قوله (على التأبيد) احتراز من الإجارة، فإن الإجارة ليست على التأبيد، فإذا تعاقدا على منفعة أرض سنة أو سنتين أو نحو ذلك فهذا ليس بيعا، بل هو إجارة، فقيده بقوله (على التأبيد) ليكون كل منهما قد ملك ما أخذه ملكية تامة مؤبدة.
قوله (غير ربا أو قرض) فالربا ليس بيعا، ولذا قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ففرق بينهما، فدل على أن الربا ليس بيعا.
وقوله (قرض) فالقرض حقيقته فيه المبادلة المتقدمة، فإنه مثلا يعطيه عشرة دنانير إلى سنة، فيعطيه الآخر مثلها، فهذا فيه مبادلة، لكنه لما كان بغير طريق المعاوضة لم يكن بيعا، فالبيع فيه معاوضة، وأما القرض فإن فيه إرفاقا ورحمة، وليس بمعاوضة، وعلى هذا فالقرض ليس بيعا، وإن وقعت فيه المعاوضة المذكورة.
قوله [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله]
ينعقد البيع بإيجاب وقبول بعده، أي القبول بعد الإيجاب، والإيجاب هو قول البائع الدال على الرضا بالبيع، كقوله: بعتك، وأما القبول فهو قول المشتري الدال على الرضا بالبيع، كقوله: قبلت.
وقوله (بعده) فيه أنه يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب، فيقول البائع للمشتري بعتك هذا الثوب بدرهم، ثم يقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول.(13/3)
قوله (وقبله) وهذا فيه إطلاق، وتقييده أن يقال أمرا أو ماض مجرد عن الاستفهام أو نحوه، فمثال الأمر أن يقول المشتري: بعني هذا الثوب بدرهم، فيقول البائع: قبلت، فكل لفظ منهما دل على الرضا، ومثال الماضي: أن يقول المشتري: اشتريت هذا الثوب منك بدرهم، فيقول البائع: قبلت، أما إذا كان الفعل ماضيا سبق باستفهام أو نحوه كالتمني فإنه لا يدل على الرضا، كأن يقول المشتري: أتبيعني هذا الثوب بكذا، فيقول: نعم أو بعتك، فقول المشتري أتبيعني هذا الثوب لا يدل على رضاه إذ ليس جازما بالبيع، فقد يخبر بالقبول ولا يرضى، إنما هو مستفهم، ومثل ذلك لو تمنى فقال: ليتك تبيعني هذا الثوب بكذا.
قوله [متراخيا عنه]
ينعقد متراخيا عنه، فإذا تراخى القبول عن الإيجاب فلا بأس، فإذا قال رجل: بعتك هذا الثوب بدرهم، فسكت المشتري ثم قال: قبلت: فإذا ذلك يصح لعدم ما ينافي الرضا المشروط، فإن الألفاظ وضعت للدلالة على الرضا، فإذا قلت: قبلت، فإن الرضا ثابت من الطرفين، ولو كان ذلك على سبيل التراخي، لكن قيده بقوله:
قوله [في مجلسه]
فلو تفرقا عن المجلس فلا، وذلك لأن تفرقهما عن المجلس من غير أن يتم البيع دليل على عدم الرضا، ودليل على الإعراض عنه، فإذا تفرقا ولم يقع القبول فلا بيع، ومثل ذلك:
قوله [فإن تشاغلا بما يقطعه بطل]
فإذا تشاغلا بما يقطع القبول عرفا بطل البيع، كأن يقول بعتك، ثم يتحدثا في أمر خارج عن البيع، ثم قال: قبلت، فلا، وذلك لوجود القاطع، والرجوع في ذلك إلى العرف، فما كان قاطعا في العرف فإن القبول يبطل، ونحتاج إلى استئناف الإيجاب والقبول مرة أخرى.(13/4)
ويشترط أيضا موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم، فقال: قبلته بخمسة، أو قال: بعتك هذا الثوب إلى شهرين بمائتي درهم، فقال: قبلت إلى شهر بمائة، فهذا لا يصح، وذلك لعدم موافقة الإيجاب للقبول، فإن الرضا بذلك لم يثبت.
قوله [وهي الصيغة القولية]
صيغة الإيجاب والقبول هي الصيغة القولية، ولا يشترط لفظ خاص، بأن يشترط أن يكون اللفظ: بعتك أو قبلت، بل كل لفظ دل على البيع بأي لغة كانت فإن الإيجاب والقبول يتمان به، فلو قال: بعتك أو أعطيتك أو خذ هذه السلعة بكذا، وقال المشتري رضيت أو اشتريت أو تم أو قبلت أو نحو ذلك فكل ذلك مما ينعقد به البيع، وذلك لأن الشارع لم يحدد لفظا معينا، فكان المرجع إلى العرف.
قوله [وبمعاطاة وهي الفعلية](13/5)
هذا هو النوع الثاني مما يثبت به البيع، فالصيغة الأولى: الصيغة القولية، والصيغة الثانية: الصيغة الفعلية، وهي المعاطاة، سواء كانت من الطرفين أو من أحدهما، مثال كونها من الطرفين أن يضع المشتري الثمن ويأخذ السلعة، بحيث تكون السلعة معروفة الثمن، فهنا وقعت المعاطاة من الطرفين، ومثال المعاطاة من المشتري أن يقول البائع للمشتري خذ هذا الثوب بدرهم، فيضع الدرهم عند البائع ويأخذ الثوب، فهذه معاطاة من طرف واحد وهو المشتري، ومثال المعاطاة من البائع أن يقول المشتري أعطني هذا الثوب بدرهم، فيعطيه إيه من غير أن يقول قبلت، أو رضيت، فهذه معاطاة من البائع، فسواء كانت المعاطاة من الطرفين أو من أحدهما فهي جائزة، قالوا: لحصول المقصود بها من الدلالة على الرضا، وقد قال تعالى {إلى أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، والمقصود حاصل بالصيغة الفعلية كما هو حاصل بالصيغة الفعلية، قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يصح عنهم أنهم كانوا في تبايعهم يأتون بالصيغة القولية، قالوا: ولو ثبت لنقل نقلا شائعا فدل على أنهم كانوا يتعاملون بالمعاطاة، ثم لو ثبت شيء من الأدلة يدل على وجود القبول والإيجاب في شيء من عقودهم فإن غالب عقودهم إنما هي على صورة المعاطاة المتقدمة، قالوا: وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولو كانت الصيغة القولية شرطا في البيع لنقل لنا ذلك نقلا ظاهرا شائعا مشهورا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبينه للأمة بيانا واضحا إذ يتعلق بأمر مهم في حياتهم ألا وهو البيع، وعند الشافعية لا يصح البيع بالمعاطاة مطلقا، وعند الحنفية يصح في المحقرات فقط، والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية أن البيع بالمعاطاة جائز، فالخلاصة أن هناك صيغتان يثبت بهما البيع:(13/6)
الصيغة الأولى: الصيغة القولية: وهي صيغة الإيجاب والقبول، ويشترط أن يكون الإيجاب متقدما على القبول، إلا أن يكون القبول فعل أمر أو فعلا ماضيا مجردا عن الاستفهام ونحو ذلك، ويشترط ألا يكون هناك فاصل عرفا بينهما، ويشترط أن يقع القبول في نفس المجلس الذي وقع فيه الإيجاب، ويشترط أن يكون القبول موافقا للإيجاب.
الصيغة الثانية: صيغة المعاطاة، وهي الصيغة الفعلية، ويثبت بها البيع لدلالتها على الرضا.
قوله [ويشترط التراضي منهما]
سيذكر المؤلف شروط البيع وهي سبعة شروط لا يصح البيع إلا بها.
الشرط الأول: التراضي منهما.
قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما البيع عن تراض) (1) [جه 2185] ، فلا يصح البيع إلا بالتراضي بين الطرفين، ولذا قال المؤلف:
قوله [فلا يصح من مكره بلا حق]
بيع المكره لا يصح لعدم الرضا، فإذا انتفى الرضا فلا بيع صحيح، وهو مذهب الجمهور، وهناك قول آخر بأنه يحتمل الصحة وثبوت الخيار عند زوال الإكراه، وهو مذهب الأحناف بناء على أنه تصرف فضولي، ففي المسألة قولان، وقيد المؤلف ذلك بقوله (إلا بحق) فإن أكره بحق فإن البيع صحيح، كأن يكره السلطان أحدا على بيع شيء من ماله لوفاء دينه، فهذا الإكراه غير مؤثر في العقد، فالعقد صحيح.
__________
(1) - وهو في سنن أبي داود (3458) بلفظ: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض) ، وفي سنن الترمذي (1248) بلفظ: (لا يتفرقن عن بيع إلا عن تراض)(13/7)
وكره الحنابلة الشراء من المكره، وهذه المسألة تسمى بيع المضطر، مثال ذلك: رجل أكرهه السلطان على ضريبة من المال، فباع شيئا من ماله لبعض ليسدد الضريبة، فالشراء من هذا المكره مكروه، وقال شيخ الإسلام يجوز بلا كراهة، قال: لأن امتناع الناس من شراء ما يبيعه أشد ضررا عليه، لأنه متوعد بما يضره في نفسه أو أهله أو ولده إلا إن دفع ذلك المال الذي أكره عليه، فإذا امتنع الناس من الشراء منه كان في ذلك ضررا عليه، ولا دليل على الكراهة، بل الظاهر هو خلاف ذلك، وهو عدم الكراهية، فالصحيح جواز ذلك، إلا أن يكون في امتناعهم من الشراء زوال للإكراه عنه فيمتنعوا ليزول الإكراه.
* واعلم أن من المسائل التي تترتب على هذا الشرط بيع التقية أو بيع التلجئة، وهي أن يبدي المتعاقدان بيعا وهما غير مريدين له في الحقيقة، لكن من أجل التقية يريدان البيع، كأن يخشى ظالما فيظهر البيع على أحد من الناس وهما في الباطن غير مريدين للبيع، فهنا البيع باطل ولا يصح على ما بيناه، لعدم الرضا منهما، وقال الشافعية يصح البيع، والصحيح هو مذهب الحنابلة لما سبق من الأدلة، وهناك مسألة أخرى شبيهة بها وهي فيما إذا أظهرا ثمنا في العقد وهما يبطنان بينهما ثمنا آخر في السر، فإن العمدة على ما أبطناه لأن الرضا مرتبط به، فهما لم يتراضيا إلا على هذا الثمن الذي اتفقا عليه في الباطن، ومثل ذلك في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة وهو المشهور في المذهب خلافا لقول أبي الخطاب بيع الهازل غير الجاد، فلا يقع بيع الهازل، بل هو باطل، وذلك لانتفاء الرضا، فإن الهازل غير راض بالبيع لكن بشرط أن يكون هناك دليل أو قرينة تدل على الهزل في البيع، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) [ت 1184، د 2194، جه 2039] فدل على أن الجد جد والهزل هزل في سواهن.(13/8)
قوله [وأن يكون العاقد جائز التصرف]
هذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف.
والعاقد: يشمل البائع والمشتري، فيشترط أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف، وجائز التصرف هو: الحر المكلف الرشيد، وعليه فالعبد لا يصح تصرفه وذلك لأن ما في يده من مال لسيده فلا يصح أن يتصرف إلا بإذن سيده، وأن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا، كما يشترط أن يكون رشيدا، أي يحسن التصرف في ماله، ودليل ذلك قول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليه أموالهم} فقوله {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في بعض التصرفات المالية ليثبت لكم حسن تصرفهم في المال، وقوله {حتى إذا بلغوا النكاح} دليل على البلوغ، أي اشتراط البلوغ، وقوله {فإن آنستم منهم رشدا} أي ظهر منهم الرشد في التصرف، وهذا يدل على اشتراط العقل والرشد في التصرف، فإن غير العاقل لا شك أنه ليس برشيد، فهذه الآية دليل على اشتراط التكليف والرشد، فجائز التصرف هو الحر المكلف الرشيد، ولذا قال المؤلف:
قوله [فلا يصح تصرف صبي وسفيه]
الصبي لأنه غير بالغ، والسفيه لأنه ليس برشيد، وليس المراد بالسفيه غير العاقل.
قوله [بغير إذا ولي]
فلا بد من إذن الولي، وعلى هذا فيصح تصرف الصبي بإذن وليه، ويصح تصرف السفيه بإذن وليه، ويصح تصرف العبد بإذن سيده، أما العبد فظاهر، فإن صاحب المال هو السيد، وقد أذن له بالتصرف في ماله، وأما الصبي والسفيه فلقوله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، فهم لم يثبت بعد رشدهم، ومع ذلك قد أمر الله بابتلائهم واختبارهم وهذا لا يكون إلا بالإذن لهم بشيء من التصرف ليثبت رشدهم، فدل هذا على جواز تصرفهم بالإذن، وعن الإمام أحمد أنه يصح تصرفهم ويكون موقوفا على إجازة الولي، وهذا القول فيه قوة.(13/9)
ولكن ليس للولي أن يأذن لهم بما يكون فيه ضرر عليهم لأنه مؤتمن، بمعنى أن يأذن لهم في أمور يغلب على الظن نجاحهم فيها، وعدم خسارتهم فيها، وعدم لحوق الضرر بهم.
ويستثنى من ذلك أيضا الشيء اليسير عرفا كشراء بعض الأطعمة أو شيء من ذلك، فيجوز تصرف الصبي المميز وغير المميز والسفيه بغير إذن الولي، وذلك لأنه لا ضرر فيه عليهم، فلا بأس أن يتصرف الصبي أو السفيه بما هو يسير عرفا من غير إذا الولي، وهذا يختلف باختلاف البلدان والأزمان.
قوله [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة]
هذا هو الشرط الثالث: وهو أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة.
فهنا ثلاثة أوصاف:
1- النفع، وهذا احتراز مما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها.
2- أن تكون مباحة، وهذا احتراز من بيع المحرم كالخمر والخنزير والأصنام والصور والميتة ونحوها.
3- ألا تكون إباحتها لحاجة، فإن كانت لحاجة أو لضرورة أي أن الأصل أنها محرمة لكن أبيحت لحاجة أو ضرورة، فلا يجوز بيعها،كالكلب، فإنه يجوز اقتناؤه لحاجة، وكالميتة فإنه يجوز أكلها لضرورة، ومع هذا فلا يجوز بيعها، فإن اختل شيء من هذه الأوصاف الثلاثة لم يصح البيع.
قوله [كالبغل والحمار ودود القز وبزره]
دود القز الذي يستخرج منه الحرير، وبزره أي ولده، وذلك للمآل، فإنه ينتفع به في استخراج الحرير في المآل أي بعد تربيته، وهذا كله للتمثيل.
قوله [والفيل]
لأنه ينتفع به منفعة مباحة لغير حاجة.
قوله [وسباع البهائم التي تصلح للصيد]
كالفهد، فهو يصلح للصيد، فيجوز بيعه.
* وهل يجوز بيع الهر؟
1- قال جمهور أهل العلم يجوز ذلك.(13/10)
2- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب طائفة من التابعين واختاره شيخ الإسلام وابن القيم أن ذلك لا يجوز، ودليله ما ثبت في مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور - أي الهر - فقال: (زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك) [م 1569] أي نهى عنه، وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة التنزيهية لا الكراهة التحريمية، وأنه ليس من اللائق بيعه، ولكن هذا ليس بصحيح، إذا الأصل هو حمل النهي على ظاهره، وقد قرن بالكلب، والكلب محرم كما سيأتي، وهذا هو الراجح.
قوله [إلا الكلب]
فلا يجوز بيعه، وإن كان كلب صيد، وذلك لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود الأنصاري قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) [خ 2237، م 1567] وتقدم حديث جابر في مسلم، والنهي يقتضي التحريم، ولا فرق بين ما يجوز اقتناؤه ومالا يجوز اقتناؤه، وأما ما رواه النسائي في حديث جابر المتقدم وفيه (إلا كلب صيد) [ن 4295، 4668، وهو في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة (1281) وقال الترمذي عقب روايته للحديث:" قال أبو عيسى هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه وقد روي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولا يصح إسناده أيضا "، ويقصد بحديث جابر، حديثه الذي في سنن النسائي] فإن هذه اللفظ منكرة كما بين ذلك الإمام النسائي نفسه، وعليه فلا يجوز بيع الكلب مطلقا، وهو مذهب جمهور الفقهاء، فالكلب فيه منفعة مباحة لكن لحاجة، فيخرج من الضابط المتقدم.
قوله [والحشرات]
لأنه لا منفعة فيها، فلا يحل بيعها، وفي ذلك أكل للمال بالباطل.
قوله [والمصحف]
وشك أن إدخال المؤلف للمصحف بحرف العطف على هذه الصورة غير لائق، والذي ينبغي أن يفرده بجملة فيقول: ولا يصح بيع المصحف.(13/11)
وهذا هو المشهور في المذهب أنه لا يجوز بيع المصحف، وهو أحد الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد ثلاث روايات:
الأولى: وهي موافقة للمشهور من المذهب، وأنه لا يجوز بيع المصحف.
الثانية: أن ذلك جائز مع الكراهة، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي.
الثالثة: أن ذلك جائز بلا كراهة، وهو المشهور عند الأحناف.
واستدل القائلون بالنهي عن ذلك بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر أنه قال:" وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف " [المصنف 8 / 112، برقم 14525، وسنن البيهقي 6 / 16] وقال ابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق:" اشترها ولا تبعها " [المصنف 8 / 112، برقم 14521] ، قالوا: ولما في بيعها من ابتذالها، ولا يجوز ابتذال المصحف.
وأما القائلون بالجواز فقالوا: قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) [خ 5737] ، قالوا: فيدخل في عموم ذلك بيع المصحف، فإنه يأخذ أجرا على كتابته، فقد كتب المصحف وجلده، واشتغل بإصلاحه، قالوا: ولا ابتذال في بيعه، فإن بيعه لا يعني ابتذاله، نعم إن كان على الصور المبتذلة فلا يجوز ذلك، وأما مطلق البيع فإنه ليس فيه ابتذال، قالوا: ولعل كراهية الصحابيين - ابن عمر وابن عباس - إنما هو لخشية ابتذالهما، وقال بعض العلماء: لعل هذا النهي منهما لقلة المصاحف وقتئذ، فيكون بيعها بأسعار غالية مرهقة للناس، فأمر بإعطائها من غير بيع لها يرهق الناس، من أجل حصولهم على المصاحف، بخلاف الأزمنة المتأخرة التي كثرت فيها طباعة المصاحف، وأصبحت تباع بأسعار مناسبة، فحينئذ المعنى الذي من أجله كره ابن عمر وابن عباس بيع المصاحف غير موجود، وهذا هو الأصل، فإن الأصل في البيوع الحل، وأرجح الأقوال هو جواز بع المصحف، وهو رواية عن الإمام أحمد كما سبق، وهو مذهب الأحناف، لكن على وجه لا يبتذل.(13/12)
قوله [والميتة]
الميتة لا يجوز بيعها، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال - صلى الله عليه وسلم - لا هو حرام) [خ 2236، م 1581] ، وقوله (لا هو حرام) أي البيع، فبيع الميتة حرام، ولا يجوز ولو كان المشتري مضطرا لها، لكن إذا كان مضطرا لها ولم يعطاها إلا ببيع فله أن يشتريها فدعا للضرورة، فإنه إذا جاز أن يأكلها دفعا للضرورة فأولى من ذلك أن يشتريها دفعا للضرورة.
كذلك في المصاحف على القول بتحريم بيعها، فيجوز للمحتاج إلى المصحف أن يشتريه من بائعه، لأنه محتاج إليه، فجاز الشراء إذا لم يعطاه إلا ببيع.
قوله [والسرجين النجس]
السرجين: هو ما نسميه بالسماد، وهو ما يوضع لإصلاح النبات، فالسرجين النجس يحرم بيعه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: (أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام) فدل على أن النجس لا يجوز بيعه، ومن ذلك السرجين، أما الانتفاع به فجائز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم أقرهم على الانتفاع به، ونهاهم عن البيع.
وتقييد المؤلف له بـ (النجس) يدل على أن السرجين الطاهر يجوز بيعه كروث الإبل والبقر والغنم وغيرها من مأكول اللحم، فإن روثه طاهر، وعليه فيجوز بيع السرجين الطاهر لأن فيه منفعة.
قوله [والأدهان النجسة والمتنجسة](13/13)
فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها لما تقدم: لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شحوم الميتة فقال: (لا هو حرام) ، وقوله (المتنجسة) فالأدهان النجسة والمتنجسة لا يجوز بيعها، والفرق بينهما أن الأدهان النجسة هي النجسة بأصلها، أما المتنجسة فهي التي طرأت عليها النجاسة، كدهن طاهر وقعت فيه نجاسة، فالأدهان المتنجسة يحرم بيعها على المذهب، وهذا بناء على أن الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره، وتقدم أن المائعات تطهر ويمكن تطهيرها، وعليه فيجوز بيعه، أي المتنجس، لإمكان تطهيره، وقد سبق هذا في كتاب الطهارة، وعلى هذا فالراجح أن الأدهان المتنجسة لا حرج في بيعها.
قوله [ويجوز الاستصباح بها]
أي بالمتنجسة لا النجسة، والاستصباح بها أي جعلها مادة لاشتعال النار في المصابيح، فيجوز على هذا استعمال الأدهان المتنجسة دون النجسة في الاستصباح، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب الحنبلي، وقول في المذهب الشافعي جواز ذلك، وأنه لا حرج فيه، فيجوز الاستصباح بالأدهان النجسة، ودليل ذلك ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في شحوم الميتة (لا هو حرام) أي البيع، وأقرهم على الانتفاع بها كما تقدم، فدل هذا على جواز الانتفاع بالدهن النجس أو المتنجس، أما الأكل فإنه محرم، وأما الانتفاع بها في غير ما نهى الشارع عنه فهو جائز.
قوله [في غير مسجد](13/14)
فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير المسجد، وذلك لأن الدخان يتحلل من هذا الدهن المتنجس فيكون في المسجد، والمسجد يجب أن يصان من النجاسات، فليست العلة أنه نجس موضوع داخل الإناء، فإن هذا لا يؤثر، فهذا يشبه النجاسة الباطنة في بدن الآدمي، لكن عندما يوقد فإن الدخان يتحلل منه فيكون في جو المسجد شيئا نجسا، والواجب أن يطهر المسجد من كل النجاسات، والراجح هو أن هذه المسألة مبينة على مسألة سابقة وهي أن ما يتحلل من النجاسة ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالمتحلل من النجاسة ليس بنجس، وعليه فإن الدهان المتحلل من هذا النجس أو المتنجس ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، فهو دخان وليس دهنا، وعليه فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في المساجد، ومثل ذلك على الراجح الأدهان النجسة.
قوله [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه]
هذا هو الشرط الرابع: وهو أن يكون التصرف من مالك أو من يقوم مقامه.
أي أن يكون التصرف من مالك للسلعة والثمن أو من يقوم مقامهما، والذي يقوم مقامهما إما ولي أو وصي أو وكيل أو ناظر.
فالوكيل: هو النائب عن الحي.
والوصي: هو النائب عن الميت.
والناظر: للوقف خاصة.
والولي: هو القائم على من لا يجوز تصرفه بماله كاليتيم.
ودليل ذلك ما ثبت في المسند وهو عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث حكيم بن حزام أن قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق قال: لا تبع ما ليس عندك) [حم 14887، 14888، ت 1232، ن 4613، د 3503، جه 2187] ، فدل على أن البيع لا يصح إلا من مالك أو من يقوم مقامه.
قوله [فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله بغير إذنه لم يصح](13/15)
وهذا ما يسمى بتصرف الفضولي، فإذا باع ملك غيره بغير إذنه، كأن يبيع عمرو مالا لزيد بغير إذن زيد، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه، كأن يكون عنده دنانير أو دراهم لزيد فاشترى سلعة من السلع لزيد، فإن هذا التصرف يسمى تصرف الفضولي، ولا يصح، وعليه فالبيع باطل، وهذا هو مذهب الشافعي والحنابلة، واستدلوا بحديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ، وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى صحة البيع بشرط الإجازة، فإذا أجازه بأن قبل البيع أو الشراء فإن البيع يكون لزيد، وإن لم يقبل ذلك فإن البيع يبطل، وهذا القول هو الراجح، ودليله ما رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح) [حم 18867، خ 3643، جه 2402، د 3384، ت 1258] وهذا هو تصرف الفضولي، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجازه على ذلك وأقره، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن بيع الفضولي وإن كان البيع من غير المالك فإنه بيع صحيح لكنه موقوف على الإجازة، ويلزم بشرط الإجازة من صاحب المال، فإن لم يجزه فإن البيع يبطل، ويجاب عن استدلال أهل القول الأول بحديث حكيم بأن حديث عروة يصح أن يكون مخصصا للمسألة السابقة، وأن من باع ما لا يملك فإنه يتوقف اللزوم على إذن المالك، والمعنى يدل على هذا، فإن المنع إنما هو لحق المالك، وحيث أجازه فقد أسقط حقه ورضي به.
قوله [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا](13/16)
بمعنى أنه عقد صفقة ذكر فيها الثمن، وهو ينوي أن تكون السلعة لغيره، ولم يسمه في العقد، ولم يكن بعين مال ذلك الغير، مثاله: رجل اشترى بيتا، ونوى أن يكون لزيد، وقال: اشتريته بعشرة دنانير، وكانت هذه العشرة في الذمة، وليست بعين مال زيد، ولم يسم زيدا في العقد، فإنه يصح له بالإجازة، وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا، فيصبح هذا المبيع له إن أجاز، وإلا لزم الفضولي فيكون ملكا له.
وقول المؤلف هنا: (ولم يسمه) ظاهره أنه لو سماه فقال اشتريت هذه الدار لزيد بعشرة دنانير، فإن المسألة تكون كالمسألة السابقة فلا تصح مطلقا، وهذا هو المشهور من المذهب، وظاهر كلام صاحب المقنع أنه إذا سماه في العقد فكذلك وهو الظاهر، فيرجع فيه إلى إجازة من اشترى له في الذمة سماه أو لم يسمه، فإن أجازه كان ملكا له، وإلا فإنه يلزم المشتري.
* مسألة:
إن وكل رجلين في بيع سلعة، فباع كل واحد منها بثمن مسمى فالبيع للأول، لأن الوكيل الثاني زالت وكالته بانتقال ملك الأول عن السلعة، وصار بائعا ملك غيره بغير إذنه.
قوله [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر]
هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وغيرهم، فهو مذهب جمهور العلماء، أن ما فتح من الأرض عنوة فأوقفه الإمام على المسلمين فإن بيع الأراضي لا يجوز، وإنما يجوز بيع المساكن وكذلك إجارتها، وهذه كأرض مصر والشام والعراق مما أوقفه أمير المؤمنين عمر على المسلمين، ولم يقسمه بين الناس فكان وقفا، وقد أجمع العلماء على أن بيع المساكن وإجارة البيوت فيما فتح عنوة أنه جائز ولا بأس به، قالوا: وهؤلاء الصحابة لما سكنوا هذه البلاد كانوا يبيعون المساكن من غير نكير فكان ذلك إجماعا، وما زال المسلمون يتبايعون مساكن أراضي العنوة فلا نكير فكان ذلك إجماعا، قالوا: وإنما الأرض لا يجوز بيعها لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب.(13/17)
وقال الأحناف: بل يجوز بيع الأراضي أيضا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام، وذلك لأن الوقف فيها ليس كالوقف الذي لا يجوز بيعه، بل هو وقف عام، يقصد منه إعطاء من كانت بيده الخراج عليها، فالمقصود أن من كانت بيده ينتفع بها فإنه يعطي بيت المال خراجها، ولذا جاز فيها التوارث، مع أن الوقف لا توارث فيه، وهذا القول هو الراجح، قال شيخ الإسلام:" وعليه عمل الأمة " ا. هـ، فالصحيح أن أراضي العنوة كأراضي مصر والشام والعراق يجوز بيعها، كما يجوز بيع المساكن وإجارتها.
* مسألة:
الصحيح من أقوال أهل العلم أن مكة قد فتحت عنوة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) [خ 104، م 1354] لكن اختلف العلماء في رباع مكة، هل يجوز بيعها وإجارتها أم لا يجوز؟ والمراد بالرباع: المنازل.
القول الأول: وهو مذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والحنابلة أن ذلك لا يجوز، فالبيع والإجارة غير جائزين، بل صاحب المنزل أحق به ما دام محتاجا إليه، فإذا استغنى عنه فليس له أن يبيعه ولا أن يؤجره، واستدلوا بما رواه الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مكة كلها حرام، وحرام بيع رباعها وحرام أجرته) [كم 2 / 35] ونحوه عند سعيد بن منصور في سننه عن مكحول مرسلا، قالوا: ومكة حريم البيت الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد تحجيره، وعليه فإن احتاج ما في يده سكنه، وإلا بذله للمحتاج إليه.(13/18)
القول الثاني: وهو قول الشافعية، أنه يجوز بيعها وإجارتها، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قال: (يا رسول الله أين تنزل غدا إن شاء الله - وذلك زمن الفتح - قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل) [خ 4283، م 1351] وفي رواية: (من رباع أو دور) [خ 1588، م 1351] ، فدل هذا على أن عقيلا تصرف فيها ببيع، وكذلك قال: (هل ترك لنا) فدل على أنها لو تركت لكانت له ولقرابته، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) [م 1780] وذلك ما دخل مكة، فأضاف الدار إليه، والأصل أنها إضافة ملك، قالوا: وأما ما استدللتم به فالحديث الذي رواه الحاكم فيه عبيد الله بن زياد وهو ضعيف، وأما الثاني فهو مرسل، والمرسل ضعيف، فلا يعارض بهما ما استدللنا به.(13/19)
القول الثالث: وهو الوسط، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز بيع الرباع ولا تجوز إجارتها، فالبيع جائز لأنها ملك له بدلالة الحديثين الذين استدل بهما الشافعية، وأما الإجارة فمحرمة، قالوا: لما في ذلك من التضييق على الحجاج والزائرين، فمكة دار منسك، والذي يأتيها ممن يحتاج إلى استئجار فيها إنما هو في الغالب الحجاج والزائرين، قالوا: وقد قال عمر - رضي الله عنه - كما صح ذلك عند في مصنف عبد الرزاق وقد ثبت ذلك عنه من غير ما وجه أنه قال:" يا أهل مكة لا تضعوا على بيوتكم أبوابا حتى يدخل البادي " [مصنف عبد الرزاق 5 / 147، برقم 9211] والبادي: هو من أتى من خارج الحرم، وهذا الأثر يدل على أنهم ليس لهم أن يمنعوا البادي من سكنى لا يحتاجون لها، وهذا القول هو الراجح، فلا يحل لأحد أن يؤجر فيها لقول عمر، وقول الصحابي يخصص عموم الأدلة ولما في ذلك - أي في إجازة الإجارة - من التضييق على الحجاج والزائرين، وأما البيع فجائز لأنها ملك لأصحابها، والأصل في البيوع الجواز، ولما استدل به الشافعية من الأحاديث وقد تقدمت، لكن إن رأى الإمام أن المصلحة تقتضي الإذن بالإجارة فلا بأس، كأن يرى أن أهل مكة لا يصلحونها للسكنى إلا بالإجارة فلا بأس أن يأذن لهم فيها.
قوله [ولا يصح بيع نقع البئر]
إذا حفر رجل بئرا، فسقى منه بهائمه وزرعه، وفضل من ذلك فضل زائد عن حاجته فليس له أن يبيعه، وبيعه محرم، والمال الذي يكسبه منه محرم، لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقد ثبت في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) [حم 2956، د 3488، بلفظ: (وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) ، وفي الصحيحين: (قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) ](13/20)
ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع فضل الماء) [م 1565] ، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ) [خ 2354] ، وظاهر الحديثين العموم سواء كانت البئر والعين في أرض مملوكة له أو في أرض غير مملوكة له، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار) [د 3477 بلفظ: (المسلمون شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار) ] وثبت في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار) [جه 2473] ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة) [حم 6635] فلا يجوز لأحد أن يمنع غيره فضل مائه، لكن إن حازه فوضعه في ظرف أو جعله في ساقية أو بركة ونحوه فله بيع هذا الماء، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) [خ 1471، م 1042] فدل هذا على أن الحطب - وهو من الكلأ وهو مما لا يجوز بيع فضله - إذا جز ثم وضع في حبل فكان حزما فإنه يجوز بيعه، وكذلك الماء، وليس له أن يمنع أحدا من أن يدخل أرضه ليأخذ من الماء الفاضل عن حاجته، وذلك لأنه حق لهذا الداخل فليس له منعه، إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليه كأن يكون في محل محوط، ويكون فيه شيء من أمواله، ويخشى عليها من الضياع أو السرقة، فحينئذ له أن يمنع الناس ليحتاط لماله وعوراته، فلا يلزمه نفع غيره بضرر نفسه.
* مسألة:
هل يملك نقع البئر بملك الأرض؟
قولان هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه لا يملك لإطلاق الأدلة.(13/21)
قوله [ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك]
كذلك ما نبت في أرضه من عشب أو شجر أو كلأ أو شوك، فإنه لا يحل له أن يمنع غيره منه للحديث المتقدم (الناس شركاء في ثلاث) وهو أحق به لكونه في أرضه، وليس له أن يبيع فاضله، وليس له أن يمنع أحدا من الناس من فضله، لكن إن كان ذلك الكلأ لا يكفيه فله منع الناس منه، واستثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما إذا قصد استنباته لأن له عملا فيه، كأن يحرث أرضه للكمأة.
قوله [ويملكه آخذه]
إذا أخذ الماء أو الكلأ فإنه يملكه بأخذه، وحينئذ يجوز له أن يتصرف فيه كما شاء.
قوله [وأن يكون مقدورا على تسليمه]
هذا هو الشرط الخامس من شروط البيع: وهو أن يكون المبيع مقدورا على تسليمه.
ويدل لهذا الشرط حديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الغرر) [م 1513] ، وكون البائع يبيع شيئا وإن كان ملكا له لكن لا يقدر على تسليمه فإن هذا غرر، وقد نهى عنه الشارع، وقد باع ما ليس عنده، فليس هذا المبيع مقدورا على تسليمه وقد مثل لهذا المؤلف فقال:
قوله [فلا يصح بيع آبق]
الآبق: هو العبد الهارب من سيده، فلا يجوز أن يبيعه لأنه غير مقدور على تسليمه.
قوله [وشارد]
هو الجمل الشارد، فلا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه.
قوله [وطير في الهواء]
لأنه غير مقدور على تسليمه.
قوله [وسمك في ماء](13/22)
والعلة في ذلك قد تقدمت، ظاهر كلام المؤلف وإن كان المشتري قادرا على تحصيله، فإنه لا يجوز، كأن يبيع العبد الآبق على من يقدر على تحصيله، ويكون ذلك مع الفسخ إن عجز عن الحصول عليه، فظاهر كلام المؤلف النهي عن هذا، وهو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة وهو قول لبعض الحنابلة وهو صاحب الإنصاف أن بيع غير المقدور على تسليمه للقادر على تحصيله جائز، وإن عجز عنه فله الفسخ، لأنه لا غرر في هذا، وهذا القول هو الراجح، فإنه لا غرر في ذلك، حيث باعه شيئا يمكنه أن يحصله، وعلى هذا فغير المقدور على تسليمه قسمان:
1- غير مقدور على تحصيله، فهذا لا يجوز بيعه قولا واحدا.
2- مقدور على تحصيله، فهذا يجوز في أصح القولين.
وقياسا على بيع المغصوب على من يقدر على أخذه من غاصبه، فسيأتي كلام المؤلف في جوازه، فكذلك هنا، فإن المقدور على تحصيله وهو غير موجود يشبه المغصوب، فكلاهما غير مقدور على تسليمه، ومقدور على تحصيله.
وتقييد المؤلف في قوله (وطير في هواء وسمك في ماء) هذا حيث كان لا يقدر على تسليمه، أما إذا كان يقدر على تسليمه ولو بمشقة فإن ذلك جائز، كأن يكون الطير في برج مغلق يمكن أن يسمك به فيه لكن مع المشقة، أو يكون السمك في موضع محصور، فهذا يقد على تسليمه، فيجوز بيعه، حتى مع وجود المشقة، وعلى هذا إذا كان يقدر على تسليمه بمشقة فإن ذلك جائز.
قوله [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه](13/23)
المغصوب لا يجوز بيعه، لاختلال هذا الشرط، وهو القدرة على التسليم، فإن غير المقدور على تسليمه فيه غرر، واستثنى المؤلف أن يبيعه على غاصبه، فإن باعه على غاصبه فإنه يجوز، لكن بالشروط المتقدمة، ومنها شرط الرضا، أما إذا كان مكرها ملجئا إلى ذلك فلا يجوز، واستثنى بيع المغصوب على القادر على أخذه، كالأمير ونحو ذلك، فذلك جائز لأن المشتري لا غرر عليه، ويثبت له الفسخ، لأننا إذا أثبتنا البيع عليه بدون فسخ كان في هذا غررا، فقد يحصله وقد لا يحصله، فيكون حينئذ معرضا للخسارة، فيكون في ذلك غرر ظاهر.
قوله [وأن يكون معلوما برؤية أو صفة]
هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوما.
لأن بيع المجهول فيه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، كما نهى عن بيع حبل الحبلة كما في الصحيحين [خ 2143، م 1514] وهو نتاج النتاج للجهالة كما سيأتي، فعليه يشترط أن يكون المبيع معلوما بأي طريق من طرق العلم، وذكر المؤلف هنا الرؤية والصفة.
أما الرؤية فيرى إما رؤية كاملة أو يرى بعضه الدال عليه، كأن يرى ظاهر الصرة - كومة الطعام - الذي يستدل به على الطعام نفسه، أو يرى وعاء التمر فينظر في أعلاه فيستدل بأعلاه على أسفله، ويستدل بظاهر الصرة على باطنها، فهذا جائز.
ويشترط أن تكون الرؤية مقارنة للبيع أو سابقة له بزمن لا تتغير فيه السلعة تغيرا ظاهرا غالبا، كالدور والعقارات والمركوبات، وإن كان تغيرا يسيرا يعفى عن مثله فهذا لا بأس به، ولا يؤثر، وذكر المؤلف الرؤية ومثلها الشم والذوق ونحوها من طرق المعرفة، فالطيب يعلم بالشم، وبعض المطعومات تعرف بالتذوق، كالعسل والسمن ونحو ذلك، وعليه فالشرط أن يعرف السلعة، أي يعرفها معرفة لا يلحقه بها غرر.(13/24)
أما الصفة فهي أن يوصف له المبيع وصفا منضبطا بما يؤثر في اختلاف الثمن، أي بالوصف المؤثر في الثمن، ودليل جواز بيع الموصوف في الذمة جواز بيع السلم، وسيأتي الكلام عليه، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، ولأنه يحصل به العلم ولا غرر فيه.
قوله [فإن اشترى ما لم يره]
فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له لم يصح، لاختلال هذا الشرط، فإن المبيع غير معلوم، إذا لم يره، ولم يوصف له.
* مسألة:
إن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، لكن ذكر له جنسه، كأن يبيع عليه سيارة بعشرة آلاف، ولم يرها ولم توصف له، فعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام في موضع وضعفه في موضع آخر كما في الاختيارات أنه يصح، وعليه فله الخيار إن رآه، فإن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، والحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة، والضرر مدفوع بالخيار، ويكون النماء من العقد.
قوله [أو رآه وجهله]
أي رأى المبيع لكنه قد جهل ما هو، كأن يرى وعاء من طعام، فيباع الطعام في هذا الوعاء، فلا يدري نوعية الطعام الذي في الوعاء، ولا قدره، فإن ذلك لا يجوز للجهالة أيضا، وقوله (ولم يره) يغني عن هذه الجملة فإن فيها تكرارا، فالمقصود بالرؤية رؤية المبيع.
قوله [أو وصف له بما لا يكفي سلما لم يصح]
هذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي أنه يصح بما لا يكفي سلما، وهذه المسألة متعلقة بمسألة يأتي فيها البحث في باب السلم، وأن من شروط السلم صفته، وسيأتي الكلام عليه في بابه، والضابط المقصود في هذا الباب أنه متى وصف بوصف منضبط يعلم به المبيع فإن البيع صحيح.
قوله [ولا يباع حمل في بطن](13/25)
للجهالة، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع حبل الحبلة) أي نتاج النتاج، بمعنى أن نبيع نتاج نتاج بهيمة الأنعام، وفي مسند البزار والحديث حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المضامين والملاقيح) [مجمع الزوائد 4 / 104، الطبراني في الكبير 11 / 230، برقم 11581] ، والمضامين ما في بطون الأنعام، أي الحمل، والملاقيح ما في ظهور ذكورها، وقد: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل) [خ 2284] أي عن نزوه، فإن بيع نزوه لا يجوز، فذلك كله بيع محرم.
إذن لا يجوز بيع الحمل في البطن، ومثله الأمة فلا يجوز بيع حملها وهو في بطنها وذلك للجهالة والغرر.
قوله [ولبن في ضرع منفردين]
بيع اللبن في الضرع لا يجوز لما فيه من الغرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها، ولا اللبن في الضروع " [مصنف بن أبي شيبة 5 / 222، كتاب البيوع - بيع اللبن في الضروع] ورواه البيهقي مرفوعا ولا يصح [سنن البيهقي 5 / 340] والصواب وقفه على ابن عباس.(13/26)
وقوله (منفردين) أي لا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الشرع منفردين، أما لو باع الأم وحملها، والبهيمة ولبنها، فذلك جائز لأنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، فبيع اللبن في الضرع منفردا لا يجوز، واستثنى شيخ الإسلام خلافا لجمهور العلماء بيع اللبن الموصوف في الذمة وإن شرط المشتري أن يكون من بقرة أو غنمة معينة، فإذا اشترى من صاحب غنم لبنا موصوفا في الذمة من غنمة أو بقرة معينة فذلك جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، وهو كما قال، فإنه لا غرر فيه، فإذا أعطاه اللبن الموصوف في الذمة أعطاه ثمنه، وإلا فسخ البيع، واستثنى أيضا ما يوجد في هذا الزمان من استئجار البقر أو الغنم أو الإبل وقت الدر، فتستأجر للبنها، فهذا جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، فإن قيل: قد لا تدر عليه شيئا؟ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغالب أنها تدر، وكونها لا تدر هذا شيء نادر، فلا يترتب على مثله غرر، كاستئجار الأرض لغرسها وزرعها، فإنها قد لا تنبت، ومع ذلك فإنه يجوز استئجارها لأن الغالب هو أن يخرج زرعها وشجرها، وقياسا على الظئر وهي المرضعة، وذكر شيخ الإسلام هذا قولا لبعض أهل العلم، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر لما تقدم إذ لا غرر فيه، فعليه لا يجوز بيع اللبن في الضرع إلا في الصورتين التين استثناهما شيخ الإسلام.
والذي نهي عنه إنما هو بيع الموجود في الضرع لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه يخلفه غيره على وجه لا يتميز به ما وقع عليه البيع عما لم يقع عليه، فيكون في ذلك غرر.
قوله [ولا مسك في فأرته](13/27)
الفأرة: هي الوعاء، أي ولا مسك في وعائه، والمسك معروف وهو نوع من الطيب بل هو أفضل الطيب، فالمسك لا يجوز أن يباه في وعائه الذي خلق فيه، لما في ذلك من الغرر، فإن قدر المسك وكميته مجهولة، فيكون في ذلك غرر، واختار ابن القيم ووجهه صاحب الفروع وجها واحتمالا في المذهب أن ذلك جائز، قال ابن القيم: لأن أهل الخبرة يعرفون باطنه بظاهره، فإنهم يستدلون بمعرفة الظاهر على الباطن، ولأن اشتراط الرؤية بإزالة وعائه عنه يعرضه إلى شيء من الفساد، بذهاب شيء من رائحته ورطوبته، وما ذكره ابن القيم ظاهر في هذا وهو الراجح (وفصل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة فقال: إن بيع على أهل الخبرة فجائز، وإن بيع على غيرهم فلا يجوز، فإن الغرر يزول ببيعه على أهل الخبرة دون غيرهم) ، والراجح ما تقدم وعلى ذلك فبيع الذهب في الأرض أو النفط في الأرض أو نحو ذلك على قول ابن القيم يجوز، لأن أهل الخبرة يستدلون على معرفة ما في الباطن بما عندهم من الآلات والأجهزة، وعلى المذهب فإن ذلك محرم، والصواب أنه جائز.
قوله [ولا نوى في تمره]
فالنوى فيه منفعة مباحة لغير حاجة، فإنه قد يطعم، وقد يستخدم لبعض الاستخدامات، لكن في مثل هذا الزمن ثبت أنه لا قيمة له، فإن بيعه محرم، لأنه في الحقيقة لا قيمة له، إلا أن يكون مطعوما للدواب ونحوها فذلك جائز، والمقصود أن بيعه في التمر منهي عنه، لما في ذلك من الغرر، إذ لا يدري قدر النواة، وهل هي صغيرة أم كبيرة، والراجح جوازه لأن أهل الخبرة يعرفون ذلك، فهم يعرفون قدر النواة المعتاد من كل نوع من أنواع التمر، فلا يكون في ذلك غرر، والمشهور في المذهب أن بيعه لا يجوز وهو في تمره، أما إذا استخرج فإن ذلك جائز لمنفعته.
قوله [وصوف على ظهر](13/28)
فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، لما في ذلك من الغرر، وذلك لأنه يزداد نموا فيكون في ذلك غرر، وقد تقدم الأثر عن ابن عباس في هذا، وقوله:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها "، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول لبعض الشافعية أن ذلك جائز بشرط أن يجز في الحال، وهذا هو الراجح لأنه إذا جز في الحال فلا غرر.
قوله [وفجل ونحوه قبل قلعه]
أي من أنواع الحضروات التي يكون مأكولها في باطن الأرض ولا يظهر منها إلا شيء من الورق ونحوه مما ليس بمطعوم كالبصل والفجل ونحوها، فهنا قال: لا يجوز بيعه قبل قلعه، وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية أن ذلك جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن أهل الخبرة يستدلون بما يظهر منه فيعرفون الباطن، ولأن اشتراط ذلك سبب في إفساده، وعليه فيجوز بيع هذه الأطعمة، وعلى تفصيل الشيخ عبد الرحمن المتقدم يقال: بيعها على غير أهل الخبرة لا يجوز، لما فيه من الغرر.
واتفق أهل العلم على أن المطعومات التي هي في وعاء ويؤدي اشتراط رؤية ما في باطنها إلى فسادها فإن بيعها في وعائها جائز، كبيع الرمان ونحوه، فإن اشتراط رؤية ما في داخلها يفسدها فيجوز باتفاق أهل العلم بيعها وهي في وعائها.
قوله [ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة](13/29)
وهذه المسألة محل اتفاق بين العلماء، والملامسة: أن يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، أو نحو ذلك، والمنابذة أن يقول: أي ثوب نبذته عليك فهو لك بكذا، ونحوه كأن يقول ما طرحته عليك من السلع فهو علي بكذا ونحوه، فهذا البيع محرم وباطل باتفاق أهل العلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الملامسة والمنابذة) [خ 5819، م 1511] وهو من الغرر وقد نهى الشارع عن الغرر وبيع الجهالة، ومثل ذلك بيع الحصاة، ففي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحصاة) [م 1516] كأن يقول ارم بهذا الحصاة على أي سلعة أو على أي شاة أو نحو ذلك فهي لك بكذا، أو ارم بهذه الحصاة من موضعك فإلى أي مسافة وقعت من الأرض فهي لك بكذا ونحو ذلك، وهذا أيضا غرر وجهالة.
قوله [ولا عبد من عبيده ونحوه]
كأن يقول أبيعك عبدا من عبيدي أو شاة من شياهي أو أرضا من أراضي أو نحو ذلك، فلا يجوز ذلك للجهالة، فإن العبيد تختلف أسعارهم وكذا الشياة وكذا الأراضي، فيكون فيه جهالة، وظاهر كلام أبي الخطاب من الحنابلة أن القيمة إذا تساوت فإن ذلك جائز، فإذا كان عنده قطيع من الغنم كل شاة فيه تساوي مائة درهم، فقال: أبيعك شاة من هذه الشياة بمائة درهم، فلا بأس بذلك، إذ لا غرر، أو قال: أبيعك سيارة من هذه السيارات أو خيلا من هذه الخيول بكذا، وكانت السلع متساوية القيمة، فهذا جائز، وما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر إذ لا جهالة ولا غرر، إلا أن يكون لهذا المشتري غرض صحيح كأن يكون غرضه شاة حاملا أو شاة سمينة وهو يريد الذبح، وهي متساوية القيمة لكن هذه شاة حامل، وهذه شاة سمينة، وهو له قصد في الذبح أو له قصد في النماء أو نحو ذلك فحينئذ لا يجوز للجهل، إذ يفوت مقصوده حيث أعطي غير ما يريد فيكون في ذلك جهالة.(13/30)
إذن ما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر حيث تساوت القيمة ما لم يكن هناك غرض صحيح له، كما سبق، وينبغي أيضا جواز ما كان الغرر فيه يسيرا كما إذا كانت القيم متقاربة.
قوله [ولا استثناؤه إلا معينا]
فإذا قال أبيعك هذا القطيع من الغنم إلا بعضه، لم يصح، لأنه لا يدري قدر هذا القطيع، ولا يدري هل هو كثير أم قليل، وحينئذ تثبت الجهالة والغرر، ولذا ثبت في السنن بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المحاقلة والمزابنة وعن الثنيا إلا أن تعلم) [ت 1290، ن 3880، د 3405، وأصله في مسلم دون قوله (إلا أن تعلم) ، م 1536] أي عن الاستثناء إلا أن يعلم.
وعلى هذا فإن علمت الثنيا - أي الاستثناء - فإن ذلك جائز، كأن يقول بعتك هذا القطيع إلا هذه الشاة، فحينئذ لا جهالة ولا غرر.
فإن قال: بعتك هذه الشياة إلا شاة، فتعود المسألة السابقة:
فإن كانت القيم مختلفة فلا يجوز للغرر.
وإن كانت القيم متساوية فننظر هل لهذا المشتري غرض صحيح في شيء منها، فإن كان له غرض صحيح فلا يصح للجهالة، وإن لم يكن له غرض كأن يكون هدفه التجارة، والقيم متساوية فحينئذ يصح البيع كما تقدم.
قوله [وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجدله وأطرافه صح، وعكسه الشحم والحمل](13/31)
إذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها، أو جلدها، أو شيء من أعضائها فهذا جائز، وذلك لأن المستثنى معلوم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثنيا إلا أن تعلم، والثنيا هنا معلومة، وحينئذ فإذا تم البيع فإن ذبح هذه الشاة فإن الآخر يأخذ ما استثناه، وإن أبى أن يذبحها فإنه يعطيه قيمتها، وعلى هذا فاستثناء شيء ظاهر من الحيوان المأكول اللحم جائز، وعكسه الشحم والحمل، فالشحم لا يجوز استثناؤه، لأنه مجهول، فلا يدري قدره، هل هو قليل أم كثير، فإنه ليس بمشاهد، وعليه فإن قدره كأن يقول لي من شحمها كذا، فإن هذا جائز، إذ لا جهالة فيه، لكن إذا أطلق فقال: إلا شحمها، فلا يجوز لأن الشحم غير معلوم القدر، وكذلك الحمل، فإذا باعه شاة حاملا فقال: أبيعك هذه الشاة إلا حملها فلا يجوز، وهذا هو المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول إسحاق أن ذلك جائز، وأن الصفقة إنما وقعت على شاة لا حمل فيها، فكأنه يقول: إن الحمل لا أبيعك إياه، وإنما أبيعك شاة خالية من الحمل، فأقدرها لك على أنها لا حمل فيها، فلم يقع البيع على الحمل بل هو استبقاء للحمل في ملكه، فلا يكون من باب بيع الحمل، وعلى هذا لو قال: بعتك هذه الشاة إلا حملها فإن ذلك جائز، وهذه الرواية عن الإمام أحمد أصح من الرواية المشهورة عنه.
قوله [ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ]
وهذه المسألة محل وفاق، ومثل ذلك البيض، فما يكون مأكوله في جوفه يجوز بيعه من غير رؤية، لأن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، ولأن النظر في الطعام وهو في جوف قشره فيه إفساد له، فيكون ذلك جائزا لا حرج فيه، فإن خرجت فاسدة فلا رجوع في البيع ما لم يكن هناك شرط في ذلك.
قوله [وبيع الباقلاء ونحو في قشره](13/32)
وكذلك يجوز بيع الباقلاء وهو الفول ونحوه كالحمص والجوز واللوز، فهذه المأكولات التي تكون ذات لب وقشر لا يشترط في بيعها النظر في لبها، بل تباع في قشرها من غير أن ينظر في اللب، لما تقدم من دعاء الحاجة إلى ذلك، ولأن في إزالة القشر إفسادا لها.
قوله [والحب المشتد في سنبله]
ويجوز بيع الحب المشتد وهو ما زال في سنبله، وذلك لما ثبت في سسن الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحب حتى يشتد) [ت 1228، د 3371، جه 2217، ونحوه في الصحيحين] ظاهره أن بيعه إذا اشتد جائز مطلقا، ولو كان في سنبله.
قوله [أن يكون الثمن معلوما]
هذا هو الشرط السابع من شروط البيع: أن يكون الثمن معلوما.
والثمن ما دخلت عليه الباء، وهو في الغالب من النقدين، وقد تقدم أن المبيع يشترط أن يكون معلوما، فكذلك الثمن، لأن الثمن هو أحد العوضين الذين وقع عليهما عقد البيع، فكما أن المثمن يشترط فيه العلم، فكذلك يشترط في الثمن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، واختار شيخ الإسلام صحة البيع وإن لم يسم الثمن وله ثمن المثل كالنكاح، ثم قال المؤلف مرتبا على ذلك:
قوله [فإن باعه برقمه..... لم يصح](13/33)
أي إن قال: أبيعك هذا الثوب بالرقم المكتوب عليه، فعليه ورقة مكتوب فيها السعر، يقول المؤلف هذا لا يصح، قالوا: لأن الرقم مجهول، سواء كان مجهولا للبائع أو للمشتري أو مجهولا لهما، أما البائع فقد يكون لا يحيط بأسعار السلع التي عنده أو أن تكون هذه السلعة جديد حضورها، وقد كتب البائع عليها سعرها، وأما المشتري فجهالته ظاهرة بالرقم المكتوب على هذه السلعة، قالوا: فلا تجوز للجهالة، وعن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام أن ذلك جائز، قال: لأن الرقم المكتوب على السلعة هو الثمن الذي يشتري به الناس، أي قد رضي الناس بهذا الشراء، وبهذا الثمن، وحينئذ فإن هذا المشتري يسعه ما يسع الناس، فإنه يرضى بما يرضى به الناس، وهذا أمر ظاهر، فإن المشتري يرضى في الغالب بالسعر الذي يشتري به الناس، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر، حيث ثبتت هذه العلة التي ذكرها وهي حيث كان الرقم مما يشتري به الناس، وهذا إنما يكون في السلع التي يتعاطاها أكثر الناس وسعرها معروف لديهم كما في أقوات الناس ونحو ذلك، وأما ما ليس مشهورا عند الناس، فإن قبول طائفة من الناس للشراء به لا يعني قبول غيرهم، ففيه جهالة وغرر حينئذ، فمثلا الألبسة تختلف أسعارها، وهذا الذي يبيعها برقمها، يقبل قوله طائفة من الناس، فلا يعني هذا قبول سائر الناس لقوله، وحينئذ يكون فيه جهالة وغرر، فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة إلا أن بكون مما هو مشهور عند الناس سعره وقبوله بهذا السعر فإن المشتري يرضى غالبا بما يرضى به عامة الناس.
قوله [أو بألف درهم ذهبا وفضة]
أي قال: بعتك هذا الثوب بألف درهم ذهبا وفضة، والمعنى: بعتك هذا الثوب بخليط من الذهب والفضة تساوي ألفا، فهنا القيمة هل هي معلومة أم مجهولة؟(13/34)
إذا نظرنا إلى أنها محددة بالدراهم قلنا إن القيمة معلومة، فألف درهم، تساوي مائة دينار، فالدرهم عشر الدنانير، فإذا أعطى البائع تسعمائة درهم وعشرة دنانير فهنا أعطاه ذهبا وفضة تساوي مجموعها ألفا، إذن الجهالة ليست في القيمة، وإنما الجهالة هنا في الثمن، هل هو ذهب أم فضة، مع عدم تحديد مقدار كل منهما، فلم يحدد قدر الذهب، ولم يحدد قدر الفضة، وقد يكون له قصد في الذهب دون الفضة، لكن لا يظهر في هذا جهالة، فإن البائع إذا رضي بهذا فإنه قد رضي بهذه القيمة بغض النظر عن المعطى له هل هو ذهب أم فضة، فلا يتبين النهي عن مثل هذه الصورة، بخلاف ما إذا قال: بعتك بألف ذهبا وفضة، فحينئذ لا يدري ما القيمة، فقد نعطيه تسعمائة وتسعا وتسعين درهما، ودينارا واحدا، وقد نعطيه تسعمائة وتسعة وتسعين دينارا ودرهما واحدا، فالقيمة حينئذ مختلفة، ومثل ذلك لو قال في وقتنا الحاضر: بعتك بألف دولار وريال، والدولار أكثر من الريال، وحينئذ لا يدري أيهما أكثر فثبتت الجهالة والغرر، بخلاف الصورة الأولى.
ووجه صاحب الفروع الصحة ويلزمه النصف ذهبا وفضة، وفيه نظر، لعدم ثبوت الرضى.
قوله [أو بما ينقطع به السعر](13/35)
كأن يقول: هذه السلعة يوقف بها في المزاد، ويزداد عليها، فما وقفت عليه هذه السلعة فأنا أشتريها من ك بالثمن الذي تقف عليه، فقال المؤلف هنا: لا يجوز، لما فيه من الجهالة والغرر، فقد تباع بألف، وقد تباع بمائة ألف، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد جواز هذه الصورة، وذلك لما تقدم من العلة السابقة، فإن الثمن الذي تقف عنده هذه السلعة هو الثمن الذي تستحقه عند الناس، فيكون راضيا بسعرها الذي يشتري به الناس، وفي هذا نظر ظاهر، وذلك لأن هذه المحال التي يتزايد فيها على السلع تختلف القيم فيها اختلافا بينا ظاهرا، بحسب اختلاف عدد الراغبين في السلعة، فأحيانا يقلون وأحيانا يكثرون، فإن كثروا فإن هذه السلعة سيزداد سعرها، وحينئذ يكون فيه غرر وجهالة، كما أنه مدعاة للعداوة والبغضاء والاختلاف ونحو ذلك، فينهى عنها سدا لهذه الذريعة، فالأظهر هو ما ذهب إليه الحنابلة من النهي عن هذه الصورة خلافا لما اختاره شيخ الإسلام وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، واختاره ابن القيم، وقال:" إنه لا نص في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ينهى عنها، وإن الناس يتبايعون بها في كل عصر ومصر " ا. هـ.
أما تعامل الناس بها فهذا لا يدل على جوازها، وأما أنه لا يمنعها نص من كتاب ولا سنة، فإن المانعين يقولون هما غرر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر.
قوله [أو بما باع زيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح](13/36)
أي قال: بعتك هذه السلعة بما بعته على زيد من الناس، فهنا لا يجوز إذا جهلاه أو جهله أحدهما وذلك للجهالة والغرر، وقال بعض العلماء إن ذلك جائز واختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد، وذلك إن كان هذا المشتري ممن يثق بشرائه، بمعنى: رجل أراد أن يشتري سيارة، وهناك رجل معروف بمعرفته بقيم السيارات، فقال البائع: قد اشتراها مني فلان بثمن ما، فأنا أبيعك نفس السلعة بنفس الثمن الذي اشتراها مني به، فالأظهر جواز ذلك، لأنه لا دليل على الحرمة، وهو يشبه التوكيل، كما لو قال رجل لآخر: اشتر لي سيارة بالثمن المناسب لها، فاشترى السيارة له بالثمن المناسب لها فيجب أن يقبل ذلك، ومسألتنا هذه فيها شبه من مسألة الوكيل، ولأن هذا هو سعرها المعقول، وقد رضي بذلك ولا غرر منه، والجهالة إنما ينهى عنها لما فيها من الغرر، وحيث لا غرر، فيجوز حينذاك.
* مسألة:
إن قال: بعتك هذه السيارة بألف، فهل يصح هذا البيع أم لا؟
الجواب: إن كان هناك نقد غالب في البلد، أو لم يكن هناك سوى نقد واحد، فإن البيع صحيح، ويحمل هذا المبلغ عليه، فإن قال: بعتك بألف، فيحمل على الريالان في المملكة العربية السعودية، لأنها في النقد الغالب، ومثل ذلك وأولى إن لم يكن هناك إلا نقد واحد، أما إن كان هناك أكثر من نقد متداول، وكل من هذه النقود غالبة في تعامل الناس فهنا لا يصح للجهالة.
قوله [وإن باع ثوبا أو صبرة أو قطيعا كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم صح](13/37)
الصبرة هي كومة الطعام، والقفيز: عدد من الأرطال، ومثال ما ذكره المؤلف: إن كان عنده قماش، فقال: أبيعك هذا القماش كل متر بكذا، فهما قد جهلا أو أحدهما قدر الأمتار من هذا القماش، لكنهما يعلمان المبيع والثمن، فكل متر بدرهم، وكل قفيز من الصبرة بكذا، وكل شاة من القطيع بكذا، وهو يريد بعيه كله، فالصفقة قد وقعت على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، وعلى الطعام كله، فالبيع صحيح، لتوفر الشروط في المبيع، فالمبيع معلوم، والثمن معلوم أيضا، ولا يؤثر الجهل بقدر العدد المشترى، فهذه جهالة غير مؤثرة لأن المبلغ معلوم والسلعة معلومة.
قوله [وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم..... لم يصح]
الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن المسألة السابقة الصفقة قد وقعت على الصبرة كلها، وكذلك على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، أما في هذه المسألة فقد وقعت على البعض، كأن يقول: أبيعك بعض هذا القطيع كل شاة بدرهم، وأبيعك من هذا القماش كل ذراع بدرهم، وأبيعك من هذه الصبرة بعضها كل قفيز بدرهم، قالوا: لا يجوز ذلك، لأن هذا البعض قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وحينئذ حصلت الجهالة، وقال بعض الحنابلة: هو جائز، وهو اختيار ابن عقيل، وذلك لأن الثمن معلوم، والمبيع معلوم،فلا جهالة، وكونه يجهل هل الأقل هو المشترى أم الأكثر هذا غير مؤثر كما أن جهالة أذرع القماش فيما إذا باعه كله غير مؤثرة، فكذلك هنا ولا فرق، وهذا الذي عليه عمل الناس اليوم في الأسواق، فإنه عندما يأتي إلى الطعام ليشتريه يقول: تأخذ كل قدر كذا من هذا الطعام بكذا، وهذا جائز ولا بأس به، فإنه لا جهالة فيه.
قوله [وبمائة درهم إلا دينار وعكسه](13/38)
إذا قال: أبيعك هذه الصبرة بمائة درهم إلا دينار أو عكسه بأن يقول أبيعك هذه الصبرة بمائة دينار إلا درهم، قالوا: هذا لا يجوز، لأن المستثنى منه مجهول، وهو الدينار في المسألة الأولى، والدرهم في المسألة الثانية، وكون المستثنى منه مجهولا يصير الشيء كله مجهولا أيضا، ويترتب على ذلك أن يكون الثمن مجهولا، وظاهر قول الخرقي من الحنابلة أن ذلك جائز، وهذا هو الظاهر، فإن قدر الدينار معلوم، ولعل هذه المسألة عندهم على أن الدينار مجهول، لا يعرف قدره بالدراهم، فإذا كان كذلك منع، وأما إذا كان قدر الدينار من الدراهم معلوما فإن هذا لا جهالة فيه، وعلى هذا فالصحيح أنه إذا كان قدر الدينار والدراهم معلوم جاز ذلك.
قوله [أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا لم يصح]
إذا باع سلعتين في صفقة واحدة، إحداهما معلومة، والأخرى مجهولة يتعذر العلم بها، فباعهما بثمن واحد ولم يخبر المشتري ثمن كل سلعة فإن البيع لا يصح للجهالة، كأن يبيع فرسا وما في بطن فرس أخرى بمائة دينار، ولم يقل هذه بكذا وهذه بكذا، فحينئذ يكون البيع غير صحيح للجهالة بالثمن.
قال الموفق:" ولا أعلم بطلانه خلافا " ا. هـ
قوله [فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه](13/39)
صورة هذا: إن لم يتعذر علينا علم هذا المجهول، كأن يقول: أبيعك هذه الفرس وفرسا أخرى بالبيت من غير وصف لها بمائة دينار، فالأولى معلومة والأخرى مجهولة، فالبيع غير صحيح للجهالة، لكن هذه المجهولة يمكن التعرف على قيمتها فيذهب فيراها ويعرف قيمتها، وعلى هذا فالبيع باطل للمجهولة، وصحيح للمعلومة، وحينئذ يصح في المعلوم بقسطه من الثمن، فنقوم المعلومة، ونقوم المجهولة بعد أن نراها، فإذا وجدنا مثلا أن ثمن المعلومة ثلاثين دينارا، وثمن المجهولة يساوي ستين دينارا، فنسبة المعلومة للثمن الثلث، ونسبة المجهولة للثمن الثلثان، وكان السعر بينهما مائة دينار، فعلى هذا يكون ثمن المعلومة الثلث، وهو ثلاثة وثلاثون دينارا.
وهذه المسألة تسمى تفريق الصفقة، وهذه هي الصورة الأولى منها.
ومثل ذلك إذا باع عبدا مشاعا كما قال المؤلف بعد هذا:
قوله [ولو باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء صح في نصيبه بقسطه]
وهو قول الجمهور وأحد الوجهين عند الشافعية، والمشاع ما كان الاشتراك فيه بكل جزء من الأجزاء، مثاله: رجلان يملكان عبدا، لكل واحد النصف، فباع أحدهما العبد بلا إذن الآخر، أو كانا يملكان أرضا مشاعة بينهما لكل منهما النصف، فباع أحدهما كل الأرض دون إذن الآخر، أو كان لكل واحد منهما نصيبه الذي ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كأن يكون عندهم عشرة آصع من التمر، هذا له خمسة، وهذا له خمسة، وقد بيعت هذه الكومة من التمر مجتمعة، وهذا كله بلا إذن الآخر، فالحكم أنه يصح في نصيبه بقسطه.
مثاله: له من العبد النصف، فباعه بدون إذن صاحبه، فيقوم هذا النصف، ويقوم النصف الآخر، ويكون له نصف الثمن، فيدفع المشتري نصف المثمن له فيتملك نصيبه، وأما النصف الآخر فيبقى في ملك الأول.
وهذه هي الصورة الثانية من مسائل تفريق الصفقة، أما الصورة الثالثة فذكرها المؤلف بعد هذه:(13/40)
قوله [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبدا وحرا، أو خلا وخمرا صفقة واحدة صح في عبده وفي الخل بقسطه]
مثاله: أخذ عبده وعبد غيره فباعهما معا، وقال: هذان العبدان بمائة دينار، أو أخذ عبدا وحرا، فباعهما بثمن واحد، والحر لا يصح بيعه، أو أخذ خلا وخمرا فباعهما بثمن واحد، فهنا قال المؤلف: (صح في عبده) أي الذي يملكه، (وفي الخل) ، لكن كيف نقوم ما صح بيعه؟
أما في الحر فإنه يقدر لو كان عبدا، وهذه في الحقيقة مشكلة، لأنه قد لا يرضى بذلك، بمعنى أنه يؤخذ هو والعبد فيقال كم يساوي هذا العبد في السوق، قالوا: خمسين دينارا، وكم يساوي هذا الحر لو كان عبدا، قالوا: مائة دينار، فصار العبد نصف الحر، فنصيب العبد الثلث من الثمن.
وإن كانت المسألة من عبدين فكذلك، يقال: كم يساوي هذا العبد - أي الذي هو ملك له - فيقال: خمسون دينارا، فيقال: كم يساوي هذا العبد الآخر - وهو العبد الذي بيع بدون إذن صاحبه - فيقال: مائة دينار، فحينئذ يكون نصيبه من الثمن الثلث.
وأما الخمر فإنه يقوم خلا، لأن بيع الخمر محرم، والخمر ليس له قيمة شرعا، فينظر في قيمة الخل، ثم في قيمة الخمر لو كان خلا، ويقوم الخل بقسطه كما سبق.
قوله [ولمشتر الخيار إن جهل الحال]
هذا المشتري الذي تبعض عليه المبيع والسلعة ثبت له الخيار، بشرط أن يجهل الحال، فله أن يلتزم البيع، ويأخذ السلعة مبعضة، فإنه إذا اشتري الشيء على أنه تام فإذا به مبعض فله أن يقبله وله أن يرده، هذا إن جهل الحال، ولأنه إنما رضي على الصورة المتقدمة، فلم يثبت رضا على الصورة المتأخرة.
* وهل له الخيار إن علم الحال؟(13/41)
الجواب: ليس له ذلك، لأنه دخل على بصيرة، وهذا ما قيده المؤلف بقوله (إن جهل الحال) فظاهره أنه إذا علم الحال فلا، وذلك لأنه دخل على بصيرة، فإذا اشترى خلا وخمرا ويعلم أن هذا خمر، لا يجوز بيعه، فليس له بعد ذلك الخيار، بل هو ملزم بشراء الخل لأنه قد دخل على علم وبصيرة.
ولا خيار للبائع في المشهور في المذهب، وقال شيخ الإسلام يثبت له الخيار أيضا، ذكره عنه في الفائق وهذا ظاهر إن جهل الحال ولحقه ضرر، والشركة عيب.
فصل
قوله [ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني]
واتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح البيع أم لا يصح على قولين، فقال المالكية والحنابلة لا يصح، وقال الشافعية والأحناف: يصح.
قوله (ممن تلزمه الجمعة) احتراز ممن لا تلزمه، كالمرأة والعبد ونحوهما.
قوله (بعد ندائها الثاني) لا الأول.
والدليل على هذه المسألة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فأمر الله عز وجل بترك البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وأمر الله تعالى هذا يدل على أن تعاطي البيع والشراء حرام، وما كان محرما فهو فاسد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) [خ تعليقا، م 1718] فالبيع محرم وباطل، أما تحريمه فلقوله تعالى {وذروا البيع} وأما بطلانه فلأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقال الشافعية والأحناف: هو صحيح، ولكن هذا القول ضعيف، لأن المنهي عنه فاسد كما سبق.(13/42)
* وهنا قال المؤلف (بعد ندائها الثاني) فدل على أن البيع بعد النداء الأول جائز، وهو كما قال، فإن الله تعالى قال {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} والنداء لصلاة الجمعة عند نزول هذه الآية كان هو النداء الثاني، وأما الأول فإنما هو سنة عثمان - رضي الله عنه - للمصلحة الراجحة في عهده، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
** أما إذا كان المتعاقدان ممن لا تلزمهما الجمعة فإن البيع صحيح، لكن لو أن امرأة باعت على من تلزمه الجمعة فالبيع باطل وهو محرم، لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، فهي إذا باعته بعد نداء الجمعة الثاني فقد أعانته على المحرم، وهو محرم.
*** يستثنى من ذلك ما إذا كانت له إليه حاجة يلحقه الحرج بتفويته فهذا جائز، كمن اضطر إلى طعام أو شراب أو كسوة، أو اضطر أهل الميت إلى شراء كفن أو نحو ذلك، ويخشون على الميت إن تأخروا في شراء كفنه وحنوطه ونحو ذلك، فهذا جائز، لأن الضرورات تبيح المحذورات.
**** وظاهر قوله تعالى {وذروا البيع} البيع كله قليله وكثيره، فلا يستثنى من ذلك شيء، فالبيع كله محرم، وإن قل، ومن كان يسكن في بيت بعيد عن المسجد، ويحتاج إلى سعي قبل النداء، فإنه يحرم عليه البيع بقدر ما يحتاج إليه من السعي، فإن المسألة السابقة حيث كان يدرك ذكر الله من نداء الجمعة، فإذا سمع النداء فسعى أدرك الذكر الواجب - وهو الصلاة فقط أو الصلاة والخطبة -، أما هنا فإن بيته بعيد بحيث لا يستطيع إدراك الجمعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
***** مسألة: ما حكم البيع بعد الأذان في الصلوات الخمس؟
ظاهر كلام المؤلف جواز ذلك، والمسألة لها صور في المذهب.(13/43)
1- الصورة الأولى: أن يكون ذلك مع تضيق وقت الصلاة بأن لا يبقى من الوقت إلا ما يسعها، مثلا يكفي لصلاة الظهر لإدراك ركعة خمس دقائق، فلو استمر في عقد البيع إلى أن تضيق الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يدرك به الصلاة فلا يجوز البيع والشراء في هذه الحالة، وهل يصح البيع أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما أنه لا يصح لأنه كالمسألة السابقة في صلاة الجمعة.
2- الصورة الثانية: ألا يضيق الوقت، فالمشهور من المذهب جواز ذلك، والقول الثاني في المذهب وهو قول لبعض الحنابلة أن ذلك لا يجوز، وهو الأرجح، لأن الجماعة تفوت، فالصحيح أنه إذا نودي للصلاة فلا يجوز البيع والشراء، لأن البيع ذريعة إلى تفويت صلاة الجماعة، وهي واجبة، لكن البيع يصح لأن الأصل صحة البيع والقياس على الجمعة مع الفارق، فالجمعة آكد ولأن صلاة الجمعة تفوت بخلاف الجماعة.
فإن قيل: لماذا ذكر الله في الآية صلاة الجمعة فقط؟
فالجواب أنه لبيان القصة الواقعة وسائر الصلوات مثلها، فالراجح أنه ينهى عن البيع والشراء بعد الأذان مطلقا كما سبق.
قوله [ويصح النكاح وسائر العقود](13/44)
كالرهن والهبة وغيرها من العقود، فهي صحيح بعد نداء الجمعة الثاني، قالوا: لأن الله قال {وذروا البيع} فلم يذكر الله غيره، ولأن وقوع غيره وقوع قليل، فلا يكون ذريعة إلى تفويت ما يجب على المسلم من السعي لصلاة الجمعة، وقال بعض الحنابلة وبعض المالكية وغيرهم وهو القول الثاني في هذه المسألة: إن سائر العقود كالبيع، أي غير جائزة، وذلك لأنها مشغلة عن السعي الواجب، فأشبهت البيع، سواء كان وقوعها قليل أم كثير، فإن قلة وقوعها وكثرته لا يغير الحكم، وفيه مشغلة، فالنكاح وإن كان قليلا فإنه يشغل المرء عن تلك الصلاة المعينة، فهو وإن لم يكن ذريعة إلى ترك جميع الصلوات، لكنه كان ذريعة إلى ترك تلك الصلاة المعينة، وأما تنصيص الله تعالى على البيع دون غيره فلأن الواقعة التي نزلت لها الآية كان فيها البيع، فإنه لما أتت قافلة وذهب لها بعض الناس وتركوا الصلاة نزلت الآية، فالراجح أن سائرا العقود كالبيع، وذلك لأنها مشغلة عما يجب على المرء من الذهاب إلى الصلاة، فيحرم تعاطيها ولا يصح.
وقد يتساهل في بعض العقود التي لا تشغل عن صلاة الجمعة كعقد الهبة، لأنه لا يكون فيه انشغال عن الصلاة، فقد يفعله الإنسان وهو في المسجد.
قوله [ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرا]
لا يصح بيع العصير كعصير العنب ممن يتخذه خمرا، فإذا علمت أن المشتري يصنع منه الخمر فلا يجوز لك، لقوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب وصوبه صاحب الإنصاف وهو الراجح أن ذلك ليس متعلقا بالعلم، بل حتى بالظن، فإن ظن أنه يتخذه خمرا حرم البيع.
قوله [ولا سلاح في فتنة](13/45)
فإذا وقعت فتنة بين المسلمين كأن يقع قتال بين طائفتين على وجه الفتنة فإن بيع السلاح حرام، لأن هذا السلاح سيستخدم فيما لا يحل، وأما بيعه على الطائفة العادلة وطائفة الإمام فذلك جائز، لأن استخدامهم له استخدام مباح.
ويعلم مما سبق أن بيعه على قاطع الطريق أو على الفرقة الباغية أو على المسلمين عامة في قتال الفتنة محرم، لأن الله تعالى يقول {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، وفي الطبراني لكن إسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلاح في الفتنة) [سنن البيهقي 5 / 327، معجم الطبراني الكبير 18 / 137، مجمع الزوائد 4 / 87، 108] والحديث على ضعفه فإن قواعد الشريعة تدل عليه.
قوله [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه]
لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر لأن ذلك إذلال للعبد المسلم، واحتقار له، والذلة والصغار تكونان على الكفار، وقد قال تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، فالمؤمن هو العزيز، والكافر هو الذليل.
واستثنى من ذلك ما إذا أعتق عليه، كأن يكون ذا رحم محرم، كأن يبيع العبد لأخيه الكافر، فإنك إذا بعته فإنه يعتق عليه، ويتبين من هذا أن هذا حيث يكون للمسلمين سلطة على هذا الكافر الذي سيشترى أخاه الرقيق، بحيث أنه يلزم كالذميين الذي يحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية، فيجوز بيع العبد المسلم على الكافر إذا كان يعتق عليه، لأن في ذلك طريق إلى تحريره وإزالة الرق عنه، ومثل ذلك إذا علق الكافر إعتاق عبد فلان على ملكه له، فقال: إن ملكت عبد فلان فهو حر، فيجوز بيع العبد عليه لأن في ذلك تحريرا له من الرق، والخلاصة أنه لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر إلا إذا كان ذلك البيع طريقا لتحريره.
قوله [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه ولا تكفي مكاتبته](13/46)
مثال ذلك: رجل كافر يملك عبدا كافرا، ثم أسلم هذا العبد وبقي السيد الكافر على كفره، فإنه يجبر على إزالة ملكه إما ببيع أو بهبة أو بإعتاق، والمقصود أنه لا يبقى تحت ملكه، لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، ولأن في ذلك ذلة وصغار على هذا المسلم.
* وهل تكفي مكاتبته؟
قال المؤلف: لا تكفي مكاتبته، وذلك لأن المكاتبة مبقية لملك السيد عليه، فإن المكاتب رقيق وقن حتى يتم ما عليه من ثمن الكتابة، وقد يعجز فيعود قنا، وحتى إن لم يعجز فإنه عبد حتى يؤدي ما عليه.
** ولا يقر الكافر على بيع العبد المسلم بشرط الخيار، كأن يسلم العبد ثم يبيعه سيده الكافر بشرط الخيار ثلاثة أيام ونحوها، فهذا لا يجوز لأن الكافر بإمكانه فسخ العقد خلال الثلاثة أيام، بل عليه أن يبيعه بيعا تاما لا خيار فيه.
قوله [وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة ويقسط العوض عليهما]
إذا جمع بين بيع وكتابة في صفقة واحدة، فقال لعبده: كاتبتك وبعتك بيتي هذا بعشرة آلاف، فلا يصح البيع، بل تصح الكتابة فقط، لذا قال المؤلف: صح في غير الكتابة، أي صح البيع في غير الصورة التي فيها البيع مع الكتابة، فلو جمع بين البيع والصرف، أو بين البيع والإجارة، أو بين البيع والنكاح صح الجميع، أما إن جمع بين البيع والكتابة فإن البيع غير صحيح، والكتابة تصح، قالوا: لأن هذا العبد رقيق له، وإنما وقعت الكابة أثناء عقد البيع، فالكتابة والبيع مقترنان، فلم تسبق الكتابة البيع، فكما لو باع على قنه فلا يصح فكذلك هنا، فالشرط عندهم أن تكون الكتابة سابقة، فلو قال: كاتبتك، وثبتت الكتابة، ثم قال: بعتك بيتي، صح لأنه أصبح مكاتبا، والمكاتب يصح أصل تصرفه بقيود، وإلا لما تمكن من سداد الدين الذي عليه من المكاتبة.(13/47)
والقول الثاني في المسألة وهو الوجه الثاني في المذهب وقيل هو المنصوص عن الإمام أحمد أن ذلك جائز، وأن اقتران المكاتبة بالبيع لا تؤثر على البيع، فإنه أثناء البيع أصبح ممن يصح تصرفه في الجملة، قالوا: وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك) [خ 4200، م 1365] فإن الأمة لا صداق لها، وهي ملك سيدها، يطؤها من غير ما صداق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أصدقها وأعتقها في عقد واحد صحيح، فهنا كذلك، والراجح أن مثل هذه الصيغة صحيحة، فكما أن السيد يجوز أن يبايع مكاتبه بعد ثبوت الكتابة، فكذلك يجوز له أن يبايعه أثناء الكتابة، ومعلوم أن آثار البيع إنما تترتب بعده.
* وأما البيع والصرف فمثاله أن يقول: خذ هذا الدينار وأعطني هذه السلعة وخمسة دراهم، فهذا فيه بيع وصرف، وكلاهما صحيح.
وكذلك بيع وإجارة، كأن يقول: ابتعت منك هذا الرقيق وأؤجر عليك هذا البيت بعشرة آلاف، فهنا صفقة واحدة وهي صحيحة.
ومثل ذلك لو قال: أبيعك داري وأنكك ابنتي بكذا وكذا، فالبيع والنكاح كلاهما صحيح.
ومثله البيع والخلع، كأن تقول الزوجة: أخلع نفسي منك وأشتري هذا البيت بكذا، فالبيع والخلع صحيحان، فهذه الصور كلها جائزة، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل يدل على المنع.
** على القول بعدم جواز الجمع بين البيع والكتابة تكون المسألة من مسألة تفريق الصفقة، التي تقدم شيء من صورها، والمراد من تفريق الصفقة أن بعضها يصح، وبعضها يبطل، فإذا قال: كاتبتك وبعتك هذه الدار بعشرة آلاف دينار، وقلنا إن البيع لا يصح كما هو المشهور من المذهب، فحينئذ نقسط الثمن على العبد وعلى الدار، فنقوم العبد والدار أولا، فلو قومنا العبد بخمسمائة دينار، وقومنا الدار بألف دينار، فنسبة العبد وقسطه هو الثلث، فتكون قيمة المكاتبة نحوا من ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين دينارا، كما تقدم.(13/48)
وقوله (ويقسط العوض عليهما) أي على البيع والكتابة، فيحذف قسط البيع لأنه باطل، ويبقى قسط الكتابة، كما تقدم.
قوله [ويحرم بيعه على بيع أخيه كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة وشراؤه على شرائه كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة]
هنا مسألتان، الأولى: بيعه على بيع أخيه، والثانية: شراؤه على شرائه، وكل ذلك محرم، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) [خ 2139، م 1412] فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل على بيع أخيه، والشراء بيع.
والحكمة من هذا النهي ما فيه من إثارة العداوة والبغضاء والضغائن بين المسلمين.
قوله [ليفسخ ويعقد معه]
وذلك لبقاء الخيار في البيع، فما زال الخيار باقيا، سواء كان خيار المجلس كأن لم يتفرقا، ومثله خيار الشرط، فما زال الخيار باقيا بحيث يمكن لأحدهما أن يفسخ، فإذا أعطي البائع على هذه السلعة ثمنا أكثر، أو أعطي المشتري هذه السلعة بثمن أقل والخيار باق فإنه يفسخ البيع مع الأول، ويعقده مع الثاني، لقلة الثمن أو زيادته بالنسبة للبائع، وقال ابن رجب: يحرم مطلقا، سواء كان في زمن الخيارين أم لا، وهو قول ابن تيمية وابن القيم وهو الراجح، لما يترتب عليه من العداوة والبغضاء، ولأنه قد يحتال على الفسخ بطريقة ما.
قوله [ويبطل العقد فيهما]
فالعقد باطل لأن الشارع نهى عنه، وما نهى عنه الشارع فإنه فاسد، فالنهي يقتضي الفساد.(13/49)
* وأما حكم سومه على سوم أخيه، فهو محرم أيضا، ففي البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يسم المسلم على سوم أخيه) [خ 2727، م 1408، واللفظ لمسلم] فدل هذا على أنه محرم، ولكن ليس مطلق السوم محرم، فإن من السوم ما هو جائز، وقد دلت الأدلة على جوازه، وهو ما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر، فلم يثبت الرضا الذي يتم بعده البيع، أما إذا ثبت الرضا وركن بعضهما إلى بعض وما بقي بينهما إلا العقد فإن السوم يكون محرما، فأما سومه على سوم أخيه قبل ثبوت الرضا وقبل ركون أحدهما إلى الآخر فهو جائز، وهو ما يسمى بالمزايدة، وقد اتفق العلماء على جوازه، وهو مشهور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
** وإذا سام رجل سوما محرما، وثبت به البيع فهل يصح البيع أم لا؟
البيع صحيح، كما هو المشهور من المذهب، والفارق بين هذه المسألة والمسألة السباقة أن النهي في المسألة السابقة يعود إلى ذات العقد، وأما هنا فإنه يعود إلى أمر آخر خارج عنه.
*** هنا مسائل:
المسألة الأولى:
أنه لا يجوز أن يبيع حاضر لباد، والمراد بالبادي من هو من خارج البلدة سواء كان حضريا أم بدويا، فمن أتى من خارج البلدة فلا يجوز لأحد من داخل البلدة أن يكون سمسارا له، يبيع له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) فقيل لابن عباس ما قوله (ولا يبع حاضر لباد) قال:" لا يكون له سمسارا " رواه البخاري ومسلم [خ 2158، م 1521] .
وعلة هذا مصلحة أهل السوق، فإن أهل السوق عندما يأتي أحد من خارج بلدتهم فإن بيعه يكون أرخص من البيع الذي يكون بين أهل البلدة، فيكون في هذا سعة لهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه في مسلم: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) [م 1522] .
* ويحرم ذلك بخمسة شروط، ويبطل البيع كذلك:(13/50)
1- أن يقدم البادي بسلعته للبيع، فإن قدم لغير البيع كأن يقدم لاحتكارها أو لأكلها أو لإهدائها ونحو ذلك فلا بأس أن يكون الحاضر له سمسارا، وذلك لأن المصلحة في ذلك لأهل السوق، ولأهل البلد، فإنه لم يأت للبيع، فإذا أتي أحد من أهل البلدة وأقنعه بالبيع فإن في ذلك مصلحة لأهل السوق.
2- أن يبيعها بسعر يومها، أي أن يكون مراده بيعها بسعر يومها، أما إذا كان هذا البادي يريد أن يبيعها بأكثر من السعر أو يريد أن يتربص بها حتى يكون لها السعر المناسب فحينئذ يكون قد احتاط لنفسه فلا بأس والحالة هذه أن يكون هناك من الحضر واسطة بينه وبين الناس في بيعها، وذلك لأنه احتاط لنفسه فهو لا يريد أن يبيعها بأي سعر، بل يريد بيعها بالسعر المناسب.
3- أن يكون جاهلا بالسعر، أما إذا كان عالما عارفا بأسعار السلع فإن توسط أحد الحاضرين بينه وبين الناس جائز، وذلك لأنه وسيط لا يؤثر.
4- قالوا: أن يقدم الحاضر إليه، فإذا قدم هذا البادي على الحاضر وطلب منه أن يكون سمسارا فإن ذلك جائز، لأنه يكون بذلك قد احتاط لنفسه، وفي هذا نظر فإن الحديث المتقدم ينهى عن ذلك، فالراجح أنه ليس له ذلك لدخوله في عموم النهي المتقدم، وقد يرجح قول الحنابلة ما سيأتي من وجوب النصح للبادي إذا استنصح الحاضر.
5- قالوا: أن يكون بالناس حاجة للسلعة التي معه، فإن كانت من السلع التي لا يحتاج الناس إليها، وليست من أقواتهم فيجوز أن يكون سمسارا، ولم يذكر الإمام أحمد - كما قال الحنابلة - هذا الشرط، والحديث يخالفه فإن الحديث عام.
فالشروط عند الحنابلة للتحريم والبطلان خمسة، وتقدم أن الشروط الراجحة ثلاثة شروط، وأما الشرطان فعموم الحديث يدل على عدم اعتبارهما، والمعنى يدل على ذلك فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضا) يدل على عدم اعتبار هذين الشرطين
** وهنا فرعان:(13/51)
الفرع الأول: هل يجوز أن يشتري الحاضر للبادي؟
1- قال الحنابلة يجوز ذلك، وذلك لأن النهي إنما ورد في البيع.
2- ونقل عن الإمام أحمد وهو قول طائفة من التابعين كمحمد بن سيرين أن ذلك منهي عنه، ودليل ذلك ما رواه أبو عوانة في صحيحه - كما في الفتح - عن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك فقلت له: لا يبع حاضر لباد، أنهيتهم أن تبيعوا أو تشتروا لهم؟ قال: نعم، أي نعم نهينا أن نبيع أو نبتاع لهم، فيكون الشراء منهي عنه أيضا، ولأن الشراء داخل في معنى البيع كما تقدم، ولأن المعنى أيضا ثابت وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) .
والصحيح أنه لا يجوز للحاضر أن يشتري للباد إذا توفرت الشروط المتقدمة، أما إذا كان عالما بالسعر محتاطا لنفسه فإنه يجوز له أن يكون سمسارا له كما تقدم في شروط التحريم.
الفرع الثاني: هل يجوز أن يشير على البادي؟
قالوا: إن استشاره فيجب عليه أن يشير عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا استنصحك فانصحه) [م 2162] وهذا ظاهر، فإنه إذا استشار فقد احتاط لنفسه وواجب حينئذ أن ينصح له.
- وهل يجب عليه أن ينصحه من غير استنصاح؟
في المسألة نظر، قال صاحب الفروع:" ويتوجه النصح " لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) [م 55] والراجح خلاف هذا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى أن يبيع الحاضر للبادي أو يشتري له ليرزق الله بعض الناس من بعض، ولا شك أن النصيحة له تقوم مقام البيع والشراء له، ويمكن أن يقوي هذا الدليل شرط الحنابلة الذي تقدم ذكره، وهو جواز البيع له والشراء إذا قدم هو على الحاضر، فإنه حينئذ يكون قد احتاط لنفسه، فكما لو استنصح فيجب له النصح.
المسألة الثانية:(13/52)
وهي عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان) ، والركبان: هم الذين يجلبون السلع إلى أهل البلد من غير أهلها، ولا يجوز لأحد من أهل السوق أن يتلقاهم خارج السوق فيشتري منهم أو يبيع لهم أيضا، لحديث (لا تلقوا الركبان) ، وهذا لمصلحة الركبان، فقد يكون الثمن في السوق أقل من الثمن الذي بيع عليهم، وقد يكون الثمن في السوق أكثر من الثمن الذي اشتري به منهم، فلم يتركوا حتى ينظروا في سعر السوق، فكان ذلك محرما.
ولكن البيع يصح مع خيار الغبن، فهم إذا قدموا السوق فهم بالخيار، فإن ثبت الغبن عليهم فهم بالخيار، إن شاءوا فسخوا البيع، وإن شاءوا أبقوه، لحديث مسلم: (لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) [م 1519] أي إذا أتى صاحب السلعة السوق فهو بالخيار إن شاء أمضى وإلا فسخ.
والنهي عن تلقي الركبان ما لم يصلوا إلى السوق فإذا وصلوا إلى السوق فيجوز أن يتلقاهم في أعلى السوق، لأن غاية النهي هو دخلوهم السوق، لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر: (لا تلقوا السلع حتى يهبط بها أصحابها إلى السوق) [خ 2165] .
المسألة الثالثة:
وهي مسألة التسعير، فلا يجوز للسلطان أن يسعر على الناس، وهو ظلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح لما قال بعض الصحابة: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى يوم القيامة وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة دم ولا مال) [حم 11400، ت 1314، د 3451، جه 2200] ، فهذا يدل على تحريم التسعير، وأنه ظلم.
ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا يضر بالناس؟(13/53)
الجواب: ذهب بعض الشافعية إلى استثناء التسعير حينئذ، وأنه جائز، فيجوز للحاكم أن يتدخل فيما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا بحيث يتضرر بذلك عامة الناس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [جه 2340، 2341] ولأن في ذلك مصلحة عامة، بل دفع لمفسدة عامة، وإن ترتب على ذلك فوات مصلحة خاصة، فإن التسعير فيه فوات مصلحة خاصة، وأما الغلاء الفاحش فإن فيه مفسدة عامة، ودفع المفسدة العامة أولى من جلب المصلحة الخاصة، وكذلك تحمل المفسدة الخاصة أولى من تحمل المفسدة العامة، وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر لهم تعسير العدل.
المسألة الرابعة:
مسألة الاحتكار، والاحتكار: هو أن يدخر السلعة حتى يغلو ثمنها فيبيعها، وهو محرم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في مسلم من حديث معمر بن عبد الله: (لا يحتكر إلا خاطيء) فقيل لسعيد فإنك تحتكر، قال سعيد: فإن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر. [م 1650]
* قال الحنابلة ويحرم الاحتكار بثلاثة شروط:
1- الشرط الأول: أن يكون المحتكر قوتا، فإن كان المحتكر غير قوت فيجوز ذلك، قالوا:لأن سعيد بن المسيب وهو الراوي عن معمر كان يحتكر النوى - أي نوى التمر - والخبط - وهو علف الدواب - والبذر - أي بذور النبات -، وفي المسند أن سعيد بن المسيب كان يحتكر الزيت، قالوا: ولا يعقل أن هذا الإمام يخالف روايته إلا وأن هذا خارج عن روايته، وقد ثبت أن معمر بن عبد الله كان يحتكر، قالوا:فدل هذا على أن المحتكر الممنوع احتكاره إنما هو القوت، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وهو اختيار الشوكاني إلى ذلك محرم، وهذا هو الراجح لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) ، وأما الجواب عن فعل معمر بن عبد الله وسعيد بن المسيب فيتضح في الشرط الثاني الذي اشترطه الحنابلة.(13/54)
2- الشرط الثاني: ألا يكون للناس في المحتكر حاجة، وعلى هذا يحمل احتكار معمر واحتكار سعيد، وأن احتكارهما ليس في الناس حاجة إليه، فلا يتضرر الناس باحتكارهما، فيجوز للشخص أن يحتكر القوت وغيره إن لم يكن للناس فيه حاجة، إذ لا ضرر على أهل السوق في ذلك، وهذا الشرط واضح وصحيح، ويدل عليه فعل معمر وفعله يخصص ما رواه، ورأي الصحابي ولا سيما راوي الحديث أو فعله مما يخصص روايته، كما أن المعنى يدل على ذلك، إذ لا ضرر في احتكار ما يحتاج إليه الناس سواء أكان من أقواتهم أم من غيرها
3- الشرط الثالث: أن يشتريه من البلد، فإذا جلبه من خارج البدل أو صنعه بنفسه أو كان هذا من مزرعته فإن هذا جائز، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجالب مرزوق والمحتكر خاطيء) [جه 2153، فيه علي بن سالم بن ثوبان، وعلي بن زيد بن جدعان، وكلاهما ضعيف] والراجح خلاف ما ذكروه، فإن الحديث
أولا: ضعيف.
ثانيا: لا فرق بين احتكار ما لم يجلب واحتكار ما يجلب من خارج البلد، فما دام أن في الناس حاجة إلى ذلك ففي احتكاره تضييق عليهم، وعلى يظل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) على عمومه، فإن الصور التي استثناها الحنابلة داخلة في عموم النهي، فليس لأحد أن يحتكر شيئا وإن جلبه من خارج البلد، لأنه بذلك قد قدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
قوله [ومن باع ربويا بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة]
قوله (من باع ربويا بنسيئة) كأن يبيع طنا من قمح بألف ريال إلى سنة، فهذا بيع جائز، والربوي هو البر، وبيع البر بالدراهم والدنانير جائزة، فهنا باع كذا صاع من بر بكذا من الدراهم إلى أجل معلوم.(13/55)
قوله (واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة) بأن قال لما حل الأجل أعطني بدل الدراهم شعيرا أو برا أو تمرا أو غير ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو بيع البر بالبر نسيئة، والذريعة إلى المحرم محرم، وهذا هو المشهور من المذهب.
وقال الموفق يجوز مطلقا ما لم يكن حيلة على الربا.
وقال شيخ الإسلام يجوز عند الحاجة أما عند عدم الحاجة فلا يجوز، أما كونه لا يجوز عند عدم الحاجة فلأجل سد الذرائع الموصلة إلى الربا، وأما كون يجوز عند الحاجة فلأن الشريعة قد أتت لنفي الحرج ورفعه، والقاعدة كما ذكر ابن القيم أن ما حرم تحريم سد الذرائع فإنه يجوز عند الحاجة إليه، لأن تحريمه ليس تحريما أصليا، وإنما لكونه ذريعة إلى غيره، وحيث احتيج إليه فإن تحريمه يزول حينئذ.
وهذا هو أصح الأقوال، وهذا ما لم يكن تواطؤ منهما أو احتيال (1) .
قوله [أو اشترى شيئا نقدا بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز]
مثاله: اشترى فرسا بألف دينار نقدا، كان قد باعها على هذا البائع سابقا بألف وخمسمائة دينار نسيئة، فهذا لا يجوز، فإذا اشترى شيئا نقدا بدون ما باعه به نسيئة فهذا لا يجوز، وهو مذهب الجمهور خلافا للشافعية، وهذا هو بيع العينة.
__________
(1) - قال في الشرح الممتع:" بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، ونأخذ هذا أيضا من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن ربح ما لم يضمن) أي نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك، فمثلا: باع عليه برا بمائتي ريال إلى سنة، ولما حلت السنة قال ليس عند إلا تمر، فقال أنا آخذا التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهما، فهذا لا يجوز، لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه " ا. هـ(13/56)
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيعتين في بيعة) [حم 9301، ت 1231، 1309، ن 4632]
ولأبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) [د 3461] أي إما أن يأخذ رأس ماله، أو الربا.
وفي سنن أبي داود والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [د 3462] فهذه هي صورة بيع العينة، أن يبيع الشيء إلى سنة بكذا - أي نسيئة - ثم يشتريها قبل السنة بأقل من الثمن الذي باعه به، فأصبحت السلعة حيلة فيها للوصول إلى عقد ربوي محرم، فكأنه أعطاه ألف دينار، على أن يردها عليه ألفا وخمسمائة، فالسلعة غير مقصودة لذاتها.
ولذا قال ابن عباس كما روى ذلك الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن أن ابن عباس سئل عن رجل باع حريرة بمائة واشتراها بخمسين، أي باعها بمائة مؤجلة واشتراها بخمسين حاضرة، فقال:" دراهم بدراهم وقعت بينهما حريرة ".
وقال أيوب رحمه الله كما في كتاب الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن:" يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أخذه على جهته كان أسهل ".
وروى الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن وقد حسنه غير واحد من أهل العلم وقال فيه ابن القيم إنه محفوظ عن زوج أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة، فدخلت أم ولد لزيد بن أرقم فقالت: إنها باعت غلاما لها على زيد بن أرقم بثمانمائة درهما نقدا، ثم اشتريتها منه بستمائة دراهم نقدا،، فقالت عائشة:" بئسما اشتريت وبئسما شريت، أخبري زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إن لم يتب " [سنن البيهقي 5 / 330، سنن الدارقطني 3 / 52] والأثر إسناده حسن، فهذه بيعة العينة.(13/57)
* وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فله أوكسهما أو الربا) دليل على أنها بيعتان، خلافا لما ذهب إلى الشافعي من أن صورة بيع العينة أن يقول أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا نسيئة، أو بكذا وكذا نقدا، فيتفرقان قبل أن يعينا أحد الثمنين، وحمله الشافعي على أن يقول: بعتك هذا العبد بألف دينار حالة أو بألفين إلى سنة، قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت.
وهذه في الحقيقة أولا: بيعة واحدة وليست بيعتين، ثانيا: هذه الصورة ليس فيها ربا، وقد قال: (فله أوكسهما أو الربا) ، وإنما هي بيعة جهالة، فالثمن غير معلوم.
وكذلك يقال في قول سماك وهو من رواة هذا الحديث:" أن يبيع الرجل مع الرجل فيقول: هو علي نساء بكذا وكذا، ونقدا بكذا وكذا " فهذا فيه ما في القول المتقدم، فإن هذه صفقة واحدة، وبيع العينة بيعتان في بيعة.
أما إن باع السلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا فلا حرج فيه اتفاقا. (1)
** فإن تواطآ على بيع العينة فالبيع كله باطل، البيعة الأولى، والبيعة الثانية، كأن يقول أبيعك هذه السيارة بثلاثين ألفا إلى سنة، وأشتريها منك غدا بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الأولى والثانية كلاهما باطل، لأنهما محرمتان جميعا، وما نهى عنه الشارع فهو فاسد، فإن لم يتواطئا على ذلك، فالبيعة الأولى صحيحة، قال شيخ الإسلام إنه قول عن أحمد، ومثال ذلك: رجل باع سيارة على الآخر بثلاثين ألفا إلى سنة، ثم اشتراها منه من غير تواطؤ منهما ولا اتفاق بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الثانية باطلة لنهي الشارع عنها، وأما الأولى فهي صحيحة، إذا لا دليل على إبطالها.
__________
(1) - انظر الفتاوى (19 / 498)(13/58)
*** صور بيع العينة ما ذكره ابن القيم في تهذيب السنن فقال:" والصورة الرابعة للعينة وهي أخت صورها أن يكون عند الرجل المتاع لا يبيعه إلا نسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة جاز، وهو نص الإمام أحمد " وهذا ما يقع فيه كثير من الناس، مثل أن يشتري سيارة ولا يفكر أن يبيعها نقدا بل نسيئة، فهذا من صور العينة، وباين هذا أن صاحب البيع النسيئة فقط قصده الثمن فلا قصد له في السلعة أصلا، فهو يتوصل بهذه السلعة ليبيع المال أو الدراهم بأكثر منها، وأما صاحب النقد والنسيئة فهو تاجر من التجار، قال ابن عقيل معلالا نص الإمام أحمد على هذه المسألة:" وهذا لمضارعته الربا فإنه يقصد الزيادة غالبا "، وذكر شيخ الإسلام أن مثل هذا البيع وهو ألا يبيع الإنسان إلا نسيئة أنه بيع على أهل الضرورة والحاجة، فإن هذه السلعة لا يشتريها في الغالب إلا من يتعذر عليه النقد، وهم أهل الضرورة والحاجة، وأما من يبيع نقدا ونسيئة فهو تاجر من التجار وهو يبيع على الناس عامة، المضطر منهم وغير المضطر، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد في جهالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يباع على المضطرين) [حم 939، د 3382] فهذه الصورة على الراجح من صور العينة المحرمة.
**** مسألة التورق.
ومسألة التورق تخالف بيع العينة، بأن المشتري لا يبيعها على بائعها الأول، بل يبيعها على شخص آخر، وصورتها: أن يحتاج رجل إلى دراهم، فيشتري سلعة بنسيئة إلى سنة بأكثر من ثمنها نقدا، ثم يبيعها على غير البائع الأول لأنه إذا باعها على الأول فهي بيع العينة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى: وهي المشهور عند الحنابلة وهو قول الجمهور أن ذلك جائز، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، لقول الله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، فهذا بيع والأصل في الحل.(13/59)
الرواية الثانية: وهي التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن عبد العزيز أن ذلك محرم، قال شيخ الإسلام: لأن الأمور بمقاصدها، فهو لم يشتري السلعة إلا قاصدا للثمن، قال رحمه الله:" إذا أتى الطالب ليأخذ دراهم بدراهم أكثر منها - أي هذا هو مقصده - وأعطاه الآخر فهو ربا ولا شك في تحريمه، بأي طريق كان، لأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى "، وروجع رحمه الله مرارا - كما ذكر ذلك ابن القيم - وهو يقول بالتحريم ويأبى أن يقول بالحل.
وما ذهب إليه قول قوي، فإن ذلك ذريعة إلى الربا المحرم، وهذا المشتري للسلعة لم يقصدها بل قصد الثمن، ولا عبرة بالأشياء الظاهرة، وإنما العبرة بالمقاصد والنيات وهو قصده الثمن، وهي ذريعة لفتح الباب المتقدم، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن التورق محرم خلافا للمشهور عند الحنابلة، وذلك لأن الأمور بمقاصدها ولا عبرة بالظاهر.
وقوله (لا بالعكس) : تقدمت صورة بيع العينة، وهي أن يبيع الشيء بنسيئة ثم يشتريها نقدا بأقل من ثمن المبيع، وقال هنا لا بالعكس، فعكس هذه المسألة يجوز، والعكس له صورتان:
الصورة الأولى: وهي أن يبيع الشيء نقدا ثم يشتريه نسيئة بأكثر، مثاله: رجل عنده دار، واحتاج إلى دراهم، فقال لرجل أبيعك هذه الدار بخمسين ألفا نقدا، على أن أشتريها منك بسبعين ألفا نسيئة، فظاهر كلام المؤلف جواز هذا، وهذا ضعيف جدا، وهو مروي عن أحمد أنه يجوز بلا حيلة، والصحيح التحريم، وهو المشهور عند الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، لأنه لا فرق بين هذه الصورة وصورة العينة المتقدمة إلا باللفظ، فلا وجه للقول بجوازها.(13/60)
الصورة الثانية: وهي الصور الثانية للعكس المذكور، وهي جائزة كما قال المؤلف، وهي إذا باع الشيء نسيئة إلى سنة بعشرة آلاف، ثم اشتراها نقدا بعد شهر أو شهرين بعشرة آلاف أو أحد عشر ألفا، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، فهي جائزة، وليس فيها حيلة على الربا، ومثال آخر: باع سيارته بنسيئة إلى سنة، ثم رغبتها نفسه فاشتراها بأكثر من ذلك أو بمثله فهذا جائز ولا إشكال فيه.
قوله [وإن اشتراه بغير جنسه..... جاز]
مثاله: رجل باع سيارة إلى سنة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بعشرة آلاف دولار، فهنا يجوز، وهذا على القول بان جنس الريالات غير جنس الدولارات.
وصورة أخرى: باعها بثلاثين ألف ريال إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بكذا طن من القمح، فيجوز، بل قال الموفق: لا أعلم خلافا في جوازها، بمعنى باع الشيء نسيئة، ثم اشتراه بعد ذلك بعرض، فهذا جائز، أما الصورة الأولى فاختار الموفق التحريم، وأنه لا يجوز وهذا هو الظاهر، لأنه باع الشيء نسيئة بدراهم واشتراه بدنانير، وليس هناك فرق بين الدراهم والدنانير، فأحدهما يقوم مقام الآخر، فهما أثمان للأشياء، ويتوجه في الصورة الثانية إن لم يكن فيها إجماعا التحريم إذا كانت قيمة العرض أقل من ثمن النقد، فإنه لا وجه للقول بجوازه، ومثاله: باعه السيارة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بكذا طن من القمح، تساوي خمسة عشر ألف ريال، فلا وجه للقول بالجواز، وهذا في الحقيقة حيلة، لأن هذا الغرض له قيمة من الدراهم والدنانير، فباع بالدراهم والدنانير، فيكون كأنه اشتراه بنقد أقل من النقد الذي باعه به.
[قلت: تحريم هذه الصورة بناء على ما سبق، من اعتبارهم العينة متحققة دون مواطئة، والصحيح كما مضى أن العينة لا تكون عينة إلا باشتراط مسبق بين الطرفين، والله أعلم] .(13/61)
إذن إذا اشتراه بغير الجنس الذي باعه فهو جائز عند الحنابلة، ومنع الموفق ابن قدامة الجواز فيما إذا كان نقدا، ويظهر المنع فيما سوى ذلك، إلا أن يكون ثمن الغرض مساويا أو أكثر.
قوله [أو بعد قبض ثمنه]
مثاله: باعه هذه السيارة بعشرة آلاف إلى سنة، فلما سدد هذا المشتري القيمة، اشتراها منه بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فهذا جائز، ولا إشكال في جوازه إذ العلة المتقدمة قد زالت وما يخشى من الربا قد زال.
قوله [أو بعد تغير صفته]
مثاله: باع سيارة بعشرة آلاف إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بثمنها الذي يستحقه، وقد تغيرت صفتها، فبعد أن كانت تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، فسبب شرائها بثمن أقل أنه قد تغيرت صفتها، مثل أن تكون قد استخدمت ونزل سعرها، فالنقص بسبب تغير الصفة، ولا بد ألا ينظر إلى قضية التأجيل، فإن نظر إلى قضية التأجيل كان ذلك ممنوعا كما تقدم.
قوله [أو من غير مشتريه]
مثاله: رجل اشترى سيارة بالتقسيط، ثم باعها على شخص آخر، فهل للبائع الأول أن يشتريها من هذا المشتري الجديد؟ الجواب: لا مانع من ذلك لزوال العلة المتقدمة.
[قلت: هذا على شرط عدم وجود الاتفاق بين الأطراف الثلاثة، وإلا حرم] .
قوله [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز]
فإذا اشتراها أبوه أو ابنه أو مكاتبه أو نحو ذلك جاز، لأنه لم يشتريها هو، والنهي الوارد فيما إذا اشتراه هو، وليس هذه ذريعة إلى الربا كما تقدم، إلا أن يكون حيلة على ذلك ليتملكها هو - أي الأب مثلا - ثم يأخذها من أبيه بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهذه حيلة فلا تجوز، فإذا اشتراها أبوه أو ابنه فهم أجانب عن البيع فلا إشكال في جواز ذلك، لكن إن كان ذلك حيلة على الربا فهو محرم كما تقدم.
باب الشروط في البيع
الفرق بينه وبين شروط البيع من عدة أوجه:
1- أن شرط البيع من وضع الشارع، وأن الشرط فيه من وضع المتعاقدين.(13/62)
2- أن شروط البيع كلها صحيحة، وأما الشروط في البيع فمنها الصحيح ومنها الباطل.
3- أن شروط البيع تتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزومه.
4- أن شرط الشارع لا يسقط، وشرط العاقد وهو الشرط في البيع لمن شرطه أن يسقطه.
وتعريف الشرط في البيع: هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما لا يقتضيه العقد، والذي يقتضيه العقد هو أن تكون السلعة ملكا للمشتري، والثمن ملكا للبائع، وأن يسلم كل واحد منهما الآخر ما له بعد تمام العقد، أما مثال الشرط في البيع فهو أن يشترط أحدهما على الآخر حملان المبيع أو أن يبيع عبدا بشرط أن يعتقه.
والأصل في الشروط الحل، إلا أن يدل دليل على بطلانه كما قرر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) [خ 2168، م 1504] فلا يحرم من الشروط إلا ما دل الشرع على بطلانه نصا أو قياسا.(13/63)
واعلم أن المعتبر عند الحنابلة من الشروط ما كان في صلب العقد أي مقارنا للعقد، بمعنى أن يشترطاه أو يشترطه أحدهما أثناء العقد، فإن كان الشرط سابقا للعقد فليس بمعتبر، ولا يلزم المشروط عليه الوفاء به، مثاله: قيل لرجل: هل تبيع بيتك؟ قال: أنا لا أبيعه إلا بشرط أن أسكنه شهرا، ثم سكتا سكوتا فاصلا، ثم عقدا البيع، ولم يذكر البائع ذلك الشرط، فحينئذ لا يعتبر الشرط عند الحنابلة، وهذا القول ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام أن الشرط السابق للعقد كالمقارن له، قال صاحب الفروع:" ويتوجه كنكاح " أي كما أن النكاح يعتبر فيه الشرط السابق وإن لم يقارن العقد فكذلك في البيع، وهذا هو الراجح، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده: (المسلمون على شروطهم) [ت 1352، وذكره البخاري معلقا مجزوما به] وهذا شرط، ولأن العاقد المشترط لم يبع هذه السلعة إلا بهذا الشرط، فهو لا يرضى بانتقالها عن ملكه إلا بهذا الشرط، فكان عدم وجود الشرط مخلا بالرضا في العقد، والذي هو من شروط البيع.
قوله [منها صحيح كالرهن المعين]
أي أن الشروط في البيع منها الصحيح المعتبر كالرهن، كأن يقول: أنا أبيعك هذه السلعة بشرط أن أرهن بيتك أو سيارتك أو نحو ذلك، فهذا شرط صحيح، كذلك إذا اشترط ضامن كأن يقول أبيعك بشرط أن تأتي بضامن، فإن لم تأت بضامن فلي الفسخ، فكذلك هذا شرط صحيح.
قوله [وتأجيل الثمن]
كأن يقول: أشتري منك هذه السلعة بشرط أن أعطيك ثمنها بعد شهر، فهذا شرط صحيح.
قوله [وكون العبد كاتبا أو خصيا أو مسلما والأمة بكرا]
هذه شروط صحيحة لأنها لا تخالف كتاب الله.
قوله [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهرا]
مثاله: أن يقول أبيعك داري بشرط أن أسكنه شهرا ونحو ذلك، فهذا جائز.
قوله [وحملان البعير إلى موضع معين](13/64)
قوله (معين) أتى بهذا القيد لأنه لو قال (إلى موضع) فإن فيه جهالة، والجهالة ممنوعة، فلا بد أن يكون الأجل معلوما، والموضع في الحملان معلوم، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله، قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك) [خ 2718، م 715] ، فهذا شرط صحيح.
قوله [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله]
قوله (تفصيله) التفصيل غير الخياطة، فالتفصيل هو أن يقطع الثوب حتى يتهيأ للخياطة، والشروط التي ذكرها المؤلف شروط صحيحة، لأنها لا تخالف كتاب الله، ولأنها لا تحالف مقتضى العقد، فإن وفى المشروط وإلا فلمن اشترط الفسخ.
قوله [وإن جمع بين شرطين بطل البيع](13/65)
ولذا قال المؤلف (وإن اشترط على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله) ، فلو اشترط الحمل والتكسير لم يصح فهما شرطان، هذا هو المشهور من المذهب، وأنه إذا شرط شرطين فإنه لا يصح، وإن كان كل شرط بمفرده صحيحا، وقد روى الخمسة والحديث حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) [حم 6633، ت 1234، ن 4611، د 3504، جه 2188] والشاهد في قوله (ولا شرطان في بيع) ، قالوا: فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين شرطين في بيع، وإن كانا شرطين صحيحين، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، لأنه لا يخالف كتاب الله، قالوا: ولا مانع فيه، فإن صحة الشرط لا يبطلها صحة شرط آخر، فهذا شرط صحيح، وهذا شرط صحيح، وكلاهما معتبر، فإذا اجتمعا لم يبطلاه كما لو انفردا، والمعنى يدل على ما قالا، وهذا لا يخالف كتاب الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) قالوا: وليس في كتاب الله ما يدل على إبطال هذه الشروط، وأجابوا عن حديث: (ولا شرطان في بيع) أن المراد به البيعتان في بيعة، وهي بيع العينة، ويدل على هذا أن في موضع هذه اللفظة في مسند أحمد (ولا بيعتين في بيعة) [حم 6879] قالوا: البيعتان في بيعة شرطان في بيع، لأن كل بيعة شرط، فإذا تبايع الاثنان فالبيع بينهما شرط لأن كلا منهما التزم بهذا البيع كما هو ملتزم بالشرط، فالبيع شرط، وهذا القول هو الراجح، إذ لا معنى للنهي عن هذا البيع الذي فيه شرطان صحيحان.
قوله [ومنها فاسد يبطل العقد]
فهذا الشرط يبطل العقد، فليس الشرط باطل فحسب، بل الشرط والبيع باطلان، ومثاله:(13/66)
قوله [كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا آخر كسلف وقرض وبيع وإجارة وصرف]
قوله (كسلف) السلف هو السلم، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن.
فلا يحل بيع سلف، بأن يقول: أبيعك هذه الدار بشرط السلم بيني وبينك، بأن تعطيني عشرة آلاف وأعطيك بعد سنة كذا وكذا من القمح، والراجح جوازه ما لم يكن حيلة إلى الربا، وأما الحديث فالسلف فيه هو القرض كما قال البغوي وغيره، ولا محذور في الجمع بين السلف والبيع ما لم يكن حيلة إلى الربا، وصورة اشتراط القرض في البيع، أن يقول: أبيعك واشترط أن تقرضني مائة ألف، فهذا قالوا: لا يجوز لأنه قد اشترط عقدا في البيع، كذلك بيع وإجارة، كأن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني هذه الدار، أو صرف كأن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تصرف هذه المائة دينار إلى دراهم، وكذلك إذا قال: لا أبيعك حتى تشاركني في الأرض أو نحو ذلك، فهذا كله يبطل العقد، فإذا عقدا مع البيع عقدا آخر، فالبيع باطل والعقد الآخر باطل.
وهذه الصور التي ذكرها المؤلف هي مسائل مجتمعة ذات أحكام متفرقة على الصحيح، لا كما قال المؤلف من أنها يبطل بها العقد مطلقا، أما البيع والقرض فإن ما ذهب إليه المؤلف ظاهر، فإن فيه ربا أو ذريعة إلى الربا، وهو بمعنى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل بيع وسلم) فهو ذريعة إلى الربا الذي نهى عنه الشارع، وكذلك إذا قال: أبيعك كذا بشرط أن تقرضني، فهذا يكون من القرض الذي جر نفعا فهو ربا، فعقد القرض إذا دخل في البيع فإنه لا يصح ويبطل العقد.
أما ما سوى ذلك فالصحيح أنه جائز، وهو مذهب الإمام مالك، إذا لا دليل على المنع، فإذا قال: أبيعك هذه الدار على أن تشاركني في كذا، أو قال: أبيعك هذه الدار على أن تنكحني ابنتك، أو قال: أبيعك هذه الدار على تستأجر بيتي، فهذا كله جائز، إذ لا دليل على المنع، والأصل في المعاملات الحل.(13/67)
واستدل الحنابلة بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، قالوا: وهاتان بيعتان في بيعة، والصحيح أن البيعتين في بيعة هي بيع العينة كما تقدم عن ابن القيم وشيخ الإسلام وغيرهما، وأما هنا فليس كذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فله أوكسهما أو الربا) وليس هذه في مثل الصور المتقدمة.
قوله [وإن شرط ألا خسارة عليه]
مثاله أن يقول: سأشتري منك هذه السلعة بشرط ألا خسارة علي، فإن بعتها بخسارة فهي عليك، أي على البائع، فهذا لا يصح، قالوا: لأنه يحالف مقتضى العقد، فإن مقتضى العقد أن الشخص يملك السلعة إذا اشتراها وكونه يربح أو يخسر هذا أمر راجع له، وأما السلعة فإنها تملك بالبيع، فلا يصح أن يشترط ألا خسارة عليه، ولأن الخراج بالضمان فالضمان عليه وعلى ذلك فالخسارة عليه والربح له.
قوله [أو متى نفق المبيع وإلا رده]
مثاله: قال للبائع: أنا أشتري منك كذا من البر وأبيعها، فإن نفقت، وإلا رددتها عليك، أو رددت الذي لم ينفق عليك، قالوا: هذا لا يصح للمعنى المتقدم من أنه يخالف مقتضى العقد.
قوله [أو لا يبيع ولا يهبه ولا يعتقه]
مثاله: أن يقول: بعتك هذا العبد بشرط ألا تبيعه، أو بشرط ألا تهبه، أو بشرط ألا تعتقه، فهذا كله باطل، لأن مقتضى العقد أن يتصرف البائع بسلعته كيف شاء، فإذا اشترط عليه ألا يبيع أو ألا يهب أو ألا يعتق فهذا يحجر عليه.
قوله [أو إن عتق فالولاء له](13/68)
مثاله: أن يقول بعتك هذا العبد، لكن اشترط عليك إن أعتقته أن يكون الولاء لي، فهذا الشرط باطل، ودليل بطلانه ما ثبت في الصحيحين في قصة بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها، فاشترطوا على عائشة أن يكون الولاء لهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما لولاء لمن أعتق) فإنه لا عبرة بهذا الشرط، ومنه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)
قوله [أو أن يفعل ذلك]
مثاله: أن يقول له: أبيعك هذا السلعة بشرط أن تبيعها أو بشرط أن تهديها أو بشرط أن تعتقه، لكنه استثنى العتق فقال: (إلا إذا شرط العتق) فإذا قال: أبيعك بشرط أن تعتقه فهذا صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الشارع يتشوف إلى العتق ويرغب فيه، فإذا اشترط العتق فهو شرط صحيح، وقال بعد ذلك:
قوله [بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق]
فالمسائل السابقة كلها يبطل فيها الشرط وحده، وأما البيع فيصح، ويكون المشترط بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، فإذا اشترط مثلا ألا يبيعه، فهذا الشرط باطل، ويصح البيع الأول، وللمشترط الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخ.(13/69)
أما مسألة اشتراط الولاء فما ذهب إليه الحنابلة هو الصحيح، فالشرط باطل، لأنه شرط يخالف كتاب الله، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، فإن تراضيا عليه فلا عبرة بتراضيهما على شرط يخالف كتاب الله، وأما سوى ذلك مما ذكروه فاختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد أن هذه الشروط صحيحة، فإذا قال: أبيعك بشرط أنه ما لم ينفق أرده عليك، أو بشرط ألا خسارة علي أو نحو ذلك مما تقدم فالشرط والبيع صحيحان، بشرط أن يكون للبائع قصد وغرض صحيح لا مجرد التحجير على المشتري، مثال ذلك: رجل عنده جارية، ويكره أن يتملكها أي أحد، ويجب أن يتملكها من هو مستحق لها، فقال: أبيعها عليك بشرط ألا تبيعها، أو بشرط ألا تبيعها إلا وأن أكون أنا أحق بالبيع بالثمن نفسه، أو ألا تبيعها إلا على من يتصف بكذا وكذا ونحو ذلك، أو أن يكون الشرط في مصلحة المبيع نفسه، كأن يقول أبيعك عبدي بشرط ألا تبيعه لفاسق، فهذه الشروط صحيحة لأن لها غرضا صحيحا، ولا دليل على القول ببطلانها، واختيار شيخ الإسلام هو الصحيح، إن كان هناك غرض صحيح كما سبق، أو مصلحة للمبيع، فإذا تراضى المتعاقدان فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) .
لكن إن قال أشتريه منك بشرط ألا خسارة علي فلا يظهر أن في هذا قصدا صحيحا، فإن قضية الخسارة والربح ليس لها ارتباط باحتياط المكلف لنفسه، فالأظهر في مثل هذا أن ذلك الشرط غير صحيح، وعلى كل حال فالراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام وأنه إذا كان هناك غرض صحيح فإنه يصح.
قوله [وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح](13/70)
مثاله: إذا قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة بألف درهم مؤجلة إلى ثلاثة أيام بشرط أنك إذا لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام فالبيع رد، قال المؤلف هنا: (صح) لحديث: (المسلمون على شروطهم) وهذا شرط فيجب الوفاء به، فإن لم يوف به بطل البيع، كما أن الأصل في الشروط الصحة، وهو لا يخالف كتاب الله، وهذا كما لو باع واشترط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي الكلام عليه وأنه من الخيار الجائز، وهذا نظير المسألة الأولى وقد أجازه الشرع.
قوله [وبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد..... لا يصح]
إذا قال بعتك إن جئتني بكذا، أو قال: بعتك إن رضي زيد، فهذا بيع معلق، وليس بيعا منجزا، فلا يصح وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن البيوع تكون منجزة لا معلقة، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد جواز ذلك، وأن البيع المعلق صحيح، وقد دلت القاعدة المتقدم ذكرها وهي أن الأصل في العقود الحل، وهذا عقد من العقود، وهذا التعليق لا يخالف كتاب الله، فلا وجه للمنع، والبيع مما تعارف عليه الناس، سواء كان منجزا، أو معلقا، فلم يحدد لنا الشارع التنجيز في البيع، بل أطلقه، فيرجع إلى ما تعارف الناس عليه، وهذا القول هو الصحيح، وعلى ذلك إذا قال: أتعاقد أنا وإياك على هذا البيع لكن بشرط أن يرضى أبي أو أمي فإن لم يرض فلا بيع، فهذا جائز على الصحيح.
قوله [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك لا يصح البيع](13/71)
هذه صورة ثالثة مما لا يصح فيها البيع، وهي رجل اشترى سلعة ووضع رهنا عند مالك السلعة، وقال: إن جئتك بالثمن إلى عشرة أيام وإلا فهذا الرهن لك، أي هو ملك لك، وهذا في الحقيقة بيع معلق، فهو كالصورتين السابقتين، لأنه باعه هذا الرهن بشرط أن يكون البيع لهذا الرهن معلقا، والشرط الذي يقتضي تعليق الرهن هنا هو أنه إذا لم يأته بالثمن إلى عشرة أيام، فكأنه يقول: الرهن إن لم آتك بالثمن إلى عشرة أيام هو لك، فهو بيع معلق، ويستدل الحنابلة على عدم جواز هذه الصورة فضلا عما سبق في الصورتين السابقتين بما رواه الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يَغْلَقْ الرهن عن صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] أي لا يؤخذ منه فيتملك من قبل المرتهن، وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد بل فعله الإمام أحمد أن ذلك جائز، واستدلوا بما تقدم وهو أن الأصل في العقود الحل، وهذا بيع للرهن على سبيل التعليق، فهو كالصورتين السابقتين التين تقدم جوازهما، قالوا: والحديث إنما ينهى عن أن يغلق عليه من غير رضا منه كما كان في الجاهلية، فإن الرجل إذا وضع الرهن ثم لم يأت بالثمن فإنه يؤخذ منه قهرا، فيتملكه المرتهن، فهذا كان من عمل الجاهلية فنهى عنه الشارع، وليست هذه المسألة من هذا الباب، فإن الرهن هنا لم يغلق من صاحبه، بل هو قد أغلقه على نفسه بشرطه الذي اشترطه، والمسلمون على شروطهم، وهذا القول هو الصحيح، لكن إن لم يكن الغبن فاحشا، فإن كان فاحشا فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لا سيما إن غلب على التأخير.
* هل يجوز بيع العربون وإجارة العربون؟(13/72)
وصورة هذه المسألة أن يشتري الرجل السلعة من أحد الناس ويقول: لي الخيار ثلاثة أيام، وهذا مبلغ عندك فإن اشتريت السلعة أكملت لك المتبقي من الثمن، وإلا فإن هذا المبلغ المقدم لك، وهي صورة مشهورة عند الناس، وتسمى بالعربون، وفيها قولان لأهل العلم:
1- قال الجمهور إن هذا محرم، لأنه أكل للمال بالباطل، فلا حق له بأكله، وروى أبو داود في سننه وهو في موطأ مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العربان) [حم 6684، د 3502، جه 2192] أي العربون.
2- وقال الحنابلة بيع العربون جائز، ومثله إجارة العربون بأن يدفع شيئا للمؤجر ويقول إن عزمت على الاستئجار وإلا فهذا الثمن لك، وقد لا يقع بينهما عقد، ويقول هذا المال، وأنا أفكر وأتأمل فإن عزمت على الشراء أكملت ما تبقى من الثمن، وإلا فإن هذا المال لك، واستدلوا بما رواه البخاري معلقا وذكره صاحب المغني وذكر أن الإمام أحمد احتج به، وأن الإمام أحمد قيل له: أتذهب إليه؟ فقال: لم، وهو قول عمر، والأثر:" أن نافع بن الحارث عامل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مكة اشترى دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا " [خ تعليقا (كتاب الخصومات - باب الربط والحبس في الحرم) ] ولا يعلم له مخالف، قالوا: وأما الحديث الذي ذكره الجمهور فإن إسناده منقطع، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد، قالوا: وليس هذا بأكل لأموال الناس بالباطل، فإنه إنما يأخذ المال بسبب تربصه انتظاره، وبقاء السلعة بيده من غير بيع، فإنه يتربص وينتظر حتى يعزم هذا المشتري على الشراء، وقد لا يعزم فيكون قد تربص بهذه السلعة بدون أن يقدر على بيعها، فهذا ليس من أكل أموال الناس بالباطل، فإنه قد تعود عليه مصلحة وقد يلحق به الضرر بسبب التربص، قالوا: ولأن الأصل في المعاملات الحل، وهذا القول هو الصحيح.(13/73)
قوله [وإن باعه بشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ]
مثاله: إذا قال هذه السلعة أمامك، وأنا بريء من كل عيب مجهول، ليبطل عليه خيار العيب، فإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا يكون له الخيار، قال المؤلف: (لم يبرأ) بل للمشتري إذ وجد السلعة معيبة بعد ذلك حق الخيار، فله إما الفسخ أو الإمضاء مع الأرش، وذلك لأن خيار العيب إنما يثبت بعد البيع، ولا يثبت قبله، وهو إنما يثبت بعد الاطلاع على العيب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية: يبرأ إلا أن يكون قد علم بالعيب فلا يبرأ، أما إن كان هذا القائل جاهلا بعيوب هذه السلعة ولا يعرف عيوبها فيقول: أن أبيعك هذه السلعة وأنا لا أعرف هل فيها عيب أم لا، وأريد أن تبرأني من كل عيب مجهول، فإن شئت تشتريها هكذا، وإلا فلا أبيعها عليك، وهو صادق من حيث كونه لا يعلم إن كان فيها عيب أم لا، فإن هذه التبرئة صحيحة معتبرة، وذلك لأن الطرف الآخر قد أسقط حقه ولم يقع غش ولا خداع ولا غرر من البائع.
أما إذا قال: أنا بريء من كل عيب مجهول، وكان البائع عالما بوجود عيب فإن هذا لا يقبل ولا يعتبر، بل الخيار ثابت، وذلك لأن هذا غش وخداع وغرر، فكان الخيار ثابتا، وما قاله رحمه الله ظاهر، فإنه إذا لم يعلم شيئا من العيوب فإنه لم يقع منه ما يقتضي جواز الفسخ للآخر وقد أسقط الآخر حقه، وأما إذا كان عالما بالعيوب فإنه قد غش وخدع، فعند ذلك يثبت الخيار للآخر، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه والبيهقي بإسناد صحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان، فقضى على ابن عمر أن يحلف له، لقد باعه العبد وما به داء يعمله، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فصح عنده، فباعه بألف وخمسمائة.(13/74)
أما إذا سمى العيب ومع ذلك اشتراها وبرأه من العيب فإن الخيار لا يثبت بعد ذلك، وذلك لأنه قد أطلعه على العيب فرضي به وأسقط حقه في الخيار.
قوله [وإن باعه دارا على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل صح]
مثاله: إذا قال أبيعك هذه الدار وهي عشرة أذرع، واتفقا على ذلك، فبانت تسعة أذرع أو بانت أحد عشر ذراعا، صح البيع، وما كان من زيادة فللبائع، وما كان من نقص فعليه، فإذا كان هناك زيادة فيؤخذ من الأرض عشرة أذرع ويترك الباقي للبائع، وإن كان هناك نقص فعليه الثمن الفارق، فمثلا باعه عشرة أذرع بألف درهم، فبانت تسعة أذرع، فإنه يعطيه مائة درهم، والبيع صحيح لأن الشروط قد توفرت.
قوله [ولمن جهله وفات غرضه الخيار]
مثاله: إن قال المشتري أنا أجهل أنها تسعة أذرع وأظنها عشرة أذرع، وغرضي يفوت، فإني أريد أرضا قدرها كذا وكذا من الأذرع، وهذه الأرض التي اشتريتها لا تفي بالغرض، فإن له الخيار، وإن أعطاه الثمن الفارق، فإن له رفضه وفسخ البيع، وذلك لفوات غرضه.
* فالبيع صحيح، لكن هل يثبت له الخيار؟
إن جهل وفات غرضه فله الخيار، وهذا الخيار بفوات غرضه، وشرطه الجهل، لأنه إذا دخل على بصيرة فليس له الخيار، فإنه دخل على علم ومعرفة فلا يحق له والحالة هذه الفسخ، أما إذا كان جاهلا لكن لم يفت غرضه فإنه حينئذ يلزم بالبيع ولا يثبت له الخيار، لأن البيع قد لزم، وليس له غرض معين بما حدده.
باب الخيار
الخيار اسم مصدر من اختار، والمصدر اختيارا، والخيار: هو الأخذ بخير الأمرين بين الإمضاء والفسخ.
قوله [وهو أقسام، الأول: خيار المجلس](13/75)
قالوا: وهو خيار مكان التبايع، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا) [خ 2079، م 1532] وفي الصحيحين أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحد منهما البيع فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] فهذان الحديثان يدلان على ثبوت خيار المجلس، أو خيار عدم التفرقة.
وظاهر ما تقدم أن الخيار يثبت في مكان البيع، وأنهما إن لم يكونا في مكانه، وإن لم يتفرقا فإن الخيار ينتهي، لأنه مرتبط بعدم مفارقتهما للمكان، هذا هو ظاهر كلامهم، وظاهر الحديث خلاف هذا، وأنهما إذا كانا جميعا فالخيار باق، فلو كانا في سفر وهما في سيارة فالخيار باق، مع أن السيارة تنتقل من موضع إلى موضع، أما إذا تفرقا فإن البيع يمضي ولا فسخ.
ولم يقل بخيار المجلس الإمام مالك احتجاجا بعمل أهل المدينة، والحديث حجة عليه، ولا يصح حمل الحديث على تفرق الأقوال لأن الأقوال مجتمعة بالإيجاب والقبول لا متفرقة، وتأويلهم البائع بالسائم ضعيف جدا لأن الأصل الحقيقة أولا، وثانيا: أن الخيار للسائم معلوم لا يحتاج إلى بيان، والقول بخيار المجلس هو قول سعيد بن المسيب وهو إمام أهل المدينة في عصره، فكيف يقال إن إجماع أهل المدينة على خلافه.
قوله [يثبت في البيع والصلح بمعناه](13/76)
أما في البيع فظاهر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار) ، وقوله (والصلح بمعناه) أي الصلح الذي بمعنى البيع، وهو الصلح الذي يتم بعوض، كأن يقر رجل لآخر بسلعة قد اختلفا فيها، فيأخذ صاحب السلعة من المقر عوضا عن سلعته، فيقول مثلا: هذه سلعتك وأصالحك عليها بأن أدفع لك كذا وكذا، فهذا صلح بمعنى البيع، وذلك لاشتماله على العوض، فهو بيع فثبت فيه الخيار.
فالحديث ورد في البيع فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات.
قوله [وإجارة]
كذلك الإجارة يثبت فيها الخيار، فإن استأجر شيئا، وقلنا إن الإجارة من العقود اللازمة، فإن الإجارة بعوض، فهي بيع، لكنه بيع منفعة، ففيها معنى البيع، لاشتمالها على العوض، فإذا اتفقا على أن يستأجر منه هذه الدار ستة أشهر، بعشرة آلاف، وهما بعد لم يتفرقا، فأراد أحدهما الفسخ فله ذلك، ولكل منهما الخيار.
قوله [والصرف والسلم]
فكذلك يثبت فيهما الخيار، لأنهما بيع.
قوله [دون سائر العقود]
كالرهن والحوالة والضمان والشركة والمساقاة والمزارعة (على القول بأن العقد فيهما جائز وليس بلازم وهو أحد الوجهين في المذهب) والهبة والوقف والوصية وغير ذلك من العقود، فهذه العقود لا يثبت في خيار المجلس، وذلك لأن هذه العقود إما أن تكون غير لازمة، أي عقود جائزة، والعقد الجائز لا يحتاج إلى الخيار فهو جائز، فللشص أن يمضيه وله أن يفسخه من غير أن يحتاج إلى خيار، كعقد الشركة، فلكل واحد منهما الفسخ فلا يحتاج إلى خيار، وهذا باتفاق العلماء، ومنها - أي مما تقدم - ما هو عقود لازمة لكن لا عوض فيها كالوقف والوصية، فهي عقود لازمة ولا عوض فيها، ولذا فلا تلحق بالبيع، وقد نص الشارع على البيع فليحق به ما هو في معناه، وحيث كان العقد اللازم لا عوض فيه فإنه ليس في معنى البيع، وعلى هذا فسائر العقود ليس فيها خيار.(13/77)
وحكى الوزير الاتفاق على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود غير اللازمة كالشركة ولا في العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض كالنكاح.
قوله [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما]
فلكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما، وعلم من كلام المؤلف أن المرجع في التفرق إلى العرف، وذلك لأن كل ما لم يضع الشارع له حدا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فالشارع قال: (ما لم يتفرقا وكانا جميعا) فيحتاج إلى تحديد التفرق، بأي شيء يكون؟ فلم يضع الشارع لنا حدا فيه، فالعرف يكون هو الحد.
فإذا كانا في غرفة فخرج أحدهما منها فهو تفرق في العرف، وكذلك إذا كان في فضاء كأن يكونا في السوق فإذا استدبر أحدهما الآخر فمشى خطوات يسيره فالعرف يقول هذا تفرق، وإذا كانا في سفينة أو سيارة فكان أحدهما في أعلاها والآخر في أسفلها فهذا تفرق في العرف، وهكذا.
قوله [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]
إن نفياه قبل العقد فقال أحدهما أريد أن نتعاقد على هذا البيع بشرط ألا خيار بيني وبينك، فقال الآخر: رضيت، فهذا صحيح، وإسقاطه يكون بعد ثبوت العقد.
قوله [وإذا أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر](13/78)
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو يخير أحدهما الأخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] ولأنه حق لهما لمحض مصلحتهما، فإذا أسقطاه أو نفياه أو أسقطه أحدهما فإنه يسقط، أما الآخر الذي لم يسقط حقه فإنه لا يسقط، ويدل لهذا أيضا ما رواه الخمسة إلا ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار - أي عقد فيه خيار - ولا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله) [حم 6682، ت 1247، ن 4483، د 3456] أي ليس لأحدهما أن يبادر الآخر بالمفارقة خشية أن يستقيل الآخر البيع، أي يرجع فيه بحق الخيار الذي هو له، فهذا لا يجوز، وهو الصحيح في المذهب، أما إذا فعل ذلك بغير نية تضييع حقه في الرجوع عن البيع فلا شيء في ذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) ، وأما ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البخاري أنه باع مالا له بالوادي بمال لعثمان بخيبر، قال: فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، فالجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن يقال: لعله لم يبلغه النهي.
الوجه الثاني: أنه بادره لطول مجلس عثمان - رضي الله عنه - فإنه كان الخليفة.
فإن فارقه خشية أن يستقيله فقد قال الحنابلة: ويثبت التفرق بذلك، في هذا نظر، بل الأظهر أن التفرق لا يثبت، لأنه تفرق غير شرعي، فهو تفرق منهي عنه، وما دام منهيا عنه فهو فاسد، لا عبرة به، وعلى هذا يثبت الخيار ولا يثبت التفرق لما سبق، وإذا جوزنا ذلك وقلنا إن التفرق يثبت فإننا بذلك نفتح بابا لمثل هذا الفعل، فالأصح أنه لا يثبت التفرق ويظل الخيار كما هو.(13/79)
ومما لا يقع فيه الخيار العتق، فإذا اشترى رجل من آخر رقيقا يعتق عليه، أو يقول المشتري: إذا اشتريت فلانا فهو حر، فإذا اشتراه فإنه يعتق مباشرة ولا خيار، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، ومثل ذلك الكتابة، فلو أن رجلا كاتب مملوكه على كذا وكذا من الأقساط يدفعها له شهريا أو سنويا، فليس للسيد الخيار في مثل هذا العقد، وإن كان بمعنى البيع، وذلك للعلة السابقة، وهي تشوف الشارع إلى العتق، قالوا: ومثل ذلك إذا كان متولي طرفي العقد واحد، كرجل وكل من بائع أن يبيع له، ومن مشتري أن يشتري له، فهنا لا خيار، إذ لا يمكن إثبات الخيار لتعذر التفرق في الشخص الواحد.
وقال بعض أهل العلم من الحنابلة: بل يثبت الخيار، ويكون الخيار ما دام في المجلس الذي أوقع فيه العقد، والذي يظهر هو القول الأول، وان هذا إنما حيث كان طرفا العقد شخصين، لئلا تخرج السلعة من صاحبها إلا بعد الرضا التام، وحيث كان واحدا فإن هذا لا يحتاج إليه، إلا أن يكون الخيار له بالنظر في مصلحة كل من الطرفين الذين تولى عنهما البيع والشراء فقد يكون في القول الثاني قوة.
* وهل يورث الخيار؟
فيه قولان في المذهب، ومثاله: إذا مات الرجل في مجلس الخيار، فهل يورث خياره أم لا؟ فقال بعضهم إنه لا يورث، لأن الموت أعظم فرقة، وهذا هو المشهور من المذهب، وقال بعض أهل العلم إنه يورث، وهذا هو القول الثاني في المذهب، وذلك لأن الخيار حق له فيورث كسائر الحقوق، والقول الأول أظهر لأن الأصل لزوم البيع والموت أعظم فرقة.
قوله [وإذا مضت مدته لزم البيع]
أي إذا تفرقا في مدته لزم البيع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع) ، فمراد المؤلف بقوله (وإذا مضت مدته) أي مدته التي تقدمت أنها معتبرة بحسب العرف، وهو التفرق العرفي بالأبدان.(13/80)
قوله [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]
هذا هو النوع الثاني من أنواع الخيار، وهو خيار الشرط.
والفارق بين خيار المجلس وبين خيار الشرط أن خيار المجلس من وضع الشارع، وأما خيار الشرط فهو من وضع المتعاقدين، فخيار الشرط خيار وضعي، وأما خيار المجلس فهو خيار شرعي.
وخيار الشرط يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، ويدل عليه قول الله تعالى {أوفوا بالعقود}
وقوله (أن يشترطاه) ظاهره أنهما لو اشترطاه قبل العقد فليس بمعتبر، وأنه يشترط أن يكون في صلب العقد، فلو قال رجل لآخر: لو بعتني سلعتك على أن يكون الخيار لي شهرا، فقال الآخر بعتك، فقال: قبلت، فشرطه هذا ليس بمعتبر، لأنه ليس في صلب العقد، وإنما يكون معتبرا إذا قال: بعني على أن يكون الخيار لي لمدة شهر، ثم يقول: قبلت، والراجح في هذه المسألة نظير المسألة السابقة، وأن هذا داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وهذا عام في الشروط كلها، سواء كانت في صلب العقد أم قبله، وتقدم الاستدلال بمزيد أدلة على هذه المسألة في الشروط في البيع، فقد تقدم أن الشروط في البيع في المشهور من المذهب لا تصح إلا في صلب العقد، وتقدم أن الراجح أنها تصح قبله.
وكما أن خيار الشرط يصح في صلب العقد، فيصح أثناء مدة الخيار، سواء كان الخيار خيار شرط أو خيار مجلس، فإذا قال: بعتك هذه السلعة على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، فقال: قبلت، فقبل أن تتم المدة قال: أريد أن يكون الخيار شهرا، فإن ذلك مقبول لأن البيع لم يجب بعد، ومثل هذا في خيار المجلس، بأن قال قبل أن يتفرقا: اشترط الخيار لمدة شهر، وكانوا لم يشترطوا ذلك في العقد، فإن ذلك جائز.(13/81)
وقوله (مدة معلومة ولو طويلة) ولو كانت شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين، فإن ذلك يصح، فلو اشترى من آخر بيتا، وقال لي الخيار سنة، فذلك جائز، قالوا: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، إلا أن يكون مما لا يبقى إليها في العادة، وقال الأحناف والشافعية: لا يصح إلا ثلاثة أيام، قالوا: لأن الأصل إمضاء البيع، ولم يثبت لنا خيار في الشرع أكثر من ثلاثة أيام، كما في خيار التصرية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المصراة: (فله الخيار ثلاثة أيام) وكذلك أثبته للمسترسل كما في سنن الدارقطني والبيهقي أن له الخيار ثلاثة أيام، قالوا: فهذا أقصى حد لمدة الخيار في الشرع فلا نزيد عليه، وقال المالكية: الأصل أنه ليس له الخيار إلا ثلاثة أيام، إلا أن يحتاج إلى هذا كأن تكون السلعة من السلع التي لا يكفي فيها ثلاثة أيام، أو يكون عنده سفر أو مرض أو نحو ذلك مما يعيقه عن النظر في السلعة، فهنا يمكنه أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام بحسب المدة التي يحتاج إليها، وأظهر المذاهب فيما يظهر مذهب الحنابلة، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وأما خيار التصرية وأنه أقصى خيار ثبت في الشرع ففرق بين ما وضعه الشارع، وما وضعه المتعاقدان، فإن خيار الشرط من وضع المتعاقدين، فما دام أنهما قد تراضوا على مدة معلومة، فإن ذلك جائز.(13/82)
وقوله (معلومة) يدل على أنها لو كانت مجهولة فإن الخيار لا يصح، وعليه فيكون له الخيار فورا، فإن شاء فسخ وإلا أمضى، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، فلو قال: بعتك على أن يكون لي الخيار مدة من الزمن أو حتى يأتي فلان، ونحو ذلك فإنه لا يصح، ومثله لو كان على التأبيد، كأن يقول لي الخيار أبدا، لما في ذلك من الجهالة والغرر، وقال المالكية: يصح البيع ويحد لهما من الزمن مدة تكفي للخيار، وتجربة المبيع في العادة، فيضع لهما القاضي مدة تكفي لتجربة المبيع وللمشاورة، وهذا يختلف من سلعة إلى أخرى، وقال شيخ الإسلام يثبت لهما الخيار ثلاثة أيام لأنه هو الخيار الذي ثبت عن الشارع كما في حديث التصرية، وهذا هو أظهر الأقوال، وذلك لأن الشارع قد وضع هذه المدة في الخيار، على أن قول المالكية له وجه وقوة.
قوله [وابتداؤهما من العقد]
فإذا قال كل منهما لي الخيار ثلاثة أيام، فإن هذه المدة تبتديء من العقد، وهذا ظهر.
قوله [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]
إذا مضت مدة الخيار فإنه يبطل ويثبت البيع، وتحديد المدة في الخيار يجوز مع الاختلاف، فيجوز أن يشترط البائع له ثلاثة أيام، ويشترط المشتري له عشرة أيام، لأن ذلك حق لهما، فإذا مضت مدة أحدهما أو مدتهما فإن الخيار يبطل ويثبت البيع.
وقوله (أو قطعاه) بأن قال كل منهما ليس بيننا خيار، فهذا جائز، ويبطل به الخيار، ويثبت معه البيع، لأن هذا حق لهما، فإذا قطعاه فقد أسقطا حقهما برضاهما، ويجوز أن يسقط أحدهما حقه في الخيار دون الآخر.
قوله [ويثبت في البيع والصلح بمعناه](13/83)
فخيار الشرط يثبت في البيع كخيار المجلس، والمسلمون على شروطهم، ويثبت في الصلح بمعناه، وهو الصلح بعوض، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يثبت في مثل الصرف والسلم وغيرهما من العقود اللازمة ذات العوض التي تقدم ثبوت خيار المجلس فيها، واختار بعض الحنابلة ثبوت خيار الشرط فيما يثبت فيه خيار المجلس وهذا هو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) .
قال شيخ الإسلام:" ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة " ا. هـ
فإن قيل: إن الصرف يشترط فيه التقابض، فيكف يثبت فيه الخيار؟
فالجواب: لا إشكال في ثبوت الخيار مع التقابض، فكل منهما يقبض ماله، وما تعاقدا عليه، ومع ذلك فالخيار ثابت وليس هذا من الربا في شيء، فالصحيح أن كل ما ثبت فيه خيار المجلس فإن خيار الشرط يثبت فيه ولا فرق، وقد أثبت الشارع خيار المجلس في مثل هذه العقود فدل على جواز أصل الخيار فيه فإذا أثبته المتعاقدان لأنفسهم برضا منهم فإنه يثبت لهم.
قوله [والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد]
يثبت خيار الشرط في الإجارة في الذمة مطلقا، والإجارة في الذمة هي الإجارة على بناء حائط أو على عمل بمزرعة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك، فيثبت الخيار لأن المسلمين على شروطهم، وليس فيه المحذور الذي ذكر الحنابلة في مثل الصرف والسلم.
وقوله (أو على مدة لا تلي العقد)
فالخيار في الإجارة على مدة معينة فيه تفصيل:
فإن كانت على مدة لا تلي العقد فالخيار صحيح، كأن يكونا في الخامس من محرم فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة، وابتداؤها من أول شهر صفر، على أن يكون لي الخيار لمدة عشرين يوما، فهنا الخيار واقع في مدة لا تلي العقد، لأن العقد لا يثبت إلا في أول صفر، والخيار يكون قبله فيكون صحيحا.(13/84)
أما إن كانت على مدة تلي العقد فإن ذلك لا يصح، كأن يكونا في الخامس من محرم، فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة على أن يكون ابتداء المدة من الآن، ولي الخيار ثلاثة أيام، فهذا لا يصح، لأن الخيار في مدة تلي العقد، قالوا: لأنه حينئذ ينتفع بهذه العين المستأجرة في مدة الخيار، فكيف يثبت الخيار مع انتفاعه بها، ففي ذلك تفويت لشيء من الانتفاع، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن هذا جائز، وأن هذه المدة التي انتفع بها المستأجر تحسب عليه بأجرة المثل، بمعنى: استأجر منه هذا البيت اليوم، وقال لي الخيار سبعة أيام، واستفاد من البيت خلال السبعة أيام، وفي خلالها أراد الفسخ، فحينئذ يعطي المستأجر المؤجر أجرة المثل للأيام التي انتفع بها، وحينئذ لا يفوت عليه شيء، وهذا هو الصحيح أن الإجارة بنوعيها - الإجارة في الذمة أو الإجارة على مدة يجوز فيها خيار الشرط ويثبت.
قوله [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]
فإذا قال أحدهما: لي الخيار ثلاثة أيام، وأما أنت فلا خيار لك، أو قال: أنا لا خيار لي، فهذا جائز، لأنه حق لكل منهما، فمن أثبته فلنفسه، ومن نفاه فعليها، فلا يشترط أن يكون الخيار ثباتا لهما جميعا.
قوله [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله](13/85)
إذا قال: أبيعك هذه السلعة ولك الخيار إلى الغد أو إلى الليل، فإن الخيار يسقط بأول جزء منه، فإذا قال: إلى الغد، فإنه يسقط بأذان الفجر، وإذا قال: إلى الليل فإنه يسقط بأذان المغرب، وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أن الغد كله يدخل وأن الليل كله يدخل، أما أهل القول الأول فقالوا: إن لفظة (إلى) لانتهاء الغاية، فإذا قال: إلى الغد فإنه ينتهي ويكون ذلك بأوله، وقال الأحناف هي بمعنى (مع) كما قال تعالى {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، والراجح أن (إلى) بمعنى (حتى) فهي لانتهاء الغاية، فإن الحد يباين المحدود، وأنت إذا قلت: بعتك هذه الأرض من هذا إلى تلك الشجرة، فإن الشجرة لا تدخل لأن الحد غير المحدود، وأما إذا كان الحد من جنس المحدود فإنه يدخل، كقوله تعالى {إلى المرافق} ، فإن المرفق من اليد، ولذا من حيث اللغة ما ذهب إليه الحنابلة أقوى، والصحيح في هذه المسألة عدم الرجوع إلى اللغة، ولكن المرجع هو العرف، فما تعارف عليه الناس فهو المعتبر، وذلك لأنه عندما يتلفظ بتلك اللفظة إنما يريد ما هو معروف عند الناس، فمثلا الباعة في الأسواق إذا قالوا: لك الخيار إلى الغد، فليس مرادهم بالغد أذان الفجر، وإنما عندما تفتح الأسواق ونحو ذلك، فالراجح أن العبرة في ذلك بالعرف.
قوله [ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه]
لكل من له الخيار الفسخ ولو كان الآخر غائبا أو ساخطا، فلا يشترط أن يلتقيا ليخبره بالفسخ، لأنه حق له فله الفسخ متى شاء، وكذلك إن كان الآخر ساخطا.(13/86)
وظاهره أن الفسخ يثبت ولو لم يرد الثمن، كأن يأخذ البائع عشرة آلاف على هذه السلعة، ويشترط المشتري له الخيار، ثم يقول المشتري في زمن الخيار: أنا فسخت البيع، فظاهر هذا أن الفسخ يثبت وإن كان المبيع ما زال في يده أو كان الثمن ما زال في يد الآخر، وهذا لا شك أنه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فقد يجحد، وقد يأبى دفع هذا المال، ولذا فعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وصوبه في الإنصاف أن الفسخ يثبت برد الثمن، وذلك سدا للذريعة، وعلى هذا ففي المثال السابق لا يثبت الفسخ إلا بأن يرد المشتري السلعة إلى البائع، ويرد البائع الثمن للمشتري، لئلا يكون هذا ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل.
قوله [والملك مدة الخيارين للمشتري]
فالملك مدة خيار الشرط وخيار المجلس للمشتري، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه السبعة: (من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [حم 4538، خ 2379، م 1543، ت 1244، ن 4636، د 3433، جه 2211] فدل على أن المبتاع إذا اشترط المال الذي بيد العبد فهو له، واللام للتمليك، فدل على أن البيع الثابت فيه الخيار يثبت فيه ملك كل واحد منهما لما في يد الآخر، وإن كان الفسخ ثابتا للآخر، فالبائع مالك للثمن وإن كان الآخر له الفسخ، والمشتري مالك للسلعة وإن كان البائع له الفسخ، للحديث المتقدم، ويترتب على هذه المسألة:
قوله [وله نماؤه المنفصل وكسبه]
فإذا نما المبيع نماء منفصلا فهو لهذا المالك الذي هو تحت يده، مثلا: اشترى شجرا، وكان الخيار مدة سنة، فأثمر الشجر، فإن الثمر للمشتري، ما دام الخيار ثابتا، وكذلك الكسب، فلو اشترى عبدا، فإن كسبه يكون له مدة الخيار، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح [حم 23704، 25468، ت 1285، ن 4490، د 3508، جه 2243] .(13/87)
فالخراج: أي ما يخرج من الشيء من ثمر أو كسب ونحوه.
بالضمان: أي لمن كان الضمان عليه.
والضمان مدة الخيار عن السلعة التي بيده، وإن كان الآخر له حق الفسخ، وعلى هذا فالنماء المنفصل والكسب يكون لمن كان الثمن أو المبيع بيده.
وأما نماؤه المتصل فلم يذكره المؤلف، وهو للبائع، وهذا هو المشهور، وهو مذهب جماهير أهل العلم، وحكي إجماعا، فمثلا: رجل اشترى شاة فبقيت عنده لمدة شهر أو شهرين وكان الخيار فيها مدة سنة، فسمنت الشاة، فهذا السمن ليس للمشتري، وهو وإن كان في ملكه لكنه نماء متصل، ويثبت تباعا مالا يثبت استقلالا، واختار شيخ الإسلام أن النماء المتصل للمشتري أيضا وهذا القول هو الراجح، لعوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) ، ولأنه نما في ملكه، وحينئذ يقوم المبيع، ففي المثال السابق تقوم الشاة لما كانت هزيلة وقت البيع، وتقوم لما كانت سمينة عند الفسخ، ويدفع الفرق للمشتري، فإذا كانت وهي هزيلة تساوي ثلاثمائة، فلما كانت سمينة أصبحت تساوي خمسمائة، فهنا يدفع البائع للمشتري مائتين.
قال الأحناف والمالكية: الملك مدة الخيار للبائع، قالوا: لأن الخيار مانع من ترتب آثار العقد عليه، وعليه فالنماء مدة الخيار للمالك، والراجح ما تقدم لأن العقد صحيح فتترتب آثاره عليه والخيار إنما يمنع لزوم البيع.
قوله [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع وعوضه المعين]
فلا يصح لأحدهما أن يتصرف في المبيع، فمن أخذ السلعة فليس له أن يتصرف فيها، بمعنى أن ليس له أن يبيعها ولا أن يهبها ولا أن يتبرع بها، فكل هذا محرم، لأن حق الآخر في الفسخ يسقط بمثل هذا التصرف، ولا يجوز إسقاط حقه في الفسخ، وعن الإمام أحمد أن البيع يصح، ولكنه يكون موقوفا على إجازة الآخر، وهذا هو الراجح كما تقدم في تصرف الفضولي، وهذا أولي من تصرف الفضولي.(13/88)
وقوله (وعوضه المعين) لأن عوضه الذي يكون في الذمة لم يثبت عليه العقد، فالعوض المعين كقوله: بعتك هذه الدار بهذا الشيء، فهذا الشيء المعين لا يصح التصرف فيه ولا يجوز، لكن لو قال: بعتك هذا الشيء بعشرة آلاف، فله أن يتصرف فيها لأن العشرة آلاف غير معينة، فالواجب عليه متى ثبت البيع أن يعطيه عشرة آلاف، وعلى ما تقدم يصح التصرف حتى لو كان معينا ويكون موقوفا.
قوله [بغير إذن الآخر]
أما إذا أذن الآخر فلا إشكال في جوازه، مثاله:رجل اشترى سلعة من آخر، وكان بينهما الخيار، وقال له: أريد أن أبيعها أو أهبها، فوافق الطرف الثاني، فإن له ذلك، ولا إشكال في جواز هذا.
قوله [بغير تجربة المبيع]
أما إذا تصرف تصرفا للتجربة فذلك يجوز، كأن يذهب بها إلى السوق فيزايد عليها مزايدة ليعرف ثمنها، كذلك لو ركب الدابة ليعرف سيرها، فهذا جائز لأن مثل هذه التصرفات هي المقصودة من الخيار، لأن الخيار إنما وضع لمثل هذا.
قوله [إلا عتق المشتري](13/89)
مثاله: رجل اشترى عبدا، وقال للبائع لي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الأول أعتقه المشتري، قالوا: فإنه يعتق العبد، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو مذهب الجمهور، والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخيار لا يسقط وإن كان العتق يسري ويصح لكن الخيار لا يسقط، وحينئذ يقوم العبد في اليوم الذي أعتق فيه ويعطى البائع حقه، فلا يؤدي تصرف المشتري إلى فسخ العقد، بل للبائع الخيار، فإن شاء أن يرضى بمثل هذا البيع، وإن شاء لم يرض، وهو إن لم يرض فإن العبد يصح عتقه لكن ينظر في اليوم الذي أعتق فيه كم يساوي، واختار الشيخ السعدي أن العتق لا يصح، وهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وأنه يكون أيضا - وإن لم يكن هذا من كلام الشيخ السعدي - موقوفا على الإجازة، وعلى هذا فالأصل أنه لا يصح ولا يجوز، وذلك لأن الشارع وإن كان متشوفا إلى العتق لكنه متشوف إليه بأن يكون بطريق شرعي، وأما أن يكون بغير طريق شرعي فهذا لا يجوز، العتق بطريق غير شرعي يفوت حقوق الآخرين، وكوننا نقومه يوم البيع هذا فيه نظر، فقد يكون وضع الخيار لنفسه لكونه مترددا في بيع هذا العبد وهو يرغب فيه، فالراجح أن العتق لا يثبت وإن كان الشارع متشوفا إليه، ويكون العتق موقوفا على إجازة البائع.
قوله [وتصرف المشتري فسخ لخياره]
هذا إذا كان الخيار له وحده، مثاله: رجل اشترى بيتا وقال لي الخيار ثلاثة أيام، أما البائع فلا خيار له، ثم في اليوم الأول باع البيت، فحينئذ يكون تصرفه فيه ببيع أو هبة إسقاط لحق نفسه في الخيار، وهذا ظاهر، لأن تصرفه دليل على رضاه، وهو أظهر من مجرد اللفظ.(13/90)
كذلك أيضا تصرف البائع يدل على الفسخ، مثلا: قال رجل أبيعك هذه الدار ولي الخيار ثلاثة أيام، ولك الخيار أيضا، فالخيار لهما جميعا مدة ثلاثة أيام، ثم بعد يوم أتى البائع نفسه فباع بيته، فهذا البيع يصح، لأنه له الفسخ، ويكون هذا البيع إبطالا لحق المشتري في الخيار والبيت.
هذا ما قرره الموفق في المغني ورجحه ابن عقيل وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين في المذهب، والوجه الثاني أنه ليس بفسخ لأنه لا يملك، والراجح الأول.
قوله [ومن مات منهما بطل خياره]
هذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن الخيار أمر نفسي يختص بالشخص نفسه، لا يعتاض عنه بغيره، وقال الشافعية والمالكية بل يثبت الخيار للورثة، وهذا هو الراجح، وذلك لأن الخيار حق مالي فيدخل في الإرث، فالشخص يرث كل ما هو للموروث.
قوله [الثالث: إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة]
هذا هو النوع الثالث من أنواع الخيار وهو خيار الغبن، فإذا غبن أو خدع غبنا يخرج عن العادة أي غبنا فاحشا فله الخيار، فليس الغبن العادي خيار، لأنه أمر يقع في العادة، فليس فيه الخيار إلا أن يشترطه على الصحيح كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر رجل له أن يخدع في البيوع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بايعت فقل: لا خِلابة) [خ 2117، م 1533] وهذا عام في كل خداع سواء أكان خداعا مما يجحف به أو ممالا يجحف به، فإذا شرط فقال: لا خلابة أو لا خداع فإن الخداع اليسير يثبت فيه الخيار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم)(13/91)
فإذا غبن غبنا يخرج عن العادة فإن البيع يصح مع خيار الغبن، فله أن يسمك ولا أرش له، وله أن يرد، وإن اختار الإمساك فلا أرش له لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الأرش كما في تلقي الجلب، وهو من خيار الغبن، ولذا نص فقهاء الحنابلة وغيرهم على أنه لا أرش في خيار الغبن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره في تلقي الجلب.
قوله [بزيادة الناجش]
فالغبن له ثلاث صور عند الحنابلة في المشهور من المذهب:
الصورة الأولى: تلقي الجلب، فإنه يثبت فيها خيار الغبن.
الصورة الثانية: زيادة الناجش، والنجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري، والنجش محرم، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن النجش) [خ 2142، م 1516] .
وقال جمهور العلماء إن البيع المسبوق بنجش بيع صحيح، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد أن البيع باطل، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، والنهي يقتضي الفساد، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وأن البيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، بل إلى أمر خارج عنه، وهو النجش أي المزايدة المحرمة، ولأن الضرر الواقع على المغبون يدرأ بالخيار، فيقال له لك الخيار إن شئت أمسكت، وإن شئت رددت، ومثل ذلك ما لو قال البائع: قد اشتريتها بكذا وهو كاذب، فإن هذا من النجش، وهنا وإن كان الزائد هو البائع، فلا فرق بين أن يكون الزائد هو البائع أو غيره، لأن المقصود أن السلعة قد أعطيت غير سعرها المفترض لها ففي هذا غرر على المشتري.
قوله [والمسترسل]
وهذه هي الصورة الثالثة من صور الغبن عند الحنابلة.
والمسترسل: هو الجاهل بالقيمة، الذي لا يحسن المماكسة أي المكاسرة، فهو الذي يطمئن ولا يستوحش من هذا البيع لجهله بالقيمة، وهو لا يحسن المماكسة، ومثله البائع الجاهل بقيمة المبيع.(13/92)
وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي كان يخدع في البيوع: (إذا بايعت فقل لا خلابة) فهذا المسترسل يثبت له خيار الغبن.
وظاهر كلام المؤلف وهو المشهور من المذهب أن خيار الغبن لا يثبت إلا في هذه الصور الثلاث المتقدمة، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب إنه يثبت في كل غبن، فأي بيع يثبت فيه غبن فإن الخيار يثبت فيه، وعليه فلو اشترى شخص يحسن المماكسة بسعر، وغلب على ظنه أمانة البائع ووثق به، وكان عليه غبن فإن الخيار يثبت له إذا تبين له أنه قد غبن، وعلل ذلك القول بان المتعاقدين يدخلان في البيع على أن يتعوض كل واحد منها بقيمة المثل، أو بزيادة أو نقص لا إجحاف فيه، وعليه فإذا كان هناك زيادة فاحشة وإن لم يكن من الصور الثلاثة المتقدمة فإن البيع يخرج إلى معاوضة خارجة عما هو شرط في الضمن، فإن كلا منهما كأنه يشترط على صاحبه الأمانة وأن يبيعه بثمن المثل، ولأنه كما تقدم فإن الشخص وإن كان يحسن المماكسة فقد يغلب على أمره، ويقد يغره البائع، ولذا فالراجح هو ما اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب، لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، بل يجمع بينها بحكم واحد.
* مسألة:
قال شيخ الإسلام:" يحرم تغرير المشتري، بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبا منه " ا. هـ
قوله [الرابع: خيار التدليس]
التدليس مأخوذ من الدُّلْسَة، وهي الظلمة، والمراد بها اصطلاحا: أن يظهر المبيع على صورة أفضل منه في الواقع، والتدليس محرم فإنه خداع والخداع محرم.
قوله [كتسويد شعر الجارية أو تجعيده]
تسويد شعر الجارية بعد أن أصبح أبيضا، وتجعيده أي يجعله مجعدا وهو ضد المسترسل، قالوا: لأنه إذا جعد شعر الجارية فإنه يدل على القوة، فكأنه يدل على شباب وقوة الجارية، وهذا تدليس.
قوله [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها](13/93)
الرحى معروفة، فيجمع الماء ثم يرسله عند العرض على المشترين، فيندفع الماء بشدة فيتحرك الرحى بشدة، وحينئذ يكون في هذا تدليس، لأن هذه ليست سرعتها الحقيقية، وهذا محرم.
ومثل ذلك التصرية، والتصرية أن يحبس اللبن في الضرع عند بيع الشاة ونحوها إظهارا لكثرة لبنها، والحديث فيه هو الأصل في النهي عن التدليس وهو الأصل في ثبوت خيار التدليس، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إنشاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر) [خ 2150، م 1515] وفي صحيح مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) [م 1524] ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشا، فدل على عدم ثبوت الأرش في خيار التدليس، وأن من ثبت عليه التدليس فهو بالخيار إن شاء أمسك ولا أرش، وإن شاء رد.
وأما صاع التمر الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مقابل لهذا اللبن الذي شربه، وهو الذي كان في هذه الشاة عند بيعها، ولذا فإذا رد الشاة على حالها من غير ما تغير فإنه ليس عليه أن يرد صاعا من تمر، وإنما يرد معها صاعا من تمر إذا استعمله.
قال الموفق: وله الخيار متى علم التصرية، وهو الصحيح في المذهب، وقال بعض الحنابلة من حين البيع، فإذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام، وهو أظهر، وأبعد عن الخصومة.
قوله [الخامس: خيار العيب: وهو ما ينقص قيمة المبيع]
كأن يبيع عبدا على أنه كامل الأعضاء فيثبت أنه أقطع اليدين، فهذا عيب ينقص الثمن، فيثبت به خيار العيب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخ المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له) [جه 2246] ، والضابط فيه ما ينقص قيمة المبيع عادة، وعليه فاليسير عادة لا خيار فيه.
