فالسنة أن يربع فيحمل بجوانب السرير كلها، لكن إن قام بين العمودين حاملاً للجنازة – على كاهله فذلك حسن إن شاء الله.
قال: (ويسن الإسراع بها)
يستحب له أن يسرع بالجنازة.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (1) ، قال أبو بكرة: (والذي كرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملاً) (2) والرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى.
" إنا لنكاد ": فهم لا يرملون لكنهم يكادون ذلك، وذلك لأن في الرمل أذى للجنازة وأذى للمتبع، ففي الإسراع الشديد أذى للجنازة فقد يخرج شيء من الخارج بسبب هذا الإسراع، وقد يحدث شيء من الانفصال في بعض الأعضاء، وكذلك المتبعون يتأذون بذلك.
قال: (وكون المشاة أمامها والركبان خلفها)
يستحب – في المشهور من المذهب – أن يكون الماشي أمام الجنازة.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة. (1315) (1316) . صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة (944) .
(2) أخرجه أبو داود رقم (3182) [3/ 524] بلفظ: " عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيا خفيفا، فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرمل رملاً ".(8/206)
وذلك لما روى الخمسة بإسناد صحيح – وقد اختلف في وصله وإرساله والراجح الوصل – عن ابن عمر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة) (1) وفي الترمذي: (وعثمان) (2) .
وأما الراكبون فيستحب أن يكونوا خلفها لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) (3) .
وفي بقيته حجة لما ذهب إليه بعض أهل العلم كالموفق ابن قدامة في الكافي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد: إلى أن المستحب للماشي أن يكون حيث شاء، فإن كان أمامها أوخلفها أو عن يمينها أو عن يسارها فلا بأس بذلك.
وابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة (4) ، وقد ثبت في الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى خلفها (5) .
فعلى ذلك: المستحب للماشي أن يمشي حيث شاء، أما ما رآه ابن عمر فتلك واقعة عين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال – كما تقدم -: (والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) . وأما الراكب فلا يستحب إلا أن يكون خلفها.
وهل يستحب له أن يركب أم لا؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3179) . والترمذي 1007، والنسائي 1946، وابن ماجه 1482، وقال الترمذي: " وأهل الحديث كأنهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح ".. " سنن أبي داود [3 / 522] .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) (3180) بلفظ: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها، والسقط.. ". والترمذي 1031، والنسائي 1944 وقال الترمذي: " حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] .(8/207)
الأفضل له ألا يركب بل يستحب أن يمشي في الذهاب، وأما في الإياب فلا بأس بالركوب، فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها فلما انصرفوا أتى بها فركبها فسئل عن ذلك فقال: إن الملائكة كانت تمشي مع الجنازة فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت) (1) .
لكن إن كان في ذهابه مشقة أو كانت الجنازة لا تحمل بالأيدي بل على الرواحل فلا بأس أن يركب.
أما إذا كان موضع دفن الجنازة قريب وحملوها بأيديهم فيستحب ألا يركب، لكن إن ركب - وذلك جائز له -، فإنه يمشي خلفها.
قال: (ويكره جلوس تابعها حتى توضع)
هنا ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تمرَّ الجنازة.
الصورة الثانية: أن يتبعها.
الصورة الثالثة: أن يسبقها فيأتي قبل أن تأتي الجنازة.
أما الصورة الأولى: وهي عند مرور الجنازة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما مر بجنازة يهودي قام فسئل عن ذلك فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا) (2) متفق عليه.
قال الحنابلة وغيرهم: هذا الحديث منسوخ بما ثبت في مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام ثم قعد) (3) ، وفي مسند أحمد بإسناد صحيح: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة ثم جلس وأمرنا بالجلوس) (4) .
فقالوا: كان ذلك مستحباً ثم نسخ فالمستحب له ألا يقوم.
ومثل ذلك: الصورة الثالثة: وهي فيما إذا سبق الناس إلى المقبرة ثم أتى الناس بالجنازة فلا يستحب له أن يقوم بل يبقى جالساً، وقد روى ذلك الترمذي عن طائفة من الصحابة، وهذا نظير المسألة السابقة لأنه ليس متبع لها فهو في حكم من مرت عليه الجنازة.
أما الصورة الثانية: وهي من اتبعها.
فالمشهور في مذهب الحنابلة – أنه يستحب له أن يقوم فلا يجلس حتى توضع على الأرض.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (48) الركوب في الجنازة (3177) .(8/208)
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى توضع) (1) وفي رواية سفيان: (حتى توضع على الأرض) (2) .
وقالوا: وحديث على المتقدم إنما نسخ القيام ابتداءً وأما استدامة ذلك لمن تبعها فإن حديث علي لا ينسخ ذلك.
- وقال جمهور العلماء: بل هو منسوخ.
واستدلوا: برواية للبيهقي من حديث علي بإسناد جيد قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم على الجنازة حتى توضع فقام الناس معه ثم قعد وأمرهم بالقعود) (3) .
ولا فرق بين هذه الصورة وبين الصورتين السابقتين في الحكم.
فما ذهب إليه الجمهور من القول بالنسخ أصح، والحديث الذي رواه البيهقي يدل على ذلك.
فعلى ذلك: كل القيام منسوخ فلا يستحب أن يقوم لها إن مرت، ولا يستحب أن يقوم في المقبرة إن سبقهم فجاءت، ولا يستحب أن يستديم القيام وهو متبع لها. بل متى شاء جلس لا بأس بذلك ولا حرج – كما هو مذهب الشافعية وغيرهم من أهل العلم.
قال: (ويسجى قبر امرأة فقط)
أي يغطي قبر المرأة، أما قبر الرجل فلا.
ودليل ذلك: ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن أبي إسحاق السبيعي قال: (شهدت جنازة الحارث فأبى عبد الله بن يزيد " وهو صحابي " أن يسجوه بثوب وقال: إنه رجل) (4) .
وقد اتفق العلماء على استحباب تسجية قبر المرأة عند الدفن. وأما الرجل فلا يستحب ذلك، وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جلل قبر سعد بن معاذ بثوب) (5) فالحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي، وهو كما قال، فالحديث إسناده ضعيف. وبه قال الشافعية لكن الحديث ضعيف.
قال: (واللحد أفضل من الشق) .
اللحد: أن يحفر القبر ثم يحفر للميت على حائط القبر - أى بأحد الجهتين من القبر، والمستحب أن تكون في الجهة التي تلي القبلة، فلا يكون ذلك في الوسط -.(8/209)
ودليل ذلك – أي استحباب اللحد وأفضليته على الشق – ما ثبت في مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: (الحدو إلي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع بالنبي صلى الله عليه وسلم) (1) .
وعند الأربعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشقة لغيرنا) (2) ، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله، فالحديث حسن.
لكن الشق جائز بإجماع العلماء كما حكى ذلك النووي، ومما يدل على جوازه ما ثبت في ابن ماجه من حديث أنس قال: (لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة رجل يَلْحَد وآخر يُضَرِّح " أي يشق " فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه [فأرسِل إليهما] فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم) (3) .
وهو ثابت – أيضاً – في ابن ماجه من حديث عائشة، والحديث حسن.
ففيه أنه كان في المدينة رجل يضرح أي يشق، فدل على أن ذلك جائز وهذا بالإجماع.
بل قد يكون الشق أفضل فيما إذا كانت الأرض رخوة تنهار فإن الشق يكون أفضل.
وصورة الشق: أن يكون هذا الموضع الذي يشق في الأرض للميت في وسط القبر ويكون الجانبان مرتفعين ويوضع الميت في هذا الشق ثم يبنى عليه في اللبن بناءً.
والمستحب أن يوضع على شقه الأيمن كما يفعل النائم وذلك بلا نزاع كما قال ذلك صاحب الإنصاف، وأن يوجه إلى القبلة لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكعبة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) (4) وهو حديث حسن.
قال: (ويقول مُدْخِلُهُ: بسم الله وعلى ملة رسول الله)
__________
(3) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص183.(8/210)
لما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أدخل ميتاً فقال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله ") (1) ، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله وعلى ملة رسول الله) (2) ، وفي رواية " وعلى سنة رسول الله " (3) ، لكن حديث ابن عمر اختلف في رفعه ووقفه والراجح هو الوقف كما رجح ذلك النسائي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم.
لكن الحجة فيما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أثر موقوف له حكم الرفع.
ولا يقال باستحباب قول ما ورد في ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أدخل ابنته أم كلثوم قرأ {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} ) (4) فالحديث فيه ثلاثة ضعفاء فالحديث إسناده ضعيف جداً.
ولا أصل لقراءة هذه الآية عند الحثيات الثلاث.
ومعلوم أنه يستحب – كما ثبت في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حثى على الميت من قبل رأسه ثلاثاً) (5) .
قال: (ويضعه في لحده على شقة الأيمن مستقبل القبلة، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر)
فيرفع القبر عن الأرض قدر شبر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره من الأرض قدر شبر أو نحو شبر " (6)
ولا يجوز أن يكون مشرفاً فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً وفيه: (وألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) (7) .
أما رفعها قدر شبر فلا بأس، وفي ذلك فائدة تمييزه عن سائر الأرض ليحترم فلا يجلس عليه ولا يؤذي. أما أن يرفع فوق ذلك فلا يجوز.
قال: (مُسَنَّماً) .
كما ثبت عن سفيان التمار قال: (رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) (8) وهذا كما هو في القبور عندناً، كسنام البعير، فهذا هو المستحب.(8/211)
ولا بأس أن يكون مسطحاً لكن المستحب كونه مسنماً.
ويستحب أن يوضع عليه من الحصى الصغير كما فعل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في أبي داود: (أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مبطوحاً ببطحاء العَرْصة الحمراء) (1) والبطحاء هو الحصى الصغير.
ولا بأس أن يرش بالماء ومن ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مرسل، كما في البيهقي: (أنه رش على قبر ابنه ووضع عليه الحصباء) (2) ، وهو مستحب عند أهل العلم وهذا فيه مزيد محافظة عليه. وهذا أثر مرسل ويشهد له عمل المسلمين قديماً وحديثاً وعليه عمل الفقهاء فأهل العلم يستحبون ذلك.
ويستحب أن يوسع القبر وأن يعمق، فقد ثبت في أبي داود والنسائي وهذا لفظ النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفروا ووسعوا وأعمقوا) (3) وإسناده صحيح.
واستحب الإمام أحمد أن يعمق القبر إلى قدر السرة لأن في ذلك حفظاً للميت وليس في ذلك مشقة على الحافر، خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من استحباب كونه كطوله؛ فإن في ذلك مشقة على الحافر وليس في ذلك فائدة، والفائدة تحصل فيما إذا كان إلى السرة.
وهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز كما في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد: (أنه أمر بأن يعمق قبر ابنه إلى السرة) (4) .
فيستحب أن يعمق والذي ينبغي أن يكون ذلك إلى السرة، فإنه يحفظ به الميت ولا يؤذي ذلك الحي ولا يشق عليه ويكون بذلك صيانة الميت فلا يحتاج – حينئذ – على الزيادة على ذلك.
والحمد لله رب العالمين.
مسائل:
المسألة الأولى: في حكم الصلاة على الجنائز بين القبور؟
في هذه المسألة عن الإمام أحمد ثلاث روايات:
الرواية الأولى، وهي المشهورة: أن ذلك جائز، واستدل بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن نافع قال: (صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور والإمام أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر) .
__________
(1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص196(8/212)
الرواية الثانية: أن ذلك مكروه، وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين.
الرواية الثالثة: أن ذلك محرم.
ودليل هاتين الروايتين ما رواه الطبراني في الأوسط والضياء في المختارة عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور " (1) وإسناده حسن.
وأصح هذه الأقوال: القول بكراهية ذلك، وأن هذا النهي يحمل على الكراهية لما تقدم من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وللفرق بين الصلاة ذات الركوع والسجود وبين الصلاة على الجنائز بين القبور، فإن الصلاة ذات الركوع والسجود يخشى فيها ما يخشى من فتح باب الشرك، بخلاف الصلاة التي إنما هي قيام وتكبير ودعاء وقراءة للقرآن، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع على قبر فدل ذلك على أن أصل الصلاة في المقابر ليس حكمها كحكم الصلاة ذات الركوع والسجود.
فعلى ذلك: الأظهر كراهية ذلك.
المسألة الثانية: أنه يكره للنساء اتباع الجنائز، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم عطية قالت: (نهينا عن اتباع الجنازة ولم يعزم علينا) (2) أي لم يعزم علينا بالنهي فيكون ذلك تحريماً وإنما هو للكراهية، ودليل أن ذلك ليس للتحريم ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعها يا عمر فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب) (3) ، فالنهي للكراهية، كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وهو مذهب جمهور العلماء.
المسألة الثالثة: لا يجوز أن تتبع الجنازة بصوت ولا نار.
بصوت: من ذكر أو قراءة للقرآن أو نعي للميت.
أو بنار: لغير حاجة فلا يقصدون الاستضاءة بها وإنما هو حدث في الدين، أما إذا كانوا محتاجين إليها للاستضاءة فلا بأس بذلك.(8/213)
ودليل هذه المسألة: ما رواه أبو داود والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) .
ورفع الأصوات عند الجنائز من هدي اليهود وقد أمرنا بمخالفتهم. وروى البيهقي عن قيس بن عباد قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر) (1) .
المسألة الرابعة: أن اتباع الجنازة ثبت له فضل عظيم، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) (2) .
وهل يثبت الثواب المذكور بمجرد الصلاة أم حتى يتبعها من أهلها؟
ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خرج مع الجنازة من بيتها) (3) وتقدم أثر أبي الدرداء وقال: (من تمام أجر الجنازة إلى أن قال: وأن يتبعها من أهلها) (4) .
استظهر ابن حجر أن الاتباع من بيتها وإلى المسجد وسيلة إلى الصلاة عليه متقصد منه الصلاة عليها، فحينئذ يثبت الأجر ولو لم يتبعها؛ لأن المقصود من ذلك الصلاة.
وفي ذلك نظر، فإن الاتباع مفضل بذاته بالأجر، فإنه له ثواب مختص، ولكن مع ذلك فإن الحكم الذي ذكره راجح وإن كان التعليل المتقدم فيه نظر.
وإنما ينبغي أن يقال – وهو مذكور من الحافظ – أن الثواب يختلف، مع ثبوت أصله: فلمن صلى عليها قيراط، ولمن اتبعها من بيتها فصلى عليها قيراط، وإن كان القيراطان ليستا بدرجة واحدة بل هما متفاوتان.(8/214)
ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (لما كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضر الميت حضره النبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر له حتى يقبض فربما طال عليه ذلك فخشينا مشقة ذلك عليه، فقال بعض القوم: لو كنا لا نؤذن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقبض قال: ففعلنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر استغفر له وربما مكث حتى يدفن قال: ثم قلنا لو كنا نحضر جنائز موتانا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند بيته لكان ذلك أرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأيسر له فكان الأمر على ذلك إلى اليوم) (1) . فدل ذلك على أن الأمر الذي استقر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يأتي إلى البيت فيتبع الجنازة بل كان تحضر له الجنائز عند بيته فيصلي عليها، فدل ذلك على أنه يثبت هذا القيراط وإن لم يتبعها من بيتها، لكن أن اتبعها من بيتها فإنه له قيراطاً أعظم من قيراط الأول.
أما القيراط فيمن تبعها حتى تدفن، هل يكون بوضعها في اللحد أم يكون حتى يفرغ من دفنها؟
في صحيح مسلم: (حتى توضع في اللحد) وظاهره أنها متى وضعت في اللحد.
وقيل: أن يوضع عليها اللبن ويهال عليها التراب ويفرغ من دفنها أنه يثبت له القيراط.
وفي رواية البخاري: (حتى يفرغ من دفنها) وعند أبي عوانة: (ويسوى عليها التراب) .
وكما قلنا في المسألة السابقة نقول في هذه المسألة فلكل قيراط لكن ذلك مع التفاوت.
المسألة الخامسة: يستحب أن يُدخل الميت من قبل رجلي القبر فيؤتى به من قبل رجلي القبر " أي المكان المختص بالرجلين " فيوضع الرأس بسمته ثم يسل سلاً حتى يوضع الرأس في موضعه ثم تنزل القدمان في موضعها؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد: (أنه أدخل الميت من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة) .(8/215)
وأما ما رواه الترمذي من أنه يدخل من قبل القبلة، فإن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة ومنهال بن خليفة وهما ضعيفان.
فالصحيح مذهب الجمهور من أنه يدخل من قبل رجلي القبر ثم يسل سلاً حتى يدخل في القبر.
المسألة السادسة: أنه يستحب أن يوقف عند قبره قليلاً بعد الفراغ من دفنه ويستغفر له؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عثمان قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .
وهل يستحب تلقينه أم لا؟
المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك، واستدلوا بحديث وأثر.
أما الحديث بإسناد ضعيف جداً، وهو ما رواه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (يقال: له يا فلان ابن فلانة فحينئذ يسمع ولا يجيب ثم يقال: يا فلان بن فلانة فيجلس ثم يقال يا فلان بن فلانة فيقول: أرشدوني أرشدكم الله ثم يرشد ويلقن بلا إله إلا الله وبملة الإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيتولى عنه منكر ونكير ويقولان: كيف بكم برجل قد لقن حجته " قال الهيثمي: (فيه رجال لا اعرفهم) وقد ضعفه ابن القيم وابن حجر والنووي والعراقي وابن الصلاح وغيرهم.
وأما الأثر فهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن ضمرة بن حبيب قال: (كانوا يستحبون – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – إذا سوي على الميت قبره وانصرف عنه الناس أن يقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله – ثلاثاً – يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم) لكن هذا الأثر ضعيف فإن فيه أبو بكر ابن أبي مريم وهو ضعيف.
وذهب الأحناف: إلى كراهية ذلك.
وهو الصحيح؛ فإن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة ولم يصح لنا عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يستحب أن يدعى له ويسأل له التثبيت ويستغفر له – من غير أن يلقن ذلك.(8/216)
وهل يستحب أن يوقف على القبر طويلاً أم لا؟
لا يستحب ذلك؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن فعل فلا بأس، فقد ثبت في مسلم عن عمرو بن العاص قال: (إذا مت فقوموا على قبري قدر ما تنحر جزور ثم يقسم حتى أستأنس بكم وأعلم بما أراجع به رسل ربي)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره تجصيصه)
فيكره أن يجصص القبر وأن يزخرف ويزين.
هذا للكراهية في المشهور من المذهب وغيرهم من الفقهاء.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يخصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) .
والصحيح أن هذا النهي للتحريم؛ كما هو ظاهر الحديث، وهو ما اختاره الصنعاني.
بل ذلك من كبائر الذنوب فهو فتح لباب الشرك الأعظم فإن من أعظم ذرائع الشرك تعظيم القبور بتجصيصها والبناء عليها وزخرفتها، وهي مما كان عليه اليهود النصارى ومما وقعت هذه الأمة بالتشبه بهم فيه.
فعلى ذلك هذا من أعظم المنكرات فلا يقال بكراهيته فحسب بل هو محرم مقطوع بتحريمه لأن النص فيه، ولو لم يثبت النص به فهو محرم قطعاً؛ لأنه ذريعة إلى الشرك فكيف وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (والبناء عليه)
فهو محرم كما تقدم.
قال: (والكتابة)
الكتابة على القبر مكروهة.
ودليله ما ثبت في النسائي من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يكتب عليه) .
وظاهر ذلك المنع مطلقاً سواء كانت الكتابة مزخرفة أم لا، وسواء كانت الكتابة فيها ألفاظ ثناء على الميت أم لم يكن فيها ذلك، فإنها منهي عنها مطلقاً ولا شك أنها ذريعة إلى الشرك.
لكن قال الحاكم في مستدركه: (وليس العمل على هذا عند أهل العلم فإن أئمة المسلمين في الشرق والغرب مكتوب على قبورهم) .(8/217)
وتعقبه الذهبي: بأن هذا لم يصح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله بعض التابعين فمن بعدهم ممن لم يبلغهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن ذلك لا يجوز.
* لكن هل يجوز أن يكون ذلك علامة إن لم يتمكن أهل الميت أن يضعوا علامة عليه لكثرة القبور وعدم التمييز بغير الكتابة؟
ذهب طائفة من أهل العلم إلى جواز ذلك، وإنها إذا وضعت الكتابة مجردة واكتفى بالاسم فحسب فإن ذلك لا بأس به بشرط ألا يتمكن من وضع علامة غيرها، وذلك للحاجة إلى معرفة قبر الميت.
فقد ثبت في سنن أبي داود أن صلى الله عليه وسلم: (وضع صخرة عند رأس عثمان بن مظعون وقال: أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي) .
وهذا القول حسن إن شاء الله.
وفي هذا الحديث فائدة وهو أن قبر الميت ودفنه عند خاصته وأقاربه ومعارفه وعند أهل الخير والصلاح أمر حسن فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فوضع علامة عند قبر عثمان بن مظعون وكان من خيار الصحابة وعبادهم وذلك أيضاً: لتسهل عليه الزيارة فيأتي بالزيارة الواحدة فيجمعهم.
فلا بأس أن يتقصد المقابر التي فيها الصالحون كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأدفن إليه من مات من أهلي)
قال: (والجلوس)
الجلوس على القبر منهي عنه، وقد تقدم قول جابر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن يقعد عليه) ، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن أن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي " وهو من الأمور المعجزة التي تشق على النفس " أحب إلى من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَطَ السوق قضيت حاجتي أم وسط القبور) رواه ابن ماجه.
وهذا فيه النهي عن المشي ولا شك أن المشي أعظم من القعود.(8/218)
وفيه – أيضاً – النهي عن قضاء الحاجة في المقابر، أما على القبر فهو محرم – في المشهور من المذهب –، وأما بين القبور فقد كرهه الإمام أحمد كراهية شديدة، ونص بعض أصحابه على أنه محرم – وهذا هو الظاهر؛ لما فيه من أذية الميت والميت له حرمته. ولا شك أن فعل ذلك على القبر محرم قطعاً، وإن كان فعله بين القبور أهون من ذلك.
ويكره له في المشهور من المذهب أن يمشي بين القبور في نعليه لما روى الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور بنعليه فقال: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) .
والحدث ظاهره التحريم فإن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك وأمر بالقاء السبتيتين، وظاهر ذلك تحريم هذا، وإلى هذا نحا ابن حزم والشوكاني وأن المشي بين القبور بالنعال محرم، وهو قول قوي.
لكن يستثنى من ذلك إن احتاج إلى المشي بالنعال كأن تكون المقبرة ذات شوك أو أن تكون الأرض باردة أو شديدة الحرارة، أو أن يكون به مرض يتأذى من المشي حافياً فحينئذ لا حرج عليه بأن يمشي حافياً.
وأما ما أجاب به الخطابي من أن ذلك في النعلين السبتيتين فحسب لأنهما من لباس الخيلاء، فهذا ضعيف؛ فليستا من لباس الخيلاء، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لبس النعال السبتية) .
فعلى ذلك: ينهى عن المشي بين القبور بالنعال إلا أن يحتاج إلى ذلك.
كما أنه ينهى عن الحديث بأمر الدنيا وعن الضحك ونحو ذلك؛ لأن الموضع موضع تذكر واتعاظ فينافي ذلك مقصود الشارع مما يكون في زيارة المقابر واتباع الجنائز من الاتعاظ والتذكر ونحو ذلك، والاشتغال بالضحك والحديث بالدنيا ينافي هذا، فكان ذلك منهيا عنه تحصيلاً لمقصد الشرع من اتباع الجنازة وزيارة المقابر.
قال: (والوطء عليه والاتكاء إليه)
وهذا لما تقدم فإن هذه من جنس ما وردت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(8/219)
قال: (ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر)
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن الحفر لكل إنسان شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفروا وأعمقوا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد) .
قالوا: فهذا يدل على أن الأصل أن يقبر الميت في قبره وحده، وهذا كما فعل بعثمان بن مظعون وغيره من الصحابة.
وما ذكره الحنابلة من نظر.
فقد وجد جمهور أهل العلم وهو اختيار المجد بن تيمية واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام: إلى أن ذلك للكراهية، فيكره أن يدفن في القبر الواحد اثنان فأكثر من غير تحريم، وهو الراجح.
لأن ما ذكره الحنابلة لا يقوى على تحريم ذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم – من دفنهم في قبر واحد – يدل على مشروعية ذلك واستحبابه من غير أن يدل على أن خلافه محرم وأنه يجب أن يدفن الميت في قبر واحد.
فعلى ذلك – كما ذهب جمهور العلماء واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد بن تيمية وابن عقيل وصاحب الفروع وشيخ الإسلام - أنه لا بأس بذلك لكنه مكروه.
أما عند الحاجة إليه فلا بأس، كأن يكثر القتلى إما لوباء أو لقتال أو نحو ذلك فيشق على الناس أن يخصوا كل ميت بقبر، فيدفنوا الاثنين والثلاثة بقبر واحد فلا حرج.
قال: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب)
لم أر دليلاً يدل على ذلك ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو أمر به لما دفن قتلى أحد على الطريقة المتقدمة.
وعللوا ذلك: بأن هذا يجعل كل واحد منهما بمنزلة من له قبر مختص به – ولا بأس بذلك لكن من غير أن يقال باستحبابه فلم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة حكم نبش القبر؟(8/220)
هو محرم، وقد ثبت في موطأ مالك عن عَمْرة بنت عبد الرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن المختفي والمختفية) قال مالك: يعني نباش القبور. وهذا الحديث ورد مسنداً عن عمرة عن عائشة فيما رواه عبد الله بن عبد الوهاب ويحيى بن صالح عن الإمام مالك، فرووه مسنداً عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فنبش القبر محرم ولا يجوز ذلك إلا لمصلحة فإذا ثبتت المصلحة فلا بأس بنبشه كأن يدفن من غير تغسيل فيجوز أن ينبش ليكفن ويغسل.
أما لو دفن من غير أن يصلى عليه؟
ففي هذه المسألة قولان لأهل العلم:
أصحها أنه لا ينبش بل يصلى على القبر لصحة الصلاة عليه في القبر فلا نحتاج إلى أن ينبش قبره.
ومثل ذلك: إذا دفن الاثنان في قبر واحد، فأحب أهل الميت بعد أن تفرعوا للميت أن ينبشوه فيضعوه في قبر منفرد.
أو كانت الأرض فيها مشاحة واختلاف فاحتيج إلى أن ينقل منها إلى موضع آخر فلا بأس بذلك، وقد ثبت في البخاري عن جابر – في قصة قتلى أحد ودفن أبيه مع غيره في قبر - قال: وقد دفن معه غيره فلم تطب نفسي بذلك فاستخرجته بعد ستة أشهر) .
ومثل ذلك: لو وضعت مقبرة ثم ثبتت المصلحة بنقلها إلى موضع آخر فلا حرج بنبش القبور إلى موضع آخر.
قالوا: ولا بأس بنبشها أو الزرع عليها أو البناء ونحو ذلك إذا أصبحت رميماً تراباً قد ذهب عظمها فلم يبق منه شيء، وحكى صاحب الفروع: اتفاق أهل العلم على ذلك.
فحرمة القبر للميت مرتبطة فيما إذا كان على هيئته أو قد بقي شيء من عظامه، أما إذا أصبح رميماً تراباً فإنه لا حرمة لقبره، فيجوز أن يزرع عليه أو ينبش.
ولم منهم تصريحاً أن حرمته تنتهي مطلقاً، بل الظاهر أن ما تقدم من النهي - عن الجلوس ونحو ذلك – يبقى، لكن يجوز أن ينبش فيدفن معه غيره فيه.(8/221)
والمدة التي يصبح بها الميت رميماً تراباً يعرفها أهل الخبرة فإذا مضت السنوات التي يعلم بالظن الغالب أن الميت قد أصبح رميماً فيجوز أن ينبش قبره ثم يوضع ميت آخر.
ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم، وقد نص عليها الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم ولم أر فيها خلافاً وهي مسألة قديمة.
فقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير قال: (لا أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إلى من أدفن فيه فإنما هو أحد رجلين إما ظالم فلا أحب أن أدفن معه وإما صالح فلا أحب تنبش عظامه) .
فإن نبش وقد بقيت عظامه؟
فقال الحنابلة يعاد القبر كما كان ولا يقم عليه غيره ما بقيت عظامه.
قال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الخلال من أصحابه: أنه لا بأس بذلك.
وهذا هو القول الراجح، فإن النبش قد حصل فحينئذ لا مانع أن يدفن، فقد حصل هذا النبش واحتيج إلى هذا القبر في الدفن فحينئذ يدفن معه مع بقاء عظامه، أما إذا بقي على حالته فإنه لا يدفن معه، فإن دفن معه فلا بأس – كما تقدم في مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة.
فمن ظن بقاء عظامه فلا يجوز نبش قبره، وكذلك القبور المعظمة عند أهل الإسلام لعظمة أهلها في دينهم وصلاحهم فإن هؤلاء مظنة أن تبقى أبدانهم فلا ينبغي أن يتعرض إليها.
اعلم أن المستحب أن يتولى دفن الميت أولياؤه من الرجال، وأن النساء لا يستحب لهن مطلقاً أن يتولين الدفن؛ وذلك لأنه مظنة لخروج شيء من سترها والمرأة مأمورة بأتم ما يكون من الستر، ولا شك أن الدفن مظنة لخروج شيء من بدنها فكان ذلك مختصاً بالرجال.
وأحق الناس أولياء الميت، فقد ثبت في الحاكم بإسناد صحيح أن علياً والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم الذين تولوا دفنه – عليه الصلاة والسلام –.(8/222)
لكن يستحب ألا يكون المشتغل بالدفن ممن قارف ليلته تلك أهله - أي جامع أهله -، فقد ثبت في البخاري عن أنس قال: (شهدنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تذرفان فقال: هل منكم من أحد لم يقارف الليلة فقال: أبو طلحة: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انزل في قبرها، فنزل فقبرها) .
وهذا يدل على أنه لا بأس أن يتولى دفن المرأة من لم يكن من محارمها وإن كان المستحب أن يكون ذلك من محارمها؛ لأن مظنة الشهوة بعيدة في هذا الموضع فتكون شبيهة بمحارمه فإن الميتة لا تشتهى.
والمحرم أولى، فقد ثبت في البيهقي: (أنه لما ماتت زينب بنت جحش قالت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك – أي دفنها – من كان يراها في حياتها فقال عمر: صدقتن) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تكره القراءة على القبر)
فلا بأس أن يقرأ على القبر من القرآن كسورة الفاتحة ويَس أو غير ذلك – هذا في المشهور من مذهب الحنابلة –، وذكروا في ذلك حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء إلى المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم وكان له بعددهم حسنات) لكن الحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومذهب قدماء أصحاب الإمام أحمد وهو مذهب المالكية والأحناف: كراهة ذلك، بل هو بدعة كما صرح به الإمام أحمد في رواية عنه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو لأهل القبور في المقبرة ولم يصح عنه أنه قرأ شيئاً من القرآن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه فكان حدثاً وبدعة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم -: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) فهنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم البيوت التي لا تقرأ فيها القرآن بأنها مقابر، فدل ذلك على أن المقابر ليست مجالاً لقراءة القرآن.(8/223)
فالصحيح مذهب المالكية والأحناف واختيار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد من النهي عن ذلك بل هو بدعة.
قال: (وأي قربة فعلها)
أي قربة سواء كانت صلاة أو صياماً أو حجاً أو ذكراً أو قراءة للقرآن أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي، نفعه ذلك وبلغه ثواب العمل – أي قربة كانت فهو يصل الحي والميت، وهذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة: لا يكون إلا للميت أما الحي فليس محتاجاً إلى العمل؛ ولأنه يترتب على ذلك مفاسد عظيمة من تواكل كثير من الناس على غيرهم في العمل على ابن وغيره مع كونه قادراً على العمل بل ربما دفعت الأجرة على العمل الصالح ونحو ذلك.
وهذا القول – على القول بهذه المسألة وسيأتي الخلاف فيها - أصح وهو أنه مختص بالميت دون الحي، فإن الحي لا يحتاج إلى العمل ولأن ذلك يترتب مفاسد عظيمة – وتقدم ذكر شيء منها.
قالوا: ويشترط أن ينوي ذلك بعمله، فلا يعمله ثم ينوي الثواب لغيره، فإذا فعله ثم نوى الثواب لم يجزئ ذلك.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن به على هذه الصورة فقال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وقال: (حجي عنها) ونحو ذلك من الأحاديث التي تقتضي أن يكون العمل من أصله متوجهاً إلى الميت.
قالوا: ولأن الأثر يترتب على الفعل، فإذا ثبت الأثر على الفعل فإنه لا يتزحزح عنه، والأثر هنا هو الثواب، كالولاء فإن من اعتق عبداً فإنه يثبت له ولاؤه، فلو نوى الثواب لأحد من الناس فإن الولاء يبقى له.
وقال بعض الحنابلة: بل لا يشترط ذلك؛ فإن الثواب ملكه فإذا تصدق به بعد ذلك فلا حرج.
والأظهر ما تقدم فإن الثواب أثر للعمل فكان شرطاً فيه أصلاً.
قالوا: ولا يشترط أن يهدي الثواب كله، فلو تصدق بصدقة ونوى أن يكون شطر ثوابها له وشطر ثوابها للميت فإنه لا حرج في ذلك، وهذا أمر ظاهر.(8/224)
إذن: أصل المسألة أن الميت يصل إليه الثواب الناتج من عمل أحد من الناس وأنه ينتفع بذلك.
واعلم أن أهل العلم قد اتفقوا على أن الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – أن الميت ينتفع بها. قال تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) .
وغير ذلك مما هو في باب الدعاء والاستغفار وأن الآخر ينتفع بدعاء غيره واستغفاره له ومن ذلك الميت، وأما الصدقة فثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم) ، وثبت في البخاري عن عباده: (أن أمه توفيت – وهو غائب فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وأنا غائب فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال: نعم فقال: أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) .
وأما أداء الواجبات، فقد قال صلى الله عليه وسلم – لمن سألته عن الحج: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: فدين أحق الله بالقضاء) متفق عليه، وقال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .
فهذه الأحاديث تدل إلى أن الاستغفار والدعاء والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – وفي المسألة تفصيلاً ليس هذا محله –، هذه الأربع قد اتفق العلماء على أنها تنفع الميت.
وشذ بعض أهل العلم كالشوكاني – خلافاً للإجماع الذي ذكره النووي وقال: إنما ينفع ذلك من الولد دون غيره والإجماع المذكور من النووي يخالف ذلك.(8/225)
وأما ذكر الله من استغفار ودعاء من بعدهم يدل على أن ذلك يقبل ولو كان من غير ولده، على أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم الآتي إنما نص على دعاء الولد ومع ذلك فإن الدعاء بدلالة الكتاب والسنة الصريحة قد دلا على أن الدعاء يصل إلى الميت وهؤلاء الناس يجتمعون على الميت فيدعون له ومنهم الولد وغيره بالإجماع.
فهذه الأربع تصل إلى الميت مطلقاً.
*واختلف أهل العلم في بقية القرب هل تصل أم لا؟
- فقال الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: تصل إلى الميت.
واستدلوا: بما تقدم من الأدلة.
فقالوا: الصوم يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية، والحج يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية والمالية والصدقة تدل على الانتفاع بالعبادات المالية.
قالوا: فتلك الأدلة دالة على جواز الكل.
قالوا: وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – لعمرو بن العاص في أبيه: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك) والحديث إسناده حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الحج عن الميت مطلقاً سواء كان تطوعاً أو فريضة أن ذلك يجزئ عنه. - وشذت طائفة من المبتدعة ولا يقول بذلك إلا أهل البدع فقالوا: إن الميت لا يصل إليه شيء من الأحياء مطلقاً، لا دعاء ولا صدقة ولا استغفار ولا غير ذلك.
وهذا القول لا يلتفت إليه، ولكني ذكرته لئلا يفهم كلام شيخ الإسلام فهماً خاطئاً فإنه لما ذكر هذه المسألة قال: ولا يقول بذلك إلا أهل البدع يعني بذلك من نفي الانتفاع مطلقاً، وأما من نفى الانتفاع بغير الأربع فإنه يقول به أكثر أهل العلم كما سيأتي.
وقول [أهل] البدع هذا – مخالف الكتاب والسنة وما ثبت بإجماع العلماء.(8/226)
أما القول الثاني في هذه المسألة، فهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: وهو أن الميت لا ينتفع إلا بما تقدم ذكره من الأربع، أما غيرها من الأعمال فإنه لا ينتفع به.
واستدلوا: بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} .
قالوا: فهذه الآية حاصرة، فإن الإنسان ليس له من عمله إلا ما سعاه، أما ما لم يسعه مما أهدي إليه، فإن ذلك لا يصل إليه.
ويستثنى من ذلك ما وردت به السنة وهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .
قالوا: فهذا في الحقيقة من سعيه فإنه متصرف ظاهر في ولده كما هو متصرف ظاهر في العلم والصدقة، فالولد كسب لأبيه، وإنما ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من عمله.
وأما الدعاء من الغير فليس هو من عمل الإنسان لكن دلت الأدلة المتقدمة أن ذلك يصل إليه.
وأجاب شيخ الإسلام على الاستدلال بالآية – وهو أصح جواب أورد على الاستدلال بالآية – أجاب وذكر ذلك ابن القيم مقراً له –: " أي ليس للإنسان مالكاً لغير سعيه، فالنفي هنا متوجه إلى ملكه، وأنه لا يملك شيئاً من الأعمال إلا ما سعاه، وليس فيه نفي الانتفاع فإنه قد ينتفع بعمل غيره ".
وفيما قاله – رحمه الله تعالى – نظر، فإن العمل إنما يستفاد منه الانتفاع، وإلا فإن الآية لا يكون لها فائدة، إذ هذا النفي لا يتوجه إلى شيء فإن العمل إنما يقصد منه الانتفاع فإذا عمل الغير له ونفينا أن العمل له وأثبتنا الانتفاع، فإن الآية لا تكون متوجهة إلى إفادة فهذا ممتنع في القرآن غاية الامتناع. فالأصح ما ذهب إليه جمهور العلماء – والمسألة فيها قوة – وأنه لا يصل إلى الميت إلا ما تقدم.(8/227)
مما يدل على ذلك ما تقدم في مسألة التفريق بين الحي والميت فإن أصل هذه المسألة هو إجازة هذا الثواب للغير، وأن الثواب ملك له فيجوز أن يهديه للغير وحينئذ لا فرق في الحقيقة بين الحي والميت، وهذا مما يضعف هذا القول.
فنحن لو أجزنا الإهداء إلى الميت لأن هذا الحي الثواب ملك له فيجوز أن يهديه لأي أحد، فيجوز له مادام ملكاً له أن يهديه للحي أيضاً كما هو المشهور في المذهب، – وحينئذ – يكون هذا مما يضعف القول؛ لأن الإهداء إلى الحي فيه مفاسد كثيرة تقدم ذكر شيء منها.
ولأن ذلك لم يكن من هدي السلف الصالح – وهذا شيخ الإسلام قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء الثواب وأن ذلك لا ينبغي وأن هديهم أفضل وأكمل.
كما أن فيه إيثاراً في القربة، فهي قربة وعمل صالح يتقرب به العبد إلى الله فكيف يهديه إلى غيره.
فإن قيل: ألا تقاس سائر الأعمال على ما تقدم ذكره؟
فالجواب: إن هذا قياس مع الفارق، فإن الصدقة فيها انتفاع متعد، والدعاء فيه انتفاع متعد وانتفاع للشخص، فإن الملك يقول: (ولك بمثل) كما ثبت في مسلم.
وأما قضاء الدين عنه، فإن هذا واجب عليه، فكان في فعله فرق بين ذلك وفيه إرادة الثواب المحضة فلم يكن القياس صحيحاً مع ثبوت الفارق فإن الفوارق ظاهرة، فإن الصدقة نفعها متعد ومثل ذلك العتق، والشارع متشوف إلى إثباتها، والأحياء يحبون أن يوصلوا الثواب إلى أمواتهم فإذا فتح باب الصدقة وأغلق غيره انتفع بذلك الفقراء وحصل ما يتشوف إليه الشارع من إزالة الفقر عنهم وغير ذلك من مقاصد الشرع الثابتة في الصدقة.
والدعاء ينتفع به الشخص وينتفع به الغير فليس كالتخلي عن الثواب، وأما الديون [لعل صوابها: "الصوم" (محمد خليفة) ] فإنها بمعنى الدين على الآدمي وفيها تبرئة لذمة الميت وفيها تطييب لخاطر الحي فإنه إذا قام بالعمل المفترض على ميته وكان ديناً له على الله أو غيره كان ذلك تطيباً لقلبه.
فالراجح مذهب الجمهور.(8/228)
قال: (وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم)
هذا أمر مستحب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الخمسة إلا النسائي -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) .
فيستحب أن يصنع لأهل المصيبة طعاماً فهم منشغلون عن حاجتهم إلى الطعام والشراب.
وقد قيد المجد وهكذا صاحب الروض: بثلاثة أيام – وهذا التقييد لا دليل عليه، فقد يكون ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك بحسب تأثر أهل الميت بالمصيبة.
قال: (ويكره لهم فعله للناس)
يكره لهم وينهون أن يصنعوا الطعام لمن يجتمع عندهم من الناس، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه عن جابر قال (كنا نَعُدُّ الاجتماع عند أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (1) .
وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة: إلى أن ذلك يحرم، وهو أصح؛ لقول الصحابي " من النياحة " والنياحة محرمة، فلا يجوز لهم أن يصنعوا الطعام للناس، بل الاجتماع عند أهل الميت من النياحة كما تقدم في قول الصحابي، وقد نص على كراهيته الإمام أحمد والشافعي وغيرهم من أهل العلم وأن الاجتماع عند أهل الميت مكروه بل هو من النياحة كما تقدم في قول جابر.
فصل
قال: (تسن زيارة القبور) .
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها) زاد أحمد وأبو داود وغيرهما: (فإنها تذكركم الآخرة) ، وفي الحاكم من حديث أنس: (فإنها ترق القلب وتدمع العين) . فيستحب للمسلم أن يزور القبور، وإذا زارها فإنه يأتي من قبل وجهه، فيستدبر القبلة ويستقبل وجه الميت فيدنو منه – كما يفعل في زيارته للحي، وفي ذلك حديث حسنه الترمذي وفيه: وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى قبور المدينة فاستقبل القبور بوجهه) لكن الحديث ضعيف.
__________
(1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص210.(8/229)
لكن زيارة الميت في حكم زيارة الحي، فإن الحي إذا زير استقبل وجهه ودني منه فكذلك الميت – وهذا ما عليه عمل أهل العلم.
وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لزيارة القبور بل ذلك على حسب ما يحتاج إليه المسلم من تذكر الآخرة أو ما يصل به ميته، وليس في ذلك حد محدود فيه أو يوم معين يستحب فيه الزيارة.
قال: (إلا النساء)
فلا يشرع زيارة القبور لهن – وهذا من المشهور في مذهب أحمد وأنه يكره للنساء أن يزرن القبور وهناك قولان سوى هذا القول:
أحدهما: أن الزيارة للنساء محرمة، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه.
والثاني: أنها مباحة، وهو مذهب أكثر أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد.
استدل الناهون عن ذلك: بما روى الترمذي وابن ماجه وهو ثابت في مسند أحمد وصحيح بن حبان من حديث عمرو بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) وعمرو بن أبي سلمة صدوق إلا أن في حفظه بعض الضعف، والحديث حسن لا ينزل عن درجة الحسن، فهذا الضعف اليسير في حفظه لا يؤثر في الحديث.
وله شاهد من حديث حسان بن ثابت – عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وفيه ابن بهمان وهو مجهول، لكنه يشهد للحديث المتقدم، على أنه قائم بنفسه إن شاء الله، وقال ابن حبان في روايته حديث أبي هريرة: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) ، وبقية المصنفين الذين خرجوا هذا الحديث أتوا بلفظة " زوارات "، وهو أصح، فقد أتى بها الإمام أحمد والترمذي بلفظة " زوارات "، وما ذكره جمهور المصنفين يشهد له حديث حسان المتقدم.
فعلى ذلك الصحيح في حديث أبي هريرة ما ذكره عامة المصنفين: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) .(8/230)
واستدلوا: بما رواه ابن ماجه والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) .
فهذا دليل يدل على النهي عن زيارة القبور وهو صريح في النهي عن الزيارة أصلاً.
لكن الحديث فيه: أبو صالح باذام وصبطت باذان وهو ضعيف الحديث ولا يلتفت لما قاله ابن حبان من أنه صالح الراوي عن ابن عباس وهو ثقة.
فإن عامة أهل العلم كالترمذي والمزي والإشبيلي والمنذري وابن دحية وغيرهم من أهل العلم صرحوا بأنه أبو صالح باذام وهو ضعيف كما صرح بذلك الترمذي في سننه وغيره.
وقد ورد هذا في بعض أسانيده مصرحاً " عن أبي صالح باذام عن أبي هريرة "، فعلى ذلك الحديث إسناده ضعيف.
هذا أدلة الحنابلة القائلين بالنهي عن زيارة القبور.
لكن شيخ الإسلام رأى أن هذه الأحاديث تدل على التحريم حيث صحت بلفظة " زائرات " وتقدم أنها لا تصح، فإنها لو صحت لما قيل بكراهية ذلك بل يقال بتحريم ذلك، بل إنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعنة لا تكون إلا على كبيرة.
ويستدل لهم: بما ثبت في الصحيحين من نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن اتباع الجنازة كما في حديث أم عطية.
- وأما أكثر أهل العلم: فاستدلوا بأدلة منها:
ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر على امرأة عند قبر وتبكي فقال: اتقي الله واصبري فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فذكر لها أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت إليه فلم تجد عنده بوابين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) .
قالوا: إنما أنكر عليها هنا هذا التأثر الشديد الذي اقتضى لها أنه تنفرد في المقبرة فتبكي ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الزيارة.(8/231)
واستدلوا بما هو أظهر وهو ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله كيف أقول لهم - تعني إذا زرتهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) والحديث، فهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ما تقول ولم تقل: كيف يقال، وهو الثابت من فعلها، فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن أبي مليكة قال: (أقبلت عائشة من المقابر فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ فقالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن عوف [الصواب: عبد الرحمن بن أبي بكر] فقلت لها: أو ليس [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] نهى عن زيارة القبور؟ فقالت: نعم ثم أمر بزيارتها) .
فهنا عائشة رأت أنها داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها فإنها تذكر الآخرة) .
قالوا: ولا مفسدة في ذلك بل فيه تذكرها بالآخرة وترقيق القلب وإدماع العين، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة - كما تقدم في حديث عمر في المسند – عن اتباع الجنازة، مع أن اتباع الجنازة فيها ما يخاف من الفتنة ما هو أعظم مما يكون في زيارتها، فإن في اتباع الجنازة للمرأة ورؤية الميت مع كون المصيبة حاضرة وحديثة العهد هو أعظم تأثيراً في نفسها من كونها تذهب إلى زيارة القبور - لا شك أنه أعظم -، ومع ذلك فلم يُعزم على النساء في النهي عن ذلك، بل أذن لهن كما في حديث أم عطية، فهذه تدل على قوة ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذه المسألة.
فما ذهب إليه الجمهور أرجح مما ذهب إليه الحنابلة.(8/232)
لكن تنهى أن تكون زوارة للقبور والزوارة هي المكثرة للزيارة، ولا شك أن الإكثار من الزيارة فيه ما فيه من المفاسد وفيه إشغال المرأة عن الحق الذي عليها في بيتها، وفيه كذلك ما يخشى على المرأة من شدة التأثر والوارد الذي يرد على قلبها من كثرة الزيارة ما لا تتحمله المرأة، ويخشى عليها أن تنفرد في الزيارة فتكون حيث يتخلى فيها، والغالب في المقابر أن تكون بعيدة عن الناس، مع ما يخشى عليها من التأثر الشديد الزائد عما يرغب فيه الشارع من كونها تذكر الآخرة.
والصحيح مذهب الجمهور من جواز زيارة النساء للمقابر.
واستثنى صاحب الروض من ذلك ما يكون من زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه " أبي بكر وعمر " فقالوا: لا بأس بذلك.
لكن هذا ضعيف فلا يثبت استثناؤه على القول بمذهب الحنابلة بل تنهى كما تنهى عن غيره، فإن ما ذكروه من الأحاديث في هذا الباب عامة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه.
والصحيح ما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء وأن ذلك جائز مطلقاً ومن ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور الصحابة لكنها تنهى أن تكون زوارة.
قال: (وأن يقول: إذا زراها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية)
فقد ثبتت هذه الألفاظ ونحوها في مسلم عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: كيف أقول لهم قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) ، وفي مسلم من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) .
وفيه: أنه لا بأس أن ينص على اسم المقبرة.(8/233)
قال: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده واغفر لنا وله (1))
هذا من الدعاء المباح في هذا الموضع وإن كانت هذه الألفاظ في الأصل ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع لكنها من الدعاء المباح فيدعو بما ورد وبما شاء من الدعاء بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك.
ولا بأس أن يرفع يديه، فقد ثبت في مسلم عن عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل: (قام قياماً طويلاً ورفع يديه ثلاث مرات) لكنه لا يستقبل الميت بل يستقبل القبلة.
ومع ذلك فإنه إذا خشيت الفتنة في رفع اليدين فإنه لا يفعل ذلك؛ لئلا تظن أنه يدعو الأموات من دون الله - عز وجل - بل ينبغي له إذا أراد فعل ذلك أن يبتعد قليلاً عن الناس، وأن يوليهم ظهر ويرفع يديه مستقبل القبلة ليزول ما يخشى من الفتنة.
والحمد لله رب العالمين.
مسألة: في باب الدفن:
وهي أن جمهور أهل العلم قد ذهبوا إلى جواز الدفن ليلاً واستدلوا بما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر بقبر فسأل عنه فقيل له: أنه دفن بليل فقال: أفلا آذنتموني) .
فهذا الحديث يدل على أن الدفن بليل جائز وهو مذهب جماهير العلماء.
وأما ما ثبت في مسلم: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبض فكفن بكفن غير طائل " أي غير ساتر " فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ثم قال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) .
فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل إنما ذلك خشية ألا يحسن كفنه وألا يصلى عليه كما ينبغي أو أن يكون حضور الناس قليلاً أو نحو ذلك من سوء في التغسيل.
__________
(1) وفي نسخة بصيغة: " اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم "(8/234)
أما إن كان التغسيل حسناً والتكفين كذلك وكانت صلاته مشهودة فلا بأس بذلك؛ لما تقدم في حديث البخاري. والمشهور أن أبا بكر قد دفنه الصحابة بليل ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً.
قال: (وتسن تعزيه المصاب بالميت)
التعزية: هي التقوية والتسلية والدعاء للميت والحث على الصبر.
وأما المصاب: فهو من أصيب بالميت سواء كان من أهله أو من يربطه به نسب أو صهر، أو من أصدقائه كأن يكون رفيقاً.
فكل مصاب فإنه يعزى سواء كان من أهله أو أصدقائه.
وقد ثبت التعزية من فعله [- صلى الله عليه وسلم -] ، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد: (أن بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه أن ابناً لها أو بنتاً قد حضرت فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ السلام ويقول: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى) .
وفيها إحسان للمصاب وللميت وفيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من حث على الصبر، وفيها معروف من الدعاء للميت فكانت مشروعة، وهذا مما اتفق عليه العلماء.
ولم ثبت بخصوصيتها حديث في فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) فقد استغربه الترمذي، وهو كما قال.
ومثله ما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يعزي أخاه في مصيبة إلا كساه الله من حلل الجنة يوم القيامة) فالحديث إسناده ضعيف.
فلم يثبت حديث بخصوصها، لكنها داخلة في عموم فضل تعزية المسلم في مصابه، سواء مصابه المرض ومصابه في ميت له أو نحو ذلك، وما فيها من الإحسان إلى أهل الميت وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.(8/235)
والحديث المتقدم – كما قال النووي – من أحسن ما يعزى به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى) رواه البخاري، فإن قال: (أعظم الله أجوركم وأحسن عزائكم) فلا بأس بذلك وهو ثابت عن الإمام أحمد.
وعنه: (آجرنا الله وإياك في هذا الرجل) ونحو ذلك من الألفاظ فأي لفظ فيه تعزية وجبر للميت فهو حسن فليس هناك لفظ محدد، لكن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أحسن ما يعزى به.
وقد يكون المصاب يحتاج أن يذكر بفضل من مات له ميت أو نحو ذلك معه، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث فذلك كله من التعزية.
وهل للتعزية مدة محدودة؟
أما أولها فإن التعزية جائزة بعد الدفن أو قبله، كما هو المشهور في مذهب الحنابلة ,
ويدل عليها الحديث المتقدم في قصة ابن أو بنت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها أرسلت إليه وقالت: إن ابناً لها أو بنتاً حضرت، فهي - أو هو - لم يثبت بعد موته لكنه قد احتضر فكان في حكم الميت فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم بالتعزية المتقدمة.
وأولى من ذلك التعزية قبل الدفن، فلو عزى قبل الدفن أو قبل التغسيل أو الصلاة عليه فلا بأس بذلك ويحصل المقصود المتقدم، وإن عزى بعد الدفن فلا بأس.
والمشهور في مذهب الحنابلة والشافعية: أن مدة العزاء ثلاثة أيام، فلا يعزى بعدها مصاب إلا أن يكون غائباً فيعزى عند حضوره أن لم ينس المصيبة.
قالوا: لأن التعزية بعد ثلاث تهيج الحزن وتثيره في النفس فلا يكون فيها الفائدة المقصودة من التعزية بل يحصل ضد ذلك.
- وقال بعض الحنابلة، فهو وجه عندهم، وبعض الشافعية: بل ليس للتعزية مدة محدودة بل متى احتيج إليها فعلت، فلو عزاه بعد عشرة أيام أو شهر فلا بأس ما دام أن المصاب يحتاج إلى ذلك.(8/236)
فلو أن أهل الميت تطاول بهم الحزن فإن التعزية تشرع حينئذ ولو بعد ثلاثة؛ لأن المقصود ما تقدم من تقوية المصاب وتسليته وحثه على الصبر وهذا – في الحقيقة – ليس لها مدة محددة لا يشرع بعدها.
إذن الصحيح: أن التعزية ليس لها أمد بل متى احتاج إليها المصاب عزي ولو كان ذلك بعد موت ميته بزمن متطاول.
لكن إن كانت لا فائدة منها إلا تهييج الحزن، فإنها لا تفعل ولو كان ذلك بعد يومين أو قبل ثلاثة أيام.
وأباح الحنابلة أن يتميز المصاب بثوب أو نحو ذلك ليعزى، فلا بأس أن يشهر بثوب ونحوه.
واستنكر هذا بعض الحنابلة وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن ذلك ليس من فعل السلف الصالح فليس من هديهم إشهار المصاب بثوب، فلا أصل له من فعل السلف فكان من البدع المحدثة – وهو الصحيح.
