدى شيئاً من صلاته مع الحدث قد فسد فيفسد الباقي ضرورة عدم التحري.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا تفكر الإمام المحدث من يقدم ولم ينو بمقامه الصلاة لم تفسد صلاته شرط في حال تفكره أن لا ينوي بمقامه أبطل الأداء مع الحدث.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: إمام أحدث في سجوده فرفع رأسه وكبر وكبر معه الناس، قال: فسدت صلاته وصلاة القوم، قال: لأنه كبر بعد الحدث ومعه الناس فقد مع الحدث.(1/484)
وفي «الفتاوى» : لأبي الليث رحمه الله: إذا صلى فسبقه الحدث في قيامه في موضع القراءة، فذهب ليتوضأ، فسبح في ذلك الوقت قبل أن يتوضأ فصلاته تامة وإن قرأ فصلاته فاسدة، لأنه أدى ركناً من الصلاة مع الحدث، والجواب بينما إذا قرأ ذاهباً أو عائداً عند بعض المشايخ، ومن المشايخ.... فقال: إن قرأ ذاهباً تفسد، وإن قرأ عائداً لا تفسد، ومنهم من قال على العكس، والمختار أنه لا فرق؛ لأنه إن قرأ ذاهباً فقد أدى ركناً من الصلاة مع الحدث، وإن قرأ عائداً فقد أدى ركناً من الصلاة مع عمل السير.
وفي «المنتقى» : قال الحاكم: وفي «نوادر الصلاة» : أحدثت..... فاقتضت في ما لها فتوضأت ثم تقنعت بنت، وإن رجعت إلى الصلاة غير..... قامت ثم تقنعت استقبلت، وإن قهقهة في صلاته توضأ واستقبل الصلاة ناسياً كان أو عامداً لأن البناء لأجل البلوى، وذلك لا يتحقق في القهقهة، ولأن جواز البناء عرف بخلاف القياس بالشرع في الحدث الحقيقي الذي يسبقه، والقهقهة حدث حكمي فيكون مردوداً إلى أصل القياس (77ب1) وإن ضحك دون القهقهة يبني على صلاته؛ لأن القهقهة عرفت حدثاً بخلاف القياس في الشرع.
ألا ترى أنه لا يكون حدثاً خارج الصلاة، والضحك دون القهقهة.
ألا ترى أن القهقهة لا تكون وارداً في الضحك، وإن قهقه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم لا تفسد صلاته، لأنه خارج من الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن من أركان الصلاة، ولا واجب من واجباتها، وعليه الوضوء لصلاة أخرى عندنا، خلافاً لزفر رحمة الله عليه؛ لأن هذه القهقهة لا توجب فساد الصلاة، والشرع إنما جعل القهقهة موجبة أيضاً انتقاض الطهارة في موضع أوجبت فساد الصلاة.... يرد إلى الأصل، ولعلمائنا رحمهم الله أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة.
ألا ترى أنه لو اقتدى به إنسان في هذه الحالة إلا أن الصلاة لا تفسد؛ لأنه صار خارجاً عن الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن ولا واجب والله أعلم.
وإذا أصاب المصلي حدث من غير فعله بأن شجه إنسان استقبل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يبني؛ لأن الحدث سبق بغير صنعه فهو كالحدث السماوي.
ولهما: أن العذر فيها جاء من لا قبل من له الحق، وفي الحدث السماوي جاء من قبل من له الحق.
ألا ترى أن المريض يصلي قاعداً ثم لا يلزمه الإعادة إذا بره...... فصلى قاعداً ثم يعيد إذا زاد من العبد.
والفقه فيه: أن التحرز عن العباد ممكن في الجملة بخلاف العذر السماوي، فإن التحرز عنه لا يمكن فلم يجز إلحاق هذا بذلك، ولو سقط من السطح....... يسبح(1/485)
برأسه رأيته إن كان بمرور الماء فهو على الاختلاف، وإن كان لا بمرور ماء فمن مشايخنا من قالوا: شيء فلا خلاف؛ لأنه حصل لا بصنع من جهة العباد، ومنهم من قال: على الاختلاف؛ لأن الشرط مضاف إلى الواضع، ولو وقع الكمثري من الشجر على رأسه فهو على هذا.
منهم من قال: لا يبني لأنه حصل بصنعه، فإنه يمكنه التحفظ منه، ومنهم من قال: على الاختلاف، ولو أضاف بدنه أو ثوبه نجاسة إن أصاب بسبب مطلق له البناء بأن قاء أو رعف فأصاب ثوبه أو بدنه من ذلك يغسل ويبني؛ لأن هذه نجاسة حقيقية أصابته لا بصنع من جهة العباد فيعتبر بنجاسة تصيبه لا من جهة العباد، ولأن الشرع لما جوز البناء بمطلق رعاف مع علمه أن ذلك قد لا يخلو عن النجاسة علم أنه جعله عفواً، فأما إذا أصابته لا بسبب يطلق له البناء، فإن انتضح البول على ثوبه أكثر من قدر الدراهم فغسلها يبني.
وعن أبي يوسف رحمة الله عليه: إنه يبني، وقيل الغسل: لو أمكنه النزع فإن يجد ثوباً آخر ينزع من ساعته أجزأه، لأن النجاسة الكثيرة في مدة قليلة بمنزلة النجاسة القليلة في مدة كثير، كما أن الكشف الكبير من مدة قليلة بمنزلة الكشف القليل في مدة كثيرة.