ثم ضرب أمثلة لذلك فقال:
قوله [فإذا كمرضه وفقد عضو أو سن أو زيادتهما وزنا الرقيق وسرقته وإباقه وبوله في الفراش](13/94)
هذه كلها عيوب في المبيع من باب التمثيل.
قوله [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]
قوله (بعد) احتراز مما لو علم قبل العقد، لأنه يكون حينئذ قد دخل على بصيرة، فلم يكن له الخيار.
قوله [وهو قسط ما بين الصحة والعيب أو رده وأخذ الثمن]
فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد فله الخيار، وعلى هذا فله أن يمسك ويأخذ الأرش، أو يرد ويأخذ الثمن، والأرش هو قسط ما بين الصحة والعيب.
مثاله: باع عبدا على أنه كامل الأعضاء بمائة وعشرين، ثم العبد أنه أقطع، فنقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت أن تمسك ولك الأرش، وإن شئت أن ترد ولك الثمن، فإذا اختار الإمساك مع الأرش فهنا يقوم العبد لو كان صحيحا، فلو فرضنا أننا قومناه وهو صحيح بخمسة عشر ألفا، وقومناه وهو معيب بعشرة آلاف، فأصبح القسط بين ثمن الصحة والعيب الثلث، فثلث المائة والعشرين هو أربعون، وعلى هذا فعلى البائع أن يرد أربعين للمشتري، وهو أرش ذلك العيب.
وقد قال بإثبات الأرش الحنابلة، وقال الأحناف والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا أرش، فإن شاء أمسك ولا أرش له، وإن شاء رد، واستدل أهل القول الأول بأنه قد فاته جزء من المبيع فاستحق الأرش مقابل ذلك الجزء الفائت عليه، وقال أهل القول الثاني: إن هذا الشيء الفائت نظير الشيء الفائت في مسألة التدليس، فإنه إذا باعه العبد على أنه كاتب فبان غير كاتب فأنتم لا تقولون بأنه له الأرش، لأن هذا من باب التدليس،فكذلك العيب، وأما كونه قد وقع عليه الغرر المتحقق بذلك فإنه يدفعه بخيار العيب، فيرد السلعة وله ثمنه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن سعدي، لأن الشارع لم يذكر الأرش في المصراة وثبت بها خيار التدليس مع فوات صفة فيها يقدر بمال، فكذلك هنا وهو خيار العيب.(13/95)
لكن إن تراضيا على ذلك فلا بأس، كأن يقول البائع: لا تفسخ وخذ هذه الدراهم، فيقبل المشتري فلا بأس.
قوله [وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش]
وهذا ظاهر، وأهل القول الثاني الذي يقولون إنه لا أرش يثبتونه إن تعذر الرد، فهو الآن لا يمكنه الرد، وفي المبيع عيب، فحينئذ لا بد وأن يثبت له الأرش لأن عدم إثباته له يفوت حقه، ومثل ذلك ما إذا أعتق العبد، كرجل اشترى من هو قريب له قرابة لا يحل معها أن يكون رقيقا له، كأن يشتري أخاه، فإنه يعتق عليه، فحينئذ لا خيار، فإذا ثبت أن فيه عيبا ينقص الثمن فله الأرش لتعذر الرد، ومثل هذا لو تلف المبيع وفيه عيب، فإنه يجبر بدفع الأرش بتعذر الرد عليه، فلا يمكن تحصيل حقه حينئذ إلا بهذا الأرش لأن الخيار قد فاته.
قوله [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند وبيض نعام فكسره فوجده فاسدا فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]
هذا في بيع ما لا يعلم فساده وصلاحه إلا بكسره، فإذا اشتراه فكسره ليعلم حاله أهو فاسد أم صالح، فوجده فاسدا فله أن يمسكه وله الأرش وهذا على القول بثبوت الأرش وتقدم بحثه، وإن رده فإنه يرد أرش كسره على البائع، لأن قشره له قيمه، فما دام أنه قد كسره فهذا الكسر له قيمته، هذا إذا كان الكسر مؤثرا، أما إذا كان الكسر غير مؤثر في قيمته فلا أرش حينئذ.(13/96)
والأرش يختلف حينئذ باختلاف التقويم، فإن التقويم يختلف، فإنه في الصورة الأولى - أي التي يمسك فيها المشتري مع أخذ الأرش - يقوم المبيع صحيحا، ويقوم فاسدا غير مكسور، وأما في الصورة الثانية - أي التي يرد فيها المشتري السلعة ويدفع الأرش للبائع - فإن القشر يقوم غير مكسور، ثم يقوم وهو مكسور، وهذا هو المشهور في المذهب، والصحيح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن البيع لا خيار فيه أصلا، وذلك لأن البائع لم يقع منه غرر ولا خداع فإن هذا أمر باطن، إلا أن يشترط، فإذا اشترط أن يكون سليما صحيحا فحينئذ له الخيار لأن المسلمون عند شروطهم، وكذلك الناس يحتاجون إلى التبايع على هذه الصورة المجهولة فلا خيار إلا أن يشترطه.
والكسر - على القول بثبوت الخيار - لا أرش فيه لأنه مأذون فيه، ولا يمكن أن يتعرف على ما في باطنها إلا بهذا الكسر، إلا أن يكون الكسر خارجا عن العادة وخارجا عما يحتاج إليه فحينئذ إن أعادها فعليه أرش قيمة ما أفسد، وعليه فالكسر الذي أذن فيه إنما هو قدر ما يحصل به الاستعلام كما قرر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
قوله [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]
لأن قشره لا قيمة له، فهنا صورتان:
الصورة الأولى: إذا كان القشر له قيمة، كما في المسائل السابقة.
الصورة الثانية: إذا كان القشر لا قيمة له، فليس فيه أرش، بل هو بالخيار إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ولا أرش، لأنه لا قيمة أصلا لهذا القشر، والصحيح ما تقدم أنه لا خيار له إلا أن يشترطه.
قوله [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا](13/97)
فخيار العيب متراخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة فوجد فيها عيبا فله الخيار على التراخي، إن شاء غدا، أو بعد شهر أو بعد سنة ما لم يوجد دليل الرضا، كأن يؤجره أو يهبه أو يبيعه ونحو ذلك، فإذا تصرف فيه تصرفا يدل على الرضا فلا خيار له، لأن هذه التصرفات دليل على رضاه بالعيب، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول الجمهور، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن خيار العيب على الفور، فمتى علم بالعيب فإنه عليه أن يرده فورا إلا أن يكون له عذر بالتأخير، وإن لم يفسخ بالبيع ثابت حينئذ وليس له الحق في الخيار، قالوا: لأنه سكوته وتراخيه دليل على رضاه، ولأن التأخير قد يلحق الضرر بالبائع، وهذا القول هو الراجح، فالصحيح أن خيار العيب على الفورية لا على التراخي، وأنه متى ثبت عنده العيب فعليه أن يرده ما لم يكن له عذر، ومثل ذلك خيار الغبن والتدليس فإنه على الفور للمعنى المتقدم، ونزيد دليلا وهو أن الأصل في البيوع هو اللزوم والخيار خلاف الأصل، ولأن هذا التراخي في الغالب يورث عداوة وبغضاء وخصومة ونحو ذلك، فالراجح أن خيار العيب على الفورية، ومثله خيار الغبن والتدليس، وقال الحنابلة: بل خيار الغبن والتدليس على التراخي أيضا والصحيح ما تقدم.
ويستثنى من ذلك ما نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بيع المصراة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت له الخيار ثلاثة أيام، فإن قيل: فلم لا نثبت الخيار في التدليس ثلاثة أيام؟
فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر ثلاثة أيام لأنها هي المدة الكافية للتعرف هل هذه تصرية أم طبيعة منها، ولذا فإنا نمهل كل من احتاج إلى مهلة ليتعرف على هذا المبيع، وتحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيار التدليس ثلاثة أيام يدل على أنه ليس على التراخي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حدده بأيام والتراخي يخالف ذلك، فإنه ليس محددا.(13/98)
قوله [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا ولا حضور صاحبه]
فهذا الخيار لا يفتقر إلى شيء من ذلك لما تقدم في مسألة شبيهة بهذه المسألة، لأن هذا حق له فمتى فسخ فإن الفسخ يثبت ولا يشترط أن يحضر إلى حاكم ولا أن يرضى الطرف الثاني ولا أن يحضر صاحبه عند القاضي إذا أراد الفسخ ولا غير ذلك.
قوله [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشتر مع يمينه]
إذا اختلفا عند من حدث العيب فهذا يقول حدث عند البائع، وهذا يقول حدث عند المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو المشهور من المذهب، وعللوا ذلك بقولهم: إن الأصل عدم قبض هذا النقص، والعيب نقص، فالأصل أن المشتري لم يقبض المبيع كاملا، وقال جمهور العلماء القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة من العيب، ولأن الأصل هو لزوم البيع ولا خيار فيه، والمشتري مدعي للعيب وأنه حاصل عند البائع، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا القول هو الصحيح، وأما قولهم إن الأصل أنه لم يقبضه كاملا، فإننا نقول إن الأصل أنه قد قبضه كاملا، فإنه قد تم البيع، ووقع المبيع في ضمانه فالأصل أن قبضه كان كاملا.
قوله [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين]
إذا كان العيب لا يحتمل إلا أن يكون عند أحدهما كأن يكون العيب أصبع زائدة في العبد، فحينئذ بلا شك أن هذا العيب موجود في ملك البائع، فلا يقبل قوله إذا ادعى نفيه، لأن الأصل أن هذا موجود من الخلقة وأنه لا يمكن أن يوجد بعد ذلك، أو أن يكون فيه جرح طري لا يمكن أبدا أن يكون إلا بعد العقد، فإذا ادعى المشتري أن هذا الجرح كان قبل العقد فلا يقبل منه ذلك، لأن هذا الجرح لا يمكن إلا أن يكون أثناء ملكية المشتري فحينئذ يقبل قول المشتري في الصورة الأولى، وقول البائع في الصورة الثانية ولا نحتاج إلى يمين فالحق واضح.
* مسألة:
إذا حدث عيب آخر في ملكية المشتري؟(13/99)
مثاله: رجل اشترى سلعة معيبة، لم يعلم بعيبها، فلما أخذ المبيع في ملكه حدث له عيب آخر غير الأول، فهل يثبت له الخيار إذا علم بالعيب الأول أم ينتفي الخيار لثبوت العيب الآخر؟
قولان لأهل العلم هما روايتان عن الإمام أحمد:
1- الرواية الأولى: أنه ليس له الخيار لأن البائع يتضرر حينئذ بإعادة هذا المبيع إليه وفيه عيب آخر، فليس له حينئذ الخيار، بل له الأرش لأن الرد متعذر.
2- الرواية الثانية: أن له الرد، لأن الأصل هو بقاء الخيار ما دام أن العيب موجود، ولا يسقط حقه في الخيار لوجود عيب آخر في ملكيته، ويدفع الضرر عن البائع بأن يعطيه أرش هذا العيب الذي حدث جديدا، وهذا القول هو الراجح، فإن الأصل ثبوت الخيار، ولا دليل على إسقاطه، وكونه يتجدد عنده عيب فنقول يرد المبيع ويدفع الضرر المتجدد على البائع بأن يعطيه الأرش.
قوله [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]
تخبير الثمن أي الإخبار به، بأن يقول هو علي بكذا وما أبيعه إلا بكذا، وستأتي صوره، فإذا ثبت أن إخباره بالثمن كان خلاف الواقع وهو كذب أو غلط منه فإن الخيار يثبت فيما سيذكره المؤلف.
وقوله (أو أكثر) هذا وهم من المؤلف، وهذه العبارة ليس لها أصل في كتب الحنابلة، ولا يمكن أن يكون الإخبار بأكثر من الثمن.
قوله [ويثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة]
التولية: أن يبيعه السلعة برأس مالها، فيقول هذه السلعة لك برأس مالها وهو عشرة آلاف.
الشركة: أن يبيع السلعة بقسطه من رأس المال، بأن يكون المشتري شريكا له، فيقول هذه الأرض التي مساحتها مائة متر بمائة ألف، ولك نصفها من الثمن أي خمسون ألفا.
المرابحة: أن يبيعه السلعة برأس مالها مع ربح معلوم، كأن يقول: هذه السلعة علي بعشرة، وأربح عليها درهمين فهي باثني عشر.(13/100)
المواضعة: بعكسها، فهي البيع برأس المال مع خسارة معلومة، كأن يقول: هذه السيارة علي بألف، واضع عليك منها مائة فتكون تسعمائة، فهذه الصور الأربعة هي صور التخبير بالثمن.
قوله [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]
فلا بد في جميعها أن يعرف المشتري رأس المال، وكذلك البائع، وإنما ذكر المشتري دون البائع لأنه هو الذي يجهل الثمن في العادة، وسبب ذلك أنهما إن لم يعرفا رأس المال أو كان أحدهما لم يعرفه فإن البيع فيه جهالة، وشرط في البيع أن يكون ثمنه معلوما، إذن أثبت المؤلف الخيار في هذه الصور، فمن بيع عليه على سبيل التولية فقيل له: السعة علي بألف وهي لك بالألف أيضا، فتبين أن البائع كاذب أو مخطيء في خبره، فقال المؤلف: يثبت له الخيار، أي للمشتري، فله أن يفسخ البيع، وله أن يمضيه، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأحناف، وأما المشهور عند الحنابلة - خلافا لما ذكره المؤلف، وهذه من المسائل التي خالف فيها المؤلف المشهور من المذهب - أن الخيار لا يثبت هنا، وإنما يأخذ المشتري الفارق بين رأس المال الحقيقي ورأس المال الموهوم، ولا حاجة لنا إلى الخيار، فإن الخيار إنما يثبت لدفع الضرر عن المشتري، وهنا المشتري لا ضرر عليه، بل قد حصل على ماله، ولا شك أن رضاه بالسلعة ظاهر، وهو أولى من رضاه بها حيث كان الثمن أكثر، فإن قد خبر أن الثمن أكثر فرضي فإذا وجد أن الثمن أقل وأعطي الفارق فإنه لا ضرر عليه، وعليه فلا حاجة إلى هذا الخيار، ولأن الأصل في البيوع اللزوم لا الخيار، فنبقى على الأصل، وهذا القول هو الراجح، وأن الخيار لا يثبت في هذه المسائل بل يعطى المشتري الفارق بين رأس المال الموهوم وبين رأس المال الحقيقي.
قوله [وإن اشترى بثمن مؤجل.... ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد](13/101)
إذا قال مثلا: هذه السيارة رأس مالها بعشرة آلاف، وظاهر هذا أن ذلك نقدا، ولم يبين لها أنه نسيئة، ومعلوم أن البيع بالنسيئة يختلف عن البيع بالنقد، فالثمن في النسيئة أكثر، فإذا لم يتبين له ذلك فلا شك أن هذا تغرير بالمشتري، فحينئذ له الخيار بين الإمساك والرد، وقال بعض الحنابلة: بل لا خيار له، وأنه يأخذها بالثمن المؤجل، فلا يدفع له هذا نقدا بل يأخذه على التأجيل، وهذا بعيد، وذلك للفرق بين الثمن المؤجل والثمن المنقود، فعندما نقول للمشتري ادفع بثمن مؤجل فإننا حينئذ نلزمه بزيادة على الثمن، ثم ليس كل أحد يرغب في التأجيل، فهذا في الحقيقة فيه ضرر، وإنما يسلك هذا المسلك المحتاج، فلا يلزم بهذا البيع، كما أن كثيرا من الناس لا يرغب أن يكون في ذكته شيء من المال لأحد من الناس، فالراجح ما ذكره المؤلف، وأن له الخيار بين الإمساك والرد.
قوله [أو ممن لا تقبل شهادته له](13/102)
كأبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، فإن الشخص إذا اشترى من أبيه سلعة أو من ابنه أو من زوجته فإنه قد يأخذها بثمن أعلى من ثمنها المعتاد محاباة لهؤلاء، ومثال ذلك: أن يشتري السلعة من والده بخمسة عشر ألفا وهي تساوي أقل من ذلك، فهذا لا يجوز، أي لا يجوز أن يبيع السلعة بعد ذلك ويخبر المشتري أنه قد اشتراها بخمسة عشر ألفا، لأن هذا ليس هو ثمنها الحقيقي، بل هذا الثمن قد دخله المحاباة كما سبق، وعلى ذلك لو باع تلك السلعة على شخص، فإنه يثبت له الخيار، فلا بد أن يبين له أن قد اشتراها من أبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، ومثل ذلك لو اشتراها محاباة من غير هؤلاء كأن يشتريها من صديق بثمن أعلى من ثمنها محاباة له، ومثل ذلك إذا اشتراها في موسم لها يرتفع سعرها فيها وقد ذهب ذلك الموسم، أو يشتريها برغبة مختصة به، كأن تكون له دار، وبجوارها أرض ملحقة بها، فيشتري تلك الأرض بثمن مرتفع، رغبة منه أن لا يسكن فيها شخص لا يرغب في سكناه بجواره، فإذا أراد أن يبيع تلك الأرض فيما بعد فلا بد أن يقول رأس مالها كذا، واعلم أني قد اشتريتها لرغبة مختصة بي وهي كذا وكذا، حتى يكون المشتري على علم بأن رأس المال المذكور وقعت فيه زيادة، فلا يقع في غرر وجهالة.
قوله [أو بأكثر من ثمنها حيلة]
لو أن رجلا اشترى من آخر سلعة بثمن أكثر من ثمنها المعتاد، وكان البيع بينهما بيعا صوريا للاحتيال على الناس، ثم باعها على هذا الثمن وأنه هو رأس مالها ولم يبين ذلك للمشتري فهنا يثبت للمشتري الخيار.
أو كان اشترى السلعة حيلة لاستخلاص حقه كأن يكون له على زيد ألف درهم، فيشتري منه سلعة تساوي ثمانمائة ويقول: هذا مقابل ما في ذمتك، ويكون البائع مماطلا.
قوله [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد](13/103)
كذلك إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبره بالثمن، ومثاله: أرض بعضها على الشارع العام، وبعضها على شارع ليس بعام، يرتفع به الأرض، فقال هذه الأرض التي مساحتها ألف متر اشتريتها بمائة ألف، ولك بعضها المحدد بخمسين ألفا، وكان هذا النصف يختلف عن النصف الذي هو سبب لرفع سعرها، فإن في ذلك غررا.
وهذا كله يكون في أشياء أبعاضها غير متماثلة، أما لو كانت أبعاضها متماثلة كأن يكون عنده طن من الشعير أو نحوه فيقول: هو علي بكذا وأبيعك نصفه بقسطه من الثمن، وأبعاضه لا تختلف فحينئذ لا حرج لعدم الغرر.
قوله [وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار..... يلحق برأس ماله ويخبر به]
مثاله ذلك: رجل اشترى من آخر دارا وكان الاتفاق على أن يكون ثمنها ألف درهم، وأثناء ما هم في مدة الخيار سواء كان خيار مجلس أم خيار شرط هم أحدهما بالفسخ فزيد في ثمن السلعة أو نقص منه من أجل ألا يقع هذا الفسخ، مثلا: اشتراها وكان الثمن المتفق عليه ألف درهم فهم المشتري بالفسخ أو خشي البائع أن يفسخ المشتري فقال: قد وضعت عنك مائة درهم، فحينئذ ثمنها تسعمائة درهم، أو خشي المشتري أن يفسخ البائع فقال: أزيدك مائة درهم، فأصبح ثمنها مائة وعشرة دراهم، فلا بد أن يخبر المشتري من أراد أن يشتري منه السلعة بعد ذلك بأن ثمنها كان كذا ثم آل إلى كذا.
قوله [أو يؤخذ أرشا لعيب]
فالثمن الذي يؤخذ أرشا لعيب لا بد وأن يخبر به، مثاله: اتفقا على أن هذه السيارة بعشرة آلاف، ولزم البيع، ثم ثبت فيه عيب، وقلنا بالأرش، فكان الأرش ألفا، فيكون رأس مالها تسعة آلاف، فإذا أراد المشتري أن يبيع السيارة بعد ذلك فيجب أن يخبر من سيشتريها منه أن سعرها كان كذا ثم آل إلى كذا، ومثل ذلك:
قوله [أو جناية عليه]
وكل هذا إذا كان في مدة الخيار، والعيب خياره عندهم على التراخي.(13/104)
ومثال هذه الصورة: أن يكون له عبد قد اشتراه بمائة مثلا، فيجني عليه جناية تنقصه، وكانت هذه الجناية بخمسين، فلا يصح أن يبيعه برأس ماله ويقول إن رأس ماله هو مائة.
ومثله في مسائل السيارات إذا حدث فيها صدم أو نحو ذلك فلا بد أن يخبره، وإن كان قد أخذ ثمنا وأصلحها به، لأن السيارة تنقص بحدوث الصدم فيها.
أما إن كانت هذه الجناية لا تنقصه فلا حاجة لأن يخبر المشتري بها، لأنها لا تؤثر في الثمن، فيخبره برأس مالها الأصلي فقط.
قوله [وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يلحق به]
مثاله: اشترى سيارة بمائة ألف، ولزم البيع، ثم جاء البائع بعد مدة وقال به قد وضعت عنك ألفا من ثمن السيارة، فهذا لا دخل له في ثمن المبيع، لأنه يشبه الهبة، فالبيع لازم، وهو على ما اتفقا عليه، وما وقع بعد لزوم البيع أمر خارج عن ثمن المبيع، فلا حاجة إلى أن يخبر من اشتراها منه بعد ذلك بما حصل من البائع الأول.
قوله [وإن أخبر بالحال فلا بأس]
فإذا أخبر ببعض التفاصيل التي لا تؤثر في رأس المال فإن هذا أمر حسن، لأنه أبلغ في الصدق، فلو قال: إن البائع بعد أن تم العقد ولزم البيع وضع عني كذا، ونحو ذلك فإن هذا أحسن، وهذا أيضا قد يرشد المشتري إلى أن البائع الأول قد وقع عنده شيء من التردد في سعرها، وأن فيه شيئا من الغلاء، أو لحقه شيء من التورع عن بيعها بهذا السعر أو نحو ذلك.
قوله [السابع خيار لاختلاف المتبايعين]
هذا نوع آخر من الخيار، وهو خيار اختلاف المتبايعين، فإذا اختلف المتبايعين فإن الخيار في الجملة يثبت، وسيذكر المؤلف صورا من هذا.
قوله [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر](13/105)
فإذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فالبائع يقول: بعته إياه بعشرين، والمشتري يقول اشتريته منك بعشرة، فقد اختلفا ولا بينة، أما إذا كان مع أحدهما بينة كشهود أو نحو ذلك فإنه يعمل بها، لكن حيث لا بينة أو كان مع كل واحد منهما بينة فتساقطتا فإنهما حينئذ يتحالفان، فيحلف البائع فيبدأ به، قالوا: لأن الحق في جانبه أولى، فإن السلعة بعد التحالف ترجع إليه وهو ربها أولا، وصاحبها سابقا فهو أحق بها، ولا شك أن مثل هذا لا أثر له، فإنه لو حلف المشتري فإن هذا تقديم في الألفاظ لا يترتب عليه تغير في الأحكام، ومثل هذا إنما يكون من باب الأولوية وليس بواجب كما هو المشهور في المذهب، ولا دليل يصار إليه في وجوب أن يحلف البائع أولا، فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، وهنا يقدم النفي على الإثبات، وعن الإمام أحمد أنه يقدم الإثبات على النفي، وأيضا هذه المسألة ليس فيها ما يقتضي إيجاب تقديم أحدهما من نص أو قياس، فإذا وقع النفي أو الإثبات فقد حصل المقصود، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ولكل منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، إذن لا يقع الفسخ بمجرد التحالف، بل إذا رضي أحدهما بعد هذا التحالف فإن البيع يقر، وهذا شبيه بتعارض البينات، فإن البينات إذا تعارضت فهذا لا يوجب الفسخ، ولذا إذا رضي أحدهما بعد ذلك فإن البيع يقر على ما هو عليه، فإن لم يرض أحدهما بقول الآخر فإن البيع يفسخ، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن القول قول البائع أو يترادان، فلا تخرج السلعة منه إلا بثمن يرضاه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة فالقول قول البائع أو يتتاركان) ، وفي رواية (والسلعة قائمة) لكن هذه الفظة معلولة لا تصح، أما ما يذكره بعض الفقهاء في هذا الحديث من زيادة لفظ (تحالفا) فلا أصل له في كتب الحديث كما قرر(13/106)
هذا غير واحد من أهل العلم كالرافعي وابن حجر والألباني.
هذا إذا كانت السلعة قائمة، لقوله (يترادان) ، فإن كانت تالفة فقال المؤلف:
قوله [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]
إذا كانت السلعة تالفة أي غير قائمة فإنهما يرجعان إلى قيمة مثلها وقت العقد، فينظر في قيمة المثل ثم يعطيه المشتري للبائع.
وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم - أي قيمة المثل - يثبت ولو كانت قيمة المثل أكثر من الثمن الذي رضي به البائع، مثاله: اختلفا فقال البائع ما بعته بمائتين بل بثلاثمائة، وقال المشتري ما اشتريته بثلاثمائة بل بمائتين، فقومت السلعة وكان قيمتها أكثر من ثلاثمائة، ومعلوم أن البائع قد رضي بالثمن الذي حالف المشتري عليه فزادت القيمة على هذا الثمن، لأن البائع والمشتري كلاهما متفقان على أن السعر لن يزيد على ثلاثمائة، فظهر أن السعر أكثر من ثلاثمائة، فقال شيخ الإسلام: يتوجه أنه إذا كانت القيمة أكثر من الثمن الذي رضي به البائع ألا يستحق القيمة، لاتفاقهما على عدم استحقاقه للزيادة، وهذا هو الظاهر فإن هذا التقويم إنما هو لإزالة هذه الخصومة التي وقعت بينهما، وكون القيمة تثبت بأكثر مما وقع عليه الرضا فإنه يكون خلاف المقصود، فالأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأن البائع يستحق قيمة المثل إذا كانت قيمة المثل مساوية أو أقل من القيمة التي رضي بها البائع، فإن كانت أكثر فإنه لا يعطى إلى هذه القيمة التي رضي بها، لأنه يقر أن العقد قد وقع عليها، ولا يريد أكثر منها، فكان إعطاؤه أكثر من الثمن زيادة على ما أقر به.
قوله [فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر]
إذا اختلف في صفة هذه السلعة التالفة فالقول قول المشتري، فإذا اختلفا فقال البائع: أنا بعت عليك العبد وكان كاتبا، وقال المشتري: لم يكن العبد كاتبا، فالقول قول المشتري، وهذا ظاهر لأنه غارم ومنكر، والقول حينئذ قوله، والبينة على الآخر.(13/107)
هذا هو المشهور من المذهب في أصل هذه المسألة، وهي ما إذا كانت السلعة قائمة، وعن الإمام أحمد وهو قول الشعبي أن القول قول البائع، ففي المسألة السابقة القول قول البائع ولا يتحالفان، وهذا القول هو الراجح، ولكن بشرط وهو أن يثبت الخيار للمشتري، فيتحالف البائع أنه باعه بالثمن الفلاني، ولم يبعه بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن قبل المشتري فذاك، وإلا فله الفسخ، ودليل هذا ما ثبت في مسد احمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث صحيح وله طرق كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة، فالقول قول البائع أو يتتاركان) [حم 4431، د 3511، ت 1270، 4648، جه 2186] ، فهذا الحديث أثبت الخيار للمشتري كما أنه أثبت للبائع القول، ومن كان القول قوله فاليمين يمنيه، كما هو مقرر، وعلى ذلك فالراجح وهو ظاهر الحديث أن القول قول البائع، والمشتري له الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ.
قوله [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهرا وباطنا](13/108)
إذا قال أريد أن أفسخ العقد فإنه ينفسخ ظاهرا وباطنا، ظاهرا أي في ظاهر الحكم، وينفسخ باطنا أي في حقيقة الأمر، وعليه فلو كان أحدهما كذابا، فإنه له أن يتصرف في هذه السلعة أو في هذا الثمن - الذي فسخه من الأجر بغير حق - كما يتصرف في سائر ماله، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة التفصيل في هذه المسألة فأما الصادق فإنه ينفسخ عقده ظاهرا وباطنا، وأما من علم كذب نفسه فإن البيع ينفسخ في حقه ظاهرا كما تقدم، وأما في الباطن فإنه يكون ظالما مغتصبا آثما، وليس له أن يتصرف فيه، وتصرفه فيه تصرف بغير وجه حق، لأنه ملك مال غيره بطريق غير شرعي، وهذا هو الظاهر، وعليه فلو تبين له خطأ نفسه، وأنه ظن خلاف الواقع فإن عليه أن يذهب إلى الآخر ويستبيحه، أو يرجع إليه السلعة لأنها قد فسخت عليه بغير وجه حق، فكان ذلك حقا له، فيجب أن يعاد إليه حقه.
قوله [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]
اختلفا في أجل، بأن قال المشتري اشتريته منك على أجل، وقال البائع بل بعته عليك حاضرا لا آجلا، كأن يتفقا على عشرة آلاف، فادعى المشتري أنها مؤجلة، وقال البائع بل هي نقدا، أو اختلفا في شرط، فقال البائع أنا اشترط لنفسي الخيار شهرا، وقال المشتري بل لم تشترط ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول من ينفيه، أي من يقول لا أجل ولا شرط، سواء كان بائعا أو مبتاعا، وذلك تمسكا بالأصل، فإن الأصل في البيع أن يكون بلا أجل ولا شرط.
قوله [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]
تبايعا على أرض مساحتها 500 متر، ثم اختلفا، فقال البائع أنا بعتك الأرض التي في الموقع الفلاني، وقال المشتري بل التي في الموضع الآخر، فاختلفا في عينها، فإنهما يتحالفان ويبطل البيع، وذلك إن لم يرض أحدهما بقول الآخر فهي كالمسألة السابقة، أي كما إذا اختلفا في الثمن.(13/109)
والصحيح في هذه المسألة كالمسألة السابقة أن القول قول البائع مع يمينه، ثم المشتري بالخيار، إن شاء رضي وإن شاء فسخ البيع، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان) وهذا عام في كل اختلاف بينهما.
قوله [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]
إذا تبايع رجلان، فقال البائع: أنا لا أسلم السلعة حتى يسلمني الثمن، وقال المشتري أنا لا أدفع الثمن حتى أستلم السلعة، وهذا إنما يقع حيث خيف الخيانة أو المماطلة أو نحو ذلك فحينئذ للمسألة صور:
الصورة الأولى: إذا كان الثمن عينا أي معينا وليس في الذمة كأن يقول: بعتك هذه السيارة بهذه العشرة آلاف، فهنا الثمن عين، فالحكم أنه ينصب عدل من قبل القاضي الشرعي يقبض منهما السلعتين - المبيع والثمن - ويسلم المبيع ثم الثمن لجريان العادة بتسليم المبيع ثم الثمن، وهذا الترتيب لا يظهر أنه على الوجوب بل هو على الأولوية، فلو سلم صاحب الثمن أولا قبل صاحب السلعة فلا حرج.
قوله [إن كان دينا حالا أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]
هذه هي الصورة الثانية: وهي إذا كان الثمن دينا أي في الذمة كأن يقول: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فالثمن في الذمة أي ليس معينا، ولا يريد أنه مؤجل، بل هو دين أي في الذمة، فهو متعلق في ذمته، فهنا الحكم فيه تفصيل:(13/110)
1- أن يكون حالا، فإنه يجبر البائع على التسليم ثم المشتري، فإن قيل لم قدم البائع بالدفع قبل المشتري؟ فالجواب: لأن العقد قد تعلق بعين السلعة، وأما الثمن فقد تعلق بذمة المشتري، وما تعلق بالعين فهو أولى، هكذا قال الحنابلة، ولا يخفى ما فيه، فإن المسألة حقوق لهما، ولا فرق بين أن يكون معينا وبين أن يكون في الذمة، وعليه فإذا سلم هذا قبل هذا أو هذا قبل هذا فلا حرج، لكن إذا ترتب على التقديم خصومة فإنه يقدم صاحب السلعة لتعلق الحق بعينها، ولأن العادة جرت بإعطاء السلعة قبل الثمن، وأما إذا لم يتقدم خلاف ولا خصومة فلا إشكال في مخالفة التقديم الذي ذكره الحنابلة.
قوله [وإذا كان غائبا في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره]
2- أما إذا كان المال غائبا في البلد، بمعنى اتفقا على البيع والمال غائب في البلد، كأن يقول البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري قبلت، فهنا الثمن ليس حالا، ولكنه في الذمة، فإذا قال المشتري المال ليس معي الآن فمعناه أن المال الآن غائب، وليس هو مؤجل، لكنه غائب في الذمة، فالحكم أنه يعطى المبيع، أي تؤخذ السلعة من البائع وتعطى للمشتري ثم يحجر عليه فيمنع من التصرف في هذا المبيع ويمنع من التصرف ببقية ماله إن كان مؤثرا في إيصال الحق إلى صاحبه.
قوله [وإن كان غائبا بعيدا عنها والمشتري معسر فللبائع الفسخ]
فإن كان هذا المال الذي هو في الذمة غائبا بعيدا عنها أي عن البلد التي هو منها أو كان المشتري معسرا أي ليس عنده مال الآن وقد اتفقا على أن يكون الثمن حاضرا فللبائع الفسخ، لأن في ذلك ضررا ظاهر عليه.(13/111)
وأولى من هذا أن يقال: إنه إنما باع بشرط أن يكون المال حاضرا يدفع إليه في نفس المجلس، أما والمال غائب بعيدا عنه فإنه لم يبايع على هذا، ولذا فالصحيح أن المال مطلقا إذا كان غائبا عن المجلس فليس على البائع أن يسلمه، وليس للقاضي أن يلزمه بالتسليم، وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الظاهر، لأنه قد يكون عليه ضرر أو مماطلة فليس عليه أن يخرج السلعة إلا على الشرط الضمني لهذا البيع، والشرط الضمني أنه إنما باعه على أن يعطيه ثمنها حاضرا وألا يؤخره تأخيرا يخالف ما تضمنه العقد من إعطائه في المجلس، فهذا هو القول الراجح كما تقدم، وعليه فيحبس البائع السلعة على الثمن.
وقال شيخ الإسلام:" وللبائع الفسخ إن ظهر من المشتري مماطلة " وصوبه في الإنصاف وهو كما قالا، فإن المماطلة ضرر، وحيث كان المشتري مماطلا فإن الخيار يثبت لأن الخيار يثبت لدفع الضرر.
وقول المؤلف (والمشتري) الواو بمعنى (أو) .
قوله [وثبت الخيار للخلف في الصفة ولتغير ما تقدمت رؤيته]
هذا نوع آخر من الخيار وهو خيار الحلف في الصفة، أي أن يصف له المبيع ثم يتبين أنه على غير ذلك، فله الفسخ لضرر، وقد تقدمت القاعدة السابقة وهي أن الخيار يثبت مع الضرر، وكذلك يثبت الخيار لتغير ما تقدمت رؤيته، مثاله: رأى فرسا عند البائع، ثم بعد يومين أو ثلاثة قال: بعني ذلك الفرس، فباعه وكان قد طرأ عليه تغير، وقد تقدم أن الرؤية يشترط فيها أن تكون مع العقد، وقبله بوقت لا يتغير فيه المبيع، فإذا ثبت تغير المبيع فإن هذا غرر فيثبت له الخيار للحوق الضرر به كما تقدم.
فصل
قوله [ومن اشترى مكيلا ونحو صح ولزم بالعقد](13/112)
من اشترى مكيلا ونحو كالموزون أو المعدود أو المذروع، وظاهر كلام المؤلف عموم الحكم في الأطعمة وغيرها، فكل مكيل أو موزون أو مذروع أو معدود سواء كان مطعوما أو غير مطعوم، فإذا اشترى منه شيئا فإنه يصح ويلزم بالعقد، وهذا ظاهر، وذلك لأنه بيع قد توفت فيه شروط البيع فهو بيع صحيح ولازم ما لم يكن خيار كما تقدم.
قوله [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]
وهذا هو المراد هنا، فمن اشترى طعاما أو نحوه سواء كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه، وسيأتي الكلام على القبض إن شاء الله.
ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه) [خ 2133، م 1526] ونحوه من حديث ابن عباس وفيه أن ابن عباس قال:" أحسب كل شيء كالطعام " [م 1525] وهذا من قياس الصحابة وهو من أصح القياسات.
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه) [حم 14892، حب 11 / 358 برقم 4983، هق 5 / 313، طب 3 / 196] ، وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه، قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) [خ 2132، م 1525]
وعن الإمام أحمد أن هذا الحكم خاص بالطعام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع طعاما) وهذا القول ضعيف، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - (من ابتاع طعاما) هو من باب ذكر بعض أفراد العام، وهو لا يدل على التخصيص كما تقدم، وقد تقدمت أدلة عامة تدل على أن الحكم عام في كل مبيع كما في حديث حكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا) ، ولأن غير الطعام كالطعام، فإن العلة ثابتة فيه كثبوتها في الطعام، ولذا قال ابن عباس:" أحسب كل شيء كالطعام "(13/113)
والعلة والله أعلم كما بينها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن البائع قد يمتنع عن تسليم المبيع أو يماطل أو يجحد أو يحتال، ولا سيما إذا ثبت له أن المبتاع قد ربح في بيعه.
وقول الحنابلة بالمنع من التصرفات كلها كما قيده المؤلف هنا بقوله: (ولم يصح تصرفه فيه) فإن هذا منع من كل تصرف، فليس له أن يهبه أو يؤجره أو نحو ذلك، هذا ما ذكره المؤلف وهو أحد القولين في المذهب والمشهور في المذهب، واختاره شيخ الإسلام أن المنع مختص بالبيع، وأن له أن يهب أو يحيل به ونحو ذلك وله الإجارة كذلك، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البيع خاصة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود وقد تقدم الحديث: (ولا ربح ما لم يضمن) فهو في ضمان البائع كما سيأتي تقريره، فنهى الشارع إن أن يربح فيه وهو ليس في ضمانه، والربح إنما يكون بالبيع، وهذا للمفسدة المتقدمة، وإن كانت الإجارة فيها ربح لكنه ليس في معنى البيع، ولا يلجأ - في الغالب - البائع إلى جحود أو مماطلة أو نحو ذلك لتصرف المشتري بالإجارة، وهذا القول هو الراجح، وأن للمبتاع أن يتصرف قبل القبض بأي تصرف كان سوى البيع، لأن الشارع نهى عن البيع، وليس سوى البيع بمعناه.
قوله [وإن تلف قبله فمن ضمان البائع]
إذا تلف قبل القبض فمن ضمان البائع، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث السابق قال: (ولا ربح ما لم يضمن) ولذا نهى المبتاع عن البيع لأنه ليس في ضمانه، ويده لم تقع عليه بعد، والضمان إنما يكون على ما وقعت عليه اليد، فالضمان على البائع، فمثلا: تبايعا سلعة، وقبل أن يقبضها المشتري تلفت، فهذا في ضمان البائع، وعليه فيرجع المشتري بثمنه على البائع، لأنها ليست في ضمانه.
قوله [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع](13/114)
إذا حصل للمبيع كالدار ونحوها آفة سماوية، كأن ينزل المطر على الطعام فيفسده، وذلك قبل أن يقبضه المشتري، فإن البيع يبطل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع ليس في ضمانه.
قوله [وإن أتلفه آدمي خير مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]
إذا أتلفه آدمي سواء كان المتلف البائع أو غيره خير المشتري بين الفسخ، لأنه قد تلف وهو في ضمان البائع، فله أن يفسخ، وله أن يمضي البيع لإمكانيته إتمام البيع، ثم يطالب متلفه ببدله، لأنه ملك له بالبيع، لكنه ملك غير مضمون، فبالنظر إلى أنه غير مضمون يمكنه فسخه، وحينئذ يرجع بالثمن على البائع، وبالنظر إلى الملكية فهو مالك له فيرجع على المتلف بمثله إن كان مثليا أو بقيمته إن كان مقوما.
قوله [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]
قوله (وما عداه) أي ما عدا:
1- المكيلات.
2- الموزونات.
3- المعدودات.
4- المذروعات، بالإضافة إلى:
5- الموصوف الذي لم ير.
6- ما كانت رؤيته متقدمة على العقد.
فهذه الست لها الحكم المتقدم وهو أنه لا يجوز بيعها إلا بعد قبضها.
وإنما ألحقوا الموصوف وما رؤي رؤية متقدمة بالمكيلات ونحوها بجامع حق التوفية، فإن المكيل لا بد أن يقبضه المشتري بما اتفقا عليه من الكيل، فلا بد أن يعطى حقه وافيا كاملا في المكيل بالصاع، وفي الموزون بالكيلو، وفي المعدود بالعدد، وفي المذروع بالذرع، ولا بد أن يستوفي حقه كاملا، وكذلك المبيع بالصفة فإنه لا بد أن يعطيه المبيع على الصفة التي اتفقا عليها، وكذلك المعقود عليه عقدا برؤية متقدمة، فلا بد أن يستوفى، بأن يعطى المبتاع هذه السلعة كما كان رآها بالرؤية المتقدمة، فهذه الست لا يحل للمبتاع أن يتصرف فيها حتى يقبضها، وأما ما عداها فإن له أن يتصرف فيه قبل قبضه، كالأرض وكالدار، وفيما يباع جزافا.(13/115)
والمبيع جزافا (1) صورته: بيعه كومة من الطعام من غير أن يذكر له كيلها، فهذه الصور السابقة يجوز للمشتري أن يتصرف فيها قبل القبض، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، ولعلهم يستدلون بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر وابن عباس: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) وفي رواية (حتى يقبضه) ، فكأن عندهم النهي إنما هو فيما يحتاج إلى استيفاء، وهذا إنما يكون في الأشياء الستة التي سبق ذكرها، وذهب الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن هذا الحكم ليس خاصا بهذه الست بل هو عام فيها وفي غيرها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يقبضه) ، والحقيقة أن الاستيفاء ليس هو القبض، وعليه فيكون الحكم حتى يستوفيه وحتى يقبضه، ويدل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: (كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم) [خ 6852، م 1527] ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم [د 3499] ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام جزافا وهو ليس بمكيل، ومع ذلك فقد نهى أن يباع حتى ينقل من موضعه - أي موضع البائع - إلى موضع المبتاع، لأن العلة الثابتة فيما يحتاج إلى استيفاء ثابتة أيضا فيما لا يحتاج إلى استيفاء، فالعلة الثابتة في الست المتقدمة ثابتة في غيرها.
قوله [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه]
__________
(1) - بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها جائز، نص عليه أحمد، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لأنه علم ما اشترى بالرؤية التي هي أبلغ الطرق فلا يحتاج إلى معرفة المقدار.(13/116)
قوه (فمن ضمانه) أي من ضمان المشتري، فما عدا المبيع بكيل ونحوه - وهو ما تقدم من الأصناف الستة - هو من ضمان المشتري، وذلك لأنهم يرون أنه يجوز له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن ربح ما لم يضمن) فدل هذا على أن ما عدا الأصناف الستة هو من ضمان المشتري لأنه ربح فيه، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لا يحل له أن يربح فيه، لأنه ليس بضامن، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في ضمانه، فليس له أن يربح فيه.
قوله [ما لم يمنعه البائع من قبضه]
إذا قلنا إنه في ضمان المشتري ولكن منعه البائع من قبضه فإنه يكون في ضمان البائع، لأنه غاصب له، فكان في ضمانه، كما أن الغصب في ضمان الغاصب، وهذا على القول بأنه من ضمان المشتري، وأما على القول بأنه في ضمان البائع كما تقدم ترجيحه فلا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة فالكل من ضمان البائع.
لكن إن بذله البائع فأبى المشتري استلامه، فهو من ضمان المشتري.
قوله [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك]
فما بيع بكيل يكون قبضه بكيله، والمكيل يكون بالصاع، وما بيع بوزن يكون قبضه بوزنه، وذلك بالكيلو والرطل ونحوهما، وما بيع مذروعا فقبضه بالذرع وهكذا، وعن الإمام أحمد أنه لا بد من قبض ذلك، فإن مجرد الكيل والوزن والذرع والعد ليس بقبض، فلا بد من أن يخلي بينه وبين السلعة، وهذا القول هو الراجح، فإن مجرد الوزن والذرع والكيل والعد ليس بقبض ما دام في يد البائع، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: (كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام - وهذا يشمل الطعام الجزاف والمكيل - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه) [خ 2124، م 1527] وعليه فمجرد الكيل والوزن والعد ليس بقبض، وإنما هو استيفاء.(13/117)
قوله [وفي صبرة وما ينقل بنقله]
الصبرة: هي الكومة من الطعام، وقبضها يكون بنقلها لأنها لم تبع كيلا بل بيعت جزافا، وقبضها في العرف بنقلها، وكما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه الأمر بنقلها.
قوله [وما يتناول بتناوله]
أي ما يعطي باليد فقبضه يكون بإعطائه باليد، وهذا هو القبض عرفا فيه.
قوله [وغيره بتخليته]
فالأرض والدار والمركوبات ونحو ذلك قبضها يكون بتخليتها من غير مانع، فإذا خلى بينه وبينها وليس ثمت حائل فهذا هو قبضها عرفا، وعلى هذا فالقاعدة أن القبض هو ما يثبت أنه قبض في العرف.
قوله [والإقالة فسخ]
الإقالة: هي أن يأذن البائع بإرجاع السلعة إليه بثمنها، أي بعد لزوم العقد، فالإقالة فسخ، وهي سنة مستحبة، وفي سنن أبي داود: (من أقال مسلما بيعة أقال الله عز وجل عثرته) [د 3460، جه 2199] ، وهي فسخ وليس بيعا، أي إزالة ورفع، وهذه حقيقتها، وعليه فتجوز قبل قبض المبيع، وهذه هي مناسبة ذكر الإقالة هنا، وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن الإقالة بيع، لأنها نقل الملك بعوض على جهة التراضي، والراجح الأول، وهي فسخ للعقد من حين الفسخ، وهو المذهب واختاره شيخ الإسلام، وعليه فيكون النماء للمشتري.
قوله [تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]
فإذا قلنا إن المشتري ليس له أن يبيع السلعة حتى يقبضها، وقلنا إن الإقالة ليست بيعا، فإنها جائزة قبل أن يقبض السلعة.
وظاهر كلام المؤلف أن البيع إلى البائع قبل القبض غير جائز، ولذا ذكر الفسخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة من آخر، وقبل أن يقبضها هذا المشتري رغبت نفس البائع فيها، وقال اشتريها منك بأكثر، فهل يجوز هذا؟(13/118)
ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ولذا أجازوا الفسخ هنا، فظاهره - وقد صرحوا به - أن إرجاع السلعة إلى البائع قبل القبض على سبيل التبايع غير جائز، وفي هذا ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية جواز ذلك، وذلك لأن العلة السابقة منتفية، فإن الشارع إنما نهى عن بيع السلع قبل قبضها خشية الجحود والمماطلة وامتناع البائع من تسليم السلعة، أما والسلعة بيده - أي بيد البائع - فإن هذا انتفاء للعلة المتقدمة، وعليه فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام أن البيع على البائع جائز قبل القبض لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
إذن الإقالة فسخ، ولو قلنا إنها بيع كما هو مذهب بعض أهل العم كالإمام مالك فالحكم كذلك، على أن الصحيح أن الإقالة فسخ لأنها لا تعدوا أن تكون إزالة ورفعا للبيع، وليست بيعا مستأنفا.
* وهنا على المذهب تجوز الإقالة قبل القبض بمثل الثمن، لأنها إن لم تكن بمثل الثمن بل كانت بأكثر منه أو بأقل فإنها بيع، لأنها أصبحت هنا معاوضة.
قوله [ولا خيار فيها ولا شفعة]
فلا خيار فيها لأن الخيار إنما يثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وكذلك لا يثبت فيها شفعة لأنها إنما تثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وسيأتي الكلام على الشفعة في بابها.
* مسألة:
حكم الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني؟
الحنابلة ذكروا أنها جائزة، وفي هذا نظر، وذلك لأنه ليس المقصود قضية التبايع بل المقصود الانشغال عن الجمعة، ويقع في الإقالة ما يقع في البيع من الانشغال عن صلاة الجمعة، وهذا أمر ظاهر.
* هل تكون الإقالة حيلة على الربا؟
الجواب عن هذا أن يقال إنها لا تكون حيلة على الربا مطلقا وذلك لما تقدم من أن الإقالة لا تصح إلا أن يكون الثمن واحدا، فلا تسمى إقالة مع ربح، لأن الإقالة تبرع، فلا تكون بأقل من الثمن ولا أكثر، فإن كانت بأقل من الثمن أو أكثر فهي بيع وليس بإقالة.
باب الربا والصرف(13/119)
الربا في اللغة: الزيادة، قال تعالى {فإذا أنزلنا عليا الماء اهتزت وربت} ، وأما اصطلاحا: فهو زيادة في شيء مخصوص، ويتضح هذا التعريف في الكلام على أحكام الربا إن شاء الله.
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فمنه قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها - أكل الربا) متفق عليه [خ 2767، م 89] وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) [م 1598] أي في الإثم، ونحوه في البخاري من حديث أبي جحيفة [خ 5962] ، وآكل الربا: أي آخذ الزيادة، وهو المتاجر بالربا، وموكله: هو دافع الربا، وكاتبه وشاهديه كذلك في الإثم، لأنهم قد أعانوا على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
والصرف: بيع نقد بنقد، أي بيع دراهم بدراهم، أو بيع دراهم بدنانير، اتحد الجنس أو اختلف.
قوله [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه]
يحرم ربا الفضل باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) رواه مسلم [م 1587] فهذا الحديث صريح في ربا الفضل، وهو كما عرفه المؤلف بقوله (في مكيل أو موزون بيع بجنسه) كأن يبيع برا ببر، فالطرف الأول يدفع مائة صاع، والآخر يدفع تسعين صاعا، فهذا من ربا الفضل، فليس فيه تأخير، بل فيه حلول، لكن فيه فضل.(13/120)
وروى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) [خ 2179، م 1596] فإن قيل: هذا الحديث مفهومه أن ربا الفضل جائز، وفي لفظ لمسلم: (إنما الربا في النسيئة) [م 1596] .
فالجواب أن يقال: لا يعارض منطوق قوله - صلى الله عليه وسلم - بمفهوم قوله، فإن حديث عبادة بن الصامت منطوقه يدل على تحريم ربا الفضل، وأما هذا الحديث المتفق عليه فمفهومه يدل على واز ربا الفضل، فلا يعارض المنطوق بالمفهوم كما هو متقرر في علم الأصول، وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) أي أعظم الربا وأقبحه وأشده هو ربا النسيئة، والأمر كذلك كما إذا قيل لا عالم في المدينة إلا زيد، فلا يعني أنه ليس هناك في المدينة عالم سواه، ولكن المقصود أنه أعلم أهل المدينة، وهنا كذلك، وإنما حرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فتحريمه من باب سد الذرائع، وأما ربا السيئة فتحريمه تحريم أصلي.
وقوله (في مكيل) الكيل يكون بالصاع، والوسق، ونحو ذلك.
وقوله (وموزون) الوزن يكون بالميزان، كما يكون عندنا بالجرامات، وفي زمن متقدم بالأرطال.
وظاهر كلامه في قوله (في مكيل) أنه سواء كان الكيل مطعوما كالبر والتمر والشعير، أو كان غير مطعوم كالأشنان - وهو من المواد المنظفة -، ومثله كثير من الأدوية، فإن ك ذلك يجري في حكم ربا الفضل، والموزون كذلك سواء كان مطعوما كالسكر واللحم واللبن ونحو ذلك، أو كان غير مطعوم كالذهب وفضة، وهذا هو المذهب.
واعلم أن أهل العلم جميعا أجمعوا على تحريم الربا في الأصناف الستة المتقدمة في حديث عبادة، وهي: الذهب والفضة والبر والقمح والشعير والملك والتمر، فقد أجمعوا على تحريم ربا النسيئة فيها، وكذلك ربا الفضل في قول عامتهم كما تقدم، واختلفوا هل يقاس عليها غيرها أم لا؟(13/121)
فقال الظاهرية وهو اختيار بن عقيل من الحنابلة إنه لا يقاس عليها غيرها، أما الظاهرية فجريا على قاعدتهم في نفي القياس، وهي باطلة، وأما ابن عقيل فإنه قد خفيت عليه العلة، فبقي هذا الحكم مختصا بالأصناف الستة، وذهب جماهير العلماء إلى القول بالقياس، أي إلحاق غيرها كاللحم واللبن وغير ذلك، واختلفوا في العلة الجامعة التي تثبت في الفرع ليثبت له حكم الأصل:
1- فقال الحنابلة والأحناف: العلة في الذهب والفضة هي الوزن، وفي الأصناف الأربعة الباقية هي الكيل، فقالوا كل مكيل أو موزون سواء كان مطعوما أم غير مطعوم فإنه يحرم فيه الربا، وعليه فيجوز بيع المطعوم المعدود كالبيض بالبيض فضلا.
2- وقال المالكية في علة الأصناف الأربعة أنها الاقتيات والادخار، وأن القوت هو ما يبني عليه الآدمي بدنه من الأطعمة المهمة والأصلية، والمدخر هو ما يدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة، ولا يفسد بالتأخير، كما يكون هذا في البر ونحوه، بخلاف الفواكه ونحوها فإنه لا يدخل في هذا، وفي معنى الاقتيات إصلاح القوت كملح ونحوه، وهذه علة ربا الفضل عندهم، وأما ربا النسأ فالطعم على غير جهة التداوي.
3- وقال الشافعية العلة هي الطعم، سواء كان اقتياتا أو تفكها أو تداويا، فكل مطعوم سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن مكيلا ولا موزونا، وسواء كان قوتا أو مدخرا أو لم يكن كذلك، واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام) كما في بعض روايات حديث عبادة [م 1592] ، وأجيب عنه بقول معمر - رضي الله عنه - كما في مسلم:" وكان طعامنا يومئذ الشعير " [م 1592] ، فعليه قوله: (الطعام بالطعام) أي الشعير بالشعير.(13/122)
4- وعن الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والطعم، فإذا كان مكيلا مطعوما فإن الربا يثبت فيه، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بقيد: وهو أن يكون هذا الطعام قوتا أو ما يصلح القوت، وهذا هو أصح المذاهب، وهو أن العلة هي الكيل مع كونه قوتا أو ما يصلح القوت، وذلك لأن الأصناف الأربعة كلها قوت، أو ما يصلح القوت، وهذه العلة في الحقيقة هي العلة المؤثرة، فإن هذه أطعمة للناس، والناس يحتاجون إلى الطعام، ويتضررون بحسابه عليهم بالزيادة والنسيئة بما لا يتضررون فيما سواه، كما أنهم يتضررون بالأطعمة التي هي قوت لهم - وقد قام طعامهم عليها - بما لا يتضررون بغيرها من الأطعمة، وما ذكره المالكية من الادخار لا يظهر أن هذا مؤثر لتضرر الناس الأطعمة التي لا تدخر وهي قوت لهم كاللحم ونحوه، فأصح المذاهب ما هو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو جمع بين ما ذكره الشافعية والحنابلة والأحناف، فإن العلة عند الأحناف والحنابلة هي الكيل، وعند الشافعية هي الطعم، فجمعت فيها هذه الرواية وأضافت ما اشترطه المالكية وهو أن يكون قوتا، ومثله ما يصلح القوت، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الملح، هو ليس بقوت وإنما هو مما يصلح القوت، فهذه هي العلة في الأصناف الأربعة لكن بشرط الادخار.
وأما العلة في الذهب والفضة فعلى أقوال عند أهل العلم:
1- فقال الحنابلة - كما تقدم - إن العلة هي الوزن، فكل ما كان موزونا فيجري فيه الربا بنوعيه، وإن لم يكن ذهبا ولا فضة، وهذا هو مذهب الأحناف أيضا، فالحنابلة والأحناف يتفقون في العلة في الأصناف كلها.(13/123)
2- وقال الشافعية والمالكية: العلة هي الثمنية، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، قالوا: العلة هي الثمنية وذلك لأن علة الوزن ليست بمؤثرة، وإنما قلنا إن الكيل مؤثر في الأصناف السابقة لأنه لا يمكن الحكم بالتفاضل بين الأشياء ومعرفة الفوارق بينها إلا بالكيل والوزن، ولذا سيأتي أن شيخ الإسلام لا يفرق بين الكيل والوزن في الأصناف المتقدمة، وأن الربا يجري فيها وإن كانت بالوزن لا بالكيل، فإن قضية الوزن ليست بمؤثرة لكن يعرف بها التماثل من عدمه، فالذهب والفضة نقدان، فهما قيم الأشياء وأثمانها، فهي العلة الحقيقية في الذهب والفضة، كما أن العلة في الأصناف الأربعة أنها قوت، فهي قوت أو ما يصلح القوت، ولو قلنا إن العلة هي الوزن لما كان هناك ربا في تعاملات الناس اليوم، لأن النقود اليوم لا توزن بل تعد عدا، وهذا مما يضعف القول بأن العلة هي الوزن.
والأوراق النقدية فيها علة الثمنية، فعليه هي أجناس ربوية تتعدد أجناسها بتعدد جهات إصدارها، فيجري فيها نوعا الربا، وهذا ما قررته هيئة كبار العلماء.
قوله [ويجب فيه الحلول والتقابض]
أي يجب أن يكون حالا مقبوضا، حالا في مجلس العقد، ومقبوضا أي يدا بيد، فإن تقابضا في غير مجلس العقد فإن ذلك لا يحل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة) إلى أن قال: (يدا بيد) ، ولا بد كما تقدم أن يكون مثلا بمثل، فليس له أن يبيع برا وإن كان رديئا ببر طيب، أو بالعكس مع التفاضل، فهذا لا يجوز.
قوله [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا، ولا موزون بجنيه إلا وزنا ولا بعضه ببض جزافا]
هذه ثلاث صور ينهى عنها:
الصورة الأولى: قوله (ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا) ، فالبر يكال بالصاع، فلو باعه بالوزن - والمشهور في زماننا أنه بالوزن - فهذا لا يجوز، فلا يجوز بيع البر بالبر إلا أن يكون الحساب بالكيل.(13/124)
الصورة الثانية: قوله (ولا موزون بجنسه إلا وزنا) فالسكر يوزن بالكيلوجرامات، فلو باعه الصاع فذلك لا يجوز، ولو علم التساوي بينهما.
الصورة الثالثة: قوله (ولا بعضه ببعض جزافا) فإذا قال: هذه كومة من التمر أبيعها عليك بهذه الكومة من التمر وهما لا يعلمان قدر كل كومة، فهذا لا يجوز.
أما الصورة الأخيرة فلا إشكال في النهي عنها، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلا بمثل) فالبيع جزافا ليس فيه تحقق المثلية، بل كال منهما جاهل بالمقدار، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.
وأما المسألتان الأوليان وما بيع المكيل جنيه وزنا، وبيع الموزون بجنسه كيلا، أي أن يبيع البر بالكيلوجرامات بدل أن يبعه بالآصع، ويبيع السكر بالآصع مكان الوزن، فهذا جائز، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام، وذلك لثبوت التماثل، والتماثل ثابت سواء باعه بالكيل أم بالوزن وهذا ظاهر.
قوله [فإذا اختلف الجنس جازت الثلاثة]
إذا اختلف الجنس كأن يبيع برا بشعير، جازت الثلاثة لعدم اشتراط التماثل، فلو باع ما يكال بالوزن، أو ما يوزن بالكيل، أو باعه جزافا فهذا كله جائز، فإذا قال: هذه الصبرة من الشعير أشتريها منك بهذه الصبرة من البر فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل، وعلى الترجيح المتقدم فلا إشكال في ذلك.
قوله [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا كبر ونحوه]
البر له أنواع، والتمر له أنواع، والشعير كذلك، فالجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا.
قوله [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان]
الأدقة جمع دقيق، وهو معروف، وهو الطحين.(13/125)
والأدهان كدهن الذرة ودهن الزيتون ودهن السمسم، فهذه فروع الأجناس، فتعطى حكم أصلها فتكون جنسا، فعليه لا يجوز أن يباع طحين بطحين من البر إلا مع التماثل والتقابض، لا يجوز أن يباع خبز البر بخبز البر إلا مع التماثل والتقابض، ولا يجوز أن يباع دهن البر بدهن البر إلا مع التماثل والتقابض، وذلك لأن فروع الأجناس لها حكم الأصل. (1)
قوله [واللحم أجناس باختلاف أصوله]
فلحم الضأن والمعز هذا جنس، ولحم البقر جنس آخر، ولحم الإبل جنس ثالث، فالعبرة باختلاف أصوله، فهذه فصيلة المعز، ويدخل فيها الضأن ونحوه، وهذه فصيلة البر، ويدخل فيها الجواميس ونحوها، وهذه فصيلة الإبل فيدخل فيها أنواعها، فبيع لحم الإبل بلحم البقر يجوز بشرط التقابض، أما المفاضلة فهي جائزة لأن الأجناس هنا مختلفة، وأما بيع لحم البقر بحم البقر فلا يجوز إلا بالتقابض والتماثل لأنه جنس واحد.
قوله [وكذا اللبن]
فاللبن يتبع أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، وهكذا.
قوله [واللحم والشحم والكبد أجناس]
فاللحم جنس، والشحم جنس آخر، والكبد جن آخر، وهكذا بقية أجزاء الحيوان، فإنها أجناس مختلفة، وذلك لأن لكل منها اسم وحقيقة تختلف عن اسم وحقيقة الآخر، وعليه فبيع اللحم بالكبد يشترط فيه التقابض فحسب، وأما بيع اللحم من جنس واحد فلا بد فيه من التماثل والتقابض.
قوله [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه]
__________
(1) - واختار شيخ الإٍسلام ابن تيمية أن ما صنع من الأجناس فإن خرج عن كونه قوتا خرج عن كونه ربويا، وهذا بناء على أن العلة مشتملة على جزء الاقتيات، وإن لم يخرج عن كونه قوتا فهو جنس مستقل ليس تابعا لأصله، وعليه فيجوز أن يبيع الخبز بهريسه، والزيت بالزيتون، والسمسم بالجريش، انظر الاختيارات الفقهية ص 188، وسيأتي من شرح الشيخ حفظه الله.(13/126)
أي أنه ليس له أن يبيع لحم إبل ببعير، ولا لحم البقر ببقرة، أو لحم الغنم بغنمة، ونحو ذلك، وذلك للجهل بالتماثل، وتقدم أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) [ك 1316] ، وله شاهد عند البيهقي من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -[هق 5 / 296، برقم 10349] ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، والعلة كما سبق هي الجهل بالتماثل.
قوله [ويصح بغير جنسه]
فلو باع كذا كيلو من لحم الإبل بضأن أو معز فهذا جائز إذا كان يدا بيد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فيجوز هذا ولو مع التفاضل، أما النسيئة فلا يجوز سواء كان بجنسه أم بغير جنسه، ويدل لهذا ما رواه الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) [حم 19630، ت 1237، ن 4620، جه 2270، د 3356] ، قال شيخ الإسلام:" إذا كان المقصود اللحم وإلا فلا " فإذا كان المقصود هو اللحم فإنه لا يجوز ذلك، وذلك لما تقدم في العلة في الربا وأنها هي القوت، فإذا كان المقصود هو اللحم فيحرم وإلا فيجوز، ولذلك ثبت في المستدرك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشترى البعير بالبعيرين وبالثلاثة، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة) [كم 2 / 56، د 3357] وذلك لأن المقصود ليس هو اللحم، وإنما المقصود هو الركوب، وهذا جمع بين الأدلة، فعليه لا يجوز
بيع الحيوان - بقصد اللحم - بالحيوان.
قوله [ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه](13/127)
فلا يجوز له أن يبيع الحب كالبر بالدقيق وهو طحينه، وذلك للجهل بالتماثل، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز وزنا، وهذا هو الظاهر، فإن التفاضل إنما يقع في الكيل، وأما بالوزن فإن التماثل يعلم، وإنما يقع التفاضل في الكيل لأن الدقيق سيكون أكثر بكثير من الحب لوجود مسافات بين الحبوب، وعلى هذا فالراجح هو الرواية عن الإمام أحمد أن بيع الدقيق بحبه جائز إذا ثبت التماثل بالوزن.
وقوله (ولا سويقه) والسويق هو أن يضعه على النار حتى يأخذ شيئا من الحمرة، ثم يوضع عليه شيء من الزيت والماء ونحو ذلك، فلا يجوز له أن يبيع الحب بالسويق، ولا يجوز أن يبيع الدقيق بالسويق لعدم معرفة التماثل، لأن السويق قد أضيف إليه شيء من السمن أو من الماء، وقد وضع على النار فلا يثبت حينئذ التماثل.
قوله [ولا نيئه بمطبوخه]
لا يحل له أن يبيع النيء بالمطبوخ، فمثلا بيع الحنطة بالهريس أو بيع البر بالخبز هذا لا يجوز لعدم معرفة التماثل.
قوله [وأصله بعصيره]
فالأصل مثلا الزيتون، فلا يجوز أن يباع بعصيره وهو زيت الزيتون، لعدم معرفة التماثل، والزيتون قالوا هو مما يجري فيه الربا، وزيته فرع عنه، والفرع له حكم الأصل.
قوله [وخالصه بمشوبه]
فلو باع حنطة خالصة بحنطة مشوبة فهذا لا يجوز، وذلك للجهل بالتماثل، أما إذا كان الشائب يسيرا بحيث لا يؤثر فإنه يجوز للعفو عن اليسير.
قوله [ورطبه بيابسه]
فلو باع مثلا رطبا بتمر فهذا لا يجوز، ويدل عليه ما ثبت عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا يبس، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك) [حم 1518، ن 4546، ت 1225، د 3359، جه 2264] ، والعلة ما تقدم وهي الجهل بالتماثل.
قوله [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة](13/128)
يجوز بيع الطحين بالطحين، فيجوز بيع طحين الشعير بطحين الشعير، بشرط أن يستويا في النعومة، لكن لو كان أحدهما فيه خشونة فلا شك أن التماثل لا يكون حينئذ معلوما.
قوله [ومطبوخه بمطبوخه]
يجوز أن يبيع المطبوخ بالمطبوخ، كالسويق بالسويق أو نحو ذلك.
قوله [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف]
يجوز بيع الخبز بالخبز إذا استويا في النشاف، أما إذا كان رطبا كالخبز الرطب مع الخبز اليابس فذلك لا يجوز لعدم معرفة التماثل.
قوله [وعصيره بعصيره]
فيجوز أن يبيع زيت الزيتون بزيت الزيتون بشرط التماثل.
قوله [ورطبه برطبه]
كأن يبيع رطبا برطب، فهذا جائز بشرط التماثل، فهذه الأجناس الربوية لا يحل بيع بعضها إلا إذا ثبت التماثل.
وقد نهى الشارع كما في الصحيحين عن المحاقلة والمزابنة، فالمزابنة: بيع الرطب على رؤوس النخل بالنخل - إلا ما سيأتي استثناؤه من العرايا - وبيع العنب على شجره بالعنب، فلا يجوز ذلك لعدم معرفة التماثل، وأما المحاقلة: فهي بيع الحب بعد أن يشتد في سنبله، بحب من جنسه، أما إذا باعه بشيء ليس من جنسه كأن يبيع برا في سنبله بشعير فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل.
** مسألة بيع العرايا.(13/129)
اعلم أن العرايا جائزة بشروط، والعرايا جمع عرية، والعرية ما أفرد عن الجملة، أي ما أفرد عن شبيهه ونظيره في الظاهر، وقد دلت الأدلة الشرعية على الرخصة في العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر خرصا كيلا عند الحاجة إلى ذلك، بشروط سيأتي ذكرها، ففي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا) [خ 2193، م 1539] أي أجاز العرايا بشرط أن تباع بخرصها كيلا، فيأتي من عنده معرفة وخبرة بما يؤول إليه أمر الرطب إذا جف، فيقول هذه الأربعة آسق من الرطب إذا جفت فإنها تساوي ثلاثة آسق من النمر، فنعطيه ثلاثة آسق من التمر ويأخذ المشتري أربعة آسق من الرطب، ويجوز ذلك بشروط:
الشرط الأول: أن يكون المشتري محتاجا إلى ذلك ولا نقد عنده، فإن كان غينا قادرا على أن يشتري الرطب بماله فلا يجوز ذلك، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، وإنما جاءت العرايا لرفع الحرج، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) [م 1539] فدل على أن الغرض من إباحة العرية هو أكلها رطبا.
الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) [خ 2382، م 1541] والشك من الراوي كما دل عليه رواية مسلم ورواية ابن حبان، وقد تقدم النهي عن المزابنة، فالأصل هو التحريم، وحيث ورد الشك فإن اليقين هو الأقل وهو فيما دون خمسة أوسق، وأما خمسة أوسق فلا تجوز لأنها مشكوك فيها، والأصل هو التحريم.
الشرط الثالث: التقابض، وذلك لأنه بيع ربوي بربوي، ولا يجوز بيع الربوي بالربوي إلا أن يكون ذلك تقابضا وتماثلا، وقد جوزنا عدم العلم التام بالتماثل، فبقي التقابض.(13/130)
الشرط الرابع: أن يأكلها رطبا، فإن أكلها تمرا فلا يجوز، لأنها أجيزت للحاجة.
وهل هذا خاص في الرطب مع التمر، أم يدخل فيه العنب والزبيب كأن يشتري عنبا في شجرة بزبيب؟
قال الحنابلة: هو خاص في التمر مع الرطب، وقال المالكية: مثله في الحكم العنب مع الزبيب، وهذا هو الصحيح.
قوله [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما]
هذه مسألة مد عجوة، والمد: هو ربع الصاع، والعجوة: تمرة مشهورة، وهي من تمر المدينة، وصورة هذه المسألة: أن يباع مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهذا الدرهم ربوي بيع بجنسه، فدرهم بدرهم أو درهم بدرهمين ومع أحدهما شيء آخر، وهو هنا مد عجوة، وكذلك لو باع ذهبا بذهب وحرز، أو باع فضة بفضة ونحاس، ونحو ذلك، أو باع فضة ونحاس بفضة ونحاس، فهذا كله لا يجوز، ودليل هذه المسألة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث فضالة بن عبيد قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل) [م 1591] ، فهنا ذهب بذهب وخرز، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حتى يفصل، أي حتى يميز الذهب من الخرز، فيعرف مقدار الذهب، ويعرف مقدار الخرز، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن هذه المسألة يستثنى منها ما إذا كان الجنس المتميز أكثر من الجنس المختلط، أي الجنس المنفرد أكثر من الجنس المختلط، فحينئذ تكون الزيادة في المنفرد مقابل هذا الجنس الزائد، ومثال ذلك: باع عشرة دنانير بقلادة فيها تسعة دنانير وخرز، فحينئذ تسعة دنانير بتسعة دنانير، ودينار مقابل الخرز، وكذلك إذا باع مائة صاع من التمر بتسعين صاعا من التمر وكذا صاعا من الشعير أو الأقط، فهذا جائز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وذلك لأن الأصل في البيوع الحل، ومن باع تسعة دنانير(13/131)
بتسعة دنانير، والدينار الزائد يقابله الخرز الزائد فإن هذا ليس فيه شيء محرم، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تفصل للمعرفة، وقد ثبت المعرفة، فإذا بيع المختلط بما هو منفرد، وكان المنفرد متميزا وأكثر من المختلط فهذا جائز وليس فيه حيلة على الربا، وهذا القول هو الصحيح، وعليه فإذا كان الجنس منفردا فيجوز أن يباع بجنس مختلط بشرطين:
الأول: أن يكون المنفرد أكثر من المختلط.
الثاني: ألا يكون هذا حيلة على الربا.
قوله [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى]
لا يجوز أن يباع مائة صاع من التمر الذي أخرج نواه، بمائة صاع من التمر ذي النوى، وذلك لعدم التماثل، والشرط في البيع التماثل.
قوله [ويباع النوى بتمر فيه نوى]
النوى عندهم جنس ربوي لأنه يكال، فإذا باع نوى بتمر فيه نوى كأن يبيع مائة صاع من النوى بخمسة آصع من التمر الذي فيه نوى فذلك جائز، وذلك لأن النوى في السلعة الثانية ليس مقصودا، بل المقصود هو التمر، وهذا باتفاق العلماء، فإذا بيع ربوي بسلعة أخرى فيها ربوي من جنسه، وكان هذا الربوي الذي من جنسه ليس بمقصود في البيع فإن ذلك جائز.
إذن المسألة السابقة وهي بيع ربوي بربوي من جنسه ومعهما أو مع أحدهما شيء زائد، وهي مسألة مد عجوة، هذا إن كان الربوي في السلعتين مقصودا، أما إذا كان الربوي في السلعتين أو في أحدهما ليس بمقصود فإن ذلك جائز،ومثله بيع دار فيها شيء من الذهب بذهب، فالمقصود بالبيع هو الدار وليس الذهب، فهذا جائز باتفاق أهل العلم، واختار أيضا شيخ الإسلام وذكر أنه ظاهر المذهب بيع السيف المحلى بالذهب بذهب، وبيع السيف المحلى بالفضة بفضة، فإن الفضة في السيف وكذلك الذهب ليس بمقصود، بل المقصود هو السيف فيجوز ذلك.
قوله [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف](13/132)
اللبن ربوي، والصوف عندهم ربوي لأنه موزون، والصحيح ما تقدم أن العلة ليست هي الوزن، بل العلة هي الثمنية، فإذا باع لبنا وصوفا بشاة ذات لبن وصوف، فيجوز ذلك، لأن المقصود هو الشاة نفسها ليس اللبن ولا الصوف الذي عليها، وهذا باتفاق أهل العلم كما تقدم.
قوله [ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -]
تقدم أن الحنابلة يعللون الأصناف الأربعة بأنها مكيلة، والذهب والفضة بأنهما موزونان، فإن قيل كيف يعرف المكيل وكيف يعرف الموزون؟ أي ما هي الأشياء التي تكال فيثبت فيها الربا، وما هي الأشياء التي توزن فيثبت فيها الربا؟
فمثلا: الصوف والحديد والنحاس هل هو موزون أم مكيل، ولا شك أن هذه المسألة لها أهمية، هذا على القول بما ذكروه من أن العلة هي الكيل والوزن، وإذا عرفنا أن هذا مكيل وهذا موزون فيجوز أن أبيع هذا بهذا، أي المكيل بالموزون، لأنه يجوز عندهم بيع المكيل بالموزون، فقال المؤلف إن مرد الكيل لعرف المدينة، وليس المراد ما هو قدر الصاع، بل المقصود ما هو المكيل، وما هو الموزون، فمرد الكيل لعرف المدينة، ومرد الوزن لعرف أهل مكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة) [ن 2520، د 3340] والحديث إسناده صحيح، فالصوف يوزن عند أهل مكة، وكذلك الذهب والفضة ونحوها، والمائعات تكال بالصاع، وكذلك التمر والبر، هذا في عرف أهل المدينة، فعرفنا الآن أن البر يكال لأن أهل المدينة يكيلونه، وأن الذهب يوزن لأن أهل مكة يزنونه.
قوله [وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه](13/133)
فما لا عرف له في مكة والمدينة فإنه يعتبر عرفه في موضعه، فإن كان مكيلا اعتبر، وإن كان موزونا اعتبر كذلك، فيرجع فيه إلى عرف أهل البلد، فإذا اختلف أهل البلاد فيه، فمنهم من يقول: هو مكيل، ومنهم من يقول هو موزون، فإنه يحكم بالغالب، فإن لم يكن ثمت غالب فإنه ينظر إلى شبهه بما هو مكيل أو بما هو موزون فيلحق به، فمثلا الجواهر شبيهة بالذهب والفضة فحكمها الوزن، والذرة شبيهة بالأرز فحكمها الكيل، وهذا كله على قول مرجوح في مسألة الوزن، والراجح أن الحكم راجع إلى مسألة الثمنية في الذهب والفضة، وقضية الكيل الذي يترجح أن المقصود فيها هو القياس، فسواء كان القياس بالكيل أو بالوزن فإن المقصود هو ما يعرف به التماثل، سواء كان بكيل أم بوزن، وقد تقدم قول مالك وأن العلة في الأصناف الأربعة هي الاقتيات والادخار ولم يذكر الكيل، لكن الكيل يحتاج إليه والوزن يحتاج إليه لمعرفة التماثل من عدمه.
فصل
قوله [ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا كالمكيلين والموزونين]
يحرم ربا النسيئة بإجماع العلماء، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) ، والنسيئة من النساء بفتح النون وهو التأخير، فربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا، وعلة الربا على المذهب الكيل والوزن، فلو باع بر بشعير ثبت فيه ربا النسيئة، لأن كلا منهما مكيلا، ومن باب أولى إذا باع شعيرا بشعير، وكذلك لو باع ذهبا بفضة، فهما جنسان اتفقا في علة الربا وهي الوزنية على المذهب.(13/134)
وقوله (ليس أحدهما نقدا) هذا في باب الموزونات، فمن الموزونات عند الحنابلة النحاس والحديد والسكر ونحو ذلك، فلا يجوز - على القاعدة السابقة - بيع السكر بالدراهم، أو بيعه بالدنانير نسيئة، لأن السكر العلة فيه الوزن، فهو ربوي، وكذلك الدنانير والدراهم، فاتفقا في العلة، فاحتاج المؤلف إلى استثناء ما إذا كان أحدهما نقدا، لئلا ينسد بهذا باب السلم، وهو نوع من الديون في الموزونات، وهذا مما يدل على ضعف هذه العلة التي ذكروها، وهي علة الوزنية، فاحتاجوا إلى مثل هذا الاستثناء، وإلا فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد وهي أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية.
قوله [وإن تفرقا قبل القبض بطل]
مثاله: اشترى ذهبا بفضة، وتفرقا ولم يتم التقابض، فإن البيع بطل، لأن الشارع قد اشترط التقابض، وحينئذ فهذا البيع قد خلا من شرط الشارع، وكل ما خلا من شرط الشارع فهو باطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .
قوله [وإن باع مكيلا بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]
فإذا باع مكيلا كبر بموزون كذهب جاز التفرق قبل القبض لأن التقابض ليس بشرط، لأن العلة قد اختلفت، فالبر علته أنه قوت، والذهب علته الثمنية، وعلى قول الحنابلة البر علته الكيل، والذهب علته الوزن، فإذا اختلفت العلة جاز التفاضل والنسأ وهذا بالإجماع، ويدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رهن درعه عند يهوي على شعير أخذه لأهله) فهنا اشترى الشعير بالدراهم المؤجلة، وهذا كما سبق محل إجماع بين أهل العلم، وعلى هذا فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) مقيد بالأجناس ذات العلة المتحدة، فصار عندنا الآن ثلاثة أنواع:(13/135)
النوع الأول: بيع ربوي بجنسه، فلا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة كبر ببر.
النوع الثاني: بيع ربوي بجنس آخر يتحد هو وإياه في العلة، فيجوز فيه النسيئة دون التفاضل.
النوع الثالث: بيع ربوي بجنس ربوي آخر يخالفه في العلة فيجوز فيه النسيئة والتفاضل إجماعا.
* وهل يجوز بيع فلوس نافقة - أي غير كاسدة، بل يتعامل بها على أنها أثمان للأشياء - بدراهم أو دنانير نسيئة أم لا؟
قولان لأهل العلم، فذهب الجمهور أن بيع الفلوس النافقة بالدراهم جائز مع التفاضل إذا كان حالا، والفلس ما يساوي سدس الدرهم، ويصنع من غير الذهب والفضة، بل هو من جنس آخر، وهو موزون، وعلى الراجح هو ثمني، فعليه هو جنس ربوي، فإذا بيع بالدراهم أو بالدنانير مع التفاضل فهذا جائز لأن الأجناس مختلفة، وإذا اختلفت الأجناس جاز البيع، ولا يظهر أن الفلوس موجودة عندنا، وذلك لأن الأوراق والمعادن كلها في الحقيقة ذات مرجع واحد، فإنها بنفسها ليس لها قيمة، وإنما القيمة في مرجعها، وليس مرجعها ذهبا ولا فضة ولا شيئا محددا، وإنما ترجع إلى القيمة المادية للبلد، ويختلف هذا باختلاف نمو هذه البلدة من بترول أو معادن أو نحو ذلك، وعلى ذلك فهذه المعادن التي بأيدينا لا يظهر أنها جنس آخر، بل هي من جنس الريالات، فهذه أوراق وهذه معادن، ومرجعها واحد، ولو قلنا إن مرجعها مختلف فإنه يجوز فيها التفاضل كما يجوز في الفلوس النافقة، والصحيح خلاف هذا، فإن الصحيح أن مرجعها واحد، فإنه ينظر ما عند أهل البلدة من قدرة مادية ويؤذن لهم بقدرها من الصرف من الريالات، سواء صرفوها معادن أو ريالات، وساء كانت الريالات الورقية ذات درجة واحدة أو درجات مختلفة، وقد تقدم ترجيح ما ذهب إليه بعض أهل العلم وهو ما يفتي به هيئة كبار العلماء أن الريالات والدنانير والدولارات وغيرها أجناس مختلفة بحسب اختلاف جهات مصادرها، كما تقدم في كتاب الزكاة، فيجوز فيها(13/136)
التفاضل دون النسيئة.
فهذه الفلوس النافقة التي كانت تصنع قديما لها قيمة معدنية بذاتها، وليست ذهبا ولا فضة بل هي جنس آخر، وعليه فيجوز فيها التفاضل بالذهب والفضة لأنها جنس آخر، وإنما الكلام هنا في جواز بيعها نسيئة، فهل يجوز بيع الفلوس النافقة بالدراهم أو بالدنانير نسيئة؟
قولان لأهل العلم، ومنشأ الخلاف هو هل الفلوس النافقة أثمان أم عروض؟ فإن قلنا هي أثمان فلا يجوز بيعها نسيئة بالدنانير أو بالدراهم، كما لا يجوز بيع الدراهم بالدنانير نسيئة، وهذا القول هو المشهور من المذهب وهو قول المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، والقول الثاني أنها عروض وليست أثمانا، وحينئذ فيجوز بيعها نسيئة كما يجوز أن يشتري ثيابا بدراهم نسيئة فهي عروض، وهذا مذهب الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة، وذكره صاحب الفروع اختيارا لشيخ الإسلام، والقول الأول هو الراجح فإنها أثمان، فالحكم للغالب عليها أنها أثمان، فيباع بها ويشترى كما يباع ويشترى بالذهب والفضة، فالحكم الغالب عليها هو الثمنية، وعليه فلا يجوز بيعها بالدراهم ولا بالدنانير نسيئة، أما التفاضل فجائز.
** مسألة:
المصوغ المباح من الذهب والفضة كحلي النساء ونحو ذلك مما يجوز للرجل كالخاتم من الفضة ونحوه، هل يجوز بيعه بالدراهم والدنانير تفاضلا - ولا إشكال في الدراهم - ولكن في الدنانير في مسألة التفاضل، والدراهم والدنانير في مسألة النسيئة، أم لا يجوز؟
وهذه المسألة توجد في أسواق الناس، فهل يجوز للرجل أن يشتري من بائع الذهب الحلي بدراهم إلى سنة، وهل يجوز أن يشتري منه هذا الحلي بذهب تبر مع تفاضل، فمثلا: يقول هذا الذهب عندي اعتبره تبرا ولا تعتبره مصاغا لأنه مستعمل، فخذ هذا الذهب وزنه كيلو جرام على أنه تبر، وأعطني تسعمائة جرام من الذهب المصاغ، فهل هذا جائز؟(13/137)
اختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذا، ودليل شيخ الإسلام على جواز التفاضل والنسيئة أن الذهب بالصنعة قد خرج عن كونه ثمنيا، كما أن الفضة بالصنعة قد خرجت عن كونها ثمنية، فإن الذهب ليس بثمني ما دام مصوغا، بل هو من جنس عروض التجارة، وليس من الثمنية، ولذا لا يشترى به ولا يباع إلا مع أهله المختصين به من أهل الذهب والفضة الذين يعيدونه إلى أصله، فإنه لا شك أن صاحب الذهب المصنع لا يمكنه أن يبيعه بذهب غير مصنع مع التماثل، فإنه حينئذ يذهب قيمة أجرة صنعته، وحينئذ فيحتاج صاحب الذهب إلى أن يأتيه بدراهم، وقد يكون في هذا مشقة، وربا الفضل يباح عند الحاجة كما أجازته الشريعة في العرايا، فإن قيل إن الذهب المصنع شبيه بالتمر الرديء ومع ذلك فإن التمر الرديء لا يجوز بيعه بالتمر الجيد؟ فالجواب أن بينهما فرقا، فإن التمر الرديء، الرداءة فيه صفة خلقية، أي من خلقته، وليس هذا من صنع الآدمي، وأما هذه الصنعة فإنها صنعة آدمي، ويحتاج إلى أن يأخذ عليها أجرا، أضف إلى هذا ما تقدم من العلة في الأمور الربوية، فإن الحلي المصنع ليس بثمني، فيشبه الجواهر ونحوها، فإنه قد خرج عن كونه ثمنيا، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم هو الراجح، فعليه يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب وبيع الفضة المصوغة بالفضة مع التفاضل، قال صاحب الإنصاف:" وعليه عمل الناس "، والنسيئة كذلك جائزة لما تقدم، وقيده شيخ الإسلام بقيد ظاهر وهو ألا يكون بقصد ثمنيتها، فإن اشترى رجل من آخر ذهبا مصوغا إلى سنة بأربعين ألفا، وقصد الثمنية فلا يجوز، وأما إن قصد كونها حليا فلا بأس، وهذا لحديث فضالة، فإن قوله (فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) يدل على أنه قصد الثمنية، وأما ما رواه البيهقي عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فجاءه صائغ فقال: إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه على قدر عمل يدي، فنهاه عن ذلك(13/138)
وقال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب عنه: أنه كان يصوغ الذهب إلى دنانير، وهذه الصنعة غير مراعاة اتفاقا للمصلحة العامة المقصودة من ضرب الدراهم والدنانير، ولو روعيت لفسدت المعاملة ولا يعقل أن يأمره بإهمال صنعته فإن في ذلك إضاعة للمال، وأما إنكار أبي سعيد على معاوية بيعه آنية من فضة في مسلم، فإن ذلك لتضمنه مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان.
وقد التزم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في غير الذهب المصوغ من فروع الأجناس بهذا القول، ومعلوم أن فروع الأجناس لها حكم أصولها، كالخبز من الدقيق ونحو ذلك، فالتزما بهذه القاعدة فقالا: ما تكون فيه صنعة آدمي من الأجناس إن خرج عن كونه قوتا كالنشا الذي يصنع من الحنطة فإنه خرج عن كونه قوتا، وعلى هذا فليس بربوي، لزوال علة الربوية وهي الاقتيات، وإن لم تزل عنه العلة الربوية بل ثبتت فيه فهو جنس آخر منفرد بنفسه، فالخبز جنس، والحنطة جنس آخر، وهكذا فروع الأجناس، فعليه يجوز بيع زيت الزيتون بالزيتون، وبيع الخبز بالحنطة، وهذا لما في ذلك من صنعة الآدمي وعمله، فيحتاج إلى أجرة، لكن مع النسيئة لا يجوز لأن العلة الربوية متفقة.
وقوله (جاز التفرق قبل القبض) أي وإن كان التبايع ليس نسيئة، وقد اتفقا على أن يكون الثمن حالا، فتفرقا قبل القبض فهذا جائز، والنساء إذا اتفقا على التأخير.
قوله [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء](13/139)
وذلك لذهاب العلة الربوية، فيجوز النساء ويجوز التفاضل في الثياب والحيوان ونحو ذلك، ودليل هذا ما رواه أبو داود في سننه والحاكم والدارقطني وغيرهما والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) [سبق تخريجه]
والعلة على القول الراجح كما تقدم هي الثمنية في الذهب والفضة، والقوت في الأصناف الأربعة الآخر، والأظهر كما تقدم أنه متى أمكن التماثل فإنه لا يجوز ربا الفضل سواء كان بكيل أو وزن أو عد، فالريالات التي عندنا الآن لا توزن وإنما تعد فيقع فيها الربا، وكذلك لو قدر وجود بعض الأقوات وكان الطريق فيها غير الكيل والوزن فإن الحكم واحد لكونها قوتا، ولأن الضرر المترتب على جواز الربا فيها هو نفسه المترتب على غيرها مما هو مكيل أو موزون، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
قوله [ولا يجوز بيع الدين بالدين]
وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وروى الدارقطني بإسناد ضعيف ضعفه الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الكاليء بالكاليء) [قط 3 / 71، كم 2 / 57، هق 5 / 290] أي الدين بالدين، وصورة هذا أن يبيع على الرجل سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعه هذا الثمن بثمن آخر مؤجل، فيقلب عليه الدين بدين، فهذا لا يجوز، ولو زاد عليه الثمن مع التأجيل فهذا هو ربا الجاهلية وهو من أقبح الربا.(13/140)
قال الحنابلة: ولا يصح المقاصة وهي عندهم من بيع الدين بالدين، وصورتها أن يكون على زيد لعمرو مائة دينار، ولعمرو على زيد ألف درهم، فيقول كل منهما للآخر أبرؤ ذمتك وتبرؤ ذمتي، فيتصارفان ولم يحضرا شيئا، فقال الحنابلة هذا لا يجوز، وذلك لو كان له على الآخر مائة صاع من الشعير وللآخر عليه خمسة آصع من البر، فقال أسقط الذي علي وأسقط الذي عليك، قالوا: لا يجوز ذلك، لأنه من باب بيع الدين بالدين، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب الأحناف والمالكية واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز وهو الراجح، لأنه لا محذور شرعي فيه، وفيه إبراء للذمم، والشريعة متشوفة إلى ذلك، فهذا القول هو الصواب، وقد تقدم ضعف حديث نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذه المسألة لا إجماع فيها.
فصل
قوله [ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض](13/141)
تقدم تعريف الصرف: وهو بيع نقد بنقد، كبيع دراهم بدنانير والعكس، أو بيع الفلوس النافقة بالدراهم والدنانير، فهذا هو الصرف، ومنه بيع الريالات بالدولارات، فإذا تصارفا الدنانير والدراهم والجنسان مختلفان، فإذا تفرقا قبل قبض الكل أو البعض يبطل العقد فيما لم يقبض، فإذا افترقا قبل قبض الكل فالعقد باطل كله، وإن كان في البعض فهو باطل فيما لم يقبض، مثاله: تصارفا مائة درهم بمائة دينار، فافترقا قبل أن يتقابضا في الكل، فالعقد كله باطل، وإذا افترقا قبل قبض البعض فأعطاه هذا خمسة دنانير وأعطاه الآخر خمسين درهما، وبقي على عقدهما خمسة دنانير تقابلها خمسون درهما، فيصح العقد في البعض دون ما تبقى، لتوفر الشروط في البعض، وتكون هذه المسألة من تفريق الصفقة التي تقدم الكلام على بعض صورها، أما الباقي فالعقد باطل لعدم توفر شروط الصحة، ومن شروط الصحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .
قوله [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين](13/142)
كسائر السلع، وتقدم ذكر هذا، فإذا قال: بعتك هذا الشيء فإن البيع يكون قد وقع على هذا الشيء نفسه، بخلاف ما لو قال: بعتك ما وصفه كذا وكذا، فحينئذ لا يتعين، فمثلا إذا قال: ابتع عليك هذه العشرة دنانير بهذه المائة درهم، فحينئذ قد عينت الدراهم والدنانير، فتتعين فتكون الصفقة واقعة عليها بعينها كسائر العقود، فإذا قال: اشتريت منك هذه الشاة فإنها تتعين وتكون هي المبيعة، فلا بد أن يعطيه إياها، لأن العقد وقع عليها، بخلاف ما لو قال: اشتريت منك شاة وصفها كذا وكذا، وهذا مذهب جمهور العلماء أن الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، وقال بعض الحنابلة لا تتعين، لأن المقصود واحد وهو رواية عن أحمد ومذهب الأحناف، والقول الأول أظهر من حيث التعليل، لكن ذلك في زمانهم وأما في زماننا فإن المقصود واحد لأن الدنانير والدراهم في القديم لتعيينها قصد، ففيها الرديء والجيد، والمشوب والخالص.
قوله [فلا تبدل]
هذه من فروع المسألة، فلا تبدل لأن العقد قد وقع على عينها، فهي بمجرد العقد أصبحت ملكا للمشتري بعينها، وأصبح الثمن ملكا للبائع بعينه، فحينئذ لا يصح تبديله.
قوله [وإن وجدها مغصوبة بطل]
فلو ثبت أن هذه الدراهم مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، وذلك لأن البيع على عينها لا على وصفها، فثبت أنها مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، لأن السلعة قد ثبت أنها غير مملوكة، وما دامت غير مملوكة فلا يصح أن يصرف هذا بها، وعلى القول بأنها لا تتعين يجوز تبديلها وإن كانت مغصوبة صح البيع، ووجب البدل في ذمته.
قوله [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد](13/143)
إذا وجد الدينار فيه عيب أو هذا الدرهم فيه عيب فلا يخلو هذا العيب: إما أن يكون من جنسه - أي من جنس المعيب - وإما أن يكون من غير جنسه، فمثال ما كان فيه عيب من جنسه سواد في الفضة، وبياض في الذهب أو نحو ذلك، وأما ما كان فيه عيب من غير جنسه كأن يكون فيه شيء من النحاس أو أن يكون نحاسا أو تبين فيه غش، فهنا العيب ليس من جنسه، فإذا كان العيب من جنسه أمسك أو رد، فهو مخير بينهما، وليس فيه أرش إذا أمسك، لأنه إذا ثبت الأرش فهو ربا، لأن التفاضل محرم، وتقدم عدم ثبوت الأرش أصلا ولا دليل على ثبوته، وإن كان العيب من غير جنسه فحينئذ يبطل العقد، فلا خيار، وذلك لأنه قد ثبت أن العقد كان على غير المسمى، والرضا إنما وقع على أنه ذهب فبان أنه نحاس أو فضة أو حديد فليس هناك رضا.
قوله [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقا بدار إسلام وحرب]
فالربا محرم على المسلم مطلقا، سواء كان مع مسلم أو حربي أو ذمي، وسواء كان في دار حرب أو إسلام، لعمومات الأدلة الشرعية، فقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولا يحل للمسلم أن يكون طرفا في ربا، وأما ما روي أنه لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام فالحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب لأن أموالهم مباحة، والجواب: أنها مباحة قهرا، وأما أخذها بمعاملة وعقد فيجب أن يوافق الشرع، ولما يترتب على ذلك من المفاسد في هذا العصر من ترك أموال المسلمين في البنوك الربوية التي بأيدي الكفار، ويقال أيضا لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام لأن الأمان على ماله أن يؤخذ قهرا، وفي الربا رضا منه.
* مسألة:
إذا باع سلعة بدراهم إلى شهر، فلما جاء الشهر أراد أن يدفع دنانير بدل الدراهم فهل يجوز؟
الجواب يجوز ذلك بشرطين:(13/144)
الشرط الأول: أن تكون بسعر يومها أي يوم القبض.
الشرط الثاني: ألا يتفرقا بينهما شيء.
ودليل ذلك ما ثبت في الخمسة عن ابن عمر قال: قلت يا رسول الله: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه، وأعطي هذه من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا باس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء) [حم 6203، ن 4582، د 3354، ت 1242، جه 2262] والحديث الصحيح فيه وقفه على ابن عمر، ولكن الأدلة الشرعية تدل على هذا الحديث، أما قوله (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) فإن هذا شرط في الصرف، وهو إذا حل الوقت فقال أريد أن أعتاض عنها دنانير بدل الدراهم فهذا صرف، ولا بد في الصرف من التقابض، وكونها بسعر يومها لئلا يربح ما لم يضمن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ربح ما لم يضمن) .
باب بيع الأصول والثمار
الأصول جمع أصل وهو ما يتفرع منه غيره، كالدار والأرض والشجر، فالشجر أصل يتفرع منه الثمر، والأرض كذلك يتفرع منها ما فيها من غرس وبناء ونحوه، والدار يتفرع عنها ما فيها من بناء وأبواب ونحو ذلك، والثمار: جمع ثمر كالتمر ونحوه.
قوله [إذا باع دارا شمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمورين والخابية المدفونة]
فإذا باع رجل دارا أو وهبها أو أوقفها أو أوصى بها أو أقر بها فكل هذا في حكم البيع، فإذا باع دارا فإن هذا يشمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين أي الذين قد وضعا بالمسامير، والخابية وهي وعاء الماء إذا وضع في الأرض، وقيد الخابية بالمدفونة ليخرج ما لم يكن مدفونا كوعاء الماء الذي ليس بمدفون فإنه لا يدخل في هذا الحكم.
قوله [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر](13/145)
ما هو مودع فيها من كنز وحجر فإنه لا يدخل في الدار، لأن اللفظ لا يتناوله، فلا يملك بمجرد البيع، فمن باع دارا وفيها كنز فإن المشتري لا يملك هذا الكنز، لأن اللفظ لا يتناوله.
قوله [ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح]
فإن هذه وإن كانت من مصلحة الدار لكنها منفصلة عنها، فالضابط عندهم فما يدخل فيما يباع من الأصول: أن يكون من مصلحة الدار ومتصلا بها، فإن لم يكن من مصلحتها ولا متصلا بها أو كان من مصلحتها وهو غير متصل بها فإنه لا يدخل في البيع، والوجه الثاني في المذهب أن المفتاح ونحوه كالقفل يدخل، والصحيح أن الحكم في ذلك راجع إلى العرف، فما دخل في اللفظ عرفا فإنه يثبت ملكه بالبيع، لأنه كالشرط، وقد تقدم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فمثلا إذا قال بعتك هذه الدار، فإن العرف يدل على دخول الأرض والبناء والأبواب والأقفال والمفاتيح ونحو ذلك مما هو متصل بها ومن مصلحتها، والعرف لا يدخل الفرش ولا الأثاث، لكن إن اشترطه المشتري فالمسلمون عند شروطهم.
قوله [وإن باع أرضا ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]
قوله (ولو لم يقل بحقوقها) إشارة إلى خلاف، فالوجه الثاني في المذهب أنه إن لم يقل بحقوقها فإن غرسها ونحوه لا يدخل، إذن في المسألة قولان في المذهب:
القول الأول: أنه إذا قال بعتك هذه الأرض فإن غرسها وبناءها ونحوه يدخل وإن لم يقل بحقوقها.(13/146)
القول الثاني: أن ذلك لا يدخل إلا أن يشترطه، فإن قال: اشتريت منك الأرض بحقوقها أو بما فيها أو قال البائع بعتك الأرض بحقوقها أو بما فيها دخل ما سبق وإلا فلا، والراجح ما تقدم من أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان العرف يقضي بأن بيعها - أي الأرض - يدخل فيه ما سبق فإنه يدخل فيه، وإلا فلا، والعرف حاليا لا يدخل الشجر، فمن باع أرضا وفيها شجر، فإن العرف لا يدل على أن الشجر داخل في البيع، إلا أن تكون الأرض أرضا زراعية، أما إذا كانت أرضا للبناء فلا يدخل فيها، لكن لو قال: بعتك هذا البستان أو بعتك هذا الحائط فإنه يدخل فيه ما فيه من شجر ونحوه.
* وهل يدخل فيه ما يكون منصوبا فيه من خيام ونحو ذلك؟
الجواب ما سبق من أن مرجع ذلك إلى العرف، لكن لو اشترطه فالمسلمون على شروطهم.
قوله [وإن كان فيها زرع كبر وشعير فلبائع مبقى]
إذا كان في الأرض بر وشعير فإنه يبقى للبائع إلى أول وقت الحصاد، هذا إذا لم يشترطه المشتري، فإذا أتى أول وقت الحصاد فإنه يجبر على حصاده، وهذا هو القول الأول في المذهب، وأنه يجب عليه أن يحصده أول وقت الحصاد ولو كان في الانتظار خير للزرع، والقول الثاني في المذهب أنه يبقى إلى كماله وتمامه لأن العادة قد جرت بذلك، فالعادة قد جرت بأن الزرع لا يحصد حتى يكمل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وهذا هو أحد القولين عند الحنابلة، وهو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.
قوله [وإن كان يجز ويلقط مرارا فأصوله لمشتر والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع](13/147)
إن كان يجز مرارا كالبرسيم مثلا، أو يلقط مرارا كالقثاء مثلا، فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان للبائع وذلك لأن ما يجز ويلقط مرارا يلحق بالشجر من نخيل ونحوه، وذلك لأنه زرع ليبقى، فهو كالنخيل يتكرر جذاذه، فكما أنهما لو تبايعا في الأرض نخيل عليه ثمر، فالثمر للبائع، والنخيل للمشتري، كما سيأتي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله [وإذا اشترط المشتري ذلك صح]
فلو اشترط المشتري الجزة واللقطة الظاهرتين صح، فالمسلمون على شروطهم.
فصل
قوله [ومن باع نخلا تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ]
من باع نخلا تشقق طلعه، فهو متهيء للتأبير، فلم يبق إلا أن يؤبر، والتأبير هو التلقيح، فمن باع نخلا تشقق طلعه فإنه يبقى للبائع إلى الجذاذ، فله الثمر مبقى إلى أول الجذاذ، وبمجرد ما يبدأ الناس يجذون يؤمر هو بالجذاذ، والصحيح ما تقدم أنه يبقى إلى كماله.
قوله [إلا أن يشترطه المشتري]
فإن اشترط المشتري فإنه يكون له، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] قالوا: وإنما علق الشاعر الحكم بالتأبير لأنه ملازم للتشقق غلابا، فإذا تشقق فإنها تؤبر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن الحكم منوط بالتأبير، وذلك لظاهر الحديث المتقدم، ولأن التأبير يقع به فهل من المكلف بخلاف التشقق، فإنه لا فعل لمكلف فيه، وهذا القول هو الراجح وهو أن الحكم منوط بالتأبير، فإن باع نخلا وهو مؤبر فالثمرة للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وإن باعه ولم يؤبر بعد وإن كان متشققا فإن الثمرة للمشتري، والمذهب يعلق هذا بالتشقق، والراجح ما اختاره شيخ الإسلام.
قوله [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره](13/148)
فكذلك تشقق ثمرها، فإنه إذا باعها تكون الثمرة للبائع، ,إن لم يتشقق فإن الثمرة للمشتري، ولم نعلقه بالتأبير لأنه لا تأبير فيه، والقياس حيث أمكن فهنا يلحق به قياسا حيث تشقق.
قوله [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]
فما ظهر من نوره أي من زهره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه أي وعائه كالورد والقطن فإن له نفس الحكم، فمن باع تفاحا أو مشمشا فإن كان قد خرج من نوره فهو للبائع، وإن لم يخرج من نوره فإنه للمشتري كالثمر المتشقق من النخل.
قوله [وما قبل ذلك والورق فلمشتر]
أي ما قبل التشقق والخروج من النور والخروج من الوعاء فإنه يكون للمشتري، وكذلك الورق والأغصان، فإنها للمشتري لأنها تبع للشجر، وقد ثبت الحكم للأشجار فورقها وأغصانها تابعة لها، وأما الثمر فما كان قبل التشقق أو التأبير في النخل فإنه للمشتري، وما كان بعد التشقق من سائر الثمار وبعد التأبير في النخل خاصة فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
قوله [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه](13/149)
لا يباع النخل وهو رطب حتى يبدو صلاحه، ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه، فأما صلاح الثمر فبأن ينضج، فهذا هو بدو صلاحه، وهذا يختلف باختلاف الثمر، فمنه ما يكون باحمراره أو اصفراره، ولذا قال أنس لما قيل له ما زهوها قال:" أن تحمار أو تصفار "، والعنب جاء فيه حديث عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) [حم 12901، ت 1228، د 3371، جه 2217] وهذا في العنب الأسود، وما لم يكن له علاقة باللون فإذا تهيأ لأن يطعم ويؤكل فهذا هو بدو صلاحه، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها) قيل: ما بدو صلاحها قال:" أن تذهب عاهتها " وهو من قول ابن عمر، فهو مدرج كما ثبت في بعض الروايات [خ 1486، م 1534] ومعنى " أن تذهب عاهتها " أي تذهب عنها الآفة السماوية المحتملة قبل نضجها، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري ومسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه) [خ 2199، م 1555] فالعلة هي أن الثمرة قد تمنع فتأتيها آفة سماوية قبل بدو صلاحها فبم يستحل البائع مال أخيه، وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهو) قيل وما زهوها؟ قال - وهو من قول أنس كما بينته بعض الروايات -: أن تحمار أو تصفار [خ 2196، 2197، م 1555] فهذه الأحاديث تدل على أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها محرم، وأن بيع الحب قبل اشتداده محرم أيضا، وهذا باتفاق العلماء.
قوله [ولا رطبة ولا بقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل]
الرطبة هي البرسيم، والقثاء هو الخيار، فلا يجوز بيع البرسيم والقثاء وكذلك الباذنجان ونحو ذلك دون الأصل حتى يبدو صلاحها.(13/150)
قوله [إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]
فما يتكرر جزه أو يتكرر لقطه كالبرسيم والقثاء ونحوه لا يباع إلا جزة جزة أو لقطة لطقة، فيقول: أبيع عليك هذه الجزة، فإذا اشتراها، ثم نمت الجزة الأخرى باعها، وهكذا فيما يلقط، فبيع اللقطة الأولى يكون إذا خرجت وكذلك الثانية والثالثة وهكذا، وعليه فليس له أن يبيع البرسيم أو نحوه الذي قد بدا صلاحه الموسم كله، فمثلا: يأتي إلى مزرعة البرسيم فيقول: أبيع عليك هذا البرسيم تجزه ما شئت يعني كلما نبت منه شيء جززته، وهكذا حتى ييبس، وهكذا في القثاء ونحوه، فهذا لا يجوز، قالوا: لأنه معدوم، فالجزة الثانية معدومة، والبيع إنما يكون في الموجود لا في المعدوم، ولأن هذا المعدوم فضلا عن كونه معدوما فإنه لم يبد صلاحه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع هذه الأشياء حتى يبدو صلاحها، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز ذلك، وأنه يجوز أن يبيع المقثاة حتى ييبس ويجوز أن يبيع البرسيم حتى ييبس وذلك بعد بدو الصلاح، قالوا: لأنه لا غرر في ذلك، فإن أهل الخبرة يستدلون بجنس هذا الزرع على طيب ما يجز منه أو يلقط، وعلى كثرته ونحو ذلك، قالوا: ولأن في المنع من هذا حرجا ومشقة، ومثل هذه المسائل تجوز عند المشقة والحرج، قالوا: ولأنها لا تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، فإن هذا فيما يمكن الانتظار فيه حتى يبدو الصلاح، فلا يكون في ذلك مشقة ولا حرج، وأما هنا فإن بدو الصلاح فيه متكرر، فيشق انتظاره، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه هو القول الراجح في هذه المسألة دفعا للحرج، كما أنه يمكن أن يقال لأهل القول الأول: ماذا تقولون في بدو الصلاح في بعض ثمر النخلة الواحدة؟ فالجواب: أنهم يقولون اتفاقا يجوز بيعها إذا بدا صلاح بعض ثمرها دون الآخر، وذلك لأن النهي عن بيعها حتى يبدون صلاحها كلها فيه(13/151)
مشقة، فإن الانتظار فيه مشقة، وكذلك على الراجح إذا بدا صلاح بعض النخل أو نحوه من نوع واحد، فإنه يحكم للباقي بالحكم نفسه إذا كان في بستان واحد، فيجوز بيعه حينئذ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعي، وعن الإمام أحمد أنه يمنع حتى يبدو صلاح كل الثمر، والصحيح هو ما تقدم وذلك دفعا للحرج، ويقال هنا كذلك في المسائل التي تقدم فيها اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
وقوله (إلا بشرط القطع في الحال) فإذا باع ثمرة لما يبدو صلاحها أو حبا لما يشتد بعد أو باع رطبة أو قثاء ولما يبدو صلاحها بشرط القطع في الحال فإن هذا جائز، وذلك لزوال العلة المتقدمة وهي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت لو منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه) ، وهناك شرط آخر، وهو شرط قد تقدم في شروط البيع وهو أن يكون مما ينتفع به، أي يحصل به الانتفاع سواء بأن يكون طعاما للآدميين أو طعاما للبهائم أو نحو ذلك، فهذا كله جائز، والعلة قد زالت، وهذا هو مذهب الجمهور.
قوله [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]
إذا باع زرعا أو ثمر نخل فالذي يجب عليه حصاد الزرع وجذاذ ثمر النخل والذي يجب عليه أن يلقط هو المشتري، قالوا: لجريان العادة بذلك، فالعادة محكمة في مثل هذه المسائل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وحينئذ فإن كان العرف عن أن ذلك على البائع فإنه يعمل به إلا أن يشترط أحدهما خلاف العرف، كأن يكون العرف على أن الجذاذ على المشتري، فيشترط المشتري أن يكون على البائع فالمسلمون على شروطهم.
قوله [وإن باعه مطلقا أو بشرط البقاء.... بطل](13/152)
إذا باع الثمر مطلقا قبل بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال فالبيع باطل لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وكذلك إذا باع الثمر قبل بدو الصلاح واشترط المشتري البقاء، أي بقاء الثمر حتى يبدو صلاحه، فهذا الشرط يخالف الشرع، فهو باطل والبيع باطل، ويستثنى من هذا ما تقدمت إشارة المؤلف إليه في قوله (دون الأصل) فإذا باع الأصل فإن الثمر يتبع، وإن لم يبد صلاحه، فلو أن رجلا باع نخلا وكان الثمر لم يبد صلاحه فذلك جائز، وهذا باتفاق أهل العلم، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.
قوله [أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]
إذا قال: أنا اشتري منك هذا الثمر قبل بدو صلاحه بشرط أن أقطعه في الحال، فلم يقطعه في الحال بل تركه حتى بدا صلاحه فالبيع باطل، وذلك لأن الشريعة إذا نهت عن الشيء نهت عنه وعن ذرائعه الموصلة إليه، ولا شك أن عدم إبطال مثل هذا العقد يؤدي إلى بيعه قبل بدو صلاحه من غير أن يشترط قطعا في الحال، وعليه فالثمرة تعاد إلى البائع والثمن يعاد إلى المشتري.
قوله [أو جزة أو لقطة فنمتا...... بطل]
إذا باعه جزة أو لقطة لم يبد صلاحها بشرط القطع في الحال فلم يقطعها في الحال بل تركها حتى نمتا فإن البيع يبطل لما تقدم.
قوله [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]
مثاله: قال أبيعك هذا الثمر الذي قد بدا صلاحه من هذه النخلة، فلم يلقط ما بدا صلاحه، وبدا صلاح بقية الثمر فاختلطا، فالحكم أن البيع باطل، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد، والصحيح في مذهب الحنابلة أي المشهور عندهم وهو ظاهر المذهب أن البيع صحيح، ولا دليل على بطلانه، وذلك للقدرة على تسليمه، ولأنه ليس فيه نهي يقتضي فسادا، وحينئذ ينظر فيما نما، فإن علم قدره أخذه البائع، فإنه نما في ملكه، وإن لم يعلم قدره تصالحا على شيء، فإن لم يتصالحا فلكل منهما الفسخ.(13/153)
قوله [أو عرية فأتمرت بطل]
اشترى عرية فأتمرت فيبطل البيع، لأن الشارع إنما أجازها ليؤكل رطبا كما تقدم في قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يأكلونها رطبا) ، والشريعة إنما أجازتها للحاجة وهي أن تؤكل رطبا، فإذا أخرت حتى أتمرت فإن ذلك لا يجوز، ويكون البيع باطلا.
قوله [والكل للبائع]
فكل هذه الأشياء للبائع، فالعرية إذا أتمرت تعود إلى البائع، وحينئذ يرجع عليه المشتري بالثمن، وكذلك كل ما تقدم بطلانه فإنه يكون للبائع لأن البيع باطل، وحيث كان باطلا فإنه يرجع إلى البائع، وأما المشتري فله ما دفعه ثمنا.
قوله [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة أو اشتد الحب جاز بيعه مطلقا]
فإذا بدا صلاح الثمرة واشتد الحب جاز بيعه مطلقا، ودليل ذلك ما تقدم من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ومفهومه جواز بيعها بعد بدو صلاحها، ولأن الأصل في البيوع الحل.
قوله [وبشرط التبقية]
إذا قال بعد بدو صلاح الثمر أشتري منك هذا الثمر بشرط أن يبقى حتى يكمل صلاحه حتى يجذ في الأوان المناسب له، فهذا جائز، والمسلمون على شروطهم، وقد تقدم أن البستان إذا بدا الصلاح في نخلة من نخلاته فيجوز بيع ثمره كله، ولا شك أن المشتري يحتاج إلى إبقاء الثمر في النخيل التي لم يد صلاح ثمرتها بعد، وربما أيضا احتاج إلى تبقية ما بدا صلاحه من الثمر حتى يكون نضجه أتم وأحسن، وهذا كله جائز، والمسلمون على شروطهم.
قوله [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]
فللمشتري التبقية إلى الحصاد والجذاذ وإن لم يشترط ذلك لجريان العادة بذلك، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وله أن يبيعه كذلك لثبوت القبض، فإن التخلية كما تقدم قبض.
قوله [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل](13/154)
إذا اشترى منها لثمر واشترط تبقيته أو أبقاه إلى أوان الحصاد والجذاذ فإن السقيا واجبة على البائع لجريان العرف بهذا، لكن لو اشترط البائع أن السقيا تكون على المشتري فالمسلمون على شروطهم.
وقوله (وإن تضرر الأصل) أي بالسقي.
قوله [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع]
إذا أصابت الثمر أو الزرع بعد بيعه آفة سماوية فذلك منضمان البائع لا المشتري، والمسألة فيها قولان:
القول الأول: أن هذا منضمان البائع، كما هو مقرر في المذهب، وهو مذهب المالكية.
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري لأنه قد تم البيع، وقد أقبضه المبيع، فكان من ضمان المشتري، وهذا هو مذهب الشافعية، والصحيح هو القول الأول لدلالة السنة عليه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو بعت على أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تستحل مال أخيك بغير حق) [م 1554] وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بوضع الجوائح) [م 1554] ولذا قال المؤلف: وإذا تلفت بآفة سماوية رجع - أي المشتري - على البائع بالثمن، وذلك بشرط ألا يقع من المشتري تفريط، أما لو وقع منه تفريد وتأخر بالجذاذ فخرج الوقت المعتاد للجذاذ وحصلت آفة سماوية فحينئذ الضمان على المشتري لتفريطه، لأنه فوت على البائع الانتفاع بالثمر.
واعلم أن قول المؤلف (وإن تلفت بآفة سماوية) يعود على الثمرة، كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وأن وضع الجوائح مختص بالثمرة دون الزرع، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام والمجد ابن تيمية أن الزروع مقيسة على الثمار، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وهذا المعنى ثابت في الزروع كما هو ثابت في الثمار، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مقتضى القياس الصحيح.(13/155)
قوله [وإن أتلفه آدمي خير المشتري بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]
هذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة أن التلف الحاصل بغير آفة سماوية يكون الضمان فيه على المشتري وهو الراجح، وذلك لأن الآفة السماوية لا يمكن للمشتري أن يرجع على أحد بثمنه، فحينئذ يكون ذلك أكلا للمال بالباطل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وقد سبق أن هذا إذا لم يكن هناك تفريط من المشتري.
أما ذا كانت الآفة غير سماوية فإن المشتري يمكنه أن يتدارك حقه بالرجوع إلى المتلف، فحينئذ نبقى على الأصل في الضمان، وأن الضمان يبقى على المشتري عند القبض، وقد تقدم أن البائع إذا باع الثمر وخلى بينه وبين المشتري فإن الضمان يكون على المشتري، وإنما استثنت الشريعة الجوائح للمعنى المتقدم، وقال بعض الحنابلة: إن ما قد يحدثه سارق أو لص أو عسكر أو نحو ذلك مما يشبه الآفة السماوية، وهذا أيضا راجح، فالصحيح أن التف إذا كان من آدمي يمكن الرجوع عليه فإن الضمان على المشتري، أما إذا كان من آدمي لا يمكن الرجوع عليه كالسارق والعسكر ونحوهما فهذا يشبه الآفة السماوية.
قوله [وصلاح بعض الشجر صلاح لها]
فإذا صلح في الشجرة بعضها فهذا الصلاح للشجرة كلها، وعلى هذا فيجوز أن يبيعها، وقد تقدم ذكر اتفاق أهل العلم عن ذلك.
قوله [ولسائر النوع الذي في البستان]
فإذا صلح بعض الشجر من النوع فإن سائر النوع قد بدا صلاحه فيجوز بيعه، كما هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، وتقدم الكلام على هذه المسألة.
قوله [وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر وفي العنب أن يتموه حلوا]
قوله (أن يتموه حلوا) أي أن يلين ويكون كالوعاء اللين المملوء ماء.
قوله [وفي بقة الثمار أن يبدو فيها النضج ويطب أكله]
وقد تقدم الكلام على هذا.(13/156)
قوله [ومن باع عبدا له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع عبدا وله مال فماله لذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] فإذا اشترطه المشتري فقال: اشتريت العبد وماله، فإنه يكون له.
قوله [فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا]
إذا اشترى رجل عبدا ومعه مال، واشترط هذا المال وكان هذا المال هو مقصود المشتري بالبيع أي له قصد فيه فحينئذ لا بد من توفر شروط البيع ومنها العلم، فإذا كان مجهولا لا يدري ما هو المال الذي مع العبد فلا يصح البيع، وهكذا سائر شروط البيع.
وقوله (وإلا فلا) أي وإلا يقصد المال الذي معه فلا يشترط شروط البيع، وذلك للقاعدة الشرعية القائلة: يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، كما إذا باع الشجر وعليه ثمر لم يبد صلاحه فالبيع جائز، لأنه يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، وهاهنا باع عبدا وله مال، والمال مجهول وهو غير مقصود فالبيع صحيح لما تقدم.
قوله [وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري]
من باع عبدا فثياب الجمال أي التي تكون على العبد من ثياب الزينة ونحوها فإنها للبائع، وذلك لأن العادة لم تجر ببيعها معه، فإذا باع عبدا وعليه حلي من فضة وثياب جميلة تعد زينة فهذا كله للبائع، وأما ثياب العادة كثياب المهنة والخدمة التي تكون عليه وما يلبسه لستر العورة مما هو معتاد فهذا يدخل في البيع لجريان العادة ببيعه، ومثله لو باع سيارة وفيها أشياء معتادة يتسامح بمثلها فتدخل في البيع، وإلا فلا.
باب السلم
السلم والسلف مترادفان، فالسلم لغة حجازية والسلف لغة عراقية، وسمي السلم سلما لتسليم الثمن في مجلس العقد، وسمي سلفا لتقديم الثمن على المثمن، ففيه معنى السلف، والسلم عرفه المؤلف بقوله:
قوله [عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد](13/157)
كأن يقول: أبيع عليك كذا وكذا صاعا من البر، وصفته كذا وكذا - أي من جيده أو رديئه ونحو ذلك - بألف ريال حاضرة الآن، فهنا قد باع موصوفا في الذمة مؤجلا بثمن مقبوض في مجلس العقد، إذن فهو عقد على موصوف في الذمة، ولك أن تقول: هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، والمسلِم - بكسر اللام - هو دافع الثمن، وهو في الغالب التاجر، والمسلَم إليه - بفتح اللام - هو صاحب الحاجة، وهو دافع السلعة، وغالبا ما يكون صاحب حاجة، فإن السلم من بديلات الربا، والمسلَم فيه - بفتح اللام - هي السلعة المؤجلة الموصوفة في الذمة.
قوله [ويصح بألفاظ البيع والسلف والسلم]
يصح بألفاظ البيع - كل لفظ من ألفاظ البيع -، فلو قال: بعتك مائة صاع من البر إلى سنة بمائة دينار حاضرة، فهذا يعتبر سلما، لأن السلم من أنواع البيع، فيصح بأي لفظ من ألفاظ البيع، وقد تقدمت ألفاظ البيع، فلو قال: بعت أو اشتريت أو نحو ذلك صح، ويصح أيضا بلفظ السلم، كأن يقول: أسلمتك مائة ريال في هذا المجلس على أن تعطيني كذا صاعا من البر إلى سنة، ويصح بلفظ السلف كأن يقول أسلفك كذا وكذا من الدنانير على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة.
قوله [بشروط سبعة]
وهذه الشروط سوى شروط البيع التي تقدم ذكرها.
قوله [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع]
الصواب أن يقول: من مكيل وموزون ومذروع، أو كمكيل وموزون ومذروع.
فالشرط في المسلم فيه وهي السلعة أن تكون مما تنضبط صفاتها، من مكيل كالبر، أو موزون كالحديد مثلا، أو مذروع كالقماش، فهذه تنضبط صفاتها، أما إذا كانت لا تنضبط صفاتها، فهذا لا يجوز السلم فيه، لأنه يفضي إلى المنازعة، وما يفضي إلى المنازعة فهو ممنوع شرعا.
قوله [وأما المعدود المختلف كالفواكه]
الفواكه معدودة، وتتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا.
قوله [والبقول](13/158)
أي من الخضروات ونحوها كذلك، فالبقول مما يباع جزافا فهو كذلك، لأنه يتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، ولو قالوا: تعد بالحزمة ونحوها فإن الحزمة تختلف عن بعضها البعض اختلافا ظاهرا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن ذلك جائز، وأنه يوزن وزنا، وهذا هو الراجح، فإنه إذا وصف الفاكهة أو البقول ثم اتفقا على الوزن فإن ذلك جائز، ثم أيضا الحزم ونحوها أو الفواكه وإن اختلفت فإن هذا الاختلاف يسير وهو معفو عنه دفعا للحرج والمشقة، فالذي يظهر أن مثل هذا التفاوت اليسير لا بأس به، ودليل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما ثبت عنه في الصحيحين: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) [خ 2239، م 1604] وفي رواية البخاري: (من أسلف في شيء) [خ 2241] وهي لفظة عامة تدخل فيها الفواكه والبقول وغيرها.
قوله [والجلود]
فالجلود لا يجوز فيها السلم، لأنه يحصل فيها التفاوت، وذلك لأن أطرفها تتفاوت، فإن أطرافها ليست منضبطة كما يكون هذا القماش ونحوه، بل تكون متفاوتة.
قوله [والرؤوس]
أي رؤوس الحيوانات كذلك، لأنه يقع فيها التفاوت، ومذهب مالك وهو رواية عن أحمد أن هذا يجوز فيه السلم، وذلك لأن مثل هذا التفاوت في الحقيقة تفاوت معلوم لا تقع بمثله المنازعة، فهو تفاوت يسير.
قوله [والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم]
القماقم: جمع قمقم، وهو ما يسخن به الماء، فهذا كذلك لا يجوز فيه السلم، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز، لأن التفاوت في الحقيقة تفاوت يسير، ولأنه يمكن أن ينضبط في الوصف.
قوله [والأسطال الضيقة الرؤوس والجواهر](13/159)
فالجواهر لا يجوز فيها السلم، لأنها تختلف اختلافا ظاهرا وتتفاوت تفاوتا بينا، وذلك في شكلها وعددها وصفتها وضوئها ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد أن السلم في الجواهر جائز، ومرجع هذا ما تقدم: فإذا أمكن ضبطها فإنه لا إشكال في جواز السلم فيها، وتدخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في شيء معلوم) ، ومرجع هذا إلى أهل الخبرة بالجواهر، فإذا كانت الجواهر يمكن أن تنضبط ولا يقع النزاع في السلم فيها فلا مانع منه.
قوله [والحامل من الحيوان]
فالحامل من الحيوان لا يجوز السلم فيه، فلا يجوز أن يقول مثلا: اشتريت منك ناقة حاملا إلى كذا بكذا، قالوا: لأن الحمل مجهول غير متحقق، فقد تلد وقد لا تلد، والرواية الثانية عن الإمام أحمد أن السلم في الحيوان الحامل جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن السلم بيع، وكما جاز بيع الناقة أو الشاة أو غيرها وهي حامل مع الجهالة، فكذلك هنا، لأنه ثبت تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، والأصل معلوم فلا عبرة بجهالة الحمل.
قوله [وكل مغشوش]
كاللبن المشوب، والجواهر المشوبة، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز السلم فيه، وهذا ظاهر، فإن وجود الغش فيه يجعله غير منضبط، وليس المقصود الغش الممنوع، وإنما المقصود أنه مشوب فيه شيء، أي أن تكون العين غير خالصة، بل قد أضيف إليها شيء آخر، فهذا لا ينضبط ويقع الخلاف في مثله، لكن لو ثبت لنا أنه يخلط به غيره بطريقة ثابتة في العرف متميزة ظاهرة فحينئذ لا يقال إن هناك ما يمنع، فلو أسلم في لبن مشوب، وكان العرف يقضي بقدر ما يكون من الخلط، فإنه لا مانع حينئذ من السلم فيه للقاعدة العامة.
قوله [وما يجمع أخلاطا غير متميزة كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه](13/160)
أي يجمع أخلاطا غير متميزة، والغالية: هي أخلاط الطيب، فإن هذا لا يجوز السلم فيه لعدم الانضباط، والذي يظهر أنها تكون معلومة، لأن أهل الخبرة يعرفونها إذا كانت الأخلاط على أقدار محددة معينة بحيث يتميز بعضها عن بعض، وحينئذ يجوز السلم فيها، وعلى العموم فهذا داخل تحت القاعدة العامة أنه إن أمكن ضبطها فلا مانع من السلم فيها وإلا فلا، وكذلك المعاجين كالأدوية التي تكون من المعاجين، والذي يظهر أن تلك المعاجين يعرفها أيضا أهل الخبرة، فيميزون بينها أخلاطها.
قوله [ويصح في الحيوان]
يصح السلم في الحيوان، وقد صح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يأخذ منه كذا وكذا من الدراهم على أن يعطيه مائة شاة أو نحوها، فهذا جائز، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استسلف من رجل بكرا) [م 1600] فهذا جائز للحديث، ولأن الحيوان مما ينضبط.
قوله [والثياب المنسوجة من نوعين]
إذا كانت الثياب منسوجة من نوعين فيجوز السلم فيها، كأن ينسج من القطن والكتان، فهذا جائز لأنها متميزة، ولا يظهر أن هناك فرقا بين ما تقدم المنع منع في المعاجين والغالية وبين ما يكون من هذا النسيج الذي يكون من القطن والكتان.
قوله [وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها]
وما خلطه غير مقصود كالجبن فإن فيه الأنفحة، وهي غير مقصودة، وكذلك خل التمر، فالتمر فيه خل، وهذا الخل غير مقصود، وكذلك السكنجبين، وهي كلمة فارسية وهي سكر فيه خل، ونحوها كالخبز وفيه ملح، فالملح في الخبز والخل في السكر والخل في التمر والأنفحة في الجبن هذه غير مقصودة فيصح السلم فيها.
قوله [الثاني: ذكر الجنس والنوع]
فيقول: من التمر مما نوعه كذا كالعجوة ونحوها.
قوله [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهرا]
فلا بد أن يذكر له كل وصف يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، وليس أي اختلاف يذكر، فاليسير لا يذكر.(13/161)
قوله [وحداثته وقدمه]
كذلك حداثته وقدمه، فإن الحديث والقديم يتفاوت بهما الثمن تفاوتا ظاهرا.
قوله [ولا يصح شرط الأردء أو الأجود]
فلا يصح أن يقول: بشرط الأجود أو الأردء،قالوا: لأنه ما من جيد إلا هناك ما هو أجود منه، ومن رديء إلا هناك ما هو أردأ منه، وقال الموفق بل شرط الأردء يجوز، لأنه يمكن أن يعطيه ما هو خير منه وأجود منه، فحينئذ لا إشكال، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إن العادة في مثل هذه الألفاظ أن مراده أجود ما يكون معروفا عندهم، أو أردأ ما يكون عندهم، وحينئذ فيحمل على العرف فلا مانع من تصحيح هذا الوصف وحمله على العرف، ولا شك أنه في التمر ما يسمى في عرفنا أجود، وكذلك أردأ، وقد تقدم أن ألفاظ المتعاقدين تحمل على العادة والعرف، فالأظهر أن مراده بالأجود والأردأ ما هو معروف عن المتعاقدين، فيكون ذلك ظاهرا، أما إن ترتب عليه منازعة أو نحو ذلك فلم يكن متميزا فإنه يمنع منه درءا للمنازعة كما سبق.
قوله [بل جيد ورديء]
فإذا قال: جيد، ورديء، فهذا جائز.
قوله [فإن جاء بما شرط]
فإن جاء بما شرط فقد أوفى بما عليه، وحينئذ فيجب على المسلم أن يقبله.
قوله [أو أجود منه من نوعه]
كذلك يجب عليه أن يقبله إن أتاه بما هو أفضل، إذ امتناعه عن القبول عناد ومكابرة فلا يكون مقبولا.
قوله [ولو قبل في محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه]
فإذا أتاه به قبل الوقت المتعاقد عليه، كأن يقول إلى سنة فيأتيه به بعد ستة أشهر، فحينئذ يجب عليه القبول، لأن هذا أفضل وأولى بالقبول، لكن بقيد وهو ألا يكون في قبضه عليه ضرر، فإن كان في قبضه ضرر كأن تكون من الفاكهة أو الأطعمة التي تفسد، ولا يستطيع أن يتصرف بها إلا في الموعد المحدد، أو أن يكون في موضع يخشى على ماله فيه، أو نحو ذلك فحينئذ لا ضرر ولا ضرار فلا يلزمه القبول.
قوله [الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يعلم](13/162)
وهذا هو الشرط الثالث، ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ، ولأن الوزن المجهول والكيل المجهول والذرع المجهول فيه غرر لأنه من بيوع الجهالة، وقد تقدم النهي عن بيع ما يجهل، وأن الشرط في الثمن والمثمن أن يكونا معلومين، وعليه فلو كان الوزن غير معلوم كأن يتفقا على وزن ما، أو على كيل ما، أو على ذرع ما، من غير أن يكون معلوما فلا يصح، فالشرط أن يكون معلوما أو متعارفا عليه، أي معلوم بالعرف أن المكيلات تكال بالصاع الذي قدره كذا، والموزونات توزن بالوزن الذي قدره كذا، ونحو ذلك من العرف، وهذا الشرط هو محل اتفاق بين العلماء.
قوله [وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح]
فالبر مثلا يكال، فإن كان السلم فيه بالوزن أي بالكيلو مثلا أو بالطن لم يصح، وكذلك السكر مثلا فإنه يوزن، فإذا أسلم فيه بالكيل لم يصح، وكذلك المذروع، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه قد قدر بغير مقياسه الأصلي فلم يصح، فالمكيلات تكال، والموزونات توزن، والمذروعات تذرع وهنا قد اختل ذلك فلم يصح بيعها سلما، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد واختار ذلك الموفق ابن قدامة أن ذلك جائز، لأن المقصود هو معرفة قدره، وهذا حاصل بالوزن في المكيلات، وبالكيل في الموزونات، وبالوزن في المذروعات، وهذا القول هو الراجح.
قوله [الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن](13/163)
هذا هو الشرط الرابع، وهو أن يذكر أجلا معلوما، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم) ، والأجل إذا لم يكن معلوما فهو مجهول، والجهالة غرر، فلا بد وأن يكون معلوما له وقع في الثمن، فإن كان الأجل لا وقع له في الثمن كاليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك فلا يجوز السلم، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني كذا وكذا صاعا من البر غدا أو بعد غد أو مساء فهذا لا يجوز، لأن هذا الوقت اليسير لا وقع له في الثمن، وإنما الشهر والشهران هي التي يكون لها وقع في الثمن، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وقال الأحناف: يصح إن كان نصف يوم، وهو الراجح، وسيأتي ما يدل عليه.
قوله [فلا يصح حالا]
فلا يصح السلم حالا، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني ألف صاع حالة غير مؤجلة، فهذا لا يجوز، قالوا: لأن السلم والسلف فيهما معنى التأجيل، فإن السلم تعجيل للثمن وتأجيل للمثمن، وهكذا معنى السلف، فإذا أسلم حالا لم يصح، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد يجوز، وهو وجه عند الحنابلة، وعليه فيكون بيعا، وهذا القول هو الراجح، فهو إذا لم يكن سلما لأن معنى السلم مفقود فيه فهو بيع، والأصل في البيوع الحل، وإذا ثبت هذا فإن المسألة السابقة أولى، فإذا جاز أن يكون المسلم فيه حالا غير مؤجل، فأولى منه جواز تأجيله يوما أو يومين أو ثلاثة.
* وقد اختلف أهل العلم هل السلم على خلاف القياس، أي هو في الأصل محرم لكن الشريعة أباحته للحاجة أم أنه بيع من البيوع وليس مستثنى للحاجة؟
قولان لأهل العلم:
1- المشهور عند الحنابلة أنه على خلاف القياس، وأنه في الأصل ممنوع، وإنما أجازته الشريعة للحاجة، ولذا منعوا من الصورتين السابقتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) .(13/164)
2- والقول الثاني أن بيع السلم بيع من البيوع، فهو لا يخالف القياس، وأما حديث: (لا تبع ما ليس عندك) فإنه محمول على أحد احتمالين:
أ- المحمل الأول: أن يكون المراد به بيع العين غير المملوكة، كأن يقول: أبيعك هذه السلعة المشار إليها بكذا وكذا، وهي غير مملوكة له.
ب- المحمل الثاني: أن يبيع موصوفا في الذمة غير موثوق بتسليمه، بل يمكن أن يسلم ويمكن ألا يسلم، فهذا لا يجوز لأن من شروط البيع القدرة على التسليم.
ولا شك أن الأصل في أحكام الشريعة أنها عزيمة لا رخصة، فالأصل في الأحكام أنه لا تخالف القياس، وهذا ما قرره ابن القيم في أعلام الموقعين، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالصحيح أن السلم بيع من البيوع، ولا شك أن كثيرا من تفصيلات الفقهاء في هذا الباب مبنية على أصلهم وهو أن السلم يخالف القياس فيشترط فيه ما لا يشترط في البيع، والصحيح ما تقدم، لأن الشريعة لم تنه عن بيع الموصوف في الذمة الذي هو موثوق من تسليمه غالبا، ومن ذلك بيع السلم.
قوله [ولا إلى الحصاد والجذاذ]
لو قال له: أبيعك أو أسلمك أو أسلفك مائة ألف ريال الآن على أن تعطيني كذا طنا من البر إلى الحصاد أو الجذاذ أو نحو ذلك مما هو معروف عند الناس عادة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يختلف، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو القول الراجح، وذلك لأنه معلوم في العادة، والتفاوت اليسير لا يؤثر، فالتفاوت اليسير كالأيام والأسبوع لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، وهكذا لو قال إلى أن تصرف لنا الدولة أو نحو ذلك فالمذهب أن ذلك لا يجوز، والصحيح جوازه لما تقدم.
قوله [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما](13/165)
لا يجوز السلم إلى يوم لما تقدم من أن اليوم ليس له وقع في الثمن، وتقدم أن هذا القول مرجوح، واستثنى المؤلف فقال: إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم، كأن يعطي البقال مالا ويأخذ منه مدة شهر أو سنة حتى ينفد هذا المال، فهذا سلم لأنه قدم الثمن وأجل المثمن، قالوا: هذا يجوز إذا كان يأخذ منه على هيئة أقساط لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وتقدم أن أصل هذه المسألة جائز، وإن لم يكن هذا مما يؤخذ كل يوم.
قوله [الخامس: أن يوجد غالبا في محله]
أي في أجله، وهذا هو الشرط الخامس، وهو أن يؤخذ غالبا في محله، فإذا اتفقا على أن يسلمه المسلم فيه - أي السلعة - إلى سنة في الشتاء، وكانت هذه السلعة لا تؤخذ في الشتاء إلا نادرا ووجودها إنما يكون في الصيف كبعض الفواكه فهذا لا يجوز، وكذا العكس، وهذا باتفاق العلماء كما حكى هذا الموفق ابن قدامة وغيره، وذلك لأنه غير مقدور على تسليمه حينئذ، ومن شروط البيع القدرة على التسليم.
قوله [ومكان الوفاء]
هذه اللفظ من المؤلف مراده فيها إذا باع ثمر بستان بعينه ونحوه فإن هذا لا يجوز، وذلك لأن هذا الثمر قد يتلف، فإذا قال مثلا: أسلمك مائة ألف ريال، على أن تعطيني قمح بستانك الفلاني هذه السنة، فلا يجوز هذا، وذلك لما تقدم من أنه قد يتلف فيكون في ذلك غررا، وهذا باتفاق العلماء، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز عند بدو الصلاح واختاره طائفة من الحنابلة وهو الراجح، لأن السلم بيع من البيوع، وبيع الثمر وقد بدا صلاحه جائز، فقد أمن الآفة غالبا، فعلى هذا إذا باعه ثمرة بستان معين سلما ففي المسألة تفصيل وقد سبق.
وكلمة (مكان الوفاء) مراد المؤلف منها ما تقدم، كما بين ذلك الشارح، ولكن هذه اللفظة لا يفهم منها هذا المراد، فهذه اللفظة فيها خطأ، ولفظة (مكان الوفاء) سيأتي الكلام على المسألة المتعلقة بها.
قوله [لا وقت العقد](13/166)
فلا يشترط أن يكون المسلم فيه موجودا في وقت العقد، وهذا ظاهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترطه ولا معنى لاشتراطه، فمثلا الفاكهة الفلانية نضجها في الصيف، فاتفقا في الشتاء على السلم فذلك جائز، لأن هذا وقت عقد لا وقت وفاء.
قوله [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]
إذا تعذر المسلم فيه، كأن يعطيه عشرة آلاف درهم على أن يعطيه إلى سنة كذا وكذا صاعا من الرطب، فكان الآخر قد حصلت له آفة سماوية فلم يمكنه أن يعطيه رطبا، فحينئذ قد تعذر كله، وكذلك إذا تعذر بعضه كأن يتفقا على مائة صاع، ولم تنتج بستانه إلا خمسين صاعا، فله أن يصبر فمتى قدر المسلم إليه فإنه يعطيه حقه سواء كان هذا من هذه السنة أو من السنة الثانية، وله الفسخ أيضا، وحينئذ إما أن يكون الفسخ للكل أو للبعض، فإن كان قد أسلمه بعض الثمرة فالفسخ يكون للبعض، وإن كان لم يسلمه شيئا منها فإن الفسخ يكون للكل، فليست (أو) هنا للتخيير وإنما هي للتنويع.
قوله (ويأخذ الثمن الموجود) فإذا كان الثمن موجودا فإنه يأخذه، (أو عوضه) فيأخذ عوضه إن لم يكن الثمن موجودا، فمثلا اتفقا على أن يدفع له مائة ألف ويعطيه الآخر بعد سنة كذا طنا من القمح، ثم تعذر عليه الكل، ولم يشأ المسلم الصبر وشاء الفسخ، فيقال: هل الثمن موجود، فإن كان موجودا أخذه، وإن لم يكن موجودا أخذ عوضه، فإن كان مثليا أخذ مثله، وإن كان غير مثلي أخذ قيمته، لأنه قد يكون السلم على غير الدراهم ونحوها، فقد يسلم على كذا وكذا من الشياة، فحينئذ يعطيه مثلها، وإن لم تكن مثلية فإنه يعطيه قيمتها، ويأتي إيضاح هذا في باب ضمان المتلفات.
قوله [والسادس: أن يقبض الثمن تاما](13/167)
فالشرط السادس أن يقبض الثمن تاما قبل التفرق، فمثلا اتفقا على ألف ريال بكذا صاع من البر إلى سنة فلا بد أن يأخذ المسلم إليه دراهمه في المجلس قبل أن يتفرقا، وهذا هو مذهب الجمهور، قالوا: لأن السلم والسلف لا يثبت إلا بهذا، فإن السلم تسليم الثمن والسلف تقديم الثمن، فإن لم يتقدم الثمن ولم يسلم في مجلس العقد فإنه لا يكون سلما ولا سلفا، وحينئذ فالسلم والسلف مستثنى من حديث: (لا تبع ما ليس عندك) ، وقال المالكية: بل يصح، وهذا القول هو الراجح، لما تقدم، فإن السلم من أنواع البيوع، وهو إن لم تكن هنا سلما فهو بيع، فنحن إن سلمنا أنه ليس بسلم لأن السلم يقدم فيه الثمن في مجلس العقد فإنه بيع من البيوع، فإن قيل: قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذا بيع الدين بالدين، فإنه إذا قال: أبيعك ألف ريال غدا أسلمها لك، على أن تعطيني كذا وكذا بعد شهر فهذا من بيع الدين بالدين، فالجواب: أن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن بيع الدين بالدين لا يصح، وإنما صح الإجماع على النهي عن بيع الدين بالدين في بعض صوره، وقد تقدم ذكر الصور المنهي عنها، وهنا قد ثبت الخلاف فلا إجماع، ثم إن الأصل في البيوع الحل، وهذه الصورة ليس فيها ما يفسدها، بل كل من المتعاقدين له مصلحة في شغل ذمته بما شغلها به، وليس هذا داخلا في الأصناف الربوية فيكون ربا، وعلى هذا فهو حلال.
قوله [معلوما قدره ووصفه]
هذا ظاهر، وقد تقدم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، فإن كان الثمن مجهولا فهذا بيع غرر، وقد نهى الشارع عن الغرر.
قوله [قبل التفرق]
تقدم الكلام على هذا.
قوله [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه](13/168)
هذا مبني على اشتراط ثبوت القبض في مجلس العقد، فإذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد فإن عقد السلم يكون باطلا، وإن كان قد قبض بعضه فيصح في المقابل له، ويبطل فيما عداه.
قوله [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه صح]
صورة هذه: قال أعطيك مائة ألف ريال في على أن تعطيني مائة طن من القمح، فقال الآخر: نعم بشرط أن تكون خمسين طنا في أول الحصاد، وخمسين طنا في آخر الحصاد، أو خمسين طنا في شهر كذا ونحو ذلك، فهذا جائز، وعكسه كذلك: أي كانا جنسين ولهما أجل واحد، وصورته أن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني خمسين طنا من القمح وخمسين طنا من الشعير إلى سنة، فهنا أسلف في جنسين إلى أجل واحد، وهذا جائز.
قوله [إن بين كل جنس وثمنه]
هذا في المسألة الثانية، وهي ما إذا كان الجنسان لهما أجل واحد، فلا بد أن يبين قدر كل جنس وأن يبين ثمنه، وقوله (بين كل جنس) هنا حذف، والتقدير: إن بين قدر كل جنس، كما تقدم في المثال السابق، لأنه إن لم يبين قدر كل جنس فإنه يقع في بيع الجهالة، فقد يكون تسعين طنا من الشعير، وعشرة أطنان من القمح، وقد يكون العكس، وهذه جهالة، وقوله (وثمنه) أي كذلك لا بد أن يبين ثمن كل جنس، فيقول: خمسين طنا من القمح بكذا، وخمسين طنا من الشعير بكذا، فإنه قد يقع فسخ كما تقدم، فقد يعجز أن يعطيه ما وعده به فيكون الفسخ حينئذ، فإذا لم يبين ثمن كل جنس وقع في الجهالة عند الفسخ.
قوله [وقسط كل أجل](13/169)
هذا في المسألة الأولى، وهي إذا كان الجنس له أجلان، فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة طن من القمح على قسمين الأول يكون شهر كذا، والقسم الثاني يكون شهر كذا، ولم يبين نصيب كل شهر من الأطنان، فهذا فيه جهالة، فقد يعطيه خمسة أطنان في الشهر الأول، ويدخر خمسة وتسعين طنا في الشهر الثاني فيقع حينئذ نزاع وجهالة، فلا بد من أن يبين فيقول مثلا: في الشهر الأول أعطيك خمسين طنا، وفي الشهر الثاني أعطيك ثلاثين أو نحو ذلك.
قوله [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين]
فلو قال: أعطيني مائة ألف ريال على أن أعطيك داري هذه إلى سنة، فهذا لا يجوز، والصحيح جوازه لأن هذا لا يعدو أن يكون بيعا من البيوع، والأصل في البيوع الحل، وإذا تلف فإن عليه عوضه، أي مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن كان مقوما، وهو قد باع ما يملك فلا يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) .
قوله [ويجب الوفاء موضع العقد]
هنا مسألة: وهي أين يكون الوفاء؟ هل يأتي المسلم إليه بالسلعة إلى المسلم؟ أو يأتي المسلم إلى المسلم إليه ليأخذ السلعة؟ قال المؤلف: يجب الوفاء موضع العقد، قالوا: لأن مقتضى العقد يدل على هذا، فمقتضى العقد أن يكون محل التسليم هو محل العقد، وهذا هو المشهور من المذهب، والراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس مثلا أن يذهب صاحب المال إلى مزرعة المسلم إليه ليأخذ الحب أو الثمر فإن الناس على عرفهم، وكذا العكس.
قوله [ويصح شرطه في غيره]
فيصح أن يشترط الوفاء في موضع آخر غير موضع العقد، والمسلمون على شرطهم.
قوله [وإن عقد ببر أو بحر شرطاه]
إذا كان العقد في البر أو في البحر فحينئذ لا بد أن يشترطا موضعا للوفاء، قالوا: لأن الموضع الذي هما فيه لا يمكن أن يوفى فيه، فلا بد من الشرط، وحيث قلنا إن المرجع إلى العرف فلا إشكال في هذا.(13/170)
قوله [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه]
لا إشكال في هذا، فقد تقدم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيع قبل القبض، وهكذا في السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه، فإذا قال مثلا أعطني مائة ألف ريال على أن أعطيك كذا طنا من القمح إلى سنة، ثم جاء شخص إلى المشتري بعد يوم أو يومين فقال: أنا اشتري منك الأطنان التي عندك لفلان إلى سنة، وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح مالم يضمن، وهو لم يضمن هذا ولم يقبضه.
* لكن هل يجوز بيعه إلى المسلم إليه قبل قبضه؟
كأن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة، وبعد شهر أو شهرين قال المسلم إليه: أنا أريد أن تبيعني ما في ذمتي لك، فاتفقا على شيء من الثمن فذلك جائز على الصحيح، والمذهب لا يجوز، والصحيح جوازه كما تقدم في اختيار شيخ الإسلام في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأن بيعه على بائعه جائز، فإذا باع المسلم على المسلم إليه ما أسلم فيه فهذا جائز، ما لم يكن فيه ربا كما تقدم، وبشرط ألا يربح فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن.
قوله [ولا هبته]
فلا تصح الهبة، وظاهر كلام المؤلف أن هذا عام في المسلم إليه وغيره، وهذا غير صحيح، فإنه عند الحنابلة أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه فذلك جائز، لأن هذا إبراء لذمته، وهذا هو الصحيح في المذهب، والمراد هنا هبته إلى غيره، لا هبته إلى المسلم إليه، وقد تقدم أن شيخ الإسلام يختار أن المنهي عنه قبل القبض هو البيع فحسب، وأما الهبة ونحوها قبل القبض فهي جائزة، وهذه المسألة تدخل فيها إذ لا غرر في ذلك.
قوله [والحوالة به ولا عليه](13/171)
والحوالة به أي بالسلم، والحوالة عليه أي على المسلم فيه، مثال الصورة الأولى: رجل أخذ مائة ألف ريال على أن يدفع مائة صاع من البر إلى سنة، ثم قال لمن أعطاه المال: أنا أحيلك على فلان وأبريء ذمتي، فقالوا: هذا لا يجوز الحوالة به، وأيضا لا يجوز الحوالة عليه، ومثاله: هذا الرجل الذي دفع مائة ألف ريال على كذا طن من القمح، هناك أحد يريد منه دين، فقال: تأخذها من فلان قمحا بعد سنة، فقالوا: هذا لا يجوز، قالوا: لأن دين السلم غير مستقر، فقد يفسخ البيع، وهذا ضعيف، فإن الأصل هو عدم فسخه، والأصل هو ثبوته، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختيار بعض الحنابلة واختار هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالصحيح أن الحوالة فيه جائزة، وذلك لأنه دين، فأشبه سائر الديون.
قوله [ولا أخذ عوضه]
فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني كذا طنا من القمح، فلما جاء الوقت قال: أريد أن أعتاض عنها بكذا وكذا من البر، أو قال أعتاض عنها بكذا وكذا من الدراهم، قالوا: هذا لا يجوز، وقد تقدم أنهم يجيزونه في غير هذه المسألة في الديون كما ثبت في حديث ابن عمر، أما في السلم فلا يجوز عندهم، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) [د 3468، جه 2283] والحديث فيه عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الإمام مالك بل يجوز هذا وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح، وقد تقدم أثر ابن عمر الذي روي مرفوعا وموقوفا والصواب وقفه.
قوله [ولا يصح الرهن والكفيل فيه](13/172)
هذه مبنية على المسألة السابقة، فلا يصح الرهن لأنه بذلك يصرفه إلى غيره، فالفائدة من الرهن أنه إذا لم يسلمه فإنه يستوفي حقه من الرهن، وهو بذلك يكون قد صرفه إلى غيره، والكفيل فائدته أنه يضمن، فإذا لم يأت المسلم إليه بالمسلم فيه فإنه يدفع - أي الكفيل - من ماله للمسلم، فحينئذ يكون قد صرفه إلى غيره، والراجح ما تقدم من جواز العوض فيه، فيجوز الرهن والضمان والكفالة فيه كغيره من الديون.
باب القرض
قوله [وهو مندوب]
القرض لغة: القطع، واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، والقرض مندوب كما قال المؤلف، فهو مستحب من المقرض، وهو مباح من المقترض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [م 2699] ، وروى الإمام أحمد وابن ماجة والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن السلف - أي القرض - يجري مجرى شطر الصدقة) [حم 3901، جه 2430] .
قوله [وما يصح بيعه صح قرضه إلا بني آدم]
أي إلا الرقيق عبدا كان أو أمة، فكل ما صح بيعه صح قرضه من دراهم ودنانير وبر وقمح وحيوان وغير ذلك، واستثناء العبد والأمة هو المشهور في المذهب، قالوا: لعدم النقل في هذا، والوجه الثاني في المذهب هو جواز إقراض الرقيق عبدا كان أو أمة، واختاره الموفق ابن قدامة وهو الراجح، إذ عدم نقله ليس بمؤثر لأن الأصل في المعاملات الحل، فلا يشترط فيها النقل، وكثير من المسائل التي هي في باب العقود والمعاملات لم تنقل، فلا يعني هذا أنها لا تحل، وإنما يشترط النقل في تحريمها، ومنع منه المالكية والشافعية في الأمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى وطئها، وأباحوه إن كان المقترض من محارمها، والراجح ما تقدم، ذلك لأنه بالقرض قد ملك هذا الرقيق عبدا كان أو أمة.(13/173)
وظاهر كلام المؤلف أن المنافع لا يجوز إقراضها إذ لا يصح بيعها كما تقدم في المذهب، فالمنافع كالعمل في حصاد أو السكنى في بيت أو نحو ذلك ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز إقراضها لأن بيعها لا يصح، واختار شيخ الإسلام أن إقراض المنافع جائز، كأن يقول: أحصد معك اليوم وتحصد معي غدا، أو يجذ معك رقيقي اليوم بشرط أن يجذ معي رقيقك غدا، أو يقول: أسكني دارك اليوم وأسكنك داري غدا، فهذا جائز على الراجح لأن الأصل في المعاملات الحل.
قوله [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه]
يملك القرض بقبضه، فإذا قبضه فقد ملكه، فلا يلزمه أن يرد عين القرض، بل الذي يلزمه أن يرد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان مقوما، وذلك لأنه ملك بالقبض، وهذا ظاهر لأنه إنما أقرضه ليملكه فينتفع به، وقد رضي المقرض بذلك فكانت هذه العين ملكا للمقترض يتصرف فيها كما يتصرف في سائر ملكه فلا يلزمه أن يرد عينها، فمثلا اقترض منه بكرا من الإبل، وبقي عنده هذا البكر حتى أتى الأجل الذي يقضي فيه الدين، فلا يلزم المقرض أن يقضيه هذا البكر، بل له أن يعطيه غيره.
قوله [بل يثبت في ذمته حالا ولو أجله](13/174)
فبمجرد القرض يثبت البدل مثلا إن كان مثليا، أو قيمة إن كان متقوما، ويكون حالا ولو أجله، فللمقرض أن يطالبه متى شاء، وإن كان الاتفاق بينهما أنه على أجل، كأن يتعاقدا بينهما على أن يكون الوفاء بعد سنة، فللمقرض أن يطالبه قبل ذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن القرض يمنع فيه التفاضل فيمنع فيه التأجيل أيضا كالصرف، فالصرف يمنع فيه التفاضل والتأجيل فكذلك القرض، وهذه العلة ضعيفة، ولهذا ذهب المالكية إلى جواز التأجيل، وأنه يكون ملزما فلا يحق للمقرض المطالبة قبل الأجل، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولأن الله أمر بالوفاء بالعهد، ولأن المقرض قد أسقط حقه برضاه بذلك الأجل فلا يحل له المطالبة به، وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والجواب عما ذكره أهل القول الأول أن يقال: هناك فرق بين الصرف وبين القرض من جهتين:
1- الجهة الأولى: أن الصرف بيع، فهو معاوضة، وأما القرض فهو تبرع وإحسان وإرفاق فبينهما فرق والقياس مع الفارق باطل.
2- الجهة الثانية: أنكم تجيزون عدم مطالبة المقرض للمقترض، وهذا تأجيل ولا تجوزونه في الصرف، فلو أن رجلا أعطى آخر دراهم صرفا، فلا يحل التأخير سواء اشترطاه أم لم يشترطاه، وأما هنا فإنه لو أقرضه مائة ألف فإنه يجوز له أن لا يطالبه بل يؤجل مطالبته، وهذا فرق بينهما.
قوله [فإن رده المقترض لزمه قبوله]
هذا ظاهر، فإذا رده المقترض كما أخذه سليما من العيب فإنه يلزمه أخذه ولا يلزمه المقرض بالبدل، فمثلا: استقرض منه حيوان، ثم من الغد أرجعه إليه، فيلزمه أن يقبله إذ لا ضرر عليه في قبوله إلا أن يكون فيه عيب فله رده، وإنما أوجبنا البدل في الذمة لأنه في الغالب يتصرف بهذا الشيء الذي استقرضه فيلزمه المثل أو القيمة على ما تقدم.(13/175)
قوله [وإن كانت مكسرة أو فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض]
أي إن كانت الدراهم مكسرة أو فيها قص وتكسير ونحو ذلك، أو كان هناك فلوس فمنع السلطان منها فله القيمة وقت القرض، مثاله: رجل أقرض الآخر دراهم مكسرة - أي لا يعرف وزنها فهي دراهم مكسرة - فعند الرد يلزم برد المثل لأنها لها مثل، وكذلك إذا منع السلطان الناس من التعامل بالدراهم المكسرة فله القيمة وقت القرض، وقال بعض الحنابلة: بل يعطي قيمتها عند تحريم السلطان لها، وذلك لأن المتعلق في ذمته هو المثل، حتى منع السلطان التعامل بها فانتقل حينئذ إلى البدل وهو القيمة، فلزمته القيمة من وقت تحريم السلطان لها، وهذا القول هو الراجح.
قوله [ويرد المثل في المثليات]
وهذا ظاهر فالمثليات كالموزونات مثلا يجب أن يرد مثلها، كأن يأخذ مائة صاع من القمح فيرد إليه مائة صاع من القمح.
قوله [والقيمة في غيرها]
إذا لم يكن الشيء مثليا كبعض الجواهر فإنه يرد إليه قيمتها.
قوله [فإن أعوز المثل فالقيمة إذن]
أي إن تعذر المثل فالقيمة إذن، أي القيمة حينئذ أي حين الإعواز، ومثاله: كان الواجب عليه كذا وكذا من الطعام الفلاني، وكان يمكنه أن يعطيه مثله، فتعذر المثل فحينئذ تجب القيمة، فهل نقول تجب القيمة عند وقت القرض كالمسألة السابقة، أو نقول: تجب القيمة عند وقت الإعواز والتعذر؟ قالوا: عند التعذر، وذلك لما تقدم فالقيمة إنما وجبت في ذمته عندما تعذر مثلها، وأما وقت القرض فكان المتعلق بذمته هو المثل نفسه، فيكون المؤلف قد فرق بين المسألتين من غير ما فرق مؤثر، والفارق بين هاتين المسألتين أن المسألة الأولى: قالوا: الدراهم والفلوس تتغير تغيرا سريعا وتختلف اختلافا كبيرا في الزمن، وهذا في الحقيقة ليس بمؤثر، فإنه يمكننا أن نضبط قيمتها في اليوم الذي تعذر فيه، وهو تحريم السلطان لها.
قوله [ويحرم كل شرط جر نفعا](13/176)
فكل شرط جر نفعا فهو حرام، وروى الحارث بن أبي أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل قرض جر نفعا فهو ربا) والحديث إسناده ضعيف جدا، لكن له شواهد من أقوال الصحابة، فقد روى البخاري معلقا عن عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة:" إنك بأرض الربا بها فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا " [خ 3814] فهذه هدية مالية فكان ذلك ربا، ونحوه في المنع من الهدية عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد صحيح، وأما رفع ذلك فلا يصح.
وقد اتفق العلماء على القول به، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، كأن يقول له: أقرضك مائة ألف ريال إلى سنة على أن تسكني دارك أو على أن تعمل لي أو نحو ذلك فهذا لا يجوز.
قوله [وإن بدأ به بلا شرط...... جاز]
مثاله: اقترض رجل من آخر مائة ألف ريال، فلما أتى وقت الوفاء أعطاه زيادة على ذلك عشرة آلاف ريال فهذا جائز، فإذا أعطاه مع الوفاء أو بعده فهذا جائز إذا لم يكن هناك مواطأة بينهما، وقد ثبت في مسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم أجد إلا خيارا رباعيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء) [م 1600] فهذا مع الوفاء فهو جائز، وقد اتفق أهل العلم على جوازه، والسنة تدل عليه.
قوله [أو أعطاه أجود]
كما تقدم في حديث أبي رافع.
قوله [أو هدية بعد الوفاء جاز]
أي أهدى إليه هدية بعد الوفاء فهذا كله جائز، وأما الهدية قبل الوفاء فلا تجوز للحديث المتقدم، وتقدم أثر عبد الله بن سلام.
قوله [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز إلا أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه](13/177)
إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء فهذا لا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فإذا كان بينهما تهاد من قبل فاقترض أحدهما من الآخر شيئا وأهداه هدية فهذا جائز، لأن جريان العادة بينهما بذلك قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى، أما إذا لم تجر العادة بينهما بذلك فلا يحل للمقرض أن يقبل منه الهدية، لكن إذا نوى أن يكافئه عليها فهذا جائز، لأن هذا القرض لم يجر نفعا زائدا، بل جر نفعا مقابلا بنفع آخر، ويجوز أن يقبل الهدية في حالة أخرى وهي ما إذا نوى احتسابه من دينه، أي ينوي أن ينقص الهدية من الدين، فهذا جائز.
قوله [وإن أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه]
مثاله: إذا أقرض زيد عمروا مائة ألف ريال في بلدة - وتقدم أن مكان الوفاء هو مكان العقد في السلم وأن الراجح أن ذلك راجع إلى العرف - فهنا إذا أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه، لأنه لا ضرر عليه بدفعها، وهو واجب عليه.
قوله [وفيما لحمله مؤونة قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص](13/178)
هذه الأثمان التي تقدم ذكرها لا تحتاج في حملها إلى مؤونة، لكن لو كانت أشياء تحتاج في حملها إلى مؤونة كأن يكون قد أقرضه طعاما أو حيوانا أو نحو ذلك ثم طالبه به في بلد آخر فقال هنا: الواجب عليه القيمة، وذلك لأن نقل الطعام أو الحيوان إلى هذه البلد الأخرى تحتاج إلى مؤونة فلم يلزم ذلك، وإنما يلزم بالقيمة، لأن القيمة لا ضرر بها، والقيمة مرجعها إلى البلد الذي يجب عليه أن يقضيه فيها، فمثلا أقرضه حيوانا وطالبه في الخارج، وكان قد استدان منه الحيوان في الداخل، والحيوان هنا يساوي خمسمائة ريال، وفي الخارج يساوي ألف ريال، فإنه يعطيه قيمته هناك، وإن كان لا شك أن الأصلح له أن يقبل ويعطيه إياه مثليا، ولذا قال المؤلف: إن لم تكن ببلد القرض أنقص، فإن كانت ببلد القرض أنقص فإنه يلزمه، مثلا: كانت تساوي في بلد القرض خمسمائة ريال، وتساوي في البلد الآخر أربعمائة ريال، فإنه حينئذ لا ضرر عليه بل له نفع أن يعطيه إياها كذلك، وذلك لأنها ببلد القرض أنقص، كذا قال المؤلف، والعبارة الصحيحة كما قال الشارح (أكثر) ، وعلى هذا فإذا كان القرض أثمانا فطالبه بها في بلد آخر فإنه يلزمه أن يعطيه إياها، إذ لا ضرر عليه في ذلك، وأما إن كان غير أثمان وفي حملها مؤونة فلا تخلو من حالين:
الأولى: أن يكون ثمنها في بلد القرض أكثر فحينئذ يلزمه أن يدفع المثل، إذ لا ضرر عليه في ذلك بل فيه نفع له.
الثانية: أن يكون ثمنها في بلد القرض مساويا أو أنقص فحينئذ لا يلزمه ذلك، بل الذي يلزمه أن يدفع القيمة.
* مسألة السفتجة.(13/179)
السفتجة هي لفظة أعجمية، وصورة المسألة: أن يعطي الرجل الآخر مالا في هذه البلدة، ويأخذ من وكيله ما يقابله في بلد آخر، مثلا: يقول أنا أريد السفر إلى العراق، وفي العراق وكيل لصاحبه، وهذا لما كانت الطرق غير آمنة ويخشى على المال، فيقول لصاحبه: أنا أعطيك ألف وتكتب لي ورقة إلى وكيلك هناك فيعطيني مائة ألف، فما حكم ذلك؟
1- منع الجمهور من هذه المعاملة لوجود النفع، وقد تقدم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
2- وذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام إلى جواز ذلك، وذلك لأن هذا القرض لم يجر نفعا ماديا، بل هو نفع غير مادي، فلكل منهما مصلحة، وليس هذا النفع جنس الهدايا ونحوها التي ورد النهي عنها.
** مسألة:
" ضع وتعجل "، وهي أن يقول الرجل لمن له عليه دين، ضع عني شيئا من الدين وخذا لمال الآن، فمثلا: الأجل كان إلى سنة، والمال عشرة آلاف ريال، فيقول ضع عني ألفا وخذ تسعة آلاف الآن قبل أوانها، أو العكس بأن يقول المقرض أعطني تسعة آلاف الآن وأسقط عنك الباقي، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها:
1- جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف منعوا مثل هذه المعاملة.(13/180)
2- عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن هذا جائز، وحكاه شيخ الإسلام قولا في مذهب الحنابلة، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث لا في المنع ولا في الإجازة، وأما ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله للمقداد: (أكلت الربا يا مقداد وأطعمته) [هق 6 / 28] وما روي عنه في قوله لبني النظير: (ضعوا وتعجلوا) [هق 6 / 28، طس 1 / 338 برقم 821، قط 3 / 46] والخبران رواهما البيهقي وكلاهما لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال الصحابة فيها متعارضة فعن ابن عمر المنع كما في سنن البيهقي [هق 6 / 28] وعن ابن عباس الجواز كما في سنن البيهقي أيضا [هق 6 / 28] والإسناد إليهما صحيح.
وحجة الجمهور أن هذا النقص يقابل الأجل، قالوا: فأشبه الربا، فالربا الزيادة في مقابل الأجل، وكذلك هنا النقصان في مقابل الأجل، وأما حجة أهل القول الثاني فهي أن الأصل في المعاملات الحل، وهذه معاملة فتكون مباحة، قالوا: وأما قولهم إن النقصان هنا يقابل الأجل فأشبه الربا وذلك لأن الربا زيادة في مقابل الأجل فضعيف جدا، وذلك لأن الربا زيادة واستغلال وأكل للمال بالباطل، وأما مسألة ضع وتعجل فإن فيها إرفاقا وإبراء للذمة ومصلحة أيضا، وهي نقصان المال المطلوب لا وليس زيادته، والربا زيادة فيكون هذا من باب إعطاء حكم الشيء لنقيضه، فقد أعطوا حكم الربا لنقضيه، والصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وعليه عمل الناس اليوم.
باب الرهن
الرهن لغة: الدوام والثبوت.
وفي الاصطلاح عند فقهاء الحنابلة: توثيق دين بعين، هذا هو تعريفهم، وسيأتي بيانه، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى {فرهان مقبوضة} ، وفي البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاما ورهن درعه عنده [خ 2916، م 1603] وقد أجمع العلماء على جواز الرهن.(13/181)
والحكمة منه توثيق الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن وحفاظا على حقه فكذلك يوثق بالرهن.
إذا علم هذا فليعلم أن ما تقدم من تعريف الحنابلة للرهن فيه نظر، فإن الحنابلة لا يرون الرهن إلا بالعين، ولذا قال المؤلف:
قوله [يصح في كل عين]
أما إذا كان الرهن دينا أو منفعة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، فلا بد أن يكون عينا، كأن يقول: أقرضني مائة ألف ريال وأضع عندك داري أو أرضي رهنا، فإذا أتى وقت الوفاء وتعذر الوفاء فإن الرهن يباع، ويستوفى حقه منه.
فلا بد أن يكون عينا كما هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن المقصود منه استيفاء حق المرتهن ببيعه إن تعذر الوفاء، وعليه فإذا كان دينا أو نحوه فإن ذلك لا يجوز، والقول الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن كل ما يحصل به التوثيق يصح أن يكون رهنا، سواء أكان ذلك عينا أو دينا أو منفعة، لأن المقصود هو التوثيق، ويحصل التوثيق بالدين والمنفعة.