- والمشهور والصحيح في مذهب الحنابلة أنه لا بأس أن يؤخذ بيد المصاب للمصافحة أو نحوها.
ومثل ذلك ما يشتهر عندنا من المعانقة، فلا بأس بها على قاعدة المذهب.
وكرهه بعض الحنابلة، والأظهر جوازه وأن هذا ليس من باب العبادة وإنما من باب العادة.
قال: (ويجوز البكاء على الميت)
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذرفت عيناه لما قبض إبراهيم – ابنه – وقال: (هذه رحمة ثم قال: إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) .
واستحب شيخ الإسلام البكاء على الميت؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - – أن ذلك أكمل مما حدث من بعض التابعين كالفضل من فرحه بموت ابنه أي لإظهار الرضا وكان من كبار التابعين أو أتباعهم، لكن السنة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.(8/237)
فجزم شيخ الإسلام باستحبابه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولقوله: (هذه رحمة) والرحمة مستحبة وأن ذلك أكمل من الفرح إظهاراً للرضا بقدر الله، والرضا بقدر الله لا يعارضه ما يكون من طبيعة البشر من دمع في العين أو حزن في القلب.
* وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) إشكال:
وذلك أن الله عز وجل قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وأخبرنا الله في كتابه أنه هو الذي يضحك ويبكي، فكيف يعذب الميت بما يفعله من طبيعته وفطرته، ثم ما الذي يلحق الميت من هذا البكاء الواقع من الحي فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟
وأجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة، أصحها جوابان.
لجواب الأول: وهو ما سلكه جمهور أهل العلم: أن ذلك فيمن أوصى بالبكاء عليه البكاء غير المشروع الذي فيه ندب ونياحة ونحو ذلك، أو يعلم من طبيعة أهله وعادتهم الندب والنياحة ومع ذلك لم يكن منه إنكار لذلك وتوصية بعدم فعل ذلك، فيصل إليه العذاب في قبره لأنه غير منكر بذلك راض به.
والجواب الثاني: ما سلكه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن العذاب المذكور إنما هو التألم والأذى، والتألم والأذى ليس مما يقع فيه الإشكال المتقدم، فإن الإنسان يتألم ويقع في قلبه الحسرة ونحو ذلك من غير أن يقع عليه شيء من العذاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السفر: (إنه قطعة من العذاب) ، وقال تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} ، فلما نفى الله الضرر من الكفار لم ينكر الله وقوع الأذى والألم النفسي ونحو ذلك، فمثل هذا أمر ليس من باب العذاب، بل الله عز وجل يتأذى ورسوله كما في الحديث القدسي: (يؤذيني بن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) .(8/238)
وهذا يوافق ظاهر الحديث، فإن ظاهره أن البكاء يعذب كل ميت، وأن كل ميت يعذب ببكاء أهله، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما حضر سعد بن عبادة وكان عليه غاشية من أهله فقال صلى الله عليه وسلم – وقد بكى وبكى من حوله -: (لا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) .
فحينئذ: يتبين أن مراده البكاء غير المشروع، وثانياً: العذاب المعنوي وهو التألم النفسي وأنه يتألم لما يقع من أهله مما يخالف شرع الله عز وجل.
ومعلوم أن الصالح يتألم من وقوع الناس في المنكر. فهذا الميت يتألم من وقوع أهله في هذا المنكر، كما يتألم لو كان هذا البكاء على ميت غيره وهو حاضر بين أيديهم فكذلك يؤلمه وهو في قبره.
قال: (ويحرم الندب والنياحة)
الندب: هو ذكر محاسن الميت على وجه التسخط، فهذا هو الندب المحرم.
أما ذكر شيء من ذلك لا على سبيل التسخط فإن هذا لا بأس به، وقد ثبت في البخاري عن أنس قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتغشاه - أي الموت – قالت فاطمة: وكرب أبتاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب
رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه) .
فهذا من الندب لكنه ليس من الباب المتقدم الذي فيه تسخط على قدر الله وعدم رضا بما يوقعه الله من المقدرات من موت ونحو ذلك.
فالندب المحرم هو: ذكر الميت بمحاسنه وفضائله على وجه التسخط، ويصحبه في الغالب رفع صوت بالبكاء وهو النياحة، فالنياحة أن يرفع الصوت بالبكاء مع ذكر محاسنه كما تقدم.(8/239)
أو أن يكون مع ذلك فعل ينافي الشرع ويظهر به التسخط أيضاً كضرب الخد أو شق الجيب أو نثر الشعر أو نحو ذلك، فسواء كان ذلك بالألفاظ أي رفع صوته بالبكاء ويندب الميت أو أن يكون ذلك مع شق الثوب ولطم الخد مع تفريق الشعر ونثره ونحو ذلك – فذلك كله من النياحة –.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الخامشة وجهها والشاقة ثوبها والداعية بالويل والثبور) .
وكل ذلك من النياحة المحرمة وهي من الكبائر للعن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ليس منا) .
وأما النعي وهو إعلان الموت فلا بأس، فلا بأس أن يعلن موت فلان ليصلى عليه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه) الحديث.
لكن ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النعي) .
والجمع بين الحديثين: أن الحديث الأول المراد به مجرد الإخبار بموته، وأما النفي المحرم فهو ما كان عليه أهل الجاهلية من إظهار ذلك في الأسواق والطرقات والمجالس العامة والصراخ بذلك فهذا هو المحرم، ومثله لو وقع النعي في الجرائد والمجلات فإنه من النعي المحرم.
قال: (وشق الثوب ولطم الخد ونحوه)
هذا كما تقدم من الأفعال التي تدل على التسخط على قدر الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى كتاب الجنائز بحمد الله تعالى، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. ويليه كتاب الزكاة.
سؤال:
عند اجتماع صلاة الكسوف وصلاة العيد، أيهما يقدم على الآخر؟ مع ذكر السبب.
الجواب:(8/240)
قال في حاشية الروض المربع ما نصه [2 / 536] : " ويقدم – أي الكسوف - على صلاة عيد، إن أمن فواته اتفاقاً، قاله في الفروع وغيره. واتفاقه مع العيد بعيد، لا يتصور اجتماعهما، ولم تجر به عادة. قال شيخ الإسلام: وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء، من اجتماع صلاة العيد والكسوف، فهذا ذكروه في ضمن كلامهم، فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات، فقدروا اجتماعها مع الظهر والوتر، وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم، هل يمكن ذلك في الخارج أو لا يمكن؟ فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج، لكن استفيد من ذلك العلم: علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع، لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها اهـ. وقيل: قد يتصور بأن يشهدوا على نقصان رجب وشعبان فيقع العيد في آخر رمضان، فإن خشي فواته قدم وفاقاً؛ لأن صلاة العيد واجبة في قول، والكسوف سنة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وممن ذكر هذه المسألة:
الموفق ابن قدامة في المغني [3 / 331] .
شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى [24 / 157] .
الخطيب الشربيني في مغني المحتاج [1 /..]
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي في حاشية الروض المربع [2 / 536] .
وغيرهم من الفقهاء.(8/241)
السادس والتسعون بعد المئة
(يوم الجمعة: 19 / 12 / 1415 هـ)
كتاب الزكاة
الزكاة في لغة العرب: هي النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع، إذا نما.
وسميت الزكاة الشرعية زكاة؛ لأنها تنمي الغني والفقير.
أما كونها تنمي الفقير، فهذا ظاهر.
وأما كونها تنمي الغني، فإنها تنمي ماله، ولذا ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز وجل عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) (1) .
فالصدقة لا تنقص المال، لكنها تبارك فيه، كما أنها تطهر المال من الوسخ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنها لا تحل لآل محمد، إنها من أوساخ الناس) (2) .
وهي في الشرع: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
" في مال مخصوص ": ستأتي الأموال الزكوية من بهيمة الأنعام والحبوب والثمار ونحوها.
" لطائفة مخصوصة ": وهم أهل الزكاة.
" في وقت مخصوص ": وهو مضي الحول إلا ما استثني من المعشرات ونحوها.
قال المؤلف: [تجب]
فالزكاة واجبة شرعاً، ودليل ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأمة.
أما الكتاب، فقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب (17) ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) قال أبو عيسى: " هذا حديث حسن صحيح "، وصححه الألباني.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (1072) بلفظ: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي من أوساخ الناس.. "، وبلفظ " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.. ".
(3) سورة التوبة.(9/1)
وأما السنة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) (1) .
وقد أجمعت الأمة على فرضيتها، وأن منكر وجوبها كافر خارج عن الإسلام؛ لأن فرضيتها معلومة من الدين بالضرورة. والقاعدة: أن ما علم من الدين ضرورة كفرضية الصلاة والزكاة والحج ونحوها من الأحكام الشرعية – أن – إنكارها كفر بالله؛ لأنه تكذيب لدلالة الكتاب والسنة.
أما من تركها بخلاً، فإنه لا يكفر بذلك، كما هو مذهب جماهير أهل العلم، ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيُرى – وضبطت: فيَرى – سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) (2) .
والكافر لا يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار على التخيير، بل سبيله إلى النار على وجه التحتم، فدل هذا على أن تارك الزكاة تكاسلاً مع إقراره بوجوبها أنه لا يكفر.
فإن كان تاركها تحت يد الإمام، فإنه يلزمه بها ويأخذ شطر ماله، كما سيأتي تقريره، لحديث: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) (3) رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن وقال أحمد: " هو عندي صالح الإسناد ". (4)
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (6) إثم مانع الزكاة (987) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) ".
(4) هنا عبارة بخط آخر نصه: " وهو قول إسحاق قال: محمولا يعزر ".(9/2)
وأما إذا كان تاركها ليس تحت قبضة الإمام، بأن كانت طائفة ممتنعة، كأن تمتنع جهة من الجهات عن أداء الزكاة للإمام ولهم قوة وشوكة، فإن الإمام يقاتلهم حتى يؤدوا الزكاة، كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، ولا تكفر. وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق المسلمين على أن الطائفة الممتنعة عن أداء شعيرة من الشعائر الإسلامية الظاهرة، كالصلاة والزكاة ونحوها، أو الممتنعة عن ترك شيء من المحرمات الظاهرة كالربا والزنا أنها تقاتل.
قال: [بشروط خمسة]
هذه شروط وجوب الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا بتوفرها.
قال: [حرية]
والمكاتب قنٌ، والعبد لا يملك بالتمليك في الصحيح من المذهب. هذا هو الشرط الأول، وهو الحرية، فالعبد لا زكاة عليه؛ وذلك لأنه لا مال له، والزكاة إنما تؤخذ من أصحاب الأموال. وأما العبد فإنه مال ولا يملك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع عبداً وله مال – أي معه مال هو مختص به – فماله للذي باعه) (1) .
قال: [وإسلام]
فالكافر لا تجب عليه الزكاة، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وقد قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (2) .
فالزكاة منهم لا تصح، ولا تجب، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وهذا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولذا لم يكونوا يأخذون من الذميين الزكاة، وإنما كانوا يلزمونهم بالجزية. فالزكاة لا تجب على كافر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة (الشرب) ، باب (17) الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (2379) ، ومسلم في كتاب البيوع، باب (15) من باع نخلا عليها ثمر (1543) بلفظ (من ابتاع نخلاً بعد …. ومن ابتاع عبداً وله مال …) .
(2) سورة التوبة.(9/3)
وإن أسلم فلا تجب عليه قضاؤها، ويستأنف حولاً جديداً، أي يستأنف الحول من إسلامه؛ لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) ، فإذا أسلم ترتبت عليه الأحكام الشرعية، فإذا تم لإسلامه حول أخذت منه الصدقة.
قال: [وملك نصاب]
هذا هو الشرط الثالث: أن يملك النصاب الزكوي من الأموال الزكوية. وسيأتي الكلام على الأنصبة.
فمن ملك النصاب من الغنم فعليه الزكاة، وهكذا في بقية الأموال الزكوية التي فيها الأنصبة.
أما إن كان ماله لا يبلغ النصاب، فإنه لا تجب عليه الزكاة، فنصاب الذهب مثلاً: عشرون ديناراً، فإن ملك تسعة عشر ديناراً، فلا زكاة عليه، ونصاب الغنم مثلاً: أربعون شاة، فإن ملك تسعاً وثلاثين شاة، فلا زكاة عليه. وهذا باتفاق العلماء. وهو ظاهر الأحاديث النبوية في تقدير الأنصبة، فإن ظاهرها أن من لم يملك النصاب المسمى، فإنه لا زكاة عليه. لكن إن كان الناقص عن النصاب الشيء اليسير عرفاً، فإنه لا عبرة بنقصه، فتبقى الزكاة عليه واجبة، كأن تنقص الحبة والحبتين من أوسق الحبوب أو الثمار، فإن نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق وهو ستون صاعاً، فكون الصاع الأخير ينقص منه شيء يسير هذا نقص لا يعتد به؛ لأن الشارع لا يعلق الحكم بمثل هذا، ولذا فإن الشارع لم يبطل الصلاة بالعمل اليسير الخارج عن الصلاة، وعفا عن النجاسات اليسيرة ونحو ذلك.
قال: [واستقراره]
فالمال غير المستقر ناقص لا تام.
" استقراره ": أي استقرار النصاب في ملكيته. ويعبر عنه صاحب المقنع بتمام الملك، وتمام الملك: هو أن يكون الملك تاماً غير ناقص، وهو الملك المستقر الذي لا يكون عرضة للسقوط، فإن كان ملكاً ناقصاً، بأن كان غير تامٍ أو معرضاً للسقوط، فإنه لا تجب فيه الزكاة.(9/4)
مثال ذلك: على القول بوجوب الزكاة في الدين، فلو أن سيداً باع على عبده نفسه، وهو المكاتبة، فإن هذا المال يبقى ديناً على المكاتب وهو العبد، فهذا الدين لا تجب فيه الزكاة، كأن يشتري العبد نفسه من سيده بألف إلى سنتين، فإن السيد لا يزكي عن هذه الألف؛ لأن هذا المال ليس ملكه تام فيه، فإن هذا العبد يمكنه أن يعجز نفسه فيعود عبداً، وحينئذ، فإن هذا الدين يسقط، فمتى عجز نفسه فإنه يسقط، فأصبح هذا الدين ليست ملكيته تامة كالديون المتعلقة في ذمم الناس من بيع أو نحو ذلك، فهي ديون مستقرة ثابتة.
ومثل ذلك: الوقف الذي يكون لمعين، فلو أوقف رجل مالاً على ذريته، فلا زكاة فيه؛ لأن ملكيتهم ليست بتامة، فإنه لا يمكنهم التصرف فيه ببيع ولا شراء ولا نحو ذلك، ولا يورث منه مطلقاً، بل يجري على ما أوصى به صاحب الوقف، فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن الملك فيه غير تام، فلابد أن يكون الملك تاماً.
ودليل هذا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) (2) ، وهذا ليس بمال مستقر. فعلى ذلك الشرط الرابع تمام الملك أو استقراره.
قال: [ومضي حول]
__________
(1) سورة التوبة.
(2) متفق عليه.(9/5)
هذا الشرط الخامس، وهو مضي الحول، والحول هنا هو الحول الهلالي القمري بلا خلاف بين العلماء، كما قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} (1) أي أهلة القمر التي تثبت بها السنة القمرية. فالحول هنا هو الحول القمري أي السنة القمرية، فإذا مضى الحول بالسنة القمرية وهي اثنا عشر شهراً، فإن الزكاة تجب، وهذا باتفاق العلماء. وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (2) ، والصحيح وقفه على علي رضي الله عنه، ونحوه عن عائشة في سنن ابن ماجه (3) ، والصحيح الوقف أيضا. وعن ابن عمر عند الترمذي (4) والصحيح الوقف، فهذا آثار موقوفة على الصحابة لا يعلم لهذه الآثار مخالف.
قال: [في غير المعشر]
المعشرات: هي الحبوب والثمار، فهذه لا ينتظر لوجوب الزكاة فيها مضي الحول، بل متى حُصدت زكيت، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (5) .
ويلحق بها: زكاة المعادن والركاز والعسل، فهذه تخرج زكاتها عند الحصول عليها في المعادن والركاز، وعند جني العسل.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1573) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (5) من استفاد مالا (1792) مرفوعاً. قال البوصيري: " هذا إسناد فيه حارثة، وهو ابن أبي الرجال ضعيف. أخرجه الدارقطني في سننه من هذا الوجه. ورواه البيهقي من طريق شجاع بن الوليد. ورواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وهكذا أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه صْ 195.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (10) ما جاء لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول (631) (632) .
(5) سورة الأنعام.(9/6)
وإنما فرق الشارع بين المعشرات وغيرها؛ لأنها ليست معدة للنماء، بل متى حصدت استهلكت، بخلاف بهيمة الأنعام وعروض التجارة والذهب والفضة، فإنها معدة للنماء، فناسب في إيجاب الزكاة فيها مضي الحول. وأما هذه فإنها ليست بمعدة للنماء، فمتى حصد الزرع أو جني الثمر، فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه حينئذ يكون معرضاً للاستهلاك، فلا فائدة حينئذ من أن يتربص به حولاً.
قال: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة]
فما تنتجه السائمة من بهيمة الأنعام فنتاجها وكذلك ربح التجارة هو فرع يلحق بأصله في الحول، فحوله حول أصله.
مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، وقبل أن يتم عليها حول أنتجت كل شاة منها سخلتين أو أكثر بحيث أنها زادت على ما يجب في أصلها، فأصلها أربعون، فيجب فيها شاة، وإذا نظرنا إلى النتاج وأضفناه إلى أصله فإن الواجب شاتين، فحينئذ نوجب فيها شاتين، فنعتدّ بالصغار، فتلحق بأصولها في مضي الحول. وعليه عمل السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن سفيان بن عبد الله أن عمر بعثه مصدقاً، فكان يعتد على الناس بالسخل "، يعني يحتسب عليهم السخل، فقالوا: إنك تعتد علينا بالسخل ولا تأخذها – فإن الساعي لا يأخذ الصغار بل يأخذ وسْط المال، الجذعة والثنية، فذكر ذلك لعمر، فقال عمر: " نعم نعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي – أي يحملها بيده – ولا نأخذها، ولا نأخذ الأكولة " وهي التي تسمن لتؤكل، وهي من خيار المال، " ولا الرُبَّى " وهي المرضع تربى ولدها، " ولا الماخض " وهي الحامل، " ولا فحْل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وهذا عدل بين غذاء الغنم " (1) أي صغاره وخياره.
__________
(1) الموطأ، كتاب الزكاة، باب ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة (602) صْ 131.(9/7)
أي كوننا نحسب عليكم السخلة ولا نأخذها منكم، وإنما نأخذ منكم أكبر منها، يقابل هذا أنا لا نأخذ منكم خيار المال، بل نترك خياره لكم من الأكوله والربى وغيرها، فهذا قول عمر رضي الله عنه ولا يعلم له مخالف.
ومثل ذلك أيضا: ربح التجارة، فمثلاً: رجل عنده عروض تجارة تساوي ألف ريال، فلما مضى الحول فإذا بها تساوي أربعة آلاف، فإنه يزكي زكاة أربعة آلاف، فهذا المتولد من هذه الألف له حكمها.
إذاً نتاج بهيمة الأنعام وأيضا ما ينتج من التجارة من ربحها، فإن له حكم أصله، كما دل على ذلك أثر عمر المتقدم، وعليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فإنهم ما كانوا يستثنون السخلة أو صغار الإبل أو البقر، بل يحسبون ذلك كله.
قال: [ولو لم تبلغ نصابا]
أي وإن كانت السخال لم تبلغ نصاباً، فإنها محسوبة مع أصلها.
قال: [فإن حولها حول أصليهما إن كان نصاباً]
أي إن كان هذا الأصل نصاباً كما تقدم في التمثيل السابق.
قال: [وإلا فمن كماله]
صورة ذلك: رجل في الشهر المحرم امتلك ثلاثين شاة فأخذت بالنتاج، فبلغت بعد ثلاثة أشهر، أربعين - ثلاثون شاة وعشر سخال - فهذه أربعون، ثم أخذت بالنتاج بعد ذلك، فإن الحول لا يكون من الشهر المحرم؛ لأنها كانت فيه ثلاثين، وإنما يكون هذا بعد ثلاثة أشهر منه، أي في شهر ربيع الثاني، حيث بلغت أربعين.
إذاً: النتاج له حول الأصل حيث كان الأصل نصاباً، أما إن لم يكن الأصل نصاباً، فإن الحول يكون من الكمال.
وظاهر كلام المؤلف أن ما يطرأ على المال من جنسه مما لم يتولد منه أن له حولاً جديداً، وهذا مذهب جمهور العلماء.(9/8)
صورة هذا: رجل عنده مائتا دينار، امتلكها في شهر المحرم، ثم أهدي إليه بعد شهر أو شهرين مئة دينار، أو ورث مئة دينار، فهذا الإرث وهذه الهبة ليست متولدة من ماله الأول، فيستأنف بها حولاً جديداً؛ لعموم الآثار المتقدمة التي فيها أنه ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول، وهو مال له حكم مستقل، فليس بمتولد من المال الأول.
وإن كانت زكاته مع الأول أبرأ للذمة وأيسر، لكن هذا ليس بواجب عليه.
وعند قوله: " وملك نصاب "، علّق الزكاة بملك النصاب، فتثبت الزكاة بملك النصاب، ولو كان المالك غير عاقل أو غير بالغ، ولذا لم يذكر التكليف في الشروط. فالزكاة تجب على الصغير في ماله، وتجب على المجنون في ماله.
ويؤدي ذلك وليهما عنهما بنيته من مالهما وجوباً؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بالمال، فلم ينظر فيها إلى المالك، فأشبهت قيم المتلفات وأروش الجنايات والنفقة على الأقارب، فإن هذا كله يجب على غير المكلف.
فلو أن غير مكلف قتل، فإن الدية تثبت، وأيضاً النفقة تثبت في مال الصبي والمجنون وأروش الجنايات تثبت كذلك، وقيم المتلفات كذلك، لتعلق حق الآدمي بها، وهنا كذلك، فإن الزكاة تتعلق بها حق الآدمي من أصحاب الزكاة. هذا مذهب جمهور العلماء، وعليه تدل آثار الصحابة، كقول عمر فيما صح عنه عند الدارقطني: " اتجروا بمال اليتيم لا تأكله الصدقة " (1) . والبالغ لا يسمى يتيماً، وإنما اليتيم هو الصبي، ونحوه عن عائشة، ولا يعلم لهم مخالف.
__________
(1) أخرجه الدارقطني والترمذي مرفوعاً من طريق المثنى بن الصباح، بلفظ (من ولي يتيماً له مال فليتجر له..) سنن الدارقطني [2 / 280] رقم (1945) . وأخرجه عن عمر مالك في الموطأ في كتاب الزكاة،باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها (588) عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال.. ".(9/9)
- وقال الأحناف: لا تجب إلا على المكلف؛ واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: (والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يعقل) (1) .
والجواب عن هذا بأن يقال: ... (2) (رفع القلم) أي قلم التكليف في العبادات التي.... بحق الغير، أما العبادات التي لا تعلق بحق الغير، فهذه.... ما تقدم من نفقة الأقارب وقيم المتلفات، فإنها متعلقة بحق الآدمي فلا ينظر فيها إلى المكلف، بل إلى المال نفسه. كما أن هذا الحديث مُخَصص بأقوال الصحابة، فإن الصحابة أقوالهم تخصص الأدلة، فعلى القول بدخول الزكاة في هذا الحديث من باب العموم، فإن آثار الصحابة تدل على تخصيص الزكاة. فالراجح هو مذهب جمهور أهل العلم من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون.
والحمد الله العالمين.
والذي دلت عليه الآثار أنه – أي النصاب – تحديد وتقريب في الجمع، وهو رواية عن أحمد، عنه تقريب الأثمان والعروض، وتحديد في غيرها.
واختار شيخ الإسلام أنه لا حول لأجره، وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن عباس، قال لا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه؛ لأنه قد يحط بالربح، حكاه في الفروع وغيره.
الدرس السابع والتسعون بعد المئة
(يوم السبت: 2 / 12 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو غيره أدى زكاته إذا قبض لما مضى]
هذه مسألة زكاة الديون.
الديون على ضربين:
__________
(1) أخرجه الترمذي في بداية كتاب الحدود، باب (1) ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (1423) من حديث علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " ثم قال: " وذكر بعضهم: وعن الغلام حتى يحتلم ".
(2) بياض في الأصل.(9/10)
الضرب الأول: أن يكون الدين على مليء باذل، أي يكون المستقرض غني باذل، كأن يستقرض رجل من رجل، ويكون المستقرض باذلاً أو يكون لامرأة صداق مؤخر على زوجها، وزوجها باذل مليء، أو رجل باع سلعة على آخر بثمن مؤجل، فهذا داخل في الديون.
الضرب الثاني: أن يكون هذا الدين على غير مليء، بأن يكون معسراً أو يكون على غني مماطل، أو أن يكون الحق محجوراً أو مسروقاً أو مغصوباً، كرجل سُرق ماله أو غُصب.
أما الضرب الأول: فتجب عليه الزكاة عند جماهير العلماء؛ لأن هذا الدين داخل في عموم المال، وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) ، فهذا الدين مال فيدخل في عموم الأدلة الدالة على الزكاة؛ ولأنه شبيه بالوديعة، والوديعة يجب أن يزكيها مودعها، وهذا المال شبيه بالوديعة؛ لأنه يمكنه أن يتصرف به متى شاء، فمتى أراد أن يتصرف به فإنه يطلبه من هذا المدين فيتصرف به وينميه.
وهل تجب عليه الزكاة عند مضي الحول وإن لم يقبضه، أو أن الزكاة لا تجب إلا عند قبضه، فيزكيه لما مضى؟ قولان لأهل العلم:
ذكر المؤلف القول الثاني، وأنه يزكيه إذا قبضه لما مضى، فإذا أقرض زيد عمراً مئة ألف، فإنه يزكيها إذا قبضها، ولو كان ذلك بعد عشر سنوات، فيزكي عن العشر سنوات، ولا يجب عليه أن يزكيها عند مضى كل حول. فإن زكاها عند مضي الحول، أجزأ، لكن لا يجب عليه ذلك. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو قول علي كما روى ذلك عنه أبو عبيد في كتاب الأموال بإسناد صحيح؛ ولأنه دين ثابت في الذمة فلم يجب الإخراج قبل قبضه كما لو كان على معسر.(9/11)
والقول الثاني: أنه يجب أن يزكيه عند مضي كل حول وإن لم يقبضه، وهو قول الشافعي، قال في المغني: " وهو قول عمار وابن عمر وجابر "؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة عند مضي الحول للمال، وهو عام في الدين وغيره. وهذا القول أظهر؛ لأنه مال فيدخل في عموم الأدلة القاضية بإيجاب الزكاة عند مضي الحول، ولا دليل على إخراجه منها.
وقال أهل القول الأول: هو مال لا ينتفع به صاحبه، فلم يجب أن يزكيه إلا عند قبضه.
وفي هذا نظر، فإن مقتضى التعليل الذي ذكروه، أولاً: عدم وجوب الزكاة فيه مطلقاً، وهم لا يقولون بهذا. والوجه الثاني: أنه يمكنه الانتفاع به بأن يأخذه من صاحبه فيتصرف به كيف شاء، فإن هذا المليء الباذل يدفعه له متى طلبه، وحيث كان كذلك، فإنه يمكنه الانتفاع به متى شاء.
فالراجح مذهب الشافعية، وأنه يجب أن يزكيه عند مضي كل حول وإن لم يقبضه.