وإن لم يمكنه النزع من ساعته بأن لم يجد ثوباً آخر، فإن أدى جزءاً من الصلاة مع ذلك الثوب تفسد صلاته بالإجماع، وإن لم يؤد جزءاً من الصلاة ولكن مكث كذلك لم تفسد صلاته، وإن طال مكثه وإن أمكنه النزع في ساعته بأن كان يجد ثوباً آخراً، فلم ينزع ولم يؤد جزءاً من الصلاة اختلف أصحابنا فيه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: تفسد صلاته فيذهب ويغسل الثوب ويستقبل الصلاة، وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته، فيغسل ويبني...... أصاب جسده.
وعلى هذا الاختلاف مسائل: إحداها في النجس حملت ساعة فإن كان بعذر بأن لم يمكنه أن يتحول ولم يؤد شيئاً، فإن صلاته لا تفسد، وإن مكث بغير عذر، ولم يؤد شيئاً فهو على الاختلاف.
وكذلك المصلي إذا سقط عنه ثوبه فمكث عرياناً ولم يستتر من غير عذر ولم يؤد شيئاً فعلى هذا الاختلاف محمد رحمه الله يقول: لم يؤد شيئاً في الصلاة فلا تفسد، كما لو مكث بعذر وهما يقولان: مكث من غير عذر فتفسد كما لو أدى ركناً، وهذا لأن بقاء الحرمة بعد فوات هذه الشرائط بخلاف القياس والشرع إنما...... الانصراف من ساعته، والله أعلم.
وإن أصابه الدم بسبب الرعاف وأصابه بغير أدنى سبب آخر، وذلك أقل من قدر الدرهم لكن مع الرعاف أكثر من قدر الدرهم فغسل النجاسة التي لا تسبب الرعاف تثبت صلاته سواء كانا في محلة واحدة أو في محلتين، وإن سال من دمل به دم توضأ وغسل(1/486)
ويبني ما لم يتكلم، ولو أصاب ثوبه من ذلك الدم، فإنه يغسل الثوب ويبني بخلاف ما إذا أصابته نجاسة أخرى فغسلها حيث لا يبني، وإن عصر الدمل حتى سال أو كان في موضع ركبتيه فانفتح من اعتماده على ركبتيه في سجوده فهذا بمنزلة الحدث العمد فلا يبني على صلاته، ولو خاف المصلي سبق الحدث فانصرف ثم سبقه فتوضأ ليس له أن يبني في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يبني ذكر الاختلاف في اختلاف.m
.... ويعقوب.
حجته: أن الخوف من سبق الحدث كسبق الحدث من حيث الحكم، والمعنى حجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن جواز البناء عرف بالنص بخلاف القياس عند سبق الحدث، فلا يجوز الانصراف قبل سبق الحدث، ولو ظن الإمام أنه أحدث ثم علم أنه لم يحدث، وهو في المسجد رجع وبنى.
وروي عن محمد رحمه الله: أنه لا يبني وإن خرج من المسجد فسدت صلاته ولو ظن أنه على غير وضوء أو أن في ثوبه نجاسة فابتعد وتحول إلى القبلة فسدت صلاته، وكذا المتيمم إذا رأى سراباً فظنه ماء ولم يسلم في الركعتين ساهياً على ظن أنه تيمم ثم يبني له ذلك صار حكمه وحكم الذي ظن أنه أحدث سواء على الاختلاف الذي ذكرنا.
وجه (ما) روي عن محمد رحمة الله عليه وهو القياس أنه انحرف عن القبلة بغير عذر فتفسد صلاته كالذي ظن أنه على غير وضوء كالمتيمم إذا رأى سراباً ظنه ماء.
وجه الاستحسان؛ إن عرضه إصلاح صلاته والاستدبار بهذا القصد ليس بقاطع بدليل أنه لو تحقق ما توهم بنى فلم يكن على هذا القصد قاطعاً، لأن الصلاة يلائمها ما يصلحها الأداء..... مسجد؛ لأن اختلاف المكانين قاطع للصلاة لا عند العذر وبخلاف ما لو ظن أنه على غير وضوء، والمتيمم إذا رأى سراباً ظنه ماء؛ لأن..... لم يكن فيما صنع قاصداً إلى إصلاح صلاته بل كان قاصداً رفض التحريمة بدليل أنه لو تحقق ما توهم يبني والانحراف عن القبلة بهذا القصد مفسد للصلاة، وإذا كان يصلي في الصحراء فظن أنه أحدث فذهب عن مكانه ثم علم أنه لم يحدث بأن كان يصلي وحده فموضع سجوده ككونه في المسجد، وكذلك يمينه وشماله وخلفه، وإن كانوا يصلون بالجماعة فإن انتهى إلى آخر الصفوف ولم يجاوز الصفوف صلى ما بقي استحساناً، وإن جاوز الصفوف استقبل الصلاة، وإن تقدم إمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة إن تقدم بمقدار ما لو قام جاوز الصفوف فسدت صلاته، وإن كان أقل من ذلك لا تفسد وصلى ما بقي.
وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا جاوزها بطلت صلاته، وذكر هشام عن محمد رحمة الله عليهما: لا تفسد صلاته حتى يتقدم مثل ما لو تأخر خرج من الصفوف(1/487)
وجاوز أصحابه وإن كان بين يديه سترة، والله أعلم.
الفصل السادس عشر في الاستخلاف
وكل موضع جاز البناء فللإمام أن يستخلف؛ لأنه عجز عن إتمام ما ضمن القوم، الوفاء به فيستوي بمن تعذر عليه (78أ1) والأثر في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام لما ضعف في مرضه قال: «مروا أبا بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لحفصة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره، فقالت ذلك، فقال:؟..... «صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس» ، فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله عليه السلام في نفسه خفة، فخرج وهو يتهادى بين علي والفضل بن عباس رضي الله عنهم، وتصل رجليه بخطاب الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه فناجز القوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى أبو بكر فصلى بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر يعني: أبو بكر يصلي بتكبير الرسول والناس يصلون بتكبير أبي بكر بين يدي الله ورسوله، فصار هذا أصلان: إن في كل موضع عجز الإمام عن الإتمام أن يتأخر ويستخلف معه، وما لا يصح منه البناء كالحدث العمد، فلا استخلاف فيه، لأن الاستخلاف في القائم، وقد فسدت صلاته بما صنع والإمام يحدث على بناء إمامته ما لم يخرج من المسجد أو يستخلف رجلاً ويقوم الخليفة في مقام ينوي أن يقوم الناس فيه أو يستخلف القوم غيره حتى لو لم يوجد شيء من ذلك يقوما في جانب المسجد والقوم ينتظر فيه ورجع إلى صلاته وأتم صلاته بهم آخر أتم.