ولذا قال بعض الحنابلة - وهو خلاف المشهور من المذهب - يجوز أن يكون الرهن دينا على المرتهن للراهن، مثال ذلك: إذا كان لزيد على عمرو مائة صاع من البر إلى سنة، فأراد زيد أن يستدين منه، فيقول زيد لعمرو مثلا: أستدين منك مائة ألف ريال على أن يكون الذي عليك رهنا.(13/182)
واختار الشيخ السعدي جوازه في عامة الديون التي في الذمم، فلو قال: أرهنك الدين الذي لي في ذمة فلان، وهذه الأوراق التي تثبته، ويكتب له بذلك، فإن هذا صحيح لحصول التوثيق به، كذلك لو كان منفعة كأن يقول أنا قد استأجرت هذه الأرض الزراعية مدة خمس سنوات، فهي الآن في يدك، فأجرها على من شئت واحفظ المال الذي ينتج من إجارتها رهنا للدين الذي علي، فهذا يصح، وقاعدة المذهب أن الرهن من باب المعاوضات فعليه لا يصح رهن إلا ما يجوز بيعه، وعلى القول المتقدم وهو اختيار الشيخ السعدي أن الرهن ليس من باب المعاوضات بل هو من باب التوثيقات، وباب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات، فالمقصود منه التوثيق وليس بيعا، وستأتي بعض المسائل التي يرجحها الحنابلة ويصححون الرهن فيها، مع أن البيع لا يصح فيها، كرهن الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه لا يجوز بيعه، لكنهم يصححون رهنه.
قوله [يجوز بيعها حتى المكاتب]
فالمكاتب يجوز أن يكون رهنا، وصورة الرهن فيه، أن يكون ما يأتي به من أقساط شهرية يدفعها للمرتهن، ويبقى عقد الكتابة على ما هو عليه، فيعمل ليحرر نفسه، فإذا أمكنه أن يحرر نفسه كانت هذه الأقساط المجموعة رهنا عند المرتهن، وإن لم يمكنه فيبقى هو رهن أيضا لأنه يجوز بيعه، وما جاز بيعه جاز رهنه، وعلى القول المتقدم وهو الراجح فإن هذا ظاهر لحصول الثقة بذلك عند المرتهن، والقول الثاني في المذهب أن المكاتب لا يصح رهنه، وذلك لأن مقتضى الكتابة أن يكون حرا بعمله، فهو يذهب إلى أي موضع شاء للعمل، ومن شروط الرهن عند الحنابلة استدامة القبض، ولا شك أن بقاء المكاتب عند المرتهن يخالف مقتضى عقد الكتابة، والصحيح ما سيأتي من ترجيح أن استدامة القبض ليس بشرط، وعليه فلا مانع من أن يكون المكاتب رهنا، ويعمل كيف شاء.
قوله [مع الحق وبعده]
قوله (مع الحق) كأن يقول أقرضني مائة ألف وأضع بيتي رهنا عندك.(13/183)
وقوله (بعده) أي بعد أن يتفقا على البيع وهما يكتبان الدين يقول: بشرط أن تكون دارك رهنا عندي، فهذا جائز لعموم قول الله تعالى {فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولحصول المقصود من الرهن، وظاهر كلام المؤلف أن الرهن قبل الحق لا يصح، وصورته لو قال: أضع عندك داري رهنا على أن تقرضني بعد شهر كذا وكذا من الدراهم، فالمشهور من المذهب أن هذا لا يجوز، وعللوا ذلك بأن الرهن لاحق للحق، وهنا كان الرهن سابقا له، فالرهن المقصود منه توثيق الحق، فالحق سابق، وهذه علة ضعيفة، وذلك لأن التوثيق حاصل وإن كان الرهن مدفوعا قبل الحق، والأمور مع عللها، فالعلة من الرهن التوثيق، وهي حاصلة سواء أكان الرهن قبل الحق أو معه أو بعده، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك واختيار أبي الخطاب من الحنابلة، فالصحيح أن الرهن قبل الحق صحيح، فإن استقرض منه وإلا فإنه أخذ حقه، ولا دليل يدل على المنع والأصل في المعاملات الحل.
[قلت: إلا أنه إن رهنه قبل الحق لم يكن واجبا، إلا مع ثبوت الحق –والله أعلم-] .
قوله [بدين ثابت]
أي دين مستقر، أما إذا كان الدين عرضة للزوال فلا يصح الرهن فيه، والديون نوعان:
1- دين مستقر: كأن يقول أقرضني مائة ألف، أو بعني هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة.
2- دين غير مستقر: كدين الكتابة، فإنه يمكن للمكاتب أن يعود إلى سيده ويقول أريد أن أقطع الكتابة وأعود عبدا، ويمكن أن يعجز المكاتب عن سداد دين الكتابة، فهو دين غير مستقر.(13/184)
قالوا: فالرهن إنما يصح في الدين المستقر، فليس للسيد أن يقول لعبده أكاتبك على أن ترهنني كذا وكذا، كما أن العبد المكاتب إذا وضع عند سيده رهنا فهذا الرهن ليس بمعتبر لأنه في غير موضعه، وهذا فيه نظر، والأظهر جواز الرهن، لأن المقصود منه توثيق الدين بهذا الرهن للمرتهن، وحينئذ فلا مانع من جوازه والأصل في المعاملات الحل، فلا مانع أن يضع على الدين غير المستقر رهنا، ومتى ما سقط هذا الدين فإن الرهن يبطل، فإذا عجز المكاتب عن الكتابة فإنه يعود قنا، فإن كان المال للعبد كان لسيده، وإن كان ليس للعبد بل هو عارية أو نحو ذلك فإنها ترجع إلى صاحبها، ولا يترتب على هذا أي شيء، والرهن المتقدم حصل فيه توثيق للدين، وهذا هو القول الثاني في المذهب.
قوله [ويلزم في حق الراهن فقط]
فالرهن يلزم في حق الراهن، فهو عقد لازم في حق الراهن، وعقد جائز في حق المرتهن، فالمرتهن هو صاحب الدين، فله أن يسقط الرهن لأنه حق له.
قوله [ويصح رهن المشاع]
كأن يكون لرجلين أرض يشتركان فيها اشتراكا مشاعا لكل واحد منهما النصف، فله أن يرهن نصيبه أو بعضه، وذلك لأن البيع جائز فالرهن جائز، وحيث قلنا إن الرهن توثيق وليس بمعاوضة فذلك أولى بالجواز.
قوله [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه]
هنا مسألتان:
الأولى: رهن المبيع على ثمنه، فهذا جائز لعمومات الأدلة، فلو قال زيد لعمرو: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف ريال مقسطة وتكون هذه الدار رهنا عندك، فمتى ما قضيت حقك أخذتها، وإن لم أعطك حقك فلك أن تبيعها وتأخذ حقك منها، فهذا جائز لعمومات الأدلة.(13/185)
الثانية: أن رهن المبيع غير المكيل والموزون جائز قبل قبضه، مثاله: رجل اشترى سيارة، وقبل قبضها رهنها، فهذا جائز على المذهب، وكذلك لو اشترى أرضا ورهنها قبل قبضها فهذا جائز، لكن إن اشترى مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فإنه ليس له أن يرهنه حتى يقبضه، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا يجوز بيع المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضها ولو على البائع في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أن الرهن جائز في كل مبيع قبض أو لم يقبض، وقد تقدم هذا عند نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يقبض، وأن شيخ الإسلام يرى أن سائر العقود سوى البيع لا يشترط فيها القبض، ومن ذلك الرهن فإنه يجوز فيما لم يقبض، ومثاله: اشترى زيد من عمرو دارا، ولما يقبضها بعد، ثم رهنها، فهذا جائز، وذلك لحصول المقصود فإن التوثيق حاصل كما تقدم في كلام الشيخ السعدي.
قوله [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]
وهذا ظاهر لأنه لا يحصل به الثقة، فما دام لا يجوز بيعه كالموقوف فإنه لا يصح بيعه فلا يصح رهنه، ولا فائدة من رهنه لأن بيعه لا يمكن فلا يحصل به الثقة، وهذه القاعدة قاعدة أغلبية، وقد تقدم بعض الاستثناء فيها، ولكن متى حصلت الثقة فيما لا يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه، فلو حصلت الثقة في بعض الديون أو المنافع - على القول بعدم جواز بيعها وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من جواز بيعها - فإنه يصح رهنها.
قوله [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]
تقدم أن الثمار لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، وأن الحب لا يجوز بيعه قبل اشتداد حبه، فهل يجوز أن يرهن ذلك أم لا؟(13/186)
على القاعدة المتقدمة لا يجوز، لأنه لا يجوز بيعها، وقال الحنابلة هنا بل يجوز، وخالفوا قاعدتهم المتقدمة، قالوا: لأن النهي عن البيع قبل بدو الصلاح إنما هو خشية الآفة، وهنا في باب الرهن لو تطرقت إليه الآفة فلا ضرر على المرتهن لأن الحق ثابت بغير الرهن، فالدين ثابت في الذمة، والرهن لا يزيد عن كونه توثيقا للدين، وعلى قاعدتهم المتقدمة فإن هذا ضعيف، ولذا فإن مذهب الشافعية أن ذلك لا يجوز جريا على القاعدة المتقدمة، وأما على أصل المسألة الذي تقدم ترجيحه وهو أن المقصود من الرهن هو التوثيق فإن ذلك جائز، لأن المقصود هو التوثيق، وكون الآفة تصيب الزرع هذا قليل والأصل السلامة، فتحصل المنفعة بالثمر قبل بدو صلاحه وبالزرع قبل اشتداد حبه، ولو حصلت الآفة فالدين باق في الذمة، وعلى هذا فما ذهب إليه الحنابلة راجح هنا على القاعدة المتقدمة من أن باب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات.
وقال هنا (بدون شرط القطع) أما إذا اشترط القطع فجوزاه ظاهر لأنه يجوز بيعه، فيجوز رهنه، فلا إشكال في هذه المسألة.
قوله [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]
بيان ذلك: تبايع زيد وعمرو على شيء بثمن يكون دينا في ذمة عمرو، فرهنه شيئا، فهل يلزم الرهن بمجرد العقد أم لا يلزم حتى يقبضه؟
1- قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يلزم إلا بالقبض، فلعمرو أن يتراجع عن هذا الرهن لأنه لم يقبض بعد، قالوا: لأن الله عز وجل قال {فرهان مقبوضة} فوصف الرهان بأنها مقبوضة بحيث لو لم تكن مقبوضة فلا تكون رهنا، قالوا: ولأن الرهن تبرع من الراهن فيصح الرجوع فيه قبل القبض.(13/187)
2- وقال المالكية بل يلزم الرهن بمجرد العقد، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وبقوله {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} ، وهذا قد حصل من عهد وشرط والمسلمون على شروطهم، وأجابوا عن دليل القول الأول أن قوله {فرهان مقبوضة} أن هذا من الله عز وجل لبيان أتم الرهن وأكمله حفاظا على حق الدائن، ويدل لهذا أن قوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فهذه الآية قد أمر الله فيها باستشهاد رجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو استشهد رجلا وامرأتين فإن هذا جائز وإن أمكنه أن يشهد رجلين، فهذا من باب حفظ الحقوق، وليس في الآية أن الرهن غير المقبوض يجوز قطعه، وكيف هذا وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعهد، والشريعة تسد باب الغدر، وأما ما ذكروه من أنه تبرع فيقال: هذا فيه نظر ظاهر بل هو توثيق للدين وشرط، والمسلمون على شروطهم، فليست القضية تبرعا كالهبة ونحوها بل هو توثيق، وهذا القول هو اختيار الشيخ السعدي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وهو القول الراجح، ثم إن القول الأول يترتب عليه مع الشرط الذي بعده تعطيل كثير من مصالح الناس.
قوله [واستدامته شرط]
استدامته بأن يبقى بيد المرتهن، فهذا شرط، فإن قيل: أليس شرط القبض يكفي؟(13/188)
فالجواب: لا، فإنه قد يقبضه إياها ثم يرجعها إليه ليتصرف فيها، كأن يقول المرتهن للراهن خذ مزرعتك فتصرف بها، فهذا لا يصح في المشهور من المذهب، وعليه فلا يلزم حينئذ الرهن، فإذا قبضه ثم أعطاه إياه، وقال اتركه عندك فحينئذ لا يبقى الرهن لازما للراهن، فللراهن أن يرجع عن رهنه كما تقدم، وذهب الشافعية أن استدامته ليس بشرط، لأن القبض قد حصل، لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} والشافعية ممن يشترط القبض، وعلى القول بأن القبض ليس بشرط وهو الراجح، فأولى من ذلك الاستدامة، فإن الاستدامة قبض مستمر، فإذا لم يشترط القبض في الابتداء، لم يشترط في أثنائه ولا انتهائه، وقد تقدم الدليل على ذلك، فالصحيح أن الاستدامة ليست بشرط، ويقال إن التوثيق حاصل فيصح الرهن، ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا قيل يرهنه ويبقى عند المرتهن فهذا يضيع مصالح كثيرة، فتتعطل المزرعة لأنها بيد المرتهن، وسيأتي مزيد بيان عند قول المؤلف (وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن) .
قوله [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه]
بمعنى قبض المرتهن الرهن، ثم أعطاه للراهن، فقال له مثلا: أبق الرهن عندك، فهو لم يتخلى عن حقه في الرهن، بل أبقاه عند الراهن، إما على سبيل الإعارة أو الأجرة أو نحو ذلك، فهنا لا يلزم الراهن بالرهن، بل له أن يتراجع عن الرهن.
قوله [فإن رده إليه عاد لزومه إليه]
فإذا رده الراهن إلى المرتهن كأن يستعيره ثم يعيده، فإنه يعود اللزوم إليه، وهذا مبني على القول الذي ذكروه من اشتراط الاستدامة، والصحيح عدم ذلك، وأنه باق حتى لو كان بيده أصلا.
قوله [ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر](13/189)
لا ينفذ تصرف أحد منهما - أي الراهن والمرتهن - فيه - أي في الرهن - بغير إذن الآخر، أما الراهن فلأن في تصرفه في الرهن تفويتا لحق المرتهن، فإن المرتهن قد تعلق حقه بهذا الرهن، فإذا تعذر الوفاء باع هذا الرهن وأخذ حقه كما سيأتي تقريره، وكذلك ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن كأن يبيعه أو يهبه أو يوثقه أو نحو ذلك من التصرفات، وذلك لأنه ليس ملكا له، ومن شروط التصرف الملك.
وهذا كله يستثنى منه ما إذا أذن أحدهما للآخر، فإذا ثبت الإذن فذلك جائز من الطرفين، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فذلك جائز، وكذلك إذا أذن المرتهن للراهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فهذه وكالة في البيع.
* وهل للراهن أن ينتفع بالرهن أم لا؟
مثاله: رهن زيد عند عمرو داره على دين اقترضه، فهل للراهن أن ينتفع بهذه الدار بأن يسكنها أو يؤجرها أو يعيرها أو غير ذلك من الانتفاعات؟
1- القول الأول وهو المشهور من المذهب أن ذلك لا يجوز، فليس للراهن أن يسكن الدار المرهونة ولا أن يؤجرها ولا غير ذلك، قالوا: لتعلق حق المرتهن بها.
2- وذهب الشافعية إلى جواز سائر الانتفاعات التي لا تضر بالعين، كالسكنى للدار، والركوب للدابة، وعللوا قولهم بأن حق المرتهن إنما هو متعلق بالعين لا بالمنفعة، وحيث انتفع بالعين على وجه لا يضر بها فإن هذا غير ممنوع، كيف والشريعة قد نهت عن إضاعة المال، وفي تعطيلها إضاعة للمال، وهذا القول هو الراجح، ولا دليل على المنع.
قال الحنابلة: ولا يمنع الراهن من مراعاة المرهون بإصلاحه وسقي أو ترميم أو مداواة أو غير ذلك، فعندما يمنع من الانتفاع بداره المرهونة فإنه لا يمنع من القيام بمصالحها، وهذا لا إشكال في جوازه، وعلل الحنابلة لذلك بأن فيه مصلحة للرهن وللراهن، وليس فيه ضرر على المرتهن، بل فيه منفعة له أيضا، فإنه بذلك تبقى العين صالحة.
قوله [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم](13/190)
إذا اشترى زيد من عمرو طعاما، ووضع رقيقه رهنا عنده، فهل للراهن أن يعتقه أم لا؟ وإن أعتقه فهل يعتق وينفذ التصرف أم لا؟
قال الحنابلة لا يجوز له أن يعتقه، لذا قال المؤلف هنا (مع الإثم) ، لأن ذلك تصرف في المرهون، وقد تقدم عدم جواز تصرف الراهن في المرهون، لكن هل ينفذ تصرفه بالعتق أم لا؟
قال الحنابلة في المشهور عندهم ينفذ تصرفه، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق ولسراية العتق.
وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي وهو قول للشافعي وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا ينفذ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا، وذلك لأن هذا ممنوع ومنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، قالوا: ولأنه متعلق به حق الغير، ففارق المسألة التي أثبت الشارع العتق تشوفا أو سراية، وهذا القول هو الراجح.
قوله [وتؤخذ قيمته رهنا مكانه]
على القول بنفوذ العتق فإن هذا الرقيق يقوم ثم توضع قيمته عند المرتهن حفاظا لحقه، فتكون رهنا مكانه، وهذا فيه ما فيه، فإنه قد يكون معسرا فيعجز عن إعطاء القيمة، وقد يكون موسرا مماطلا فيفوت على صاحب الحق حقه.
قوله [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به](13/191)
إذا وضع عنده رهنا فنما هذا الرهن، كأن يضع عنده شجرا فتثمر أو دوابا فتلد أو رقيقا فيسمن ويتعلم الكتابة مثلا أو نحو ذلك، أو أن يضع عنده عبد يتكسب، وقد تكون هناك جناية على العبد وفيها أرش، فقال المؤلف هنا (نماء الرهن) سواء أكان متصلا أم منفصلا، فالمتصل كالسمن في الدابة، والمنفصل كالثمر والولد، فهذه الأشياء ملحقة بالرهن فتكون رهنا عند المرتهن، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن النماء يتبع أصله في الحقوق، والأصل مرهون فيكون النماء مرهونا، وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد أن النماء المتصل يتبع الأصل، أما النماء المنفصل فلا، فالثمر والولد والكسب وأرش الجناية كل هذه لا تتبع الأصل، قالوا: لأن الرهن متعلق بالأصل فلا يسري هذا إلى غيره، والأصل هو براءة مال المسلم من أن يتعلق به حق غيره، وهذا القول هو الراجح، فإن هذا المرتهن لا حق له فيما يكون من النتاج ونحوه، بل حقه متعلق بالعين نفسها، وعلى دليل على سراية ذلك إلى كل النماء.
قوله [ومؤنته على الراهن]
المؤنة وهي النفقة التي يحتاج إليها الرهن، فما يحتاج إليه الرهن من نفقة ونحو ذلك فإن ذلك يجب على الراهن، فما تحتاج إليه الدواب من طعام أو موضع توضع فيه، وما تحتاج إليه من أجرة راع، وما تحتاج إليه الدار من عناية ونحو ذلك، كل هذا واجب على الراهن، ويدل لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه) رواه الدراقطني والحاكم وصححه [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] والشاهد قوله (وعليه غرمه) ، ومؤنة النفقة غرم فتكون واجبة على الراهن، ولأن هذا إنفاق، والإنفاق إنما يجب على المالك، والمالك هو الراهن.
قوله [وكفنه وأجرة مخزنه](13/192)
إذا احتاج إلى مخزن أو إلى حارس أو نحو ذلك فهذا كله يجب على الراهن، لما تقدم، هذا ما لم يكن هناك شرط، فإذا وجد هناك شرط فالمسلمون على شروطهم، فإذا قال: أضع هذا رهنا عندك لكن عليك أن تقوم بنفقته وكانت النفقة معلومة وليس فيها غرر فهذا جائز، لأن المسلمون على شروطهم.
قوله [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه]
الرهن عند المرتهن من باب الأمانات، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وكونه في حكم الأمانة عنده ظاهر، ويدل عليه ما تقدم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (له غنمه وعليه غرمه) فدل هذا على أنه كالوديعة، لكن إن تعدى أو فرط فعليه الضمان، فإذا استخدمه بغير إذن أو فرط في حفظه وصيانته ولم يضعه في حرز مثله، فإنه يضمن لأن الأمين يضمن عند التعدي أو التفريط، فلو رهن عنده تمرا لم يبد صلاحه، فأصابته آفة، فإن المرتهن لا يضمن لأنه لم يتعدى ولم يفرط.
قوله [ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه]
وهذا ظاهر جدا، وبيانه لو أن الرهن هلك، فإن الدين يبقى، وذلك لأن الدين متعلق بالذمة، ولا يزيد الرهن عن كونه وثيقة لحفظ الحق، فإذا حصل له تلف فالدين باق في الذمة، كما لو حصل للشهود وفاة فالدين باق في الذمة، أو حصل للورقة التي كتب فيها الدين تلف أو احتراق فالدين باق في الذمة، فهذه كلها وثائق لحفظ الحقوق.
قوله [وإن تلف بعضه فباقيه رهن لجميع الدين]
وهذا أيضا ظاهر، ومثاله: وضع عنده هذا الثمر الذي لم يبد صلاحه رهنا، فحصل لبعض هذه الثمار تلف، فالمتبقي من هذه الثمار يبقى الرهن فيها، إذ لا دليل على سقوط الرهن عنها.
قوله [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين](13/193)
مثاله: قال هذا الرقيق رهن عندك على مائة ألف اقرضها منك، فإذا قضاه خمسين ألفا، فلا يخرج من الرهن، فلا يقال إن نصف العبد أصبح ليس مرهونا، بل يبقى حتى يقضيه حقه، وذلك لأن الرهن إنما أخذه عن الدين كله، فلا ينفك حتى يقضي الراهن الدين كله، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، وقد حكى ابن المنذر الإجماع فيها.
قوله [وتجوز الزيادة فيه دون دينه]
يجوز الزيادة فيه أي في الرهن دون دينه، فهنا مسألتان:
1- المسألة الأولى: حكم الزيادة في الرهن، فقد بين المؤلف هنا جوازها، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة نسيئة، وقال رهنت عندك هذا الدرع، ثم بعد زمن زاده في الرهن فقال: أرهنك هذا الفرس أو هذا السيف، فهذا جائز لا بأس به، لأنه زيادة استيثاق ولا محذور فيه.
2- المسألة الثانية: وهي في قول المؤلف (دون دينه) أي لا يجوز الزيادة في دين الرهن، مثال هذا: اشترى منه سلعة بثمن مؤجل، ورهنه داره، ثم اشترى منه شيئا آخر بثمن مؤجل، وقال الرهن للدين الأول هو رهن أيضا للدين الثاني، فهذا على مذهب الحنابلة لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن الرهن قد شغل بالدين الأول، والمشغول لا يشغل، وهذا القول هو المشهور من المذهب، وذهب الإمام مالك إلى جواز ذلك، وذلك للمصلحة ولرفع الحرج، وأما قولهم المشغول لا يشغل فهذا صحيح فيما لو كان الرهن لزيد وأراد أن يستدين من عمرو فرهن الرهن الأول له، فإذا كان مشغولا بدين فلا يحل أن يشغل بدين رجل آخر، وأما إذا كان بدين الغريم الأول نفسه فإن هذا لا حرج فيه، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح.
قوله [وإن رهن عند اثنين شيئا فوفى أحدهما.... انفك في نصيبه](13/194)
إذا رهن زيد فرسه عند اثنين، كأن يقترض من بكر ألفا، ومن عمرو ألفا، وقال هذا الفرس رهن بالألفين، فالرهن واحد، والراهن واحد، والمرتهن اثنان، فهذا جائز ولا بأس به، ولكن البحث هنا فيما إذا قضى أحدهما فهل ينفك بقدر الدين من الرهن أم لا؟
قال المؤلف (انفك نصيبه) ، فعليه في المثال السابق ينفك نصف الفرس، وذلك لأنه قد رهنه لاثنين فيكون ذلك بمنزلة عقدين، فكأنه قال: اقترضت منك يا زيد ألفا والرهن نصف فرس، وقال: اقترضت منك يا بكر ألفا والرهن نصف فرس، فإذا قضى لأحدهما انفك نصف الفرس، وهذا يتصور في غير الفرس كما لو رهن طعاما.
قوله [أو رهناه شيئا فاستوفى من أحدهما انفك نصيبه]
هنا المرتهن واحد والراهن اثنان، مثاله: اقترض زيد وعمرو كلاهما من بكر، وكل واحد اقترض ألفا، وقال: هذا الطعام رهن عندك على ما علينا من الدين لك، فهنا الراهن أكثر من واحد، فإذا قضى أحدهما الدين فأعطى بكر حقه مثلا فحينئذ له أن يأخذ ما يقابله من الرهن، وذلك لأن الراهن متعدد، وعليه فعقد الرهن أصبح بمنزلة عقدين.
قوله [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى دينه]
إذا اشترى منه أرضا إلى سنة، وقال: هذه السلعة رهن عندك، فإذا حل الدين ومضت السنة، وامتنع من وفاء دينه، كأن يقول: لا أوفي لك حقك، أو يدعي الإعسار، أو يماطل أو نحو ذلك فهنا المسألة فيها تفصيل:(13/195)
1- إن كان الراهن قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين، والعدل هو من يختارانه لكي يكون الرهن عنده، فقد لا يرضى الراهن بأن يكون الرهن عند المرتهن، بل يقول الرهن بيد فلان، فهذا هو العدل، فإن كان الراهن قد أذن للمرتهن ببيعه أو أذن للعدل فله أن يبيعه، وليس له أن يبيعه بدون إذن، وسواء كان الإذن قديما في العقد أو جديدا فلا حرج.
2- إن لم هناك إذن للمرتهن قديم ولا جديد فحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين وإعطاء الحق أو بيع الرهن، فإن لم يفعل - أي لم يعطه حقه ولم يبع الرهن - فإن الحاكم يبيع الرهن ويعطي المرتهن حقه.
3- فإن تعذر هذا كأن يكون في بعض البلاد التي ليس فيه قضاة يقضون بالشرع وقد وضع الراهن عند المرتهن هذا الرهن وأبى أو يوفيه حقه فالحكم كما ذكر شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم أن المرتهن يضعه في يد ثقة دفعا للتهمة ويبيعه هذا الثقة ويشهد على البيع وعلى الثمن ثم يأخذ المرتهن حقه، وما ذكره المؤلف وما ذكره شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم هو مقتضى العقد، فإن الرهن إنما وضع لهذا القصد، وإلا فلا فائدة منه ولا يحصل به الاستيثاق.
فصل
قوله [ويكون عند من اتفقا عليه]
إذا اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن عند فلان من أهل العدالة فإن الرهن يكون عنده، وذلك لأن المسلمين على شروطهم.
قوله [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد]
إذا أذنا - أي الراهن والمرتهن - للعدل الذي اتفقا على أن يكون الرهن عنده إذا أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد.(13/196)
أما الراهن فإذنه ظاهر الاعتبار لأنه المالك، وأما المرتهن فإذنه معتبر كذلك، لتعلق حقه بالرهن، ولذا فإن له أن يمتنع عن بيع الرهن يثمن بخس يضر به، فمثلا: لو أراد العدل أن يحابي أحدا في بيع الرهن، وكانت هذه المحاباة تنقص السعر بصورة تؤثر على حق المرتهن في استفاء دينه فله أن يمتنع عن قبول مثل هذا، وحاصل المسألة أن العدل ليس له أن يبيع إلا بنقد البلد أي بالنقد الرائج النافق، وأما إذا كان النقد لا ينفق وهو من النقد الكاسد فلا، وذلك لأنه وكل عنهما فليس له أن يبيعه إلا بما هو أحظ، فمثلا: في هذه البلدة دراهم كاسدة ودراهم نافقة، فإنه لا يبيعه بالدراهم الكاسدة بل يجب عليه أن يبيعه بالدراهم النافقة لأن ذلك هو الأحظ، وسيأتي بيان أن الوكيل يجب عليه أن يتعامل بالوكالة بما هو أصلح وأحظ.
قوله [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن]
إذا قبض العدل الثمن بعد بيع الرهن، ثم تلف هذا الثمن بيده من غير تعد ولا تفريط فإن الضمان يكون على الراهن، لأن هذا العدل يده يد أمانة، ويد الأمانة لا ضمان عليها كما تقدم تقريره.
قوله [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل](13/197)
صورة هذه: أخذ هذا العدل الثمن، ودفع إلى المرتهن ولم يشهد، فأنكر المرتهن أن يكون قد أخذه منه، ولا بينة، فإنه يكون من ضمان العدل، لأنه قد فرط، فالواجب عليه أن يقضي دين الراهن للمرتهن بصورة تكون مبرأة لذمته، وهنا لم تبرأ ذمته، وهكذا الوكيل أيضا، ولذا قال المؤلف (كوكيل) ، فلو أعطيت رجلا مثلا مائة ألف ريال، وقلت له: أعطها فلانا عن ديني، فأعطاه ولم يشهد ثم أنكر الآخر وقال: أنا لم آخذ منه شيئا، فالضامن هو الوكيل لأنه قد فرط، واليد الأمينة لا ضمان عليها إذا لم تتعد ولم تفرط، وعليه ففي مسألتنا يرجع المرتهن إلى الراهن ويقول: أعطني حقي، ويرجع الراهن في العدل ويطالبه بالمال.
قوله [وإن شرط ألا يبيعه إذا حل الدين]
إذا قال: هذا رهن عندك لكن اشترط عليك ألا تبيعه إذا حل الدين، فهذا الشرط باطل، لأنه يخالف مقتضى العقد، فمقتضى العقد - أي عقد الرهان - أن يبيعه وإلا فلا فائدة منه.
قوله [وإن جاء بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده](13/198)
صورة هذه المسألة أن يقول: هذه الدار رهن عندك على ثلاثمائة ألف ريال، وإذا مرت سنتان ولم آتك بهذا المبلغ فالدار لك، فقال المؤلف: لا يجوز هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، ولا يغلق أي لا يخرج عن صاحبه، قالوا: فهذا يدل على أنه ليس له أن يشترط هذا الشرط، فإن قاله فالشرط باطل لكن الرهن صحيح، والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قال ابن القيم:" ولم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وليس فيه مفسدة ظاهرة بل هو بيع معلق بشرط "، إذن هم تمسكوا بالأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وهذا كأنه بيع معلق بشرط، فكأنه قال له أبيعك هذه الدار بثلاثمائة ألف ريال إن لم آتك بحقك إلى سنتين، أما الجواب عن الحديث المتقدم فقد أجابوا عنه بأن الشريعة قد أبطلت ما كان عليه أهل الجاهلية من أن مقتضى العقد يفيد هذا، فمقتضى العقد عندهم يفيد أنه من لم يأت بالحق فالرهن له وإن لم يشترط، وأما اختيار شيخ الإسلام وتلميذه فإنه يكون بمقتضى الشرط لا بمقتضى العقد، ثم إنه لم يغلق عليه بل هو الذي أغلقه على نفسه، فهو قد وضع شرطا على نفسه، والمسلمون على شروطهم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق) معناه أنه لا يغلق على سبيل القهر كما كان في الجاهلية، وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذة ابن القيم هو القول الراجح.
قوله [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده وفي كونه عصيرا لا خمرا]
يقبل قول الراهن في أربع مسائل، ومن كان القول قوله فاليمين يمينه:(13/199)
1- المسألة الأولى: إذا اختلفا في قدر الدين، كأن يثبت لنا أن هذه الدار رهن عند زيد لعمرو، كلنهما اختلفا في قدر الدين، فقال زيد هذه الدار قد وضعها عمرو عندي مقابل مائة ألف أريدها منه، وقال عمرو بل مقابل درهم واحد يريده مني، فالقول قول الراهن، فعليه يعطيه درهما ويأخذ داره، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه منكر، فهذا يدعي أن له في ذمته مائة ألف، والراهن يدعي أن في ذمته درهما، والأصل براءة الذمة، والقول قول المنكر، أكثر، أما إذا كانت قيمته أقل من الدين فالقول قول الراهن، وصورة هذا: وضع عنده دارا، وقال إني لم أرهنه هذه الدار إلا على مبلغ عشرة آلاف، وقال المرتهن بل على مائة ألف، والدار تساوي مائة ألف، فحينئذ القول قول المرتهن، وذلك لأن الأصل أن الرهن يكون بقدر الدين لأنه وضع للاستيفاء، والأصل أن المرتهن لا تسمح نفسه برهن شيء إلا أن يكون هذا الرهن يمكن استيفاء الحق منه، لكن لو قال الراهن: هو لا يريد مني إلا عشرة آلاف، وقال المرتهن أريد منه مائة ألف، والدار لا تساوي إلا عشرة آلاف، فحينئذ لا يقبل قول المرتهن، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام، فإن قيل الأصل ما ذكره الحنابلة من أن القول قول المنكر، فالأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والحنابلة أدخلوا هذه المسألة في القاعدة السابقة، فالجواب: أن هذا الأصل متروك هنا، وذلك لقيام القرينة الظاهرة على الخلاف، والقاعدة أنه عند وجود القرينة الظاهرة فإننا نترك الأصل.(13/200)
2- المسألة الثانية: إذا اختلفا في الرهن، مثاله: قال الراهن أنا لم أرهنك إلا هذه الدار، وقال المرتهن أنت رهنتني هذه الدار وهذه الدار، فالقول قول الراهن، وذلك لأن الأصل مع المنكر فالقول قوله، والأصل براءة ماله من تعلق حق الغير به، لكن يجب أن يستثنى ما تقدم وهو أن يقال إلا أن تقوم قرينة ظاهرة تدل على صدق المرتهن، فإننا نترك الأصل وتكون اليمين مع المرتهن.
3- المسألة الثالثة: يقبل قول الراهن في رد الرهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن المال في القوت المحدد بينهما، ثم ادعى المرتهن أنه أعطاه الرهن، وقال الراهن لم يعطني الرهن، فالقول قول المنكر وهو الراهن، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيقال للمرتهن هل عندك بينة أنك أعطيته الرهن، فإن لم يأت ببينة فيقال للراهن احلف أنك لم تأخذ منه الرهن، فإذا حلف فيبقى هذا في ذمة المرتهن.
4- المسألة الرابعة: يقبل قول الراهن في كونه عصيرا لا خمرا، مثاله: قال الراهن أنا أعطيته الرهن عصيرا، وقال المرتهن بل أعطاه لي خمرا، فالقول قول الراهن لأن الأصل السلامة من الخمر، فمعه الأصل، ومن كان الأصل معه فاليمين يمينه.
قوله [وإن أقر أنه ملك لغيره أو أنه جنى، قبل على نفسه وحكم بإقراره بعد فكه إلا أن يصدقه المرتهن]
قوله (أقر أنه ملك لغيره) مثاله: قال خذ هذه الدار عندك رهنا على مائة ألف أقترضها منك، ثم بعد يومين أقر أن هذه الدار اغتصبها من فلان، فالحكم أنه يقبل على نفسه فتكون هذه الدار لفلان لأنه قد أقر بها له، أما المرتهن فإن الرهن يبقى في يده ثم إذا أخذ حقه أعطاه من أقر له به، إذن يبقى هذا الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه، وذلك لأن إقرار الراهن إنما يكون على نفسه.(13/201)
ومثل ذلك لو أقر أنه جنى، كأن يقول: خذ هذا العبد رهنا عندك، ثم قال: أقررت أنه جنى، وإذا جنى العبد فإن المجني عليه يمكن من رقبته، أي له حق أن يبيعه ويأخذ حقه إذا كان مالكه معسرا كما سيأتي تقريره، فهل يخرج العبد من الرهان ويمكن المجني عليه من رقبته، أم نقول إقرارك على نفسك، فهذا العبد قد ثبتت عليه الجناية، ويبقى عند المرتهن حتى إذا ما قضي الدين فإنه يمكن منه، فيعطى العبد للمجني عليه؟ الجواب: الثاني، أي أنه يبقى عند المرتهن حتى يستوفي حقه، ثم يعطى الجاني.
ويستثنى من هذا ما إذا صدقه المرتهن، فقال أنا أقر بذلك، وأن هذا المال هو لبكر وليس لزيد، فقد أقر على نفسه فحينئذ يخرج الرهن منه.
وقال بعض الحنابلة في أصل المسألة وهي ما إذا أقر الراهن أن الرهن ملك لغيره أو أنه قد جنى إنه يبطل الرهن.
والذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل وهو أن يقال:
1- إذا كان بإقراره متهما فإنه يكون إقرارا على نفسه فقط، ويبقى الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه من الراهن.
2- وأما إذا كان بإقراره غير متهم، فإن الإقرار يلحق المرتهن.
وصورة هذا إذا أقر به لزوجه كأن يقول أنا رهنتك هذا الشيء وهو لزوجتي، وقد قهرتها عليه وهي غير راضية، فالآن هو متهم بتضييع حق الآخر، فالحكم أنه يبقى عند المرتهن حتى يقضي الراهن ما عليه، وأما إن لم يكن متهما كأن يقر لأجنبي ويبعد أن يقع بينهما شيء من المواطأة فحينئذ يبطل الرهن، ويتوجه أن يلزم الراهن بإعطاء المرتهن حقه أو يوضع رهنا جديدا، لأن الرهن يؤخذ من المرتهن ويدفع إلى من أقر له به.
فصل
قوله [وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن](13/202)
للمرتهن وهو من بيده الرهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب، فله أن يركب الظهر وأن يحلب الدر بالمعروف بما لا ينتهك المركوب ولا يضعف المحلوب بقدر نفقته، ودليل هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) [خ 2512] وهذا الحديث فيما يظهر يمكن الاستدلال به على مسألة سابقة وهي عدم شرط استدامة القبض، فإنه قال (وعلى الذي يركب) والغالب أنهما طرفان رهان ومرتهن، فلا يحتاج إلى هذا العموم إذا كان في يد المرتهن فحسب، فدل هذا على جواز أن يكون بيد الراهن وأن هذا لا يخل بصحة الرهن، والمقصود هنا الاستدلال هذا الحديث على أن من ركب أو شرب فإن عليه النفقة، وأن المرتهن يجوز له وإن لم يأذن الراهن يجوز له أن يركب المركوب كالجمل والفرس ونحوهما بنفقته، وهل السيارة مثل ذلك؟ هذا في الحقيقة لا يقع في السيارة لأنها لا تحتاج إلى نفقة إلا مع السير فيها، لكن المثال الأوضح هو الجمل والفرس ونحوهما من الدواب المركوبة، والمقصود أن من أنفق فله الركوب سواء كان راهنا أو مرتهنا بإذن الراهن للمرتهن أو بغير إذن، وهذا قد اتفق عليه العلماء لثبوت الحديث فيه، واتفقوا على أن ما يحتاج إلى مؤنة كالدار ونحوها فإنه ليس للمرتهن أن ينتفع به، وذلك لأن الرهن ملك للراهن، والانتفاع به تبع للملك، ونماؤه تبع للأصل، فليس للمرتهن أن يركب السيارة ولا أن يسكن الدار إلا بإذن الراهن.
واختلف العلماء في العبد ونحوه مما يحتاج إلى نفقة واجبة، هل له حكم المركوب والمشروب أم ليس له هذا الحكم؟(13/203)
1- فالمشهور من المذهب أن العبد ونحوه ليس للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الراهن، وأنه إن أنفق عليه فإن كان على وجه التبرع فليس له أن يرجع على الراهن، وإن أنفق عليه نية الرجوع فله أن يرجع على الراهن على تفصيل سيأتي ذكره في المذهب.
2- وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي ثور أن له أن ينتفع به مقابل النفقة قياسا على المركوب ومشروب الدر، وذلك بجامع أن كليهما نفقته واجبة، بخلاف الدار فإن مالكها له أن يهملها ويعطلها من غير أن يقول بإصلاحها أو عمارتها، وأما العبد والحيوان فإنه يجب على مالكه أن ينفق عليه، وهذا القول فيما يظهر راجح، فإن النفقة واجبة فيه، فإذا أنفقها عليه فيجوز له بمقابل هذه النفقة أن ينتفع به بالمعروف من عمل وتكسب ونحو ذلك.
قوله [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع ولو لم يستأذن الحاكم]
إذا أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن من الراهن مع إمكان استئذانه، كأن ينفق على رقيقه أو زرعه أو شجره من غير أن يستأذن الراهن مع إمكان الاستئذان فإنه لا يرجع، فيكون حكمه حكم التبرع، قالوا: لأنه لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون هذا الإنفاق منه بنية التبرع فحينئذ ليس له أن يرجع ويطالب بما أنفق.
الثانية: أن يكون بنية الرجوع فليس له الحق أيضا لأنه مفرط فهو قادر على الاستئذان متمكن منه ومع ذلك لم يستأذن.(13/204)
لكن إن تعذر الاستئذان فله أن يطالبه بحقه لأنه غير قادر على الاستئذان، وحينئذ لا يكون مفرطا، ولو لم يستأذن الحاكم، فليس بشرط أن يستأذن الحاكم في النفقة، وذلك لما يترتب عليه في الغالب من تفويت مصلحة الرهن حتى يأذن الحاكم، ولأنه لا دليل على اشتراط إذنه، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه له الرجوع مطلقا ما لم ينو التبرع، ودليل هذا أنه نائب عن صاحب الحق فكان له أن يطالب كسائر من ينوب عن الغير في أداء الحقوق، فهنا ناب عن صاحب الحق فيما لا يجب عليه فكان له أن يطالب بالحق، وقد قال الله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وهذا محسن فجزاؤه أن يحسن إليه، وأما أن يمنع من إعطائه حقه فليس هذا من الإحسان، ولأن الله تعالى قال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وقال {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقيد الله سبحانه هذا بالاستئذان، فأوجب الله على الوارث أن يعطي المرضعة أجرتها ولم يقيد ذلك بإذنه له بالرضاع، بل أوجبه بمجرد الرضاع، وهذا القول هو الراجح.
قوله [وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها]
فالوديعة كذلك كالرهن، فإذا كان عند رجل وديعة، وكانت هذه الوديعة تحتاج إلى نفقة واجبة، كأن يضع عنده رقيقا أو حيوانا وديعة أو نحو ذلك فإذا أنفق عليه بغير نية التبرع ففيه الخلاف المتقدم، فليس له الرجوع إن لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، وإذا استأذنه وأذن له فيجب عليه أن يعطيه حقه، فالوديعة لها حكم الرهن على التفصيل المتقدم، وكذلك إذا استأجر دوابا فهرب ربها وتركها فهي في حكم الوديعة لأنها أصبحت أمانة في يده، فإذا أنفق عليها فعلى التفصيل المتقدم.
قوله [ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن رجع بآلته فقط](13/205)
فإذا وضع عنده دارا رهنا فخربت هذه الدار فعمرها وأحضر لها خشبا وحديدا ونحو ذلك، فالحكم أنه له ثمن الآلة من خشب وحديد وليس له أن يأخذ أجر المعمرين ولا أجرة الماء ولا الطين ولا نحو ذلك، ودليل ذلك أن هذه النفقة نفقة غير واجبة على الراهن فليس واجبا على الإنسان أن يصلح داره إذا خربت، فإذا أصلحها المرتهن فقد فعل أمرا لا يكون فيه نائبا عن أمر واجب عن آخر، وقال القاضي من الحنابلة: بل على الراهن أن يعطيه عوضه، وله أن يطالب بالحق لأن في ذلك مصلحة الرهن، فهذا الرهن قد تعلق به حق المرتهن، ولا شك أن فساده فساد لهذه الوثيقة، ظاهر كلامه أن ذلك مطلق، سواء كان هذا الإصلاح يترتب عليه حفظ حقه أم لا، وفصل ابن رجب الحنبلي تفصيلا وقال هو متوجه قواه صاحب الإنصاف أنه إذا كان هذا الخراب يمكن أن يستوفي من الرهن قيمة الدين مع وجوده فليس له أن يرجع، مثال ذلك: أعطاه هذه الدار رهنا، فحصل فيها خراب، وكانت رهنا على عشرة آلاف، ولو بيعت وهي خربة فإنها تباع بعشرة آلاف، فإنه حق المرتهن الآن محفوظ من غير أن يصلحها، فإذا أصلحها فليس له الرجوع لأنه تصرف تصرفا لم يؤذن له فيه أولا، وليس واجبا على الآخر أن يصلح هذا الشيء، وأما إذا كان الرهن لا يستوفى ببيعه الدين بعد وقوع الخراب فيه، فإذا أصلحه أمكن أن يبقى ويستوفى منه الدين، أو خشي أن يخرب شيئا فشيئا حتى تذهب قيمته فلا يمكن أن يستوفى منه الدين فإذا أصلحه والحالة هذه فإنه يمكنه أن يرجع، وهذا التفصيل تفصيل قوي كما ذكر صاحب الإنصاف، وقد أفتى شيخ الإسلام فيمن أصلح وقفا أنه يأخذ نفقته من غلته، وعلى هذا يمكن أن تخرج هذه المسألة المتقدمة على كلام شيخ الإسلام.(13/206)
باب الضمان
الضمان لغة: من الضمن، فهو مشتق من الضمن، ضمن الشيء ضمنا (1) .
واصطلاحاً: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، وسمي ضمانا لأن ذمة الضامن تصير في ذمة المضمون عنه.
ومثال الضمان: اقترض زيد من عمرو عشرة آلاف، فضمنه بكر، أي التزم أن تكون ذمته منشغلة بالدين كذمة عمرو، فقد ضم ذمته إلى ذمة عمرو في التزام الحق الواجب على عمرو.
وعليه فإن الضمان من الإحسان، والله يحب المحسنين، ويسمى ضمينا وكفيلا وزعيما وقبيلا.
قال [ولا يصح إلا من جائز التصرف]
لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، وقد تقدم تعريف جائز التصرف وهو المكلف الرشيد، فلا بد أن يكون جائز التصرف وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه، وعليه فلا يصح ضمان صبي ولا سفيه ولا نحو ذلك، لأنه غير جائز التصرف.
قال [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت]
لرب الحق وهو الدائن، له (2) أن يطالب من شاء منهما، فله أن يطالب الضامن أو المضمون عنه.
فعندنا: ضمان (3) وقد تقدم تعريفه.
وضامن وهو من تبرع بالتزام حق مالي على غيره.
وعندنا (4) مضمون عنه وهو المدين أو المستقرض.
ومضمون له: وهو صاحب الدين.
فللمضمون له أن يطالب من شاء منهما - فله أن يطالب الضامن، وله أن يطالب المضمون عنه (5) - في الحياة وفي الموت.
أما في الحياة فظاهر، وأما في الموت فمن التركة.
وظاهره أن له أن يطالب الضامن (6) وإن كان المضمون عنه صاحب يسار وغنى (7) وعدم مماطلة، وإن كان هذا بعد الممات، وعليه فيرجع الضامن إلى المضمون عنه بالحق الذي أخذه منه المضمون له.
__________
(1) العبارة الأخيرة وهي " ضمن الشيء ضمنا " ليست في المطبوع.
(2) ليست في المطبوع.
(3) في المطبوع: فهنا الضمان.
(4) ليست في المطبوع.
(5) الجملة المعترضة ليست في المطبوع.
(6) في المطبوع: الضمان.
(7) ليست في المطبوع.(14/1)
وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الدين قد تعلق بذمتيهما جميعا.
وعن الإمام مالك وقواه ابن القيم (1) واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الثاني في هذه المسألة: أنه ليس له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، قالوا: لأن الضمان كالرهن فهو توثيق للدين، والرهن إنما يجوز أن يباع على راهنه إن تعذر استيفاء الحق، أما مع القدرة على استيفاء الحق فإنه لا يباع كما تقدم تقريره، قالوا: وكذلك الضمان فإنه توثيق للدين، ولأن الضامن محسن، وقد قال تعالى {ما على المحسنين من سبيل} (2) فليس لنا سبيل عليه وهو محسن إلا أن يتعذر الحق، ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الثابت على غيره مع قدرة من عليه الحق أن يقضي الحق عن نفسه، فهذا من المستقبح جداً.
وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وأما تعلقه في ذمة الضامن فهو معلق كتعلق الدين بالرهن، فهو إنما يكون حين يتعذر الوفاء (3) .
إلا أن يكون هناك شرط أو عرف، فإن كان هناك عرف أو شرط فالمسلمون على شروطهم (4) .
فلو قال: تضمن فلانا، لكن لي أن [أ] طالب أيكما شئت، أو كان العرف جارٍ على هذا (5) .
قال [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه]
__________
(1) كذا في المطبوع، وفي الأصل – المذكرة -: ابن القيم الجوزية.
(2) سورة التوبة.
(3) في المطبوع: وأما تعلق الدين بذمة الضامن فهو كتعلق الدين بالرهن.
(4) في المطبوع: ويستثنى من ذلك ما إذا شرط أو كان العرف جاريا بجواز مطالبة أيهما.
(5) في المطبوع: فلو قال الدائن للضامن: تضمن فلانا لكن لي أن أطالب أيكما شئت، فرضي، فإن له أن يطالب أيهما شاء لأن المسلمين على شروطهم.(14/2)
هذا ظاهر، فمتى برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين فإن ذمة الضامن تبرأ أيضا، لأن الحق ثابت في ذمة الضامن تبعا، فإذا ذهبت عن الأصل تبعها تبعتُها (1) ، فحينئذ يسقط ذمة الضامن أيضاً.
وأما العكس فلا، ولذا قال (لا عكسه) .
فإذا ديَّن رجل آخر مالا، وطلب عليه ضمينا، ثم أبرأ صاحب الحق الضمين فلا تبرأ ذمة المضمون عنه، لأن ذمة الضامن كالرهن، فالدين ثابت في ذمة المستدين أو المستقرض ولا يعدو الضامن إلا أن يكون وثيقة للدين،فإذا سقط فإنه يسقط الحق الذي في ذمة المضمون عنه، فإن إبراء التبع لا يعني إبراء الأصل، وهذا أيضا ظاهر لا إشكال فيه.
قال [ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له]
فلا تعتبر ولا يشترط أن يعرف الضامن المضمون عنه، فلو قال بعض الناس لبعض التجار: " أيَّ أحد تقرضه فأنا أضمنه لك " فهو جاهل بالمضمون عنه، فهذا جائز، وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا تشترط فيه معرفة المضمون عنه، ولا دليل على اشتراط ذلك.
ولذا فإنه لا يشترط أيضا رضى المضمون عنه، فإن ضمنه من غير رضى المضمون عنه فهذا جائز أيضا، ولا خلاف بين العلماء فيه، وهو كما لو أدى الدين عنه.
فلا يشترط رضى المضمون عنه، كما لو أدَّى الدين عنه، فلو كان لزيد عند عمرو ديناً، فقضاه بكر من غير أن يستأذن زيداً الذي في ذمته الدين، فإن الذمة تبرأ، فمن باب أولى صحة الضمان، إذا كان لو قضى الدين عنه من غير إذنه جاز، فأولى من ذلك جواز الضمان عنه.
__________
(1) في المطبوع: فإذا ذهب عن الأصل تبعها تابعها.(14/3)
ولذا جاز الضمان عن الميت كما في حديث سلمة بن الأكوع في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها، فقال: هل عليه دين، فقالوا: نعم، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: يا رسول الله صل عليه وعليَّ دينه [خ 2291] (1) .
وفي هذا الحديث ما يدل على أن المضمون له لا يشترط رضاه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أبا قتادة على الضمان من غير إذن المضمون له أي صاحب الحق، وكذلك لا يشترط معرفة الضامن للمضمون له، كأن يقول: " اقترض من أي أحد شئت من التجار والضمان عليَّ "، ويكتب له ورقة بذلك، فهذا جائز.
[فعندنا أمور لا تشترط:
1- معرفة المضمون له.
2- رضى المضمون له.
3- معرفة المضمون عنه.
4- رضى المضمون عنه] (2)
قال [بل رضى (3) الضامن]
هذا هو الذي يشترط، وهو رضى الضامن، وذلك لأنه تبرع بالتزام الحق فاشترط فيه الرضا.
فإن كان الضامن مكرها فلا يصح؛ لأنه تبرع بالتزام حق مالي في ذمته، فاشترط رضاه، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
قال [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم]
مثال هذا: إذا قال زيد لعمرو: اذهب إلى فلان واقترض منه ما شئت من المال والضمان علي، أو قال: أي ثمن يقرضك إياه فلان فالضمان علي، أو اشترِ (4) هذه السيارة ومهما بلغ ثمنها فضمانها علي، فهذا جائز لأنه يؤول إلى العلم؛ لأن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، والذمم لا تعلق بها حقوق غير معلومة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وكتاب الكفالة،باب (3) من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع (2295) .
(2) العبارة التي بين القوسين هي في المطبوع دون الأصل.
(3) في الأصل: رضا.
(4) في الأصل والمطبوع: اشتري.(14/4)
وكذلك يجوز ضمان ما لم يجب، كأن يقول له: اقرض فلاناً ومتى ما أقرضته فالضمان علي، فقد ضمن الشيء قبل وجوبه.
ودليل هذا قول الله تعالى في قصة يوسف - وشرع من (1) قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه - {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (2) ، أي أنا به ضمين، أي أنا ضمين بحمل البعير، وهذا قبل أن يجب الحق، فإن الحق لا يجب إلا بعد أن يؤتى بهذا الصاع، فإذا أتانا بالصاع وجب حمل البعير، فضمنه قبل وجوبه. (3)
قالوا: وحمل البعير يختلف كثرة وقلة فكان مجهولاً.
ثم إن الأصل في المعاملات الحل ولا غرر في هذا ولا ضرر.
قال [والعواري]
العواري جمع عارية، والعارية في المشهور من المذهب مضمونة، والبحث هنا على المشهور من المذهب وأنها مضمونة، وسيأتي الخلاف في ذلك في بابه إن شاء الله.
فمثلا: ذهب زيد إلى عمرو وقال أعرني سيفك، فقال: حتى تأتي بضمين، فالضمان يصح، وذلك لأن العارية مضمونة، فالأصل مضمون فيصح في الفرع، فيصح الضمان في الأشياء المضمونة، فهنا العارية مضمونة، فلما ثبت الضمان على الأصل جاز في الفرع، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
وأما إذا قلنا: إن العارية ليست بمضمونة فلا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان لم يثبت في الأصل فلا يثبت في الفرع من باب أولى.
فإذا كان من بيده الشيء لا ضمان عليه، فكيف الضمان في غيره، ومثل ذلك المغصوب، لذا قال:
[والمغصوب]
فالمغصوب يثبت فيه الضمان، فلو اغتصب زيد من عمرو شيئا فطالبه به، فله أن يأبى أن يخليه حتى يأتيه بضمين، فإذا أتى بالضمين تركه، وذلك لأن الأشياء المغصوبة مضمونة لأن اليد يد تعد، واليد المتعدية ضامنة فالفرع كذلك.
قال [والمقبوض بسوم]
هذا يصح فيه الضمان.
__________
(1) كذا في المطبوع، وفي الأصل: شرع ما قبلنا..
(2) سورة يوسف.
(3) في المطبوع: فلا يجب حمل البعير إلا إذا أتي بالصاع، وهنا ضمن حمل البعير قبل وجوبه.(14/5)
وصورته أن يذهب مثلا إلى السوق ويسوم شيئا، ثم يقول: دعني حتى أستشير فيه وأريه بعض الناس أو نحو ذلك فهذا هو المقبوض بسوم، فليس مقبوضا ببيع، بل بسوم.
فيَد هذا القابض ضامنة، فلو تلف سواء كان بتعد منه أو لم يكن فإنه يضمن، ذلك لأن هذا القبض قبض معاوضة، وما كان قبض معاوضة فإن الضمان يثبت فيه.
فإذا قال: أنا لا أقبضك إياه حتى تأتي بضمين يضمنك حتى ترجعه إليَّ، فالضمان صحيح معتبر.
وأما إن قبضه من غير سوم فلا يصح الضمان، لأن هذا يكون من باب الأمانات، لأنهما حيث لم يتساوما على شيء فلا معاوضة بينهما، وحينئذ فلا يصح الضمان فيه لأنه غير مضمون على الأول.
قال [وعهدة مبيع]
عهدة المبيع لغة: الصك الذي يكتب فيه البيع.
والمراد به هنا عند الفقهاء ضمان الثمن عن المشتري للبائع، وضمانه عن البائع للمشتري.
مثال ضمان الثمن عن المشتري للبائع: أن يقول: أعط فلاناً هذه السلعة التي تبايعتما عليها وإن لم يسلمك الثمن فهو في ضماني.
ومثال ضمان الثمن عن البائع للمشتري: أن (1) يقول للمشتري: أعطه ثمنه فإن ثبت أن السلعة ليست له وأنه مغتصب لها أو أنها معيبة فالضمان عليَّ.
فالضمان هنا صحيح عند جماهير أهل العلم لعمومات الأدلة، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
قال [لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها] (2)
لا يعتبر ضمان الأمانات، فلو قال: ضع هذا الشيء أمانة عندك بشرط أن تأتيني بضمين فلا يصح هذا، لأن الأمين ليس بضامن، فلو تلفت في يده من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، فإذا كان الأصل لا ضمان عليه فكيف يثبت الضمان للفرع (3) .
ولأن هذا تحايل إلى مخالفة الشريعة، فإن الشريعة أبطلته على (4) الأمين، فإذا أجزناه في الفرع كان في هذا تحايلا على الشريعة.
__________
(1) في الأصل: كأن.
(2) في المطبوع: [لا ضمان الأمانات كوديعة] .
(3) في المطبوع: في الفرع.
(4) في المطبوع: لغت الضمان عن.(14/6)
فعليه: الأمانة لا يصح الضمان فيها؛ لأن يد الأمين لا تضمن، فإذا كان هذا في الأصل، فالفرع من باب أولى.
[بل التعدي فيها]
أي يصح الضمان في التعدي فيها، كأن يقول: أضع هذه الأمانة عندك بشرط أنها (1) متى تُعديت عليها أو فرَّطت، فإن الضمان عليه، فهذا صحيح.
أو حصل للأمانة عند الأمين - حصل لها - تلف بتعد أو تفريط فطلب صاحب الحق ضمينا لحقه فهذا صحيح؛ وذلك لأن الأمانات تضمن بالتعدي، فإذا كانت تضمن بالتعدي أصلا فيجوز الضمان عليها فرعا.
إذاً: هذه المسألة ليس البحث فيها في مسألة ضمان الأمين، أو في مسألة ضمان الغاصب أو في مسألة ضمان المستعير، أو ضمان القابض بسوم أو البائع أو المشتري، بل في الضمانات على ذلك، فيكون الضامن طرفاً آخر ليس هو البائع، وليس هو المستعير ولا الغاصب ولا الأمين، بل هو طرف آخر يكون ضامناً للمستعير أو ضامناً للغاصب أو للقابض بسوم ونحو ذلك.
والقاعدة: أنا ما فيه ضمان فيا لأصل فيصح الضمان فيه في الفرع، وما لا، فلا.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والستون بعد المئة
(يوم السبت: 21 / 4 / 1416 هـ)
فصل
هذا الفصل في الكفالة
الكفالة لغة: المراعاة والعناية، ومنه قوله تعالى {وكفَّلها زكريا} (2) ، وأما في اصطلاح الفقهاء فهي التزام رشيد إحضار بدن من عليه الحق لصاحب الحق، وهي من الإحسان إلى الناس كما تقدم في الضمان.
قوله [وتصح الكفالة بكل عين مضمونة]
كالعارية مثلا، فقد تقدم أن المشهور من المذهب أنها مضمونة فيثبت فيها الكفالة، فلو قال مثلا: لا أعيرك هذه العين حتى تأتي بكفيل فهذا صحيح، فكل عين تضمن فإن الكفالة تصح فيها كما تقدم في الضمان.
قوله [وببدن من عليه دين]
فمن وجب في ذمته حق مالي للغير فإن الكفالة تثبت فيه.
قوله [لا حد ولا قصاص]
__________
(1) في المطبوع: أنك.
(2) سورة آل عمران.(14/7)
فلا تصح الكفالة في الحدود ولا في القصاص، وذلك لأن الحد والقصاص لا يستوفى إلا من الجاني، فلا يمكن أن يستوفى من غيره فلم ثبت فيه الكفالة، فإذا وجب عليه حد زنا أو سرقة أو قتل فلا تثبت في هذه الأمور الكفالة، وإذا وجب عليه قود في النفس أو قصاص في شيء من الأعضاء فكذلك لا تثبت فيه الكفالة لأنه لا يمكن أن يستوفى من الكفيل، وقد روى البيهقي بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا كفالة في حد) [هق 6 / 77] والحديث إسناده ضعيف، ويكفي ما تقدم من العلة الظاهرة في النهي عنه.
* وقد اختلف أهل العلم في الكفالة هل يثبت فيها غرم أم لا؟ بمعنى إن تعذر على الكفيل إحضار مكفوله، فهل يضمن الحق الثابت في ذمة المكفول أم لا؟ قولان لأهل العلم:
1- القول الأول: وهو مذهب الشافعية والأحناف أنه لا يغرم، قالوا: لأنه إنما التزم بإحضار بدنه ولم يلتزم بإعطاء الحق المالي الواجب عليه.
2- القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنابلة أنه يغرم، واستدلوا بما رواه الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الزعيم غارم) [ت 1265، د3565، جه 2405] قالوا: والواجب عليه أن يؤدي ما التزمه من إحضار بدنه، والكلام حيث تعذر ذلك، وإنما أقيم مقام الرهن أي الكفيل فكان فيه ما في الرهن من استيفاء الحق، فدل على أنه يضمن ويغرم، وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم، وعليه وعلى القول الراجح الذي تقدم من أنه ليس لرب الحق أن يطالب الضامن إلا بعد تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، على هذا القول لا فرق بين الضمان والكفالة إلا أن الكفالة فيها إحضار بدنه وأما هناك فإنه يلزم بأن يأخذ الحق من صاحبه الذي هو عليه، فإن تعذر فإنه يعطى الحق من الضامن ثم يرجع هو على المضمون عنه.
قوله [ويعتبر رضى الكفيل](14/8)
لأن الكفالة التزام بحق فاشترط فيها رضى الملتزم وهذا الق هو أن يحضر المكفول به على ما وقع عليه الاتفاق.
قوله [لا المكفول به]
فليس شرطا أن يرضى المكفول به بالكفالة، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: كالضمان، فكما أن الضمان لا يشترط فيه الرضى من المضمون عنه فكذلك ف الكفالة لا يشترط الرضى من المكفول به، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية أنه يشترط رضى المكفول به، قالوا: لأنه يلتزم بحق، والحق الذي يلتزم به هو أن يتجاوب ويتطاوع مع الكفيل إذا جاء لإحضاره، فإن الكفالة عقد يلتزم فيه المكفول به أن يحضر مع الكفيل متى أراد ذلك على ما وقع عليه الاتفاق، فكان قد التزم بحق، وهذا لا بد فيه من الرضى، وهذا القول هو الراجح.
وليس بشرط رضا المكفول له، لأنها وثيقة غير مقبوضة فلم تشترط فيها الرضى كالضمان، وقد تقدم أنه لا يشترط في الضمان إذن المضمون له فكذلك هنا ولا فرق بين الأمرين.
قوله [فإن مات.... بريء الكفيل]
إذا مات المكفول به بريء الكفيل، وهذا هو المشهور من المذهب، وفي المسألة أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يبرأ مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الحضور قد سقط بالموت، فلا يمكن أبدا أن يحضره وقد مات، وهو إنما تكفل بإحضاره.
القول الثاني: أنه لا يبرأ مطلقا، وهو قول مالك واختيار شيخ الإسلام، قالوا: قياسا على الرهن والضمان، فإن الضامن لا يبرأ بموت المضمون عنه، وكذلك الرهن، والمقصود استيفاء الحق كما سبق.
القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة أن في هذه المسألة تفصيل، فإن توانى وقصر وفرط حتى مات فإنه لا يبرأ، وأما إذا لم يكن منه ذلك فإنه يبرأ، وهذا القول هو أعدلها.
فهناك فرق بين الرهن والكفالة، فإنه في الأصل إنما التزم بإحضاره، وهذا أمر يسقط بالموت، ويستثنى من هذا ما إذا فرط وقصر وأهمل.
قوله [أو تلفت العين بإذن الله تعالى](14/9)
كذلك إذا تلفت العين بإذن الله، مثلا: أخذ عارية فتلفت بقدر الله تعالى، الكفيل يبرأ وذلك لأنه ما دام أنها تلفت فحينئذ لا يجب شيء على من وقع التلف عنده، وعليه فإن الكفيل يبرأ أيضا، وأما إذا تلفت بفعل الآدمي فإن الكفيل لا يبرأ، وذلك لوجوب بدلها على المتلف، فما زال للمكفول له الحق، لأن البدل قائم، وعليه فتبقى الكفالة.
قوله [أو سلم نفسه بريء الكفيل]
إذا سلم المكفول به نفسه فإن الكفيل يبرأ، وذلك لأن المكفول به إذا سلم نفسه فقد قام بما يجب على الكفيل، فأدى الواجب عن الكفيل، فإذا حضر بنفسه فقد حصل المقصود.
ويبرأ الكفيل أيضا إذا أحضر المكفول به في المجلس المتفق عليه في الأجل المحدد وذلك لأنه قد قام بما يجب عليه، وكذا قبل الأجل من غير أن يتضرر المكفول له.
* مسألة:
قال شيخ الإسلام السجان كفيل، أي القائم على شان السجن كفيل، وعليه فإنه يجب عليه أن يحضر البدن فإن لم يحضر البدن فإن الضمان عليه، وقال بعض الحنابلة بل السجان ليس بكفيل، إنما هو وكيل على الحفظ، وهذا القول هو الراجح، فهو وكيل على الحفظ، وذلك لأنه ليس بملتزم بإحضار البدن، وإنما هو ملتزم بحفظه في الموضع الذي هو فيه، فهو لم يلتزم إلا بالحفظ، كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو اختيار بعض الحنابلة، فهو وكيل في الحفظ، وعليه فإن فرط فعليه الضمان، وإن لم يفرط فلا ضمان عليه.
** مسألة:(14/10)
المشهور من المذهب أن كفالة المعرفة كالكفالة تماما، وكفالة المعرفة أن يأتي مثلا بعض الناس إلى بعض التجار ليشتري، فيقول: هل يعرفه أحد منكم، فيقول أحدهم أنا أعرفه، فحينئذ يكون كفيلا له، وعليه فيلتزم بإحضاره في الموعد المتفق عليه، فإن لم يحضره فإنه يضمن، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي التفصيل في هذه المسألة فقال: إن عرفه باسمه وموضعه ونحو ذلك فقد قام بما يجب عليه، فإنه إذا قال: أنا أعرفه، فليس فيه إلا أنه يعرفه أي يعرف اسمه ويعرف وصفه، فليس في ذلك إلا هذا، فإن عرفه وإلا فإنه يضمن، وهذا القول هو الراجح، فإنه إذا ضمنه ضمان معرفة فليس فيه أنه يلتزم بإحضار بدنه، بل غاية هذا أن يلتزم بتعريفهم إياه اسما ومحلا ونحو ذلك، فإن قام بما يجب عليه وإلا فعليه الضمان لأنه فوت الحق عليهم.
*** إذا كان المكفول به في الحبس فإن هذا يكفي عن إحضاره، فلو قدر أنه كان محبوسا في الوقت المحدد فهل يكفي أم لا بد من إحضاره؟ الجواب: أنه يكفي هذا ولا يجب أن يحضره كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وليس أحد من الأئمة يأمر بإحضاره لأنه متمكن منه "
باب الحوالة
الحوالة في اللغة: من التحول وهو الانتقال، أما في الاصطلاح الفقهي فهي: نقل حق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأركان الحوالة أربعة:
1- المحيل: وهو المدين الأول، أي من عليه دين.
2- المحتال: وهو من له دين، أي هو صاحب الحق.
3- المحال عليه: وهو المدين الثاني، فهو من عليه دين للأول.
4- المحال به: وهو الدين الذي في ذمة المحيل.(14/11)
والأصل في الحوالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم وإذا أبتع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه [خ 2287، م 1564] وفي وراية أحمد: (إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) [حم 27239] ، وهو عقد إرفاق وذلك لما فيه من إبراء الذمم، فهذا الذي في ذمته الحق تبرأ ذمته بنقل الحق الذي في ذمته إلى شخص آخر، وهي استيفاء وليست ببيع، كما يقرر هذا فقهاء الحنابلة، ويقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحوالة في سياق الوفاء فقال: (مطل الغني ظلم) فهذا فيه ما لا يجوز من فعل الغني من المماطلة، ثم قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، ويدل عليه أيضا عدم اشتراط رضى المحتال، والبيع من شروطه الرضى، كما قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فالحوالة استيفاء وليست بيعا.
قوله [لا تصح إلا على دين مستقر]
هذا هو الشرط الأول من شروط الحوالة، أن تكون على دين مستقر، فعليه يجب أن يكون المال المحال عليه مستقرا في ذمة المحال عليه، مثاله: ثمن المبيع وبدل القرض، فهما دينان مستقران في الذمة غير قابلين للسقوط في الأصل فتصح الحوالة فيه، أما إذا كان الدين غير مستقر كدين المكاتب فهو دين غير مستقر لأنه عرضة للسقوط فللمكاتب أن يبطل العقد - أي عقد الكتابة - ويرجع قنا أو يعجز عن أداء الحق الذي عليه فيعود قنا، وهكذا سائر الديون غير المستقرة لا يصح الحوالة عليها، وذلك لأن مقتضى عقد الحوالة أن يلتزم المحال عليه بالدين الذي قد أحيل عليه به، وإذا كان الدين غير مستقر فإنه عرضة للسقوط فكيف تبرأ ذمة الأول وتتعلق به ذمة الثاني والدين غير مستقر فحينئذ يكون قد التزم والدين ليس بلازم.
قوله [ولا يعتبر استقرار المحال به](14/12)
إن قيل هل يشترط استقرار الدين المحال به أم لا؟ الجواب: لا يعتبر، وبيان هذا: إذا كان المكاتب الذي عليه لسيده دين في ذمته مقابل الكتابة، فهود دين غير مستقر، فللمكاتب أن يحيل سيده إلى أحد لهذا المكاتب عليه دين مستقر، فإن لا يعتبر أن يكون الدين المحال به مستقرا، وذلك لأن تسليم الدين جائز، وللمحيل أن يسلمه أو يسقطه، فإذا كان التسليم جائزا كانت الحوالة جائزة.
قوله [ويشترط اتفاق الدينين جنسا ووصفا ووقتا وقدرا]
هذا هو الشرط الثاني من شروط الحوالة، وهو أنه يشترط اتفاق الدينين، الدين الأول هو الذي في ذمة المحيل، والثاني هو الذي في ذمة المحال عليه، فيشترط أن يتفقا جنسا، فهذا ذهب وهذا ذهب، فإن كان أحدهما ذهبا والثاني فضة فلا يجوز، وكذلك أن يتفقا وصفا، فهذا رديء وهذا رديء، وهذا جيد وهذا جيد، وهذا صحيح وهذا صحيح، وهذه مكسرة وهذه مكسرة، ويشترط أن يتفقا وقتا، فهذا حال وهذا حال، وهذا مؤجل إلى شهر وهذا مؤجل إلى شهر، ويشترط أيضا أن يتفقا قدرا، فيحيل بخمسة على خمسة، أو بعشرة على عشرة، أما لو أحال بخمسة على ستة فلا يجوز، قالوا: لأن الحوالة عقد إرفاق فإن كان فيها فضل فقد خرجت عن موضعها، وقد تقدم قول الجمهور أن بيع الدين بالدين منهي عنه، ولا يتبين المنع من هذا، فهذا وإن خرج عن كونه حوالة فلا يخرج عن كونه بيعا، فيشترط فيه ما يشترط فيه البيوع، فإذا جرى على قواعد البيوع فلا يتبين أنه فيه منعا، وكونه بيع دين بدين فقد تقدم أنه ليس كل صور بيع الدين بالدين محرمة، وإنما حرم الشارع منها ما كان فيه الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأيضا فإن بيع الدين بالدين فيه إشغال للذمم وهنا في مسألتنا فيها إبراء للذمم.
قوله [ولا يؤثر الفاضل](14/13)
بيان هذا، إذا كان على أحذ من الناس عشرة آلاف، ويريد منك فلان خمسة آلاف، فقلت: أحيلك بخمسة آلاف على خمسة آلاف من العشرة التي لي في ذمة فلان فلا يؤثر هذا الفاضل لأنه يبقى لربه، وذلك لأنهما قد اتفقا في القدر وأما الفاضل فيبقى لرب المال.
قوله [وإذا صحت]
أي إذا صحت الحوالة فتوفرت فيها شروطها، وتقدم شرطان، وسيأتي شرط رضا المحيل.
قوله [نقل الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل]
فيبرأ المحيل بالحوالة، وهذا هو مقتضى عقد الحوالة فيلتزم المحال عليه بالدين الثابت للمحتال على المحيل.
قوله [ويعتبر رضاه]
إذا يشترط رضا المحيل، فليس للدائن أن يلزم المدين بالحوالة، وذلك لأن الحق واجب عليه من غير تحديد جهة، فالواجب أن يعطي صاحب الحق حقه من غير أن يتعين عليه جهة، وإذا ثبتت الحوالة من غير رضاه فقد عينت عليه جهة وألزم بما ليس بلازم له.
قوله [لا رضا المحال عليه]
لا يشترط رضا المحال عليه، وذلك لأن المحيل هو صاحب الدين، فله أن يستوفي الحق الواجب له في ذمة المحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه فكان كالوكالة بل أولى.
قوله [ولا رضا المحتال على مليء](14/14)
لا يشترط رضى المحتال، وهو الذي حول حقه من ذمة إلى ذمة، فلا يشترط رضاه إذا أحيل على مليء، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول ابن جرير وأبي ثور، وقال الجمهور بل يشترط رضاه، وحجة الحنابلة حديث: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) قالوا: وهذا يدل على وجوب قبول الحوالة، وحيث وجب قبولها فإن الرضا ليس بشرط، وأما الجمهور فحملوا الحديث على الاستحباب وقالوا: هو واجب له في ذمة هذا فلا يلزم بأن ينقل إلى ذمة أخرى، والصحيح وجوبه لأن نقله لا ضرر عليه فيه، كما لو أعطى حقه قبل حلول الأجل ولا ضرر عليه فإنه يلزم بقبوله، هذا إذا أحيل على مليء، والمليء هو القادر بماله وقوله وبدنه، كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله، فالقادر بماله هو القادر ماليا على الوفاء، والقادر بقوله هو الذي لا يماطل، والقادر ببدنه هو من يمكن أن يحضر مجلس الحاكم أي القاضي، وأما إذا كان لا يمكن إحضاره إلى مجلس القاضي كأن يحال على والده مثلا أو إلى أحد لا يمكنه أن يحضره إلى مجلس القاضي فإن الحوالة حينئذ لا تلزم المحتال.
قوله [وإن كان مفلسا ولم يكن رضي به رجع](14/15)
أي إذا كان المحال عليه مفلسا أو مماطلا ولم يكن المحتال قد رضي به رجع، أما إذا أخبره بأنه مفلس أو مماطل فرضي فليس له الرجوع، فالكلام في المسألة السابقة إذا كان مليئا، فإذا كان مليئا فلا يشترط رضا الدائن، وأما إذا لم يكن مليئا فيشترط رضاه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) وهذا لم يحل على مليء، وهذا لم يحل على مليء فله أن يفسخ الحوالة، وظاهره ولو كان جاهلا، وهذا هو المشهور من المذهب، بمعنى أحيل على أحد فظنه مليئا ولم يعلم أنه غير مليء فالحوالة صحيحة، وليس له أن يرجع، وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه أنه إن كان جاهلا مغررا له فإن الحوالة لا تثبت لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وهذا هو الراجح.
قوله [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلا فلا حوالة]
من أحيل بثمن المبيع أو أحيل بثمن المبيع عليه، فأصبح ثمن المبيع في المسألة الأولى محالا به، وفي المسألة الثانية محالا عليه، مثاله: إذا اشترى زيد من عمرو سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، فقد تعلق في ذمة المشتري ثمن المبيع، فحينئذ إن أحيل بهذا الثمن الثابت في ذمة المشتري فبان أن البيع باطل بأن تكون السلعة محرمة أو نحو ذلك فحينئذ تبطل الحوالة، وكذلك لو قال البائع لأحد الناس لي على عمرو ألف ريال مقابل سلعة قد بعتها عليه إلى شهر، فأنا أحيلك على هذا الثمن لتستوفي ما في ذمتي لك، فبان أن البيع الذي باعه التاجر على المحال عليه باطل، فإنه الحوالة هنا باطلة، وذلك لأن الحوالة مبنية على لزوم الثمن، وحيث بان أن البيع باطل، فإن الثمن لم يلزم أصلا، وعليه فالحوالة باطلة.
قوله [وإذا فسخ البيع لم تبطل](14/16)
إذن إذا بطل البيع بطلت، وإذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، وبيان هذا: اشتريت سلعة وكان البيع صحيحا، وكان الثمن إلى شهر، وكان في ذمة شخص لي دين إلى شهر، فأحلت البائع إلى ذلك الشخص، ثم ثبت أن في السلعة التي اشتريتها أمر يثبت الفسخ، فالحوالة هنا لا تبطل، وظاهره مطلقا سواء كان الفسخ بعد القبض أو قبل، بمعنى أحال عليك وأعطيت المال الذي في ذمتك لهذا المحتال، ثم ثبت العيب أو كان هذا قبل القبض، وذلك لأن الثمن لازم أثناء عقد الحوالة، وليس كالبيع الباطل، فإنه ليس بلازم، وإن ظن لازما، فهو في الظاهر لازم لكنه في الباطن ليس بلازم لأن البيع باطل.
قوله [ولهما أن يحيلا]
للبائع أن يحيل المشتري لمن أحاله عليه، وللمشتري أن يحيل البائع لمن أحاله عليه، وهذه إنما تكون قبل القبض، وصورة هذا: اشتريت هذه السلعة منك بألف ريال إلى شهر، وقلت: أنا أريد من فلان ألف ريال إلى شهر فخذها منه، ثم فسخ البيع قبل أن تقبض، إذا الحوالة ثابتة، فما هو المخرج منها، المخرج منها أن يقول ذلك الشخص الذي أحلت عليه للبائع: قد أحلتك على فلان فيعود علي، ومثال المسألة الأخرى إذا قال البائع لأحد من الناس أنا أريد من فلان ألف ريال مقابل سلعة قد اشتراها مني، فخذ دينك منها، فالحوالة قد ثبتت، لكن قبل أن يقبض فسخ البيع، فالآن قد برئت ذمة أحدهما، والدين قد انتقل إلى ذمة شخص آخر، فللآخر أن يحيل عليه مرة أخرى هذا إذا كان قبل القبض، أما إذا كان بعد القبض فإنه يرجع عليه بالثمن، مثاله: أحاله على شخص أجبني، ثم قبض المال من هذه الشخص الأجنبي ثم فسخ البيع فإنه يرجع عليه بالثمن.(14/17)
* وهنا مسألة: وهي إذا اختلفا فقال أحدهما قد وكلتك، وقال الآخر بل أحلتني، فالقول قول مدعي الوكالة، وذلك لأن الوكالة فيها إبقاء الحق، وأما الحوالة ففيها نقل الحق، والأصل هو إبقاء الحق، فمن ادعى الوكالة فالقول قوله، والبينة على الآخر.
باب الصلح
الصلح في اللغة: قطع المنازعة، أما في الاصطلاح فهي: عقد لازم يتوصل به إلى قطع المنازعة بين المتخاصمين، والبحث هنا في الصلح في الأموال، وقد دلت الشريعة على ثبوت الصلح فقال تعالى {والصلح خير} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} ، وروى الترمذي من حديث عمرو بن عوف وله شاهد من حديث أبي هريرة والحديث صحيح بطرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) [حم 8566، د 3594، حب 11 / 488، برقم 5091، كلهم من حديث أبي هريرة، ت 1352، جه 2353 من حديث عمرو بن عوف] والصلح نوعان:
1- صلح على إقرار.
2- صلح على إنكار.(14/18)
وهذا الفصل سيكون في الصلح على الإقرار، والصلح على الإقرار هو أن يقر المدعي عليه بالدعوى ثم يتصالحا على أن يسقط بعضه إن كان دينا أو يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضها، مثال الأول: ادعى أن له في ذمته ألف ريال، فأقر المدعي عليه بذلك، ثم وضع عنه المدعي مائة ريال قطعا للمنازعة، ومثال الثاني: أن يدعي عليه أن هذه الدار التي هو سيكنها له، فيقر المدعي عليه بذلك، ثم يتصالحا على أن يترك له المدعي شطرها هبة، ومثال الثالث: أن يقر له بهذه الدار، ثم يتصالحا على أن يعطيه عوضا عنها كأن يعطيه بستانا أو أرضا أو نحو ذلك، وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك قال يا كعب، قال لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي حدرد: قم فاقضه) [خ 471، م 1558] فهذا من الصلح على الإقرار، فقد وضع عنه شيئا من الدين الذي أقر به.
قوله [إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح]
قوله (أسقط) أي من الدين، وقوله (وهب) أي من العين، فإذا أقر له بدين أو أقر له بعين فأسقط من الدين أو وهب البعض من العين وترك الباقي صح، وهذا مذهب جماهير العلماء لما تقدم في حديث كعب بن مالك، وليس فيه إلا أن صاحب الحق قد تنازل عن شيء من حقه برضى منه فكان ذلك جائزا.
قوله [إن لم يكن شرطاه](14/19)
أي إن لم يكن الصلح مشروطا، فإن كان الصلح شرطا فلا، فإذا قال: لا أعطيك حقك إلا أن تضع عني بعضه أو لا أتنازل عن العين التي هي لك حتى تهبني بعضها أو حتى تأخذ عوضها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الصلح أحل حراما، وذلك لأن هذا الدين أو العين ملك له، وكذلك ما يراد دفعه العوض عنه كل هذا ملك له فإذا أجبر على شيء من ذلك فقد أجبر على أخذ شيء من حقه بغير رضا منه، وكان من أكل أموال الناس بالباطل.
* وهل يجوز - إن لم يكن عن شرط - أن يكون بلفظ الصلح؟
مثاله: أقر زيد لعمرو بأن في ذمته له مائة ألف، فقال زيد: قد صالحتك على عشرة آلاف، أو قال: صالحني على عشرة آلاف من غير شرط فصالحه، فهل يجوز ذلك؟
1- قال الحنابلة: لا يجوز ذلك، وذلك لأن لفظ الصلح هنا يقتضي المعاوضة، فكأنه قال: لا أعطيك حقك حتى تصالحني على كذا، وإن لم يكن هذا حقيقة الأمر لكن اللفظ يقتضيه.
2- وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد بل يصح ذلك، قالوا: لأن لفظ الصلح لا يقتضي المعاوضة في الأصل، وإنما يقتضي قطع المنازعة، وهذا هو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد وهذا هو الراجح، لأن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فحقيقة الأمر أنه لا شرط ولا معاوضة، فلا يؤثر هذا اللفظ.
قوله [وممن لا يصح تبرعه]
أي بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه فلا، ومعنى العبارة: إن لم يكن شرطاه وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، فإن كان ممن يصح تبرعه فهو جائز، فإذا كان الصلح من ولي أمر اليتيم فلا يصح، لأنه ولي لليتيم ولا يصح تبرعه، فهذا المال ليس له بل هو لليتيم، ولا مصلحة فيه لليتيم، فإنه إسقاط حق من باب الإحسان إلى الخلق فهو هدية أو هبة أو صدقه، وهذا ليس لولي اليتيم، لكن إن كان الحق لا يقدر عليه، ويخشى إن لم يصالح أن ينكر الخصم، فإن له أن يتبرع بشيء من مال اليتيم حفاظا على مصلحته.(14/20)
قوله [وإن وضع بعض الدين الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط]
مثاله لو قال: أنا أريد أن أحسن إليك بشيئين:
الأول: أحسن إليك بوضع بعض الدين عنك، والثاني: أؤجله لك، فمثلا عليه دين حال بألف ريال، فقال: أضع عنك الشطر وأؤجله إلى شهر، فقال هنا: صح الإسقاط دون التأجيل، أما صحة الإسقاط فما تقدم، فقد تنازل عن شيء من حقه برضاه من غير معاوضة، وأما التأجيل فلا يصح لأن الشيء الحال لا يتأجل، وقد تقدم الكلام على هذا في باب القرض، وتقدم اختيار مذهب مالك في هذه المسألة وأن الدين يتأجل بتأجيله، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فالصحيح أن الإسقاط يصح والتأجيل يصح، وهذا هو الراجح.
قوله [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا.... لم يصح]
مثاله: عليه في الذمة عشرة آلاف إلى سنة، فقال الدائن: أعطني خمسة آلاف حاله وأبرؤ ذمتك، فقد وضع شطرها، فهذا لا يجوز، وقد تقدم البحث في هذه المسألة وهي مسألة: ضع وتعجل، وأن الراجح جوازها كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قوله [أو بالعكس]
الذي يظهر أن العبارة تكرار للمسألة السابقة، وعليه فهي وهممن المؤلف، فإن العكس أن يقال: إن الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا، كأن يكون عليه مائة ألف حالة، فيقول: أعطني خمسين ألفا إلى سنة، فتكون المسألة هي التي تقدم ذكرها في قوله (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط) ، وفي موضع هذه الكلمة يذكر الحنابلة هذه المسألة كصاحب الأصل وهو المقنع، وغيره من كتب الحنابلة.
قوله [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه أو يبني له فوقه غرفة.... لم يصح](14/21)
وسبب عدم الصحة هو المعاوضة، فإذا أقر أن هذه الدار له بشرط أن يسكنها إلى سنة، أو قال له المدعي: أصالحك عن كذا وأقر لي بهذه الدار فهذه معاوضة على الحق المقر به، أو قال: هذا الحق الثابت لي اعطني إياه وأصالحك على أن تسكنه سنة أو تبني فوقه غرفة أو نحو ذلك، فهذا لا يصح للمعاوضة، فإنه قد حرم حلالا، فإن هذا مباح له، وحرم عليه إلا بعوض، سواء كان العوض سكنى أو بناء أو نحو ذلك.
قوله [أو صالح مكلفا ليقر له بالعبودية]
رجل حر، وقال له: أقر لي بالعبودية وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأن فيه تحليل ما حرم الله، فإن الله حرم العبودية على الحر، وهذا فيه تحليل ما حرم الله.
قوله [أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح]
إذا قال لامرأة أقري لي بأني زوج لك ولك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأنه استباحة فرج قد حرمه الله بغير طريق شرعي.
قوله [وإن بذلاهما له صلحا عن دعواه صح]
إذا قالا نحن نبذل لك العوض واترك هذه الدعوى فهذا يصح، مثاله: قال هذا الذي ادعى عليه العبودية وطلب منه الإقرار بها قال: أنا أعطيك العوض، ولا تدعي على هذه الدعوى، فإنه قد يتوصل إلى دعواه بالشهود ونحو ذلك، كذلك قالت هذه المرأة التي يدعي عليها الزوجية قالت: أنا أعطيك العوض ولا تدعي علي هذه الدعوى فإن هذا يصح، لأنه ليس فيه تحليل ما حرم الله، فإن العوض يعتق به العبد، والمال يفارق به الزوجة كما يكون في الخلع فلم يكن فيه تحليل ما حرم الله، ولكن في الباطن يحرم عليه إن كان بغير حق، لأن أكل لأموال الناس بالباطل.
قوله [وإن قال أقر بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح](14/22)
هذه من الحيل التي تخفى على الناس، إن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه النصف، ففعل هذا وأقر صح الإقرار لا الصلح، أما الإقرار فيصح لأنه حق ثابت قد أقر به، فلم يصح إنكاره، وأما الصلح فلا يصح لأنه حق ثابت له فلم يعط هذا الحق إلا بعوض فكان العوض باطلا.
* مسألة: هل يصح الصلح على شيء مجهول أم لا؟
في المسألة تفصيل:
- فإن كان هذا المجهول لا يمكن التوصل إليه فإن الصلح يصح.
- أما إذا كان يمكن التوصل إليه ومعرفته فإن الصلح لا يصح.
مثال الأول: إذا كانت هناك مواريث مجهولة، أو كانت هناك أراضي لا يدرى حدودها ولا يميز بينها ولا يمكن معرفة هذا، فتصالحا على شيء وتراضيا عليه، فلا بأس بذلك، للحاجة الداعية إليه، ولما فيه من إبراء الذمم، وإعطاء ما يمكن إعطاؤه من الحق، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود بإسناد حسن من حديث أم سلمة قالت: (جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قد قال لحجته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما - أي حديدة تسعر بها النار - في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لأخي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه [حم 26117، د 3584] ففي الحديث دلالة على جواز الصلح على شيء مجهول لا يمكن معرفته.
وأما إذا كان المجهول يمكن معرفته فقولان في مذهب الحنابلة:
القول الأول: هو الجواز.(14/23)
القول الثاني: هو المنع، مثال هذا: إذا صالح الورثة زوجة أبيهم على شيء من المال لتتنازل عن حقها من الإرث وهي لا يعلم قدر حقها، لكن يمكن معرفته بحصر مال مورثها، فهل يجوز هذا؟
قولان في المذهب، وأصحهما المنع من ذلك، لأنه معاوضة فأشبه البيع، وبيع المجهول لا يجوز إلا عند الحاجة إليه، ولأن فيه غررا ومخاطرة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر.
فصل
تقدم الكلام على الصلح على الإقرار، وهان فصل في الصلح على الإنكار، أي أن يصالح المدعى عليه المدعي مع عدم إقراره، فهو لا يقر بالدعوى التي ادعيت عليه في ماله لكنه يصالح المدعي قطعا للخصومة وصيانة للمال وإبراء للذمة، مثال ذلك: أن يعدي عليه أن هذه الدار ليست له، وهي في يده، فيصالح المدعي على شيء من المال يعطيه إياه أو شيء مما تقدم ذكر كأن يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضا، فهذا هو الصلح على الإنكار، وجمهور أهل العلم على القول به، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين) ولما تقدم من جواز الصلح الذي بمعنى البيع وهو أن يدعي عليه أن هذه الدار ليست له فيقر بذلك لكن يقول: صالحني على أن تأخذ موضعها بستاني فهذا جائز باتفاق أهل العلم فكذلك الصلح على الإنكار، ومنع الشافعية من الصلح على الإنكار وقالوا: لا يجوز، لأنه عاوض على شيء لم يثبت له، فإن المدعي لم يثبت حق له على المدعى عليه، فإن المدعى عليه لم يقر، فيكون هذا المدعي قد أكل مال أخيه بالباطل، وقد عاوض عما لم يثبت له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) ، قالوا: وهذا قد أحل حراما، فإن مال المسلم محرم، وهذا الصلح قد أحله، والجواب عند جمهور العلماء عما ذكره الشافعية هو كالتالي:(14/24)
أما قولهم إنه عاوض على ما لم يثبت له، فالجواب: أنه عاوض على شيء قد ثبت عنده، فهو يعلم أن الحق له، وقد ادعى ذلك، وهو يعتقد أن الحق له، ولذلك عاوض عنه، هذا في جهة المدعي، أما في جهة المدعى عليه فإنه قد دفع ما دفع قطعا للخصومة وإبراء للذمة وتركا لليمين التي يطالب بها، فلم يكن في ذلك شيء مما ذكره الشافعية، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ الصلح الذي يتوصل به إلى تحليل الحرام، فهو ما زال محرما، ومع ذلك فإن هذا الصلح يتوصل به إلى تحليله، فهذا الصلح محرم وممنوع، كأن يتوصل بالصلح إلى حل الربا أو تعبيد الحر أو تحليل البضع ونحو ذلك، وعليه فما ذهب إليه جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والحنابلة هو القول الراجح في هذه المسالة خلافا لمذهب الشافعية.
قوله [ومن ادعى عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح عليه بمال صح]
قوله (بعين) كأن يعدي عليه أن هذه الدار التي بيده ليست له، وإنما لفلان، وقوله (دين) كأن يدعي عليه إنسان أن له عليه ألف ردهم ونحو ذلك، أو يدعي عليه أن اشترى سلعة بثمن مؤجل إلى شهر ولم يدفع الثمن بعد، وقوله (فسكت) أي ولم يقر، فهو صلح على عدم إقرار سواء كان على إنكار أو سكوت، والسكوت بمعنى الإنكار فإنه لم يقر به، وقوله (وهو يجهله) أي يجهل ثبوت هذا الشيء، فهو يظن أنه لا يثبت، وقوله (ثم صالح عليه بمال صح) فإذا صالح بمال كأن يقول هذه الدار التي ادعيت أنها لك أصالحك عليها بمائة ألف ريال، أو أصالحك بأن أعطيك بعضها فهذا يصح، وهو الصلح على الإنكار وتقدم دليله، وأن هذا القول هو مذهب جمهور العلماء.
قوله [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح ويؤخذ منه بشفعة، وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة]
هنا مسألة: وهي هل الصلح على الإنكار بيع أم لا؟(14/25)
أي هل هو بيع فتثبت فيه أحكام البيع، أم ليس بيعا فلا تترتب عليه أحكام البيع؟
المسألة ذات جهتين:
1- الجهة الأولى: جهة المصالح - بكسر اللام - وهو المدعى عليه.
2- الجهة الثانية: جهة المصالح - بفتح اللام - وهو المدعي.
أما المدعى عليه فليس الصلح في حقه بيعا، وإنما دفعه إبراء للذمة، وليس فيه معاوضة.
أما في حق المدعي فإنها معاوضة، لأنه يعتقد أن هذه الدار له، فعاوض عنها بكذا من الدراهم، فكأن هذا بيعا في حقه، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان الصلح على شيء من هذه الذي يثبت الادعاء فيه، فإن هذا يكون استرجاعا لا معاوضة، ففي المثال المتقدم ذكر وهو مثال الدار، فإذا قال: أصالحك على أن أعطيك جزءا منها فأعطاه الجزء، فلا يكون معاوضة في حق المدعي وذلك لأن الأمر لا يعدو أن يكون استرجاعا للحق، فهو يعتقد أن الدار له، وقد استرجع بعضها فلا يكون هذا فيه معنى المعاوضة، وإنما تكون المعاوضة حيث كان ما وقع عليه الصلح فيه شيئا آخر سوى هذه العين التي اختلف عليها.
إذا ثبت هذا فإن الصلح في حق المدعي يترتب عليه أحكام البيع، وأما الآخر فلا تترتب عليه أحكام البيع، وعليه فإذا وجد المدعي عيبا فله أخذه مع الأرش على القول به كالبيع، وله أن يفسخ الصلح كالبيع، ويتثبت فيه الشفعة، وسيأتي الكلام عليها، وأما المدعى عليه فالصلح في حقه إبراء.
قوله [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطنا وما أخذه حرام]
إذا كان أحدهما كاذبا في الدعوى، سواء كذب في الدعوى أو كذب في الإنكار فلا يجوز له ما أخذه، فالمدعى عليه إذا كان كاذبا وسكت أو أنكر فبقي له شيء من هذه الدار فلا يحل له هذا البعض وهو يعلم كذب نفسه، وكذلك المدعي لو ادعى على شخص شيئا وهو يعلم كذب نفسه فأخذ مالا مصالحة فما أخذه يعتبر حراما، وهو في حكم الغصب، وهو من أكل أموال الناس بالباطل.
قوله [ولا يصح بعوض عن سرقة وقذف](14/26)
رجل ثبت عليه السرقة أو ثبت عليه حد القذف فهل يجوز الصلح فيه؟
الجواب: لا يجوز الصلح فيه، وذلك لأنه حق لا يعتاض عليه، فليس من الحقوق التي يؤخذ عليها العوض، فمثلا: إذا ثبت قذف رجل لآخر، فقال المقذوف أصالحه على كذا من المال، أو قال المسروق منه أصالحه على كذا من المال، فهذا لا يجوز ولا يصح الصلح فيه.
وأما القصاص والقود فيصح الصلح فيه وذلك لأنه حق يعتاض عليه في الدية، فإذا ثبت القصاص ولم يرض أولياء المقتول بالدية فلأولياء القاتل أو للقاتل أن يعرضوا عليهم أكثر من الدية ولو كان ذلك أضعافا مضاعفة، وذلك لأن القصاص حق يعتاض عنه.
قوله [ولا حق شفعة]
حق الشفعة لا يحوز فيه الصلح، مثال هذا: ارض فيها شراكة، فباع أحد الشركاء نصيبه من الأرض المشترك فيها، فتثبت الشفعة للطرف الآخر، فله الحق أن يشتري هذا الجزء المباع على ما سيأتي تفصيله في باب الشفعة، فحق الشفعة ثابت للشريك، فهل يجوز لهذا الشريك أن يعتاض عن حق الشفعة بمال؟
الجواب: لا يجوز ذلك، قالوا: لأن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك ولم تشرع للاستفادة المالية، قالوا: وكذلك الخيار فليس له أن يبيع حقه من الخيار، كأن يكون الخيار بينهما مدة شهر، فيقول أسقط حق الخيار بكذا وكذا، قالوا: كذلك لا يجوز هذا، وذلك لأن الخيار إنما شرع لأن يختار ما هو أحظ له، لا ليستفيد منه استفادة مالية، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني: أن ذلك جائز لأنها معاملة والأصل في المعاملات الحل، وكون الشارع لم يشرعه إلا لدفع الضرر لا يعني هذا أن الاستفادة المالية لا تجوز، وهو حق له، وقد اختار لنفسه احتمال الضرر من الشريك ورضي بذلك مقابل المال فلم يمنع من ذلك، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو الراجح.
قوله [وترك شهادة](14/27)
لا يجوز الصلح على ترك الشهادة، سواء كانت شهادة حق أم شهادة باطل، مثال شهادة الحق: قال به أصالحك على ألا تشهد علي، وهي شهادة حق فيها إثبات حق مالي عليه، أو فيها إثبات قصاص أو نحو ذلك، فهذا محرم، لأنه كتمان للشهادة، وقد حرم الله كتمانها، وإذا كانت الشهادة بالباطل فلا يجوز الصلح عليها، لأنه يكون قد أكل مال أخيه بالباطل، مثاله: إذا قال: أصالحك على ألا تشهد علي، وكان هذا الشاهد يريد أن يشهد عليه شهادة زور، فقال: لا تشهد علي وأعطيك كذا وكذا صلحا، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الشاهد يأكل المال بالباطل، ولا يظهر هنا أن هذا محرم، مع حرمة ذلك على الشاهد، وذلك لأن فيه دفعا للضرر عن نفسه.
قوله [وتسقط الشفعة والحد]
بيان هذا، إذا قال له: أسقط حق الشفعة ولك كذا وكذا، أو قال الشريك أصالحك على ألا شفعة لي وأعطني كذا وكذا من المال، فهذا الصلح محرم كما تقدم، وهل تبقى الشفعة، قالوا: لا، بل تسقط عنه الشفعة، فليس له بعد هذا الصلح المحرم حق في الشفعة، والعوض الذي أخذه يرده على صاحبه، أما سقوط الشفعة فلأنه رضي بإسقاط الشفعة بهذا المال الذي عرض عليه، وأما رد العوض فلأنه صلح باطل، والقول الثاني في المسألة في مذهب الحنابلة أن الشفعة لا تسقط، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه إنما رضي بإسقاط الشفعة مقابل هذا المال، فإذا ثبت أنه لا حق له في هذا المال، على القول بذلك فحينئذ ينتفي رضاه، فهو إنما رضي بشرط العوض، وحيث لا عوض فلا رضى، وحيث لا رضى فالشفعة لا تسقط، وعلى القول بصحة الصلح في الشفعة وهو الراجح كما تقدم فلا إشكال في هذه المسألة.(14/28)
قالوا: وإذا ثبت الصلح في حد السرقة أو قذف فإن الحد يسقط ويرد العوض على صاحبه، أما سقوط الحد فلأنه رضي بإسقاطه، وأما رد العوض فلأن الصلح باطل، والجواب أن يقال: إنه إنما رضي بإسقاطه حيث ثبت العوض وأما إن لم يثبت العوض فلا رضا، وهذا على القول بأن الحد حق للآدمي كحد القذف، والصواب أنه حق لله تعالى وللآدمي، فلا يسقط بإسقاط الآدمي له، فإذا أسقط المقذوف حقه فإن الحد لا يسقط لبقاء حق الله عز وجل، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب الحدود، وعلى هذا فالصحيح أن الشفعة يثبت فيها الصلح، وأن الحدود إن كان يعتاض عنها كحد القصاص فإن الصلح يثبت فيها، وأما إن كانت لا يعتاض عنها كحد القذف وحد السرقة فلا صلح فيها كما سبق بيانه.
* واعلم أن صلح الأجنبي عن المنكر صحيح سواء كان بإذن المنكر أو بدون إذنه، مثال هذا: ادعى زيد على عمرو أن الدار التي بيد عمرو له، فصالح أجنبي وهو بكر، صالح زيدا على كذا وكذا من المال، مقابل ترد هذه الدعوى وقطع هذه الخصومة عن عمرو، فإن هذا الصلح جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أو لم يأذن، وقد تقدم فيما مضى ما إذا صالح المدعى عليه عن نفسه، وإذا صالح الأجنبي عنه فإن هذا جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أم لم يأذن، وذلك لأن الصلح فيه إبراء للذمة وقطع للخصومة فأشبه قضاء الدين عنه، وتقدم أن قضاء الدين عنه جائز أن أم لم يأذن.
** وهل يرجع عليه أم لا؟
الجواب فيه تفصيل:
- إذا أذن له المدعى عليه بالمصالحة عنه، ولم ينو هذا الأجنبي التبرع بل نوى الرجوع، فإنه يرجع عليه فيأخذ حقه ويكون كالوكيل.(14/29)
- وأما إذا لم يؤذن له بذلك وتصرف من غير إذن فإنه لا يرجع مطلقا سواء نوى التبرع أم لم ينوه، لأن هذا الصلح غير لازم للمنكر فإنه يمكنه أن يدفع هذه الخصومة باليمين فلم يكن هذا الصلح لازما في حقه، فحينئذ لا يلزمه أن يعطي الأجنبي ما دفعه من المال في هذا الصلح، لأنه قد تصرف عنه بما لا يلزمه، فلا يجب عليه كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه.
قوله [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]
هنا في أحكام الجوار وهي داخلة في مسائل الصلح، لأن الصلح يجوز في مسائل منها يأتي ذكرها إن شاء الله، أو أن يكون هذا من باب ذكر الشيء مع ما يناسبه.
فإذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله، لأن مالك القرار مالك للهواء، فمن ملك أرضا فإنه يملك هواءها، وتقدم هذا في باب بيع الأصول والثمار، فإذا غرس جاره شجرة في ملك نفسه فخرجت أغصانها إلى قرار أرض جاره أو هوائها وطالبه الجار بإزالة ذلك فإنه يجب عليه أن يزيلها، ولذا قال المؤلف هنا (أزاله) ، هذا إذا كان يطلب منه ذلك، وهل يجبر على هذا أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو المشهور من المذهب أنه لا يجبر، قالوا: لأنه هذا ليس من فعله.
القول الثاني: وهو الراجح أنه يجبر على هذا، لأنه وإن لم يكن من فعله فهو من فعل ملكه، وهذا الشجر في ملكه، والشجر غير مكلف فكان التكليف لاحقا للمالك، فعليه أن يزيله، فإن أجبره الحاكم فلم يفعل فترتب ضرر بعد مطالبة الجار فإنه حينئذ يضمن لأنه قد تعدى والمتعدي ضامن.
قوله [فإن أبى لواه إن أمكن وإلا قطعه](14/30)
فإن أبى أن يزيله فإنه يلويه، أي يلوي الجار الغصن الذي خرج على أرضه، يلويه إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فله أن يقطعه وليس له أن يقطعه مع إمكان ليه، فإن قطعه مع إمكان ليه فإنه يضمن لأنه متعدي والمتعدي ضامن، إذن يلويه فإن لم يمكنه فإنه يقطعه ولا ضمان عليه حينئذ للحوق الضرر به، وكان هذا كالصائل الذي لا يدفع إلا بالقتل.
كذلك عروق الشجر إذا دخلت في أرضه فكذلك لأن الشخص يملك الأرض وقرارها، ولا يجوز لصاحب الملك أن يضع في ملكه ما يتضرر به جاره، كأن يغرس فيه أثلا أو أن يضع فيه تنورا، أو يضع فيه حماما فيه بخار بحيث يلحق الجار ضرر، فهذا لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [حم 2862، جه 2340] فهو يتصرف في ملكه بما شاء في حدود ما أباحه الله، لكن ليس له أن يفعل في ملكه ما يكون فيه ضرر على جاره.
قوله [ويجوز في الدرب النفاذ فتح الأبواب للاستطراق]
الدرب النافذ هو الذي ثبتت فيه الملكية العامة وليست خاصة، فله أن يفتح عليه الأبواب للاستطراق أي لتكون طريقا، فهذا جائز ولا خلاف فيه جوازه، لأن هذا لا يضر بالمجتازين والحاجة داعية إليه، وما زال المسلمون يفعلونه قديما وحديثا من غير نكير.
قوله [لا إخراج روشن وساباط](14/31)
الروشن: كان موجودا قديما ويوجد أيضا في البيوت المسلحة، وهو أن يضع شيئا من الأخشاب ونحوها فتمتد إلى الخارج ثم يبني عليه ما يقارب المتر أو المترين ونحوه، أما الساباط فهو أن تمتد الأخشاب حتى تصل إلى الجدار المقابل سواء كان جداره أو جدار غيره ثم يبني عليه، فلا يجوز أن يضع الروشن والساباط، قالوا: لأن الهواء ملك لغيره، فإذا بناه فقد بناه على ملك غيره، ولأنه قد يضر بالمجتازين بالسقوط، فقد يسقط، ولأنه - لاسيما الساباط - يسد الهواء، ويمنع دخول الضوء، قالوا: فلا يجوز إلا بإذن السلطان، فإذا أذن فإنه يجوز ذلك، لأن السلطان نائب المسلمين، وهو حق للمسلمين، فإذا أذن فيه السلطان وهو نائبهم جاز، وعن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء أن ذلك جائز حيث لا ضرر، وأما المذهب فإنهم يمنعون منه مطلقا سواء كان فيه ضرر أم لم يكن، قال الجمهور: يجوز ذلك إذا لم يكن فيه ضرر، لأن الطريق يسلكه المارة ويجلسون فيه، فكذلك يجوز هذا، واجب الحنابلة بأن المشي في الطريق إنما وضع الطريق له، لم يمنع منه، ولأن الجلوس في الطرقات لا يدوم ولا يمكن التحرز منه بخلاف هذا، وما ذهب إليه الحنابلة أظهر وأنه يحتاج إلى إذن السلطان، وذلك لأن هذا الهواء ملك عام للمسلمين فاحتيج إلى إذنهم، والسلطان هو نائبهم، وبناءه بغير إذن تصرف في ملك الغير، ولأنه قد يقع فيه ضرر، ولا شك أن فتحه من غير إذن السلطان قد يترتب عليه مفاسد كثيرة، فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة.
قوله [ودكة](14/32)
الدكة هي المكان المرتفع يبنى عند الدار ويجلس عليه، وهذا لا يجوز، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز، كما قال ذلك الموفق، فلا يجوز هذا سواء كان الطريق واسعا أو ضيقا لأنه تصرف في الملكية العامة، وأما إذا أذن السلطان فإنه يجوز لأنه نائب المسلمين، ولا ينبغي للسلطان أن يأذن إلا إذا لم يكن هناك ضرر بالمارة، بل إذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز ولو أذن السلطان لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
قوله [ولا ميزاب]
لا يجوز أن يوضع الميزاب، بحيث يصب في الطريق، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يزلق الطريق، ولأنه قد يؤذي المارة فيصب عليهم، وعليه فيحتاج إلى إذن من السلطان، والقول الثاني في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قالوا: لأن الحاجة داعية إلى وضعه لأنه يدفع الضرر عن البيت، وعادة الناس جارية على وضعه قديما وحديثا ولا نكير فيه، وكونه يزلق ويؤذي المارة فإن هذا ضرر ضعيف بالنسبة إلى الضرر الذي يقع في بيوت الناس، وكون الزلق في الطريق هذا يقع مع الأمطار ومع سيل الماء من البيوت وهذا يقع غالبا، فيكون حدوث هذا في ضمن حدوث غيره، فالذي يظهر أنه لا يحتاج إلى إذن من السلطان لأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به.
قوله [ولا يفعل ذلك في ملك جاره ودرب مشترك بلا إذن المستحق]
فليس له أن يضع في هواء جاره روشنا ولا ساباطا ولا ميزابا ولا دكة ولا غير ذلك، وذلك لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه فلم يحل، كذلك الدرب المشترك لا يحل له أن يفعل فيه مثل هذا، بل يتوقف هذا على إذن المشارك لأن فيه ملكية للغير فاحتيج منه إلى الإذن، فإن أذن فهذا جائز.
قوله [وليس له وضع خشبة على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به وكذلك المسجد وغيره]
يجوز له أن يضع خشبة على حائط جاره بشرطين:(14/33)
الأول: ألا يكون في ذلك ضرر على الجار، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
الثاني: أن تكون هناك ضرورة لذلك، أما إذا كانت حاجة فلا، فإذا كان يمكنه أن يضع الخشب على غير جدار جاره كأن ينصب خشبا فيضعها عليه أو أن يضع جدارا آخر فإنه ليس له أن يفعل ذلك - هذا هو كلام المؤلف - وكذلك المسجد وغيره كالوقف من باب أولى، لأنه إذا ثبت في حق الآدمي المبني حقه على المشاحة ففي حق الله المبني على المسامحة أولى، ودليل هذه المسألة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) متفق عليه من حديث أبي هريرة [خ 2463، م 1609] وظاهر الحديث عدم اشتراط الضرورة، فالحديث عام في الضرورة وغيرها، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة، وأن الجار له أن يغرز خشبه على جدار جاره حيث لا ضرر على الجار، وإن لم تكن هناك ضرورة، وهذا القول هو الموافق لظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح أنه لا يشترط الضرورة، بل ذلك جائز حيث لا ضرر لعموم الحديث، وقال جمهور العلماء: لا بد من الإذن، وحملوا الحديث على الكراهية، وأن له أن يمنع لكن يكره له المنع، وهذا يخالف ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظاهر قوله التحريم، قال الجمهور: ليس له أن يضع خشبه على جدار جاره عند الضرورة مع عدم الضرر إلا بإذن الجار، واستدلوا بالأحاديث العامة في أنه لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه [حم 20172] والجواب: أن هذا الحديث عام، والحديث الذي استدل به الحنابلة خاص، فيخصص عموم هذا بهذا، إذن له أن يغرز الخشبة في جدار جاره من غير إن حيث لا ضرر سواء أكانت هناك ضرورة أم لم تكن.
قوله [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه](14/34)
إذا انهدم جدارهما المشترك، أو خيف ضرره أي خيف أن يسقط كأن يظهر فيه انهدام أو شيء من الاعوجاج ونحو ذلك، فطلب أحدهما من الآخر أن يعمره معه فإنه يجبر على ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وقال الأحناف والشافعية لا يجبر على ذلك، أما دليل أهل القول الأول فهو حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وانهدامه يضر بالجار، واستدل أهل القول الثاني بعلة وهي أن هذا الجار الذي لم يشأ أن يبني جداره لا يلزمه أن يبنيه، والجدار لا حرمة له، فلم يجب عليه أن ينفق عليه، فالنفقة غير واجبة في بنائه وإصلاحه ونحو ذلك، وما ذكروه صحيح حيث كان الجدار له وحده، أما وله مشارك فلا يظهر تعليلهم، وعليه فالراجح هو القول الأول، ويؤيده ما سبق ذكره في الرهن وأنه يلزم بالنفقة على الرهن حيث كان هناك ضرر على الآخر، وهنا كذلك.
قوله [وكذا النهر والدولاب والقناة]
كذلك النهر إذا احتاج إلى إصلاح فإن كل من يستفيد من هذا النهر فإنه يلزم بهذا الإصلاح، وهذا يتضح في الأنهار التي تحتاج إلى إصلاح وتعمير وحفر، وذلك لأنه شيء مشترك فأشبه المسألة المتقدمة، فإن الحقوق متعلقة به، بخلاف ما لو كان منفردا، كذلك الدولاب، وهو الذي تديره الدابة للسقي بمعنى: يكون في البئر أو عند النهر فتديره الدواب فيسقي منه الناس، فالدولاب إذا احتاج إلى إصلاح فكذلك كما يكون في الجدار، وكذلك القناة، وهي ما يشق من النهر مما يكون مجرى للماء، أي يجري إلى بعض مزارع الناس أو إلى بيوتهم، فكذلك إذا احتاج إلى إصلاح فإنه يجبر الآخرون، لأنه حق مشترك، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .(14/35)
ومن هذا الحديث يؤخذ أن الجار إذا كان منزله عاليا فإنه يؤمر بوضع سترة تمنعه من الإشراف على جيرانه، وأما إن كانت البيوت متساوية في العلو ويشرف بعضها على بعض فإن السترة يشترك فيها، وذلك لما تقدم في الجدار المشترك، فهنا ما دام أن البيوت متساوية فإن السترة يشترك فيها، فإذا أراد بعض الجيران عمل سترة فإن له أن يطالب بقية الجيران بوضع السترة لأنه حق مشترك.
* مسألة:
هل يجوز أن يقول الجار لجاره: آذن لك أن تجعل الأغصان تمتد، ولكن آخذ منك جزءا من ثمرها أو آخذ منك كذا وكذا من الدراهم؟
الجواب: هذا جائز، فإن قيل: امتداد الأغصان مجهور، فأصبح المصالح عنه مجهولا فلا يجوز، فالجواب: أن هذا المصالح عنه مجهول لا يمكن العلم به، فأشبه الإرث الدارس، وحيث كان المصالح عنه مجهولا يحتاج إليه ولا يمكن معرفته فإن الصلح جائز كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه، وفي المسألة قولان في المذهب، فالمشهور من المذهب المنع منه لأن المصالح عنه مجهول، والقول الثاني أنه جائز، قال الموفق: " واللائق في مذهب أحمد صحته " ا. هـ.
باب الحجر
الحجر لغة: المنع، وفي اصطلاح الفقهاء: منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر نوعان:
1- حجر لحظ النفس، كالحجر على الصبي في ماله.
2- حجر لحظ الغير، كالحجر على المفلس.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه حجر على معاذ في ماله وباعه في دين كان عليه) [هق 6 / 48، قط 4 / 230] وعليه العمل، وله شاهد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من فعله، رواه مالك في موطئه أنه حجر على رجل من جهينة [ك 1501، كتاب الأقضية] والعمل على هذا عند أهل العلم، وفيه حفظ للحقوق، فالحجر على الغير فيه حفظ لحقوق الغير من الضياع، فالحجر على المفلس فيه حفظ لحقوق الدائنين من الضياع، كما أن في ذلك إبراء للذمة من هذا الدين، والحجر لحظ النفس فيه حفظ لمال المحجور عليه من الضياع.(14/36)
قوله [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به وحرم حبسه]
مثاله: رجل مدين سواء كان عن قرض أو عن ثمن مبيع أو نحو ذلك، ففي ذمته ديون لا يقدر على وفائها فهو معسر، فتحرم مطالبته بالدين لإعساره ويحرم حبسه، ودليل ذلك قول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فأوجب الله إنظاره فحرمت المطالبة وحرم حبسه، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلا أصيب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فأفلس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) [م 1556] فدل على أنهم ليس لهم مطالبته وأنه ليس للحاكم أن يحبسه، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [ن 4689، د 3628، جه 2427] أي مماطلة الغني تحل عرضه أي أن يقال: مطلني، وتحل عقوبته: أي الحبس، قال ذلك سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري قال:" عرضه أن يقول: مطلني، وعقوبته: الحبس " [خ كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس] ، ومفهوم هذا الحديث أن غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته، فعليه: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به، وحرم حبسه، وأما إن كان معروفا بالغنى أو كان قد اشترى شيئا عن عوض، كأن يشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم ادعى الإعسار، فإنه يحتاج إلى بينة تثبت إعساره، لأن الأصل بقاء هذا المبيع الذي قد اشتراه بثمن، والأصل أيضا بقاء غناه، فهو معروف بالغنى، فإذا ادعى الإعسار لم يقبل ذلك إلا أن يأتي ببينة، فإن لم يأت ببينة فإنه يحبس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن البينة على الإعسار أن يشهد شاهدان، فإن شهد اثنان على أنه معسر فإن ذلك(14/37)
يكفي، وعن الإمام أحمد وهو مذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية وهو اختيار ابن القيم أنه لا يكفي لإثبات إعساره إلا ثلاثة، فإذا شهد ثلاثة ممن يخبر حاله على أنه معسر فإن الإعسار يثبت، ودليل هذا ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش) [م 1044] ، فإذا كان هذا في المسألة وفي جواز إعطاء الزكاة، فأولى من ذلك ما يسقط به أداء الدين، فلا شك أن الاحتياط في قضاء حقوق الناس أولى من المسألة ومن إعطائه شيئا من الزكاة، وهذا القول هو الراجح، وأن البينة المثبتة للإعسار يشترط أن يكون ثلاثة ممن يخبر حاله.
قوله [ومن له مال قدر دينه لم يحجر عليه وأمر بوفائه]
من ماله قدر دينه فإنه لا يحجر عليه، إذ لا فائدة من الحجر، فالمقصود من الحجر حفظ حقوق الناس، وحيث إن ماله قدر دينه فلا فائدة من الحجر، وفي بعض الشروح:" ومن له قدرة على وفاء دينه "، فلا يحجر عليه إذا لا فائدة من الحجر وهو قادر، لكن يؤمر بالوفاء وذلك لأن مطله ظلم، والواجب على الحاكم أن يمنع الظلم والمماطلة.(14/38)
واعلم أن المفلس الذي يحجر عليه عند الفقهاء كما هو المشهور عندهم هو من دينه أكثر من ماله، وعليه فإذا كان دينه قدر ماله فإنه لا يحجر عليه، وقد تقدم أن في بعض النسخ كما في بعض النسخ من الروض:" ومن له قدرة "، هذا هو المشهور في مذهب الفقهاء، وفي هذا نظر، فإن العلة التي يحجر بها على من كان دينه أكثر من ماله هي تعلق حقوق الغرماء ذوي الديون الحالة، وهذه العلة ثابتة أيضا فيما إذا كان ماله قدر دينه، ولذا قال بعض الحنابلة:" وكذلك إذا كان قدره ولا كسب له وليس له ما ينفق على نفسه سواه "، وهو كما قال لما تقدم، والأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، فحقوق الغرماء متعلقة بماله حيث كان دينه قدر ماله كأن تكون عنده حلي تساوي عشرة آلاف، وعليه دين يساوي عشرة آلاف، وليس له طريق يتكسب به، فنفقته من هذه الحلي أن يبيعها، فإنه يحجر عليه، أما إذا كان له كسب آخر يأكل منه وينفق منه على نفسه، أو كانت له صنعة ينفق على نفسه منها فإنه كما قال الفقهاء، إذن إذا كان لا مال له سوى هذا المال الذي تعلقت به ديون الناس فإنه يحجر عليه، وعلى هذا فالراجح هو ما ذكره بعض الحنابلة من أن المفلس من كان دينه أكثر من ماله، أو قدر ماله ولا كسب له سواه.
* وهل للغريم أن يمنع مدينه من السفر أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل لا بد أن يستأذن المدين الدائن عندما يريد السفر؟
المسألة فيها تفصيل:
الحالة الأولى: أن يكون قدومه من سفره قبل حلول الأجل المتفق عليه، فهنا ليس للدائن أن يمنع المدين من السفر، إلا أن يكون السفر سفرا غير آمن كسفر الجهاد ونحوه فله أن يمنعه، إلا أن يقيم ضمينا أو رهنا.
الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد حلول الأجل، فهنا يشترط الاستئذان لتعلق حق الغريم، إلا أن يقيم رهنا أو ضمينا.
قوله [فإن أبى حبس بطلب ربه]
فإذا أبى الوفاء فإنه يحبس بطلب رب المال فإنه حقه.(14/39)
قوله [فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه]
إذا أصر وأبى أن يقضي صاحب الحق حقه فحينئذ يباع ماله عليه ويعطى صاحب الحق حقه، لأن هذا من منع الظلم ومنع الظلم واجب، ودليل حبسه حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) وهذا لي منه، ولأنه كما قال صاحب الإنصاف:" الغالب أن الحقوق لا تستخرج إلا به - أي بالحبس - أو ما هو أشد منه في الأزمنة المتأخرة " ا. هـ وظاهر كلام المؤلف وغيره من الحنابلة أنه يحبس مطلقا ولو عارض ذلك حق آخر، كأن يكون أجيرا فيكون في حبسه تضييع حق مؤجره، أو أن تكون زوجة فيكون في حبسها تضييع لحق زوجها، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إذا عارضه حق آخر فإنه لا يحبس وذلك لأنه يمكن أن يجبر على إعطاء الحق بغير حبس، فكان هذا الإجبار بغير الحبس تحصيل للحقين، فيحصل الزوج حقه من زوجته، ويحصل الدائن حقه من مدينه بغير حبس، وهذا هو الظاهر إن أمكن ذلك، فإذا أمكن أن يحجر على المرأة في بيتها وأن تحبس في بيتها فتمنع من الخروج وكان في استطاعة الزوج منعها من ذلك، وكذلك إذا كان هناك قدرة على حبس الأجير ومنعه من غير أن يحبس في غرفة ونحو ذلك فأمكن حفظ حق الغريم من غير أن يكون هناك حبس وأمكن جبره على إعطاء الحق فإن ذلك هو الأولى.(14/40)
والحجر لا يثبت إلا بحكم الحاكم، وهذا قول الحنابلة وعليه فله أن يتصرف قبل حجر الحاكم عليه، وإن كان هذا التصرف يضر بغرمائه، فمثلا: رجل مدين، وقد استوفت الديون أمواله، فتصدق بشيء من ماله أو أوقفه أو أهداه أو تصرف فيه بأي شيء من التصرفات التي تضر بالغرماء فصريح كلام الحنابلة أنه ينفذ تصرفه ويصح، وإنما لا ينفذ إذا حكم الحاكم بالحجر عليه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الحجر يثبت قبل حكم الحاكم متى توفرت دواعيه، فإذا توفر داعي الحجر فليس له أن يتصرف ولا تنفذ تصرفاته، فإذا كان الرجل مدينا وكان في تصرفه ضرر على الدائنين فإن هذا التصرف لا ينفذ، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما في من حفظ حقوق الناس، فلو أعتق لم ينفذ عتقه، ولو تصدق لم تنفذ صدقته وهكذا سائر الأحكام، وحكم الحاكم بالحجر لا يعدو أن يكون إظهارا لمنعه من التصرف وإلا فهو ممنوع من التصرف قبل ذلك، لأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما والعلة ثابتة قبل حكم الحاكم.
قوله [ولا يطلب بمؤجل]
وهذا ظاهر، فإن المؤجل لا يجب أداؤه إلا عند حلوله، فإذا لم يحل فإن أداءه غير واجب، وعليه فلا يطالب به لأنه ليس بواجب.
قوله [ومن ماله لا يفي بما عليه حالا وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم]
لما تقدم من حديث معاذ وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وتقدم أن العمل عليه عند أهل العلم، فمن كان ماله لا يفي بما عليه من الديون الحالة فإنه يحجر عليه، بسؤال غرمائه أو بعضهم، لأنهم أصحاب الحق، وتقدم القول بأنه يحجر عليه قبل حكم الحاكم لتعلق حقوقهم بذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
قوله [ويستحب إظهاره]
أي يستحب إعلان وإظهار ذلك، ليكون تصرف الناس معه على بصيرة، فيظهر ويبين لئلا يغتر به الناس، فيتصرفون معه تصرفا يضر بهم.(14/41)
قوله [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه]
إذا حجر عليه فإنه لا ينفذ تصرفه في ماله، وذلك حق الغريم، فلو أعتق لم ينفذ، ولو وهب أو أوقف وقد حجر عليه فإن هذه التصرفات لا تنفذ، وكذلك لو أقر فإن إقراره يمنع منه وذلك لتعلق حق الغرماء بماله، فيمنع من الإقرار ولا ينفذ إقراره، وظاهر كلامه أن عدم نفوذ تصرفه وإقراره أن ذلك بعد الحجر وأما قبل الحجر فإنه يصح، والصحيح أنه لا يصح لا قبل الحجر - أي حجر الحاكم عليه - ولا بعده، إلا أن الإقرار يصح قبل الحجر إذا أمكن كأن تكون هناك قرائن تدل على ثبوت هذا الإقرار وصحته فإنه يقبل لما فيه من تحصيل حق المقر له، فإذن المشهور من المذهب أن تصرفه بعد الحجر ممنوع والصحيح أنه يمنع من التصرف قبل حكم الحاكم بالحجر وبعده كما تقدم.
قوله [ومن باعه أو أقرضه شيئا بعده رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا]
إذا باع رجل على هذا المفلس شيئا بثمن مؤجل، أو أقرضه شيئا ولم يعلم أنه محجور عليه، فإنه أن يرجع فيأخذ حقه منه، وذلك لأنه معذور بجهله.
فإن قيل: ألا يكون مفرطا لأنه لم يسأل أهو محجور عليه أم لا؟
فالجواب: أن الأصل عدم الحجر، فالأصل هو صحة التصرف ونفوذه.(14/42)
ومن باعه شيئا قبل الحجر ثم وجد سلعته قائمة بعينها بعد الحجر عليه فهو أحق بها من سائر الغرماء، مثاله: رجل باع رجلا سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، وبعد أسبوع أفلس الرجل، وحكم عليه بالحجر، فوجد هذا الرجل سلعته قائمة بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان فإنه أحق بها من سائر الغرماء، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) [خ 2402، م 1559] هذا إذا لم يكن فيها زيادة ولا نقصان، فإن كان فيها زيادة كأن يكون عبدا فيعلمه الكتابة، أو أن يكون فيها نقص كأن يشتري سلعة فيتصرف فيها تصرفا ينقصها كطعام ونحوه يؤخذ منه شيء يسير، فقد اختلف أهل العلم، هل له الرجوع أم لا حق له في الرجوع فيكون أسوة الغرماء يأخذ قسطه من الدين كما يأخذ سائر الغرماء قسطهم من الدين؟
قولان لأهل العلم:
1- قال الحنابلة لا رجوع له، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه) وهذا لم يدرك ماله بعينه بل أدركه وفيه زيادة أو نقص.(14/43)
2- وقال المالكية والشافعية بل يرجع، وحينئذ إن كانت السلعة فيها زيادة فإن هذه الزيادة تقوم ويدفع قيمتها للغرماء، وإن كان فيها نقص فيشارك الغرماء بقدر هذا النقص، كأن تكون السلعة سعرها قبل هذا النقص مائة ألف، وبعد النقص أصبحت تساوي ثمانين ألفا، فيشارك الغرماء بعشرين ألفا، فيكون كما لو كان عليه عشرون ألفا فحسب، والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لثبوت الزيادة والنقص، ولأن الأصل أنها أصبحت ملك للمدين وكل ملك لهذا المدين فالغرماء فيه أسوة، وهم مشتركون فيه، وهذا خلاف الأصل فتعين البقاء على ما ورد، فهو استثناء فتعين البقاء على ما ورد، ولأنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء، فكذلك إذا تغير المبيع بزيادة أو نقص، فلو أنه مثلا باعه سلعة بمائة ألف إلى سنة، وأعطاه مقدما خمسة آلاف ثم أفلس هذا المشتري، وحجر عليه فحينئذ لا رجوع لهذا البائع وإن وجد سلعته قائمة بعينها، لا زيادة فيها ولا نقصان، فكما أنه إذا كان هناك استلام للثمن فلا رجوع فكذلك إذا كان هناك تغير في المبيع بزيادة أو نقص، ودليل أنه إذا استلم شيئا من الثمن فلا رجوع له ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) [د 3520] والحديث اختلف في وصله وإرساله، والصواب أنه مرسل، كما رجح هذا أبو داود وغيره، لكن لكل شطر من الحديث شاهد، أما الشطر الأول وهو الذي فيه أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع له فله شاهد عند الإمام أحمد من حديث الحسن عن أبي هريرة [حم 10415] ، وأما الشطر الثاني الذي فيه أنه إذا مات فإن البائع أسوة الغرماء - وهي مسألة أخرى - فلها شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة [جه 2361] وفيه اليمان بن عدي وهو ضعيف لكن حديثه يصلح أن يكون(14/44)
شاهدا.
فهذا الحديث فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع.
المسألة الثانية: أنه إذا مات المشتري المفلس وانتقل الحق إلى الورثة فلا رجوع بل يكون أسوة الغرماء.
قوله [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قودا أو مالا صح]
تقدم أنه ليس له أن يتصرف في الأموال التي ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها، مثاله: عنده مزرعة ودار ودكان ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها ببيع أو هبة أو هدية أو نحو ذلك، لأن مقتضى الحجر منعه من ذلك، ولما في ذلك من الإضرار بحقوق الغرماء، فقد تعلقت حقوق الغرماء بهذه الأموال التي قد ثبت الحجر عليها، ومثل ذلك الإقرار، فلا يجوز، فلو قال هذه الدار - التي ثبت الحجر عليها - لفلان فلا يقبل إقراره، وأما هنا فالأموال التي أقر بها أو التي باع بها قد تعلقت في الذمة، فإذا اشترى في الذمة أو اقترض أو أقر أو نحو ذلك فهي تصرفات صحيحة، وذلك لأنه أهل للتصرف، وهو جائز التصرف، وإنما حجر عليه في ماله لا في ذمته، فالحجر ثابت في هذه الأموال التي قد احتيط لحقوق الغرماء بالحجر عليها، وأما ما يكون في الذمة فإنه خارج عن هذا، فه أن يشتري في الذمة وأن يوصي وأن يقترض وغير ذلك، ولا يطالب هذا المقرض ولا هذا الدائن بحقه في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها، وغنما يطالب بعد الحجر وذلك حقوق الغرماء، ولذا قال المؤلف بعد ذلك:
قوله [ويطالب به بعد فك الحجر عنه]
فلا يطالب إلا بعد فك الحجر عنه، لأن هذا الحجر ثابت لحقوق الغرماء، وأما هذا الغريم الذي قد ثبت حقه بعد الحجر فلا حق له في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها.
قوله [ويبيع الحاكم ماله]
فيبيع الحاكم هذه الأموال بالأحظ له، فيبيعها بثمن السوق بأفضل ما يكون، فلا يتعجل البيع بل يحتاط له في البيع، فيبيعها من غير عجلة، لأن العجلة في الغلاب تنقص من ثمنه.(14/45)
قوله [ويسقم ثمنه بقدر ديون غرمائه]
مثال هذا: عليه من الديون مائتا ألف، والدائنون أربعة، لكل واحد منهم خمسون ألفا، فكل واحد منهم يريد منه الربع أي بنسبه (25 %) ، فإذا بعنا ماله فتحصل نه مائة ألف فلكل واحد منهم (25 %) أي ربع المائة ألف، فكل واحد منهم يأخذ خمسة وعشرين.
قوله [ولا يحل مؤجل بفلس]
إذا أفلس الرجل وثبت الحجر عليه فإن ديونه المؤجلة لا تحل، وذلك لأن التأجيل حق له، فلا يسقط بفلسه، فطالما قد اتفقا على أن الدين لا يحل إلا بعد سنة، أو سنتين ثم أفلس فإن هذا لا يعني أن يحل الدين بفلسه.
قوله [ولا بموت إن وثق الورثة برهن أو كفيل مليء](14/46)
إذا مات فلا يحل دينه المؤجل، مثال هذا: اقترض رجل من آخر مائة ألف إلى سنة، ثم توفي بعد يوم أو يومين، فلا يحل هذا الدين بل يبقى مؤجلا كما اتفقوا علبه قبل الموت لكن لا بد أن يوثق برهن أو كفيل مليء، فيقال للورثة: إما أن تعطوه حقه، وإما أن توثقوه برهن أو كفيل مليء حفاظا على حقه من الضياع، لأنه إذا مات من عليه الدين وانتقل ماله إلى الورثة فإن هذا مظنة ضياع الحق، ومظنة المضارة بصاحب الحق فلا بد أن يحتاط له، وقال جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد أن الدين المؤجل يحل بالموت مطلقا، وللدائن أن يمنع التوثيق فيقول أنا أريد حقي ويمنع التوثيق برهن أو كفيل، قالوا: لأن هذا الدين إما أن يتعلق بذمة الميت، وإما أن يتعلق بذمة الورثة، وإما أن يتعلق بعين المال الموروث أي بعين التركة، قالوا: أما تعلقه بذمة الميت فهو ممتنع، لأن ذمته قد خربت بالموت، فالمطالبة متعذرة، ولا يمكن أن يعلق بذمة الورثة لأن الدائن لم يرض بذلك، فتعلقه بذمتهم يحتاج إلى رضى، ويحتاج إلى أن يلتزموا، وهذا لم يثبت فكان ذلك ممتنعا، أما إذا التزموا بذلك ورضي به فهذا شيء آخر، ولكن المقصود أن تقع المسألة من غير هذا، وأما تعلقه بعين المال فهذا ممتنع، لأننا إذا علقناه بعين المال فقلنا مثلا: حقه متعلق بهذه الدار التي ورثها الميت فحينئذ يتضرر الميت ببقاء الدين معلقا به، والميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه، ويتضرر أيضا الدائن بتأخير حقه مع احتمال تلف هذه الأعيان أو التلاعب في هذا المال، فيتحمل الضرر عليه، والورثة لا ينتفعون بذلك لأنهم يمنعون من التصرف بهذه الأعيان لتعلق حق الدائن بها، فلا يتعلق بعين المال، فإذا كان لا يتعلق بذمة الميت ولا بذمة الورثة ولا بعين المال تعين أن يكون حالا غير مؤجل، فالراجح أنه يحل بموت الميت، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد.(14/47)
قوله [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه]
وهذا ظاهر، ففي المسألة السابقة: الغرماء أربعة، فثبت غريم خامس، فلا بد وأن يكون له نصيب من القسمة، فيأخذ قسطه، فتعود المسألة حينئذ بعد أن كان لكل واحد منهم الربع يكون لكل واحد منهم الخمس، هذا إذا كان نصيبه كنصيب سائر الغرماء، وهذا كما لو قسمت التركة على ورثة فثبت أن هناك وارث أو هناك وصية فإننا نعود إلى المسألة من جديد فنعطي كل ذي حق حقه.
قوله [ولا يفك حجره إلى الحاكم]
لا يفك حجرا إلى الحاكم، هذا إن بقي عليه حق، وذلك لأن هذا الحجر قد ثبت بحكمه فلم يفك إلا بحكمه، وأما إذا لم يبق عليه شيء فإن الحجر ينفك تلقائيا، بمعنى أنه بمجرد ما يقضي ما عليه من الديون ولا يبقى عليه حقوق فحينئذ يفك عنه الحجر من غير حكم الحاكم، وذلك لزوال موجبه، فإن الموجب للحجر هو تعلق حقوق الغرماء، وقد زال هذا التعلق فحينئذ يزول الحجر من غير حكم الحاكم.
* مسألتان:
المسألة الأولى: هل يلزم المفلس بالتكسب والعمل لقضاء دينه حيث لم تفي أمواله بقضاء ديونه؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور من المذهب أن المفلس يلزم بذلك حيث كان له قدرة على التكسب والتحرف، فليزم بالعمل ليقضي أصحاب الحقوق حقوقهم.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه لا يلزم بذلك.(14/48)
واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (باع حرا قد أفلس في دينه) [قط 3 / 16، هق 6 / 50] أي باع منافعه، وهذا من باب المجاز لامتناع ذلك في الشريعة، وهذا كقوله تعالى {واسأل القرية} أي اسأل أهلها، فقوله (باع حرا) أي باع منافعه، أي أجره، وهذا يدل على أن يعمل ويتكسب ليقضي دينه، ويستدل على ذلك بأن الشريعة قد دلت على وجوب إعطاء صاحب الحق حقه، وإنما عذر المعسر لإعساره، أما وهناك وسيلة لقضاء الدين فإنه لا عذر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد، فإعطاء الحق لصاحبه واجب، ووفاء الدين واجب، والتكسب والعمل وسيلة إلى ذلك فهو قادر على هذه الوسيلة فوجبت عليه.
واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والصحيح هو القول الأول لقوة أدلتهم كما تقدم، وأما الآية فالمراد به العاجز عن قضاء دينه من ماله ومن تكسبه، فهو المعسر أما إذا كان قادرا على قضاء الدين بتكسبه فليس بمعسر، فالمعسر هو العاجز عن قضاء الدين، ولا يعتبر معسرا إذا كانت عنده قدر على التكسب.
المسألة الثانية: أنه ينفق على المحجور عليه من ماله بالمعروف، وينفق على من ينفق عليهم ويعولهم بالمعروف أيضا أثناء الحجر، ويترك له بعد الحجر ما ينفق على نفسه وعياله بالمعروف، هذا إذا لم يكن له قدرة على التكسب، وأما إذا كان له قدرة على التكسب والإنفاق على نفسه وعياله فإنه لا يترك له شيء من ذلك، واختلف أهل العلم هل يترك له مسكنه أم لا؟
على قولين:
القول الأول: أنه يترك له مسكن لائق به بالمعروف، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يباع عليه ويكترى له.(14/49)
أما دليل أهل القول الأول من أنه لا يباع عليه مسكنه فقالوا: لأن المسكن من الحاجيات، فأشبه النفقة المتفق عليها، فإن النفقة بالمعروف من الحاجيات، ويمكن أن يعطى من النفقة ما يدفع عنه الجوع ويذهب عنه الظمأ، ومع ذلك يترك له ما يطعمه بالمعروف وكذلك الكسوة، وهي من الحاجيات فكذلك المسكن.
وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ، قالوا: فقوله (خذوا ما وجدتم) عام فيدخل فيه المسكن، وأجاب أهل القول الأول عن استدلالهم بهذا الحديث بأنها قضية عين فيحتمل ألا مسكن له، ثم إن قوله (خذوا ما وجدتم) إنما هو فيما تصدق عليه به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقوا) فتصدق الناس، ثم قال: (خذوا ما وجدتم) أي من الصدقات التي تصدق عليه بها.
فالأظهر هو القول الأول، وأنه يترك له ما يسكنه بالمعروف، ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا كان قد استدان فاشترى مسكنا أم لا يستثنى منه؟
استثنى هذا بعض الحنابلة، وقوى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذا القول، بل قد قوى مذهب المالكية والشافعية، وتقدم أن قول المالكية والشافعية مرجوح في هذه المسألة، ولكن هل ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الحنابلة صحيح؟
الجواب: هذا فيه قوة حيث كانت هناك قرينة تدل على أنه كان محتالا مبطلا، وقد اشترى هذا المسكن ثم قال إنه معسر، فهذا قد تلاعب بأموال الناس وأراد أن يصل إليها بالطرق الباطلة، فإذا اشترى السكن مستدينا ثم ادعي الإعسار فإذا كانت هناك قرينة تدل على احتياله فإن الشريعة قد أتت بإبطال الحيل، فحينئذ يعامل بنقيض قصده فيباع بيته ويعطى غرماؤه كل منهم يأخذ قسطه كما تقدم تقريره.
فصل في المحجور عليه لحظه
قوله [ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم](14/50)
يحجر على السفيه، وهو البالغ العاقل المكلف لكنه ليس حسن التصرف بالمال، بل عنده تبذير وتلاعب بالمال، فهذا هو السفيه كما تقدم تقريره في شروط البيع، وليس المراد من في عقله شيء من النقص بل المراد من عنده سوء تصرف في المال، ويحجر كذلك على الصغير أي غير البالغ، ويحجر على المجنون أي غير العاقل، وهذا هو النوع الثاني من أنواع الحجر وهو الحجر لحظ النفس، والفرق بين الحجر لحظ النفس والحجر لحظ الغير أن الحجر لحظ النفس عام في عين المال وفي الذمة، فيحجر عليه ولا يتصرف في ماله ولا في ذمته، وأما المحجور عليه لحظ غيره فإن الحجر على المال، وأما الذمة فإنه يتصرف فيها كما تقدم تقريره.
قوله [ومن أعطاهم ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا](14/51)
إذا أعطى شخص أحدا من هؤلاء الثلاثة - السفيه أو المجنون أو الصغير - ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه، فإن أدرك ماله فإنه يرجع به، فالبيع غير صحيح، فإذا أدرك ماله وإن كان فيه تغير فإنه يأخذه، وهذا ظاهر لأن البيع عليهم باطل لا يصح، فالمبيع راجع إلى صاحبه، وإن أتلفوها لم يضمنوا، لأنه مفرط حيث عاملهم بالبيع أو القرض سواء علم بالحجر أم لا، لأن الحجر عليهم مظنة الشهرة فلم يعذر فيه بالجهل، فقد فرط حيث لم يتبنه لذلك، وعليه فإذا أتلفوا المال ولو كنوا متعمدين فإنهم لا يضمنوه في أموالهم، وظاهر كلامهم أن هذا عام في هؤلاء ومنهم السفيه، والذي يظهر أن الحجر على السفيه ليس مظنة الشهرة، فهو رجل عاقل مكلف لكن عنده سوء تصرف في المال، فمعرفة الحجر عليه ليس مظنة الشهرة، فالذي يظهر وهو قول لبعض الحنابلة عبر عنه صاحب الإنصاف بقوله:" قيل " أن البائع أو المقرض أو نحوهما إذا جهل أن هذا سفيه فإن السفيه يضمن، لأنه عاقل مكلف قد يسلط على مال غيره من غير تفريط من هذا الغير فكان ضامنا، وأما إذا دخل على بصيرة فهو الذي قد مكنه من التصرف في ماله وإتلافه فلا يضمن.
قوله [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم]
في المسألة السابقة حيث كان التعامل فيه تسليط، أي قد سلطهم على ماله، وأما إذا كان التعامل ليس فيه تسليطا كالعارية والوديعة فإن المعير والمودع لم يسلط المستعير ولا المودع على ماله، بل قد جعله عند هذا عارية، ليستفيد منها ثم يعيدها من غير إفساد لها، وجعل هذه وديعة عنده، فهي أمانة، فإذا وضع وديعة أو عارية عند أحد من هؤلاء الثلاثة فأتلفها فهل يضمن أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا ضمان، وذلك لأنه لما أعارهم وأودعهم فقد مكنهم من التصرف فيها وإتلافها.(14/52)
القول الثاني: أنهم يضمنون، وذلك لأنه لم يمكنهم من التصرف فيها، فهو لم يسلطهم عليها، وإنما جعلها أمانة أو عارية وليس في هذا تخويل لهم في التصرف فيها، والذي يظهر هو القول الأول وذلك لأنه بهذا قد سلطهم على ماله ومكنهم منه، وهذا في غير السفيه، فالسفيه مكلف، والحجر إنما يكون في التصرفات المالية، والأمر هنا ليس كذلك، فقد وضعت عنده عارية وهذه أمانة فلا يحل له أن يتصرف فيها، فإذا تصرف فقد اعتدى، فالذي يظهر أن السفيه يضمن مطلقا، حتى لو علم الآخر أنه سفيه محجور عليه، وذلك لأنه لم ينه عن مثل هذا، وإنما نهي أن يتصرف في ماله، وهذا ليس من التصرف في المال، والآخر وهو المودع أو المعير لم ينه عن إيداع السفيه ولا عاريته، إنما نهي عن التعامل معه بالبيع والشراء ونحو ذلك.
قوله [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة...... زال حجرهم]
إذا كمل الصغير خمس عشرة سنة فيكون حينئذ بالغا، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني - وفي رواية (ولم يرني بلغت) وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) [خ 2664، م 1868، حب 11 / 30، برقم 4728، بلفظ (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت ... ) ، قط 4 / 115، بنفس لفظ ابن حبان] فهذا يدل على أن من تم له خمس عشرة سنة فهو بالغ، وهذا هو فهم الراوي، والراوي أعلم بما روى، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي.
وقال مالك: ليس للتكليف سن محددة، بل يعرف ذلك بالاحتلام ونحوه وأما السن فلا، وقال أصحابه إذا بلغ سن سبع عشرة سنة، وقال أبو حنيفة كذلك في الأنثى، وفي الذكر إذا بلغ ثماني عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهذه الأقوال لا دليل عليها، والراجح هو القول الأول للحديث المتقدم.(14/53)
قوله [أو نبت حول قبله شعر خشن]
وهو نبات شعر العانة، وهو علامة على البلوغ، ودليل ذلك ما رواه الأربعة بإسناد صحيح عن عطية القرظي قال: (عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي اليهود - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) [حم 18299، ت 1584، د 4404، ن 4981، جه 2542] فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نبات الشعر الخشن حول القبل جعله علامة من علامات البلوغ، وذلك لأن الصبي لا قتل كما تقدم في كتاب الجهاد، وهنا لم يقتلوا فدل على أنهم غير بالغين، وشعر العانة يكون خشنا، وأما غير الخشن فإنه قد ينبت في الطفل وغيره.
قوله [أو أنزل]
إجماعا، فإذا أنزل فبالإجماع يثبت له البلوغ، قال تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي الاحتلام، فهذا دليل من القرآن، وقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن من أنزل وإن كان ابن عشر سنين أو أقل أو أكثر فهو بالغ، فالبلوغ يكون في أحد هذه العلامات الثلاث، ولا يشترط اجتماعها، ولا - كما يظن بعض الناس - أنه لا بلوغ إلا إذا تمم خمس عشرة سنة، بل البلوغ يكون بأحد هذه العلامات الثلاثة، وهذه العلامات يشترك فيها الذكور والإناث، إلى أن قال المؤلف
قوله [..... وتزيد الجارية البلوغ بالحيض وإن حملت حكم ببلوغها]
فالحيض علامة على بلوغ المرأة بلا نزاع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) [حم 24641، جه 655، د 641، ت 377] فالحائض بالغ، وإن كانت بنت عشر سنين، وكذلك الحمل بلوغ، لأنه لا حمل إلا بماء، ولا ماء إلا بإنزال، فإذا حملت المرأة فهذا دليل على أنها قد أنزلت وأن لها ماء إذ لا حمل إلا بماء كما تقدم.
قوله [أو عقل مجنون ورشد](14/54)
إذن إذا تم للصبي خمس عشرة سنة أو نبت شعر عانته أو أنزل أو عقل مجنون، فإذا عاد المجنون إلى علقه ورشدا، أي رشدا جميعا، أي عقل هذا وبلغ هذا وثبت لهما الرشد، لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فاشترط الرشد مع البلوغ، فإذا بلغ الطف ورشد، وعقل المجنون ورشد فحينئذ يزول حجرهم.
قوله [أو رشد سفيه زال حجرهم]
أي بلغ ولم يرشد ثم رشد، فحينئذ يزول حجرهم، للآية الكريم المتقدمة {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
قوله [بلا قضاء]
أي لا يشترط القضاء، فلا يشترط أن يحكم القاضي بأنهم قد رفع عنهم الحجر بل يرتفع عنهم تلقائيا، فلا ينتظر فيهم حكم الحاكم خلافا للإمام مالك، وذلك لإطلاق الآية الكريمة المتقدمة، فإن الله تعالى قال {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولم يقيد الله عز وجل الدفع بحكم الحاكم، بل أمر الأولياء بأن يدفعوا إليهم أموالهم بمجرد ما يزول عنهم الحجر، وأما مالك رحمه الله فإنه اشترط حكم الحاكم وقال: إن معرفة البلوغ والرشد تحتاج إلى اجتهاد، فكان هذا إلى نظر الحاكم، وفيما ذهب إليه رحمه الله نظر، وهو أن يقال: إن معرفة البلوغ والرشد من الأمور المشهور والمعروفة عند الناس، والأولياء الذي خولهم الله حفظ أموال من تحت أيديهم يعرفون مثل هذه الأمور، وثانيا: إن الله تعالى قد خول الأولياء فقال {فإن آنستم} وقال {فادفعوا إليهم} فهي مسؤولية الأولياء لا مسؤولية الحاكم.(14/55)
أما إذا كان الشخص رشيدا فأصيب بالسفه فحكم الحاكم بحجره لسفهه، فالمشهور من المذهب أن هذا الحجر لا يزول إلا بحكم الحاكم، وذلك لأنه قد ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه، وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل يزول من غير حكمه لزوال علته، والأول أولى احتياطا للمال أولا، وثانيا: أن هذا الأمر قد يتعجل فيه ويسارع فيه فكان مرجع ذلك إلى الحاكم، ولأنه أيضا قد تحدث له بعض التصرفات المالية وقد حكم الحاكم بالحجر عليه فيقع نزاع وخصومة فيمكن أن يقال: إن الحاكم حكم بالحجر عليه فلا يصح تصرفه، والمتصرف قد بنى تصرفه معه على أنه أصبح رشيدا فيقع النزاع والخصومة بين الناس، فالأولى أنه حيث ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكم الحاكم وهو المشهور في مذهب الحنابلة.
قوله [ولا ينفك الحجر قبل شروطه]
فلا ينفك الحجر عن الصبي حتى يبغ ويرشد، ولا ينفك عن السفيه حتى يرشد، ولا ينفك عن المجنون حتى يعقل ويرشد، فلا ينفك عنهم قبل الشروط، وإن أصبح الصبي شيخا وإن تزوجت المرأة، فإن هذا لا يغير في الحكم شيئا، فلا ينفك الحجر قبل الشروط التي اشترطها الله عز وجل بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
قوله [والرشد الصلاح في المال](14/56)
هذا هو الرشد، قال تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} والصلاح في المال ضد الفساد فيه، والفساد هو السفه والتبذير فيما لا فائدة فيه في دين ولا دينا، وأولى منه أن يذره فيما هو حرام من شرب خمر أو غناء أو مجون أو نحو ذلك، وقال الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة: الرشد هو الصلاح في المال والصلاح في الدين، وعليه فالفاسق وإن كان رشيدا في تصرفه في ماله فإنه يحجر عليه، قالوا: لأن الفاسق غير ثقة في تصرفه في ماله، والراجح هو القول الأول، وهو أن الفاسق غير محجور عليه، ما دام راشدا في تصرفاته المالية، وذلك لأنه لا تلازم بين الفسق والسفه في المال، فإن الفاسق ثقة في تصرفاته المالية لما في ذلك من حظ نفسه، نعم إذا تصرف في ماله تصرفا يقتضي سفها فهذا يدل على أنه غير راشد في تصرفاته المالية، كأن يتصرف في ماله بمقتضى فسقه تصرفات فيها تبذير في ماله، لكن إن كان راشدا في تصرفاته المالية فلا وجه للحجر عليه، ثم إنهم يقولون إن أعطى ماله وهو عدل رشيد في التصرف في ماله ثم طرأ عليه الفسق فلا يحجر عليه، بخلاف ما إذا طرأ عليه تغير في التصرفات المالية بأن أصبح غير رشيد فإنه يحجر عليه، ففرقوا بينهما، فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الرشد هو الصلاح في المال.
قوله [بأن يتصرف مرارا فلا يغبن غالبا](14/57)
وذلك بأن يعطى مالا ويقال له: بع أو اشتر أو غير ذلك مما هو لائق، ثم يكرر هذا مرارا حتى يتبين لنا أنه لا يغبن في الغالب، لكن إن وقع منه غبن أحيانا فلا بأس به، فإن هذا يقع للراشد في تصرفاته فقد يغبن أحيانا، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان لا يغبن غالبا فإنه لا يحجر عليه، وليس أيضا أي غبن، بل المراد الغبن الفاحش أي بأن لا يغبن غبنا فاحشا غالبا، أما لو غبن غبنا غير فاحش فهذا غير مؤثر، فإن الرشيد لا يسلم منه الغبن اليسير، كأن يشتري الشيء الذي يساوي مائة وعشرة يشتريه بمائة وعشرين.
قوله [ولا يبذل ماله في حرام]
فإذا كان تبذير المال في الأمور المباحة سفه، فتبذيره في الأمور المحرمة أولى بالسفه، كأن يبذر ماله في الفجور وشرب الخمور ونحو ذلك فلا شك أن هذا يحجر عليه.
قوله [أو في غير فائدة]
كذلك إذا كان يصرف ماله في غير فائدة كما تقدم تقريره، فهذا يدل على سوء تصرفه في المال، فيقتضي حجرا عليه، فإن كان تصرفه فيما ينفعه في الآخرة ولكنه يضر في الدنيا بمن يعول فكذلك يحجر عليه، كأن ينفق أمواله في أوجه البر إنفاقا يضر بمن يعول، وهذا يدل على سفه لأنه قد قدم ما هو مستحب على ما هو واجب، ومثل ذلك إذا كان وحده فهو لا يعول أحدا، ومع ذلك أنفق ماله وهو لا يثق بصبر نفسه، وعدم تطرقه إلى ما لا يحل من سؤال ونحوه، فكذلك يحجر عليه، لأنه أدخل على نفسه الضرر بمثل هذا التصرف وهذا سفه.
قوله [ولا يدفع إليه حتى يختبر]
لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، وقد تقدمت طريقة الاختبار.
قوله [قبل بلوغه](14/58)
فهذا الاختبار يكون قبل البلوغ، فمثلا: رجل عنده يتيم مقبل على البلوغ، فيأمره ببعض التصرفات التي لا تضر بماله، ويثبت بها معرفة رشده من سفهه، وهذا حيث كان مميزا مراهقا، أي يكون هذا قبيل البلوغ، لأنه هو الذي يمكن أن يتعرف على مثل هذا فيه، وليس المراد قبل البلوغ بوقت طويل، أي بمجرد التمييز مثلا، ولذا لو قال المؤلف (قبيل البلوغ) لكان أولى، فالمميز المراهق الذي يعرف المصالح والمفاسد وما يكون فيه صيانة لماله ونحو ذلك، فهذا هو محل الاختبار، ودليل كون الاختبار قبل البلوغ قوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} فسمى المبتلين: يتامى، واليتيم هو غير البالغ، فالبالغ لا يسمى يتيما، ولأنه قال سبحانه {حتى إذا بلغوا النكاح} فدل على أن هذا الاختبار يكون قبل بلوغهم.
قوله [بما يليق به]
لا بد أن يكون هذا الاختبار بما يليق به، فلا يختبر الأمير الذي قد ترك والده إرثا، لا يختبره بأن ينظر بيعه وشراءه، لأنه ليس من أهل التجارات، وإنما يعطى شيئا من المال وينظر في تصرفه فيه، فإن تصرف فيه بما فيه فائدة لنفسه في دينه أو دنياه فهو رشيد، وابن التاجر ونحوه يعطى مالا ويؤمر فيه بيع أو شراء ليتعرف على ضبطه في شرائه ورشده فيه، وهكذا.
قوله [ووليهم حال الحجر الأب]
فالأب هو الولي، وذلك لكمال شفقته وحرصه على صيانة مال ابنه والحفاظ على مصلحته، وهل للجد ولاية؟(14/59)
المشهور من المذهب أنه لا ولاية له، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن الجد له ولاية، وهذا أصح، لقول الله تعالى {واتبعت ملة آبائي إبراهيم} الآية، فسمى الله الجد أبا، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه -:" الجد أب " [حم 15675، خ 3658] ولما له من النصيب الكبير الذي يقارب ما للأب من الشفقة والحرص على مصلحة ابن ابنه، فالجد على الراجح يكون وليا، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن سائر العصبة أولياء، فيقدم أقربهم له، لما لهم من الولاية التي اقتضت الإرث في الشرع، فكانوا أولياءه في ماله، ولما لهم من الحرص على مصلحته لوجود هذه العصوبة بينهم وبينه.
قوله [ثم وصيه]
أي ثم وصي الأب، أي نائبه بعد الممات، الوكيل يكون في الحياة، والوصي بعد الممات، فإذا توفي الأب وأوصى لفلان من الناس بالولاية على ابنه فهو أولى من غيره، وهل يقدم عليه الجد وسائر العصبة على القول بولايتهم؟
استظهر صاحب الإنصاف تقديمهم على الوصي، والذي يظهر خلاف ذلك، وأن الوصي أولى منهم، وذلك لأن الوصي نائب الأب، فقام مقام الوكيل، فكما أن الوكيل هو النائب عن الأب في الحياة وهو أولى من الجد وغيره في الولاية، فكذلك بعد الممات فهو النائب عن الأب، ولأن كمال شفقة الأب لا يشبهها شيء، واختياره لهذا الوصي يدل على أن هذا الوصي له قيام كبير في هذا الباب لأولاده وأن هذا الوصي قد يكون أكمل شفقة من سواه.
قوله [ثم الحاكم]
أي القاضي، وذلك لما له من الولاية العامة، فالحاكم له الولاية العامة والقاضي نائب عن الإمام الأعظم، فإن لم يكن ثمت قاضي شرعي فيقوم مقامه أمين، فيختار أمين يقوم مقامه بالولاية، إذا الأولى بالولاية الأب فالوصي فالجد فالعصبة أقربهم فأقربهم ثم الحاكم فإن لم يكن فيختار أمينا قويا في حفظه وصيانته، يقوم مقام الحاكم في حفظ المال.
قوله [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ](14/60)
فلا يتصرف الولي إلا بالأحظ والأصلح، لقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا كان يريد أن يبيع له عقارا فلا يتعجل في بيعه، بل يتريث حتى يكون ذلك أحظ له، وعليه فلا يحل له أن يعتق من ماله ولا أن يهب ولا أن يهدي، ولا أن يحابي كأن تكون هذه الأرض تساوي مائة ألف فيشتريها من صديقه بمائة وعشرة آلاف لليتيم، فهذا لا يجوز، وإن تصرف بمثل هذه التصرفات فهو ضامن لأنه متعد، فالأمين يضمن بالتعدي أو بالتفريط، أما إذا غبن في شراء شيء غبنا يسيرا يقع مثله فهذا لا يؤثر.
قوله [ويتجر له مجانا]
فإذا أرد أن يبيع ويشتري له بهذا المال، فإنه يبيع ويشتري مجانا، فليس له أن يأخذ على التجارة له شيئا، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لا يحل أن يعقد لنفسه، فهو عندما يعقد العقد التجاري بينه وبين اليتيم إنما يعقد لنفسه ولا يحل هذا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول لبعض الحنابلة أنه يستحق الأجرة على ذلك، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن هذا التصرف التجاري خارج عن حفظ المال، وصيانته والإنفاق على اليتيم، وقد قال تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وهذا قربنا لمال اليتيم بالتي هي أحسن فلا مانع منه، وأما قولهم إنه ولي فلا يعقد لنفسه فلا دليل على هذا ولا مانع شرعي يقتضي ألا يعقد لنفسه، بل لو كان هذا العقد لنفسه هو الأصلح فهو الأولى به، فلو أنه مثلا أراد أن يبيع أرضا لموليه فوقف السوم على مائة ألف، وكان أحظ له لكنه يرغب بها، فزاد شيئا من المال فاشتراها منه فلا يظهر أن هناك مانع لأن هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن.
قوله [وله دفع ماله مضاربة بجزء معلوم من الربح](14/61)
فله أن يتفق مع رجل آخر على أن يتاجر بمال اليتيم بجزء معلوم الربح، إما النصف أو الربع أو غير ذلك مما يكون فيه مصلحة لليتيم، فهذا جائز لأنه قائم على مصلحته ونائب عنه في التصرف فجاز أن يعقد له مثل هذا العقد، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن المسألة التي قبلها هو الذي يتاجر بالمال بنفسه، وأما هنا فهو يعقد لغيره، فالمتاجر غيره وهو يعقد لهذا الغير، وكلاهما جائز كما تقدم.
قوله [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجانا](14/62)
لقول الله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} فله أن يأكل من مال يتيمه، قالوا: وقدره الأقل من كفايته وأجرته مجانا، فيقال: قدر أجرتك بالمعروف لو أننا أردنا أن نعطيك أجرة على هذه الولاية، فقال: كل شهر ألف ريال، هذه الأجرة على حفظ المال وصيانته، وهذا يرجع إلى كثرة المال وقلته وما فيه من تجارات ونحو ذلك، ويقال له بعد ذلك: ما كفايتك؟ فإن قال: ألفا ريال، فيقال له: خذ ألف ريال لأنه الأقل، وإن قال الأجرة خمسة آلاف، وكفايتي ألفا ريال، فيقال: خذ ألفي ريال، إذن يأخذ الأقل من كفايته وأجرته، قالوا: لأنه إنما يأخذ المال بهما، فاشترط اجتماعهما ولا يجتمعان إلا في الأقل، فهو يأخذ المال لأجرة عمله، ويأخذ المال لحاجته وكفايته، فيجتمعان في الأقل لا في الأكثر، والذي يظهر وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل وهو صريح قول بعض الحنابلة أنه يأكل بالمعروف، وهو ظاهر الآية الكريمة، وعليه فلو كانت أجرته أقل أو أكثر والذي يكفيه بالمعروف هو كذا، فإنه يأكل بالمعروف سواء كان ما يأكله أكثر من أجرته أو أقل، ولأن المسألة ليست قضية إجارة، بل هي قضية ولاية فيها معنى الأمانة ونحو ذلك من الحفظ، وهو لا يأخذ عليها مع غناه، بل يأخذ مع فقره، فجاز له الأكل بالمعروف وإن كانت أجرته أقل، وذلك للآية الكريمة المتقدمة، ولما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلا قال للني - صلى الله عليه وسلم -: إني فقير وإن لي يتيما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر - أي متعجل، فتتعجل بالأكل قبل كبر اليتيم - ولا متأثل) [ن 3668، د 2872، جه 2718] مؤجل للمال، فتأخذ شيئا زائدا عن الكفاية، وظاهره أنه يأكل ما يكفيه مطلقا سواء كان ذلك أقل من أجرته أو أكثر منها.
قوله [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال](14/63)
يقبل قول الولي أبا كان أو وصيا، والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال، فإذا اختلف الولي والمولي - أي المحجور عليه - فالقول قول الولي أو الحاكم، فإذا اختلفا في النفقة في قدرها، فقال الولي: أنفقت عليه في هذه السنوات التي قد حجر عليه فيها ألف درهم، وقال المولي المحجور عليه بل لم ينفق علي إلا خمسمائة، فالقول قول الولي فيحلف أنه أنفق عليه كذا وكذا، إلا أن يأتي المحجور عليه ببينة تدل على صدق قوله، أو أن يكون الظاهر يخالف قول الولي كأن يدعي إنفاقا زائدا لا يتحمله الواقع فحينئذ يكون الظاهر موفقا لقول المحجور عليه، فمثلا: ادعى المحجور عليه أنه لم ينفق عليه عشرة آلاف، وادعى الولي أنه أنفق عليه عشرة آلاف، وكان الواقع يوافق قول المحجور عليه، والظاهر يخالف قول الولي فحينئذ يكون القول قول المحجور عليه وذلك لوجود القرينة.
كذلك إذا اختلفا في الضرورة، فمثلا باع الولي عقارا للضرورة، وادعى المحجور عليه بعد فك الحجر أنه قد باعه لغير ضرورة، وقال الولي بل بعته لضرورة فقد احتاج لبيع هذا العقار لأجل الكسوة ونحوها، فالقول قول الولي لأنه أمين.(14/64)
كذلك إذا اختلفا في الغبطة، وهي المصلحة، فمثلا باع الولي عقارا وادعى أنه باعه لمصلحة، وخالفه المولى فقال: بل لا مصلحة، ولا غبطة، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، والمشهور من المذهب أن بيع الغبطة هو البيع الذي فيه مصلحة، وقال بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين في المذهب: بيع الغبطة أو يزيد الثمن الثلث فأكثر على بيع المثل، كان يكون شيئا يستحق مائة ألف فيبيعه بمائة وأربعين ألفا، وقال القاضي من الحنابلة: بيع الغبطة ما فيه زيادة ظاهره سواء كانت الثلث أو أقل، والصحيح أن بيع الغبطة ما فيه مصلحة سواء كانت زيادة ظاهرة أو غير ظاهرة، لعموم قول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وبيع شيء من عقاره فيه مصلحة للمولي هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن، فهو جائز، وهو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكذلك التلف، فإذا ادعى الولي أن المال قد تلف عنده، وأنكره هذا المولي وقال بل هو قد أتلفه أو قد غيبه وجحده أو نحو ذلك، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، وهذا كما تقدم ما لم تكن قرائن تخالف قول الولي.(14/65)
وكذلك إذا اختلفا في دفع المال، فقال الولي: أعطيته المال بما بلغ رشده، وقال المولي: لم يعطني شيئا، ولا بينة فالقول قول الولي لأنه أمين، وقال ابن رجب في القواعد:" ويحتمل أن يكون القول قول المحجور عليه ما لم يكن هناك بينة "، وقواه صاحب الإنصاف، وهو الذي يظهر، وذلك لأن الأصل عدم الدفع فالأصل هو بقاء المال عند الولي وحيث ادعى الدفع فهو ادعاء لنقل المال من يده إلى يد موليه، فإذا لم يكن له بينة فالأصل هو البقاء، ويده يد أمانة في مدة مكث المال عنده، وعليه فالذي يظهر أن القول قول المولي، لأن الأصل هو بقاء المال، لكن إن أشهد على دفع المال للمولي فإنه يقبل قول الولي للبينة، فإن لم يأت ببينة فيلزمه أي الولي أن يدفع المال إلى المولي في الظاهر، وإن كان في الباطن قد دفعه.
هذا - أي ما ذكره الحنابلة في هذه المسائل كلها - حيث كان الولي متبرعا، وأما إذا كان الولي غير متبرع بل يأخذ مقابل ولايته أجرة، كأن يضع الوالد وصيا لولده مقابل أجرة من المال يأخذها، فحينئذ ليس القول قول الولي في المشهور من المذهب، وذلك لأنه منتفع، فيده ليست يد حفظ وصيانة فحسب، بل يد انتفاع، وحيث كان الأمر كذلك فالقول قول المولي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الكلام على الوديعة إن شاء الله.
قوله [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له وإلا ففي رقبته كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه](14/66)
إذا استدان العبد، فإنه يلزم الدين سيده إن أذن له، وذلك لأن السيد قد غرره حيث أذن له، وأما إن لم يأذن له سيده فإنه يتعلق الدين في رقبة العبد، وحينئذ يقال للسيد اختر أحد أمرين: إما أن تسلم العبد للدائن، وإما أن تفديه، والفداء يكون بأقل الأمرين، إما بقدر الدين، وإما بقدر القيمة، مثال هذا: استدان عبد بلا إذن من سيده مائة ألف، فيقال للسيد: إما أن تسلم العبد وإما أن تفديه، وطريقه الفداء ما يستحق العبد، فوجدناه مثلا يستحق عشرة آلاف، فنقول: تعطي الدائن عشرة آلاف وتحرر عبدك من الدين، فتختار أقل القيمتين، وذلك لأن المال متعلق برقبته فلم يلزم سيده بأكثر من ذلك، وظاهر ذلك علم المتعامل أم لم يعلم، وعن الإمام أحمد أنه معامله إذا علم فلا يتعلق الحق برقبة العبد، وذلك لأنه دخل على بصيرة، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن العبد لا يصح تصرفه في المال، فإذا دخل معامله معه على بصيرة من أمره فقد غرر بنفسه فلم يتعلق ذلك في رقبة العبد.