أما الضرب الثاني: وهو ما إذا كان الدين على مماطل أو جاحد أو معسر، أو أن يكون المال مغصوباً أو مسروقا، فهل تجب فيه الزكاة أم لا؟
قولان لأهل العلم، وهما قولان في مذهب أحمد والشافعي:
القول الأول: أن الزكاة واجبة، وهو ما ذكره المؤلف هنا، ويزكيه عند قبضه لما مضى. هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي؛ قالوا: لأنه مال فيدخل في عموم الأدلة الدالة على فرضية الزكاة في الأموال.
وعن أحمد، وهو قول مالك واختاره الشيخ محمد: أن يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.(9/12)
والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة: أن الزكاة لا تجب فيه، واختاره شيخ الإسلام؛ قالوا: لأن هذا المال لا يمكنه أن ينتفع به ولا يتصرف به، فليس محلاً للنماء والزيادة، والأصل في مشروعية الزكاة إنما هي في الأموال التي يمكن أن تنمى، وهنا هذا المال ليس كذلك. وهذا القول أظهر، وأن الزكاة لا تجب. فهو وإن كان مالاً، وهو داخل في عموم الأموال، لكنه في الحقيقة بمعنى الدين على المكاتب. وقد تقدم أن الدين على المكاتب لا يزكى بالاتفاق؛ لأن الملك فيه ليس بتام، إذ يمكن أن يسقط، وهنا هو بمعناه؛ لأنه لا يمكنه أن يتصرف به، ولا أن ينتفع به، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بإخراج الزكاة عنه، لأنه ليس تحت يده حكماً، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بأن يزكيه. وهذا القول أظهر.
وحينئذٍ فإنه إذا قبضها استأنف الحول من جديد، فإذا قبض الدين أو وجد المسروق أو أتاه المال الغصوب، فإنه يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى الحول الجديد بالشروط السابقة، فإنه يزكيه.
وقوله [أو حق] من مغصوب أو مسروق.
وقوله [من صداق أو غيره] : كقرضٍ أو ثمن مبيع.
قال: [ولا زكاة في مالِ من عليه دين ينقص النصاب]
هذه مسألة أخرى: في حكم الزكاة على من عليه دين ينقص النصاب.
تقدم أن الزكاة لا تجب إلا إذا كان النصاب تاماً، فإذا كان على صاحب النصاب دين، لكنه دين بحيث إن هذا الدين ينقص النصاب، فلا تجب عليه الزكاة.
مثال هذا: نصاب الذهب عشرون ديناراً، فإذا كان يملك عشرون ديناراً لكن عليه دين لفلان خمسة دنانير، فهي تنقص النصاب، فيكون في الحقيقة مالكاً خمسة عشر ديناراً.
مثال آخر: عنده خمس من الإبل، وعليه دين ينقصها، أي بقدر بعير.
أو عليه دين شاة أو شاتين وعنده أربعون شاة.(9/13)
أما إذا كان الدين لا ينقص النصاب، فلا إشكال في إيجاب الزكاة عليه، مع حذف الدين من عليه، فإذا كان عنده ثلاثون ديناراً وعليه عشرة دنانير، فهذا الدين لا ينقص النصاب، فإذا حذفنا عشرة دنانير من ثلاثين ديناراً بقي له عشرون دينارً، وهو النصاب الزكوي، فيجب عليه أن يزكي العشرين.
وأما إذا كان الدين ينقص النصاب، فإنه لا زكاة عليه. وهذا كله بيان كلام المؤلف، وسيأتي الكلام في هذه المسألة.
قال: [ولو كان المال ظاهراً]
الأموال على قسمين:
أموال باطنة: وهي الأثمان وعروض التجارة، فالأثمان وهي الذهب والفضة أو ما يقوم مقامها من العملة المعاصرة، هذه أموال باطنة، وعروض التجارة كذلك أموال باطنة؛ لأن قيمتها أثماناً، فكانت بحكمها.
وقال بعض الحنابلة: بل الأموال الباطنة هي الأثمان فقط، وأما عروض التجارة، فهي أموال ظاهرة. وهذا فيما يظهر لي أظهر؛ لأنها في الحقيقة ظاهرة، فإن أنفس الفقراء تتشوف إليها، وهي أموال بينة بخلاف الأثمان، فإنها تتصف بأنها أموال باطنة، إذ لا يظهر إلا بإظهار صاحبها لها.
وأما عروض التجارة فهي وإن كانت قيمتها أثماناً، لكنها في الحقيقة أموال ظاهرة شبيهة بالمواشي والحبوب والثمار وغيرها.
أموال ظاهرة: وهي المواشي والحبوب والثمار.
فهنا المؤلف ذكر أن الديون التي تنقص النصاب لا توجب الزكاة، سواء كانت الأموال باطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة، أو كانت الأموال ظاهرة كالمواشي وغيرها.(9/14)
فمن كان عليه دين، وعنده مواشي أو عنده حبوب وثمار أو ذهب وفضة قد بلغت أنصبتها، وهذه الديون التي عليه تنقص النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة؛ قالوا: لأن الزكاة المقصود منها مواساة الفقير، وصاحب الدين بمعنى الفقير، ولذا هو من أهل الزكاة، فلم يكن مناسباً أن يؤخذ منه مال فيجبر به غيره مع حاجته إليه، فليس من المناسب أن تعطل حاجته لدفع حاجة غيره، قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ابدأ بنفسك) (1) ، فالشريعة أقرت هذا، وهو أن يبدأ بحاجة نفسه، فليس من الشرع حينئذ أن يؤمر بما يناقض هذا فيبدأ بغيره مع حاجة نفسه. قالوا: ولما ثبت في موطأ مالك وكتاب الأموال لأبي عبيد بإسناد صحيح: أن عثمان رضي الله عنه في بعض الروايات على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم " (2) ، قالوا: فقد قال عثمان هذا في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه، فكان ذلك إجماعاً. وثبت في سنن البيهقي بإسناد جيد عن ابن عباس وابن عمر في الرجل يستقرض المال فينفقه على ثمرته وأهله، فقال ابن عباس: " يخرج ما أنفق على ثمرته وأهله ثم يزكي ما بقي " (3) ، وقال ابن عمر: " يخرج ما أنفق على ثمرته ثم يزكي ما بقي " (4) . ويصح أن يكون قول ابن عمر مخالفاً لقول عثمان المتقدم وهي مخالفة في الأموال الظاهرة فقط، وأما قول ابن عباس فهو موافق لقول عثمان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (13) الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة (997) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7606) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7608) .
(4) نفس السابق.(9/15)
أما الدين المنقص للنصاب في الأموال الباطنة، فما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب الجمهور، وأدلتهم في هذا قوية ظاهرة.
- وقال الشافعية: بل عليه الزكاة؛ لأنه مال، فيدخل في عموم الأموال التي يجب أن تزكى.
والظاهر ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه وإن كان مالاً، لكن صاحبه ليس بغني، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) (1) ، وقال: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) (2) ، وهذا عليه دين ينقص المال عن النصاب، فلا يكون حينئذ غيناً. ولأنه كما تقدم يحتاج إلى المواساة وحاجته أولى من حاجة غيره. فما ذهب إليه الجمهور في الأموال الباطنة أظهر، ولأثر عثمان ولا يعلم له مخالف، وأما أثر ابن عمر فقد تقدم أن المخالفة في الأموال الظاهرة دون الباطنة.
وأما الأموال الظاهرة، فإذا كان عليه دين ينقص النصاب:
- فجمهور العلماء: على أن الدين لا يمنع الزكاة فيها، بل تجب؛ وذلك لأن السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أصحابه لم يكونوا يستفصلون، فلم يكونوا يسألون أصحاب المواشي وأصحاب الحبوب والثمار هل عليكم ديون تنقص النصاب أو لا؟ فكانوا يأخذون منهم الزكاة من غير استفصال.
والدليل الثاني، وهو نظري: أن الفقير تتشوف نفسه إلى هذا المال الظاهر، ويتعلق به، فلم يكن من المناسب أن يمنع الدين الزكاة فيه، لتشوف الفقراء عليه، وهذا بخلاف الأموال الباطنة. فهو ظاهر لأعين الفقراء.
وأما الحنابلة، فقالوا: الدين إذا كان ينقص النصاب في الأموال الظاهرة، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ قالوا: لعموم قول عثمان التقدم " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم "، قالوا: هذا عام في الأموال الظاهرة والباطنة.
لكن تقدم أن أثر ابن عمر مخالف له في الأموال الظاهرة دون الأموال الباطنة.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الإمام أحمد، وذكره البخاري تعليقاً، وهو في الصحيحين بلفظ آخر.(9/16)
واستدلوا بالحديث المتقدم (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ، وأن هذا من أهل الزكاة، فليس من المناسب أن يعطى من الزكاة لديونه، وتؤخذ منه الزكاة. فالزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء الذين ليسوا بحاجة إلى الزكاة، وهذا بحاجة إلى الزكاة. وهذا القول فيما يظهر لي أقوى؛ لقوة ما عللوا به هذا القول واستدلوا به، من أن حاجة صاحب المال مقدمة على حاجة غيره، ويبدأ المرء بنفسه قبل غيره، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى، وكيف تدفع له الزكاة من جهة وتؤخذ منه من جهة أخرى! .
أما ما ذكره أهل القول الأول، فإن عدم استفصال السعاة بناء على الأصل، فإن الأصل هو براءة الذمة من الديون، ولأن من عليه دين فإنه يخبر بذلك ويقول: إن عليّ دين، فهم لم يكونوا يستفصلون لهذا، بناء على الأصل، ولأن من كان عليه دين فإنه يخبر عن نفسه.
وأما كون الفقراء تتشوف نفوسهم إلى المال، فحاجة صاحب المال أولى من حاجة غيره، فإن صاحب المال متشوفة نفسه لقضاء دينه وإبراء ذمته، وهو محتاج إلى هذا المال الذي يؤخذ منه، فكان أولى من غيره.
فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة، وهو أن زكاة المال لا تجب على من عليه دين ينقص النصاب، سواء كان المال باطنا أو ظاهراً.
أما المسألة الأولى في الأموال الباطنة، فهو مذهب جمهور العلماء.
وأما ما يكون في الأموال الظاهرة، فهو مذهب طائفة من التابعين.
وقول المؤلف [ولو كان المال ظاهرا] ، قوله " ولو " إشارة إلى خلاف بعض الحنابلة، وهو أحد الوجهين في المذهب: على أن الزكاة في الأموال الظاهرة واجبة وإن كان الدين ينقص النصاب، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب جمهور العلماء كما تقدم.
قال: [وكفارة كدين]
فمن عليه كفارات كمن عليه ديون.(9/17)
فلو أن رجلا عليه كفارة عتق رقبة أو كفارة إطعام أو دم لحج، وكانت هذه الكفارة تنقص النصاب الزكوي، فلا تجب عليه الزكاة أيضاً، فلو أن رجلاً عنده مال، لكن وجب في ذمته عتق رقبة حقاً لله عز وجل أو وجب في ذمته إطعام حقا لله بحيث إن هذه الكفارة تنقص المال، فإن الزكاة تسقط عنه أيضا. وهذا هو أحج الوجهين في مذهب الإمام أحمد؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء) (1) ، فدين الله كدين الآدمي، فالحقوق الواجبة على العبد من الكفارات ونحوها إن كانت تنقص النصاب فلا زكاة على صاحبها.
- والوجه الثاني في المذهب: أن الزكاة واجبة عليه، وهذا أظهر؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بعين المال، فهي حق لله متعلق بالمال بعينه، كما أنه متعلق أيضا بالذمة، فهو متعلق بالمال وبذمة صاحب المال، وأما الكفارات فإنها متعلقة بالذمة فحسب، وما كان متعلقاً بعين المال وذمة مالكه أولى مما تعلق بالذمة فقط، وكلاهما حق لله تعالى.
بخلاف المسألة المتقدمة، فإن الديون وإن كانت متعلقة في الذمة فقط مع أن الزكاة متعلقة بعين المال، لكن هي حقوق للآدميين، والحقوق للآدميين مبنية على المشاحة بخلاف الحقوق التي لله، فهي مبنية على المسامحة.
فالأظهر، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أن من عليه كفارات، فإن الزكاة واجبة عليه وإن كانت الكفارات تنقص النصاب، لأن الزكاة متعلقة بعين المال وهي حق لله تعالى، فقدمت على الكفارات المتعلقة بالذمة.
قال: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه]
فلو أن رجلاً عنده نصاب من المواشي، لكنها صغار من صغار الإبل أو صغار الغنم أو صغار البقر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب (22) الحج والنذور عن الميت (1852) ، وانظر (6699) و (7315) .(9/18)
كأن يملك أربعين سخلة أو أربعين من الفصلان أو الفحول، فهي صغار، وهذا بشرط أن تكون سائمة، أما إذا كانت تطعم اللبن فإنه لا زكاة فيها؛ لأن الزكاة إنما تجب في السائمة. فإذا كان عنده صغار من الإبل أو صغار من البقر أو صغار من الغنم، وهي سائمة ليست مما تطعم اللبن، فإن الزكاة تجب فيها وينعقد الحول من حين ملكها، فلا ننتظر حتى تبلغ السن المجزئة في الأضحية، فلا ننتظر في الشاة حتى تكون مسنة، أو في الضأن حتى تكون جذعاً، بل بمجرد ما يملكها انعقد الحول.
ودليل هذا عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها) (1) الحديث، وهم غنم، فالصغار غنم، ومثلها الإبل والبقر، فإذا تم الحول، فإنها تزكى وتكون في كثير منها قد بلغت السن المجزئة، كما يكون هذا في الغنم.
لكن إن وجبت الزكاة ومضى الحول في مواشي، وكلها صغار، يعني من السخال أو الفصلان أو غيرها،فهل يُخرج صغيراً أم يجب أن يشتري كبيراً فيخرجه في الزكاة؟ قولان لأهل العلم؟
1 – فذهب مالك: إلى أنه لا يجزئه إلا أن يخرج المجزئ في الأضحية، فعليه أن يشتري ما يجزئ ويخرجه؛ لأن هذا هو الواجب في الزكاة أصلاً، وهو أن يخرج ما يجزئ في الأضحية.
2 – والقول الثاني، وهو مذهب الحنابلة والشافعية في المشهور عندهم: أنه يجزئه إخراج الصغير. وهذا أظهر؛ وذلك لأن المخرج يكون من جنس المال في الأصل، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، ولقول عمر فيما تقدم: " هذا عدل بين غذاء الغنم وخياره " (2) فكما أخذت الجذعة والثنية لأنها عدل بين صغاره وبين خياره، وهنا العدل أن يؤخذ صغيراً، لأن المال كله صغار.
__________
(1) سيأتي.
(2) حاشية الروض المربع [3 / 171] .(9/19)
وأما ما استدل به مالك، فإن هذا حيث كان في المال خياراً وصغاراً، أما والمال كله صغار، فهذا يخالف الأصل، فكان العدل أن يؤخذ من الصغار، فالعدل هنا أن يؤخذ من الصغار؛ لأن المال كله صغار، ولأن الأصل في الزكاة أن تؤخذ من المال نفسه إلا أن يدل دليل على أخذها من غيره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ من أموالهم صدقة) . والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن والتسعون بعدالمئة
(يوم الأحد: 21 / 12 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن نقص النصاب في بعض الحول.. انقطع الحول]
إذا نقص النصاب الزكوي في بعض الحول، فإن الحول ينقطع.
مثال ذلك: رجل ملك أربعين شاة في أول محرم، فيجب عليه في آخر السنة أي في آخر شهر ذي الحجة أن يزكيها، لكن في أثناء الحول نقصت شاة واحدة، كأن يهب شاة أو يضحي بها، ونحو ذلك، ثم أنتجت الشياه شاة مكانها، فمثلاً في العاشر من ذي الحجة ضحى بشاة منها، وفي الخامس عشر من الشهر نفسه أنتجت بعض الشياه شاة، فتم النصاب، فإن الحول ينقطع، ويبدأ من تمامها النصاب مرة أخرى أي في الخامس عشر من ذي الحجة؛ وذلك لأن الشرط أن يمضي الحول على نصاب زكوي تام، وهنا لم يمض الحول على هذه الصفة، بل قد نقص النصاب أثناء الحول.
مثال آخر: نصاب الذهب عشرون دينارًا، فلو ملك رجل عشرين ديناراً فبقيت عنده حولاً، إلا أنه في أثناء الشهر نقص دينار، ثم وهب ديناراً، فتم له عشرين ديناراً، فهنا لم يمض الحول على نصاب تام، بل في أثناء الحول نقص النصاب، فهنا ينقطع الحول. إذاً الشرط أن يكون مالكاً للنصاب، وأن يمضي الحول كله وهو مالك للنصاب، فإن كان في أثناء الحول نقص النصاب، فإنه يستأنف الحول من جديد.(9/20)
لكن يستثنى من ذلك الزمن اليسير عرفاً، كالساعة أو الساعتين ونحو ذلك، كأن تموت له شاة في أول النهار، ثم وهبت له شاة بعد زمن يسير عرفاً، كالساعة أو الساعتين، فإن هذا لا يؤثر.
قال: [أو باعه أو أبدله بغير جنسه]
المبادلة نوع من البيع، ومراد المؤلف هنا بالبيع أن يكون بنقد، وبالمبادلة بغير نقد، وإلا فإن المبادلة نوع من أنواع البيع.
ولعل المؤلف هنا فرّق بين البيع والمبادلة للإيضاح، وهذا الأسلوب في الحقيقة ليس أسلوباً يناسب المتون العلمية، وإنما يناسب الشروح. أو أن يكون المؤلف يرى – وهو قول يخالف الصواب – أن المبادلة ليست ببيع.
المقصود من ذلك أن مراده بالبيع أن يكون بنقد أي بذهب وفضة، أي بالدراهم وبالدنانير، أي أن يبيع الإبل مثلاً بالدراهم والدنانير.
وبالمبادلة، بغير نقد، كمبادلة الإبل بالغنم، ومبادلة البقر بالإبل، ونحو ذلك، فهذه مبادلة، وهي في الحقيقة بيع.
فإذا باع النصاب الزكوي أو أبدله بغير جنسه، انقطع الحول.
مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، فباعها وأبدلها بإبل، أو باع إبلاً بدراهم، فإنه ينقطع الحول.
فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل – وهو نصاب الإبل -، فمضى عليها ستة أشهر،فباعها بدراهم، وبقيت الدراهم عنده ستة أشهر، فلا يزكيها حتى يتم عليها حولاً كاملاً؛ لأن حول الإبل قد انقطع، واستأنف للدراهم حولاً جديداً.
ومثل ذلك: لو باع هذه الإبل التي مضى عليها ستة أشهر بأربعين شاة، فإن هذا الأربعين يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى عليها حول كامل وجبت فيها الزكاة؛ وذلك لما تقدم من الآثار التي رُفعت، وتقدم ترجيح وقفها من أنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، وهذه الشياه التي قد اشتريت بالإبل، وهذه الدراهم التي بيعت بها الإبل، هذه أموال لم يمض عليها حول، فلا تجب فيها الزكاة حتى يمضى عليها الحول.(9/21)
إذاً: إذا باع نصابه الزكوي بنصاب زكوي آخر من جنس آخر، فإنه يستأنف لهذا النصاب الجديد حولاً جديداً؛ لعموم الآثار من أنه ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول.
قال: [لا فراراً من الزكاة]
إن فعل هذا فراراً من الزكاة أي حيلة، فإنه لا ينقطع الحول، كأن يكون عنده أربعون شاة، فمضى عليها تسعة أشهر، ثم باعها بدراهم حتى يفر من الزكاة، ثم يعود بعد ذلك فيشتري بها شياه، فإنه تجب عليه الزكاة إذا مضى الحول المتقدم؛ لأنه فعل ذلك فراراً من الزكاة.
وهذا لا شك أنه يحتاج إلى قرينة، أي قرينة تدل على أنه فعل ذلك فراراً، أما إذا لم تكن هناك قرينة، فإن القول قوله بلا يمين، فإذا قال: أنا لم أفعل ذلك هروباً من الزكاة، فإن القول قوله ولا نحتاج إلى يمينه؛ لأن الأصل معه، فإن الأصل براءة ذمته من هذا القصد المحرم.
لكن إن كانت هناك قرينة تقوي أنه إنما فعل ذلك فراراً من الزكاة، كخصومة بينه وبين الساعي أو نحو ذلك، فإنه يحكم بهذا؛ وذلك لأن الحيلة لا تسقط الواجب، وهي قاعدة شرعية يقررها فقهاء المالكية والحنابلة دون فقهاء الشافعية والأحناف، فإن الحيلة عند فقهاء المالكية والحنابلة لا تسقط الواجبات، فمن احتال لإسقاط واجب، فإن هذه الحيلة باطلة لاغية غير مؤثرة، وأما فقهاء الشافعية والأحناف، فإنهم يصححون الحيل، وإن قالوا بالإثم فيها.(9/22)
والراجح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة في هذه المسائل؛ وذلك لأن تصحيحها يخالف مقصود الشارع من تحريم الحيل، وقد نهى عنها الشارع، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن بطة بإسناد حسن: (لا تفعلوا كما فعلت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) (1) ، والحيلة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد، فالحيل لا غية مردودة غير نافعة لأصحابها، وعليه: فإذا احتال لإسقاط الزكاة فإن هذه الحيلة لا تكون مقبولة منه وغير مؤثرة في إسقاط الزكاة.
لكن كما تقدم هذا يحتاج إلى قرينة تدل عليه، أو اعتراف من فاعل ذلك، وأما أن يحكم عليه بمجرد التهمة فلا؛ لأن الأصل معه وهو براءة ذمته من الحيلة.
والمحتال يعاقب بنقيض قصده، وهنا قصده الهروب من الزكاة، فيعاقب بإثباتها، كما فعل الله عز وجل من العقوبة في أصحاب الجنة في قصتهم المذكورة في سورة القلم، فيما ذكره الله عنهم من احتيالهم لإسقاط الصدقة الواجبة عليهم للفقراء إلى أن قال الله في جنتهم: {فأصبحت كالصريم} (2) الآيات، فدل هذا على تحريم الحيل، وحيث حرمت فكما تقدم هي باطلة ومردودة في الشرع.
إذاً من احتال لإسقاط الزكاة أو لقطع الحول فإنها تجب عليه، والحول لا ينقطع، كما هو مذهب المالكية والحنابلة.
وأما الأحناف والشافعية، فإنهم قالوا: لا تجب الزكاة إلا حيث وجد النصاب ومضى عليه الحول، ولم يروا إثبات الزكاة لوجود هذه الحيلة. والصحيح كما تقدم خلافه.
قال: [انقطع الحول]
في المسائل الثلاثة كلها.
قال: [وإن أبدله بجنسه بنى على حوله]
اعلم أن الذهب والفضة وعروض التجارة جنس واحد.
__________
(1) ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأعراف آية 163، تفسير ابن كثير 3 / 492، وانظر إرواء الغليل 5 / 375. من المغني [7 / 487] .
(2) سورة القلم.(9/23)
أما الذهب والفضة؛ فلأنهما قيم الأشياء، فمؤداهما واحد، فهما من جنس واحد، ولذا يضم بعضهما إلى بعض في الزكاة، كما سيأتي، فمن كان عنده عشرة دنانير ومئة درهم، فإن الزكاة واجبة عليه كما سيأتي.
فلو أنه عنده فضة، فمكثت ستة أشهر ثم أبدلها بذهب، فبعد مضي ستة أشهر تجب عليه الزكاة في الذهب، فحولهما حول واحد، فلا يستأنف حولاً جديداً للذهب.
وأما عروض التجارة، فهي من جنس الذهب والفضة بالنظر إلى قيمتها، فإنها مقومة على الاستمرار، فهي معروضة للتجارة، فقيمها الذهب والفضة، وتزكى أيضاً بتقويمها ذهباً أو فضة، فكانت من جنس الذهب والفضة.
فلو أن عنده ثياباً للتجارة، مضى عليها ستة أشهر، ثم باعها بدراهم، ثم مضى على هذه الدراهم ستة أشهر، فإنه يزكيها؛ لأنهما من جنس واحد، فالثياب عروض تجارة، وهي من جنس الأثمان من الذهب والفضة، لأن قيمتها الذهب والفضة.
فإذا أبدل النصاب الزكوي بجنسه، بنى على حوله.
فلو أن عنده أربعين شاة، فأبدلها بأربعين شاة، فإن هذه الأربعين الممتلكة حديثاً لا يستأنف لها حولاً جديداً، بل حولها حول ما قبلها،، فالشياة قد باعها بشياه أخر، فمقصود الشارع حاصل في الشياه الأخر كما هو حاصل في الشياه الأولى، فوجبت الزكاة في الشياه الأخر مبنية على حول الشياه الأولى. حتى لو كانت الشياه الأخرى أكثر من الشياه الأولى، كأن يستبدل أربعين شاة بمئة وثلاثين شاة فيها سخال ونحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المئة والثلاثين.
فإن قيل: هذا الزائد لم لا يُستأنف له حول جديد؟
فالجواب: أنه شبيه بنتاج السائمة، فإن الزائد على الأربعين تبع للجنس الأول المستبدل، لأنه بدل له.
فإذا كان عنده جنس من الأجناس الزكوية، فاستبدل له بجنسه، فإنه لا يستأنف حولاً جديداً، بل يبني على الحول الأول.(9/24)
لكن إن استبدل أربعين شاة سائمة بأربعين شاة عروضاً، فإن الجنس يختلف، فهي وإن كانت كلها شياه، لكن هذه شياه تسوم، وهذه شياه للتجارة، ولذا لو أن رجلاً عنده أربعون شاة فمضى عليها ستة أشهر وهي سائمة، ثم أعدها تجارة للبيع والشراء، فإنه ينقطع الحول ويستأنف حولاً جديداً؛ لأنها تحولت إلى جنس آخر، فهي في الوضع الأول كانت سائمة، وهنا أصبحت من باب التجارة.
قال: [وتجب الزكاة في عين المال ولها تعلق في الذمة]
هل تجب الزكاة في ذمة المسلم صاحب المال الزكوي، أو أنها تجب في عين المال، بمعنى: هل هذا المال الذي يمتلكه المسلم إذا أوجبنا عليه الزكاة فيه، هل هذه الزكاة واجبة في عين المال بمعنى: أنها جزء من المال وداخلة فيه بنفسه أم أنها متعلقة في ذمة المزكي، وإن كان لها تعلق بالمال، لكن أصل تعلقها بالذمة؟
قولان لأهل العلم، هما قولان للحنابلة:(9/25)
القول الأول: أن الزكاة متعلقة بعين المال، ولها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في عين المال. واستدلوا: بقوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ، و {من} هنا تبعيضية، ومفادها أن الزكاة بعض المال المتوفرة فيه شروط وجوب الزكاة. وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها في كل أربعين شاة شاة) (2) ، و (في) هنا ظرفية، فتفيد أن هذه الشاة الواجبة زكاةً داخلة في هذا المال، فهي فيه، وهذا المال الزكوي شامل لها. قالوا: لكن لها تعلق في الذمة من حيث أنه لا تجب عليه أن يخرجها بعينها، بل لو أخرج مالاً خارجاً عنها، فإن ذلك يجزئ عنه، وهذا ما اتفق عليه العلماء، من أن الرجل إذا وجبت عليه شاة في أربعين شاة، فلا يجب عليه أن يخرجها من هذه الأربعين، بل له أن يشتري بدراهمه شاة أو أن يأخذ شاة من شياه غيره شراء أو هبة، ثم يدفعها للسعاة، ولو لم يرض الساعي بذلك، فلا يشترط رضا الساعي بذلك. قالوا: فلذا لها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في عين المال، ولكن رُخص للمكلف ألا يدفعها من عين المال الزكوي، ويبقيه على هيئته، ويدفعها من جهة أخرى؛ لأن المزكي قد يكون له تعلق في عين ماله، فيرغب أن يخرجها من غيره. ولأن مقصود الشارع يحصل بذلك، فإن المقصود هو إخراج شاة سواء كانت الشاة من عين ماله أو من غيره.