وإنما صح فنفذت ولايته عليهم فيما يرجع إلى تصحيح صلاتهم، فإذا استخلف القوم الخليفة فيه فصار هو الإمام وبطلت الإمامة في حق الأول؛ لأنه لا يجتمع في الصلاة الواحدة إمامان، وكذا إذا استخلف القوم صح استخلافهم بحاجتهم إلى تصحيح صلاتهم، وصار المقدم إماماً وبطلت الإمامة في حق الأول لما مر، فإن لم يستخلف الإمام ولا القوم حتى خرج من المسجد فسدت صلاة القوم، ويتوضأ الإمام ويبني لأنه في حق نفسه كالمنفرد.
والقياس: أن لا تفسد صلاة القوم فإن بعد الحدث بقوا مقتدين به حتى لا يوجد الماء في المسجد فتوضأ وعاد إلى مكانه وأتم تتمة الصلاة أجزأه فكذلك بعد خروجه ولكن استحسن...... أن يكون قوم في الصلاة في المسجد وإمامهم في الصلاة في(1/488)
المسجد وإمامهم في أهله وإماماً آخر في المسجد فكأنه في المحراب؛ لأن المسجد في كونه مكان الصلاة كبقعة واحدة فلم يكن بينه وبينهم في الاقتداء بخلاف ما نحن فيه وكل من يصلح إماماً للإمام الذي سبقه الحدث في الابتداء يصلح خليفة له، ومن لا يصلح إماماً له في الابتداء لا يصلح خليفة.
ولو لم يكن مع الإمام إلا رجل واحد فهو إمام نفسه قدمه المحدث أم لا، لأن التقديم إنما يحتاج إليه للتعيين، والذي مع الإمام المحدث بناء معتبر فاستغنى عن التعيين، ولو اقتدى رجل بهذا الإمام المحدث قبل أن يخرج من المسجد صح دخوله، وإن كان بعد انصرافه؛ لأن حكم الإمامة قائم بخيار البناء عليه، وإن كان بعد انصرافه لأن المسجد مع تباين أطرافه وتباعد أكنافه جعل بمكان واحد بدليل جواز الاقتداء به، وإن كان المقتدي في آخر المسجد، فصار كأن الإمام في مكان الإمامة بعد فيؤد ذلك ينظر إن قدم المحدث خليفة يصلي بالقوم جازت صلاة الداخل، وإن لم يقدم حتى خرج من المسجد فصلاة الداخل فاسدة، وهذا هو الحكم في حق الذي كان مع الإمام قبل الحدث.
ولو قدم الإمام امرأة فسدت صلاتهم جميعاً الرجال والنساء، والإمام المقدم، وقال زفر رحمه الله: صلاة المقدمة والنساء تامة، لأنها صلحت إماماً للنساء واعتبر ذلك بالابتداء.
ولنا: أن المرأة..... لما تصلح لإمامة الرجال صار الإمام ولا استقبال باستخلاف من لا يصلح خليفة له معرضاً عن الصلاة فتفسد صلات النساء، وصلاته تفسد صلاة القوم، لأن الإمامة لم تتحول عنه.
وكذلك إذا قدم صبياً فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن الصبي لا يصلح إماماً في الفرض ولا يصلح خليفة له.
وكذلك إذ قدم رجلاً على غير وضوء فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن المحدث لا يصلح إماماً له، فلا يصلح خليفة له فصار بمنزلة ما لو استخلف امرأة.
ولو أن الإمام حين قدم واحداً من هؤلاء لم يتقدم المقدم بنفسه، ولكن استخلف هو رجلاً آخر ذكر هذه المسألة في باب الجمعة: وإن المقدم على غير وضوء فإن استخلافه غير جائز، وإن كان المقدم امرأة أو صبياً أو كافراً لا يجوز استخلافه غيره.
والفرق: أن المقدم إذا كان على غير وضوء فهو من أهل الإمامة في الجملة، فإن أهلية الإمام بالإسلام والذكورة والبلوغ من عقد وقد وجد ذلك من حقه فصح استخلافه؛ إلا أنه عجز عن الأداء لعدم الطهارة فيعتبر كما لو كان الأول على حاله وعجز عن الأداء لعدم الطهارة، وهناك يجوز الاستخلاف كذا هنا.
فأما المرأة ليست من أهل الإمامة للرجال، وكذا الصبي ليس بأهل إمامة البالغين(1/489)
فلم يصح استخلافها أصلاً، وإذا لم يصح استخلافهما كيف يصح الاستخلاف منهما؟
وإذا أحدث الإمام وخلفه نساء لا رجال معهن، فتقدمت واحدة منهن من غير تقديم الإمام قبل خروج الإمام، قال: هذا والأول سواء، قيل: أراد به مسألة استخلاف واحدة منهن يعني تفسد صلاة الإمام وصلاة النسوة.
وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما، نصاً أن صلاة الإمام تفسد بتقدم واحدة منهن من غير تقديم منه؛ لأن تقديم الإمام واحداً من القوم وتقدم النسوة، ولا تفسد صلاة الإمام وقد روي عن محمد نصاً في هذه الصورة، وهو ما إذا تقدمت واحدة منهن بنفسها من غير تقديم الإمام أنه لا تفسد صلاة الإمام والله أعلم.