وقوله (كاستيداعه) إذا وضع عند عبد وديعة فأتلفها فإن الحق يتعلق برقة العبد، فيقال للسيد إما أن تسلمه، وإما أن تفديه، فلو فرض أن الأمانة تساوي ثلاثين ألفا، وأن العبد يساوي أربعين ألفا، فإن السيد حينئذ يدفع له ثلاثين ألفا لأنها هي الأقل.
قوله (وأرش جناية) إذا اعتدى العبد وجنى، فتتعلق الجناية في رقبته، فإما أن يسلمه إلى المجني عليه، وإما أن يفديه السيد، وطريقة الفداء، مثلا وجدنا الجانية تساوي عشرة آلاف، والعبد يساوي خمسة آلاف، فيعطون خمسة آلاف، فلا يلزم السيد بشيء زائد.
قوله (وقيمة متلف) إذا أتلف العبد شيئا، فإن الحق يتعلق في رقبته، فإما أن يسلم السيد العبد، وإما أن يفديه بأقل الأمرين كما تقدم.
وهنا مسائل متعلقة بالحجر:
* المسألة الأولى:(14/67)
أن لولي الصبي ونحوه أن يأذن له بالتصرف بما جرت به العادة من صدقة يسيرة كأن يتصدق بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، وكأن يشتري الطفل شيئا من اللعب ونحوهما من أمور اللهو فهذه قد جرت بها العادة فيسمح بمثلها، وكذلك أن يشتري طعاما بلا إسراف.
** المسألة الثانية:
أن للزوجة أن تنفق من بيت زوجها ما جرت به العادة بالسماح بمثله بلا إذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها أجرها بما أنفقت وللزوج أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا) [خ 1425، م 1024] ولأن جريان العادة بمثل ذلك يجري مجرى الإذن.
أما إذا منعها من ذلك أو علمت منه المنع لشح ونحو ذلك أو شكت في رضاه فليس لها ذلك، كما أنه ليس لها أن تخرج من بيته ما لم تجر العادة بمثله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره والحديث صحيح: (لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس) [حم 20172] ، وهذا مال زوجها فلا يحل إلا بطيب نفس، فإن أذن فذاك وإلا فلا.
*** المسألة الثالثة:
هل يحجر الزوج على زوجته الرشيدة الحسنة التصرف في المال أم لا؟
على ثلاثة أقوال للعلماء هي روايات عن الإمام أحمد:(14/68)
الرواية الأولى: وهي الرواية المشهورة في المذهب أنه ليس له أن يمنعها، بل تتصرف كما شاءت، فلو أنفقت المرأة مالها كله من غير إذن زوجها بل مع منعه فها ذلك، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين: (أن ميمونة - رضي الله عنها- أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟ قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) [خ 2592، م 999] قالوا: فقد أعتقت هذه الوليدة من غير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقن ولو من حليكن) [خ 1466، م 1000] فأمرهن بالتصدق من حليهن ولم يشترط استئذان أزواجهن.
الرواية الثانية: وهي مذهب مالك أن الزوج يمنعها مما زاد على الثلث، وأما ما نقص فلا يمنعها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: (الثلث والثلث كثير) [خ 2742، م 1628]
الرواية الثالثة: أن له أن يمنعها مما قل عن الثلث، ومما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) [حم 6643، ن 2540، د 3547] وفي لفظ: (لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها) [حم 7018] والحديث حسن، قالوا: والحديث عام فيما قل عن الثلث وفي الثلث وفيما زاد عن الثلث، فالحديث عام، وفيه رد على مذهب مالك، فلا تتصرف المرأة بأي شيء من مالها إلا ما جرت به العادة، وهذا القول هو قول الليث بن سعد وطاووس من التابعين، وهذا القول هو أرجح الأقوال.(14/69)
أما الجواب عما استدل به الإمام مالك فقد تقدم، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الأول فإنه لا مانع من أن تكون ميمونة علمت إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في العتق ويندب إليه، ويبعد أن تعتق ميمونة وهي تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره هذا، وأنه لا يأذن فيه، ولذا أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو خير، فظاهر الأمر أنها علمت إذنه في ذلك، وإن لم يكن إذنا خاصا في هذا، ولذا قالت:" ولم استأذنه " بل قد علمت إذنه العام، لا سيما وهو يحث على عنق الرقاب، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقن ولو من حليكن) فكذلك حيث علمت المرأة الإذن العام من زوجها، ولا يعقل أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يفعلن شيئا يكون فيه معارضة لطاعة الأزواج، والحديث المتقدم حديث صريح في المسألة ولا شك أن الحديث المحكم مقدم على الحديث المتشابه، فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية الثالثة وهو مذهب الليث بن سعد وطاووس.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
باب الوكالة(14/70)
الوكالة بفتح الواو وكسرها، والأشهر الفتح، وهي لغة: التفويض، وأما اصطلاحا: فهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، والقاعدة أن كل حق لله تعالى أو لآدمي فالنيابة فيه مطردة كما قرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، إلا ما لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له، فكل حق من حقوق الآدمي من طلاق وبيع وشراء وصلح وغير ذلك وكل حق لله تعالى من تفرقة الزكاة، وتفرقة الصدقة وتفرقة الكفارة ونحو ذلك فإنها تدخلها النيابة، إلا إذا كان لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له كما يكون هذا في إقامة الحد، فإن المقصود منها عقوبة المجرم، وكذلك في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وغيرها، فالمقصود هو فعل المكلف لها فلا تحصل فيها الوكالة.
والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فلقول الله تعالى في سورة الكهف في قصة أصحاب الكهف حيث قال بعضهم لبعض {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف} وأما السنة فكما تقدم في حديث عروة البارقي وتوكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له شراء الأضحية) (1) وكذلك توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب في جمع الصدقة كما هو ثابت في الصحيحين، وكذلك توكيل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جواز الوكالة، والحاجة داعية إليها، فإن الإنسان يحتاج إلى أن يوكل غيره في شيء من شؤونه من بيع وشراء ونحو ذلك، والشريعة قائمة بتحصيل المصالح ومن ذلك الإذن للمكلفين بالوكالة.
قوله [تصح بكل قول يدل على الإذن]
__________
(1) 1– مسند الإمام أحمد (18867) البخاري (3643) أبو داود (3384) الترمذي (1258) ابن ماجه (2402) .(14/71)
فكل قول يدل على الإذن بالتصرف فإن الوكالة تثبت وتصح معه، فإذا قال له: بع لي هذا البيت، أو اشتر لي هذا البيت، أو أذنت لك بأن تبيع هذا الشيء ونحو ذلك من الألفاظ القولية الدالة على الوكالة فإن الوكالة تثبت فيها.
وظاهر كلام المؤلف أنها لا تثبت بالفعل، وهو المشهور في المذهب، فلو أعطى أحداً ثوباً وكان إعطاؤه له مفهماً له أنه يوكله بخياطته أو بتغسيله فإن الوكالة لا تثبت بذلك، والصحيح أنها تثبت بالفعل، وهو ظاهر كلام القاضي من الحنابلة واستظهره صاحب الفروع، وهذا القول هو الراجح كالبيع، ولأن المقصود التعرف على الرضى وذلك يحصل بالفعل كما يحصل بالقول، فالمقصود أن هذا الفعل قد دلنا على أن هذا يريد أن يوكل وأنه راضٍ بذلك، وهذا هو الإيجاب.
قوله [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه]
ما تقدم هو الإيجاب، والإيجاب ما يصدر عن الموكل، وأما القبول فهو ما يصدر عن الوكيل، فيصح القبول من الوكيل على الفور والتراخي، فمثلا قال له: بع لي هذه الدار، فقال: قبلت فوراً، أو كان قبوله متراخياً كأن يبلغه بعد زمن أن فلاناً قد وكله فرضي بهذه الوكالة، كأن يكتب له ورقة فلا تصل إليه إلا بعد شهر أو شهرين أو نحو ذلك، فلا يشترط في القبول الفورية، وذلك لأن الإيجاب دل على الإذن فالإذن باقٍ لا رافع له، فلا يؤثر فيه التراخي، ويصح القبول بالقول وبالفعل الدال عليه، فإذا قال: قبلت هذه الوكالة، أو أخذ السلعة وكان أخذه لها دليلاً على رضاه بهذه الوكالة فإن الوكالة تثبت.
وتصح الوكالة مؤقتة كوكلت سنة، أو بشرط نحو إذا جاء الشتاء فافعل كذا.
قوله [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه](14/72)
فمن له التصرف في شيء فله أن يكون موكلا وله أن يكون وكيلا، فمثلا: الرجل له أن يطلق زوجته، فله أن يوكل غيره في الطلاق، ويجوز أن يوكل غيره بالبيع أو بالشراء ونحو ذلك، لأن هذه التصرفات صحيحة منه فصح أن ينيب غيره فيها، وكذلك يصح أن يكون وكيلا فيها، لأنها لو كانت له لصح التصرف فيها، فهذا الرجل لو كان متزوجا لصح طلاقه، فالصفات المشترطة في صحة الطلاق متوفرة فيه، ولو كان متزوجا لصح طلاقه فيصح أن يكون وكيلا في الطلاق، لذا تقدم في التعريف اشتراط جواز التصرف في الوكيل والموكل.
قوله [ويصح التوكيل في كل حق آدمي]
إجماعاً.
قوله [من العقود]
كعقد البيع وعقد الصلح وعقد العارية وغيرها، وذلك لأنه يصح له أن يتصرف فيها فجاز له أن يوكل وقد تقدم ذلك.
قوله [والفسوخ]
كالإقالة والخلع، فيجوز أن يوكل من يخالع زوجته، ومن يقيل بيعا له ونحو ذلك.
قوله [والطلاق والرجعة]
فيجوز له أن يوكل من يطلق عنه أو يراجع عنه.
قوله [ويملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه]
كذلك يجوز التوكيل في تمليك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه، كأن يضع وكيلا عنه في تملك ما يصطاد، أو تملك ما يجتث، وفي إحياء الموات ونحو ذلك، وذلك لأنها حقوق آدمي له التصرف فيها فجاز أن يوكل.
قوله [لا الظهار واللعان والأيمان]
ولا النذور، وذلك لأنها متعلقة بعين الشخص فلم يصح التوكيل فيها.
والظهار يقول له: وكلتك في أن تظاهر عني. فيقول: أنتِ على زوجكِ كظهر أمه عليه، وهذا منكر من القول وزور كسائر المعاصي.
قوله [وفي كل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات](14/73)
فكل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات فيجوز التوكيل فيه كأن يوكل من يذكي عنه أضحية أو من ينحر عنه، كما ثبت في مسلم (1) من توكيل علي بذلك. ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته، ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ويجوز ذلك في العبادات المالية.
وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم فإن النيابة لا تصح فيها، وتقدم التفصيل في مسألة الحج والكلام عليها.
والأصل في حقوق الله أنها لا تدخله النيابة، ولا يجوز له في المشهور من المذهب إن وكل في الصدقة أن يأخذ منه لنفسه إذا كان من أهل الصدقة وذكر في الإنصاف احتمالاً بالجواز والأظهر الأول لما فيه من التهمة ولأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى غيره. لكن هل يجوز له أن يدفع منه لوالده وولده وزوجته فيها وجهان والأظهر المنع للتهمة.
قوله [والحدود في إثباتها واستيفائها]
كذلك تصح الوكالة في الحدود في إثباتها وفي استيفائها أي في إيقاعها على المجرم المعاقب، فيجوز للحاكم أن يوكل من يقوم بالنظر في الأدلة التي تثبت الحد على المتهم، ويجوز له أن يوكل من يستوفي الحدود فيقيمها على أربابها، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) (2)
فقوله (فإن اعترفت) فيه توكيل في إثبات الحد، وفي قوله (فارجمها) فيه توكيل في استيفاء الحد.
قوله [وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل إليه]
هنا ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يقول الموكل: وكلتك ولك حق التوكيل، ونحو ذلك فباتفاق العلماء له أن يوكل للإذن فيه.
الصورة الثانية: أن يمنعه من التوكيل، فيقول: وليس لك حق التوكيل، أو أنت منهي عن التوكيل، فباتفاق العلماء ليس له أن يوكل.
__________
(1) 1 – مسلم (1317) .
(2) 1 – البخاري (6828) مسلم (1698) .(14/74)
الصورة الثالثة: أن يوكله من غير إثبات للإذن ولا نفيه، كأن يقول: وكلتك، من غير أن يقول: لك الحق في التوكيل، ولا أن يقول: ليس لك الحق في التوكيل، ولها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه مما يتولاه هذا الوكيل، أي مما يناسب ويليق بمثله، ولا يعجز عنه، فحينئذ ليس له أن يوكل، وذلك لأن صاحب الشأن لم يأذن بالتصرف عنه إلا لهذا الوكيل فليس له أن يعدي الوكالة إلى غيره حيث لا إذن، مثال ذلك: أن يوكل شريفا من أشراف الناس وسيدا من ساداتهم على جبي الصدقات، فهذا من الأعمال التي تليق بمثله ولا يعجز عنها.
الحالة الثانية: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه ليس مما يتولاه مثل هذا الوكيل أو يعجز عنه ولا يقدر عليه، فحينئذ إيقاع الوكالة مع علم الموكل بهذا يدل على أنه أراد منه أن يوكل من يقوم بهذا العمل، فإذا أسدى الخليفة إلى أمير من الأمراء أن يبني له شيئا أو يحمل له شيئا معينا إلى موضع، فهذا لا شك أنه لا يليق بهذا الأمير، وحينئذ فتوكيل الخليفة له يدل على أنه إنما أراد القيام بهذا الشأن بالوكالة، أو كان يعجز عنه كأن يكون صناعة من الصناعات ويعرف أنه لا يحسن هذه الصناعة ولا يتقنها، وليس من أهلها فحينئذ يكون مراد الموكل القيام بها ولو كان هذا بالوكالة.
الحالة الثالثة: أن يكون هذا الوكيل قادرا على البعض عاجزا عن الكل، كأن يعطيه عملا كبيرا كالقيام بأعمال كثيرة يعلم الموكل قطعا أن هذا الوكيل لا يمكنه القيام بهذه الأعمال كلها إلا ومعه من يعينه على ذلك، فهل يجوز له أن يوكل؟(14/75)
المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية أن له أن يوكل مطلقا، بمعنى أن له أن يخرج عن القيام بهذا العمل بالكلية ويوكل غيره بالقيام به، والوجه الثاني في مذهب الحنابلة والشافعية أنه لا بد وأن يكون طرفا فيه، فلا بد أن يقوم ببعض العمل وأما أن يوكل فيه كله فلا، فله أن يوكل فيما لا يستطيع، ويقوم هو بما يستطيع، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأننا لا نخرج عما دلت عليه الوكالة من قيامه هو – أي الوكيل – بها إلا بقرينة تدل على ذلك، وهنا القرينة إنما دلت على عدم قيامه بالعمل كله، لا على عدم القيام ببعضه، فإنه يمكنه أن يقوم ببعضه، وإنما دلت على أنه يحتاج إلى وكلاء معه، وعليه فيضع معه وكلاء، وأما أن يتخلى عن العمل بالكلية ويضع وكلاء فلا.
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
قوله [والوكالة عقد جائز]
فالوكالة عقد جائز، أي لكل من الوكيل وموكله الفسخ بغير رضى الآخر ما لم يكن هناك ضرر، فإن كان ضرر فلا يجوز، فالوكالة عقد جائز، وذلك لأنه من جهتيهما لا يقتضي لزوما، أما الموكل فلأن هذا من جهة إذنه، فالوكالة متعلقة بإذنه، وأما الوكيل فلأنها متعلقة ببذل نفع منه، وهذا ليس بلازم، فكانت الوكالة من العقود الجائزة.
قوله [وتبطل بفسخ أحدهما]
لما تقدم فهي عقد جائز فإذا فسخها أحدهما فإن الوكالة تبطل.
قوله [وموته]
وكذلك جنونه، وذلك لأن من شرطها أن يكون الموكل والوكيل جائزا التصرف، والميت ليس له أهلية التصرف فبالموت تبطل الوكالة، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، فمات زيد، وهو الموكل قبل البيع فإن هذه الوكالة تبطل، لأن أهلية التصرف تبطل بالموت، وكذلك إذا جن لأن المجنون ليس له أهلية التصرف.
قوله [وعزل الوكيل](14/76)
فتبطل الوكالة بعزل الوكيل، فإذا عزل الموكل وكيله بطلت الوكالة، فمثلا: قال وكلتك على أن تبيع هذه الأرض، ثم عزله فإن الوكالة تبطل، وذلك لأن ذلك حق له، والوكالة عقد جائز ولا يشترط في هذا العزل رضى الوكيل، لأنه حق للموكل ولو لم يرض الوكيل.
وظاهر كلام المؤلف وهو المذهب سواء علم الوكيل بالعزل أو الموت أو لم يعلم، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، ثم عزله وأشهد على عزله، ولم يعلم الوكيل بالعزل، أو مات الموكل ولم يبلغه موته فإنه ينعزل، وعليه فتصرفاته - أي تصرفات الوكيل - تكون باطلة، ففي المثال السابق لو باع الأرض وهو لم يعلم بموت الموكل أو عزله له فإن البيع باطل إلا أن يجيزه الموكل، كما تقدم في تصرف الفضولي من أنه موقوف على الإجازة، وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، وذهب الأحناف إلى أنه ينعزل بالموت لا بالعزل، والمراد إذا لم يعلم بذلك، وأما إذا عزله بعلمه وعلم بالعزل فلا خلاف بين العلماء في بطلان الوكالة، لكن إذا مات الموكل ولم يعلم والوكيل وتصرف، فإن تصرفاته باطلة، وإذا عزله الموكل ولم يعلم الوكيل بالعزل فإن تصرفاته تكون صحيحة، وعن الإمام أحمد أنه لا ينعزل لا بالموت ولا بالعزل إلا بالعلم، قالوا: لثبوت الضرر، فإن هذا الوكيل يتصرف بتصرفات من بيع وشراء ونحو ذلك، فإذا قلنا إنها ليس نافذة كان في هذا ضرر لتعلق حق ثالث، فعليه تصح تصرفاته قبل العلم وصوبه صاحب الإنصاف، وأرجح هذه الأقوال فيما يظهر القول الأول، وهو القول بأنه ينعزل بالموت قبل العلم، وينعزل بالعزل قبل العلم، والتصرفات باطلة وموقوفة على الإجازة، وهذا لما تقدم من التعليل القوي وهو أن فسخ الوكالة لا توقف على الرضى فلم يتوقف على العلم، ولأنه إنما أذن له بالتصرف بهذه الوكالة، وهنا قد بطلت الوكالة بالعزل فلم يصح التصرف، إلا أنه يستثنى حيث كان هناك تغرير من الموكل وعلم أنه أراد التغرير(14/77)
فحينئذ تثبت هذه الوكالة ولا تبطل. وإذا عزل الوكيل كان ما في يده أمانة لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط.
وهل يضمن الوكيل إذا تصرف بعد عزله وقبل علمه أم لا؟
قولان في المذهب القول الأول: أن الوكيل يضمن هذه التصرفات، وهو غاية في الضعف، وذلك لمخالفته لقواعد الشريعة وأصولها فإنه لم يفرط، وقد تصرف تصرفا بناء على بقاء هذه الوكالة، ولم يقع منه أي تفريط فلا وجه لتضمينه.
القول الثاني في المذهب: أنه لا يضمن مطلقا وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لم يفرط، فعلى ذلك إذا تصرف الوكيل بعد عزله وقبل علمه فالتصرف باطل لبطلان الوكالة بالعزل، وهذه التصرفات موقوفة على الإجازة على ترجيح قول تقدم ذكره وهو أن تصرف الفضولي صحيح مع الإجازة، ولا يضمن الوكيل لعدم تفريطه، ويتوجه تضمين الموكل إذا كان قد غرر به لأنه هو المتعدي بالتغرير. ولا تقبل دعوى الموكل العزل لوكيله بعد تصرفه لتعلق حق الغير به إلا ببينة لكن يستثنى الطلاق ويدين.
هل تبطل وكالة الثاني بموت الوكيل الأول أم لا؟
إذا قال الموكل للوكيل: وكلتك ولك الحق في التوكيل، فوكل غيره فمات الوكيل، فهل تبطل هذه الوكالة أم لا تبطل؟
فيه تفصيل:
1- أما إن قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عني فوكل عنه، فالوكيل الجديد وكيل عن صاحب المال، وحينئذ فإذا مات الوكيل الأول فلا تبطل الوكالة.
2- وأما إذا قال له: وكلتك ولك أن توكل عن نفسك من شئت، فوكل عن نفسه من شاء ثم مات فإن الوكالة تبطل، لأن هذا اللفظ مقتضاه أن الوكيل الجديد وكيل عن الوكيل الأول.(14/78)
وكذلك العزل: فليس له العزل في الحالة الأولى، وله العزل في الحالة الثانية، فإذا قال: وكلتك وأذنت لك أن توكل عني، فليس له العزل، لأنه إذا عقدها مع الوكيل الجديد فحينئذ يكون هذا الوكيل قد ارتبط بالأول، وأما إذا قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عن نفسك، فوكل عن نفسه فله أن يعزل لأن هذا وكيل عنه.
قوله [وحجر السفيه]
إذا حجر على السفيه بطلت الوكالة، وذلك لأن السفيه غير جائز التصرف فليس له أهلية التصرف، وحينئذ فإن كان طرفا في الوكالة فتبطل الوكالة، بخلاف الحجر على المفلس، فإن الوكالة لا تبطل إذا كان طرفا فيها، وذلك لثبوت أهلية التصرف له كما تقدم، لكن إن كانت الوكالة في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها فتبطل الوكالة، وذلك لأن هذه الوكالة قد تعلقت بما لا يجوز التصرف فيه، فهو لا يجوز له أن يتصرف في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها، فلا يصح حينئذ أن يوكل فتبطل الوكالة، وأما كونه وكيلا أو موكلا في أشياء أخر ليست من هذا الباب، كأن يوكل في نكاح أو طلاق أو أن يوكل في بيع أو شراء أو نحو ذلك فهذه الوكالة صحيحة لأنه جائز التصرف.
قوله [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده]
من وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده، وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، فإذا قال الموكل لوكيل وكلتك أن تبيع داري، فهل للوكيل أن يشتريها؟ أو قال وكلتك أن تشتري لي دارا فهل له أن يبيع له داره؟
الجواب: لا يجوز ذلك، فلا يجوز أن يكون بائعا ولا مشتريا، وكذلك لا يجوز أن يدخل ولده أو زوجته وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، وذلك لعلتين:
الأولى: أن العرف هو بيع الشخص من غيره لا من نفسه، فكانت الوكالة كذلك، فالوكالة ترجع إلى العرف، فإذا قال بع لي هذه الدار، فالأصل في هذا البيع أن يكون بيعا على غيره، وحينئذ فالوكالة ترجع إلى هذا.(14/79)
الثانية: التهمة من ترك الاستقصاء في الوصول إلى الثمن المناسب، فهنا العلتان أوجبتا المنع من أن يكون الوكيل طرفا في البيع والشراء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز، بشرط أن ينادي عليها ويكون المنادي غيره، ويشتريها بسعر أكثر مما وصلت إليه في المناداة، وحينئذ فتدفع التهمة المتقدمة من ترك الاستقصاء.
ولا يظهر أن هذا كاف لدفع التهمة، فإن قد يبيعها في أيام لا تصل فيه السلعة مع النداء إلى ثمنها المناسب، وإن زاد عليه كما هو معلوم في بيع السلع، فالمقصود أنه متى استقصى وجعل لها سعرها المناسب ثم زاد على ذلك فإن ذلك يكون دافعا للتهمة المتقدمة، وأما العلة الأولى وهو أن العرف أن البيع يكون بيع الرجل من غيره لا من نفسه، فالجواب عن هذا: أن مقصود الموكل يحصل بهذا البيع بل مقصوده يحصل وأعظم منه إذا باع الموكل لنفسه، فإن مقصوده أن تباع هذه السلعة بثمن مناسب لها، فإذا بيعت بهذا الثمن المناسب وزيادة فإن مقصوده يحصل بل يحصل أعظم منه، فالذي يظهر هو هذا القول، وأنه متى استقصى استقصاء ظاهرا واشتراها بأعلى مما تقف عليه سوما فإن هذا البيع صحيح، وكذلك الشراء لما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي، ومثل ذلك الولي على اليتيم والحاكم، فإذا احتاج الولي إلى بيع شيء من مال موليه اليتيم ووصل سعره في السوق إلى سعر ما بعد الاستقصاء ثم اشتراه فإن هذا الشراء جائز، لعدم وجود التهمة، ولقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} .
قوله [ولا يبيع بعرض ولا نسأ ولا بغير نقد البلد](14/80)
ليس للوكيل أن يبيع بعرض، فإذا قال: بع لي هذه الشياة، فباعها الوكيل بإبل أو بثياب أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فإن عقد الوكالة يقتضي أن يبيعها بدراهم أو دنانير، فإذا باعها بعرض فإن هذا البيع لا يصح، فهو إنما أذن له ببيع يقتضيه عقد الوكالة، وكذا إذا باعها نساء أي بتأخير، فإذا قال: بع لي هذه الدار بمائة ألف، فباعها بمائة ألف ريال إلى شهر، فالبيع باطل، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي ذلك، فهو يقتضي أن يكون الثمن حالا لا مؤجلا، وكذلك إذا باعها بغير نقد البلد، فكذلك البيع يكون باطلا، لأن مقتضى عقد الوكالة أن يبيعها بنقد البلد، وعليه فالبيع باطل، وحينئذ يكون من تصرف الفضولي، وتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا أجاز الموكل وقال رضيت بهذا البيع وإن كان بغير نقد البلد أو رضيت به وإن كان بعرض أو رضيت بتأخير الثمن فيكون البيع صحيحا وإلا فهو باطل.
قوله [وإن باع بدون ثمن المثل]
فمثلا كأن يقول له بع لي هذه السيارة، وكان سعرها مثلا عشرة آلاف، فباعها بتسعة آلاف.
قوله [أو دون ما قدره له]
فهاتان مسألتان في البيع، والمسألتان اللتان بعدهما في الشراء.
قوله [أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل]
كأن يقول: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا، وسعر مثلها كان عشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.
قوله [أو بأكثر مما قدره له]
كأن يقول له: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا بعشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.
قوله [صح البيع وضمن النقص والزيادة](14/81)
إذن البيع صحيح، يضمن الوكيل النقص في مسألتي البيع، ويضمن الزيادة في مسألتي الشراء، وذلك لأنه مفرط، إلا إذا كان الغبن الذي غبن به غير فاحش فإنه معفو عنه هذا إذا لم يقدر له ثمنا للبيع أو الشراء، وهذا هو المشهور من المذهب، وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق وهو مذهب الشافعي أن البيع لا يصح، وعليه فعلى القول بوقف تصرف الفضولي على الإجازة يكون موقوفا على الإجازة وإلا فهو بيع باطل، وذلك للعلة المتقدمة، وهي أن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فعقد الوكالة يقتضي أن يشتري له سيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، أو أن يبيع له السيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، وما زاد أو نقص فهو غير مأذون فيه، وحينئذ يكون تصرفه خارجا عن مقتضى الوكالة، وهذا القول هو الراجح وعليه فهذه البيوع باطلة إلا أن يجيزها الموكل.والراجح المذهب لأن الوكيل لم يخالف في أصل العقد فقد باع بإذن الموكل ولا ضرر على الموكل إلا بالنقص ويضمن له.
قوله [وإن باع بأزيد]
كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف فباعها بأحد عشرة ألفا.
قوله [أو بع بكذا مؤجلا فباع حالا]
كأن يقول بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فباعها بعشرة آلاف حالة، فهذا يعتبر خيرا للموكل.
قوله [أو اشتر بكذا حالا فاشترى به مؤجلا]
كأن يقول اشتر بعشرة آلاف هذا الشيء حالا، فاشتراه بعشرة آلاف مؤجلا، فهذه كلها فيها خير للموكل، فعقد الوكالة وإن لم يقتضيها لكن فيها خير، وقد تقدم حديث عروة البارقي الذي رواه البخاري وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع أحدهما بدينار، فهو قد اشترى الشاتين بدينار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكله أن يشتري شاة بدينار، فهذا فيه خير وإن لم يقتضيه عقد الوكالة فكان جائزا، لكن بشرط وهو ألا يكون فيه ضرر فيهما ولذا قال:
قوله [ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا](14/82)
أما إذا كان فيهما ضرر كأن يلحقه ضرر بحفظ المال كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فيبيعها بهذا الثمن حالا ويضره أن تكون هذه العشرة آلاف معه الآن ويخالف مقصوده فإنه لا يريد حفظ المال في هذا الوقت، وفي المسألة الأخرى له مقصوده بكون الثمن الذي يدفعه حالا فحينئذ لا يصح التصرف لأنه خالف عقد الوكالة، والمشهور من المذهب أنه يصح وإن كان فيه ضرر، فإذا قال بع لي هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة، وهو لا يريد المال الآن فباعها بهذا السعر حالة فإنه يصح وإن كان عليه ضرر، والصحيح خلافه لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وإنما صححناه حيث لا ضرر لأن هذا البيع يحصل به أعظم من المقصود وأعظم من المراد فلا يتوجه المنع منه مطلقا، وأما حيث كان هناك ضرر فحينئذ يكون قد خالف عقد الوكالة على وجه يضر به، وما ذكره المؤلف هو أحد القولين في المذهب.
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فصل
قوله [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله](14/83)
إذا اشترى الوكيل ما يعلمه معيبا، فقد اشتراه على بصيرة فإنه يلزمه، لأنه قد اشتراه على بصيرة، ولأن عقد الوكالة يقتضي شراء السليم، فإن رضي موكله فحينئذ يكون للموكل لرضاه، هذا إن كان الشراء في الذمة من الوكيل للموكل، وذلك لأنه قد نوى الشراء له، وأما إذا كان هذا الشراء بعين مال الموكل كأن يقول: اشتر لي بهذه الدراهم دارا، فاشترى له دارا معيبة فلا يصح في المذهب، وهذا يرجع إلى تصرف الفضولي والخلاف فيه، وقد تقدم أن الصحيح أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة كما هو أصح الأقوال في هذه المسألة، إذن إذا تصرف الوكيل له في الذمة تصرفا لا يقتضيه عقد الوكالة فرضي به الموكل فيصح ذلك لأنه قد نوى الشراء له، أما إذا كان بعين مال الموكل فلا يصح، والصحيح ما تقدم من أنه موقوف على الإجازة، فإن رضي الموكل فالبيع صحيح، ويكون من باب تصرف الفضولي.
قوله [فإن جهل رده]
فإذا جهل الوكيل هذا العيب الموجود في السلعة فإنه يرد هذه السلعة، لأنها معيبة، والوكيل يقوم مقام موكله فهو نائب عنه، فكما أن الموكل له الرد بالعيب فكذلك الوكيل.
قوله [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة]
مثاله: وكل زيد عمروا في أن يبيع له سيارة، فإن عمروا وهو الوكيل يقبض المشتري السيارة، وذلك لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، فقد وكله في البيع ومقتضى عقد الوكالة أن يسلم هذه السيارة للمشتري، ولكن هل يقبض الوكيل الثمن من المشتري عن موكله أم لا؟
قولان في المذهب:(14/84)
القول الأول: وهو المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف من أنه لا يقبض الثمن بغير قرينة، فليس له أن يقبض الثمن لأنه إنما وكله في البيع ولا يقتضي هذا إلا تسليم المبيع، وأما قبض الثمن فلا يقتضيه عقد الوكالة، وهو قد يوكل بالبيع من لا يثق به في القبض، إلا بقرينة تدل على أنه أراد منه أن يقبض الثمن، كأن يعطيه سلعة ليبيعها في سوق هو غائب عنه، فمقتضى هذا أن يستلم الثمن.
القول الثاني: أنه يقبض الثمن مطلقا، وفيه ضعف لمخالفته عقد الوكالة كما تقدم.
واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن مرجع هذه المسألة إلى العرف والعادة، وذلك لأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي وما ذكره الشيخ قرينة عرفية فإن أعطاه حلياً ليبيعه فيقبض الثمن لوجوب التقابض فهي قرينة شرعية.
قوله [ويسلم وكيل المشتري الثمن]
فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن للبائع كالمبيع، فكما أن لوكيل البائع أن يسلم المبيع، فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن، لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، وهل يقبض وكيل المشتري السلعة المبيعة أم لا؟
على ما تقدم في قبض وكيل البائع الثمن.
قوله [فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه]
إذا أخر وكيل البائع تسليم المبيع أو أخر وكيل المشتري تسليم الثمن بلا عذر وتلف ضمنه، لأنه قد تعدى بالتأخير، والمتعدي ضامن.
قوله [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحا.... لم يصح]
إذا وكله في بيع فاسد فإن هذا البيع لا يصح لأن الموكل لا يصح له أن يبيع هذا البيع الفاسد، فكذلك الوكيل، فلو وكله أن يشتري له خمرا أو أن يبيع له خمرا فإن هذا البيع فاسد كما هو فاسد من موكله، ولو وكله في بيع فاسد فباع صحيحا كأن يشتري له شيئا غير محرم كأن يشتري به إبلا أو بقرا أو خلاً فلا يصح، لأنه لم يأذن له بذلك.
قوله [أو وكله في كل قليل وكثير.... لم يصح](14/85)
إذا قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فطلق نسائي إن شئت، وأنفق مالي إن شئت وهبه إن شئت فأنا قد وكلتك في كل قليل وكثير قال هنا (لم يصح) وذلك لما فيه من الغرر، فقد يطلق عليه كل نسائه وقد ينفق عليه كل ماله ففيه غرر، وقال ابن أبي ليلى من الفقهاء وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بل يصح هذا، قالوا: لأنه إنما وكله لتمام ثقته به، وطمأنينته إلى اختياره، ولأنه لو قال به بالتفصيل لجاز هذا، فلو قال: وكلتك في طلاق نسائي صح، ووكلتك في هبة مالي صح، فكذلك يصح إجمالاً، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما تقدم ولأن المصلحة قد تقتضي مثل هذا، كأن يكون عنده سوء تصرف فيوكل من يقوم على مصالحه
.قوله [أو شراء ما شاء]
كذلك إذا وكله في شراء ما شاء كأن يقول له: اشتر ما شئت، فيقول: هذه مائة ألف اشتر لي بها ما شئت، فهذا لا يصح.
قوله [أو عينا بما شاء ولم يعين لم يصح]
كذلك إذا قال اشتر لي هذه السيارة بما شئت من المال فهذا لا يصح لما فيه من الغرر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أنه يصح، لما تقدم تقريره، وهو أنه اختاره لكمال ثقته به ولطمأنينته إلى اختياره، ولعلمه أنه لا يختار إلا الأصلح وحينئذ فمثل هذا جائز والأصل في المعاملات الحل.
قوله [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس]
فمن وكل في خصومة فليس له أن يقبض كأن يقول الموكل لوكيله أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك في الخصومة عني أي عند المحاكم ونحو ذلك، فهل يقبض المال الذي يخاصم عليه؟(14/86)
الجواب: لا يقبضه، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، فعقد الوكالة إنما هو في الخصومة لا القبض، ولأنه قد لا يثق به في القبض مع ثقته في الخصومة، وقوله (والعكس بالعكس) أي إن وكله في القبض فله الخصومة، فإن قال أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك أن تقبضها منه، فماطل أو جحد المدين فللوكيل الخصومة، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب أنه ليس له الخصومة وهو الراجح، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وهو قد يثق به في القبض لأمانته ولا يثق به في الخصومة لعدم معرفته بطرق إثبات الحق، فإذا قال وكلتك أن تقبض حقي، فماطل أو جحد المدين فليس له أن يخاصم عن موكله، إلا مع القرينة كأن يوكله في قبض مال في ذمة أحد من الناس يعلم الموكل أنه جاحد وأنه مماطل، فمماطلته وجحده قرينة على أنه أراد منه أن يخاصم عنه، فالراجح أن من وكل بالقبض فلا يعني ذلك أن له الخصومة عن موكله إلا أن تكون هناك قرينة.
قوله [واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قِبَلَهُ]
إذا قال له وكلتك أن تقبض حقي من زيد، فحينئذ له أن يقبضه من زيد أو من وكيله لأن الوكيل يقوم مقام الموكل.
وهل له أن يقبضه من ورثة زيد؟(14/87)
قال المؤلف هنا ليس له أن يقبضه من ورثة زيد، لأن عقد الوكالة إنما في القبض من زيد، وليس فيه القبض من ورثة زيد، وأما الوكيل فإنه يقوم مقام زيد، إلا أن يقول قبله، فإذا قال: وكلتك أن تأخذ حقي الذي قِبَلَ زيد أي الذي من جهته فحينئذ يأخذه ولو من ورثته لدلالة اللفظ، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إن قال اقبض حقي من زيد فله أن يقبضه من ورثته وذلك لأن مراده تحصيل الحق سواء كان من زيد أو من وكيله أو من ورثته، وهذا هو الظاهر من مراده إلا أن يصرح كأن يقول: اقبض حقي من زيد نفسه لا من ورثته فحينئذ ليس له أن يأخذه من ورثته، وما ذكره الشيخ رحمه الله هو الظاهر لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني.
قوله [ولا يضمن وكيل في الإيداع إذا لم يشهد]
إذا قبض الوكيل الثمن ثم أودعه أي جعله وديعة عند فلان من الناس ولم يشهد أنه قد أودعه إياه، ثم أنكر المودع عنده فهل يضمن هذا الوكيل؟
قال: لا يضمن، وذلك لأنه لا فائدة من الإشهاد وعليه فإنه لا يكون مفرطا.
وهذا يرجع إلى مسألة اختلف فيها أهل العلم وهي: إذا ادعى المودع عنده الرد، فقال: قد رددت الوديعة، فهل يقبل فوله حينئذ فعليه اليمين، أو لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على الرد؟
قولان لأهل العلم:
فالجمهور على أنه يقبل قوله مطلقا، أي قول المودع عنده، فإذا اختلف المودع والمودع عنده في رد الوديعة فالقول قول المودع عنده مع يمينه، وعليه فلا فائدة من الإشهاد، فلو أن المودع أشهد على أنه وضع هذا المال وديعة عند فلان، ثم ادعى أنه قد ردها إليه فإنه يقبل قوله فلا فائدة من هذا الإشهاد، وعليه تنبني هذه المسألة في المذهب.(14/88)
والقول الثاني: وهو مذهب مالك أنه إذا كان هناك بينة في الإيداع فلا يقبل قول المودع عنده في الرد إلا ببينة، بمعنى وضعت عنده وديعة، وأشهدت على الوديعة فحينئذ لا يقبل قوله في الرد إلا ببينة، وذلك لأن المودع إنما وضع البينة أولا خوفا من الجحود فحينئذ يراعى قصده، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، ولذا فعن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة أي مسألة الباب وهو قول لبعض الحنابلة أن الوكيل يضمن إذا لم يشهد فإذا حصل الوكيل ما وكل به ثم جعله وديعة عند رجل ولم يشهد ثم أنكر هذا المودع عنده فإن الوكيل يضمن وذلك لتفريطه، لأنه لو أشهد لم يقبل قول المودع عنده إلا ببينة وعليه فيكون مفرطا. ولأن المودع عنده قد ينسى فينكر الوديعة.
فصل
قوله [والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط]
فالوكيل يده يد أمانة، فإذا تلف شيء في يده وهو لم يفرط فحينئذ لا ضمان عليه، فإذا تسلم الوكيل الثمن ثم حصل له تلف أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك فحينئذ لا يضمن لأنه لم يفرط بترك ما يجب ولم يتعدِ في فعل مالا يجوز كأن يستعمل ما وكل في بيعه فيتلف والتفريط كأن يضعه في غير حرز.
قوله [ويقبل قوله في نفيه]
أي في نفي التفريط، فلا نقول هات بينة على أنك لم تفرط، بل متى ادعى أنه لم يفرط وحلف على ذلك فالقول قوله لما تقدم.
قوله [والهلاك مع يمينه]
فإذا ادعى الوكيل هلاك المال فكذلك يقبل قوله لأنه أمين وحينئذ فعليه اليمين.
قوله [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه]
إذا ادعى رجل أنه وكيل لزيد في قبض حق زيد من عمرو فما الحكم؟(14/89)
لا يلزم عمروا أن يدفع الحق إن صدقه، وذلك لأنه يحتمل أن ينكر زيد، ويقول أنا لم أوكله وحينئذ فيتضرر عمرو بالرجوع عليه، ولا يلزمه اليمين إن كذب الوكيل، فاليمين لا تلزم عمروا لأن اليمين إنما تلزم حيث كان النكول عنها نافعا مثبتا للحق فلا يلزم أن يقول والله إنك كاذب وأنه لم يوكلك.
قوله [فإن دفعه وأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو]
فإذا دفع هذا المدين الحق إلى الوكيل، وأنكر زيد الوكالة وقال: أنا لم أوكله، فإن زيدا يحلف لأنه مدعي عليه ويغرم عمرو، وذلك لأن الحق باق في ذمته حتى يسلمه إلى صاحبه، وهو لم يسلمه إلى صاحبه فيبقى في ذمته، ويرجع عمرو على هذا الوكيل بحقه.
قوله [وإن كان المدفوع وديعة أخذها]
مثاله: وضع زيد عند عمرو وديعة، فقال: هذه الحلي وديعة عندك، فأتى شخص وادعى أنه وكيل عن زيد في قبض الحلي فقبضه هذا الوكيل، فحيث وجد زيد الحلي فإنه يقبضها في أي موضع وجدها، فإذا وجده في يد هذا الوكيل أخذه، وإذا وجده في يد المشتري من هذا الوكيل أخذه، لأنه عين حقه، وقد انتقل عنه بغير حق فلم يكن هذا الانتقال معتبرا، هذا إذا كان عين الوديعة أو نحوها إن كان باقيا، أما إذا كان تالفا فإنه يضمن أيهما شاء.
قوله [فإن تلفت ضمن أيهما شاء]
فإن شاء ضمن هذا الوكيل المدعي للوكالة، وإن شاء ضمن المودع عنده، أما تضمين المودع عنده فلأنه قد فرط في إخراج هذه الوديعة من يده بغير إذن شرعي، فيكون مفرطا وعليه فيكون ضامنا، وأما تضمين القابض المدعي للوكالة فلأنه أخذ الشيء بغير حقه، فقد أخذ شيئا لا يستحقه فيكون ضامن
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
باب الشركة(14/90)
الشركة يصح فيها هذا الضبط على وزن (سرقة) ، ويصح على وزن (نسعة) بكسر النون وسكون السين، ويصح على وزن (تمرة) ، والشركة هي كما عرفها المؤلف:
قوله [وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف]
فالشركة نوعان:
الأول: شركة أملاك واستحقاق.
الثاني: شركة تصرف أو عقود.
فالشركة الأولى وهي شركة الأملاك أو الاستحقاق هي أن يشترك اثنان في عين أو منفعة، كأن يشترك زيد وعمرو في أرض لهما لكل واحد منهما النصف مثلا، أو يشتركان في منفعة ونحوه، وشركة الاستحقاق كل منهما له حق التصرف في نصيبه لأنه ملكه، وأما نصيب الآخر فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذنه، وحينئذ فيكون تصرفه فيه كتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا ورث اثنان أرضا لكل واحد منهما النصف فباعها أحدهما بغير إذن الآخر فإن البيع يصح في نصيبه لا في نصيب الآخر، وصحة البيع في نصيب الآخر موقوف على الإجازة كتصرف الفضولي، وهذا هو النوع الأول من أنواع الشركة.
أما النوع الثاني وهو ما يبحث فيه في مسائل هذا الباب فهو شركة التصرف أو شركة العقود ولها أنواع كثيرة يأتي ذكرها.
قوله [وهي أنواع: شركة العنان]
شركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، وذلك لأن الشريكين في تصرفهما في مال الشركة كفارسين على فرسين قد تساويا في السير، فكان عنان، وهو السير الذي يرتبط باللجام ويمسك به الفارس، كل واحد منهما مساو لعنان الآخر فكذلك في الشركة كل منهما يتصرف، هذا يتصرف من جهة بملكه، ومن جهة أخرى بالوكالة.
قوله [وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]
كأن يدفع هذا عشرة آلاف، وهذا عشرة آلاف، ويشترك فيها بدنان فأكثر، ولا بد أن يكون المال المشترك فيه معلوما، إذ الجهالة غرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر.
قوله [ولو متفاوتا](14/91)
فلا يشترط التساوي في المال المشترك فيه، فلو دفع أحدهما عشرة آلاف والآخر عشرين ألفا فهذا جائز، فلا يشترط التساوي لحصول المقصود بذلك، وعدم ترتب الغرر، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
قوله [ليعملا فيه ببدنيهما]
أو يعملان ببدنيهما أو بأبدان من ينيبانه.
فكلاهما يعمل فيه، فيشتركان في المال، ويشتركان في العمل، ولو كان العمل متفاوتا ما دام معلوما.
أو يعمل أحدهما ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير عمله كالإبضاع في المذهب وهو أن يعطي المال لمن يتجر به والربح كله للدافع والراجح أنه يصح وهو وجه في المذهب لأنه أسقط حقه من الربح برضاه وهو مذهب المالكية.
قوله [فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما]
فكل الشركاء ينفذ تصرفهم في هذا النوع من أنواع الشركة، فإذا اشترك زيد وعمرو ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف فكل واحد منهما يتصرف بهذا المبلغ، فيتصرف في نصيبه لأنه مالك له، ونصيب الآخر لأنه وكيل عنه، ولذا قال:
قوله [بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه]
لأن هذا هو مقتضى هذا النوع من أنواع الشركة، فيتصرف كل واحد منهما بالمال بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب الآخر، ولا يحتاج إلى إذن لأنه مقتضى عقد الشركة، فكل يتصرف بما فيه مصلحة الشركة، أما إذا كان التصرف تصرفا في غير مصلحتها كأن يتصرف في قرض أو عتق أو في محاباة أو في تبرع فهذا لا يقتضيه عقد الشركة فليس له أن يتصرف في هذا الباب، إلا أن يأذن الطرف الآخر، فإن تصرف ضمن.(14/92)
وعلى كل واحد منهما أن يقوم بما تجري العادة بتوليه إياه، فكل واحد منهما يقوم بالعمل الذي تقتضي العادة أن يقوم مثله بمثله، فإذا اشتركا في بيع قماش فطيه ونشره وإدخاله وإخراجه من الدكان هذا يقتضيه العقد، ويتولى الشريك مثله، فإذا استأجر الشريك أجيرا لشيء من هذه الأعمال فعليه الأجرة، لأن مقتضى عقد الشركة أن يقوم هو به، فإن قام به غيره فعليه الأجرة، وليست الأجرة من مال الشركة.
وأما إن كان من الأعمال التي لا تقتضي العادة قيامه بها، كأن تكون الشركة في عدة دكاكين وهما شريكان ومعلوم أنهما لا يمكن أن يقوما بالإشراف والبيع في هذه الدكاكين الكثيرة فحينئذ إذا استأجر أجراء ليقوموا بهذه الأعمال فيكون ذلك - أي أجرتهم - من الشركة.
أما إذا كانت العادة تجري - كما يوجد عندنا - بمجرد الإشراف عليه ومتابعته للعمال فإذا أتى بأحد يشرف عنه فعليه هو الأجرة، لأن العادة جارية بأن الإشراف يكون على الشريك أو على الشريكين، وأما الأجراء والعمال فإن العادة جارية على أنه لا يتولاه مثله وحينئذ فتكون الأجرة من مال الشركة.
قوله [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين ولو مغشوشين يسيراً]
فيشترط أن يكون رأس المال من النقدين من الدراهم والدنانير المضروبين، ولو كان فيهما غش يسير فلا بأس، فلو كان في الذهب غش يسير من فضة فهذا لا يؤثر، وذلك لأن هذا الغش اليسير لا يمكن التحرز منه، وهذا في القديم لما كانت تضرب الدراهم والدنانير وهو لمصلحة تصليب النقد، وأما إذا كان الغش كثيرا فلا يصح حينئذ المشاركة بها، وذلك لما فيه من الغرر. والمضروب هو الذي جعل نقداً.(14/93)
والمذهب يقتصر في شركة العنان على أن يكون مال شركة العنان من الدراهم والدنانير المضروبة، ولا تصح الشركة في العروض، فلو اشتركا في قماش أو ثياب أو أراض عقارية فهذا لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن عروض التجارة من القماش والثياب ونحوها أسعارها تزيد وتنقص فلا تكون منضبطة، فإذا أراد أن يفترق الشريكان فحينئذ قد يستوعب نصيب أحدهما المال كله، فمثلا: اشتركا في أراض في حائل وأراض في الرياض، وبعد عشر سنوات أصبحت قيمة الأراضي في الرياض أضعافا كثيرة، ونزلت قيمة الأراضي في حائل فإذا قيل يشتري لهذا أرض في الرياض وللآخر أرض في حائل فقد يستوعب الأول الربح كله أو أكثره فلا يصح الشركة فيها للغرر لأن القيمة غير منضبطة، وذهب الإمام مالك وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الإمام محمد بن عبد الوهاب وصوبه صاحب الإنصاف واختيار طائفة من الحنابلة أن الشركة في العروض جائزة، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، وأما ما ذكرتموه من الغرر فإنه يندفع بتقويمها عند العقد، وتكون دراهما عند الفراغ من الشركة أو بطلانها، فإذا اشتركا - كما في المثال المتقدم - في أراضي في مناطق مختلفة أو بعروض أو نحو ذلك فإنها تقوم ويكون رأس كل واحد منهما هو هذا، وحينئذ فلا غرر، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
قوله [وأن يشترطا لكل منهما جزءا من الربح مشاعا معلوما]
فيشترط لكل واحد منهما - أي من المتشاركين - جزءا من الربح مشاعا، كالربع والثلث أو النصف ونحو ذلك، وهذا باتفاق العلماء دفعا للغرر، وذلك لأنهما لو قدرا دراهم محدودة في كل شهر فقال: لهذا ألف درهم كل شهر، وللآخر الباقي فهذا فيه غرر، وقد يربح أضعافا مضاعفة، وقد لا يربح شيئا، فيكون في ذلك غرر، وهذا من الميسر المنهي عنه.
قوله [فإن لم يذكرا الربح.... لم يصح](14/94)
لأن المقصود من الشركة الربح وعليه فإن لم يذكر الربح لم تصح.
فإذا تشاركا ولم يذكرا الربح لم يصح البقاء على عدم ذكر الربح، وحينئذ فيقسم لكل واحد منهما نصيبه على قدر ماله كما قرر ذلك فقهاء الحنابلة، فعندما يتشارك اثنان في تجارة، كل واحد منهما دفع النصف، ولم يقدرا ربحا فيكون ربح كل واحد منهما النصف، ويتخرج على قول شيخ الإسلام في مسألة شبيهة في فساد الشركة، يتخرج على قوله في تلك المسألة أن كل واحد منهما يعطي نصيبه على قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة، وهذا هو الذي يقتضيه العدل، بمعنى أن كل واحد منهما يعطى على قدر نفعه المالي أولا، وعلى قدر نفعه البدني ثانيا، وأما الحنابلة فقد أعطوا على قدر النفع المالي وأهملوا النظر إلى النفع البدني، فالعدل أن يعطى كل واحد منهما على قدر النفعين النفع المالي، والنفع البدني، وهذا القول هو الراجح.
وعليه - وهو قول الحنابلة وغيرهم - لو أنهما تدافعا مالا كل واحد منهما دفع النصف، وكان الجزء المشاع لأحدهما أكثر من النصف فهذا جائز نظرا للنفع البدني، وذلك لأنهما تراضيا وتشارطا عليه والمسلمون على شروطهم وهو كما تقدم مقتضى العدل.
فإذن إذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين ولكلٍ منهما أن يرجع بأجرة نصف عمله.
قوله [أو شرطا لأحدهما جزءا مجهولا]
فلو قال لك البعض ولي البعض فهذا مجهول، فلا يجوز ذلك للغرر.
قوله [أو دراهم معلومة]
فإذا قال لك ألف ريال أو أكثر أو أقل فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر.
قوله [أو ربح أحد الثوبين لم تصح](14/95)
إذا قال لك ربح أحد المالين ولي ربح الآخر، كأن يشتركا في مال، وهذا المال في موضعين، فبعضه هنا وبعضه في بلدة أخرى، فقال أحدهما: لي الربح الذي يكون في هذه البلدة، ولك الربح الذي يكون في البلدة الأخرى فهذا لا يجوز، وذلك لأنه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، فقد يربح هنا ولا يربح هناك، وقد يكون العكس.
قوله [وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة]
كذلك المساقاة وسيأتي الكلام عليها، والمزارعة والمضاربة وهي نوع من أنواع الشركة، يشترط أن يكون الربح فيها جزءا مشاعا معلوما باتفاق العلماء دفعا للغرر.
قوله [والوضيعة على قدر المالين]
الوضيعة هي الخسارة، فتكون الخسارة على قدر المالين، مثاله: اشترك اثنان فدفع أحدهما ثلث المال والآخر ثلثاه وكان لكل واحد من الربح النصف فالخسارة تكون بقدر المال لا بقدر الربح، وهذا باتفاق العلماء، وهذا هو العدل وذلك لأن الخسارة متعلقة بالمال لا بالربح، فالخسارة لا تعلق لها بالربح، فعلى ذلك من له الثلثان من الربح فالخسارة عليه بقدر الثلثين، ومن له الثلث تكون الخسارة بقدر الثلث نظرا لتعلق الخسارة بالمال نفسه. فإن شرط عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله فسد الشرط وحده لمخالفته مقتضى العقد، وكذا لو شرط ضمان المال لو تلف فهو شرط فاسد، أو شرط أن لا يفسخ الشركة مدة بعينها.
فعلى ذلك الشروط في الشركة كالشروط في البيع والنكاح:
شرط صحيح كأن يشترط أن لا يتجر إلا في كذا.
2- شرط فاسد مفسد للعقد وهو ما يعود بجهالة الربح.
3-شرط فاسد غير مفسد للعقد كأن يشترط ضمان المال أو لزوم الشركة بأن لا يفسخ مدة معينة.
قوله [ولا يشترط خلط المالين](14/96)
فلو اشتركا في مال متميز فهذا جائز لا حرج فيه، فلو اشتركا في أراضي عقارية، هذه في جهة وهذه في جهة أخرى فهذا جائز، أو على المذهب حيث لا يجيزون العروض لو اشتركا في دراهم ودنانير ولم يخلطاهما بل تاجر في هذه بجهة، وفي هذه بجهة أخرى فلم تختلط هذه الأموال بل هي متميزة هذا جائز فلا يشترط خلط المالين، وذلك لأن المقصود من هذه الشركة هو الربح سواء كان المالان مختلطين أم متميزين فلا أثر لذلك، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
قوله [ولا كونهما من جنس واحد]
فلو اشتركا في دنانير ودراهم فهما جنسان مختلفان وهذا جائز للعلة المتقدمة وهي حصول الربح فالربح حاصل وإن كانت الأجناس مختلفة، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لو اشتركا في ثياب وقماش أو اشتركا في أطياب مختلفة فهذا كله جائز، وفي المذهب حيث كانت الدراهم والدنانير لا تزيد ولا تنقص، أما والدراهم تزيد وتنقص فهذا يشكل على المذهب، فلو اشتركا في ريالات ودولارات فالريالات قد تنقص والدولارات قد تزيد أو بالعكس فكانت كالعروض، وحينئذ فالصحيح أنها لا بد أن تقوم ما دام أنها تزيد وتنقص فيقال الدولارات كل دولار يساوي أربع ريالات، وحينئذ نجعل الريالات دولارات أو نجعل الدولارات ريالات، لا بد من هذا، وذلك لأنه في القديم الدراهم لا تزيد ولا تنقص إلا زيادة يسيرة جدا، أو نقصان يسير جدا، وأما في الوقت الحاضر كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنها تختلف وتزيد وتنقص فلا بد من تقويمها دفعا للغرر.
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فصل
قوله [الثاني: المضاربة]
والمضاربة جائزة بالإجماع كما حكاه ابن حزم الظاهري رحمه الله.(14/97)
وتسمى بالقراض والمقارضة، وقد ثبتت في موطأ مالك عن عمر وعثمان وحكيم بن حزام (1) ولا يعلم لهم مخالف، ويدل عليها الأصل فإن الأصل في المعاملات الحل، والمضاربة من الضرب في الأرض، لأن المضاربة فيها ضرب في الأرض في السفر للتجارة.
قوله [لمتجر به ببعض ربحه]
فالمضاربة هي دفع مال لمتجر به ببعض ربحه المشاع المعلوم، وصورتها: أن يدفع رجل مالا معلوما لآخر ليعمل به الآخر ويأخذ - أي الآخر وهو العامل - مقابل عمله وتجارته جزءا معلوما مشاعا كالربع والنصف ونحو ذلك، إذن فالمال من أحدهما والعمل من الآخر، بخلاف شركة العنان فإن كان منهما منه المال والعمل، وفي شركة المضاربة لا بد أن يكون الربح مشاعا معلوما كما تقدم من اتفاق أهل العلم على ذلك، فلو قال ببعض الربح لم يصح لما فيه من الغرر، فإن قال: خذ هذا المال فاتجر به والربح كله لك فالمذهب أنه قرض، وذلك لأنه دفع المال ولا ربح له فيه فكان قرضا وهذا هو المشهور من المذهب، وعليه فيضمنه كما يضمن القرض، وذهب المالكية إلى أن هذا العقد صحيح في باب الشركات، فيبقى قراضا أو مقارضة أو مضاربة ولا يكون قرضا، قالوا: لأن الآخر قد دخل على أنه لا ضمان عليه، ونحن إذا جعلناه قرضا فإنه يضمن، وإذا جعلناه شركة فإن العامل لا يضمن، وهو قد أخذ المال على أنه شريك لا على أنه مقترض، وعليه فيكون قوله والربح لك هبة منه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وذلك لأنه لم يدخل على أنه ضامن وأن هذا العقد قرض، ولا بد في العقود من الرضى، فتكون مضاربة والربح هبة.
قوله [فإن قال: والربح بيننا فنصفان]
إذا قال خذ هذا المال فاتجر به والربح بيننا، فنصفان لكل واحد منهما نصف، وذلك لأن قوله: والربح بيننا فيه إضافة للمال من غير ترجيح فقد أضاف المال إليهما من غير ترجيح فكان لكل واحد منهما النصف.
__________
(1) 1 – الحاكم (1396- 1397)(14/98)
قوله [وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح والباقي للآخر]
إذا قال: خذ هذا المال فاتجر به ولي الربع، أو ولي الثلث أو قال: خذ هذا المال فاتجر به ولك الثلث أو ولك ثلاثة أرباعه، ولم يذكر نصيبه في الأمثلة التي ذكر فيها نصيب الآخر، أو لم يذكر نصيب الآخر في الأمثلة التي ذكر فيها نصيبه فهنا يكون الحكم الصحة، فهي شركة صحيحة، ويكون الباقي للآخر، كما قال تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} ولم يذكر نصيب الأب لأنه مفهوم باللفظ أي وللأب الباقي كما هو معلوم.
قوله [وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل]
إذا اختلف المضارب والعامل لمن المشروط فلعامل، فإذا ذكر في العقد أن الثلث لأحدهما، والباقي للآخر فاختلفا فكل منهما يقول للآخر الثلث لك، وبينة بينها فيكون المشروط للعامل، وذلك لأن العامل هو الذي يحتاج إلى ذكر نصيبه وذلك لأن الآخر وهو المضارب حقه متعلق بالمال، وما ذكره الحنابلة هنا متجه فهو تعليل صحيح، لكن حيث لم يشهد العرف بخلافه، أما لو شهد العرف بخلافه فيعتبر العرف كما قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله.
والآن في البنوك – في وقتنا الحالي - لرب المال.
قوله [وكذا مساقاة ومزارعة]
إذا اختلفا في المشروط في المساقاة والمزارعة فالحكم واحد، فإذا اختلفا في النصيب المشروط أهو لصحاب المزرعة أم للمزارع، أهو لصاحب النخل أم لمن تولاها بسقي ونحو ذلك وهو العامل، فإذا اختلفا في ذلك فإن النصيب المشروط يكون للعامل ما لم يشهد عرف بخلافه.(14/99)
وإذا اختلفا في قدره فحينئذ القول قول المضارب، فإذا ادعى العامل أن المشروط هو النصف، وأنكر هذا المضارب وقال: بل المشروط هو الثلث فالقول قول رب المال، وذلك لأنه منكر والعامل مدعي، فرب المال ينكر أن يخرج من ماله هذا النصيب الزائد عن الثلث، والآخر يدعيه، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعليه فيحلف المضارب أنهما قد اتفقا على الثلث لا النصف فإن حلف حكم بقوله.
قوله [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض فإن فعل رد حصته في الشركة]
مثال هذه المسألة: اتفق زيد وعمرو على أن يعمل له عمرو بماله، ثم اتفق عمرو مع بكر على أن يعمل له عمرو بماله، فهل يجوز ذلك؟
هنا لا يخلو من حالين:
1- أن يكون هذا العقد الجديد للمضارب الآخر مضرا بالأول.
2- ألا يكون مضرا به.
فإن كان مضرا بالأول كأن تكون المضاربة الأولى ذات مال كثير وتحتاج إلى أن يستفرغ وقته بالعمل فيها، فحينئذ لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولأنه دخل معه على عقد مقتضاه أن يفرغ وقته للعمل لأنه مال كثير يحتاج إلى تفرغ، لكن إن رضي الأول بذلك وقال: رضيت وإن كان علي ضرر فحينئذ يكون قد أسقط حقه فلا بأس بذلك.
أما إذا كانت المضاربة الجديدة لا تخل بالمضاربة الأولى فلا بأس بها.(14/100)
فإذا فعل المضارب مضاربة جديدة مضرة بالأول ولم يرض الأول ردت حصته في الشركة أي رد الربح الجديد في الشركة الأولى، فيرد ربحه الذي يكون في الشركة الثانية إلى الشركة الأولى، قالوا: لأن هذا المال - أي الربح الجديد - قد استحق بمنفعته وهي - أي منفعته - للشركة الأولى، فيكون الربح للشركة الأولى، وهذا هو المذهب، وقال الموفق ما حاصله إن الشركة الأولى لا تستحق هذا المال وهذا الربح، بل تكون للعامل، وإن أضر ذلك بالشركة الأولى، وذلك لأن رب المال في الشركة الأولى ليس له في الشركة الثانية لا عمل ولا مال، فلم يستحق شيئا من الربح في الشركة الثانية، وغاية الأمر أن هذا الرجل العامل قد تعدى حيث دخل في الشركة الثانية على وجه يضر بالأولى، فكما لو ترك العمل وكما لو اشتغل لمصلحة نفسه وتعدي العامل لا يوجب عوضاً، وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح، فحينئذ يكون العامل قد تعدى.
وأما إذا ضارب بمال الشركة الأولى وأدخل مال الشركة الأولى في الشركة الثانية فلا إشكال أن هذا الربح يكون للشركة الأولى، فمثلا أعطاه مائة ألف على أن يعمل فيها، فدفع عشرة آلاف منها لأحد يعمل له فلا شك أن الربح الناتج من هذه العشرة آلاف راجعة إلى الشركة، لأن رب المال في الشركة الأولى له في الشركة الثانية مال أيضا، وإن كان بغير إذنه فلا يجوز له أن يضارب بغير إذنه وعليه فالضمان على العامل، فلو دفع العامل بعض مال المضاربة فحصل تلف بالمال فإن العامل يضمنه لأنه قد تعدى.
قوله [ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما](14/101)
مثاله: دخلا في الشركة هذا منه المال، وهذا منه العمل، فلا يقسم الربح، كأن يعطيه مائة ألف على أن يعمل بها، فأصبحت بعد سنة مائة وعشرون ألفا فالربح وهو عشرون ألفا لا يقسم إلا برضى الطرفين، أما إذا انتهى العقد فلا إشكال في القسمة، فلا يقسم الربح مع بقاء العقد إلا باتفاقهما وذلك لأن بقاء الربح مع رأس المال يكون وقاية له، فإذا اتفقا على القسمة أو كانت مشروطة فالسلمون على شروطهم.
قوله [وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه]
إذا تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أي بعد التصرف في هذا المال الذي وقعت عليه الشركة، فإنه يجبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه، والتنضيض هو رده إلى النقد، فإذا رد المتاع إلى نقد، فهذا هو التنضيض، كأن تكون ثيابا فتباع وتحول إلى نقد، فإذا حصل تلف في رأس المال أو خسارة جبر من الربح قبل قسمته وقبل تنضيضه فينزل التنضيض مع المحاسبة منزلته مع المقاسمة، وهما إذا اتفقا على المشاطرة أو على أخذ جزء مشاع أو نحو ذلك فقد اتفقا على ذلك من الربح، وحيث حصل في رأس المال شيء من النقص فحينئذ لا بد أن يجبر من الربح والمتبقي بعد رأس المال هو الربح، وهذا ظاهر لأن الاتفاق في القسمة إنما هو بعد رأس المال، أما إذا حصلت فيه خسارة أو تلف بعد المقاسمة أو بعد تنضيضه ومعرفة كل واحد منهما ماله، فحينئذ لا يجبر رأس المال، وذلك لأن المضاربة قد انتهت، فتكون الخسارة قد وقعت بعد المضاربة، وإن كانا قد أنشئا مضاربة جديدة فتكون هذه الخسارة ف المضاربة الجديدة لا في المضاربة الأولى، فإذا كان رأس المال مائة ألف، والربح مائة ألف، وبعد القسمة أو بعد التنضيض والمحاسبة لم يكن فيه أي خسارة فكان لكل واحد منهما خمسون ألفا في هذا المال، وهما قد نويا مضاربة جديدة فحينئذ إذا حصلت خسارة أو تلف في رأس المال فتكون في الشركة الجديدة.(14/102)
فإن تلف رأس المال أو بعضه قبل التصرف انفسخت في التالف وكان رأس المال الباقي كالتالف قبل القبض، أما بعد التصرف فقد دار في التجارة وشرع مما قصد بالعقد من التجارة المؤدية إلى الربح.
وهنا مسائل في باب المضاربة:
* المسألة الأولى:
أن الشركة - أي شركة المضاربة - إذا فسدت فللعامل أجرة المثل، فإذا حصل فساد في الشركة كأن لا يذكر في الشركة سهم العامل فحينئذ تكون شركة فاسدة فما الحكم؟
قال الحنابلة له أجرة المثل، فيقال: قدروه عاملا أجيرا، وقدروا له ما يأخذه فيأخذه، وقال شيخ الإسلام بل له نصيب المثل أي أسهم المثل كالنصف، بمعنى أن يقدر هذه شركة من الشركات، ويقدر هذا مال قدره كذا، وهذا عامل عنده من الحرفة كذا، ومن المهارة الشيء المعين فنقدر نصيبا له كذا وكذا فيأخذه، وهذا هو العدل كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
** المسألة الثانية:
هل يجوز للعامل أن يتعامل بهذا المال نسيئة؟
مثلا: أعطاه مائة ألف، وقال: اتجر بها في القماش، فهل له أن يبيع شيئا من القماش نسيئة أم لا؟
قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لما فيه من المخاطرة، فإن النسيئة فيها مخاطرة، فلا يجوز أن يدخل بهذا المال فيما فيه مخاطرة، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد بل يجوز هذا، لأن هذا مما يعتاده التجار، والعادة محكمة، والإذن العرفي كالإذن اللفظي، وما ذكروه راجح حيث كان عرفا، أما إذا لم يكن عرفا فذلك لا يجوز وعليه الضمان لما فيه من المخاطرة، وأما إذا أذن في رب المال فهذا لا إشكال فيه.
والعامل في المضاربة أمين لأنه متصرف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه كالوكيل بخلاف المستعير فإنه يختص بالنفع وعليه فلا يضمن – العامل – إلا مع التعدي والتفريط.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم(14/103)
وبه نستعين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فصل
قوله [الثالث: شركة الوجوه]
أي الشركة بالوجوه، والمراد بالوجه: الجاه، أي الشركة التي سببها الجاه، وصورتها أن يشترك اثنان فأكثر بأخذ شيء من الأموال في ذمتيهما ويتاجران بها ويكون الربح بينهما وهم يأخذون هذه الأموال في الذمة على ثقة التجار، ولا يشترط أن يشتركا في البيع والشراء، فإذا قال كل واحد منهما أنت وكيل لي وكفيل بالثمن الذي آخذه فإن الحكم يثبت، أو اتفقا على أن يكون بينهما شركة وجوه، إذن شركة الوجوه حقيقتها أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن الآخر وكفيلا له، فإذا اتفقا على هذا فاشترى زيد بضاعة ثم باعها فيكون تصرفه في هذه السلعة شراء وبيعا يكون عن نفسه أصالة وعن عمرو وكالة، ويكون الربح بينهما على ما اتفقا عليه، وكذلك إذا اشترى عمرو شيئا من السلع ثم باعها فشراؤه وبيعه فيه تصف عن نفسه أصالة، وعن زيد وكالة، وزيد كفيل له، فلا يشترط أن يكون البيع والشراء بينهما بالسوية.
وقد أجاز هذا النوع الحنابلة والأحناف، ومنع منها المالكية والشافعية، قالوا: لأنه لا مال فيها ولا عمل، فهما لا مال لهما، بل المال في الذمة فهذه الشركة مبنية على الذمم، ولا عمل فيها أيضا، وكل منهما يعمل بهذا المال الذي يأخذه ثم يتصرف فيه تصرفات تجارية ويكون الربح بينه وبين الآخر، وقال الحنابلة والأحناف: بل هي صحيحة لأن الأصل في المعاملات الحل، وليس فيها غرر يمنعها، ولأن حقيقتها كما تقدم أن كل واحد منهما وكيل عن الآخر وكفيل له، وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح إذا لا مانع منها.
قوله [أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما فما ربحا فبينهما](14/104)
كأن يكون اثنان لهما وجاهة، والناس يعرفونهم ويثقون فيهم، فيقولان: نضع بيننا شركة كل منا يشتري ما شاء - بناء على شروط يضعونها - ويبيع، ويكون وكيلا للآخر، والآخر كفيل له، ثم يكون الربح بينا، فهذه الشركة حقيقتها وكالة وكفالة، والوكالة جائزة، والكفالة جائزة، والأصل في المعاملات الحل.
قوله [وكل واحد منهما وكيل صاحبه وكفيل عنه بالثمن]
فكل واحد منهما يكون وكيلا عن صاحبه، وكفيلا عنه بالثمن، وهذا هو مقتضى عقد الشركة أي شركة الوجوه، وعليه فلا يشترط في عقد الشركة التنصيص على ذلك، لأن هذا هو مقتضى العقد.
قوله [والملك بينهما على ما شرطاه]
فالملك والربح أيضا كما سيأتي يكون على ما شرطاه، كأن يقول هذه الأموال التي تأخذها وأنا آخذها لي الثلث ولك الثلثان، أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم، كذلك الربح ولذا قال المؤلف:
قوله [والربح على ما شرطاه]
فإذا قال: الربح بيننا مناصفة أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم.
قولهم [والوضيعة على قدر ملكيهما]
لما تقدم، فالخسارة مرجعها المال لا الربح، فإذا كان لكل واحد منهما من المال النصف، ولأحدهما من الربح الربع، وللآخر ثلاثة أرباع، فتكون الوضيعة بالنظر إلى الملك، وعليه فتكون الوضيعة في المثال المتقدم على كل واحد منهم قدر النصف، وهذا باتفاق أهل العلم في شركة العنان وهنا كذلك.
ولا يشترط ذكر جنس ما يشتريانه ولا قدر ولا وقت.
قوله [الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما](14/105)
هذا هو النوع الرابع، وهي شركة الأبدان أو الأعمال، وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، فيجتمع عامل وعامل ويقولان: ما يكون بيننا من العمل والربح يكون شركة بيننا، فيكون الربح بيننا على ما يتفقان عليه، كما يقع هذا في الورشات كورشات النجارة وغيرها، وقد اتفق القائلون بشركة الأبدان اتفقوا على جوازها فيما إذا كان الشريكان صنعتهما واحدة، واختلفوا فيما إذا كانت صنعة كل واحد مختلفة كأن يشترك تاجر وحداد أو نحو ذلك؟
فذهب الحنابلة إلى صحة الشركة، وقال المالكية لا تصح، وعللوا المنع بقولهم إن مقتضى الشركة أن يكون العامل الآخر الشريك ضامنا، بمعنى: أتى رجل ليعمل له هذا الشريكان صنعة، فاتفق معهما، فلم يقم صانعها بها، فإنها تلزم الآخر وهو الشريك، فإن الشريك ضامن، وهذا مقتضى الشركة، وعليه فإذا كان الشريك لا يتقن هذه الصنعة التي اتفق شريكه مع أجنبي على صنعتها فحينئذ لا يتمشى هذا مع كونه ضامنا، وأما دليل الحنابلة فهو الأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وأجابوا عن دليل المالكية بأن كونه ضامنا لا يلزم منه أن يقوم هو بالعمل، بل يمكن أن يستأجر أجيرا ليعمل هذا العمل، أو أن يتبرع له متبرع بهذا العمل، فلا يشترط أن يقوم هو بهذا العمل، قالوا: ويدل على هذا أنكم تقولون - أي المالكية - إذا كان العمال أحدهما أمهر من الآخر فإنكم تصححون الشركة، مع أن الأمهر إذا لم يقم بهذا العمل فإن من دونه من العمال لا يمكنهم أن يقوموا به كما أراد الطالب، فإذا جاز هذا فإذا اختلفت الصفة فكذلك، وهذا القول هو الراجح، والحاجة داعية إلى مثل ذلك فإن المصانع الكبيرة وورشات السيارات ونحو ذلك تحتاج إلى عدة مهن، وقد يشتركون فيها مع اختلاف مهنهم.
قوله [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله]
كما تقدم لأن هذا هو مقتضى عقد الشركة وهو الضمان.
قوله [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات](14/106)
تصح في الاحتشاش بأن يحتشوا ويكون الربح بينهما على ما شرطاه، وكذلك الاحتطاب وسائر المباحات، كأن يشترط أصحاب السيارات التي تحمل السلع في حمل البضائع وتكون الأرباح بينهم على ما يشترطون.
والقول بشركة الأبدان هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام، وقال الشافعية وهو اختيار ابن حزم من الظاهرية إن شركة الأبدان لا تصح، وذلك لما فيها من الغرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر، فإنه إذا اشترك العاملان فقد يعمل أحدهما ولا يعمل الآخر، فيربح هذا ولا يربح الآخر، فتكون فيها مخاطرة وقمار، واستدل أصحاب القول الأول ما رواه النسائي وغيره من حديث ابن مسعود قال:" اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء (1) لكن الحديث إسناده منقطع، وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح لأن الأصل المعاملات الحل، وأما ما ذكره أهل القول الثاني من ثبوت الغرر فإن الغرر ليس مطردا في مثل هذه الشركة، ثم هو غرر يسير إن حصل، لكن إن كان الغرر ظاهرا فيتوجه المنع كما ذهب إليه الشافعية.
قوله [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه]
فإذا مرض أحد الشريكين فالكسب بينهما على ما شرطاه، وحينئذ هناك ضرر يلحق الصحيح فإنه يعمل ويشارك في ربحه الآخر، فيدفع هذا الغرر بما ذكره المؤلف في قوله (وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه) وإلا فله الفسخ، فله أن يفسخ هذه الشركة إن أبى أن يقيم مقامه.
__________
(1) النسائي (3937) أبو داود (3377) ابن ماجه (2288)(14/107)
وظاهر كلام المؤلف أنه إن ترك العمل غير معذور فإن الكسب لا يكون بينهما بل لا كسب ولا ربح، وهذا هو أحد القولين في المذهب، وذكره الموفق في المغني احتمالا، والقول الثاني وهو الصحيح في المذهب وليس براجح من حيث الدليل أن له نصيبه من الربح وهذا قول ضعيف، وذلك لأن المسلمون على شروطهم، وهما قد دخلا في هذه الشركة على أن يعملا فيها، فلم يعمل الآخر فأخل بالشرط فلم يستحق من الريح شيئا.
وإذا طلب أحد الشريكين الأجرة فيلزم المستأجر أن يعطيه إياها وذلك لأنه شريك يتصرف في هذه الشركة عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة، وله أي للمستأجر لطالب الصنعة أن يعطي الأجرة أيهما شاء لأن كل واحد منهما يتصرف عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة.
ولا تصح شركة الدلالين لأن الشركة لا تخرج عن الوكالة والضمان ولا وكالة هنا لأنه لا يمكن توكيل أحدهما على بيع مال الغير، ولاضمان لأنه لا دين يصير من ذمة واحد منهما ولا تقبل عمل وأما مجرد النداء وعرض المتاع وإحضار الزبون فيجوز الاشتراك فيه.
قوله [الخامس شركة المفاوضة: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة]
فيقول نشترك أنا وأنت في شركة الأبدان وشركة العنان وشركة الوجوه والمضاربة وهي جائزة، لأنها إذا صحت الشركة منفردة صحت على جهة الاجتماع والأصل في المعاملات الحل.
قوله [والربح على ما شرطاه والوضيعة بقدر المال]
كما تقدم.
قوله [فإن أدخلا فيها كسبا أو غرامة نادرين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]
إذا قال: أنا وإياك مالنا واحد، فما ربحت فبيني وبينك، وما خسرت فعلي وعليك، وإذا أتاك إرث فلي ولك، وإذا وجبت عليك دية فعلي وعليك، وإذا حصل عليك ضمان جناية أو غصب أو نحو ذلك فعلي وعليك، وإذا حصل أي ربح من الأرباح فلي ولك، وهكذا فهذا لا يجوز لأنه فيها غرر.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(14/108)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
باب المساقاة
المساقاة: مفاعلة من السقي، وسميت مساقاة لأن أهم ما يكون فيها هو السقي، والمساقاة هي: دفع شجر إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه على جزء مشاع معلوم من الثمرة، فهي دفع شجر ولو لم يغرس إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه من تأبير ونحو ذلك، مثاله: أن يدفع زيد بستانه الذي فيه نخل أو نحو ذلك إلى آخر ليقوم هذا الآخر بسقيه وتأبيره وإصلاح شأن الثمر والاهتمام به وله الربع مثلا من الثمار، والأصل في المساقاة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عامل أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) [خ 2286، م 1551] فهذا هو الأصل في المساقاة أو المفالحة، فالشجر هنا لبيت المال، وعامل عليه ولي المسلمين - صلى الله عليه وسلم - في عهده عامل عليه أهل خبير من اليهود على أن يعملوا عليه ولهم شطر ثماره.
قوله [تصح على شجر له ثمر يؤكل]
فتصح المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، كشجر النخيل أو شجر العنب، وظاهره أن الشجر إذا كان له ثمر لا يؤكل فإن المساقاة لا تصح فيه، وذلك كالقَرظ الذي تدبغ بها الجلود، أو غيرها من الأشجار ذات الثمار المقصودة المنتفع بها لكنها لا تؤكل سواء كانت ثمارها خشبا أو دواء أو غير ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب المالكية أن المساقاة تصح على كل شجر ذي ثمر مقصود سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وهذا القول هو الراجح، وذلك للقياس الصحيح على ثمر النخيل بجامع الانتفاع بالثمر، ولأن الأصل في المعاملات الحل ولا دليل يمنع من ذلك.
وألحق الموفق رحمه الله وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد الحقوا ما يقصد ورقه أو يقصد زهره كالورد والياسمين ونحو ذلك، وهو قياس صحيح والأصل في المعاملات الحل.
قوله [وعلى ثمرة موجودة](14/109)
كذلك تصح المساقاة على ثمرة موجودة، بمعنى غرس نخلا فأثمر هذا النخل ويحتاج إلى عناية وعمل، فله أن يساقي عليه أحداً ليعمل له حتى يتم نضج هذه الثمار، فهذا جائز لأن الأصل في المعاملات الحل.
قوله [وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة]
كذلك تصح المساقاة على شجر يغرسه، كأن يقول هذه أرضي وهذا نخلي فاغرس النخل في أرضي واسقها واعمل عليها ولك النصف أو الثلث أو نحو ذلك، فهذا جائز، وذلك لأنه لا فرق بين المسألة السابقة وهذه المسألة إلا مزيد عمل من العامل، حيث إنه هنا يزيد عمله بالغرس وهذا لا يمنع من الصحة وتسمى بالمناصبة.
وقوله (بجزء من الثمرة) أي بجزء من الثمرة مشاع معلوم، أما لو قال له: بجزء من الثمار، ولم يكن مشاعا فإنه لا يصح، فلو قال هذه مائة نخلة اغرسها في هذه الأرض ولك ثمار هذه النخيل العشر أو لك ثمار هذه النخيل العشرين أو لك ثمار نخيل هذه الجهة أو لك ثمار هذا النوع فهذا لا يجوز، وكذلك لو قال: لك ستون وسقا أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز لما فيه من الغرر، فقد ينتج هذا النوع ولا ينتج النوع الآخر، وقد تنتج هذه الجهة ولا تنتج الجهة الأخرى.
قوله [وهو عقد جائز]
أي لكل منهما - لمالك الشجر وللعامل - أن يفسخ فهو عقد جائز بين الطرفين، فمثلا اتفقا على أن يعمل له في بستانه الذي فيه نخيل، والثمار بينهما مناصفة، فلما مضى شهر قال رب المال: أنا أريد الفسخ، فله الفسخ، أو قال العامل: أنا أريد الفسخ فله الفسخ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو هذا القول وأن المساقاة والمزارعة عقد جائز بين الطرفين، وهو المشهور من المذهب.(14/110)
القول الثاني: وهو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الجمهور أن عقد المساقاة عقد لازم بين الطرفين فلا يجوز للمالك ولا للعامل أن يفسخ، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه عقد لازم من جهة المالك وجائز من جهة العامل، فالمالك ليس له أن يفسخ إلا برضى العامل، وأما العامل فيجوز له أن يفسخ ولو لم يرض مالك الشجر.
أما أهل القول الأول فاستدلوا بحديث ابن عمر وفيه رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل خبير: (نقركم فيها على ما شئنا) [خ 2338، م 1551] قالوا: فهذا يدل على أنها عقد جائز والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم فيها وهو نائب المسلمين على ما يشاء، قالوا: كالمضاربة، والمضاربة بالاتفاق عقد جائز، فكذلك هنا.
وأما أهل القول الثاني الذين قالوا أنها عقد لازم فقاسوها على الإجارة، فالإجارة عقد لازم فكذلك عقد المساقاة بجامع أن فيهما كليهما العوض والكسب، قالوا: وإذا لم تكن عقدا لازما فإن في ذلك ضررا، فقد يعمل العامل عدة أشهر ثم بعد ذلك يقول له فسخت، وحينئذ يتضرر العامل، ولا ضرر ولا ضرار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أهل القول الثالث فقالوا: الضرر إنما يلحق العامل، فلا ضرر على المالك، فجعلناه لازما في حق المالك، حتى لا يتضرر العامل، وأما العامل فهو عقد جائز من جهته.(14/111)
وأجاب أهل القول الأول عما استدل به أهل القول الثاني من قولهم بأنها إجارة قالوا: فرق بين الإجارة والمساقاة، فإن الإجارة نوع بيع، فهي بيع للمنفعة، وليس كذلك في المساقاة، بل المساقاة أشبه بالمضاربة فكلاهما فيه نوع اشتراك، فالمضاربة يدفع المال ويعمل الآخر، وهنا في المساقاة يدفع الشجر ويعمل الآخر، قالوا: وأما الضرر الذي يقولون إنه يلحق العامل فهو مدفوع بما يذكره المؤلف:
قوله [فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة، وإن فسخها هو فلا شيء له]
فإما أن يكون الفسخ قبل ظهور الثمرة أو بعد ظهورها، فإن كانت الثمرة قد ظهرت فقد ثبت حق العامل، وله نصيبه من الثمرة التي ظهرت، وأما إذا كانت الثمار لم تظهر بعد فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون العامل هو الذي فسخ، فإذا فسخ هو فقد أسقط حقه فلا شيء له، وذلك لأن العقد فيه أنه يعمل حتى تظهر الثمرة، وله نصيب من الثمار، وحيث لم يصبر حتى تظهر الثمار فلا شيء له، والمسلمون على شروطهم.
الثاني: أن يكون الفسخ من جهة المالك، فندفع الضرر الذي يكون على العامل بأن نعطيه أجرة المثل، فمثلاً: اشتغل خمسة أشهر وأجرة مثله كذا وكذا، فيعطيها إياه المالك.
وفيما ذكروه نظر، فإن إعطاء العامل أجرة المثل فيه نظر، فهما قد تعاقدا على أن يكون للعامل نصيب مثله مساقاة لا إجارة، وهو إنما اشتغل هذه المدة على أن له ما شرط له من الربع أو الثلث أو نحو ذلك، فإعطاؤه أجرة المثل يخالف الشرط، والمسلمون على شروطهم،
[قلت (محمد بن خليفة) : والذي يظهر لي والله أعلم أنه يأخذ من سعر الثمر الذي كان سيعطاه على قدر عمله، ويأخذه حين يُجنى الثمر؛ لأن العقد كان على هذا، وأخذه حالا فيه أجحاف بحق صاحب الشجر، والله أعلم] .(14/112)
والذي يقوى والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من أنه عقد لازم، وذلك لأن الله أمر بالإيفاء بالعقود في قوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال {وأوفوا بالعهد إن العقد كان مسؤولا} وهذا عقد وعهد فهو عقد لازم، فالأصل في العقود اللزوم، إلا أن يأتي دليل يدل على عدم لزومها كما يكون هذا في الوكالات وفي الشركات فإنها وكالة، وكما يقع في التبرعات فهي عقود جائزة بدلالة الأدلة، وأما غيرها فيبقى على الأصل، ولأن المسلمين على شروطهم، وهذا قد دخل على شرط وعقد فيجب أن يوفي به، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) فيجمع بينه وبين الأدلة التي استدل بها أهل القول الثاني بأن يقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) أي من السنوات، فأنتم تعملون هذه السنة، وسنوات بعدها نقركم على ما شئنا، فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
وعليه فهل يشترط تحديد سنة أو سنتين أو نحو ذلك أو لا يشترط؟
المشهور عند الشافعية أنه يشترط، فإذا لم تحد سنوات فهي مساقاة فاسدة، وقال أبو ثور من الشافعية وهو صاحب اجتهاد: لا يشترط التحديد، وحينئذ تكون هذه المساقاة على سنة، فإذا دخل من غير تحديد فحينئذ تكون على سنة، وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه أن الثمار تظهر كل سنة، ولا يلحق الضرر حيث أبطل العقد أو فسخ بعد سنة، وقد ظهرت ثمار سنة وأخذ نصيبه، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لأهل خبير سنة ولا سنتين بل قال: (نقركم فيها على ما شئنا) فهذا يدل على عدم اشتراط التحديد ولأنها عقد جائز كالوكالة وهو المذهب. وتملك الثمرة بظهورها فعلى العامل تمام العمل إذا فسخت بعده وله بيعها إن كان غرساً لا ثمراً حتى يبدو صلاحه.
قوله [ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث وسقي وزبار](14/113)
الزبار كلمة غير عربية، والمراد بها قص الغصون من شجر العنب، لأن في بقائها أثراً على الثمر.
قوله [وتلقيح وتشميس وإصلاح موضعه]
أي إصلاح موضع التشميس.
قوله [وطرق الماء وحصاده ونحوه]
هذه الأعمال تلزم العامل، إذن كل ما يكون فيه صلاح الثمرة فهو واجب على العامل، وقوله (وحصاد ونحوه) كذلك ما يحتاج إليه من آلة الحصاد ونحو ذلك.
قوله [وعلى رب المال ما يصلحه]
الضمير في قوله (ما يصلحه) يعود إلى المال، أي عليه ما يصلح المال.
قوله [كسد الحائط]
فإذا كان الحائط فيه انهدام أو نحو ذلك فيجب على رب المال أن يسده.
قوله [وإجراء الأنهار]
فعندما يكون هناك نهر فيحتاج إلى أن يحفر في الأرض ليوصل ماءه إلى هذا البستان فهذا واجب على رب المال.
قوله [والدولاب ونحوه]
الدولاب: آلة يستخرج بها المال، ومثلها عندنا: المكائن ونحوها، هذه كلها واجبة على رب المال، إذن ما يتصل بالأصل فهو واجب على رب المال، وما يتصل بالثمر ويصلحه فهو واجب على العامل، هذا كله حيث لم يشهد عرف بخلاف ذلك، إذا شهد العرف بخلاف ذلك فالشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإن كان العرف على أن إصلاح المكائن مثلا يكون على العامل فهو عليه، وإذا كان الحصاد أو الجذاذ إذا كان العرف يشهد أنه على رب المال فهو عليه وهكذا، كذلك إذا كان هناك شرط لفظي فإنه يعمل به.
الله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
فصل
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فصل
قوله [وتصح المزارعة](14/114)
المزارعة: هي دفع أرض إلى آخر ليزرعها على جزء من الزرع مشاع معلوم، والفرق بين المساقاة والمزارعة أن المساقاة في الشجر، وأما المزارعة فهي في الزرع من قمح وشعير وذرة ونحو ذلك، وتصح المزارعة كما هو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وإسحاق ابن خزيمة وأبي ثور وغيرهم من أهل العلم، ودليل صحة المزارعة من السنة ما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عمر حيث عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فقوله (وزرع) يدل على صحة المزارعة، وذكر البخاري في صحيحه معلقا هذه المعاملة عن طائفة كثيرة من الصحابة فقال رحمه الله:" عن أبي جعفر - الصادق - قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا " (1) قالوا: ولا يعلم لمن تقدم من الصحابة مخالف فكان إجماعا.
__________
(1) البخاري: كتاب المزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه.(14/115)
وقال الأحناف والشافعية بل لا تصح المزارعة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهي عن المحاقلة) (1) وفي أبي داود بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت نحوه وفيه أنه سئل - أي زيد - عن المحاقلة فقال: (أن يأخذ الأرض على نصف وثلث وربع) (2) واستدلوا بحديث رافع بن خديج في البخاري وغيره أنه قال: (نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نحاقل بالأرض على الثلث والربع والطعام المسمى) (3) وبما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله وهو نحو حديث رفع بن خديج وفيه أنه قال (كان فيها - أي في المدينة - رجال لهم فضل أرضين فأرادوا أن يؤجروها بالثلث والربع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها فإن أبى فليمسك أرضه) (4) قالوا: فهذه الأحاديث تدل على النهي عن المحاقلة وهي المزارعة.
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، للحديث المتقدم وهو حديث ابن عمر في مزارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني فيقال:
إما أن يكون هذا في أول الإسلام حيث كانت الحاجة داعية إلى المنح والإحسان، ولم يكن ذلك تحريما، ولذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك وإنما قال: يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما) (5) فتحمل الأحاديث المقدمة على أنها في أول الإسلام، وهذا وجه.
__________
(1) البخاري: 2186 - مسلم: 1539.
(2) أبوداود: 3407.
(3) البخاري: 2344 - مسلم: 1548.
(4) البخاري: 2341 - مسلم: 1536.
(5) البخاري: 2330- مسلم: 1550.(14/116)
والوجه الثاني أن تحمل على المخابرة الجائرة أي المزارعة الجائرة الظالمة التي لا تكون على جزء معلوم، ويدل لهذا ما ثبت في مسلم من حديث رافع بن خديج وهو ممن روى في النهي عن المخابرة فإنه قال لما سئل عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: (لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات - وهي أطراف السواقي - وأقبال الجداول - الجدول هو النهر والمعنى: أوائل النهر - وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) (1) [م 1547] وفي الصحيحين عنه أنه قال: (كنا أكثر الأنصار حقلا، قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك) (2) فهذا يدل على أنهم كانوا يتفقون على أن هذا له، وهذا للآخر، أي هذا النصف مثلا من هذه الجهة لي، والنصف الآخر وهو الجهة الفلانية لك، وهذا هو المنهي عنه، فالصحيح جواز المزارعة، والقياس الصحيح يدل على ذلك، فإنه لا فرق بينهما وبين المساقاة التي تقدم ذكرها.
قوله [بجزء معلوم النسبة]
كأن يقول: بثلث ما يخرج أو ربعه أو نحو ذلك، فلا بد أن يكون جزءا مشاعا معلوما، لكن لو قال: لي ما يخرج في هذه الجهة، ولك ما يخرج في الجهة الأخرى، أو لي طعام فسمى كذا وكذا من الآصع أو نحو ذلك فلا يجوز هذا.
هل يجوز أن يستأجر الأرض على هذه الصفة؟
فيقول: أريد أن استأجر منك أرضك بثلث ما يخرج منها، وعليه فإذا لم يزرع هذه الأرض فإن عليه أن يأتي بالثلث الذي يخرج منها عادة، بأن ينظر غلة الأراضي التي تشبهها ثم يعطي ثلثه، فهل هذا يصح؟
__________
(1) مسلم: 1547.
(2) البخاري: 2332- مسلم: 1547(14/117)
المشهور من المذهب جوازه، ومنع منه الجمهور، واحتجوا على المنع بأن الإجارة لا بد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا الأجرة ليس بمعلومة فقد يكون الثلث الذي يخرج منها قليلا وقد يكون كثيرا، والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من جواز هذه المسألة، وذلك لأنها إن أنبتت الأرض وأخرجت زرعها فأخذ الثلث فلا فرق حينئذ بين الإجارة والمزارعة إلا بالألفاظ وهذا ليس بمؤثر، وإن لم تنبت فإن الثلث معلوم في العادة فليس بمجهول، فإن أهل الخبرة يعلمون القدر الذي تخرجه في العادة وحينئذ فقسطه معلوم فلا جهالة.
قوله [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر]
فإذا قال رب المال: لي النصف فحينئذ يتعين الباقي للعامل، وإن قال العامل: لي النصف فحينئذ يتعين لرب المال الباقي.
قوله [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض وعليه عمل الناس](14/118)
هذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وأحد الروايتين عنه وهو اختيار الموفق والمجد ابن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أن البذر لا يشترط أن يكون من رب الأرض فلو كان من العامل فهذا جائز، فلو اتفقا على أن يكون البذر من العامل في المزارعة، أو أن يكون الشجر من العامل في المساقاة فهذا جائز، والقول الثاني وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز ذلك، وأنه يشترط أن يكون البذر من رب المال، فإن كان البذر من العامل فهي مزارعة فاسدة، وإن كان الغراس من العامل فهي مساقاة فاسدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدل أهل القول الأول بما تقدم من أثر عمر بن الخطاب فإنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر - وهو النائب عن المسلمين - فلهم الشطر، وإن جاءوا - أي العمال - بالبذر فلهم كذا، فهذا هو قول عمر وفعله ولا يعلم له مخالف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عامل أهل خبير وكانوا هم العمال لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم شيئا من البذور ولم ينقل هذا، ولو كان مثل هذا ثابتا لنقله رواة هذا الحديث، فلما لم ينقلوه كان الظاهر أن ذلك لم يكن منه - عليه الصلاة والسلام -، وأما أهل القول الثاني فقالوا: إن المضاربة يكون رأس المال فيها من رب المال، فكذلك البذر وكذلك الغراس فلا بد أن يكون من رب المال كالمضاربة، فاستدلوا بالقياس على المضاربة، والقياس حيث خالف ما تقدم من الأثر والسنة فهو قياس فاسد ثم إن هناك فرقا وهو أن رأس المال يرجع إلى صاحبه في المضاربة وأما البذر فلا يرجع إلى رب المال، بل ترجع إليه أرضه والربح، فكان بين البذور والمال فرقا، وعليه فالراجح هو القول الأول، وعليه فإذا كان بينهما شرط لفظي على أن يكون البذر من أحدهما فهو عليه، وإن كان هناك عرف فإنه يحكم به.(14/119)
مسألة:هل يجوز أن يقول رب المال أو العامل - على القول به - أنا أدفع البذر ولكن إذا أخرجت الأرض فآخذ قيمة البذر ثم يكون الربح بعد ذلك بيننا؟ كأن يضع طنا من القمح بذرا، ثم تخرج الأرض مائة طن، فيخرج طنا على أنه هو البذر فيأخذه دافع البذر ويقسمان الباقي
المشهور من المذهب المنع من ذك، قالوا:لأنه قد لا ينتج شيء، إلا ما يماثل البذور، فيكون هذا كما لو اتفقا على آصع معلومة، هذا فيه غرر، وأجازه شيخ الإسلام قياساً على المضاربة، وألحقه برأس المال.
كذا الكلف السلطانية ما لم يكن هناك عرف يقضي بخلاف ذلك، فإذا كان السلطان يأخذ شيئا من رب المال على هذا الربح كأن تكون ضرائب فتخرج هذه الضرائب ثم يقسمان الربح ما لم يكن هناك عرف بخلاف ذلك.قال شيخ الإسلام ويتبع في الكلف السلطانية العرف مالم يكن هناك شرط.
مسألة: هل يجوز أن يؤجر الأرض بطعام معلوم؟ كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها بخمسين طنا من القمح، ويزرعها قمحاً أو يزرعها شعيرا؟
لهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون الطعام المسمى من جنس ما يزرع، كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها قمحا وأعطيك كذا طنا من القمح، فهذا لا يجوز، وهو رواية عن أحمد وهو مذهب مالك، والجمهور على جوازه، والصحيح هو المنع وذلك لأنه ذريعة إلى التحايل على تحديد آصع معلومة في الزارعة، وهذا ممنوع منه، وفيه غرر كما تقدم، ولذا تقدم حديث رافع بن خديج في الصحيحين: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نحاقل بالأرض على النصف والربع والطعام المسمى)
الصورة الثانية: أن يكون الطعام من جنس آخر، كأن يستأجر الأرض ليزرعها قمحا ويعطيه أجره من الشعير أو غيره فلا وجه للمنع من هذا، فإن ذلك يشبه كراء الأرض بالذهب والفضة وليس هناك محذور وهو مذهب الجمهور ومنع منه المالكية، والصحيح هو جوازه(14/120)
باب الإجارة
الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر، وهو العوض، وأما في الاصطلاح فه ي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين أو عمل بعوض معلوم مدة معلومة.
فقولنا (عقد) أي بين المتعاقدين المؤجر والمستأجر.
وقولنا (على منفعة مباحة معلومة) كسكنى الدار مثلا، أو ركوب الراحلة أو نحو ذلك.
وقولنا (من عين) كالدار للسكنى أو للبيع فيها أو نحو ذلك، سواء كانت العين معينة أو موصوفة، كأن يقول: أجرتك وأكريتك هذه الدار، أو موصوفة كأن يقول: أجرتك دارا سعتها كذا، وفيها من الغرف كذا ونحو ذلك.
وقولنا (عمل) كأن يستأجر على أن يحمل له طعاما أو يبني له حائطا، أو نحو ذلك.
وقولنا (بعوض معلوم) كأن يكون عشرة آلاف.
وقولنا (مدة معلومة) كسنة أو سنتين أو نحو ذلك.
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة الإجارة، أما الكتاب فقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ، وأما السنة فمن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه - استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا - أي ماهرا في الدلالة -) [خ 2263] وقد أجمع أهل العلم على صحة الإجارة، والحاجة داعية إليها فإن الإنسان يحتاج إلى المنافع المتصلة بأعيان مملوكة لغيره، فيحتاج إلى سكنى الدار، وإلى أحد يحمل له، وإلى رحلة يركبها، وقد لا يكون مالكا لذلك، فيحتاج إلى هذه المنافع التي أعيانها مملوكة لغيره، فأجازتها الشريعة، وهي قائمة على رفع الحرج وتحصيل المصلحة، ولا شك أن الإجارة عقدها عقد مصلحة وحاجة.
والإجارة بيع للمنفعة، وعليه فيشترط فيها ما يشترط في البيع، ومن ذلك أن يكون المتعاقدان جائزي التصرف.
قوله [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة]
إما بالعرف أو بالوصف، وقد ضرب المؤلف هنا ثلاثة أمثلة للعرف فقال:
قوله [كسكنى دار](15/1)
فإذا أراد أن يستأجر دارا ليسكنها فإن كيفية الانتفاع بها بالسكنى معروفة بالعرف، ولذا فليس له سوى ما دل عليه العرف، فليس له أن يجعلها مخزنا للطعام، أو أن يضع فيها دوابا أو غير ذلك، وله أن يكرم فيها ضيفه ونحو ذلك، لأن العرف قد دل عليه، وإن كانت هذه الدار فيها مساحة، وقد قام العرف على جواز وضع الدواب فيها فإنها توضع.
قوله [وخدمة آدمي]
فعندما يستأجر عاملا ويقول: أريد أن تعمل عندي شهرا، فإن تحديد زمن هذه الخدمة من الليل والنهار معروف في العرف، فإنه يكون من صلاة الفجر - مثلا - إلى المغرب في عرف بعض الناس أو بعض العمال، وهذا يختلف باختلاف الأزمان واختلاف العمال.
قوله [وتعليم علم]
فإذا استأجره لتعلم منه علما سواء كان علما شرعيا أو كان علما دنيويا - وسيأتي الكلام على أخذ الأجرة على العلم الشرعي -، فإذا استأجره ليتعلم منه علما فهذا معروف في العرف.
وقد تكون المنفعة معروفة بالوصف وذلك إن لم يكن هناك عرف، فإذا استأجره لبناء دار أو حائط، ونحو ذلك فإنه يحدد له طوله وعرضه وطريقة البناء ومواد البناء التي يختلف باختلافها البناء ونحو ذلك، وإذا أراد أن يستأجره لحفر بئر حدد له عمقها وعرضها وطولها ونوعية الأرض ونحو ذلك، والمقصود أن تكون المنفعة المستأجرة معلومة محددة إما بعرف أو وصف، ودليل ذلك أن الإجارة بيع، فهي بيع منفعة، ومن شروط البيع معرفة المبيع، وهنا كذلك من شروط صحة الإجارة معرفة المنفعة المستأجرة.
قوله [الثاني: معرفة الأجرة]
كالبيع، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن معرفة الثمن في البيع شرط، فكذلك في الأجرة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الدار بعشرة آلاف كل سنة.
قوله [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما](15/2)
فيصح أن يستأجر أجيرا ليعمل له وتكون أجرته هي سكناه وطعامه وكسوته، فهذا جائز، وكذلك يجوز أن يستأجر مرضعة وتكون الأجرة طعامها وكسوتها، ودليل ذلك قول الله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فعلى المولود له وهو ولي الرضيع أن يكسو وأن يرزق المرضعة، وليس هذا للزوجة، لأن الله عز وجل قد جعل أجرة للرضاعة، وكذا أوجبه على الوارث غير الزوج فقال تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} ، فدل على أن هذا الرزق والكسوة من الزوج ليس بسبب الزوجية، وإنما هو بسبب الرضاع فهو أجرة على الرضاع، وكذلك الأجير كما تقدم، وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف جدا - فإن فيه بقية بن الوليد وفيه سلمة وهو رجل ضعيف جدا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن موسى قد أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) [جه 2444] والحديث لا يصح، لكن الأجير يقاس على الظئر.
فإن قيل هذه الأجرة مجهولة، وقد شرطنا في الأجرة أن تكون الأجرة معلومة؟
فالجواب: أنها ليست مجهولة، بل هي معلومة، فإن مرجع ذلك إلى العرف، والعرف يدل عليها، فيمكننا أن نحدد هذه الكسوة وهذه النفقة بالعرف.
* هل يجوز أن يستأجر دابة وتكون الأجرة علفها أو أن يحدد لها شيئا من المال مع تعليفها، كأن يقول: استأجر منك هذه الدابة وأجرتها أن أعلفها عنك، أو يقول: وأجرتها كل يوم درهم، وأن أعلفها عنك، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: منع الحنابلة من ذلك في المشهور عندهم للجهل، قالوا: علفها مجهول، سواء كان منفردا بالإجارة، أو كانت هناك أجرة مضافة إليه، وعن الإمام أحمد أنه يصح، وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وهو القول الراجح، وذلك لأن هذا معروف بالعرف، فالعرف يقوم مقام التسمية، فكما أجزناه في الظئر وفي الأجير فكذلك في الدابة.
قوله [وإن دخل حماما أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطا بلا عقد صح بأجرة العادة](15/3)
قوله (قصارا) القصار هو من يفصل الثوب من غير خياطة،
[قلت (محمد خليفة) : بل القصار هو من يدفع إليه القماش أو الثوب ليقصره؛ لأن من الثياب ما يقصر بالغسيل، فلا يمكن خياطتها إلا بعد أن تقصر، فتدفع مثل هذه الأقمشة إلى القصار ليقصرها، فيغسلها، ويدقها بالعصا، وينشرها، ويكويها، ولعله أن يصبغها أحيانا ليغير من لونها حسب ما يطلب منه، ثم بعد ذلك يدفعها للخياط ليخيطها.
أفادني بما ذكر الأستاذ أبو طريف محمد النميري، والله أعلم]
فإذا وضع ثوبه عند قصار أو خياط، أو ركب سفينة أو سيارة من الرياض مثلا إلى حائل ولم يتفق على أجرة، أو أجر حمالا يحمل له طعاما ولم يسميا أجرة، فإنه يصح بأجرة العادة، وذلك لأن جريان العرف بالشيء يقوم مقام التسمية.
قوله [الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنى والزمر والغناء وجعل داره كنسية أو لبيع الخمر]
أو لبيع الأشرطة المحرمة من غناء أو فيديو أو غير ذلك من الأشياء المحرمة، فهذا لا يجوز ولا تصح الإجارة، وذلك لأن الشريعة من قصدها إزالة هذه المنكرات، والإذن بالإجارة فيها وتصحيحها ينافي مقصود الشرع المتقدم، ولقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، ولأنه لعن في الخمر من لعن ومنهم حاملها، فهو أجير يحمل الخمر، ومع ذلك لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذن فالشرط الثالث: هو الإباحة في العين، فعلى ذلك إذا استأجر رجل دكانا لبيع الخمر أو أشرطة الغناء أو نحو ذلك فتبين للمؤجر أن ذلك محرم فيجب عليه أن يبطل العقد، وإن اتفقوا سنوات، وإن كان استلم الأجرة، مع أن عقد الإجارة عقد لازم لا يجوز لأحد من الطرفين فسخه، لكن هنا هو عقد باطل، وذلك لأن النفع غير مباح.
قوله [وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه](15/4)
فيجوز أن يؤجر حائطه لوضع أطراف خشب معلوم، لأن الأصل في العقود الحل، وهذا نوع من أنواع الإجارة، وكذلك لو كان عنده دكان، فاستأجر أحد منه أن يضع عليه شيئا من الخارج أو نحو ذلك فيجوز له أن يؤجر، وذلك لأنه أجر منفعة معلومة.
قوله [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها]
لا تؤجر المرأة نفسها بعمل من الأعمال بغير إذن زوجها، وذلك لما في عملها من تفويت حق الزوج، فلم يكن لها أن تعمل عملا إلا أن يأذن لها زوجها فيه.
فصل
تقدمت شروط المنفعة المستأجرة، وهذا الفصل في شروط العين المؤجرة، أي العين المشتملة على المنفعة، فعندما يستأجر دارا ليسكنها، فالسكنى منفعة، والدار هي العين، وعندما يستأجر جملا ليحمل عليه، فالجمل هي العين، والمنفعة هي الحمل، وعندما يستأجر امرأة للرضاع، فالرضاع هو المنفعة، والمرأة هي العين.
قوله [يشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة]
هذا هو الشرط الأول: وهو معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة.
وذلك لأن المنفعة تختلف باختلاف العين، فعندما يستأجر دارا ليسكنها وهو لا يعرف ما في هذه الدار من غرف ولا يعرف مساحتها ونحو ذلك فلا شك أن هذا مؤثر في اختلاف الأجرة فاشترط ذلك.
قوله [في غير الدار ونحوها](15/5)
فالدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا تكفي الصفة، بل تشترط المشاهدة والرؤية، فإذا قال: أريد أن أكريك داري التي مساحتها كذا، وعدد غرفها كذا، وموقعها كذا، ونحو ذلك فقال: رضيت، فهذا لا يجوز، ولا تصح الإجارة، قالوا: لأن الدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا ينضبط بالوصف، وقد تقدم أن المشهور من المذهب أن السلم لا يصح إلا في المكيلات والموزونات والمذروعات، وأما المعدودات وغيرها مما لا ينضبط فلا يصح فيه السلم، لأن السلم بيع على الصفة، وقد تقدم أن الراجح أن ما يكون الاختلاف فيه اختلافا يسيرا، والتفاوت فيه تفاوت يسير فالسلم فيه جائز، ولو لم يكن مكيلا أو موزونا أو مذروعا، فهنا كذلك في باب الإجارة، فعندما يصف له الدار وصفا بينا ظاهرا ثم يستأجرها على هذا الوصف التام الظاهر - وإن كان يقع فيه شيء من التفاوت اليسير - فهذا ليس بمؤثر، فهذه جهالة يسيرة يعفى عن مثلها.
إذن هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة في باب السلم، فالصحيح أن كل ما ينضبط بالصفة وإن كان الانضباط فيه ليس تاما بل مع التفاوت اليسير فإن الإجارة فيه جائزة كالسلم، أما إذا كان التفاوت كثيرا مما تقع بمثله المنازعة فلا يجوز ذلك كما في السلم.
قوله [وأن يعقد على نفعها دون أجزائها]
هذا هو الشرط الثاني: وهو أن يعقد على نفعها دون أجزائها.(15/6)
بمعنى أن الإجارة لا تؤثر على أجزائها، فلا يتلف من هذه العين شيء، كسكنى الدار والحمل على الجمل ونحوه، لكن لو كانت الإجارة على شيء من أجزائها كأن يستأجر طعاما للأكل أو شمعا ليشعله أو صابونا لغسل اليدين به أو نحو ذلك فلا تجوز الإجارة فيه، فلا تصح الإجارة في أي شيء يستنفذ شيئا من الأجزاء بل لا بد أن تكون مختصة بالمنافع، ولا يريدون ما يحصل من التلف اليسير، فإن سكنى الدار يحصل فيها تلف يسير، فهذا ليس هو المقصود، بل المقصود أن يكون هذا العقد يقضي على شيء من أجزائها، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب جمهور الفقهاء، واختار شيخ الإسلام جواز هذا، واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد من المتأخرين، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، ولو سلمنا - ونحن نسلم بهذا - أنها ليست إجارة لأن الإجارة تكون على المنفعة مع بقاء العين وعدم استهلاكها لكن لا مانع من ذلك، فهي وإن لم تكن إجارة لكن لا دليل على المنع منها، ولذا قال شيخ الإسلام:" هي إذن بالإتلاف وليست إجارة وهذا سائغ "، أي أن يأذن بإتلاف ماله مقابل مال يدفع إليه فهذا سائغ، وهي ليست بإجارة، لكنها عقد صحيح لا تستهلك فيه العين كلها فيكون بيعا، وإنما يستهلك فيها بعض العين، ويأخذ المؤجر حقه مقابل هذا الاستهلاك.
قوله [فلا يصح إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر](15/7)
أي في المرضعة فذلك جائز، أما لو استأجر من رجل إبلا أو بقرا أو غنما ليأخذ لبنها في وقت درها فقال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لأن الإجارة على المنفعة، وهنا وقعت على العين، فإن اللبن عين، فليست الإجارة على منفعة، وقال بعض أهل العلم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختياره رحمه الله، واختيار تلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز، قياسا على الظئر، فكما أن الظئر يجوز لها أن تؤجر لبنها للطفل فكذلك يجوز في هذه المسألة، قالوا: واللبن هنا مع بقاء الأصل كالمنفعة مع بقاء الأصل، فاللبن هنا يستهلك والأصل باق، فإن الأصل هو البقر - مثلا - باق، واللبن يستهلك فأشبه هذا المنفعة، فإن المنفعة تكون مع بقاء الأصل، قالوا: وبالقياس على المساقاة فإنه يؤجر أرضه ونخله ويأخذ الآخر ثمرها بكراء من ذهب أو فضة، وهنا كذلك فإنه يستأجر هذا البقر أو الغنم ويأخذ لبنها، بل تطرق الإجارة إلى الأرض أعظم من تطرقها إلى لبن هذه الشاة أو لبن هذه البقرة، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وليس مع المانعين دليل يمنع كما أن الأصل في العقود الحل.
قوله [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعا]
إذا قيل: أنتم عندما تكرون أرضا أو تؤجرونها يدخل فيها ماء بئرها، وعندما تكرون أرضا للزراعة يدخل في ذلك ماء بئرها، ويدخل في ذلك الماء الذي في الأرض وهي أعيان، فلماذا لو تقولوا بالمنع فيها، فهي كاستئجار الحيوان لأخذ اللبن في وقت دره، فأجابوا هنا: أنهما يدخلان تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، وهي قاعدة صحيحة، وعلى القول الراجح المتقدم الذي اختاره شيخ الإسلام لا إشكال في هذه المسألة.
قوله [والقدرة على التسليم]
هذا هو الشرط الثالث: أن يكون مقدورا على تسليمه كما يشترط هذا في البيع.
ولا شك أنه إذا أجر ما لا يقدر على تسليمه فإن ذلك غرر.(15/8)
قوله [فلا تصح إجارة الآبق والشارد]
فلا تصح إجارة العبد الآبق أي الهارب من سيده وكذلك لا تصح إجارة الشارد أي الجمل الشارد وهذا ظاهر.
قوله [واشتمال العين على منفعة]
هذا هو الشرط الرابع: وهو أن تكون العين مشتملة على المنفعة.
فعندما يستأجر منه عينا على أن ينتفع بها ولا نفع فيها فلا شك أن ذلك لا يجوز، وذلك لأن المقصود هو استيفاء المنفعة، فإذا لم تكن المنفعة ثابتة في هذه العين فحينئذ لا يمكن استيفاؤها، فعندما يكريه جملا عاجزا عن الحمل لكي يحمل عليه فلا يمكنه أن يستوفي ذلك، فكان ممنوعا ولذا قال:
قوله [فلا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض سبخة لا تنبت]
فلا يجوز له أن يؤجر أرضا سبخة لا تنبت لأن هذه العين لا نفع فيها ولا يمكنه أن يستوفي نفعها، كذلك عندما تكون البهيمة زمنة أي فيها عاهة فلا يمكن أن تؤجر ولا تصح إجارتها وذلك لأن المنفعة لا يمكن استيفاؤها.
قوله [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونا له فيها]
هذا هو الشرط الخامس: وهو أن تكون المنفعة للمؤجر مملوكة له أو مأذونا له فيها.(15/9)
ولم يقل: العين، وذلك لأن الإجارة تقع على النفع، فمتى كان مالكا للنفع فله أن يؤجر، فمثلا ناظر الوقف لا يملك الوقف لكنه يملك منافعه فله أن يؤجر، والمستأجر لدار مثلا لا يملك الدار لكنه يملك منفعتها فله أن يؤجرها، وكذلك عندما تكون هذه الأرض مملوكة لغيره وقد وكله بتأجيرها، فهو لا يملك العين بل يملك النفع، وهو نائب عن المالك فله أن يؤجرها، فعلى ذلك إذا أجر رجل دارا لا يملك منفعتها فلا تصح إجارتها، وذلك لاختلال هذا الشرط، والإجارة كالبيع فكما أن البيع يشترط فيه أن يكون من مالك، فكذلك الإجارة، وعلى ما تقدم ترجيحه من صحة بيع الفضولي مع الإجازة فكذلك الإجارة، فإذا أجر دارا وهو لا يملك منفعتها فأجاز مالك المنفعة ذلك فتصح الإجارة لأنه تصرف فضولي أجيز، فهو صحيح خلافا للمشهور من المذهب كما تقدم في البيع.
قوله [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررا]
إذا استأجر أرضا أو دارا أو جملا أو نحو ذلك فهل له أن يؤجر؟
الجواب: باتفاق العلماء له أن يؤجر، وذلك لأنه مالك لمنفعتها المدة المتفق عليها، ولكن هل له أن يؤجرها بثمن أكثر؟
الجواب: له ذلك، وذلك لأنه متصرف في ملكه، فالمنفعة ملك له، فله أن يؤجرها بما شاء.
ولكن هل له أن يؤجرها مع ضرر أكثر؟
الجواب: ليس له ذلك، مثاله: استأجرت أرضا لتزرع فيها قمحا، فهل لك أن تؤجرها لمن يزرعها أرزا؟
الجواب: ليس لك ذلك لأن الأرز يستهلك الأرض أكثر من استهلاك القمح لها، وكذلك إذا استأجرتها لتزرع شيئا من الخضروات فليس لك أن تؤجرها لمن يزرعها قمحا لأن القمح يستهلك الأرض أكثر، وكذلك إذا استأجرت دارا لتسكنها فليس له أن تؤجرها لما يضر بها، كأن تؤجرها محلا أو نحو ذلك، وذلك لأنك لا تملك ذلك، فأنت عندما استأجرت الأرض لتزرع القمح، هل لك أن تزرعها أرزا؟(15/10)
الجواب: لا، ليس لك ذلك، لأن المنفعة المأذون لك فيها أقل ضررا، فإذا كان هذا فيك، فكذلك فيمن يقوم مقامك، أما إذا أجرها بنفس الضرر أو أقل فلا بأس.
قوله [وتصح إجارة الوقف]
وذلك لأن نفعه مملوك للموقوف عليه، فإذا أوقفت دارا على أولادك فنفع هذا الوقف مملوك للأولاد، فإذا أجر، فالإجارة تقع على منفعته وهي مملوكة للمؤجر.
قوله [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ وللثاني حصته من الأجرة]
إذا أجر الوقف ثم مات هذا المؤجر، فإنه يتنقل إلى من بعده في المرتبة فما الحكم؟
مثاله: قال هذا البيت وقف على زيد فإن مات زيد فهو وقف على عمرو، فإذا أجره زيد سنة، فلما مضى شهر مات، فهل تنفسخ الإجارة؟
قال المؤلف: لا تنفسخ الإجارة لأن زيدا لما أجره كان مأذونا له في ذلك، وكان ذلك تحت ولايته، فكان له أن يؤجره كما أنه لمالك غير الوقف أن يؤجر ملكه، فإن مالك غير الوقف إذا أجر ثم مات فإن الإجارة لا تنفسخ كما سيأتي، فجعلوا إجارة من بيده الوقف كإجارة مالك الشيء غير الموقوف، والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن عقيل من كبار الحنابلة أنه ينفسخ، قالوا: لأنه أجر هذا الوقف في وقت ملكه للنفع، وذلك وقت حياته، وأجره في غير ملكه وهو ما بعد موته، فليس له أن يؤجره في غير ملكه، فقد انتقل إلى طبقة أخرى، وهذا القول هو الراجح، والفرق بين إجارة المالك لغير الوقف وبين إجارة المالك لمنفعة الوقف ظاهرة، والقياس مع الفارق لا يصح، ويمكن أن يكون الفرق من وجهين:
الأول: أن ملكية المالك لغير الوقف أقوى من ملكية مالك نفع الوقف، فإن ملكية المالك تثبت على العبن والنفع، وأما الوقف فالموقوف عليه لا يملك إلا نفعه.(15/11)
الثاني: أن المؤجر المالك لغير الوقف له أن يأخذ المال - أي الأجرة - ويكون في ملكه من أول الإجارة، وأما المالك لنفع الوقف فإنه يؤخذ من تركته كما قرر ذلك الحنابلة - فيما سيأتي -، بمعنى: أجره ثم بعد شهر مات هذا المؤجر، فلا يملك من هذه الإجارة إلا مدة شهر، وأما المالك الآخر فلو أخذ المال أي الأجرة قبل الموت فهو مالك لها، فاختيار شيخ الإسلام هو الراجح وبه يحفظ حق الموقوف عليه، فإن المدة قد تطول عليه.
فإن قلنا: لا تنفسخ، فكما قال المؤلف هنا (للثاني حصته من الأجرة)
إذا أجره الموقوف عليه الأول لمدة سنة بعشرة آلاف ريال، وأخذ فيها خمسة آلاف ريال، ومات بعد ستة أشهر، فللموقوف عليه الثاني الخمسة الآلاف الباقية، لأن النفع في هذه المدة الباقية أصبح ملكا له، وليس للموقوف عليه أن يستسلف الأجرة كما قال شيخ الإسلام، وذلك لأنه لا يملك منفعتها المستقبلة، وبالتالي لا يملك أجرتها المستقبلة، فإذا اتفق معه على الإجارة خمس سنوات وأخذ الأجرة مع العقد فما يدريه أنه سيعيش ويبقى له الوقف هذه السنوات المقبلة، فإنه لا يملك إلا منفعتها الحالة، فعليه: يأخذ الأجرة أقساطا، فإذا أخذ الموقوف عليه الأول الأجرة كاملة وكان الاتفاق على سنة ثم مات بعد شهر، فالمشهور من المذهب أن الموقوف عليه الثاني يرجع إلى تركة الموقوف عليه الأول، فإن لم يجدها قالوا: تسقط، وذلك لأنه لا يمكن الرجوع فحينئذ تسقط، وهذا فيه تضييع حق كما تقدم، وليس له أن يفسخ، لأن الأول قد أثبت هذا العقد، والراجح كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام وهو أحد الوجهين في المذهب.
قوله [وإن أجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح](15/12)
فإذا أجر داره التي يغلب على ظنه بقاؤها مدة طويلة إذا أجرها مدة طويلة صح، كأن يؤجر بيتا له يغلب على ظنه بقاؤه عشرين سنة يؤجره عشرين سنة، فهذه الإجارة صحيحة، وذلك لأن الأصل في العقود الحل، ولا محذور في هذا العقد، وإذا صح لسنة أو سنتين أو نحوهما فإنه يصح أكثر من ذلك ولا محذور فيه.
* هل يجوز للوكيل المطلق أن يؤجر الدار ونحوها - التي قد وكل في إجارتها - مدة طويلة يغلب على الظن بقاؤها فيها؟
منع نم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف أن الوكيل لا يؤجر السنين الطويلة وإنما يؤجر السنة والسنتين ونحو ذلك، وصوب صاحب الإنصاف وقال:" لا يظهر أن الشيخ تقي الدين يمنع من ذلك " صوب أنه إذا كان في ذلك مصلحة جاز ذلك، ويعرف ذلك بالقرائن، فإذا ظهر للوكيل أن في إجارة الدار المدة الطويلة مصلحة للموكل فإنه لا مانع من هذا، وهذا يقع عندنا في مثل استئجار الدوائر الحكومية أو الشركات ونحو ذلك، فإنها في الغالب تحتاج إلى استئجار مدة طويلة ويكن فيها مصلحة، فمثل هذا لا يمنع منه، فالعرف وإن لم يجر به فإن الوكالة تكون فيما فيه مصلحة، وهنا فيه مصلحة ويغلب على الظن بل يتيقن أن هذا الموكل لا يمنع من هذا، وعلى القول بأنه يمنع من ذلك فإنه موقوف على إجازته.
إذن لصاحب الدار أن يؤجر داره مدة طويلة يغلب على الظن بقاء الدار فيها، وأما الوكيل فليس له أن يؤجر إلا ما جرت العادة له كسنة أو سنتين أو نحو ذلك، إلا أن تكون هناك مصلحة ظاهرة فإن ذلك جائز ولا حرج فيه.
قوله [وإن استأجرها لعمل، كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث، أو دياس لزرع، أو استأجر من يدله على طريق، اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف](15/13)
فإذا استأجر من يدله على طريق أو استأجر جملا أو نحوها لتحمل أو استأجر بقرا لدياس الزرع أو لحرث الأرض ونحو ذلك فإنه يشترط أن يعلم هذا العمل ويعرف بما لا يختلف فيه، وذلك لأن المعقود عليه هو العمل، فاشترط العلم به كالبيع، فكما أنه يشترط العلم بالمبيع في عقد البيع، فيشترط أيضا العلم بالعمل في عقد الإجارة، فإن الإجارة نوع من أنواع البيع.
قوله [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة]
لا تصح الإجارة على عمل من الأعمال التي يختص أن يكون عاملها من أهل القربة، وأهل القربة هم المسلمون، والأعمال التي يختص بها أهل القربة هي الأعمال التي لا تقع إلى على جهة التعبد كالأذان والإقامة والصلاة والحج وغير ذلك من الأعمال الصالحة، أما إن كان العمل لا يختص أن يكون من القرب كبناء المساجد مثلا فإن باني المسجد قد يبنيه لله عز وجل وقد لا ينوي به التعبد، وكتعليم علوم اللغة، فإنه من نوى بها التعبد كانت عبادة، ومن لم ينو بها التعبد لم تكن عبادة وهكذا.(15/14)
فمثل هذه يجوز أن يأخذ عليها الأجرة بلا خلاف بين أهل العلم، وإنما وقع الخلاف على أخذ الأجرة على الأعمال التي لا تختص بأن يكون فاعلها نم أهل القربة، ولا خلاف بين العلماء أن الرزق الذي يكون من بيت مال المسلمين كالرواتب التي تكون للخلفاء والقضاة والعلماء وغيرهم لا خلاف بينهم أن هذا جائز عند الحاجة، وأما إذا كان آخذه غنيا غير محتاج إليه فقولان لأهل العلم كما حكى ذلك شيخ الإسلام، والجمهور على الجواز، ويدل عليه جواز أخذ الغنيمة للمجاهد الغني، فقد تقدم في كتاب الجهاد أن المجاهد الغني يجوز له أن يأخذ الغنيمة وأن يعطى من النفل فكذلك هنا وهو مذهب جماهير العلماء، وهذا هو الأظهر، ولا نزاع بين أهل العلم على أن الأعمال التعبدية اللازمة كالصلاة والصوم والحج عن النفس وغير ذلك أنها لا تجوز فيها أخذ الأجرة وذلك لأنه لا نفع للغير فيها، فنفعها لازم لصاحبها فلا وجه لأخذ الأجرة عليها، فإن أخذ الأجرة إنما يكون عوضا عن نفع يقع للغير، وهنا لا نفع يقع للغير، واتفق العلماء على أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية لأنها نوع تداوي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري [خ 5737] ، واختلف أهل العلم في أخذ الأجرة على ما سواه مما تقدم، أي أن يأخذ أجرة من الناس لا من بيت المال على قضاء يقضيه بين الناس، أو على عقد الأنكحة لهم، أو على تعليم الناس القرآن أو السنة أو الفقه ونحو ذلك من العبادات المتعدية، فمنع من ذلك الأحناف والحنابلة، واستدلوا بما رواه أبو داود وابن ماجة والحديث حسن لغيره عن عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن، فأهدى له قوسا، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: (إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها) [حم 22181، د 3416، جه 2157] وله شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب بإسناد ضعيف [جه 2158](15/15)
وآخر بإسناد لا بأس به من حديث أبي الدرداء عند البيهقي [هق 6 / 126] وعلى ذلك فالحديث حسن لطرقه أولا، ولشواهده ثانيا، وهذا السوط وإن كان هدية لكنه مقابل لهذا النفع حيث علمه شيئا من القرآن فكان بمعنى الأجرة، وأجاز المالكية والشافعية أخذ الأجرة على ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) قالوا: فنقيس هذه المسائل المختلف فيها على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وأجاب أهل القول الأول بأن أخذ الأجرة على الرقية باب آخر، فإن الرقية نوع من أنواع الطب، فكان أخذها كالطب، فإن فيها مداواة، لما فيها من العمل من نفث وغير ذلك، واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخاطب المرأة: (ملكتكها بما معك من القرآن) [خ 5030، م 1425] فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - صداق هذه المرأة أن يعلمها ما معه من القرآن، فيكون صداقها هو تعليمها القرآن، فدل هذا على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجاب أهل القول الأول عن هذا الدليل بأن هذا من باب الإكرام له لا من باب الصداق، وهذا الجواب ضعيف، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له كما في رواية مسلم: (فعلمها القرآن) [م 1425] فدل على أنه ليس لإكرامه فحسب بل ليعلمها القرآن، وأجابوا عنه أيضا بأن هناك فارقا بين عوض النكاح وعوض الأجرة، فعوض النكاح لا يجب تسميته عند العقد ولها مهر مثيلاتها، وأما الإجارة فكما تقدم أنه يشترط فيها تسمية الأجرة، وهذا التفريق ضعيف، وذلك لأننا نجيز على الراجح الإجارة إذا لم تسم حيث كان هناك عرف، فإذا استأجر شيئا ولم يذكر في العقد أجرته وكان له أجرة في العرف فإن الإجارة تصح، إذن لا يصح رد على هذا الحديث الصحيح، وفيه جواز أخذ الأجرة على العمل الصالح، والقول الثالث في هذه المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ(15/16)
الإسلام أنه جائز عند الحاجة، وهذا القول هو الراجح وبه تجتمع الأدلة، فإن قوله: (ملكتكها بما معك من القرآن) إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان هذا الرجل فقيرا لا يملك شيئا، فهو محتاج، وبهذا القول تحصل المصالح، وتدرأ المفاسد، ولذا استحبه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، استحبه وفضله على العمل عند السلطان، وعلى أن يتدين وهو لا يدري هل يقضي دينه أو يموت وأمانات الناس في عنقه، إذن عن الإمام أحمد ثلاث روايات:
1- الرواية الأولى: المنع مطلقا، وهو مذهب الحنابلة والأحناف.
2- الرواية الثانية: الجواز مطلقا، وهو مذهب الشافعية والمالكية، وفيه ما فيه من المفاسد حيث يبخل أهل العلم وأهل النفع المتعدي الديني بما معهم إلا بمال.
3- الرواية الثالثة: وهو اختيار شيخ الإسلام أنها جائزة عند الحاجة، ومما يدل على هذا قول الله تعالى في ولي اليتيم {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} ، وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) [حم 15103] وهذا من أدلة المنع، ولكن عند عدم الحاجة كما تقدم.
قوله [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والخط ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها](15/17)
هذا في الأشياء الواجبة على المؤجر، والحاكم في ذلك هو العرف، فما يذكره المؤلف من التفاصيل حيث كان العرف يوافق هذا، وأما حيث كان العرف لا يوافقه فلا يصح كما قرر هذا صاحب الإنصاف، والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم من أهل العلم، فالأولى هو الحكم بالعرف في مثل هذه المسائل، إذ لا دليل من الشرع يدل على ذلك، وليس هناك شرط لفظي فرجع إلى الشرط العرفي، فمثلا عندنا الكهرباء والمياه هذه واجبة على المستأجر، وأما إصلاح الدار إذا انهدم منها شيء فهذا واجب على المؤجر.
وقوله (ورحله) أي ما يخمل عليه
وقوله (والشد عليه) أي شد هذه البضاعة ونحو ذلك، فهذا واجبة على المؤجر.
قوله (وشد الأحمال) أي البضائع.
وقوله: (والمحامل) وهي الشقتان اللتان تكونان على شقتي البعير للحمل.
قوله (ولزوم البعير) فمثلا وهم في الطريق قال المستأجر أريد أن أقضي حاجتي، فالذي يلزم البعير هو المؤجر.
قوله [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة]
البالوعة لعلها أشبه ما يكون بما يسمى عندنا بالبيارة، وهي حفرة تحفر في الأرض فتجتمع فيها مياه الأمطار ومياه المستحم، ونحو ذلك من المياه الفائضة في الدار، وقوله (والكنيف) وهو محل قضاء الحاجة، ويلزم المستأجر لأنها نتيجة فعله واستخدامه بهذه الدار، وهذا إذا تسلمها فارغة، أما إذا تسلمها غير فارغة فهنا بالمشاركة، وإذا تسلمها فارغة فإنه يسلمها فارغة، والعرف يقضي بهذا.
فصل
قوله [وهي عقد لازم]
فالإجارة عقد لازم لأنها نوع من أنواع البيع، وعليه فلا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين مع عدم رضا الآخر، قال تعالى {يا أيها الذي آمنوا أوفوا بالعقود} فهي عقد لازم يجب إيفاؤه، وعليه فليس لأحد من الطرفين أن يفسخه كالبيع، إلا في وقت الخيار، فإن فيه خيارا كالبيع، خيار مجلس وخيار شرط.
قوله [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له](15/18)
وهذا هو المشهور من المذهب، فإذا أجرة شيئا كأن يؤجره دارا ويكون الاتفاق على مدة سنة، ثم منعه كل المدة فلم يمكنه من الانتفاع بها أو منعه بعض المدة كأن يخرجه منها بعد ستة أشهر مثلا فلا شيء له، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لم يسلمه ما تشارطا عليه، فإنهما قد تشارطا على المدة كلها فلم يوف بشرطه، ولم يسلمه ما عقد عليه من الإجارة فلا شيء له، ولو كان المستأجر قد انتفع بها بعض المدة كأن يستأجرها سنة ثم يجبره على الخروج منها بعد ستة أشهر، فلا شيء له لأنه لم يسلمه ما اتفقا عليه، وقال الجمهور: بل له الأجرة بقسطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، فمثلا: إذا أجره داره سنة بعشرة آلاف، ومكنه من الانتفاع ستة أشهر ثم أجبره على الخروج فإن المؤجر يملك من الأجرة نصفها فله خمسة آلاف، وهذا القول هو القول الراجح، وذلك لأن المستأجر قد انتفع بهذه العين المؤجرة هذه المدة على وجه المعاوضة فكان عليه قسط ذلك من العوض، لكن يتوجه ما ذهب إليه الحنابلة فيما إذا لم يكن له نفع بهذه الإجارة، كأن يستأجر حمالا أو غيره على عمل فيعمل له بعض العمل على وجه ولا ينفعه، بل قد يكون عليه فيه ضرر، كأن يتفقا على حمل شيء من المتاع من بلدة إلى أخرى فيحمله إلى بعض الطريق في موضع يضر بالمستأجر أو لا ينفعه فحينئذ لا يتوجه أن يكون له أجرة، لأن المستأجر لم ينتفع، أما لو كانت البضاعة مثلا تحمل من جدة إلى حائل فحملها له إلى المدينة وهناك من يحملها له من المدينة إلى حائل بأجر أقل بسبب قصر المسافة فإنه يترجح ما ذهب إليه الجمهور لأنه قد انتفع بهذا العقد على وجه المعاوضة فكان عليه الأجرة.
قوله [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه](15/19)
إذا بدأ الآخر - وهو المستأجر - قبل انقضائها فعليه أي الأجرة، فإذا استأجر دارا لمدة سنة ثم خرج منها بعد بضعة أشهر ولم يستوف المدة المتفق عليها فعليه الأجرة كاملة، وهذا هو مقتضى عقد الإجارة، فإن مقتضاه أن المستأجر يملك المنفعة هذه المدة، والمؤجر يملك الأجرة، وعليه فإذا تحول المستأجر عن الدار قبل انقضاء المدة فإن للمؤجر الأجرة كاملة، وذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الإجارة.
قوله [وتنفسخ بتلف العين]
فالإجارة تنفسخ بتلف العين، فإذا استأجر جملا ليركبه فمات الجمل فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة.
وهل يجوز للمؤجر أن يبيع العين المؤجرة؟
الجواب: يجوز هذا إذ لا محذور فيه، فمثلا أجر عمرو زيدا داره لمدة خمس سنوات، ثم أراد أن يبيعها، فالبيع صحيح، وتبقى الإجارة على ما هي عليه فلا تنفسخ، لأن المستأجر مالك للمنفعة تلك المدة، لكن إن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الفسخ كما تقدم في كتاب البيع.
قوله [وبموت المرتضع]
تقد استئجار المرضعة، وقد قال تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإذا استأجر ولي الطفل - الذي يحتاج إلى رضاع - إذا استأجر ظئرا لترضع طفله، ثم مات المرتضع، فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لأن هذه المنفعة وهي منفعة الرضاع لا يمكن استيفاؤها.
قوله [والراكب إن لم يخلف بدلا](15/20)
كذلك إذا مات الراكب ولم يخلف بدلا، فإذا استأجر دابة ليركبها من بلدة إلى أخرى فمات المستأجر ولم يخلف وارثا بدلا عنه يقوم بالانتفاع بهذه العين، فإن الإجارة تنفسخ في أحد قولي المذهب، قالوا: لأن فيه ضرر، فإن المستأجر لا ينتفع بها ولا تورث عنه، والمؤجر يمنع من التصرف بها، فتبقى هذه العين عاطلة لا ينتفع بها، وهذا أحد القولين في المذهب وهو اختيار الشيخ السعدي، والقول الثاني في هذه المسألة وهو المذهب أن الراكب إذا مات ولم يخلف بدلا فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، قالوا: لأن عقد الإجارة عقد لازم كما تقدم، والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول، لثبوت الضرر، ولأن هذه العين تبقى عاطلة لا ينتفع بها.
فالذي يتبين والله أعلم في هذه المسألة أحد الوجهين في المذهب وهو أنه إذا مات الراكب ونحوه ولم يخلف بدلا ينتفع بهذه العين المؤجرة فإن عقد الإجارة ينفسخ، وذلك لأن خلاف هذا يبقى هذه العين عاطلة، فلا يمكن للمكري - أي المؤجر - أن يتصرف بها، والمكتري لا نفع له بها.
قوله [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه]
فإذا اتفق زيد مع الطبيب على أن يقلع ضرسه، وكانت الأجرة كذا وكذا، فانقلع الضرس قبل قلع الطبيب له فحينئذ تنفسخ الإجارة، وقوله (أو برئه) كأن يقول للطبيب أنا اتفق معك على أني إن شفيت من هذا المرض فلك عشرة آلاف، فشفي من الغير طب، أو بطريق آخر من الطب سوى هذا الطبيب الذي اتفق معه، فحينئذ تنفسخ الإجارة، فلا شيء للطبيب وذلك لما تقدم حيث إنه لا نفع للمستأجر بها، فلا يمكنه استيفاء المنفعة المعقود عليها.
قوله [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما](15/21)
المتعاقدان هما المؤجر والمستأجر، فإذا ماتا أو مات أحدهما فإن الإجارة باقية لازمة، لا تنفسخ لأنها عقد لازم، فإن قيل هناك ضرر؟ فالجواب: أنه لا ضرر فإن المستأجر موروث، ومن إرثه ملك المنفعة في هذه الأجرة، فينتفعون بهذه الدار إما بسكناها أو بتأجيرها، فليس هناك ما يبطل كون عقد الإجارة عقدا لازما هنا، ويخرجنا عن الأصل في الإجارة.
قوله [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه]
كاحتراق بضاعته مثلا، فمثلا: استأجر جملا فضاعت نفقته، أو استأجر دكانا فاحترقت بضاعته، فإن الإجارة ثابتة فلا تنفسخ، وذلك لما تقدم من أنها عقد لازم فهي كالبيع، ويمكنه حينئذ أن يؤجر هذه الدار أو يؤجر هذا الجمل ونحو ذلك، وكذلك لو استأجر سيارة ليركبها وضاعت نفقته التي منها هذه الأجرة التي تدفع إلى صاحب السيارة فإن الإجارة تثبت لأنها عقد لازم كالبيع.
قوله [وإن اكترى دارا فانهدمت الدار أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي]
فإذا استأجر دارا ليسكنها فانهدمت هذه الدار، أو استأجر داكنا ليعمل به فانهدم هذا الدكان أو استأجر أرضا ليزرعها أو ليغرس فيها نحلا ونحو ذلك، أو غار الماء الذي فيها، أو انقطع أو غرقت، فإن الإجارة تنفسخ في الباقي، وذلك لأنه لا يمكنه أن ينتفع بهذه العين، قالوا: إذا انهدمت لا يمكنه أن ينتفع بها بعد انهدامها، والأرض إذا غار ماءها وقد استأجرها ليسكن فيها فلا يمكنه أن ينتفع بها، فلا يمكنه أن يستوفي المنفعة، فأشبه هذا بتلف العين، ولكن ما مضى فعليه الأجرة، فمثلا: استأجر دارا لمدة سنة، فانهدمت بعد ستة أشهر فعليه أجرة ستة أشهر، وذلك لأنه انتفع بها على وجه المعاوضة فقد استوفى منفعتها فعليه الأجرة، ولا وجه لإسقاطها.
قوله [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى](15/22)
كأن يستأجر عبدا ليعمل له مدة معلومة، أو استأجر جملا ليركبه فوجد في هذه العين عيبا، فللمستأجر الفسخ كالبيع، فإذا استأجر شيئا فوجده معيبا أو حدث به عيب عنده فإنه بالخيار إن شاء أمضى المدة وإن شاء فسخ، فإن أمضاها فهل يكون له أرض أم لا؟
مثاله: استأجر دارا بعشرة آلاف، فوجدها معيبة بحيث إنها لا تساوي مع العيب إلا ثمانية آلاف فإن شاء فسخ، وإن شاء أمضى، فإن أمضى فهل يأخذ الألفين أرشا؟
تنبني على المسألة السابقة في خيار العيب، وقد تقدم أن المذهب أن له الأرش، وأن الراجح أنه لا أرش له، ومع ذلك إن المشهور في المذهب هنا أنه لا أرش له، وقياس المذهب أن له الأرش كالمسألة السابقة، والصحيح ما تقدم في تلك المسألة وفي هذه المسألة المتفرعة عنها فلا أرش له.(15/23)
فإن تبين بعد مضي مدة أن بها عيبا كأن يستأجرها بعشرة آلاف، ثم تبين له أن فيها عيبا يجعل إجارتها تساوي ثمانية آلاف بهذا العيب، فإذا سكنها ستة أشهر ثم تبين له العيب فعلى المذهب لا أرش له هنا، وحينئذ فإذا أراد الفسخ فإنه يدفع خمسة آلاف أجرة الستة أشهر، وإن شاء أن يمضي بعشرة آلاف، وفي هذا فيما يظهر نظر، وذلك لأن هذا الأرض يدفع عنه الضرر هنا بخلاف المسألة المتقدمة، فإنه قد استوفى المنفعة هنا في هذه المدة وفيها هذا العيب، فحينئذ عليه ضرر حيث إنه استأجر معيبا على أنه غير معيب، وقد استأجره بأجرة غير المعيب، وليس هذه كالمسألة المتقدمة، فهنا لا يدفع الضرر عنه إلا بحساب الأرش، فالذي يظهر أنه لا يدفع قسط الأجرة على أن السلعة غير معيبة، بل يدفع القسط على أن السلعة معيبة، فمثلا: استأجر دارا مدة ثمانية أشهر، ثم تبين له أن فيها عيبا، فالثمانية أشهر لغير المعيبة لعشرة آلاف، وللمعيبة بستة آلاف، فعلى المذهب إن أمضى فإنه يدفع العشرة آلاف، وهذا فيه نظر، فإنه لا يندفع عنه الضرر إلا بإعطاء هذا الأرش الفارق بين ثمنها معيبة وثمنها غير معيبة.
قوله [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ]
الأجير نوعان:
1- أجير خاص.
2- أجير عام مشترك.(15/24)
فالأجير الخاص هو من يختص المستأجر بنفعه مدة معلومة، فعندما يستأجر عاملا للزراعة أو للتجارة أو نحو ذلك لمدة شهر أو شهرين أو نحو ذلك فهذا الأجير نفعه خاص بالمستأجر، فإذا جنى هذا الأجير جناية خاطئة لم يتعد فيها ولم يفرط فتلف مال المستأجر أو بعضه فإنه لا يضمن، كأن يستأجر عاملا للمزرعة فيعمل على مكائنه فيفسدها من غير أن يتعدى ولا يفرط، فإنه لا ضمان عليه، كالوكيل والمضارب ما تقدم، فهو نائب عن المالك في منافعه، فإن منافع هذا الأجير مملوكة لمستأجره، فهو نائب لهذا المستأجر في تصريف منافع نفسه على حسب ما يأمره به هذا المستأجر، فإذا حصل شيء من التلف بغير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمن كالوكيل والمضارب.
قوله [وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم إن عرف صدقهم]
البيطار هو طبيب البهائم، والطبيب هو الطبيب المعروف، وهو في العرف الحادث يراد به كما ذكر ابن القيم الطبيب الطبائعي، وأما في اللغة فهو أعم من ذلك، فإن الحجام والكواء ونحو ذلك يقال لهم طبيب، فعلى ذلك كلهم يدخلون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (من تطبب وهو لا يعلم بطب فهو ضامن) [ن 4830، د 4587، جه 3466] فالطبيب بكل أنواعه سواء كان طبيبا للآدميين أو للبهائم أو حجاما أوكيميائيا أو كواء أو نحو ذلك فإنه إذا لم تجن يده وعرف حذقه في الطب فإنه لا يضمن، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (من تطبب ولا يعلم بطب فهو ضامن) وظاهره أنه إذا كان يعلم بالطب فإنه لا يضمن، ولأن هذا الفعل مأذون له، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ذكره المؤلف هنا بالاتفاق، فإذا لم تجن يده وهو طبيب حاذق فإنه لا يضمن، وكذلك إذا صرف دواء وهو حاذق وهو غير مخطيء في ذلك بل صرفه صرفا صحيحا ومع ذلك ترتب عليه ضرر ولم يقع منه تفريط ولا تعدي فإنه أيضا لا يضمن.(15/25)
قوله [ولا راع لم يتعد]
فالراعي إذا لم يتعد ولم يفرط في حفظ ما تحت يده من البهائم فإذا حصل شيء من التلف فإنه أيضا لا يضمن لأنه أمين والأمين غير ضامن.
قوله [ويضمن المشترك ما تلف بفعله ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له]
الأجير المشترك: هو من لا يختص أحد من المستأجرين بنفعه، بل نفعه يشترط فيه بحيث إنه يعمل لعدة أشخاص في وقت واحد، كخياط الثياب أو مصلح السيارات ونحو ذلك، فإذا حصل عنده تلف ولم يتعد ولم يفرط فإنه يضمن في المشهور عند الحنابلة، وذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومال إليه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يضمن، وهذا القول هو الراجح، واستدل أهل القول الأول بما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:" أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، ويقول: لا يصح الناس إلا بهذا " لكن الحديث إسناده منقطع فلا يصح، ولذا ضعفه الشافعي وغيره، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني، وذلك لأنه لم يحصل من تعد ولا تفريط، وهو مأذون له بهذا العمل فترتب على عمله المأذون له فيه تلف من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه.
وقوله (ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله) مثاله: لما خاط الثوب وضع الثوب في حرز مثله، أي في محل يحفظ فيه الثوب عادة، فسرق الثوب، أو حصل له تلف بغير فعل منه، فحينئذ لا يضمن وذلك لأنه أمين والأمين لا يضمن ـ فالثوب الآن أصيح أمانة عنده.(15/26)
وقوله (ولا أجرة له) فلا أجرة له في هاتين المسألتين كلتيهما، فإذا حصل في الثوب تلف بفعله أو حصل له تلف وهو في حرزه أو بغير فعله فلا أجره له في هذه المسائل، وذلك لأنه لم يسلم ما اتفقا عليه، واختار ابن عقيل من الحنابلة وقواه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن له الأجرة، وذلك لأن الأجرة في مقابل العمل وقد حصل العمل، وهذا هو القول الراجح، فالاتفاق على أن يخيط له هذا الثوب مثلا، وقد خاطه فإذا حصل له تلف من غير تعد ولا تفريط منه أو حصل له تلف في حرزه فإنه يستحق الأجرة لأن الأجرة عوض عن عمله.
وقوله هنا (ولا يضمن ما تلف من حرزه) أي من غير تعد ولا تفريط، قالوا: فإذا حبس الثوب على الأجرة ثم حصل فيه تلف فإنه يضمن، كأن يقول له: لا أعطيك الثوب حتى تدفع الأجرة فحصل له تلف فإنه يضمن، وذلك لأنه قد تعدى بعدم إعطائه الثوب ونحوه في الوقت المحدد.
وهذا ينبني على أن حبس الثوب ونحوه المعمول فيه على الأجرة أنه تعد، والصحيح أنه ليس بتعد كما هو اختيار ابن القيم رحمه الله، فإنه قرر أن هذا العمل من هذا الأجير قائم بهذه العين المستأجرة، والعمل يجري مجرى الأعيان، بدليل ثبوت العوض في الأعمال كثبوتها في الأعيان، وحينئذ فله أن يمتنع من تسليم عمله المرتبط بهذا الثوب حتى يستلم العوض، فلم يتعد.
قوله [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل وتستحق بتسلم العمل الذي في الذمة](15/27)
إذا اتفق زيد وعمرو على أن يعمل زيد لعمرو في داره في إصلاح ما انهدم منها، واتفقا على أن يكون العمل لمدة شهر، فيجب الأجرة بمجرد العقد، أي تثبت الأجرة بمجرد العقد كما يثبت الثمن، وكما يثبت الصداق، فبمجرد ما يعقد الرجل على المرأة يجب صداقها، أي يثبت ويلزم، وبمجرد ما يشتري السلعة فإن ثمنها يثبت ويلزم، ولكن هذا الأجير لا يستحق المطالبة بها حتى يسلم العمل الذي في الذمة، ولذا قال (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة) ، وفي البخاري يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) [خ 2270] وفي ابن ماجة والحديث حسن: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) [جه 2443] إذن يملك الأجير المطالبة الأجرة عند تسليم العمل الذي في الذمة، وأما إذا كانت الإجارة على عين فإنه يملك المطالبة عند تسليم العين، فإذا استأجرت دارا لتسكنها فسلمك المؤجر الدار وأعطاك مفتاحها وأخلاها لك فأنت الآن متمكن من الانتفاع بها، فحينئذ يملك هو المطالبة بالأجرة، ولا ينتظر حتى تستوفي المنفعة إلى سنة أو نحو ذلك، بل يطال بالأجرة بمجرد تسليمك العين، وذلك لأنه بتسليمه العين قد مكنك من الانتفاع بها، وأنت قد ملكت المنفعة من حينئذ فكانت الأجرة مطالبا بها من حينئذ كالبيع.
وقوله (إن لم تؤجل) فالأجرة واجبة بالعقد لكن إن اتفقا على تأجيلها فالمسلمون على شروطهم، فإن قال: لا أعطيك الأجرة حالة، بل الأجرة مؤجلة إلى سنة فالمسلمون على شروطهم.
قوله [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل]
إذا تسلم دارا ليسكنها بالإجارة لكن هذه الإجارة إجارة فاسدة كأن يؤجره دارا، ويكون المؤجر غير جائز التصرف مثلا، ثم فرغت المدة فحينئذ ماذا يلزم المستأجر؟(15/28)
يلزمه أجرة المثل، فإذا اتفقا على أن تكون الأجرة عشرين ألفا وأجرة المثل عشرة آلاف فلا يعطيه إلا عشرة آلاف، وكذا العكس، وهذا هو المشهور في المذهب، وذلك لأنها إجارة فاسدة فحينئذ لا تعتبر الأجرة المذكورة فيها، وقياس المذهب كما قال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن الواجب هو الأجر المسمى قياسا على النكاح، فكما أن النكاح الفاسد إذا ذكر فيه صداق فيجب الصداق المسمى فكذلك هنا بل أولى، وذلك لأن الأجرة مقصودة في الإجارة بخلاف الصداق في النكاح فليس بمقصود كقصد الأجرة في الإجارة، فإن هناك مقاصد أخرى للنكاح هي أعظم من مقصد الأجر بخلاف الأجرة في الإجارة فإنها هي المقصودة، وهذا القول هو الراجح.
باب السبق
السبق بتسكين الباء هو المسابقة، وبالفتح السبق هو العوض الذي يجعل للسابق من المتسابقَين أو المتسابقِين.
قوله [يصح على الأقدام]
أي تصح المسابقة على الأقدام، فالمسابقة على الأقدام جائزة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق عائشة [حم 23598، د 2578، جه 1979] وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه سابق بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار فسبقه.
** وهنا مقدمة فيما يجوز من اللهو: اعلم أن اللهو ثلاثة أنواع:
1- النوع الأول: اللهو المفضي إلى ما نهى الله عنه من الصد عن ذكر الله، والعداوة والبغضاء وغير ذلك وهذا محرم لا يجوز، فكل لهو يفضي إلى ما نهى الله عنه فهو محرم لا يجوز، قال شيخ الإسلام:" وكل فعل أفضى كثيرا إلى ما حرمه الله فإن الشارع يحرمه ما لم تكن هناك مصلحة راجحة ".(15/29)
وذلك لأنه يكون سببا للشر والفساد، ولذا حرمت الشريعة النرد وهي ما تسمى بالطاولة عند العامة، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده بدم خنزير ولحمه) [م 2260] وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله رسوله) [حم 19027، د 4938، جه 3762، ك 1786] وهذان الحديثان عامان في النرد سواء كان على عوض وهو القمار أو على غيره، والتشبيه المذكور في الحديث المتقدم وهو قوله: (فكأنما صبغ يده بدم الخنزير ولحمه) هذا التشبيه متناول للعب بالنرد سواء وجد الأكل أم لم يوجد، فاللعب بالنرد محرم وذلك لأنها سبب للشر والفساد والعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، وأولى من ذلك الشطرنج في مذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف والحنابلة، وتوقف الشافعي في حكمها، وللشافعية قولان من إباحة وتحريم، هذا إذا لم يكن فيها عوض، فإذا كانت فيها عوض فلا خلاف بين العلماء في تحريمها وأنها من القمار، والصحيح هو التحريم مطلقا سواء كانت بعوض أم لم تكن بعوض وذلك لثبوت تحريم النرد، والشطرنج أولى من ذلك، فإن صدها عن ذكر الله أعظم، وإلقاءها للعداوة والبغضاء أكثر فكانت أولى بالتحريم، فإنها تستغرق - كما قرر الشيخ الإسلام - تستغرق فكر لاعبيها حتى لا يشعر بنفسه ولا يشعر بمن حوله فهذا مماثل أو أشد من الخمر، وروى البيهقي سننه وصححه شيخ الإسلام أن علي بن أبي طالب:" مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " [هق 10 / 212] وروى ابن أبي شيبة بإسناد منقطع أنه قال:" الشطرنج من الميسر " [مصنف ابن أبي شيبة 6 / 191 برقم 10](15/30)
2- والنوع الثاني: هو اللهو الذي يكون فيه منفعة ولا مضرة فيه فهذا جائز كما قرر هذا شيخ الإسلام، وقد روى الترمذي في سننه وصححه ورواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق) [حم 16849، ت 1637، جه 2811] وروى النسائي في سننه الكبرى نحوه من وجه آخر في كتاب عشرة النساء وفيه: (وتعلم السباحة) [5 / 303] فهذه من الحق وفيها نفع فهي جائزة، وإن كان لا نفع فيها فهي من القسم الباطل الذي يذهب على العبد وقته، وقد يكون من النوع المحرم الذي تقدم ذكره،
وللحنابلة وجهان في اللعب الذي لا يعين على عدو هل يكره أم لا؟
قال صاحب الإنسان الإنصاف:" والأولى الكراهية اللهم إلا أن يكون له بذلك قصد حسن ".
3- النوع الثالث: ما كان معينا على ما أمر الله به في قوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فهذا من اللهو المستحب.
وإذا كان من اللهو المستحب فيجوز فيه السبق وهو الجعل، وإن كان من اللهو المحرم فلا يجوز مطلقا لا بجعل ولا بغير جعل، وإن كان من اللهو المباح أو المكروه فلا يجوز فيه الجعل ويجوز بغير جعل.
قوله [يصح على الأقدام]
فتصح المسابقة على الأقدام كما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة.
قوله [وسائر الحيوانات]
من البغال والخيل والفيلة وغيرها.
قوله [والسفن والمزاريق]
كذلك تصح في السفن والطائرات كما في هذا الوقت وتصح في المزاريق وهي جمع مزراق وهو الرمح، وهكذا كل ما تقدم ما فيه نفع وليس فيه مضرة الراجحة.
قوله [ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام]
فلا تصح بعوض أي بجعل إلا في إبل وخيل وسهام، لما رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) [حم 9788، ت 1700، جه 2878] .(15/31)
(في خف) : أي في الإبل، (حافر) : أي في الخيل، (نصل) : أي في القوس، فهذا الحديث يدل على أن الجائزة لا تحل على شيء من المغالبات وأنواع الملاهي التي تقع في المسابقات إلا في هذه الأنواع الثلاثة التي تعين على الجهاد إعانة ظاهرة وهي سباق الخيل، وسباق الإبل، وسباق الرمي، وأما غيرها فلا يجوز فيها السبق أي الجعل، فالمسابقة على الأقدام والمصارعة ونحو ذلك هذه كلها لا يجوز فيها السبق.
* واختلف أهل العلم هل يقاس على هذه المسابقة ما فيه إعانة على ظهور حجة الإسلام وبراهينه من علوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة؟ قولان لأهل العلم:
القول الأول: منع من ذلك جمهور علماء.
القول الثاني: أجازه الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
وما ذكروه هو الراجح، وذلك لأن القياس قياس صحيح بل هو من باب قياس الأولى، فإن الدين قائم على الحجة والبرهان، وقائم على السيف والسنان، وقيامه بالحجة والبرهان أعظم، وإنما يحتاج إلى السيف والسنان إذا وقف أمام الحجة والبرهان وعورض، فتبين من هذا أن الحجة والبرهان القائمة على العلم النافع الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة أحق بجواز هذا السبق.
** واعلم أن السبق فيها جائز سواء كانت من أجنبي كالإمام أو نائبه أو غيرهما كأن يضعه أحد من أرباب الغنى، فيضع مالا لسباق الخيل أو لسباق الإبل أو الرمي فهذا جائز للحديث المتقدم وهو عام سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما، فهنا المتعلق محذوف فيفيد هذا العموم، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
فإذا وضع الجائزة أجنبي سواء كان الإمام أو نائبه، أو وضعه غيرهما خلافا لما ذهب إليه الإمام مالك، فإنه يمنع أن يكون من غير الإمام أو نائبه، ولا دليل على التفريق، أو كان الواضع أحد المتسابقين فهذا جائز.(15/32)
أما إذا كانت الجائزة من المتسابقَين كليهما أو من المتسابقِين كلهم فمنع من ذلك جمهور العلماء، قالوا: لأن كليهما يكون إما غانما أو غارما وهذا قمار، والقمار محرم، بخلاف ما لو وضعها أحدهما دون الآخر فإن هذا الواضع يكون غارما أو غانما، وأما الآخر فإنه إما أن يكون غانما أو سالما، قالوا: ويجوز حينئذ أن يضع المحلل، فإذا تسابق زيد وعمرو ودفع هذا ألفا ودفع الآخر ألفا فأدخلا بينهما ثالثا لا يضع شيئا فهذا جائز بشرط ألا يؤمن سبقه بحيث لا يكون حيلة إلى تحليل ما حرم الله، قالوا ودليل هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أدخل فرس بين فرسين لا يأمن أن يسبق فلا بأس، وإن أمن فهو قمار) [حم 10179، د 2579، جه 2876] واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذه الصورة التي نهى عن الجمهور بغير محلل، قالا: إذا تسابق على خيل أو إبل أو سهام أو على علوم شرعية كما تقدم فيجوز أن يشارك كل واحد من المتسابقين بالسبق، قالا: لأن القمار أكل للمال بالباطل، وهذا ليس بأكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، فإن فيه إعانة على ما أمر الله به عز وجل من الجهاد في سبيله، وأجابوا عن حديث أبي هريرة المتقدم بأن إسناده ضعيف فهو من حديث سفيان بن حسين وسعيد بن بشير عن الزهري، ورواية سفيان بن حسين عن الزهري ضعيفة، وسعيد بن بشير ضعيف الحديث، قالوا: ورواه الثقات عن الزهري عن سعيد بن المسيب من قوله، فهو من قول سعيد بن المسيب، وهذا القول هو القول الراجح، فإن القمار أكل للمال بالباطل وهذا ليس أكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، واستدلوا بما روى أحمد في مسنده بإسناد جيد: (أن أنس بن مالك قيل له هل كنتم تراهنون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نعم لقد راهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على فرس يقال له سبحة فسبق(15/33)
فهش له وأعجبه) [حم 12216] والإسناد جيد، قالوا: وروى أحمد في مسنده:" أن أبا عبيدة قال: من يراهنني، فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال - أي الراوي - فسبقه فرأيت عقيصتي -] ضفائره - أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي " [حم 346] قالوا: والمراهنة مفاعلة، فإذا قال من يراهن أي من يقابلني في الرهان فيدفع هذا ويدفع هذا، وروى الترمذي وصححه والحديث صحيح:" أن أبا بكر - رضي الله عنه - راهن قريشا على غلبة الروم على الفرس " [ت 3194] فدل هذا على أن المراهنة جائزة.
قوله [ولا بد من تعيين المركوبين]
فلا بد من تعيين المركوبين سواء كانا فرسين أو ناقتين أو نحو ذلك، ولا بد من تعيين الرماة، ولذا قال بعد ذلك:
قوله [والرماة]
وذلك لأن المقصود من المسابقة بين الخيل وبين الإبل معرفة سرعة عدوها، فالمسابقة متعلقة بالمركوب، وإذا لم يعين المركوب فقد يكون المركوب مما يؤمن سبقه، وحينئذ يكون هذا من أكل المال بالباطل، والمسابقة في الرمي المقصود منها معرفة حذق الرماة، فتعلقها بفعل الرماة، فاشترط أيضا تعيين الرماة.
قوله [واتحادهما]
فلا بد من تعيين المركوبين واتحادهما، بأن يكونا عربيين أو أن يكونا هجينين، فلا بد أن يكونا من نوع واحد، وهذا هو المشهور في المذهب، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز أن تكون من أنواع مختلفة، والحاكم في هذه أنه إذا حصل المقصود من المسابقة بان كانت هذه الخيول وإن اختلفت أنواعها كل واحد منها لا يؤمن سبقه فكان فيه الفائدة المرجوة من التدريب على الجهاد في سبيل الله، فذلك جائز، وأما إذا كان بين نوعين مختلفين وأحدهما يؤمن سبقه فإن هذا ممنوع منه لأنه لا فائدة من السباق هذا، وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
قوله [والمسافة](15/34)
فلا بد من تحديد المسافة، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل التي قد ضمرت من الحيفاء - وهو موضع خارج المدينة - إلى ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) [خ 7336، م 1870] قال ابن عمر في رواية للبخاري:" بين الحيفاء وبين ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين الثنية ومسجد بني زريق ميل " [خ 2868] وإضمار الخيل بأن تسمن ثم بعد ذلك لا تطعم إلا قوتها، وتوضع في بيت وتجلل أي تغطى حتى تعرق فيخف لحمها، ثم إن المسافة إذا لم تحدد فإن هذا يفضي إلى الخلاف والتنازع للجهالة، وإزالة الجهالة المفضية إلى النزاع واجب.
قوله [بقدر معتاد]
فلا بد أن يكون القدر معتادا ليحصل المقصود، وإلا فإن الغرض يفوت، فمثلا: الرمي الطبيعي مائة وخمسون مترا تقريبا، فإذا زاد عن هذا فإنه يفوت الغرض لأنه لا يصل إلى الهدف إلا نادرا، كذلك الخيل أو الإبل إذا وضعت مسافة بعيدة جدا لا تصل إليها في العادة فإنه حينئذ يفوت الغرض المقصود.
قوله [وهي جعالة لكل واحد فسخها](15/35)
السبق جعالة في المشهور من المذهب، ويأتي الكلام على الجعالة، وبين ابن القيم في كتابه الفروسية الفارق بين الجعالة والسبق بما يدل على بطلان كون السبق جعالة، فإن بينهما فروقا منها: أن الجاعل للجعل إنما يجعله لنفع نفسه، فإذا ضاع له مال يقول: من يحصل لي هذا المال أعطيه كذا وكذا، فهو يقصد بدفع هذا الجعل نفع نفسه، وأما في السبق فهو يوفيه لمن يعجزه ويقهره ويغلبه، ومنها: أن الجعالة يجوز أن يكون العوض والمعوض مجهولين، فيجوز أن يقول: من أتى بعبدي الآبق وهو مجهول فله كذا وكذا، فالمعوض وهو العبد الآبق مجهول، ويجوز أن يقول القائد في الحرب: من دلني على حصن فله ثلث ما فيه من الغنيمة، والغنيمة التي فيه مجهولة، وهذا كله لا يجوز في باب السبق، بل يشترط أن يكون السبق معلوما وأن تكون المسافة والمركوب والرماة معلومين، فدل على أن السبق ليس بجعالة، كما أنه ليس بإجارة، وليس بشركة، وليس بنذر، كما بين ابن القيم أنه نوع مستقل له حكمه الخاص، فلا يؤخذ أحكامه من أحكام غيره، وهنا الحنابلة قالوا: هو جعالة، وعليه فلكل واحد منهما الفسخ، فمثلا: اتفق زيد وعمرو على المسابقة، وأن يكون بينهما سبقا قدره كذا وكذا، سواء دفع واحد منهما كما هو مذهب الجمهور، أو دفعا كلاهما، فلما شرعا في السباق ولما يتبين الفضل لواحد منهما فيجوز لكل واحد منهما الفسخ، فيجوز قبل الشروع، وبعد الشروع ما لم يتبين أن لأحدهما فضلا، أما إذا تبين أن لأحدهما فضلا فله الفسخ، وأما الآخر فليس له الفسخ، لأنه قد ظهر ما يكون مرجحا لجانب الآخر، فحينئذ إذا جاز له الفسخ ففيه إسقاط لحق الآخر، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب أبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي أن عقد السبق عقد جائز، والقول الثاني للشافعية وهو وجه في المذهب أن هذا العقد عقد لازم، فإذا شرعا فيه فليس لأحدهما أن يفسخ، قالوا: قياسا على عقد الإجارة،(15/36)
والقياس على عقد الإجارة هنا ضعيف، للفارق بين عقد الإجارة وبين السبق، قالوا: الجامع بينهما أن في كليهما يشترط أن يكون العوض والمعوض معلوما كما تقدم، والجواب: أنه قياس مع الفارق، فبينهما فروق منها أن الإجارة يشترط أن يكون العمل المطلوب فيها مقدورا على تسليمه، وليس هذا في باب المسابقة، فإنه قد سبق وقد لا يسبق، وهناك فروق أخرى، ومع ذلك فالذي يتبين والله أعلم هو رجحان هذا القول لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود إلا ما استثني، وإن كان يتوجه - والله أعلم - أنهما إذا لم يشرعا فيه فيتوجه القول الأول، وهو جواز الفسخ، لأنه لا يجوز أن يأخذ أحد مال أخيه بغير طيب نفس منه، وحيث لم يشرعا في السباق فلم يترتب على ذلك عمل من الآخر.
قوله [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي]
المناضلة هي المسابقة في الرمي، وقوله " على معينين " كما تقدم فيشترط أن يعين الرماة، وقوله " يحسنون الرمي " فإن كان بعضهم لا يحسن الرمي فإن هذه من المسابقة التي يؤمن فيها السبق، فيكون هذا من أكل أموال الناس بالباطل.