القول الثاني، قالوا: تجب في الذمة، لكنها لها تعلق بالمال، لكن أصل وجوبها أن تجب في الذمة.
واستدلوا: بما تقدم من أنه يجوز له أن يخرجها من غير عين ماله، وما جاز هذا إلا لوجوبها في الذمة، قالوا: ولو كانت واجبة في عين المال لوجب عليه أن يخرجها من عين ماله.
__________
(1) سورة التوبة.
(2) رواه البخاري من حديث أنس، كتاب الزكاة، باب (38) زكاة الغنم (1454) . وانظر (6448) .(9/26)
وفيما ذكروه نظر، ولذا أجاب أهل القول الأول بأنه إنما جاز له أن يخرجها من غير عين ماله رخصة له، فهو من باب الرخصة.
ومما ينبني من الخلاف على هذين القولين:
لو أن رجلاً عنده أربعون شاةً، مضى عليها حولان، فهل يجب عليه شاة واحدة أو يجب عليه شاتان؟
إن قلنا: إن الزكاة تجب في عين المال، فلا تجب عليه إلا شاة واحدة. وإن قلنا: إنها تجب في الذمة، فيجب عليه شاتان.
بيان هذا: عنده شاتان (1) مضى عليها حولان، إذا قلنا بقول الحنابلة هنا، وأنها متعلقة بعين المال، فلا يجب عليه أن يزكي إلا شاة واحدة؛ لأنا إذا أخرجنا عن الحول الأول شاة، فما بقي عنده إلا تسع وثلاثون شاة، والزكاة متعلقة بعين المال، فلتعلقها بعين المال، فإذا أوجبناها عليه في الحول الأول، فإن الزكاة متعلقة بهذه، فلا نحسب في السنة الأخرى، بل يبقى عنده تسع وثلاثون شاة، فلا يجب عليه إلا أن يزكي الحول الأول، وأما الحول الثاني فإن النصاب يكون قد نقص، أما إذا قلنا: إنها متعلقة بالذمة، فهو في الحول الأول قد ملك أربعين شاة، فعليه زكاة شاة، وفي الحول الثاني عنده أربعون شاة، فعليه شاة أخرى، هذا إذا لم نقل إن الدين الذي لله عز وجل الذي ينقص النصاب تجب فيه الزكاة، وقد تقدم الخلاف في هذا.
المقصود من هذا: أن الأدلة الشرعية المتقدمة دلت على أن الزكاة متعلقة في عين المال لا في الذمة فقط، بمعنى أنه قد وجب لله - عز وجل - في هذه الأربعين شاة أو في هذه العشرين ديناراً وجب لله فيها هذا الجزء المحدد من الزكاة، وإن كان لها تعلق في الذمة من حيث أن صاحبها لا يجب عليه أن يدفع هذا الجزء، بل له أن يخرجه من جهة أخرى رخصة له.
قال: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء]
أي لا يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء، فالضمير في " وجوبها " يعود على الزكاة.
__________
(1) لعل الصواب: أربعين شاة.(9/27)
رجل وجبت عليه زكاة، لكنه معسر، قالوا: لا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء. (1)
فيقال له: الزكاة واجبة عليك وإن لم تتمكن من أدائها، وإنما قلنا: الضمير في " وجوبها " يعود على الزكاة؛ لنبيِّن أن إخراجها لا يجب عليه، فالزكاة واجبة، لكن لا يجب عليه أن يخرجها؛ لأنه عاجز عن إخراجها، فالزكاة تبقى متعلقة في ذمته متى ما قدر زكى، لكن لا يجب عليه الإخراج؛ لأنه غير قادر عليه، فتتعلق الزكاة في ذمته حتى إذا ما استطاع زكى.
فلو أن رجلاً عنده أربعين شاة، وقد مضى عليها الحول، لكنه معسر لا يستطيع إخراج شيء من الزكاة، فهو معسر محتاج إلى ما عنده من هذه الشياه في قيام بيته أي يحتاج إلى لبنها ونحو ذلك، فقيام معيشته بها، فلا يستطيع أن يخرج منها شيئاً، هو لا يمكنه الأداء، لكن الزكاة تبقى متعلقة في ذمته متى ما قدر زكى.هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، والشافعية.
__________
(1) وفي حاشية المذكرة ما نصه: وعليه فيشترط للوجوب الحول والنصاب، التمكن من الأداء، وعليه: لو أتلف النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء، ضمنها، وعلى الثانية لا، إذا لم يقصد الفرار من الزكاة.(9/28)
- وعن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية وهو القول الثاني للشافعي، قالوا: إن لم يمكنه الأداء، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ قالوا: لأن الزكاة عبادة، ومن شروط إيجاب العبادات إمكان أدائها، وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) ، ولأن الزكاة إنما وجبت من باب المواساة، وهذا معسر يحتاج إلى المواساة، فلم تجب عليه. وليست كالديون على الآدمي، لأن الديون التي على الآدميين فيها محض حق الآدمي، وليست من باب المواساة، بل هي حقوق الآدميين، أما في الزكاة فإن حق الآدمي مشوب بحق الله - عز وجل -، وهي إنما وجبت مواساة من الغني للفقير، فإذا كان هذا محتاجاً إليها أو معسراً، فهو أولى بالمواساة من الفقير. فالراجح القول الثاني، وأن الزكاة لا تجب إلا مع إمكان أدائها.
أما أهل القول الأول، فإنهم استدلوا بالأدلة الدالة على وجوب الزكاة بمضي الحول، قالوا: وقد مضى الحول، فتعلقت الزكاة في ذمته.
والجواب: ما تقدم من أنها وإن مضى الحول، لكن لا نقول بإيجابها؛ لأن العبادات لا تجب إلا مع إمكان الأداء، ولأنها من باب المواساة، وما كان كذلك، فإنه يسقط عن صاحب المال، لأنه هو أحق بالمواساة من الفقير، لأنه صاحب المال.
قال: [ولا بقاء المال]
فبقاء المال ليس شرطاً في إيجاب الزكاة.
صورة هذا: رجل ملك نصاباً، ومضى عليه الحول، وقبل أن يزكيه تلف المال، بتفريط منه أو غير تفريط، فإن الزكاة واجبة عليه، وكما تقدم الإخراج لا يجب حتى يتمكن، لكن المقصود أن الزكاة تتعلق في ذمته. هذا هو المشهور عند الحنابلة؛ قياساً على دين الآدمي، قالوا: من كان له على آدمي دين، فإنه يجب عليه أن يعطيه إياه وإن كان معسراً، لكن يتربص به حتى يكون موسراً، لكن لا يسقط عنه الدين لإعساره، فكذلك الزكاة.
__________
(1) سورة التغابن.(9/29)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول الموفق ابن قدامة: إن كان بتفريط، فإن الزكاة تتعلق في ذمته، وإن كان بغير تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ قالوا: لأن الزكاة هنا أصبحت كالأمانة في يده، ومن كانت عنده لأحد أمانة، فتلفت بلا تفريط، فلا ضمان عليه اتفاقاً، كما دلت عليه الأدلة الشرعية فكذلك في الزكاة.
أما إذا تلفت الزكاة بتعد وتفريط، فإنه يضمن، كما يضمن الأمانة التي تلفت عنده بتعد منه وتفريط. وهذا القول هو القول الراجح.
وأما الجواب عن قياسهم على دين الآدمي، فيقال: بينهما فرق، فإن دين الآدمي محض حق للآدمي، وأما الزكاة ففيها حق الله المبني على المسامحة. هذا الوجه الأول.
وأما الوجه الثاني: فهو أن ديون الآدميين لا دخل لها في باب المواساة، بخلاف الزكاة، فإنها إنما شرعت مواساة من الغني إلى الفقير، وحيث كان ذلك، فإنه لا يضر بالغني ولا يشق عليه لمواساة غيره. فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام.
قال: [والزكاة كالدين في التركة]
إذا مات صاحب المال وعليه ديون، فإن الديون تقدم على الإرث كما هو مقرر في علم الفرائض، قال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (1) ، فالديون مقدمة على الورثة، فكذلك الزكاة.
فلو أن رجلا مات قبل أن يخرج زكاة ماله، فإنها تخرج من تركته قبل الإرث؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فدين الله أحق بالقضاء) (2) ، فدل هذا على أن دين الله كدين الآدمي في القضاء، فيقدم حينئذ على الإرث.
__________
(1) سورة النساء.
(2) رواه البخاري، وقد تقدم.(9/30)
وهل يقدم دين الله الزكوي على ديون الآدميين المطلقة التي لم تتقوى برهن في هذا المال -، لأن الديون منها ما هو دين برهن، ومنها ما هو دين مطلق، فالدين برهن هذا دين متعلق بالتركة، أما الديون المطلقة فهي التي لا رهن فيها، فهل تقدم الديون المطلقة على دين الله أو يقدم دين الله على الديون المطلقة، أم نجعلها حصصاً ونساوي بينها؟
المشهور عند الحنابلة: الثالث، فلو أن رجلا مات وعليه زكاة، فما بقي له من المال إلا شاة واحدة، الواجب عليه في الزكاة شاة وعليه دين لآدمي بقدر شاة، فإن هذه الشاة تقسم بين دين الله وبين دين الآدمي بالمحاصة، فإذا كان من له الدين واحد، فنصف الشاة للزكاة والنصف الآخر لهذا الدائن، وإن كانوا اثنين فالثلث للزكاة والثلث للدائن الأول، والثلث الأخير للدائن الثاني.
وذهب بعض الحنابلة: إلى أن الزكاة مقدمة على دين الآدمي، إلا أن يكون دين الآدمي مرتبط برهن. وهذا القول أظهر، ودليل هذا ما تقدم من أن الزكاة متعلقة بعين المال، فهي جزء منه متعلقة به، وإنما أذن له أن يخرجها من غيره من باب الرخصة، فحيث كان ذلك، فهي مقدمة على الدين المطلق المتعلق بالذمة.
وأما الدين الذي يكون برهن، فإنه مقدم على الزكاة؛ لأنه مرتبط بعين هذا المال بخصوصه، فالزكاة متعلق بجزء منه لا على التعيين، وأما الدين الذي برهن، فهو متعلق بجزء من المال بعينه.
والوجه الثالث: يقدم دين الآدمي؛ لأن حقه مبني على المشاحة.
والحمد لله رب العالمين.
... (1)
الدرس التاسع والتسعون بعد المئة
(يوم الاثنين: 22 / 12 / 1415هـ)
باب زكاة بهيمة الأنعام
[تجب في إبل وبقر وغنم]
__________
(1) كلام غير واضح متكون من سطرين.(9/31)
هذه بهيمة الأنعام، فهي الإبل والبقر والغنم، فتجب الزكاة فيها سواء كانت الإبل بَخاتياًّ، وهي الإبل المتولدة من الإبل العربية والعجمية، وهي ذات السنامين، أو كانت عِرابا، وهي المشهورة عندنا، فكلها من بهيمة الأنعام.
والبقر: كل ما يسمى بأنه بقر، ومن ذلك الجواميس باتفاق العلماء.
* وأما بقر الوحش، فعن الإمام أحمد روايتان:
الرواية الأولى: أنها داخلة في البقر التي تجب فيها الزكاة، وهكذا غنم الوحش؛ وذلك لأنها داخلة في عموم الاسم، فلفظ البقر كما أنه شامل للبقر الأهلي، فإن البقر الوحشي يدخل فيه، وهكذا الغنم.
الرواية الثانية، وهي مذهب جمهور العلماء: أن بقر الوحش لا يدخل في وجوب الزكاة؛ وذلك لأن اسم البقر لا يشمله إلا بالإضافة، فيقال: بقر وحشي، أما الاسم المطلق وهو " البقر "، فإن بقر الوحش لا يدخل فيه. ولأنه ليس من بهيمة الأنعام، ولأن المعنى الذي من أجله شرعت الزكاة من النماء ليس ثابتاً فيه.
فالراجح مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد: من أن الوحشي من البقر والغنم ليس فيه الزكاة، إذ هو ليس من بهيمة الأنعام، ولأن الاسم الذي ورد في الشريعة لا يشمل الوحشي إلا بالإضافة.
*
والمشهور عند الحنابلة: أن المتولد من الوحشي والأهلي تجب فيه الزكاة.
وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: إن الزكاة لا تجب فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن المتولد من الوحشي والأهلي نوع آخر، كما أن البغل المتولد من الفرس والحمار نوع آخر. فهو نوع آخر، فليس بمنصوص عليه ولا بمجمع عليه ولا بمعناهما، ولأن الأصل براءة الذمة من الزكاة، والأصل عدم إيجاب الزكاة إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع ولا قياس.(9/32)
فعلى ذلك: حاصل ما يجب فيه الزكاة من بهيمة الأنعام ما يصدق عليه أنه من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيخرج من هذا الوحشي من البقر والغنم، والمتولد من الوحشي والأهلي، فإنهما ليسا من بهيمة الأنعام، وبالتالي لا تجب فيهما الزكاة.
قال: [إذا كانت سائمة الحول أو أكثره]
السائمة: هي الراعية التي ترعى الكلأ.
فأما المعلوفة التي يؤتى لها بالكلأ ويجمع لها، أو يشترى لها، فإن الزكاة لا تجب فيها.
فالزكاة إنما تجب في السائمة التي ترعى، أما التي يتكلف صاحبها بشراء علفها أو يتكلف جمع الكلأ والعشب لها، فإن الزكاة لا تجب فيها.
ودليل هذا: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك فيما كتب له أبو بكر: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين " الحديث وفيه: " وفي صدقة الغنم في سائمتها " (1) ، فقوله " في سائمتها " قيد يجب مراعاته، فهو قيد وشرط فيما تجب الزكاة فيه من الغنم، وهكذا الإبل والبقر، وقد ورد هذا في الإبل، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في كل سائمة إبل أربعين بنت لبون) (2) . فهنا قيد الإبل بكونها سائمة. والبقر كذلك من باب القياس الجلي؛ لأنها بمعنى الإبل والغنم.
إذاً: لا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا أن تكون سائمة.
وظاهر الأحاديث أن تكون سائمة الحول كله، بحيث أنها وإن علفت يوماً أو يومين، فإن الزكاة تسقط منها. هذا ظاهر الأحاديث، وهو قول ضعيف في مذهب الإمام أحمد.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب في زكاة الغنم، وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) بلفظ: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون..) .(9/33)
والجمهور: على أنها إن كانت تسوم أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها وإن كان تعلف بعضه.
وذلك لندرة السوم السنة كلها، فإن هذا نادر قلّ أن يقع، ولاشك أنا إذا لم نوجب الزكاة إلا بهذا القيد، فإن هذا فيه إجحاف بالفقراء، مع أن الزكاة كانت تؤخذ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الإبل والبقر والغنم، فدل على أن المراعى إنما هو الأكثرية، ولاشك أنها توصف بأنها سائمة بناء على الأغلب.
فالتي ترعى تسعة أشهر في السنة، وثلاثة أشهر تعلف، تسمى سائمة من باب النظر إلى الأمر الغالب فيها.
فإذا كانت سائمة الحول كله أو أكثره، فإنها تجب فيها الزكاة.
لكن إن كانت تسوم ستة أشهر، وتعلف ستة أشهر أو كانت تعلف أكثر السنة، فإن الزكاة لا تجب فيها.
قال: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض]
وبنت المخاض: هي الأنثى من الإبل التي تم لها سنة وشرعت في السنة الثانية. وسميت بنت مخاض؛ لأن أمها في الأغلب تكون ماخضاً أي حاملاً، فمن ملك خمساً وعشرين من الإبل، فعليه بنت مخاض.
قال: [وفيما دونها في كل خمس شاة]
فإذا كان لا يملك إلا أربعاً وعشرين من الإبل، فعليه في كل خمسٍ شاة، فيجب عليه في أربع وعشرين من الإبل أربع شياه. وفي عشر من الإبل شاتان، وفي خمس عشرة من الإبل فيها ثلاث شياه، ففي كل خمسٍ شاة.
وما بين العشرين – مثلاً – وخمس وعشرين وَقْص، أي لا ينظر إليه في الزكاة، إذا بلغت عشرين، ففيها أربع شياه، وكذا إذا بلغت إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين، فكلها فيها أربع شياه. فهذا هو الوقص: وهو ما بين الفريضتين. فالوقص في بهيمة الأنعام لا شيء فيه.
أما إذا لم تبلغ خمساً من الإبل، فلا شيء فيها، فمن عنده أربع من الإبل، فلا شيء فيها.
قال: [وفي ست وثلاثين بنت لبون](9/34)
إذاً: من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض. فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون.
وبنت لبون: هي ما لها سنتان وشرعت في السنة الثالثة، وسميت بنت لبون؛ لأن أمها في الغالب تكون ذات لبن، لأنها قد حملت فنتجت فكانت ذات لبن.
إذاً: إذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين، فيها بنت لبون.
قال: [وفي ست وأربعين حقة]
فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة.
والحقة: هي طروقة الجمل، ويمكن أن تحمل وتركب، وهي ما تم لها ثلاث سنين وشرعت في السنة الرابعة.
فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين، فيها حقة.
قال: [وفي إحدى وستين جذعة]
فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة: وهي ما تم لها أربع سنوات وشرعت في السنة الخامسة.
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، فيها جذعة.
قال: [وفي ست وسبعين بنتا لبون]
فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون.
قال: [وفي إحدى وتسعين حقتان]
فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان.
قال: [فإذا زادت على مئة وعشرين واحدة، فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة]
فإذا زادت على مئة وعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.(9/35)
هذه هي فريضة الإبل، ودليلها: ما ثبت في البخاري عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فابن لبون ذكر – وسيأتي الكلام على هذه المسألة – فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة ففيها حقتان، فإذا زادت على عشرين ومئة واحدة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها " (1) .
إذاً: إذا زادت الإبل على مئة وعشرين من الإبل، فإن الواجب عليه في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
فإذا كان عند مثلاً 300 من الإبل، فعليه ست حقق، في كل خمسين حقة، وإذا كان عنده 200 من الإبل فعليه أربع حقق أو خمس بنات لبون، وهكذا.
وعند قول المؤلف [وفيما دونها في كل خمس شاة]
لا يجزئ من الغنم في صدقة بهيمة الأنعام إلا ما يجزئ في الهدي والأضحية من باب القياس، ولأثر عمر المتقدم في قوله: " نأخذ الثنية والجذعة ".
وإن كان الإبل رديئة، فتكون الشاة رديئة، وإن كانت الإبل جيدة، فتكون الشاة المخرجة جيدة، فبحسب الإبل تؤخذ الغنم جودة أو رداءة. فإن كانت الإبل سماناً، أخرجت شاة سمينة، وإن كانت هزالاً، أخرجت شاة هزيلة.
فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكنها في قيمتها تناسب الإبل المريضة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، وقد تقدم.(9/36)
فمثلاً: إذا كانت الشاة الطيبة تساوي خمسة دراهم، والإبل الصحيحة، الواحد منها يساوي مئة درهم، ووجدنا أن الإبل المراض يساوي الواحد منها ثمانين درهما، فإنا نخرج شاة قيمتها أربعة دراهم؛ نظراً للفارق بين الصحيحة والمريضة من الإبل، فبقدر النسبة بين الإبل الصحيحة والمريضة تكون النسبة في المخرج. بقى ما تقدم إذا كانت الدراهم للإبل الصحيحة مئة، وللمريض ثمانون، فإن النقص بقدر الخمس، فيكون النقص في قيمة الشاة أيضا بقدر الخمس.
إذاً يكون المخرج من الغنم جودة أو رداءة بالمراعاة إلى الإبل جودة أو رداءة، فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكن قيمتها تناسب الإبل المراض.
واعلم أن أظهر قولي العلماء - وهما قولان في مذهب أحمد – أن الواجب عليه أن يخرج أنثى من الغنم، وأن الذكر لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر صدقة الإبل إنما ذكر الشاة في قوله: (في كل خمس شاة) فقد نص على الأنثى، فلم يجزئ غيرها، وقد تقدم قول عمر: " نأخذ الجذعة والثنية ".
واختلف أهل العلم، هل يجزئ أن يخرج الإبل عن الشاة، أم لا يجزئ؟
فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل، فالواجب عليه شاة واحدة، فإذا أخرج عنها بعيراً، فهل يجزئ أم لا؟
قال الحنابلة: لا يجزئ؛ نظراً للنص، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نص على الشاة.
لكن هذا القول ضعيف، بل هو قريب من طريقة الظاهرية.
وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن ذلك يجزئ؛ لأن الإبل تجزئ في العدد الأكبر، فإجزاؤها في العدد الأقل من باب أولى.
فبنت المخاض تجزئ في خمس وعشرين من الإبل، فإجزاؤها فيما أقل من ذلك من باب أولى.
وأما النص الوارد، فهو من باب ما يجب عليه، لكن إن زاد خيراً، فهو خير له، وهو تطوع منه.(9/37)
ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض في إبله، فقال: " ذلك ما لا لبن منه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة سمينة فتيَّة " فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) (1) ، قال الراوي: " فأخذت صدقته في عهد معاوية ثلاثين حقة "، أي قد بلغت إبله ألفاً وخمسمئة.
فالشاهد قوله (فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) ، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه الناقة عن بنت المخاض، فدل هذا على أن من تصدق بفريضة أعلى من الفريضة الواجبة عليه، فإن ذلك يجزئ عنه، ومن ذلك إن تصدق بناقة عن شاة، فإن ذلك يجزئ عنه.
ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إن تصدق ببنت لبون عن بنت مخاض أو بحقة عن بنت لبون أو بجذعة عن حقة، فإن ذلك يجزئ بلا خلاف، فكذلك في المسألة المتقدمة.
واعلم أن من وجبت عليه سن فلم يجدها، ووجد سناً أعلى منها أو أنزل منها، كأن تجب على رجل حقة، فلم يجدها، ووجد أعلى منها – أي جذعة – وأنزل منها – بنت لبون -، فهو بالخيار، إن شاء أن يدفع أعلى منها ويأخذ شاتين أو عشرين درهماً جبراناً له، وإن شاء أن يدفع أنزل منها ويعطي شاتين أو عشرين درهماً جبراناً للصدقة.
وكذلك إن لم يجد السن التي تليها، ووجد السن التي تلي ما بعدها، فإن جبرانه أربع شياه أو أربعون درهماً، كأن يجب على رجل بنت مخاض، فلم يجدها وفي ماله حقة، فإنه يجوز له أن يدفع الحقة ويُدفع له أربعون درهماً، أو أربع شياه، جبراناً له.
__________
(1) رواه أبو داود في الباب المتقدم رقم (1583) .(9/38)
فقد ثبت في حديث أبي بكر المتقدم أنه قال: " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة وعنده الحقة، فإنها تقبل منه وتؤخذ منه شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً ".
والجبران مختص بالإبل دون البقر والغنم.
أما الغنم فلا إشكال، فإن الغنم الفريضة فيها واحدة، فلا تختلف السن فيها كما تختلف في الإبل، فالواجب هو شاة أو شاتان أو ثلاث أو أربع، وهكذا، فلا تختلف السن فيها، فلا مدخل للجبران فيها.
وأما البقر، فإن النص لم يرد فيها، والوقص فيها يختلف عن الوقص في الإبل، فلا يصح القياس.
فمن وجبت عليه سن في البقر وليست عنده، وعنده سن أكبر منها، فإنه يدفعها إن شاء ولا يعطى جبراناً، وإن شاء اشترى من السوق السن المطلوبة وأعطاها المصدق.
إذاً: هذا الجبران المتقدم مختص في الإبل فقط، فلا مدخل للبقر والغنم فيه، والنص إنما ورد في الإبل وليست البقر بمعناها.
وأما الغنم، فإن هذه المسألة ليست بمفروضة فيها أصلاً، إذ السن فيها واحدة وإن اختلف عدد الغنم بحيث يختلف عدد الفريضة فيه، فإن الفريضة لا تختلف.
الدرس المئتان
(يوم الثلاثاء: 23 / 12 / 1415 هـ)
فصل
قال: [ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة]
التبيع: ماله سنة، وهو الذكر من أولاد البقر.
والتبيعة: الأنثى وهي مالها سنة وقد شرعت في الثانية.
قال: [وفي أربعين مسنة]
المسنة: ما لها سنتان، وهي الثنية، وقد تقدم أنها تجزئ في الأضحية، فالبقر يجب في ثلاثين منه تبيع أو تبيعة، فإذا بلغت أربعين فالواجب مسنة.
قال: [ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة](9/39)
ثم بعد ذلك في كل ثلاثين من البقر تبيع، وفي كل أربعين مسنة. فإذا كان عنده تسعون بقرة، فيجب عليه ثلاثة أتبعة، وإذا كان عنده مئة بقرة فيجب عليه تبيعان ومسنة، وهكذا.
ودليل هذا ما رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وهو كما قال، لكن لشواهده،عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) (1) ، وهذه جزية وسيأتي الكلام عليها.
فإن لم تبلغ البقر ثلاثين، فلا تجب الزكاة فيها، وهو ما يسمى بالشَنَق، فالشنق: هو ما دون النصاب.
والوقص: هو ما بين الفريضتين.
قال: [ويجزئ الذكر هنا]
الذكر هنا وهو التبيع يجزئ عن التبيعة، أما الأربعون فلا يجزئ فيها إلا مسنة.
قال: [وابن لبون مكان بنت مخاض]
هذا في صدقة الإبل (2) ، فابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، لكن ثمت فارق بين هاتين المسألتين.
ففي صدقة البقر يجزئ التبيع عن التبيعة مطلقاً، وأما في صدقة الإبل فإن ابن اللبون لا يجزئ عن بنت المخاض إلا عند عدمها.
فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض وليس في ماله بنت مخاض، فإنه لا يكلف شراءها بل يخرج ابن لبون من إبله.
وهل له أن يخرج موضع بنت لبون حقاً، أو أن يخرج موضع الحقة جذعاً أم لا؟
فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت لبون وليس في ماله بنت لبون، وفي ماله حق، فهل يجزئه الحق عن بنت اللبون،
قولان في مذهب الإمام أحمد:
__________
(1) أخرجه أبوداود في الباب المتقدم رقم (1576) ، والترمذي في الزكاة، باب زكاة البقر حديث 623، وقال: " حديث حسن " وذكر أن بعضهم رواه مرسلاً وقال: " وهذا أصح "، والنسائي في الزكاة، باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها ولحمولتهم حديث 2455، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر حديث 1803. سنن أبي داود [2 / 235] .
(2) كذا في الأصل.(9/40)
الأول، وهو قول القاضي وابن عقيل من الحنابلة: أنه يجزئ قياساً، فكما أن ابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، فكذلك الحق يجزئ عن بنت اللبون، والجذع يجزئ عن الحقة، فعلى ذلك: فارق السن في الذكر مقابل فضيلة الأنوثة. ففضيلة الأنوثة في بنت اللبون يقابلها فارق السن في الحق. وفضيلة الأنوثة في الحقة يقابلها فارق السن في الجذع.
والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجزئ؛ وذلك لأن النص لم يرد، وليس هذا بمعنى ما نص عليه، بل هناك فارق بين المسألتين.
والفرق: أن ابن اللبون إنما كان مقابلاً لبنت المخاض الأنثى، لأن فضيلته ظاهرة، فإنه يرد الماء ويأكل الشجر ويمتنع عن صغار السباع، بخلاف بنت المخاض، فإنها لا ترد الماء وتدفع عن نفسها صغار السباع، فكانت هذه فضيلة فيه مع زيادة السن.