وإذا كان مع الإمام صبي أو امرأة إن استخلفه فسدت صلاتهما وقدم هذا وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تفسد صلاته؛ لأنه لما تعين صار كأنه استخلفه.
وقال بعضهم: إذا كان معه امرأة أنه تفسد صلاته وتفسد صلاة المقتدي وهذا أصح؛ لأن تعين الواحد للإمامة إنما كان للحاجة إلى إصلاح صلاة المقتدي، وفي جعلهما إماماً منهما فساد صلاتهما فلم...... إما ما بقي الإمام إماماً وليست المرأة تعذر به لا إمام لها في المسجد وعلى هذا: إذا كان خلف الإمام من يصلي التطوع إن استخلفه فسدت صلاته، وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ؛ لأن المتنفل لا يصلح إماماً للمفترض فصار نظير مسألة المرأة.
وإذا أحدث الإمام ولم يقدم أحداً حتى خرج من المسجد فصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم مقتدون فيها لم يتولهم إمام في مكانه وهو المسجد.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : حكم صلاة الإمام، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن صلاته تفسد أيضاً؛ لأن بعد سبق الحدث كان عليه الاستخلاف فيصير هو (78ب1) في حكم المقتدي به.....، فكما تفسد صلاة غيره من القوم، فكذا تفسد صلاته، وذكر أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي عن محمد رحمه الله: أن صلاته ثابتة، وذكر في «مختصر الكرخي» : أنه لا تفسد صلاة الإمام، ولم ينتسب هذا القول إلى أحد.
ووجه ذلك: أن الإمام ما كان يحتاج إلى الاستخلاف لإصلاح صلاته، وإنما كان يحتاج إليه لإصلاح صلاة القوم، فبقي هو منفرداً، والمنفرد إذا سبقه الحدث وخرج من المسجد ليتوضأ لم تفسد صلاته كذا هنا.
وإذا أم رجلاً واحداً، فأحدثا وخرجا من المسجد فصلاة الإمام تامة لما مر، وصلاة المقتدي فاسدة إذا لم يبق له إمام في المسجد، وإذا أم الرجل قوماً فسبقه الحدث فقدم الإمام رجلاً والقوم رجلاً ونوى كل واحد أن يكون إماماً فإمامٌ هو الذي قدمه الإمام.(1/490)
وإذا أحدث الإمام وقدم كل فريق من القوم إماماً، اقتدى كل فريق بإمامه فسدت صلاتهم؛ لأن هذه صلاة افتتحت بإمام، ولا يجوز إتمامها بإمامين، وليس أحدهما؛ بأن يجبذ إماماً بأولى من الآخر ففسدت صلاة المعتدين، ومن ضرورة فساد صلاة القوم، وهذا إذا استوى الفريقان في العدد، فأما إذا قدم جماعة القوم أحد الإمامين إلا رجلاً أو رجلين واقتدى به، وقدم الآخر رجلٌ أو رجلان واقتديا به فصلاة من اقتدى به الجماعة وصلاتهم صحيحة، وصلاة الآخرين مع إمامهما فاسدة.
فأما إذا اقتدى بكل إمام جماعة، وأحد الفريقين أكبر من الآخر عدداً، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: صلاة الأكثرين جائزة ويبتني الفساد في حق الآخرين كما في الواحد والمثنى، وقال بعضهم: صلاة الكل فاسدة، وفي «نوادر الصلاة» : صلاة الطائفة الأكثر جائزة؛ لأن الحكم للغالب.
ولو قدم الإمام رجلين فهذا وتقديم القوم إياهما سواء، ولو فضل أحدهما إلى وضع الإمامة قبل الآخر يعتبر هو للإمامة وجازت صلاته وصلاة من اقتدى به؛ لأن الاستخلاف كان للضرورة، وقد ارتفعت الضرورة بوصول هذا إلى موضع الإمامة، فاستخلاف الآخر وجوده وعدمه بمنزلة.
ولو تقدم رجل من غير تقديم آخر، وقام مقام الأول قبل أن يخرج الإمام من المسجد وصلى بالقوم أجزأهم ولو كان الإمام قد خرج من المسجد قبل وصول هذا إلى موضع الإمامة فسدت صلاتهم، وصلاة الإمام تامة.
وإذا كان مع الإمام رجل وأحدث الإمام وتعين الرجل الذي خلفه للإمامة على ما مر، فتوضأ الإمام ورجل دخل مع هذا في صلاته؛ لأن هذا قد تعين للإمامة، وإن لم يرجع الأول حتى أحدث هذا وخرج من المسجد فسدت صلاة الأول؛ لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، فإذا خرج الثاني عن المسجد لم يبق للأول إمام في المسجد فسدت صلاته، هكذا ذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح المختلفات» .
وذكر الحكم في «المختصر» : عن علي قول أبي عصمة رحمه الله: لا تفسد صلاته، ووجه ذلك: أن صيرورة الباقي إماماً كان بطريق القصد ليظهر في حق الأحكام كلها، وإنما كان بطريق الضرورة حتى لا تفسد صلاته بخروج الإمام عن المسجد ليتطهر، والله أعلم.