باب العارية
العارية: تضبط بتشديد الياء وتخفيفها، وهي من العري، وهو التجرد، وسميت بذلك لتجردها من العوض، وعرفها المؤلف بقوله:
قوله [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه]
أي بعد استيفاء النفع، فهذه العين التي أعيرت كالدار مثلا إذا انتفع بها هذا المستعير واستوفى نفعها فإن هذه العين تبقى بعد استيفاء هذا النفع المتبرع به، وهي مشروعة بالإجماع.
* واختلف أهل العلم هل تجب العارية أم لا؟(15/37)
فذهب جمهور العلماء إلى أنها مستحبة غير واجبة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث طلحة بين عبيد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي بعد أن ذكر له هل على شيء غير الزكاة لما سأله عما يجب عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) قالوا: فدل هذا على أن العارية ليست واجبة فلو كانت واجبة لأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لما سأله: هل علي غيرها، والقول الثاني في هذه المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام أن العارية واجبة أي مع غنى مالكها وحاجة الآخر إليها، ودليل هذا ما ثبت في مسلم من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي مستو - تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء - أي التي لا قرن لها - ولا مكسورة القرن، قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) [م 988] والشاهد في قوله: (وإعارة دلوها) ، ويدل لذلك أيضا قول الله تعالى {ويمنعون الماعون} ، وقد روى أبو داود والنسائي في سننه الكبرى بإسناد حسن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إعارة الدلو والدر " [ن كبرى 6 / 522، د 1657] فهو لا يتضرر بهذه الإعارة ولا تفوته مصلحة بها فذم على المنع، وما اختاره شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي، والجواب عن حديث الأعرابي أن يقال: إن العارية من الأمور الطارئة، فقد يملك الإنسان ما يعيره وقد لا يملكه، وإذا ملكه فقد يكون هناك من هو محتاج إليه وقد لا يكون، وهو كما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عن الصلاة: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، مع دلالة الشرع على وجوب صلاة(15/38)
الكسوف، فعلى ذلك القول الراجح هو اختيار شيخ الإسلام.
** والعارية تبرع بالنفع وعليه فلا تصح إلا من جائز التصرف، هكذا يقرر الفقهاء، وهذا على القول باستحباب العارية، وأما على القول الراجح وهو وجوب العارية لا يتبين هذا، فإن هذا تبرع واجب، فهو واجب في ماله فأشبه الزكاة ونحوها.
*** وكل قول أو فعل يدل على الإعارة فإن العارية تثبت به، فإذا قال: أعرتك، فهو قول يدل على العارية فيثبت به، وكذلك إذا قال: أعطيتك راحلتي لتسافر بها ثم تعيدها إلي بلا عوض فهذا قول يدل على العارية، وكذلك إذا قال: أعرني كذا، فدفعه إليه ولم يتلفظ فإن هذا الفعل يدل على الإعارة.
قوله [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح]
كالدلو والقدر والفأس والراحلة والدار وغير ذلك، فكل ذي نفع مباح تباح عاريته لدلالة الأدلة الشرعية على مشروعيتها، وحيث كان النفع مباحا فإنه داخل في العقود، والأصل في العقود الإباحة.
قوله [إلا البضع]
أي الفرج، فإنه لا تصح عاريته، كأن تكون له أمة فإنه لا تصح إعارة بضعها وذلك لأن الفرج لا يباح إلا بما جعله الله سببا لإباحته.
قوله [ولا عبدا مسلما لكافر]
فلا يجوز أن يعير عبده المسلم لكافر ليستخدمه، فإن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.
قوله [وصيدا ونحوه لمحرم]
فليس له أن يعير صيدا لمحرم، ولا نحوه كأن يعيره مخيطا أو نحوه، وذلك لأن المحرم ممنوع من إمساك الصياد، وممنوع من لبس المخيط، فإذا أعاره صيدا أو ثوبا مخيطا فقد أعانه على الإثم، وقد قال الله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
قوله [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم]
فليس له أن يعير أمة شابة أي يفتتن بها، ليس له أن يعيرها لأجنبي عنها ذكر، وذك لأنه لا يؤمن عليها، أما إذا أعارها إلى امرأة أو محرم لها كأن يعيرها عمها أو خالها فذلك جائز لا بأس له.(15/39)
* المشهور عند فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور أن المعير له أن يسترد العين المعارة متى شاء إلا أن يأذن بشغلها بشيء يتضرر المستعير برجوعه فيها، فلو أعاره راحلة فله أن يرجع فيأخذها قبل أن ينتفع بها المستعير، لكن لو كان قد أعاره هذه الراحلة لينقل بضاعة له إلى موضع فليس له أن يرجع وهذه الراحلة بمفازة من الأرض بحيث يتضرر المستعير برجوعها، وكذلك لو كانت سفينة في لجة البخر، وذلك لأنه يتضرر بالرجوع، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، كالقرض تماما، فهذه المسألة مبنية على مسألة القرض التي تقدم ذكرها، ولذا فمذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن العارية إن عين لها أجل معين فإذا قال: استعير منك هذه السيارة شهرا فليس للمعير أن يرجع مدة هذا الشهر، فإن لم تذكر مدة فإنها تبقى عند المستعير فينتفع لها كما ينتفع بمثيلاتها عادة، فمثلا إذا استعار منه شيئا من أدوات البيت، فالعادة أن أدوات البيت تمكث إلى اليوم واليومين ونحو ذلك، إذن على القول الثاني في هذه المسألة أنهما إذا عينا لها مدة فإنها تتعين، فإن لم يعينا لها مدة فيرجع إلى العرف، وهذا القول هو الراجح، لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وهذا عقد فيجب أيفاؤه، وتقدم أن هذه المسألة مبنية على مسألة القرض، وتقدم أن الجمهور على أن القرض لا يتأجل بتأجيله، وتقد أن هذا قول مرجوح، وأن الراجح ما ذهب إليه المالكية من أنا لقرض يتأجل بتأجيله.
قوله [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط]
هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة، مثاله: رجل أعار الآخر أن يضع خشبا على حائطه، فوضع المستعير خشبه على هذا الحائط وبنى، فهل له الرجوع؟(15/40)
الجواب: ليس له الرجوع، وذلك لأن هذا البناء سينهدم، فإنه قد وضع الخشب ووضع عليه البناء، فإذا رجع في هذه العارية فإن هذا الآخر يتضرر، فليس له الرجوع، وقد تقدم أن الفقهاء يقيدون جواز الرجوع بحيث لم يأذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير برجوعه، وهنا يتضرر المستعير، إذن ليس له الرجوع، وهل له أن يأخذ عليه الأجرة؟
الجواب: ليس له أن يأخذ عليه الأجرة، وذلك لأن العارية باقية، والعارية لا أجرة فيها، فليس له أن يقول إما أن تهدم بيتك وإما أن تعطيني أجرة، وذلك لأن العارية قد انعقدت، والرجوع ممنوع منه بسبب الضرر، وإذا سقط الحائط فيجوز له حينئذ أن يمنع من هذه العارية، فيرجع فيها، وذلك لأن البناء قد تهدم، فلا ضرر في الرجوع.
قوله [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه]
فلا يرد الخشب إن سقط الجدار إلا بإذن صاحب الجدار، وذلك لأنه لم يأذن إذنا جديدا، فالإذن قد ذهب بسقوط الجدار.
قوله [وتضمن العارية بقيمتها يوم أتلفت ولو شرط نفي ضمانها](15/41)
فالعارية مضمونة بقيمتها يوم تلفت لأنه هو يوم فواتها على معيرها، فالعارية مضمونة وإن لم يتعد ولم يفرط، وإن كانت مثلية فالضمان بالمثلي وإلا فبقيمته، ولو شرط نفي ضمانها فإنها تضمن، فلو قال المستعير بشرط ألا أضمن، فإنه يضمن ولا يعتبر هذا الشرط، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، واستدلوا بما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) [حم 19582، ت 1266، د 3561، جه 2400، ن الكبرى 3 / 411] قالوا: فهذا يدل على أن اليد يجب عليها ما أخذت حتى تؤديه إلى مالكه، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود من حديث صفوان ابن أمية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه دروعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة) [حم 27089، د 3562] والحديث فيه شريط بن عبد الله، وله شاهد من حديث جابر في مستدرك الحاكم [كم 3 / 48، 49] فالحديث حسن، فإذا تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط فإنه يضمن كأن تأتيها آفة من السماء ونحو ذلك، وهنا احتراز لا بد منه: وهو أن المراد بالتلف غير التلف الذي تقتضيه استعارتها، مثاله: عندما يستعير ثوبا ليلبسه فإنه لا بد أن يحصل لهذا الثوب شيء من التلف فإن الثوب يبلى، وهكذا سائر الأشياء المستعارة، فهذا التلف الذي يقتضيه الاستعمال لا ضمان فيه وإن أتى على الشيء المعار كله، وذلك لأن الإذن باستعمال هذه العارية متضمن للإذن بإتلافها عادة، والقول الثاني وهو مذهب الأحناف، وهو أن العارية غير مضمونة، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى والحديث صحيح لطرقه، وصححه ابن حبان وغيره: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليعلى بن أمية: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟ فقال: بل عارية مؤداة) [حم 27089، د 3566، حب 11 / 22، ن الكبرى(15/42)
3 / 409] وكذلك الحديث المتقدم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، ولما ثبت في سنن الترمذي والحديث إسناده حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والعارية مؤداة والزعيم غارم والدين مقضي) [ت 1265، د 3565، جه 2398] قالوا: والأداء لا يستلزم الضمان بدليل أن الوديعة بالاتفاق لا ضمان فيها، وقد قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فأمر الله بأدائها ولم يستلزم هذا ضمانها، فالمقصود أنها تؤدى ما دامت موجودة، وأما إذا حصل لها تلف بغير تعد ولا تفريط فهذا باب آخر، وقال المالكية إن تلفت بسبب ظاهر كالحريق فلا ضمان، وإن تلفت بسبب غير ظاهر فالضمان ثابت، وأصح الأقوال في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار صاحب الفائق من الحنابلة وغير واحد من الحنابلة وهو اختيار ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير وبه تجتمع الأدلة، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلى بن أمية وقد سأله في العارية: أعارية مؤداة أم عارية مضمونة فقال: بل عارية مؤداة، فهذا يدل على أن العارية ليست بمضمونة، ولما قال له: صفوان بن أمية أغصب يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة، فدل على أنها مع الشرط يثبت الضمان فيها، ولأن المسلمين على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما، واشتراط الضمان لا يحل ما حرم الله ولا يحرم ما أحله، فقول شيخ الإسلام هو قول الأحناف لكنه يرى جواز الشرط، وأما الأحناف فالمشهور عندهم أن الشرط باطل وفي رواية عندهم يرون جواز الشرط، ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا فرط في حفظ هذه العارية أو تعدى عليها بفعله فإنه يضمن، لأن الضمان بالتعدي أو التفريط ثابت في الوديعة فمن باب أولى في العارية.(15/43)
وقول المؤلف (ولو شرط نفي ضمانها) هذا ضعيف، وهو إشارة إلى الخلاف المتقدم، فعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أن الشرط صحيح وهذا هو القول الراجح.
قوله [وعليه مؤنة ردها]
أي على المستأجر مؤنة رد العارية، فالعارية عندما تستعار، ويحين ردها فإنها قد تحتاج إلى نفقة لإرجاعها إلى مالكها، فهنا تجب على المستعير هذه النفقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، ولأن أداء العارية واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
** وهل عليه نفقة المعار أثناء الاستعارة؟
المشهور في المذهب أنه لا يجب، فإذا كانت دابة ونحوها فلا يجب عليه أن ينفق عليها، وإذا أعلفها مثلا فإنه يرجع بعلفها على معيرها، وقال شيخ الإسلام:" قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير " وذكر شيخ الإسلام أنه لم يجد قولا في المذهب، ولذا خرجها كما تقدم، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وهو العرف الجاري، ويستقبح الناس أن يحسن إلى أحد بإعارة دابة يستعملها ويركبها فيعلفها ثم يرجع بعلفها على صاحبها " أ. هـ وهو كما قال، فالراجح أن نفقة العين المستعارة واجبة على المستعير لأن العرف يقضي بذلك.
قوله [لا المؤجرة]
فالعين المؤجرة مؤنة ردها تجب على المؤجر لا على المستأجر، فإذا استأجر دابة فحان ردها فنفقة الرد على المؤجر، وأما المستأجر فلا يجب عليه نفقة ردها، بل يردع يده عنها، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو تعليل ظاهر ما لم يحكم عرف بخلافه أو يثبت ضرر بفعله، فإن ثبت ضرر كأن يخلي الدابة في موضع يخشى عليها التلف فيه فإن هذا ممنوع، أو قضى عرف بأنه يجب عليه أن يرد، كأن يقضي العرف بأن من استأجر سيارة ونحوها فإنه يردها إلى مؤجرها، فالرد على المؤجر.
قوله [ولا يعيرها](15/44)
فإذا استعرت دابة فليس له أن تعيرها غيرك، وذلك لأن المعير قد أباح لك الانتفاع بها، وانتفاع غيرك بها غير مأذون به من المالك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو أحد القولين في مذهب الشافعي، وذهب الأحناف وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو قول في المذهب أن له أن يعرها، وذلك لأنه إن أعارها فقد تصرف بهذه العين بقدر ما أذن له به، فقد أذن أن ينتفع بها انتفاعا لا عوض فيه، فإذا أعارها بلا عوض فقد تصرف بها كما أذن له، والراجح هو القول الأول، وذلك لأن المعير - مالك العين - لم يأذن له إلا أن يتصرف بها، فليس له أن يعدي التصرف إلى غيره، وليس مالكا للمنفعة بل هو مأذون له بالانتفاع، بدليل اتفاق العلماء على منعه من تأجيرها، فإذا استعار دابة فليس له أن يؤجرها، ولو كان مالكا لنفعها لجازت له الإجارة، فدل هذا على انه ليس مأذونا له إلا أن يتصرف بها هو، دون غيره.
قوله [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها]
مثاله: أعار زيد عمروا دابة، فأعارها عمرو بغير إذنه بكرا، فتلفت عند بكر، فالضمان على المستعير الثاني وهو بكر، وذلك لأنها تلفت في يده، فقد أخذها عارية، والعارية مضمونة، وهذا البحث على أن العارية مضمونة، وعلى القول الراجح وهو أن العارية غير مضمونة فيثبت الضمان هنا أيضا لثبوت التعدي.
قوله [وعلى معيرها أجرتها](15/45)
فمع الضمان فيه أجرة، فهذا المعير الثاني وهو عمرو قد تصرف فيها بغير إذن، فوجبت الأجرة، لأنه انتفاع بملك الغير بلا إذن فوجبت منه أجرة المثل سواء تلفا العين أم لم تتلف، والأجرة واجبة على معيرها وهو المستعير الأول، أي عمرو، قالوا: لأنه قد غرر بالمستعير الثاني أن يستوفي منفعة عين غيره بغير حق، فقد غرر بالمستعير الثاني وظن أنها ملك له، أو أنه مأذون له بأن يعيرها غيره، فغرر به فتصرف بها بغير حق، فتكون الأجرة على هذا المغرر، وعليه فإذا كان المستعير الثاني عالما بالحال أي عالما بأن هذه عارية وليست مالكا وأنه قد أعاره ملك غيره فحينئذ يكون قد دخل على بصيرة وعليه فالأجرة عليه كما يقرره فقهاء الحنابلة، إذن الأجرة على المستعير الأول حيث لم يكن المستعير الثاني عالما بأنها ملك غيره بل هو ظن أنها ملك له أو مأذون له بالإعارة،أما إذا علم أن هذا المستعير الأول قد أعاره إياها ولا إذنه أو ظنه غاضبا أو غير ذلك ومع ذلك تصرف في ملك غيره فإن الأجرة تجب عليه أي على المستعير الثاني لأنه هو المنتفع بهذه العين فوجب عليه عوضها.
قوله [وضمن أيهما شاء]
فإذا تلفت العين فإنه يضمن أيهما شاء، فإن شاء ضمن عمروا وهو المستعير الأول وإن شاء ضمن بكرا وهو المستعير الثاني.
أما تضمينه للمستعير الأول فلأن المستعير الأول تصرف في العارية بغير إذن، بأن سلط عليها غيره بغير حق، وأما تضمينه للمستعير الثني فلأن التلف حصل في يده، فإن ضمن المستعير الأول وهو عمرو، فإنه يرجع على المستعير الثاني بالضمان، لأن الضمان واجب عليه في الأصل، كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه في باب الضمان.
قوله [ون أركب منقطعا للثواب لم يضمن](15/46)
إذا أركب على دابة منقطعا أي قد انقطع به السبيل فلا يضمن هذا المنقطع لو تلفت هذه الدابة، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها فهو شبيه بالرديف، وعليه فلا ضمان عليه، فلا يكون كالمستعير الذي يجب عليه الضمان في المذهب، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها، كأن تكون معه راحلتان، راكب هو على أحدهما، ثم وجد منقطعا فأركبه على الراحلة الأخرى، فهذا كما لو أردفه على الراحلة نفسها، فلم تزل يد مالكها عليها، وعلى القول الراجح من أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير فلا إشكال.
قوله [وإذا قال: أجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقيب العقد قبل قول مدعي الإعارة]
إذا قال المالك أجرتك، وقال الآخر بل أعرتني، فمثلا: سكن في داره فقال: قد أجرتك هذه الدار، فقال: بل أعرتني، أو بالعكس كأن يقول أعرتك فيقول: بل أجرتني، ومصلحته من إنكار العارية مع أن ظاهر الأمر أن العارية أفضل من الإجارة مصلحته من ذلك أنه قد يكون يريد إبقاء هذه العين معه مدة وإن كان ذلك بأجرة، والعارية يملك المعير إرجاعها متى شاء كما تقدم في المذهب، وكان ذلك عقيب العقد أي لم تمض مدة لها أجرة في العادة، فيقبل قول مدعي الإعارة سواء كان المالك أو كان الآخر الذي بيده العين، وذلك لأن الأصل هو عدم الإجارة لما فيها من العوض فالأصل عدمها، وعله فحينئذ لا أجرة إلا أن يأتي مدعي الإجارة ببينة فحينئذ تثبت الأجرة، لكن الكلام حيث لا بينة، وحينئذ ترد العين إلى مالكها.
قوله [وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل](15/47)
مثاله: بعد ما مضى شهر اختلفوا، فقال المالك: أعرتك، وقال الآخر: بل أجرتني أو بالعكس، فحينئذ القول هو قول المالك، وذلك لأن الأصل في مال الغير الضمان، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم) [خ 4552، م 1711] فالقول قول المالك، وذلك لأن الأصل في أموال الناس الضمان، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، فيقال للمالك: احلف فإن حلف فالقول قوله، وحينئذ وقد مضت مدة فإنه يدفع أجرة المثل للمالك، وإنما ثبتت أجرة المثل ولم تثبت الأجرة المسماة التي يدعيها المالك لأن الإجارة لا تثبت بالدعوى، نعم أرجعنا إليه ماله، وجعلنا القول قوله، لكن لا يعني هذا أن نكون قد أثبتنا الإجارة، ولذا ترد العين إلى مالكها، وإنما هذا حكم عند المنازعة.
قوله [وإن قال أعرتني أو قال أجرتني فقال: بل غصبتني]
إذا قال: أنت قد أعرتني هذه الدابة، أو قال: أنت قد أجرتني دارك، فقال: أنا لم أؤجرك ولم أعرك بل غصبتني، فالقول قول المالك لأن الأصل عدم الإعارة وعدم الإجارة، وهذا مدعي خلاف الأصل، فالقول قول المالك.
قوله [أو قال: أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة]
إذا قال: أعرتك هذه البهيمة لتركبها، فقال: لا بل أجرتنيها، لكي لا يضمن، فإن المستأجر لا يضمن وأما المعير فعليه الضمان في المذهب، وكانت البهيمة تالفة فالقول قول المالك، للأصل المتقدم، وهو ا، الأصل في أموال الناس الضمان كما تقدم، ودليله من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم]
قوله [أو اختلفا في رد فقول مالك]
مثاله: أعاره دابته ثم اختلفا، فالمستعير يقول: رددت، والمالك يقول: لم تردها إلى، فالقول قول المالك هنا لأن الأصل عدم الرد، وقد ثبتت العارية بالبينة أو الإقرار، فلا بد وأن يثبت الرد بالبينة أو بالإقرار.
باب الغصب(15/48)
الغصب لغة: القهر، وفي الاصطلاح: عرفه المؤلف بقوله:
قوله [هو الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق]
هو الاستيلاء على حق غيره، سواء كان هذا الحق مالا أو اختصاص، مثال المال: الدار أو الدابة أو نحو ذلك، ومثال الاختصاص أن يكون عنده كلب صيد أو كلب زرع، فإنها اختصاص، بدليل أنه يمنع من بيعها، وليست قيمتها قيمة مالية.
وقوله (قهرا) يخرج من ذلك ما لو استولى على حق غيره بغير قهر كأن يختلس أو يسرق أو ينتهب ونحو ذلك، فإنها ليس قهرا وإنما أخذت بطريق خفي، أو بطريق ظاهر ليس فيه قهرية.
وقوله (بغير حق) يخرج من ذلك ما لو كان هذا الاستيلاء بحق كاستيلاء ولي اليتيم على ماله، واستيلاء الحاكم على مال المفلس، فإن هذا الاستيلاء ليس بباطل، وليس المراد أن يستولي عليه لنفسه، ولكن المراد أن يستولي عليه لحظ غرمائه في المفلس، ولحظ نفسه في المحجور عليه من يتيم وغيره، وهذا التعريف يدخل فيه استيلاء الحربي المقاتل على مال المسلم، وهذا ليس بصحيح كما بين هذا شيخ الإسلام، وذلك لأن هذا الاستيلاء لا يضمن فليس مرادا بهذا التعريف.
قوله [من عقار ومنقول]
قوله (من عقار) كالدار والأرض والبستان ونحو ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) [خ 3198، م 1610] .
وقوله (ومنقول) كأثاث ونحوه، فإذا دخل داره فأخذ أثاث أو طعاما ونحوه فهذا اغتصاب، وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها) [حم 17481، د 5003، ت 2160] والمتاع والعصا من المنقولات.
قوله [وإن عصب كلبا يقتنى أو خمر ذمي ردهما](15/49)
إذا غصب كلبا يقتنى ككلب صيد أو كلب زرع ونحوه رده، فما يجوز اقتناءه فإذا غصبه وجب عليه رده، وذلك لأن المقتني يختص به وقد اقتناه على وجه مأذون له فيه فهو حق له فيجب عليه أن يرده، ومثل ذلك لو اغتصب خمر ذمي لم يظهره، أي لم يظهر شربه أمام الناس بل قد أسر ذلك وأخاه فكذلك يجب رده، وذلك لأنه إذا كان يشرب الخمر سرا فإن هذا مأذون له فيه، فإذا أخذه منه فقد أخذه بغير وجه حق.
قوله [ولا يرد جلد ميتة]
فلا يرد جلد الميتة لأنه لا يطهر بدباغ في المذهب، وعليه فهذه المسألة متفرعة عن مسألة يقررها الحنابلة تقدمت في باب الآنية، وهي أن جلد الميتة لا يطهر بدباغ، وقال بعض الحنابلة بل يردها، وذلك لأنه يجوز استعمال الجلد في يابس ونحوه كما تقدم عند الحنابلة، فإذا اقتنى جلد الميتة وقد دبغ واستعمله في يابس فإن ذلك جائز، وعلى القول الراجح وهو أن جلد الميتة يظهر بالدباغ فعليه يجب عليه الرد وهو مال، فجلد الميتة له قيمة، فيجب عليه أن يرده لأن الانتفاع مأذون له شرعا إذا دبغ، وإن كان هذا قبل الدبغ لأنه يمكنه أن ينتفع به بعد دبغه.
قوله [وإتلاف الثلاثة هدر]
فإذا أتلف شيئا من هذه الثلاثة وهي الكلب والخمر وجلد الميتة فهي هدر، فإذا قتل هذا الكلب وإن كان الآخر قد اقتناه لينتفع به على وجه مأذون له فيه شرعا أو أتلف هذا الجلد أو أهراق هذه الخمرة فإن ذلك هدر، فليس على المتلف ضمان، أما جلد الميتة فهو ضعيف، فإن جلد الميتة يدبغ وله قيمة عند دباغه، فإذا أتلفه فعليه الضمان لأن له قيمة، وأما الكلب والخمرة فليست لهما قيمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعهما وعليه فلا قيمة لهما.
فإن قيل: إن خمرة الذمي معصومة إذا لم يجهر بشربها؟(15/50)
فالجواب: أن كونها معصومة لا يستلزم ضمانها، أو أن يكون لها قيمة بدليل أن نساء المحاربين وأولادهم معصومون ومع ذلك فإذا قتل المسلم امرأة من نسائهم أو صبيا من صبيانهم فلا ضمان، مع أن ذلك يحرم، فكذلك هنا، فلا يجوز له أن يهريق هذه الخمرة، وقد أسر هذا الذمي بشربها لأنه يخالف العقد الذي وضعه إمام المسلمين معهم، ولكن لا ضمان لأن الخمرة لا قيمة لها، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعها، وكذلك الكلب وغن كان يقتنى فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمنه.
قوله [وإن استولى على حر لم يضمنه]
فإذا استولى رجل على حر أي اغتصبه سواء كان هذا الحر صغيرا أو كبيرا فإنه لا يضمن، فلو مات عنده بغير سبب منه كأن يموت بمرض أو نحوه فلا ضمان عليه، لكن لو مات بسبب حبس له في موضع احترق أو أصيب هذا الموضع بصاعقة فإنه يضمن.
فإن قيل: لم لا يضمن الحر مع أن العبد يضمن؟
فلو أن رجلا اغتصب عبدا فمات العبد ميتة لا سبب للغاصب فيها فإنه يضمن، لأن يده يد متعدية فيثبت عليها الضمان، وأما الحر فلا يضمن، فالجواب: أن الحر ليس بمال بخلاف العبد الرقيق فإنه مال مقوم، وأما الحر فليس بمال، إذن إن استولى على حر لم يضمنه، إلا أن يباشر ذلك.
فإن اغتصب دابة وعليها مالكها؟
فالمشهور من المذهب انه لا ضمان عليه في الدابة لو تلفت، لأنها تحت يد مالكها، ومالكها لا ضمان عليه فهي تبع له، والقول الثاني في المذهب أن الضمان يثبت واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، وذلك لأننا إنما استثنينا الحر لأنه ليس بمال، وأما هنا فقد تبعه ما هو مال، فإن هذا الرجل قد اغتصب هذه الدابة وهي مال، فحينئذ عليه ضمانها، وأما مالكها فلا ضمان عليه فيه لأنه حر، وهذا القول هو الراجح.
قوله [وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته](15/51)
إن اغتصب هذا الحر واستعمله في مهنة ونحو ذلك فعليه أجرته، وذلك لأنه استوفى منفعته، والمنفعة لها عوض فوجب العوض، وكذلك إذا حبسه ولم يكرهه على عمل لكنه حبسه في دار أو نحو ذلك ففوت عليه منافعه فعليه أجرة المثل لأنه فوت عليه منافعه، والمنافع لها أجرة، فإن منعه العمل ولم يحبسه ولم يغصبه لكنه منعه من العمل بغير وجه حق، فهل يثبت الضمان أم لا؟
المشهور من المذهب أنه لا ضمان عليه، وقال صاحب الفروع:" يتوجه: بلى " أي عليه ضمان، وصوبه صاحب الإنصاف، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه بمنعه قد فوت عليه منافعه فيجب عليه أجرة المثل.
قوله [ويلزم رد المغصوب بزيادته وإن غرم أضعافه]
فيلزم رد المغصوب بزيادته المتصلة والمنفصلة، كأن يغتصب عبدا فيعمله الكتابة أو يغتصب دابة فيسمنها فذه زيادة متصلة، ومثال الزيادة المنفصلة، كأن يغتصب بهائم فتنتج أو تلد فحينئذ تتبعها أولادها ونتاجها وتكون كلها للمغصوب منه، كذلك إذا سرق منه رقيقا فعلمه صنعة من الصنائع فيجب عليه رده، ولا يستحق شيئا على هذا التعليم بل يكون العبد بصفته ملكا للمسروق منه، وذلك لأن هذه الزيادة هي نما ملك المغصوب، ويجب عليه الرد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها) وغير هذا من الأدلة التي تدل على وجوب ذلك، وعليه أن يردها ولو خسر أضعافها، مثال ذلك: إذا اغتصب عبدا، فأبق العبد فيجب عليه أن يرد المغصوب وإن خسر أموالا كثيرة لرده، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)
قوله [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها والأجرة]
مثاله: رجل بنى في أرض غيره، أو غرس نخلا أو شجرا في أرض غيره فما الحكم؟(15/52)
يقول المؤلف هنا: لزمه القلع، ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن والحديث صحيح لغيره عن عروة بن الزبير عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لعرق ظالم حق) [د 9073] إذن يجب عليه أن يقع هذه النخيل ويهدم هذا البناء، هذا أولا، وثانيا: يجب عليه أرش نقصها، فعندما يغرس في هذه الأرض فقد يسبب هذا الغرس نقصا في الأرض، كأن يؤثر فيما تنتجه الأرض من زراعة ونحوها، فحينئذ له أرش نقصها، فتقوم هذه الأرض قبل أن يحصل فيها هذا البناء، وقيل أن يحصل فيها هذا الغرس، ثم يقوم بعد أن حصل فيها الغرس والبناء، ثم ينظر الفارق بينهما فيدفعه الغاصب إلى المغصوب منه، وثالثا: يجب عليه أن يسوي الأرض وأن يصلحها بعد أن حصل فيها من الحفر ونحو ذلك، بسبب هذا الغرس، وهذا البناء، فيجب عليه أن يسويها، ورابعا: يجب أجرة الأرض هذه المدة، لأنه فوت على صاحب الأرض الانتفاع بها هذه المدة، وما ذكره المؤلف في الغرس، لكن لو اغتصب أرضا فزرعها فما حكم ذلك؟(15/53)
قال الجمهور يجب القلع، وإن كان حصد الزرع فله الزرع وعليه الأجرة، كالغرس أي قياسا على الغرس، وأما الحنابلة فقد فصلوا في هذه المسألة، فقالوا في المشهور عندهم إن كان لم يحصد بعد فنقول للمالك أنت مخير إن شئت أن تترك له ما زرع حتى يحصل ولك الأجرة، وإن شئت أن تأخذ الزرع وتعطيه النفقة، أي ما أنفقه على هذا الزرع، فتعطي الغاصب نفقته، ويكون الزرع ملكا لصحاب الأرض، أما إن كان الزرع قد حصد فوافقوا الجمهور، وقالوا: إن كان الزرع قد حصد فللغاصب ما حصده من الزرع، وعليه الأجرة، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا فرق بين ما إذا حصد الزرع وإذا لم يحصد، بل يكون ملكا لصحاب الأرض، وإن شاء أن يأخذ الأجرة فله ذلك، حتى ولو حصده هذا الغاصب فلصحاب الأرض أن يقول أريد الزرع ويعطيه النفقة، وهذا القول هو الراجح، ودليل ذلك ما رواه أحمد والترمذي وحسنه، ورواه ابن حاجة وأبو داود، وقد نقل الترمذي عن البخاري تحسينه واحتج به الإمام أحمد والحديث حسن بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من زرع بأرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) [حم 15394، د 3403، ت 1366، جه 2466] والحديث عام في الزرع قبل حصاده وبعد حصاده.
فإن قيل: ما الجواب عما ذكره الجمهور فقد قاسوا الزرع على الغرس؟
فالجواب: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الغرس إذا قلع فلا إتلاف، وأما الزرع فإذا قلع فإنه يتلف، وقد أمكننا أن نرد إلى المغصوب حقه بغير إتلاف لمال الغاصب.
قوله [ولو غصب جارحا أو عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيد فلمالكه](15/54)
مثاله: رجل اغتصب جراحا كصقر مثلا، أو اغتصب عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيدا فلمالكه، أي فالصيد يكون لمالكه، وهو المغصوب منه، لأنه حصل بسبب ملكه، وقال شيخ الإسلام:" يتوجه أنه إذا اغتصب فرسا فصاد به يتوجه أن يكون الكسب بين الغاصب وبين المغصوب منه بقدر نفعهما " فتقوم منفعة راكب بالفرس وهو الغاصب، وتقوم منفعة المركوب وهو الفرس، ويكون الكسب وهو الصيد بينهما، وهذا هو القول العدل في هذه المسألة.
وإذا كان الصيد على فرس ونحوه فإن للراكب دورا كبيرا أكثر من دوره فيما لو كان الصيد بجارح كصقر ونحوه، وقد يقال في المسألة السابقة الني تقدم ذكرها، فيما إذا علم العبد ونحوه فإن له نصيبه من ذلك وأن هذا هو العدل، فقد يخرج هذا على التوجيه الذي ذكره شيخ الإسلام.
قوله [وإن ضرب المصوغ]
أي اغتصب حليا أو اغتصب ذهبا فجعله دراهم ودنانير.
قوله [ونسيج الغزل]
إذا اغتصب غزلا فنسجه، فأصبح منسوجا بعد أن كان غزلا.
قوله [أو قصر الثوب أو صبغه]
إذا قصر الثوب أي غسله أو صبغه أي عمل فيه من صبغ ونحوه.
قوله [ونجر الخشب ونحوه]
فأصبحت الأخشاب التي قد اغتصبت أبوابا مثلا، أو أحال الحديد إلى مواد أخرى من آلات ونحوها فما الحكم؟
قالوا: يرده وأرش نقصه، فنقول له رد الأبواب ورد الثياب بصبغتها، ويرد هذا الذهب بضربه، ويرد الغزل بنسجه مع الأرش، ووجه شيخ الإسلام ما تقدم، بل عن الإمام أحمد أنه يكون شريكا له في منافعه، وذلك لأن المنافع تجري مجرى الأعيان، وهذا القول هو الراجح، وهو القول الذي تقدم تقريره، وعلى القول الذي ذهب إله الحنابلة: إن قال أريد منك أن تعبد هذه الأبواب ويرجع خشبي، فهل يلزم بذلك أم لا؟(15/55)
قالوا: يلزمه ذلك إن كان للمغصوب منه في ذلك غرض صحيح، فإن لم يكن له غرض صحيح فلا، فإذا كان له غرض صحيح كأن يريد هذه الأخشاب لأمر مهم له، وأحيلت إلى أبواب لا نفع له بها، فحينئذ يلزم، فإن لم يكن هناك غرض صحيح فلا، وذلك لأنا إذا ألزمناه مع عدم وجود الغرض الصحيح فإن في ذلك نزاعا وشقاقا، والواجب قطع النزاع والشقاق.
ومثل هذا في مسألة الغرس، فلو غرس نخلا، وقال للمغصوب منه أريد أن أهلك هذه النخيل مكان أن أقلعها فهل يلزم بقول هذه الهبة؟
فيه تفصيل: فإن كان له غرض صحيح في قلعها وإزالتها فله ألا يقبل، وإن لم يكن له غرض صحيح فإنه يلزم بقبول الهبة قطعا للنزاع، ومثال الغرض الصحيح أن يبني هذا الغاصب فيها بناء، والمغصوب منه يريد زراعتها ولا حاجة له في هذا البناء، وقد وهبه هذا البناء فإنه لا يلزم بقبوله.
قوله [أو صار الحب زرعا]
اغتصب حبا، فبذره فأصبح هذا الحب زرعا.
قوله [والبيضة فرخا]
اغتصب بيضا فأصبح الآن فرخا.
قوله [أو النوى غرسا]
اغتصب نوى تمر ثم غرسه فأصبح الآن نخلا، فما الحكم؟
قوله [رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب]
فيرد هذا النوى نخلا، ويرد هذه البيضة دجاجة أو فرخا، ويرد هذا الحب وإن كان زرعا، وإن كان من نقص فإنه يرد أرش النقص، ولا شيء للغاصب، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه في مثل هذه المسألة يضمنها كما لو تلفت فيرد ضمانها كما لو تلفت، بمعنى أنها في مثل هذه المسال قد استحالت إلى عين أخرى غير العين التي اغتصبها، وعليه فلا يردها وإنما يضمنها ضمان المتلفات، وعليه فيرد إليه حبا آخر مكان هذا الحب الذي اغتصبه، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأنها قد استحالت إلى عين أخرى، وحينئذ فالعدل هذا.
قوله [ويلزمه ضمان نقصه](15/56)
إن غصب دابة مثلا وكانت تساوي ألف ريال، فردها إلى المغصوب منه وهي لا تساوي إلا تسعمائة ريال فعليه ضمان النقص، وهو هنا يساوي مائة ريال، فإذا كان المغصوب قد نقص عند رد الغاصب له فإنه يقوم صحيحا ويقوم ناقصا وينظر الفارق يسنهما وهو الأرش فيجب على الغاصب ضمانه، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان عليه ضمانه، وقد تقدم أن يد الغاصب متعدية فعليها الضمان، والمسائل الآتية مبينة على القاعدة السابقة أي قاعدة تضمين الغاصب.
قوله [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته]
وكذلك إذا قطع يديه أو نحو ذلك، فما تثبت فيه دية كاملة فيجب عليه أن يعطي قيمته ويرده.
قوله [وما نقص بسعر لم يضمن]
مثال هذا: اغتصب منه عقارا يساوي عند الاغتصاب مائة ألف ريال، فرده وهو لا يساوي إلا خمسين ألف ريال، فهل يضمن هذا الفارق أم لا؟
قال المؤلف: لا يضمن، قالوا: لأنه قد رده على ما هو عليه بلا نقص، فالعقار على ما هو عليه، فلا ضمان، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في هذه المسألة أن الضمان واجب، وذلك لأنه قد فوت عليه الفارق بين السعرين، بين سعره وقت الغصب، وبين سعره وقت الرد، وليس من العدل ألا يضمن شيئا قد اغتصبه زمنا ثم رده في زمن آخر، أضف إلى هذا أن الصفات إنما تقصد لقيمتها، فإذا كان النقص في الصفات مؤثرا فكذلك النقص في القيمة مؤثر.
قوله [ولا بمرض عاد ببرئه](15/57)
ذا اغصب عبدا، فمرض العبد ثم بريء فإذا رده فلا ضمان، فمثلا اغتصب عبدا وهو يساوي مائة ألف، ثم مرض فأصبح يساوي تسعين ألفا، ثم شفي من مرضه فأصبح يساوي مائة ألف، فلا ضمان عليه لزوال موجب الضمان، والمذهب أن الضمان يستقر بالرد، فإذا اغتصب عبدا يساوي مائة ألف فمرض فرد هذا العبد مريضا لا يساوي إلا تسعين ألفا فعليه عشرة آلاف، فإذا شفي العبد بعد ذلك فإن هذه العشرة آلاف تبقى للمغصوب منه سواء كان قد أخذها مع الرد أو لم قد أخذها بل قد تعلقت في ذمة الغاصب، والراجح خلاف هذا لزوال موجب الضمان، فإن موجب الضمان هو النقص، وقد زال هذا النقص، إلا أن يكون زوال النقص بفعل من المغصوب منه كأن يشتغل بمداواته ونحو ذلك فهذه مسألة أخرى، فإن زوال هذا النقص قد حصل بمعالجة من المغصوب منه، أما إذا لم يكن كذلك فإن الضمان يزول بزوال موجبه، وهو قول بعض الحنابلة خلافا للمشهور من المذهب.
قوله [وإن عاد بتعلم صنعة ضمن النقص]
إذا عاد النقص بتعليم صنعة ضمن النقص، مثال هذا: غصب عبدا يساوي عشرة آلاف، فأصاب هذا الرقيق بهزال ببدنه، فأصبح لا يساوي إلا تسعة آلاف فعلمه صفة تساوي ألفا فأصبح الرقيق يساوي عشرة آلاف فإنه يضمن النقص، وذلك لأن هذه الزيادة قد حصلت من جهة أخرى، فإن النقص الذي فيه وهو الهزال لم يزل، فلم يزل ناقصا من هذه الجهة، وهذا النقص قد حصل في يد الغاصب فكان الضمان عليه، وهذه الزيادة التي قد جبرت هذا النقص إنما هي مع بقاء النقص، فإذن موجب الضمان وهو النقص باق وحينئذ فتعليمه للصنعة ونحوها لا يزيل موجب الضمان فيجب عليه الضمان.
قوله [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة](15/58)
صورة هذه المسألة: اغتصبه وهو لا يساوي إلا ألف ريال هزيلا جاهلا، فعلمه فأبح عالما في صنعة من الصنائع، وأطعمه فسمن فأصبح بعد أن كان يساوي ألفا أصبح يساوي عشرة آلاف، ثم نسي العلم وهزل فأعاده هزيلا جاهلا فعليه الضمان، فنقومه وهو صانع سمين ثم نقومه بعد أن أصبح هزيلا جاهلا ثم يعطى المغصوب منه الفارق بينهما، وذلك لأن هذه الزيادة قد زادت في ملك المغصوب منه، فهذا الغاصب يده يد متعدية فحينئذ إذا زالت فعليه الضمان.
قوله [كما لو عادت من غير جنس الأول]
أي كما لو عادت الزيادة لكن من غير جنس الأول، كما تقدم في المسألة السابقة، فهذا لمسألة تكرار للمسألة السابقة وهي قوله (وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص)
قوله [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما]
فإن كان من جنسها فلا ضمان إلا أن تكون إحدى الصفتين أكثر من الصفة الأخرى، وبيان هذا: إذا اغتصب عبدا وهو يتقن صنعة الحدادة مثلا، فعلمه النجارة، وأنساه الحدادة، وأصبح لا يتقن الحدادة وإنما يتقن النجارة، فحينئذ لا ضمان، وذلك لأن هذا النقص قد جبره بتعليمه النجارة فلا ضمان، إلا أن تكون الصفة التي قد فوتها عليه أفضل وأعلى من الصفة التي علمه إياها هذا الغاصب، فيجب الفارق حينئذ، كأن تكون إحدى الصنعتين تساوي فيه ألفا، والأخرى تساوي فيه خمسمائة، فيجب له الفارق أي للمغصوب منه.(15/59)
* وإن جنى الغاصب على المغصوب جناية، فحينئذ عليه أكثر الأمرين من أرش الجناية والنقص، مثال هذا: إذا اغتصب عبدا، وجنى عليه جناية، وهذه الجناية أنقصت قيمة العبد فأصبح العبد بعد أن كان يساوي عشرة آلاف أصبح يساوي تسعة آلاف، فهنا لضمان النقص ألف درهم، والجناية تساوي مثلا ألفين، فإنه يجب عليه ضمان ألفين أرش الجناية لأنه هو الأكثر، وإن كان أرش الجناية لا يساوي إلا ألفا، لكنا قومنا العبد ووجدنا أن الأرش ألفين، فحينئذ يجب عليه الأرش، وذلك مثلا في السيارة، إذا اغتصب سيارة وصار فيها حادث فأعادها، وقدرنا القيمة التي تصلح فيها هذه السيارة فوجدناها ألف درهم، ثم قدرنا قيمة السيارة فوجدناها بعد أن كان تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي خمسة آلاف، فنضمنه أكثر الأمرين وهو خمسة آلاف، وذلك لأنه قد وجد سبب الأمرين كليهما، فسبب أرش الجناية موجود وهو الجناية، وسبب ضمان النقص موجود وهو هذا الفارق بين ثمنه الحقيقي وثمنه بعد رده، فما وجد سبب كل منهما ضمناه أعلاهما لدخول أقلهما في أعلاهما.
** وإن جنى العبد عند الغاصب فهل يكون أرش جنايته على سيده الذي قد اغتصب منه أو يجب على هذا الغاصب؟
الجواب: يجب على الغاصب، وذلك لأن الجناية نقص، وقد تعلق هذا النقص برقبة العبد، فكان كسائر أحوال النقص التي تقدم ذكر شيء منها.
فصل
قوله [وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما...... فهما شريكان بقدر ماليهما فيه](15/60)
إذ غصب زيتا فخلطه بزيت، أو غصب حنطة فخلطها بحنطة ونحو ذلك، فقال المؤلف (فهما شريكان بقدر ماليهما فيه) فيباع الزيت، ويعطى كل واحد منهما قدر نصيبه من الزيت مالا، فإذا كان لكل واحد فيها النصف، فبيع بألف درهم فلكل من الغاصب والمغصوب منه خمسمائة درهم، ظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقا، سواء كان زيت الغاصب أفضل من زيت المغصوب أو كان مثله أو كان دونه، وهذا قول في المذهب، والمشهور في المذهب أن على الغاصب مثله إن كان المختلط مثله مساويا له، بمعنى: خلط الغاصب زيته بزيت المغصوب منه، وزيت المعصوب يماثل زيت الغاصب في القيمة، كأن يأخذ منه كذا وكذا من الزيت، فيجب على الغاصب أن يعطي المغصوب منه هذا القدر الذي اغتصبه منه، وهذا هو الظاهر وذلك لأن المثل أولى من البدل، بخلاف ما إذا كان أفضل منه أو دون فإنا لا نأخذ من هذا المختلط مثله، لأن مال الغاصب في المسألة الأولى أفضل من مال المغصوب منه، وفي المسألة الثانية مال المغصوب منه أفضل من مال الغاصب، فلم نأخذ من المختلط مثله.
قوله [أو صبغ الثوب أو لت سويقا بدهن أو عكسه ….. فهما شريكان بقدر ماليهما فيه]
إذا غصب ثوبا فصبغه وكذلك إذا اغتصب سويقا ثم لته بدهن، فالدهن له، والسويق مغصوب، وعكسه كذلك، فإذا كان السويق له، والدهن مغصوب أو الصبغ مغصوب والثوب له، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، لأن الاجتماع في الملك يقتضي التشريك فيه، فهذا له غين، وهذا له عين أخرى، فالغاصب له الصبغ، والمغصوب منه له الثوب، والعكس بالعكس، كذلك السويق للغاصب والدهن للمغصوب، فاجتمعا في الملكين بما يقتضي اجتماعهما في التشريك فكانا شريكين.
قوله [ولم تنقص القيمة ولم تزد](15/61)
فإذا بعنا هذا الثوب المصبوغ، فالصبغ مال الغاصب، والثوب مال المغصوب منه، فكان ثمنه عشرة دراهم، وقيمة الثوب في الأصل خمسة دراهم، والصبغ قيمتها خمسة دراهم أيضا فحينئذ لم يزد ولم ينقص، فنعطي المغصوب خمسة دراهم قيمة الثوب، ونعطي الغاصب خمسة دراهم قيمة صبغه.
قوله [وإن نقصت القيمة ضمنها]
فإن كان الثوب بعد الصبغ أقل منه قيمة قبل الصبغ فكانت قيمته خمسة دراهم فأصبح أربعة دراهم فإنه يضمن هذا الدرهم، فإذا نقصت قيمة هذا الشيء المغصوب بعد خلطه بهذا الشيء غير المتميز منه فالضمان على الغاصب، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان في ضمانه.
قوله [وإن زادت قيمة أحدهما فلصحابه]
أي لصاحب العين التي كانت الزيادة بسببها، فالثوب مثلا بعد أن صبغ أصبح يساوي خمسة عشر درهما، وقيمة الصبغ لا تساوي إلا خمسة دراهم، والثوب كان عند اغتصابه يساوي خمسة دراهم، لكن ارتفعت أسعار الثياب بعد ذلك فأصبح يساوي عشرة دارهم، فأصبح وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر درهما، فهذه الزيادة حصلت بسبب الثوب، فتكون للمغصوب منه، لأنها حصلت بسبب ملكه، فإن كان الصبغ قيمته خمسة دراهم، لكنه كان صبغا حسنا فصار الثوب يساوي خمسة عشر درهما لارتفاع قيمة الصبغ أو نحو ذلك فحينئذ تكون هذه الزيادة للغاصب لأن هذا لسبب ملكه.
وفي قول المؤلف (إن خلط بما لا يتميز) دليل على أن المسألة مختصة بهذا، وأنه إن خلط المغصوب بما يمكن تمييزه فيجب التمييز، والتمييز واجب على الغاصب فعليه أجرته، كأن يخلط حنطة بزبيب، ويمكننا أن نفصل هذا عن هذا، فإن التمييز واجب على الغاصب لأنه قد حصل بسببه.
قوله [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ]
إذا اغتصب ثوبا فصبغه، فهل يجبر المالك على قلع الصبغ من ثوبه إن أراد الغاصب قلعه، أو هل يجبر الغاصب على قلع الصبغ إن قال له المغصوب منه: اقلع صبغك؟(15/62)
الجواب: قال المؤلف: لا يجبر، وذلك لما يترتب من الإتلاف في ماله، فإن صاحب الصبغ إذا أجبر على قلع الصبغ تلف ماله، كما أن صاحب الملك إذا اجبر على قلع الصبغ تلف ماله، وكما تقدم في الزرع وأنه لا يقلع لأنه يتلف على الغاصب ماله فكذلك هنا.
قوله [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة]
صورة هذه المسألة: إذا باع رجل على آخر أرضا، وكان قد اغتصبها، فباعها عليه بيعا صحيحا في الظاهر، فبنى فيها المشتري بيتا أو وضع فيها غرسا أو نحو ذلك ثم ردت هذه الأرض المغصوبة إلى مالكها الأصلي فقلع على المشتري بناؤه وغرسه فالضمان على البائع الغاصب، وذلك لأنه تلف في مال الغير حصل بسببه فقد غرر به، وأوهمه أن الأرض ملك له.
لكن لو كان المشتري يعلم أنها مغصوبة فلا ضمان على الغاصب، لأنه قد دخل على بصيرة فلم يغرر به ولم يوهمه، فهو يعلم أنه لا يجوز له أني تصرف بها، ومع ذلك قبل البيع، وقوله (لاستحقاق الأرض) أي بأن كانت الأرض مستحقة لغير البائع.
قوله [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه وعكسه بعكسه]
إذا أطعم رجلا طعاما، وكان هذا الرجل يعلم أنه مغصوب، فلا ضمان على الغاصب بل الضمان على الآكل، وذلك لأنه أتلف مال غيره بعلم، فإذا اغتصب رجل مثلا، فأطعم أولاده هذا الغصب فأكلوه وهم مكلفون يقع على مثلهم التضمين، أو غير مكلفين ولهم مال فالضمان عليهم فيما طعموا، وذلك لأنهم قد طعموا وهم يعلمون أن هذا غصب، وقوله (وعكسه بعكسه) أي إذا أطعمه لغير عالم بالغصب فالضمان على الغاصب لأنه قد غرر به وأوهمه.
قوله [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه أو أودعه أو أجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم ويبرأ بإعارته](15/63)
قوله (إن أطعمه لمالكه) كأن يغتصب منه شاة فيطعمه إياها فحينئذ لا يبرأ، وذلك لأن المالك لا يتصرف به كما شاء، فهو لا يتصرف به باختياره، بل يتصرف على الوجه الذي دفع إليه وهو الطعم، ومثل ذلك إذا وهبه إياه فلا يبرأ بذلك، ولما فيه من المنة، وربما كافأه على هذه الهدية وهي في الحقيقة غصب، فلم يبرأ بذلك، لكن إن خشي ضررا بإرجاعه إليه ورده إليه ردا صريحا كأن يعاقب بما لا يستحق شرعا، فله حينئذ أن يهديه إياه وأن يهبه إياه دفعا للضرر كما قرر ذلك ابن القيم.
وقوله (أو أودعه إياه) إذا أودعه إياه فحصل له تلف فإنه لا يبرأ - أي الغاصب - كأن يقول: خذ هذه المائة ألف - وقد اغتصبها منه - يقول: خذها وديعة عندك، فتلفت فلا يبرأ الغاصب من ذلك، لأنه لم يعطه إياها على أنها ملكه، والواجب أن يرد الشيء إليه على أنه ملك له، ولأن الوديعة لا ضمان فيها، فإن المودع لا يضمن، فحينئذ لا يندفع ضمان الغاصب بشيء، بخلاف ما ذكره المؤلف من قوله بعد ذلك (ويبرأ بإعارته) فإن المذهب على أن العارية مضمونة، فحينئذ لا فائدة من إبقائنا على تضمين الغاصب مع أننا نضمن المستعير، فالمستعير ضامن لهذه السلعة المغتصبة منه لأنها عارية، والعارية مضمونة، فإذا قلنا للغاصب: أنت ضامن، وقلنا للمستعير وهو المغصوب منه أنت ضامن فلا فائدة، لأن الغاصب إذا ضمناه رجع إلى المستعير وهو المالك.
وهذا على التسليم به، فإنه مبني على المذهب المرجوح الذي تقدم وهو أن العارية مضمونة، والصحيح عدم ضمانها، فإن شرط المعير ضمان العارية، فلا يتوجه أي فلا يتوجه أن تبرأ ذمة الغاصب بذلك، وذلك لأنه لم يرجعها إليه على أنها ملك له، فما زالت يد الغاصب عليها، وهو قد أخذها على أنها عارية فواجب عليه ضمانها بالشرط المتقدم، لكن هنا نقول: في الشرط هنا شيء من النظر، وذلك لأنه ضمن على ماله، وشورط على ماله، وهذا شرط بغير حق.(15/64)
وقوله (أو آجره إياه) كذلك إذا آجره إياه لا يبرأ، وذلك كما تقدم في الوديعة، لأن العين المؤجرة في يد المستأجر غير مضمونة، فحينئذ الضمان الواجب على الغاصب ما زال باقيا غير مدفوع.
* وهنا إشكال، في قول المؤلف (وصبغ الثوب........ إلى أن قال: فهما شريكان بقدر ماليهما) وقد تقدم قوله في أول باب الغصب (أو صبغه فلا شيء للغاصب) وقد تقدم أن اختيار شيخ الإسلام في المسألة السابقة أنهما شريكان فالصبغ يكون المالك له شريكا به، وهنا كذلك كما هو مقرر هنا، بينما هناك أدخلها المؤلف مع تغسيل الثوب ونسج الغزل، وهل بينهما تعارض؟؟
الجواب: الذي يظهر أن بينهما تعارضا، وأن المسألة الأولى وهم من المؤلف، فإن صاحب المقنع لم يذكر صبغه، وهو أصل هذا الكتاب، وشيخ الإسلام لما استدل على أنه يكون شريكا للمالك في هذه المسائل التي أوهم المؤلف في إدخال الصبغ منها: احتج عليهم بالصبغ، وقال: كالصبغ، وفرق الموفق رحمه الله بين الصبغ وغيره من المسائل المتقدمة،بأن الصبغ عين ولذا تقدم أنها منافع، والمنافع تجرى مجرى الأعيان، والصبغ ليس بمنفعة، وإنما هو عين.
قوله [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا]
إذا تلف المغصوب أو أتلف أو تغيب كجمل يشرد مثلا فيجب ضمان مثله إن مثليا، والمشهور في مذهب الحنابلة أن المثلي هو المكيل أو الموزون مما ليس فيه صناعة مباحة، ويصح سلما، فالمكيلات كالبر مثلا، فإذا غصب منه مائة صاع من البر الجيد فيضمن الغاصب مائة صاع من البر الجيد، والموزونات كالحديد، فإذا غصب منه كذا وكذا رطلا من الحديد فإذا تلفت فيجب على الغاصب أن يدفع له قدرها من الحديد.
وقولنا " مما ليس فيه صناعة مباحة " فإن كانت فيه صناعة مباحة فليس بمثلي كالحلي مثلا، فإذا غصب منه حليا، فإن هذا الذهب المصوغ لا يضمن بمثله، بل بقيمته، فتقدر قيمة هذا الحلي ويدفعها له هذا الغاصب.(15/65)
وقولنا " ويصح سلما " فإن لم يصح سلما كالجواهر واللؤلؤ ونحوها كما تقدم في باب السلم فليست بمثلية، وعليه فضمانها يكون بضمان قيمتها، وعليه فإذا غصب منه ما ليس بمكيل ولا موزون أو فيه صناعة مباحة أو لا يصح سلما فإذا تلف فإنه يضمن قيمته، ومثله أن يغصب منه طعاما مطبوخا أو طعاما معدودا لا مكيلا ولا موزونا كما يكون في بعض الفواكه، أو أن يغصب منه أرضا أو أثاثا أو متاعا أو نحو ذلك، ومذهب الشافعية أن كل ما له مثل فإنه يضمن كذلك، أي يضمن بمثله، سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن كذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وبه يجتمع الأمران، فيحصل المقصود للمغصوب منه بحصوله على مثلي ما غصب منه وأيضا القيمة فيه، ويدل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان عند بعض نسائه - وفي الترمذي أنها عائشة - فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين - وفي بعض الروايات أنها زينب - بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسره القصعة - وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: غارت أمكم، فضمها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل الطعام فيها، وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس القصعة المكسورة) [خ 2481، ت 1359، ن 3955] وفي الترمذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (طعام بطعام وإناء بإناء) [ت 1359] فالطعام هنا فيه صنعة، والإناء ليس بمكيل ولا موزون، ومع ذلك فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الضمان.
قوله [وإلا فقيمته يوم تعذره](15/66)
فإذا كان هذا المغصوب له مثلي لكنه متعذر وقد أعوز الغاصب أن يأتي بمثله، كأن يغصب منه طعاما مكيلا ولا يتوفر هذا الطعام في تلك البلاد، فإنه يضمن قيمته يوم تعذره، فإذا كان تعذره في الأسواق في شهر كذا فينظر قيمته يومئذ، ويعطيها الغاصب للمغصوب منه، قالوا: لأنه إنما وجب في ذمة الغاصب حينئذ أي حين انقطاع هذا المثلي أو تعذره، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، والرواية الثانية: أنه تجب عليه قيمته يوم حكم الحاكم أي عند المحاكمة، فإذا حكم الحاكم في آخر الشهر بأن عله المثلي، فكان المثلي متعذرا ففي هذا اليوم يتعلق في ذمته قيمة المثلي، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه إنما وجبت القيمة في ذمته عند حكم الحاكم، والرواية الثالثة عن الإمام أحمد واختارها شيخ الإسلام أنه تجب عليه القيمة يوم غصبه، وهي أصح الروايات الثلاث، فالقول الراجح ما اختاره شيخ الإسلام، وأنه إن كان الواجب عليه مثله لكن المثل متعذر فتجب عليه قيمته يوم غصبه، وذلك لأنه قد أتلفه على المغصوب منه حقيقة يوم غصبه، وإنما أوجبنا المثل لأن المثل بدل عن المغصوب، فحيث تعذر المثل فإننا نرجع إلى الأصل، والأصل قد أتلف عليه بالاغتصاب، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
قوله [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه]
وغير المثلي في المذهب ما ليس بمكيل ولا موزون أو كان مكيلا أو موزونا لكن فيه صنعة مباحة كالحلي من الذهب، أو لا يصح سلما كالجوهر واللؤلؤ، فيكون ضمانه بقيمته إذ لا مثل له، وقد تقدم القول الراجح وهو عدم تخصيص المثلي بما ذكره الحنابلة، بل كل ما ليس له مثل فهو داخل في هذا، وما كان له مثل فهو داخل في المسألة السابقة، سواء كان مكيلا أو موزونا أو غير ذلك.(15/67)
وقوله (يوم تلفه) إذ الضمان يكون بقيمته يوم التلف، فعندما يغصب منه شيئا لا مثل له كجوهر ونحو ذلك، فإذا غصبها منه في شهر محرم، ثم تلفت على الغاصب في آخر شهر ذي الحجة، وكانت قيمتها يوم غصبها عشرة آلاف، وقيمتها يوم تلفها عشرون ألفا فهل نوجب عليه ضمانها يوم تلفها أو يوم غصبها؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه يضمنها يوم تلفها، وعللوا قولهم هذا بأن الواجب عليه رد هذه العين قبل تلفها، وإنما وجبت عليه القيمة يوم تلفها وإلا فالواجب أن يرد عينها.
القول الثاني: وهو قول الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد أن الواجب عليه قيمتها يوم غصبها، وذلك لأنه قد أتلفها عليه حينئذ، فباغتصابها أتلفها عليه، وفوت الانتفاع بها عليه، وكونه يجب عليه أن يردها قبل تلفها لا يعني أن تكون القيمة بدلا عنها في ذلك اليوم، فقد كان واجبا عليه أن يرد عينها لأن هذه العين هي عين مال هذا الرجل، لكن لما أتلفها وهي في يده فرجعنا حينئذ إلى الأصل، ولما تقدن في مسألة سابقة، تقدم ترجيحها خلافا للمذهب من أن النقص في السعر مضمون، فإذا كانت السلعة تساوي عشرة آلاف يوم اغتصابها ثم ردها وقد نقص سعرها فإنه يضمن الفارق كما تقدم ترجيحه، فالراجح مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قوله [وإن تخمر عصير فالمثل]
مثاله: غصب عصيرا فتخمر هذا العصير، فيجب عليه المثل، أي أن يدفع لهذا المغصوب منه عصيرا مثل عصيره، وذلك لأنه قد تعدى على هذا العصير بزوال ماليته، لأنه لما صار خمرا أصبح لا قيمة له، فليس بمال، فحينئذ يكون هذا الغاصب قد أزال مالية مال هذا الرجل فوجل عليه الضمان.
قوله [فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا](15/68)
إذا أصبح هذا العصير خلا لا خمرا، والخل مال، وله قيمة، فحينئذ يدفعه إلى المغصوب منه لأن الخل قد تحول من هذا العصير، والعصير مال المغصوب منه، وعليه فيدفعه إليه، فإن نقصت قيمته خلا، كأن يكون لما كان عصيرا يساوي ألفا، فلما صار خلا أصبح لا يساوي إلا تسعمائة فعليه أن يضمن الفارق فيدفع له مائة، وقال بعض الحنابلة وهو وجه عند الشافعية: إذا تحول إلى خل فإنه يكون للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه قد استحال إلى عين أخرى، وتقدم نظير هذه المسألة فيما إذا صار الحب زرعا ونحو ذلك، واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهنا كذلك، فالصحيح أنه إذا تخلل العصير فإن الخل يكون ملكا للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه بالاستحالة قد أتلفه عليه فقد أصبح الآن خلا وليس بعصير فعليه الضمان.
* مسألة:
إذا غصب مما يؤجر في العادة، كأن يغصب منه دارا تؤجر في العادة، فعليه أجرتها في المدة التي اغتصبها فيها، سواء استوفى المنافع أم لم يستوفها، لأنه إذا استوفى المنافع فوجوب الأجرة عليه ظاهر، وإن لم يستوف المنافع فإنه قد فوت على صاحب الدار منافع داره، وهي تسحق الأجرة فكان عليه أجرتها.
فصل
قوله [وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة]
قوله (الحكمية) أي التي يحكم عليه بصحة أو فساد، كبيعه أو هبته ونحو ذلك، فتصرفات الغاصب الحكمية كلها باطلة، وذلك لأنه تصرف في ملك غير ملكه بلا إذن، وحينئذ فتكون في حكم تصرف الفضولي، وعليه فالراجح كما تقدم في مسألة تصرف الفضولي أنها موقوفة على الإجازة، فإذا أجاز المالك صحت وإلا فلا، فإذا اغتصب دارا فأجرها، ثم أرجعنا هذه العين وهي الدار إلا مالكها، وكان الغاصب تصرف فيها بإجارتها، فتصرف باطل إلا أن يجيزه المغصوب منه.(15/69)
وقوله (الحكمية) احتراز من غير الحكمية كإتلافه المغصوب بأكله كما يكون في الطعام أو بإشعال شمعة ونحو ذلك، وهذه لا يحكم عليها بصحة أو فساد، وإنما يحكم عليها بحل أو حرمة.
قوله [والقول في قيمة التالف أو قدر أو صفته قوله]
أي قول الغاصب، وقوله (في قيمة التالف) مثاله: إذا اختلفا في قيمة التالف، فأحدهما يقول قيمته عشرة آلاف، والآخر يقول خمسة عشر ألفا، وقوله (أو قدره) مثاله: أن يقول: قد اغتصبت مني مائة صاع، ويقول الثاني: لم أغصب منك إلا خمسين صاعا، وقوله (أو صفته) كأن يقول: قد اغتصب مني عبدا كاتبا، ويقول الآخر: لم يكن العبد كاتبا بل كان أميا، فالقول في هذه المسائل قول الغاصب إلا ببينة، فإذا كان عند المغصوب منه بينة تدل على صدق قوله وإلا فالقول قول الغاصب، وذلك لأنه غارم منكر، والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد، وأما الآخر فإنه مدعي، وعلى المدعي البينة، واليمين على من أنكر.
قوله [وفي رده أو تعييبه قول ربه]
إذا اختلفا في الرد فقال الغاصب: قد رددت، وقال المغصوب منه: بل لم يرد، وكذا إذا اختلفا في عيب كأن يقول الغاصب: قد اغتصبته معيبا، وقال المغصوب: اغتصبته صحيحا لا عيب فيه، فالقول هنا قول ربه، أي قول رب المغصوب، وهو المغصوب منه، لأن الأصل عدم الرد وعدم العيب.
قوله [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا](15/70)
إذا غصب شيئا ثم جهل مالكه، ومثل هذا الودائع، فلو أن رجلا وضعت عنده وديعة أو عارية أو نحو ذلك، ثم جهل ربها، فحينئذ يتصدق به عنه مضمونا، فيتصدق بهذا الشيء المغصوب بنية الضمان، فمثلا: غصب من رجل عشرة آلاف أو وضع عنده رجل عشرة آلاف وديعة، ولم يدر ولم يهتد إلى صاحبها، فنقول: تصدق عنه بهذه العشرة آلاف بنية الضمان، بمعنى: إذا جاء المغصوب منه يوما أو عرفته واهتديت إليه أو جاءك هذا الودع أو اهتديت إليه فتقول: قد تصدقت بالوديعة أو بالعارية، أو تصدقت بما اغتصبته منك عنك، فإن شئت فالثواب لك، وإلا فخذ حقك مني والثواب لي، وحينئذ يكون المغصوب منه أو المودع أو المعير بالخيار، فإن شاء كان الثواب له، وإلا فإن الدافع لماله المتصدق به يكون عليه الضمان، فإن لم يرد الغاصب أو المودع ذلك، أي لم يرد أن يتصدق بها بنية الضمان فحينئذ يسلمها إلى الحاكم، ويجب على الحاكم تسلمها وقبولها، ويتصرف بها في مصالح المسلمين، وحينئذ تبرأ عهدة الدافع، إذن إن شاء سلمها إلى الحاكم وتبرأ حينئذ عهدته، وتكون في حكم الأموال الضائعة في بيت المال، تصرف في مصالح المسلمين، وإن شاء تصدق عنه بنية الضمان.
قوله [ومن أتلف محترما..... ضمنه]
من أتلف على رجل دابته أو متاعه أو غير ذلك فعليه الضمان، وذلك لأنه قد فوته عليه بالإتلاف، فكما لو غصبه فتلف عنده، فهذه مسائل ملحقة بالغصب، فهو لم يغصب هذا المال بل أتلفه عليه بغير إذن من صاحب المال فعلى المتلف الضمان.
قوله [أو فتح قفصا أو باب أو حل وكاء]
فإذا فتح قفصا عن طير أو بابا عن ماشية، أو حل وكاء أي رباطا، كأن يكون هناك سمن في وعاء فيحل الوكاء فيهراق على الأرض أو تتلفه الشمس فعلى من فعل ذلك الضمان.
قوله [أو حل رباطا]
كأن يكون هناك فرس قد ربط برباط، فيحل رباطه فيشرد الفرس فعليه الضمان.
قوله [أو قيدا](15/71)
كأن يكون له عبد قد قيده خوفا من هربه فيأتي رجل فيفك قيده فعليه الضمان، لأنه قد أبق بسببه فتلف على صاحبه بسببه.
قوله [فذهب ما فيه أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه]
فهذا باب واحد، فكل من أتلف على غيره شيئا أو تسبب بالإتلاف فعليه الضمان لأنه فوت على هذا ماله.
قوله [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن]
من ربط دابة في طريق ضيق فعثر بهذا الحبل إنسان فعليه الضمان، وذلك لأنه لما ربط هذه الدابة بهذا الحبل في هذا الطريق الضيق فإنه يكون متعديا بهذا الفعل فحينئذ يضمن.
فإن كان الطريق واسعا فكلام المؤلف يدل على أنه لا يضمن، وقال بعض الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أن عليه الضمان، والذي يتبين أنه لا يضمن إلا مع الإضرار، فإذا كان الطريق واسعا وربط فيه شيئا مضرا بالسوق أو مضرا بالمارة فعليه الضمان، والقاعدة أن الضمان مع التعدي، فإذا كان الطريق واسعا فربط به شيئا بحيث يكون متعديا كأن يكون الطريق مزدحما بالناس، أو أن يكون في الليل بحيث لا يتبين للمارة هذا الحبل وليس من العادة وضع مثله فيتلف به إنسان ونحوه فالضمان على الواضع.
قوله [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه، أو عقره خارج منزله]
الكلب العقور هو الجارح، فمن أذن لرجل أن يدخل بيته وكان في بيته كلبا عقورا فجرح هذا الداخل فعلى صاحب الكلب العقور الضمان، لأنه لما أذن له بالدخول وفيه هذا الكلب العقور يكون حينئذ قد تعدى، كذلك إذا أفلته فعقر خارج المنزل فكذلك لأنه يكون متعديا، بخلاف ما إذا كان محبوسا في موضع كأن يكن محبوسا في البيت فدخل عليه هذا الرجل فلا إذن من صاحب الدار فعقره فلا ضمان، لأنه بدخوله بغير إذن يكون متعديا.
قوله [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار](15/72)
الأصل فيما تتلفه البهائم أنه هدر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: (العجماء جبار) [خ 1499، م 1710] أي هدر، والعجماء هي البهيمة.
لكن إن أتلفت البهائم بالليل زرعا أو شجرا أو نحو ذلك كثياب ونحوها فحينئذ على مالكها الضمان، فهي وإن كانت جنايتها هدر لكن هنا تعد أو تفريط من مالكها، لأن الواجب على المالك حفظها بالليل، فإذا لم يحفظها بالليل فقد فرط، وما أفسدته بالنهار فلا ضمان ما لم يكن هناك تعد أو تفريط، كما سيأتي في بعض الصور، ودليل هذا ما رواه أبو داود والإمام مالك في موطئه والحاكم والبيهقي والحديث صحيح: (أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وأن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون على أهلها) [حم 23179، د 3570، جه 2332، ك 1467، كم 2 / 55، هق 8 / 341] وهو قضاء سلميان - عليه الصلاة والسلام - المحكي في كتاب الله تعالى في قوله {إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} .
وكذلك البئر جرحا جبار كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والبئر جبار) [خ 1499، م 1710] فالبئر هدر فإذا حفر بئرا في أرضه فوقه فيها إنسان فتلف فلا ضمان عليه، لكن إن حفرها متعديا بأن يحفر بموقع لا يؤذن له فيه، فحينئذ عليه الضمان لتعديه.
قوله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة]
أي إلا أن ترسل البهائم بقرب ما تتلفه عادة، فحينئذ يكون مالكها إما مفرطا أو متعديا، وعلى كلتا الحالتين يكون عليه الضمان لتعديه أو تفريطه، كأن يجعلها ترعى حول زروع الناس بحيث أنه لا يؤمن تعديها مع هذه الحال، فتعدت فيكون الضمان عليه.
قوله [وإن كانت بيد قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها](15/73)
إذا كان راكبا على ناقة مثلا فما أتلفت بفمها كأن تأكل زرعا أو ثمرا فعليه الضمان، لأنه مشرف عليها متمكن من منعها فإن لم يمنعها فقد فرط، وكذلك إذا أتلفت بيدها فعليه الضمان لأنه مفرط، لكن إن أتلفت برجليها فرفست أو فعلت شيئا فأتلفت فلا ضمان لأنه لم يتعبد ولم يفرط، والعجماء جرحها جبار، لكن إن علم منها إنها ترفس فقادها في مواضع الناس فعليه الضمان لأنه يكون متعديا.
قوله [وباقي جنايتها هدر]
لحديث: (العجماء جرحها جبار)
قوله [كقتل الصائل عليه]
أي الواثب عليه الذي يريد قتله أو أذيته في نفسه أو أهله أو ولده أو نحو ذلك، فإذا قتل الصائل عليه فلا ضمان عليه وذلك لما ثبت في مسلم: (أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) [م 140] فقتله مأذون له فيه شرها فهو غير مضمون، فمن دافع صائلا لينقذ نفسه ولم يمكنه دفعه إلى بقتله فقلته فلا ضمان عليه، أما إذا كان دفاعا عن غيره فالمشهور من المذهب أن عليه الضمان كأن يكون دفاعا عن زوجه أو ولده، واختار ابن عقيل أنه لا ضمان عليه، وهو الراجح، لأن المقصود هو صيانة النفس المحرمة، وهذا يثبت في نفسه وفي نفس غيره، فلا ضمان في الحالتين.
قوله [وكسر مزمار]
إذا أخذ نوعا من أنواع المزامير فكسره على صاحبه، وكذلك أنواع الأشرطة المحرمة فلا ضمان عليه.
قوله [وصليب]
فإذا كسر صليبا أو تصاوير.
قوله [وآنية ذهب وآنية خمر غير محترمة](15/74)
قوله (آنية خمر غير محترمة) أي ليست لذمي، لأنها مال للذمي، وتقدم أن الخمر وإن كان للذمي فإنه ليس بمضمون، فهذه الأشياء لا تضمن وذلك لأنها محرمة ولا يحل بيعها فليست بمال، ولكت للحاكم أن يعزر إن ثبت المفسدة لأن هذا افتيات على الحاكم، وأما الضمان لمالكها فلا، وذلك لأنها لا قيمة لها.
* مسألة:
قال الحنابلة: إن مال جداره بحيث أصبح عرضة للسقوط فلم يهدمه بل تركه وأبقاه فانهدم فسقط على شيء فأتلفه فلا ضمان عليه، لأنه لم يحصل بسبب فعله، والقول الثاني في المذهب أنه إن طالبه من يخشى وقوع الجدار على شيء من ماله إن طالبه وأشهد على المطالبة فلم يهدم فإنه عليه الضمان، وذلك لوقوع التفريط منه حيث طولب فلم يفعل، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة أنه يضمن مطلقا واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
باب الشفعة
الشفعة: بضم الشين وتسكين الفاء من الشفع، وهو في اللغة: الضم، وسميت الشفعة شفعة؛ لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه المنفرد، وعرفها المؤلف بقوله:
قوله [استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد](15/75)
فعندما يشترط (1) اثنان في عقار من أرض أو بستان، فيريد أحدهما أن يبيعه فإن أولى من يشتري هذا النصيب هو الشريك فهو أحق به، مثال هذا: اشترك زيد وعمرو في بستان لكل واحد منهما نصفه، فباع زيد نصيبه على بكر بعشرة آلاف ريال، فلعمرو أن يأخذ نصيب زيد من بكر بهذا الثمن الذي تم عليه العقد، وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الشراكة يقع فيها الضرر كثيرا، ولذا فإن الشخص يحتاط فيمن يكون شريكا له، فقد يباع النصيب المشارك على من لا يصلح شريكا له ممن يتعدى أو يفرط، فكان أحث (2) بنصيب شريكه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعن (3) الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) [خ 2214، م 1608] وفي مسلم: (الشفعة في كل شرك في أرض وربع - أي دار - وحائط، لا يصلح - وفي لفظ: لا يحل - أن يبيع نصيبه قبل أن يعرضه على شريكه) [م 1608] وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجار أحق بصقبه) [خ 6977] أي بملاصقته، فهو لملاصقته أحق بملك جاره، فهذه أدلة تثبت الشفعة، وقد اتفق العلماء على القول بها.
__________
(1) لعلها: يشترك.
(2) لعلها: أحق.
(3) لعلها: وقعت.(15/76)
وقوله (بثمنه الذي استقر عليه العقد) أي إذا استقر العقد على عشرة آلاف، فهي له بعشرة آلاف وهكذا، ويتوجه كما ذكر شيخ الإسلام أنه إن حابى البائع المشتري محاباة غير معتادة فيتوجه ألا يأخذ الشفيع إلا بالقيمة، ففي المثال المتقدم: إذا كان بين زيد وبكر صداقة أو ثرابة (1) فحاباه بالبيع، فهذا النصيب قيمته عشرة آلاف فباعه له بخمسة آلاف فهنا محاباة غير معتادة، فلا يأخذه الشفيع بخمسة آلاف بل يأخذ بقيمته وهي عشرة آلاف لأنه إنما باعه بهذا الثمن نظرا للمشتري لما بينهما مما يستدعي المحاباة، وعليه فليسب (2) هي قيمته الحقيقية التي يرضى ببيعه، وعليه فإنه يقوّم ويباع بقيمته، بخلاف ما لو حابى المشتري البائع كأن تكون لا تساوي إلا عشرة آلاف فحابى المشتري البائع فأخذها منه بخمسة عشر ألفا، فيقال للشفيع: إن شئت فخذها بهذا الثمن الذي عرض عليه وهو خمسة عشر ألفا لئلا تفوت المصلحة على البائع.
قوله [فإن انتقل بغير عوض]
فإذا انتقل هذا النصيب بغير عوض كهبة أو صدقة كأن يتصدق بنصيبه أو يهبه فلا شفعة، قالوا: كما لو انتقل بالإرث فلا شفعة فكذلك هنا، لأنه انتقال بغير عوض.
قوله [أو كان عوضه صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة]
__________
(1) لعلها: قرابة.
(2) لعلها: فليست.(15/77)
كذلك إذا كان عوض هذا الشقص غير مالي كأن يجعله صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد، كأن يثبت على رجل قصاص، فيقول: تنازل عن القصاص ولك نصيبي من هذا البستان، أو تقول المرأة لزوجها: طلقني ولك نصيبي من هذا البستان فهذا الخلع، أو أن يجعل الرجل نصيبه مهرا للمرأة، فهنا العوض ليس عوضا ماليا فلا تثبت الشفعة فيه، وذلك لأنه لا يمكن أخذه بعوضه إذ لا عوض له معروف، فالتنازل عن القصاص ليس له قيمة محددة وكذلك المهر والخلع، وقد جعل هذه الأشياء عوضا عن هذه التي لا تعرف قيمتها فلا يمكن حينئذ الأخذ به أي بالشفعة، فإذا حكمنا بالشفعة فلا نستطيع أن نقدر قيمة هذا الشقص في البستان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن حامد وأبي الخطاب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الشفعة تثبت في هذه المسائل، وذلك للحوق الضرر، فإن الضرر ثابت فيها كما هو ثابت في المسائل المتقدمة، فالشفعة هنا تدفع الضرر كما تدفعه لو كان هناك عوض مالي، ويمكننا الأخذ بالقيمة، فكون الخلع والصداق وغيرهما غير معروفة القيمة فإنه يمكننا أن نعرف قيمة هذا النصيب والشقص بتقويمه، فنقومه ويأخذه الشفيع بقيمته، وهذا القول هو القول الراجح، وأما القياس على الإرث فلا يصح لأنه قياس مع الفارق، والفارق هو أن النصيب انتقل في الإرث من المورث إلى وارقه انتقالا قهريا، بخلاف الهبة والصدقة ونحوهما، فإنه انتقل في هذه المسائل باختيار الواهب.
قوله [ويحرم التحيل لإسقاطها](15/78)
كأن يتحيل بهبتها إلى زوجته أو ولده ثم يجعل زوجته تبيعه له فلا يحل التحيل لإسقاطها، ولا يمضي، وذلك لحرمة التحيل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) [أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسيره (سورة الأعراف، الآية رقم 163) 2 / 324، وقال:" وهذا إسناد جيد "، وحسن إسناده شيخ الإسلام في الفتاوى 29 / 29] والضرر ثابت مع الحيلة فهذه الحيلة لا تزيل الضرر، فوجب دفعه وذلك بتحريم الحيلة أولا، وبعدم إمضائها ثانيا.
قوله [وتثبت لشريك في الأرض تجب قسمتها](15/79)
فتثبت الشفعة لشريك في أرض، وهذا هو المشهور من المذهب وأن الشفعة لا تثبت في العقار، وأما المنقول كالحيوان والمركوبات كالسفن ونحوها فالشفعة لا تثبت فيها، واستدلوا بما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) قالوا: فدل على أن الشفعة لا تثبت إلا فيما كان عقارا غير منقول من بستان وأرض وبناء ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل واختيار شيخ الإسلام وهو مذهب أهل الظاهر أنها تثبت فيه، فتثبت في المنقول كما تثبت في العقار، واستدلوا بما رواه الطحاوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشفعة في كل شيء) [ت 1371، طب 11 / 123 برقم 11244، هق 6 / 109، شرح معاني الآثار 4 / 126، قال الحافظ في الفتح:" رجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته "] وفيه عنعنة ابن جريج لكن له شواهد، وصوب الترمذي إرساله عنده من حديث ابن عباس، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، قالوا: وهذا عموم أيضا، قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فهذا لا يعدو إلا أن يكون ذكر شيء من أفراد العام، وذكر شيء من أفراد العام لا يفيد التخصيص كما هو مقرر في علم الأصل، وهذا القول هو الراجح، ولأن المعنى الذي من أجله ثبتت الشفعة ثابت أيضا فيما سوى العقارات من المنقولات.
وقوله (تجب قسمتها) أي تجب قسمتها عند المطالبة، فما يمكن قسمته تجب قسمته عند مطالبة من له جزء بذلك، فالأرض مثلا يمكن قسمتها، وكذلك البستان ونحو ذلك، ومثال ما لا يمكن قسمته قسمة البئر، فإذا اشترك اثنان في بئر فلا يمكن أن نقسمه، وكذلك إذا اشتركا في دار صغيرة، فكذلك لا يمكن قسمتها فلا تثبت فيها الشفعة.(15/80)
فما يمكن قسمته تثبت فيه الشفعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهذا إنما يكون فيما يقسم، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية أن الشفعة تثبت أيضا فيما لا يمكن قسمته، بل الشفعة تثبت فيه من باب أولى، وذلك لأن الضرر فيه أكثر، فإن المشاركة فيه مؤبدة أما ما يقسم فإنه متى شاء أحدهما طلب المقاسمة وزال الضرر عنه، وأما هنا فإن الضرر أعظم وأشد، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، وهذا عام فيما تمكن قسمته وما لا تمكن، وأوضح من هذا: الاستدلال بقول - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة في كل شيء) ويندرج في هذا العموم ما لا تجب قسمته لعدم إمكان القسمة، وأما قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) فالجواب عنه كالجواب عنه في المسألة السابقة، وأنه ذكر فرد من أفراد العموم لا يقيد (1) التخصيص.
قوله [ويتبعها الغراس والبناء لا الثمرة والزرع]
إذا باع نصيبه من الأرض فإن للشفيع أن يشتريها وهو أولى من غيره بذلك، ويتبع الأرض ما فيها من بناء وغرس، وذلك لأن البناء والغرس يتبع الأصل كما تقدم في باب الأصول والثمار، بخلاف الزرع والثمر فإنه لا يتبع الأصل، فإذا باع أرضا وفيها زرع أو ثمر فإن البيع لا يفع (2) على الثمر ولا على الزرع إلا أن يشترطه المبتاع كما تقدم في باب الأصول والثمار.
قوله [فلا شفعة لجار]
__________
(1) لعلها: لا يفيد.
(2) الصواب: لا يقع.(15/81)
فالجار ليسب (1) له شفعة، وإنما الشفعة للشريك، فلو أن رجلا بجانبه أرض، فأراد صاحبها أن يبيعها فليس هو - أي الجار - أحق بالشراء بخلاف الشريك، وهذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) والجار وقعت الحدود بينه وبين جاره، وصرفت الطرق فحينئذ لا شفعة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقال الأحناف بل له الشفعة، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الجار أحق بصقبه) أي أحق بسبب ملاصقته وقربه، وفي المسند والترمذي وغيرهما من حديث آخر أن ذلك في الشفعة [حم 13841، ت 1369، د 3518، جه 2494] وعن الإمام أحمد وهو اختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيرهم من أهل العلم أن المسألة فيها تفصيل: فالجار أحق بالشفعة إن كان بينهما حق مشترك كأن يكون الطريق مشتركة بينهما أو يكون البئر مشتركا بينهما أو نحو ذلك، فحينئذ الجار أحق بالشفعة، وأما إن لم يكن بينهما طريق مشترك ولا حق آخر من الحقوق المشتركة فحينئذ الجارة (2) أسوة غيره، وهذا القول هو الراجح، وهو الذي تجتمع به الأدلة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهنا ليس الأمر كذلك، فإن ثمت طريق مشترك أو حق مشترك، وقد نص على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والأربعة بإسناد صحيح أنه قال: (الجار أحق بشفعة جارة (3) ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا) [سبق تخريجه قريبا] فدل هذا الحديث على أن الجار أحق بشفعة جاره إذا كان الطريق مشتركا أو نحو الطريق مما يكون فيه اشتراك بينهما من بئر ونحوه.
__________
(1) ليست.
(2) لعلها: الجار.
(3) لعلها: جاره.(15/82)
قوله [وهي على الفور وقت علمه، فإن لم يطلبها إذاً بلا عذر بطلت]
هنا بين المؤلف أن الشفعة على الفور وأنه متى علم ببيع شريكه حصته ولم يطالب بالشفعة فلا حق له بعد ذلك في الشفعة، واستدلوا بما روى ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشفعة كحل العقال) أي أنها تذهب عن صاحبها كما يذهب البعير الشرود إذا حل عقاله، والحديث فيه من يتهم (1) بالكذب، فالحديث إسناده ضعيف جدا، وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وعليه فإذا لم يعلم بالبيع فله المطالبة ولو بعد سنوات، وكذلك إذا علم لكن كان له عذر من مرض أو غيبة وليس له من يوكله وليس هناك من يشهده على المطالبة بالشفعة أو علم بالليل فأخر ذلك إلى النهار فإنه له الحق بالمطالبة بها، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد بل له المطالبة بها على التراخي وذلك لأنه حق له فلا يسقط إلا بإسقاطه، فلو علم ولا عذر له بالتراخي لكنه تراخى ثم طالب بها فله الحق فيها، قالوا: لعموم الحديث الوارد في الشفعة، فإنه ليس فيه أنها لا بد أن تكون على الفور، بل عموم الحديث يدل على أنها تثبت له ما لم يدل دليل على إسقاطها أو الرضا بالشريك الجديد، ثم إن هذا الذي له حق الشفعة يحتاج إلى زمن ليستبين وليتأمل وينظر في أمره، فاشتراطنا لثبوتها أن تكون على الفور تفويت لحقه لأنه يحتاج إلى تأن وتريث ونظر واستشارة واستخارة، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وعليه فيحدد له زمن يحصل به مقصوده عرفا، فلا يكون الزمن مفتوحا ولا إلى سنة كما قال بعضهم ولا إلى ثلاثة أيام كما قال البعض الآخر بل يكون ذلك راجع إلى العرف، وهذا يختلف باختلاف السلع وباختلاف المشترين وحذقهم في معرفة السلع.
قوله [وإن قال المشتري بعني أو صالحني]
__________
(1) لعلها: متهم.(15/83)
إذا باع أحد الشريكين نصيبه، فقال الشريك الآخر للمشتري بعني هذا النصيب أو قال: صالحني على هذا النصيب أو أجرنيه فلا شفعة له، إذن تسقط الشفعة لأن هذا يدل على الرضا بهذا البيع.
قوله [أو كذب العدل]
إذا أخبره العدل الثقة الذي يجب قبول خبره أن شريكه قد باع حصته فلم يصدق خبره فحينئذ تسقط شفعته، فلو طالب بها بعد ذلك على التراخي فلا تثبت له لأنه تراخي بلا عذر، وهذا على القول بثبوت الشفعة على الفور، وعلى القول الراجح إذا أخبره الثقة بالخبر ولم يقبل ومضت مدة يحصل بمثلها ما يحتاج إليه من النظر والتروي والاستشارة ثم أتي بعد ذلك ليطالب بها فلا يقبل، وذلك لأنه قد علم بها من طريق هذا العدل وتكذيبه له تفريط منه، بخلاف ما إذا أخبره الفاسق لأنه لا يقبل خبره لكن إن صدقه فحينئذ كما لو أخبره بذلك الثقة لحصول عمله بهذا البيع.
قوله [أو طلب أخذ البعض سقطت]
إن قال هذا الشريك للمشتري: أنا لي الشفعة لكني لا أريد أن آخذ النصيب كله بل أريد أن آخذ بعضه، كأن تكون الأرض المتشارك بها مساحتها ألف متر، فباع أحدهما نصيبه وهو خمسمائة متر، فقال الشفيع للشريك الآخر أريد من المشتري مائتين وخمسين مترا، فلا شفعة له، وذلك لما في تبعيض المبيع من الإضرار بالمشتري، فإن المشتري إنما اشتراها على أنها خمسمائة متر، فإذا شفع الشريك بالنصف فقد فوت على المشتري مقصوده، إذن يشترط أن يأخذ المبيع كله شفعة،فإن أراد البعض فلا، وذلك لما فيه من تفويت المقصود على المشتري بتبعيض المبيع عليه.
قوله [والشفعة لاثنين بقدر حقيهما](15/84)
إذا كان بين ثلاثة اشتراك في بستان لكل واحد منهم الثلث فباع أحدهم نصيبه، فالشفعة حق للاثنين، وكل واد منهما له المطالبة بنصف المبيع شفعة، فإن كان هؤلاء الثلاثة أحدهم له النصف، والثاني والثالث لكل واحد منهما الربع فباع الثاني نصيبه فإن الشفعة تثبت للشريكين بقدر ملكيهما، وذلك لأن الشفعة حاصلة بسب الملك فكانت للشفعاء بقدر أملاكهم.
فمثلا: كان هناك بستان يملك زيد نصفه، ويملك عمرو ربعه، ويملك بكر ربعه، فباع بكر نصيبه وهو الربع، فالباقي يكون ثلثاه لزيد وثلثه لعمرو، فلهما الحق بالشفعة بقدر أملاكهما.
قوله [إن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك]
إذا قال أحدهما أن (1) قد تنازلت عن نصيبي من الشفعة فحينئذ إن شاء الآخر أن يأخذ الكل أو أن يترك، ففي المثال المتقدم: إذا تنازل عمرو وله الربع، إذا تنازل عن الشفعة فحينئذ إن شاء زيد فله الشفعة، ولكن ليس لزيد أن يأخذ بعضها بل إما أن يأخذ النصيب كله وإما أن يبقيها للمشتري كلها، وذلك لما تقدم، فإن تبعيض المبيع على المشتري فيه إضرار بالمشتري وهذا ممنوع منه.
قوله [وإن اشترى اثنان حق واحد.... فللشفيع أخذ أحدهما]
في المثال المتقدم، لما أراد بك (2) أن يبيع نصيبه من هذا البستان وهو الربع اشتراه منه اثنان، هل للشفيع أن يأخذ من أحدهما نصيبه ويترك الآخر أم لا؟
الجواب: له ذلك، فلشفيع أخذ نصيب أحدهما، وذلك لأن تعدد المشترين تعدد في العقود، فهو بمنزلة عقدين، ولا ضرر حينئذ على المشتري لأن المشتري الذي نبقي له نصيبه لا يتضرر بذلك فنصيبه كامل مبقى له.
قوله [أو عكسه]
أي أن يشتري واحد حق اثنين، إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في أرض لكل واحد منهم الثلث، فباع زيد وعمرو نصيبهما لرجل واحد، فهل لبكر أن يأخذ من هذا المشتري نصيب أحدهما دون نصيب الآخر؟
__________
(1) لعلها: أنا.
(2) لعلها: بكر.(15/85)
قال المؤلف: له ذلك، قالوا: لأن تعدد البائع كتعدد المشتري، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب المنع من ذلك وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن المشتري لما كان واحدا فإذا قلنا بجواز الشفعة بأحد النصيبين اللذين اشتراهما ففيه تبعيض المبيع، وهذا يخالف مقصوده ففيه إضرار بالمشتري، وهذا القول هو الراجح، وأنه يقال له: إما أن تأخذ النصيبين جميعا وإما أن تتركهما جيمعا، وذلك لأن في أخذ أحدهما دون الآخر تفويتا لمقصود المشتري.
قوله [أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة]
مثاله: لزيد وعمرو بستانان فباع زيد شقصيه أو حصتيه من البستانين لبكر، فالمشتري واحد، والشقصان متعددان، فهل لعمرو وهو الذي له حق الشفعة، هل له أن يأخذ أحد الشقصين شفعة ويترك الشقص الآخر أم لا؟
القول الأول: يجوز له ذلك كما ذكر المؤلف، والقول الثاني: أنه لا يجوز ذلك لما فيه من تبعيض الصفقة على المشتري وفي ذلك إضرار به، وهذا القول أظهر كما تقدم، لكن لا يتبين أن هذا على الإطلاق بل متى تبين لنا أنه لا ضرر ظاهر عليه في ذلك فلا يمنع من الشفعة.
قوله [وإن باع شقصا وسيفا...... فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن]
مثاله: رجل يشترك هو وآخر في أرض لكل واد (1) منهما خمسمائة متر، فباع نصيبه من الأرض وهو خمسمائة متر ومعها سيارة أو دابة ونحو ذلك، فهل تثبت الشفعة أم لا؟
قال المؤلف: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن،، وكذلك إذا باع حثته (2) من الأرض ومعها سيف بألف درهم، وحصة الشقص من الألف ثمانمائة درهم، وحصة السيف مائتا درهم، فهل للشفيع أن يأخذ الأرض بحصتها من الثمن دون السيف؟
__________
(1) لعلها: واحد.
(2) لعلها: حصته.(15/86)
الجواب: له ذلك، وذلك لأن الشفعة ثابتة في الشقص منفردا فبقيت مع غيره، والأصل بقاؤها، وكونه يضاف إليها مبيع آخر لا يعني هذا انتفاء الشفعة، فالأصل هو بقاؤها، ولا ضرر على المشتري في هذا التبعيض لأنهما سلعتان مختلفتان، وهذا هو قول الحنابلة، وهذا هو تعليلهم، وهو تعليل ظاهر.
قوله [أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن]
مثاله: اشترك زيد وبكر في بستان لكل واحد منهما النصف، فاشترى عمرو من بكر نصيبه، ثم تلف بعضه بآفة سماوية أو أتلفه أحد أو نحو ذلك، فهل للشفيع وهو زيد أن يأخذ ما لم يتلف من هذا النصيب بحصته من الثمن؟
قال المؤلف هنا: له ذلك، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال ابن حامد من الحنابلة: إذا كانت الآفة السماوية فإن الشفعة تسقط وذلك لما في إثباتها من الإضرار بالمشتري، فإنه يتضرر لأن التلف حينئذ يكون عليه، إلا أن يشاء أن يأخذهما بالثمن الذي وقع عليه العقد، فيكون قد اشترها هذا الرجل بألف درهم وحصلت لها آفة سماوية، فإن شاء أن يأخذها بألف درهم وإلا فلا شفعة بخلاف ما إذا كان المتلف آدميا فإنه يرجع إلى الآدمي بقيمة ما أتلفه، وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة.
قوله [ولا شفعة بشركة وقف]
إذا كانت هناك دار نصفها وقف ونصفها طلق - أي ليس بوقف - فأراد صاحب الطلق أن يبيعه فهل لصاحب الوقف أو المنتفع به الشفعة أم لا؟(15/87)
قالوا: ليس له الشفعة، فالموقوف عليه ليس له أن يأخذ الباقي سواء كان للوقف أو له، قالوا: لأن ملكه ملك ناقص، والذي تصرف له مصالح الوقف ملكه ملك غير تام، وعليه فلا شفعة، والقول الثاني في المسألة وهو قول بعض الحنابلة واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أن له الحق في الشفعة، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأدلة لم تفرق بين الملك التام والملك الناقص، بل هنا ضرر هذا أعظم، لأن هذا الموقوف عليه لا يمكنه بيع الوقف حتى يخرج من ضرر هذا الشريك، بخلاف الآخر فإنه إذا تضرر فيمكن له أن يبيع، ومع ذلك أثبتنا له الشفعة، فأولى من ذلك هنا.
قوله [ولا غير ملك سابق]
إذا اشترى اثنان دارا من رجل، فليس لأحدهما الشفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما شعلى (1) الآخر، فمثلا: اشترى زيد وعمرو دارا من رجل، فلا تثبت الشفعة لأحدهما في نصيب الآخر، فلا نقول: لك أن تملك المبيع كله شفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح لا مرجح، فلا بد أن يكون هناك ملك سابق.
قوله [ولا لكافر على مسلم]
فلا تثبت الشفعة لكافر على مسلم، فلو أن رجلا له دار ويشاركه ذمي في هذه الدار فباع المسلم نصيبه لمسلم آخر فهل تثبت الشفعة للذمي؟
قالوا: لا تثبت وهو المشهور من المذهب، وقال الجمهور: تثبت الشفعة للذميين، وذلك لعمومات الأدلة، وأما الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم وذكر أنه ليس أحد من السلف يقول بالشفعة لهم، وذلك لأن ثبوتها للمسلم لا يلزم منه ثبوتها للذمي، وذلك لأن مراعاة حق المسلم أولى وأعظم، فلا يلحق به غيره، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) [م 2167] فكيف يؤخذ من المشتري المسلم لمراعاة حق هذا الذمي، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم.
فصل
__________
(1) لعلها: على.(15/88)
قوله [وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة](15/89)
" باب إحياء الموات"
قال: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم]
هذا هو تعريف الموات.
منفكة عن الاختصاص: كالأفنية والطرق ومسايل الماء وحريم النهر ونحو ذلك فهذه فيها منفعة عامة فهي من الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم أي لمعصوم المال سواء كان مسلماً أو ذمياً فهذه الأرض هي الموات فمن أحياها فقد ملكها، ولذلك قال المؤلف: [فمن أحياها فقد ملكها]
لما روى البخاري من حديث عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها) قال عروة وقضى بذلك عمر في خلافته. وروى الثلاثة والحديث حسنه الترمذي وهو حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حديث أبي سعيد الخدري: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) .
قال: [من مسلم وكافر] .
سواء كان المحيي مسلماً أو كان كافراً ذمياً، فللذمي أن يحيى، فإذا سبق الذمي إلى أرض فأحياها بزرع أو بناءٍ أو نحو ذلك فهي ملك له أيضاً، وهو مذهب الجمهور ودليل ذلك عموم الحديث المتقدم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له".
ومنع الشافعية من ذلك في الذمي، وقالوا: إذا أحيا الذمي أرضاً أي في البلاد التي هي ملك للمسلمين فهي ليست له، واستدلوا بما روى البيهقي بإسناد صحيح إلى طاووس وهو من التابعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?عاديُّ الأرض" أي قديمها نسبةً إلى عاد" لله ورسوله ثم لكم بعدُ) ، والقول الراجح مذهب الجمهور?لعموم الحديث، وأما ما استدل به الشافعية فهو مرسل والمرسل ضعيف فهو عن طاووس وهو من التابعين، فالراجح مذهب الجمهور لعموم الحديث، ولأن الذمي يملك في البلاد الإسلامية، يملك بماله بالشراء ويملك بالهبة، فإذا وهب أو اشترى فإنه يملك فكذلك إذا سبق إلى أرض فأحياها فهي ملك له.
وفي قول المؤلف: [وهي الأرض المنفكة????وفي قوله بعد ذلك: [في دار?وغيرها، والعنوة كغيرها??(16/1)
في هذا ما يدل على أن الإحياء عام في كل أرضٍ، سواء كانت هذه الأرض في البلاد الإسلامية أو غيرها، وسواء كانت قد فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً، لعموم قوله: "من عمّر أرضاً"، ولقوله: "من أحيا أرضاً ميتة"، فأي أرض ينفذ فيها حكم الإسلام فيحييها مسلم أو ذمي فهي له، وعند الحنابلة في المشهور عندهم?أن الأرض إذا فتحت صلحاً على أن الأرض للكفار، فإذا أحياها مسلم فليست له، واختيار الموفق رحمه الله أنها له وهو الراجح لعموم الحديث.
فإذن: من أحيا أرضاً مواتاً فهي له، سواء كانت البلاد التي هي فيها فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً سواء كان الصلح على أن تكون?الأرض للمسلمين أو على أن تكون الأرض للكفار، وهذا من تشوّف الشارع إلى إحياء الأرض وتعميرها، ومن القيام بأمر الدنيا، فالدين الإسلامي قائم بمصلحة الدين والدنيا.
قال: [بإذن الإمام وعدمه]
أي سواء أذن الإمام أم لم يأذن، فلا يشترط إذن الإمام هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك الأحناف، وقالوا: بل يشترط إذن الإمام والراجح هو الأول لعموم الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من?أحيا أرضاً ميتةً فهي له??ولم يشترط في ذلك إذن الإمام، ولأنها عين مباحة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالاحتطاب ونحوه لكن إن منع الإمام من إحياء أرض، كما يمنع في الغالب من إحياء الأراضي التي تكون حول المدن انتظاراً لمصلحة أو نحو ذلك، فإنه حينئذ يمنع من الإحياء، وذلك لأن منعه من إحيائها يعني اختصاصها، وأنها أصبحت مختصة ومعدة لمنفعة عامة??
قال: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامرٍ إن لم يتعلق بمصلحته](16/2)
بمصلحته": الضمير يعود إلى العامر، أي هذا الإحياء ليس مختصاً بالأراضي النائية البعيدة عن المدن بل هو عام فيها وفي غيرها من الأراضي القريبة إلى المدن وليس فيها اختصاص، فلا تكون مقبرة أو ملقى كناسة أو طريقاً، أو مركب خيلٍ أو مصلى عيدٍ أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة. فإذا لم يكن هذا الموضع القريب من الأرض العامرة لمصلحتها، فإن له أن يحييه لعموم الحديث المتقدم، "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له??وهذه أرض موات.
ومنع منه الأحناف، لأنه يحتمل أن يُحتاج إليه للمصلحة العامة والراجح الأول، لأن هذا الاحتمال لا يمنع الحق، فهذا حق له وهذا مجرد احتمال، لكن للإمام، كما تقدم أن يمنع من إحياء المواضع القريبة من المدن، بل ينبغي له أن يمنع من الإحياء ترجيحاً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة??
قال: [ومن أحاط مواتاً ... إلى أن قال "فقد أحياه]
???إذا أتى إلى أرض منفكة من?الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم، أتى إليها فوضع عليها حائطاً منيعاً سواء كان من طين أو غيره مما تحاط به الأرض، فهي له وإن لم يزرعها وإن لم يسقفها.
إذن، من إحياء الأرض أن تضع عليها حائطاً.
استدلوا: بما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من أحاط حائطاً على أرضٍ?فهي له) ،?وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل والقاضي والموفق وغيرهما، أن الإحياء مرجعه إلى العرف، فإذا أحياها عرفاً فهذا هو الإحياء المعتبر، وكونه يحيطها بحائط من غير أن يسقفه إن كان البناء للسكن، ومن غير أن يجري على هذه الأرض الماء إن كان للزرع أو الغراس، فإن هذا ليس بإحياء وهذا القول الأرجح،?لقوله عليه السلام: ?من أحيا?،?ومن أحاط حائطاً فإنه ليس بمحيي.(16/3)
وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -????من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له) ?هذا بالنظر إلى ما يؤول إليه الأمر، أي هو أحق بالأرض، فإذا سقف هذا الحائط أو زرع أو غرس فهي له، فإذا أحاط حائطاً فهو أحق بها من غيره لكن لا تكون ملكاً له حتى يحييها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث "من عمرّ أرضاً??وهذا في الحقيقة لم يعمرها، فالراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فعليه إذا أحاطها بحائط وحفر فيها بئراً أو أجرى إليها الماء من النهر أو من العيون أو من السدود واشتغل في الأرض فهذا هو الإحياء لها، وإذا كانت للسكن فإذا أحاطها وسقفها فهذا هو إحياؤها.
قال الحنابلة??إذا تحجّر أرضاً فهو أحق بها أي وليست ملكاً له، فإذا أحاطها بحجر أو بتراب فإنه لا يملكها لكنه أحق بها من غيره فليس لأحدٍ أن?يسبقه إلى إحيائها، وقبل ذلك على الراجح لو أحاطها بحائط وذلك لأنه سبق إليها فهو أحق بها، وحينئذ فيمهله الإمام ليحييها.
قالوا: يمهله الشهرين والثلاثة ويقول له، إما أن تحييها وإما أن تتركها، هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو الصواب??التحديد مرجعه إلى الحاكم، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة وبعد الأرض عن المالك، والآليات التي تصلح بها الأرض، فيمهله مدة معلومة تكفيه ليتمكن من إحيائها فإذا لم يحيها فإنه ينزعها من يده.
قال: [أو حفر بئراً فوصل إلى الماء أو أجراه إليه من عين أو نحوها أو حبسه عنه ليزرع فقد?أحياه]
???قوله "أو حبسه عنه ليزرع??أي حبس الماء عن الزرع ليزرع فإن من الزرع ما يحتاج إلى حبس الماء عنه، فإذا كان الماء يسيل إلى جهة الأرض فأخذ يشتغل بإيقاف الماء عن هذه الجهة من الأرض ليزرع فإن هذا إحياء. وإذا اشتغل بإزالة الأحجار ونحوها عن الأرض، وإصلاحها بالأسمدة ونحو ذلك فهذا أيضاً إحياءُ لها.
?فقد أحياه] ?وتقدم أن الراجح أن مرجع ذلك إلى العرف.(16/4)
قال: [ويملك حريم البئر العادية خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البدّيّة نصفها] .
??الحريم: هو ما يمنع غير المالك من التصرف فيه، فهذا الحافر للبئر، يملك من الأرض ما?حفر وحريمه وسمي بذلك لأن غيره يحرم عليه أن يتصرف فيه، وحريم البئر العادية، "والعادية نسبة إلى عادِ" وهي البئر القديمة، حريمها خمسون ذراعاً أي نحو خمسة وعشرين متراً من كل جهة، فإذا كان هناك بئر قديم فاشتغل بإصلاحه وإخراج الماء منه فإنه يملك حينئذ خمسين ذراعاً من كل جهة، وحريم البئر البديّة أي الحديثة نصف ذلك أي خمساً وعشرين ذراعاً، ودليل هذه المسألة ما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب أنه قال: "السنة أن يكون حريم البئر العادية خمسين ذراعاً، وحريم البدّية خمساً وعشرين ذراعاً"، وله شاهد مرسل عن الزهري عند أبي داود في مراسيله أيضاً، فإن كان شجراً أو نخيلاً، فإن حريمها ما امتدت إليه أغصانها وفي النخل بعدد جريدها، فإذا غرس نخلة في أرض موات فإنه يملك موضع النخلة وما حولها بقدر الجريد، وإن كانت أشجاراً سوى النخيل فإنه يملك بقدر الأغصان، ودليل هذا ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: " اختصم رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -?في?حريم نخلٍ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بجريدة، من جريدها فوجدت سبعة أذرع أو خمسة أذرع فقضى بذلك) .
وأما حريم النهر وغيره فإنه بقدر ما يحتاج إليه، وهكذا سوى ذلك، فمثلاً عندما يبني داراً فإنه يحتاج إلى شيء من الأراضي الخارجة عن داره كموضع الخروج والدخول ونحو ذلك، فيترك له بقدر ما يحتاج إليه.
قال المؤلف رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه] .(16/5)
تقدم تعريف الموات وأنها الأرض المنفكة عن الاختصاصات وعن ملك معصوم، وللإمام أن يقطع من رعيته?ما شاء من الموات لمن يحييه أي لمصلحة إحيائه، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع الزبير?بن العوام نخلاً) ، وفي سنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال: (أن?النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع وائل بن حجر أرضاً في حضرموت) .
??لكن لا يملكه بالإقطاع بل يملكه بالإحياء، فإذا أقطعه أرضاً للسكن أو للزراعة، أو للغراس، فلا يملكها إلا بالبناء إن كانت للسكن أو بالزراعة إن كانت للزراعة أو بالغراس إن كانت للغراس، فهو أحق بها لكن لا يملكها إلا بإحيائها ودليل ذلك ما ثبت في البيهقي، والأثر حسن أن عمر بن الخطاب أخذ من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقد أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة، كما سيأتي ذكره، فلما ولي عمر نزع عنه ما عجز عن عمارته، ولو كان يملكها بالإقطاع لما نزعها منه، هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب الجمهور?فلا يملكها بالإقطاع، بل هو أحق بها أي بأن يسبق غيره في غرسها أو زراعتها أو بنايتها، وحينئذ، إن لم يحيها فإن الإمام يمهله زمناً يتمكن بمثله من إحيائها، وإلا فإنه ينزعها منه كما تقدم تقريره.
وعليه: فإنه ليس له أن يبيعها هذا هو المشهور في المذهب قالوا: لأنها لا تملك إلا بالإحياء وهو لم يحيها فإذن لا تكون ملكاً له.(16/6)
وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يبيعها وذلك لأنه أحق بها، فهي من اختصاصاته فهو وإن لم يملكها لكنها اختصاص له، وهذا هو القول الراجح، ويدل عليه ما روى أبو داود بإسناد جيد: أن جٌهنيين لحقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -?في ذهابه إلى تبوك في الرحبة فقال: من أهل ذي المروءة فقيل له: بني رفاعة من جهينة، فقال: قد أقطعتها: "أي الرحبة" لبني رفاعة" قال الراوي: فمنهم من باع، ومنهم من أمسك فعمل". وهذا هو القول الراجح، وأن من أقطع أرضاً لسكناها لزراعتها أو حجرها تحجيراً، أي حوطها بالأحجار أو بالتراب أو نحو ذلك فهو أحق بها وله بيعها لأنها من اختصاصاته.
فإن أقطع ووجد فيها معادن سواء كانت معادن باطنة كالذهب والفضة، أو كانت معادن ظاهرة كالملح والكُحل، والمعادن الظاهر هي التي لا تحتاج إلى حفرٍ وإنما تكون ظاهرة على الأرض، وقد تحتاج إلى كشفٍ يسير، وأما المعادن الباطنة فهي التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل، فإذا أقطع أرضاً فوجد فيها معدناً من المعادن سواء كان ظاهراً أو باطناً فهو له، لأنه في ملكه فهو مالك للأرض وما فيها.
وهل للإمام أن يقطع أرضاً فيها معادن؟
أما المعادن الظاهرة فليس للإمام بالاتفاق أن يقطعها، كأن تكون أرض فيها ملح فليس للإمام أن يقطعها وذلك لما فيه من الإضرار بالناس، فالناس يشتركون فيها كما يشتركون في الكلأ ونحوه.
ولذا روى الأربعة إلا النسائي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أقطع أبيض ابن حمّال معدن الملح بمأرب فقيل له، إنما قطعت له الملح العدّ أي الملح الذي?هو كالماء الجاري على الأرض فانتزعه منه) .
أما المعادن الباطنة التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل فقولان في المسألة.
القول الأول??وهو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية?أنه ليس له ذلك أيضاً كالمعادن الظاهرة.(16/7)
القول الثاني?في مذهب الإمام أحمد: وهو قول في مذهب الإمام الشافعي?إلى جواز ذلك، ما لم يكن فيه ضرر، وهذا القول الراجح، ودليله ما ثبت في أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة?جليّها وغوريّها???الجلسيّ هي الأرض المرتفعة والغوريّ: هي الأرض المنخفضة، ولأنه يحتاج إلى حفرٍ وعمل فأشبه إحياء الأرض بالزرع هذا ما لم يكن في ذلك تفويت مصلحة عامة، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولكن الإمام قد يحتاج إلى مثل هذا لتأليف قلب أميرٍ من الأمراء، كأمير قبيلة أو نحو ذلك.
قال: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس] .
فللإمام أن يقطع في الطرق الواسعة وأيضاً في رُحب المساجد التي لا تحوط، وهي ما تسمى عندما بمواقف السيارات ونحوها، فله أن يقطع للجلوس فيها للبيع والشراء، ولمن أقطع أن يضع فيها شيئاً لمنع الحر والبرد ومنع الشمس ونحو ذلك، كالمظلات ونحوها، ما لم يضر بالناس بأن يضيق على الناس طرقهم فلا يجوز لحديث "لا ضرر ولا ضرار?، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
قال: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال]
???فيجوز لآحاد الناس من غير أن يقطعهم الإمام، يجوز لهم أن يجلسوا في الطرق الواسعة من غير إضرار بالناس للبيع والشراء هذا جائز من غير أن يقطعهم الإمام وذلك لأنه شيء مباح ومن سبق إلى مباح فهو أحق به، وقوله: " ما بقي قماشه وإن طال??أي قماشه الذي يعرض عليه بضاعته.
قال صاحب المغني وغيره: " مازال عمل الناس في الأمصار وفي كل?الأعصار على هذا من غير نكير?، ولكن إن منع من ذلك الإمام فلا يفعل ذلك حتى لا يفتات عليه ولا يتعدى على حقه.
قال: [وإن سبق اثنان اقترعا] .(16/8)
إن سبق اثنان إلى موضع للبيع والشراء في طريق واسع، فإنه يوضع بينهما قرعة، وذلك لأنهما قد ازدحما على شيء ولا مرجح لأحدهما على الآخر والقرعة يعمل بها حينئذ، فإذا ازدحم اثنان فأكثر على حقٍ ولم يكن لأحدهما مرجح فليس لأحدهما ميزة على الآخر فحينئذ تكون القرعة، كما قال تعالى: ((فساهم فكان من المدحضين)) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: (يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً) .
قال: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل?إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه]
إذا كانت هناك مزارع أو بساتين، وكان الماء الذي تسقى به هذه البساتين وهذه المزارع يرد إليها من نهرٍ أو عين أو سدٍ أو نحو ذلك، فحينئذ يسقي الأعلى فالأعلى، فأعلى واحد منهم يدخل الماء إلى مزرعته فإذا وصل الماء إلى كعبيه يرسله إلى جاره، فإذا وصل الماء إلى كعبيه أرسله الآخر إلى من يليه وهكذا، الأعلى فالأعلى.
ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (اسق يا زبير ثم?احبس الماء حتى يلغ الجدر??والجَدْر هو التراب الذي يرفع حول النخيل ونحوها لإمساك الماء، فإذا بلغ الجدر وهو تمام حاجة الزرع وتمام حاجة النخيل فيرسله إلى من يليه وهكذا، وفي أبي داود بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في سيل مهزور "وهو وادٍ في المدينة" أن يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى فالأعلى".
قال: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم](16/9)
فللإمام الأعظم دون غيره، حمى مرعى لدواب المسلمين أي أن يمنع الدواب الأخرى من هذا المرعى، فيحوط هذا المرعى ويجعله خاصاً بدواب المسلمين، كأن يجعلها لخيل القتال ولإبل الصدقة ولمواشي ضعفة الناس. وليس هذا لغير الإمام، بل هو خاص بالإمام الأعظم لدواب المسلمين، ويدل على هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????لا حمى إلا لله ولرسوله) فالحمى محرم إلا ما يحميه الإمام لدواب المسلمين خاصة.
وهذا كله ما لم يضر بالناس، فليس له أن يحمي حمى يضر بعامة الناس، فالمصلحة العامة راجحة.
" باب الجعالة "
الجعالة: بتثليث الجيم "الجُعالة والجِعالة والجَعالة" وعرفها المؤلف بقوله: [وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة] أن يجعل شيئاً معلوماً" فيشترط العلم بالعوض، كأن يقول: من ردّ عبدي الآبق فله مائة دينار، فهنا العوض معلوم، وهو شرط في صحة الجعالة هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وابن القيم: أنه إن كان العوض مجهولاً وكانت جهالته لا تمنع التسليم أي عند تمام العمل يمكن أن يسلم إليه العوض، فحينئذ يجوز ذلك.
مثال ذلك: أن يقول قائد الجيش: من دلني على حصن فله ثلث ما به" أو يقول رجل: من ردّ شياهي الضالة فله نصفها فهنا الثلث أو النصف مجهولان، لكن عند تمام العمل، عندما يدله على الحصن وعندما يحصل له الشياه، فإن ثلث ما في الحصن ونصف الشياه معلوم غير مجهول يمكن تسليمه، وهذا هو القول الراجح أن لا غرر، وأما إذا كان الجهل يمنع التسليم فلا يجوز لأن فيه غرراً كأن يقول: من ردّ إلي عبدي الآبق فله شيء، فهذا الشيء مجهول أو في ذلك غرر وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن الغرر "لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً".(16/10)
فالعمل لا يشترط فيه العلم، فسواء كان العمل الذي وقع عليه عقد الجِعالة، سواء كان معلوماً أو?مجهولاً فلا يؤثر هذا فلو قال: من ردّ عبدي الآبق فله مائة درهم" فعبده الآبق لا يدري أين موضعه فقد يكون قريباً، وقد يكون بعيداً، فهذا جائز، وذلك لأن الحاجة داعية إليه، ولأن عقد الجعالة عقد جائز فيجوز له أن يفسخ إن رأى العمل فيه مشقة ونحو ذلك فلا ضرر في هذا "مدة معلومة أو مجهولة"، فالمدة لا يشترط أن تكون معلومة بل يجوز أن تكون مجهولة، فإذا قال: "من حرس لي مالي فله علي كل يوم درهم" فهنا المدة مجهولة فلا يدري يوم أو يومين أو سنة، وهذا لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، والأصل في العقود الحل.
قال: [كرد عبدٍ ولقطةٍ?وخياطةٍ وبناء حائط]
هذه أمثله للجعالة، والجعالة نوع من الإجارة، ولذا فإن الأنسب أن يكون هذا الباب بعد باب الإجارة، كما جعله صاحب الفروع وغيره، فإن الجعالة نوع من الإجارة وإن كان بينهما فروق وهذه الفروق اقتضت أن يكون لها باب منفرد، فمن الفروق، أن الإجارة لا تصح مع الجهالة بالعمل، والجعالة تصح، ويشترط في الإجارة أن يكون المعقود معه معيناً، وأما في الجعالة فلا يشترط، والإجارة عقد لازم، والجعالة عقد جائز.
قال: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقسمونه]
????من فعل هذا العمل الذي وقع عليه عقد الجعالة، فعله بعد علمه بقوله أي قول الجَاعل، "من بنى حائطي فله كذا"، أو قال: من ردّ عبدي الآبق فله كذا، فسمع هذه المقالة فعمل على رده، ثم ردّه فله ذلك الجُعل، وذلك لأنه عمل في مال الغير مأذون له فيه على عوض فاستحق العوض المسمّى، وإن كانوا جماعة فإنهم يقتسمون العوض لأنهم اشتركوا في العمل فاقتضى هذا اشتراكهم في العوض.
قال: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه](16/11)
إذا قال: من بنى لي حائطاً فله مائة دينار" وكان ذلك الرجل قد اشتغل ببناء الحائط قبل أن يسمع هذه المقالة فقد بنى نصفة، فهنا لا يستحق الجُعل تاماً وإنما يستحق قسط تمامه،?فيستحق في هذا المثال خمسين ديناراً، وذلك لأن العمل الذي قام به قبل أن يعلم بهذه المقالة عملُ غير مأذون له فيه فلم يستحق عليه عوضاً، وإذا علم بقول الجَاعل بعد أن أتم العمل فلا شيء له، وذلك لأن عمله غير مأذون فيه فإذا أُعلم الجاعل بالحال وبالأمر على حقيقته فتبرع له بالعوض فهذا جائز له.
قال: [ولكل فسخها]
??لأنها عقد جائز فلكل واحدٍ منهما فسخها قال غير واحدٍ من الحنابلة???لا خلاف أعلمه" ويتوجه القول بلزومها، كما تقدم الاستدلال عليه فيما تقدم نقله عن الشيخ عبد الرحمن السعدي?في مسألة سابقة من باب الوفاء بالوعد، ولأن هذا من باب العوض وليس من باب التبرع أو الوكالة أو نحو ذلك والله أعلم.
قال: [فمن العامل لا يستحق شيئاً]
??المشهور في المذهب كما تقدم، أنها عقد جائز، فإن كان الفسخ من العامل فإنه لا يستحق شيئاً، فإذا قال لرجل: إن رددت إلي عبدي الآبق فلك مائة دينار وتعاقدا على ذلك، ففسخ العامل العقد فإنه لا يستحق شيئاً لأنه لم يأت بما شرط عليه.
قال: [ومن الجَاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله]
????فإذا كان الفسخ من الجَاعل، فإن كان ذلك قبل شروع العامل بالعمل فلا شيء له لأنه لا يستحق عدمها من عدم العمل، وفي هذه المسألة والمسألة التي قبلها وهي فيما إذا كان الفسخ من العامل يقوى القول بأنها عقد جائز.(16/12)
أما إذا كان فسخ الجَاعل بعد شروع العامل بالعمل فله أجرة عمله وتقدر بما يستحق مثله عرفاً، وهذا يختلف باختلاف بلده وباختلاف نوع العمل ومشقته، وقال برهان الدين ابن مفلح صاحب المبدع???لو قيل تقسط الأجرة لم يبَعْد" وفيه قوة حيث أمكن ذلك، فإذا علمنا أن هذا العمل يحتاج إلى ثلاثة أشهر وقد عمل له فيه شهراً، وقد قدّر له عوضاً قدره ثلاثون ألفاً فحينئذ يعطى عشرة آلاف، فإذا أمكن هذا كما يكون في بعض الأعمال التي لها مدة محددة أو نحو ذلك، كأن يقول، من بني لي حائطاً فله عشرة آلاف فيبني له نصفه، ثم يقسم الجاعل، فإنه حينئذ يعطي العامل قسطه من الجُعل وهو خمسة آلاف، هذا أظهر وذلك لأن العامل قد دخل على أن له جُعلاً لا على أن له أجرة، فقد تكون أجرة مثله في الشهر ألفين بينما يكون قسط الجُعل عشرة آلاف، هذا القول هو الأظهر حيث أمكن هذا.
قال: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجَاعل]
???إذا اختلفا في أصل الجعالة فالعامل يقول: أنت قلت من رد إلي عبدي الآبق فله عشرة آلاف وصاحب العبد الآبق يقول: أنا لم أقل ذلك ولا بينة، فالقول قول من زعم عليه الجعالة وذلك لأن الأصل براءة ذمته ولأنه منكر، وكذلك إذا اختلفا في قدره، فالجاعل يقول: أنا قلت من ردّعبدي الآبق فله عشرة آلاف درهم، والعامل يقول: بل قلت عشرة آلاف دينار أو أحد عشر ألف درهم، فالقول قول الجَاعل وذلك لأنه منكر والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد.
قال: [ومن ردّ لقطةً أو ضالة أو عمل لغيره عملاً بغير جعل لم يستحق عوضاً]
???من وجد ضالةً لأحدٍ فردّها إليه أو وجد لقطةً فردها على صاحبها، فإنه لا يستحق على عمله هذه عوضاً وذلك لأنه قد بذل منفعته بلا عقد معاوضة فلم يستحق شيئاً وهذا باتفاق العلماء، ويستثنى من ذلك مسألة:(16/13)
وهي ما إذا كان قد أنقذ مال غيره من هلكة أو تلف كأن ينقذ شيئاً من ماله من غرق أو حريق فله أجرة على ذلك ترغيباً لهذا العمل نصّ على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم?لما في ذلك من الترغيب في العمل، فإن هذا المال أصبح في حكم التالف أو الهالك وهذا هو الذي أنقذه منه فترغيباً له بهذا العمل استحق العوض.
قال: [إلا ديناراً أو أثنى عشر درهماً عند ردّ الآبق]
????إذا ردّ آبقاً فله دينار أو اثنا عشر درهماً، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث عمر بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جعل في ردّ الآبق من خارج الحرم ديناراً" والحديث مرسل، من المرسل الضعيف، وفي البيهقي عن علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف، واختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد?وهو مذهب الشافعية?أنه لا يستحق شيئاً، وهو الأرجح لضعف الدليل، وللعلة المتقدمة فإنه بذل منفعة من غير عقد معاوضةٍ فلم?يستحق شيئاً.
مسألة???لا خلاف بين أهل العلم في أنه يجوز له أخذ الآبق، بخلاف ما سيأتي الكلام عليه من بعض الضوال كما يكون في ضالة الإبل ونحوها، وذلك لما يخشى من ترك الآبق من لحوقه بدار الحرب وقتاله ضد المسلمين، ولما يخشى من إفساده في الأرض فاختلف عن الضوال، وله بيعه?إن رأى المصلحة في ذلك، كأن يجده في بلد أخرى فيخشى ضياعه أو نحو ذلك فله أن يبيعه ويحبس ثمنه لصاحبه إن رأى المصلحة في ذلك.
قال: [ويرجع بنفقته أيضاً]
????إذا أنفق على هذا العبد الآبق، كأن ينفق عليه في الطريق حتى يأتي به إلى صاحبه فإنه يرجع بالنفقة وإن لم يأذن له صاحب العبد بذلك لأن النفس لها حرمة وواجب على السيد أن ينفق عليه وهو وإن لم يأذن لكن لحرمة النفس فإنه يرجع عليه بنفقته، لكن هذا الرجوع حيث لم ينو بنفقته التبرع أما إذا أنفق له بنية التبرع فليس له الرجوع.
??باب اللقطة "(16/14)
اللُقطة: بضم اللام وفتح القاف وتسكينها "اللقَطة، اللقْطة" وعرفه المؤلف بقوله: ??وهي مال أو مختص ضلّ عن ربه???
فهي مال: كدراهم أو دنانير أو شاة أو نحو ذلك.
أو مختص: ككلب صيدٍ ونحوه مما لا مالية له، لكن لأحد فيه اختصاص.
قال: [وتتبعه همة?أوساط الناس] .
???أي تتعلق به رغبة أوساط الناس، فلأوساط الناس فيه مقصد وله عندهم قيمة، فلا عبرة بأشراف الناس الذين قد لا يكون للشيء الكبير عندهم قيمة بل العبرة بأوساط الناس، فمثلاً: عندنا الريال والريالان?والعشرة هذا لا قيمة له عند أوساط الناس، بخلاف الخمسمائة والثلاثمائة فإن هذا تتبعه همة أوساط الناس، وهكذا في المتاع، فإذا كان المتاع من ذهب فإن همة أوساط الناس تتبعه كالأساور ونحوها.
ولذا قال المؤلف: [فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف]
فالشيء الذي لا قيمة له عند أوساط الناس كالرغيف والتمر والسوط والعصا والحبل ونحو ذلك فهذا يملك بلا تعريف، ودليل هذا ما روى أبو داود في سننه من حديث المغيرة بن زياد عن أبي الزبير المكي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???رخص في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به) ، ورواه المغيرة بن مسلم وحديثه أصح عن أبي الزبير المكي عن جابر بلفظ: "كانوا لا يرون بأساً" أي الصحابة وهذا أصح، وأعله بعض العلماء بعنعنة أبي الزبير المكي، لكن له شاهد متفق عليه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???مرّ بتمرة في طريق فقال??لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ،?فبّين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن المانع له من أكل هذه التمرة هو خشية أن تكون من الصدقة، فتبيّن من هذا أنه لم يمنعه كونها لقطة وإنما الذي منعه خشية أن تكون من الصدقة.
قال: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما حرم أخذه](16/15)
ما يمتنع من صغار السبع كالإبل فإنه لا يجوز التقاطه ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن اللقطة فقال: ??اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها?سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك??فقال: يا رسول الله فضال الغنم فقال: ?هي لك أو?لأخيك أو للذئب??فقال: يا رسول الله فضالة الإبل، قال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر) .
وهل يقاس على الإبل البقر ونحوه؟
المشهور في المذهب?القياس، وأنه يقاس عليه الثور ونحوه كما ذكر المؤلف هنا.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام مالك?أن البقر لا تقاس فإنها تلتقط كالشاة، والمشهور في مذهب الإمام مالك?قياسها على الإبل، استدل أهل القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره، بما روى أبو داود في سننه، أن جرير بن عبد الله البجلي " أمر ببقرة فطردت حتى توارت" أي أمر ببقرة ضالة فطردت عن بقره حتى توارت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -????لا يأوي ضالة إلا ضال) ،?لكن الحديث في إسناده اختلاف وجهالة، فعلى ذلك الحديث ضعيف، والذي يتبّين هو رجحان ما ذهب إليه المالكية?في قول لما فيه من الفارق بين الإبل والبقر من حفظ الماء، وتحمل السير في القفار ونحوها، فليست في حفظ نفسها كالإبل، بل هي أشبه بالشياة وإن كان هناك فارق بينهما.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد?أن الخيل والبغال والحمير كالإبل، ونظرّ الموفق?في مسألة الحمر ورأى أن الأولى عدم إلحاقها وهو القول الراجح?وذلك لعدم صبرها عن الماء بخلاف الإبل، والذي يتبيّن لي ما تقدم وهو اختصاص هذا بالإبل وإن أشبهها شيء في كونه معه سقاؤه الذي يحفظ فيه الماء وحذاؤه الذي يتحمل به المشاق في القفار ونحوها وعنده قدرة على منع نفسه من صغار السبع فإنه إن ثبتت فيه هذه المعاني فحكمه حكم الإبل إذ الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.(16/16)
حرم أخذه": فأخذه لا يحل لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني وعليه، فإن أخذه وتلف عن يده فعليه ضمان، وذلك لأن يده يد متعدية لأنها أخذت ما ليس لها أن تأخذه.
وهل تبرأ ذمته برده إلى موضعه؟
الجواب: لا تبرأ ذمته بذلك، لأن الضمان ثبت عليه بأخذه فلا يبرأ منه إلا برده إلى مالكه أو من يقوم مقامه لكن إن ردّه إلى الحاكم ونائبه فإن ذمته تبرأ لما للحاكم من النظر في أموال المسلمين، وللحاكم ونائبه أن يأخذوا الضوال?ويصفوها في موضع يختص بها، ولا يجب عليهم تصريفها، بل من ضاع له شيء فإنه يأتي إلى هذا الموضع الذي تكون فيه الضوال فإن وجد ضالته أخذها.
قال: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك] .
فله التقاط غير ذلك من الحيوانات كالشياة وصغار الإبل وهي الفصلان وصغار البقر وهي العجاجيل، وصغار الخيل ونحوها، وكذلك سائر الأمتعة، فله أن يلتقطها، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -?في ضالة الغنم ولأنه سئل عن اللقطة وهو عام في الأشياء كلها إلا ما ورد استثناؤه وما شابهه، فله أن يلتقطها بشرط أن يأمن نفسه عليها، فإذا علم من نفسه الأمانة والقدرة على التعرف فله ذلك فهو مباح له، والأفضل الترك، في المشهور في المذهب، قالوا: لأنه يخشى ألا يقوم بواجب التعريف وقد تطمع فيها نفسه فيخون أمانته.
وقال بعض الحنابلة وهو قول أبي الخطاب وصوّبه صاحب الإنصاف وهو مذهب الشافعية، أنه يستحب له ذلك إن كانت في مضيعةٍ، أي في مكان غير مطروق بحيث أنه إن لم يأخذها أخذها غيره، وقد يكون هذا الغير ليس بأمين، والذي يتبّين?والله أعلم??أنه إن علم من نفسه أنه يقدر على] ?التعريف وحفظ الأمانة فإنه يستحب له أن يلتقطها لما في ذلك من الإحسان إلى الناس، وأشبه هذا الوديعة، فإن الوديعة قد تطمع النفس بأخذها وخيانة صاحبها ومع ذلك فإنها تسحب اتفاقاً كما نقل.
قال: [وإلا فهو كغاصب] .(16/17)
إذا علم من نفسه الخيانة أو عدم القيام بحفظها فهو كغاصب فيده يد متعدية وعليه فعليه الضمان، فإذا أخذها من لا يعلم في نفسه الأمانة أو يعلم في نفسه الخيانة أو يخشى ألا يقوم بواجب التعريف أو يعلم من نفسه عدم ذلك فلا يحل له أن يأخذها لما في أخذها من تعريضها للضياع، وتفويتها على ملتقط آخر يقوم بحفظها وعليه: فإذا التقطها فيده يد متعدية، واليد المتعدية يد ضامنة.
قال: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولاً??
يعرف ما تقدم ذكره مما يجوز التقاطه، يعرفه في مجامع الناس عند أبواب المساجد وفي الأسواق ونحو ذلك من المواضع التي هي مكانُ لوجود صاحب هذه اللقطة أو من يتصل به في هذه المواضع، وقد روى مالك في موطئة بإسناد لا بأس به: " أن عبد الله بن زيد الجهني وجد صُرةً في?طريقه إلى الشام فيها ثمانون ديناراً فسأل عن ذلك عمر فقال له، عرفها سنة عند أبواب المساجد وعند كل من أتى من الشام سنة فإذا مضت السنة فشأنك بها"، فيعرفها في المواضع التي يشيع أمرها فيكون ذلك وسيلة إلى وصول صاحبها إليها، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فقد يكون في بعض الأزمان طرق ووسائل لنشر اللقطة والتعريف بها، والمقصود أنه يسلك الطرق المناسبة لمثلها في التعريف وهذا واجبُ عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة??والأمر للوجوب ولما كان واجباً عليه منفقة التعريف ومؤونته واجبة عليه، كأن يكون قد بعث منادياً ينادي بذلك، وهذا المنادي له أجرة فأجرة المنادي على الملتقط لا على صاحب اللقطة، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها?، فأمره بالتعريف وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة?ويدل عليه ما تقدم فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بتعريفها وهذا قد يحتاج إلى أجرة ووسيلة الواجب واجبة.(16/18)
غير المساجد] ?لأن المساجد لم تبنِ لذلك وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?من سمع رجلاً ينشر ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبنِ لهذا) .
???حولاً] ?فيعرفها حولاً كاملاً على الوجه المعتاد الذي يكون وسيلة إلى إيصالها إلى صاحبها، فليس شرطاً أن تكون الأيام متتابعة أي في كل يوم أما الأيام الأول فيجب أن يكون التعريف فيها أكثر، ولذا قال الحنابلة: يعرفها في الأسبوع الأول في كل يوم لأن الأيام الأول التي فقدها صاحبها فيها يكثر بحث صاحبها عنها، فحينئذ وجب الإكثار من المناداة بها في تلك الأيام، ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد عرفاً، فيكون في كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك.
إذن: ليس واجباً عليه أن يعرفها في كل أيام السنة فيستوعب أيام السنة، لما في ذلك من المشقة الظاهرة.
نعم في أول الأيام يجتهد في ذلك ويقوى القول بوجوب ذلك في كل يوم حيث كان في ذلك وسيلة إلى إيصال الحق إلى مستحقه ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد في عرف الناس.
قال المؤلف رحمه الله: [ويملكه بعده حكماً] .
???فيملك الملتقط ما التقطه بعده أي بعد تعريفه حولاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ، وظاهر قول المؤلف أنه إن لم يعرفها فإنه لا يملكها لأنه قال: "ويملكه بعده" أي بعد التعريف.
وهذا هو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه قال: ?ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فشرط التعريف.
فدل على أنه إن لم يعرفها فلا ملك له عليها، ومثل ذلك إن لم يعرفها تعريفاً صحيحاً أي بأن يقصر في التعريف فلا يقوم بالمطلوب من بثّ الدعاية عليها ونشر أمرها فكذلك فإنه لا يملكها لأنه لم يقم بالشرط على الوجه المطلوب، وشرط التمليك هذا التعريف وهنا لم يعرفها التعريف المطلوب، فإن كان له عذر في ترك التعريف كمرضٍ أو جهلٍ أو نحو ذلك فهل يملكها بعد الحول؟(16/19)
قولان لأهل?العلم هما وجهان في المذهب، أظهرهما أنه?لا يملكها لعدم توفر الشرط، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?شرط في ملكيتها تعريفها، وهو لم يعرفها، وأما كونه مريضاً أو جاهلاً أو نحو ذلك من الأعذار فإن هذا يرفع عنه الإثم في ترك واجب التعريف، فإذا التقط لقطةً فلم يعرفها أو عرفها تعريفاً قد قصّر فيه فما الحكم فيها؟
روايتان عن الإمام أحمد?
الرواية الأولى??أنه يتصدق بها بشرط الضمان أي متى ما جاء صاحبها يقول له: إني قد تصرفت بها عنك فإن شئت أمضيت صدقتي وإلا فخذ مثلها إن كانت من المثليات أو قيمتها إن كانت من المقومات.
الرواية الثانية??أنه يعرفها أبداً وهذا هو الأظهر، كلقطة الحاج، وذلك لأنه قد أخذها ولم يقم بالواجب وهذا لا يحل له فأشبه هذا مالوا التقط لقطة لا يحل له التقاطها فإنه يعرفها أبداً كلقطة الحاج وسيأتي الكلام عليها.
وبقوله ?حكماً] ?أي قهراً بلا اختيار، فيملك هذه اللقطة قهراً بلا اختيار منه ولا رضى، فتكون ملكاً له كالميراث هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره وهو مذهب الجمهور، ودليل ذلك ما ثبت في ابن ماجه من حديث كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فهي كسبيل مالك??
والقول الثاني??وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة??أنها لا تدخل في ملكه إلا رضا منه واختيار كالشراء، والقول الأول أظهر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???فهي كسبيل مالك) .
فإذن إذا قضى الحول ولم يأتِ صاحبها، وكان قد عرفها فإنها تكون كسبيل ماله، فحينئذ إن جاء صاحبها يوماً من الدهر فهي له وإلا فيتصرف بها كما يتصرف في ماله كله.
وهل عليه الضمان أم لا؟
فإذا حصل تلف فيها بتعدٍ وتفريط أو بلا تعدٍ ولا تفريط فهل عليه الضمان؟(16/20)
أما في الحول، الذي هو زمن التعريف، فإن تلفت بلا تعدٍ ولا تفريطٍ لم يضمن اتفاقاً، لأن يده يد أمانة ويد الأمانة لا ضمان عليها، أما إن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فهو ضامن كما تقدم تقريره لأن هذا قد حصل بتعديه بفعله، أو بترك الواجب من حفظ الأمانة.
وأما بعد الحول، حيث يتصرف بها كتصرف بماله، فإن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فالظاهر أن عليه الضمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأعطها إياه) .
وأما إن لم يكن منه تعدٍ ولا تفريطٍ، فقولان لأهل العلم.
القول الأول??وهو المشهور في المذهب??أن عليه الضمان لأنها أصبحت ملكاً له يتصرف بها كما يتصرف بماله، ولذا في المشهور من المذهب أن له خراجها، أي من ولدٍ أو نحوه من النماء المنفصل فهو للملتقط.
والقول الثاني?في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، ألا ضمان عليه، وعليه فالخراج أيضاً ليس له، وهذا القول أظهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في حديث زيد بن خالد في الصحيحين قال: ?فإن لم يأت صاحبها فاستنفقها ولتكن?وديعةً عندك) ?يدل على أنها في حكم الوديعة، والوديعة لا ضمان فيها وعليه، فالخراج ليس له، لأن الخراج بالضمان.
قال: [لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها]
?????فلا يأكلها ولا يبيعها قبل أن يعرف صفاتها، فيعرف عفاصها" وهي الخرقة التي تشد فيها، ويعرف وكاءها وهو الخيط الذي تشد فيه" ويعرف عددها وجنسها ونحو ذلك بما تتميز به عن بقية الأعيان وعن شبيهاتها أيضاً، إذن لا يدخلها في ماله حتى يضبط صفاتها، ولذا?قال - صلى الله عليه وسلم -???فإن لم تُعترف?فاعرف صفاتها ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه) .?ويستحب له أن يشهد على ذلك، لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من وجد لقطةً فليشهد ذوي عدلٍ وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) .(16/21)
الشاهد قوله: "فليشهد ذوي عدل" وهو عند جمهور العلماء للاستحباب?
قال: [فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه]
???إن جاء طالبها فقال: أنا أنشد لقطة، وسمعت أن عندك لقطة من الماشية، وماشيتي صفتها كذا ووسمها كذا ووصفها بما تتميز فيه فحينئذ يدفعها إليه بلا بينة ولا يمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإعطاء هذا الطالب اللقطة متى ما عرف عفاصها ووكاءها ونحو ذلك من صفاتها، ولم يشترط النبي - صلى الله عليه وسلم -?البينة ولم يأمر باليمين فدل على أنه متى ما جاء من يصفها وإن لم يكن عدلاً فإنها تدفع إليه.
قال: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما]
???السفيه هو غير الرشيد، فإذا التقط صبي أو سفيه لقطة فإن وليهما يعرف لقطتهما، لقيامه مقامهما وعليه فيعرف لقطتهما.
مسألة:
اللقطة لا تخلو من ثلاثة أنوع:
?النوع الأول: أن تكون من الحيوان، كأن يلتقط ماشية ونحوها، فالملتقط يخير بين ثلاثة أمور ويختار الأصلح منها للمالك.
الأول??أن يأكلها، فإن جاء مالكها أعطاه القيمة أو المثل إن كانت من المثليات.
الثاني??أن يبيعها ويحفظ قيمتها لمالكها، فمتى جاء المالك دفعها إليه.
الثالث??أن يحفظها عنده وينفق عليها ويرجع بالنفقة إلى ربها.
وإن نوى التبرع فلا رجوع يختار أحدها على حسب ما تقتضيه مصلحة المالك.
النوع الثاني??أن تكون طعاماً يخشى فساده، فحينئذ الملتقط بين ثلاثة أمور.
أ) الأكل ب) البيع ج) تجفيفها إن أمكن ذلك أو حفظها كما يوجد في الثلاجات ونحوه، ويرجع بالنفقة على مالكها.
النوع الثالث??ألا يكون حيواناً ولا طعاماً، فإنه يحفظه وجوباً كالأمانة.
مسألة:
???ظاهر كلام الحنابلة?أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها، وأن لقطة مكة أسوة غيرها واستدلوا بعمومات الأدلة،(16/22)
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام?أن لقطة مكة لا تحل فلا تملك وإنما ينشدها أبداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -????ولا تحل ساقطتها إلا?لمنشدٍ) ?أي إلا لمنشد أبداً، ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???نهى عن لقطةٍ?الحاج) ?وهذان الحديثان أخص مما استدل به الجمهور، وهو القول الراجح?في هذه المسألة.
قال: [ومن ترك حيواناً في فلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه ملكه أخذه]
??فمن ترك حيواناً في فلاةٍ لأن ربه عجز عنه، أو لأن ربه قد انقطع في هذه البرية، فأخذه رجل فأحياه فهو ملك له، وهذا خاص في الحيوان، وأما المتاع فلا لأن حرمته ليست كحرمة الحيوان، والعبد أيضاً ليس حكمه كذلك لأنه ينيج نفسه من الهلكة في الغالب، ودليل هذه المسألة، ما روى أبو داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من وجد دابةً قد عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي ملكة)
قال: [ومن أُخذ نعله أو نحوه ووجد موضعه غيره فلقطة]
????رجل بعد أن خرج من وادٍ أو من مسجدٍ لم يجد نعله، وانتظر حتى أخذ الناس نعالهم فبقيت نعل، فهل يحل له أن يمتلكها على أنها تقوم مقام نعله أم لا؟
قال المؤلف: فلقطة" فيعرفها سنة، فإن شاء أخذها فإنها تكون لقطة، وذلك لأنه لم يعاوض عليها فلم يملكها.
وقال بعض الحنابلة وصّوبه صاحب الإنصاف، أنه يملكها مع قرينة سرقة، فإذا كانت هناك قرائن تدل على تقصد صاحب النعل ترك نعله موضع هذه النعال وأخذ هذه النعال فإن له ذلك، وفي هذا قوة وإلا فإنه لا يحل له أخذها وإن أخذها فإنها تكون لقطة.
??باب اللقيط "
اللقيط على زنة فعيل بمعنى مفعول أي الملقوط.
قال: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل](16/23)
فهو طفل والطفل هو من لم يميز، والمشهور في المذهب وهو قول أكثر الحنابلة?أن غير البالغ كذلك أي إذا نبذ أوضاع ولا يعرف نسبه ولا رقه فهو لقيط ويكون ذلك الطفل من باب ذكر الغالب، فإن الغالب فيمن ينبذ?ويضل أنه الطفل الذي لا تمييز له.
قال: [وأخذه فرض كفاية]
???وذلك لأنه من باب إنقاذ من تخشى هلكته كإنقاذ الغريق وإطعام الجائع ونحوهم، فإذا لم يقم به البعض أثم الجميع، فهو من باب فروض الكفاية.
قال: [وهو حر]
???واللقيط يحكم له بالحرية، وذلك لأن الأصل الحرية والرق عارض ولما روى مالك في موطئه بإسناد صحيح أن عمر قال لملتقطٍ وقد سأل عريفه عنه وقال له: إنه رجل صالح، فقال: "اذهب فهو حر وأنت وليه وعلينا نفقته"
فإن أدعى إنسان أنه مملوك له لم يقبل قوله إلا ببينة حتى الملتقط، وإن كان المدعي سوى الملتقط في يده فإن القول قوله مع يمينه فإذا أدعى رجل أن هذا الطفل الذي في يده أنه مملوك له فإن قوله يقبل مع يمينه بلا بينة: "ذلك لأنه في يده فما دام في يده فالقول قوله، وأما الملتقط فلا يكفي أنه في يده وذلك لمعرفتنا سبب كونه في يده وهو الالتقاط، بخلاف الآخر فإن الظاهر أنه ملك له فما دام في يده فهو ملك له فيقبل قوله مع يمينه بلا بينة.
قال: [وما وجد معه] .
???فما وجد مع هذا الطفل ذكراً كان أو أنثى، كأن يوجد معه صرة فيها دراهم أو دنانير أو نحو ذلك.
قال: [أو تحته ظاهراً] .
??كفراشة، أو ما يوضع تحت الفراش، كأن يوجد تحت فراشه صرة فيها دراهم أو دنانير أو قطعة من ذهب أو نحو ذلك.
قال: [أو مدفوناً طرياً] .
????أي يوجد تحت فراشه شيء من الدراهم والدنانير مدفونة، ودفنها دفن طري، فهي للقيط.
قال: [أو متصلاً به كحيوان وغيره] .
???متصلاً به: كحيوان يربط بسريره أو نحو ذلك كماشيه ونحوها "وغيره" كأن يوجد في بستان وليس هناك أحودُ يدعي هذا البستان فهو له، أو يوجد، مثلاً في خيمة في بر ونحو ذلك فهي له.(16/24)
قال: [أو قريبًا منه فله] .
???فهو للقيط وذلك موافقةً للظاهر، ولأن يده يد صحيحة ولذا يرث ويورث فيده يد صحيحة أي يملك.
قال: [وينفق عليه منه] .
???أي ينفق، عليه الولي منه، والولي من تقدم وهو الملتقط، فهذا الملتقط ينفق على هذا اللقيط من هذا المال الذي وجده معه، فينفقها عليه بطعام وشراب وكسوة ونحو ذلك مما يحتاج إليه بالمعروف.
فإن اختلف الملتقط أي بعد بلوغه، في النفقة، كأن يقول هذا أنفقت ألفاً ويقول?الآخر، أنفقت خمسمائة، أو اختلفا هل أسرف الملتقط في الإنفاق أم لم يسرف فالقول قول الملتقط لأنه أمين والقول قول الأمين.
قال: [وإلا فمن بيت المال] .
???إن لم يكن معه مال ينفق عليه منه، فينفق عليه من بيت المال، لما تقدم من قول عمر: "وعلينا نفقته".
فإن لم ينفق عليه من بيت المال لكونه ليس بمنتظم بمصالح المسلمين أو ليس هناك بيت مال، فيجب عليه أن ينفق عليه من علم حاله من المسلمين، وهذا فمرض كفاية سواء كان المتلقط أو غيره.
فإن أنفق عليه منفق بنية الرجوع إلى اللقيط إذا بلغ وأيسر أو الرجوع إلى بيت المال فله ذلك.
قال: [وهو مسلم] .
??فاللقيط يحكم بإسلامه، وذلك إن كان التقاطه في دار إسلام تبعاً للدار ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأما إذا كان في دار كفار أي وجد في دار كفار فإنه يحكم عليه بالكفر سواء كان فيها مسلمون أو لم يكن فيها مسلمون، تبعاً للدار هذا هو المشهور في المذهب?
وقال الشافعية وهو وجه في المذهب، إن كان في البلد مسلمون فإنه يحكم له بالإسلام تغليباً للإسلام، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفيه قوة حيث أمكن هذا أما إذا لم يمكن هذا أو ثبتت قرائن تدل على كفره فلا، كأن يوجد في قرية من قرى الكفار وكان عليه بعض لباسهم وزيهم ونحو ذلك فلا يمكن أن ينسب مع ذلك إلى المسلمين.
قال: [وحضانته لواجده الأمين] .(16/25)
الحضانة تكون لواجده الأمين فيشترط أن يكون الحاضن له أميناً.. وهو واجده وعليه فإن كان فاسقاً فلا حضانة له عليه، ودليله ما تقدم من أثر عمر لما سأل عريفه عن الرجل فقال هو رجل صالح، فإن قيل، أليست اللقطة تصح من الفاسق فكذلك يصح أن يكون الملتقط للقيط فاسقاً؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً من وجهين.
الوجه الأول: أن الملتقط للقيط له عليه ولاية وأما الملتقط للقطة فهو كاسب.
الوجه الثاني: أن اللقطة لا تطول مدتها فإنه يوقت له سنة?
???بخلاف اللقيط فإن أمده طويل يحتاج إلى سنوات طويلة لحفظه وصيانته فاشترط أن يكون عدلاً، وعليه فإذا كان الملتقط فاسقاً فإن الإمام ينزع اللقيط من يد هذا الواجد ويضعه في يد أمين.
فإن وجد اثنان حكم للأنفع له منهما، فإذا وجده اثنان أحدهما أنفع للقيط في دينه ودنياه فإنه يحكم له به مراعاة للأحظ لهذا اللقيط.
فإن اختلف فيه اثنان كل يدعي أنه التقطه، فيحكم لمن كان في يده، فإن لم يكن في يد أحدهما فحينئذ يحكم بالقرعة هذا إذا لم يكن هناك بينةً، أما إذا كانت هناك بينة فإن البينة تظهر الحق وتقضي به.
والذي يتبيّن أنه إن?كان أحدهما أنفع للقيط من الآخر فإنه يحكم له حيث لم تكن يد أحدهما عليه ولا بينة.
قال: [وينفق عليه بغير إذن الحاكم] .
???لأنه ولي فلم يحتج إلى أذن الحاكم.
قال: [وميراثه وديته لبيت المال] .
??إذا مات اللقيط وله مال، أو قتل فماله الذي ورثه وديته تكون لبيت المال لأنه لا وارث له، لا بنكاح ولا بسبب ولا بولاء، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور?(16/26)
واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول إسحاق?أن المتلقط يرثه وذلك لأن إنعام الملتقط على لقيطه ليس دون إنعام المعتق على معتقه، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وهذا القول هو الأرجح في هذه المسألة. وفي السنن بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??المرأة تحوز ثلاث مواريث?لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه) ،?والحديث اسناده ضعيف لكن المعنى يدل عليه.
قال: [ووليه في العمد الإمام يتخير بين القصاص والدّية] .
???إذا قتل اللقيط عمداً فإن وليه الإمام يتخير بين القصاص إما القصاص وإما الدية فيختار الأصلح هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور، وقد يقال إن وليه في ذلك ملتقطه لقول عمر: "أنت وليه" وقد تخرج هذه المسألة على المسائل السابقة.
فإن قطع للقيط طرف فإنه ينتظر بالجاني حتى يبلغ اللقيط ويرشد ثم يقال له: إن شئت أن تأخذ بالقصاص وإن شئت أن تأخذ بالدية.
فعن الإمام أحمد??أن للإمام استيفاء القصاص قبل البلوغ واختاره صاحب الفائق وهو أرجح?
وعليه أيضاً: له أن يختار الدية فيختار الأصلح من قود أو دية.
قال: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده ألحق به ولو بعد موت اللقيط] .
هنا مسألتان.
المسألة الأولى:?إذا أقرّ رجل، سواء كان هذا الرجل مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً، أقر أن هذا اللقيط ولده فيقبل قوله ولا يطالب ببينة لما في ذلك من مصلحة اللقيط في اتصال نسبه ولا نتزحزح عن الحكم المتقدم وهو الحكم بحريته وإسلامه فكون المدعي كافراً لا يجعلنا ننتقل إلى الحكم بكفر هذا اللقيط، ولا الحكم برقه بعد حريته، فإذا أدعى كافر أن هذا اللقيط ابنُ له وقد حكمنا له بالإسلام، فإن الإسلام يبقى له ويثبت نسبه لهذا الكافر، وكذلك تثبت حريته ويثبت نسبه لهذا الرقيق.
المسألة الثانية??أن تدعيه امرأة فتقول: هو ابني فحينئذ يلحق بها ولا يلحق بالزوج، هذا هو المشهور في المذهب.(16/27)
وقال الجمهور وهو قول في المذهب:?بل لا يلحق بها لأنه لا منفعة له بذلك إذ لا يثبت له بذلك نسب، وأيضاً يتضرر بذلك زوجها ويتضرر بذلك أهلها للّحوق العار بهم، وهذا هو القول الراجح، والعكس كذلك فإذا ادعاه الزوج فلا ينسب لزوجته إذ قد يكون لنكاح شبهةٍ أو من زوجة أخرى، أو نحو ذلك، فما دام أنها لم تقر به فلا ينسب إليها أما إذا أقرّت به فإنه ينسب إليها.
قال: [ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينةٍ تشهد?أنه ولد على فراشه] .
???إذا ادعى كافر أن هذا اللقيط ابنه، وجاء ببينةٍ تدل على أنه ولد على فراشه فحينئذ يلحق بهذا الكافر، نسباً وديناً لأن البينة قامت على أنه ابن له وحينئذ يلحق به في دينه.
وأما إذا كانت مجرد دعوى لا بينة فيها فنثبت له النسب لا الدين.
قال????وإن اعترف بالرق مع سبقٍ منافٍ أو قال إنه كافر لم يقبل منه]
???إذا قال هذا اللقيط بعد أن بلغ، أنا رقيق مع سبقٍ منافٍ أي مع سبق شيء منافٍ لذلك، كأن يكون قد باع واشترى أو نكح أو نحو ذلك، فهذه أفعال لا يفعلها إلا الأحرار.
وكذلك إذا كان مع عدم سبق منافٍ، فالحكم كذلك فلا يقبل منه ذلك، لحق الله عز وجل في الحرية، فإن الحرية يلحقها أحكام، إذن هذه مجرد دعوى لا تخرج بها من الأصل من ثبوت حريته وما يترتب عل ذلك من أحكام لله عز وجل في الأحرار.
أو لما بلغ قال إنه كافر، فلا يقبل منه، وحينئذ فلا يبقى مسلماً بل يكون مرتداً، لأنه إذا قبلنا منه وقلنا أنت كافر فحينئذ نبقيه كسائر الكفار الذين قد تثبت لهم أحكام تعصم دماءهم كالذميين، وأما إذا لم نقبل منه ذلك فحينئذ يكون قوله ردة فيحكم عليه بالقتل.
قال: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة] .
???إذا ادعاه جماعة فكل يقول هذا ابني، فإنه يقدم ذو البينة منهم سواء كان مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً لأن البينة تظهر الحق وتحكم به.
قال: [وإلا فمن ألحقته القافة به] .(16/28)
إن لم تكن هناك بينة، فندعي القافة ونحكم بقولهم والقافة: قوم لهم معرفة في الشبه فيلحقون الشبيه بشبيهه.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????دخل على عائشة يوماً مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري إلى مجزر المدلجي ??وبنو مدلج" كانوا مشهورين بالقيافة??قد دخل على أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)
فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم -?العمل بها، وكذلك أقر عمر كما في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح.
فإن حكمت البينة للجميع حكم به للجميع فكان ابناً لهم يرثهم ويرثونه وتثبت الأحكام كلها.
ودليل ذلك الأثر عن عمر، فقد ثبت في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح، (أن رجلين اشتركا في وطء امرأة في شهر فدعى عمر القافة فقال: أخذ الشبهُ لهما جميعاً، فقضى به لهما) ، فيحكم به للجميع وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد?
وإن أشكل على القافة أو لم يتبينوا من ذلك أو نفى القافة أن يكون شبيهاً لأحد من هؤلاء المدعين؟
ضاع نسبه في المشهور من المذهب.
وقال الإمام أحمد في رواية عنه??بل يلحق?بأيهما أحب وهو القول الراجح وهو مذهب الشافعية?ودليله: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: " أن رجلين ادعيا رجلاً ولا يدرى أيهما أبوه فقال عمر: اتبع أيهما شئت".
وهل ينتظر حتى يبلغ أو حتى يميز؟
قولان للشافعي.
القول القديم للشافعي: أنه ينتظر حتى يبلغ.
والقول?الجديد: أنه ينتظر حتى يميز، والقول القديم هو قول في المذهب وهو أولى?وأنه ينتظر به حتى يبلغ لأن اختياره بعد ذلك يكون أتم.(16/29)
الدرس الثامن بعد الثلاثمئة
??يوم السبت: 3 / 7 / 1416 هـ)
??كتاب الوقف "
??الوقف: مصدر وقف يقف وقفاً، وجمعه وقوف ويقال: وقفه وأوقفه.
أما في الاصطلاح الفقهي فقد عرفه المؤلف.
بقوله: ??وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة] .
????كأن يحبس نخلاً، وثمارها تكون صدقة في سبيل الله أو يحبس داراً وأجرتها في سبيل الله، أو يحبس فرساً يركب في سبيل الله.
??والوقف مندوب إليه، لقوله تعالى: ((وافعلوا الخير)) (1) ?وهو من الخير.
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -?يستأمره فيها فقال له?????لو شئت حبست أصلها وتصدقت بها) ??، ?فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، تصدق بها في الفقير وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) ? (2)
قال: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه]
???فالوقف يصح بكل قول دل عليه، وبكل فعلٍ دل عليه.
ثم مثّل المؤلف للفعل فقال???
??كمن جعل أرضه مسجدا وأذِن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة وأذن بالدفن فيها]
??فإذا جعل أرضاً مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه فتكون هذه الأرض وقفاً مسجداً لله عز وجل؛ لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك، ولا يشترط أن يقول هي وقف أو نحو ذلك، ولكن فعله يدل على ذلك ولو لم يتلفظ بأنها وقف.
أو جعل أرضه مقبرة فحوطها كما تحوّط المقابر وأذن للناس أن يدفنوا فيها فكذلك هي وقف?؛?لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك.
قال: [وصريحه: وقفت وحبست وسبلت] .
???هذا في القول??
?القول منه ما هو صريح ومنه ما هو كناية ?
__________
(2) أخرجه البخاري في باب الشروط في الوقف، من كتاب الشروط، وفي باب ما للموصي أن يعمل في مال اليتيم..، وباب الوقف كيف يكتب من كتاب الوصايا، ومسلم باب الوقف، من كتاب الوصية، كما أخرجه بقية السبعة، المغني [8 / 184] .(17/1)
فالصريح يكفي فيه اللفظ من غير اشتراط انضمام شيء إليه من نية أو فعل أو قرينة، فبمجرد ما يتلفظ باللفظ الصريح تثبت هذه العين وقفاً وإن قال أنا لم أنوِ، وإن لم يفعل ما يدل على ذلك، وإن لم تكن?هناك قرينة تدل على أنه وقف??
وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، فإذا قال: وقفت داري أو حبست داري أو سبلت داري فهذه ألفاظ صريحة في الوقف.
قال: [وكنايته?تصدقت وحرمت وأبَّدت???
?????الكناية هي: ما لا يكفي فيه اللفظ بل يشترط انضمام أمر زائد إليه من نية أو فعلٍ أو قرينة.
وكنايات الوقف: تصدقت وحرمت وأبدّت??
?فإذا قال مثلاً: تصدقت بداري?، ثم قال: أنا لم أنوه وقفاً، ولا قرينة ولا فعل?، فإنه يحكم بقوله?؛?وذلك لأن هذه الألفاظ مشتركة في الوقف وغيره فكان لابد من أمر زائدٍ يدل على إرادة الوقف??
??وقال ابن الجوزي، وهو من فقهاء الحنابلة???بل لفظة (?أبَّدت???تدل على الوقف فهي من صريحه لا من كنايته.
وفيه قوة: ومرجع معرفة اللفظ أهو من الصريح أم من الكناية مرجع ذلك إلى أعراف الناس.
??
قال: [فتشترط النية مع الكناية] .
???أي يقول: تصدقت بداري " وينوي أنها وقف؛ ?لأن قوله: تصدقت بداري، لفظ مشترك فيحتمل أن تكون الصدقة التي ليست هي بوقف ويحتمل أنه يريد الوقف، فلما كان لفظاً مشتركاً اشترط فيه النية.
قال: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] .
??تقدمت ألفاظ ستة، منها ثلاثة صريحة، ومنها ثلاثة من باب الكناية، فإذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الكناية وضمّ إليه لفظاً من الألفاظ الباقية، فحينئذ يزول الاشتراك وتكون وقفاً.
??فإذا قال: تصدقت بداري صدقة موقوفة، أو تصدقت بداري صدقة محبوسة، أو تصدقت بداري صدقة مسبّلة أو قال تصدقت بداري صدقة محرمة أو صدقة مؤبدة.
?فحينئذ يكون وقفاً وإن ادعى?أنه لم ينو، فلا يقبل منه ذلك.
وكذلك لو قال: "حرمت داري تحريماً مؤبداً أو تحريماً موقوفاً أو تحريماً محبساً، ونحو ذلك فإنه يحكم بأنه وقف??(17/2)
ومرجع هذا في الألفاظ إلى عرف الناس، وقد يكون في عرف الناس لفظ هو صريح في الوقف وهو في عرف من قبلهم كناية فيه وقد يكون العكس أيضاً.
قال: [?أو حكم الوقف] .
????أي أن يضم إلى هذا اللفظ الذي هو من الكناية، يضم إليه ما يدل على الوقف وهو حكمه.
كأن يقول: "?تصدقت بداري فلا تباع ولا توهب ولا تورث، فدل على أن قوله?????تصدقت بداري، يريد بذلك الوقف.
قال: [ويشترط فيه المنفعية دائماً من عين ينتفع به مع بقاء عينه كعقار وحيوان ونحوهما] (1) ?
??فيشترط في الوقف أن يكون ذا منفعة دائمة مع بقاء العين ?
فإذا كانت العين لا ينتفع بها على سبيل الدوام فلا تصح وقفاً.
مثال ذلك: الدراهم والدنانير، والطعام ونحوها، فلا يصح وقفها وذلك لأنها تنفد فلا يبقى الانتفاع.
??كعقار] ?أي كأرض يبنى فيها، وتبقى وتؤجر ومثل ذلك البستان فهذه يصح وقفها.
وقد تقدم حديث عمر لما أصاب أرضاً بخيبر فقال?له ?النبي ?- صلى الله عليه وسلم -??????لو شئت حبست أصلها وتصدقت بها) ?فهذا يدل على أن الأرض تصح وقفاً.
?وحيوان] ?فالحيوان يصح وقفه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -?في صحيح البخاري: ??من حبس فرساً في سبيل) (2) ?
__________
(1) في النسخة التي عندي: " ويشترط فيه المنفعة دائماً من معين ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان ".
(2) لم أجده بهذا اللفظ في صحيح البخاري، لكنه أخرج في كتاب الجهاد والسير، وفي كتاب الوصايا، باب وقف الدواب والكراع.. (2775) : أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله، أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحمل عليها رجلا، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاعها فقال: (لا تبتعها ولا ترجعن في صدقتك) ، وأخرجه مسلم 1621.(17/3)
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: في خالد بن الوليد: ??وأما خالدٌ?فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) (1) ?
?وهذا يدل على صحة وقف الأدراع ونحوها من السلاح??
والعتاد???هو أهبة القتال من خيل وذخيرة وسلاحٍ ونحو ذلك.
وفي?قول المؤلف????من عين???
??هذا هو المشهور في المذهب?وأن الموصوف في الذمة لا يصح وقفه ?
فإذا قال???وقفت عبداً وصفه كذا، أو داراً وصفها كذا أو حيواناً وصفه كذا، فلا يصح.
ومثل ذلك، المبهم فإذا قال: "?تصدقت بأحد فرسيّ في سبيل الله صدقة موقوفة، أو قال???حبست أحد عبديَّ في سبيل الله" ونحو ذلك، فهنا مبهم لا يدري أي العبدين ولا أي الفرسين، فلا يصح أيضاً كما هو المشهور في المذهب?
قالوا: كالهبة.
وسيأتي الكلام على الهبة والخلاف فيها.
??وهنا احتمال في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام???أنه يصح وقف الموصوف في الذمة ويصح وقف المبهم?،?وهذا هو القول الراجح?
???وعليه: فعليه أن يوقف ما وصفه في الذمة??
?فيقال?له???أنت وقفت داراً قلت وصفها كذا وكذا، فعليك أن توقف ما وصفت ?
وإن قال: وقفت أحد عبدي في سبيل، فيُقرع بينهما ومن خرجت عليه القرعة فهو وقف.
والحمد لله رب العالمين
الدرس التاسع بعد الثلاثمئة
??يوم الاثنين: 5 / 7 / 1416 هـ)
قال رحمه الله: [وأن يكون على بر كالمساجد والقناطر والمساكين والأقارب] .
????هذا هو الشرط الثاني من شروط الوقف وهو أن يكون على برٍ وهذا باتفاق العلماء.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى: {وفي الرقاب..} من كتاب الزكاة، وفي باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجهاد،، ومسلم في باب في تقديم الزكاة ومنعها من كتاب الزكاة،وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، المغني [8 / 232] .(17/4)
فإن الوقف يدوم إلى ما بعد موته فلم يكن له?حق في أن يصرف شيئاً من ماله في أمر محرم ولا مباح فاشترط أن يكون في بر، كبناء مسجد أو مدرسة علمية أو بناء دار يكون ريعها للفقراء وذوي القربى??
فإن كان على محرم فلا يجوز كأن يبنى داراً للهو?المحرم أو لشرب الخمر ونحو ذلك??
وإذا كان على مباح فإنه لا ينفذ أيضاً كأن يجعل داره وقفاً على لهو مباح.
قال: [من مسلم وذمي] .
????يصح أن يكون الوقف على المسلم وعلى الذمي ?
أما المسلم فظاهر.
وأما الذمي?فلقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)) (1) ?
وروى عبد الرزاق في مصنفه، والأثر حسن أن صفية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم -?أوصت لابن أخٍ لها يهودي? (2) ?فيجوز أن يوقف على ذمي ونحوه.
قال: [غير حربي] .
فالحربي لا يجوز أن يوقف عليه، وذلك لأن ماله ليس بمعصوم وعليه فريع الوقف غير معصوم ?
والوقف لازم وحين ذلك لا يكون لهذا المال عصمة لكون صاحبه ليس بمعصوم المال ولأنه ليس بوجه برٍ أن يوقفه على من يحارب الله ورسوله وأهل الإسلام.