وليس هذا الفارق ثابتاً بين بنت اللبون وبين الحق، فإن بنت اللبون ترد الماء وتأكل الشجر، وتمنع نفسها من صغار السباع، فالفضيلة الثانية في الحق ثابتة فيها، فلم يبق إلا فارق السن، وحينئذ فلا يقابل الأنوثة، فإنه إنما قابل الأنوثة في المسألة السابقة لأمر آخر، وهو أن ابن اللبون فيه فضيلة قيامه بشأن نفسه مع فارق السن، وقيام الحق بشأن نفسه متوفر ببنت اللبون، فلم يكن هناك فارق إلا زيادة السن.
فلذا الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم، من أن الحق لا يجزئ عن بنت اللبون ولا الجذع عن الحقة، وإنما يجزئ ابن للبون عن بنت المخاض؛ للنص الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: [وإذا كان النصاب كله ذكوراً](9/41)
فإذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه يجزئ أن يخرج الذكر. فإذا كان لا يملك إلا ذكوراً من المعز، أو ذكوراً من البقر، أو ذكوراً من الإبل، فإن الواجب عليه أن يخرج الذكر، ولا يجب أن يخرج الأنثى؛ قالوا: لأن المقصود من الزكاة هو المواساة – مواساة الفقير والغني -، فلا يكلفها من غير ماله، لأنه ليس في ماله أنثى، فماله كله ذكوراً، فيخرج حينئذٍ ذكراً. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم.
وحكى صاحب الفروع قولاً في المسألة، أشار إليه بقوله: " قيل: - أي قول لبعض الحنابلة، وهو وجه عن الشافعية – أنه يجب أن يخرج أنثى إذا كان النصاب كله ذكراً، لكنها تكون قيمتها بقدر الذكر، فيقوم النصاب إناثاً، ويقوم ذكوراً ثم تخرج الأنثى بقسطه، أي بالفارق بين الذكور وبين الإناث، فإذا كان الذكر مثلاً يساوي ثمانمئة، والأنثى تساوي ألفا، فالفارق بينهما بقدر الخمس، فحينئذ إن كانت قيمة بنت المخاض الواجب إخراجها في الأصل ألف، فإنه يخرج ما قيمتها ثمانمئة.
هذا القول قول قوي؛ لعمومات النصوص، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم من حديث أبي بكر: (في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم) ، وقال: (في كل خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض) ، فقوله: (في كل خمس وعشرين من الإبل) (وفي كل ست وثلاثين من الإبل) عام فيما إذا كانت الإبل ذكوراً أو إناثا.
لكنه لا يجب عليه أن يخرجها أنثى كما لو كان النصاب إناثاً؛ لأن الزكاة تخرج عدلاً، فحينئذ تخرج أنثى لكن بقدر قيمة الذكر، أي يقوم النصاب ذكوراً وإناثاً، ثم تخرج الأنثى بقسط ما بينهما.
هذا، وإن كان أهل القول الأول يمكنهم الخروج من العموم بأن يقولوا: بندرة كون النصاب كله ذكوراً، فإن هذا من النادر، فخروجه من العموم لندرته.(9/42)
لكن لا شك أن العمل بعموم النصوص الشرعية أولى، والمقصود أن يكون المُخرج منظوراً فيه العدلية، وهذا يثبت بإخراج الأنثى بقيمة الذكر.
إذاً: لا يجوز إخراج الذكر إلا في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا بلغت البقر ثلاثين، فله أن يخرج تبيعاً أو تبيعة.
المسألة الثانية: إذا كان الواجب عليه بنت مخاض، ولم يجدها في ماله،فله أن يخرج موضعها ابن لبون.
المسألة الثالثة: إذا كان النصاب كله ذكوراً، فيما تقدم في المشهور عند الحنابلة، والأقوى ما تقدم ذكره. الله أعلم.
فصل
قال: [ويجب في أربعين من الغنم شاة]
إذا ملك أربعين من الغنم، فقد تم النصاب الزكوي فيها، فيجب عليه أن يخرج شاة.
إذاً مادون الأربعين شَنق لا زكاة فيه.
قال: [وفي مئة وإحدى وعشرين شاتان]
فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان.
قال: [وفي مئتين وواحدة، ثلاث شياه]
فإذا بلغت مئتين وواحدة، فالواجب عليه ثلاث شياه.
قال: [ثم في كل مئة شاة]
فإذا كان عنده أربعمئة شاة، فعليه أربع شياه، وإذا كان عنده خمسمئة شاة فعليه خمس شياه.
إذاً في الأربعين شاة إلى مئة وعشرين.
فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين، ففيها شاتان.
فإذا بلغت مئتين وواحد إلى ثملاثمئة ففيها ثلاث شياه.
ثم في كل مئة شاة.
ودليل هذا: ما تقدم سياق بعضه وهو حديث أبي بكر، وفيه: " وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاثمئة ففيها ثلاث شياه، ثم في كل مئة شاة " (1) . فهذه صدقة الغنم.
وإذا كان النصاب الزكوي من الإبل أو البقر أو الغنم من نوعين، كأن تكون الغنم معزاً وضأناً، أو أن تكون الإبل بخاتياً وعراباً، أو أن تكون البقر بقراً وجواميساً، فإنه يخرج من أحد النوعين.(9/43)
ولاختلاف القيمة المحتملة من النوعين، فإن هذا المخرج يكون بقدر قيمة المالين، وكذا إذا كان المال سمان ومهازيل.
مثال ذلك: عنده عشرون شاة، كل شاة ثمنها خمسمئة ريال، وعنده عشرون معزاً سعر الواحدة ثلاثمئة ريال، فيخرج شاة أو معزاً قيمتها أربعمئة ريال.
قال: [والخلطة تصير المالين كالواحد]
الخلطة في بهيمة الأنعام نوعان، وهو كذلك في كل خلطة، سواء في الأثمان أو عروض التجارة أو الحبوب والثمار:
1- خلطة أعيان. 2- خلطة أوصاف.
خلطة الأعيان: أن يكون مال كل واحد منهما غير متميز عن مال الآخر، بل نصيب كل واحدٍ منهما مشاعاً، كأن يكون عندهم مئة شاة، هذا له النصف وهذا له النصف، أو هذا له الربع وهذا له الثلاثة أرباع، وهكذا.
أما خلطة الأوصاف: فهي أن يتميز مال كل واحد منهما عن الآخر، فشياه هذا معروفة وشياه الآخر معروفة، لكنها مختلطة، فيما يأتي ذكره مما تثبت به الخلطة.
فالخلطة تصير المالين مالاً واحداً بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون كل واحد من المتخالطين أهلاً للزكاة، فإذا كان كافراً فلا. فإن لم يكونوا أهلاً للزكاة أو لم يكن أحدهما كذلك نقصت بحسب ما ينقص مما ليس أهلاً للزكاة أو لم تجب الزكاة أصلاً.
الشرط الثاني: أن يمر على الخلطة حولاً؛ لأن الخلطة جعلت المالين كالمال الواحد، وحينئذ أصبح له حكم مستقل، فاشترط ما تقدم من مضي الحول.
إذا ثبت هذا: فلا إشكال في خلطة الأعيان، فهي ظاهرة واضحة، فهي أن يكون لاثنين فأكثر مال يملكانه أو يملكونه مشاعاً.
وأما خلطة الأوصاف فشرط فيها الحنابلة شروطاً:
أن يكون مَسْرحها واحداً، أي موضعها الذي تخرج منه لترعى (1) .
أن يكون مرعاها واحداً.
أن يكون راعيها واحداً.
__________
(1) قال في الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [6 / 68] : " المسرح أي يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً، فلا يسرح أحد غنمه يوم الأحد والثاني يوم الاثنين ".(9/44)
أن يكون مراحها واحداً، وهو الموضع الذي تبيت فيه.
أن يكون الفحل الذي يطرقها واحداً، فإن تميز مال كل واحد منهما بفحل فلا. إلا أن يكونا نوعين مختلفين، كالضأن والمعز، فهنا نوعان مختلفان، فلا يعتبر هذا الشرط هنا.
أن يكون محلبها واحداً، يعني الموضع الذي تحلب فيه.
فقالوا: هذه شروط ستة، فإن هذه المواشي تكون خلطة حينئذ، فتؤخذ منها الزكاة جميعاً وكأنها مال واحد. وحينئذ إذا اجتمع لرجلين أربعون شاة، فإنا إذا نظرنا إلى مال كل واحد منهما، فإن الزكاة لا تجب، فكل واحد يملك عشرين شاة، فلا زكاة عليها، وإذا نظرنا إلى المال الذي وقعت فيه الخلطة قلنا بوجوب الزكاة، وهذا ما اعتبره الشارع، ففي حديث أبي بكر: " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " (1) ، والنظر يدل على هذا، فإن الزكاة متعلقة بالمال ولذا وجبت على الصبي والمجنون، وحيث ثبتت الخلطة المتقدمة، فإنها تصير المالين مالاً واحداً، فتتعلق الزكاة بهذا المال، كما لو كان مالاً لرجل واحد.
إذاً: خلطة الأعيان وخلطة الأوصاف بالشروط المتقدمة تصير المالين مالاً واحداً، وحينئذ تجب الزكاة في هذا المال، وإن كان نصيب كل واحد منهما لا يبلغ نصاباً، فإن النظر إلى مجموع المال.
وفيما ذكروه من الشروط الست في خلطة الأوصاف شيء من النظر، والأظهر ما ذكره صاحب الفروع في قوله: " ويتوجه أن ينظر في الخلطة إلى العرف "، فما ثبت في العرف أنه خلطة تثبت به الأحكام، لأن الشرع أطلق، فقال: " وما كان من خليطين "، فمتى ما ثبتت الخلطة عرفاً،فإن الحكم يثبت.
__________
(1) رواه البخاري وغيره، وقد تقدم.(9/45)
والأظهر: عدم اعتبار مثل المحلب، فإن هذا غير مؤثر في هذه المسألة، فالأظهر أن يقال: متى ما ثبتت الخلطة في العرف،فإن الحكم يثبت. فإذا كان عرف الناس أن هذين المالين مختلطين وأنهما كالمال الواحد، فإن الزكاة تجب فيهما على أنهما مال واحد.
وأما خلطة الأعيان، فإنه لا إشكال فيها، فالخلطة فيها ظاهرة جداً؛ لأن المال لا يملكه كل واحد منهما متميزاً عن الآخر، فليس كل واحد منهما يملك شياهاً متميزة عن شياه الآخر، بل هم يشتركون في هذه الشياه. إذاً: إذا ثبتت الخلطة، فإن الزكاة تؤخذ من جميع المال، فإذا أخذت الزكاة، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.
مثال هذا: إذا كان المال الذي وقعت فيه الخلطة قدره أربعون شاة، لأحدهما شاة، وللآخر تسع وثلاثون شاة، فأخذت شاة وقدرها أربعون درهم، فحينئذ يكون الواجب على صاحب الشاة قدر درهم من هذه الشاة، وهكذا.
وإذا كان المال بينهما ثلاثاً، فأخرجت زكاة، فالواجب على كل واحد منهم ثلثها، فتقوّم الشاة، وما كان من حق لأحدهما، فإنه يدفع له.
واختلف أهل العلم هل الخلطة خاصة بالمواشي أم هي عامة فيها وفي غيرها، كعروض التجارة، والحبوب والثمار وغيرها مما تقع به الخلطة؟ قولان لأهل العلم:
القول الأول، هو مذهب جماهير أهل العلم، وهو المشهور عند الحنابلة: أن الخلطة لا حكم لها، ولا أثر لها في الزكاة هنا.
فلو أن لرجلين محل للتجارة، فإن على كل واحد منهما الزكاة بقدر ماله في هذا الدكان، ثم يزكيه إن كان نصاباً.
وإذا اشترك مجموعة في مزرعة، فلكل واحد منهم نصيبه، فيخرج الزكاة فيه إن بلغ نصاباً، وإلا فلا زكاة فيه.
قالوا: لأن النص إنما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلطة المواشي، وأما غيره فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأصل أن الزكاة في الواحد منفرداً أو مستقلاً عن مال غيره.(9/46)
وعن الإمام أحمد: أن الخلطة مؤثرة في هذا الباب، وهو مذهب الشافعية.
فإذا اشترك اثنان مثلاً في عقار للتجارة أو دكان أو في مزرعة، فإن الخلطة مؤثرة، ويزكون على أنه مال واحد، وإن كان نصيب كل منهم لا يبلغ النصاب.
فلو أن أناساً عندهم نخل، ونصاب التمر خمسة أوسق، وهم عدد كثير بحيث أن نصيب كل واحدٍ منهم لا يبلغ هذا، فحينئذ عليهم الزكاة. وهذا القول أظهر؛ لأن القياس في هذا ظاهر، ولأن الزكاة متعلقة بالمال، ولذا تجب في مال الصبي والمجنون، فإذا اشترك اثنان في دكان، فالموضع واحد والبائع واحد، فإن هذا يشبه اشتراكهم في المواشي في المرعى وفي المراح ونحو هذا مما تقدم، فالقياس فيه ظاهر.
وقد يستدل على هذا: بأن السعاة لم يكونوا يستفصلون من أصحاب الحبوب والثمار، أهي مشترك فيها أم لا، مع كثرة هذا، فالاشتراك في مثل هذا كثير. والله أعلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) .
إذا كان المال متفرق، هذا مال لزيد، وهذا مال لعمرو، وهذا مال لبكر، فلا يجوز أن يجمع خشية الصدقة أي هروباً من الزكاة أو تخفيفاً منها.
فإذا كان هذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين شاة، فمجموعها مئة وعشرين شاة لا يجب فيها إلا شاة واحدة، وحيث كانت مفرقة فيجب في كل واحدةٍ منها شاة، فيكون الواجب في مجموعها ثلاث شياه، هذا لا يجوز.
وعكسه لا يجوز، فإذا كان المال إذا جمع وجبت فيه زكاة أكثر، فتفريقه لتخفيف الزكاة أو إسقاطها لا يجوز.
فمثلاً: الواجب في مئتين وعشرة من الغنم ثلاث شياه، فإذا اقتسماها، هذا له مئة وخمس، والآخر له مئة وخمس، فلا يجب على كل واحد إلا شاة، فتسقط عنهم من الثلاث شاة. هذا أمر لا يجوز؛ لأنه حيلة على المحرم، وقد تقدم الكلام على تحريم الحيلة.
وهل يجمع مال الرجل الواحد إن كان في مواضع مختلفة؟(9/47)
هذه المسألة فيها تفصيل:
- فإن كانت الأموال المتفرقة من المواشي أو الحبوب والثمار ونحوها - إن كانت - ليس بينها مسافة قصر، فلا خلاف بين العلماء في إنه يضم بعضها إلى بعض. فلو أن له مثلاً مواشي في شمال بلده وفي جنوبها وفي شرقها وما بينها مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فكلها في موضع واحد له حكم واحد من حيث قصر الصلاة، فحينئذ يضم بعضها إلى بعض؛ لأن المال مال رجل واحد، وقد صلى الله عليه وآله وسلم: (في كل أربعين من الغنم شاة) ، وهذا الرجل قد ملك أربعين أو أكثر من ذلك، فوجب عليه قدر ذلك من الزكاة، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون ماله في موضع واحد أو في مواضع مختلفة.
فإذا كانت أمواله بينها مسافة قصر، كأن يكون له في هذه المدينة شياه، وله في مدينة أخرى شياه أخرى، وفي مدينة ثالثة شياه ثالثة:
فالمشهور عند الحنابلة، هو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يضم بعضها إلى بعض، واستدلوا بقوله: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) .
وعن الإمام أحمد، وهو مذهب جماهير العلماء: أنه يضم بعضه إلى بعض؛ لأن المال مال رجل واحد.
وأما حديث (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق) ، فإن هذا إنما هو في المالين إن كان لرجلين، فلا يجمع بينهما ولا يفرق خشية الصدقة. ومما يدل على هذا: الإجماع على المسألة المتقدمة، فقد أجمعوا على أن المال إذا كان متفرقاً وما بينهما مسافة لا يقصر فيها الصلاة، فإنه يجمع بينهما، على أن الحديث مطلق، فدل على أن تفسيره كما تقدم، وهو أن يكون الأموال لأناس مختلفين، فيجمعونها خشية الصدقة أو يفرقونها خشية الصدقة.
إذاً: الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء، وأن المال يضم بعضه إلى بعض سواء كان بينه مسافة قصر أو لم يكن. كما أن مسافة القصر في هذا الباب لا معنى لتأثيرها.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الأول بعد المئتين
(يوم الجمعة: 26 / 12 / 1415هـ)(9/48)
باب زكاة الحبوب والثمار
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات من كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، هذا هو الأصل في وجوب الزكاة فيها.
هذا الباب في زكاة الخارج من الأرض، وهي الحبوب من الزروع كالقمح والشعير ونحوها، والثمار من الأشجار كالتمر والزبيب، فالحبوب من الزروع، والثمار من الأشجار.
قال المؤلف: [تجب في الحبوب كلها ولو لم يكن قوتاً]
القوت: هو ما يقوم به غذاء الآدمي دون ما يطعمه الآدمي تأدماً وتنعماً، كالشعير والحنطة والأرز ونحوها.
وهنا المؤلف لم يستثن الأطعمة، بل نص على أنه فرق بين الأطعمة وغيرها، وأنه لا يشترط أن يكون مطعوماً مما يكون به غذاء الآدمي، فذكر أن الحبوب كلها تجب فيها الزكاة سواء كانت مما يطعم كالقمح والأرز والشعير أو كانت مما لا يطعم كحبوب الأدوية، كحب الرشاد والترمس ونحوها من الحبوب، فكل الحبوب تجب فيها الزكاة، سواء كانت من طعام الآدمي من الأقوات أو كانت من طعامه من غير الأقوات كحب الكمون ونحوه مما يوضع في الأطعمة أو كان من الأدوية فيما يتداوى به الآدميون، أو كان من الحبوب التي توضع أدوية للزروع ونحوها.
هذا هو المشهور عند الحنابلة، واستدلوا بما روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر، وما سقي بالنضح فنصف العشر) (1) . والشاهد: قوله (فيما سقت السماء) ، قالوا: وهذا عام فتدخل فيه الحبوب كلها بأنواعها، سواء كانت مطعومة أو غير مطعومة، وسيأتي مذهب جمهور أهل العلم في هذه المسألة إن شاء الله.
قال: [وفي كل ثمر يكال أو يدخر]
أي في كل حب وإن لم يكن قوتاً وفي كل ثمر بشرط، وهذا الشرط في الحبوب والثمار، أن يكون مكيلاً مدخراً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (55) العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري (1483) .(9/49)
والمكيل: هو ما يقدر بالكيل أي بالصاع. وأما الموزون فهو ما يقدر بالكيلو جرام.
ودليل اشتراط الكيل، قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (1) ، والشاهد: قوله (ليس فيما دون خمسة أوسق) ، فدل على اعتبار التوسيق أي الكيل، فالكيل معتبر فيه. فما لم يكن مكيلاً من الحبوب أو الثمار، فإنه لا زكاة فيه.
والوزن متصور في الثمار، إذ الحبوب فيما يظهر لي مكيلة، إلا أن قول المؤلف: " يكال " يدل على أنه يوجد هناك شيء من الحبوب - وإن كانت تخفى علينا - توزن.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (56) ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (1484) و (1405) بلفظ " ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة.. " وفي باب (42) ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة (1459) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة.. " ومسلم (979) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة " في أول كتاب الزكاة.(9/50)
فالشرط أن تكون مكيلة أي تقدر بالصاع، فعليه: لا زكاة في الخضروات والفواكه؛ لأنها موزونة، وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه من بعده، فإنهم لم يكونوا يأخذون من الخضروات والفواكه الصدقة، وقد كان في المدينة شيء من ذلك، وفي الطائف ما هو أبين وأظهر، ومع ذلك مع دواعي النقل، لم ينقل إلينا أنهم كانوا يأخذون منها الصدقة. وأما ما رواه الترمذي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في الخضروات صدقة) (1) ، فالحديث فيه الحسن بن عُمارة، وهو ضعيف جداً، قال الترمذي: " لا يصح في
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (13) ما جاء في زكاة الخضروات (638) بلفظ: " عن معاذ أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات وهي البقول، فقال: (ليس فيها شيء) . قال أبو عيسى: " إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وإنما يُروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضراوات صدقة. قال أبو عيسى: والحسن هو ابن عُمَارَة، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعّفه شعبة وغيره، ,تركه ابن المبارك "، وانظر السنن الكبرى للبيهقي [4 / 216] رقم (7475) باب (53) الصدقة فيما يزرعه الآدميون.. قال الألباني في الإرواء [3 / 277] : " وقال الحاكم: وموسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، ووافقه الذهبي فقال: شرطهما، وقد تعقبه صاحب التنقيح بالانقطاع.. " ثم قال الألباني رحمه الله: " لا وجه عندي لإعلال هذا السند بالإرسال، لأن موسى إنما يرويه عن كتاب معاذ، ويصرح بأنه كان عنده فهي رواية من طريق الوجادة وهي حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الحديث، ولا قائل باشتراط اللقاء مع صاحب الكتاب، وإنما يشترط الثقة بالكتاب وأنه غير مدخول ".(9/51)
هذا الباب شيء، والعمل عليه عند أهل العلم ".
- وذهب الأحناف: إلى وجوب الصدقة فيها، واستدلوا بعمومات الأدلة، كحديث (فيما سقت السماء..) ، والخضروات والفواكه قد سقتها السماء.
لكن هذا ضعيف؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية المتقدم ذكرها وما جرى عليه عمل المسلمين في المدينة، وكان الإمام مالك من القائلين بهذا، فهي السنة التي كانت في المدينة النبوية وغيرها من بلاد المسلمين الموروثة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خلاف هذا، وأنها لا تؤخذ منها الصدقة.
كما أن الدواعي متوفرة على نقل ذلك لو ثبت، ومع ذلك لم يثبت.
وأصرح في الاستدلال ما ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل ولموسى الأشعري: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف: الشعير والحنطة والزبيب والتمر) (1) ، فهذا مخصص ظاهر.
فهنا لا زكاة في الخضروات والفواكه.
إذاً الشرط الأول: أن تكون مكيلة.
الشرط الثاني: أن تكون مدخرة، والمدخر هو ما ييبس فيبقى، كالحبوب والزبيب والتمر، فإنها تزول رطوبتها وتكون يابسة، فتبقى مدة زمنية طويلة.
والفواكه والخضروات ليست مما يدخر، في الطبيعة في الأصل، وأما في هذه العصور، لتقدم المادة، فيمكن فعله، لكن هذا خلاف الأصل فيها.
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (48) لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب (7451) بلفظ: " عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم،وقال: (لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر "، وأخرجه أيضاً في معرفة السنن (2325) ، والحاكم في المستدرك [1 / 401] ، والدارقطني [2 / 98] . السنن الكبرى للبيهقي [4 / 210] .(9/52)
واختلف في الاقتيات، هل يشترط أم لا؟
فقال الحنابلة: لا يشترط كما تقدم، ولذا قال المؤلف هنا: " ولو لم تكن قوتاً "، فعلى ذلك: كل ما يكال ويدخر وإن لم يكن مطعوماً، فإن الزكاة تجب فيه.
وقال الشافعية والمالكية: يشترط الاقتيات؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف) ، وذكر الشعير والحنطة والزبيب والتمر، وكلها مما يقتات أي مما يطعم. هذا القول هو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص الزكاة في هذه الأصناف الأربعة، فلا تجب الزكاة إلا فيها أو في نظيرها أو شبيهها، وشبيهها هو المكيل المدخر المقتات، فكل هذه الأصناف الأربعة مكيلة ومدخرة ومقتاتة. وهذا هو دليل الجمهور على اشتراط الادخار والكيل، فإن هذه الأصناف الأربعة كلها مكيلة ومدخرة.
وعن الإمام أحمد: أن الزكاة محصورة في هذه الأصناف الأربعة، فلا تجب الزكاة في غيرها.
وهذه الرواية ضعيفة؛ وذلك لأن هذا يخالف ما دلت عليه الأدلة من القياس، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وقد جاء الإسلام بالميزان من إلحاق النظير بنظيره والشبيه بشبيهه.
فهذه الأصناف الأربعة لا تجب الزكاة إلا فيها أو ما يقاس عليها. هذا هو مذهب جماهير العلماء، وهو المشهور عن الإمام أحمد؛ وذلك بتوفر ثلاث شروط:
1- أن تكون مكيلة. 2- أن تكون مدخرة. 3- أن تكون مقتاتة، وهذا الشرط فيه خلاف من الحنابلة، والراجح ما تقدم. (1)
قال: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمئة رطل عراقي (2) ]
" رطلاً ": يصح، بكسر الراء وفتحها.
الرطل: عند العرب ما يساوي اثنتي عشرة أوقية.
__________
(1) في حاشية المذكرة ما نصه: " واختار شيخ الإسلام: أن المعتبر هو الادخار، وأنه لا عبرة بالكيل، وإنما اعتبر في باب الربا لاعتبار التساوي، بخلافه هنا ". انظر حاشية الشرح الممتع [6 / 75] .
(2) في الأصل: " رطلاً عراقياً ".(9/53)
والأوقية: وزن أربعين درهما. وهو من الموازين القديمة.
وهذا النصاب، وهو " ألف وستمئة رطل عراقي " إيضاح من المؤلف وغيرها للقدر المشهور في زمانهم، وإلا فإن النصاب الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما تقدم وأنه خمسة أوسق، لقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً. فعلى ذلك: النصاب ثلاثمئة صاع نبوي.
والصاع النبوي يساوي بالكيلو جرام = كيلوين وأربعين جراماً. فعلى ذلك: النصاب يساوي ستمئة واثني عشر كيلوجرام، وهو أكثر من نصف الطن.
فعلى ذلك: من ملك ثلاثمئة صاع نبوي ويساوي بالصيعان الموجودة عندنا = مئتين وأربعين صاعاً، فإن الصاع النبوي يساوي أربعة أخماس الصاع المعاصر، فإن الزكاة تجب عليه. هذا هو نصاب الحبوب والثمار.
والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً، وقد أجمع الفقهاء على هذا، فعلى ذلك: هم متفقون ومجمعون على أن النصاب في الحبوب والثمار ثلاثمئة صاع.
قال: [وتضم ثمر العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب]
فلو أن رجلاً عنده نخيل، اختلف بدو صلاحها، فهذه المجموعة من النخيل بدا صلاحها في أوله، وهذه في أوسطه، وهذه في آخره، هذا يختلف باختلاف أنواع النخيل، وكذلك في أنواع القمح والشعير، فإنه يضم الثمر أو يضم الحب وتجب الزكاة فيها جميعاً.
فعلى ذلك: لو كان عنده نخيل، قد بدا صلاح بعضها في أول الشهر، وهو لا يبلغ النصاب، وبدا صلاح المجموعة الأخرى من نخيله في آخر الشهر، وبها يكتمل النصاب، فإن الزكاة تجب عليه.
فالتمر له أنواع، وكذلك القمح، فهذه الأنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فلا يعتبر كل نوع منها جنس مختلف عن الجنس الآخر، فتجب الزكاة فيه دون غيره، فإن لم يتم نصاباً فلا زكاة، بل يضم بعضها إلى بعضه ويكمل النصاب.(9/54)
إذاً: الجنس الواحد من الحبوب أو الثمار يضم بعضه إلى بعض، وإن اختلفت الأنواع، وإن اختلف الزمن في بدو صلاحها؛ لأنها ثمرة عام واحد، ولأنها داخلة في الجنس نفسه الذي أوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه الزكاة، ففي قوله (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير..) ظاهره أن كل نوع من أنواع الشعير له حكم الآخر في إيجاب الزكاة، فتكمل به النصاب، كما تقدم هذا في الإبل من بخاتي وعربي، وفي الغنم من معز وضأن، فهي أنواع مختلفة، لكنها يجمعها اسم واحد فهي داخلة تحت جنس واحد.