وصلاة الثاني تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه، وإن لم يخرج الثاني من المسجد حتى رجع الأول ثم خرج الثاني صار الإمام هو الأول؛ لأنه متعين لإصلاح هذه الصلاة، فيكون متعيناً للإمامة، وإذا كان الأول متعيناً للإمامة صار الثاني مقتدياً، فجازت صلاتهما جميعاً، وإن جاء ثالث واقتدى بالثاني فسبقه الحدث فخرج من المسجد فحولت الإمامة إلى الثالث لكونه متعيناً، فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل رجوع أحد الأولين فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد وإن كان رجع أحد الأولين قبل خروج الثالث تحولت الإمامة إلى ذلك بخروج الثالث، وإن كانا رجعا جميعاً، فإن(1/491)
استخلف الثالث أحدهما صار هو الإمام، وإن لم يستخلف حتى خرج فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد، لأنه ليس أحدهما بالإمامة بأولى من الآخر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أحدث الإمام وليس معه إلا رجل واحد، فوجد الماء في المسجد وتوضأ، قال: يتم صلاته مقتدياً بالثاني، لأنه متعين للإمامة بنفس الانصراف تتحول الإمامة إليه، فإن كان معه جماعة فتوضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة وصلى بهم، لأن الإمامة لا تتحول منه إلى غيره في هذه الحالة إلا بالاستخلاف ولم يوجد.
إمام صلى برجلين فسبقه الحدث فقدم أحدهما وذهب صار المقدم إماماً لهما، فإن سبقه الحدث فخرج فهذا الذي بقي صار إماماً إذا نوى الإمامة كذا قال في «نوادر الصلاة» ، قالوا: معناه: ترك المضي على الاقتداء، حتى لو بقي على اقتدائه بإمامه ولم يعمل عمل المنفرد لم يجز، فأما نية الإمامة ليست بشرط، ويختار بكون الجواب فيما إذا كان خلف الإمام رجل واحد هكذا أنه لو بقي على اقتدائه، فإمامه ولم يعمل عمل المنفرد إنه لا يجوز في «الخصائل» .
إمام أحدث فانتقل وقدم رجلاً جاسياً....... فإنه ينظر إن كبّر قبله سبق الإمام الحدث صح استخلافه؛ لأنه........ الإمام في الصلاة، وكذلك إذا نوى الدخول في صلاة الإمام وكبّر قبل خروج الإمام من المسجد، لأنه ما دام في المسجد كأنه في الصلاة، وعلى قول...... رحمه الله؛ لا يصح استخلافه هنا، قال: لأن حدث الإمام من المقتدي، كحدثه. بنفسه، وكونه محدثاً يمنع من الشروع في الصلاة ابتداء، فيمنع الاقتداء به أيضاً، فإن بقاء الاقتداء بعد الحدث عرفناه بالسنّة، والابتداء ليس في معنى البقاء، ولكنا نقول: التحريمة باقية في حق الإمام حتى إذا عاد بنى على صلاته، وكذلك صفة الإمامة له باقية ما لم يخرج من المسجد، حتى لو توضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة جاز فاقتداء صحيح في هذه الحالة، وإذا صح الاقتداء جاز استخلافه.
وإن كان حتى كبّر نوى الدخول في صلاة نفسه ولم ينوِ الاقتداء بالأول فصلاته تامة، لأنه افتتحها منفرداً وأداها منفرداً ولم ينوِ الاقتداء، فتكون صلاته تامة، وصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم كانوا مقتدين بالأول، فلا يمكنهم إتمامها مقتدين بالثاني لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الأول، فإنه قائم مقام الأول، فكأنه هو نفسه، فكان الإمام واحداً معنىً، وإن كان مثنى صورة، وها هنا الثاني ليس بخليفة الأول، لأنه لم يقتد به قط فتحقق إذ الصلاة الواحدة خلف إمامين صورة ومعنى، فبهذا لا تجزئهم صلاتهم، وأما صلاة الإمام الأول لم يذكر في «الكتاب» ، واختلف المشايخ: قال بعضهم: لا تفسد صلاته (79أ1) ، وقال: تفسد وهو الأصح، لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة فتفسد صلاته كما لو استخلفوا جنباً أو محدثاً أو امرأة.(1/492)
إمام أحدث فقدم رجلاً من آخر الصفوف ثم خرج من المسجد، فإن نوى الثاني أن يكون إماماً من ساعته، ونوى أن في ذلك المكان جازت صلاة الخليفة وصلاة الإمام الأول، ومن كان على يمين الخليفة وعلى يساره في صفه ومن كان خلفه، ولا تجوز صلاة من كانوا أمامه في الصفوف؛ لأنهم صاروا أمام الإمام، وإن نوى الثاني أن يكون إماماً إذا قام مقام الأول، وخرج الإمام الأول قبل أن يصلي الثاني إلى مقام الأول فسدت صلاتهم؛ لأنه كما خرج الإمام الأول فلا مكان للإمامة عن الإمام، والإمام الأول يتوضأ ويبني على صلاته في الأحوال كلها.
إذا أحدث واستخلف رجلاً من خارج المسجد والصفوف متصلة بصفوف المسجد لم يصح استخلافه، وتفسد صلاة القوم في «نوادر أبي حنيفة» وأبي يوسف رحمهما الله، وفي فساد صلاة الإمام روايتان، فقيل: والأصح هو الفساد.
إمام سبقه الحدث واستخلف رجلاً، واستخلف الخليفة غيره: قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الإمام لم يخرج من المسجد، ولم يأخذ الخليفة مكانه حتى استخلف غيره جاز، ويصير كأن الثاني تقدم بنفسه، أو قدمه لإحكام ما للأول وإن كان غير ذلك لا يجوز.