__________
(1) سورة الممتحنة.
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه برقم (9914) في كتاب أهل الكتاب، باب عطية المسلم الكافر ووصيته له قال: " أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن نافع عن ابن عمر: أن صفية ابنة حُييّ أوصت لابن أخ لها يهودي " وبرقم (9913) [6 / 33] وبرقم (19327) [10 / 349] قال: " أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن عكرمة، قال: باعت صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - داراً لها من معاوية بمئة ألف، فقالت لذي قرابة لها من اليهود: أسْلِم فإنّك إن أسلمتَ ورثتني، فأبى، فأوصت به، قال بعضهم: بثلاثين ألفاً ". وأخرجه برقم (19342) قال: " أخبرنا الثوري عن ليث عن نافع عن ابن عمر أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصَت لنسيب لها نصراني ".(17/5)
قال: [وكنيسةٍ ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] .
فهذه لا يجوز الوقف عليها.
قال: [وكذا الوصية] .
??أي في الحكم، فالوصية كذلك فإن ما لا يصح وقفه لا تصح الوصية به، وسيأتي الكلام على هذا في باب الوصايا.
قال: [والوقف على نفسه] .
?أي لا يصح الوقف على نفسه، فإذا قال: " وقفت داري على نفسي ثم أولادي من بعدي" فهنا الوقف لا يصح.
قالوا: كما لا يصح بيعه على نفسه وإجارته عليها، هذا هو المشهور في المذهب.
??وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل وهو مذهب أبي يوسف من الأحناف، وبعض الشافعية???أن الوقف على النفس صحيح.
وهذا هو الأظهر، وذلك قياساً على أم الولد فإن الرجل إذا وطئ أمته فولدت له ولداً فهي أم ولد، تبقى له في حياته ولا تباع ولا توهب، فكذلك الوقف يبقى له في حياته ولا يباع ولا يوهب??
?وكما لو أوقف مسجداً وصلى فيه أو أوقف مقبرةً ودفن فيها أو أوقف بئراً وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين كما وقع من عثمان رضي الله عنه فهنا قد دخل في المنتفعين من الوقف، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك وأنه إذا أوقف مقبرةً فله أن يقبر فيها وكذلك إذا أوقف مسجداً فله أن يصلي فيه وهكذا فكذلك هنا??
?وأما المنع من بيعه على نفسه وإجارته عليها فهذا لامتناعه فهو ممتنع لا فائدة فيه.
وفي هذا القول ترغيب بالوقف فإنه إذا علم أنه يمكنه أن يوقف شيئاً من ماله ويستفيد من ريعه حياته فإن هذا يكون ترغيباً له فيه.
??قال الحنابلة??ويجوز له إن أوقفه عل غير نفسه أن يشترط غلته كلها أو بعضها أو مدة معلومة، له أن يستثني ذلك وهو مخرج من المسألة المتقدمة.
ويستدلون بما تقدم من قول عمر????ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً?? (1) ?وكان عمر كما قالوا، كان هو وليها في حياته??
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم في الصفحة الأولى.(17/6)
وهذا ظاهر، وحيث قلنا بالقول المتقدم من جواز الوقف على نفسه فهذا أولى.
قال: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك] .
المسجد والمقبرة ونحوهما إذا أوقفه فإنه لا يوقفه على معين بل على جماعة من الناس، وكذلك القنطرة أو النفق أو الطريق، فهذا وقف على غير معين، فلا يشترط العلم بالموقوف عليه، فإذا بنى مسجداً فلا يشترط أن يعلم من يصلي فيه، وهكذا.
أما غير المسجد ونحوه، فإنه يشترط فيه أن يكون على معين يملك، فيكون على معين غير مجهول ولا مبهم.
قال: [لا مَلَك] .
فإذا أوقف على ملك من الملائكة أو على جني فإنه لا يصح لأنه لا يملك.
قال: [وحيوان] .
??لا يصح الوقف عليه لأنه لا يملك، وكذلك العبد فإنه معين لكن لا يملك فلا يصح الوقف عليه.
قال: [وقبر] ? (1) ?
لا يصح الوقف عليه لأنه وإن كان معيناً لكنه لا يملك.
قال: [وحمل] ? (2) ?
??لا يصح الوقف عليه لأنه ليس بمعين أو لا يدرى?هل موجود أو لا.
ويشترط?،?وهو الشرط الرابع???هو? (3) ?????أن يكون ناجزا لا معلقاً هذا هو المشهور في المذهب?
فإذا قال: "?أوقفت داري إن شفى الله مريضي أو إن جاء زيد من سفر" فإن الوقف لا يصح.
??والقول الثاني في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار صاحب الفائق من الحنابلة???إن الوقف يصح وهو الراجح إذ لا مانع منه شرعاً.
ومثل ذلك إن قال: أوقفت داري سنة أو عشر سنوات، أي ثم بعد ذلك ترجع إليَّ?، ففيها قولان:
والأظهر الجواز?إذ لا مانع منه، وإن كان الوقف في الأصل يدوم ويستمر لكن هذا لو سلمنا أنه ليس بوقف لكن لا نسلم أنه ممنوع إذ الأصل في العقود الحل.
قال: [لا قبوله] .
أي لا يشترط قبوله، إذا أوقف على غير معين فلا إشكال في أنه لا يشترط القبول، كأن يوقف مسجداً ونحوه، فلا يشترط قبول الموقوف عليهم لأنها جهة عامة.
__________
(1) في الأصل:والقبر.
(2) في الأصل: والحمل.
(3) كذا في الأصل.(17/7)
لكن الكلام هنا حيث كان الوقف على معينٍ كأن يقول: "أوقفت داري على زيد وأولاده من بعده" فهل يشترط قبول الموقوف عليهم أم لا؟
قال المؤلف: لا يشترط قبوله، كالعتق?، فكما أن العبد لا يشترط قبوله للعتق?، فكذلك هنا.
والقول الثاني في المسألة، وهو وجه في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد???أنه يشترط قبوله?؛?قياساً على الوصية أو الهبة، فهي تبرع من آدمي.
وهذا أظهر?فهي بالهبة هنا أشبه منها بالعتق ?
والفارق بين الوقف والعتق أن العتق إن رُدّ فإن في ذلك إبطالاً لحق الله في الحرية??
?بخلاف رد الوقف فكان الوقف هنا أشبه بالهبة والوصية منه بالعتق.
ولأن ما يترتب من المنة ونحوها ثابتة في الوقف كما هي ثابتة في الهبة.
فإن لم يقبل هذا الوقف فإنه ينصرف إلى من بعده، فإذا قال "أوقفت هذه الدار على زيد وعمرو" فلم يقبل زيد فإنها تنتقل إلى من بعده.
قال: [ولا إخراجه عن يده] .
أي لا يشترط أن يخرج الوقف عن يده.
فإذا قال مثلاً: هذا الفرس وقف لله تعالى، ولم يخله فهو ما زال في يده، فهل يلزم الوقف أم لا؟
قولان لأهل العلم.
???القول الأول???أنه يلزم فليس له الرجوع بعد ذلك?، وهذا هو المشهور في المذهب?
قالوا??لأنه قد ثبت بالقول الدال عليه أو?الفعل الدال عليه فيحصل الوقف بذلك.
قالوا: وقياساً على العتق?، فكما أن الرجل إذا قال: أعتقت فلاناً فإنه يعتق عليه وإن لم يخرجه من يده" فكذلك هنا.
القول الثاني?،?وهو رواية عن الإمام أحمد??أنه لا يلزم ويثبت إلا إذا أخرجه من يده وأما قبل ذلك فله الرجوع??
?واستدلوا: بالقياس على الهبة والوصية.
فكما أن الهبة لا تثبت حتى يخرجها عن يده ويقبضها الآخر فكذلك هنا في الوقف.
والذي يترجح?من هذين القولين?، أن ذلك ليس بشرط بل يثبت الوقف وإن كان الوقف في يده?، وذلك لأن حقيقة الوقف قد ثبتت بمجرد قوله: "وقفت أو حبست ونحو ذلك" لأن الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، وقد حصل الوقف بقوله ذلك ?(17/8)
وأما الهبة فلا تكون هبةً حتى ينتقل من يده ويقبضها الآخر ففرق هنا بين الهبة والوقف.
فالراجح أنه لا يشترط لثبوت الوقف - لا يشترط - إخراج الوقف من يد الواقف.
والحمد لله رب العالمين
الدرس العاشر بعد الثلاثمئة
??يوم الثلاثاء: 6 / 7 / 1416 هـ)
??فصل "
قال رحمه الله: [ويجب العمل بشرط الواقف] .
يجب العمل في الوقوف بشرط واقفها، لأثر عمر المتقدم في الصحيحين.
قال شيخ الإسلام: "وقول الفقهاء نص الواقف كنص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل".
فالفقهاء عندهم أن لفظ الواقف كنص الشارع يعني في دلالة الألفاظ من عموم أو خصوص أو إطلاق أو تقييد أو نحو ذلك ?
قال أي شيخ الإسلام، "والتحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عقدٍ يُحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم فيها وافقت لغة العرب أو لغة الشرع أم لا"?اهـ.
فالعبرة بما يريده في لفظه وهو المراد في خطاباته وفي لغته أي في أعراف الناس،
فمثلاً الناس عندنا يطلقون الولد ويريدون به الذكر، وليس هذا في لغة العرب ولا في لغة الشرع.
فإذاً: فهم كلام الواقف مرجعه إلى عادته في خطابه ولغته التي يتكلم فيها?؛?لأن هذا هو مراده.
وقول المؤلف هنا:???بشرط الواقف "، ?ظاهره سواء كان الشرط مستحباً أو كان مباحاً، وهذا هو المذهب??
مثال كون الشرط مستحباً أن يقول: "?أوقفت داري على أولادي ثم أولادهم من بعدهم لطلبة العلم أو لحفظة القرآن منهم" فهذا شرط مستحب??
?ومثال الشرط المباح أن يقول: " أوقفت داري على أولادي الأغنياء منهم" فهذا شرط مباح.
واختار شيخ الإسلام أن الشرط المباح ليس بمعتبر فإذا قال: "للأنسب منهم أو للغني منهم أو غير ذلك من الشروط المباحة أو شرط ألّا يؤجر ونحو ذلك، فإنه لا عبرة بشرطه، فللناظر على الوقف أن يخالف شرطه وهذا هو القول الأرجح??(17/9)
وذلك لأن اشتراط القربة ثابت في اعتبار الجهة أصلاً كما تقدم?، وأن الواجب في الوقف أن يكون على قربة فكذلك في شروطه فيشترط أن تكون في قربة ??
ولأن مثل هذا سفه وعبث في المال فينهى عنه فالراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام?
وشرط الواقف يجب العمل به حيث لم يخالف مقصود الشرع أو لم يكن فيه إخلال بمقصود الشارع فإذا وضع وقفاً على أئمة وقال???يكون لغير الأقرأ أو لغير الأعلم???أو كأن يقول???للأكبر???، فهذا يخالف ويخل بمقصود الشارع من أن إمام الناس أقرؤهم لكتاب الله.
فالشرط المخالف لكتاب الله غير مقبول.
قال: [في جمع] .
يجب العمل بشرط الواقف في جمع أي في جمع الموقوف عليهم، فإذا قال: "أوقفت داري على أولادي وأولاد أولادي" فقد جمع بين أولاده وأولاد أولاده فيكون ريع الوقف لهم جميعاً، لأن هذا هو شرطه.
قال: [وتقديم] .
??فإذا قال " هذا وقف على زيد وعمرو والمقدم هو زيد" فيُعمل بشرطه فإنه قد شرط التقديم لزيد?،?فيعطى زيد من الريع ما يكفيه فإن فضل شيء فهو لعمرو، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له.
قال: [وضد ذلك] .
??ضد الجمع الإفراد، وضد التقديم التأخير.
فإذا أفرد فقال: "هذا وقف لزيدٍ ثم أولاده من بعده" فيعمل به.
وإذا قال: هذا وقف لزيد وعمرو والمؤخر هو زيد" فيعطى عمرو ريع الوقف وما فضل فلزيد لأنه هو المؤخر.
قال: [واعتبار وصف وعدمه] .
???فإذا قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم من بعدهم الأفقه منهم، فحينئذ نعطيه?الأفقه?منهم فنعمل بهذا الوصف.
وإذا قال: "هذا وقف عل أولادي ثم أولادهم من بعدهم" فهنا لم يذكر وصفاً وعليه فنحن نطلق كما أطلق?، فهو قد شرّك بينهم، وأطلق فحينئذ نشرك بينهم ونطلق؛ وذلك لأنه لم ينص على صفة معينة.
قال: [وترتيب] .
فالترتيب شرط مقبول منه.(17/10)
فإذا قال: ??هذا لأولادي ثم لأولادهم من بعدهم، فلا نُشرِّك بين أولاده وأولاد أولاده، بل يعطى أولاده، ثم إذا لم يبق له ولد فإنه يعطى أولاد أولاده، لأنه هنا قد رتّب.
قال: [ونظر] .
??إذا قال: "والناظر على الوقف فلان" فهو شرط معتبر يجب العمل به، فيكون هذا المعين هو الناظر على الوقف المعتني?بشؤونه الصارف لريعه، فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في وصية عمر بن الخطاب: "هذا ما أوصى به عبد الله، عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغاً وصِرْمَة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمئة سهم التي بخيبر والأرقاء فيه والمئة التي أطعمه النبي - صلى الله عليه وسلم -?بالوادي، تليه حفصة بنت عمر ثم ذو الرأي من أهلها" (1) ?
فهذا شرط من عمر في تعيين الواقف.
قال: [وغير ذلك] .
???فأي شرط يشترطه، فإنه يعمل به، وقد تقدمت ضوابط في هذا.
قال: [فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر وضدهما] .
??إذا أطلق الواقف فقال: "هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي" ولم يشترط فإنه يستوي فيه الغني والفقير والذكر والأنثى، لا فرق بينهم.
وذلك لأنه شرّك بينهم وأطلق، ومقتضى هذا الإطلاق التسوية بينهم.
قال: [والنظر يكون للموقوف عليه] .
??لأن الواقف لم يعين ناظراً فحينئذ يكون الناظر هو الموقوف?عليه.
__________
(1) أخرجه أبو داود باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف من كتاب الوصايا برقم [2878] ولفظه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله، عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدثٌ أن ثمغاً وصِرْمَة بن الأكوع والعبد الذي فيه والمئة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه، والمئة التي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه ".(17/11)
فإذا قال: "هذا وقف على زيدٍ ثم لأولاده من بعده، ولم يعين ناظراً" فإن الناظر يكون زيداً.
وهذا إن كان فرداً مستقلاً به.
أما إذا كان الموقوف عليه جماعة، كأن يقول: هذا الوقف على أولادي وهم جماعة فحينئذ يكونون هم الناظرين عليه جميعاً بقدر حصصهم، هذا إذا كان الوقف مما يكون على المعينين.
وأما إن لم يكن على المعينين، كأن يوقف على الفقراء أو على المساكين ونحو ذلك فإن الناظر هو الحاكم.
إذن: إذا كان الوقف على معينين، فالمعينون هم الناظرون فيه.
فإن كان فرداً استقلّ به، وإن كانوا جماعة فهم جميعاً ناظرون عليه بقدر حصصهم.
قالوا: لأن الوقف ملك لهم والمنفعة لهم.
أما كون المنفعة لهم، فإن هذا صحيح فإنهم هم المنتفعون به وهذا يقتضي أن يكونوا هم الناظرين عليه لأن ريعه وثمرته لهم.
وأما كونهم هم المالكون للوقف، فهذا هو المذهب?،?فالمذهب?أن الوقف ملك للموقوف عليه، فإذا قال: ?هذا وقف على زيد" فهو ملك له.
قالوا: قياساً على الهبة.
??وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد:?أنه حق لله وليس ملكاً للموقوف عليه، نعم الموقوف عليه يملك منفعته وأما أصله فلا يتملكه الموقوف عليه، وهذا هو الراجح.
فالراجح: أنه?ملك لله عز وجل.
ويستدل على هذا، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???احبس أصلها وتصدق بها) (1) ، فدل على أنها صدقة.
ولأن الموقوف عليه لا يملك التصرف فيها ولا تورث عنه كسائر ماله فدل على أنها ليست ملكاً له، وقد تقدم الفارق بين الوقف والهبة.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الحادي عشر بعد الثلاثمئة
??يوم الأربعاء: 7 / 7 / 1416 هـ)
قال المؤلف رحمه الله: [وإن وقف على ولده، أو ولد غيره، ثم على المساكين] .
__________
(1) متفق عليه وقد تقدم في الصفحة الأولى.(17/12)
الوقف على الولد جائز باتفاق العلماء، ومن الآثار الواردة فيه ما ثبت عند البيهقي والدارمي ورواه البخاري معلقاً، أن الزبير رضي الله عنه وقف على ولده وجعل للمردودة أن تسكن غير مضرّةٍ?ولا مضرّاً بها فإن استغنت بزوج فلا حق لها" (1) ?ولا يعلم له مخالف.
أو ولد غيره، كأن يقول: هذه الدار وقف على ولد زيد أو على ولد أخي" فهذا جائز.
فإذا قال هذه الدار وقف على ولدي ثم للمساكين.
قال: [فهو لولده] .
???قال الفقهاء من الحنابلة في المشهور عندهم:?لولده الموجودين حين الوقف، وعليه???فإذا ولد له بعد ذلك فلا حق لهم في الوقف، وهذا ضعيف.
??وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه???أن من يولد من ولده فله حق في الوقف، وذلك موافقةً لغرض الواقف، ولدخوله في لفظه فهو داخل في ولده ومقصوده انتفاع ولده وهذا من ولده، بل هو أشفق عليه وأرحم به لصغره فكان دخوله أولى.
قال: [الذكور والإناث بالسوية] .
??فريع هذا الوقف يكون لولده ذكروهم وإناثهم بالسويَّة، وذلك هو مقتضى إطلاقه، فإنه قد شرَّك بينهم وأطلق فاقتضى التسوية فللذكر مثل ما للأنثى.
قالوا: ويستحب له أن يفضل الذكر على الأنثى.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [6 / 275] رقم (11930) ، باب الصدقة على ما شرط الواقف.. من كتاب الوقف قال: "أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو الحسن الكارزي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عبيد، ثنا أبو يوسف، عن هشام بن عروة أن الزبير جعل دوره صدقة،قال: " وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها، فإن استغنت بزوج فلا شيء لها " قال أبو عبيد: قال الأصمعي: المردودة المطلقة " وعلقه البخاري في باب إذا وقف أرضاً أو بئراً واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين من كتاب الوصايا بعد (2777) فقال: " وتصدق الزبير بدوره … "(17/13)
واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي?وجوب تفضيل الذكر على الأنثى وتحريم عدم التفضيل وهو الراجح، وذلك لأن التفضيل هو العدل كما في الإرث وترك العدل محرم فترك العدل ظلم.
وعليه: فإذا أطلق أو نص على أن الذكر له مثل ما للأنثى، فإن الذكر يعطى مثل ما للأنثيين، لأن هذا هو العدل الذي أمر الله به.
قال: [ثم ولد بنيه] .
???فيكون لولده من صلبه ثم لولد بنيه، وهل الترتيب هنا ترتيب على فرد أو ترتيب بطن على بطن؟
بمعنى: هل لا يعطى?أولاد الأبناء حتى ينقرض الأولاد من الصلب فلا نعطى أولاد بنيه حتى ينقرض أولاده.
أم أن الترتيب ترتيب فرد على فرد، فإذا مات زيد من ولده ولزيدٍ أولاد فنصيب زيد ينتقل إلى أولاده؟
وجهان في مذهب الحنابلة?
والمذهب هو الأول??وأنه ترتيب بطن على بطن فإذا انقرض البطن الأول أعطي?البطن الثاني فلا يعطى?أولاد?الأبناء مع وجود الأولاد.
القول الثاني في المذهب: وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار الشيخ عبد الرحمن بن السعدي:?أنه ترتيب فرد على فردٍ وهو الراجح?تقريباً للإرث والعدل وبعداً عن الجور?والظلم، فإن هذا حق لوالدهم كان يأخذه وهو حي فينتقل حينئذ إليهم كما ينتقل إليهم سائر ماله.
قال: [دون بناته] .
أي دون ولد بناته.
ولد البنات لا يرثون كما تقدم في الفرائض???
فبنت البنت وابن البنت وإن نزلا فلا إرث لهما.
قالوا: فكذلك هنا لقوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم)) (1) ?فإذا قال???هذا وقف على ولدي?،?لم يدخل ولد بناته، كما لا يدخلون في قوله تعالى:???يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) ? (2) ??
هذا هو مذهب الإمام أحمد فهو مذهب الحنابلة?
ومذهب الشافعية???أن أولاد بناته يدخلون.
قالوا: لأن ولد البنت ولده?، ولذا قال تعالى: ((ومن ذريته داود وسليمان ???إلى قوله???????وعيسى??? (3) ?وعيسى ابن بنته مريم رضي الله عنها.
__________
(1) سورة النساء.
(2) سورة النساء.
(3) سورة الأنعام 84.(17/14)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -?في الحسن، وهو ابن بنته، قال: ?إن ابني هذا سيدّ" (1) ??
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره أبو الخطاب من الحنابلة واختاره من أئمة الدعوة الإمام عبد الرحمن بن حسن والإمام محمد بن إبراهيم وهو القول الراجح?في هذه المسألة.
وأما قوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) ? (2) ?
فالجواب أن ولد البنت داخل في العموم، وإنما دل الإجماع على عدم إرثهم فرضاً.
ويمكن أن يُستدل بهذه الآية على إرثهم رحماً كما هو مذهب الحنابلة ??لكن فيه نظر؛ لأنه يلزم أن يرثوا للذكر مثل الانثيين??? (3) ??
قال: [كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] .
???إذا قال: هذا وقف على ولد ولدي أو على ذريتي لصلبي أو على عقبي أو على نسلي".
فالخلاف كذلك هنا، والراجح أن ولد البنت يدخلون في ذلك كما هو مذهب الشافعية?
قال: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختصّ بذكورهم???
????إذا قال: هذا وقف على بنيّ أو على بني فلان، فيختص بالذكور فليس للإناث من الوقف شيء.
وذلك لأن الابن يطلق ويراد به الذكر كما قال تعالى: ???أم?له البنات ولكم?البنون????? (4) ?فالابن بخلاف البنت.
وهل يدخل في ذلك ابن بنته؟ على الخلاف المتقدم، والراجح دخولهم.
__________
(1) أخرجه البخاري، في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن..، من كتاب الصلح، وفي باب علامات النبوة في الإسلام من كتاب المناقب، وفي باب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة، وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن من كتاب الفتن،وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، المغني [4 / 98] .
(2) سورة النساء.
(3) ما بين القوسين ليست في الأصل، وإنما في المطبوع فقط.
(4) قال الله تعالى في سورة الصافات 149: {فاستفتهم ألربك البناتُ ولهم البنون} .(17/15)
وقد قال تعالى: ((وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)) ? (1) ?أي محرمات ومعلوم أن زوجة ابن البنت محرمة بالاتفاق.
قال: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] .
????إذا قال: هذا وقف على القبيلة الفلانية فيدخل فيه النساء؛ وذلك لأن النساء من القبيلة فيشمل الذكور والإناث.
ويخرج أولاد النساء من غيرهم.
فإذا تزوج رجل من قبيلة أخرى، امرأةً من هذه القبيلة فالمرأة لها نصيب من الوقف?؛?لأنها تنسب إلى هذه القبيلة، أما أولادها من هذا الرجل فلا نصيب لهم؛ وذلك لأنهم لا ينتسبون إلى هذه القبيلة، وهذا ظاهر.
قال: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] .
???إذا قال: هذا وقف على قرابتي أو على أهل بيتي أو على قومي، فإنه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد بنيه (2) ?وجده وجد أبيه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -?اسمه هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فإذا أوقف لقرابته فيدخل في ذلك أولاده، وأولاد عبد الله???وعبد الله ليس?له من الولد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -???وأولاد عبد المطلب وأولاد هاشم، فعبد الله أبوه، وجده عبد المطلب، وجد أبيه هاشم، قالوا: بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قد جعل سهم ذوي القربى في?أولاد هاشم وأولاد عبد المطلب، وأولاده عليه الصلاة والسلام.
وقال الشافعية?بل يدخل في ذلك كل من ينتسب إلى أبيه الذي ينتسب إليه هو، وليس المراد الأب المباشر بل قد ينتسب إلى جده?أو أبي جده،?كما يقال ??بنو جعفر أو بنو هاشم وبنو مخزوم.
فإذا قال: هذا الوقف لقرابتي أو أهل بيتي أو لقومي ?، دخل في ذلك كل فرد [مـ]ـمن ينتسب إلى أبيه.
وهذا هو القول الراجح?وهو أقرب إلى العرف.
__________
(1) سورة النساء، نهاية الجزء الرابع.
(2) كذا في الأصل، ولعلها: أبيه.(17/16)
فمثلاً: العائلة الفلانية إذا قال رجل منهم ??هذا وقف على قرابتي أو قومي أو أهل بيتي، يدخل فيها كل من يتسمّى بهذه القبيلة سواء كان من ولد أب الجد أو من ولد جد الجد.
وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم -?بني المطلب من سهم ذوي القربى وهم من ولد جد جده.
وقد تقدم كلام شيخ الإسلام وأن مرجع هذه الألفاظ إلى العرف لا إلى دلالة اللغة ولا إلى دلالة الشرع.
وما تقدم من المسائل كذلك، فإذا كان في عرف الناس عندنا أنه إذا قال: على ولدي" لا يدخل في ذلك أولاد بناته فنحكم بذلك?؛?لأن هذا هو مراده، بدليل أنه لو عرف أنا سنفهم مراده على غير هذا لاستثنى وقال: إلا ولد البنات، فالواجب حمل كلام الناس على ما يعتادون عليه.
قال: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها???
????إذا قال: "وقف على بنيه" فلا تدخل فيه البنات فإذا كانت هناك قرينة تقتضي إعطاء الإناث، أو حرمانهن في مسائل أخرى فإنه يعمل بها.
هذا يخالف الشرع والعدل كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي?فالشخص لا يتصرف بماله يمقتضى شهوته وهواه، وإن خالف الشرع والعدل بل الشرط ألا يخالف الشرع والعدل، ولا شك أن العدل بين الأولاد ذكورهم وإناثهم واجب.
فإذا تضمن لفظه في وقفه تضمن حرمان صاحب حق أو اختصاص بعض الورثة بالوقف دون البعض الآخر، فإن هذا ظلم وجور والشريعة تنهى عن ذلك.
فعلى ذلك لا ينظر إلى لفظه الذي يخرج به الإناث بل تعطى الإناث?لوجوب العدل وتحريم الظلم.
ولو فتح هذا لسلكه كل من شاء حرمان الإناث من المال بأن يوقفه على أبنائه وأبناء أبنائه ونحو ذلك، والواجب سد هذا الباب.
قال: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم ??والتساوي??? (1) ???
???إذا قال هذا وقف على من يوجد في بلدتي من القبيلة الفلانية، وكان حصرهم ممكناً فحينئذٍ يعطونه بالتسوية ويجب تعميمهم؛ لأنه يمكن حصرهم.
__________
(1) هذه الكلمة في المطبوع دون الأصل.(17/17)
وظاهر إطلاق كلامه التسوية بينهم.
وقال بعض الحنابلة:?بل إذا كان هناك ما يقتضي التمييز فللناظر التمييز ?، كأن يكون بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً فيميز بين غنيهم وفقيرهم، أو بعضهم إناث وبعضهم ذكور فيميز بين ذكرانهم وإناثهم وهذا هو القول الراجح?كما تقدم تقريره في مسألة سابقة وأن شرطه المباح لا يعمل به، وهذا شرط مباح، فالمساواة بين الذكور والإناث إن لم نقل بتحريمه فيقال على أقل تقدير بإباحته ولا يعمل بالشرط المباح وإنما يعمل بالشرط المستحب، هذا القول هو الراجح.
قال: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] .
??فإذا كان لا يمكن حصرهم كأن يقول????هذه الدار وقف على كل قبيلة بني تميم?–?وتميم أكثر قبائل العرب - ?وهي دار لا يخرج منها إلا عشرة آلاف فحينئذ يجوز التفضيل والاقتصار على أحدهم.
قالوا: لأنه لما أتى بهذا اللفظ الذي لا يمكننا العمل به إذا (1) ??لا يمكنهم تعميم ذلك، علم أنه يريد نفع هذا الجنس وهذا حاصل بنفع رجل واحدٍ منهم.
قالوا: وعليه فإذا كان يجوز لنا أن نقتصر على واحد فإن التفضيل أولى، لأنه إذا جاز حرمانه فكونه مفضلاً عليه من باب أولى.
أما إذا كانوا ابتداءً يمكن حصرهم ثم طرأ عليهم انتشار ونحو ذلك فأصبحوا لا يمكن حصرهم فحينئذ يجب أن يعمل الناظر بالتعميم حيث أمكن، لأنه أراد تعميمهم.
??فصل "
قال: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] .
??فالوقف عقد من العقود اللازمة وقد تقدم ما يدل على هذا.
قال: [ولا يباع] .
???فالوقف لا يباع خلافاً لأبي حنيفة، لما تقدم في حديث ابن عمر وفيه: أنه لا يباع (2) ?
وقول أبي حنيفة مخالف للسنة فلا يلتفت إليه، والجمهور على تحريم?بيع الوقف.
قال: [إلا أن تتعطل منافعه] .
??إذا تعطلت منافعه بالكلية، فأصبح لا ينتفع?به فيجوز بيعه.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: إذْ
(2) تقدم في بداية كتاب الوقف.(17/18)
مثال ذلك: بنى مسجداً وقفاً في قرية فخربت هذه القرية فلم يبق فيها ساكن بل أصبحت مزارع وبساتين، أو بني طريقاً أو قنطرة، أو نحو ذلك، ثم حصل خراب في هذه المدينة فأصبحت هذه الأرض لا ينتفع بها، وقد بنى بها قنطرةً، وطريقاً، أو فتح مدرسة، فيجوز بيعه في المشهور من المذهب.
??ومنع من ذلك الشافعية، والمالكية?تمسكاً بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن البيع.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة?
لأن هذا هو الموافق لمقصود الشارع أولاً وقد نهى الشارع عن إضاعة المال وفي ترك هذا المال من غير أن ينتفع به إضاعة له، وهو أيضاً موافق لغرض?المُوقِف فإن غرض الموقف الانتفاع به?، وهنا قد فات الانتفاع به?
فإن لم تعطل منافعه لكن المصلحة الراجحة بيعه فهل يجوز بيعه أم لا؟
المشهور في المذهب???المنع؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن البيع.
وعن الإمام أحمد وهذه الرواية هي أظهر?نصوصه وهو قول في المذهب وهو اختيار شيخ?الإسلام?وهو المعمول به في هذه البلاد في المحاكم????أن ذلك جائز حيث المصلحة الراجحة.
وهذا هو الراجح، لأنه أتم وأكمل في مقصود الشارع ومقصود الموقِف ?
?فمثلاً: مسجد كان في موضع وهو لا يتسع إلا لمئة مصلٍ، وحوله بيوت فإذا أردنا أن نوسعه احتجنا إلى شراء هذه البيوت بأثمان غالية وربما امتنع أصحابها من بيعها، وفي نفس الحي أرض واسعة فهل يجوز أن نبيع أرض المسجد ونشتري هذه الأرض الواسعة ويبنى بها بهذا الثمن مسجد.
الجواب: نعم للمصلحة الراجحة.
قال: [ويصرف ثمنه في مثله ولو أنه مسجد] .
إن كان مسجداً فبمسجد وإن كانت مدرسة فبمدرسة ونحو ذلك.(17/19)
وذلك لأن هذا هو الأقرب لمقصود الموقف، فإن مقصوده بناء مدرسة أو بناء مسجد فإذا أخذنا الثمن ووضعناه في شيء آخر فإن هذا يخالف مقصوده فحينئذ يوضع فيما هو أقرب لمقصود الموقف فيبنى به مسجد أو بعض مسجد (1) ??كأن يشترى به الأرض ثم يتبرع أحد ببناء?مسجد عليها ?
قال: [وآلته وما فضل عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر] .
آلة المسجد من فرش وأدوات أخرى من كهرباء ونحو ذلك، ما يفضل منه يجوز صرفه في مسجد آخر، للمصلحة الراجحة وهو أقرب لمقصود الموقف.
قال: [والصدقة به على فقراء المسلمين] .
??أي ويجوز أن يتصدق به على الفقراء?، كأن تباع ويُتصدق بها على الفقراء.
واستدلوا بما روى البيهقي???أن شيبة كان يتصدق بخُلْقان الكعبة "أي أستارها" وأن عائشة أمرته بذلك?? (2) ?أي يبيع ستر الكعبة ويتصدق به على الفقراء، لكن الأثر إسناده ضعيف.
وعن الإمام أحمد???أنه لا يتصدق به بل يصرف في مسجدٍ آخر ?، وقال صاحب الإنصاف?????وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية????
فعلى ذلك آلات المسجد الفاضلة عن حاجته ولا يظن أنه يحتاج إليها قريباً من فرش ونحو ذلك لا تباع فيتصدق بها، بل تنقل إلى مسجد آخر، وهكذا المصاحف ونحو ذلك مما يفضل عن حاجة المسجد.
مسألة:
???هل يجب تعمير الوقف على الموقف عليهم من غلته أم لا؟
إذا أوقف زيد داره على أولاده فهل إذا حصل فيها خراب أو نحو ذلك يجب عليهم أن يعمروها?؟
المشهور في المذهب???أنه لا يجب التعمير ?
وهذا القول ضعيف جداً.
وذلك لأن فيه تسليطاً للبطن الأول عليه بإفساده، بحيث يستقلون بمنافعه فلا يستفيد منه من بعدهم?، ففيه إضرار بمن بعدهم.
ولما فيه من الإضرار بالوقف، ولأن العرف جار بوجوب ذلك في جميع الأوقاف، وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالراجح وجوب تعميره.
مسألة:
__________
(1) في المطبوع: أو أرض مسجد.(17/20)
إذا قال ??هذا وقف على أولادي?ولم يقل: ثم للمساكين، فانقرض أولاده فلمن يصرف ريع الوقف?؟
ثلاثة أقوال في هذه المسألة هي روايات عن الإمام أحمد.
القول الأول?،?وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي????أنه يصرف إلى قرابته لأنهم أولى بمعروفه.
القول الثاني???أنه يرجع إلى بيت المال، ويصرف في المصالح?؛?لأنه مال لا مستحق له.
القول الثالث?،?واختاره القاضي من الحنابلة واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي???أنه يكون للمساكين.
وهذا القول أرجحها?؛?وذلك لأن مصرف الصدقات المساكين، والوقف صدقة كما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم -?لعمر: ?احبس أصلها وتصدق بها) ،?ومصرف الصدقات المساكين، ولذا فمن نذر صدقة مطلقة فإنها تصرف للمساكين??
?ومع ذلك فإن الأولى والأحق هم قرابته المساكين فهم أولى بمعروفه، لكن لا يعطى?الغني منهم، فإن ظاهر المذهب الأول أنه يعطى الغني منهم أيضاً، والصحيح أنه للمساكين وأولى المساكين بذلك هم قرابته.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثاني عشر بعد الثلاثمئة
??يوم الجمعة: 9 / 7 / 1416 هـ)
?باب: الهبة والعطية"
الهبة والعطية: هما إعطاء المال بلا عوض.
والعطية هنا هي الهبة في مرض الموت، وأما الهبة فهي في حال الصحة، هذا هو الفرق بين الهبة والعطية هنا.
??والهدية يقصد بها الإكرام والتودد والمكافأة فإن لم يقصد بإعطائه شيئاً فهبة وعطية ? (1) ???
والفرق بين الهبة والعطية والهدية وبين الصدقة: أن الهبة ونحوها تعطى لشخص معين يقصد بها لمحبةٍ أو لتأليف قلبٍ ونحو ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -???تهادوا تحابوا) ? (2) ?رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث حسن ?
__________
(1) العبارة التي بين القوسين ليست في الأصل، وإنما هي في المطبوع فقط.
(2) قال الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد ص221 رقم [462 /594] قال: " حسن - الإرواء (1601) : ليس في شيء من الكتب الستة ".(17/21)
وأما الصدقة فهي عبادة يقصد بها دفع الحاجة ولا يقصد بها أحد بعينه?وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -?يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة كما في الصحيحين ??ويقصد بإعطائه ثواب الآخرة فقط?? (1) ?
قال: [وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره] .
فالهبة?هي التبرع?، فيخرج من ذلك المعاوضة، والمعاوضة بيع.
"بتمليك??احتراز من العارية، فإن العارية ليست بتمليك فإنه يدفع عين ماله لمن ينتفع به لا تمليكاً وإنما من باب إباحة نفع العين.
"المعلوم الموجود" فيشترط أن يكون المال الموهوب، أن يكون معلوماً لا مجهولاً وأن يكون موجوداً لا معدوماً، هذا هو المذهب ?
?في حياته??لا بعد موته، فكونه يمتلكها بعد الموت هذه وصية، فإذا قال له???هذه الدار لك بعد موتى، فهي وصية.
?غيره"?فهي تمليك للغي??
?ويشترط أن يكون الواهب جائز التصرف.
قال: [فإن شرط فيها عوضاً معلوماً فبيع] .
???إن?شرط على الهبة عوضاً معلوماً فهي بيع وليست بهبة.
فإذا قال: "وهبتك داري على أن تهبني فرسك" فلا تكون هبة بل تكون بيعاً للمعاوضة فيها، هذا هو المشهور في المذهب?
??وعن الإمام أحمد وهو اختيار القاضي من الحنابلة???أن هذه الصورة هبة وليست ببيع?، وأن من الهبة ما يكون فيه عوض ومنها?ما لا يكون فيه عوض كالعتق?، فكما أن العتق منه ما يكون بعوض?، ومنه ما لا يكون بعوض فكذلك الهبة.
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الأصل، وإنما في المطبوع فقط.(17/22)
وهذا أرجح?، ويدل عليه قول عمر الثابت في موطأ مالك بإسناد صحيح أنه قال?????من وهب هبةً أراد عليها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها?? (1) ?فقد سماها هبةً مع ما فيها من الثواب.
قال شيخ الإسلام:??ومن وهب ليعاوَض على هبته أو ليقضى?له فيها حاجة فلم يوفَ?فهو كالشرط"، أي كأنه قال: "وهبتك هذا الشيء بشرط أن تعاوضني" أو بشرط أن تقضي لي الحاجة والمسلمون على شروطهم.
فإن كان العوض مجهولاً فلا يصح.
إذا?قال "وهبتك هذا الشيء على أن تهبني كذا وكذا وذكر شيئاً مجهولاً، كأن يقول: على أن تقضي لي حاجة أو على أن تعطيني عوضها ولم يذكر هذا العوض، فحينئذ يكون البيع غير صحيح، لأنه بيع في المذهب ومن شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً.
والصحيح ما تقدم وأنه هبة وليس ببيع.
??وعن الإمام أحمد?، ومال إليه أبو الخطاب من الحنابلة?في هذه المسألة ??أنه يعطيه ما يرضيه، فحينئذ تزول الجهالة، وقد تقدم ما يدل عليه من أثر عمر?، وقد قال فيه: " فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها" فإذا رضى منها فهي هبة صحيحة.
قال: [ولا يصح مجهولاً] .
????أي لا يصح أن يكون الموهوب مجهولاً، فإذا قال: "وهبتك الجمل الذي في بطن ناقتي" مثلاً فلا يصح.
ومثله المعدم (2) ، فإذا قال: "وهبتك ثمر السنة القادمة من نخلي". فلا يصح لأنه معدوم??
?ومثله إذا قال "وهبتك العبد الآبق ??فلا يصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه??
قالوا: قياساً على البيع.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب القضاء في الهبة برقم (1436) عن أبي غطفان بن طريف المُرِّي أن عمر بن الخطاب قال: " من وهبَ هبةً لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبةً يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجعُ فيها إذا لم يُرض منها ".
(2) كذا في الأصل.(17/23)
واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك???صحة كون الموهوب مجهولاً وهو اختيار الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل شيخ، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح?في هذه المسألة.
وذلك للفرق بين التبرع والمعاوضة، فإن الهبة هنا عقد تبرع?في الأصل وإن وقع فيها في بعض صورها المعاوضة لكنها في الأصل عقد تبرع.
والبيع عقد معاوضة، ويُغتفر?في عقود التبرعات ما لا يُغتفر في عقود المعاوضات؛ وذلك لعدم الضرر إذ لا غرر.
فقد بذل له هذا الشيء بلا عوض، فإن حصل له على الصفة التي يريدها وإلا لم يضره هذا الشيء?، وهذا هو القول الراجح.
قال: [إلا ما تعذر علمه] .
??إن تعذر علم الشيء فهبته جائزة، كالصلح.
قالوا: وذلك فيما إذا كان الشيء غير متميز، فملكه لا يتميز عن ملك غيره، فوهب أحد المالكين نصيبه للآخر، فإذا اختلط زيته بزيت غيره على وجه لا يتميز به فلكل واحد منهما أن يهب نصيبه للآخر للحاجة.
والصحيح ما تقدم وأن هبة المجهول صحيحة مطلقاً في هذه الصورة وغيرها.
قال: [وتنعقد بالإيجاب والقبول] .
أي أن يقول: وهبتك?، ويقول الموهوب له???قبلت، ونحو ذلك من الألفاظ.
قال: [وبالمعاطاة الدالة عليها] .
??فإذا دفع له الشيء وقبله الآخر فعلاً على وجه المعاطاة الدالة على الهبة فكذلك.
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?وأصحابه كانوا يهدون ويُهدى إليهم وكان سبيلهم في ذلك المعاطاة فلم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول ولو كان شرطاً لنقل نقلاً بيناً، وهذا ظاهر.
إذن تثبت الهبة بكل قول أو فعلٍ يدل عليها.
قال:???وتلزم بالقبض] .
???إذن: الهبة تنعقد بالقول الدال عليها أو الفعل الدال عليها ولا تلزم إلا بالقبض.
فإذا قال: "وهبتك داري" ولم يخل بينه وبينها، أو قال:" وهبتك هذا الطعام" ولم يقبضه إياه، فإن الهبة لا تلزم ?(17/24)
ودليل هذا???ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال???يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) ? (1) ، فذكر الإمضاء وهو الإقباض.
ولما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح?، أن أبا بكر قال لعائشة: ??إني كنت قد نحلتك عشرين وسْقاً ولو أنك جددتيه أو حزتيه لكان لك وإنما هو مال وارث) ? (2) ??
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) قال: " حدثنا هَدَّابُ بن خالد، حدثنا همَّامٌ، حدثنا قتادة، عن مُطَرَّف عن أبيه قال: أتبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبلَيْتَ، أو تصدقتَ فأمْضيْتَ ". ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة (2959) بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وماسوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، باب ما لا يجوز من النحل من كتاب الأقضية (1434) ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها.. قال: والله يا بنية ما مِنَ الناس أحدٌ أحب … وإني كنت نحلتك جادَّ عشرين وسقاً، فلو كنت جدَدْتيه واحتزْتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث.. "، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه [9 / 101) رقم (16507) باب النحل من كتاب الوصايا.(17/25)
وهو قول عمر كما في مصنف عبد الرزاق (1) ، وذكره المروذي من أصحاب أحمد عن الخلفاء الأربعة??
وقال الظاهرية??بل تلزم بمجرد القول أو الفعل الدال عليها، لقوله?- صلى الله عليه وسلم -???ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه??? (2) ?متفق عليه.
والجواب: أن هذا حديث عام ويخصص بما ثبت عن الصحابة كما تقدم?،?فيدل على أن المراد به ما يكون بعد القبض، وأن الراجع فيه كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه وهو مثل سوءٍ ليس للمؤمنين فدل على التحريم.
قال: [بإذن واهب] .
فلابد من إذن الواهب في القبض؛ وذلك لأن القبض بلا إذنه تفويت لحقه في الرجوع??
?وهل تكون ملكاً للموهوب له قبل قبضها أو تكون ملكاً للواهب؟
قولان في المذهب:
المشهور في المذهب???أنها ملك للموهوب له، فالنماء له؛ لأن الضمان عليه فالنماء له.
والقول الثاني في المذهب???أنها ملك للواهب، وهذا القول هو الراجح?؛ لأن من أركانها القبض ولم يثبت القبض ?
ولأن الموهوب?له لا يضمنها لأنها ليست تحت يده، وعليه فالخراج ليس للموهوب?له؛ لأن الضمان ليس عليه ??فالصحيح أنها ملك للواهب حتى يقبضها الموهوب?له، فعليه النماء يكون للواهب ??وعليه فإذا وجد القبض علمنا أنها للموهوب?? (3) ??
قال: [إلا ما كان في يد متهب] .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الوصايا، باب النحل (16509) قا ل عبد الرزاق: " عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: أخبرني المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: ما بال أقوام ينحلون أبناءهم، فإذا مات الابن قال الأب: مالي، وفي يدي، وإذا مات الأب قال: قد كن نحلت ابني كذا وكذا، لا نحل إلا لمن حازه وقبضه عن أبيه " وأخرجه البيهقي بمعناه.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2622) .، وأخرجه مسلم (1622) .
(3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل.(17/26)
المتهب هو الموهوب له.???
رجل وضع وديعة عند آخر ثم قال?له: ??هي لك"، فحينئذ لا نقول يلزم القبض؛ لأنها عنده?، فالقبض مُستدام فلم يشترط ابتداء قبض.
قال: [ووارث الواهب يقوم مقامه] .
??فله حق الرجوع.
إذا وهب زيد هبةً لعمرو، ولم يقبضها عمرو، ثم مات زيد فهل لابن زيدٍ وهو بكر مثلاً أن يرجع فيها?؟
الجواب??له أن يرجع فيها.
وذلك لأنهم ورثة لحقوقه وهذا حق من حقوقه فورث كسائر حقوقه.
وتبطل الهبة بموت المتهب أي الموهوب له"
إذا وهب زيد لعمرو هبةً فمات عمرو قبل أن يقبضها، فالهبة تبطل وذلك لعدم القبض.
وإن?قبضها رسوله أو وكيله فهو قبض.
مثال ذلك???إذا أعطى زيد رسول عمرو أو وكيل عمرو، أعطاه هديةً فمات عمرو قبل أن يصل إليه رسوله أو وكيله فهي ملك له لأن قبض رسوله وقبض وكيله يقوم مقام قبضه هو.
قال: [ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها?برئت ذمته ولو لم يقبل] .
???في ذمة زيد لعمرو عشرة آلاف ريال، فقال عمرو قد أبرأت ذمتك من هذا الدين، فلا يشترط القبول من الغريم?المدين، بل تبرأ ذمته، ولو لم يقبل، هذا هو المشهور في المذهب?
والقول الثاني في هذه المسألة وهو اختيار الشيخ ابن سعدي وهو قول في المذهب???أنه لا يجبر على القبول?؛?وذلك لأن في إجباره على القبول إجباراً على أن يكون تحت منَّة غيره ?
وأيضاً هذه هبة ديون وأوصاف فأشبهت هبة الأعيان، فكما أنه إذا أهدى له عيناً فيشترط قبوله لها ولا تدخل في ملكه إلا أن يرضى بذلك?، فكذلك في هبة الديون إذا لا فرق وهو الراجح?
وأما الحنابلة فقالوا: هو إسقاط حق فلم يفتقر إلى قبول، وهذا تعليل ضعيف.
فالراجح أنه يفتقر إلى قبول، وذلك لئلا يجبر على أن يكون تحت منَّةِ?غيره، ولأنه لا فرق بين هبة الأعيان وبين هبة الأوصاف والديون.
قال: [وتجوز هبة كل عين تباع وكلب يقتنى] .(17/27)
فكل عين يصح بيعها تجوز هبتها، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته كأم الولد والوقف ونحو ذلك.
هذا إذا كان النهي عن بيعه للنهي عن نقل اليد عنه كأم الولد هنا ?
وأما إذا كان لمعنى آخر وهو عدم ماليته فلا، ولذا قال المؤلف "وكلب يقتنى" فالكلب الذي يقتنى لا يباع لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم -?عن بيعه وهذا ليس للنهي عن نقل اليد عنه وإنما لعدم ماليته فصحت هبته?،?وهو اختيار الموفق?
??والقول الثاني في المذهب??أن هبة الكلب لا تصح، وهو ضعيف؛ قالوا: كالبيع فكما أن البيع لا يصح فكذلك الهبة، وهذا ضعيف؛ وذلك لأن النهي عن بيع الكلب ونحوه لعدم ماليته لا لئلا ينقل عن اليد?، بخلاف النهي عن بيع أم الولد ونحوها فالنهي لئلا تنتقل عن اليد.
مسألة:
إذا وهب هبة معلقةً كأن يقول: "وهبتك هذه الدار إن جاء زيد أو إن دخل شهر رمضان" أو نحو ذلك.
أو وهبه هبة مؤقتة كأن يقول: "وهبتك هذه الدار سنةً أو نحو ذلك???
??فمذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء، ولم يذكر الحنابلة خلافاً في هذه المسألة ??أن هذا لا يجوز ولا تصح الهبة.
لأن الهبة تراد للتمليك كالبيع، وإذا كانت معلقة أو مؤقتة فهذا ينافي تمليكها المؤبد.
??وقال ابن القيم??بل يصح تعليقها وتوقيتها، وذلك جائز؛ لأنه شرط?له، والأصل في الشروط الصحة ولا دليل يمنع من ذلك وهذا فيه قوة، ويأتي ما يدل عليه في المسألة الآتية.
مسألة:
العُمرى?والرُقبى ?
العمُرى ??أن يقول???أعمرتك هذه الدار يعني ملكتك إياها عمرك، أو يقول: لك هذه الدار ما عشتَ أو ما حييتَ أو ما عشتُ أو ما حييتُ.
وأما الرقبى ??أن يقول أرقبتك هذه الدار فإن مت قبلي فهي لي وإن مت قبلك فهي لك.(17/28)
والمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور???أن الرقبي والعمري تكون للموهوب?له ولورثته مطلقاً، أي سواء قال "هذه الدار لك عمرك ولعقبك" أو قال: "هذه الدار لك عمرك" أو قال: "هذه الدار لك ما عشتَ ??أو قال: "?أعمرتك هذه الدار أو أرقبتك هذه الدار.
فلها ثلاث حالات:
??الحالة الأولى??أن ينص على أنها تكون لعقبه من بعده فيقول: "?أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك من بعدك" فلا خلاف بين أهل العلم على أنه يملكها ملكاً مستقراً لا ترجع بعده للمعمِر المتبرع.
- الحالة الثانية??أن يطلق فيقول: "أعمرتك هذه الدار ??ولا ينص على: "ما عشتُ" ونحو ذلك.
فالجمهور???على أنها لا ترجع إليه أيضاً وهو الراجح?
وقال المالكية???بل ترجع إليه?؛?وذلك لأن لفظ العمرى?يدل على الشرط والمسلمون عل شروطهم، فكأنه قال: "هي لك عمرك?أو هي لك ما حييت".
??الحالة الثالثة??أن ينصّ على الشرط فيقول: "?أعمرتك هذه الدار ما عشتَ أو ما حييتَ أو ما بقيتَ أو ما عشتُ وما بقيتُ ونحو ذلك ?
فمذهب الجمهور???أنها تكون للموهوب له ولعقبه من بعده.
ومذهب مالك???أن الشرط هنا معتبر فترجع إلى صاحبها وهو اختيار شيخ الإسلام?، وهو اختيار الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
فقالوا: الشرط هنا معتبر لأن المسلمين على شروطهم.(17/29)
فالجمهور استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -?في المتفق عليه ????العمري لمن وهبته?له) ? (1) ?قالوا: ولقوله - صلى الله عليه وسلم -?في مسلم من حديث جابر: ??أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإن من أرقب شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لمن أعمره حياً وميتاً?ولعقبه ?? (2) ?، قالوا: فدل على أنها تكون للمعمَر ولا ترجع للمعمِر، وتكون للمعَمَر ولورثته من بعده.
وأما من قال بأنها مع الشرط ترجع إلى المعمِر: فلما ثبت في مسلم من قول جابر: قال: "?إنما العمري التي?أجازها النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن يقول ??هي لك ولعقبك من بعدك، وأما إن قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها???وهذا يقوي ما ذهب إليه الإمام مالك في هذه المسألة.
وهذا يقوي ما ذهب إليه ابن القيم في المسألة المتقدمة من صحة الهبة المؤقتة ومثلها من باب أولى المعلقة.
فالصحيح??أن العمرى?تكون للموهوب?له ولورثته من بعده سواء قال "العمرى لك ولعقبك من بعدك" أو قال "هي عمرى لك" ولم يشترط??
?أما إن اشترط فإنها تكون للمعمَر ما بقي حياً فإذا مات فإنها ترجع إلى معمِرها??
??ويقوي قول الجمهور أن الرقبى لا تكون إلا بشرط?? (3) ?
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث عشر بعد الثلاثمئة
(يوم السبت: 10 / 7 / 1416)
"فصل"
قال: [ويجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم] .
يجب على الوالد أباً كان أم أماً التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب ما قيل في العمرى.. من كتاب الهبة، ومسلم في باب العمرى، من كتاب الهبات، وأخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد 3 / 304، 393. المغني [8 / 283] .
(2) أخرجه مسلم في باب العمرى من كتاب الهبات، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد، المغني [8 / 183] .
(3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل.(17/30)
فيجب على الأب والأم أن يعدلوا بين أولادهم في أصل العطية وقدرها فلا يختص أحد الأولاد بعطية دون بقيتهم.
وذلك لما ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?فقال:??إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -??أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -???اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ? (1) ?قال النعمان: "?فرجع أبي فرد تلك الصدقة???
وفي رواية في الصحيحين: " إني لا أشهد على جور " وفي مسلم: " أشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن ".
فقوله: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم: "يدل على وجوب العدل بين الأولاد، وقوله: "إني لا أشهد على جور" يدل على أن تركه جور، والجور محرم على فاعله ومحرم أيضاً على المعطي تناوله هذا هو المشهور في المذهب.
- وقال الجمهور باستحباب العدل بين الأولاد في العطية واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أشهد على هذا غيري) ?
وهذا استدلال ضعيف?، فإن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -?التهكم أو التهديد والتخويف بدليل قوله: "لا أشهد على جور?، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة?من وجوب ذلك، وأن التعديل بينهم يكون بقدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد، وباب الإشهاد في الهبة (2586) ، (2587) ، وأخرجه مسلم (1623) .(17/31)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -?في رواية للنسائي، من حديث النعمان: "ألا سويت بينهم"، فإنه لا يدل على التسوية بين الذكر والأنثى، بل المراد التسوية في أصل العطية، أي ألا سويت بينهم في أصل العطية فأعطيت هذا كما أعطيت هذا، لا في قدر العطية، ويحتمل أنه ليس له إلا ذكور?–?أي بشير - ?والعدل بين الأولاد في العطية ينفي الحسد والعداوة التي قد تقع بين الأولاد، فإن عدم العدل بينهم مظنة?الحسد والعداوة بينهم.
كما هو مظنة العقوق لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -???أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء) .
وظاهر كلام المؤلف وجوب التسوية بين الأولاد إلا إذا كان أحدهم ذكراً والآخر أنثى فيعطى الذكر مثل ما?للأنثيين????ظاهر كلامه هذا ??ولو كان هناك معنى يقتضي التخصيص كأن يكون بعض ولده فيه زمانة?أو عمى أو له اشتغال بعلم أو دعوةٍ أو غير ذلك تقتضي تخصيصه بالعطية، هذا ظاهر كلام المؤلف وهو أحد القولين في المذهب?
??وعن الإمام أحمد??أنه إذا كان هناك معنى يختص به أحدٌ?منهم فيجوز أن يفضَّل في العطية?،?وهو الراجح، وقد رجحه الموفق، وذلك قياساً على تفضيل الذكر على الأنثى فإن الذكر إنما فُضل على الأنثى لمعنى يختص به، فإذا كان في بعض بنيه معنى يختص بالتفضيل كأن يكون فقيراً أو مريضاً زمناً أو غير ذلك فإنه يجوز تخصيصه بالعطية وتفضيله.
والناظر في واقعة هذه المسألة يرى أن تخصيص الفقير أو الأنثى أو الذكر في بعض الشؤون لا ينافي العدل ولا يقتضي الجور فإن الذكر يحتاج من العطايا ما لا تحتاجه الأنثى، والأنثى في جهة أخرى تحتاج من العطايا ما لا يحتاجه الذكر، فمثلاً في واقعنا قد يحتاج الذكر إلى مركب?، والمرأة تحتاج إلى حلي وبين هذا وهذا فارق في الثمن.
وهكذا الفقير قد يحتاج إلى أشياء من حاجياته ولا يحتاج إلى هذا الغنى ولا ينافي هذا العدل ولا يقتضي الجور.
قال: [فإن فضّل بعضهم سوّى?بينهم برجوع أو زيادة] .(17/32)
فإن فضّل بعض أولاده تفضيل جورٍ منهي عنه فإنه يجب عليه أن يسوي بينهم إما بأن يُرجع صدقته وعطيته، وإما أن يعطي الآخر، أو يزيده حتى يسوي بينهم.
إذا أعطى الذكر ولم يعطِ الأنثى شيئاً فنقول: إما أن تأخذ هذه العشرة آلاف فترجع بهبتك، وإما أن تعطي الأنثى خمسة آلاف وإن كان أعطاها ألفاً أو ألفين فنقول: زد حتى تصل إلى خمسة آلاف.
قال: [فإن مات قبله ثبتت] .
وهب الأب ولده هبةً، وكانت هبة جورٍ حيث أنه قد خصّه بها دون باقي أخوته فمات الوالد ولم يرجع عن هذه الهبة فإنها تثبت للولد، وليس لباقي الورثة المطالبة بها، هذا هو المشهور في المذهب.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول طائفة من الحنابلة: أن لهم أن يرجعوا، فللورثة أن يطالبوا بها، وهذا هو الراجح.
وذلك لأن هذه العطية عطية جورٍ وظلم، والظلم محرم على فاعله ومحرم أيضاً تناوله، وهذا قد تناوله جوراً وظلماً فكان لمن له حق أن يطالب به، فأخذ هذا الموهوب له بغير حق فكان للورثة المطالبة به.
وفي قوله: [في عطية أولاده] .
ظاهره أن التعديل الواجب في الولد دون سائر أقاربه كإخوانه أو بني عمه أو نحو ذلك.
وفي المسألة قولان في المذهب.
أشهرهما هذا، وأن التعديل ليس واجباً في سوى الأولاد من سائر الأقارب.
وهذا هو الراجح لأن الأصل هو جواز تصرفه في ماله وإنما استثنى الأولاد لمعنى يختص بهم وهذا المعنى لا يثبت في الأقارب فلم يلحقوا بهم.
قال: [ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة] .
الهبة اللازمة تقدمت وهي الهبة المقبوضة.
فلا يجوز للواهب أن يرجع في هبته التي قبضها المتهب، للحديث المتقدم: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته، كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه" متفق عليه.
وظاهره ولو كان يريد بها الثواب، فإذا وهب هبةً يريد بها الثواب فليس له الرجوع، هذا هو المشهور في المذهب.(17/33)
- وقال المالكية والأحناف: بل له الرجوع فإذا دلّت القرائن أنه يريد بذلك الثواب فله الرجوع إذا لم يثب وهذا هو الراجح وتقدم ما يدل على عليه من قول عمر في موطأ مالك: (من وهب هبةً أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها) ? (1) .
قال: [إلا الأب] .
فالأب يجوز له أن يرجع في هبته لولده.
لما ثبت عند الخمسة، وصححه الترمذي، والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) ? (2) ??
??والمذهب خلافاً للشيخ لكافر الوالد أن يرجع بما وهب ابنه الذي أسلم بعد أن يرجع في هبته لولده?? (3) ??
فللوالد الأب لقوله (لا يحل لرجل مسلم) أني يرجع في هبته لولده.
قال الحنابلة??فإذا كانت الهبة قد زادت زيادة متصلة، كأن يعطيه من صغار الغنم أو الإبل فتنمو، ففيها زيادة متصلة قالوا: فليس للأب الرجوع لهذه الزيادة المتصلة.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة (3539) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع - حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوووس عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجلٍ أن يُعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يُعطي ولده، ومثلُ الذي يُعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قام ثم عاد في قيئه) ، وأخرجه الترمذي في الولاء والهبة حديث 2133، باب في كراهية الرجوع في الهبة، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الهبة حديث 3720، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولد، وابن ماجه في الهبات حديث 2377، باب أعطى ولده ثم رجع فيه، سنن أبي داود [3 / 810] .
(3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل، ولعلها من بعض طلبة الشيخ حفظه الله تعالى، وستأتي هذه المسألة في صْ 33.(17/34)
وهذا ضعيف لعموم الحديث المتقدم، ولما سيأتي تقريره من قوله - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك?? (1) ?
والذي يتبيَّن لي أن هذه المسألة نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) ?فالأب?له أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشروطهم التي سيأتي ذكرها، ولذا جاز له الرجوع في هبته.
لأنه إذا جاز له أن يأخذ من مال ولده ما هو مال للولد أصلاً فأولى من ذلك أن يرجع في هبته.
إذن: المشهور في المذهب: أنه إذا زادت الهبة زيادة متصلة فليس للأب الرجوع.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار عبد الرحمن بن سعدي: أنه يجوز الرجوع وهو الراجح لقوله - صلى الله عليه وسلم -???إلا الوالد) وهذا عام سواء كان فيها زيادة متصلة أم لم يكن فيها زيادة متصلة.
قال: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] .
له أي للأب، أن يأخذ من مال ولده، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) ?رواه ابن ماجه والحديث صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3530) قال: " حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي مالاًَ وولداً، وإن والدي يجتاح مالي، قال: (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم) ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات حديث 2292، باب ما للرجل من مال والده، وأخرج ابن ماجه عن جابر برقم 2291: (أنت ومالك لأبيك) ورجال إسناده ثقات.(17/35)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -???أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) ? (1) ?
رواه الخمسة بإسناد صحيح.
ولقوله تعالى: {?ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم?} ? (2) ?
ولم يذكر بيوت الأبناء فهم داخلون في بيوت الأب
فللأب أن يمتلك من مال ولده ما شاء بالشروط الآتي ذكرها??
?ويشترط?في الأب: أن يكون حراً، فإن كان عبداً فليس?له أن يتملك من مال ولده؛ وذلك لأن مال العبد مال لسيده، فإنه حينئذ يخرج من ملكية الولد لا إلى ملكية الوالد بل إلى ملكية سيده.
فاشترط أن يكون الأب حراً.
ويشترط أن يكون الأب مسلماً كما قرره شيخ الإسلام وصّوبه صاحب الإنصاف.
وكذلك- الأشبه كما قال شيخ الإسلام فيما إذا كان الولد كافراً فيشترط أن يكون الأب كافراً كالإرث فلا إرث مع اختلاف الدين فكذلك في هذه المسألة.
??وجواز الأخذ خاص بالأب فلا يدخل في ذلك الجد ولا الأم?؛?لأن هذا الحكم خلاف الأصل، فإن الأصل أنه لا يخرج من ملك الآدمي شيء إلا بطيب نفس منه فاستثني?الأب ولا يستثنى الجد ولا الأم وليسا ?في معنى الأب?، فإن الأب أكمل شفقة من الجد وأحسن تصرفاً من الأم.
[ما لا يضره ولا يحتاجه]
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3528) قال: " حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عمارة بن عُمير، عن عمته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حِجْري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولدُهُ من كسبه) ، وأخرجه الترمذي في الأحكام حديث (1358) باب الوالد يأخذ من مال ولده، والنسائي في البيوع حديث 4454 باب الحث على الكسب، وابن ماجه في أول كتاب التجارات حديث 2137 باب الحث على المكاسب، سنن أبي داود [3 / 800] .
(2) أواخر سورة النور.(17/36)
هذا هو الشرط الأول، وهو أن لا يضر هذا الأخذ بالولد، فللأب أن يأخذ من ولده ما شاء سواء كان الأب غنياً أو فقيراً وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى كبيراً بالغاً رشيداً، أو غير ذلك، بشرط ألاّ يضر به ولا يجحف.
وبشرط آخر - ويحسن أن يدخل في الشرط الأول - ألاّ يحتاج إليه فما كان من حاجياته كمسكنه وملبسه وخادمه ومركبه ونحو ذلك من حاجياته فلا، لما في ذلك من الحرج.
والشرط الثالث: أن لا يأخذ منه فيعطي ولداً آخر إعطاءً ينافي العدل، لأنه إذا وجب عليه التعديل في ماله هو، فأولى من ذلك أن يجب التعديل في المال الذي يأخذه من ولده.
الشرط الربع: ألا يكون في مرضه المخوف لا الأب ولا الابن لانعقاد الإرث حينئذ، ويأتي الكلام عليه في الوصايا.
قال: [فإن تصرف في ماله ولو فيما وهبه له ببيع أو عتق أو إبراء.. لم يصح] .
إذا تصرف الوالد في مال ولده، ولو فيما وهبه الوالد لولده إذا تصرف به ببيع، أو تصدق به أو وهبه لأحد من الناس أو أعتقه كأن يعتق عبد ولده، أو تصرف فيه بإبراء كان يبرئ غريم ولده من دين ولده،
أو أراد أخذ هذه الهبة التي وهبها لولده قبل رجوعه أي قبل قوله رجعت عن الهبة، أو تملكه بالقول كأن يقول: هو لي، أو نية: بأن ينوي أن يتملك هذا الشيء، وقبضٍ معتبر لم يصح هذا التصرف.
صورة هذه المسألة: لو أن رجلاً باع شيئاً من ملك ولده كأن يبيع عبده أو راحلته أو داره أو أن يعتق عبده، أو يهب شيئاً من ماله يتصرف به الأب قبل أن يتملكه بأن يقول: هو ملك لي، ويقبضه من ولده قبضاً معتبراً، فلابد مع القول من قبض، وكذلك لابد مع النية من قبضٍ.
فإذا تصرف قبل تملكه أو رجوعه من الهبة فتصرفه باطل، فبيعه باطل، وعتقه باطل، وهبته باطلة، وإبراؤه كذلك.
إذن: ليس للوالد أن يتصرف في مال ولده حتى يقبضه تملكاً.
أي قبضه مع قول يدل على الملك أو نية الملك فحينئذ له أن يتصرف فيه وإلا فتصرفه باطل.(17/37)
وذلك لأنه ملك للولد فلا يصح أن يتصرف فيه الوالد حتى يثبت ما يدل على ملكيته له بقول أو نية مع القبض، أو رجوع في الهبة هذا هو المشهور في المذهب.
- وعن الإمام أحمد: أنه يصح، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في هذه المسألة؛ لأن تصرفه فيه ببيع أو عقد أو إبراء ونحو ذلك متضمن للتملك وقد قال - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) .
وإذا قلنا: قد تصرف في غير ملكه فقد نافينا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك?لأبيك) ?فهذا الحديث يدل على أنه ملك للأب، وهذا كله مع توفر الشروط المتقدمة.
لكن إن كان تصرفاً يضر بالولد أو فيما يحتاج إليه الولد فحينئذ التصرف باطل أو موقوف على الإجازة.
قال: [بل بعده] .
???أي بعد القول أو النية مع القبض المعتبر، أو الرجوع في الهبة.
قال: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه] .
ليس للابن أن يطالب أباه بدين ولا نحوه كإرش جنايةٍ ولا غير ذلك مما يكون في ذمة الوالد.
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال???أنت ومالك لأبيك) .
وقال الجمهور: بل له أن يطالبه؛ لأنه دين ثابت فكان كدين الأجنبي.
والجمهور لا يرون العمل بحديث (أنت ومالك لأبيك) بل هو من مفردات المذهب والأحاديث حجة عليهم.
وقال بعض الحنابلة: ويحتمل أن له المطالبة مع غنى الوالد وحاجة الولد.
وهذا هو الراجح وأنه ليس له أن يطالب والده، إلا أن يكون الوالد غنياً وهو محتاج؛ وذلك لأن الوالد ليس له أن يتملك حينئذ فكان له أن يطالبه كالدين الثابت.
وهل له أن يرجع إلى التركة بعد وفاة الوالد أم لا؟
الجواب: نعم له أن يرجع هذا هو المشهور في المذهب؛ لأنه دين ثابت فكان كدين الأجنبي.
لكن إن أخذه الوالد تملكاً فلا، أو أسقطه الوالد وله الإسقاط فكذلك لقوله "أنت ومالك لأبيك".
إذن: له أن يرجع إلى تركة أبيه إلا أن يكون الوالد قد أخذه تملكاً فحينئذ يكون قد خرج من ملكيته.(17/38)
ومثل ذلك لو أسقطه الوالد من ذمته وقال: لا شيء لك في ذمتي، وكان الولد غنياً عنه ليس مضطراً ولا محتاجاً إليه وتوفرت الشروط في تملك الوالد، فله أن يسقطه.
قال: [إلا بنفقته الواجبة (عليه فإن له مطالبته بها) (1) ] .
حيث كان الولد (2) عاجزاً عن التكسب فإن له مطالبة والده بالنفقة الواجبة.
قال: [وحبسه عليها] .
فللولد إن وصل الأمر إلى حبس الوالد حتى يعطيه النفقة الواجبة فله ذلك، هذا من باب حفظ النفس؛ لأنه قائم بهذه النفقة الواجبة فحياته قائمة بذلك، فهو حق واجب له.
مسألة:
إن أهدي للشخص هدية أو تُصدق عليه بصدقة فأحكامها كأحكام الهبة تماماً.
مسألة:
فإن وهب له هبةً ولها وعاء فهل يدخل وعاؤها فيها أم لا؟
إذا أهدى إليه تمراً في إناء، أو طعاماً في إناء، فهل يدخل الإناء في الهدية أم لا؟
الجواب: مرجع ذلك إلى العرف، فإن كان العرف يدل على هذا دخل في الهدية وإلا فإنه لا يدخل فيها.
الدرس الرابع عشر بعد الثلاثمئة
(12 / 7 / 1416 هـ)
"فصل في تصرفات المريض"
تقدم أن الهبة في مرض الموت تسمى عطية في اصطلاح الفقهاء.
قال: [من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع (يسير) (3) ] .
المرض المخوف: هو المرض الذي يخشى معه الموت، ومرجع هذا إلى العادة أو إلى قول طبيبين ذوي خبرة مسلمين ثقتين، ولا يشترط أن يكون ظن الموت غالباً في المرض ولا أن يكون ظن الموت مساوياً لرجاء سلامته بل متى ما كان يخشى معه الموت كثيراً فإنه مرض مخوف (أي ما يكثر حصول الموت منه كما في الاختيارات) (4) .
قال: [فتصرفه لازم كالصحيح (ولو مات منه) (5) ] .
__________
(1) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل.
(2) في الأصل: الوالد، وهو خطأ.
(3) هذه الكلمة في المطبوع دون الأصل.
(4) هذه العبارة ليست في الأصل، وإنما في المطبوع فقط.
(5) ليست في الأصل.(17/39)
(1) فإذا وهب مضت هبته على ما وهب، فتصرفاته نافذة صحيحة (2) .
قال: [وإن كان مخوفاً كبرسام] .
البِرْسام: مرض من الأمراض المخوفة قالوا: أن يتبخّر من الباطن أو نحوه بخارٌ فيفسد الدماغ، ولا أدري ما تسميته عند المعاصرين.
قال: [وذات الجنب] .
ذات الجنب: مرض يصاب به الجنب من الباطن بقروح.
قال: [ووجع قلبٍ ودوام قيام] .
أي دوام قيام إلى خلاء بإسهال مزمن ممرض.
قال: [ورعاف دائم، وأول فالج] .
الفالج: مرض يصيب البدن فيرتخي بعض أطرافه، فلا تتحرك هذه الأطراف.
وهو أشبه ما يسمى عندنا بـ"الجلطة".
قال: [وآخر سلٍ] .
السل: قروح تصيب الرئة.
قال: [والحمى المطبقة والرِبْع] .
الحمى المطبقة: أي المستمرة، والحمى معروفة وهي حرارة تكون في البدن.
"والربْع" أي الحمى الربع وهي أن تصيبه يوماً ثم تتركه يومين ثم تعود إليه في اليوم الرابع.
وهذه أمثلة وإلا فالمرجع في ذلك إلى ما يراه الناس في العادة أنه مرض مخوف.
قال: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان إنه مخوف] .
فما قال طبيبان مسلمان عدلان إنه مرض مخوف، وذلك لما يترتب على ذلك من حق الوارث وحق المعْطى فاشترط أن يكونا طبيبين ثقتين مسلمين.
- والقول الثاني في المذهب، وهو ظاهر قول الخرقي: أن قول الطبيب الواحد يقبل مع العدم.
ويستدل له: بما روى الإمام أحمد في مسنده وغيره أن عمر لما جُرح سقاه الطبيب لبناً فخرف من جرحه فقال: اعهد إلى الناس فعهد" (3) .
ولو قيل بقبول خبر طبيب واحدٍ ثقة حيث لم يعارضه غيره لكان قوياً، والله أعلم.
قال: [ومن وقع الطاعون في بلده] .
فإذا وقع الطاعون في بلدٍ، فوقوعه فيها مخوف فيخشى معه التلف فيكون له حكم المرض المخوف.
__________
(1) هنا في الأصل عبارة وهي: " فالمريض مرضاً غير مخوف تصرفه كتصرف الصحيح ".
(2) في الأصل: " كالصحيح " بدل: صحيحة.
(3) أخرجه الإمام أحمد …(17/40)
وقد اتفق العلماء على أن هبة المريض مرضاً مخوفاً متصلاً بالموت أن حكم هبته كالوصية، وسيأتي إيضاح هذا.
قال: [ومن أخذها الطلق] .
أي المرأة يأخذها الطلق.
قال: [لا يلزم تبرعه لوارث بشيء] .
فالمريض مرضاً مخوفاً أو من وقع في بلده الطاعون أو من كان عند التحام الصف والعدو يُخاف ونحوهم فهبته تكون في حكم الوصية.
فإن كانت لوراث فلا يلزم هذا التبرع لقوله - صلى الله عليه وسلم -???لا وصية لوارث) ? (1) ،?وهنا كما تقدم حكم الهبة كحكم الوصية.
قال: [ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها إن مات منه] .
فإذا وهب نصف ماله مثلاً لأجنبي في مرضه المخوف، فإذا مات الواهب، فلا يُعطى هذا الأجنبي نصف المال الذي وهبه إياه في مرض الموت بل يُعطى الثلث لقوله - صلى الله عليه وسلم -???الثلث والثلث كثير) ? (2) ?
إلا أن يجيز هذا الورثة، فإذا رضي الورثة بذلك فإن هذا إسقاط لحقهم، فإنه إنما يمنع لحق الورثة، فإذا أجاز ذلك الورثة فقد أسقطوا حقهم.
قال: [وإن عوفي فكصحيح] .
إذا عوفي هذا المريض مرضاً مخوفاً فإن هذه الهبات تلزم من جميع المال؛ وذلك لفقدان الشرط الآخر وهو أن يكون هذا المرض قد اتصل به الموت، وهنا لم يتصل به الموت لأنه لما لم يمت به فهذا يدل على أنه ليس مرض الموت.
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب ما جاء في الوصية لوارث من كتاب البيوع، والترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث، والنسائي وابن ماجه الدارمي والإمام أحمد، المغني [8 / 390] .
(2) أخرجه البخاري في باب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا، ومسلم باب الوصية بالثلث من كتاب الوصية، كما أخرجه النسائي في باب الوصية بالثلث وابن ماجه والإمام أحمد، المغني [8 / 393](17/41)
ودليل ما اتفق عليه أهل العلم من أن المرض المخوف الذي يتصل به الموت له حكم الوصية، ما ثبت في مسلم: أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرضه ولا مال له غيرهم فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -?وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة? (1) ?وهذا في العتق فكذلك الهبة.
قال: [ومن امتدَّ?مرضه بجذام أو سلٍ أو فالجٍ ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله] .
الجذام: مرض تتساقط به الأعضاء.
فإذا امتد به هذا المرض المخوف ولم يقعده على فراشه فإن ما يهبه من الهبات تكون من جميع المال لا من الثلث.
إذن: له حكم تصرف الصحيح.
أما إذا أقعده في فراشه فليس له حكم تصرف الصحيح بل له الحكم المتقدم فيكون له حكم الوصية، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد?
??القول الثاني?،?وهو رواية عن الإمام أحمد وهو وجه في المذهب???أنه له حكم الوصية أيضاً وإن لمم يقعده على فراشه، وهذا هو القول الراجح?
إذ عدم قعوده في الفراش ليس بمؤثر مع أن هذا المرض مخوف، وعدم قعوده على الفراش مع أن هذا المرض بطبيعته مرض مخوف يخشى أن يتعجل معه الموت لا يكون مؤثراً.
قال: [والعكس بالعكس] .
??أي إذا كان يقطعه بفراشٍ فتصرفاته كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً أي في حكم الوصية.
قال: [ويعتبر الثلث عند موته] .
فيعتبر الثلث عند موته لا حال هبته وعطيته.
رجل يملك تسعين ألفاً وهو في مرض مخوف فأعطى رجلاً ثلاثين ألفاً أي هبة، فهي ثلث ماله حال العطية، ثم أنفق على نفسه من المال فبقى له عند موته ستون ألفاً، فأصبحت الثلاثون ألفاً نصف ماله.
فالحكم: أنه يعتبر الثلث عند موته؛ وذلك لأن هذا هو زمن استحقاق الوصية ولزومها، فكذلك الهبة.
__________
(1) أخرجه مسلم في باب من أعتق شركا له في عبد من كتاب الأيمان، وأبو داود باب في من أعتق عبيدا له.. من كتاب العتق، والترمذي والنسائي، والإمام مالك مرسلا، والإمام أحمد، المغني [8 / 395] .(17/42)
وإذا أعتق عبداً في مرضه المخوف وليس له سوى هذا العبد، وعند الموت أصبح يملك ثلاثة أعبد فإنه يعتق عليه هذا العبد؛ لأنه ثلث ماله.
ولو وهب رجلاً ثلاثين ألفاً في مرضه المخوف، وعند موته كان عليه ديونه تستغرق هذه الثلاثين فحينئذ تقدم ديونه ولا شيء للمعطى.
إذن: العبرة بحال الموت، فيعتبر الثلث بحال موته لا عند العطية.
قال: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية] .
هنا فوارق بين الوصية والعطية.
الفارق الأول: أنه يُسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، فإذا أوصى لزيدٍ بعشرة آلاف، ثم أوصى لعمرو بعشرةٍ آلاف ومات عن ثلاثين ألفا، فالثلث هو عشرة آلاف، فكل واحد منهما يأخذ خمسة آلاف فيسوى بين المتقدم والمتأخر.
وذلك لأن الوصية تبرع بعد الموت، فهو تبرع مشروط بالموت، والموت يحصل دفعةً واحدةً فاستويا ولم يسبق أحدهما الآخر في الملكية.
وأما العطية فيقدم الأول فالأول:
فإذا وهب زيداً عشرة آلاف، في مرضه المخوف، ثم وهب عمراً عشرة آلاف، ثم مات وترك ثلاثين ألفاً، فالثلث عشرة آلاف نعطيها زيداً ولا يكون لعمرو شيئاً، لأن الأول يُقدم.
وهذا الفارق بينهما علته: أن العطية لازمة بخلاف الوصية فإنها جائزة ولا تلزم إلا بالموت، ففي العطية يكون ملك زيدٍ سابق لملك عمرو.
قال: [ولا يملك الرجوع فيها] .
هذا فارق آخر بين العطية والوصية، هو أن العطية لا يملك الرجوع فيها.
فإذا وهب في مرضه المخوف زيداً عشرة آلاف وقبضها زيد فإنه لا يملك الرجوع فيها، لأنها أصبحت لازمة.
وأما الوصية فيملك الرجوع فيها.
فلو أن رجلاً في مرضه المخوف أو قبل ذلك أوصى بثلث ماله ثم بدا له أن يرجع، فله ذلك لأنها لا تلزم إلا بالموت وهذا فارق آخر.
قال: [ويعتبر القبول لها عند وجودها] .(17/43)
فالعطية يعتبر القبول لها عند وجودها، فإذا قال: "وهبتك كذا" فيعتبر القبول عند وجود الهبة، فإذا لم يقبل الموهوب له حينئذ فللآخر أن يرجع عن هبته.
أما الوصية فإن قبولها يكون عند موت الموصي لأنه وقت استحقاقها ولزومها.
وهذا فارق ثالث.
قال: [ويثبت الملك إذن (والوصية بخلاف ذلك) (1) ] .
هذا الفارق الرابع: العطية إذا قبضت فقد ثبت الملك فإنها تصبح ملكاً للمُعطى في أثناء مرضه المخوف، وذلك لأن الهبة تملك في الحال.
وأما الوصية فإنها إنما تملك بعد الموت.
فإذا قال: "أعطيتك يا زيد عشرة آلاف" وهو في مرضه المخوف، فقال زيد: قبلت" وقبضها فأصبحت ملكاً لزيد.
لكن يكون هذا المال منتظراً به ومرتقباً فلا يعطى هذا الموهوب له فيتصرف به تصرفاً لا يمكن الورثة أن يردوه، إن شاءوا الرد.
إذن يملكه لكن هذا الملك ملك موقوف.
فإذا شفي الواهب من هذا المرض فإنه يأخذ هذه العشرة آلاف من جميع المال، سواء كانت الثلث أو أكثر.
أما إذا مات من هذا المرض المخوف، فحينئذ ننظر إن كان وارثاً فلا شيء له، لأنه أصبحت بحكم الوصية ولا وصية لوارث.
وإن كان أجنبياً فننظر هل يستغرق الثلث أم لا؟
فإن كان بقدر الثلث أو أقل أعطيناه إياه، وإن كان أكثر من الثلث نظرنا إلى الورثة فإن أجازوا أعطيناه إياه، وإن لم يجيزوا اكتفينا بالثلث.
* والمحاباة في المرض المخوف، في حكم العطية.
فلو حابى وارثه ببيع دار بنصف ثمنها.
فمثلاً: باع على بعض ورثته داره التي تساوي مائة ألف باعها له في مرضه المخوف بخمسين ألفاً فحينئذ ما زاد من هذه الدار فلا بيع فيه بل يثبت البيع فيها بقدر الثمن فحينئذ يكون المبيع هو نصف الدار.
وللمشتري الخيار لتبعيض السلعة عليه، هذا إذا كان وارثاً.
وأما إن لم يكن وارثاً فينظر إلى هذه المحاباة هل هي بقدر الثلث أم لا؟
فإن كانت بقدر الثلث فهي له.
وإن كانت بأكثر من الثلث فينظر فيه إلى إجازة الورثة.
__________
(1) هذه العبارة ليست في الأصل.(17/44)
والحمد لله رب العالمين.
تم كتاب الوقف، ويليه كتاب الوصايا. (1)
__________
(1) تم مراجعة كتاب الوقف على الأصل.(17/45)
" كتاب الوصايا "
الوصايا: جمع وصية وهي التبرع بعد الموت، وقد دل عليها كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم.
أما الكتاب: فقوله تعالى: ((من بعد وصيةٍ يوصى بها أو دين)) .
وأما السنة: فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما حق مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين) (1) .
في مسلم: ثلاثاً، إلا ووصيته مكتوبة عنده.
وقد أجمع أهل العلم على ثبوت الوصية.
والوصية تصح من جائز التصرف، وقد تقدم من هو جائز التصرف في كتاب البيوع.
فجائز التصرف تصح وصيته ما لم يغرغر وتبلغ الروح الحلقوم، لأنه حينئذ لا قول له، ولذا تقبل توبة العبد ما لم يغرغر وهذا باتفاق العلماء.
وقد اتفق العلماء على أن غير العاقل وغير المميز لا تصح وصيتهما.
واختلفوا في وصية الصبي العاقل والسفيه البالغ:
1- فجمهور العلماء على صحة وصيته، كعبادته، فكما تصح عبادته من صلاة ونحوها فكذلك تصح وصيته.
وذلك لأن وصيته نفع محض له لا ضرر عليه فيها، لأن الوصية تكون بعد الموت بخلاف الهبة فإنها تكون في حال الحياة.
وظاهر إطلاق الفقهاء سواء كان مما تستحب الوصية فيه أو مما لا تستحب مثال ما تستحب فيه الوصية، أن يوصي لأقاربه غير الوارثين.
ومثال الوصية غير المستحبة أو المباحة، أن يوصي للأباعد مع وجود الأقارب المحتاجين ظاهر إطلاق الفقهاء أن وصية الصبي تصح مطلقاً سواء كانت على وجهٍ تستحب معه أم لم تكن كذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الوصايا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده، من كتاب الوصايا، صحيح البخاري 4/ 2، ومسلم في كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1249، 1250. المغني [8 / 389] .(18/1)
وقال شيخ الإسلام، وفسّر كلام الأئمة أحمد وغيره من السلف بقوله هذا، قال: "إذا كانت على وجه تستحب فإن وصيته تصح كأن يوصي لأقاربه غير الوارثين، وأما إذا أوصى للبعيد مع وجود القريب المحتاج فلا تمضي وصيته وذلك لأنه قاصر التصرف فاحتاج إلى نظر الشارع كما يحتاج إلى نظر الولي في بيعه وشرائه ونحو ذلك" ا. هـ.
وما ذكره- رحمه الله – ظاهر.
فعلى ذلك وصية الصبي صحيحه بشرط أن تكون على وجه يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام.
2- وذهب الأحناف: إلى أن وصية الصبي لا تصح مطلقاً قياساً على هبته.
وهذا قياس مع الفارق، لأن الهبة في الحياة، والوصية بعد الحياة، فالهبة فيها فوات نفع أو لحوق ضرر، وأما الوصية فهي نفع محض.
وروى مالك في موطئه: أن عمر بن الخطاب، سئل عن غلامٍ من غسان لم يحتلم وورثته في الشام وليس له هاهنا، أي بالمدينة، إلا ابنة عم له فقال رضي الله عنه: "فليوصِ لها" وهو غلام لم يحتلم.
وكتابة الوصية سنة كما تقدم في حديث ابن عمر في قوله: " إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
ويستحب الإشهاد عليها قطعاً للنزاع.
وإذا وجد خط له متضمن لوصية، وأثبتت البينة أن هذا هو خطه كأن يشهد اثنان على أن هذا هو خطه، فإن الوصية تصح.
أو أقرّ الورثة أن هذا هو خط مورثهم فالوصية تصح وتمضي.
ويستحب أن يُصدّر وصيته بما كان السلف يصدرون وصاياهم به، فقد روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: "كانوا يكتبون في صدور وصاياهم" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن يطيعوا الله ورسوله وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
قال: [يسن لمن ترك خيراً- وهو المال الكثير أن يوصي بالخمس] .(18/2)
فالوصية لمن ترك خيراً مستحبة لأنها من الإحسان للناس، والإحسان مستحب.
فإن قيل: ألا تجب لقوله تعالى: ((كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين))
والكتب هو الفرض والإيجاب.
فالجواب: أن هذه الآية منسوخة كما قال هذا ابن عباس ففي البخاري أنه قال: "كان المال للولد" أي الإرث "وللوالدين الوصية فنسخ الله ذلك".
وقوله هناً: "لمن ترك خيراً" وهو المال الكثير في العرف فمن ترك مالاً كثيراً في العرف فيستحب له أن يوصي.
وقال الموفق: "الذي يقوى عندي أن يكون المتروك يفضل عن غنى الورثة وإلا فلا تستجب" (1) واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهذا هو الذي يوافق ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) (2) .
فقد يكون المال كثيراً لكن الورثة كثير بحيث أنهم لا يصيبون غنى بآحادهم فحينئذ تكره الوصية.
" أن يوصي بالخمس " فالمستحب في الوصية أن تكون بالخمس قال ابن عباس، كما في البيهقي بإسناد جيد قال: "الذي يوصي بالخمس أفضل من الذي يوصي بالربع، والذي يوصي بالربع أفضل من الذي يوصي بالثلث".
__________
(1) قال الموفق في المغني: [8 / 392] : " والذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غِنَى الورثة فلا تستحب الوصية ".
(2) أخرجه البخاري في باب رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعيد بن خولة من كتاب الجنائز، وفي باب أن يترك ورثته أغنياء.. وباب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا، وفي … صحيح البخاري 2 / 103، 4 / 3، 4، 5/ 87، 7/ 153، 155، 8/ 99، 187، ومسلم في باب الوصية بالثلث من كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1250، 1252، 1253، وبقية الأربعة، المغني [6 / 37] .(18/3)
وفي البيهقي بإسناد منقطع، أن أبا بكر، أوصى بالخمس وقال: رضيت لنفسي ما رضيه الله لنفسه" يشير إلى قوله تعالى: ((واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)) .
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له: يا رسول الله: إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي فقال: "لا" فقال: أفأتصدق بشطره فقال: "لا" فقال أفأتصدق بثلثه فقال: "الثلث والثلث كثير، فدل على أن الوصية بالثلث خلاف الأولى" إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) .
قال: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي] .
لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الثلث والثلث كثير)
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الدارقطني من حديث معاذ، وفي المسند من حديث أبي الدرداء، وفي ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم) والحديث حسن لغيره.
فله أن يوصي للأجنبي بالثلث فأقل، فإن أوصى بأكثر من الثلث كأن يوصي له بنصف ماله، فإن الموصى له يعطى الثلث وما بقي له فما أوصى به ينظر فيه إلى الورثة فإن أجازوا فذاك وإلا فهو حقهم.
قال: [ولا لوارث بشيء] .
فالوارث لا يوصى له بشيء، لما روى الخمسة إلا النسائي والحديث صحيح متواتر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب ما جاء في الوصية للوارث، من كتاب البيوع سنن أبي داود 2 / 103، والترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث من أبواب الوصايا، عارضة الأحوذي 8 / 275، 278، كما أخرجه النسائي في باب إبطال الوصية للوارث من كتاب الوصايا، المجتبى 6 / 207، وابن ماجه في باب لا وصية لوارث من كتاب الوصايا، سنن ابن ماجه 2 / 905، 906 وغيرهم، المغني [8 / 390] .(18/4)
وحينئذ فإذا أوصى لوارث فإنه يكون موقوفاً على الورثة لأن المقصود منه حفظ حقهم.
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الدارقطني بإسناد حسن، من الحديث المتقدم "إلا أن يشاء الورثة".
ولذا قال: [إلا بإجازة الورثة لهما بعد الموت] .
قوله "لهما" أي للأجنبي وللوارث.
وتكون إجازة الورثة معتبرة بعد الموت لا قبله ولذا قال في الحديث: "إلا أن يشاء الورثة" وهم إنما يكونون ورثة بعد موت مورثهم.
إذن: إن أجازوا الوصية لوارث، أو لأجنبي بما فوق الثلث أجازوا ذلك وهو في مرض الموت، فلهم أن يرجعوا عن هذا بعد موته لقوله: "إلا أن يشاء الورثة".
قال: [فتصح تنفيذاً] .
فتصح إجازتهم تنفيذاً لا ابتداءً.
بمعنى: أنه إذا أوصى له، وهو وارث بكذا من المال فأجازه الورثة، فهذه الإجازة من الورثة تكون تنفيذاً لوصية مورثهم، وإمضاءً لها وليست هبةً مبتدأة منهم فيشترط فيها ما يشترط في الهبات.
لقوله: (إلا أن يشاء الورثة) بعد قوله: "فلا وصية لوارث" أي إلا أن يشاء الورثة الوصية وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وعن الإمام أحمد: أنها هبة مبتدأة، والصحيح ما تقدم فهي وصية منفذة، وعليه فلا يشترط فيها قبض ولا غير ذلك مما يشترط في الهبات.
قال: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] .
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
قال: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له] .
فتجوز الوصية بالكل لمن لا وارث له، وكذلك إذا كان له وارث فله أن يوصي له بما بقي من التركة فلو مات عن زوجته – ولم نقل بالرد عليها كما هو المشهور في المذهب – فقال: أوصي بمالي لزوجتي فحينئذ تأخذ الزوجة التركة كلها فرضاً ووصية وذلك لأن المنع من الزيادة على الثلث لحفظ حق الورثة بدليل قوله: ((إلا أن يشاء الورثة) ولذا إذا أجازوها مضت، فالمقصود حقهم، وحيث لا ورثة فحينئذ لا حق يعارض هذه الوصية.
قال: [وإن لم يف الثلث بالوصية فالنقص بالقسط] .(18/5)
إذا لم يف الثلث بالوصايا فالنقص يلحق الجميع محاصّةً كمسألة الحول (1) في الفرائض، مثاله: إذا أوصى لفلان بعشرة آلاف، ولفلان بعشرة آلاف ولم يترك إرثاً إلا ثلاثين ألفًا، فثلثه عشرة آلاف فحينئذ لكل واحد منهما نصف الثلث وهو خمسة آلاف.
قال: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث صحت والعكس بالعكس] .
إذا أوصى لوارث كأن يوصي لأخيه حيث لا ابن له – أي للموصي – ثم ولد للموصي ولد فإن الأخ يحجب من الإرث فحينئذ تثبت للأخ الوصية، لأنه في حال موت الموصي ليس بوارث والعبرة بحال موته.
"والعكس بالعكس" فلو أوصى لغير وارث كأن يوصي لأخيه وللموصي أبناء فالأخ حين الوصية ليس بوارث ثم مات الأبناء في حياة والدهم فحينئذ أصبح الأخ وارثاً حيث لا حاجب له فحينئذ ليس له نصيب من الوصية لأنه في حالة الموت حيث تستحق الوصية هو وارث ولا وصية لوارث.
إذاً النظر في مسألة الوصية للوارث وغير الوارث معتبرة عند موت الموصي لأنها تبرع بعد الموت.
قال: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] .
القبول للوصية معتبر بعد الموت لأنه هو وقت استحقاق الوصية، فلا عبرة بقبوله قبل موت الموصي.
فإن تراخى – أي لم يتعجل بالقبول – فله بعد ذلك القبول، ويجب أن يقيد هذا بحيث لم يكن تراخيه دليلاً على عدم قبوله – إذن: له أن يتراخى لأنه حق له، فلا يسقط بتراخيه.
فإن مات الموصى له قبل أن يقبل وقبل أن يرد، فهل يرث ورثته ذلك فيكون مقامه أم لا؟
قولان في المذهب:-
القول الأول: أن الوصية تبطل.
والقول الثاني: أنها لا تبطل ويقوم وارثه مقامه، وهذا هو الراجح لأنها حق له فورث كسائر حقوقه.
قوله: [ويثبت الملك به عقب الموت] .
__________
(1) لعلها: العول.(18/6)
يثبت الملك به أي بالقبول، فالضمير يعود إلى القبول، فإذا قبل الموصى له ما وصّي له به يثبت الملك به أي بالقبول أو يفعل ما يدل على القبول (1) ليس بملك له وهو ملك لورثة الموصي فنماؤه المنفصل يكون لهم ونماؤه المتصل على الخلاف المتقدم، والمذهب أنه يكون له.
فإذا أوصى له بكذا وكذا شاة ثم مات وتراخى الموصى له فلم يقبل إلا بعد شهر مثلاً فإن كان من نماء في هذه الشياة فإنه يكون للورثة لا للموصى له لأنه لا يكون ملكاً له إلا بقبوله كسائر العقود فإنها لا تنتقل بها الملكية إلا بالقبول.
قال: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] .
من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد، لأنها بقبولها أصبحت ملكاً له فلا يصح الرد، وحينئذ فإن قبل ذلك الورثة فهي هبة لهم، لأنه لما قبلها أصبحت ملكاً له فإذا ردها فإنها تكون هبة من الهبات.
قال: [ويجوز الرجوع في الوصية] .
إذا كتب رجل وصية ثم قال: الثلث لفلان، ثم بدا له أن يرجع فله أن يرجع اتفاقاً، وقد روى البيهقي – وسكت عنه الحافظ في تلخيص الحبير – أن عمر قال: " يحدث الرجل في وصيته ما شاء" وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو فقدم في حياته فله] .
إذا أوصى لعمرو بوصية ثم قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت لعمرو، فقدم في حياة الموصي فهي لزيد، وذلك لثبوت الشرط.
قال: [وبعدها لعمرو] .
فإذا لم يقدم زيد إلا بعد موت الموصي فإنها تكون لعمرو لا لزيد، لأنه ليس للموصي حق في الوصية بعد الموت، والشرط لم يقع.
قال: [ويخرج الواجب كله من دين وحجٍ وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به..] .
أي يخرجه وصيه ومن بعد ذلك وارثه ومن بعد ذلك الحاكم أي القاضي.
مما يتعلق بماله من الديون لله عز وجل كحج أو زكاة أو كفارة أو نذر وما يتعلق به من الديون للآدميين تخرج من رأس ماله قبل الوصية.
__________
(1) لعل هناك سقط، ويستقيم المعنى بأن يقال: أما إذا لم يقبل فإنه ".(18/7)
لقوله تعالى: ((من بعد وصية يوصى بها أو دين)) .
وفي الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالدين قبل الوصية) .
فهذه الحقوق تخرج من ماله، ولو لم يوص بها لأنها حقوق لهم ثابتة.
لكن إن خشي أن تضيع عليهم حقوقهم حيث لم يوص فالوصية واجبة.
إذن: الدين يخرج قبل الوصية فيخرج من رأس المال.
مثال:
رجل أوصى لزيد بثلث ماله، وكان ماله مائة ألف، وعليه ديون قدرها خمسين ألفاً، فتقضى عنه ديونه وما بقي فإن زيداً يأخذ ثلثه.
قال: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي بدئ به] .
فإذا: أوصى بثلثه للفقراء، ثم قال: ما علي من دين فإنه يخرج من ثلثي.
فحينئذ يخرج من ثلثه كما قال.
فإن بقي شيء أخذه الموصى له وإلا فإنه يسقط لذا قال:
[فإن بقي منه شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] .
إذن: الدين يخرج من رأس المال كله.
إلا أن يشترط المورّث إخراجه من الثلث، فحينئذ يخرج من الثلث فإن بقي شيء للموصى له أخذه وإلا فإنه يسقط.
" باب الموصى له "
الموصى له: هو من يستحق الوصية.
قال: [تصح لمن يصح تملكه] .
فالوصية تصح لمن يصح تملكه من كافرٍ أو مسلم، قال تعالى: ((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) سواء كان الكافر ذمياً أو حربياً.
أما الذمي فقد تقدمت وصية صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول الله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)) .
والحربي داخل في قوله تعالى: ((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) .
قالوا: وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى عمر ثوب حرير فكساه أخاً له مشركاً) وهو حربي لأن أهل مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل حرب.
ومنع من ذلك الأحناف لقوله تعالى: ((إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم)) .
والآية في التولي:(18/8)
لكن الأصل على مذهب الجمهور أن مال الحربي ليس بمعصوم وإنفاذ الوصية ينافي ذلك.
ويستثنى على اختيار ما قاله الجمهور السلاح والخيل ونحوه التي يقاتل بها المسلمون فإنها لا تحل الوصية له بها.
وكذلك يستثنى ما إذا كانت وصية إلى غير معينين، كأن يوصي لليهود أو النصارى أو نحو ذلك، فهذا لا يصح لما فيه من منافاة مقصود الشرع، ولما فيه من إرادة نفعهم لديانتهم وهذه من الموالاة المحرمة.
إذن: ما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، وذلك لأن الحربي ماله ليس بمعصوم، وانفاذ الوصية ينافي ذلك. والله أعلم.
قال: [ولعبده بمشاع كثلثه ويعتق منه بقدره] .
إذا أوصى لعبده بمشاع كثلث المال أو ربعه أو نصفه، فإنه يصح، والعبد لا يملك لكن لما أوصى بمشاع دخل في ذلك العبد لأنه من المال، فإذا أوصى بالثلث فإن ثلث العبد يدخل فكانت الوصية بالمشاع متضمنةً للعتق منه.
بخلاف ما لو كان غير مشاع، كأن يقول: أوصيت لك بداري أو بكذا درهماً أو ديناراً، فإن هذا اللفظ لا يدخل فيه العبد، وحينئذ فيكون تمليكاً للعبد، والتمليك للعبد تمليك لسيده وسادته هم الورثة وحينئذ يكون هذا لا فائدة منه لأنه تمليك للمالك فهم مالكون للعبد والمال.
ولذا قال المؤلف بعد ذلك: [وبمئه أو بمعين لا تصح له] .
لأنه مملوك للورثة وهذه الوصية تكون لورثته فحينئذ لا فائدة من ذلك لكن إذا أوصى له بجزء مشاع كالثلث أو الربع فإنه يعتق منه بقدر المشاع فإذا قال: لك الربع عتق ربعه، فإن كان هناك فاضل عتق بقيته بقدر قيمته، فإن بقي شيء فله الفاضل.
ولذا قال: [ويأخذ الفاضل] .
أي بعد عتقه، فإذا عتق وبقي شيء فإنه يكون له لأنه يكون حراً فيصح تملكه.
قال: [وتصح بحملٍ ولحملٍ تحقق وجوده قبلها] .
أي قبل الوصية، أي تصح الوصية بحملٍ قد تحقق وجوده قبلها، كأن يقول "أوصيت لك بحمل هذه الدابة" وقد تحقق من وجود هذا الحمل أو "أوصيت بحمل هذه الأمة" وقد تحقق وجود هذا الحمل.(18/9)
وتصح لحملٍ قد تحقق وجوده قبلها.
فمثلاً: لزيدٍ زوجة، وهي حامل فقال عمرو: للحمل الذي في بطن زوجتك كذا وكذا من مالي وصية، فتصح إذا تحقق وجوده كالإرث.
وقد تقدم بيان تحقق وجوده في كتاب الفرائض.
أما إذا لم يتحقق وجوده فإن الوصية لا تصح له لأنه معدوم والمعدوم لا يملك.
قال: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يُحج عنه بألفٍ صُرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أخرى حتى ينفذ] .
كأن يقول "حجوا عني بألف دينار" والألف دينار عشر حجج، فُيحج عنه عشر حجج لأن هذه هي وصيته، وهي وصية برٍ على القول بجواز حج التطوع عن الميت.
وقال المؤلف: "لا حج عليه"، لأنه إذا كان عليه حج فريضة فإنه يؤخذ من رأس المال، فنفقة حجة الفريضة تؤخذ من رأس المال لا من الثلث.
قال: [ولا تصح لملك] .
إذا وصى لملكٍ كجبريل عليه السلام ونحوه فلا تصح هذه الوصية، وذلك لأنه لا يملك.
والقاعدة: أنها لا تصح الوصية لمن لا يصح تملكه.
قال: [وبهيمةٍ] .
فإذا أوصى لبهيمة فلا تصح هذه الوصية، لأن البهيمة لا تملك.
قال: [وميتٍ] .
كذلك لا تصح الوصية للميت لأنه لا يملك.
وقال الإمام مالك: بل إذا أوصى لميتٍ يعلم موته فإن الوصية تصح ويكون في قضاء دينه إن كان عليه دين وإلا فلورثته.
وهو القول الراجح؛ وذلك لأنه لما أوصى له مع علمه بموته، فإن هذا يدل على أن غرضه نفعه، وهذا يحصل بقضاء دين أو بإعطائه ورثته.
وكذلك في مسألة البهيمة فإنه لا يقصد تمليكها بل يقصد نفعها فيوضع في علفها وغير ذلك مما تحتاج إليه.
قال الحنابلة: إذا أوصى لعبد غيره صحت لسيده.
والقول الثاني في المذهب: أنها لا تصح.
والراجح صحتها.
ويخرج عليها مسألة البهيمة فإنها تكون لمالك البهيمة.
والمذهب: أنه إذا أطلق فقال: "أوصيت بكذا للبهيمة الفلانية" فلا تصح.
وإن لم يطلق بل قال: لفرس زيدٍ مثلاً، فحينئذ يعلم أنه لا يريد تمليكها، وإنما يريد نفع مالكها فتصح.
قالوا: وتلزم بلا قبول من العبد أو من المالك.(18/10)
والصحيح عدم لزومها إلا بالقبول.
وذلك لأن المنة تلحقه كما لو أوصى إليه، لأن مراده نفعه، فإذا أوصى لفرسه فإن مراده نفع صاحب الفرس فاشترط رضاه.
قال: [فإن أوصى لحي وميتٍ يعلم موته فالكل للحي] .
إذا قال: هذه الدار وصية لزيدٍ وعمرو، وهو يعلم أن زيداً ميت.
قالوا: فالكل للحي.
أما على القول الراجح المتقدم فإن نصيب الميت يصرف في قضاء دينه وإلا فيكون لورثته.
وهذه المسألة متفرعة عن المسألة المتقدمة.
فعلى المذهب: أنه إذا أوصى لحيي وميت يعلم موته فالكل للحي.
قالوا: لأنه أضاف الوصية إليهما مع علمه أن أحدهما غير قابلٍ للوصية، فكأنه أراد الوصية للحي وحده وهذا تعليل ضعيف، وما ذكره المؤلف هنا قول في الذهب.
والمشهور في المذهب: أن للحي النصف، وذلك لأنه أضاف الوصية إليهما وكون أحدهما لا تصح له الوصية لا يقتضي تملك الآخر لنصيبه بل يقتضي بطلان الوصية في نصيب الميت ولا يقتضي تمليك الآخر إذ كيف يملك ما لم يعطه، هذا هو المشهور في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن سعدي.
قال: [وإن جهل فالنصف] .
إذا قال: هذا وصية لزيدٍ وعمرو وهو لا يدري أن زيداً ميت فيكون للحي النصف، لأنه أضاف الوصية إليهما، وهذا يقتضي أن تكون الوصية لهما وإذا مات أحدهما فالوصية تبطل في حقه وتبقى للآخر فله النصف.
قال: [وإن وصى بماله لابنيْه وأجنبي فردا فله التسع] .
إذا قال عند موته: "مالي كله وصية لابنيّ وزيدٍ، فمقتضى هذا اللفظ أن يكون لكل واحدٍ منهما الثلث، فإذا ردّ الابنان الوصية ولم ينفذاها، فحينئذ ترجع إلى الثلث فيكون له التسع.
وذلك لأن الوصية له بثلث ما يكون وصيةً، وكان المال كله وصية فرده الابنان فرجعت الوصية إلى الثلث، وثلث الثلث التسع، هذا هو المذهب.(18/11)
وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل له الثلث، وهو أقيس وذلك لأن لفظه المتقدم يدل على إعطاء الأجنبي الثلث وإنما قال: "لابني ولزيدٍ" هذا المال، حيث أمضوا وصيته وأما وقد ردوا الوصية فمقتضى لفظه المتقدم أن يكون للأجنبي الثلث.
" باب الموصى به "
الموصى به: هو الشيء الذي وقعت الوصية عليه كدارٍ أو حيوان أو نحو ذلك.
قال: [تصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وطيرٍ في هواء] .
فالوصية تصح بما يعجز عن تسليمه.
فلو قال: أوصيت لك بعبدي الآبق أو بجملي الشارد ونحو ذلك فالوصية صحيحة.
وذلك لأن باب التبرعات يغتفر فيه ما لا يغتفر في باب المعاوضات، فهو تبرع إن حصل فذاك وإلا فإنه لا غرر عليه.
قال: [وبالمعدوم كبما يحمل حيوانه وشجرته، أبداً أو مدة معلومة] .
فالوصية بالمعدوم صحيحة.
فإذا قال: حمل حيواني لك أو ثمر ما تنتج شجرتي من الثمار فهو لك وصية أبداً أو مدة معلومة.
أي سواء كان ذلك أبداً أو مدة معلومة.
ومثل ذلك المجهول والمبهم فإنها تصح فيهما الوصية والمبهم كأن يقول: أوصيت له بأحد عبديّ هذين فإنه يقرع بينهما.
قال: [فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية] .
فإذا حصل فهو له.
وإن لم يحصل شيء فإن الوصية تبطل.
قال: [وتصح بكلب صيد ونحوه وبزيت متنجس، وله ثلثهما ولو كثر المال] .
فالوصية بكلب الصيد ونحوه ككلب زرع وماشية، وصية صحيحة وكذلك الوصية بالزيت المتنجس صحيحة أيضاً، ويكون للموصى له ثلثه فقط.
فإذا قال: "أوصيت بكلبي المعلم لزيدٍ" فإن الورثة يشاركونه فللورثة، الثلثان من هذا الكلب، ولزيدٍ الثلث وذلك: لأن موضوع الوصية تسليم ثلثي التركة للورثة وأن تكون الوصية في الثلث.
وهنا الكلب ليس من جنس التركة فاستحق فيه الثلثين، هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أنه ليس للورثة منه شيء بل الكلب كله للموصى له، وكذلك الزيت المتنجس.(18/12)
وذلك لأنه لا قيمة له، فإذا كان يملك الثلث من المال إذا أوصى له به فأولى من ذلك أن تملك مثل هذا الذي لا قيمة له.
[ولو كثر المال] ، فله ثلثهما ولو كثر المال.
والقول الثاني: إن ذلك له ولو قل المال وهو الراجح لما تقدم.
قال: [إن لم تجز الورثة] .
فإذا أجازت الورثة فإنه يملك الكلب كله والزيت المتنجس كله.
فإذا لم تجز الورثة فله ثلثهما، كما تقدم.
قال: [وتصح بمجهول كعبدٍ وشاةٍ] .
فإذا قال: "أوصيت لك بعبدٍ أو شاةٍ" فالوصية صحيحة لأن هذا من باب التبرعات.
قال: [ويُعطى ما يقع عليه الاسم العرفي] .
فإذا أوصى له بعبدٍ مجهول أو شاة مجهولة أو نحو ذلك، فإنه يعطى ما يقع عليه الاسم العرفي، فما يقع عليه اسم العبد عرفاً فإنه يعطاه، وهذا هو اختيار الموفق.
وقال الحنابلة: بل يرجع بذلك إلى اللغة، لأن كلام الله وكلام رسوله مردهما إلى اللغة فكذلك لفظ الموصي، وهذا ضعيف وقد تقدم كلام شيخ الإسلام في لفظ الواقف وأن مرجعه إلى ما اعتاده من الكلام، لأن هذا هو مراده.
فالله ورسوله يعرف مرادهما باللغة، وأما لفظ الموصي فإن مراده يعرف بلغة خطابه.
قال: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية] .
إذا قال: ثلث مالي لزيدٍ "فاستحدث مالاً أي حدث في ملكه مال جديد لو بعد موته.
كأن يضع شبكة في بحرٍ فتصيد بعد موته، فهذا الصيد يدخل في ملكه، وتدخل الوصية فيه ولو كان ذلك ديةً، لأن الدية بدل نفسه، ونفسه له فكان بدلها ملكاً له.
فإذا ترك مئة ألف وكانت ديته مئة ألف، فحينئذ الثلث يكون أقل من السبعين ألفاً، فالثلث يكون من ماله كله تلاده وطريفة (1) ومن ذلك الدية.
قال: [ومن أوصى له بمعين فتلف بطلت] .
إذا أوصى له بمعين كدابة مثلاً فماتت فلا شيء للموصى له وذلك لأن حقه في الوصية متعلق بهذا المعين، فبطلت الوصية بتلفه.
وهذا من مبطلات الوصية.
__________
(1) يراجع الأصل، لعدم وجوده بين يدي.(18/13)
وقد تقدم أن من مبطلاتها أيضاً رجوع الموصي، وتقدم أيضاً عدم قبول الموصى له.
وتبطل أيضاً بقتل الموصى له للموصي كالإرث.
فكما أن الوارث إذا قتل مورثه لا إرث له فكذلك الموصي.
وتبطل أيضاً بموت الموصى له قبل موت الموصي، لأنها تبرع بعد الموت يملكه بعد الموت، وهنا قد مات الموصى له قبل ملكه.
قال: [وإن تلف المال غيره فهو للموصى له] .
إذا تلفت التركة كلها ولم يبق إلا هذا الشيء المعين الموصى به، فهو للموصى له.
فمثلاً: أوصى له بعبد ثم تلفت التركة ولم يبق إلا هذا العبد فهو له لأن الورثة لا حق لهم في هذا العبد فحقهم غير متعلق به.
قال: [إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة] .
أما إذا كان هذا أكثر من ثلث المال فإنما يصح منه ما كان بقدر ثلث المال إلا أن يجيز الورثة.
" باب الوصية بالأنصباء والأجزاء"
الأنصباء: على وزن أصدقاء جمع نصيب.
والأجزاء: جمع جزء.
وهذا الفصل هو: حساب الوصايا إن نسبت الوصية إلى نصيب الورثة.
قال: [إذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة] .
إذا قال: "لزيدٍ مثل ما يكون لأبي أو لابني أو لزوجتي أو نحو ذلك.
فحينئذ: نضع مسألة للورثة.
فإذا وجدنا – مثلاً – أن المسألة من ستة، ونصيب الأب فيها واحد من ستة وقد قال: لزيد من مالي مثل ما لأبي فحينئذ تعول المسألة إلى سبعة فنعطيه سهماً واحداً كما يأخذ أبو الموصي.
قال: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث وإن كانوا ثلاثة فله الربع، وإن كان معهم بنت فله التسعان] .
أي له اثنان من تسعة.
وما ذكر هنا أمثله على ما تقدم.
قال: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً] .
إذا قال: أوصيت لزيدٍ بمثل نصيب أحد ورثتي ولم يعين فحينئذ نؤصل المسألة وننظر من هو أقل الورثة سهاماً، فنعطي الموصى له قدره، لأن هذا هو اليقين وما زاد فهو مشكوك فيه وهو مذهب الجمهور.
قال: [فمع ابن وبنت ربع] .(18/14)
فالمسألة من ثلاثة، والبنت لها واحد من ثلاثة، فنعطيه هو واحد فتعول المسألة إلى أربعة فيكون له الربع.
قال: [ومع زوجة وابن تسع] .
فالزوجة مع الابن لها الثمن أي واحد من ثمانية، فنعطي الموصى له واحد فتعول المسألة إلى تسعة فيكون له التسع.
قال: [وبسهم من ماله فله السدس] .
إذا قال: أوصيت لزيدٍ بسهم من مالي" فله السدس.
قالوا: لما روى الطبراني، أن رجلاً أوصى الآخر بسهم من ماله فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - السدس.
قالوا: وهو ثابت في لغة العرب أي أن السهم سدس المال أما الحديث فهو ضعيف.
وأما ثبوت هذا في اللغة، فإن لم يثبت فلا كلام.
وإن ثبت فمرجع مثل هذه المسألة إلى العرف، فإن كان هناك عرف في السهم فإنه يعطاه.
فإن لم يكن هناك عرف فالراجح أنه يعطى سهم من تصحيح المسألة هو رواية عن الإمام أحمد.
بمعني: نصحح مسألة الورثة فإذا كانت المسألة من ثمانية فإنه يعطى واحد من تسعة لأن المسألة تعول بسهمه إلى تسعة فيعطى واحد من تسعة.
قال: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء] .
إن قال: أوصى لفلان بحظ من مالي أو بجزءٍ أو بشيء فهذا لا حد له في اللغة والشرع فحينئذ يعطى ما يصدق عليه أنه شيء أو جزء أو نصيب أو حظ في العرف مما يتمول عادةً.
"باب الموصى إليه "
الموصى إليه: هو الوصي، وهو من يؤذن له بالتصرف بالمال بعد الموت.
أي يتصرف في مال الميت بقضاء ديونه وإخراج ثلثه ونحو ذلك.
فإن كان الإنسان يثق بنفسه ويعلم من نفسه القيام بهذا العمل فهو مندوب إليه لأنه من الإحسان إلى الناس، والإحسان إلى الناس مندوب.
قال: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم] .
فلا تصح الوصية إلى الكافر اتفاقاً، أي لا يصح أن يكون متصرفاً في المال بعد موت المورّث.
قال: [مكلفٍ] .
فلا تصح إلى مجنون ولا إلى صبي اتفاقاً.
قال: [عدل رشيد] .
فلا تصح إلى فاسق ولا إلى سفيه لعدم أهليتهم وقصور تصرفهم.
قال: [ولو عبداً] .(18/15)
ولو امرأة أيضاً، وقد تقدم أن عمر قد أوصى بوقفه إلى حفصة رضي الله عنها.
ويصح أيضاً أن يكون عبداً.
قال: [ويقبل بإذن سيده] .
فالعبد لا يقبل إلا بإذن سيده، لأن السيد يملك منافعه فاشترط إذن سيده.
قال: [وإذا أوصى إلى زيدٍ وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركاً] .
وذلك لأن لفظه لا يفيد عزلاً.
لكن إن كانت هناك قرينة تدل على العزل فحينئذ يكون قوله الآخر ناسخاً لقوله الأول.
فإن لم تكن هناك قرينة فإنهما يشتركان لأن لفظه الآخر لا يفيد عزلاً.
قال: [ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله (موص) له] .
فإذا أوصى لزيدٍ ثم بعد ذلك قال: أوصيت إلى عمرو، فليس لأحد هذين الوصيين أن يتصرف بالانفراد لأنه لم يؤذن له بذلك على هذه الصفة، فإنه يشترط نظر الاثنين كالوكيلين، فليس لأحد الوصيين أن يتصرف منفرداً بل لابد أن يشتركا في التصرف.
قال: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة ثلثه والنظر لصغاره] .
هذا ظاهر.
فلا تصح وصية إلا في تصرف معلوم، لأنه إن كان التصرف غير معلوم فإنه لا يمكنه التصرف ولا يمكنه حفظ المال.
كذلك لابد وأن يكون الموصي يملك التصرف فيه قبل موت، فليس له أن يأذن لأحدٍ في أن يتصرف في الشيء هو لا يملك التصرف فيه بل لا بد أن يكون هو مالكاً للتصرف فيه.
قال: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك]
لأنها لا تملك ولايتهم.
كذلك لا تصح وصية الرجل على ابنٍ له بالغ رشيد وذلك لأنه هو لا يملك الولاية على البالغ الرشيد فأولى من ذلك الموصى إليه.
قال: [ومن وصّي في شيء لم يصر وصياً في غيره] .
هذا أيضاً ظاهر.
فإذا: أوصيت إليك بقضاء الدين، فليس له أن يخرج الثلث لأنه لم يؤذن له بذلك.
قال: [فإن ظهر على الميت دين يستغرق (تركته) بعد تفرقة الوصيّ لم يضمن] .(18/16)
أي: بعدما أخرج الثلث وتصرف في هذا المال بعض التصرف على الوجه المأذون له فيه، بعد ذلك أتى شخص له دين يستغرق التركة فحينئذ لا يضمن الوصي، لأنه معذور لعدم علمه وحينئذ فيرجع هذا الدائن إلى الورثة لأن حق الدائن سابق لحقهم.
قال: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده] .
فإذا قال له: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل للموصى إليه أن يضعه له ولا لولده.
قالوا: لأنه متهم في حقه فلا يحل له أن يضعه في نفسه ولا أن يضعه في ولده لأنه متهم في حقهم.
وقال المجد ابن تيمية بل له أن يضعه في ولده وذلك لأن وضعه في الولد تفريق له وحيث كانوا مستحقين فقد صرفه في المستحقين فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز أن يضعه في غير الولد كالأب والأم.
والمشهور في المذهب خلاف هذا، وأنه لا يجوز له أن يعطيه سائر الورثة.
ومذهب أبي حنيفة وهو احتمال في المذهب، أن له أن يضعه في نفسه وولده وذلك لتناول اللفظ له ولهم وهذا هو القول الراجح.
وأما كونه متهماً في حقهم، فهذا لا أثر له وذلك لأنه قد رضي بتصرفه فرضاه بتصرفه يزيل التهمة في حقه.
وقد يقال: بأن له أن يتصرف به على الوجه الأصلح كالوكيل فإن كان الأصلح دفعه لنفسه أو لولده فعل ذلك.
وإلا فيجب عليه أن يدفعه إلى الأصلح أي إلى الأحق سواء كان النفس أو الولد أو غيرهما.
مسألة:
المشهور في المذهب أن للوصي أن يعزل نفسه متى شاء أي في حال حياة الموصي وبعده.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة، أنه ليس له ذلك أي بعد موت الموصي وهو الراجح.
لما في ذلك من تضييع الأمانة وتعريض المال للضياع وأما في الحياة فإن المال بيد صاحبه ويمكنه أن يوصي غيره فيجوز للموصى إليه أن يعزل نفسه في حياة الموصي.
والمذهب: أن الموصى إليه ليس له أن يوصي إلى غيره بالمال كالوكالة.(18/17)
وهذا ظاهر، لكن يتجه إن خشي من عدم قيام الحاكم أي القاضي بالمال قيامًا شرعياً، بأن كان القاضي ليس أهلاً، حينئذ يتجه جواز الإيصاء أي مع العذر فإذا كان معذوراً فله أن يوصي غيره أي أن يوصي أميناً.
إذن الراجح أن له أن يوصي غيره إن لم يكن القاضي أهلاً أو خشي أن يولي الحاكم غير أمين، لوجوب حفظ المال هذا إن كان له عذر.
قال: [ومن مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي حاز بعض من حضره من المسلمين تركته (1) وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره] .
من مات بمكان لا قاضي فيه ولا وصي فإنه يجوز لبعض المسلمين ممن حضره أن يتولى تركته ويعمل الأصلح فيها من بيع وغيره.
وذلك لأن هذا موضع ضرورة فهو وإن لم يوصِ إليه فإن هذه ضرورة لحفظ المال وهذا من واجبات الكفاية.
فإن عدم قيام البعض بذلك ضياع للمال.
انتهى شرح كتاب الوصايا من زاد المستقنع للشيخ حمد الحمد، حفظه الله ونفع به.
__________
(1) عندي بلفظ: " ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته … ".(18/18)
كتاب الفرائض
الدرس الأول
(يوم السبت: 6 / 5 / 1416هـ)
رأيت أن نتدارس كتاب الفرائض من الزاد على هذه الطريقة، وهو أن يكون بعد درس الزاد من البيوع، أي تقريبا بين الأذان والإقامة.
وذلك لأن تدارس الفرائض من الزاد إن أطلنا به بالأمثلة ونحو ذلك كان في ذلك تأخرا في دراسة هذا الكتاب.
وإن أخذنا منه ما نأخذ في الدروس الأخرى فإن هذا يفوت اتقان وضبط المسائل الفرضية.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وهي العلم بقسمة الميراث [
تعريف الفرائض:
في اللغة: جمع فريضة بمعنى مفروضة أي مقدرة. قال تعالى: [نصيبا مفروضا] أي مقدرا.
وأما في الاصطلاح فكما قال المؤلف (وهي العلم بقسمة الميراث) .
وإن شئت قلت: علم يعرف به من يرث ومن لا يرث ومقدار ما لكل وارث.
وعلم الفرائض داخل في العلوم الشرعية التي رغب الشارع في تعلمها وهي من فروض الكفاية.
وللفرائض فضيلة تختصه حيث إنه تصان به الدماء وتحفظ به الأموال وقد تكفل الله بقسمته في سورة النساء.
ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث خاص في فضيلته. أما ماروي عنه في هذا الباب فهي أحاديث ضعيفة.
- منها مارواه الحاكم وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أباهريرة تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول علم ينزع من أمتي)) (1) والحديث إسناده ضعيف جدا
__________
(1) المستدرك على الصحيحين ج: 4 ص: 369
45 كتاب الفرائض 7948 حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق ثنا بشر بن موسى الأسدي ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني حفص بن عمر بن أبي الغطاف مولى بني سهم عن أبي الزناد عن الأعرج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم وإنه ينسى وهو أول ما ينزع من أمتي ".
سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 908 23 كتاب الفرائض / 1 باب الحث على تعليم الفرائض / 2719. الاسطوانة.(19/1)
- ومنها مارواه أبوداود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ قال: ((العلم ثلاثة وماسوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة)) (1) .
- ومنها مارواه الترمذي من حديث ابن مسعود وإسناده ضعيف جدا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن هذا العلم سيقبض ويوشك أن يختلف الرجلان في الفريضة لا يجدان من يقضي بينهما)) (2) فهذه الأحاديث لا تصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
__________
(1) سنن أبي داود ج: 3 ص: 119 / 13 كتاب الفرائض / 1 باب ما جاء في تعليم الفرائض / 2885 حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا بن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ". وابن ماجه / باب 8 اجتناب الرأي والقياس / رقم 54، والمستدرك / كتاب الفرائض / رقم (4949) والبيهقي في بداية أول باب من كتاب الفرائض / رقم (11952) . والدارقطني. الاسطوانة.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض / باب 2 ما جاء في تعليم الفرائض / رقم (2091) قال: " حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا الفضل بن دَلْهَم حدثنا عوف عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعلموا القرآن والفرائض وعلموا الناس فإني مقبوض) قال أبو عيسى: " هذا حديث فيه اضطراب، وروى أبو أسامة هذا الحديث عن عوف عن رجل عن سليمان بن جابر عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه بطوله البيهقي في الباب السابق رقم (11953) ، والدارقطني (45) ، والنسائي في الكبرى رقم (6305) ، والحاكم في المستدرك. الاسطوانة.(19/2)
قال المؤلف:] أسباب الإرث: رحم، ونكاح، وولاء [.
هذه أسباب الإرث وهي ثلاثة:
ـ السبب الأول: الرحم:
وهو القرابة كما قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} وغير ذلك من الآيات التي فيها الإرث بالرحم وسيأتي سياقها.
والوارثون بالرحم ثلاثة أصناف:
أـ أصول: وهم من لهم عليك ولادة من الذكور والإناث. وهم الأب والأم والجد والجدة وإن علوا هؤلاء هم الأصول.
ب ـ فروع: من لك عليهم ولادة وإن نزلوا. كالابن والبنت وابن الابن وابن البنت وهكذا.
ج ـ حواشي: وهم الذين يرجعون إلى أصولك أي الذين يجمع بينك وبينهم أصل، كالأخ والأخت والعم وابن الأخ ونحو ذلك.
ـ السبب الثاني: النكاح:
وهو عقد الزوجية الصحيح. ويثبت التوارث به بمجرد العقد وإن لم يثبت الدخول لقوله تبارك تعالى: [ولكم نصف ماترك أزواجكم] فالزوج يرث. والآية عامة سواء كان هذا قبل الدخول أو بعده، مادام أن الزوجية قد ثبتت بالعقد.
وقد روى الخمسة بإسناد صحيح و (1) صححه الترمذي أن ابن مسعود قضى بامرأة توفي عنها زوجها ولم يدخل بها أن لها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فأخبر ابن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في بَرْوع بنت واشق الأشجعية بمثل ما قضى به ابن مسعود (2) .
ـ السبب الثالث: الولاء:
وهي عصوبة سببها نعمة المعتِق على معتَقه بالحرية.
__________
(1) في الأصل: والحديث صححه الترمذي.
(2) سنن أبي داود ج: 2 ص: 237
32 باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات 2114
سنن الترمذي ج: 3 ص: 450
44 باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها 1145
سنن النسائي - المجتبى ج: 6 ص: 121
68 باب إباحة التزوج بغير صداق 3354
سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 609
18 باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك 1891(19/3)
كأن يشتري رجل عبدا فيعتقه أو يكون عنده عبد فيعتقه سواء كان هذا العتق واجبا عليه كالكفارات أو كان ذلك منه على وجه التبرع والتطوع فإن الولاء يثبت به، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: “ إنما الولاء لمن أعتق (1) “
فيرث المعتِِق عتيَقه وهكذا عصبته (2) المتعصبون بأنفسهم لابغيرهم ولا مع غيرهم وسيأتي الكلام على العصبة - إن شاء الله - (3) .
فيرث المعتِق وعصبته باتفاق العلماء أي (4) المتعصبون بأنفسهم. وعليه فالعتق يثبت به الإرث من أعلى لا من أسفل؛ فالمعتِق يرث العتيق لا بالعكس كما هو مذهب جماهير العلماء.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ثبوت الإرث من أسفل فيرث العتيق من معتِقه. وسيأتي الكلام على اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في أسباب الإرث المختلف فيها إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثاني
(يوم الأحد: 7 / 5 / 1416هـ)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] والورثة ذوو فرض، وعصبة، ورحم [.
الورثة ثلاثة:
ذوو فرض، ذوو عصبة، وذوو رحم. على القول بتوريث ذوي الأرحام وهو المشهور في المذهب وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.وكذلك سيأتي الكلام على العصبة.
والبحث هنا في ذوو الفروض.
الفرض: هو الجزء المقدر لكل وراث، فصاحب الفرض هو من أخذ جزءا مقدرا كمن يأخذ الثلث أو النصف ونحو ذلك.
والفروض في كتاب الله تعالى ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. أي الربع والثلث ونصف كل وضعف كل.
وهناك فرض سابع دل عليه اجتهاد الصحابة رضوان الله عنهم وهو ثلث الباقي وستأتي المسألة التي يثبت فيها ثلث الباقي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) صحيح البخاري ج: 1 ص: 174
37 باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد 444
صحيح مسلم ج: 2 ص: 1142
1504، وفي مواضع أخرى منهما.
(2) في المطبوع: عصبة المعتق.
(3) ليست في المطبوع.
(4) في الأصل: عصبته.(19/4)
إذن الفروض سبعة؛ ستة منها في كتاب الله تعالى والسابع قد دل عليه اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] فذوو الفروض عشرة: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات من كل جهة والإخوة من الأم [.
الزوجان: الزوج وزوجته أي الذكر والأنثى من الأزواج.
الأبوان: أي الأب والأم.
والجد والجدة والبنات وبنات الابن.
قوله:] والأخوات من كل جهة [أي سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم.
فأصحاب الفروض هم: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات من كل جهة والإخوة من الأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] فللزوج النصف. ومع وجود ولد أو ولد ابن وإن نزل الربع [
الزوج له النصف لقوله تعالى: [ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ّولد] . ومع وجود ولد سواء كان ذكرا أم أنثى أو ولد ابن وإن نزل فله الربع لقوله تبارك وتعالى: [فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن]
إذن فالنصف للزوج إن لم يكن للزوجة ولد أو ولد ابن وإن نزل، فإن كان هناك ولد أو ولد ابن وإن نزل فله الربع.
فالزوج له النصف بشرط عدم الفرع الوارث فإن وجد الفرع الوارث للزوجة وإن لم يكونوا من الزوج فله الربع.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] وللزوجة فأكثر نصف حاليه فيهما [
قوله:] فأكثر [أي سواء كنّ اثنتين أم أكثر.
قوله:] مثل حاليه فيهما [.
فالحالة التي يأخذ فيها الزوج النصف تأخذ فيها الربع. والحالة التي يأخذ فيها الزوج الربع تأخذ فيها الثمن.
وعليه: فلها الربع حيث لا فرع وارث للزوج. فإن كان هناك فرع وارث له فلها الثمن.
قال الله تعالى: [ولهنّ الربع مما تركتم إن لم يكن ولد، فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم](19/5)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولكل من الأب والجد السدس بالفرض مع الذكور الولد أو ولد الابن، ويرثان بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض والتعصيب مع إناثهما [
قال تعالى: [ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه ابواه فلأمه الثلث]
حالات الأب في الإرث:
ـ الحالة الأولى: أن يرث بالفرض فقط.
وذلك إذا كان معه فرع وارث ذكر فإنه يرث السدس.
مثال:
توفي عن أب وابن: (للأب السدس. لوجود الفرع الوارث الذكر.
ـ الحالة الثانية: أن يرث بالتعصيب فقط.
وذلك حيث عدم الفرع الوارث ذكورا وإناثا.
مثال:
مات عن أبيه وأمه: (فالأب يرث هنا بالتعصيب فقط.
الدليل:
لقوله تعالى: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث] أي للأب الباقي. وهذا هو الإرث بالتعصيب.
فهذا الإرث بغير تقدير.
ـ الحالة الثالثة: أن يرث بالفرض والتعصيب معا.
وذلك إذ كان هناك فرع وارث أنثى.
مثال:
هلك عن أبيه وابنته: (فللأب السدس لوجود الفرع الوارث. وتأخذ البنت نصيبها. وله الباقي تعصيبا.
والجد كذلك. لكن الجد يحجب بالأب كما سيأتي وهذا حيث كان الجد وارثا لامحجوبا أما إذا كان محجوبا فلا إرث له للحجب.
أمثلة:
توفي عن جده وابنه: (للجد السدس لوجود الفرع الوارث.
توفي عن جده وابنتيه: (فللجد السدس وله الباقي بعد توريث البنتين.
توفي عن جده وأمه: (فالجد يرث بالتعصيب فتأخذ الأم حقها ويأخذ الجد الباقي حيث لم يكن هناك أولى منه لأن العصبات لها ترتيبها كما سيأتي.
الدليل على توريث الجد:
أن الجد أب لقوله تعالى: [واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب] .
وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ كما في البخاري: (الجد أب)(19/6)
وروى أبو داود من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ بإسناد ضعيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجد السدس وله شاهد من حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ عند الترمذي. وله شاهد آخر عند ابن ماجه من معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ فالحديث صحيح. ويشهد له القرآن كما تقدم.
ـ فصل ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجد لأب وإن علا [
الجدّ لأب: هو الجد الوارث وهو من ليس بينه وبين الميت أنثى. وهكذا كل أصل من الذكور لا يرث إلا إذا لم يكن بينه وبين الميت أنثى.
فالقاعدة: في الأصول الذكور: أنه لايرث منهم من كان بينه وبين الميت أنثى.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن علا [أي: وأب الأب وإن علا بمحض الذكور.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] مع ولد أبوين أو أب كأخ منهم [
مع ولد أبوين: هو الأخ الشقيق أو أب أي الأخ لأب فهو كأخ منهم فيرث مشاركة.
اتفق العلماء على أن الأب يحجب الإخوة.
واتفق أهل العلم على أن الجدّ يحجب الإخوة لأم.
لقوله تعالى: [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس] فالإخوة هنا هم الإخوة لأم بالاتفاق. والكلالة هو: من لا ولد له ولا والد. والجد والد فاشترط الله عزوجل في إرث الإخوة لأم أن يكون الميت كلالة وحينئذ يشترط أن لايكون للميت والد، والجد والد.
واتفق العلماء على أن الجد يحجب أبناء الإخوة الأشقاء وأبناء الإخوة لأب.
واختلف أهل العلم في: هل يحجب الجد الإخوة لأب والإخوة الأشقاء أم يرثون معه؟
القول الأول:
فذهب جمهور الفقهاء ـ في المعنى الاصطلاحي ـ وهم هنا الحنابلة والشافعية والمالكية إلى أن الإخوة الأشقاء والإخوة لأب يرثون مع الجد على طريقة يأتي بيانها إن شاء الله.
القول الثاني:(19/7)
ـ وذهبت الحنفية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله *وتلميذه ابن القيم واختارها أيضا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغير واحد من آل الشيخ واختارها أيضا الشيخ عبد الرحمن السعدي واستظهرها صاحب الفروع وصوبها صاحب الإنصاف وهي أيضا اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالآجرّي وغيره: أنّ الجد يحجب الإخوة وهذا هو مذهب جمهور الصحابة رضوان الله أعلم وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.عن بضعة عشر صحابيا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو قول إسحاق وأبي ثور والمزني وابن شريح من فقهاء الشافعية.
الأدلة:
استدل أهل القول الأول:
بدليل نظري وهو أن كلا الطرفين قد أدلى بالأب فالواسطة واحدة فاقتضى ذلك المشاركة.
نقضه: وهذا الدليل منتقض عليهم بقولهم: إن أبناء الإخوة الأشقاء لا يرثون مع الجد، وقد أدلوا جميعا بالأب.
أما أهل القول الثاني فاستدلوا:
1 ـ بقوله تعالى: [يستفتونك. قل الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك]
قالوا: والكلالة من لا ولد له ولا والد، والأخت هنا الأخت الشقيقة أو لأب بدليل توريثها النصف وهذا بالاتفاق، فشرع الله عزوجل في توريثها أن يكون كلالة لا ولد له ولا والد، والجد والد.
قالوا: وقد استدللتم بالآية التي تقدم ذكرها على أن الجد يحجب الإخوة لأم والآيتان دلالتهما واحدة فكما أن الآية التي فيها ذكر الإخوة لأم استدللتم بالكلالة على أن الجد يحجب الإخوة لأم فاستدلوا أيضا لهذه الآية على أن الجد ـ بذكر الكلالة ـ يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب، فالآيتان يجب أن يكون مدلوهما واحد، لأن لفظهما واحد.(19/8)
2 ـ قالوا: ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “. وجهة الجد جهة أبوة، وجهة الإخوة جهة أخوة، ولا شكّ أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأخوّة في العصبة بالاتفاق.
وهذا النزاع وقع عند الفقهاء لأن الجد عندهم ليس مدخلا في جهة الأبوّة، وهذا فيه نظر ظاهر فالله عز وجل قد سماه أبا كما في قوله تعالى: [واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب] وفي غيرها من الآيات.
بيان الراجح:
والراجح هو القول الثاني. وهو أن الجد يحجب الإخوة الأشقاء ولأب.
تقدم الكلام على مسألة الجد والإخوة الأشقاء أو لأب وأن الراجح أنه يحجبهم وحينئذ فلا نحتاج إلى ما يذكره المؤلف هنا من طريقة توريث الجد مع الإخوة فهو القول الراجح الذي يذهب إليه الحنابلة ومن وافقهم ممن تقدم ذكره.
ونتدراس اليوم طريقة توريث الجد مع الإخوة.
للجد مع الإخوة حالتان:
الحالة الأولى:
ألا يكون في المسألة صاحب فرض. فإن الجد يخير بين الثلث والمقاسمة. فيأخذ الأحظ منهما.
مثال:
توفي عن جد وثلاثة إخوة أشقاء: فالثلث أحظ للجد لأن نصيبه مع المقاسمة يكون الربع.
مثال آخر:
توفي عن جد وأخ شقيق: فالمقاسمة هنا أحظ له لأنه يأخذ بها النصف.
إذن هو مخير بين الثلث والمقاسمة.
ودليل الثلث منقول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. فإن صحّ هذا عنه فهو معارض بقول من لايورّث الإخوة مع الجد أصلا. وإن لم يصح فلا إشكال.
ولا دليل من الكتاب والسنة على هذا. بل الدليل يخالف هذا؛ فإنه حيث لا صاحب فرض يقتضي هذا التعصيب، وإذا أعطيناه الثلث فقد جعلناه صاحب فرض. الجد يقوم مقام الأب، وحيث لا صاحب فرض فالواجب هو أن يأخذ الباقي وهنا أعطيناه الثلث.
الحالة الثانية:
أن يكون في المسألة صاحب فرض فإنه يخير بين ثلاثة أمور: السدس، وثلث الباقي، والمقاسمة.
مثال:(19/9)
توفي عن زوج وأخ شقيق وجد: فالزوج يأخذ النصف، ويبقى النصف. فثلث الباقي هو السدس، والمقاسمة يأخذ منها الجد الربع. فالمقاسمة أحظ له.
وثلث الباقي لا أصل له إلا ما سيأتي في مسألة العمريتين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن نقصته المقاسمة عن ثلث المال أعطيه [.
إذن هو مخير بين المقاسمة وبين ثلث المال. فيعطى أفضلهما. هذا مع غير ذوي الفرض. هكذا قال.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع ذي فرض بعده الأحظ من المقاسمة أو ثلث ما بقي أو سدس الكل [
إذن إذا كان في المسألة صاحب فرض فإنه يخير بين السدس وثلث الباقي والمقاسمة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن لم يبق سوى السدس أعطيه وسقط الإخوة [
إذا أعطي الجد السدس ولم يبق شيء للإخوة فلا شيء لهم، لأن الفروض قد استوفت التركة. وإذا استوفت الفروض التركة فلا شيء للعصبة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إلا في الأكدرية [
ولذا سميت بالأكدرية، فسميت أكدرية لأنها كدرت وعكرت على مذهب زيد رضي الله عنه؛ فإن مذهبه أنّ السدس إذا أخذه الجدّ فلا شيء للإخوة.
وهنا في مسألة الأكدرية ترث الإخوة معه.
والأكدرية هي: زوج وأم وجد وأخت لغير أم (أي شقيقة أو لأب) : (فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس لوجود صاحب فرض، وللأخت النصف.
فالمسألة في الأصل من ستة؛ الزوج له النصف = ثلاثة، والأم لها الثلث = اثنان، وللجد السدس = واحد. والأخت لها النصف = ثلاثة. لكن المسألة من ستة فتعول إلى تسعة. فحينئذ نقع في إشكال: نصيب الجد واحد من تسعة، ونصيب الإخوة ثلاثة من تسعة، ولا يمكن هذا فهذا كدّر هذه المسألة.
لأن مسائل العصبة لا عول فيها. وهنا هذه المسألة جعلت من مسائل التعصيب وفيها عول.(19/10)
إذن: أصبح للجد واحد وللأخت ثلاثة، قالوا: وهذا لا يمكن، فنجمع بين نصابهما ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على قاعدتنا، لأن الجد مع المقاسمة يأخذ ضعف ما للأنثى. قالوا: واحد وثلاثة المجموع أربعة، ونضربها في ثلاثة فتساوى اثنا عشر فيعطى الجد ثمانية والأخت أربعة للذكر مثل حظ الأنثيين فتصبح المسألة من سبع وعشرين. ويأتي هذا في الكلام على الحساب إن شاء الله تعالى.
وعلى القول الراجح المتقدم: زوج وأم وجد وأخت شقيقة: (الجد يرث الباقي وهو السدس، والأخت الشقيقة لا إرث لها لأنها حينئذ لا ترث.
وهذا يبين ضعف هذه المسألة وما فيها من الكدر والتناقض.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا يعول ولا يفرض لأخت معه إلا بها [
أي فلا يعول ولا يفرض لأخت مع الجد إلا في الأكدرية. لا يفرض، لأنا إذا جعلناهم عصبة فللذكر مثل حظ الأنثيين فلا فرض، وهنا أعطيناها الفرض وهو النصف.
والقاعدة في إرث الجد والإخوة أنها من باب التعصيب، وهنا قد جعلنا لها فرضا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأب إن تفردوا معه كولد الأبوين [
ولد الأب: هم الإخوة لأب. فإذا كان مع الجد إخوة لأب منفردين فإنهم يرثون كإرث الإخوة الأشقاء.
مثال:
توفى عن جد وأخ لأب: (فللجد النصف لأنه الأحظ له، وللأخ لأب النصف.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن اجتمعوا فقاسموه أخذ عصبة ولد الأبوين دون ولد الأب [
فإن اجتمعوا فكان مع الجد إخوة أشقاء وإخوة لأب فحينئذ يدخل الإخوة لأب في العدّ ولا يعطون شيئا.
مثال:
توفي عن جدّ وأخ شقيق وثلاثة إخوة لأب.
فاجتمع الإخوة لأب والإخوة الأشقاء والقاعدة في التعصيب أننا نسقط الإخوة لأب إذا اجتمعوا مع الإخوة الأشقاء.(19/11)
إذن نقسم المسألة كأن فيها أربعة إخوة أشقاء ثم بعد المقاسمة يأخذ الأخ الشقيق ما بيد الإخوة لأب. وإنما أدخلوا في المقاسمة إضرارا بالجد لكي يكون نصيبه أقل؛ لأنه كلما كثرت الأشقاء كلما قل نصيب الجد.
وهذا لا شك أنه باطل، إذ كيف يفرض لهم ثم يمنعون. هذا أمر لا شبيه له في علم الفرائض ولافي الشريعة أصلا.
ففي المسألة المتقدمة: الأحظ للجد الثلث، ويبقى الثلثان للإخوة ثم يأخذ الأخ الشقيق ما بيد الإخوة لأب فيكون له الثلثان.
مثال آخر:
توفي عن جد وأخ شقيق وأخوان لأب.
الأحظ للأب هنا الثلث، وإذا أسقطنا الأخوين لأب فإن المقاسمة أفضل له. لكن نقول خذ الثلث، والثلثان الباقيان للإخوة لأب والأخ الشقيق، ثم نقول للإخوة: لانصيب لكم بل يأخذه الأخ الشقيق فيأخذ الثلثين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأنثاهم تمام فرضها، وما بقي لولد الأب [
فتأخذ الأنثى تمام فرضها ـ وهو النصف ـ وما بقي يكون للإخوة لأب.
مثال: توفي عن جد وأخت شقيقة وأخ لأب.
(فالجد يأخذ الثلث، ويبقى الثلثان: فتأخذ الأخت الشقيقة تمام فرضها ـ وهو النصف ـ والباقي للأخ لأب.
ولاشك أن مثل هذه المسائل التي فيها تناقضات كثيرة تدل على ضعف هذا المذهب.
ولذا فالراجح هو القول بأن الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون مع الجد. كما تقدم تقريره.
ـ فصل ـ
هذا الفصل في إرث الأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وللأم السدس مع وجود والد أو ولد ابن [
الأم لها السدس حيث وجد الفرع والوارث لقوله تعالى: [ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد] فإن كان له ولد أو ولد ابن فإن الأم لها السدس للآية الكريمة.
مثال:
توفي عن أم وابن: (للأم: السدس، لوجود الفرع الوارث.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] واثنين من إخوة أو أخوات [
كذلك: إذا وجد اثنان من الإخوة أو الأخوات سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم فلها السدس.
مثال:(19/12)
توفي عن أم وأختين لأم: (فللأم السدس.
ودليل ذلك قوله تعالى: [فإن كان له إخوة فلأمه السدس] .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثلث مع عدمهم [
فتأخذ الأم الثلث مع عدم الإخوة وعدم الولد. فهما شرطان عدميان.
1) عدم الفرع الوارث.
2) عدم الجمع من الإخوة. والمراد بهم اثنان فأكثر في مذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
دليل ذلك:
قوله تعالى: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والسدس مع زوج وأبوين، والربع مع زوجة وأبوين. وللأب مثلاهما [
كان الأولى أن يقول: (ثلث الباقي) .
فتتحصل السدس في المسألة الأولى والربع في المسألة الثانية.
فللأم ثلث الباقي في مسألتين، هما المسألتان العمريتان. وسميتا بالعمريتين لقضاء عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بهما.
المسألة الأولى: زوج وأم وأب.
(ففي هذه المسألة: الزوج له النصف. والأم لها الثالث. الأب له الباقي وهو السدس.
غير أنه لايمكن أن يكون الأم لها الثلث والأب له السدس فيكون للمرأة ضعف ما للرجل، والقاعدة أن المرأة لايمكن أن تأخذ أبدا ضعف الرجل، بل إما أن يكون لها نصف نصيبه وإما أن تساويه. أما هنا فقد أخذت ضعفه.
فقسمها عمر ـ رضي الله عنه ـ: بأن أعطى الأم ثلث الباقي فحينئذ: الزوج له النصف وتأخذ الأم ثلث نصف الباقي وهو الربع هنا. ويأخذ الأب ثلثين. فأصبح هذا ضعفها فجرى هذا على القاعدة.
المسألة الثانية: زوج وأم وأب.
(فإذا قسمنا على الطريقة السابقة، فإن الزوجة تأخذ الربع، وتأخذ الأم الثلث، وللأب الباقي. فتكون الأم
ـ إشكال ودفعه:
فإن قيل: إن الله عزوجل قال: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث] فظاهر الآية أن الأم تأخذ الثلث مطلقا. فما الجواب على هذا؟
الجواب: أن يقال: هذا إذا انفردا. فإذا انفرد الأبوان فللأم الثلث والباقي للأب هذا هو ظاهر الآية.(19/13)
ولذا فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما وجد هذا الوارث الآخر سوى الوالدين أعطاها ثلث الباقي فأعطاه حقه وجعل الباقي كأنه تركة تامة فقد انفردا بها فأعطى الأم ثلث الباقي فحينئذ خرجت هذه المسألة عن الآية المتقدمة، فقوله تعالى: [وورثه أبواه فلأمه الثلث] وهنا لم ينفردا بالإرث بل دخل معهما وارث آخر فأعطى عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا الوارث حقه وانفرد الأبوان بالتركة فأعطى الأم الثلث أي من الباقي.
ـ وخالف ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما في البيهقي وغيره ـ مستدلا بهذه الآية فأعطى الأم الثلث مطلقا.
الراجح:
والصحيح خلاف هذا لأن الآية لا تفيد إلا أخذ الثلث حيث انفردا. ولمخالفة هذا لقاعدة الفرائض كما تقدم.
الخلاصة:
إذن الأم تأخذ السدس إذا وجد فرع وارث أو وجد جمع من الإخوة.
وتأخذ الثلث بثلاثة شروط عدمية:
عدم الفرع الوارث.
عدم الجمع من الإخوة.
أن لا تكون المسألة إحدى العمريتين.
ـ فصل ـ
هذا الفصل في إرث الجدة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ترث أم الأم وأم الأب وأم أب الأب ـ وإن علون أمومة ـ السدس [
دلت السنة على إرث الجدة كما عند الخمسة إلا النسائي من حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس. والحديث حسن بشواهده.
وفي سنن أبي داود بإسناد لابأس به أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس إن لم يكن دونها أم.
والجدة التي ترث في المشهور من المذهب هي:
أم الأم وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم الأم، وأم أم الأم وهكذا.
أم الأب وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم الأب،وأم أم الأب. وهكذا.
أم أب الأب وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم أب الأب، وأم أم أب الأب. وهكذا.
وعليه: فأم أب أب الأب لاترث في المشهور من الحنابلة. وذلك لأنها لم تدلِ بالأب ولا بأب الأب ولا بالأم.
الأدلة:(19/14)
واستدلوا بما روى أبو داود من حديث إبراهيم النخعي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى ثلاث جدات؛ جدتين من جهة الأب، وجدتين من جهة الأم.
فالجدتان اللتان من جهة الأب هما: أم الأب، وأم أب الأب.
والتي من جهة الأم هي: أم الأم.
القول الثاني ـ في الوارث من الجدات:
وقال الشافعية والحنفية: بل الجدات يرثن مطلقا ـ ولو كانت أم أب أب أب أب الأب. وإن كان هناك من الآباء أكثر من الاثنين، أي وإن كان بينها وبين الميت ثلاث آباء أو أربعة. وهذا مع ندرته لكنه قد يقع.
فالقاعدة عندهم: أن الجدة التي لاترث هي كل جدة سبقت بذكر مسبوق بأنثى، فهذه هي التي لاترث.كأم أب الأم، فإنها لاترث لأنها مسبوقة بذكر مسبوق بأنثى. وأما سواها ـ وهن من لم يكن بينهن وبين الميت ذكر مسبوق بأنثى ـ فإنها ترث.
وهذ هو الراجح.
المناقشة:
أما الحديث الذي استدل به أهل القول الأول فهو حديث مرسل والمرسل من أقسام الحديث الضعيف.
وأما الأحاديث الأخرى فهي أحاديث عامة في إعطاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجدة السدس.
فالصحيح: أن كل أنثى من الأصول لم تسبق بذكر مسبوق بأنثى فإنه وارثة لعموم الأدلة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن تحاذين فبينهنّ [
أي إذا أصبحن بدرجة واحدة كأن تجتمع أم الأم وأم الأب فإنهما تشتركان في السدس. فيكون بينهما بالسوية. وهذا باتفاق الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن قربت فلها وحدها [
مثال:
إذا اجتمع في مسألة أم الأم وأم أم الأم فإن السدس يكون للقربى منهما وهي أم الأم.
مثال آخر:
إذا اجتمع في مسألة: أم الأم، وأم أب الأب: (فالسدس يكون لأم الأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترث أم الأب والجد معهما كمع العم [
المسألة هنا هي: هل تحجب الأب أمه أم لا؟
إذا اجتمع في مسألة: جدة وأب. والجدة هي أم الأب.(19/15)
والجواب: أن الأب لا يحجب أمه. بل ترث معه.
وقد روى الترمذي في سننه ـ والحديث حسن بشواهده ـ أن أول جدة أعطاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السدس معها ابنها وابنتها هي.
فهنا ورث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجدة مع الأب.
وللحديث المتقدم ذكره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس ما لم يكن دونها أم. فالقاعدة في الجدة: أنها ترث السدس مالم يكن دونها أم.
ـ كذلك إذا اجتمع في مسألة: جد وأم الجد فإنها لا تحجب به بل ترث معه.
] كمع العم [من باب أولى.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترث الجدة بقرابتين ثلثي السدس. ولو تزوج بنت خالته فجدته أم أم أم ولده، وأم أم أبيه. ولو تزوج بنت عمته فجدته أم أم أمه وأم أب أبيه. [
قد تكون الجدة تلي بالقرابة من جهتين، كأن تكون جدة من الأب وحده من جهة الأب.
فإذا كان لك جدة من جهتين، ولك جدة أخرى من جهة واحدة من جهة الأب أو من جهة الأم، فهل يقتسمن السدس بالسوية أم لا؟
الجواب: أن من أدلت بجهتين ترث ثلثي السدس. وثلث السدس يكون للجدة التي أدلت بجهة واحدة.
الدليل:
وذلك لأن الجدة الأولى جدة من جهتين فهي في الحقيقة جدتان. كما يمكن أن يكون الزوج ابن عم. فلو ماتت امرأة عن زوج وزوجها أيضا ابن عمها: (فيكون له النصف كزوج ويكون له الباقي لأنه ابن عم. فهنا قد أدلى بجهتين فكذلك الجدة إذا أدلت بجهتين. هذا هو المشهور في المذهب.
الخلاصة:
إذن القاعدة في الجدة: أنها ترث السدس مع عدم الأم.
وأن الجدات إن كنّ مدليات بجهة واحدة وكنّ بدرجة واحدة فإنهنّ يشتركن في السدس. وأما إذا لم يكنّ بدرجة واحدة بل إحداهنّ أقرب من الآخرى فأقرب القربى تحجب البعدى.
وإن كنّ في درجة واحدة، وإحداهنّ تدلي بجهتين فإن ثلث السدس لمن تدلي بجهة وثلثي السدس لمن تدلي بجهتين.
ـ فصل ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والنصف فرض بنت وحدها [(19/16)
النصف فرض البنت بشرطين:
1_عدم المعصب وهو أخوها أي الابن.
2_عدم المشارك وهى أختها أي البنت.
مثال:
توفي عن بنت وأب: (فللبنت النصف لعدم المعصب والمشارك.
فإذا مات عن بنتين فليس لواحدة منهما النصف لوجود المشارك.
وإذا مات عن ابن وبنت فلاترث النصف لوجود المعصب.
الدليل:
ودليل ذلك قوله تعالى: [فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ماترك. وإن كانت واحدة فلها النصف] فدلت هذه الآية على أن البنت إن كان معها مشارك فإن لهما الثلثين. وإن كانت واحدة فلها النصف.
ودلت آية أخرى على أن المعصب إذا وجد فللذكر مثل حظ الأنثيين. قال تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين] .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم هو لبنت ابن وحدها [
ثم هو: أي النصف.
لنبت ابن: وذلك بثلاثة شروط:
1 ـ عدم المعصب وهو ابن الابن أو ابن عمها.
2ـ عدم المشارك وهي أختها أو بنت عمتها أو بنت عمها.
3 ـ عدم وجود فرع وارث أعلى منها كالابن أو البنت.
مثال:
توفي عن بنت ابن وأخ شقيق: (فلبنت الابن النصف.
مثال آخر:
توفي عن بنت ابن وعم: (فلبنت الابن النصف لعدم المشارك وعدم المعصب وعدم وجود فرع وارث أعلى منها.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الأخت لأبوين [
وهي الأخت الشقيقة.
وترث النصف بأربعة شروط:
1 ـ عدم المشارك. وهي الأخت الشقيقة.
2 ـ عدم المعصب. وهو الأخ الشقيق.
3 ـ عدم الأصل الوارث من الذكور. كالأب والجد.
4 ـ عدم الفرع الوارث ذكرا كان أو أنثى. كالبنت وبنت الابن وابن الابن.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو لأب وحدها [
كذلك ترث الأخت لأب النصف.
وذلك بخمسة شروط:
1 ـ 4: وهي الشروط المذكورة في إرث الأخت الشقيقة النصف.
وتزيد شرطا خامسا وهو:
5 ـ عدم وجود الأشقاء والشقيقات فإن وجد أخ شقيق أو أخت شقيقة فأكثر فإنهم يحجبونها عن النصف.(19/17)
قال تعالى: [يستفتونك. قل: الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ماترك. وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثلثان لثنتين من الجميع إن لم يعصبن بذكر [
فهذه الأصناف الأربعة لهنّ الثلثان إذا اختل شرط عدم المشارك.
فإذا وجد المشارك مع توفر سائر الشروط السابقة فإنهن يرثن الثلثين.
مثال:
توفي عن بنتين وأب: (فللبنتين الثلثان. لوجود المشارك وعدم المعصب.
إذن: إذا توفرت الشروط السابقة سوى شرط عدم المشارك فحينئذ تنتقل من فريضة النصف إلى فريضة الثلثين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والسدس لبنت ابن فأكثر مع بنت [
فبنت الابن تأخذ السدس مع البنت فإذا أخذت البنت النصف فلبنت الابن السدس تكملة الثلثين. وإنما تأخذ السدس مع عدم المعصب. ومعصبها هو ابن الابن.
روى البخاري في صحيحه أن ابن مسعود سئل عن: بنت وبنت ابن وأخت فقال: لأقضينّ بها بقضاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: للبنت النصف. ولبنت الابن السدس. وللأخت الباقي.
فبنت الابن تأخذ السدس مع البنت وإن كنّ ـ أي بنات الابن ـ أكثر من واحدة.
مثال:
مات عن بنت وثلاث بنات ابن وأخت: (فلبنات الابن الثلاث: السدس، يقتسمنه بالسوية.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخت فأكثر لأب مع أخت الأبوين مع عدم معصب فيهما [
فالأخت لأب مع الشقيقة تقوم مقام بنت الابن مع البنت. فإذا أخذت الأخت الشقيقة النصف بتوفر الشروط التي تقدم ذكرها وهي أربعة، وفي المسألة أخت الأب ولا معصب لها فللأخت لأب: السدس قياسا على بنت الابن مع البنت. وكذلك إجماعا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن استكمل الثلثين بناتٌ، أو هما سقط مَن دونهنّ إن لم يعصبهنّ ذكر بإزائهنّ أو أنزل منهنّ [(19/18)
إذا استكمل الثلثين بنات كأن يكون في المسألة ابنتان أو ثلاث بنات وبنت ابن فلا شيء لبنت الابن لأن البنات استكملن الثلثين.
قوله:] أو هما [: بنت وبنت ابن وبنت ابن ابن، فللبنت النصف. ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ولاشيء لبنت ابن الابن.
فإذا استكمل الثلثين بنات أو بنات وبنات ابن سقط من دونهنّ إن لم يعصبهنّ ذكر بإزائهنّ.
مثال:
مات رجل عن بنتين وبنت ابن وابن بن: (فللبنتين: الثلثان، وبنت الابن ليس لها السدس لاستكمال البنات الثلثين.ولكنها لا ترث بالفرض لوجود ابن الابن الذي قد عصبها فلهما الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين سواء كان هذا المعصب بإزائهنّ كما في هذا المثال. أو أنزل منهنّ كما في المثال التالي:
مثال آخر:
مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن: (فابن ابن الابن يعصبها مع أنه أعلا منه، لقوله تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم] ويسمى الابن المبارك.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكذا الأخوات من الأب مع أخوات الأبوين إن لم يعصبهنّ أخوهنّ [
إذا مات عن شقيقين وأخت لأب فللشقيقين الثلثان ولاشيء لأخت الأب.لكن إن عصبها أخوها فإنها ترث تعصيبا. ومعصب الأخت لأب هو الأخ لأب.
مثال:
مات عن شقيقين وأخت لأب وأخ لأب: (فللشقيقين الثلثان. والباقي للأخ لأب والأخت لأب للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخت فأكثر ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد [
الأخت الشقيقة أو الأخت لأب ـ عند عدم الأخت الشقيقة ـ فلو كانت أختان شقيقتان أو ثلاث أخوات شقيقات وعند عدم الأخوات الشقيقات، ثلاث أخوات لأب.
فالأخت فأكثر ترث بالتعصيب لا بالفرض ما فضل عن فرض البنت فأزيد.
مثال:
مات عن بنتين وأختين شقيقتين: (فللبنتين الثلثان، وللأختين الشقيقتين الباقي.
إذن: الأخوات الشقيقات أو لأب عصبة مع البنات وبنات الابن. وهذه تسمى العصبة مع الغير.(19/19)
ودليل هذه المسألة حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ السابق أنه ورّث الأخت الباقي فجعلها عصبة مع البنات.
مثال:
مات عن بنتي ابن وأخت لأب: (فلبنتي الابن الثلثان. الباقي للأخت لأب تعصيبا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وللذكر أو الأنثى من ولد الأم السدس، ولاثنين فأزيد السدس بينهما بالسوية [
للذكر أو الأنثى من ولد الأم أي الأخ لأم أو الأخت لأم لكل واحد منهما السدس بثلاثة شروط:
1 ـ الانفراد. كأن يكون في المسألة أخ لأم أو أخت لأم لا أكثر.
2 ـ عدم الفرع الوارث. فإن كان في المسألة فرع وارث فلا يأخذ الأخ لأم أو الأخت لأم شيئا.
3 ـ عدم الأصل الوارث من الذكور. فإذا وجد الأب أو الجد فلا يرث هذه النصيب.
فإذا كانوا أكثر من واحد أي اثنين أو اثنتين فأكثر فالثلث بينهما بالسوية، للذكر مثل الأنثى، وذلك مع توفر الشرط الثاني والثالث.
مثال:
مات عن خمسة أخوة لأم: (فالثلث بينهم بالسوية لافرق بين ذكرهم وأنثاهم.
الدليل:
لقوله تعالى: [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث] وفي قراءة غير مشهورة [.. يورث كلالة وله أخ أو أخت لأم] وهو مروية عن سعد بن أبي وقاص وغيره.
وقد اتفق العلماء على أن المراد بها الأخوة لأم.
ـ فصل: في الحجب ـ
الحجب لغة: المنع.
واصطلاحا: منع وارث من نصيبه بالكلية أو بعضه.
نوعا الحجب: (باعتبار مقدار المحجوب)
وعليه: فالحجب نوعان: حجب حرمان، وحجب نقصان.
فحجب الحرمان: أن يمنع الوارث من نصيبه بالكلية.
مثال:
إذا وجد في مسألة: أخ لأم أو أخ شقيق ووجد معهم ابن. فإن الابن يحجب الأخ لأم والشقيق حجب حرمان. فلايأخذان من نصيبهما شيئا.
وأما حجب النقصان: فهو ألا يأخذ الوارث أوفر حظيه بل يأخذ الأقل.
مثال:(19/20)
إذا وجد مع الزوج ابن فإن الزوج لا يأخذ أوفر حظيه بل يأخذ أقلهما وهو الربع.
نوعان آخران للحجب: (باعتبار نوع الحاجب)
وهذا الفصل هو في حجب الأشخاص. وهو نوع من الحجب.
والنوع الآخر هو: حجب الأوصاف. وهو أن يقوم بالوارث وصف يمنعه من الإرث كأن يقوم به الرقّ أو القتل أو الكفر، فإن هذا حاجب له وصفا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] تسقط الأجداد بالأب [
فالأجداد يسقطون بالأب. فإذا مات عن أبيه وجده فلا شيء للجد.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأبعد بالأقرب [
فيسقط جد الجد بالجد.
إذن: كل أصل وارث ذكر فإنه يُسقط من فوقه من جنسه. فالأب يسقط أب الأب وهكذا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجدات بالأم [
فإذا اجتمع في مسألة: أم وأم أم فلاشيء لأم الأم.
فإذن: كل أصل وارث أنثى يسقط من فوقه من جنسه.
فكل وارث من الأصول يسقط من فوقه من جنسه.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الابن بالابن [
ولد الابن: المراد به ابن الابن وبنت الابن. فإنهما يسقطان بالابن. فإذا وجد الابن ووجد فرع وارث دونه فإن الابن يسقطه.
وعليه: فكل فرع وارث ذكر يسقط من تحته.
مثال:
مات عن ابنه وابن ابنه: (فلاشيء لابن الابن لوجود الابن.
مثال آخر:
مات عن ابنه وبنت ابنه: (فإن الابن يحجب بنت الابن.
وأما الإناث من الفرع الوارث فلا يحجبن من تحتهنّ إلا إن استكملت الثلثين وإلا فعلى التفصيل المتقدم في تكملة الثلثين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأبوين بابن وابن بن وأب [
ولد الأبوين: المراد بهم الإخوة الأشقاء سواء كانوا ذكورا أو إناثا. فالإخوة الأشقاء يُحجبون بالابن وابن الابن وبالأب.
إذن: هم يحجبون بكل فرع وارث. وكذا بالأب.
مثال:
مات عن أخت شقيقة وابن: (فلاترث الشقيقة شيئا.
مثال آخر:
مات عن أخ شقيق وابن ابن.: (فلا شيء للأخ الشقيق.(19/21)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأب بهم وبالأخ لأبوين [
ولد الأب: هو الأخ لأب أو الأخت لأب. فإنهم يُحجبون بالفرع الوارث الذكر وبالأب وبالإخوة الأشقّاء.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأم بالولد وبولد الابن وبالأب وأبيه [
ولد الأم: هو الأخ أو الأخت لأم. لأن كلمة الولد يدخل فيها الذكر والأنثى.
فالإخوة لأم يُحجبون بمن يلي:
1ـ الولد: أي الذكر والأنثى فيحجبون بالبنت وبالابن.
مثال: مات عن بنت وأخ لأم فلا شيء للأخ لأم.
إذن كل فرع وارث فإنه يحجب الإخوة لأم.
وأما الإخوة لأب أو الأشقاء فالذي يحجبهم هو الفرع الوارث الذكر.
2 ـ ولد الابن: أي ابن الابن وبنت الابن. فهم يُحجبون بكل فرع وارث.
3 ـ الأب.
4 ـ وأبيه. أي أب الأب.
ولم يقل في الإخوة الأشقاء أنهم يحجبون بأب الأب لأن الجد لا يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب على مذهب الحنابلة.
وأما الإخوة لأم فإنه يحجبهم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويسقط كل ابن أخ وعم [
أي يسقط بالجد كل ابن أخ وعم. فابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب: يسقطان بالجد.
وهذا ما تقدم ذكره متناقض مما يدل على ضعف قوله. فأب أب الأب الواسطة بينه وبين الميت اثنان وابن الأخ الشقيق الواسطة بينه وبين الميت اثنان وهم الأخ الشقيق والأب فالواسطة متساوية.
والجد والأخ الشقيق الواسطة واحدة وهي الأب.
قالوا: الواسطة هنا منعت، وهناك مع التماثل لم تمنع.