قال: [لا جنس إلى آخر]
فلا يضم الجنس إلى آخر غيره، فإذا كان عنده شعير لا يتم نصاباً، وعنده قمح لا يتم نصاباً، وباجتماعهما يتم النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه، فلا يُكمل جنس بجنس آخر، فلا يكمل الزبيب بالتمر، ولا الشعير بالحنطة، ولا الأرز بالذرة، أو نحو ذلك.
هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد.
والرواية الثانية: أن الأجناس يضم بعضها إلى بعض في الحبوب.
والرواية الثالثة: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وأن القطنيات المراد به ما يقطن في البيت ويمكث ويدخر من أرز وذرة ونحو ذلك، هذه يضم بعضها إلى بعض، فأفرد الشعير والقمح بالضم دون غيره.
والقطنيات الأخرى يضم بعضها إلى بعض، فالشعير والحنطة جنس واحد، والقطنيات جنس واحد.
وهذا ضعيف؛ لأنه تفريق بين هذه الأجناس بلا مفرق.
والقول الأول، وهو الذي ذكره المؤلف هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء: من أن أجناس الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض؛ قياساً على الثمار والمواشي باتفاق العلماء، فلا خلاف بينهم في ذلك، فكذلك الحبوب ذوات الأجناس المختلفة.(9/55)
وهذا ظاهر الأحاديث الواردة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة) ، فظاهره أنهما جنسان مختلفان، وأن لكل منهما زكاته.
وأما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي مذهب طائفة من التابعين: من أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض. فقالوا: هي متفقة في قدر النصاب، وهي متفقة في قدر المخرج، فالمخرج في الحبوب واحد، وهو العشر أو نصفه، فيضم بعضها إلى بعض.
وهذا ضعيف؛ لأن اجتماعهما في اتحاد النصاب وفي اتحاد المخرج ليس بمؤثر، فالشارع إنما جعل نصابها واحد، وجعل القدر المخرج واحد؛ لأنهما متشابهان في ماليتهما، أما أن يضم بعضها إلى بعض فلا.
وهذا منتقض عليهم بالثمار، فإن الثمار كالزبيب مثلاً نصابه ثلاثمئة صاع، والقدر المخرج هو العشر أو نصفه، والتمر كذلك، ومع ذلك فقد اتفق العلماء على أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فينتقض قياسهم بالثمار، فهم لا يقولون بها.
وأما الرواية الثالثة، فقد تقدم تضعيفها، وهي مذهب الإمام مالك، فعلى ذلك: أصح الأقوال ما ذهب إليه الجمهور، وهو المذهب من أن الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض كالثمار.
إذاً لا خلاف بين العلماء في أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فلا يضم الزبيب إلى الثمر، كما أنه لا خلاف بينهم في أن المواشي لا يضم بعضها إلى بعض، فلا تضم الإبل إلى البقر على أنها بُدن، ولا تضم الإبل إلى الشياه.
واختلفوا في الحبوب على ثلاثة أقوال، هي روايات عن الإمام أحمد، وأصحها القول الأول من أن الأجناس المختلفة من الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض، وهو ظاهر الأدلة الشرعية، ويدل عليها القياس.
قال: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له، وقت وجوب الزكاة]
هذا شرط ظاهر، يدخل فيما في ما تقدم من اشتراط ملكية النصاب، فلابد من أن يكون النصاب مملوكاً لمن أوجبنا عليه الزكاة، وأن تكون الملكية وقت وجوب الزكاة.(9/56)
ووقتها هو بدو صلاح الثمر، واشتداد الحب في الزرع، فإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب. فعليه: لو اشترى بستانا قبل أن يبدو الصلاح في الثمر أو اشترى زرعاً قبل أن يشتد حبه، واشتد الحب وبدا صلاح الثمر في ملكيته وإن كان لم يشتر إلا قبل أيام يسيرة، فإن الزكاة تجب عليه؛ لأنه قد ملكه وقت الزكاة، ولا نظر للحولية في باب الثمار والحبوب، فإن الله يقول: {وآتوا حقه يوم حصاده} (1) .
ولو باعه وقد اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب على البائع؛ لأن الزكاة تعلقت بذمته قبل البيع، فتجب عليه الزكاة. وحاصل هذا: أنه يشترط أن يكون مالكاً للنصاب الزكوي من الحبوب والثمار عند وقت الزكاة، وهو بدو الصلاح في الثمر واشتداد الحب في الزرع، فمن كان مالكاً له حينئذ، فإن الزكاة عليه.
فلو ورث من أبيه زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة لا تجب عليه، وإنما تجب على المورث.
أو وهبه رجل زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة تجب على الواهب. ولذا قال - وهي مرتبة على هذه المسألة -:
[فلا تجب فيما يكتسبه اللّقّاط]
يعني: رجل لقط فجمع الشيء الكثير فبلغ نصاباً، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ لأن قد ملكه بعد وقت الزكاة.
[أو يأخذه بحصاده]
رجل اتفق مع صاحب الزرع أن يحصد له وأن يأخذ منه مقابل حصيده (2) طناً من القمح، فلا تجب الزكاة فيه؛ لأنه لم يملكه عند وقت الزكاة.
وكذا لو كانت الأجرة على شيء آخر غير الحصاد.
فالمقصود من ذلك: أن الحصاد ونحوه مما يأخذه من الزرع مقابل حصاده أو غيره لا تجب عليه فيه الزكاة إن بلغ نصاباً.
قال: [ولا فيما يجتنيه من المباح كالبُطم]
البُطم: شجر ينبت في البلاد الشامية من فصيلة الفستق ونحوه، وهذا ينبت في الأرض من غير أن يزرعه الآدمي، فهو من النبات المباح، فليس مملوكاً، والزكاة إنما تجب في المملوك، وهذا مباح فلا تجب فيه الزكاة.
__________
(1) سورة الأنعام.(9/57)
قال: [ولا الزَّعبل]
وهو شعير الجبل؛ وذلك لأنه ليس بمملوك، فلا تجب فيه الزكاة.
قال: [وبِزْرُ قُطُونا]
ذكر الشيخ محمد بن عثيمين عن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه الربلة المشهورة من أعشاب البر، وهكذا في تعريف العرب من غير تخصيص، قالوا: هو نبات عشبي.
قال: [ولو نبت في أرضه]
فكل هذه النباتات المباحة التي لا يملكها أحد، وإنما تنبت بغير صنع الآدمي لا تجب فيها الزكاة، ولو نبت في أرضه، أي ولو كانت الأرض مملوكة له؛ وذلك لأنه لا يملك الزرع بملكية أرضه، فإن المباح مباح ولو ملكت أرضه، لكن صاحب الأرض أحق به من غيره من غير أن يمتلكه.
وقوله " ولو " هنا: إشارة إلى خلاف، وهو خلاف للقاضي من الحنابلة.
فإنه قال: إذا كان النبات الذي لا يكون من صنع الآدمي إذا نبت في أرض مملوكة، فتجب فيه الزكاة؛ لأنه مملوك بملكية الأرض التي نبت فيها.
وهذا ضعيف، فإن النابت في الأرض من المباحات لا يمتلك بامتلاك أرضه، بل يبقى مباحاً، فليس له أن يمنع غيره منه، لكنه أحق به من غيره، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
فعلى ذلك: المباحات التي تنبت في الأرض من عشب أو شجر ونحوها لا تجب فيها الزكاة، وإن بلغت نصاباً؛ لأنها لا تملك، والشرط في المزكى أن يكون مملوكاً. هذا ولو كانت الأرض مملوكة له؛ لأن المباح يبقى مباحاً وإن ملكت الأرض، فإن الملكية إنما هي ثابتة في الأرض لا في النبات، وإن كان صاحب الأرض أحق به من غيره، لكن هذه أحقية وليست بملك.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
هذا الفصل في القدر الواجب إخراجه في صدقة الحبوب والثمار ومسائل أخرى.
قال: [يجب عُشْر فيما سُقي بلا مؤنة](9/58)
والمؤنة: هي الكلفة والشدة والتعب، فإن سقى الزرع أو الشجر بلا كلفة، كأن يسقي من مياه الأمطار أو الأنهار أو العيون أو كان بعْلاً يعثر على الماء بجذوره أو كان عثرياً ينبت حول المستنقعات، فإن هذا الزرع والشجر لا مؤنة فيه، أي لا شدة ولا كلفة فيه، فيجب فيه العشر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه وقد تقدم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً) (1) ، وعند أبي داود: (أو كان بعلاً ففيه العشر) (2) .
والكلفة التي يجدها المزارع من تفجير الماء وحفر الأرض لنقل مياه الأنهار إلى أرضه، وحفر السواقي ونحو ذلك هذا لا يؤثر في هذه المسألة، فهو من جنس حرث الأرض.
فتصريف المياه بحفر الأرض وإصلاحها لجريان الماء من موضع إلى موضع في المزرعة وفي البستان وأيضا جريان الماء من النهر أو العين إلى بستانه، هذه كلفة لا تؤثرها؛ لأنها من جنس حرث الأرض؛ ولأن الكلفة فيها لا تكرر مع الأعوام، فإنه متى ما أصلح أرضه فأصلح السواقي منها وحفر الأرض من النهر إليها أو من العيون إليها، فإن هذا لا يتكرر، وإن كان يحتاج إلى شيء من الإصلاح اليسير، فيجب عليه العشر.
.. (3) وإن كان حبه أو ثمرة خمسة أوسق فيه نصف وسْق.
فعليه في ثلاثمئة صاع من التمر – عليه -ثلاثون صاعاً.
قال: [ونصفه معها]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب (55) (1438) وقد تقدم صْ 36.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (11) صدقة الزرع (1596) عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني..)
(3) بياض في المذكرة بما يقارب الكلمة.(9/59)
أي نصفه مع المؤنة، المؤنة هنا: الكلفة في إخراج الماء من الأرض أو رفعه كأن يكون النهر منخفضاً انخفاضاً ظاهراً عن بستانه، فيحتاج إلى آلات أو نواضح لرفع الماء من النهر أو من العيون إلى أرضه.
أو كانت آباراً، فيضع الآلات ونحوها، كما في هذا العصر من مكائن ونحو ذلك، فيضعها على البئر لاستخراج الماء.
فإذا كان الماء يحتاج إلى استخراج من الآبار أو إلى رفع من الأنهار ونحوها أي برفع ظاهر يحتاج منه كما يحتاج إلى رفع الماء من الآبار، فهذه الكلفة تسقط عنه نصف العشر، فلا تجب عليه إلا نصف العشر.
فعليه في ثلاثمئة صاع عليه خمسة عشر صاعاً.
إذاً: إن كانت عليه مؤنة في السقي، فعليه نصف العشر، والمؤنة كما تقدم هي: الكلفة التي يجدها المزارع في إخراج المياه أو في رفعها. ودليله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تمام الحديث المتقدم: (وما سقي بالنضح ففيه نصف العشر) .
قال: [وثلاثة أرباعه بهما]
فإن كان الزارع يسقي بمؤنة وبغير مؤنة، وهما متناصفان، أي بمعنى أنه قد انتفع بالمؤنة انتفاعاً يساوي الانتفاع بغير المؤنة، فليس الاعتبار هنا بالمدة، فلو كان الزرع مثلاً مؤنته ستة أشهر، وكان في الثلاثة الأشهر الأولى سقيه بلا مؤنة وفي الثلاثة الأشهر الأخرى بمؤنة، هذا لا اعتبار له؛ لأن حاجة الزرع والثمر إلى الماء تختلف من وقت إلى آخر، فالاعتبار هنا بالنفع والنمو. فإذا تساويا بأن كان انتفاع الزرع ونموه بالمؤنة وبغير المؤنة متساوياً، فإنه يجب عليه ثلاثة أرباع العشر، وهذا باتفاق العلماء. والنظر - كما هو ظاهر - يدل عليه، فهي من باب المقاسطة، وقد تقدم نظيرها.
والاعتبار هنا كما تقدم بالنفع والنمو لا بالمدة، هذا هو المشهور في المذهب.
وقيل: الاعتبار بالمدة. وهو ضعيف كما تقدم؛ لأن حاجة الزرع إلى الماء تختلف من وقت إلى آخر. قاله في المغني.
قال: [فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً](9/60)
إذا كان انتفاعه بالسقي بغير مؤنة كمياه الأمطار ونحوها - انتفاعه - به أكثر من انتفاعه بسقيه بمؤنة، فإنها حينئذ ننظر إلى الأغلب فحينئذ نوجب عليه العشر؛ لأن الأغلب هو سقيه بلا مؤنة.
والعكس بالعكس، فإذا كان انتفاعه بمؤنة وكلفة أكثر من انتفاعه بلا مؤنة، فالواجب عليه نصف العشر.
فإذاً: يجب عليه العشر أو نصفه حكماً للأغلب، هذا هو المشهور عند الحنابلة.
- وقال الشافعية، وهو قول ابن حامد من الحنابلة: يجب بالقسط قياساً على ما إذا تساويا، فكما أنهما إذا تساويا حكمنا بالقسط ولذا أوجبنا عليه ثلاثة أرباع العشر، فكذلك إذا اختلفا، حكمنا بالقسط.
مثال هذا: إذا كان سقيه بمؤنة يقابل ثلث نفعه ونموه، بينما سقيه بلا مؤنة يقابل الثلثين، فقد سقي بلا مؤنة أكثر من سقيه بمؤنة بمقدار الضعف، فيجب عليه في الثلث الذي قد سقي بمؤنة - يجب عليه - ثلث نصف العشر، وهو سدس العشر، وفي الآخر يجب عليه ثلثا العشر، وهو أربعة أسداسه. فعلى ذلك: يجب عليه خمسة أسداس العشر، وهكذا.
وهذا القول أقيس؛ لما تقدم، فإنهم قد اتفقوا على أنه إذا سقى بمؤنة وبغير مؤنة على وجه التساوي أن الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر، فهذا عمل القسط، فكذلك إذا تفاوتا. فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول ابن حامد، أنا نحكم بالقسط.
قال: [ومع الجهل العشر]
فإذا جهل، فلا يدري هل السقي بمؤنة أكثر نفعا ونمواً من السقي بلا مؤنة أم العكس، فهو لا يدري أيهما أكثر نفعاً.
قالوا: فيجب عليه العشر؛ قالوا: لأن الأصل هو العشر، والكلفة مع ثبوتها تنقصه إلى (1) العشر، والكلفة هنا غير معلومة، فيبقى على الأصل.
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: عن.(9/61)
وهذا ضعيف؛ فإن الحكم بأن الأصل هو العشر لا دليل عليه، بل كلاهما أصل منفرد، فالعشر أصل منفرد، ونصف العشر أصل منفرد، فإذا كان الزرع يسقى بمؤنة ففيه نصف العشر، وإذا كان يسقى بغير مؤنة ففيه العشر، وكلاهما أصل منفرد، ولا دليل على تعيين أحدهما أصلاً، ولا نظر أيضاً يدل على هذا، فإن الزروع والأشجار منها ما يسقى بمؤنة، ومنها ما يسقى بلا مؤنة، فأوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما سقي بمؤنة كذا، وفيما سقي بلا مؤنة كذا، فكلاهما أصل.
- قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال: فيه ثلاثة أرباع العشر لتقابلهما ". وهذا هو الأظهر، وهو مذهب الشافعية، وأن الواجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنهما يتقابلان، فكما لو تساويا، فنحن نجهل أيهما الأغلب، فحينئذ لهما حكم التساوي لتقابلهما، ولأن كليهما أصل منفرد، كما تقدم.
فمذهب الشافعية هو الأظهر، وقد وجهه صاحب الفروع - وجهه - احتمالاً: أن الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر.
قال: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة]
فإذا اشتد الحب وأصبح قويا صلباً.
وبدا صلاح الثمر بأن تحمر أو تصفر ثمار النخيل أو يتموه العنب فيطيب أكله. هذا هو بدو صلاحه.
فإذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب، وجبت الزكاة؛ لما تقدم في درس سابق، لكن قال:
[ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البَيْدر]
البَيْدر: هو الموضع الذي تجمع فيه الثمار والحبوب، أما الحبوب فلتصفيتها وإزالة القشر عنها.
وأما الثمار فلتجفيفها لتذهب عنها الرطوبة، فتكون جافة كما يكون هذا في الرطب، ليكون تمراً، وفي العنب ليكون زبيباً.
فإذا وضعت في البيدر فقد تم الحصاد أو الجداد، فحينئذ تستقر الزكاة في الذمة.
وعليه قال: [فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت]
فإذا تفلت قبل وضعها في البيدر بغير تعد منه، فإنها تسقط عنه؛ لأنها لم تستقر بعد في ذمته.(9/62)
إذاً: إذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب ولم يوضع بعد في البيدر، فلم يحصد الزرع، ولم يجد الثمر، فإن الزكاة لم تستقر بعد في ذمته، وإن كان الوجوب قد تعلق ببدو الصلاح وباشتداد الحب، لكن الزكاة لم تستقر بعد في ذمة صاحب المال.
فلو حصل له تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنه في حكم ما لم يثبت عليه اليد، فما دام الرطب على رؤوس النخل والحب في سنبله، فإنه بعد لم يتم ثبوت يد صاحبه عليه، فإذا حصل فيه تلف، كأن يحترق الزرع أو حصل للنخيل جائحة، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنها لم تستقر بعد في ذمته.
أما إذا وضعه في البيدر، فقد استقرت الزكاة في ذمته، فإذا تلف، ولو كان هذا التلف بغير تعد منه، فإن الزكاة تبقى وتتعلق في ذمته.
وهذا كله على القول بمسألتين:
المسألة الأولى: وقد تقدم أن الراجح خلافها، وهي أن الزكاة تجب قبل التمكن من أدائها.
والصحيح أن الزكاة لا تجب إلا بعد التمكن من أدائها، ومتى يمكنه أن يؤدي التمر والزبيب والحب؟ إنما يمكنه ذلك إذا صُفي الحب تماماً وزال ما فيه من قشور وجهز لبيعه أو للانتفاع به، فحينئذ يكون قد تمكن من أداء زكاته، وهذا هو وقت إخراجه عند الحنابلة وغيرهم، فإن وقت الإخراج هو تصفية الحب وجفاف الثمر، فإذا جف الثمر فأصبح الرطب تمراً وأصبح العنب زبيباً، فهذا هو وقت الإخراج، وهذا الوقت هو وقت التمكن، فإن صاحب المال إنما يتمكن من أداء زكاة ماله إذا وجد وقت الإخراج.
فإذا وجد وقت الإخراج ولم يخرج فحينئذ تتعلق الزكاة بذمته، فإذا صفى الحب وجفف الثمر ثم فرط فحصل تلف للزرع، فحينئذ تجب عليه الزكاة؛ لأن الزكاة قد استقرت في ذمته حينئذ لتمكنه من أدائها.(9/63)
إذاً: الراجح ما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من أدائها، وعليه فلا تتعلق الزكاة بذمته ولا تستقر إلا إذا تمكن من أدائها، وذلك بعد تصفية الحب وجفاف الثمر.
أما الحنابلة في المشهور عندهم: فإن وقت استقرار الزكاة في ذمته إنما هو وضعها في البيدر، ووقت الإخراج تصفية الحب وجفاف الثمر، فتستقر في ذمته وإن لم يأت وقت إخراجها. والراجح ما تقدم.
المسألة الثانية:
وقد تقدم ذكرها أن الزكاة بمعنى الأمانة، فإذا استقرت في ذمته ثم تلفت بغير تفريط منه ولا تعد، فإنها تسقط عنه؛ لأنها في حكم الأمانة، كما تقدم، وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار الموفق.
فعليه: إذا صُفي الحب وأراد إخراجه، لكن تلف قبل إخراجه وهو لم يفرط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأن الزكاة في يده كالأمانة.
فعلى ذلك: وقت وجوب الزكاة اشتداد الحب وصلاح الثمر.
ووقت استقرارها في الذمة عند الحنابلة إذا وضعت في البيدر.
والراجح أنها لا تستقر في ذمته حتى وإن وضعت في البيدر حتى يصفى الحب ويجفف الثمر، ويتمكن من الأداء، كما تقدم.
والراجح أنه إن حدث تلف في الزكاة بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه مطلقاً، وإن كان ذلك بعد استقرارها في ذمته؛ لأنها كالأمانة، والأمانة إن تلفت بغير تعدٍ من المؤتمن فإنها تسقط.
قال: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها](9/64)
فإذا استأجر زيد من عمرو أرضاً فزرعها أو غرس فيها نخيلاً، فالأرض ليست ملكاً له، وإنما ملكيته ثابتة إما على الثمار دون أصولها كما يقع هذا في النخيل، وإما أن يكون مالكاً للثمر وأصله، أي للرطب والنخيل، أو يستأجر أرضاً فيزرعها، فيكون مالكاً للزرع، فالزكاة تجب على المستأجر؛ لأن الزكاة متعلقة بالمال المزكى، والمال المزكى إنما هو الحب أو الثمر، والحب والثمر مملوك للمستأجر دون صاحب الأرض. وهذا باتفاق العلماء، فلا خلاف بينهم في هذا.
وهنا مسألة لم يذكرها المؤلف:
وهي مسألة الخرص، وهي مختصة بالثمار دون الحبوب، إذ الحبوب لا خرص فيها.
والخرص: هو أن يطيف الخارص، وهو من له خبرة بالخرص، يطيف بالنخل أو بشجر العنب، فينظر إلى ما فيها من ثمر ويقدره أوسقاً.
كأن يقول: في هذه النخلة عشرة آصع رطب، وفي هذه تسعة آصع رطب، وهكذا، ثم يقدر كم تجيء تمراً، وفي العنب وكم تجيء زبيباً، هذا هو الخرص.
فالخرص: أن يأتي إلى بستان النخيل أو إلى بستان شجر العنب فينظر إلى الأشجار من النخيل والعنب، فيقدر ما فيها من ثمر، ثم بعد ذلك يقدر ما يجيء هذا الثمر من زبيب أو تمر.
فالنخلة مثلا يجيء فيها عشرة آصع رطب، فإذا خف، فإنه يكون سبعة آصع تمراً.
وإذا اختلفت الأنواع بحيث إنه يختلف، فما خف منها، فإنه يحتاج أن يقدر كل نوع بمفرده.
فالخرص إذاً: أن يقدر الرطب وهو في النخل وأن يقدر العنب وهو في شجره، يقدر بالأوسق ثم يقدر ما يجيء منها من تمر أو زبيب.(9/65)
والخرص مصلحته ظاهرة، فإن الغني يحتاج إلى رطبه، ويحتاج إلى العنب من بستانه، فيحتاج إلى أن يأكل هو وأهل بيته، وأن يهدي وأن يتصدق، فإذا منعناه من ذلك حتى يجد الثمر ثم يجفف حتى يكون زبيباً أو تمراً فإن ذلك يفوت عليه الانتفاع بما يحب الانتفاع به من الرطب، وما يحب من إهدائه وصدقته ونحو ذلك، فلهذه المصلحة إذا بدأ صلاح الثمر يأتي الساعي فيقدره من غير أن يأخذ منه شيئاً، بل يقدر الرطب على رؤوس النخل ويقدر ما يجيء منه من تمر، ثم بعد ذلك ينتظر حتى يتم الجداد وحتى يتم الجفاف ثم تؤخذ بعد ذلك الزكاة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، فإن الغني يمنع من أن يتصرف بالرطب لئلا يتصرف بالمال قبل أخذ الزكاة منه، وفي ذلك تفويت لحاجته، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: " غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك، فلما جاء مررنا بوادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اخرصوا) فخرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق " (1) ، فهذا في خرص النخيل.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (54) خرص التمر (1481) بلفظ: " عن أبي حميد الساعدي قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه (اخرصوا) .. "، وأخرجه مسلم مختصراً (1392) .(9/66)
وأما في خرص العنب، فقد روى الخمسة - بإسناد فيه انقطاع - عن سعيد بن المسيب عن عتّاب بن أسيد – فالانقطاع بين أسيد (1) وعتاب، فإن سعيداً لم يسمع من عتاب، فهذا انقطاع يسير – قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرص العنب كما يخرص النخل، ونخرج زكاته زبيباً " (2) .
فهذا الحديث وإن كان فيه انقطاع، وهو يسير، فإن سعيد بن المسيب مراسيله عند أهل العلم أصح المراسيل، هذا إذا روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا رواها عن صحابي.
فلو قلنا بضعفه، فهو ضعف يسير ويجبره القياس الظاهر، وهو قياس العنب على النخيل، فإن المصلحة المتقدم ذكرها ثابتة في العنب كما هي ثابتة في الرطب، وإمكان الخرص ثابت في العنب كما هو ثاب في الرطب.
إذاً الخرص مشروع في الثمار.
وأما الحبوب، فإنه لا يشرع فيها، إذ لا فائدة منه، فليس بواردٍ عن صاحب الشريعة وليس بمعنى الوارد.
__________
(1) لعل الصواب: سعيد.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (13) في خرص العنب (1603) بلفظ: " عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً..) ، والترمذي في الزكاة، باب في الخرص حدث 644 وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب حديث 1819. قال الترمذي: " وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن عروة عن عائشة، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا؟ فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح " قال المنذري: وذكر غيره أن هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جداً، فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، ومولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر، سنة خمسة عشرة، على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، والله أعلم " سنن أبي داود [2 / 258] .(9/67)
إذا عُلم هذا، فاعلم أن الزكاة لا تخرج رطباً ولا تخرج عنباً، وإنما تخرج تمراً أو زبيباً، لا خلاف بين أهل العلم في هذا.
فإذا خرصها، فإنه لا يخرجها رطباً ولا عنباً، وإنما ينتظر حتى يتم الجذاذ ويجف الثمر ثم يؤدى بعد ذلك مرة أخرى إلى صاحب المال فتؤخذ زكاته زبيباً أو تمراً.
يدل على هذا ما ثبت في البخاري عن أبي هريرة قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى عند صِرام النخيل – أي عند جدادها – فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كَوْماً، قال: فجاء الحسن والحسين يلعبان بها، فأكل أحدهما منها تمرة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجها من فيه، وقال: (أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد) (1) . والشاهد هنا: أنه كان يؤتى بالتمر وهذا الإتيان كان على وجه الزكاة، بدليل قوله (فإن الصدقة لا تحل لآل محمد) .
إذاً المخرج هو التمر والزبيب، فلا يخرج رطباً ولا عنباً.
مسألة:
إذا اختلف الساعي – الخارص – وصاحب الثمر، اختلفوا في الخرص، فمثلاً: خُرصت من الساعي، فكان مقدارها عشرة أوسق، فلما تم جدادها وحصادها وجففت بعد ادعى صاحب الثمر أنها لتسعة أوسق وليست لعشرة أوسق، فإن قوله يصدق بلا يمين؛ فالناس لا يستحلفون في صدقاتهم، فهي حق لله عز وجل، واليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين، هذا إن كان قوله محتملاً.
أما إن كان قوله لا يحتمل كأن يكون الساعي قدرها بخمسة أوسق وادعى صاحب المال أنها خمسة (2) أوسق، والساعي من أهل الخبرة والمعرفة، فإن هذا احتمال بعيد ويتبين به كذب صاحب الثمر، فلا يقبل خبره.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (57) أخذ صدقة التمر عند صِرام النخل (1485) ، ومسلم (1069) باختلاف وبالجزم بأن آخذ التمرة الحسن.