إمام توهم أنه رعف فاستخلف غيره، فقبل أن يخرج الإمام من المسجد ظهر أنه كان ماء ولم يكن دماً، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الخليفة أدى ركناً من الصلاة لم يجز للإمام أن يأخذ الإمامة مرة ثانية، لكنه يقتدي بالخليفة؛ لأن الخلافة تأكدت بأداء ركن، وإن لم يؤدِ ركناً لكنه قام في المحراب، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمة الله عليهما: له أن يأخذ الإمامة مرة أخرى؛ لأن المسجد كمكان واحد، فيجعل كأن لم يحول وجهه عن القبلة، وقال محمد رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه حول وجهه عن القبلة بالشك لا بالتيقن بالحدث، فتفسد صلاته عند محمد رحمه الله.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» : إذا ظن الإمام أنه أحدث من غير حدث فاستخلف رجلاً ثم تبين له قبل أن يخرج من المسجد أنه لم يحدث قال: إن كان لم يأت بالركوع جازت صلاتهم يعني الخليفة، وإن أتى بالركوع فسدت صلاتهم.
قال الفقيه: هذا وفي رواية محمد بن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: أنه قال: إذا قام مقام الإمام فسدت صلاتهم وإن لم يأت بركن من أركان الصلاة، وإذا لم يقم الخليفة مقام الإمام الأول جازت صلاتهم، قال: وكان الشيخ الإمام يفتي بهذا إذا ظن الإمام أنه أحدث فاستخلف رجلاً وخرج من المسجد، ثم علم أنه لم يكن حدثاً فسدت صلاة الكل هو الصحيح.
ظن الإمام أنه أحدث، وأنه على غير وضوء، فانصرف القوم رجلاً (رجلاً) ثم استيقن بالطهارة فسدت صلاة الكل خرج الإمام من المسجد أو لم يخرج الإمام.
إذا صار مطالباً بالبول، فذهب واستخلف غيره لا يصح استخلافه، إنما يصح الاستخلاف بعد خروج البول، وكذا إذا أصابه وجع البطن أو غير ذلك، وكذلك إن عجز(1/493)
عن القيام بذلك السبب قعد وصلى قاعداً لا يجوز.
إمام سبقه الحدث فاستخلف رجلاً وتقدم الخليفة ثم تكلم الإمام قبل أن يخرج من المسجد أو أحدث متعمداً، قالوا: يضره ولا يضر غيره، ولو جاء رجل في هذه الحالة، فإنه يقتدي بالخليفة ولو بدا للأول أن يقعد في المسجد فلا يخرج كان الإمام هو الثاني، ولو توضأ الأول في المسجد وخليفته قائم في المحراب لم يؤد ركناً يتأخر الخليفة ويتقدم الإمام الأول، ولو خرج الإمام الأول من المسجد، فتوضأ ثم رجع إلى المسجد وخليفته لم يؤد ركناً كان الإمام هو الثاني، وإن نوى الثاني بعدما تقدم إلى المحراب أن لا يخلف الأول ويصلي صلاة نفسه لا تفسد ذلك صلاة من اقتدى به.
رجل صلى في المسجد وأحدث، وليس معه غيره، فلم يخرج من المسجد حتى جاء رجل وكبّر ينوي الدخول في صلاته ثم خرج الأول، فإن الثاني يكون خليفة الأول عند أصحابنا رحمهم الله، وكذا لو توضأ الأول في ناحية من المسجد، ورجع ينبغي أن يقتدي بالثاني؛ لأن الثاني صار إماماً له عينه أو لم يعينه.
إذا أحدث الإمام واستخلف رجلاً وخرج من المسجد ثم أحدث الثاني ثم جاء الأول بعدما توضأ قبل أن يقوم الثاني مقام الأول جاز للثاني أن يقدمه، وإذا حضر الإمام من القراءة فتأخر وقدم رجلاً أجزأهم، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئهم.
حجتهما: أن...... في القراءة بأن ينسى جميع القرآن نادر غاية الندرة، فلا يلحق بالحدث، بل ملحق بالجنابة.
حجة أبي حنيفة رحمة الله عليه: أن العلة في حق الذي سبقه الحدث عجزه عن الأداء، والعجز ها هنا ألزم؛ لأن المحدث ربما يصيب ماء في المسجد فيتوضأ ويبني من غير استخلاف، وأما الذي ينسى ما حفظ ذلك لا يعلم إلا بالتعلم أو بالتذكر، وذلك يكون بعد مدة، فيمتنع المعنى لا محالة، وهذا إذا لم يقرأ مقدار ما تجوز به، ولا يجوز الاستخلاف بالإجماع، وإذا صار جانياً بحيث لا يصدر على المعنى ذكر في غير رواية «الأصول» : أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: ليس له أن يستخلف، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: له ذلك، فأبو حنيفة رحمه الله فَرَّق بين هذه المسألة وبين مسألة.H
......
والفرق: وهو أن العجز عن القراءة ليس بنادر، أما صيرورته جانباً في الصلاة على وجه يعجز عن المعنى نادر فبمنزلة الجنابة.
لو أن قارئاً صلى بقوم ركعتين من الظهر، وقرأ منهما، وسبقه الحدث ثم استخلف أمياً جاز عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأن الإمام قد أدى فرض القراءة، فلا حاجة إليها في الأخريين، فكان الأمي وغيره فيهما سواء.(1/494)
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: فسدت صلاة الكل؛ لأن استقباله باستخلاف من لا يصلح إماماً له تفسد، وكذا استخلاف الأمي في القعدة الأخيرة قبل قدر التشهد على هذا إذا قعد قدر التشهد.
قال في «الجامع الصغير» : يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وسكت عن ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله، قالوا وعنده: يجوز أيضاً.