وهذا تناقض كما تقدم تقريره.
كذلك العم يحجب بالجد فإذا وجد في مسألة جد وعم فإن العم لايرث شيئا.
ـ باب: العصبات ـ
العصبة في اللغة: مأخوذة من الشد والتقوية.
والعصبة في الأصل هم الأقارب من الأب كالأخ الشقيق والأخ لأب والعم والجد لأب. لأنهم يشدون ويقوون قريبهم.
والتعصيب هو الإرث بغير تقدير. فالمعصب هو الذي يرث بغير تقدير.
أحوال العصبات:
والعصبة لهم ثلاثة أحوال.(19/22)
الحال الأولى: أن يرثوا المال كله. وذلك حيث لم يكن هناك ذو فرض.
مثال:
مات عن أخيه الشقيق. فللأخ الشقيق المال كله.
قال تعالى: [وهو يرثها إن لم يكن لها ولد] يعني يرث المال كله.
الحال الثانية: أن يأخذوا ما أبقت الفروض. وذلك حيث كان هناك ذو فرض ولم تستوف الفروض التركة.
لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “ متفق عليه.
الحال الثالثة: ألا يرثوا شيئا. وذلك حيث كان هناك ذو فرض واستوفت الفروض التركة فإنه يسقط ولا يرث شيئا.
مثال:
مات عن ابنتين وجد وجدة وأخ شقيق: (فللبنتين الثلثان. وللجد السدس. وللجدة السدس. والأخ الشقيق يسقط ولا يرث شيئا.
أنواع العصبات:
واعلم أن العصبة على ثلاثة أنواع: عصبة بالنفس وبالغير ومع الغير.
النوع الأول: أما العصبة مع الغير:
فقد تقدمت وهنّ الأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع إناث الفرع.
مثال:
مات عن بنت وأخت شقيقة: (فللبنت النصف وللشقيقة الباقي.
مثال آخر:
مات عن بنتين وأخت لأب: (فللبنتين الثلثان، والأخت لأب لها الباقي.
فالعصبة مع الغير إناث.
وتكون الأخت الشقيقة كالأخ الشقيق.
مثال:
مات عن بنتين وأخت شقيقة وأخ لأب: (فللبنتين الثلثان. والأخت الشقيقة تأخذ الباقي. ولا شيء للأخ لأب وذلك لأن الأخت الشقيقة عصبة فكما لو كان الأخ الشقيق موجودا.
النوع الثاني: العصبة بالغير:
فهنّ الأخوات الشقيقات والأخوات لأب والبنات وبنات الابن مع ذكر مماثل في الدرجة والوصف.
فإذا كان في المسألة أخت شقيقة وأخ شقيق فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإذا كان في المسألة أخت لأب وأخ لأب فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإذا كان في المسألة بنت وابن فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإذا كان في المسألة بنت ابن وابن ابن فللذكر مثل حظ الأنثيين.(19/23)
وإذا كان في المسألة بنت ابن وابن ابن ابن فهذا لايماثلها في الدرجة ورغم ذلك فإنه يعصبها وهذه المسألة مستثناة وقد تقدم ذكر هذا حيث لم تستكمل البنات الثلثين.
قال تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين]
وقوله: [في أولادكم] عام في أولاد الصلب وفي أولاد الابن.
وقال سبحانه وتعالى في الأخوات: [وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين]
هذه في العصبة بالغير.
النوع الثالث: العصبة بالنفس.
وهم كل وارث في الأصول كالأب والجد وفي الفروع كالابن وابن الابن وفي الحواشي كالأخ والعم ـ سوى الإخوة لأم ـ مع المعتِق والمعتقة وعصبتهم المتعصبون بأنفسهم.
جهات العصبة:
1 ـ البنوّة.
2 ـ الأبوّة.
3 ـ الأخوّة.
4 ـ العمومة.
5 ـ الولاء.
وهي مقدمة بعضها على بعض بحسب هذا الترتيب (البنوّة (الأبوّة (الأخوّة (العمومة (الولاء)
قال بعضهم:
بنوة أبوة أخوة ـ عمومة وذو الولا التتمة.
وعلى المذهب هناك درجة سبق ذكرها وهي الجدودة وأخوة.
فتكون الجهات على المذهب: بنوّة ثم أبوّة ثم جدودة ثم إخوة ثم بنو إخوة ثم عمومة ثم ولاء.
فإذا اجتمع في الإرث معصبان من جهتين مختلفتين فتقدم الجهة المتقدمة.
مثال:
مات عن زوجته وأبيه وعمه الشقيق: (فللزوجة الربع. وللأب الباقي. ولاشيء للعم. لأن جهة الأبوة مقدمة على جهة العمومة.
فإذا كانا في جهة واحدة فيتقدم الأقرب.
مثال:
مات عن عم شقيق وابن عم شقيق: (فنقدم العم الشقيق على ابن العم الشقيق.
مثال آخر:
مات عن أخ لأب وابن أخ شقيق: (فإنه يقدم الأخ لأب على ابن الأخ الشقيق لأنه أقرب إلى الميت لأن بينهما واسطة بينما بين الميت وابن الأخ الشقيق واسطتان.
فإن كانا في القرب سواء فنقدم الأقوى.(19/24)
والأقوى من أدلى بجهتين. فإذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فيقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب. وإذا اجتمع عم شقيق وعم لأب فنقدم العم الشقيق لأنه أقوى وهكذا.
قال بعضهم:
فبالجهة التقديم ثم بقربة ـ وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا.
مسألة: إذا ماتت عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء.
فالزوج له النصف والأم لها السدس والإخوة لأم لهم الثلث. والإخوة الأشقاء لا يبقى لهم شيء.
القول الأول:
هذا هو مذهب الحنابلة والحنفية.
لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “فقد أعطينا أصحاب الفروض فروضهم ولم يبق للعصبة شيء.
لكن روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف أنه قيل لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ اجعل أبانا حمارا ـ يعني لاتعتبره شيئا ـ فهم يجتمعون بالأم فلماذا فرقنا بين الإخوة الأشقاء الذين أدلوا بجهة الأم وجهة الأب وبين الإخوة لأم الذين أدلوا بجهة الأم، فلنحذف الأب وحينئذ يكونون كأولئك فنشركهم.
لكن إسنادها ضعيف. وفي رواية اجعل أباهم حمارا أو اجعلهم حجرا في اليم. فمن ثم سميت هذه المسألة بـ الحمارية وبالحجرية واليمّيّة.
القول الثاني: قول المالكية والشافعية.
بل نشركهم ونجعل أباهم حجرا في اليم فلا نعتبر أباهم شيئا. وحينئذ نشركهم فنقول:
بقي الثلث فنجعلهم يشتركون فيه. يعني نقسمه أسهما ونعطي كل واحدا منهم سهما.
هذا هو مذهبهم، وجعلوا أباهم ـ كما تقدم ـ حجرا في اليم.
المناقشة:
ولكن ينتقض عليهم بأن يقال لهم: قسموا لنا هذه المسألة:
أخ لأم ومائة أخ شقيق مع الأم والزوج: (فإن الزوج يأخذ النصف. وتأخذ الأم السدس ويأخذ الأخ للأم السدس. والباقي للإخوة الأشقاء. هكذا تتفق المذاهب الأربعة. نعطي الإخوة المائة الباقي السدس فهل شركوهم وأعطوهم ما أعطوهم في المسألة السابقة؟(19/25)
إذن تنتقض عليهم. فالواجب عليهم أن يشركوهم في هذه المسألة كما أن الواجب علينا جميعا أن نعمل بظاهر النص الوارد، ويكفي هؤلاء أنهم عصبة يرثون في مسائل كثيرة حيث لايرث الأخ لأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] باب العصبات: وهم كل من لو انفرد لأخذ المال بجهة واحدة [
ما الجهة الواحدة؟ هي جهة التعصيب، احترازا ممن يأخذها بجهتين.
مثال:
لو ماتت عن زوجها فقط. فإنه يأخذ المال كله فرضا وردّا. فقد أخذه بجهتين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع ذي فرض يأخذ مابقي [
هذه الحال الثانية.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فأقربهم ابن فابنه وإن نزل [
هذه جهة البنوة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الأب [
هذه جهة الأبوة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الجد وإن علا مع عدم أخ لأبوين أو لأب [
أما إذا كان الإخوة لأب أو الأبوين موجودين فإنهما يشتركون كما تقدم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم هما [
أي الإخوة لأبوين والإخوة لأب.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم بنوهما أبدا، ثم عم لأبوين ثم عم لأب ثم بنوهما كذلك ثم أعمام أبيه لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك ثم أعمام جده ثم بنوهم كذلك [
ولكن القاعدة المتقدمة تريح من حفظ هذه التفاصيل.
وقال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا [
وهذا صحيح لأنه أقرب.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فأخ لأب أولى من عم وابنه وابن أخ لأبوين [
فالأخ لأب أولى من ابن الأخ الشقيق.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وهو أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين [
لأنه أقرب.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع الاستواء يقدم من لأبوين [
هذه مرتبة القوة مع الاستواء في الدرجة قربا فإنه يقدم مَن لأبوين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن عُدم عصبة النسب ورث المعتِق ثم عصبته [
إذن: عصبة النسب ثم عصبة الولاء.(19/26)
ـ فصل ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] يرث الابن وابنه والأخ لأبوين ولأب مع أخته مثليهما [
الابن مع البنت يأخذ مثليها.
ابن الابن مع بنت الابن يأخذ مثليها.
الأخ الشقيق مع الأخت الشقيقة يأخذ مثليها.
والأخ لأب مع الأخت لأب يأخذ مثليها.
هذه هي العصبة بالغير.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكل عصبة غيرهم لا ترث أخته معه شيئا [
العم الشقيق هل ترث معه أخته شيئا؟
الجواب:لا.
لأنها من ذوي الأرحام.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وابنا عم أحدهما أخ لأم أو زوج له فرضه والباقي لهما [
ماتت امرأة عن ابني عمها أحدهما زوجها أو أخوها لأمها.
هنا مسألتان:
الأولى: إذا قلنا: أحدهما زوجها (فله النصف، والباقي لهما.
الثانية: إذا قلنا: أحدهما أخ لأم (فله السدس، والباقي لهما.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويبدأ بذوي الفروض، وما بقي للعصبة، ويسقطون في الحمارية [
والحمارية هي: زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء. وتسمى عند القائلين بالتشريك بالمشرّكة أو المشرِّكة لثبوت التشريك فيها.
التأصيل هو:
تحصيل أقل عدد بحث تخرج سهام المسألة بلا كسر.
والأصول هي: (2, 3 , 4 , 5 , 6 , 8 , 12 , 24)
مثال:
…مات عن زوج وأم وابن.
12
3
4/1
زوج
2
6/1
ابن أم
7
الباقي
ابن
العول:
لغة الزيادة.
اصطلاحا: أن تزيد سهام المسألة عن أصلها زيادة يترتب عليها نقص أنصبة الورثة.
ـ والأصول التي تعول هي: 6، 12، 24.
ـ فالستة (6) تعول إلى: (7) و (8) و (9) و (10) .
مثال: (6) ((7)
توفي عن زوج وأختين شقيقتين.
7/6
3
2/1
زوج
4
3/2
شقيقتان
مثال آخر: (6) ((8)
مات عن زوج وأم وأخت شقيقة.
فأصل المسألة من (6) للزوج النصف (2) وللأم الثلث (2) وللأخت الشقيقة النصف (3) وتعول المسألة إلى (8)
مثال آخر: (6) ((9)
ماتت عن زوج وأخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم.(19/27)
فأصل المسألة من (6) : للزوج النصف (3) وللأخت الشقيقة النصف (3) وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين (1) وللأخت لأم السدس (1) . فتعول المسألة إلى (9) .
مثال آخر: (6) ((10)
ماتت عن زوج وأم وأختين لأم وأختين شقيقتين.
فأصل المسألة من (6) : للزوج النصف (3) وللأم السدس (1) وللأختين لأم الثلث (2) وللأختين الشقيقتين الثلثان (4)
فتعول المسألة إلى (10) .
ـ وأصل (12) يعول إلى: (13) و (15) و (17) .
مثال: (12) ((13) .
مات عن زوجة وأختين شقيقتين وأم.
فأصل المسألة من (12) : للزوجة الربع (3) وللأختين الشقيقتين الثلثان (8) وللأم السدس (2) .
فتعول المسألة إلى (13) .
مثال آخر: (12) ((15)
إذا ماتت عن بنتين وزوج وأم وأب.
فأصل المسألة من (12) : للبنتين الثلثان (8) ، وللزوج الربع (3) ، وللأم السدس (2) ، وللأب السدس (2) .
فتعول المسألة إلى (15)
مثال آخر: (12) ((17) .
مات عن ثلاثة زوجات وجدتين وأربع أخوات لأم وثماني أخوات شقيقات أو لأب.
فأصل المسألة من (12) : فللزوجات الأربع (3) ، وللجدتين السدس (2) ، وللأخوات لأم الثلث (4) وللأخوات الشقيقات أو لأب الثلثان (8) .
فتعول المسألة إلى (17) .
ـ والأصل أربع وعشرون (24) يعول إلى (27) سبعة وعشرين مرة واحدة.
مثال: (24) ((27) :
توفي عن زوجة وأب وأم وبنتان
24
3
8/1
زوجة
4
6/1
أب
4
6/1
أم
16
3/2
بنتان
ـ مسألة الردّ ـ
مثال:
مات عن أم وأخت شقيقة.
6/5
2/2
2/1
أم
3/2
2/1
شقيقة
بقي واحد وهذه تسمى مسألة الرد.
المذاهب: ... ...
القول الأول:
ذهب الحنابلة والأحناف إلى القول بالرد. بمعنى: أن يُرجع ما بقي من التركة إلى أهل الفروض بنسبة فروضهم فحينئذ يصبح أصل المسألة بعد الرد (5) . فيكون (2) من (5) أكثر من الثلث (3) من (5) أكثر من النصف.(19/28)
أدلة القول الأول:
1 ـ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ من ترك مالا فلورثته “ متفق عليه.فهذا يدل على أن الإرث يكون للورثة.
2 ـ قول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ:” ولا يرثني إلا ابنة لي “ متفق عليه.
فدل على أنه ترث ماله كله.
3 ـ وقول الله عزوجل: [وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] .
القول الثاني:
وذهب الشافعية والمالكية إلى المنع من الردّ.
الأدلة:
ـ بأن الله تبارك وتعالى قد أعطى أصحاب الفروض فروضهم. فهذا له النصف مثلا، وفي الردّ يكون له أكثر من النصف.
المناقشة:
والجواب عن دليل المانعين: أن هذا بسبب الإرث، وهذا بسبب آخر وهو: أنه قد بقي من الإرث ما احتجنا فيه إلى الردّ.
الراجح:
والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة.
مسألة:
بنت وزوجة وأخ لأم.
8
4
2/1
بنت
1
8/1
زوجة
لا يرث
أخ لأم
فأصبحت المسألة من (5) .
فالبنت تأخذ 5/4 التركة، والزوجة تأخذ 5/1 التركة.
مسألة:
مات عن زوج وأخوين لأم.
6/5
3/3
2/1
زوج
2/2
3/1
أخوان لأم
هنا في هذه المسألة والتي قبلها أدخلنا الزوج في الردّ.
ـ والذين يثبتون مسألة الردّ لا يثبتون هذا وهم الذين تقدم ذكرهم وهم الحنابلة والأحناف. ويقولون: الزوج لايردّ له، وإنما يردّ إلى بيت المال.
مثال:
رجل مات عن زوجته فقط. فاالزوجة تأخذ الربع والباقي لبيت مال المسلمين.
دليل الذين منعوا الرد للزوج:
قالوا: قال الله عزوجل: [وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] والزوج والزوجة ليسا من أولى الأرحام.
المناقشة:
أن هذه الآية وإن دلت على ثبوت الرد لأولى الأرحام فإنها لم تمنع من ثبوته لغيرهم، فكونهم أولى لايمنع أن كون كذلك من ثبت له النكاح أن يكون كذلك أولى لامانع من هذا.
الترجيح:
فالصحيح هو الردحتى للزوج وهو قول الشيخ ابن سعدي وهو مروي عن عثمان خلافا للمشهور عند الحنابلة.
إذن:(19/29)
الحنابلة في هذه المسألة (زوج وأخوين لأم) يردّ عندهم الباقي إلى الأخوين لأم، لأنهما من أولي الأرحام.
ـ باب أصول المسائل ـ
تقدم تعريف تأصيل المسألة أنه: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام الورقة بلا كسر.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] الفروض ستة: نصف، وربع، وثمن، وثلثان، وثلث، وسدس [.
تقدم هذا في موضع سابق، وهناك فرض سابع ثبت بالاجتهاد وهو ثلث الباقي.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأصول سبعة: فنصفان أو نصف وما بقي من اثنين [
مسألة فيها نصفان أو فيها نصف ومابقي.
مثال:
زوج وأخ شقيق: (النصف للزوج وللأخ الشقيق ما بقي. فتكون من (2) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وثلثان أو ثلث ومابقي أو هما من ثلاثة. وربع أو ثمن وما بقي أو مع النصف من أربعة، ومن ثمانية [
واضح هذا على الطريقة المتقدمة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فهذه أربعة لا تعول [.
وهي (2) و (3) و (4) و (8) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والنصف مع الثلثين أو الثلث أو السدس أو هو ما بقي من ستة، وتعول إلى عشرة شفعا ووترا [
يعني أن (6) تعول إلى (10) شفعا ووترا يعني سبعا وثمانية وتسعة وعشرة. فشفعا (8) و (10) ووترا (7) و (9) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والربع مع الثلثين أو الثلث أو السدس من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر وترا [
يعني (13) و (15) و (17) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثمن مع سدس أو ثلثين من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين [
تعول إلى عدد واحد وهو (27) .
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن بقي بعد الفروض شيء ولا عصبة رُدّ على كل فرض بقدر غير الزوجين [
وغير الزوجين هذا في المذهب.
وتقدم ما اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مروي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ وهو أن الزوجين داخلان في الردّ.
ـ التصحيح ـ(19/30)
تعريفه: وهو تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر.
والنسب الأربع هي: التماثل والتداخل والتوافق والتباين.
ـ فالتماثل: عبارة عن مساواة عدد لآخر في القيمة. كاثنين واثنين، وستة وستة.
والحكم فيه: هو الاكتفاء بأحد العددين.
ـ والتداخل: عبارة عن عددين أكبر وأصغر والأكبر ينقسم على الأصغر بلا كسر كثمانية وأربعة واثنين.
والحكم فيه: أن يكتفى بالأكبر.
ـ التباين: عبارة عن عددين لايوجد بينهما اتفاق في أي جزء من الأجزاء كالثلاثة مع الأربعة.
والحكم فيه: أنه يضرب كامل أحدهم في كامل الآخر.
طريقة التصحيح:
الانكسار إما أن يكون على فريق واحد وإما أن يكون على فريقين فأكثر.
فإذا كان الانكسار على فريق واحد فطريق العمل: أن تنظر بين رؤوس الفريق وسهامه من المسألة، فلا يخلو من حالتين: إما تباين أو توافق.
فإن باينت سهامه رؤوسه صارت رؤوسه هي جزء السهم فنضرب في أصل المسألة، أو في عولها إن كانت عائلة. فما بلغ فمنه تصح المسألة، فمن له شيء من المسألة أخذه مضروبا في جزء السهم فإن كان واحدا أخذه وإن كان فريقا فاقسمه عليهم.
وإن وافقت رؤوسه سهامه رُدت الرؤوس إلى وفقها، فيكون الوفق هو جزء السهم تضربه في أصل المسألة أو في عولها إن كانت عائلة فما بلغ فمنه تصح المسألة فمن له شيء أخذه مضروبا في جزء السهم.
مثال: (المباينة)
هلكت عن زوج وخمس بنين.
فالمسألة من أربعة: للزوج الربع (1) وللأبناء الباقي (3) . والثلاثة لا تنقسم على البنين فإن رؤوسهم خمسة وسهامهم ثلاثة، فيكون عدد الرؤوس هو جزء السهم، فنضربه في أصل المسألة (4) = (5 × 4) = (20) فتصبح من عشرين:
للزوج (1) مضروبا في (5) = (5) ، وللأبناء (3 × 5) = (15) لكل ابن ثلاثة أسهم.
4×5= 20
1×5 = 5
4/1
زوج
3× 5 =15
الباقي
5 أبناء
مثال: (الموافقة)
هلك عن أربع أخوات شقائق وعم.(19/31)
فالمسألة من ثلاثة: للشقيقات الثلثان (2) ، غير أن (2) لا تنقسم عليهم ـ أي بحيث لا يكون الناتج كسرا. فننظر بين رؤوس الفريق وهي أربعة وسهامه من المسألة وهي اثنان فنجد أن بينهما توافقا. فكلاهما يقبل القسمة على اثنين. فيكون وفق الأربعة في هذه المسألة هو اثنان. فنضرب أصل المسألة في جزء السهم وهو اثنان فتصح من ستة: للشقائق اثنان في اثنين = 4 لكل واحدة سهم، وللعم الباقي وهو واحد مضروب في اثنين = 2 فيكون له اثنان.
3 × 2 = 6
(2
الباقي
عم
(4 لكل واحدة سهم
3/2
أربع شقيقات
ـ أما إن كان الانكسار على فريقين فلنا نظران:
ـ النظر الأول: للننظر بين الرؤوس والسهام. فإما أن تتباين أو توافق. فإن باينت أثبتنا عدد الرؤوس. وغن وافقت أثبتنا وفقها أي ونعد الرؤوس.
ـ النظر الثاني: ننظر بين المثبتات من الرؤوس وعولها إن كانت عائلة مما بلغ فمنه تصيح المسألة. وعند القسم من له شيء أخذه مضروبا في جزء السهم فإن كان واحدا أخذه وإن كان فريقا قسم عليهم.
مثال:
ماتت عن زوج وخمسة إخوة لأم وثلاث جدات.
فالمسألة من (6) : للزوج النصف (3) ، وللإخوة لأم الثلث (2) وللجدات السدس (1) .
غير أن (2) لاتنقسم على ثلاثة فسهام الإخوة لأم لاينقسم على رؤوسهم. فننظر بين رؤوس الفريق وهي خمسة وبين سهامه وهي (2) فنجد أن بينهما تباينا فنثبت كامل الرؤوس وهو (5) . وكذلك فسهم الجدات واحد ورؤوسهنّ ثلاثة. لاينقسم الواحد على ثلاثة. ونظرنا بينهما فوجدنا بينهما تباينا فنثبت كامل الرؤوس.
ثم ننظر بين المثبتات من الرؤوس وهي (5) و (3) فنجد أن بينهما تباينا فنضرب أحدهما بالآخر فما خرج فهو جزء السهم
(5 × 3 = 15) ، فنضربه في أصل المسألة (15 × 6 = 90) . وعند القسم من كان له شيء أخذه مضروبا بجزء السهم.
فالزوج يأخذ: (3 × 15 = 45)
الأخوات لأم يأخذن: (2 × 15 = 30)(19/32)
والجدات يأخذن: (1 × 15 = 15) .
فمصحح المسألة هو (90)
6 × 15 = 90
(45
2/1
زوج
(30 لكل واحدة 6
3/1
5 إخوة لأم
(15 لكل واحدة 3
6/1
3 جدات
ـ المناسخات ـ
تعريفها لغة:
هي من النسخ وهو التغيير والنقل والإزلة.
واصطلاحا:
أن يموت شخص وقبل قسمة تركته يموت من ورثته واحد فأكثر.
حالات المناسخات: ...
وهي ثلاث:
ـ الحالة الأولى:
أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول ويرثونه كما يرثون الأول.
طريقة العمل:
فحينئذ تقسم التركة كما لو لم يوجد هذا الميت الثاني.
مثال:
هلك عن أربعة أبناء، وقبل قسمة التركة مات أحدهم. وورثته هم بقية ورثة الميت الأول.
فحينئذ تكون المسألة من ثلاثة: لكل واحد منهم سهم.
ـ الحالة الثانية:
أن يكون ورثة كل ميت لا يرثون غيره.
طريقة العمل:
أـ نعمل للميت الأول مسألة ونصححها إن احتاجت إلى تصحيح ونعرف ما بيد كل وارث.
ب ـ نعمل لكل ميت من الأموات الآخرين مسألة ونقسمها على ورثته.
ج ـ ثم ننظر بين مسألة كل ميت من هؤلاء الأموات المتأخرين وسهامه من مسألة الميت الأول فلا يخلو: إما أن تنقسم سهامه على مسألته. أو توافقها أو تباينها. فما انقسم منها صح مما صحت منه مسألة الميت الأول، وما وافق أثبتنا وفق المسألة، وما باين أثبتنا كل مسألته. وبهذا يكون قد انتهى النظر بين السهام والمسائل.
ء ـ ثم ننظر بين المثبتتات من مسائل الأموات بالنسب الأربع وحاصل النظر يكون كجزء سهم يضرب في مسألة الميت الأول وحاصل الضرب هو الجامعة للمسائل.
هـ ـ وعند التوزيع؛ من له شيء من مسألة الميت الأول أخذه مضروبا فيما هو كجزء السهم. فإن كان حيا أخذه وإن كان ميتا قسمناه على مسألته. وحاصل القسمة نضعه فوق مسألته ويكون كجزء السهم لها يضرب به سهام كل وارث منها وحاصل الضرب هو نصيبه من الجامعة.
مثال:
الجامعة
48
4/3
3/4
2/6
4 × 12
×
ت
1
ابن
×
ت
1
ابن
×(19/33)
ت
1
ابن
12
1
ابن
6
1
ابن
6
1
ابن
4
1
ابن
4
1
ابن
4
1
ابن
3
1
ابن
3
1
ابن
3
1
ابن
3
1
ابن
الحالة الثالثة: من أحوال المناسخات.
أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول، لكن اختلف إرثهم، أو ورث معهم غيرهم.
ـ طريقة العمل فيها:
أن تصحح مسألة الميت الأول، ثم تصحح مسألة الميت الثاني، ثم تنظر بين سهام الميت الثاني من المسألة الأولى وتصحح مسألة وحينئذ لا تخلو من ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تنقسم السهام على مسألته:
وحينئذٍ تصح الفريضتان مما صحت منه الأولى، ونضعها في جامعة تسمى جامعة المناسخة، وناتج قسمة السهم على المسألة نضعه فوقها ثم نضرب في ما بيد كل وارث منها ويضم إلى ماله من المسألة الأولى إن كان، ويوضع الحاصل له أمامه تحت الجامعة ومن له شيء من الأولى فقط أخذه كما هو ووضعناه له أمامه تحت الجامعة.
مثال:
هلك عن زوجة وأم وابن، وقبل قسمة التركة ماتت أمه عن زوج ومن يرثها من هؤلاء. فما نصيب كل وارث؟
24
4/1
24
3
3
زوجة
ت
4
أم
17+ 3 = 20
3
ابن ابن
17
ابن
1
1
زوج
الصورة الثانية: أن يكون بين السهام والمسألة توافقا.
طريقة العمل:
وكيفية العمل في ذلك هو أن تضع وفق السهام فوق المسألة الثانية، وتضع وفق المسألة الثانية فوق المسألة الأولى وتضربه فيها وتجعل الخارج جامعة المناسخة. ثم تضرب ما بيد كل وراث من المسألة الأولى ـ إن كان ـ فيما فوقها أي في وفق المسألة الثانية. وتضرب ما بيد كل وارث من المسألة الثانية فيما فوقها أي في وفق السهام، وتضم النواتج لبعضها وتضعها أمامه تحت الجامعة. ومن ورث في مسألة واحدة ضربت سهامه فيما فوق مسألته. والناتج يوضع له أمامه تحت الجامعة كذلك.
مثال:
هلك عن زوجة وبنت منها، وشقيقة. وقبل قسمة التركة توفيت البنت عن زوج وابن ومن يرثها من الأولى. فما نصيب كل وراث؟
24
12/1
8/3
3 + 2 = 5
2
أم
1
زوجة
ت
4(19/34)
بنت الزوجة
9
3
شقيقة
3
3
زوج
7
7
ابن
الصورة الثالثة: أن يكون بين الساهم والمسألة تباينا.
طريقة العمل:
أن تضع كل السهام فوق المسألة الثانية وتضع كل الثانية فوق الأولى وتضربها فيها، فما حصل فهو الجامعة. ثم من بيده شيء من الأولى أخذه مضروبا فيما فوقها أي في كامل الثانية. ومن له شيء من الثانية أخذه مضروبا فيما فوقها في كامل السهام. وتضع الناتج تحت الجامعة.
مثال:
هلكت عن زوج، وابن وبنت منه، ثم ماتت البنت قبل قسمة التركة وتركت زوجا وابنا ومن يرثها من الأولى. فما نصيب كل وراث؟
48
12/1
4/12
12 + 2 = 14
2
أب
1
زوج
24
2
ابن
ت
1
بنت
3
3
زوج
7
7
ابن
ـ توريث ذوي الأرحام ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] يرثون بالتنزيل [
أي أن يُنزّل ذو الرحم منزلة من أدلى به.
فبنت البنت تنزل منزلة البنت لأنها قد أدلت بالبنت. أب الأم ينزل منزلة الأم في الإرث لأنه أدلى بها.والخالة تنزل منزلة الأم. وبنت الأخ الشقيق تنزل منزلة الأخ الشقيق وهكذا.
وقد روى البيهقي بإسناد لابأس به أن عليا وابن مسعود أنزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة منزلة الأب، والخالة منزلة الأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] الذكر والأنثى سواء [
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: هو ماذكره المؤلف.
فلا فرق بين ذكرهم وأنثاهم.
مثال:
مات عن بنت بنته وابن بنته: (يرثون المال بالسوية للذكر مثل حظ الأنثى.
التعليل:
وذلك لأن ميراث ذوي الأرحام ثابت بالرحم فألحق بالإخوة لأم. فالإخوة لأم يرثون بالرحم ولافرق بين ذكرهم وأنثاهم بدلالة القرآن. وهنا كذلك فإن ذوي الأرحام يرثون بالرحم.
القول الثاني: أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
وهو عن الإمام أحمد وقد ذهب إليه الحنفية.
الدليل:
قياسا على من أدلو بهم.
الترجيح:
والأول أظهر وأقيس.(19/35)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فولد البنات [
أي ابن البنت وبنت البنت.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد بنات البنين [
أي ابن بنت الابن وبنت بنت الابن.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأخوات [
أي ابن الأخت وبنت الأخت.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] كأمهاتهم [
فكل ابن بنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلة بنت الابن، وبنت الأخت بمنزلة الأخت.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وبنات الإخوة والأعمام لأبوين أو لأب وبنات بنيهم وولد الإخوة لأم كآبائهم [
فبنات الإخوة بمنزلة الإخوة.وبنات الأعمام بمنزلة الأعمام. وبنات أبناء العم كأبناء العم، وبنات أبناء الأخ الشقيق كأبناء الأخ الشقيق، وولد الإخوة لأم كالإخوة لأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخوات والخالات وأبو الأم كالأم [
هؤلاء ينزلون منزلة الأم لأنهم أدلوا بها.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والعمات والعم لأم كالأب [
لأنهم أدلوا به.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكل جدة أدلت بأب بين أمين هي إحداهما كأم أب الأم [
فهي من ذوات الأرحام وهي تدلي بالأم فلها إرث الأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو بأب أعلى من الجد كأم أبي الجد [
هذا على القول في المذهب وأن أم أب الجد لايرث، والراجح كما تقدم أنها وارثة.
وعلى المشهور في المذهب أنها لاترث فتكون من ذوي الأرحام فتنزل منزلة الجد.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأب أم أب وأب أم أم وأخواهما وأختاهما [
أي أخ أب أم الأب، وأخ أب أم الأم، وكذلك أختاهما فهما بمنزلتهم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] بمنزلتهم، فيجعل حق كل وارث لمن أدلى به [
هذه طريقة توريثهم.
مثال:
هلك عن بنت بنت وبنت أخت شقيقة وخالة.
6
3
بنت
بنت بنت
2
أخت ش
بنت أخت ش
1
أم
خالة
مثال:
هلك عن عمة وخال.
3
2
(أب
عمة
1
(أم
خال(19/36)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلاسبق كأولاده فنصيبه لهم [
إذا أدلى جماعة بوارث كأن يدلي أولاد الأخت بها.
مثال:
توفي عن ثلاثة أبناء أخت شقيقة: (يقسم النصف بينهم بالسوية.
لأن هؤلاء الثلاثة أدلوا بالأخت، والأخت لها النصف، فحينئذ نصيبها لهم، فهذا النصف يأخذه أبناؤها الثلاثة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فابن وبنت لأخت مع بنت لأخت أخرى لهذه حق أمها [
مثاله:
توفي عن ابن وبنت لأخت وبنت لأخت أخرى: (يقسم الإرث بينها وبين ابنتها بالسوية، والثلث الذي للأخت الأخرى تأخذه ابنتها.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن اختلفت منازلهم منه جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه * فإن خلّف ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فالثلث للخالات أخماسا، والثلثان للعمات أخماسا وتصح من خمسة عشر [
إذا اختلف منازلهم من المدلى به ـ الذي هو الواسطة بين ذوي الأرحام وبين الميت المورِّث ـ فإننا نجعلهم منه كميت اقتسموا إرثه.
مثاله:
مات عن خالته الشقيقة وخالته لأب وخالته لأم وعمته الشقيقة وعمته لأب وعمته لأم: (فالثلث للخالات لأن الخالة تنزل منزلة الأم والأم لها الثلث. والثلثان للعمات، لأن العمة تنزل منزلة الأب والأب له هنا الثلثان. فالمسألة إذن من ثلاثة واحد من ثلاثة للأم (للخالات. والباقي للأب (للعمات.
فنصيب الأم نقسمه بين الخالات. فالخالة لأم قرابتها للأم أنها أخت أم والخالة الشقيقة أنها أخت شقيقة والخالة لأب أنها أخت لأب. فنقول: كأن هذه الأم قد ماتت عن ثلاث أخوات شقيقة ولأب ولأم. فالمسألة من ستة لكن رّدت إلى خمسة، فالأخت الشقيقة لها ثلاثة من خمسة والأخت لأب لها واحد من خمسة والأخت لأم لها واحد من خمسة. وكذلك نصنع مع العمات. فنقول: كأن الأب قد مات عن ثلاثة أخوات شقيقة ولأم ولأب فالمسألة من خمسة.(19/37)
فأصبح أصل المسألة الأولى من خمسة عشر، الثلث هو خمسة للخالات، والثلثان هو عشرة للعمات.
فالعمة الشقيقة تأخذ ستة من عشرة والعمة تأخذ اثنين من عشرة والعمة لأم تأخذ اثنين من عشرة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وفي ثلاثة أخوال متفرقين لذي الأم السدس والباقي لذي الأبوين [
مثاله:
مات عن خال شقيق وخال لأب وخال لأم. معنى خال شقيق أي: أخ لأم هذا أو من أبوين، الخال لأب: أخ لها من أب. والخال لأم: أخ لها من الأم.
فإذا مات عن ثلاث أخوال متفرقين، فللخال لأم السدس وللشقيق الباقي. فكأن هذا المدلى به وهو الأم هنا كأنه قد مات وترك أخاه الشقيق وأخاه لأب وأخاه لأم، فالأخ لأم له السدس، والباقي للأخ الشقيق لأن الشقيق يحجب الأخ لأب.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن كان معهم أخو أم أسقطهم [
في المسألة السابقة وهي ما إذا مات عن ثلاثة أخوال متفريق إن كان معهم أبو أم، فكأنّ هذه المرأة ماتت عن أبيها وأخوتها الأشقاء ولأب ولأنم فلايرث هؤلاء شيئا منها مع وجود الأب لأنه يحجب الإخوة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وفي ثلاث بنات عمومة متفرقين المال للتي للأبوين [
إذا مات عن بنت عم شقيق وبنت عم لأب وبنت عم لأم فالمال لبنت العم الشقيق، لأنه كأنه مات عن عمه الشقيق وعمه لأب وعمه لأم فحينئذٍ العم الشقيق يأخذ المال تعصيبا فكأن هذا لابنته.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم فما صار لكل واحد أخذه المدلى به وإن سقط بعضهم ببعض عملت به [.
مثاله:
أن يتوفى عن بنت بنت، وبنت أخ شقيق، وبنت أخ لأب.
فالبنات هنا جماعة أدلين بجماعة وهم البنت والأخ الشقيق والأخ لأب. فيقسم المال بين المدلي بهم فكأن المسألة بنت وأخ شقيق وأخ لأب فما صارلكل واحد أخذه المدلي به.(19/38)
وإذا سقط بعضهم ببعض عملت به، فإذا كان هناك حجب فإنك تعمل كما في هذا المثال فإن الأخ لأب محجوب بالأخ الشقيق
فإن كان يدلي من جهتين فإنه يرث من الجهتين كلتيهما.
مثال:
توفي عن ابن بنت بت وابن ابن بنت. فيستحق الإرث من جهتين فيستحق الثلثين. فلو أن رجلا له ابنتان إحداهما جاءت بابن والأخرى أتت ببنت فتزوجا فأنجبا ابنا فالابن قد أدلى ببنتين البنت الأولى أم أبيه والأخرى أم أمه فيكون له ثلثان.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجهات: أبوة، وأمومة، وبنوّة [
الجهات في هذا الباب ثلاث: أبوة وأمومة وبنوة. لأن ذوي الرحم لايخلو اتصالهم: إما أن يكون من جهة الأب أو من جهة الأم أو من جهة الولد. فالأعمام مثلا من جهة الأب والجد قد يكون من جهة الأب وقد يكون من جهة الأم، والخال من جهة الأم وابن الأخت الشقيقة أو لأب من جهة الأب، وابن الأخت لأم من جهة الأم، وبنت البنت من جهة الولد.
وقوله] بنوة [من باب التغليب للابن وإلا فماللبنت كذلك.
فإذا كانوا من جهة واحدة وأحدهما أقرب فالأقرب يسقط الأبعد.
مثاله:
مات عن بنت بنت بنت وبنت بنت ابن. (فبنت بنت الابن تسقط الأخرى لأن بنت الابن وارثة وبنت البنت ليست وارثة بل هي ذات رحم فكانت هي البعدى، والأخرى هي القربى فتسقط القربى البعدى. (فالعبرة في القرب والبعد ليس إلى المورث ولكن إلى الورثة على فرض حياتهم)
وأما إن كانت من جهات مختلفة فلا يسقط القريب البعيد.
باب ـ ميراث الحمل والخنثى المشكل ـ
الحمل: هو مايكون في بطن الآدمية.
والخنثى المشكل: ما لم تتضح ذكورته ولا أنوثته.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من خلّف ورثة فيهم حمل فطلبوا القسمة وقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين [(19/39)
فإذا مات رجل عن ورثة فيهم حمل كأن يموت وزوجته حامل فإن طلب الورثة القسمة فيوقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، وأما إذا لم يطلبوا القسمة فينتظر حتى تضع الحامل حملها وتقسم التركة عند الإطلاع عليه أهو ذكر أم أنثى توأم أم ليس بتوأم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإذا ولد أخذ حقه ومابقي لمستحقه [
إذن ندّخر له الأحظ من إرث ذكرين أو أنثيين فنحتمل أن الحمل ابنان أو ابنتان فندخر له ذلك فإذا وضعته فكان الأمر كما توقعنا أعطيناه هذا الإرث وهو حقه وإن كان أكثر من حقه فإن الباقي يرجع إلى قسم مستحقه.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن لا يحجبه يأخذ إرثه كالجدة [
فإن كان من الورثة من لايتأثر أيا كان هذا الوارث سواء كان ذكرا أم أنثى أو ذكرين أو أنثيين فإنه يعطى حقه كاملا كالجدة مثلا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن ينقصه شيئا اليقين [
فإذا كان هذا الوارث يأخذ خمس التركة إذ كانا ذكرين ويأخذ سدسها إن كان ذكرا فاليقين له السدس وهو الأصل فيعطى الأقل.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن سقط به لم يعط شيئا [
إذا كان الوارث إرثه على احتمال بحيث إنه لو خرج الحمل ذكرا فلا إرث له وإن خرج أنثى فلا إرث له فلا يعطى شيئا لاحتمال كونه أنثى.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث ويورث إن استهل صارخا [
لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ إذا استهل المولود ورث “ رواه أبو داود وهو حديث حسن.
قوله “ استهل “ أي رفع صوته بالصياح.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو عطس أو بكى أو رضع أو تنفس وطال زمن التنفس أو وجد دليل حياته [
فأي دليل من أدلة الحياة كالحركة الكثيرة به دل على الحياة المستقرة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] غير حركة واختلاج [.(19/40)
أي غير حركة قصيرة لا تدل على الحياة أو اختلاج وهو أنه ينهضم لحمه لخروجه من مكان ضيق فإذا تحرك لحمه بسبب تضامه عند خروجه من المكان الضيق فهذا الاختلاج لا يحكم له بالحياة المستقرة معه. هذا أحد الشرطين في إرث الحمل وهو أن يخرج حيا حياة مستقرة فإذا مات في بطنها فلا إرث. وعليه فلا يرثه ورثته.
والشرط الثاني أن يتحقق من وجوده ولونطفة حين موت مورثه، فإن كانت المرأة فراشا بغير المورث فإن أتت به بعد موت المورث بأقل من ستة أشهر فنحكم حينئذ له لأن أقل الحمل ستة أشهر ولا يمكن أن تحمل بعده وتأتي به لأقل من ستة أشهر وأما إن كانت ليست فراشا لغيره أي لم تتزوج بعد موت المورث.
مثاله: إذا أتت به ولو بعد أربع سنين فإذ كان أكثر فلا يحكم له به.
قالوا: لأن أكثر الحمل أربع سنوات ودليل ذلك الواقع.
وقيل:أكثره سنتان. وقيل: أكثره خمس سنوات.
الترجيح في أكثر الحمل:
والراجح ماذهب إليه أبو عبيد القاسم بن سلام أنه لا تحديد له، وكونه يوجد أربع سنوات لا يمنع أن يوجد خمس أو ست أو نحو ذلك.
فمن أتت بعد موت المورث ولو بعد سنوات طويلة فإنه ينسب له إن لم تكن فراشا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن ظهر بعضه فاستهل ثم مات وخرج لم يرث [
إذا خرج بعض الجنين واستهل صارخا ولم يخرج باقيه بعد ثم مات فإنه لايرث لأنه لم يخرج كاملا ولم تستقر حياته مع خروجه خروجا تاما هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي. وعن أحمد أنه يرث. والمشهور في المذهب هو الأول.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن جهل المستهل من التوأمين واختلف إرثهما يعين بقرعة [
إذا ولدت توأمين أحدهما ميت والآخر حي، ذكر وأنثى، والآخر الذي خرج حيا استهل ثم مات ولايدرى أهو الذكر أم الأنثى فحينئذ نحكم بالقرعة لأنه مرجح لأحدهما على الآخر.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والخنثى المشكل [
تعريفه: من لم تتضح ذكورته ولا أنوثته.(19/41)
وهناك قسم وهو الخنثى غير المشكل وهو من كان له آلة ذكر وآلة أنثى وعلم أهو ذكر أم أنثى إما ببوله من أحد الآلتين أو عند بلوغه بالحيض أو بظهور الثديين أو خروج المني أو اللحية فحينئذ يعرف أنه ذكر أو أنثى.
فإذا طالب الورثة بالقسمة قبل أن يتضح أذكر هو أم أنثى فما الحكم؟
يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى.
فنضع مسألتين؛ مسألة على أنه ذكر ومسألة على أنه أنثى. ويعطى كل الورثة وهو من بينهم يعطيهم الأضر أي الأنقص وبحبس الباقي فإن ثبت ذكرا أعطي الباقي وإلا أرجع إلى مستحقيه كما تقدم في المسألة السابقة.
أما إذا كان الخنثى مشكلا أي بلغ ولم يتبين أذكر هو أم أنثى وهذا لا شك أنه في غاية الندرة وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر أو أنثى وليس هناك قسمة أخرى ولابد وأن يتضح الحال. فحينئذ إن كان لايرث إلا على أنه ذكر فيعطى نصف ميراث الذكر، وإن كان لا يرث إلا على أنه أنثى فيعطى نصف ميراث الأنثى، وإن كان يرث ذكرا وأنثى فإنه يعطى نصف إرث الذكر مع نصف إرث الأنثى.
باب_ ميراث المفقود
المفقود: من جهل حاله فلا يدرى أحي هو أم ميت.
وقد يكون المفقود وارثا وقد يكون مورثا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من خفي خبره بأسر أو سفر غالبه السلامة كتجارة انتُظر به تمام تسعين سنة منذ ولد [
فإذا كان سفره الغالب فيه السلام كأن يسافر لتجارة فإنه ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد. فإذا فقد وعمره سبعون سنة انتظر به عشرون وهكذا.
التعليل:
قالوا: لأنه في الغالب لايصل الحي إلى هذا العمر وهو تسعون. فإن فقد وهو ابن تسعين قالوا: يرجع إلى الحاكم فيحدد مدة
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن كان غالبه الهلاك كمن غرق في مركب فسلم قوم دون قوم أو فقد من بين أهله أو في مفازة مهلكة انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد [(19/42)
فإن كان سفره الغالب فيه الهلاك كأن يكون في مركب فيغرق هذا المركب وينجو قوم ويهلك آخرون ولا يدري هل هو ناج أم هالك، أو يفقد في مفازة مهلكة فإنه ينتظر به تمام أربع سنين منذ فقد هذا هو المشهور في المذهب في المسألتين.
القول الآخر:
والصحيح عند الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أن مرجع هذا إلى الحاكم فيحدد الحاكم مدة يظن ظنا غالبا بعدها أنه في عداد الهلكى.
الترجيح:
وهذا الآخر هو القول الراجح. وهذا يختلف باختلاف الأزمنة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم يقسم ماله فيهما [
أي يقسم في المسألتين كلتيهما: ما إذا كان سفره الغالب فيه السلامة أو كان الغالب فيه الهلاك. فإذا مضت المدة المحددة فإنه يحكم بموته فيرثه وارثه حينئذ، أما من مات قبل انتهاء المدة فلا يرث.أي من مات بعد فقده وقبل الحكم بموته فلا يرث وذلك لأنا لم نتحقق من وفاته إلا حينئذ وهذا باتفاق العلماء.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن مات مورثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذن اليقين ووقف ما بقي [
إذا كان المفقود وارثا كأن يموت أب وابن مفقود وكان موت الأب في مدة التربص فحينئذ يأخذ كل وارث اليقين فيجعل له مسألتان مسألة على تقدير حياته وأخرى على مماته ثم يعطى كل وارث اليقين من إرثه فإن كان هذا الوارث إرثه لا يختلف فإنه يأخذه، وإن كان يختلف فإنه يأخذ الأقل، وإن كان في أحد التقديرين يرث وفي الآخر لا يرث فلا شيء ثم يوقف الباقي
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن قدم أخذ نصيبه [
فإذا جاء هذا المفقود فإنه يأخذ نصيبه من الإرث.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن لم يأت فحكمه حكم ماله [
فإذا لم يأت فحكم هذا المال حكم ماله الآخر. ولا يحكم عليه بالموت إلا بعد انتهاء المدة.
مثال:(19/43)
هذا الابن المفقود له زوجة ونحن قسمنا ميراث الأب وادخرنا لهذا الابن نصيبه ثم مضت المدة ولم يأت فحكمنا عليه بالموت فيكون وارثا من أبيه لأنا لم نتحقق وفاته قبل وفاة والده فلم نحكم عليه بالموت إلا بعد انتهاء المدة فيكون لهذا المال حكم باقي ماله يُقضى به دينه ويرثه ورثته.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود فيقتسموه [
إذا بقي شيء زائد عن حق المفقود كأن تتبقى ثلاثة سهام فإذا اصطلح عليها بقية الورثة فهذا جائز لأن هذا حقهم فكان لهم أن يصطلحوا عليه.
وطريقة العمل في طريقة مسألة المفقود:
أن نعمل له مسألتين واحدة باعتبار حياته والأخرى باعتبار مماته ثم ننظر بين مصحح المسألتين بالنسب الأربع فما خرج من النظر فهو الجامعة نقسمها على كل مسألة ونضع ناتج القسمة كجزء سهم على المقسوم عليها ثم نضرب الذي بيد كل وارث من كل مسألة فيما فوق مسألته، أي في جزء سهمها، نعرف من ذلك الأخير له فنضعه أمامه تحت الجامعة ونوقف الباقي بعد ذلك للمفقود.
مثاله: هالك عن أم وأخت شقيقة وأخ لأب وشقيق مفقود.
18
6/3
6×3=18/1
3
1
(3
أم
3
3
5
5×3=15
شقيقة
×
10
شقيق مفقود
2
2
×
أخ لأب
10موقوف
موت
حياة
(حال المفقود)
مثال آخر:
هلك عن زوج وأخوين لأم وأخت شقيقة وأخ شقيق مفقود وأخ لأب.
72
6/8/9
6×3=18/4
27
3
(9
زوج
18
2
(6
أخوين لأم
4
3
1
(3
أخت ش.
×
2
أخ ش. مفقود
×
أخ لأب
(23) موقوف
موت
حياة
(حال المفقود)
ولباقي الورثة أن يصطلحوا على القدر الزائد عن حق المفقود.
باب ـ ميراث أهل الملل ـ
الملل: جمع ملة وهي الدين والنحلة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم إلا بالولاء [
هذه العبارة فيها مسألتان:
المسألة الأولى: أن المسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم.
الدليل:(19/44)
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “
فإذا مات عن ابن يهودي ومسلم ونحو ذلك فإن لايرث والده.
المسألة الثانية: قوله] إلا بالولاء [
هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو أن المسلم يرث عتيقه الكافر.
مثال:
لو أن رجلا مسلما له غلام نصراني فأعتقه فمات هذا الغلام بعد ذلك وله مال فإن سيده يرث بالولاء مع اختلاف الدين.
الدليل:
ما روى الدارقطني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته “
القول الثاني:
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد أن المسلم لا يرث الكافر بالولاء لعموم الحديث المتقدم “ لايرث المسلم الكافر ولا المسلم الكافر “ فالحديث عام ويدخل فيه الولاء.
الترجيح:
والقول الثاني هو الراجح في هذه المسألة وهو أن المسلم لا يرث الكافر بالولاء.
وأما الحديث الذي استدل به الحنابلة في المشهور عندهم فهو حديث ضعيف.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويتوارث الحربي والذمي والمستأمن [
النصراني المستأمن يرث من قريبه النصراني الحربي وذلك لاتفاق الدين، ولا يؤثر كونه ذميا أو حربيا أو مستأمنا فمادام الدين متفقا فالتوارث ثابت
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأهل الذمة يرث بعضهم بعضا مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها وهم ملل شتى [
أهل الذمة من اليهود والنصارى يرث بعضهم بعضا مع اتفاق دينهم فاليهودي يرث اليهودي والنصراني يرث النصراني لامع اختلاف الأديان فلايرث اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي وهم ملل شتى أي أديان مختلفة، فلايرث اليهودي من النصراني.
الدليل:
ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:” لا توارث بين ملتين شتى “
القول الثاني:
والجمهور على خلاف هذا القول.
دليل الجمهور:
لحديث “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “(19/45)
قالوا: فدل أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر وإن اختلفت أديانهم.
الترجيح:
والقول الأول هو الراجح لأن حديثه خاص دليل الجمهور عام.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والمرتد لا يرث أحدا [
فتارك الصلاة مثلا هو مرتد فلا يرث أحدا فلا يرث من والده المسلم ولايرث من والده الكافر.
الدليل:
وذلك لأنه غير مقر على ماهو عليه. لذا فإنه يقتل لحديث من دينه:” من بدّل دينه فاقتلوه “
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن مات على ردته فماله فيء [
إذا مات المرتد على ردته، كأن يموت وهو لايصلي أو نحو ذلك، فإن ماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين فلا يرثه أقاربه للحديث المتقدم “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم“
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهو رواية عن الإمام أحمد، بل يرثه أقاربه من المسلمين)
الترجيح:
وهذا القول مرجوح لما تقدم من قوله “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “ والمرتد كافر.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث المجوس بقرابتين [
مثال:
نكح مجوسي ابنته فولدت له ولدا ـ والمجوس يجيزون ذلك ـ فماتت هذه البنت: (فيرث منها هذا الابن بقرابتين: الأولى على أنها أمه. والثانية على أنها أخته لأنها ابنة أبيه. فيأخذ الثلث ويأخذ النصف مع توفر شروط ذلك.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إن أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم [
قال تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل ولا تتبع أهواءهم]
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرّم منه بشبهة [
فكذلك المسلم امرأة من محارمه بشبهة فنتج ولد تكون هذه المرأة أما له وأخت ـ أو نحو ذلك ـ فإنه يرث بالقرابتين.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا إرث بنكاح ذات رحم محرّم [
في المسألتين السابقتين إرث بالقرابة.
أما هنا فهو إرث بالنكاح.(19/46)
فلو تزوج رجل امرأة هي ابنته فهل ترث منه بالزوجية أم ترث منه على أنها ابنة له فقط.
الجواب:
أنها ترث على أنها ابنة له فقط. فلا ترث على أنها زوجة. لأن هذا النكاح غير مقرّ عليه. فترث على أنها بنت فقط.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا بعقد لا يُقرّ عليه لو أسلم [
مثال:
مات مجوسي عن امرأة نكحها بعد أن طلقها ثلاثا فهل نورثها منه أم لا؟
الجواب:
لا. لأنا لانقر هذا النكاح لقوله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله] والحكم الذي أنزله الله يمنع من ذلك. فالعقد الذي لا يقر عليه لو أسلم لا يثبت به التوارث.
ـ باب: ميراث المطلقة ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من أبان زوجته في صحته أو مرض غير المخوف ومات به أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا [
من طلق زوجته في صحته طلاقا بائنا أو طلقها في مرضه غير المخوف ومات به أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا قولا واحدا.
الدليل:
لأن هذه المطلقة ليست زوجة له، وليس متهما في هذه الأحوال بقصد حرمانها من الإرث.
فعليه لاترث وإن كانت في عدتها.
لأن البائن ليست بزوجة.
وروى الشافعي عن ابن الزبير أنه قال: (لا ترث المبتوتة)
وهذا باتفاق أهل العلم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] بل في طلاق رجعي لم تنقض عدتها [
إذا طلق امرأته طلاقا رجعيا ومات في أثناء عدتها فإنها ترث لأنها زوجة. أما إذا مات وقد انقضت عدتها فإنها لاترث لأنها ليست بزوجة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو أبانها في مرض موته المخوف متهما بقصد حرمانها [
إذا طلقها طلاقا بائنا في مرض موته المخوف وهو متهم بقصد حرمانها من الإرث فهي لم تسأله الطلاق بل هو ابتدءها بالطلاق وليس من علة تقتضي طلاقها فحينئذ ترث منه معاقبة له بنقيض قصده.
ولذا ثبت في البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ طلق امرأته ألبتة، فروثها منها عثمان ـ رضي الله عنه ـ بعد انقضاء عدتها. وإسناده صحيح.(19/47)
لكن لو سألته الطلاق فإنه حينئذ تزول التهمة فلا ترث.
لكن إن أضر بها حتى سألته فإن يكون متهما.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو علق إبانتها في صحته على مرضه [
أي قال: (أنت طلاقا بائنا إن مرضت مرضا مخوفا أو مرضت مرض الموت) قال ذلك وهو في صحته.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو على فعل له ففعله في مرضه [
إذا علق إبانتها على فعل له كأن يقول: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) قال ذلك في صحته. فلما مرض مرضه المخوف دخلت هذه الدار التي علق طلاقها على دخولها.
وقد قال المؤلف] على فعل له [ولم يقل على فعل لها، لأنه حينئذ لا يكون متهما كأن يقول: (إذا ذهبت إلى دار فلان فأنت طالق) فإن فعلت فإنه لايكون متهما بقصد رحمانها. لكن إن كان الأمر لابد لها منه ولا يمكنها أن تمتنع منه كالسوق فحينئذ يقع ما تقدم.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ونحوه [
كأن يطأ ابنتها أي ابنتها من غيره فحينئذ تحرم عليه
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لم يرثها وترثه [
فهو لايرثها لأنه قد فصل عقد نكاحها فقد فارقها، وأما هي فترثه وذلك للتهمة فهو متهم بقصد حرمانها.
والمقصود: أنه متى ما طلقها في موضع هو متهم بقصد حرمانها فإنها ترث وهو لايرثها.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترثه في العدة وبعدها [
فإذا طلقها طلاقا بائنا في مرضه المخوف على وجه التهمة فمات وهي قد انقضت عدتها فإنها ترث منه كما تقدم في أثر عثمان ـ رضي الله عنه ـ السابق.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ما لم تتزوج [
فإذا تزوجت فإنها لاترث منه هذا هو مذهب الحنابلة.
قالوا: لأنه لايمكن أن نورثها من زوجين.
لكن: هذا تعليل ضعيف،فإن المرأة قد ترث من زوجين.
كما لو مات عنها زوجها فورثت منه ثم تزوجت آخر فمات فورثت منه. فليس الزوجان هنا في عقد واحد وإنما تمنع أن ترث من زوجين لأنه لا يمكن أن يكون لها زوجان.
القول الثاني:(19/48)
وذهب المالكية: بل ترث منه وإن تزوجت لأنه حق لها قصد حرمانها منه فلم يسقط بزواجها.
الترجيح:
وهذا القول هو الراجح.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو ترتدّ [
فإذا ارتدت فإنها لاترث وقد تقدم الكلام على إرث المرتد في مسألة سابقة. ولكن إن كان ارتدادها بعد موته ثم رجعت إلى الإسلام فالذي يتبين أنها ترث منه لأنها لما مات كانت مستحقة للإرث لكن لو مات وهي مرتدة فلا ترث وإن أسلمت بعد ذلك لأن المرتد لايرث أصلا كما تقدم في مسألة سابقة.
وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ورثة المرتد يرثونه.
وحجته في ذلك: أن هو المعروف عن الصحابة. ولم أقف على آثار عن الصحابة تدل على ذلك وأنهم كانوا يورثون قرابة المرتد المسلمين. أما إن ثبت عن الصحابة آثار في هذه المسألة فإنه يقال بها. فإن الآثار حجة حيث لم تعارض. أما إذا لم يثبت أثر بسند صحيح فقد تقدم القول الراجح في هذه المسألة لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم”
باب ـ الإقرار بمشارك في الميراث ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إذا اقرّ كل الورثة ولو أنه واحد بوارث للميت وصدّق أو كان صغيرا أو مجنونا والمقربة مجهول النسب ثبت نسبه وإرثه [
إذا أقر الورثة كلهم وهم مكلفون بأن هذا وارث معهم وأنه ابن لمورثهم أو أخ أو نحو وذلك وصدق هذا المقر به ولم ينكر فإن النسب يثبت ويتفرع على هذا ثبوت الإرث لأن الورثة يقومون مقام مورثهم وهنا قد أثبتوا نسبه فيتفرع على هذا ثبوت إرثه. كذلك إذا كان المقر به صغيرا أو مجنونا وهو مجهول النسب فيثبت النسب لمصلحته ويتفرع على هذا ثبوت الإرث.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أقر أحد ابنيه بأخ مثله فله ثلث ما بيده [(19/49)
إذا أقر بعض الورثة ولم يقر الباقون ولم يكن هناك بينة تدل على ثبوت النسب فالنسب حينئذ لايثبت لأن هؤلاء الورثة الذين يقومون مقام مورثهم لم يتفقوا على ذلك بل بعضهم أقر به والآخرلم يقر.لكنه يرث بعض الإرث.
مثال:
مات وله ابنان: (فلكل واحد منهما النصف. فأقر أحدهما بأخ له فأصبحوا ثلاثة بإقراره، فيعطى الابن ثلث نصيب الابن المقر به.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أقرّ بأخت فلها خمسه [
مثال:
مات عن ابنين فأقر أحدهما بأخت لو ثبتت لثبت لها النسب لكانت المسألة من عشرة. لهذا أربعة من عشرة وللثاني أربعة من عشرة وللنبت اثنان من عشرة. فنعطى المنكر أربعة من عشرة والمقِر به أربعة من عشرة ونعطي المقَر به واحد من عشرة وهو خمس ما يستحقه الابن.
باب ـ ميراث القاتل والمبَعّض والولاء ـ
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من انفرد بقتل مورثه أوشارك فيه مباشرة أو سببا بلا حق لم يرثه قود أو دية أو كفارة والمكلف وغير سواء. [
فالقاتل سواء كان قتل عمد أو قتل خطأ وسواء كان مكلفا أو غير مكلف سواء كان مباشرا أو متسببا لا يرث من مقتوله لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ – فيما رواه أبو داود ومالك في موطئه والحديث حسن “ليس للقاتل شيء “ والحديث عام في قاتل العمد وقاتل الخطأ.
وقاتل العمد منعه من الإرث ظاهر وأما قاتل الخطأ فلأن التوريث معه ذريعة إلى سفك الدماء.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إن قتل بحق قودا [
أي قصاصا كأن يقتل رجل ابنه فيختار القصاص أو أن يكون هو الذي يباشر القصاص.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو حدا [
كالزاني فإنه يقتل بالجم حدا.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو كفرا [
كالمسلم يقتل عبده أو أمته النصرانية على القول بالتوريث وهو المذهب.
وأما إذا كان القتل كفرا سوى المسألة المتقدمة المختلف فيها فإن له حكم المرتد وقد تقدم الكلام في ميراث المرتد.(19/50)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو ببغي [
كمن يبغي على الإمام العادل.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو صيالة [
أي صال عليه فقتله.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو حرابة أو شهادة وارثه [
أي شهد على مورثه بما يقتضي قتله كأن يشهد عليه أنه زنا فيقتل.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو قتل العادل الباغي وعكسه ورثه [
يرث في هذه المسائل كلها لأنه قتل بحق فهو فعل مأذون له فيه فلم يمنع معه من الإرث.
ولأن عدم التوريث معه ذريعة لترك الكثير من الأحكام الواجبة من إقامة الحدود ومن الجهاد في سبيل الله في قتل البغاة أو إدلاء المسلم بشهادة الحق.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فلا يرث الرقيق ولا يورث [
فهو إجماعا لايرث لأنه لا يملك فماله لسيده فإذا ورث فقد أعطينا الأجنبي المال.
ولا يورث لأنه لا مال له بل لسيده.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث مَن بعضه حرّ ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية [
المبعّض: وهو من كان بعضه حرا وبعضه عبدا. فإنه يرثه وذلك لأنه يملك بجزئه الحرّ فلما كان ممكنا تمليكه لم يمنع من الإرث.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن أعتق عبدا فله عليه والولاء [
فمن أعتق عبدا فله عليه الولاء وله أيضا على أولاده وأولاد أولاده الولاء من بعده.
الدليل:
لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ إنما الولاء لمن أعتق “ متفق عليه.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن اختلف دينهما [
هذا على القول الراجح المتقدم وهو المذهب وأن الإرث بالولاء يثبت مع اختلاف الدين والصحيح خلافه.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا يرث النساء بالولاء [
فالنساء لا يرثن بالولاء. وإنما الذي يرث بالولاء هو المعتِق وعصبته المتعصبون بأنفسهم. والنساء لسن من العصبة بالنفس.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن [(19/51)
فالمرأة لا ترث بالولاء إلا من أعتقت أو من أعتق من أعتقت، وهي ترث بالولاء عتيقها. ومن أعتق عتيقها أي أعتقت عبدا ثم ملك عبدا فأعتقه فإنها ترثه.
الدليل:
ودليل هذه المسألة ما روى البيهقي بإسناد لابأس به أن علي بن أبي طلب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يجعلون الولاء للكُبْر من العصبة ـ أي للأكبر ـ ولا يورثون النساء من الولاء إلا من أعتقن أو من أعتق من أعتقن.
فالمرأة ترث عتيقها وترث عتيقه.
فأما إذا أعتق أبوها أو أخوها عبدا فليس لها من الولاء شيء، لكن إذا أعتقت فإن الولاء لها.
وفي الحديث: “ واشترطي لهم الولاء. فإنما الولاء لمن أعتق “ فظاهره أن الولاء لعاتقه
كذلك إذا أعتقت وأصبح هذا العبد حرا بسبب إعتاقها ثم اشترى هذا عبدا فأعتقه فلها الولاء لأنها هي الأصل في هذه النعمة التي صارت لهذا المعتق الجديد.
تم بحمد الله(19/52)
الدرس السابع عشر بعد الثلاثمائة
كتاب العتق
العتق لغةً: الخلوص
وفي الشرع هو: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق.
وقد دل على العتق الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فكقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} وكقوله: {فك رقبة} .
وأما السنة ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) .
وفي رواية (استنقذ الله) فدل على أن هذا المحرر المعتق مستحق للعقوبة فيستنقذ الله عز وجل أعضاءه المستحقة للعقوبة بهذا المعتَق.
وقد أجمع أهل العلم على ثبوته ومشروعيته.
قال المؤلف: [وهو من أفضل القرب] .
للحديث المتقدم، وقد جعله الله كفارة للقتل وكفارة للجماع في نهار رمضان وكفارة للأيمان، فدل على فضيلته وأنه من أفضل القرب.
وأفضل الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سُئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) .
وعتق الذكر في الأصل أفضل من عتق الأنثى، يدل عليه ما ثبت في الترمذي والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأيما امرئٍ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار)
وقد تقدم أن الفكاك من النار يحصل بعتق رقبة مؤمنة فدل على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، فإنه إذا اعتق رقبة واحدة مساوية له في الذكورية أو الأنوثية كانت فكاكه من النار.
والذكر إن أعتق أنثيين كانتا فكاكه من النار.
قال: [ويستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه]
أي إنما يستحب عتق من له كسب، فهو قادر على التكسب والعمل وأما إن كان بخلاف ذلك فلا يستحب عتقه.
وإن كان غير قادر على التكسب والعمل فلا يستحب عتقه لما في ذلك من تضييعه، فإن في عتقه إسقاطاً للنفقة الواجبة على سيده له فكان في ذلك تضييعٌ له وقد يكون عرضةً للسؤال وان يكون كلاً على الناس.(20/1)
وكذلك لا يستحب عتق من يكون عتقه سبباً لفساده من زنا أو قطع طريق أو يخشى لحوقه بدار الحرب ونحو ذلك.
وهنا مسائل في العتق لم يذكرها المؤلف:
المسألة الأولى: صريح العتق وكنايته:-
فصريح العتق أن يقول: أنت عتيق أو أنت معتق أو أنت حر أو قد أعتقتك أو قد جعلتك حراً أو نحو ذلك.
فهذه ألفاظ صريحة في العتق قد دل العرف على ذلك لأن هذه الألفاظ إذا خوطب بها العبد من سيده فإنها لا تحتمل إلا إعتاقه، فحينئذٍ لا تشترط النية بل يكفي مجرد اللفظ.
وأما كنايته: فنحو قوله (لا سبيل لي عليك) إذهب حيث شئت، أو نحو ذلك من الألفاظ فهي ألفاظ تحتمل العتق وتحتمل غيره وإن كانت في العتق أظهر.
المسألة الثانية: أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه.
الرحم المحرم: هو ما لو قدر أحدهما ذكراً، والآخر أنثى لحرم نكاحه بالنسب، كأن يملك عمه أو خاله أو أبنه أو أباه فإنه لو قدر أن أحدهما ذكراً والأخر أنثى فإن النكاح محرم بالنسب لأن نكاح الخالة ونكاح العمة محرم ونكاح البنت محرم والمراد أن يكون محرماً بالنسب لا بالمصاهرة ولا بالرضاع، لكن إذا ملك ابن عمه، فلو قدّر أن أحدهما ذكر والأخر أنثى لم يحرم نكاحه بالنسب، وذلك لأن نكاح بنت العم نكاح صحيح، ولو ملك أمه من الرضاع أو ملك زوج أمه أو زوجة أبيه أو أم زوجته فإنه لا يعتق عليه لأنهم ليسوا من ذوي الرحم، ودليل ذلك ما روى الخمسة والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ملك ذا رحم مَحْرَمٍ فهو حرٌ) ، وهو مذهب جماهير العلماء.
المسألة الثالثة:
أن من اعتق نصيباً له في عبد، وكان موسراً فإنه يلزمه أن يعتق بقيته فيعطي شريكه قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد.
فمثلاً: زيد وعمرو شريكان في عبد لكل واحد منهما نصفه فأعتق زيد نصيبه وكان موسراً فإنه يقُوم عليه العبد ويعطي عمراً قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد ويُلزم زيد بذلك، هذا إن كان موسراً.(20/2)
وأما إن كان معسراً فهو لا يملك قيمة المتبقي فإن العبد يكون مبعضاً، فيكون نصفه حراً ونصفه عبداً، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن العبد يكون مكاتباً غير مشقوق عليه، هذا إن كان له قدرة على العمل والتكسب، فيعمل ويتكسب ويعطي سيده ما بقي من ثمنه.
هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ودليل هذه المسألة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق شِركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِمَ قيمة عدلٍ [أي قيمة عادلة] لا وكس فيها ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) [أي يكون مبعضاً] .
لكن إن كان قادراً على المكاتبة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة (وإلا قوّم عليه واستُسعي غير مشقوق عليه) .
والذين لم يقولوا بالكتابة لا يصححون هذه اللفظة ويرون أن هذه اللفظة مدرجة وأنه قد تفرد بها سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، والصحيح أنه لم يتفرد بها بل قد تابعه عليها جماعة من حفاظ الحديث، وهو من أثبت الناس في قتادة وقد رووا هذا الحديث عن قتادة.
وقد صحح هذا اللفظ الشيخان البخاري ومسلم في كتابيهما.
المسألة الرابعة:
إذا أََعتق بعض عبده، سواء كان البعض معيناً أو مشاعاً، كأن يقول: (أعتقت يديك أو وجهك) أو مشاعاً كأن يقول: (أعتقت نصفك أو ثلثك) أو ربعك، فإن العتق يسري على الباقي فيكون كله عتيقاً بإتفاق أهل العلم.
لأن هذا أولى من المسألة المتقدمة.
فهو إذا كان مشاركاً سرى العتق إلى بقية العبد، فأولى من ذلك إن لم يكن مشاركاً.
قال: [ويصح تعليق العتق بموتٍ وهو التدبير]
إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، فالعبد هنا هو المدبَّر.
وسمي مدبراً لأنه قد أعتق بعد الحياة أي في الموت، فإن الموت دبرالحياة.
فالمدبر: هو من يعتق بعد الموت.
والتدبير: هو العتق بعد الموت.(20/3)
وهو كالوصية فللسيد أن يبيعه وقد دبره وله أن يهبه، وله أن يوقفه كالوصية، فكما أن الوصية له أن يرجع فيها وله أن يهبه أو يوقفها فكذلك في المدبر، وفي الصحيحين: " أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر ولم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فباعه بثمانمائة درهم ".
فالمقصود أنه يجوز بيع المدبر كالوصية.
الدرس الثامن عشر بعد الثلاثمائة
باب الكتابة
قال رحمه الله: [وهي بيع عبده نفسه بمال مؤجل في ذمته]
أي: أن يشتري العبد نفسه من سيده بمال مؤجل.
قال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}
فالكتابة هي: أن يبيع السيد عبده لنفسه على ثمن مؤجل على أنجم أو أقساط شهرية أو سنوية أو نحو ذلك.
وهو مشتق من الكتب وهو الجمع، وذلك لأنه يجمع على أنجم أي على أقساط.
وقيل: إنما سمي كتابه لما يقع بين السيد وعبده عند العقد من الكتابة.
قال الحنابلة: لا يصح إلا أن يكون العوض في الكتاب مؤجلاً على نجمين فأكثر فلو كان إلى سنة فيعطيه المال كله لم يصح، فلا يصح إلا أن يكون على نجمين أي على قسطين، هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وقال صاحب الفائق: وهو ظاهر كلام الإمام رحمه الله، وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصح على نجمٍ واحدٍ، فلو اشترى نفسه على نجم واحد فإن ذلك جائز، وهو القول الراجح، إذ لا مانع من ذلك، وليس مع من يمنع دليل يدل على دعواه.
قال: [وتسن]
فالكتابة سنة وهو مذهب جمهور العلماء واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) .
قالوا: فالعبد مال امرئ مسلم فلم يخرج عن ملكيته إلا بطيب نفس منه، وعليه فحملوا الأمر في الآية المتقدمة على الاستحباب (فكاتبوهم) أي على وجه الاستحباب.(20/4)
وعن الإمام أحمد رواية وهي مذهب الظاهرية وهو قول طائفة من التابعين واختاره ابن جرير الطبري: أن الكتابة واجبة وعليه فيجبر السيد عليها بقيمة العبد، فيقوم العبد قيمة عدل ويجبر السيد على الكتابة.
واستدلوا بالآية الكريمة: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، قالوا وظاهر الأمر الوجوب.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فقالوا: الكتابة على سبيل المعاوضة، فهو يجبر على بيع عبده ويأخذ عوض ذلك، قالوا: وليست أولى من سراية العتق، فإن العتق تقدم أنه يسري فيجبر السيد على خروج ملكيته عنه بالكلية وهو إنما أعتق بعضه كأن يعتق ثلثه مثلاً فإنه يعتق كله، فإذا سرى العتق إلى البقية بلا عوض فأولى من ذلك بعوض.
والشارع متشوف إلى العتق وتحرير النفوس وتخليصها من العبودية.
وعليه فالراجح هو القول الثاني.
وقياس هذا كما قال شيخ الإسلام: إذا قال قائل للسيد، أعتق عبدك وعلي ثمنه، فيجب عليه أن يعتقه كالمكاتبة.
قال: [مع أمانة العبد وكسبه]
فهي إنما تسن – وعلى القول الراجح إنما تجب - مع أمانة العبد وكسبه، لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، وظاهره أنه إن لم يعلم فيهم خيراً أي إن علم فيهم شراً وفساداً فإن الكتابة لا تشرع، وهذا كالعتق كما تقدم، فإذا كان في الكتابة تضييع للعبد واحتياج في الناس أو إفساد في الأرض فإن الكتابة لا تشرع، فقد شرط الله ما تقدم {إن علمتم فيهم خيراً} ، فإذا ثبتت المكاتبة، فإن المكاتب أي العبد يملك كسب نفسه ونفعها، وله أن يتصرف فيما يصلح ماله من بيع وإجارة ونحو ذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الكتابة.(20/5)
فإن الكتابة إنما عقدت ليتحصل من خلالها على عتق نفسه، ولا يمكن ذلك إلا أن يمكَّن من كسب نفسه ونفعها وأن يتصرف في ماله بما فيه مصلحة، وأما ما ليس فيه مصلحة فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذن سيده، كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم) ، فهو قن وعبد فليس له أن يتصرف إلا بما ينفع في عتقه، أما أن يتصرف بما لا مصلحة فيه بأن يبذر ماله أو أن يدخل في تجارة يخش من الدخول فيها فلا بد من إذن السيد لأن ما بيده مال لسيده في الأصل وإنما أذن له بأن يعمل ليتمكن من عتق نفسه، فكان المأذون له هو ما يكون فيه مصلحة للمال.
قال: [ويجوز بيع المكاتب]
فلو أن رجلاً كاتب عبده على عشرة آلاف ريال في كل شهر ألف ريال، فبعد أن أخذ منه قسطاً أو قسطين أو ثلاثة أراد بيعه فيجوز البيع لأنه رقيق له وعبد له، وفي الصحيحين أن بريرة قالت لعائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية فأعينيني …. الحديث …. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، والشاهد قوله إشتريها وهي مكاتبة، فدل على أن المكاتب يجوز بيعه ولكن:
قال: [ومشتريه يقوم مقام مكاتبه]
فالمشتري يقوم مقام المكاتب فإذا بقي سبعة أقساط فإن المكاتب يسددها له فلا يستأنف الأقساط من جديد بل يسدد ما بقي منها، وليس له أن يبطل الكتابة على الراجح، بل تبقى الكتابة ويدفع له المكاتب ما تبقى من الأنجم.
قال: [فإن أدى عتق]
إذا أدى المكاتب ما عليه من المال فإنه يعتق
قال: [وولاؤه له]
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، وعليه فيكون الولاء للمشتري.
قال: [وإن عجز عاد قناً](20/6)
أي عاد قناً للمشتري، فإذا عجز عن الكتابة فإنه يعود قناً أي عبداً، هذا كما لو كان لسيده الأول فإنه إذا عجز عن دفع الأنجم والأقساط فإنه يعود عبداً، لأن المسلمين على شروطهم وهو إنما باعه على أن يدفع له هذه الأنجم، فإن لم يدفعها فإنه يعود قناً (عبداً) له، والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب جمهور الفقهاء: أن المكاتب إذا عجز عن نجمٍ واحد أي عن قسطٍ واحد فإن للسيد الفسخ، بمعنى إذا حضر وقت القسط ولم يدفع فإن للسيد الفسخ قال الحنابلة، وينظر ثلاثة أيام.
قالوا: لأنه لم يف بالشرط، فهو قد باعه على أنه يعطيه في كل شهر - أو في كل سنة - أن يعطيه المسمى الفلاني، فإذا لم يفِ بذلك فإنه يكون قد خالف الشرط فلبائعه – أي لسيده – أن يفسخ عقد الكتابة، وعن الإمام أحمد: أنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت - أي حتى يظهر عجزه ويبين، فكونه يعجز عن قسط واحد أو قسطين ولم يظهر بعد عجزه فإنه من الممكن أن يقضي ما عليه، فإنه لا يعجز أي لا يحكم بعجزه فيعود قناً.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإلا قوم عليه واستسعي غير مشقوقٍ عليه) ، وفي كونه إن عجز عن قسط واحد حق للأخر الفسخ، هذا فيه مشقة ظاهرة عليه، ومعلوم أن تخلف المدين عن القسط والقسطين والثلاثة يقع فيه عادة فكذلك في المكاتبة.
فالراجح أنه لا يعجز حتى يظهر عجزه ويبين.
مسألة:
قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}
أي آتوا المكاتبين من مال الله الذي آتاكم.
قال الحنابلة والشافعية: في هذه الآية دليل على وجوب إيتاء المكاتب مكاتبه – أي السيد عبده – شيئاً من المال يعينه على كتابته، واختلفوا في قدره.
فقال الحنابلة: الواجب ربع المكاتبة أي أن يعطيه الربع أو يتنازل عن الربع، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث علي بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} ثم قال ربع المكاتبة ".(20/7)
والصحيح وقفه على علي ابن أبي طالب، فلا يصح رفعه.
وقال الشافعية: بل يعطيه أي شئ {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أي بعض مال الله الذي آتاكم وهذا يصدق على القليل والكثير فأي شئ أعطاه إياه فإن ذلك يجزئ.
وقول علي المتقدم مخالف لما يروي البيهقي بسند صحيح " أن ابن عمر كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألف درهم، فلما كان أخر مكاتبته وضع عنه خمسة آلاف "، وهي سُبْع مُكاتبته، فهذا الفعل من ابن عمر مخالف لقول علي.
فالأرجح ما ذهب إليه الشافعية.
ولكن لا ينبغي أن يقال: بأنه يصدق على الشيء القليل التافه المستحقر، فالذي ينبغي الاعتماد عليه أنه يجب عليه أن يعطيه ما ينفعه في مكاتبته كأن يعطيه السبع أو الثمن أو الربع أو أن يضع عنه نجماً أو نجمين ونحو ذلك.
وأما أن يضع عنه شيئاً تافهاً مستحقراً فلا، وذلك لأن مثله لا ينفع في المكاتبة.
وقال المالكية والأحناف: بل يستحب ذلك وحملوا الآية على الاستحباب.
والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول لظاهر الآية الكريمة.
الدرس التاسع عشر بعد الثلاثمائة
باب أحكام أمهات الأولاد
قال: [إذا أَولد حر أمته أو أمةً له ولغيره أو أمةً لولده خُلِّق ولده حراً]
أو أمة له ولغيره – أي مشترك فيها
خلق حراً – أي خلق أثناء ملكه للأمة، فنشأ الحمل والأمة ملك له ليست بملك غيره، هذا هو مذهب الحنابلة، ولا دليل عليه.
ولذا ذهب المالكية: إلى أن من أولد أمته فإن هذه الأمة أم ولد له سواء نشأ الولد حراً أو مملوكاً، كأن يتزوج أمةً ثم يشتريها من سيدها وقد حملت منه فإنها تكون أم ولد له، وذلك لثبوت المعنى فيها، فهي أم ولدٍ له فقد أولدت له وكون هذا الولد نشأ في حال يكون فيه مملوكاً لاحراً هذا ليس بمؤثر، فالمعنى المؤثر في هذه المسأله كون هذه الأمة قد أولدت له.
إذن قوله – خلق ولده حراً – هذا القيد ضعيف، والصحيح أنها تكون أم ولد سواء كان الولد مخلوقاً حراً أم لم يكن كذلك.
…قال: [حياً ولد أو ميتاً](20/8)
سواء ولد حياً أو ولد ميتاً، وفي البيهقي بإسنادٍ صحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (أم الولد حرة وإن كان الولد سِقْطاً) .
قال: [قد تبين فيه خلق الإنسان لا مضغة أو جسم بلا تخطيط]
فإذا أسقطته وقد تبين فيه خلق الإنسان فإنها تكون أم ولد له.
قال: [صارت أم ولدٍ له تعتق بموته من كل ماله]
فإنها تعتق من كل ماله لا من ثلثه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فقد اتفق أهل العلم على القول به، وفي موطأ مالك بإسنادٍ صحيح: أن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، قال: " لا تباع ولا تورث ولا توهب، يستمتع بها ما بدا له فإذا مات فهي حرة."
…وتعتق من ماله كله لا من ثلثه، وعليه لو استغرقت المال كله فإنها تعتق بمعنى – إذا مات ولا مال له سواها فإنها تعتق عليه لأنها أم ولد فتعتق بموته.
قال: [وأحكام أم الولد أحكام الأمة من وطءٍ وخدمة وإجارة ونحوها]
…فأحكام أم الولد أحكام الأمة، فله أن يطأها وله أن يؤجرها ونحو ذلك من إعارة وغيرها، لقول عمر في الأثر المتقدم: (يستمتع بها ما بدا له) ، فهي أمة كسائر الإماء، والفرق بينها وبين سائر إمائه أنها تعتق بموته فإذا مات فهي حرة.
قال: [لا في نقل الملك في رقبتها]
…هذا فارق آخر بين أم الولد وبين سائر الإماء، فأم الولد ليس له أن يتصرف فيها بما ينقل ملكيتها عنه بوقفٍ أو هبة أو بيع أو نحو ذلك.
قال: [ولا بما يراد له]
…أو لا بما يراد لنقل رقبتها كالرهن ونحوه كالوصية.
قال: [كوقف وبيع ورهن]
…فالوقف والبيع مثال لقوله لا في نقل الملك في رقبتها، والرهن مثال لقوله ولا بما يراد له.
…إذن بيع أم الولد بيع باطل لا يصح، وهذا هو مذهب جماهير العلماء واستدلوا بأثر عمر المتقدم، ويقاس عليه ما تقدم من الوقف والهبة والرهن والوصية ونحو ذلك فكلها لا تجوز كالبيع.(20/9)
…وقال الظاهرية وهو مذهب طائفة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلي بن أبي طالب وابن عباس والزبير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: أن بيع أمهات الأولاد جائز، وأثر علي بن أبي طالب ثابت في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر - وهذا يدل على أن المسألة رأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن -، ثم رأيت أن يبعن"، ثم قال له عبيدة: " رأيك في الجماعة أحب إلىّ من رأيك في الفرقة ".
وهذا يدل على ما تقدم وأن المسألة رأيٌ من عمر، وأما أثر ابن عباس فهو ثابت في سنن سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عنه، وهو كما تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واستدلوا بما روى النسائي وابن ماجة وابن حبان وهذا لفظه والإسناد صحيح عن جابر قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي لا يرى بذلك بأساً) وهذا القول هو القول الأرجح في هذه المسألة مع أن الأحوط ما ذهب إليه جمهور العلماء، فالأصح ما ذهب إليه علي ومن وافقه من الصحابة من أن أمهات الأولاد يجوز بيعهن، وعليه فيجوز كذلك سوى البيع من الأحكام المتقدمة لأنها مبنية على البيع متفرعة عنه.
الدرس العشرون بعد الثلاثمائة
كتاب النكاح
وأصله الضم يقال تناكحت الأشجار أي انضم بعضها إلى بعض.
النكاح في اللغة: الوطء والعقد فهو مشترك وقيل متواطئ وهو حقيقة فيهما، والقرآن الكريم لم يرد النكاح فيه إلا بمعنى العقد سوى قوله تعالى: {فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره} أي حتى يطأها كما ثبت في السنة الصحيحة.
قال: [وهو سنة](20/10)
…فالنكاح سنة، لمن له شهوة ولا يخاف على نفسه العنت أي الزنا، فهو سنة في مذهب جماهير العلماء، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وأبي حفص البرمكي وابن أبي موسى من أصحاب الإمام أحمد: أن النكاح لمن له شهوة وعنده قدرة مالية على ذلك فإنه واجب في حقه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ، والشاهد قوله – فليتزوج – والأمر للوجوب، وهذا القول هو الأظهر لموافقته لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - - فليتزوج – والجمهور حملوا الأمر الوارد في الحديث على الاستحباب، والأظهر أنه للوجوب.
…وأما إذا كان غير قادر على النكاح بماله فلا يجب عليه النكاح بل يستحب، لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة – والباءة هي مؤنة النكاح من مهر وغيره، فقد أوجب الزواج على من استطاع الباءة، فدل على أن الفقير لا يجب عليه، لكن يستحب له، وقد قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله} هذا إن كان له شهوة، وأما من لا شهوة له كالعنين الذي لا يأتي النساء، أو الكبير الهرم فلا يجب النكاح ولا يستحب في حقهم، وذلك لزوال المعنى المقتضي للإيجاب والإستحباب فيكون مباحاً في حقه لكن من غير أن يترتب على هذا ضرر على المرأة، فإن طلبت الطلاق ونحوه فسيأتي الكلام عليه في بابه، ولكن هنا حيث لا ضرر على المرأة بذلك، فإن فيه مصلحة له بقيام هذه المرأة بشأنه وهي أيضاً لها مصلحة بإنفاق هذا الزوج عليها، إذن من لا شهوة له وعنده قدرة مالية فإن النكاح يباح وقد يستحب حيث كان في ذلك مصلحة ظاهرة للمرأة كأن تكون المرأة محتاجة.
قال: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات](20/11)
…ففعل النكاح مع الشهوة أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صيام وصلاة ونحو ذلك، ذلك لما فيه من المصالح الكثيرة من تحصيل النسل وتكثير الأُمة وتحصين الفرج وغض البصر له ولزوجه، ولما فيه من القيام بشأن المرأة والإنفاق عليها وهذه المصالح تربو على نوافل العبادات.
قال: [ويجب على من يخاف الزنا بتركه]
…إذا كان يخاف الزنا بتركه فيجب عليه النكاح اتفاقاً وذلك لأن إعفاف نفسه وصيانتها من المحرم واجب _ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب –
في الإقناع: ولا يكتفى في الوجوب بمرة واحدة بل يكون في مجموع العمر خشية الوقوع في المحظور.
قال: [ويسن نكاح واحدةٍ دينةٍ أجنبيةٍ. بكرٍ ولودٍ بلا أم](20/12)
هذا ذكر لصفات المرأة المنكوحة التي يسن أن تكون عليها، أما دليل كونها واحدة، فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} ، أي أن الإكتفاء بالواحدة أقرب من ألا تعولوا من النساء فتميلوا إلى إحداهن وتجوروا بين نسائكم وهذا فعل محرم، فكان في نكاحه الواحدة دفعاً لتعرضه في الوقوع في المحرم، وقال بعض الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: بل يستحب ذلك لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ،أما استدلالهم بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فظاهر، أما استدلالهم بالآية الكريمة ففيه نظر، وذلك لأن هذه الآية مسبوقة بقوله سبحانه: {فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث} ، ومعنى الآية كما فسرته أم المؤمنين عائشة في الصحيحين بما معناه: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللآتي تحت أيديكم فتبخسوهن مهورهن فانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن – أي فالباب مفتوح لكم، هذا في الرجل تكون عنده اليتيمة كابنة عمه وتكون تحت ولايته فيرغبها لمالها ولجمالها فينكحها بمهرٍ أقل من مهر مثيلاتها أو ينكحها بلا مهر وهذا فيه ظلم لها، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما يترتب على ذلك من المصالح من تكثير النسل وتمام العفة، ونحو ذلك يدل على استحبابه ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فإذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم فلا، فالأصح وهو القول الثاني في هذه المسألة وقد قال به بعض الحنابلة: أنه يستحب له أن يتزوج أكثر من واحدة ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما دليل كونها دينة: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) .(20/13)
ويستحب أيضاً أن تكون جميلة، ولذا استحب الشرع أن ينظر إليها ولأنها أعف لنفسه وأحصن لفرجه وأتم لمودته.
وأن تكون أجنبية أي لا تكون من بنات عمه، وذلك لأنها أنجب ولداً يقال – الغرائب أنجب وبنات العم أصبر – فالغرائب أنجب أي يتوفر في الابن صفات زائدة على صفات أهله بما يكون في صفات أخواله التي تنتقل إلى الولد.
وأن تكون بكراً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر لما تزوج ثيباً – هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك – إلا أن تكون المصلحة من نكاح الثيب أرجح.
وأن تكون ولوداً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي، قاله لرجل قال له: إني أصبت امرأة ذات حسب ومال أو قال جمال لكنها لا تلد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم أتاه مرة أخرى فنهاه، ثم أتاه ثالثةً منها، ثم قال: (تزوجوا الولود الودود …. الحديث) هو من حديث معقل بن يسار، ونحوه في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان من حديث أنس بن مالك.
ويعرف كونها ولوداً بالنظر في نسائها أي إلى أمها وأخواتها وبنات عمها ونحو ذلك.
حسيبة: كما في الإقناع طيبة الأصل.
روى أحمد والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له أي النساء خير فقال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره) وهو صحيح.
وأن تكون بلا أم: قالوا لأنها ربما أفسدتها أمها أي قد تثير بعض المشاكل بين الزوجين وتأمر المرأة بالمطالبة بشيء كثير قد يكون حقاً لها وقد رضيت بتركه أو يكون لاحق لها.
ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فإن هذا ليس على إطلاقه فربما كانت الأم معينةً للزوج على ابنتها مصلحة لها قائمة بشؤونها، ولو قيل – ويستحب أن تكون لها أم عاقلة صالحة لكان أولى من أن يقال بلا أم.
قال: [وله نظر ما يظهر غالباً مراراً]
فللخاطب أن ينظر إلى ما يظهر غالباً ممن يريد خطبتها، فيباح له أن ينظر إلى ما يدعوا إلى نكاحها.(20/14)
ودليل هذا: ما ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال يا رسول الله أصبت امرأةً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنظرت إليها) فقال لا فقال: (اذهب فانظر إليها) .
وفي الترمذي بإسناد صحيح: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) أي أن تدوم المودة بينكما، رواه أحمد والنسائي وبن ماجة، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خَطب أحدكم امرأة فلينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها) ، فهذه الأحاديث تدل على أن له أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، والحنابلة صرحوا بالجواز كما ذكر المؤلف هنا وهو مصرح به في غير ما كتاب من كتب الحنابلة وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
واختار ابن عقيل وصوب ذلك صاحب الإنصاف وحكي إجماعاً: استحباب ذلك، وهو ظاهر الأحاديث المتقدمة كقوله: – اذهب فانظر إليها -، فالراجح أنه يستحب له أن ينظر منها إلى ما يظهر منها غالباً من الوجه واليدين والرقبة والشعر والقدمين ونحو ذلك مما يدعوه إلى نكاحها، وينظر إليها بإذن وليها أو بغيره، بعلمه أو بغير علمه وكذلك هي بإذنها أو بغير إذنها، بعلمها أو بغير علمها وذلك لإطلاق الحديث.
فلو نظر إليها على غفلة منها أو من وليها فإن ذلك جائز لكن لا يجوز له أن يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه إجابتهم إلى نكاحها وإلا فلا يجوز له ذلك.
إذن: ما يظهر منها غالباً هو الذي ينظر إليه الخاطب.(20/15)
وقال الظاهريه وهو رواية عن الإمام أحمد: بل ينظر إلى كل شئ منها سوى العورة المغلظة - أي القبل والدبر -، لكن هذا فيه نظر ظاهر لأنه قد يدعوه إلى الزنا المحرم، وقال داود ينظر إليها متجردة وهي رواية عن أحمد، لكن النظر إلى الساق ونحو ذلك يقوى القول بجوازه وهو قول لبعض الحنابلة، وفي مصنف عبد الرزاق ومسند سعيد بن منصور: " أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما خطب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب كشف عن ساقها "، فلا بأس، وأما سوى ذلك مما لا تطلع عليه النساء غالباً، فلا يظهر القول بجوازه. [مراراً] أي يكرر النظر حتى يحصل مقصوده، وقد صعّد النبي - صلى الله عليه وسلم - البصر وصوّبه (1) .
قال: [بلا خلوة]
فلا يجوز أن يخلو بها، وذلك لأنها أجنبية عنه والخلوة بالأجنبية محرمة، وهذا أيضاً ذريعة إلى الوقوع بما حرمه الله عز وجل فلا يجوز له أن يخلو بها.
الدرس الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة
قال رحمه الله: [ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة دون التعريض]
وهو مالا يحتمل غير النكاح، إذا توفي رجل عن زوجته أو طلقها ثلاثاً كانت بائناً، فلا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها كأن يقول لها رجل (أريد أن أتزوجك) وكذا المختلعة والبائن بفسخ ونحوه، وأما التعريض كأَن يقول: (إني في مثلك لراغب) فإنه جائز قال تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} فلا جناح في التعريض، أما التصريح فإنه محرم.
قال: [ويباحان لمن أبانها دون الثلاث]
__________
(1) وذلك في حديث الواهبة نفسها وهو متفق عليه، وهو مذكور في الدرس الذي يلي هذا الدرس.(20/16)
يباحان – أي التعريض والتصريح – لمن أبانها دون الثلاث كالمختلعة والبائن بفسخ ونحو ذلك، فالمبانة دون الثلاث يجوز لمن أبانها أن يخطبها تصريحاً وتعريضاً لأنه هو صاحب العدة، فلو أن امرأة طلبت الخلع من زوجها فرضي بذلك، فإذا تم الخلع فإنه يأتيها كغيره من الخطاب، ولكن الخطاب لا يجوز لهم أن يخطبوها حتى تنتهي من عدتها، وأما من اختلعت منه فله أن يخطبها قبل أن تنتهي من عدتها تصريحاً أو تعريضاً، وأما غيره فلا يحل له إلا التعريض، أما البائن بثلاث فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وسيأتي ذكر هذا إن شاء الله.
قوله: [كرجعية]
الرجعية زوجة، فكما أن الرجل يراجع زوجته في عدتها وهو بعلها، فكذلك في البائن دون الثلاث كالرجعية.
قال: [ويحرمان منها على غير زوجها]
أي يحرم التصريح والتعريض من الرجعية على غير زوجها، فالمطلقة طلاقاً رجعياً لا يحل لأحد أن يخطبها تعريضاً ولا تصريحاً، وكذلك لا يحل لها أن تقبل هذه الخطبة لا تعريضاً ولا تصريحاً لأنها زوجة.
قال: [والتعريض: إني في مثلك لراغب، وتجيبه: ما يرغب عنك ونحوهما]
أي نحو هذه الألفاظ التي هي من باب التعريض.
قال: [فإن أجاب ولي مجبَرَة أو أجابت غير المجبَرَة لمسلم حرم على غيره خطبتها]
قوله لمسلم أي لو كان ذمياً فإنه يجوز، ولا يحل لمسلم أن، يخطب على خطبة أخيه، فإذا خطب مسلم امرأةً فأجابت ورضيت وهي غير مجبرة أي من النساء اللاتي لا يجبرن، أو أجاب وليها وهي ممن يجبر على النكاح، فلا يحل لأحد أن يخطبها بعد ذلك، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له) .
وهذا الحكم لأن خلافه يورث العداوة والبغضاء، فإنه لا يأمن أن يرد الأول وهو كفؤٌ لها لفضيلة في الثاني فيورث ذلك عداوة في قلب الأول.(20/17)
كذلك إذا سكنت إليه أو ركنت إليه أو سكن إليه ولي المجبرة وركن إليه، وما بقي إلا أن يتلفظ بالقبول فقد ظهرت علامات الرضا فلا يحل أيضاً للحديث المتقدم. وأما إذا لم تسكن إليه المرأة غير المجبرة أو ولي المجبرة ولم يظهر ما يدل على الرضا فيجوز أن يخطب المسلم على خطبة أخيه، يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس: (إذا أحللت فأخبريني) فلما حللت ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا جهم ومعاوية قد خطباني فقال: (أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه – أي يضرب النساء – وأما معاوية فصعلوك لا مال له – أي فقير – انكحي أسامة بن زيد) ، فهنا قد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة على خطبة أبي جهم ومعاوية وذلك لأنه لم يظهر سكون ولا ركون فيجوز حينئذٍ.
قال: [وإن رُدَّ أو أَذن ….. جاز]
إذا رُدّ الخاطب الأول أو أذن للخاطب الثاني أن يخطب جاز ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إلا أن يترك الخاطب قبله أو يأذن له) .
قال: [أو جهل الحال جاز]
إذا خطب زيد فلانة، ثم لم يظهر ما يدل على الرضا، ولا ما يدل على الرد وجهل الحال، أي جهل غيره ممن يريد أن يخطب هذه المرأة وجهل هل رضوا بهذا النكاح أم لا، فيجوز له أن يتقدم لخطبتها، هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، والوجه الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه لا يجوز وهذا هو الراجح لظاهر الحديث المتقدم (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) ، وهنا الخطبة ثابتة ولا يستثنى إلا حيث ظهر عدم الرضا أو عدم السكون والركون إليه، وهنا لم يظهر شيء من ذلك فيدخل في الحديث المتقدم.
قال: [ويسن العقد يوم الجمعة]
لما روى أبو يعلى عن ابن عباس من قوله: (يوم الجمعة يوم تزويج وباءة) ، لكن الحديث فيه يحي بن العلاء وهو متروك الحديث فعليه الحديث لا يحتج به.
قال: [مساءً](20/18)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة) والحديث رواه أبو حفص العكبري كما ذكر الحنابلة.
وقال الألباني في إرواء الغليل – لم أقف على إسناده -، وعليه فلا يقال باستحبابه يوم الجمعة ولا بتخصيصه في مسائها لعدم ثبوت الحديث.
قال: [بخطبة ابن مسعود]
وهي ثابتة في مسند أحمد والسنن الأربعة وحسن هذا الحديث الترمدي وغيره والحديث صحيح، وفيه أن ابن مسعود قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الخطبة في الحاجة: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا – وفي ابن ماجة (ومن سيئات أعمالنا) – من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ثم يقرأ ثلاث آيات.
وفي النسائي الآية الأولى في آل عمران {ياأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته …} الآية.
والآية الثانية في سورة النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم ….} الآية.
والثالثة في سورة الأحزاب {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. ... } الآية.
فهذه هي خطبة الحاجة، وفي البيهقي أن شعبة قال لأبي إسحاق السبيعي - هذه الخطبة في النكاح وفي غيره - فقال: - في كل شيء -، فخطبة الحاجة تقال عند النكاح وعند غيره، ولكن لا تجب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقلها في حديث الواهبة نفسها، عندما قال - صلى الله عليه وسلم -: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَشهّد وهي مستحبة عند جماهير العلماء.
فصل
قال: [وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع]
فأركان النكاح ثلاثة:
الركن الأول: أن يكون الزوجان خاليين من الموانع، كأن تكون المرأة معتدة فهذا في المرأة مانع يمنع من صحة النكاح.
قال: [والإيجاب]
وهذا الركن الثاني: وهو الإيجاب وهو قول ولي المرأة أو من يقوم مقامه.
قال: [والقبول](20/19)
هذا هو الركن الثالث: وهو القبول وهو قول الزوج أو من يقوم مقامه، مثال ذلك إذا قال الولي: زوجتك ابنتي – فهذا هو الإيجاب – فقال الزوج: قبلت – فهذا هو القبول -، ولو هازلاً لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبوداود والترمذي وحسنه.
قال: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت]
لا يصح من العربي، ولا ممن يحسن العربية من غير العرب أن يقولوا بغير لفظ – زوجت أو أنكحت -، فإذا قال: ملكتك ابنتي أو وهبتك أو جوزتك ابنتي أو نحو ذلك، فالنكاح لا يصح، فلا يصح إلا بلفظ أنكحت أو زوجت، قالوا لأنه هو الوارد في القرآن، قال تعالى: {زوجناكها} وقال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يصح بكل لفظ دل على النكاح، وهو القول الراجح.
قال شيخ الإسلام: وينعقد – أي النكاح – بما عده الناس نكاحاً بأي لغة ولفظ وفعل كان. آهـ
سواء كان باللغة العربية أو باللغة الأعجمية، وسواء دل عليه الفعل أو دل عليه القول، لأن المقصود هو الدلالة على الرضا وهذا يحصل بكل قول أو فعل يدل على ذلك، وهذا في كل عقد كما تقدم في غير ما مسألة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الواهبة نفسها: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فعلى ذلك يصح النكاح بكل قول أو فعل دل عليه، فلو تكلم من يحسن العربية بغير لفظ العربية وهو قادر على أن يتكلم العربية فإن النكاح يصح، أو تكلم من يحسن الفصحى بالعامية فإن النكاح صحيح.
قال: [وقبلت هذا النكاح أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت]
هذه ألفاظ القبول
قال: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسانٍ](20/20)
على المذهب أنه يجب على من يحسن العربية من الأعاجم أن يتلفظ بالألفاظ العربية بالنكاح، فإن كان لا يحسن العربية بل هو جاهل فيها، فهل يلزمه التعلم، قال المؤلف:– لا يلزمه التعلم –، لأن هذه الألفاظ مما لا يتعبد بلفظه، وهذا مما يدل على ضعف هذا القول، إذ لو كان ذلك واجباً لأوجبنا عليه التعلم، والصحيح ما تقدم من أن النكاح يصح بكل قول أو فعل دل عليه.
قال: [فإن تقدم القبول لم يصح]
مثاله إذا قال الخاطب:– زوجني فلانة، فيقول الولي:– زوجتكها -، فلا يصح النكاح، وذلك لتقدم القبول على الإيجاب، قالوا: ولا يكون قبولاً وقد تقدم على الإيجاب، وهذا هو المشهور في المذهب، وأن القبول لا يصح قبل الإيجاب، وهذا من مفردات الحنابلة، وقال جمهور العلماء، بل يصح ذلك، وهذا هو القول الراجح وذلك لظهور الرضا من الطرفين بالألفاظ الدالة على ذلك، فيحصل بذلك المقصود، فإن المقصود حاصل بهذه الألفاظ تقدم القبول أو تأخره، ولأن الرجل في قصة الواهبة نفسها قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - - إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها - ... الحديث وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهذا إيجاب، وقد تقدم عليه القبول وهو قوله – فزوجنيها -.
قال: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه]
إذا تأخر القبول عن الإيجاب، كأن يقول الولي:– زوجتك ابنتي فلانة -، فسكت الخاطب عن القبول فتأخر القبول عن الإيجاب فإن ذلك يصح ماداما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه كأن يتشاغلا ببيع وغيره من الأمور الخارجية، لكن لو تشاغلا بما لا يقطعه كأن يقول له:– زوجتك ابنتي – فيقول: أي بناتك فيقول:– البنت الكبرى – فيقول: كم قدر المهر؟ فيقول:– كذا – فيقول: رضيت بهذا ولا يقطعه، لكن لو تشاغلا بأمر أجنبي عن موضوع النكاح ثم قال بعد ذلك: رضيت فحينئذٍ لا يصح.
قال: [وإن تفرقا قبله بطل](20/21)
مثاله: إذا قال الولي:– زوجتك ابنتي – ثم تفرقا من المجلس والخاطب لم يقل:– رضيت – ثم بعد ذلك اتصل بالهاتف أو غيره فقال:- قد رضيت -، فلا يصح لأنهما تفرقا عن المجلس، وعن الإمام أحمد أنه لا يبطل، وأنه لو تشاغلا عنه بما يقطعه أو تفرقا قبله فإنه لا يبطل، ويدل على ذلك قصة الواهبة نفسها، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله – إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها – فقال: (فهل عندك من شيء) فقال:– لا والله يارسول الله – فقال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله ما وجدت شيئاً – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انظر ولو خاتماً من حديد) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد – ولكن هذا إزاري – قال سهل: ما له رداءٌ فلها نصفه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء) فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولياً فأمر به فدعي فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن) قال:– معي سورة كذا وسورة كذا – عددها فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك) قال:– نعم – قال: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهنا قد وقع فاصل طويل عرفاً وتفرقاً في المجلس ومع ذلك لم يأمره بإعادة القبول، هذا القول هو القول الراجح مالم يكن تشاغله أو تفرقه عن المجلس دالاً على عدم رضاه.
الدرس الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وله شروط]
فهذا الفصل في شرط من شروط النكاح، فللنكاح شروط لا يصح إلا مع توفرها.(20/22)
قال: [أحدهما: تعيين الزوجين]
فيشترط أن يُعيَّن الزوجان – الذكر والأنثى – بما يتميز به كل واحد منهما كالبيع، فكما أنه يشترط في المبيع عدم الالتباس بأن، يتميز المبيع عن غيره فكذلك في النكاح.
قال: [فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به…..صح]
إذا أشار الولي إلى الزوجة فقال: زوجتك هذه فقال:– زوجتك هذه – أو سماها فقال:– زوجتك فاطمة – أو وصفها بما تتميز به كأن يقول:– زوجتك ابنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك.
قال: [أو قال: زوجتك بنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك]
إذا قال – زوجتك ابنتي، وليس له إلا هي فإن الزواج يصح لعدم الالتباس، أما إذا لم يعينها تعيناً يزيل الالتباس كأن يقول: زوجتك ابنتي وله غيرها، فإن النكاح لا يصح للالتباس المتقدم.
مسألة: إن عيناها في الباطن ولم يعيناها في العقد فإذا عين الولي والزوج المرأة أو المعقود عليها في الباطن، وأما في الألفاظ فلم يقع منهم تعيين – أي حال العقد – فهل يصح أم لا؟
وجهان عند الحنابلة:
الوجه الأول: الصحة.
الوجه الثاني: البطلان.
والراجح هو صحة النكاح لعدم الالتباس، لأن اتفاقهما في الباطن يزيل الالتباس.
فصل
قال: [الشرط الثاني: رضاهما]
أي رضا الزوجين، فيشترط الإذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) ، وقياساً على البيع فإنه يشترط فيه الرضا فكذلك في النكاح.
قال: [إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم]
المعتوه: درجة لا تصل إلى الجنون.(20/23)
فالبالغ المعتوه يجوز للأب أو وصيه أن ينكحه بلا إذنه، لعدم اعتبار إذنه، فإن إذنه لا فائدة منه فهو غير معتبر، وكذلك البنت المجنونة يجوز لأبيها أو لوصيه – وهو من يقوم مقام الأب بعد موته – أن ينكحاها، وكذلك يجوز للحاكم أن ينكح المعتوه أو المجنونة أو الصغير، عند الحاجة إلى النكاح، بل يجوز على الراجح لسائر الأولياء ذلك.
إذن الأصل أن الصبي العاقل لا يزوجه إلا الأب أو الوصي، وكذلك البالغ المعتوه والمجنون أو المجنونة ونحو ذلك، لكن كما هو المشهور في مذهب الحنابلة يجوز للحاكم أي عند فقد الأب والوصي، يجوز للحاكم أي القاضي أن يزوجهم عند الحاجة أي عند الحاجة للوطء أو للخدمة أو نحو ذلك، كأن يكون الصبي العاقل غير البالغ يحتاج إلى الخدمة كأن يكون معوقاً فيزوجه الحاكم، وهو مختص بالحاكم، والذي يترجح أنه عام في الحاكم وفي سائر الأولياء عند الحاجة لمصلحة موليه، والصغير يجوز لأبيه أن ينكحه بلا إذنه، والصغير هو العاقل غير البالغ، هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
قوله: [والبكر ولو مكلفة]
البكر لها ثلاث أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون البكر مكلفة أي بالغة عاقلة، فجمهور العلماء على أن للأب ووصيه من بعده أن ينكحها بلا إذنها أي أن يجبرها على النكاح.
هذا هو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية، واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) قالوا فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الثيب أحق بنفسها من وليها) مفهومه أن غير الثيب ليست بأحق بنفسها من وليها، وعليه فإن وليها أحق بها من نفسها فله أن يجبرها.(20/24)
وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها طائفة كثيرة من أصحابه، واختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله جميعاً، قالوا: لا يجوز له أن يجبرها بل يشترط إذنها، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (البكر تستأمر) أي يطلب أمرها في النكاح وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) قيل فكيف إذنها قال (أن تسكت) .
فهذان الحديثان يدلان على وجوب استئذانها، وعليه فلا يجوز له أن يجبرها.
قالوا: وأما ما استدللتم به فغايته أن يكون مفهوماً، والمنطوق مقدم على المفهوم.
فإن قيل: لم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:- الثيب أحق بنفسها –؟
فالجواب: لأنها تصرح بلفظها، فإن الثيب تصرح بلفظها فتقول: قبلت أو رضيت، بخلاف البكر فإنها لا تصرح بلفظها حياءً.
وهذا هو القول الراجح
الحالة الثانية: أن تكون البكر دون تسع سنين، فقد أجمع أهل العلم على أن البكر دون التسع، يجوز للأب ووصيه من بعده – أن يجبرها على النكاح – هذا بإجماع العلماء حكاه ابن المنذر وغيره.
الحالة الثالثة: البكر بنت تسع سنين، فجمهور العلماء على أن لأبيها أن يجبرها ومنهم الأحناف كما تقدم فإن الجمهور يقولون: البكر تجبر ولو كانت بالغة، فأولى من ذلك بنت تسع.(20/25)
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أبو بكر من الحنابلة، وقال بعض الحنابلة:– هو المنصوص عن الإمام أحمد –: أنه ليس للأب أن يجبرها وأن لها إذناً معتبراً وذلك لأن إمكان الحيض منها كثير، ولأنها تتطلع إلى النكاح أكثر من دونها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البكر تستأذن) هو عام في كل بكر فلا يخصص منه إلا مادل الإجماع على تخصيصه وهي ما دون تسع، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، فعليه البكر تستأذن إلا أن تكون دون تسع فلأبيها ولوصيه من بعده أن يجبراها على النكاح بإجماع أهل العلم.
أما الثيب فلا يجوز للأب ولا لوصيه ولا غيرهما أن يجبروها على النكاح، والمراد بالثيب التي قد تم لها تسع سنين، فقوله:– لا الثيب – أي الثيب التي تم لها تسع سنين، وظاهر ذلك أنها إن كانت دون تسع وهي ثيب أن له أن يجبرها وهو الصحيح في مذهب الحنابلة، وهذا القول ظاهر إذ لا فرق بين البكر والثيب إلا في أمر واحد وهو كيفية بيان الرضا، فالثيب تصرح بلفظها، والبكر يمنعها الحياء من ذلك فتصمت، وقال بعض الحنابلة، وعبر عنه صاحب الإنصاف بقوله، وقيل أنه ليس للأب أن يجبر الثيب دون تسع، وفيه نظر لما تقدم، إذ لا فرق بينهما إلا فيما تقدم من حيث أن الثيب تبين رضاها بصريح قولها، وأما البكر فإنها تصمت ويكون صماتها دليلاً على رضاها.
قال: [كالسيد مع إمائه]
فالسيد ينكح إماءه البالغات وغير البالغات بغير رضاهن لأنه يملك منافع بضعهن، فإنهن ملك له وهذا ظاهر.
قال: [وعبده الصغير]
فيجوز له أن يجبر عبده الصغير على النكاح، لأن هذا - رأى السيد - أولى من الأب، وأما العبد الكبير البالغ فلا يجوز له إجباره، لأنه يملك الطلاق وإذا كان يملك الطلاق فلا يملك إجباره على النكاح كالحر.
قال [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع سنين](20/26)
حتى الجد في الصحيح من قولي العلماء - وهو مذهب الحنابلة - وقالت الشافعية: بل الجد له أن يجبر البكر على النكاح لأن ولايته بسبب الولادة فأشبه الأب وحكاه صاحب الإنصاف اختياراً لشيخ الإسلام وهو روايه عن الإمام أحمد والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الجد ليس له أن يجبر البكر _دون تسع سنين _ على النكاح وليس له _ على المذهب _ أن يجبرها بعد تسع وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي (ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر) ، واليتيمة: هي من ليس لها أب ولأن شفقة الجد ليست كشفقة الأب فالصحيح أن سائر الأولياء كالأخ والعم وكذالك الجد ليس لهم أن يجبروا البكر وإن كانت محلاً للإجبار كالبكر دون تسع.
قال [ولا صغيرة ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع سنين إلا بإذنها]
لما تقدم إلا مع الحاجة - على الراجح - وعند الحنابلة أن ذلك للحاكم خاصة والراجح أنه لسائر الأولياء وعندما يحتاج موليه إلى النكاح للوطء أو للخدمة فإنه ينكحه لما في ذلك من مصلحته.
قال [وهو صمات البكر]
هذا هو الإذن فإذا قيل لها: خطبك فلان أترضين به؟
فسكتت، فهذا هو رضاها وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذنها سكوتها) .
قال [ونطق الثيب]
فالثيب تبيّن وتعرب عن نفسها _ كما تقدم في الحديث السابق تستأمر أي تأمر فيطلب أمرها – والثيب في المذهب هي الموطوءة من قبل في حل أو في حرمة وعليه فالمزني بها مكرهة أو غير مكرهة تدخل في هذا الحكم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.(20/27)
وقالت المالكية والأحناف: الموطوءة فجوراً ليست بثيب، وهذا هو الراجح واختاره ابن القيم، ويرجحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتنكح الأيم) فتفسر الثيب بالأيم، والموطوءة بالزنا ليست بأيم سواء كانت مكرهه أو غير مكرهه بل الأيم من فارقها زوجها بطلاقٍ أو فسخ أو موت وهذه الأيم قد باشرت النكاح سابقاً، وحينئذٍ فلمباشرتها السابقة يزيل هذا الحياء الذي يمنعها من التصريح به حيث خُطِبَت مرةً أخرى، ومن وطئت بالزنا ليس أمرها كذلك.
فالراجح ما ذهب إليه المالكية والأحناف: أن الموطوءة بالزنا سواءً كانت مكرهة أو غير مكرهة ليست بثيب بل هي في حكم الأبكار في هذه المسألة.
فالذي يتبين من الأدلة الشرعية أن الثيب هي الأيم، والأيم من فارقها زوجها بطلاق أو فسخ أو موت وإن لم يطئها، فلو عقد عليها فمات عنها قبل أن يطئها فهي في حكم الثيب، فلا يكفي صماتها بل لابدَّ أن تعرب عن نفسها فتتلفظ بما يدل على رضاها.
الدرس الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [الثالث: الولي]
هذا هو الشرط الثالث من شروط النكاح وهو الولي فلا يصح النكاح إلا بولي لما روى الخمسة وصححه أحمد وابن المديني والبخاري والذهبي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي) ، أي لا نكاح صحيح إلا بولي، ولما روى أحمد والترمذي وابن ماجة والحديث من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) ، هذا هو مذهب عامة أهل العلم.(20/28)
وقال الأحناف وهو مذهب أبي حنيفة: بل يصح النكاح بلا ولي واستدلوا بقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، فأضاف النكاح إليهن فدل على أنه من فعلهن، وهذا القول ضعيف جداً وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن} فأضاف العضل إلى أوليائهن فدل على أن لهم تصرفاً في انكاحهن ثم إن السنة تبين القرآن وقد دلت السنة على شرطية الولاية في النكاح.
فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه عامة العلماء من شرطية الولاية في النكاح، وكما يدل عليه الأثر فإن النظر يدل عليه فإن المرأة قاصرة النظر فقد تخدع ويغرر بها بما يكون فيه استحلال لفرجها وأسر لنفسها فلا شك أن هذا مقام مهم جداً فكان الاحتياط للمرأة بأن لا تنكح إلا بولي، وذلك لقصور نظرها فقد تخدع وتغتر فيستباح فرجها وتكون أسيرة تحت من نكحها بغير ولي فاحتيط لها بأن لا يصح نكاحها إلا بولي، وهنا تخريج في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجوز لها أن تنكح إن أذن لها وليها بالنكاح لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) ، فدل على أنه إن أذن لها فنكاحها صحيح، وهذا التخريج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – هذا تخريج غلط – آهـ، وذلك لدلالة السنة الصحيحة في أنه لا نكاح إلا بولي، وحينئذ فيكون قوله (بغير إذن وليها) مما يجري مجرى الغالب فيكون المراد إلا بإذن وليها مع ولايته، ولما فيه من تبذل المرأة المخالف لصيانتها فإن انكاحها لنفسها تبذل لها، والشرع يأتي بصيانتها لا تبذلها ولذا فالصحيح أنه لابد من ولي وأن إذن الولي لا يكفي حتى يكون هو المتولي للعقد.
قال: [وشروطه: التكليف]
فيشترط التكليف لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له وهو غير البالغ، وغير العاقل يحتاج لمن ينظر له فلا ينظر لغيره، فلابد أن يكون مكلفاً أي عاقلاً بالغاً.
قال: [والذكورية](20/29)
فلا تصح ولاية المرأة وإن كانت أُمّاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) ، فالشرط الثاني هو أن يكون الولي ذكراً فالأنثى لا ولاية لها.
قال: [والحرية]
فيشترط أن يكون الولي حراً لأن العبد لا ولاية له على نفسه فأولى من ذلك أن تكون لا ولاية له على غيره، فإنه لا ينكح إلا بإذن سيده فأولى من ذلك أن لا ينكح غيره.
قال: [والرشد]
فيشترط أن، يكون الولي راشداً في العقد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - الرشد في كل مقام بحسبه - آهـ، فالرشد في البيع شيء والرشد في النكاح شيء آخر وهكذا، فالرشد في النكاح: أن يكون عارفاً بالكفء وعارفاً بمصالح النكاح وإن كان غير رشيد في بيعه وشرائه ولكنه رشيد في النكاح، ولا شك أن اشتراط الرشيد في النكاح أولى من اشتراطه في البيع، فإن استحلال الفرج وما يترتب على النكاح من آثارٍ أولى من خروج شيء من ملكيته من الأشياء المالية.
قال: [واتفاق الدين]
الشرط الخامس: اتفاق الدين فيشتَرط أن يكون الولي وموليته متفقي في الدين إما مسلمين أو نصرانيين أو يهوديين ونحو ذلك فلا بد أن يتفقا في الدين كالإرث لأن اختلاف الدين يمنع من التوارث فكذلك يمنع من الولاية، لأن القربة سبب ولاية ويترتب عليها الإرث فاختلاف الدين أزال أثرها في التوارث فكذلك يزيل أثرها في النكاح فهو من باب القياس على التوارث، فليس لمن لا يصلي – وهو تارك للصلاة – ولاية على بناته اللاتي يصلين وذلك لاختلاف الدين، وكذا ليس لليهودي ولاية على النصرانية وهكذا.
قال: [سوى ما يذكر](20/30)
كالسلطان فإنه لا يشترط أن يكون السلطان يوافق دين المرأة التي سيتولى انكاحها التي هي من رعيته، فإذا كان من رعيته امرأة ذمية فله أن ينكحها وهذا حيث ليس لها ولي ينكحها فإن وليها الأعظم وهو السلطان ينكحها أو القاضي الذي يتوب عن السلطان في ذلك ولو اختلف الدين، وكذا السيد ينكح أمته الكافرة.
قال: [والعدالة]
الشرط السادس: أن يكون الولي عدلاً، قالوا: ولو ظاهراً. آهـ، وهو مستور الحال فيكون في ظاهره عدلاً فلا يظهر عليه فسق باقتراف شيء ظاهر من المعاصي مع عدم ظهور التوبة، فالفاسق في الظاهر لا ولاية له وأما الذي فسقه باطن ليس بظاهر وهو مستور الحال فهو يُسر بالمعاصي ولكنه في الظاهر مستور الحال فإن ولايته صحيحة، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية.
قالوا: لأنها ولاية نظر فلم يستبد بها الفاسق، فيشترط أن يكون الولي عدلاً، فإذا كان الأب فاسقاً فإنه لا ولاية له وتنتقل إلى من بعده وهكذا حتى لو وصلت إلى السلطان.
وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي وهو مذهب الأحناف والمالكية: أن العدالة ليست بشرط في الولي في النكاح بل تصح ولاية الفاسق وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة وعليه عمل الناس في كل عصر، وفي كل مصر من عهد السلف الصالح والعمل على هذا، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والأدلة ترده أي القول الأول وعمل السلف يرده. آهـ
وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختاره الموفق ابن قدامة من الحنابلة واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم، والفسق في الغالب لا يؤثر في مثل هذه المسائل لما له من الشفقة على موليته، ولأنه ليس له أن يعضلها وإن عضلها فإن ولايته تبطل وكذا لو أراد إجبارها على نكاح غير الكفء فكذلك كما سيأتي تقريره وعليه فولاية الفاسق صحيحة.
قال: [فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها]
كما تقدم في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) .(20/31)
قال: [ويقدم أبو المرأة في إنكاحها]
الأب هو المقدم في باب الولاية لأنه أشد شفقة وأكمل نظراً من غيره فيقدم الأب حتى على الأبناء.
وعن الإمام أحمد أن الأبناء يقومون على الأب وهو مذهب الإمام مالك قالوا: لأنهم أقرب عصبة من الأب، والصحيح الأول لأن نظر الأب أكمل وشفقته أشد وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: [ثم وصيه فيه]
أي ثم يقوم الوصي بعد الأب أي بعد موت الأب، فإذا أوصى الأب أن تكون ولاية بناته لفلان الأجنبي عنهم أو لأحد أولاده دون غيره أو لأحد أخواله مع وجود أبنائه ونحو ذلك فإن الولاية تكون للوصي، كالتوكيل في الحياة، فكما أن الأب لو وكل رجلاً في نكاح بناته فيصح اتفاقاً فكذلك في الوصية بعد الموت، ولأنه أقوى نظراً من غيره وغالباً لا يجعل الوصية إلا ممن يرى أن إنكاحه أصلح من إنكاح غيره.
قال: [ثم جدها للأب وإن علا]
ثم بعد الوصي الجد للأب، أما الجد للأم فلا لأنه ليس من العصبة بل هو من ذوي الأرحام كما تقدم في باب الفرائض.
وعن الإمام احمد وهو مذهب المالكية: أن الإبن يقدم على الجد، والذي يترجح أن الجد يقدم على الإبن أيضاً لأنه أكمل نظراً ولما له من الإيلاد المشابه للأب فيه، وقد يقال في مثل هذه المسألة أنها ترجع إلى إجتهاد الحاكم أي القاضي لتعيين الأصلح منهما أي من الجد أو الإبن، وقد يقال هذا أيضاً في مسألة الإبن والأب لأنهم عللوا ذلك بقولهم أكمل نظراً وأشد شفقة، وقد يتبين للحاكم أن الإبن أشد شفقة وأكمل نظراً فتكون الولاية له، إلا أن هذا النظر في مسألة الجد أولى من الأب لأن الولاية ثابتة في الأصل للأب فلا ينتقل عنها إلا بدليل فتقديم الأب على الإبن أولى من تقديم الجد على الإبن.
قال [ثم إبنها ثم بنوه وإن نزلوا ثم أخوها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك ثم عمها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك]
ترتيب العصبات كما تقدم في الفرائض.
قال [ثم أقرب عصبةٍ نسباً كالإرث](20/32)
أي ثم عم الأب ثم عم الجد وهكذا كما تقدم في الفرائض.
قال [ثم المولى المنعّم]
بالعتق تكون الولاية له إن لم يكن هناك عصبة فمولاها المنعم عليها بالعتق يتولى إنكاحها.
قال: [ثم أقرب عصبته نسباً]
أي ثم ينتقل إلى أقرب عصبة هذا المعتق نسباً.
قال: [ثم ولاء]
يعني المولى فالمعتق إن كان له معتق فتكون الولاية للمعتق إلا على ثبوت الولاية كما تقدم في كتاب الفرائض.
قال: [ثم السلطان]
ثم السلطان -وهو الإمام الأعظم ونائبه وهو القاضي لا الوالي كما نص أحمد - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن اشتجروا - أي الولي وموليته – فالسلطان ولي من لا مولى له) ، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: في النساء اللاتي يسلمن في بلاد كافرة وأولياؤهن كفار قال يتولى ذلك رئيس المركز الإسلامي. آهـ
وهذا لما له من الولاية حيث لا سلطان، فإن تقدر وجود السلطان أو المركز الإسلامي فإنها توكل عدلاً ينكحها وقد روى البخاري معلقاً (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لأم حكيم بنت قارظ: أتفوضين أمركِ إلي قالت (نعم) ، قال: تزوجتك) .
فهنا فوضت أمرها إليه فإذا انعدم السلطان فلها أن تفوض أمرها إلى عدل، ولكن يشكل على هذا أن السلطان موجود فقد يكون هذا برضا السلطان فإن السلطان إذا رضي أو أذن بذلك أو فوضت إلى غير هذا الأمر فإن ذلك جائز فللقاضي أن يولي عدلاً يقوم بالإنكاح.
قال: [فإن عضل الأقرب](20/33)
كأن يعضلها الأب مثلاً فمنعها من نكاح الكفء فيكون هذا فسق فيه وهنا يوجب هذا نقل الولاية عنه لأنه فعل أمراً محرماً يختص بالولاية فتبين أنه ليس بأهل للولاية، فإذا أعضل الأب أو الولي الذي بعده وهكذا فإن الولاية تنتقل إلى من بعده، قال شيخ الإسلام: وإذ1 امتنع الخطاب من الخطبة لشدته فإن الولاية تنتقل عنه. آهـ، فتنتقل عنه ولما فيه من الإضرار بالمرأة وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} ، فإذا عضل الأقرب فتنتقل إلى الولي الأبعد وهكذا حتى تصل إلى السلطان.
قال: [أولم يكن أهلاً]
كأن يكون غير بالغ فتنتقل إلى الأبعد البالغ فلو كان أخوها غير بالغ ولها ابن أخ بالغ فالولاية لأبن أخيها البالغ وهكذا لعدم أهلية الولاية.
قال: [أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد]
فإذا غاب الولي غيبة منقطعة لا تقطع عرفاً إلا بكلفة ومشقة فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد فهو قد سافر سفراً ولا يأتي إلى هذه البلد ليقوم بولاية هذه المرأة إلا بكلفة ومشقة ومرجع هذا إلى العرف فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد لما في بقاء الولاية له من الإضرار بالمرأة فإذا كان في العرف يشق انتظاره لأن سفره سفر بعيد في العرف يشق معه أن يأتي لولاية المرأة أو أن يوكل فحينئذٍ تنتقل إلى الأبعد.
قال: [وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح](20/34)
إذا زوج الأبعد كالأخ مع وجود الأب أو الأجنبي يزوج مع وجود الغريب من غير عذر وتقدمت بعض الأعذار ومن ذلك العضل ومن ذلك أن يكون غائباً غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، أو أن يجهل وجود الأقرب كأن يكون لها أبناء عم أباعد لا يدرى بهم فيزوجها السلطان مثلاً ولا يدرى بوجودهم إلا بعد ثبوت النكاح فحينئذٍ هذا عذر في تصحيح النكاح فيصح النكاح حينئذٍ، أما إذا زوجها الأبعد أو الأجنبي من غير عذر فلا يصح النكاح، وعن الإمام أحمد أنه موقوف على إجازة الولي كالبيع، وفيه نظر للفارق بيين النكاح والبيع بدليل أن المرأة لا يحل لها أن تنكح نفسها بإذن وليها فكذلك إذا أنكحها غيره وإن كان الولي قد أذن بذلك، فإذا استوى الوليان كأن يكون لها اخوة هم أولياؤها فأي أحد منهم أنكح صح إنكاحه لأن كلهم أولياء لها، وكذا لو كان لها أبناء عم درجتهم واحدة وهكذا.
فإن أذنت لواحدٍ تعين ولم يصح نكاح غيره، والمستحب أن يقوم الأفضل ثم الأسن، فإن تشاحنوا في ذلك أقرع بينهم.
فإن زوجها وليان هذا زوج وهذا زوج فالزوج الأول وهو الصحيح لما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منها) ، فإن جهل السابق أو علم فنسي فالمشهور في مذهب الإمام أحمد أن النكاحين يفسخان جميعاً، ولهما نصف المهر يقترعان عليه.
وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه يقرع بينهما وهذا أظهر ممن خرجت قرعته فهو زوجها ولكن يجدد العقد للوطء وهذا هو الأصح لأن القرعة تفعل حيث استوت الحقوق فلا مرجح لأحدهما على الآخر فإنه يقرع بينهما فإذا أقرع بينهما فمن خرجت قرعته فهو زوجها ويجدد العقد للوطء.
الدرس الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [الرابع: الشهادة]
أي الشرط الرابع من شروط النكاح الشهادة.
قال: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين ذكرين مكلفين سميعين ناطقين](20/35)
فالشهادة شرط في صحة النكاح عند جمهور العلماء واستدلوا بما روى البيهقي وغيره من حديث الحسن عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين) ، والحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه عبد الله بن محِّرز وهو متروك الحديث ولكنه صحيح إلى الحسن مرسلاً، فالصواب فيه الإرسال وأما الوصل فإسناده ضعيف جداً.
وفي الدارقطني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدلٍ) ، ولكن سنده ضعيف مرفوعاً، ولكنه صحيح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه وقد صحح وقفه الترمذي والبيهقي وغيرهما، والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين كما قال ذلك الترمذي رحمه الله فهذا الحديث المرسل يشهد له عمل الصحابة رضي الله عنهم ويشهد له أيضاً الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا يعلم له مخالف، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وقال المالكية وهو مذهب ابن المنذر واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد – أن الإشهاد لا يشترط وإنما يشترط إعلان النكاح – واستدلوا بما ثبت في المسند بإسنادٍ صحيح من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعلنوا النكاح) والأمر للوجوب وثبت عند الخمسة إلا أبا داود بإسنادٍ جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فصل ما بين الحلال والحرام – أي النكاح والسفاح – الصوت والدف في النكاح) ، ومن حديث عائشة رضي الله عنها نحو حديث ابن الزبير (أعلنوا النكاح) وفيه: (واضربوا عليه بالغربال) ، وهو الدف ولكن إسناده ضعيف.(20/36)
فإذاً: مذهب مالك أن الشرط هو إعلان النكاح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا أصل للإشهاد في الكتاب والسنة. آهـ، والذي يتبين مما تقدم أن الحديث مرسل والعمل عليه عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم ويعضده الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالذي يتبين هو شرطية الإشهاد، كما أن الراجح أيضاً هو وجوب إعلان النكاح كما هو مذهب مالك والجمهور على الاستحباب، والصحيح وجوب إعلانه وقد يقال – إن النكاح إذا أعلن فإنه يكتفي بإعلانه عن الإشهاد، فإن إعلانه يقوم مقام الإشهاد بل أعظم وقد يستدل على هذا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنهما كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (اشترى جارية على سبعة أرؤس فقال الناس – ما ندري أتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جعلها أم ولد له، فلما ركب حجبها فعلم الناس أنه قد تزوجها) ، وليس في الحديث إشهاد.(20/37)
وأجاب عنه الموفق رحمه الله، بأن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن من خصائصه: عدم الولي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح غير واحدة من نسائه بلا ولي فهو من خصائصه فكذلك في الشهادة، ومع ذلك فإن القول باشتراط إعلان النكاح فيه قوة لأن إعلان النكاح يقوم مقام الإشهاد، ولا شك أن الإحتياط هو أن يشهد على النكاح، وأن يعلن عليه. ولا يشترط في المذاهب الأربعة - إلا وجهاً ضعيفاً للشافعي وأحمد كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - لا يشترط الإشهاد على إذن المرأة فالإشهاد المتقدم إنما هو الإشهاد على تزويج الولي، بل لو قال الولي: أذنت لي، فإن قوله يقبل ولكن إن أنكرت بعد ذلك أن تكون أذنت لوليها فالقول قولها بيمينها. ولذا: فينبغي كما قال شيخ الإسلام وغيره الإشهاد على إذن المرأة ليكون النكاح متفقاً على صحته، وليؤمن فسخه عند جحودها، فعلى ذلك يستحب الإشهاد على إذنها ولكن لا يشترط لعدم الدليل عليه. فإذن: يشترط الإشهاد ويشترط على الراجح إعلان النكاح ويضرب عليه بالدف، فظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله وكلام أصحابه أن ذلك على التسوية للرجال والنساء وأن الرجال يضربون بالدف كالنساء، وقال الموفق رحمه الله تعالى: هو مخصوص بالنساء. آهـ(20/38)
وقوله أظهر لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - _أي أن يضرب الرجال بالدف في النكاح بل المعروف هو ضرب النساء على بالدف، فدل على أن المراد بالأحاديث المتقدمة هو ضرب النساء عليه بالدف إذ لو كان المراد ضرب الرجال عليه أيضاً لفعل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إن سمع الرجال للدف مع كون الفتنة مأمونة كأن تكون الجواري هن اللآتي يضربن بالدف فإن ذلك جائز، ويدل عليه ما رواه الحاكم بسند صحيح عن عامر بن سعد قال: (دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يضربن بالدف فقلت – أنتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بدر يفعل هذا عندكم – فقالا: إن شئت فأقم معنا وإن شئت فاذهب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لنا باللهو في العرس) ، فدل على جواز السماع مع أمن الفتنة.
فالأظهر هو ما قاله الموفق رحمه الله وأن الضرب بالدف إنما هو للنساء خلافاً لما يفيده ظاهر نصوص الإمام أحمد وظاهر كلام أصحابه لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويشترط في الشاهدين العدالة ولو ظاهراً كما تقدم في الولي، وكذا أن يكونا ذكرين فلا تصح شهادة الأنثى ولا تصح شهادة رجل وامرأة ففي مصنف ابن أبي شيبة عن الزهري قال: مضت السنة أن شهادة المرأة لا تجوز في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق. آهـ، ولأن هذا الأمر يطلع عليه الرجال وليس بمالي فلم يحتج معه إلى شهادة النساء وسيأتي في الكلام على شهادة المرأة في باب الشهادة إن شاء الله، وأن يكون مكلفين وكذا سميعين فلوا كانا أصمين فلا يصح لأنه لا يمكنه أن يشهد لأنه لم يسمع، وكذا أن يكونا غير أخرسين فإن كانا أخرسين فلا تصح شهادتهما لأنهما لا يمكنهما الأداء، وقال الشافعية في وجه بل يصح أن يكونا أخرسين وهذا هو الراجح لأنه يمكنه أن يؤدي الشهادة بالإشارة.(20/39)
قال: [وليست الكفاءة وهي دينٌ ومنصب، وهو النسب والحرية شرطاً في صحته]
الكفاءة ليست بشرط في صحة النكاح ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين (لما عتقت بريرة خيرها من زوجها وكان عبداً) ، فهذا التخيير من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك ليس شرطاً في صحة النكاح وإنما هو شرط في لزومه أي في أن لا يثبت فيه الخيار فلا فسخ، فإذا تزوج الرجل امرأة ليس بكفء لها فالنكاح صحيح ولكن يثبت الخيار للمرأة ولوليها الفسخ كما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة لما أعتقها والعبد ليس بكفء للحرة وبريرة حرة وزوجها عبد فليس كفأً لها فلم يبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح وإنما جعل لها الخيار.
فعليه ليست الكفاءة شرطاً في صحة النكاح بل هي شرط في لزومه بمعنى أن الكفاءة إن لم تثبت فالخيار ثابت واتفق أهل العلم أن الدين من الكفاءة، فالمرأة الصالحة لا تزوج الرجل الفاسق لأنه ليس بكفءٍ لها، فإذا زوجت امرأة صالحة بفاسق فلها الفسخ بالشرط الآتي ذكره، كما أن الفاجر ليس بكفء للعفيفة فإذا زوجت فلها الفسخ أو لأحد أوليائها مالم يدل دليل على الرضا منها بقولها أو فعلها أو من الولي بقوله فلا فسخ.
والثاني: النسب. فالعربي كفء للعربية ولكن الأعجمي ليس بكفء للمرأة العربية. فمثلاً: رجل ليس بقبلي تزوج امرأة قبلية لا يكون كفأً لها عند جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والأحناف، فإذا لم تعلم أنه غير قبلي فلها ولوليها الفسخ بل لأي أحد من الأولياء ذلك ولو بعد حين في أي زمن كان فله أن يفسخ العقد. فمثلاً: امرأة تزوجها غير قبلي وهي قبلية ورضي الأولياء الحاضرون فولد بعد عشرات السنين ابن عم لها فقال: أن لا أرضى بذلك فحينئذٍ يفسخ النكاح كما سيأتي تقريره فالنسب من الكفاءة وفي البزار بسند جيد، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: (أنتم قد فضلكم الله علينا معشر العرب بألاننكح نساءكم ولانؤمكم) .(20/40)
قال المالكية وهو مذهب البخاري واختاره ابن القيم وابن سعدي أن الكفاءة ليس منها النسب بل لو تزوج غير القبلي قبلية وهو رجل صالح فهو كفء لها: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي والحديث حسن، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس وهي عربية قال لها: (أنكحي أسامة بن زيد) وهو مولى، وفي البخاري (أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنىَ سالماً وزوجه ابنة أخية هند بنت عتبة بن ربيعة وهو مولى لإمرأة من الأنصار) فسالم مولى وزوجه قرشية، وهذا الأرجح في هذه المسألة وأن مسألة النسب ليست من الكفاءة.
ثالثاً: الصنعة. فصاحب الصنعة الدنيئة كالحجام والكساح ونحوهم لا يزوجون بنات أصحاب الصناعات الرفيعة فان تزوجها فلها الفسخ أو لأحد أوليائها الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب.
ومذهب مالك: أن هذا ليس من الكفاءة فقد روى أبو داود بسند جيد (أن أبا هند حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليافوخ وهو مولى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني بياضة – وهم عرب - أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه) ، وهو القول الراجح في هذه المسألة.
رابعاً: اليسار. فإذا تزوج قرشي نسيب في قومه امرأة ذات يسار وهو فقير معسر فإن لها ولأحد أوليائها الفسخ حتى ولو قام بنفقتها الواجبة ولكنه ما دام لا ينفق عليها النفقة المناسبة لها فليس بكفء لها، فيشترط في لزوم النكاح أن يكون الزوج ذا يسار إذا كانت المرأة ذات يسار، وعن الإمام أحمد وهو الراجح أن ذلك ليس بشرط ولكن إن أعسر في النفقة الواجبة فسيأتي الكلام عليه في مسألة قادمة إن شاء الله.(20/41)
خامساً: الحرية. فالعبد ليس بكفء للحرة وهو ظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم الذي فيه إثبات الخيار لبريرة لما عتقت فدل على أن العبد المملوك ليس بكفء للحرة ولو كانت سابقاً مملوكة ولكنها أعتقت فأصبحت حرة فليس العبد المملوك كفأً لها.
قال: [فلو زوج الأب عفيفة بفاجر ... .، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ]
هذا هو المذهب وأنه يصح تزويج العفيفة لمن عرف بالزنا، وعن الإمام أحمد رحمه الله وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، المنع من ذلك وهو الصحيح الذي يدل عليه كتاب الله عز وجل حيث قال تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، فمن عرف بالزنا فلا ينكح العفيفة والنكاح باطل كما أن العفيف لا ينكح الزانية كذلك لنص الآية المتقدمة.
قال: [أو عربية بعجمي، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ]
أي تزوجت امرأة قبلية برجل ليس بقبلي فلها الخيار، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، ولكن هنا هل النسب من الكفاءة أم لا، كما لو تزوج بلال رضي الله عنه أو سلمان الفارسي رضي الله عنه تزوج بامرأة قرشية أو تميمية فللزوجة أو لأي أحد من الأولياء أن يفسخ النكاح، فلو رضيت المرأة والأب بهذا الرجل الصالح الذي ليس بعربي فاعترض بعض الاخوة فله الفسخ، ولو لم يكن موجوداً أثناء الزواج بل ولد بعده، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال الشافعية والمالكية: بل إذا زوج الأقرب فليس للأبعد أن يفسخ فإذا زوج الأب ورضي فليس للأخوة أن يفسخوا، ذلك لأن رضاهم غير معتبر مع وجود الأقرب فالولاية للأقرب وهو الراجح وهذا على القول بأن النسب من الكفاءة.
ولكن هنا لو أن رجلاً زوج ابنته رجلاً غير صالح فاعترف بعض الاخوة على ذلك فهل يقبل هذا الاعتراض ويفسخ العقد أم لا؟(20/42)
في المذهب نعم يفسخ، ومذهب المالكية والشافعية وهو الراجح: أنه ليس له حق الفسخ وذلك لأن الراضي هو الولي الأقرب والولي الأبعد ليس بمعتبر مع رضا الولي الأقرب، أما إذا كانوا في درجة واحدة كالاخوة مثلاً فجمهور العلماء على أن لكل واحدٍ منهم الفسخ، وأن رضا كل واحدٍ منهم معتبر ولأن الولاية حق مشترك لهم جميعاً. وقال الأحناف: بل إذا رضي بعضهم ولم يرض الآخرون فالعبرة بمن رضى لا بمن سخط وذلك لأنه حق لا يتجزأ كالقصاص!، والقياس على القصاص فيه نظر لأن القصاص لا يمكن تجزؤه لأنه لا يمكن إقامة القصاص على بعضه ولا ينطبق على البعض الآخر وأما هنا فيمكن الفسخ ومع ذلك فما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، لأن هذا ولي قد زوج، وقد تقدم أن الحق لمن تقدم، فالمرأة التي لها وليان فينكحاها فإن الحق للمتقدم وهنا كذلك فإذا زوجها أحدهم من ليس بكفء فليس للأخر الفسخ وذلك لأن الحق أصبح له لتقدمه.
الدرس الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة
باب المحرمات في النكاح
المحرمات ضربان:
الضرب الأول: محرمات على الأبد، فلا تحل له أبداً.
الضرب الثاني: محرمة إلى أمد أي إلى غاية، فمتى ما زال المانع فإنها تحل له.
وقد شرع المؤلف في هذا الباب بذكر المحرمات على الأبد:
فقال: [تحرم أبداً الأم وكل جدة وإن علت]
لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} ، فتحرم الأم والجدة من الأم والجدة من الأب وإن علت، فكل أنثى لها إليك ولادة فهي أم لا تحل.
قال: [والبنت وبنت الإبن وبنتاهما من حلال وحرام وإن سفلت](20/43)
البنت محرمة لقوله تعالى (وبناتكم) وهكذا بنت البنت وإن نزلت وبنت الإبن وإن نزلت والبنت هي كل أُنثى لك إليها ولادة فالبنت تحرم سواءً كانت من نكاح حلال أو من نكاح شبهة أو من الزنا المحرم فالبنت من النكاح الصحيح محرمة والبنت من النكاح الشبهة محرمة وهذا بإجماع أهل العلم وكذلك المنفية باللعان فإذا نفى من زوجته ما في بطنها أو إبنة لها فإنها لا تحل له لإحتمال أن تكون من مائه، والإحتياط في الفروج واجب.
وأما التي هي من السفاح المحرم فالمشهور في مذهب الإمام أحمد: أنها تحرم عليه.
وقالت الشافعية: بل تحل له واستدلوا بأنها لا تنتسب إليه ولا ترث منه فهي أجنبية عنه.
والراجح هو القول الأول وذلك لأنها خلقت من مائه ولأنها بعض منه وهذا لا يترتب على حل ولا حرمه فهي بنت له فتدخل في عموم قوله (وبناتكم) وإنما لم تنسب إليه لأن السبب في كونها منه ليس سبباً شرعياً وإلا فهي بنته ومما يدل على أنها محرمة عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة هلال بن اُمية لما لاعنها زوجها قال (انظروه فإن جاءت به على كذا وكذا _ ووصفه - صلى الله عليه وسلم - _ فهو لشريك بن السمحاء وهو الزاني فقد قال (فهو لشريك) أي هو ابن له وهو وإن لم ينتسب له وإن لم يرث منه لكنه ابنٌ له وكذلك البنت.
قال: [وكل أخت وبنتها وبنت بنتها]
وكل أخت سواء كانت من أبوين وهي الأخت الشقيقة أو من أبٍ وهي الأخت لأب، أو كانت من أم وهي الأخت لأم فكلهن محرمات لقوله تعالى: {وأخواتكم} ، وكذلك بنت الأخت وبنت بنت الأخت وإن نزلت لقوله تعالى: {وبنات الأخت} .
قال: [وبنت كل أخٍ وبنتها وبنت ابنه وبنتها وإن سفلت]
لقوله تعالى: {وبنات الأخ} ، بنت الأخ وبنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ كلهن محرمات.
قال: [وكل عمة وخالة وإن علتا](20/44)
فالعمة الشقيقة والعمة لأب والعمة لأم، وعمة الأم وعمة الأب وعمة الجد كلهن محرمات، وهكذا الخالات، لقوله تعالى: {وعماتكم وخالاتكم} والجمع في الجمل المتقدمة في هذه الآية جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، وعليه فلا تحل له ممن يجمعه النسب وإياها إلا بنات العم وإن نزلت وبنات العمة وإن نزلن، وبنات الخالة وإن نزلت وبنات الخال وإن نزلت، والمراد بالنسب القرابة بخلاف الصهر وقد قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللآتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} .
قال: [والملاعنة على الملاعن]
فالملاعنة تحرم على الملاعن على الأبد، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للملاعن (لا سبيل لك عليها) فتحرم عليها.
قال: [ويحرم بالرضا ما يحرم بالنسب]
تقدم ذكر المحرمات بالنسب وهن سبع، وهؤلاء المحرمات بالنسب يحرم ما يقابلهن من الرضاع، فأم الرضاع محرمة وبنت الرضاع محرمة وهكذا لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
قال: [إلا أم أخته وأخت ابنه](20/45)
هذا استثناء، فأم الأخت من الرضاع لا تحرم، فإذا كان لك أخت ولها أم من الرضاع، فهذه المرأة لم ترضعك وإنما أرضعت أختك فإن هذه المرأة لا تحرم عليك وكذلك أخت ابنه من الرضاع فإذا كان له ابن ولإبنه أخت من الرضاع فللأب أن ينكح هذه المرأة وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف فيه نظر من حيث الاستثناء لا من حيث الحكم أما من حيث الحكم فهو ظاهر وأما من حيث الاستثناء ففيه نظر، ولذا ذكر الزركشي وغيره أن جمهور الأصحاب من الحنابلة لم يستثنوه وذلك لأن المستثنى منه هن المحرمات بالنسب والمستثنى هنا من التحريم بالمصاهرة، فإن أم الأخت محرمه لأنها زوجة الأب فيقابلها من الرضاع أم الأخت من الرضاع وكذلك أخت ابنه فإن أخت الابن هي مقابلة للربيبة والربيبة تحريمها من باب التحريم بالمصاهرة وليس من باب التحريم بالنسب ولذا فإن الاستثناء هنا ليس بصحيح.
وهل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة؟ الجمهور أن ذلك ثابت وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
وقوّى شيخ الإسلام خلاف هذا وهو القول الراجح وقواه ابن قيّم الجوزية لعدم الدليل على ذلك ولأن الله يقول (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ونكتفي هنا بذكر ترجيح هذا القول ويأتي الاستدلال عليه في كتاب الرضاع بإذن الله.
قال [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد]
بمجرد العقد تحرم زوجة الأب وزوجة الجد سواءً كان جداً من أم أومن أب وإن علوا لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) فزوجة الأب محرمة وكذلك زوجة الجد والأب من له عليك ولادة.
قال [وزوجة ابنه وإن نزل](20/46)
فزوجة الابن محرمة وإن نزل الابن فزوجة الابن من الصلب وزوجة ابن الابن وابن البنت كلهم من المحرمات ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن (إن ابني هذا سيد) وهو ابن بنته فكل ذكر لك عليه ولادة فهو ابن لك فحليلته محرمة عليك لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فزوجة الابن محرمة بمجرد العقد –أي محرمة على الأب وإن علا الأب.
قال: [دون بناتهن وأمهاتهن]
فزوجة الابن محرمة لكن بنتها ليست محرمة على الأب، وأمها ليست محرمة – أي على الأب – فله أن يتزوج أم زوجة ابنه، أو ابنة زوجة ابنه لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ، فليست مما حرمه الله عز وجل.
قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد]
هذه المحرمة الثالثة من المحرمات بالصهر وهي أم الزوجة وكذلك جداتها فإنهن يحرمن بمجرد العقد وذلك لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} .
قال: [وبنتها وبنات أولادها بالدخول]
هذه المحرمة الرابعة بالصهر، وهي بنت الزوجة وبنات أولادها إذا دخل بها وهي الربيبة وهي لا تحرم إلا بالدخول، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالدخول:
فقال الحنابلة الدخول هو الوطء، وهو قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وربائبكم الآتي في حجوركم من نسائكم اللآتي دخلتم بهن} ، قال في الدخول: هو الجماع.
وعن الإمام أحمد أن الدخول هو الخلوة، فإذا خلا بها فقد دخل بها، وهذا الدخول في العرف، فإن الدخول في العرف هو الخلوة، يقال دخل بالمراة أي بنى بها وإن لم يطأها.
وهو مذهب أكثر الفقهاء أن الدخول هو أن يمسها بشهوة على اختلاف بينهم في تفصيل ذلك.(20/47)
وأرجحها أن المراد به الوطء وهو تفسير ابن عباس ولا أعلم له مخالفاً، وقد رواه عنه ابن جرير في تفسيره واختاره، وحكي الإجماع على أن الدخول هنا لا يراد به الخلوة وهذا الإجماع يصرفنا عن تفسير الدخول بالخلوة ولكن تقدم ما روي عن الإمام أحمد في هذا الباب، ولكن مع ذلك يرجحه من جهة أخرى تفسير ابن عباس، والوطء ثابت في الوطء بالقبل بلا ريب.
وهل يثبت بوطئها في الدبر أم لا؟
المشهور في المذهب أنه يثبت بوطئها بالدبر قياساً على وطئها بالقبل
وقال بعض الحنابلة لا يثبت الدخول بذلك حتى يطأها بالقبل وذلك لأن الله إنما حرّم بالمباح فهو الدخول المباح وهو وطؤها في قبلها، ووطؤها في دبرها محرم والمحرم مباين أعظم المباينة للنكاح وهذا هو الراجح
قال [فإن بانت الزوجة أو ماتت بعد الخلوة أبِحن]
إذا بانت الزوجة أي إذا طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول فإن ابنتها حلال له للآية المتقدمة (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) وهو لم يطأها وكذلك إذا خلا بها ثم ماتت قبل أن يدخل بها فإن ابنتها تحل له وذلك للآية المتقدمة لأنه لم يدخل بها وكونها قد ماتت فإن موتها ليس في حكم الدخول بها.
إذن: المحرمات بالمصاهرة أربع كلهن يحرمن بمجرد العقد إلا الربيبة أي بنت الزوجة فإنها لا تحرم إلا بالوطء. واختلف أهل العلم في قوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم) هل هذا القيد له مفهوم أو لامفهوم له؟
فقالت: الظاهرية وهو قول علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق وقال الحافظ إبن كثير (إسناده ثابت قوي) وقال (هو غريب جداً) أي على علي بن أبي طالب وهو أن هذا القيد معتبر فعلى ذلك لا تحرم عليه إلا إذا كانت في حجره. وقد قال ابن كثير حدثنا شيخنا الذهبي أنه سأل الإمام تقي الدين ابن تيميه عن هذا الأثر فاستشكله وتوقف في ذلك.(20/48)
القول الثاني وهو قول عامه أهل العلم: أن القيد هنا لا مفهوم له وإنما هو يجري مجرى الغالب وذلك لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون في حجره ويدل على ذلك أن كونها في حجره ليس بمؤثر شرعاً فإن الرجل لو ربى بنتاً كأن يربي بنت عمه أو بنت خاله فإنها لا تحرم عليه. فدل هذا على قوة ما ذهب إليه جماهير أهل العلم من أن هذا القيد لا مفهوم له، وأما الأثر فضعفه ابن المنذر والطحاوي.
وكذلك ما كان من نكاح شبهة، فإذا وطئ رجل امرأة في نكاح شبهة ولها بنت فإنها تحرم عليه، وهذا بالإجماع، وهل تحرم عليه بنت من زنى بها؟
قال الحنابلة: تحرم عليه قياساً على النكاح.
القول الثاني في المسألة، وهو المشهور في مذهب الشافعية والمالكية أنها لا تحرم عليه واختاره شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، إذ لا يصح –كما قال الشيخ عبد الرحمن – قياس السفاح بالنكاح بوجه من الوجوه، وأيضاً فإن الله عز وجل إنما حرم أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والمزني بها ليست بزوجة فلا تثبت لها هنا الأحكام، فإذا زنا الأب بامرأة فإنها لا تكون زوجة له فتحرم على إبنه , ومن غرائب العلم أن المشهور في مذهب الحنابلة أن اللواط تنتشر به الحرمة , وأن الرجل إذا فعل بآخر حرمت عليه أم المفعول به وابنة المفعول به وهكذا، وهذا من غرائب العلم وهو من القياس الباطل البعيد، وهذا من مفردات المذهب، وخالف في هذه المسألة أبو الخطاب من الحنابلة والموفق ابن قدامه.
الدرس السادس والعشرين بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وتحرم إلى أمدٍ معتدته وأخت زوجته وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما](20/49)
هذا الفصل في المحرمات إلى أمد، أما حرمة الجمع بين الأختين فقوله تعالى – في سياق ذكر المحرمات – (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) وأما الدليل على النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وقوله (لا يجمع) خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فيحرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن باب أولى حرمة الجمع بين المرأة وابنتها، والقاعدة في المذهب: " المنع من الجمع بين كل أنثيين بينهما نسب أو رضاع بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لما جاز له أن ينكح الأخرى "، هذا هو الضابط في المشهور من المذهب، وعليه فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمة أبيها والمرأة وخالة أبيها، وكذلك لا يجوز الجمع بين الأختين من الرضاع ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة وهكذا.(20/50)
وأختار شيخ الإسلام الجمع بين الأنثيين إن كان بينهما رضاع لا نسب، فله أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة وبين المرأة وخالتها من الرضاعة وبين الأختين من الرضاعة وذلك لأن الجمع بين الأنثيين اللتين بينهما رضاع ليس تحريمه بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه، فليس بمنصوص عليه ولا يقاس على المنصوص عليه للفارق في المعنى، أما كونه ليس بمنصوص عليه، فلأن الأم إذا أطلقت والأخت إذا أطلقت والعمة إذا أطلقت والخالة إذا أطلقت لا تدخل فيها أم الرضاع ولا أخت الرضاع ولا عمة الرضاع ولا خالة الرضاع بدليل أن الله قال: في كتابه الكريم {حرمت عليم أمهاتكم} ، ثم قال: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} ، وقال: {وأخواتكم} ، ثم قال: {وأخواتكم من الرضاعة} ولو كان قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} يدخل فيه أم الرضاع لما ذكر تحريم الأمهات من الرضاع بعد ذلك، وكذلك في الأخت فلو كان قوله: {وأخواتكم} تدخل فيه الأخوات من الرضاعة لما بين تحريمها في قوله: {وأخواتكم من الرضاعة} ، فعليه قوله: {وأن تجمعوا بن الأختين} وفي حديث (لا يجمع بين المرأة وعمتها) لا يدخل في هذه الألفاظ العمة من الرضاع ولا الخالة من الرضاع ولا الأخت من الرضاع.(20/51)
وأما كونه لا يقاس على المنصوص عليه، فلأن العلة من تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ما يفضي إليه الجمع من قطيعة الرحم التي أمر الله بصلتها والشارع إذ نهى عن شئ فإنه يسد الذرائع الموصلة إليه ومن ذلك ما يقع من العداوة من الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها – مما يفضي كثيراً أو غالباً إلى قطيعة الرحم، وليس بين الأختين من الرضاعة ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة ليس بينهما رحم. فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام. وهل يجوز الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها إن كنّ إماءً في الوطء أم لا؟ أي هل يجوز أن يكون تحت ملكه أمتان يطؤهما وهما أختان أو إحداهما عمة للأخرى أو خالة للأخرى أم لا يجوز ذلك؟ أما الجمع بينهما في الملك فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه وذلك لأن الرجل قد يمتلك الأمة للخدمة ونحوها، وأما الجمع بينهما في الوطء فمذهب الأربعة وأكثر الصحابة أن ذلك محرم وهو اختيار شيخ الإسلام،
والقول الثاني: وهو: مذهب الظاهرية على جواز ذلك وهو رواية عن الإمام احمد فإنه قال: لا أقول بتحريمه لكني أنهى عنه، أي لا أقول هو حرام لكني أحث على اجتنابه واستدلوا بقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، والقول الأول ارجح وذلك لأن قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، إنما إتاحة جنس المملوكات وليس فيه بيان ما يحرم منهن وما يحل، والجمع بينهن في الوطء يورث ما تقدم ذكره بين الحرائر فإنه يفضي إلى قطعيه الرحم التي أمر الله بصلتها.
قال [فإن طُلقَت وفرغت العدة أبحن](20/52)
إذا طلق المرأة وفرغت من عدتها فله أن ينكح أختها وله أن ينكح عمتها وله أن ينكح خالتها وذلك لأن التحريم إلى أمدٍ وليس بتحريم على الأبد. فقد زال المانع وهو الجمع وهنا لا جمع، فإذا طلق المرأة وقضت عدتها أو ماتت ثم نكح أختها أو عمتها أو خالتها فذلك جائز لزوال المانع. وقد اتفق عامة أهل العلم على جواز الجمع بين المرأة وربيبتها فالعلاقة بينهما ليست علاقة نسب وليست بعلاقة رضاع وإنما علاقة مصاهرة.
فله أن يجمع بين المرأة وبين ربيبتها أي المرأة وبنت زوجها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
قال: [وإن تزوجها في عقدٍ أو عقدين معاً بطلا]
إذا تزوجهما في عقدٍ، بأن قال له الولي: (زوجتك ابنتي هاتين) ، أو قال له: (زوجتك أختي هاتين) ، فهذا العقد باطل لأنه منهي عنه، ولأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، وحينئذٍ فالنكاح باطل في حق الاثنتين، وكذلك لو كانا في عقدين معاً كأن يقول الأب قد زوجتك بنتي، ويقول الأخ قد زوجتك أختي، فإحداهما عمة للأخرى، فالعقدان وقعا معاً، فإن العقدين يبطلان لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
فإن لم يدرِ أيهما الأسبق:
فإنه يجب عليه أن يفارق الاثنتين وذلك لأنه لا يدري أيهما نكاحها باطل فوجب عليه أن يفارق الاثنتين، لكن في باطن الأمر إحداهما نكاحها صحيح لأن إحداهما قد سبق نكاحها الأخرى لكنه يجهل أيهما السابق فحينئذٍ يكون الحكم كما تقدم وجوب فراق الجميع ثم يعقد عقداً جديداً على أيهما شاء، لكن في الباطن إحداهما نكاحها صحيح ولذا فيجب نصف الصداق لإحداهما، فيصطلحان على نصف الصداق، فإن أبيا الاصطلاح فحينئذٍ تكون بينهما القرعة، فمن خرجت لها القرعة فلها نصف المهر، فإن استباح فرج احداهما فلها مهر مثيلاتها بما استحل من فرجها، فإن كانت هي التي خرجت القرعة لها فيدخل نصف الصداق بالمهر كله.
قال: [فإن تأخر أحدهما](20/53)
إذا تأخر عقد أحدهما بطل المتأخر، فإذا عقد على فلانة ثم على أختها، فإن الأخرى نكاحها باطل، لأن الجمع المحرم المبطل للنكاح قد حصل بعقدها.
قال: [أو وقع في عدة الأخرى وهي بائنٌ أو رجعيةٌ بطل]
إذا طلق المرأة ونكح أختها أو عمتها أو خالتها في عدتها فما الحكم؟
لا يخلوا هذا من حالتين:
أن تكون العدة عدة الرجعيات، بمعنى تكون المرأة طلاقها رجعياً، فبإتفاق أهل العلم يبطل النكاح وذلك لأن الرجعية زوجه.
أن تكون العدة عدة البائنات أي كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً كأن يطلق امرأته ثلاثاً، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة فحينئذٍ تكون في بينونة فطلاقها طلاق بائن، فقد اختلف أهل العلم في ذلك أي في هل يجوز أن ينكح امرأة وقد طلق أختها أو عمتها أو خالتها وهي في عدة البينونة على قولين:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة، ما ذكره المؤلف هنا وأن النكاح باطل.
وذهب الشافعية والمالكية إلى أن النكاح صحيح، وهو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لا سبيل له إليها ولأن العلة المتقدم ذكرها قد زالت فإن مثل هذا لا يورث عداوة ولا يفضي إلى قطيعة رحم فإن هذه المرأة قد آيست من رجوعها ولأنها ليست بزوجته فالمطلقة طلاقاً بائناً ليست بزوجته فإذا نكح عليها عمتها أو خالتها فإنه لم يجمع بين المرأتين في عصمته.
قال: [وتحرم المعتدة]
لا يحل نكاح المعتدة لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} .
قال: [والمستبرأة من غيره]
فالمستبرأة لا يجوز نكاحها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حملٍ حتى تستبرأ بحيضة) ، والمستبرأة هي التي يطلب براءة رحمها – أي يراد إثبات أن رحمها بريء لا حمل فيه.
قال: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها](20/54)
الزانية لا يحل نكاحها في المشهور من المذهب خلافاً لمذهب الجمهور، والحجة مع ما ذهب إليه الحنابلة لقوله تعالى: {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، وفي المسند وأبي داود والترمذي والنسائي بإسنادٍ صحيح أن مرثد بن أبي مرثد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح عناق وكانت امرأة تسافح في مكة فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تنكحها) ، فنكاح الزانية لا يجوز حتى تتوب وتعرف توبتها في المشهور من المذهب بأن تراود فتمتنع، وأنكر هذا الموفق رحمه الله، والحق مع من أنكر هذا، وذلك لأن مراودتها منكر عظيم، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: فإن المراودة أعظم المنكرات وأقرب الوسائل لوقوع الفاحشة، واختار هذا الشيخ محمد بن إبراهيم واستظهره صاحب الفروع فالصحيح أنها لا تراود، ولكن توبتها تعرف بأن يظهر من أحوالها ما يدل على صدق توبتها من مكثها في بيتها وبعدها عن وسائل الفاحشة واستخبار النساء العليمات بحالها، وكذلك إنكاح الزاني باطل حتى يتوب لقوله تعالى: {والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} كما هو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي.
فلا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، وانقضاء عدتها إن كانت حاملاً بأن تضع حملها، وإن لم تحمل من الزنا فبأن تستبرأ بحيضة، ولا يحل للزاني إن تاب أن ينكحها في عدتها وإن كان ما يخشى من الحمل منه، وإن كان الإستبراء من مائه وذلك لأن الماءين مختلفان طيباً وخبثاً وكذلك الوطئان يختلفان حلاً وحرمة.
قال: [ومطلقة ثلاثاً حتى يطأها زوجٌ غيره]
لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، أي حتى يطأها.
قال: [والمُحرمة حتى تحل](20/55)
لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح) والنهي يقتضي الفساد، فإذا نُكحت المحرمة فالنكاح باطل.
الدرس السابع والعشرون بعد الثلاثمائة
قال رحمه الله: [ولا ينكح كافر مسلمة]
سواءً كان هذا الكافر كتابياً أو وثنياً لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} .
قال: [ولا مسلم ولو عبداً كافرة إلا حرة كتابية]
فلا يحل لمسلم ولو كان عبداً مملوكاً ان ينكح الكافرة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ، إلا الحرائر الكتابيات العفيفات فيحل نكاحهن لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} ، وفي المذهب أن تركه أولى، أي ترك نكاح الكتابيات، واختار شيخ الإسلام كراهية ذلك وهو نص الإمام احمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام، وقيده المؤلف هنا بالحرة، وذلك لأن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها وإنما توطأ بملك اليمين وأما نكاحها فلا يحل لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ، ولأن الأمة الكتابية إن نكحت جمع بين إرقاق الولد وبين كونه مع كافرة وهي الأمة الكتابية.
قال: [لا ينكح حر مسلم أمة مسلمة]
فليس للمسلم أن ينكح الأمة المسلمة، فهذا أمر لا يجوز إلا بشرطين ذكرهما المؤلف:
قال: [إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرةٍ أو ثمن أمة]
فالشرط الأول: أن يخاف عنت العزوبة.
والثاني: أن يعجز عن طول حرة أي عن مهرها سواء كانت الحرة كتابية أو مسلمة وأن يعجز عن شراء أمة لنفسه ودليل هذين الشرطين قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ….. ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم}(20/56)
فإن نكح مع عدم توفر هذين الشرطين فالنكاح باطل وإنما حرم لما في ذلك من إرقاق الولد، فإن الولد يكون رقيقاً لسيد الأمة لأنه ينكح الأمة وهي في ملك سيدها فيكون ولده ملكاً لهذا السيد.
قال: [ولا ينكح عبد سيدته]
وذلك لما فيه من التنافي الكبير بين كونه مملوكاً وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته، وفي هذا تنافي كبير كما قرر هذا ابن القيم رحمه الله، وهذا فيه قبح ظاهر في الفطرة والعقل، فتنزهت الشريعة عن إباحته، ولذا حكى ابن المنذر تحريم ذلك عن أهل العلم إجماعاً وهو قول عمر كما في سنن البيهقي.
قال: [ولا سيدٌ أمته]
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم كما قال الموفق والعلة أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح فلا يحتاج إلى عقد النكاح مع ثبوت ملكه لها.
قال: [وللحر نكاح أمة أبيه]
لأن أمة الأب ليست بملك له وليس ثمت شبهة ملك، فهي مملوكة لأجنبي وهذا بالشرطين المتقدم ذكرهما.
قال: [دون أمة ابنه]
وذلك لأن أمة الابن فيها شبهة ملك، فإن الولد وماله لأبيه، فهنا شبهة ملك، وملك اليمين أقوى من عقد النكاح، وقال أبو حنيفة:- بل يجوز ذلك لأنها ليست مملوكةٍ له – والذي يتبين أن هذه المسألة راجعة إلى مسألة تقدم ذكرها وهي أنه إذا توفرت الشروط في جواز ملكية الأب لمال ولده فلا يجوز له أن ينكحها لأنه يمكنه أن يملكها وأما إذا كانت الشروط غير متوفرة كأن يكون الولد محتاجاً، فحينئذٍ ليس له أن يمتلكها وبالتالي له أن يعقد النكاح عليها.
قال: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها]
فلا يجوز للحرة أن تتزوج عبد ولدها، لأن شبهة الملك ثابتة ولكن هذا فيه نظر لأن شبهة الملك إنما تثبت للأب دون الأم كما تقدم تقريره في باب سابق، ولذا قال بعض الحنابلة بجواز هذا النكاح وهو القول الأظهر.
قال: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر أو مكاتبه الزوج الأخر أو بعضه انفسخ نكاحهما](20/57)
إذا نكح أمةً لغيره ثم اشتراها بعد ذلك فإن النكاح ينفسخ وذلك للعلة المتقدمة وهي أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح ومثل ذلك إذا اشتراها ولده الحر فإذا نكح أمة ثم اشتراها ولده الحر فإن النكاح ينفسخ، وكذلك لو اشتراها مكاتبه، وذلك لأن المكاتب ما يشتريه يكون ملكاً لسيده فهو قن ما بقي عليه درهم.
قال: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية]
فالقاعدة أن كل من حرم وطؤها بعقد فإنه يحرم وطؤها بملك يمين، فهذه قاعدة مطردة في المذهب، ويستثنى من ذلك الأمة الكتابية فإنها لا يحل وطؤها بعقد ويحل بملك يمين، وسبب المنع من النكاح هو عدم الجمع بين إرقاق الولد وبين كونه تحت كافرة، ومن أمثلة هذه القاعدة المجوسية مثلاً لا يحل له أن ينكحها لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات} ، ولم يستثن الله إلا المحصنات من الذين أتوا الكتاب، وكذلك عابدة الوثن والملحدة لا يحل نكاحهن، فإذا كان لا يحل نكاحهن فكذلك لا يحل وطؤهن بملك يمين، فإذا وقعت المجوسية أوالوثنية سبياً فلا يحل وطؤها بملك اليمين هذا هو مذهب جماهير أهل العلم حتى حكي إجماعاً والذي رأيته من أدلتهم: القياس على الوطء في النكاح قالوا فكما لا يحل الوطء في النكاح فلا يحل الوطء في ملك اليمين.(20/58)
واختار شيخ الإسلام وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار أن ذلك جائز واستدلوا بعمومات وخصوصات، أما العمومات فقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وهو عام في الكافرة الكتابية والكافرة الوثنية وأما الخصوصات: فمنها ما تقدم أبي أبو داود وغيره وهو حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس – وهن من عبدة الأوثان – قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) ، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة وطأهن بملك اليمين. ثانيا: أن أكثر السبي في عهد النبوة كان من الكفار الوثنين لا يحرمونهن، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكان من سبيهم سبي هوازن وسبي بني حنيفة وغيرهم، ثالثاً: أن الصحابة لما قاتلوا الفرس كان قتالهم مع الفرس كما هو معلوم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفرس مجوس فكانت من أعظم الدول وأكثرها عدداً وقد وقعت تحت أيدي المسلمين فوقع السبي تحت أيدي الصحابة فلم ينقل أنهم كانوا يحرمونهن.
وحكاية الإجماع مع مخالفة مثل سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس وعمرو بن دينار وهم أئمة بل بعضهم أعظم قدراً في الإسلام وجلالة من الأئمة الأربعة وحكاية الإجماع مع مخالفة هؤلاء لا شك أنه باطل وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.
قال: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل]
كأن يجمع بين نكاح بنتي عم وكانت إحداهما معتدة والأخرى غير معتدة وقد جمع بينهما في عقد واحد فإنه يصح في غير المعتدة ويبطل في المعتدة وهذا ظاهر لأن غير المعتدة محل للنكاح فلا موجب لبطلان نكاحها.
قال: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره]
لأنه يحتمل أن يكون ذكراً فلا يحل نكاحه لعدم تحقق جواز النكاح.(20/59)
مسألة: إذا أيسر الرجل وقد نكح أمة فاستطاع أن ينكح حرة أو نكح حرة فهل يبطل نكاح الأمة أو لا؟
الجواب: يبطل نكاح الأمة لزوال الحاجة الداعية إليه وهذا أحد القولين في المذهب، والمذهب أن النكاح يستدام ولكن الراجح أن النكاح يبطل وذلك لزوال الحاجة الداعية لذلك.
الدرس الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة
باب الشروط والعيوب في النكاح
وهذا فصل في ذكر الشروط في النكاح
وقد تقدم البحث في شروط النكاح، وهنا الكلام على الشروط في النكاح، والمراد بالشروط فيه، الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر وله في ذلك غرض صحيح أي مصلحة، والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فالشرط الذي يكون قبل العقد ليس بمعتبر، واختار شيخ الإسلام وهو ظاهر المذهب – كما قال رحمه الله، وهو منصوص كلام الإمام أحمد وهو ظاهر كلام متقدمي أصحابه وهو قول محققي المتأخرين منهم " أن الشرط قبل العقد معتبر ولازم، وهو القول الراجح لعموم الأدلة، فإن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقد كقوله تعالى: {اوفوا بالعقود} ، تتناول ما قبل العقد كما تتناول ما يكون في صلبه، وتقدم نظير هذه المسألة في كتاب البيوع، ولذا فإن هذه قاعدة في كل العقود وأن الشروط معتبرة فيها سواء كانت في صلب العقد أو كانت قبله، والشروط في النكاح منها ما هو شرط صحيح لازم ومنها ما هو شرط فاسد، والشرط الفاسد نوعان:
الأول: شرط فاسد باطل مبطل للنكاح.
الثاني: شرط فاسد غير مبطل للنكاح.
والمذهب لا يجب الوفاء بالشرط وإنما يسن ولها الفسخ واختار شيخ الإسلام الوجوب وهو أصح.
وقد شرع المؤلف هنا في ذكر أمثلة للشروط الصحيحة فقال:
[إذا شرطت طلاق ضرتها أو أن لا يتسرى أو أن لا يتزوج عليها يخرجها من دارها أو بلدها أو شرطت نقداً معيناً أو زيادةً في مهرها صح](20/60)
فهذه شروط صحيحة، قال الحنابلة الشرط في الشروط ألا تخالف مقتضى العقد. وتقدم كلام شيخ الإسلام هذا وأن الراجح أن الشروط صحيحة ما لم تخالف الشرع، وأن الأصل في الشروط الجواز ما لم تخالف الشرع فتحل ما حرم الله أو تحرم ما أحل الله، تقدم الكلام على هذه القاعدة في كتاب البيوع. وهنا كذلك فالشرط الصحيح في النكاح ما لا يخالف كتاب الله عز وجل، ودليل ثبوت هذه الشروط ولزومها ما ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) ، فدل هذا على أن الشروط في النكاح آكد من الشروط في غيره من العقود.
فإن قيل أليس في هذا تحريم ما أحل الله حيث اشترطت ألا يتزوج عليها وألا يتسرى ونحو ذلك؟
فالجواب: أنه ليس فيه تحريم ما أحله الله بل غايته ثبوت حق الفسخ لها بمعنى إن لم يوف بهذه الشروط فلها حق الفسخ ولذا قال المؤلف:
[فإن خالفه فلها الفسخ](20/61)
فإن خالف الشرط فلها حق الفسخ، وحق الخيار في الفسخ ثابت لها على التراضي ما لم يدل دليل على رضاها بالزوج بعد مخالفته للشرط، فإن دل دليل قولي كأن تقول رضيت بذلك أو فعلي بأن تمكنه من نفسها بأن يطأها مع علمها بمخالفته للشرط فحينئذٍ لا حق لها في الفسخ لرضاها به، ويقبل قولها بيمينها إذا نفت علمها بمخالفته للشرط، فإذا نفت العلم فقالت: أنا مكنته من نفسي وأنا لا أعلم بمخالفته للشرط فيقبل قولها لأن هذا مختص بها وهو أمر خفي، هذا هو القسم الأول من الشرط في النكاح وهو شرط صحيح لازم وهو ما لا يخالف شرع الله، لكن لو شرط عليها ألا تنكح بعده أو شرطت عليه ألا ينكح بعدها فهذا شرط باطل ولا مصلحة لأحدهما فيه لأنه يكون بعد الفراق أو بعد الموت، واختار شيخ الإسلام أن المرأة إذا شرطت على زوجها شرطاً وقالت أنا أحق بنفسي إن خالفت ويكون الطلاق بيدها، فهذا شرط صحيح ولها أن تطلق نفسها لأن هذا يكون من باب التوكيل وسيأتي الكلام على توكيل الزوجة في الطلاق.
وهل يجب الوفاء بالشرط إذا كان بعد العقد؟
إذا قال بعد العقد لكي عليّ ألا أنكح فإن نكحت فلكي حق الفسخ، فهل يعتبر هذا الشرط أم لا؟
المشهور في المذهب أنه لا يلزم وذلك لفوات محله فإن محله في صلب العقد.
وقال ابن رجب يتوجه صحة الشرط، وما قاله قوي لوجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالعهود فهذا عهد فيجب عليه الوفاء به، فالأظهر وجوب الوفاء به لأن الله أمر بالوفاء بالعهد، وهذا عهد فيجب عليه أن يوفي به.
قال: [وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان](20/62)
إذا زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته فجعلوا بضع هذه مهراً لهذه وبضع الأخرى مهراً للأخرى فهذا لا يجوز وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن نكاح الشغار "، ونحوه في مسلم من حديث أبي هريرة فإذا زوج أحداهما وليته الأخر مشارطة بلا مهر فالنكاح باطل وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي يقتضي الفساد والشغار في الأصل هو الخلو، وسمي نكاح الشغار بهذا الاسم لخلوه من الصداق.
قال: [فإن سمي لهما مهر صح]
إذا سمي للمرأتين مهر صح والمراد بالمهر هنا المهر المستقل الذي لا يكون قليلاً ولا حيلة، هذا هو المشهور في المذهب وقال بعض الحنابلة يشترط أن يكون مهر المثل وهذا ظاهر درءً للحيلة، فإذا سمى كل واحدٍ منهما لمنكوحته مهراً فالنكاح صحيح في المشهور من مذهب أحمد والشافعي.(20/63)
قال نافع كما في الصحيحين وهو راوي حديث ابن عمر: " والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الأخر ابنته ولا صداق بينهما "، فهذا تفسير من نافع ولا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس أيضاً من قول ابن عمر ولكنه تعريف صحيح للشغار، ولأنهما إذا سميا مهر المثل فلا محذور في مثل هذا النكاح إلا ما يكون من مسألة الرضا فيمن من يشترط رضاها، وقال الخرقي في مختصره: " لا يصح وإن كان بينهما صداق وهو رواية عن الإمام أحمد " ويستدل لهذا القول بما روى أبو داود في سننه وهو من حديث محمد بن اسحاق لكنه صرح بالتحديث: أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وانكحه عبد الرحمن بن الحكم ابنته وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم – وكان واليه بالمدينة – بأن يفرق بينهما وقال في كتابه " لهذا الشغار الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه"، فهذا الحديث قد يستدل به على أن هاذين الرجلين قد سميا صداقاً، وقد سماه معاوية رضي الله عنه شغاراً، وفسر صاحب عون المعبود قوله " وكانا جعلا صداقاً " بأن المفعول الأول لجعل محذوف والتقدير " وكانا جعلا إنكاح كل واحدٍ منهما الأخر ابنته صداقاً "، وهذا هو الظاهر في تفسير الحديث لأن الكلام الأول ليس فيه ذكر المشارطة وإنما فيه أن هذا أنكح ابنته هذا، وهذا أنكح ابنته هذا، وليس فيه ذكر المشارطة وإنما المشارطة مذكورة في قوله " وكانا جعلا صداقاً "، ويدل عليه ما تقدم من أن مثل هذا مع ثبوت رضا من يشترط رضاها وثبوت مهر مثلها لا محذور فيه مطلقاً، فالقول الراجح هو جواز ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام.
قال: [أو تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها]
هذا هو نكاح التحليل وهو من كبائر الذنوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وهو كما قال من حديث ابن مسعود (لعن الله المحلل والمحلل له) .(20/64)
المحلِّل: هو الزوج الثاني في الظاهر.
المحلَّل له: فهو الزوج الأول.
وهو نكاح باطل، لأن النهي يقتضي البطلان
قال [أو نواه بلا شرط]
إذا نوى التحليل من غير شرط، فلم يشرط أو يُشترط عليه أنه متى ما نكحها ووطأها أنها تطلق عليه، فهذا محرم والنكاح باطل لقوله - صلى الله عليه وسلم - (إ نما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ، ولما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن رجلاً سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة " أي من غير تواطؤ " ليحلها له فهل تحل له فقال (لا إلا نكاح رغبة، لقد كنّا نعد هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سفاحاً) .
قال [أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها]
هذا من باب الشروط المستقبلة، والشرط ثلاثة أنواع:
شرط حاضر: كأن يقول " زوجتكها إن شئت " فيقول الآخر " شئت " والمذهب أن هذا الشرط صحيح
شرط ماضي: كأن يقول " زوجتكها إن كانت بنتي" وهي بنته في المضي
وهو شرط صحيح في المذهب.
شرط مستقبل: كأن يقول " زوجتكها إن جاء زيد أو إن رضيت أمها، فهذا شرط باطل في المذهب، قالوا لأن وقف النكاح على شرط لا يصح، وهذا فيه وقف للنكاح على شرط. واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وقوّى هذا القول ابن رجب واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهو القول الراجح في هذه المسألة أن هذه الشروط صحيحة، ولا دليل على المنع من وقف النكاح على شرط ولا محذور في مثل هذا، والأصل في الشروط الصحة ولا دليل يدل على بطلان هذا الشرط.
قال [أو إذا جاء غد فطلقها أو وقّته بمدّة بطل الكل](20/65)
هذا هو نكاح المتعة، وهو النكاح مع تحديد أجل له، وهو ممنوع منه شرعاً، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة عام خيبر) وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح المتعة عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنه) وعام خيبر قبل عام أوطاس، وعليه فيكون نكاح المتعة قد نهى عنه أولاً ثم أبيح ثلاثة أيام ثم نهى عنه، وليس له نظير في هذا، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - من حديث الربيع بن سبرة (إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شئ منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) ، فعلى ذلك نكاح المتعة محرم وهو النكاح إلى أجل أي ينفق هو ووليها على أن ينكحها شهراً أو أسبوعاً بأجرة مسماه هذا محرم باتفاق أهل العلم.
وهل يحل ما يسمى بالنكاح بنية الطلاق؟ وهو أن ينكحها بنية طلاقها
المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي تحريم ذلك وبطلانه.
وذهب جمهور أهل العلم إلى الجواز.(20/66)
وقال شيخ الإسلام: وهو مكروه، ثم قال في موضع آخر:" والكراهية تتردد بين كراهية التحريم وكراهية التنزيه " وليعلم أن النكاح بنية أنها إن أعجبته ورغب فيها وإلا طلقها هذا بابه باب آخر، فقد اتفق أهل العلم على إباحته فهو موجب النكاح والآخر ينافيه لقصده والفارق بينه وبين المسألة السابقة ظاهر التوقيت فإنه هنا ينوي الاستدامة إلا ألا يرغب فيها، وهذه نية أكثر من ينكح النساء، وأما المسألة السابقة فإنه ينوي طلاقها وهو عازم عليه فهو لا ينوي استدامتها وإن كان قد لا يطلقها، وهذا – كما قال شيخ الإسلام – مكروه، والكراهية تتردد بين كراهية التنزيه وكراهية التحريم، والجمهور على الجواز قياساً على ما إذا نوى أنها إن وافقته وإلا طلقها، ولكن هذا قياس مع الفارق كما تقدم، والذي يقوى عندي ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لأن الأصل الأبضاع التحريم. فلا تحل إلا بنكاح شرعي صحيح تتوفر فيه شروط النكاح كما يتوفر فيه معنى النكاح، وهذا لا يتوفر فيه معنى النكاح فإن النكاح يقصد للمودة والسكنى كما دل على ذلك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأما هذا فإنها كالمستأجرة، قالوا: وأيضاً قياساً على نية التحليل، فإذا نوى التحليل فإن ذلك محرم وهو نكاح باطل وإنما الأعمال بالنيات وكذلك هنا وهذا قياس صحيح وإن كان بينهما فارق في الشدة فإن النكاح بنية التحليل أشد من النكاح بنية الطلاق، وذلك لأن النكاح بنية التحليل نكاح لمن لا يريدها لنفسه، فهو لا يريدها لشئ إلا بان يحللها لغيره، وأما الآخر فله نية في الاستمتاع بها. ومع ذلك فإن القياس لا ينتفي لأن هذا الفارق غير مؤثر وإنما هو فارق في الشدة، وعلى ذلك الأقوى ما ذهب إليه الحنابلة.
مسألة:
إذا تزوجت المرأة بنية التحليل؟ أي تزوجت لكي يطلقها هذا الزوج ثم ترجع إلى زوجها، فهل هذه النية تبطل النكاح أم لا؟(20/67)
1) القول الأول: أن النكاح صحيح وهو المذهب، وذلك لأن المرأة لا يفوض إليها الطلاق، فليس الأمر بيدها بخلاف الزوج فإن الأمر بيده ولذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلِّل له، ولم يذكر المرأة لأنه ليس بيدها شئ، وهناك قول في المذهب: أن النكاح صحيح في الظاهر باطل في الباطن وعليه فإنه تسعى ولو بالمخالفة لمفارقته لأنه باطل في الباطن، لأن المرأة أحد طرفي العقد، والذي يتبين هو القول الأول لأنها ليس بيدها.
الدرس التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في النوع الثاني من القسم الثاني من الشروط الفاسدة فقد تقدم أن الشروط الفاسدة نوعان:
1) شروط فاسدة تبطل النكاح.
2) وشروط فاسدة لا تبطل النكاح فالنكاح يصح والشرط يفسد.
قال: [وإن شرط أن لا مهر لها]
فإذا شرط ألا مهر لها فإن النكاح يصح والشرط يفسد وعليه، فيجب لها مهر المثل، واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك، وقال شيخ الإسلام وهو مذهب أكثر السلف أن النكاح يفسد، فالعقد يفسد، وذلك لأن العقد الذي لا مهر فيه عقد فاسد كنكاح الشغار، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل نكاح الشغار لأنه لا صداق فيه، ولم يصححه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوجب مهر المثل، وهذا القول الراجح وأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ.
قال: [أو لا نفقة أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر](20/68)
ونحو ذلك من الشروط فإن النكاح يصح والشرط يفسد أما كون النكاح يصح فلأن الشرط يرجع إلى معنى زائد لا يضر الجهل به، ولا يشترط في العقد ذكر النفقة إثباتاً ولا عدلاً، وكذلك القسم بين الزوجات لا يشترط إثباتاً ولا عدلاً، فلم يرجع هذا الشرط الفاسد إلى العقد وإنما رجع إلى معنى زائد فكان النكاح صحيحاً، وأما كون الشرط فاسداً فلأنه يخالف مقتضى العقد فعليه تجب لها النفقة وتجب لها القسمة الشرعية. واختار شيخ الإسلام أن هذه الشروط صحيحة معتبرة وهذا كالشروط التي تقدم أنها تصح من المرأة، فإن هذا ليس فيه مخالفة لشرع الله تعالى بل فيه أنها إن شاءت قبلت هذا الشرط وإلا فإنه لا ينكحها، وعلى ذلك هذه الشروط صحيحة والنكاح صحيح، لأنها لا تخالف الشرع، والأصل في الشروط الوفاء.
قال: [أو شرط فيه خياراً]
إذا شرط فيه خياراً فلا يصح، كأن يقول – زوجتك ولي الخيار ثلاثة أيام – أو نحو ذلك، فلا يصح في المشهور من المذهب، وذلك لأن مقتضى عقد النكاح التنجيز والخيار يخالف التنجيز فيكون مخالفاً لمقتضى العقد، وفي المسألة ثلاثة أقوال – كما قال ذلك شيخ الإسلام – وهي روايات عن الإمام أحمد:
القول الأول: وهو ما ذكره المؤلف هنا، وهو أن الخيار فاسد والنكاح صحيح، وذلك لأن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، وهو معنى زائد على العقد فلم يبطل به العقد.
القول الثاني: أن النكاح يبطل.
القول الثالث: أن النكاح يصح والخيار يثبت، واختاره شيخ الإسلام، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن الأصل في الشروط الوفاء، وله غرض صحيح في الخيار، فإن الخيار لا يشترطه إلا من له في ذلك غرض صحيح وهو شرط فيه مصلحة. وأرجح هذه الأقوال أن النكاح يصح وأن الخيار يثبت وهذا أيضاً لا يخالف الشرع فليس فيه تحليل ما حرم الله ولا تحريم ما أحل الله، ومثل هذا قوله:
[أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما](20/69)
أي إن جاء بالمهر المقدم في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما فهذا شرط صحيح - على الراجح – لما تقدم لأن الشروط يوفى بها، ولا يخالف هذا شرع الله وكونه يخالف مقتضى مطلق العقد فلا يعني أن يكون مخالفاً لشرع الله، وأما المذهب فإنهم يرون بطلان هذا الشرط.
قال: [بطل الشرط وصح النكاح]
ففي المسائل المتقدمة كلها يبطل الشرط على المذهب ويصح النكاح فيبطل الشرط لمخالفته لمقتضى العقد ويصح النكاح لأنه يرجع إلى معنى زائد عن العقد.
قال: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية، أو شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ]
أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح، هناك من العيوب ما ينفسخ به النكاح وسيأتي الكلام عليه، وهناك من العيوب ما لا ينفسخ بها النكاح، فإذا شرط أن تكون جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ، وذلك لأن هذا الشرط له فيه غرض صحيح، وقد شرطه فوجب له الوفاء حيث شرط، وهنا خولف شرطه وعليه فله الفسخ، فإن كان لم يدخل بهذه المرأة فلا مهر عليه وإن كان بعد دخوله بالمرأة فلها المهر بما استحل من فرجها، ويرجع على من غره بها سواءً كان الولي أو غيره
قال [وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها بل تحت عبد]
إذا عتقت الأمة فلا تخلوا من حالتين:
الحالة الأولى: أن تعتق تحت عبد فتكون حرةٌ ويكون – لو أمضينا هذا الزواج – زوجها عبداً فهنا لها الخيار بإجماع أهل العلم بدليل ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها بين بقائها عند زوجها وبين فسخ النكاح وكان زوجها عبداً – كما ثبت هذا في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة، ومن حديث القاسم عن عائشة في سنن النسائي.(20/70)
وأما ما رواه النسائي من حديث الأسود عن عائشة أنه كان حراً فالرجح أنه عبدٌ لأن عروة والقاسم أقرب إلى أم المؤمنين عائشة من الأسود بن يزيد فروايتهما ترجح على رواية الأسود لأنهما أقرب ولأنهما أكثر وأيضاً لما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: " كان زوج بريرة عبداً أسود لبني المغيرة يقال له مغيث.
الحالة الثانية: أن تعتق تحت حر فقد اختلف أهل العلم في هل يثبت لها الخيار أم لا؟
المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يثبت لها الخيار، ولذا قال المؤلف – وإن أعتقت تحت حر فلا خيار لها – وذلك لأن المكافأة ثابتة بعد حريتها.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الأحناف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن لها الخيار، وهذا الخلاف يرجع إلى مسالك أهل العلم في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بريرة من زوجها مغيث، هل كان هذا لفقدان المكافأة بينهما بعد ثبوتها فأصبحت ذات كمال تحت ذي نقص، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خيرها بهذا المعنى.
المسلك الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خير بريرة لأنها لما عتقت ملكت رقبة نفسها وملكت بضعها ومنافع بضعها وكانت قد زوجت من سيدها بلا رضا منها لأنها مملوكة لها، وحينئذٍ فلا فرق بين أن تكون تحت حر أو عبد، وذلك لأن المعنى ثابت في هاذين النكاحين، وهذا المسلك هو الأرجح وذلك لضعف المسلك الأول من وجهين – كما قرر هذا ابن القيم في زاد المعاد – أما الوجه الأول: فلأن شروط النكاح لا تشترط استدامتها. من ذلك: أن الزانية لا يحل نكاحها فإن زنت في عصمة الرجل فإن النكاح لا يبطل عند عامة أهل العلم، ومن ذلك أن رضا المرأة غير المجبرة شرط في صحة النكاح ابتداءً، وليس شرطاً في أثناء النكاح فلو كرهته ولم ترض به بعد النكاح فإن النكاح لا ينفسخ بذلك، فإن ثبت هذا في الشرط فكذلك في المكافأة.(20/71)
الوجه الثاني: وهو نظير هذه المسألة تماماً أن زوال المكافأة لا يبطل النكاح بفسق الزوج في المذهب وفي مذهب جمهور أهل العلم بل لعل ذلك إجماعاً، ومثل ذلك فقدان المكافأة في الحرية فإن من المكافأة الدين، فلا تزوج الصالحة بفاسق، فإذا فسق الزوج وفجر فإن هذه المكافأة قد فقدت وقد زالت ومع ذلك فإن النكاح لا يبطل بل يكون صحيحاً وحينئذٍ فيقع في هذا المذهب على هذا التعليل تناقض، فإذا عللنا بالمسلك الذي ذكره فإنه يقع هذا التناقض، فإنه يلزمنا أن نقول بالفسخ عند فسق الزوج ويلزمنا أن نقول بالفسخ عند عدم رضا المرأة بالنكاح ويلزمنا إذا زنت المرأة أن نقول ببطلان النكاح لأن هذا شرط في صحته ابتداءً فكان شرطاً في استدامته انتهاءً، فعلى ذلك الراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الأحناف وهو أن المسلك هو أن هذه المرأة قد ملكت نفسها وكانت قد أجبرت على بضعها وقهرت عليه بملك اليمين فلما عتقت ملكت نفسها وملكت بضعها.
فصل
هذا فصل في ذكر عيوب النكاح، والعيوب تثبت فيها خيار الفسخ كالبيع تماماً وهذا الفسخ لا يكون كالطلاق بل يكون فسخاً بلا طلاق بلا خلاف بين أهل العلم فلا ينقص به عدد الطلاق، فلوا تزوجها بعد ذلك لم تحسب عليه تطليقه.
قال: [ومن وجدت زوجها مجبوباً]
أي مقطوع الذكر.
قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ]
فمن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فإنها يثبت لها الفسخ.
قال: [وإن ثبتت عنّته]
العنّة: هو ألا يكون قادراً على الجماع بأن لا ينتشر ذكره عند الجماع.
قال: [بإقراره أو بينة على إقراره]
فإذا ثبت ذلك بإقراره بأن يقر على نفسه بذلك وكذا إذا نكل عن اليمين، أو بينة على إقراره أي يشهد شهود على أنه أقر أو بنكوله عن اليمين.
قال: [أجل سنة منذ تحاكمه](20/72)
والعلة من تأجيله سنة قالوا لأن السنة ذات فصول أربعة فإذا كان هذا سبب تغيير في الطبيعة فإنه يتغير بتغير الفصول الأربعة وهذا التعليل مقتضاه أن تكون السنة شمسية، لكن أهل العلم يقولون: إنها سنة هلالية وهذا هو مقتضى إطلاقهم وذلك لقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} ، فأحكام الشرع ترجع إلى السنة القمرية لا الشمسية ثم إن الفارق بين السنة الشمسية والهلالية أيام يسيرة.
قال: [فإن وطء فيها وإلا فلها الفسخ]
أي للمرأة الفسخ لثبوت العيب فيه، ودليل تأجيل العنين سنة ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال: (يؤجل العنين سنة فإن جامع وإلا فرق بينهما) ، ورواه سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب وقال الحافظ رجاله ثقات، ولا يعلم لهما مخالف.
قال: [وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين]
أي ولو مرة واحدة لأن بالوطء ولو مرة واحدة يستقر المهر وتثبت العدة فثبتت الحقوق الزوجية بذلك فإذا وطئها ولو مرة فلا فسخ للعيب لأن العيب حينئذٍ يكون طارئاً ولها أن تخلع نفسها منه كما سيأتي في باب الخلع، والمذهب أنه يكفي إيلاج الحشفة وهو الراجح، واختار القاضي اشتراط إيلاجه جميعه.
قال: [ولو قالت في وقت رضيت به عنينا سقط خيارها أبداً](20/73)
إذا قالت في وقتٍ ما رضيت به عنيناً فإن خيارها يسقط وذلك كما لو نكحته وهي تعلم أنه عنين، فإنه لا خيار لها بعد ذلك لأنها دخلت على بصيره فكذلك إذا رضيت، والمشهور في المذهب أنه ليس للزوجة الفسخ من زوجها إن ثبت عقمه أو كان يطؤها ولا ينزل، وقال الحسن البصري " بل إن كان عقيماً فلها الخيار"، وهذا – فيما يظهر لي – أظهر، ودخل في قول ابن القيم كل عيب ينفر الزوج الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والسكن فإنه ثبت معه الخيار، وهذا أظهر وهو اختيار شيخ الإسلام، ولأن للمرأة حقاً في الولد، وكذلك عدم إنزاله هذا يضعف كمال الوطء فلا تحصل به المرأة شهوتها وعليه فيثبت لها الخيار فيه.
فصل
قال: [والرتق]
وهو انسداد فرج المرأة.
قال: [والقرن]
لحم يكون في فرجها يمنع من وطئها.
قال: [والعفل]
رطوبة ورغوة تكون في فرجها.
قال: [والفتق]
أن يكون سبيلاها سبيلاً واحداً، فالعيوب المتقدمة في الفصل السابق مختصة بالرجل، وهذه مختصة بالأنثى.
قال: [واستطلاق بول ونجوٍ]
هذا مشترك بينهما.
قال: [والقروح السيالة في فرج]
وهذا في المرأة.
قال: [وباسور وناصور]
هذا مشترك بينهما.
قال: [وخصاء وسل ووجاء]
هذا في الرجل.
قال: [وكون أحدهما خنثى واضحاً]
هذا مشترك بينهما.
قال [وجنون ولو ساعة وبرص وجذام]
الجذام: تناثر اللحم، وهذه عيوب مشتركة بينهما.
قال [يثبت لكل واحد منهما الفسخ](20/74)
هذه العيوب في المشهور من المذهب، وقاعدة ابن القيم – كما تقدم – أعم من ذلك وهي أصح لكن ليست على إطلاقها بل يستثنى من ذلك ما إذا كان يمكنه الإطلاع على عيبها ومع ذلك فرّط بعدم السؤال وعدم الرؤية مع تمكنه من ذلك وعدم استخبار أهلها، فإذا كان منه تفريط فلا يثبت لها الخيار لأنه هو الذي فرّط. وأما إن كان العيب لا يحصل بسؤاله كأن يكون عيباً داخلياً في المرأة في فرج ونحوه فإنه يثبت له الخيار، ودليل ثبوت الفسخ هو القياس على البيع، بل هذا الحكم أولى في النكاح منه في البيع، وذلك لأن شروط النكاح أوثق وكذلك حق الفسخ منه أولى، وخيار الفسخ على التراضي ما لم يدل دليل على الرضا، وفي المسألة السابقة وهي ما إذا عتقت الأمة تحت عبد، فإن لها حق الفسخ على التراضي- كما تقدم – فإن فعلت ما يدل على الرضا كأن تمكنه من وطئها جاهلةً بحق الفسخ أو جاهلةً بالعتق، ومثله ما يكون في هذا الباب من جهل المرأة بحق الفسخ، فالمشهور في مذهب الحنابلة أن المرأة إذا مكنت زوجها من نفسها وكان لها حق الفسخ وهي جاهلة فإن حق الفسخ يسقط، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها وقال: (إن كان قد قربك فلا خيار لك) .
والقول الثاني: وهو مذهب الشافعية وقول إسحاق وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الخيار يثبت لها، وذلك كسائر الحقوق التي لا تسقط إلا بما يدل على الرضا، وهي جاهلة معذورة، وسائر الحقوق لا تسقط إلا بما يدل على الرضا وهذا هو الراجح، وأما حديث أبي داود فإسناده ضعيف، لكن إن مكنته من نفسها مع علمها ومعرفتها بحق الفسخ فالنكاح ثابت ماضٍ وليس لها حق الفسخ بعد ذلك، ففي موطأ مالك بإسناد صحيح أن ابن عمر قال " إن الأمة إذا مسّها فلا خيار لها "، وذلك إذا مسّها بعد علمها بحق الفسخ ثم مكنت نفسها منه فليس لها الفسخ بعد ذلك لأن هذا دليل رضاها.(20/75)
الدرس الثلاثون بعد الثلاثمائة
هنا مراجعة في مسألتين تقدم البحث فيهما في الدرسين السابقين
أما المسألة الأولى: فهي عند شرط المرأة طلاق ضرّتها، فقد تقدم أن المشهور في المذهب صحة هذا الشرط، والراجح هو قول الموفق واختيار ابن القيم أن ذلك لا يصح وذكر الموفق أنه لم ير هذا القول لغير أبي الخطاب من الحنابلة فالراجح أن هذا الشرط لا يصح لأنه يخالف شرع الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن مالها ما قدر لها) متفق عليه، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، وذكر ابن القيم الفرق بين اشتراط طلاق الضرة وبين أن تشترط على زوجها ألا ينكح عليها أو ألا يتسرى، وأن الفرق بينهما أن اشتراط طلاق الضرة فيه ضرر على الضرة ففيه كسر لقلبها وخراب لبيتها ولا شك أن مثل هذا ضرر ظاهر.
أما المسألة الثانية: فهي أن الحنابلة يخصون العيوب بالعيوب التي تقدم ذكرها –على خلاف في بعضها – واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة فإن الفسخ يثبت به، وحكاه قولاً لبعض الشافعية وحكاه قولاً للزهري ولشريح القاضي واستدل – رحمه الله – بأن ثبوت الفسخ هنا أولى من ثبوته في البيع فإن شروط النكاح أوثق وكذلك الفسخ فيه أولى، قال ولأن الإطلاق يحمل على الأصل وهو السلامة من العيوب، وهو قد أطلق فلم ينفي العيوب فإنه إذا نفى عيباً لا ينفسخ النكاح به، فإن الفسخ ثبت حيث ثبت هذا العيب لكن هنا حيث لم يشترط نفيه فالأصل السلامة من العيوب وإطلاقه يحمل على ذلك والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فإن العرف يقضي بذلك فإنه إنما خطب السليمة من العيوب، قال ولأن ذلك أقبح التدليس والفحش أي إذا سكتوا عن ذكر عيوبها، قال في الإنصاف في هذا القول وما هو ببعيد. آهـ(20/76)
واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي. وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، لكن كان يشكل – كما تقدم ذكره في الدرس السابق – أنه قد فرط في عدم السؤال أو السعي إلى النظر إليها والجواب عن هذا الإشكال هو وإن كان مفرطاً في ذلك فإن هذا التفريط فيه ليس كسكوتهم عن العيب الذي يعتبر كما تقدم من أقبح الغش والخداع، ويدل عليه ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وموطأ مالك بإسناد صحيح من حديث سعيد بن المسيب عن عمر وسماعه ثابت منه كما قال ذلك الإمام أحمد ولو فرض أنه لم يسمع منه فإن أحاديثه التي يرفعها مرسله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مقبولة عند أهل العلم فأولى من ذلك ما يرسله عن الصحابة رضي الله عنهم أن عمر قال " أيما رجلٍ تزوج امرأةً فوجد بها جنوناً أو برصاً أو جذاماً فمسها فلها صداقها كاملاً وذلك لزوجها غرم على وليها "، وثبت في البيهقي بإسنادٍ صحيح أنه قال " إذا تزوجها عمياء أو برصاء فدخل بها فلها الصداق ويرجع إلى من غره "، والعمى ليس مذكوراً في جملة العيوب التي تقدم ذكرها وورد عنه رضي الله عنه العقم كما في مصنف عبد الرزاق ورجاله ثقات، وهنا قد ذكر العمى وهو ليس من العيوب التي تقدم ذكرها عند الفقهاء ومعلوم أن الخاطب أو العاقد يمكنه أن يسأل عن ذلك فلا شك أنه قد وقع منه تفريط ومع ذلك فإن الفسخ ثابت له لثبوت هذا العيب فعلى ذلك إذا تزوجها وبها خرس أو عمى أو قطع في اليدين أو الرجلين فالصحيح وهو اختيار ابن القيم – خلافاً للمشهور في المذهب بل خلافاً للمذاهب الأربعة – ثبوت الفسخ.
قال: [ولو حدث بعد العقد](20/77)
لو حدث بعد العقد فإن الفسخ يثبت، فالعيب يحكم معه بوجوب الفسخ وإن كان طارئاً بعد العقد، وذلك قياساً على الإجارة بجامع أن كليهما عقد على منفعة ولأنه إذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً، وخيار العيب ثابت لدفع الضرر فإذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً فعليه إذا ثبت في الرجل عيب بعد العقد فللمرأة الفسخ أو ثبت في المرأة عيب بعد العقد فله الفسخ ولا مهر لها لثبوت العيب، أما إن دخل بها فسيأتي الكلام عليه.
قال: [أو كان بالأخر عيب مثله]
وذلك لوجود سببه فلو كان في الأخر عيب أخر فكذلك لوجود سببه، فإذا وجد سبب الفسخ وجد الفسخ وسببه ثبوت العيب في أحد الزوجين فلو ثبت في الأخر عيب أخر أو عيب مثله فإن الحكم كذلك لا يتغير لوجود سببه ولأن الإنسان يرضى بعيب نفسه ولا يرضى بعيب غيره كما هو متقرر في الفطر.
قال: [ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له]
إذا رضي هذا الزوج الناكح للمرأة المعيبة بعيبها بقوله أو ظهر منه ما يدل على الرضا كأن يطأها وهو عالم بعيبها فلا خيار له بلا خلاف بين أهل العلم وكذلك المرأة إذا رضيت بعيب زوجها بقولها أو فعلها فإنه لا خيار لها وظاهره ولو كان مستحق الفسخ جاهلاً بحق الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب وأن الخيار يسقط وإن كان مستحقه جاهلاً والراجح أن الجهل يعذر به لأنه حق كسائر الحقوق لا يسقط إلا بما يدل على الرضا والرضا المعتبر: إنما يكون حيث علم أن له حق الفسخ أما إن سكت وهو لا يعلم أن له حق الفسخ أو سكتت وهي لا تعلم أن لها حق الفسخ فلا. وقد تقدم أن هذا هو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي.
قال: [ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم](20/78)
فلا يصح الفسخ إلا بحاكم، فلو فسخ مستحق الفسخ لم يثبت فسخه إلا بحكم حاكم هذا هو المشهور في المذهب قالوا لأن المسألة مجتهد فيها بخلاف المسائل المتفق عليها كالمعتقة تحت العبد فإنها تفسخ نفسها منه بلا حكم حاكم، وقال شيخ الإسلام: بل الفاسخ هو، والحاكم يأذن بالفسخ أو يحكم به، فالفسخ يثبت تارةً برضاهما وتارةً بحكم الحاكم وعليه فالفسخ يثبت بمجرده من مستحقه، فإن أمضاه الأخر وإلا أمضاه الحاكم وهذا القول هو الراجح لأن الفسخ حقٌ له فثبت بفسخه والحاكم إنما يمضي، ولا فرق – حيث ثبت له الفسخ – بين ما إذا كانت المسألة مجمع عليها وبين ما إذا كانت مختلفاً فيها فهو مستحق للفسخ في المسألتين كلتيهما وهذه قاعدة لشيخ الإسلام في جميع الفسوخ، وأن جميع الفسوخ لا تقف على حكم الحاكم بل لصاحب الحق – في الفسخ – أن يفسخ وإن لم يترافعا إلى الحاكم فإن أمضى الأخر وإلا فإنها يترافعان إلى الحاكم ليمضي الفسخ.
قال: [فإن كان قبل الدخول فلا مهر]
فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول بها فلا مهر، وذلك لأن الفسخ إما أن يكون من المرأة وإما أن يكون من الرجل، فإن كان من المرأة فإنه من قِبَلِها فلم تستحق شيئاً، وإن كان من الرجل فإنه إنما فسخ للعيب فلا تستحق شيئاً، فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة سواء كان العيب ثابتاً في الرجل أو المرأة وسواء كان الفاسخ الرجل أو المرأة.
قال: [وبعده فلها المسمى](20/79)
أما إذا كان الفسخ بعد الدخول يثبت لها المسمى في العقد سواء كان أقل من مهر المثل أو أكثر من مهر المثل، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن لها مهر المثل، قالوا: لأنه فسخ يرجع إلى العقد والفسخ الذي يرجع إلى العقد يكون فيه مهر المثل كعامة الفسوخ التي ترجع إلى بطلان النكاح، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول وذلك لأن المهر يستقر بالدخول، فإذا دخل بالمرأة فقد استقر المهر وقد سمي لها مهراً، وأما ما قاله الشافعية من أنه فسخ يرجع إلى العقد فكان فيه مهر المثل.
فالجواب: أنه إنما يرجع إلى العقد في العقود الفاسدة، وهذا لو كان فاسدا لم يمض ولم نثبت فيه خياراً بل لأبطلناه، ويدل على هذا ما تقدم من الآثار عن عمر فإنه قال: " فلها صداقها كاملاً "، وقال في الأثر الآخر: " فلها الصداق "، أي الصداق المسمى كما تدل عليه الرواية الأخرى، فالراجح أن لها المهر المسمى، ويرجع بهذا المهر الذي قد سماه لنا، ويرجع إلى من غرّه.
والغار: هو من علم بالعيب وكتمه سواء كان الولي أو الوكيل أو المرأة فيرجع إلى من غره.
وعليه فيرجع إلى الولي، وقد تقدم أثر عمر " وذلك لزوجها غرم على وليها " فيرجع على الولي، فإن أنكر الولي بيمينه أنه لا يعلم هذا العيب وكان هذا العيب ممكن أن يخفى عليه ويمكن أن يصدق ككثير من العيوب التي تكون باطنة، أو أن يكون ولياً بعيداً كأن يزوجها ابن عمٍ فيخفى عليه عيب ظاهر فيها، يطلع عليه أهل بيتها، فإن ثبت أنه لا يعلم باليمين فإنه يرجع إلى المرأة، لأنها هي التي غرته من نفسها، لأن الولي ثبت أنه لا يعلم بيمينه فحينئذٍ يرجع إلى المرأة إن كانت المرأة عاقلة وعالمة، أما إذا لم تكن عاقلة فإنه لا يرجع وكذلك إن كانت غير عالمه.
فإن قيل: هل يتصور أن تكون المرأة ليست بعالمه؟(20/80)
فالجواب: إن هناك من العيوب ما يكون خفياً عن المرأة نفسها، كأن يكون هناك بقعة من البرص في موضع لا يطلع عليه في العادة، وكأن يكون في ظهرها فإنها تصدق بقولها، وحينئذٍ فإذا ثبتت براءة الوكيل، والوكيل لم يطلع على شيء من ذلك فحينئذٍ لا يرجع على أحد وذلك لأن المهر قد استقر بالدخول وليست ثمت مغرر يرجع إليه، والرجوع إلى المغرر ثابت عن عمر كما في الأثر السابق وورد في البيهقي عن علي " أنه لا يرجع بل يثبت لها المهر بما استحل من فرجها "، لكن الأثر من رواية الشعبي عن علي، وراية الشعبي عن علي منقطعة، وعليه فالأثر ضعيف ولا يعلم لعمر مخالف صحيح، إذن يرجع إلى المغرر – وهو الولي المباشر بعقد النكاح –، فإن نفى ذلك الولي وأمكن تصديقه وحلف على ذلك فإن هذا الزوج يرجع إلى المرأة، فإذا كانت المرأة جاهلة به وأمكن تصديقها فإنه لا يرجع إلى أحد، ولها المهر بما استحل من فرجها، وليست ثمت مغرر يرجع إليه.
قال: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب]
فليس لولي هؤلاء أن يزوجهن بمعيب وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب أن ينظر ما فيه حظ ومصلحه لهن، وعليه فالنكاح باطل إن كان معيباً.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا أنكح الكبيرة البكر، إن زوجها معيباً فلا يصح بلا خلاف بين أهل العلم، وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب عليه أن ينظر ما فيه مصلحة وحظ لهن، فإذا زوجها غير عالم بالعيب فعليه الفسخ.
قال [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع]
إذا قالت: رضيت بهذا الزوج وإن كان مجبوباً وإن كان عنيناً فإنها لم تمنع لأن حق الوطء لها فإذا أسقطته فإنه يسقط بإسقاطها، وقال الموفق وهو قول في المذهب: بل له أن يمنعها وذلك لأن رضاها غير موثوق بدوامه، والضرر ثابت دائم ولا شك أن الضرر الثابت الدائم لا شك انه أرجح من هذا القبول غير الموثوق بدوامه واستمراره، ولأن الولي يمنعها من نكاح الكفؤ فكذلك هنا.(20/81)
قال [بل من مجنون ومجذوم وأبرص]
أي تمنع من الرضا بهؤلاء وذلك لما فيه من الضرر عليها والضرر على أوليائها، ولأنه يخشى أن يلحق ولدها مثل هذا فإنها تمنع منه لما فيه من الضرر، وتقدم أن الصحيح أنها تمنع من كل هؤلاء المعيبين لأنه إنما جعل ولياً لها لينظر ما فيه مصلحة وحظ وعليها فيه ضرر، وإن أسقطت حقها فإن هذا الإسقاط لا يوثق بدوامه.
قال [ومتى علمت أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ]
إذا حدث للرجل عيب بعد العقد أو علمت المرأة بالعيب بعد دخوله بها فليس لوليها أن يجبرها على الفسخ، وذلك لأن ولايته ثابتة في ابتداء النكاح لا في دوامه، فالولي إنما دلت الأدلة على ولايته في ثبوت النكاح ابتداءً وأما في دوامه فلا، فإنه ليس له حق في ذلك وعليه فلا يجبرها.
مسألة: إن ادعى الجهل بالخيار ومثله يجهله كما من لا يخالط الفقهاء فالأظهر ثبوت الفسخ.
مسألة أخرى: إن فسخ لظنه عيباً، فبان غير عيب كبياضٍ ظنه برصاً بطل الفسخ.
باب نكاح الكفار
الدرس الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة.
قال [حكمه كنكاح المسلمين]
حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين في الصحة وفي وقوع الطلاق وفي القسمة وفي النفقة فيما يحل وما يحرم لقوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ، وقوله أيضاً {فاحكم بينهم بما أنزل الله} ، فيحكم بينهم بشرع الله وهو ما يحكم به للمسلمين.
قال: [ويقرون على فاسده]
يقرون على فاسد النكاح كنكاح الخامسة أو نكاح المجوسي البنت أو الأخت يقرون عليه بشرطين
قال [إذا اعتقدوا صحته في شرعهم]
هذا هو الشرط الأول وهو أن يعتقدوا أنه صحيح في شرعهم كنكاح الخامسة، فإن لم يعتقدوا جوازه في شرعهم كالزنا فإنهم لا يقرون عليه.
قال: [ولم يرتفعوا إلينا](20/82)
هذا هو الشرط الثاني: أي لم يرفعوا إلينا هذه المسألة، أما إذا رفعوا إلينا هذه القضية فيجب علينا أن نحكم بما أنزل الله فنفسد هذا النكاح للآيات المتقدمة ويدل على هذه المسألة – أي إقرارهم على أنكحتهم التي لم يرفعوها إلينا ولا يعتقدون فسادها في شرعهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اخذ من مجوس هجر الجزية، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرض لهم لا في أنكحتهم ولا في سائر أحكامهم، ومعلوم أنهم يستبيحون نكاح المحارم. وكذلك في نصارى نجران، ولو كان التعرض لهم وإفساد أنكحتهم وغيرها مما لم يترافعوا إلينا فيها – لو كان لنقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً بيناً.
قال [فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا]
إذا أتونا قبل عقد النكاح أي ترافعوا إلى القاضي المسلم ليعقد لهم نكاحاً فحينئذٍ نعقد لهم على حكمنا من إشتراط الولي وإشتراط شاهدي عدل منا وركنية الإيجاب والقبول وغير ذلك من الأحكام المترتبة على العقود لقوله تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} .
قال [وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان]
أي أتونا بعد العقد أو أسلم الزوجان وكانا قبل ذلك يهوديين أو نصرانيين أو رفعوا إلينا الحكم في مسألة من مسائل أنكحتهم وكان ذلك بعد العقد، فحينئذٍ لا نستفصل منهم هل توفرت شروط النكاح أم لا، وهذا بإجماع أهل العلم أي لا يسألون عن كيفية نكاحهم هل توفرت فيه شروطه أم لا، وقد أسلم خلق كثير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت معهم نساؤهم ولم يسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية أنكحتهم بل أقرهم عليها.
قال [والمرأة تباح إذن أقرا](20/83)
هذا شرط لابد منه أن تباح المرأة إذاً، أي حين الترافع أو-- الإسلام، أي حين ترافعوا إلينا في نكاح قد عقد سابقاً أو أسلم الزوجان فلا بدّ أن تكون المرأة المعقود عليها مباحة حينئذٍ، مثال ذلك أن يكون قد نكحها في عدة وهي الآن قد انتهت عدتها، أو في نكاح الأختين، فكان قد نكح أختاً على أخت، وكان حين الترافع أو حين الإسلام قد ماتت الأخت الأولى، فالأخت الثانية مباحة حينئذٍ وإن كانت محرمة آنذاك لما كانت مضمومة إلى أختها، وكذا مطلقته ثلاثاً لأنه طلاق من عاقل بالغ في نكاح صحيح، وعليه إذا أسلم رجل فامرأته عنده على ما بقي من الطلاق إن كان قد طلّق مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ لا نحكم ببطلان النكاح ولا بفساده بل نحكم بينهم بما أنزل الله ونمضي هذا النكاح.
قال [وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرّق بينهما]
…إذا كانت حين الترافع لا يجوز ابتداء نكاحها فحينئذٍ يفرق بينهما، كأن يترافعوا إلينا في زوجين والزوجة ذات محرم من زوجها وكأن يترافع المجوسي وتكون تحته اخته أو يترافع النصراني وتكون المنكوحة خامسة فلا يجوز ابتداء النكاح عليها، وحينئذٍ فلا يحكم لهم بصحة النكاح بل يحكم ببطلانه.
قال: [وإن وطىء حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحاً أقرا، وإلا فسخ]
إذا وطء حربي حربية ثم أسلما فإن اعتقدا هذا الوطء الخالي من الولي ونحوه، إذا اعتقداه نكاحاً فإنهما يقران عليه، وإن لم يعتقدانه نكاحاً بل اعتقداه سفاحاً فلا يقران عليه لأنهم يقرون على ما اعتقدوا صحته.
قال: [ومتى كان المهر صحيحاً أخذته]
إذا كانت القضية أو الخصومة التي حصل الترافع فيها في المهر، فمتى كان المهر صحيحاً كأن يكون دراهم أو دنانير أخذته هذه المرأة لأنه واجب لها بالعقد وهذا هو حكم الله تعالى.
قال: [وإن كان فاسداً وقبضته استقر](20/84)
فإذا كان فاسداً كأن يكون مهرها خمراً أو خنزيراً أو غير ذلك من المحرمات فهذا مهر فاسد، فإن كانت قد قبضته فإنه يستقر المهر، وذلك لأن هذه المسألة قد وقعت قبل الترافع وهي صحيحة عندهم فهي مما يعتقدون صحته في شرعهم وقد حصل القبض بحكم الشرك لا بحكم الإسلام.
قال: [وإن لم تقبضه ولم يسمِّ فرض لها مهر المثل]
إذا لم تقبض هذا المهر الفاسد أو كان المهر لم يسم لها في العقد فرض لها مهر المثل، لأن المهر فاسد، أو لم يسمِّ لها مهراً فحينئذٍ تعطى مهر المثل.
فصل
قال: [وإن أسلم الزوجان معاً … فعلى نكاحهما]
إن أسلم الزوجان معاً أي دفعة واحدة في زمن واحد بلحظة واحدة فهما على نكاحهما، كأن يسلم زوجان كافران في لحظة واحدة دفعة واحة فهما على نكاحهما لعدم اختلاف الدين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وذكر صاحب المغني: إحتمالاً أنه يصح ولو كان في المجلس ولو لم يكن دفعة واحدة وصوبه صاحب الإنصاف واختاره ابن القيم وهو الراجح، وذلك لعسر الإسلام دفعة واحدة بل لا يكاد يقع، كما ذكر ابن القيم أن المعروف في إسلام الصحابة في إسلام الزوج والزوجة أنه لا يكون دفعة واحدة، وهذا ظاهر.
قال: [أو زوج كتابية فعلى نكاحهما]
كأن يكون رجل يهودي زوجته يهودية فأسلم اليهودي فلا يبطل نكاحه لليهودية، وذلك لأن نكاح المسلم للكتابية جائز ابتداءً فاستدامته أولى.
قال: [فإن أسلمت هي]
أي أسلمت الزوجة الكتابية.
قال: [أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل]
فإذا أسلمت كتابية تحت كتابي أوغيره أو أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} ، هذا إن كان الزوج هو المسلم ولم تكن الزوجة كتابية، وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فلقوله تعالى: {لا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
قال: [فإن سبقته فلا مهر](20/85)
فإذا كانت المرأة هي السابقة للإسلام، ولم يدخل بها بعد فلا مهر لها، فمن المعلوم أن الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول فلها نصف المهر أو فسخ فلها نصف المهر، وهنا الفرقة بالإسلام قد جاءت من قبل المرأة، والقاعدة أن الفسخ إن كان من قبل المرأة فلا مهر.
قال: [وإن سبقها فلها نصفه]
فإذا سبقها هو بالإسلام فأسلم فلها نصفه لأن الفرقة هنا جاءت من قبله وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لها مهر، وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأن الفرقة لم تجيء من قبله بل الشرع فرق بينهما والأدلة إنما دلت على وجوب نصف الصداق حيث كان الفسخ منه أو الطلاق وهنا قد جاء التفريق من الشرع بينهما فلا يجب لها نصف المهر.
قال: [فإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على إنقضاء العدة فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول]
إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وإن أسلم الآخر بالعدة دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول، فإذا انقضت عدتها ولم يسلم فلا نقول استأنفي عدة جديدة بل عدتها هي عدتها السابقة فلا تستأنف عدة جديدة، واستدل الجمهور- القائلون بأن المرأة إذا انقضت عدتها فلا تحل لزوجها الكافر إلا بعقد جديد - استدلوا بما روى الترمذي وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته - أي زينب – على أبي العاص بنكاح جديد "، قالوا هذا لأن العدة انقضت وهذا الحديث فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف الحديث.(20/86)
القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن النكاح يدوم ما لم تنكح فما دامت هذه المرأة لم تنكح وأسلم قبل أن تنكح فإن النكاح ثابت فإذا نكحت انفسخ النكاح، قال شيخ الإسلام: ولا فرق ما بين قبل الدخول وبعده، أي ولو كان إسلام أحدهما قبل الدخول فكذلك، إذا أسلم زوجها قبل أن تنكح فإن النكاح يدوم وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح، أما المسألة الأولى وهي ما بعد الدخول فلما ثبت عند الخمسة من حديث ابن عباس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول "، وهو من حديث داود بن الحصين عن عكرمة، وحديث داود بن الحصين عن عكرمة ضعيف، لكن للحديث شاهدان مرسلان عند سعيد بن منصور ولذا صححه الإمام أحمد وغيره.
ويدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري – كما أنه يدل على أنه لا فرق بين ما قبل الدخول وبعده ما لم تنكح المرأة - عن ابن عباس قال: " كانت المرأة إذا هاجرت من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض ثم تطهر فيحل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه "، وهذا عام في من دخل بها ومن لم يدخل بها، وأيضاً في هذه الأحاديث لا تطرق لذكر العدة ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل النساء المهاجرات هل انقضت عدتهن أم لا.
وفي حديث أبي العاص في سنن الترمذي قال: " وكان ذلك بعد ست سنين "، أي بعد انقضاء عدتها بزمن طويل، والصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو قول ابن المنذر ورواية عن الإمام أحمد، وأن المرأة إذا دخل بها ثم أسلمت أو أسلم زوجها فإن الزواج باقٍ بينهما ما لم تنكح، فإن نكحت فقد فسخت بنكاحها النكاح الأول، ورجح شيخ الإسلام أنه لا فرق بين من دخل بها ومن لم يدخل بها، وعمومات الأدلة تدل على هذا وفيه – كما ذكر شيخ الإسلام – مصلحة محضة، فإن فيه ترغيباً لمن لم يسلم منهما في الإسلام.(20/87)
قال: [وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وقَبله بطل]
فإذا كفرا أو أحدهما فإن كان ذلك قبل الدخول فالنكاح باطل وإن كان بعد الدخول وقف ذلك على انقضاء العدة فإن انقضت العدة بطل، وقَبله يدوم ويثبت فلا فرق بين ما إذا أسلم أحد الزوجين أو ارتد أحد الزوجين لاختلاف الدين، وتقدم كلام شيخ الإسلام في عدم التفريق ما بين قبل الدخول وما بعده.
مسألة:
فإن أسلم الرجل وقد نكح أكثر من أربع فإنه يخير بينهن، كذلك إذا كان قد جمع بين أختين فإنه يخير بينهن لا فرق بين الأولى ولا الأخرى فله أن يختار الأخيرة وله أن يختار من نسوته الأخريات ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد والترمذي " أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة قد أسلمت معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعاً " والحديث أعله الإمام أحمد والبخاري بالإرسال، وهو مرسل كما قالا، ولكن له شاهدان يحسن بهما الحديث، شاهد عند البيهقي من حديث عروة الثقفي، وشاهد أخر عند أبي داود من حديث قيس بن الحارث، وبه قال جمهور أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة.
وقد روى أبو داود وغيره عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " إني قد أسلمت وتحتي أختان فقال - صلى الله عليه وسلم - طلق أيتهما شئت " والحديث حسن، وهذا يرجع إلى المسألة المتقدمة وهي أن ما يعتقدون صحته من أنكحتهم قبل الإسلام فإنها تكون صحيحة، فحينئذٍ لا فرق بين النكاح الذي عندنا باطل والنكاح الذي هو عندنا صحيح لأن النكاحين قد وقعا قبل الإسلام ولذا فلا مزية لأحدهما على الأخر، فأرجعا التخيير إليه لأن ذلك أمر راجع إلى رغبته وإلى من يسكن إليها، وهذا هو مذهب جمهور العلماء ويدل عليه الأثر ويدل عليه النظر.
وهل يحل أن يطأ من اختارها في عدة من فارقها في مسألة الأختين، وكذلك هل له أن يطأ الرابعة والخامسة في عدتها أم لا يحل له ذلك؟(20/88)
المشهور في المذهب أنه ليس له أن يطأ الأخت وكذلك في مسألة العدد ليس له أن يطأ حتى تنتهي عدة الأخرى.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن له أن ينكح التي أبقاها في عدة التي فارقها من الأختين، وكذلك في جميع العُدد، وتقدم ذكر دليل المسألة السابقة وهو دليل لهذه المسألة فإنه قد فارقها وليست زوجة له فليست برجعية فحينئذٍ لا يكون قد جمع بين أختين، ولا يكون جمع في وقته أربعاً، وأيضاً يستدل عليه لخصوص المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين هذا لغيلان بن سلمة ولا لفيروز الديلمي، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وقال " نظرت في كلام عامة أصحابنا فرأيتهم قد ذكروا أنه يمسك أربعاً ولم يشترط في جواز الوطء الخروج من العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم"، فعامة أصحاب الإمام أحمد ظاهر كلامهم عدم ذكر هذا الشرط ولو كان هذا شرطاً عندهم لذكروه للإحتياج إلى ذكره، وإنما ذكره الموفق رحمه الله، فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية.
الدرس الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب الصداق
الصداق: عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده، أي يسمى في عقد النكاح، أو يسمى بعده وهذا في النكاح الذي لم يسم فيه مهر، والصداق مشروع بالإجماع قال تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة} وقال: {وآتوهن أجورهن} ، والأحاديث في ذلك كثيرة يأتي ذكر شيء منها.
قال: [يسن تخفيفه]
أي تخفيف المهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الصداق أيسره) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
قال: [وتسميته في العقد](20/89)
فيسن تسميته في العقد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاطب الواهبة نفسها (التمس ولو خاتماً من حديد) ، ولا يشترط ذلك، فلو نكحها ولم يسمِّ لها مهراً فالنكاح صحيح، أي مع ثبوت المهر لكنه لم يسمِّ لها أي لم يفرض ويحدد قدره، لكنه نكاح على مهر، وكذا قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} ، ولا طلاق إلا بعد عقد فعلى ذلك تسمية الصداق في العقد مستحبة قطعاً للنزاع ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمره كذلك كما في قوله: (التمس ولو خاتماً من حديث) .
قال: [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة]
لما ثبت في سنن أبي داود والترمدي والنسائي بإسنادٍ صحيح عن عمر قال " ألا لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته إلا ثنتي عشرة أوقية "، أي تزيد على أربع مائة درهم بشيء يسير، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: " كان صداق النبي لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشَّا قالت: أتدري ما النش؟ فقال الراوي (لا) فقالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه "، فالمستحب في صدق النساء أن تكون يسيرة، وأما ما روي من إنكار المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة، فاستدلت عليه بالآية {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} فإنه لا يصح فقد رواه البيهقي بإسنادٍ منقطع، فالمستحب من أربعمائة إلى خمسمائة فإن زاد فلا بأس فقد روى أبو داود بإسنادٍ صحيح، أن أم حبيبة مات عنها زوجها عبد الله بن جحش في الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعثها مع شرحبيل بن جسنة.
قال: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل]
كل ما صح ثمناً لمبيع من عين أو دين أو منفعة.(20/90)
من عين: كدرهم ودينار.
أو دين: سواء كان مؤجلاً أو حاضراً.
أو منفعة: كأن يقول " على أن أعمل لكم سنة " فهذا جائز.
فسواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة معلومة قياساً على البيع والإجارة بجامع أن كليهما عوض، قال تعالى: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فهذا من باب الإنكاح بالمنفعة، فكل ما صح ثمناً لمبيع أو أجرة، ـ وتقدمت شروط الثمن وشروط الأجرة ـ فإنه يصح مهراً ولو قل أي ولو كان درهماً ولو كان ديناراً ولو كان خاتماً من حديد ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، وثبت في الصحيحين أن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب فقال: (بارك الله عليك، أولم ولو بشاة) "، فإن قل فذلك جائز.
إذن لا حد لأقله فما يصدق عليه أنه ثمن أو أجرة فإنه يصح مهراً، وقال المالكية والأحناف: بل لا يصح إلا مما تقطع به اليد بجامع استباحة العضو "، فهذا قياس يخالف النص فلا اعتبار به، وقد تقدم قوله التمس ولو خاتماً من حديد، وعلى ذلك أقل المهر عند المالكية ربع دينار، وعند الأحناف عشرة دراهم، وقد روى الدارقطني بإسنادٍ ضعيف جداً: (ألا مهر أقل من عشرة دراهم) ، فالراجح ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة من أنه لا أقل للمهر كما أنه لا حد لأكثره، ولذا قال تعالى: {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} ، والقنطار الشيء الكثير الوافر من الذهب، وهذه الآية لا يستدل بها على استحباب المغالاة، وإنما فيها الإخبار والإخبار لا يدل على الجواز فضلاً عن استحباب ذلك، إذن لا حد لأقله ولا حد لأكثره.
قال: [وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح]
فلا يصح أن يكون صداقها تعليمها القرآن وهذه المسألة تقدم ذكرها، وهي هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟(20/91)
فالأحناف والحنابلة يمنعون من ذلك، وهنا كذلك يمنعون من ذلك مهراً، والشافعية والمالكية يجيزون أخذ الأجرة على القرآن، ويجيزون هنا أيضاً أن يكون عوضاً عن الزواج، ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، وتقدم أن الراجح في المسألة السابقة جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للمحتاج، فهذا كذلك، والرجل الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، كان محتاجاً ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس ولو خاتماً من حديد ولم يجد ذلك، فدل على أن ذلك مخصوص بالمحتاج.
قال: [بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم]
فهذا جائز لأن أخذ الأجرة عليه جائز، فيجوز أن يكون صداقاً، وهكذا سائر العلوم الدينية والدنيوية.
قال: [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها]
إذا قال صداقك أن أطلق ضرتك، فلا يصح ذلك لأن هذا محرم في الشرع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، أو هي قالت له: عوضي في النكاح طلاق ضرتي، فهذا محرم، وعليه فلا يصح هذا مهراً لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المسند بإسنادٍ ضعيف: (لا تنكح المرأة بطلاق اختها) ويشهد له ما تقدم في الصحيحين، وحينئذٍ فلها مهر مثلها
في مذهب جمهور أهل العلم وذلك لفساد التسمية،
وقال بن عقيل من الحنابلة: أن لها قدر مهر الضرة، قال شيخ الإسلام كما في الإختيارات وهذا أجود،
وقال أيضاً رحمه الله " ولو قيل ببطلان النكاح لم يبعد " وهذا هو الراجح، قياساً على نكاح الشغار بجامع أن كليهما لا بدل له، فهناك قد أنكح ابنته وجعل بضعها صداقاً لابنة الآخر وهذا المهر لابد له، وهنا كذلك المهر لابدل له هذا أولاً، ولأنه كالشرط وتقدم أن مثل هذا الشرط يُبطل النكاح.
قال: [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل](20/92)
إذا بطل المسمى في العقد لجهالته أو لعدم ماليته أو لكونه مغصوباً فيجب مهر المثل، مثال ما كان فاسداً لجهالته كأن يصدقها عبداً أن يصفه يعينه، ومثال ما كان فاسداً لعدم ماليته: أن يصدقها شيئاً محرماً كخمر ونحو ذلك كما تقدم مما يقع في نكاح النصارى …. وغيرهم، فهذا المهر فاسد فيجب لها مهر المثل وعنه يجب مثله خلاً، ومثال ما كان فاسداً لكونه مغصوباً: كأن يقول لك هذه الدار، وتكون هذه الدار مغصوبة، فحينئذٍ لها مهر المثل -واختار شيخ الإسلام فيما إذا كان فساده لكونه مغصوباً، أنها يكون لها مثل المغصوب أو قيمته، وهذا ظاهر، وذلك لأنها قد رضيت بهذا المغصوب وهذا يماثله أو يساويه في القيمة، بخلاف مهر المثل فقد لا تكون راضية به وهو أيضاً قد لا يكون راضياً به. وهو القول الراجح.
وإذا كان غير مالي فكما ذكر الحنابلة: فيجب لها مهر المثل لأن هذه الأشياء لا قيمة لها ولا يمكن أن تحول، فحينئذٍ يجب مهر المثل وذلك لأن فساد العوض يقتضي رد المعوض فإذا فسد الثمن في البيع فهذا يقتضي رد المبيع، وهنا قد تعذر رد المعوض لأن النكاح صحيح فوجبت قيمته أي قيمة النكاح وقيمة مهر المثل، هذا هو مذهب جماهير العلماء، وأما إذا كان مجهولاً، فالمذهب أن الجهل إن كان يسيراً فإن الثابت هو هذا المهر الذي قد حدد وعين لأن جهالته يسيرة.
مثال ذلك: لو قال: لك أرض من الأراضي التي أملكها أولك دار من الدور التي أملكها، ولم يعين لها الدار فإنه يمكن التعين بالقرعة، فهنا الجهل يسير لأنه يمكن تعينه بالقرعة، هذا هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وإن كان الجهل غير يسير، فهنا خلاف في المذهب:
فالمشهور في المذهب أنه يجب مهر المثل مطلقاً.(20/93)
واختار القاضي من الحنابلة أن المسألة فيها تفصيل: فقال " إذا كان هذا الشيء المجهول لا تزيد جهالته على جهالة مهر المثل فإنه يصح، مثال ذلك إذا قال " صداقك دارٌ، فيمكن أن نحدد هذه الدار بأن نجعلها الدار الوسط أو اللائقة بمثلها عرفاً ونحو ذلك، فهنا الجهالة أيسر من جهالة مهر المثل أما إذا كانت جهالته أكثر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويثبت مهر المثل.
مثال ذلك: أن يقول صداقك ما يحصل لي من تجارتي هذه السنة أو ما يحصل من مزرعتي هذه السنة، من ربح ونحوه فهذا جهالته أشد من جهالة مهر المثل فلا يصح، أو قال لك دور أو حنطة أو نحو ذلك فهذا لا يمكن تحديده فجهالته تزيد على مهر المثل، وهذا هو القول الأرجح، وذلك لأنه أقرب للرضى من الطرفين كليهما، وعليه فما اختاره القاضي هو الراجح. فيقال إذا كان المهر مجهولاً وجهالته لا تزيد على جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يصح وتزال جهالته بأن يوضع الوسط، فأما إن كان يزيد كأن يقول: لك قمح أو غير ذلك مما لا يمكن تحديده، وجهالته أعسر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويجب حينئذ مهر المثل.
فصل
قال: [إن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً]
فيجب مهر المثل لفساد التسمية، فهنا التسمية فاسدة في المشهور في المذهب، وذلك لانه لا يعلم أبوها حي أو ميت، ولانه لا غرض له في موت أبيها.(20/94)
وعن الإمام أحمد: أن المهر يثبت على ما شرط، وذلك لأن ألفاً معلومة، لأنه قال: " إن كان أبوها ميتاً فلها ألفان " فلها ألف حيث كان أبوها حياً أو ميتاً، وحينئذ فألف معلومه وإنما الألف الأخرى هي التي فيها الجهالة، وهي موقوفة على شرط فإن ثبت هذا الشرط كانت زيادة في صداقها وهذا لا محذور فيه، والجهالة هنا تؤول إلى العلم، فليس المهر كله مجهولاً؛ بل ألفٌ معلومة وألفٌ هي التي فيها الجهالة، ثم إنها قد علقت بشرط إن وجد هذا الشرط فهي لها فيكون ذلك زيادة في مهرها، وهذا القول هو الأصح فليس في مثل هذا محذور، وكونه له غرض أو ليس له فيه غرض هذا لا يؤثر فلا يترتب على ذلك فساد التسمية.
قال: [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى]
إذا قال: إن كانت لي زوجة فمهرك ألفان، وإن لم تكن فمهرك ألف، قال هنا: صح، والفرق بين المسألتين أن المسألة الأولى لا غرض له فيها وهنا للمرأة في ذلك غرض ومصلحة، وعلى ترجيح القول المتقدم في المسألة السابقة فلا تشكل هذه المسألة.
قال: [وإذا أجل الصداق أو بعضه صح]
إذا أجل الصداق فقال: لك عشرة آلاف إلى سنة أو قال: لكِ خمسة آلاف حالة وخمسة آلاف مؤجلة إلى سنة، فإن هذا التأجيل يصح كثمن المبيع بجامع أن كليهما- أي المهر وثمن المبيع - عوض في معاوضة صحيحة سواء كان هذا التأجيل للمهر كله أو لبعضه.
قال: [فإن عَيَّن أجلاً]
كأن يقول لك كذا إلى سنة أو سنتين أو خمس سنوات فإنه يتعين، فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر إذا حل الأجل المعين.
قال: [وإلا فمحله الفرقة](20/95)
إذا لم يعين له أجلاً فمحله الفرقة، سواء كانت الفرقة عن بينونة أو كانت بموت، هذا هو المشهور في المذهب، وقال الشافعية: إذا لم يعين أجلاً فيكون لها مهر المثل لعدم بيان المحل الذي يجب فيه إعطاء هذه المرأة مهرها المؤجل فتفسد التسمية، وقال الأحناف: بل يبطل التأجيل وتجب حالة، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف- فيما إذا كان المهر مؤجلاً - أنه يجب بالطلاق البائن، فإذا أبانها أعطاها مهرها المؤجل، أو بالموت فإذا ماتت فإنه يكون من إرثها، وعليه فإذا طلقها طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها فلا يجب أن يعطيها هذا المهر، أي لا يحل بالطلاق الرجعي، وإنما يحل بالطلاق البائن أو غيره من الفسوخ كالخلع وغير ذلك، وهذا هو الذي يقضي به العرف.
قال: [وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل]
هذه المسألة تقدمت في الدرس السابق، وتقدم اختيار شيخ الإسلام في المال المغصوب، وتقدم ترجيح ما ذهب إليه الحنابلة في الخنزير ونحوه مما ليس بماليٍ.
قال: [وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشِه وقيمته]
إذا أصدقها شيئاً من العبيد أو شيئاً من الحيوان أو غير ذلك من الأموال فوجدته معيباً فتخير المرأة بين الأرش والقيمة إن كان مقوماً وإلا فالمثل، فلها أن ترد هذا المعيب وتأخذ قيمته إن كان مقوماً أو مثله إن كان مثلياً، والخيار الآخر أن تأخذ الأرش فيقوم هذا الشيء معيباً ويقوم صحيحاً، والفارق بينهما هو الأرش، وفرق بين البيع – وقد تقدم ألا أرش فيه -، وبين النكاح هنا، فإن البيع يمكنه أن يرجع السلعة، وأما هنا فإنه قد تعذر رد المعوض لأننا نصحح النكاح وقد استباح بضعها.
قال: [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية]
إذا قال الأب في النكاح مهرها ألف لي وألف لها، فهذا صحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) .(20/96)
قال: [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما]
إذا طلق المرأة قبل الدخول وكان قد أعطاها ألفاً لها وألفاً لأبيها، وبالطلاق لا يكون للمرأة إلا نصف المهر فحينئذٍ لا يجب على الزوج إلا ألف، وحينئذٍ فيرجع بالألف إلى الزوجة وأما الأب فقد أخذ ما أخذ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ويشترط في الأب أن يكون ممن يصح تملكه كما في الإنصاف، وعليه ما إذا كان المال للأب جميعه كأن يقول: " أزوجك ابنتي على أن يكون لي مائة ألف " ثم طلق المرأة قبل الدخول وبعد قبض المائة ألف.
فالمذهب أن الزوج يرجع إلى الزوجة ولا يرجع إلى الأب، أما في المسألة الأولى فهذا فيه قوة، وأما هنا فإن المرأة أصبحت غارمة، والذي يترجح كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: والصحيح - وهو الوجه الثاني في المذهب - أنه يرجع إلى من قبضه، أي سواء كان القابض هو الولي أو المرأة، وهذا هو الراجح، وأن الزوج إذا أقبض الأب المهر وكان الأب قد اشترطه لنفسه أو اشترط النصف لنفسه فإنه يرجع إلى الأب لأنه هو القابض، وإن كانت الزوجة التي قبضت فإنه يرجع إليها، هذا هو الأظهر وهو وجه في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أما لو طلقها قبل القبض كأن يقول مهرها ألف درهم ثم طلق قبل أن تقبض فحينئذٍ يدفع النصف وهو خمسمائة درهم وحينئذٍ للأب أن يأخذها كلها أو ما شاء منها بالشروط التي تقدم ذكرها عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) .
قال: [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها](20/97)
إذا قال: أتزوج أختك على أن يكون لك كذا وكذا ولها كذا وكذا، فالمسمى كله للمرأة، وذلك لأنه عوض على بضعها والشرط باطل هنا، فإذا شرط الأخ أو الجد أو غيرهم سوى الأب مالاً، فإن هذا المال يدخل في مهر موليته وليس له منه شيء لأن ذلك عوض على بضعها فهو مستحق لها دون غيرها، وعليه فهذا الشرط شرط باطل ويكون المسمى كله للمرأة فإذا قال: علي عشرة آلاف لك وعشرة آلاف لها، فيكون مهرها عشرين ألفاً، لأن هذا المال المذكور المسمى كله عوض لبضعها فكانت هي المستحق له، وأما الأب فله حكم آخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) وقول الله تعالى في شرع من قبلنا: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فمهرها هنا منفعة للأب.
قال: [ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح]
إذا كان مهر مثيلاتها عشرة آلاف درهم، فزوجها بخمسة آلاف درهم. فيصح هذا، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ولأنه إذا جاز أن يشرط المهر لنفسه كله فأولى من ذلك أنه يجوز له أن يزوجها بدون مهر مثلها، ولو قيل بتقييد ذلك بألا يكون في ذلك إضرار بها فإن في ذلك قوة، كما تقدم في شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده، فإن كان يضر بها فلا يتبين هذا، لأن الأب إنما يجوز له أن يأخذ من مال ولده بالمعروف حيث لا ضرر، وأما إن كان هناك ضرر فلا.
قال: [وإن زوجها به وليٌ غيره بإذنها صح]
إذا زوجها جدها أو أخوها بعشرة آلاف درهم ومهر مثيلاتها عشرون ألفاً وكان ذلك بإذنها ورضاها فلا بأس لأنها قد أسقطت حقها بنفسها.
قال: [وإن لم تأذن فمهر المثل]
فإن زوج الأخ الأخت بخمسين ألفاً ومهر مثيلاتها مائة ألف ولم تأذن فيجب على الزوج مهر المثل على المذهب، لأنه عوض بضعها ولم تأذن بإسقاطه.(20/98)
واختار شيخ الإسلام وهو نص الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: "أنه يجب على الولي ولا يلزم الزوج"، وهو أظهر، لأن هذا الولي كالوكيل في البيع، فكما أن الوكيل يضمن إن باع بثمن أنقص من ثمن المثل فكذلك الولي في النكاح، فعلى ذلك الولي هو الذي يجب عليه أن يكمل لها مهرها إلا أن ترضى.
قال: [إن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج]
إذا كان له ابن صغير ولهذا الابن مال فزوجه بمهر المثل وبأكثر من مهر المثل فإنه يصح لأن الأب أعلم بمصلحته فقد يكون في زيادة المهر مصلحة له، ويجب في ذمة الابن، إلا أن يعين المهر، كأن يقول: " زوجت ابني ابنتك والمهر هذا الدار "، فهنا المهر معين وعليه فلا يكون في الذمة، بل يكون المهر عين هذا المال.
قال: [وإن كان معسراً لم يضمنه الأب]
إذا كان هذا الابن معسراً لا مال له، لم يضمنه الأب، لأنه نائب عنه فلا يلزمه ما لم يلتزمه.
وعن الإمام أحمد أنه يجب عليه للعرف، وهذا حيث كان الفرق يدل على ذلك، وعن الإمام أحمد أنه يجب على الأب أصالةً وهذا يرجع إلى مسألة يأتي البحث فيها، وهي (هل انكاح الابن من النفقة الواجبة أم لا) .
…الدرس الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وتملك المرأة صداقها بالعقد]
تملك المرأة مهرها بالعقد، قياساً على البيع، فكما أن ثمن المبيع وهو عوض السلعة يملك بالعقد، فكذلك المهر وهو عوض بضعها يملك بالعقد وعنه لا تملك إلا نصفه.
قال: [ولها نماء المعين قبل القبض]
فلها نماء المهر المعين لا المبهم.
المعين: كأن يقول: " لك نخل هذا البستان صداقاً " فهذا الصداق معين.
فقبل القبض لها نماؤه المعين، فإذا نمت هذه النخلات وأثمرت وأنتجت نخلاً فإن هذا النماء من الثمر وغيره يكون لها.
قال: [وضده بضده](20/99)
أي ضد المعين وهو المبهم بضده في الحكم، فالمبهم نماؤه لا تملكه المرأة، والمبهم كأن يقول: " لك عشر نخلات من نخلي "، فليس لها النماء لأنه لم يعين والضمان كذلك، فهناك عليها الضمان ولذا كان النماء لها وهنا الضمان على الزوج ولذا فالنماء له، وهذه المسائل كمسائل البيع في القبض، وقد تقدم ذكر مسائل القبض في البيع وهنا كذلك.
قال: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه]
إذا تلف المهر فإنه يكون من ضمانها إلا أن يمنعها زوجها من القبض فإذا تلف فإن الضمان يكون عليه لأنه قد منعها أن تقبضه فأشبه الغاصب، هذا فيما يشترط فيه القبض، وأما ما لا يشترط فيه القبض فلا فرق ما بين قبل القبض وبعده.
قال: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته]
فلها التصرف في صداقها لأنه ملك لها، كما أن عليها زكاته وذلك لأنه مالها فهو مال فيدخل في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وهو مال لها فوجبت الزكاة عليها، فيجب عليها أن تزكي المعين، ويجب أن تزكي المبهم من تعيينه، فإذا قال: " لك عشر نخلات، وهي هذه النخلات "، فتزكي عليها إذا أثمرت، وإذا قال: " لك كذا وكذا من الدراهم "، فإن عليها أن تزكيها إذا مضى عليها الحول، وأما إن قال: " لك أربعون شاة من شياهي " ولم يعين لها، فهذا من المبهم فلا تزكيه حتى يعينه لها.
قال: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً](20/100)
أي قهراً كالإرث، فليس راجعاً إلى إرادته واختياره فهو ماله، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول بها وقد سمى لها صداقاً، فلها نصفه وله النصف قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوى} ، فله هو أن يعفو ولها هي أن تعفو فلكلٍ منهما العفو عن صاحبه، فللزوجة أن تعفو فتقول: " أنا لا أريد شيئاً منها " فلكل واحدٍ منهما له أن يعفو بشرط أن يكون جائزَ التصرف؛ لأن من ليس كذلك لا يصح تصرفه، ودليل جواز العفو وأن لكل منهما العفو قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وليس للولي أن يعفو عن مولاه ذكراً كان المولى أو أنثى، فليس لولي الزوج أن يعفو وليس لولي الزوجة أن يعفو وذلك لأن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها هبته ولا إسقاطه – هذا في ولي الزوجة -، وولي الزوج كذلك، فهو مال له وقد دخل في ملكه كالإرث فليس لأحدٍ أن يتصرف بهبته ولا إسقاطه، ولأنه لا مصلحة له في ذلك، فليس لولي المحجور عليه أن يسقط النصف الذي وجب لمولاه؛ وذلك لأنه لا مصلحة له في هذا الإسقاط بل هو ضرر محض، وولي الزوجة لا يملك إسقاط هذا المهر المستحق لها لأنه مال لها فليس لأحد أن يتصرف فيه، هذا إن كانت رشيدة، وكذلك إن كانت غير رشيدة لأن الولي لا يجوز له أن يتصرف بما ليست فيه مصلحة، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} ، هل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الولي؟
1- فمن قال هو الزوج قال بالقول الذي تقدم ذكره وهو مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة.(20/101)
2- ومن قال هو الولي - وهو مذهب المالكية – فإنه يجيز للولي أن يسقط نصف مهر المرأة، فمذهب المالكية أن للولي سواء كان أخاً أو عماً أو ابن عم أو غيره له أن يسقط ما استحقته المرأة بطلاقها قبل الدخول، ويفسرون هذه الآية بالولي، فهو الذي بيده عقدة النكاح وذلك لأن الزوج لا يملك عقدة النكاح بعد طلاقها.
والقول الأول - وهو مذهب الجمهور- أرجح وأن المراد بذلك الزوج وانه هو الذي بيده عقدة النكاح، وأن المراد بالنكاح هو النكاح الأول الذي وجب له المهر وهو قول علي بن أبي طالب، وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح، وفي الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولي العقد الزوج) ، والحديث لا يصح مرفوعاً فإن إسناده ضعيف، لكنه صحيح موقوفاً على علي بن أبي طالب، كما روى ذلك ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ورجح هذا القول ابن جرير في تفسيره، ويرجح هذا القول ما تقدم من التعليل المذكور وهو أن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها إسقاطه فإن في ذلك --عليها وتعدٍ على مالها، ولأنه قال بعد ذلك {وإن تعفو أقرب للتقوى} وليس هذا أقرب للتقوى، فليس حرمان المرأة من نصف مهرها الثابت لها بالطلاق قبل الدخول ليس هو بأقرب للتقوى، بل الأقرب للتقوى أن تعطى حقها وألا تحرمه إلا برضا منها وإسقاط.
قال: [دون نمائه المنفصل]
إذا أصدقها أربعين شاة مثلاً - فإنها تملك ذلك بالعقد – ثم أنتجت هذه الشياه، وقبل الدخول طلقها، فإن النتاج يكون للمرأة ويرجع بعشرين شاة، كذلك إذا أصدقها عشرين نخلة مثلاً ثم طلقها قبل الدخول؛ فالثمر لها وله نصف هذه النخلات وذلك لأنه نماء ملكها، ونماء الملك لمالك.
قال: [وفي المتصل له نصف قيمته دون نمائه](20/102)
أما النماء المتصل كسمن في عبد أو غير ذلك، أو كبر في نخل أو غير ذلك فله نصف قيمته بدون نمائه، فيقوم هذا الشيء الذي قد نما نموا متصلاً - يقوم في يوم الصداق - ويعطي نصف القيمة، وأما النماء المتصل فإنه نماء في ملكها فهو لها، وإن قالت: " أنا ارضى أن أعطيه النصف بنمائه " وكانت رشيدة فذلك جائز.
قال: [وإن اختلف الزوجان أو ورثهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله]
إذا اختلف الزوجان أو ورثهما أو ولياهما إذا اختلفوا في قدر الصداق فقالت المرأة: قد أمهرني عشرة آلف، وقال: بل امهرتها خمسة آلاف فالقول قول الزوج لأنه منكر، فإنه ينكر هذه الخمسة آلاف الزائدة، والمنكر القول قوله مع يمينه والأصل براءة ذمته، وهذا حيث لم تكن هناك بينة، كذلك إذا اختلفوا في عينه كأن يقول: " أصدقتها هذه الدار " وقالت: " بل أصدقني هذه الدار الأخرى "، فالقول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وكذلك إذا اختلفوا فيما يستقر به المهر كأن يقول: " أنا لم أدخل بها " فتقول: " بل دخل بي " فهنا القول قوله لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وهذا كله حيث أنه لم يعارض هذا الأصل ما هو أقوى منه، فلو جرت العادة بما يدل على عدم صدقه فإن القول قولها، فإذا جرت العادة أن المهر أربعين ألفاً فقالت أصدقني أربعين ألفاً وهي من النساء اللاتي يرغب بمثلهن وقال بل أصدقتها عشرة آلاف فالقول قولها لأن العادة جارية بما قالت ولأن هذا أقوى من الأصل.
إذن الأصل أن القول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة ذمته، ولكن لو جرت العادة بما قالت المرأة أو دلت القرائن على قولها فالقول قولها بيمينها.
قال: [وفي قبضه فقولها]
إذا اختلفوا في قبضه فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، ولأنها منكرةً.
مسألة:
إذا أصدقها صداقين، صداقاً في السر وصداقاً في العلن،(20/103)
فالمذهب الأخذ بالزائد مطلقاً، وصورة هذه المسألة: اتفق ولي المرأة - برضا المرأة - والزوج على أن يكون مهر المرأة عشرة آلاف، لكنْ لما كان العلن قالوا: نريد أن نجامل الناس فنقول أربعين، وكذلك العكس، كأن يقول: أنا لا أزوجك ابنتي إلا بمائة ألف، والناس يزوجون بعشرين ألفاً فيقول الآخر: قبلت ويتفقان على ذلك ويعقدان العقد في السر على ذلك، وأما في العلن فيكتبان ويتفقان على أنه عشرين ألفاً، فالمذهب على أنه يؤخذ بالزائد مطلقاً سواء كان الزائد هو السر أو العلن، أما إن كان الزائد هو صداق السر فذلك لأنه قد وجب به فقد تعاقدا بالنكاح على ذلك، وكان هذا هو الصداق الذي وقع عليه عقد النكاح فوجب به، وإن كان الزائد في العلن؛ كأن يتفقا على عشرة آلاف في السر وعلى أربعين في العلن، فيجب الزائد وهو أربعون ألفاً، وذلك لأنه قد بدله لها فلزمه ذلك وإن كان العقد هو ما يكون في السر، هذا هو المشهور في المذهب للتعليل المتقدم.
والمشهور في المذهب أنه يستحب الوفاء لأنهما قد اتفقا وتشارطا على شيء يخالف هذا الزائد أو على الزائد وظاهر الأمر على أن ما في العقد أقل من الزائد، فيستحب لمن كان عليه الزائد أن يوفي، فيستحب للمرأة إذا كان العقد في السر على عشرة آلاف، وفي العلن على أربعين ألفاً، فيستحب لها أن ترد عليه ثلاثين ألفاً ولا تأخذ إلا العشرة آلاف، ويستحب للزوج إذا كان العقد في الباطن على أربعين ألفاً والعقد في الظاهر على عشرة آلاف فيستحب له ألا يعتمد على العشرة آلاف التي في الظاهر بل يدفع لها حقها الذي قد اتفقا عليه في الباطن، هذا على الاستحباب.(20/104)
والصحيح وجوب ذلك، وهو القول الثاني في المذهب، وصوبه صاحب الإنصاف وهو القول الراجح، وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولوجوب الوفاء بالعقود والعهود وهذا من العهد فولي الزوجة قد تعهد له والزوجة كذلك، وكذلك الزوج فإن المرأة لم تبح له بضعها إلا على المهر الذي هو الزائد وإنما اتفقا في المهر على شيء في الظاهر أقل من الزائد لعلة أخرى.
مسألة:
إذا أهدى الزوج إلى زوجته قبل العقد أو بعده هدايا فلا يدخل ذلك في المهر لأنه ليس مما يتفق عليه وإن كانت قبل العقد ولم يوفوا له بالنكاح، أو كانت الهدايا بعد العقد وحصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر كله كالفسخ بالعيب ونحوه فإن الهدايا ترجع إليه وذلك لأن هذه الهداية هدية مشروطة ببقاء عقد النكاح، ودلالة الحال تدل على ذلك فهو لم يهدي إلا لهذا السبب وهو ابقاء عقد النكاح وحيث ولم ينكحوه أو حصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر فإنه حينئذٍ لم يتم مراده ولا مقصوده وحينئذٍ يرجع له حقه لأن العقد قد زال وحينئذٍ يترتب على ذلك عدم السبب الذي قد أهد له، وهذا هو المشهور في المذهب.
الدرس الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال [يصح تفويض البُضع، بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر]
…التفويض في اللغة: الإهمال، فكأن المهر أهمل لما لم يسمّ وهو نوعان: تفويض بضع، وتفويض مهر.(20/105)
فأما النوع الأول: فهو أن يزوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فيكون المهر منفياً، فهذا يصح كما قال المؤلف، فيكون لها مهر نسائها هذا هو مذهب جمهور الفقهاء واستدلوا: بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة قالوا: ولما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال رضي الله عنه: (لها مثل صداق نسائها لاوَكسْ ولاشطط - أي لا نقص ولا ظلم -، وعليها العدة ولها الميراث) ، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بروع بنت واشق -إمرأة منا- بمثل ما قضيت به "، والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قالوا: فهذا يدل على صحة تفويض البضع، والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب أحمد واختاره شيخ الإسلام واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يصح النكاح إلا بمهر، والمهر إما أن يكون مسمى فيجب المسمى كأن يقول:" نكحت موليتك على عشرة آلاف "، وإما أن يكون مسكوتاً عنه فيجب مهر المثل، فهوا مسكوت عنه فليس بمنفي بل قد نكحها على مهر لكنه لم يفرض لها فيكون لها مهر مثيلاتها، وأما أن يكون منفياً فلا، وهو مخالف لكتاب الله تعالى ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} ، أي – ما فرضنا من المهور-، وأيضاً قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبح الواهبة نفسها لخاطبها مع فقره الشديد حتى قال له: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم ينكحه بلا مهر حتى أنكحه بما معه من القرآن، وهذا القول هو القول الراجح.(20/106)
وأما الأدلة المتقدمة فإنه ليس فيها أن المهر منفي، وإنما المهر مسكوت عنه، فالمهر لم يفرض -أي لم يسم- وليس في ذلك أنه منفي، وعلى ذلك فتفويض البضع باطل فالنكاح باطل، ولذا أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح الشغار لعدم المهر- أي المهر منفي فيه -.
قال: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما، أو أجنبي]
هذا هو النوع الثاني من التفويض وهو تفويض المهر كأن يقول " أتزوجك على ما شئت من المهر " أي على ما شئتِ من المهر أو تقول هي: " أرضى بنكاحك على أن يكون لي من المهر ما شئتُ "، أو يفوضاه إلى أجنبي عنهما كأن يقول: " على ما شاء فلان "، فهذا هو تفويض المهر فهنا قد فوض المهر وأهمل ولم يسمي فالنكاح صحيح ويجب مهر المثل. والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذه المسألة المهر ثابت وهي لا ترضى إلا به، فهي إنما نكحته على مهر لكن هذا المهر مجهول، فلما كان مجهولاً كان فاسداً وعليه فيجب لها مهر المثل، وأما المسألة السابقة فلا مهر بل هو منفي.
قال: [ولها مهر المثل بالعقد ويفرضه الحاكم بقدره]
فالحاكم - أي القاضي-، هو الذي يقدر مهرها بالنظر إلى نسائها ثم قال بعد ذلك: ولها مهر نسائها فيقدر الحاكم مهر المثل بالنظر إلى مهر نسائها والمشهور في المذهب أن مهر نسائها هو مهر قريباتها من أبيها وأمها، كالأم والعمة والخالة والأخت ونحو ذلك، ويقدر المهر لها على حسب ما يكون لقريبتها المساوية لها جمالاً ومالاً وسناً وعقلاً وبكارةً وثيوبةً وأدباً، وقال مالك: بل يقدر لها المهر باعتبار ما فيها من الصفات بقطع النظر عن نسائها، بمعنى ينظر ما فيها من الصفات من نسب وجمال ونحو ذلك فيقدر لها المهر بحسب ما فيها من الصفات.(20/107)
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره الموفق: أنه يقدر لها المهر بالنظر إلى نسائها من جهة أبيها لا من جهة أمها مع النظر إلى الصفات التي تقدم ذكرها بمعنى ينظر من جهة الأب كالأخت والعمة وعمة الأب وبنت الأخ، ثم ينظر من يساويها جمالاً ومالاً وأدبها وعقلها وبكارتها أو ثيوبتها ونحو ذلك، ثم يقدر لها المهر بحسب ذلك، وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال.
أما ما ذهب إليه الإمام مالك ففيه ضعف، وذلك لأن ما ذكره من الشروط من جمال ونحوه في المرأة معتبر في القولين الآخرين لكنهم قيدوه بنسائها ولا شك أن نساءها – حسنهن واحد، ولا شك أن حسب المرأة له أثر في المهر ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لحسبها …..) ، ورجحنا القول الثالث على القول الأول: ذلك لأن الحسب إنما هو معتبر من جهة الأبوة لا من جهة، الأمومة لأن أمها قد لا تكون من حسبها فقد تكون أعلى من عصبتها نسباً وقد تكون دونهن نسباً، فجهة الأمومة لا أثر لها هنا لأن الحسب إنما يكون من جهة العصبة لا من جهة الأم، فأرجح الأقوال ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الموفق أنه يجب أن يكون لها مهر نسائها من عصبتها - أي من قرابتها من جهة الأب - مع اعتبار الصفات الثابتة في المرأة من مال وجمال وأدب وعقل وبكارة أو ثيوبة ونحو ذلك، ويدل على اعتبار كونها من نسائها ما تقدم من قول ابن مسعود: " لها مثل صداق نسائها " وقول معقل بن سنان: " قضى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
قال: [وإن تراضيا قبله جاز]
فإذا تراضيا الزوجان على شيء من المهر قبل أن يقدره الحاكم، فذلك لهما وذلك لأنه حق لهما فلا يعدوهما.
قال: [ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه](20/108)
فإذا أبرأته المرأة من المهر قبل أن يفرضه الحاكم وذلك كأن تقولَ: " قد أبرأته منه" فحينئذٍ يسقط عنه، لأنها هي صاحبة الحق فذلك حقها وقد أبرأت زوجها منه، وقد صح النكاح لأن المهر ليس بمنفي، لكن لو كان المهر منفياً – ويدخل هذا في عموم عبارة المؤلف وهو المذهب أيضاً – لو كان منفياً فكذلك، لكن الصحيح كما تقدم أن المنفي باطل من أصله، ولو قبضت المهر ثم وهبته إياه وكانت جائزة التصرف فيجوز بلا خلاف.
قال: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها]
فمن مات من الزوجين قبل الإصابة - أي قبل الجماع وقيل الخلوة وقيل الفرض أي قبل أن يفرض لها صداقاً- فإنه يرثه الآخر للحديث المتقدم: (فعليها العدة ولها الميراث) ، وكان لم يسم لها صداقاً وقد مات قبل أن يدخل بها.
قال: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره]
إذا طلق المفوضة – بفتح الواو – أو المفوضة – بكسر الواو – وكذلك من لم يسمي لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة.
المفوضة: قد نفي مهرها حيث كان التفويض في بضعها وحيث لم يكن في بضعها بل بمهرها فالمهر مجهول، وكذلك إذا لم يسمِّ لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} ، وفي قوله (حقاً) ما يدل على فرضيته، وفي قوله (متاعاً بالمعروف) ما يدل على أن هذا المتاع يرجع فيه إلى العرف من خادم أو سكن أو ثياب أو نحو ذلك مما تعارف الناس على أنه متاع للمطلقة، فإنه يجزئه أن يعطيه إياها.
واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: أن المطلقة بعد الدخول كذلك لها المتعة، خلافاً لمذهب جمهور العلماء لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} وما ذهب إليه ظاهر فالآية تدل عليه.(20/109)
قال: [ويستقر مهر المثل بالدخول]
يستقر مهر المثل وكذلك المهر المسمى بالدخول والخلوة أيضاً، أما بالوطء فهو ظاهر قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ، فدل على أنه إن طلقها بعد المسيس فيجب المهر كاملاً، وأنه لا ينصف، هذا هو مفهوم المخالفة لهذ الآية فيجب للمرأة المهر كاملاً إذا مسها، وكذلك الخلوة في مذهب جمهور العلماء، فإذا خلا الرجل بالمرأة فيجب لها المهر وإن لم يمسها، وذلك لما روى سعيد بن منصور في سننه عن زُرارة بن أبي أوفى قال: " قضاءُ الخلفاء الراشدين: إذا أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة "، وزُرارة لم يدرك الخلفاء الراشدين، لكنه ثابت السند الصحيح في سنن البيهقي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب ولا يعلم لهما مخالف فكان إجماعاً.
والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: " لا يثبت لها المهر كاملاً إن خلا بها ما لم يمسها لظاهر الآية المتقدمة.
والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لما تقدم، فهو قول عمر وعلي ولا يعلم لهما مخالف.
قال: [وإن طلقها بعده فلا متعة]
بالعقد وهو الوطء فقد فعلت ما يجب عليها، لكنه لم يطب وكان ذلك من جهته لا من جهتها ولأن التسليم المستحق وجد من جهتها فكان بوطئها.
وهل يجب المهر كاملاً بغير خلوة ولا وطء، وإنما بما دون الوطء كأن يستمتع بها في غير وطء بلا خلوة كمس يد أو قبلة أو نحو ذلك؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو قول في المذهب وجوب المهر بذلك كالوطء، لأنه استمتاع فأشبه الوطء.(20/110)
والقول الثاني: وهو اختيار الموفق وهو قول أكثر الفقهاء: أن المهر لا يثبت كاملاً بذلك، وهو الراجح لأن ظاهر الآية إنما دل على أن المهر يثبت بالمسيس أي بالوطء، وذلت أثار الصحابة على أنه يثبت بالخلوة، وليست القبلة ونحوها في حكم المسيس ولا في حكم الخلوة، والذي يتبين والله أعلم أن الخلوة لا تثبت بها هذا الحكم إلا إذا كانت بحيث يمكنه أن يطأها معها، أما إذا كانت خلوة يسيرة لا يتمكن من وطئها فلا يتبين أنه يجب المهر بمثل هذه الخلوة، وذلك لأن ظاهر الآية أنه لا يجب إلا مع المسيس، وإنما وجب مع الخلوة لأن الخلوة مظنة المسيس، ولأن الخلوة تمكين من المرأة لنفسها، وليس هذا في أي خلوة، وإنما يثبت بالوطء في القبل على الصحيح، وأما الوطء في الدبر فلا يثبت فيه هذا الحكم، لأنه ليس هذا المسيس المشروع.
قال: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر]
…إذا نكحها نكاحاً فاسداً كأن ينكحها بلا ولي ثم فارقها قبل أن يدخل بها، فلا مهر، وذلك لأن هذا نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه، فالنكاح الفاسد وهو نكاح شبهة عقد، فإذا طلقها قبل الدخول فلا مهر لها، لأنه فاسد فكان وجوده كعدمه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وظاهره أنه لا مهر لها إن لم يستحل فرجها.
قال: [وبعد أحدهما يجب المسمى](20/111)
فبعد الدخول أو الخلوة يجب المسمى، وإن لم يكن قد سمى المهر فيجب مهر المثل، أما إن مسها فهذا ظاهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وأصرح منه ما ورد في رواية ابن حبان: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، أي لها ما أعطاها من المهر بما أصابها، وأما إن كانت مجرد خلوة ولم يطأها فلا يتبين أنه يجب عليه المهر، وذلك لأنه نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب المهر حيث أصابها وهنا لم يصبها، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار الموفق ابن قدامة ورواية عن الإمام أحمد.
وأولى من ذلك النكاح الباطل كنكاح الخامسة، والنكاح الباطل عند الفقهاء هو: ما أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة، وأما النكاح الفاسد فهو: ما اختلف فيه كالنكاح بلا ولي، ففي النكاح الباطل إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها لأنه نكاح باطل فوجوده كعدمه، وإن كان بعد الخول، فالمذهب وهو الصحيح في هذه المسألة: أن لها المهر إن استحل فرجها للحديث المتقدم: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، ولا فرق فيما حرمه الشارع بين ما أجمع عليه أو لم يجمع عليه، لكن إن كانت عالمة بأن النكاح باطل أو فاسد فلا شيء لها لأنها زانية مطاوعة فلا شيء لها.
قال: [ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة]
إذا وطئت بشبهة كأن يظنها زوجته فيطأها، فيجب مهر المثل، قال الموفق: بلا خلاف أعلمه.
قال: [أو زناً كرهاً](20/112)
فإذا أكرهها على الزنا فيجب لها المهر بما استحل من فرجها، هذا هو مذهب الجمهور للحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا مهر لها ولا عوض لها وإن كانت مكرهة وذلك لأن هذا العوض خبيث وهو سحت فهو مقابل حرام فكان سحتاً محرماً ولم يكن حلالاً مباحاً ولا يقاس هذا بهذا، ولا يلحق ما أباحه الله بما حرمه الله، وهذا هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
قال: [ولا يجب معه أرش بكارة]
هذا على القول بوجوب مهر المثل، فهل يجب أرش البكارة؟
قال: لا يجب أرش البكارة، وذلك لأن مهر المثل يدخل فيه أرش البكارة، فإنها قدرت على أنها بكر، وقدر مهرها على أنها بكر، فنظر إلى بكارتها أثناء تقدير مهرها، وعلى القول الراجح المتقدم وهو أنه لا مهر لها فحينئذٍ يحتاج أن يجعل لبكارتها مهرا، ً وذلك لأنه قد أتلف عليها شيئاً مما ينتفع به، فكان عليه أرش ذلك، ويعرف أرش البكارة بأن ينظر إلى مهرها وهي بكر وينظر إلى مهرها وهي ثيب، والفارق بينهما هو أرش بكارتها.
قال: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال]
فإذا تزوج الرجل امرأة على أن يصدقها عشرة آلاف حالةً، ثم قال: أريد أن أبني بالمرأة ولم يعطها صداقها فللمرأة أن تمتنع ولوليها أن يمنع من ذلك، وذلك لأن العوض وهو المهر لم يقبض فكان لهم المنع من تسليم المعوض، فلهم المنع من تسليم المعوض وهو البضع حتى يستلموا عوضه، وهذا بإجماع أهل العلم وهذا ظاهر، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيتعذر عليها إرجاع المعوض، وظاهر قوله: "حالاً" أنه لو كان مؤجلاً فليس لها أن تمنع ولذا
قال: [فإن كان مؤجلاٍ ….. فليس لها منعها]
فإذا كان المهر مؤجلاً كأن يقول: " أتزوجها على عشرة آلاف إلى سنة،" ثم أراد أن يبني بها فليس لها أن تمنعه من نفسها، وذلك لأنها قد رضيت بتأخير صداقها وهو متضمن رضاها بتسليم نفسها قبل قبض صداقها.(20/113)
قال: [أو حل قبل التسليم]
إذا قال: المهر أدفعه لكم بعد شهر فرضوا بذلك فمر الشهر ولم يسلم الصداق، فيجب عليها أن تمكنه من نفسها وألا تمنع نفسها منه، وقالوا: وذلك لأنها قد وجب عليها واستقر وجوب تسليم بضعها قبل القبض فلم يكن لها أن تمتنع.
والقول الثاني في المذهب: أنه لا يجب عليها ذلك، وهذا فيما يظهر لي أظهر للعلة المتقدمة وهي منع تسليم المعوض قبل أخذ عوضه، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيفوت عليها منعه بضعها.
قال: [أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها]
إذا اتفقوا على صداق حال، فسلمت نفسها له تبرعاً فليس لها أن تمنع نفسها بعد ذلك، وذلك لأن المهر قد استقر بهذا التسليم فلم يكن لها المنع، ولأنها قد رضيت فسلمت نفسها عن رضى فاستقر العوض بذلك.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة النعمان ورواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن لها أن تمنع نفسها وقد تبرعت له، وذلك لأن رضاها ليس مطلق بل هو مقيد بشرط وهو أن يعطيها صداقها، وأن يقبضها إياه، فقد مكنته من نفسها بهذا الشرط فليس رضاها رضا مطلقاً بل هو مقيد بهذا الشرط وهو أن يسلمها صداقها وحينئذٍ فلها أن تمنع نفسها، وهذا هو القول الراجح.
قال: [فإن أعسر بالمهر الحال، فلها الفسخ ولو بعد الدخول]
إذا أعسر بالمهر الحال قبل الدخول فلها الفسخ، وذلك لتعذر الوصول إلى العوض قبل تسليم المعوض، ولو كان بعد الدخول، فإذا دخل بها ولم يسلم مهرها الحال فلها أن تفسخ حيث أعسر، وذلك لأن لها حينئذٍ منع نفسها على الصحيح فكان لها الفسخ، ولأنها إنما مكنت نفسها لأخذ حقها وصداقها وحيث أعسر بذلك فلها الحق بالفسخ، لكن الفسخ لابد أن يكون بحكم حاكم في المشهور في المذهب ولذا قال المؤلف:
[ولا يفسخه إلا حاكم]
وتقدم كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة وأن الفسوخ تصح بغير حكم حاكم، وأن الحاكم إنما يأذن بذلك.
الدرس السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة(20/114)
باب وليمة العرس
الوليمة: هي طعام العرس خاصة، فلا تطلق الوليمة في اللغة إلا على طعام العرس خاصة.
قال: [تسن]
فالوليمة سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف كما في الصحيحين: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من نسائه ما أولم عليها – يعني زينب بنت جحش – أولم بشاة، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الوليمة.
وإنما اختلفوا هل هي سنة مستحبة – كما ذكر المؤلف – أم هي واجبة؟
فالجمهور على أنها سنة، وقال بعض أهل العلم بوجوبها وهو مذهب الظاهرية وقول في مذهب الشافعي وحكاه ابن عقيل عن الإمام أحمد، وهو الراجح لظاهر الحديث: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي لما تزوج فاطمة: (لا بد للعرس من وليمة) ، والمذهب أنها تسن بالعقد، فوقتها المستحب في المشهور من المذهب العقد، وقال شيخ الإسلام: تسن بالدخول، وقال صاحب الإنصاف: " الأولى أن يقال إن وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس "، وما ذكره أظهر، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس أن الوليمة تكون بعد العقد فتسن كذلك وإن كان عرفهم بالبناء بالمرأة والدخول بها فتستحب كذلك.
قال: [بشاةٍ فأقل](20/115)
لا حد لأكثر الوليمة – بإجماع أهل العلم – فلو أولم بخمس شياه أو عشر فذلك كله جائز ما لم يكن ذلك إسرافاً أو مخيله، والمستحب أن تكون بشاة فأقل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة) ، ولما تقدم أنه أولم لزينب بنت جحش بشاة، لكن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم لو بشاة) ، كما ذكر ذلك بعض الحنابلة أن الأولى أن تكون أكثر من شاة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كونها وليمة قليلاً، فقال (أولم ولو بشاة) أي أولم ولو بشيء قليل كالشاة، فدل هذا على أن الأولى أن تكون الوليمة بأكثر من شاة، ولو أولم بأقل من شاة فذلك جائز، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على صفية بالأقط والتمر والسمن) ، وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على بعض نسائه بمدين من شعير) ، لكن الأولى له أن يولم بشاة فأكثر.
قال: [وتجب في أول مرة إجابة مسلمٍ]
تجب إجابة مسلم في أول مرة أي في وليمة اليوم الأول من أيام العرس، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (شر الطعام وليمة العرس يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) .
وذكر بعض فقهاء الحنابلة كابن عقيل والشيخ عبد القادر الجيلاني استثناءً فيه قوة وهو: أنه يكره لأهل العلم والفضل الإسراع في إجابة الدعوة والتهاون لما فيه من البذلة والدناءة والشره، قالوا: لا سيما القاضي لأنه ربما كان فيه ذريعة إلى التهاون به وعدم المبالاة، وهكذا أهل العلم والفضل، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، فإنما تجب وليمة العرس في اليوم الأول، وأما اليوم الثاني فإجابتها سنة.(20/116)
وأما في اليوم الثالث فتكره، وذلك لما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طعام الوليمة في اليوم الأول حق، وطعام اليوم الثاني سنة، وطعام اليوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به) والحديث ضعفه الترمذي فقد رواه واستغربه فهو من حديث زياد بن عبد الله وعطاء بن السائب، وزياد بن عبد الله ضعيف الحديث، وعطاء بن السائب مختلط، وقد روى عنه زياد بن عبد الله بعد اختلاطه، وعلى ذلك الحديث ضعيف فيه علتان:
ضعف زياد بن عبد الله.
اختلاط عطاء بن السائب، وقد روى عنه عبد الله بن زياد بعد اختلاطه.
وبهذا الحديث احتج الحنابلة والشافعية على كراهية إجابة الدعوة في اليوم الثالث، وقال المالكية: لمن كان له سعة أن يولم سبعة أيام، لما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن حفصة بنت سيرين قالت: " تزوج أبي فدعا الصحابة سبعة أيام " قال البخاري: " ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ولا يومين " وثبت في مسند أبي يعلى بسندٍ حسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج صفية " جعل عتقها صداقها وجعل الوليمة ثلاثة أيام "، والذي يتبين أن مرجع هذا إلى العرف، لكن لا يتبين وجوب إجابة الوليمة في أيامها كلها بل لو أجاب في اليوم الأول فإن ذلك يجزئ لما في ذلك من الحرج من إجابة الوليمة في أيامها كلها، ولأن تطيب خاطر الداعي يحصل في اليوم الأول، فالذي يتبين أنه يجب في اليوم الأول وأما سائر الأيام فيسن ولا يجب.
قال: [يحرم هجره إليها إن عينه]
فيجب إن عينه بالدعوة، وأما إذا كانت الدعوة عامة فسيأتي الكلام عليها، وبشرط أن يكون هذا المسلم ممن يحرم هجره، وأما إذا كان ممن يجب هجره فإن من الهجر عدم إجابة دعوته.
قال: [ولم يكن ثم منكر]
وسيأتي كلام المؤلف على هذا.
قال: [فإن دعاه الجَفلي]
الجَفَلى: هي الدعوة العامة كأن يقول: " يا أيها الناس احضروا ".
قال: [أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كُرهت الإجابة](20/117)
تقدم أن الدعوة في اليوم الثالث لا تصح كراهيتها وكذلك دعوة الجفلى، فلا يثبت دليل يدل على كراهيتها، والقول الثاني في المذهب: أنها مباحة وهذا هو الراجح فلا دليل على كراهيتها، بل لو قيل باستحباب الإجابة لعمومات الأدلة لكان فيه قوة، ولا يقال بالوجوب.
إذا دعاه ذمي فتكره الإجابة قالوا: لأنه مطالب بإذلاله.
وهذا التعليل ضعيف ولا يقوى على الكراهية والراجح إباحة إجابة دعوته، وهو القول الثاني في المسألة، ويدل عليه ما ثبت في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يجيب دعوة اليهود، فالراجح أن دعوة الذمي لا تكره إجابتها.
قال: [ومن صومه واجب دعا وانصرف]
فمن كان صومه واجباً فإنه يدعو لصاحب الوليمة وينصرف، وذلك لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم) ، ولا يحل له أن يفطر لما تقدم في كتاب الصيام من أن الصوم الواجب لا يجوز الفطر فيه كصوم رمضان أو صوم النذر.
قال: [والمتنفل يفطر إن جبر]
أي إن جبر خاطر الداعي، فإذا كان في ذلك جبراً لخاطر الداعي فإنه يرجح الفطر، لما ثبت في البيهقي بإسنادٍ حسن عن أبي سعيد الخدري قال: " صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فجاءوا أصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل إني صائم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعاكم أخوكم وتكلف لكم – ثم قال له: – أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت) "، ولا تجب إجابة الدعوة في غير العرس كالوكيرة والنقيعة وغير ذلك وإنما يستحب.
والوكيرة: هي دعوة البناء أي بناء البيت.
والنقيعة: هي الطعام للغائب.(20/118)
وظاهر الأحاديث المتقدمة وجوب إجابتها، لكن يدل على عدم الوجوب ما روى مسلم: " أن فارسياً كان طيب المرق فصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً ثم جاء يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) أي عائشة فقال: " لا " فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) قال: " لا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) فقال: " نعم " فقاما يتدافعان إلى منزله".، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الواجب لمثل هذا العذر، فهذا عذر لا يقوى على ترك الواجب، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأن إجابة غير وليمة العرس ليس بواجب بل مستحب.
قال: [ولا يجب الأكل]
إذا حضر الوليمة فإنه لا يجب عليه الأكل، وذلك لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ثم إن شاء فليطعم وإن شاء فليترك) ، فلا يجب الأكل إنما يستحب لما تقدم في حديث أبي سعيد عند البيهقي فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل بالفطر.
قال: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة]
فلا يحل له أن يطعم إلا بإذن لفطر، أو إذن عرفي فالإذن اللفظي كأن يقول كلوا، والإذن العرفي بأن يدعى إلى الطعام سابقاً ثم تقدم بين يديه، وإلا فلا يحل له، وذلك لأنه مال غيره فلا يحل إلا بإذنه، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه، ولا يملكه بذلك فلوا أنه إذا وضع له الطعام تصدق به أو أخذه فلا يحل له ذلك، وذلك لأنه إنما أباحه له ليطعمه ولم يُمّلِكهُ إياه، فعليه يهلك في ملكية الداعي أي يفنى الطعام في ملكية الداعي فليس له أن يتصدق به إلا إذا أذن له بذلك صاحب الدعوة.
قال: [وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيّره وإلا أبى](20/119)
إذا علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره فإنه يحضر وجوباً، أولاً؛ لوجوب إجابة وليمة العرس، وثانياً؛ لإزالة المنكر.
فإن كان فيه منكر لا يقدر على إزالته كأن يكون فيه سماع محرم كالغناء أو يكون أشياء مرئية محرمة كخلطة النساء فلا يحل ذلك، وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس من مأدُبةٍ يدار فيها الخمر) ، وهو ثابت في المسند والحديث صحيح، وفي سنن البيهقي بإسنادٍ صحيح: أن أبا مسعود الأنصاري صنع له طعام فدعي إليه فقال: " أفي البيت صور " فقيل له: " نعم " فأبى أن يدخل حتى نزعت الصور ثم دخل.
قال: [وإن حضر ثم علم به أزاله]
فالمسألة الأولى قبل الحضور وهنا بعد الحضور، فلما حضر وأجاب الدعوة علم أن ثم منكراً فيجب عليه أن يزيله.
قال: [فإن دام لعجزه انصرف]
فإن دام المنكر لعجزه فهو غير قادر على إزالته، وإن كان أنكر بلسانه أو أنكر بقلبه لكنه لم يقدر على إزالة المنكر فإنه ينصرف، لئلا يكون مقراً للمنكر أولاً، ولئلا يكون هذا طريقاً لرؤيته للمنكر أو لسماعه له فلا يجوز أن يجلس وثمَّ منكر فإن قدر على إزالته جلس، وإلا فإنه يجب عليه أن ينصرف.
قال: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خُيِّر](20/120)
إذا علم أن ثم منكراً لكنه لا يراه ولا يسمعه، كأن يكون في مجلس وفي مجلس آخر منكرات سوى المجلس الذي هو فيه، فإنه يُخير بين الجلوس وبين الإنصراف فإن شاء انصرف لوجود هذا المنكر الذي علم به، وإن شاء جلس، ولم يذكر المؤلف موقفه من هذا المنكر، وظاهر كلامه أنه لا يجب عليه إنكاره، والصحيح أنه يجب عليه الإنكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً …) ، وهنا العلم يقوم مقام الرؤية فقد علم بالمنكر وتحقق منه فيجب عليه أن ينكره، وأما ما ذكر المؤلف من كونه بالخيار بين الجلوس والانصراف فهو ظاهر، وذلك لأنه لا يعد مقراً للمنكر ولا يتطرق المنكر -إن كان مسموعاً- إلى سمعه، -وإن كان مرئياً -إلى بصره لكونه في موضع آخر.
قال: [وكره النِّثارُ والتقاطُه]
النثار: هو أن يطرح طعام أو نحوه أي يرفع الطعام ثم يرمي في الهواء حتى يتساقط فهذا يكره فعله ويكره التقاطه، لما في ذلك من امتهان الطعام، ولما فيه من الدناءة.
قال: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله]
من أخذه أو وقع في حجره فإنه يكون له، وذلك لأنه حازه بذلك وقد جعله مالكه لمن حازه.
قال: [ويسن إعلان النكاح]
تقدم الكلام على هذا ودليله.
قال: [والدف فيه للنساء]
وتقدم الكلام على هذه المسألة، وتقدم أن هذا هو اختيار الموفق، وظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد التسوية بين الرجال والنساء.
الدرس السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب عشرة النساء
العشرة: في اللغة الاجتماع.
وفي الاصطلاح: ما يكون بين الزوجين من ألفةٍ وحسن صحبة.
قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} وقال {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} .
قال: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف]
للآيتين المتقدمتين.
قال: [ويحرم مطل كل واحدٍ بما يلزمه للآخر والتكره لبذله](20/121)
المطل هو: دفع الحق، فيحرم مطل كل واحدٍ منهما بما يلزمه للآخر، والتكره لبذله من نفقة أو خدمة أو وطء أو غير ذلك لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ولقوله: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، ولا شك أن مطل الحق والتكره في بذله ليس من المعاشرة بالمعروف.
قال: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه]
قياساً على البيع وهذا من باب تسليم المعوض، فيمكن الزوج منافع بضعها والاستمتاع بها، كما يمكن المشتري من السلعة التي قد وقع عليها، وذلك إن طلب لأنه حقه، فلا يجب تسليم الحرة إلا بطلبه لأنه حقه.
قال: [ولم تشترط دارها أو بلدها]
فإن اشترطت أن يكون التسليم في دارها أو بلدها فإنها لا تسلم إليه في بيته، بل تسلم إليه في دارها وفي بلدها، وذلك للأدلة المتقدمة في وجوب الوفاء بالشرط، فهذا شرط يجب الوفاء به.
قال: [وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً]
إذا طلب الزوج تسليم الزوجة فاستُمهل فيجب عليه أن يجيبهم إلى ذلك بما جرت العادة بمثله من يوم أو يومين أو ثلاثة أو غير ذلك مما جرت العادة بمثله، يدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطرقوا النساء ليلاً، حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) ، أي التي غاب زوجها، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإمهال المرأة حتى تمتشط إن كانت شعثة وحتى تستحد - وهذا مع ثبوت المصاحبة - فإنها قد صاحبها فأولى من ذلك من لم يصاحبها، أي إذا ثبت هذا الإمهال للزوجة التي قد سبق صحبتها فأولى من ذلك المرأة التي لم يسبق صحبتها فإن حاجتها إلى الاستعداد له والتهيؤ أقوى.
قال: [لا لعمل جهازٍ]
جهاز بفتح الجيم، ويصح بكسرها وهو: ما تجهز به المرأة إلى بيت الزوج، فإذا استمهلوا للجهاز فلا يجب عليه القبول، وذلك لعدم الضرورة، فليس من باب تهيئة المرأة واستعدادها لزوجها بل هو أمر خارج عن ذلك، وموجِب العقد من التقابض مردود إلى العرف.(20/122)
قال: [ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط]
لأن الأمة مملوكة لسيدها الذي قد زوجها، فزمن الاستمتاع بها من الزوج بالليل، ولسيدها أن يستخدمها بالنهار فهو زمن الاستخدام، فزمن خدمتها لسيدها بالنهار فلا يجب عليهم أن يسلموها له إن طلبها نهاراً، وأما في الليل فهو زمن الاستمتاع بها.
قال: [ويباشرها ما لم يُضر]
يباشر المرأة ما لم يضر بها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
قال: [أو يشغلها عن فرض واجب]
كصلاة واجبة أو صيام واجب، قال تعالى: {نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} ، فيستمتع بها في قبلها من دبرها، وفي قبلها من قبلها، ويستمتع بها بما دون ذلك وليس لها أن تمنعه.
قال: [وله السفر بالحرة]
دون الأمة؛ لأن الأمة لا بد من أن يأذن لها السيد، فهي ملك للسيد وله الخدمة منها وأما الحرة فله أن يسافر بها بشرط الأمن عليها أي ألا يعرضها في سفره لخطر.
قال: [ما لم تشترط ضده]
فإذا شرطت ألا يسافر بها عن بلدها فلها ذلك لأن المسلمين على شروطهم.
قال: [ويحرم وطؤها في الحيض]
لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، وهذا بإجماع العلماء.
قال: [والدبر](20/123)
فجماعها في الدبر محرم، وهذا باتفاق السلف واتفاق أهل العلم، والأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة، فعند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وروى الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحيي من الحق) ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (هي اللوطية الصغرى) ، فجماع المرأة في دبرها أي إيلاجاً من دبرها محرم وهو من كبائر الذنوب، ولا يصح حكاية جواز هذا عن أحدٍ من السلف، ومن حكى ذلك عن بعض السلف فقد غلط في ذلك، ومنشأ الغلط عدم التفريق بين لفظة (من) و (في) فللرجل أن يأتي امرأته في قبلها من دبرها، أي من خلفها وأما أن يأتيها في دبرها فإن هذا محرم، وقد أخطأ من فهم عن بعض أهل العلم من السلف إباحة ذلك، ولو تطاوع الزوجان على ذلك فرق بينهما وقياسه الوطء في الحيض.
والعزل مكروه وجائز، أي جائز ليس محرم لكنه مكروه ودليل عدم تحريمه ما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهى عنه القرآن) ، وفي مسلم (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينه عنه) ، وكراهيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك الوأد الخفي) ، ويشترط استئذان الزوجة في العزل لأن لها حقاً في الولد، ولأن في ذلك كمال استمتاعها، وقد أجمع على هذا أهل العلم، وفي المسند بإسناد ضعيف - فيه ابن لهيعة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يعزل عن الحرة) ، أي إلا بإذنها، والحديث ضعيف لكن أجمع أهل العلم عليه، فإن كانت أمة فقولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز أيضاً لحق السيد في الولد، ولأنها زوجة فأشبهت الحرة.(20/124)
القول الثاني: وهو مذهب الشافعية وهو احتمال في المذهب: أنه يجوز، وذلك لما فيه من الضرر عليه باسترقاق ولده لأن أولاده يكونون رقيقاً لسيد أمهم.
وهذا القول أظهر، فإن فيه استرقاقاً للولد وهو ضرر بالغ لا يعدل له هذا الحق الذي يضيع على السيد أو على الأمة بتحصيل الولد، فالراجح أنه يجوز له أن يعزل بلا إذن الأمة.
قال: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة]
واجتناب المحرمات، وهذا لما فيه من المنكر فيجب عليه أن ينكر وهذا واجب عليها، وهو راعٍ ومسؤول عن رعيته.
قال: [وأخذ ما تعافه النفس من شعرٍ وغيره]
من ظفر ونحو ذلك لما فيه من كمال الاستمتاع.
قال: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة]
وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني: أنها تجبر، والصحيح أنها لا تجبر لأن هذا لا يضر بالوطء.
مسألة:
هل تجبر المرأة على خدمة زوجها أم لا؟
قولان لأهل العلم:
فاتفقت المذاهب الأربعة على أنها لا تجبر، قالوا: لأن العقد مقتضاه الوطء والاستمتاع بها، وأما أن تكون خادمة له فليس هذا من مقتضى العقد.(20/125)
وقال بعض أهل العلم، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك واجب عليها بالمعروف، فيجب على مثلها أي قوةً في بدنها وشرفاً في نسبها ومالها، ما يجب لمثله، وهذا هو الراجح لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، فعليهن واجبات قد أوجبها العرف والعادة فما جرت العادة به فهو واجب، وهذا كان عرف نساء الصحابة كما في قصة فاطمة في الصحيح، وكما في قصة أسماء في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذا القول الراجح حيث جرت العادة بذلك، فإن لم تجر العادة فلا يجب، فيلزمها ما يجب على مثلها لمثله، فإن كانت سيدة وهو وضيع فليس كما لو كانت هي وضيعة وهو سيد، وإذا كانت شريفة في قومها فليست كما لو كانت وضيعة، ويجب على صاحبة البلد الحاضرة ما لا يجب على من تعيش في البادية، فهذه أمور تختلف - وكما قرر شيخ الإسلام - بإختلاف الأعراف واختلاف العادات وباختلاف النساء.
فصل
قال: [ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع](20/126)
يجب عليه أن يبيت عند الزوجة الحرة ليلة من أربع ليالٍ هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره – والأثر صحيح – في قصة المرأة التي ذكرت عند عمر تعبُّدَ زوجها فلم يفطن لمرادها وظن أنها تثني عليه خيراً، ففطن لذلك كعب بن سور- رحمه الله - وبين ذلك لعمر، فأمره عمر أن يقضي فيها، فقضى أن يكون لها ليلة من أربع ليالٍ، وذلك كما لو كانت رابعة له، قالوا قد اشتهر هذا الأثر ولا يعلم لعمر مخالف، وقال الجمهور: بل لا يجب لأن القسم لحقه، فإذا لم يبت عندها فقد أسقط حقه، وهذا ضعيف لأن للمرأة حقاً في ذلك، وليس صحيحاً أن القسم لحقه فحسب بل هو لحقيهما ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله وقد وعظه: (ولزوجك عليك حق) متفق عليه، واختار شيخ الإسلام أنه يكون بحسب الحاجة كالوطء وما ورد في قصة كعب تقدير شخص لا يراعى، كما لو فرض النفقة وكونه يجب حال الاجتماع ولا يلزم أن يجب حال الانفراد وهو أصح.
قال: [وينفرد إذا أراد في الباقي]
فإذا أراد في الليالي الباقية أن ينفرد فذلك جائز له.
قال: [ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة]
فيلزمه الوطء كل أربعة أشهر مرة وذلك لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، واختار شيخ الإسلام: أنه يجب عليه الوطء بقدر كفايتها ما لم يضر هذا ببدنه أو معاشه وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وهذا هو الراجح لأن هذا هو المعروف {وعاشروهن بالمعروف} وأما الآية فليس فيها أنه يجوز له هذا التأخر وإن كان مضراً بها، بل فيه أنه إذا حلف هذا اليمين فإنه يتربص هذه الأشهر.
قال: [وإن سافر فوق نصفها، وطلبت قدومه وقدر لزمه](20/127)
…أي فوق نصف السنة أي فوق الستة أشهر، وكان السفر غير واجب، فليس سفر حجٍ واجب ولا غزو واجب ولم يكن مما يحتاج إليه في معاشه، فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه ذلك، وذلك لما روى البيهقي أن عمر رضي الله عنه: " وقت للغزاة ستة أشهر " في قصة سماعه أبيات الشعر التي ذكرتها المرأة، فاستشار حفصة فيما تصبر المرأة عن زوجها فذكرت له أنها تصبر خمسة أشهر أو ستة أشهر، فوقت للغزاة ستة أشهر، قالوا فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه.
قال: [فإن أبى أحدهما فُرق بينهما بطلبها]
فإذا أبى الزوج الوطء في المسألة الأولى، وأبى القدوم من السفر في المسألة الثانية، فإنه يفرق بينهما بطلبها أي لها حق الفسخ، وقال أكثر أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الأصحاب كما قال ذلك الموفق: " أنه لا يفرق بينهما"، والصحيح في مثل هذه المسألة ما قرره شيخ الإسلام وهو: أن المرأة إذا حصل عليها الضرر بترك الوطء فإن ذلك مقتضٍ للفسخ بكل حالٍ، سواء كان مع عجز الزوج أو قدرته سواء مع عذره أو مع عدم العذر، وذلك حق الفسخ لدفع الضرر، فإذا لم يطئها أو كان في سفره تركٌ للوطء، فلها الفسخ سواء كان الزوج معذوراً أو لم يكن معذوراً، عاجزاً عن الوطء أو لم يكن عاجزاً عنه.
قال: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد]
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً)
قال: [ويكره كثرة الكلام]
أي يكره له كثرة الكلام عند الجماع، قالوا لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تكثروا الكلام عند المجامعة فإن منه الخرس والفأفأة) ، لكن الحديث لا يصح وعليه فيجوز ذلك.
قال: [والنزع قبل فراغها](20/128)
أي يكره النزع من الجماع قبل أن تفرغ المرأة من حاجتها، وفي أبي يعلى بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جامع الرجل امرأته فقضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا ينزع حتى تقضيِ حاجتها) ، والحديث إسناده ضعيف، لكنه مستحب لتحصيل المرأة على كمال استمتاعها.
قال: [والوطء بمرأى أحدٍ والتحدث به]
فيكره الوطء بمرأى أحدٍ، والتحدث بالجماع، لكن الكراهية غير كافية بل هو محرم بل هو من كبائر الذنوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مسلم: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ، وأعظم من ذلك أن يجامع بحيث يُرى، وهذا القول الثاني في المذهب وهو الراجح وأن ذلك محرم.
قال: [ويحرم جمع الزوجتين في مسكن واحد بغير رضاهما]
لما في ذلك من الضرر بسبب ما يكون بين النساء من الغيرة، فبسبب ذلك لا يجوز له أن يجمع بينهما إلا بالرضا وليس هذا من المعروف، والواجب المعاشرة بالمعروف.
قال: [وله منعها من الخروج من منزله]
اتفاقاً، وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسنادٍ صحيح: " أن معاذ بن جبل سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما هذا يا معاذ) فقال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أني إذا أتيت أن أفعل ذلك لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تفعل، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها على قتب لم تمنعه) "، فهذا فيه وجوب طاعة الزوج، ولذا اتفق أهل العلم على أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأن له أن يمنعها من الخروج وهذا حيث لا ضرر، أما إذا تضررت بذلك فليس له أن يمنعها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .
قال: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها](20/129)
يستحب له أن يأذن في أن تمرض المرأة محرمها كعمها أو خالها، وكذلك تعوده، وقالوا: لما فيه من صلة الرحم، ولأن المنع قد يحملها على مخالفة أمره، وقال ابن عقيل من الحنابلة: يجب عليه أن يأذن لها لأجل العيادة، أي عيادة والديها أو أحد من محارمها / والذي يترجح أن هذا راجع إلى العرف والطاعة بالمعروف، فإن كان من العرف كزيارة والديها أو زيارة بعض أقاربها ونحو ذلك فإنه ليس من المعروف أن يمنعها وإنما الطاعة بالمعروف، ولذا فالمذهب؛ أنه له أن يمنعها من زيارة والديها وليس له أن يمنعها من زيارتهم لها، والصحيح؛ أنه ليس له أن يمنع من ذلك إذا كانت الزيارة بالمعروف أي بما جرى العرف به مما ليس فيه إسراف بالزيارة، لما يثبت معه الصلة وينتفي العقوق، ولا تضيع المرأة معه بيتها ولا حق زوجها.
قال: [وتشهد جنازته]
قال: [وله منعها من إجارة نفسها]
لما فيه من تفويت حقه، فليس لها أن تؤجر نفسها إلا بإذنه، ومن ذلك الأعمال التي تقوم بها المرأة خارج بيتها فيشترط فيها إذن الزوج أو أن تشترط المرأة ذلك في العقد وإلا فله أن يمنعها.
قال: [ومن إرضاع ولها من غيره]
له أن يمنعها أن ترضع ولدها من غيره، لأنه يفوت عليه كمال الإستمتاع بها وهو حق له.
قال: [إلا لضرورته]
فإذا خشي على الولد الهلاك فليس له أن يمنع، وأما لو كان ولدها منه فليس له أن يمنعها من إرضاعه لأن هذا حق لها، فالمرأة إذا كانت بها عصمة زوجها فمن حقوقها إرضاع ولدها، بخلاف ما إذا كانت مفارقة له.
الدرس الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء](20/130)
هذا فصل في القسم بين النساء، فيجب عليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الخمسة بإسنادٍ صحيح: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) فهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب، واتفق أهل العلم على أن القسم لا يجب في الحب والجماع لقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، وروى البيهقي عن ابن عباس وعبيدة السلماني في قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، قالا: في الحب والجماع.
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: من أحب الناس إليك؟ فقال: (عائشة) ومن الرجال؟ قال: (أبوها) ، فالعدل في الحب والوطء غير واجب، نعم يجب عليه أن يطأ امرأته بالمعروف، لكن لا يجب عليه العدل بين النساء في الوطء، كما أنه لا يجب عليه العدل بينهم في الحب.
هل يجب عليه أن يعدل بينهم في النفقة والسكن والكسوة؟
قال الحنابلة: لا يجب ذلك، قياساً على الوطء لما فيه من الحرج، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وعبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك واجب لأنه عدل مقدور عليه، ففارق بين الحب والوطء فإنه عدل غير مقدور عليه لأن الوطء تبع للرغبة والرغبة قلبية والحب إلى القلب فليس بوسع المكلف أن يعدل بين النساء في ذلك.
وأما النفقة والسكن والكسوة فإن العدل مقدور عليه، وهو داخل في المعاشرة بالمعروف، فليس من المعاشرة بالمعروف أن ينفق عليها دون ما ينفقه على بقية زوجاته ولا أن يكسوها دونهن وهو قادر على العدل، نعم قد يقال بما ذهب إليه الحنابلة في النفقات الطارئة التي تحتاج إليها إحداهن فيتوجه القول بعدم وجوب العدل، لما في ذلك من المشقة والحرج، فإذا احتاجت إحداهن إلى شيء لا تحتاج إليه غيرها فلا يقال بوجوب العدل حينئذٍ بل يعطى صاحبة الحاجة لأنها مميزة لحاجتها.(20/131)
قال: [وعماده الليل لمن معاشه النهار]
عماد القسم عند النساء الليل، لأنه وقت السكن قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} ، والنهار تبع له، هذا لمن معاشه أي عمله بالنهار وأما من كان عمله بالليل كبعض الجند أو غيرهم فقال المؤلف هنا:
[والعكس بالعكس]
لأنه هو وقت سكنه.
مسألة:
الدخول على الضرة في ليلة ضرتها ليلاً لا يجوز إلا عند الضرورة وفي النهار يجوز عند الحاجة، كمرض يصيبها فتحتاج إليه، وأما في النهار فيجوز أن يدخل على الضرة عند الحاجة كأن يكون قادماً من سفر أو تكون مريضة فيعودها.
فإذا دخل عند الضرة ليلاً فهل يجب أن يقضي لمن كانت ليلتها؟
إن كان دخوله لضرورة فلا كما تقدم، وإن كان لغير ضرورة فعليه أن يقضي إن كان مكثه كثيراً عرفاً، أما إذا كان يسيراً عرفاً فإنه لا يقضي لأنه لا فائدة من القضاء، فإن جامعها فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقضي ما دام الوقت يسيراً عرفاً، وذلك لأن الوطء لا يجب القسم فيه ولا يجب العدل فيه وحينئذٍ فلا يتغير الحكم.
قال: [ويقسم لحائضٍ ونفساء ومريضةٍ ومعيبةٍ ومجنونةٍ مأمونةٍ وغيرها]
لأنهن زوجات فيدخلن في العموم، ولأن القسم يراد به السكن، وذكر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن العرف عندهم أي في نجد في زمنه أن النفساء لا تطلب القسم، فيما يظهر هكذا عندنا وإن هذا العرف يأخذ في بلاد نجد من ذلك الوقت، وعليه فلا يقسم للنفساء لأن المعاشرة تجب بالمعروف، وهنا العرف قد دل على أن القسم لا يجب للنفساء، وهذا هو الأظهر خلافاً للمشهور في المذهب لأن العرف جاء بذلك.
قال: [وسافرت بلا إذنه أو بإذنه في حاجتها أو أبت السفر معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة]
هنا مسائل لا تجب فيها للمرأة النفقة والقسم:
المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه.
المسألة الثانية: إن أبت السفر معه.
المسألة الثالثة: إن أبت المبيت عنده.(20/132)
فهنا لا يجب لهن القسم ولا النفقة وذلك لأنهن ناشزات والناشزة لا قسم لها ولا نفقة فهي عاصية لزوجها والعاصية لا تجب لها النفقة ولا القسم.
المسألة الرابعة: وهي فيما إذا سافرت بإذنه في حاجة، فالمذهب كما ذكر المؤلف أنه لا قسم لها ولا نفقة، وذلك كأن تسافر المرأة للعلاج أو لزيارة الأقارب وأذن لها الزوج فلا يجب لها القسم ولا النفقة، أما القسم فظاهر وذلك لأنها مسافرة وهو مقيم، ولا يقضي لها لأن العذر جاء من جهتها، ثم إنه إذا سافر هو فلا يجب أن يقضي فأولى من ذلك ألا يقضي لها إذا سافرت.
وأما النفقة فالقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة وذكره الموفق احتمالاً: أن النفقة واجبة وهذا هو الظاهر، لأن النفقة ثابتة لها فلا تسقط إلا بدليل يدل على إسقاطها، وهنا لا دليل يدل على ذلك، وليست بناشزة فتسقط النفقة عليها بل إنها قد استأذنته فأذن لها، إلا أن يكون قد شرط عليها ألا ينفق عليها وأما إن لم يشرط ذلك فإن النفقة واجبة.
قال: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أوله فجعله لأخرى جاز]
إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه أي بإذن الزوج، فيشترط أن يأذن الزوج بذلك لأنه حق له فاشترط إذنه، أو وهبت قسمها له، كأن يكون له ثلاث نسوة فقالت إحداهن: لك ليلتي فجعله لأخرى من نسائه جاز، لما ثبت في الصحيحين: " أن سودة بنت زمعة وهبت لعائشة يومها فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة "، فالهبة جائزة لأن هذا حق للمرأة وحق للرجل، فقد رضى الرجل بإسقاط حقه، والمرأة الواهبة رضيت بهبته وإسقاط حقها، وحينئذٍ فإن وهبته لفلانة جاز ذلك بإذنه وإن وهبته له فإنه يهبه لمن يشاء من نسائه.
وهل للمرأة أخذ العوض على الهبة؟
المذهب أنه لا يجوز، واختار شيخ الإسلام وذكر أنه المذهب: أن ذلك جائز، وهو الراجح، لأنه أخذ عوض على حق فأشبه سائر الحقوق، فإذا أخذت عوضاً من زوجها أو من الموهوب لها فذلك جائز لأنه حق لها.(20/133)
قال: [فإن رجعت قسم لها مستقبلاً]
إذا رجعت بعد ذلك فإنه يقسم لها في المستقبل لأنها هبة لم تنقض فالليالي السابقة قد قبضت فلا يقضى لها وأما الليالي المقبلة فإنها لم تقبض فلها الرجوع.
قال: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده بل يطأُ من شاء متى شاء]
فلا قسم لهن، وذلك لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} ، فدل على أن ملك اليمين لا يجب لهن العدل، أي إن خفتم ألا تعدلوا بين النساء فأنكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
قال: [وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثة]
إذا تزوج بكراً على زوجة سابقة فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم بين نساءه بعد ذلك، وإن كانت ثيباً فإنه يمكث عندها ثلاث ليالٍ وما يتبعهن من النهار، ثم بعد ذلك يقسم بينهن، لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ".
قال: [وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي]
ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن أم سلمة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ثم قال: (إنه ليس بك على أهلك – أي على نفسه - صلى الله عليه وسلم - - هوانٌ إن شئتِ سبّعت لك وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي) ".
هل له أن يسافر بإحدى نسائه؟
الجواب: أنه ليس له ذلك إلا برضا الباقيات، فإن لم ترض الباقيات فإنه يسهم بينهن، أي يضع بينهن القرعة، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "، وظاهر الحديث وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقضي للباقيات فإن عائشة لم تذكر قضاءً.
فإن سافر بإحداهن بلا قرعة ولا رضا فهل يجب القضاء أم لا؟(20/134)
قولان لأهل العلم: أظهرهما وهو مذهب الحنابلة والشافعية؛ وجوب القضاء وذلك لأنه قد سافر بها بلا حقٍ وميزها عن بقية النساء بلا حق فكان لهن القضاء.
قال الموفق: وعليه فينبغي أن لا يلزم قضاء المدة، وإنما يقضي منها ما أقام منها معها أما زمان المسير فلم يحصل به المشقة.
فصل
قال: [النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها]
النشوز: من النَشْزِ، بتسكين السين وفتحها؛ وهو المكان المرتفع.
وسمي خروج المرأة عن طاعة زوجها نشوزاً لأن هذا تكبر منها وتعالٍ على أمر زوجها، كما أن الرجل إذا خرج عما يجب عليه من العدل وغير ذلك من واجبات المرأة التي أمره الله بها وجفا المرأة وأبغضها فإن ذلك نشوزا منه، فالنشوز يكون من الزوجين، أما الزوجة فلقوله تعالى: {واللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} ، وأما الزوج فقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} .
قال: [فإذا ظهر منها أماراته بأن لا تجيبه إلى الإستمتاع أو تجيبه متبرمةً أو متكرهةً وعظها]
متبرمةً: أي متثاقلةً.
فإذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز فإنه يعظها أي يذكرها بما يجب له من الحق، وما عليها من الإثم في مخالفة ذلك، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) ، والدليل على أنه يعظها قوله تعالى: {وللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} .
قال: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء]
قال تعالى: {واهجروهن في المضاجع} ، فيهجرها في المضجع فلا يجامعها ويهجرها في المضجع ما شاء من الأيام والليالي.
قال: [وفي الكلام ثلاثة أيامٍ](20/135)
ففي الكلام ليس له أن يهجرها أكثر من ثلاثة أيام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، ولم أرَ من الحنابلة أو ممن ذكر هذه المسألة، من تعرض لذكر خلاف في هذه المسألة، وفيما ذكر نظر، وذلك لأن الهجر لمعصية، والهجر لمعصية لا يقدر بثلاثة أيامٍ، بل تهجر بما يكون فيه مصلحة، فلا يقدر هذا بثلاثة أيام.
قال: [فإن أصرت ضربها غير مبرح]
أي ضرباً غير شديد، قال تعالى: {واضربوهن} ، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكن أحداً تكرهونه - أي أحدٍ من النساء أو الرجال الذين تكرهونهم وليس المقصود بذلك الفاحشة - فإن فعلت فاضربوهن ضرباً غير مبرح) ، فيعظها ثم يهجرها ثم يضربها، هذه على الترتيب والآية لا تفيد ترتيباً فإن الله عطف بين هذه الثلاث بالواو وهي لا تفيد الترتيب، لكن اتفق أهل العلم على الترتيب، قال ابن الوزير: " اتفق أهل العلم على أن له ضربها إذا نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجع "، والمعنى يدل على ذلك فإنه من البدء بالأسهل فالأسهل.
فإن حصلت المشاقة بينهما ولم يستطيعا أن يتفقا فلم تستقم المرأة لزوجها أو لم يستقم الزوج لزوجته وتمادى الشر بينهما، فإن الحاكم يبعث حكمين من أهلهما، حكماً من أهل المرأة وحكماً من أهل الرجل كما قال تعالى: {فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} ، وهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هل يشترط أن يكون الحكم من أهلها ومن أهله؟
المشهور في المذهب أن ذلك لا يشترط.
واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك وهو ظاهر الآية الكريمة، والمعنى يدل على ذلك فإن الحكم من أهلها يطلع على باطن الأمر ويعرف من أحوالهما ما يهتدى به إلى الإصلاح بينهما ومعرفة هل الأنسب أن يفرق بينهما أم أن يجمع بينهما، فالأرجح أن هذا شرط.(20/136)
المسألة الثانية: هل هما حَكَمان أم وكيلان؟
هل حكمان أي يحكمان بما شاءا مما رأيا فيه مصلحة من تفريق أو جمع أم هما وكيلان عن الزوجين فليس لهما أن يفرقا إلا بإذن من الزوجين؟
المشهور في المذهب أنهما وكيلان، فالحكم الأول وكيل عن المرأة، والحكم الثاني وكيل عن الرجل، وليس لهما أن يفرقا بينهما سواء كان بعوض أو بغير عوض إلا بإذن الزوجين.
وذهب المالكية إلى أنهما حكمان، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو القول الراجح وهو ظاهر الآية الكريمة، فإن الله سماه حكماً، ولم يسمه وكيلاً، ثم إن الله أمر الإمام بذلك فقال: (فابعثوا - أيها الحكام - حكماً من أهله وحكماً من أهلها) ، والتوكيل لا يحتاج إلى أمر من الإمام بل هو ابتداءً منهما.
المسألة الثالثة: أنه يشترط في الحكمين العدالة والإسلام والذكورية.
هل يشترط في الحكمين الحرية والفقه أم لا؟
المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يكونا حريين، والقول الثاني في المسألة: لا يشترط، وهو الراجح لإطلاق الآية الكريمة، ولا مانع من أن يكون الرقيق حكماً، وأما اشتراط الفقه وعدمه، فهو ينبني على المسألة المتقدمة وهي هل هي وكالة أم حكم، فإن كانت حكماً فيشترط فيه أن يكون فقيهاً أي فقيهاً في مثل هذه المسائل، وإن قلنا هي وكالة فلا يشترط أن يكون فقيهاً، والأول هو الظاهر بناءً على المسألة المتقدمة وأنهما حكمان، فعليه يشترط أن يكونا، مسلمين، مكلفين، عدلين، ذكريين، ولا يشترط أن يكونا حريين، ويشترط أن يكونا فقيهين في هذه المسائل.
مسألة:
هل يجوز أن يكون الهجر في خارج البيت؟(20/137)
ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي وغيرهم من حديث معاوية بن حيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له: ما حق زوجة أحدنا عليه فقال: (أن تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) والحديث حسن، فهذا فيه ألا يهجر إلا في البيت والله قيده في القرآن بقوله: {واهجروهن في المضاجع} ، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: آلى من نسائه شهراً فأقام في مشربه – أي غرفه – تسعة وعشرين يوماً فقيل له: آليت شهرا، ً فقال: (الشهر تسع وعشرون) ، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - هجرهن في غير البيوت، وبوب عليه البخاري، والجمع بينهما أنه ينظر إلى الأصلح، فإن كان الأصلح هجرها في البيت هجرها فيه وهو الأولى، وإن كان الأصلح هجرها في خارج البيت هجرها في خارجه.
الدرس التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب الخلع
الخلع لغةً: مصدر خلع، وخلع المرأة خلعاً.
وذلك أن المرأة لباس للرجل، والرجل لباس المرأة كما قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ، فإذا افتدت المرأة نفسها من زوجها على عوض تبذله له فهذا خلع لأنها قد خلعت زوجها وزوجها لباس لها.
وإصطلاحاً: فراق الرجل امرأته على عوض تبذله له، والأصل فيه قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، لا جناح على المرأة في فراق الرجل، ولا جناح على الرجل في فراقها على هذا العوض.
قال: [من صح تبرعه من زوجةٍ وأجنبي صح بذله لعوضه]
من صح تبرعه وهو الحر الرشيد غير المحجور عليه لحظ نفسه، فإنه يصح بذله لعوض الخلع، سواء كان الباذل للعوض الزوجة أو أجنبي كولي المرأة أو غيره، فلا يصح بذل العوض إلا لمن يصح تبرعه لأن العوض تبرع فلا يصح إلا ممن يصح تبرعه، أما المحجور عليه لحظ غيره، فإن بذله للعوض صحيح، وذلك لأن ذمته سالمة ويصح له أن يتصرف فيها.
فالقاعدة: أن من صح تبرعه صح بذله للعوض.(20/138)
وعليه فإذا كانت الزوجة لا يصح تبرعها كأن تكون أمةً أو صبية صغيرة أو سفيهة فلا يصح بذلها للعوض لأن تصرفها غير صحيح، وكذلك إذا كان الأجنبي الباذل للعوض الذي يريد خلع هذه المرأة من زوجها إذا كان صبياً أو سفيهاً أونحوذلك فلا تصح مخالعته لأن بذله للعوض لا يصح.
قال: [فإذا كرهت خُلق زوجها أو خَلقه]
فإذا كرهت خلقه بأن كان سيء الخلق – أي سيء الصورة الباطنة -، أو كرهت خَلق زوجها كأن يكون سيء الصورة.
قال: [أو نقص دينه]
كأن يكون لا يقيم الجماعة، والجماعة واجبة، أو لفعل غير ذلك من المعاصي التي يثبت الفسق معها على الزوج، أو كرهت كبره أو ضعفه أو نحو ذلك.
قال: [أو خافت إثماً بترك حقه أبيح الخلع]
فيباح للمرأة أن تخالع إن كرهت من زوجها خلقاً أو خلقاً أو كرهت كبره أو ضعفه أو نقص دينه أو خشيت ألا تقيم حدود الله معه، أي كرهت كفران العشير، وفي البخاري: أن امرأة ثابت بن قيس قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:" ما أنقم من ثابت خلقاً ولا ديناً ولكن أكره الكفر في الإسلام – أي أكره الكفر الأصغر وهو كفران العشير – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتردين عليه حديقته؟ – أي وكانت مهراً لها – قالت: نعم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وليس للزوج في المشهور من المذهب الإجابة أي حيث كان ما تقدم بأن كرهت خَلقه أو خُلقه أو غير ذلك، والقول الثاني في المسألة وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب ذلك، فيجب عليه أن يقبل العوض الذي دفعته ا
لمرأة ويطلقها، وهذا القول أظهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وهذا الأمر للوجوب ولما فيه من إزالة الضرر عن المرأة مع ثبوت حق الرجل وعدم ضياع حقه، وهذا هو الذي يترجح، وعليه فالقاضي يلزمه بذلك.
قال: [وإلا كره ووقع](20/139)
أي وإلا يكن الأمر كما تقدم فإن ذلك مكروه، فإن كانت الحال مستقيمة بين الزوجين، فليس بينهما ما يخشى معه عدم القيام بالحقوق الزوجية فحينئذٍ يكره الخلع، ويقع الخلع، هذا هو مذهب جمهور العلماء، والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن الخلع هنا محرم وهو قول ابن المنذر وداوود الظاهري ودليل ذلك، ما روى أحمد وأبو داوود وغيرهما، والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) ، فهذا يدل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها من كبائر الذنوب، وفي الترمذي وغيره، والحديث صحيح: (المختلعات هن المنافقات) ، فعلى ذلك الراجح هو التحريم، ووقوع الخلع فيه خلاف فالقول الثاني في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية وقول ابن النذر: أن الخلع باطل وأن الثمن مردود، وهو الراجح وذلك لأن الخلع محرم ومنهي عنه والنهي يقتضي الفساد.
قال: [فإن عضلها ظلماً للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضاً ففعلت ….لم يصح الخلع](20/140)
إذا عضل الزوج امرأته ظلماً أي ضربها أو ضيق عليها أو منعها شيئاً من الحقوق الزوجية، كأن يمتنع من وطئها أو المبيت عندها أو نحو ذلك، إذا فعل ذلك ظلماً لتفتدي منه، ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضها كأن تترك الصوم أو غيره من الفرائض، ففعلت أي اختلعت منه فدفعت له عوضاً وخلعها، فلا يصح الخلع لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، والنهي يقتضي التحريم والبطلان، وعليه فالعوض مردود لأنه قد أخذه بغير حق، أما إذا كان منها زناً أو نشوز أو ترك شيء من الفرائض فعضلها لتفتدي منه، فإن الخلع يصح وذلك لأنه أخذ العوض هنا بحق وقد قال تعالى: {إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، وكذا النشوز وترك الفرض فإن له أن يعضلها على ذلك لتفتدي منه وظاهر كلام المؤلف أنه إن عضلها لتفتدي منه فافتدت فإن الخلع يصح، لأنه قيده هنا بالإفتداء فلو أن رجلاً عضل امرأته ظلماً بغير حق ولم يكن ينوي أن تفتدي منه لكنها افتدت منه، فالخلع يصح، وله أخذ العوض في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أنه لا يحل أيضاً، وعليه فالخلع باطل وهذا هو الراجح، وذلك لأنه أخذٌ للمال بوسيلة الظلم فإنه وإن لم ينوِ لكنه كان ظالماً لها، وبسبب هذا الظلم توصل إلى هذا المال.
قال: [أو خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع](20/141)
فالأمة إذا أذن لها السيد بالخلع فالخلع صحيح، لأن الرقيق إنما يمنع من التصرف بغير إذن السيد، قالوا: وأما الصغيرة والسفيهة فليس لهما المخالعة ولو أذن الولي، وأما المجنونة فهو ظاهر لأنه لا عقل لها فلا اعتبار بإذن الولي لها، واختار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي وهو الراجح؛ أن الصغيرة والسفيهة إذا أذن لهما الولي بالخلع، فالخلع صحيح كسائر المعاملات، فلا فرق بين الخلع وبين غيره من المعاملات، وهذا هو الراجح، وما يخشى من سوء تصرفها فمدفوع بإذن الولي، وليس للولي أن يأذن إلا حين كان في ذلك مصلحة لها.
مسألة:
هل للأب أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها أم ليس له ذلك؟
المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك، فمثلاً؛ دفع لها هذا الرجل داراً مهراً لها ثم تبين للولي أن في هذا الرجل سوء خلق أو غير ذلك – فهل للأب أن يخلع البنت بما لها بأن يقول: خذ هذه الدار التي أمهرتها إياها واخلع ابنتي – ليس له ذلك في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من الحنابلة ومال إليه الموفق واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك جائز، وذلك لابد له أن يتملك من مال البلد ما شاء، وأولى من ذلك أن يكون له الحق في خلعها من زوجها لما في ذلك من دفع الضرر عنها، وهذا هو الراجح، لكن ليس له ذلك إلا أن يكون فيه مصلحة للبنت.
قال: [ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
هذه المسألة فيما إذا خلع، وكان العوض محرماً أي مردوداً، كأن تخالع الصغيرة أو السفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها ونحو ذلك فالخلع لا يصح، كما تقدم لكن هل يقع الطلاق أم لا؟
في المسألة تفصيل:
فإن كان الخلع بلفظ الخلع أو نية الخلع فالطلاق لا يقع لأن الخلع قد بطل ولا طلاق، فليس هنا لفظ طلاق ولا نية طلاق.(20/142)
الحالة الثانية؛ أن يتلفظ بالطلاق أو ينويه كأن تقول: " خذ هذا المال عوضاً "، فيقول: " قد طلقتك " أو " قد خالعتك " أو " فارقتك " وينوي الطلاق، فحينئذٍ يصح الطلاق ويكون طلاقاً رجعياً أي إن لم يتم عدده، لكن لو كان قد تم عدده كأن يكون قد طلقها طلقتين سابقتين ثم خالعها بنية الطلاق أو تلفظٍ بالطلاق فحينئذٍ يكون الطلاق بائناً، هذا هو المشهور في المذهب، وهم هنا قد نظروا إلى اللفظ أو النية، فإذا تلفظ بالطلاق ونواه فإنه يقع وإن كان العوض موجوداً.
القول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو القول الصحيح في هذه المسألة: أن الطلاق لا يقع واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد وذلك لأنه إنما فسخ للعوض، فإذا لم يحصل العوض لم يحصل المعوّض، فالمعوض هو الفراق، والعوض هنا هو هذا المال الذي قد دفعه إليه، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ ولا بالمباني، وهنا هو طلاق على عوض فهو خلع، والطلاق الذي يكون فيه ما ذكره الحنابلة إنما هو الطلاق الذي لا يكون على عوض، أما هنا فهو طلاق على عوض فهو خلع سواءً كان بلفظ الطلاق أو كان بغير لفظه، وسواء كان بنية الطلاق أو بغير نيته، فليس بطلاق لأنه بمعنى الخلع، فالراجح أن العوض إذا كان مردوداً إلى المرأة فالمعوض مردود إليه فلا يقع الطلاق وإن نواه أو تلفظ به.
الدرس الأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [والخلع بلفظ صريح الطلاق]
بأن يقول للمختلعة: طلقتك، فهذا صريح الطلاق.
قال: [أو كناياته وقصده]
أي كناية الطلاق وقصده، بأي لفظ من الألفاظ، كأن يقول للمختلعة: " أبَنْتُكِ " وينوي الطلاق.
قال: [طلاق بائن](20/143)
فهو طلاق بائن، أما كونه طلاقاً فلاعتبار اللفظ، أو الكناية مع النية فقد تلفظ به أو نواه مع كنايته فكان طلاقاً، وأما كونه بائناً لا رجعياً، لما كانت مالكة لنفسها، لأن له حق المراجعة، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور العلماء، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه فسخ ولو كان بلفظ الطلاق أو كنايته مع قصده وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، فالعبرة ليست بالألفاظ وإنما بالمعاني، فهنا قد قال: " طلقتك " لكنه ليس هو الطلاق المطلق بل هو طلاق مقيد حيث فيه العوض، فهو فداء وليس بطلاق، فلا عبرة بلفظه ولا بنيته مع كنايته، يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزوج المختلعة: (وطلقها تطليقه) ، ومع ذلك فقد جعل عدتها حيضة، ولو كان طلاقاً لجعل عدتها ثلاث حيض، لأن عدة المطلقة ثلاث قروء بنص القرآن وإجماع أهل العلم، فدل على أنه فسخ وليس بطلاق بائن وإن كان بلفظ الطلاق، فالراجح هو القول الثاني وهو أنه فسخ وليس بطلاق، وثمرة الخلاف:- أنا إذا قلنا: إنه طلاق بائن، فإنها تحسب عليه ثلاث طلقات إن خالعها ثلاثاً فلا يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره وإن قلنا هو فسخ: فإذا خالعها ثم نكحها بعد ذلك فلا يحسب عليه طلقة بل لو خلعها عدة مرات فله أن ينكحها من غير تقييد ذلك بنكاح زوج آخر، وهذه الثمرة ثابتة في المسألة الأخرى وهي..
قال: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً، لا ينقص عدد الطلاق](20/144)
إذا وقع بلفظ الخلع كأن يقول: " خالعتك "، أو بلفظ الفسخ كأن يقول: " فسختك "، أو الفداء بأن يقول: " فاديتك "، ولم ينوه طلاقاً فإنه يكون فسخاً، هذا هو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي، وأما الجمهور فقالوا: هو طلاق بائن أيضاً، ويستدلون بما تقدم ذكره في المسألة الأولى، وهو قول ضعيف كما تقدم، والراجح أنه فسخ، لما تقدم في قصة المختلعة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة وهذا يدل على أنه ليس بطلاق بائن، إذ لو كان طلاقاً بائناً لأمرها أن تعتد بثلاثة قروء، ويدل عليه أيضاً أن الله عز وجل قال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان …..إلى أن قال …. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به …. إلى أن قال … فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، فذكر طلقتين أولاً، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر طلقة، فلو كان الخلع طلاقاً لكانت الطلقة التي ذكرها في {فإن طلقها} رابعة لا ثالثة وهذا ممتنع باتفاق أهل العلم، فدل على أنه فداء وليس بطلاق، ويدل عليه أيضاً أن الله ذكره بلفظ الفداء فقال: {فيما افتدت به} ، فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة فإذا قال: فسختك أو فاديتك أو نحو ذلك من ألفاظ الخلع فإنه فسخ وليس بطلاق، وعليه فكل طلاق بعوض سواء كان بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق، وسواء كان بنية الخلع أو بنية الطلاق فهو فسخ وليس بطلاق بائن في الراجح من المسألتين المتقدمتين، وهوا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وفي قوله: " لا ينقص عدد الطلاق "، فإذا طلقها مرتين مثلاً ثم اختلعت منه فيحل له أن ينكحها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجاً آخر، فلا تجب عليه طلقة بل هو فسخ.
قال: [ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاقٌ]
إذا طلبت منه امرأته الخلع، فخالعها، فإذا طلقها بعد ذلك فإن هذا الطلاق لا يقع وذلك لأنه لا يملك بضعها فهي أجنبية عنه.
قال: [ولو واجهها به](20/145)
هذا إشارة إلى خلاف أبي حنيفة في هذه المسألة وهو: أنه إذا واجهها بالطلاق الصريح المعين فإنها تحسب طلقة وهو قول ضعيف ولا دليل عليه، والطلاق الصريح بأن يقول: " أنت طالق "، فقوله: " طالق " طلاق صريح وليس بكناية، وهو معين لقوله " أنت "، بخلاف ما لو كان مرسلاً كأن يقول: " كل نسائي طوالق " فلا تطلق عليه المختلعة، هذا مذهب أبي حنيفة ولا دليل عليه، فالراجح أنه لا فرق بين ما إذا واجهها بالطلاق الصريح أو لم يواجهها بل كله لا يقع.
قال: [ولا يصح شرط الرجعة فيه]
إذا شرط الرجعة في الخلع، فلا يصح الشرط، كأن يقول " نعم أقبل هذا الفداء بشرط أن يكون لي حق الرجعة " فهنا لا يصح الشرط، وذلك لمخالفة مقتضى عقد الخلع، فإن مقتضاه البينونة الصغرى، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية؛ أن هذا الشرط يصح فيكون الخلع رجعياً لكن العوض مردود، فالعوض يرد والشرط يصح، والراجح هو القول الأول وذلك لأن هذا الشرط يخالف الشرع، فإن الشرع إنما أذن في الخلع حيث كانت البينونة، بخلاف الطلاق فإنه في الأصل يكون طلاقاً رجعياً، وهنا ليس طلاقاً وإنما فيه عوض، والأصل أن الزوج إنما يملك الطلاق ولا يملك الفسخ وهو إنما ملك الفسخ هنا بالعوض المدفوع، فإذا أثبتنا له حق الرجعة فإن ذلك يخالف الشرع.
قال: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح](20/146)
إذا خالعها بغير عوض كأن يقول: فسختك أو خالعتك بلا عوض أي مجاناً فهذا الخلع باطل، وذلك لأن الفسخ الوارد في الشرع إنما هو فسخ بعوض، فالزوج إنما يملك في الأصل الطلاق، وإنما أذن له بالفسخ حيث كان العوض، وهنا لا عوض فلا حق له بالفسخ، وليس هذا هو الخلع الوارد في الشرع وعليه فيكون هذا الخلع باطلاً، إذا خالعها بمحرم يعلمه الزوج كأن يخالعها على خمر وهو يعلم أنه خمر، أو خالعها على مغصوب وهو يعلم أنه مغصوب، أو على حرٍ وهو يعلم أنه حرٍ، فهنا الخلع باطل، وذلك لأن الخمر لا قيمة له فهو محرم والمحرم لا قيمة له، فكما لو كان بلا عوض، وكذلك لو خالعها على مغصوب أو على حرٍ وهو يعلم ذلك، وذلك لأنه رضي بشيء لا قيمة له، والشيء الذي لا قيمة له ليس بشيء، فكما لو كان بلا عوض، هذا إذا كان يعلم التحريم، وأما إذا كان يجهله كأن يخالعها على خمر ظنه خلاً أو على حرٍ ظنه عبداً أو على مغصوب ظنه مملوكاً فيثبت له البدل لأنه إنما خالع على عوضٍ له بدل فكان الواجب البدل، فإذا خالعها على دار فثبت أن هذه الدار مستحقة للغير فهي مغصوبة فإن العوض دار بقيمتها، كذلك إذا كان على حرٍ ظنه عبداً، فيكون على عبدٍ بقيمته وهكذا.
قال: [ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
وهذا كالمسألة التي تقدم البحث فيها في الدرس السابق.
قال: [وما صح مهراً صح الخلع به]
فهل ما صح مهراً يصح الخلع به، وقد تقدم ما صح مهراً؟
دليل هذه المسألة عموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي في الذي افتدت به، ولفظة " ما " من ألفاظ العموم فكل ما صح مهراً فإنه يصح الخلع به، كنفعٍ أو دين أو عين أو نحو ذلك.
قال: [ويكره بأكثر مما أعطاها]
فإذا كان قد أمهرها عشرة آلاف درهم فيُكره أن يكون الخلع عشرين ألفاً، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:(20/147)
القول الأول: الجواز بلا كراهة، وهو مذهب الجمهور لعموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، وقالوا: هذا يعم القليل والكثير.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة وهو ما ذكر المؤلف هنا وهو أن ذلك مكروه فهو جائز مع الكراهة، واستدلوا بما روى ابن ماجة بإسنادٍ صحيح وجود إسناده ابن كثير في قصة المختلعة في حديث ابن عباس وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترد إليه الحديقة " ولا يزداد " أي لا يزيد عليها، وله شاهد مرسل عند البيهقي عن عطاء.
والقول الثالث في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، وهو قول طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس والزهري أن ذلك محرم مردود.
ويستدلون بالحديث المتقدم وهو قوله: " ولا تزداد "، والنهي يقتضي التحريم والفساد، وهذا القول فيه قوة فيخصص به عموم الآية المتقدمة ويجاب عن الآية المتقدمة بأنها مسبوقة بقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً … إلى أن قال.. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور المتقدم الذي لا يحل لكم، فلا يحل أن تأخذوا من مهور النساء الذي دفعتموه لهن، لا يحل لكم ذلك إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم في ذلك، إذن قوله تعالى: {فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور وهو المهر الذي لا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً، وهذا القول في قوة.
قال: [وإن خالعت حاملٌ بنفقة عدتها صح](20/148)