وفي «النوادر» : الإمام إذا نسي القراءة في الأوليين من الظهر ثم سبقه الحدث فاستخلف رجلاً.....، فعلى الثاني أن يقرأه في الأخريين قضاء عن الأولين (79ب1) ، وإذا انتهى إلى موضع سلام الإمام واستخلف من يسلم بهم، وقام لقضاء الأولين، وقرأ فيهما، ولو ترك القراءة فيهما فسدت صلاته وإن قرأ مرة في ركعتين، لأن تلك القراءة التحقت بالأولين، فتعينت الأخريان. بغير قراءة، فإذا قضى الأولين فلا بد له من القراءة فيهما، والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : صلى رجل بقوم الظهر، فلما صلى ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم مدركاً، فسهى عن الثلاث السجدات، وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث، فقدم مدركاً وتوضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد السجدة الأولى؛ لأن الأئمة كلهم خلفاً للأول فعليهم ما على الأول ويسجد معه القوم وللأئمة جميعاً؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة وقد فاتتهم تلك السجدة، فإذا أدركوها في موضعها كان عليهم أداؤها ثم يقوم الإمام الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه قد أدرك أول الصلاة وكأنه خلف الإمام.
ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية ويسجد معه القوم والأئمة؛ لأنهم أدركوها في موضعها إلا أن الإمام الأول لا يسجد السجدة الثانية؛ لأن عليه أركاناً يصليها وهي الركعة الثانية؛ إلا أن يكون أدى الركعة الثانية، وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجد مع الإمام الخامس هذه ثم يقوم الإمام الثاني فيصلي ركعتين بغير قراءة، لأنه مدرك لأول الصلاة وكأنه خلف الإمام ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثالثة، ويسجد معه القوم والأئمة الأول والثاني؛ لأنهم أدركوها في موضعها على ما ذكرنا.
ثم يقوم الإمام الثالث فيصلي ركعة بغير قراءة على ما بينا، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة ويسجد معه القوم والإمام الرابع لما بينا، ولا يسجد مع الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا فرغوا من أداء ما عليهم وانتهوا إلى هذه السجدة، ثم يتشهد الإمام الخامس ويسجد السهو ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ لأنهم مدركون، والمدرك لا يتابع الإمام في سجود السهو إلا أن يكون فرغ من أداء ما عليه، هذا هو الجواب في هذه المسألة.
وإذا عرفت الجواب في ذوات الأربع ظهر لك الجواب في ذات الركعتين؛ لأن(1/495)
الكلام في ذات الركعتين أظهر وأوضح؛ لأن هنا نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الخمسة، وهناك نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الثلاثة.
قال محمد رحمه الله: الأول مقيم صلى بقوم مقيمين ركعة من الظهر وسجدة، ثم أحدث فقدم رجلاً جاسياً....... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث وقدم رجلاً جاسياً......... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم...... وقدم رجلاً....... ثم توضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا، قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد بهم والسجدة الأولى لما ذكرنا أنه خليفة للأول ويسجد معه القوم والإمام الأول لما ذكرنا أنهم أدركوها في موضعها؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، ولا يسجد معه الإمام الثاني والثالث والرابع؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة، وإذا حضرا هذه الركعة..... يسجد بهما، فلا فائدة في متابعتهم الإمام الخامس فيها، فلا يتابعونه ثم يقوم الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة فهو فيما يأتي مؤدٍ وليس بقاضٍ، فهذا لا يقرأ، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية، ويسجد معه القوم والإمام الثاني ولا يسجد معه الإمام الأول إلا أن يكون قد انتهى إلى هذه السجدة، وكذا لا يسجد معه الإمام الثالث والرابع؛ لأنه لا فائدة من ذلك؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة وهي الركعة الثانية فيقضونها بسجدتيها عند قضاء الركعة ثم يقوم الإمام الثاني فيقضي ركعتين بغير قراءة؛ لأنه مدرك لهما، فهو فيهما مؤدٍ ثم يسجد بهم الإمام الخامس السجدة الثالثة.
ويسجد معه القوم والإمام الثالث، ولا يسجد معه الإمام الأول، والإمام الثاني إلا أن يكونا انتهيا إلى هذه السجدة، وكذلك لا يسجد معه الإمام الرابع ثم يقوم الإمام الثالث، ويؤدي ركعة بغير قراءة، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة، ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث، إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ثم يتشهد الإمام الخامس، فإذا انتهى إلى موضع السلام تأخر من غير أن يسلم وقدم رجلاً أدرك أول الصلاة، فيسلم بهم، ويسجد سجدتي السهو، ويسجد معه القوم والإمام الربع والخامس؛ لأن الإمام الرابع والخامس مسبوقان، والمسبوق يتابع الإمام في سجود السهو، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ويسلم الإمام السادس، ويسلم معه القوم، ولا يسلم معه واحد من الأئمة، إلا أن الإمام الأول إذا كان فرغ من أداء ما عليه ثم يقوم الثاني، فيقضي ركعة بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه مسبوق بركعة، ويقوم الإمام الثالث ويقضي ركعتين بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه سبق بهما، ويقوم الرابع ويقضي ثلاث ركعات يقرأ في الركعتين منهما، وفي الثالثة بالخفاء ثم يقوم الإمام الخامس ويقضي أربع ركعات يقرأ في الأوليين وفي الأخريين بالخفاء.
وذكر في «نوادر الصلاة» : أن الإمام الخامس إذا سجد السجدة الأولى سجد معه(1/496)
القوم والأئمة جميعاً، وإذا سجد السجدة الثانية سجد معه القوم والأئمة الإمام الأول، وكذلك على هذا القياس في الثالثة والرابعة، وإنما أجزأهم بذلك وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاتهم بطريق المتابعة، ألا ترى أن المسبوق يتابع الإمام في السجدة التي أدركها وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاته والله أعلم.
قال في «الأصل» أيضاً: إمام أحدث فاستخلف مدركاً قد نام خلفه حتى صلى الإمام ركعة وقدمه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقدم هذا ولا لهذا أن يتقدم، وهذا؛ لأن الذي لم ينم خلف الإمام والذي هو مسبوق قدر على إمامة ما بقي على الإمام من غير مكث ولبث، وكذا المسبوق، وهذا لا يقدر على إتمام ما بقي على الإمام إلا بعد مكث ولبث؛ لأنه يلزمه أن يبدأ بالأول فالأول، فكان غيره أولى، مع هذا لو قدمه الإمام وتقدم هو جاز، والأصوب له أن يشير إلى القوم حتى..... هذا هو بما قام خلف الإمام، فيؤدي ذلك، فإذا انتهى إلى ما انتهى إليه إمامه أمهم من ذلك، فلو لم يفعل هكذا، ولكن بدأ بما بقي على الإمام وأخر ما نام فيه إلى أن يتشهد ثم قام، فأدى ما كان نام فيه، ثم سلم جازت صلاته استحساناً، وللقياس أن لا يجزئه (80أ1) هو قول زفر رحمه الله وعلى هذا القياس والاستحسان؛ إذا نام المقتدي خلف الإمام حتى صلى الإمام ركعة أو ركعتين، ثم استيقظ يتابع الإمام فيما أدرك فيه وأخر ما نام فيه إلى آخر الصلاة، فلم يعتبر الترتيب في حق اللاحق، واعتبره في حق المسبوق حتى قال بأن المسبوق يتابع الإمام فيما أدرك مع الإمام ثم ينتقل ببعض ما سبق، فلو أنه استقبل نقصاناً سبق أولاً قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك تفسد صلاته.
والفرق يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولو أن هذا الذي تقدم، استقبل فإذا ما بقي على الإمام..... ركعة تذكر ركعته تلك، والأفضل له أن يومي إليهم لينتظروه حتى يقضي تلك الركعة، ثم يصلي بهم بعيد صلاته كما كان في الابتداء يفعله وإن لم يفعل وتأخر حتى يذكر ذلك وقدم رجلاً منهم يصلي بهم فهو أفضل من الأول..... إن لم يتأول، ولكنه صلى بهم وهو ذاكر لركعة أجزأه أيضاً لما بينا، وإذا أتم صلاة الإمام فقدم رجلاً من المدركين حتى يسلم بهم، والله أعلم.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل صلى بقوم ركعة من الظهر فأحدث، وانتقل ليتوضأ وقد قدم رجلاً ثم تذكر أن عليه صلاة الغداة فصلاته فاسدة وصلاة القوم تامة، ولم يظهر فساد صلاته في حق فساد صلاة القوم؛ لأن فساد صلاته بسبب فوات الترتيب مختلف فيه؛ لأن الشافعي رحمه الله لا يرى الترتيب مستحقاً، فلم يكن الفساد قوياً، فلا يظهر في حق القوم، ولم يفصل في رواية ابن سماعة بينما إذا تذكر ذلك بعد خروجه من المسجد أو قبل خروجه من المسجد ورأيت في الموضع أن الإمام المحدث إذا تذكر فائتة قبل أن يخرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة الثاني والقوم؛(1/497)
لأن الإمام الأول ما دام في المسجد وكأنه في المحراب بعد.
ولو كان في المحراب وباقي المسألة بحالها، فإن الجواب كما بينا ويجب أن يشترط ها هنا شرط آخر، وهو أن يتذكر الأول الفائتة قبل أن يخرج من المسجد وقبل أن يقوم الخليفة في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه لفساد صلاة الكل وإن تذكر فائتة بعدما خرج من المسجد فسدت صلاته خاصة؛ لأن بعد الخروج من المسجد أو قبل خروجه ولكن بعدما قام الثاني في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه.
وفي «القدوري» إذا صلوا في غير مسجد يعني في الصحراء وأحدث الإمام فمجاوزة الصفوف كالخروج من المسجد يريد به إذا رجع الإمام خلفه حتى جاوز الصفوف ولم يقدم أحداً فسدت صلاة القوم بمنزلة ما لو صلى في المسجد وخرح الإمام من المسجد بعدما أحدث قبل أن يقدم أحداً؛ لأن مكان الصفوف بحكم الاقتداء صار كالمسجد وإن لم يرجع خلفه ولكن مشى قدامه وليس بين يديه بناء ولا سترة لم تفسد صلاتهم حتى جاوز من بين يديه مقدار الصفوف إلى خلفه هكذا روى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله اعتباراً ما بجنبه الأخرى؛ لأن...... لا يختلف القاطع، وهكذا روي عن محمد رحمه الله.
وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا تجاوز أحداً فسدت صلاتهم، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، لأن السترة تجعل ما دونها في حكم المسجد بدليل اقتصار كراهة المرور على ما دون الستر ولم يذكر في القدوري ما إذا كانت السترة سوطاً موضوعاً بين يديه في الطول أو بالعرض.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه لا تفسد صلاتهم حتى يجاوز قدر موضع أصحابه الذي خلفه كما لو لم يكن بين يديه سترة أصلاً إذا ذهب الإمام المحدث ليتوضأ وقد كان قدم رجلاً فتوضأ وأراد أن يصلي في بيته أو في مسجد آخر ينظر إن كان الخليفة قد فرغ من صلاته صلاة الإمام في بيته وفي مسجد آخر وإن لم يكن فرغ الخليفة من صلاته لا تجوز صلاة الإمام في بيته ولا في مسجد آخر هكذا ذكر في «الأصل» .
وذكر في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: أن صلاة الإمام المحدث في بيته فاسدة حتى تكون صلاته بعدما يشهد هذا الإمام المقدم قالوا: وهذا إذا كان بين الإمام المحدث وبين خليفتهما يمنع صحة الاقتداء من الحيطان والجدر والنهر وما أشبه ذلك، وإن لم يكن بينهما ما يمنع صحة الاقتداء تجوز صلاة الإمام المحدث في بيته قبل فراغ الخليفة من الصلاة أو بعده.(1/498)