(2) كذا في الأصل.(9/68)
إذاً: إذا ادعى تغليط الساعي بأمر يدل على كذبه، فإن خبره لا يقبل ويُلزم بما قدره الساعي، وأما إذا كان بقدر يحتمل، فإن قوله يقبل بلا يمين.
مسألة:
وهي أنه يترك لصاحب الثمر الثلث أو الربع، فإن خرصت عشرة أوسق مثلاً، فإنه يترك له الثلث مثلاً، وهو ثلاثة أوسق وثلث أو الربع وهو وسقان ونصف. فإن صاحب الثمار يحتاج لشيء من الثمر في الأكل والإهداء والصدقة ونحو ذلك، فيترك له إما الثلث وإما الربع على حسب اجتهاد الساعي، فإذا رآه من الناس الذين تكثر هدياهم (1) ويكثر الإتيان إليهم، فيكثر الأكل من هذا الرطب عندهم، فإنه يترك له الثلث وإلا فإنه يقدر له الربع. هذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو مذهب إسحاق.
واستدلوا بما رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " (2)
لكن الحديث فيه جهالة التابعي الراوي عن سهل بن حثمة، وله شاهد عند أبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال عن مكحول مرسلاً، وثبت في مصنف بن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن عمر بن الخطاب كان يبعث ابن أبي حثمة خارصاً، ويقول له: " إذا أتيت أهل البيت في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون " (3) .
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) بلوغ المرام ص184، رقم 497. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (14) في الخرص (1605) بلفظ: عن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثْمَة إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع) ، وأخرجه الترمذي في الزكاة، باب في الخرص حديث 643، والنسائي في الزكاة، باب كم يترك الخارص حديث 2493. سنن أبي داود [2 / 260] .(9/69)
وأما جمهور العلماء فإنهم لم يروا ذلك، بل رأوا أنه لا يترك لأهل البيت شيء؛ قالوا: لعموم الأدلة التي تقدم ذكرها، كقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) فدل هذا على أن من بلغ ماله خمسة أوسق فتجب عليه الزكاة.
والأظهر في الجملة ما ذهب إليه الحنابلة، فإن أدلتهم مخصصة لما تقدم، هذا أولاً.
ثانيا: لأن الزكاة إنما تتعلق به إذا كان تمراً أو زبيباً، فالتوسيق المتقدم إنما هو حيث كان تمراً وحيث كان زبيباً، وأما قبل ذلك فلا.
لكن ذهب ابن عقيل الحنبلي إلى قول – فيما يظهر لي أصح -، وإن كنا نقول بما ذهب إليه الحنابلة في الجملة أي من إخراج شيء من الرطب وشيء من العنب لصاحب.. البستان.
لكن تقديره بالربع والثلث هكذا مطلقاً فيه نظر.
بل الأظهر ما ذهب إليه ابن عقيل من الحنابلة، فإنه قال: يترك لهم بقدر ما يحتاجون إليه لأكلهم ولهديتهم بالمعروف سواء كان ربعاً أو ثلثاً أو أقل من ذلك ولو كان عشراً.
وهذا أمر ظاهر، فإن بعض الناس يملك بساتين كثيرة لا يحتاج حتى إلى عشرها أو أقل من عشرها. وقول عمر المتقدم يدل على هذا، فإنه قال: " إذا أتيت أهل بيت في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون "، فلم يقدره بالربع والثلث.
وأثر عمر رضي الله عنه أصح من الأثرين المتقدمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن الأصل وجوب الزكاة في المال.
فعلى ذلك: الأظهر ما اختاره ابن عقيل من الحنابلة، وأنه إذا وجب العنب أو الرطب، فإنه يخرج منه قدراً يحتاجه أهل البيت لأكلهم وهديتهم بالمعروف سواء كان ذلك بقدر الربع أو بقدر الثلث أو بقدر الخمس أو بقدر العشر أو أقل من ذلك، ثم الباقي ينظر فيه، فإن بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة، وإن لم تبلغ نصاباً فلا زكاة فيه.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث بعد المئتين
(يوم الأحد: 28 / 12 / 1415هـ)(9/70)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ من مِلْكه أو مواتٍ من العسل مئة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره]
هنا في زكاة العسل: قال ابن القيم: " ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضاً، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها، ومرسَلُها يُعضد بمسندها " (1)
جمهور العلماء لم يروا وجوب الزكاة في العسل؛ قالوا: لأن الأصل هو عدم وجوب الزكاة، ولا دليل على وجوبها، قالوا: ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب.
وقال الحنابلة بوجوب الزكاة في العسل، وهو قول الأحناف، قال الترمذي: " وهو قول أكثر أهل العلم ".
__________
(1) زاد المعاد [2 / 15] .(9/71)
وأجابوا عن الجمهور: بثبوت الحديث فيه، وأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنن أبي داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه أخذ في زكاة العسل العشر) (1)
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (12) زكاة العسل (1600) قال: " حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث المصري، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلالٌ أحدٌ بني مُتْعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُشُور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له سَلَبة، فحمى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله نه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحْم له سلبَة، وإلا فإنما هو ذُباب غيث يأكله من يشاء " قال المحقق: " في هذا دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال المتعي إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقاً ومعونة له بدل ما أخذ منه، وعقَل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمي له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك، وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة مع أبي بكر مانعي الزكاة ". في أبي داود أيضاً (1601) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن شبابة - بطن من فهم - فذكر نحوه، قال: من كل عشر قِرَب قرْبة، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي قال: وكان يحمي لهم واديين، زاد: فأدَّوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمى لهم وادييهم ". وأخرجه النسائي في الزكاة باب زكاة النحل حديث 1401، وأخرج ابن ماجه طرفاً منه (1823) . وقال البخاري: " ليس في زكاة العسل شيء يصح "، وقال الترمذي بعد ذكر حديث 629: " ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء ". سنن أبي داود [2 / 256] .(9/72)
، قالوا: والحديث حسن، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أحاديث حسان.
قالوا: وفي مصنف عبد الرزاق أن عمر: أخذ في زكاة العسل في كل عشرة أفرق فرقاً واحداً " لكن إسناده منقطع، واحتج به أحمد، ورواه سعيد كما في المغني.
فجمهور العلماء لم يصححوا هذا الحديث، والأرجح تصحيحه، فعلى ذلك: تجب في العسل الزكاة، كما هو مذهب الحنابلة.
وقول المؤلف: " إذا أخذ من ملكه " أي من أرض مملوكة له، كأن يضع في أرض له منحلاً، فينتج هذا المنحل، فيجب عليه إن بلغ النصاب أن يزكيه أو كان ... ... ... (1) .
وإن كانت الأرض ليست مملوكة لصاحب الزرع، والثمر يتبع النخيل، فمالك النخيل هو الذي تجب عليه الزكاة، وإن كانت الأرض مستأجرة غير مملوكة له.
فالصحيح مذهب الحنابلة، للحديث المتقدم، وأن الزكاة تجب في العسل تبعاً للنخيل من غير نظر إلى الأرض أهي موات أم مملوكة. (2)
[مئة وستين رطلاً عراقيا]
هذا هو نصاب العسل (160) رطلاً عراقياً، وقد تقدم أن هذا الوزن من الأوزنة القديمة، لكن يمكننا أن نعرف قدره بقياسه بالمقدار المتقدم.
وقد تقدم أن الثلاثمئة صاع نبوي يساوي ألفاً وستمئمة رطل عراقي، فعلى ذلك: مئة وستون رطلاً عراقياً يساوي ثلاثين صاعاً نبوياً، وتقدم أن الصاع النبوي يساوي أربعة أخماس الصاع الموجودة عندنا، فعلى ذلك تساوي الثلاثين صاعاً = أربعة وعشرين صاعاً من الآصع الموجودة عندنا. فعلى ذلك: إذا ملك أربعاً وعشرين صاعاً، والصاع كيلوان وأربعون جراماً، فنضرب كيلوين جراماً (3) في أربع وعشرين صاعاً يكون نصاب العسل بالكليوجرامات. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
__________
(1) يوجد بياض بين العبارات في نحو خمسة أسطر.
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: " قال القرضاوي بقياس الألبان على العسل ... ... "
(3) لعل الصواب: كيلوين وأربعين جراماً.(9/73)
وقيل: إن نصاب العسل ألف رطل عراقي، وقدَّمه الموفق في الكافي، واحتمله في المغني. وهو الأرجح.
أما دليل الحنابلة: فهو ما تقدم من أثر عمر، فقد أخذ عمر من كل عشرة أفرق فرقاً واحداً، والفرق يساوي ثلاثة آصع، فعلى ذلك: من كل ثلاثين صاعاً ثلاثة آصع، والثلاثون صاعاً يساوي مئة وستون رطلاً كما تقدم.
وتقدم أن هذا الأثر إسناده منقطع.
وأما القول الثاني، فإن دليله ما في سنن أبي داود في بعض روايات حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم قال: (في كل عشر قربات قربة) (1) .
والقربة تساوي مئة رطل عراقي، فعلى ذلك: العشر قرب تساوي ألف رطل عراقي.
فالراجح هو هذا القول؛ لأن أثر عمر إسناده ضعيف، وأعلى منه وأصح هذا الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مرفوع إليه وإسناده حسن.
فعلى ذلك الواجب في ألف رطل عراقي الزكاة، ويمكن معرفة قدر الألف رطل عراقي بمعرفة قدر المئة وستين رطلاً، فقد تقدم أنها تساوي ثلاثين صاعاً نبوياً، فيمكن معرفة الألف رطل بالآصع النبوية، ثم بالكيلوجرامات بحساب ما تقدم.
فالراجح أن في كل ألف رطل عراقي الزكاة.
والواجب فيه العشر، وقد تقدم هذا في الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أخذ في زكاة العسل العشر "، وفي حديث آخر: " في كل عشر قربات قربة ". فعلى ذلك: الواجب في ألف رطل عراقي مئة رطل.
قال: [والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، ففيه الخمس]
أي ما وجد من مدفونهم، من ركز الشيء إذا أخفاه، وسمي ركزاً لإخفائه.
والركاز باتفاق العلماء هو دفن الجاهلية، أو مدفون أهل الجاهلية.
ويعرف أنه دفن لأهل الجاهلية بكتابة أسمائهم عليه وصورهم وصور مصوراتهم ونحو ذلك.
فما يوجد من الأرض من الكنوز إن وجد فيه علامات الكفار من كتابة أسمائهم أو صورهم أو صور ملوكهم أو صور مصوراتهم فهو الركاز.
__________
(1) تقدم.(9/74)
أما إن وجدت فيه علامات المسلمين أو كان في البلاد الإسلامية وليس فيه علامة فليس بركاز.
فالركاز ما يكون من دفن أهل الجاهلية ويعرف بعلامات الكفار أو أن يكون مدفوناً في بلادهم وليست علامات.
أما إن كان مدفوناً في البلاد الإسلامية، وإن لم تكن عليه علامة فهو دفن المسلمين أو كان عليه علامة المسلمين فهو دفن لهم، فليس بركاز وإنما هو لقطة، وسيأتي - في هذا الدرس - الكلام عليها.
أما الركاز: وهو دفن أهل الجاهلية، فيجب فيه الخمس؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الركاز الخمس) (1) ، متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وكل مدفون ثبتت فيه علامة الكفار فله أخذه ويمتلكه بذلك، وعليه فيه الخمس، سواء كانت الأرض مواتاً أو مملوكة له أو لغيره أو كانت في ديار الكفار، فلا نظر بالأرض هنا؛ لأن الركاز مودع فيها مخفي فيها، فليس منها، فلا يملك الركاز بملكية الأرض، فإذا وجده في أرض مملوكة لغيره فهو له، أو وجده في موات، فلا يقال إنه لبيت المال، بل متى ما وجده فإنه يمتلكه سواء كانت الأرض مواتاً أو كانت ليست أرضا للمسلمين. أو كانت الأرض مملوكة له أو لغيره؛ لأن هذا الركاز مخفي فيها مودع فيها، فليس من الأرض في شيء فلا يتبعها.
وهل الخمس مصرفه مصرف الزكاة أو مصرفه الفيء؟
جمهور العلماء على: أن مصرفه مصرف الفيء.
وقال الشافعية: مصرفه مصرف الزكاة.
أي هل تصرف الخمس كما يصرف خمس الفيء، فيصرف في مصالح المسلمين في بناء المساجد والقناطر ويدفع لبعض أعيان المسلمين تأليفاً أو نحو ذلك مما يكون فيه مصلحة، أم أنه مصرفه مصرف الزكاة، فلا يصرف إلا للأصناف الثمانية؟
قولان لأهل العلم، وتقدما.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (66) في الركاز الخمس (1499) ، ومسلم (1710) .(9/75)
والقول الراجح هو مذهب جمهور العلماء، وأن مصرفه مصرف الفيء؛ وذلك لأنه مال كافر أُخذ في الإسلام، فأشبه الغنيمة، ولذا وجب فيه الخمس، كما يجب في الغنيمة.
فعلى ذلك يصرفه الإمام في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء.
وهل له أن يتصرف فيه بمصالح المسلمين أي وحده، أم لابد وأن يدفعه إلى الإمام؟
قولان لأهل العلم:
المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب الأحناف: أنه له أن يتصرف به، فيعطيه أهله ممن يصح أن يصرف لهم الفيء، فيصرفه في مصالح المسلمين ونحو ذلك، وفيه أثر عن علي في البيهقي، لكن إسناده ضعيف.
وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب أبا (1) ثور: أنه ليس له ذلك، بل يدفعه إلى الإمام، والإمام يصرفه في مصالح المسلمين، كما يصرف الفيء. وهذا القول هو الراجح؛ لأن الإمام هو الناظر في مصالح المسلمين، وما دام هو الناظر فيها، فإن التصرف لا يصح إلا منه.
فعلى ذلك: يجب دفعه للإمام ليصرفه في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء، وأما أثر علي فإسناده ضعيف.
وقد اتفق العلماء على الواجب في الركاز يدفع بمجرد إخراجه، فإذا أخرجه وتمكن من الأداء أخرج، قياساً على الخراج من الأرض من الزروع والثمار. وهذا باتفاق العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه لا ينتظر حتى يحول عليه الحول، بل بمجرد إخراجه من الأرض يخرج خمسه؛ ولأنه كما تقدم ليس من باب الزكاة، ومضي الحول إنما هو في الأموال الزكوية، وأما هذا فهو يصرف مصارف الفيء، فليس إذاً من باب الزكاة، والحولية إنما هي شرط في الأموال الزكوية.
قال: [في قليله وكثيره]
__________
(1) الأشهر: أبي ثور، وعلى لغة: إن أباها وأبا أباها قد بلغا من المجد غايتاها. أي بإثبات الألف رفعاً ونصباً وجراً، والأشهر الإعراب بالحروف، قال ابن مالك: أب أخ حم كذاك وهن والنقص في هذا الأخير أحسن.
وفي أب وتالييه يندر وقصرها من نقصهن أشهر.، شرح ابن عقيل [1 / 43] .(9/76)
ليس له نصاب، فنصاب الذهب عشرون ديناراً، فإذا وجد كثيراً لا يصل إلى هذه القيمة فتجب عليه فيه الزكاة؛ لأن الحديث عام، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وفي الركاز الخمس) (1) ، فهو عام في كل ركاز، قليلاً كان أو كثيراً؛ ولأنه كما تقدم ليس من الأموال الزكوية والأنصبة إنما تشرع فيها.
فعلى ذلك: القدر الذي يجده يخرج خمسه، سواء كانت تساوي نصاب الذهب والفضة أو لم تكن تساويهما، فتجب فيه الزكاة. هذا إذا كان من دفن الجاهلية.
أما إذا كان من دفن المسلمين، ويعرف ذلك إما بعلامات المسلمين أو لا تكون فيه علامات، لكن يوجد في البلاد الإسلامية، فهذا هو دفن المسلمين.
فلِما تقدم أن الركاز لا يتبع الأرض، فإذاً هو لا يتبع مالكها، بل يكون له حكم اللقطة، فتعرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا ملكه، هذا إذا كان في أرض مملوكة، أما إذا وجده في موات من الأرض كفلاة، فهذا لا يمكن تعريفه، فإنه يكون عليه فيه الخمس، فيكون له حكم الركاز.
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.(9/77)
ودليل هذا ما ما ثبت عند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن اللقطة، فقال: (إن كانت في طريق مأتي وأرض عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا ملك، فإن لم تكن في طريق مأتي ولا قرية عامرة، ففيها وفي الركاز الخمس) (1) .
إذاً إن وجد دفناً عليه علامات المسلمين ولم يتمكن من معرفة أصحابه، أما إذا كانت العلامات تدل على أصحابه فهو ملك لهم، أما إذا لم يكن فيه علامات أو فيه علامات لا يهتدى بها إلى معرفة صاحبها، فإنه يعرفها سنة ثم يملكها إن كانت في أرض عامرة أو طريق مأتي. أما إذا كانت في موات من الأرض بحيث إنه يبعد معرفة صاحبها والوصول إليه، فإنه يمتلكها وعليه فيها الخمس، والخمس حكمه كالخمس المتقدم.
ولم يذكر المؤلف هنا زكاة المعادن وقد ذكرها الشراح فهذا موضعها:
والمعادن: جمع معدِن بكسر الدال من عدن أي أقام ومكث.
والمراد بالمعادن: ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة أو زئبق أو رصاص أو حديد أو غير ذلك مما يخرج من الأرض.
والمعادن تبع للأرض، لأنها مودعة فيها خلقة، فكانت تبعاً لها؛ لأن مالك الأرض يملكها ويملك قرارها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة رقم (1710) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: (ما أصاب بفيه من ذي حاجة …) قال: وسئل عن اللقطة فقال: (ما كان منها في طريق الميتاء أو القرية الجامعة فعرِّفها سنة، فإن جاء طالبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كن في الخراب يعني ففيها وفي الركاز الخمس) ، وأخرجه الترمذي في البيوع حديث 1289 وقال: " حديث حسن "، سنن أبي داود [2 / 336] .(9/78)
جماهير العلماء على وجوب الزكاة في المعادن في الجملة – أي فيه خلاف في أنواع المعادن التي تجب فيها الزكاة، لكنهم مجمعون على أصل هذه المسألة، وأن الزكاة ثابتة في المعادن.
واستدلوا بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) فيدخل في عمومه المعادن، فإنها مما تخرج من الأرض. وفي الموطأ وسنن أبي داود بإسناد مرسل، وأصله عند أبي داود موصولاً، لكن الشاهد فيه هنا مرسل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم " (2) .
والأظهر أن هذا من قول الراوي، فلا يكون موصولاً ولا مرسلاً، وإنما الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إقطاعه لبلال بن الحارث المعادن القبلية، وأما قوله هنا: " فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم " فالظاهر أنه من قول بعض الرواة، وهو من حديث ربيعة الرأي عن بعض أشياخه عن غير واحد، فهو إذاً من قول بعض أهل المدينة، فهو قول ربيعة أو من روى عنه، فليس بمرسل ولا بموصول، لكن يمكن الاستدلال بالآية {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، والآية عامة فيدخل في عمومها المعادن.
وعليه العمل عند أهل العلم، فقد اتفقت المذاهب الأربعة كلها على القول بهذا، وأن الزكاة تؤخذ من المعادن في الجملة.
- وخالف في ذلك الظاهرية، فقالوا: لا تجب الزكاة فيها لعدم الدليل، والأصل هو عدم الوجوب.
لكن العمل بعموم الآية المتقدمة، وما تقدم من عمل أهل العلم.
وقد قال الراوي: " فتلك المعادن لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم "، يمكن الاستدلال به بما يسمى بالاستصحاب المقلوب، وهو عكس الاستصحاب الذي يُعد من الأدلة الشرعية.
__________
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين (3061) .(9/79)
وصفة الاستدلال بالاستصحاب المقلوب هنا أن يقال: إن ثبوت أخذ الزكاة فيه في عصر التابعين، فإننا نستصحب هذا الأخذ إلى عصر الصحابة إلى عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأصل هو عدم التغير.
ولاشك أن هذا الاستصحاب فيه شيء من الضعف، لكنه يقوي ما تقدم.
فعلى ذلك جمهور العلماء وهو الأظهر أن الزكاة واجبة ففي المعادن.
وخصها الشافعية والمالكية بمعادن الذهب الفضة، أما غيرها من الجواهر والياقوت فلا زكاة فيها.
وقال الحنابلة بالعموم، وهو الراجح؛ لأن الآية عامة {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، فهو عام في كل معدن.
أما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا زكاة في الحجر) (1) ، فإن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
*
قال جمهور العلماء: ونصابه نصاب الذهب والفضة؛ وذلك لأن الشارع لم يحدد له نصاباً ولا قدراً مخرجاً، فحينئذ ننظر إلى قيمته كعروض التجارة، فإذا كانت قيمته تساوي عشرين ديناراً، كأن يخرج رصاصاً أو حديداً يساوي عشرين ديناراً، ففيها الزكاة، والقدر المخرج هو ربع الشعر.
إذاً ننظر إلى قيمتها؛ وذلك لأنها إنما يستفاد منها بالاستفادة من قيمتها، وهي تشبه عروض التجارة، وكما تقدم، فإن الشارع لم يحدد لها نصاباً، فيقدر النصاب بالذهب والفضة، فإذا بلغت قيمتها نصاب الذهب والفضة، ففيها الزكاة، والواجب فيها هو ربع العشر. (2)
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 245] باب (80) ما لا زكاة فيه من الجواهر غير الذهب والفضة (7590) .
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: وعن أحمد أنه يجب في قليله وكثيره، وهو مذهب ...(9/80)
الزكاة تخرج كما تخرج زكاة الركاز، فمجرد إخراج المعدن من الأرض تجب الزكاة فيه، قياساً على الزروع والثمار، فإنهما داخلان في عموم قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) ، فكما أن الزروع والثمار وهي المخرجة من الأرض تجب زكاتها بمجرد الحصول عليها والتمكن من الأداء، فكذلك في المعادن.
إذاً: المعادن تجب فيها الزكاة، والزكاة تجب في كل معدن فيها، ونصابها والمخرج منها قدره قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويخرج بمجرد الحصول عليها.
وهل تجب الزكاة في المخرج من البحر من اللؤلؤ والعنبر ونحو ذلك؟
قولان لأهل العلم:
1- القول الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو المشهور عند الحنابلة: أنه لا تجب فيه الزكاة.
قالوا: لأن الأصل عدم وجوب الزكاة، ولا دليل على وجوب الزكاة فيما يخرج من البحر، ولأنه يوجد ملقياً على البحر في غالب أحواله، فأشبه ما يعثر عليه في الأرض من المباحات التى لا تجب فيها الزكاة.
2- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الزكاة تجب فيه قياساً على المخرج من الأرض، فكما أن المخرج من الأرض تجب فيه الزكاة، فكذلك المخرج من البحر. وهذا قياس ظاهر. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة النقدين
الدرس الرابع بعد المئتين
(29 / 12 / 1415 هـ)
باب زكاة النقدين
النقدان: مثنى نقد، وهو ضد النسيئة، بمعنى منقود أي معطى، فالنقد هو ضد النسيئة والتأخير، والأثمان تنقد نقداً، فليست محلاً للتأخير، فإذا دفع مثلاً مئة دينار، فإنه قد نقد الثمن أي دفعه حاضراً.
وهي من نقد الدرهم والدينار، أي نقد جيده من رديئه، أي ميز الطيب من الرديء.
والنقدان هما الذهب والفضة.
فهذا الباب في زكاة الذهب الفضة.
وقد أجمع العلماء على فرضية الزكاة فيهما – الذهب والفضة -، وهما النقدان، وهما أثمان الأشياء. وأما الحلي من الذهب والفضة فسيأتي الكلام عليها في الدرس القادم.(9/81)
قال المؤلف: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً]
المثقال: يساوي في أصح ما ظهر لي من الأقيسة أنه يساوي أربعة جرامات وربع الجرام، فعلى ذلك النصاب يساوي خمسة وثمانين جراماً، وهي ما يساوي عندنا نحو ثلاثة آلاف ريال. هذا نصاب الذهب.
يدل على ذلك:
أما على أن نصاب الذهب عشرون ديناراً وعلى أن القدر المخرج منه هو ربع العشر: ما روى أبو عبيد القاسم من سلام في كتابه الأموال عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري – وهو ثقة تابعي – أن في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصدقة وكتاب عمر: أن الذهب لا يؤخذ منه شيء حتى يكون عشرين ديناراً، ففيه نصف دينار، وأن الورق – وهو الفضة – لا يؤخذ منه شيء حتى يكون مئتي درهم، فإذا بلغ مئتي درهم ففيه خمسة دراهم " (1)
وهذا الحديث مرسل، لكن له شاهد عند ابن ماجه من حديث عائشة وابن عمر (2) ، والحديث سنده ضعيف، لكن يصح شاهداً، وله شاهد أيضاً عند أبي داود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان لك مئتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (3)
، والحديث إسناده حسن، لكن الراجح وقفه على علي، ولا يعلم له مخالف.
__________
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (4) زكاة الورق والذهب (1791) بلفظ: " عن ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينار، ومن الأربعين ديناراً ديناراً ". قال البوصيري: " هذاإسناد فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف. رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه ".
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة (1573) باب (4) .(9/82)
وقد عمل أهل العلم بهذه الآثار، فعليها العمل عند أهل العلم، فقد أجمعوا على فرضية الزكاة في الذهب والفضة، وأن الواجب فيها ربع العشر، وعامتهم على أن نصابها عشرون ديناراً.
إلا ما روي عن الحسن: أن نصاب الذهب أربعون ديناراً، وروي عنه موافقته أهل العلم، ولا دليل له على ذلك.
إذاً نصاب الذهب عشرون ديناراً، والواجب فيه ربع العشر.
قال: [وفي الفضة إذا بلغت مئتى درهم ربع العشر منهما]
فقد ثبت في البخاري من حديث أنس في كتاب أبي بكر في الصدقة، وفيه: " وفي الرِّقة – أي الفضة – إذا بلغت مئتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومئة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها " (1) .
كما أن الآثار المتقدمة تدل على هذا، وقد أجمع أهل العلم عليه، وأن الواجب في مئتي درهم ربع العشر.
إذا علم هذا، فاعلم أن جماهير العلماء على أن المعتبر في زكاة النقدين هو الوزن.
وقد تقدم وزن الذهب وأنه يساوي عندنا فيما يظهر خمسةً وثمانين جراماً، وأما الفضة فإن مئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، والمثقال من الفضة يساوي جرامين وتسعمئة وخمساً وسبعين بالمئة، وعلى ذلك: نصابه بالجرامات يساوي خمسمئة وخمساً وتسعين جراماً.
فالمعتبر عند جماهير العلماء هو الوزن.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة: باب زكاة الغنم، الفتح [3 / 371] .(9/83)
فعليه عشرون ديناراً يساوي عشرين مثقالاً، ومئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، فإذا كانت العشرون ديناراً لا تساوي إلا عشرة مثاقيل، كأن يضرب الناس دنانير تسمى دنانير، لكن الدينار فيها لا يساوي إلا نصف مثقال، فلا تكون النصاب عشرين مثقالاً، بل يكون أربعين مثقالاً، لأن المعتبر هو الوزن، فلا ينظر إلى العدد، أما إذا ملك عشرين مثقالاً لكنها لا تساوي إلا عشرة مثاقيل أو لا تساوي إلا خمسة عشر مثقالاً فلا يجب فيها الزكاة، وكذلك في الفضة، فإن ملك مئتي درهم لكنها لا تساوي مئة وأربعين مثقالاً، فإن الزكاة لا تجب عليه.
واستدلوا بما ورد في أبي داود وغيره في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث حسن في زكاة الفضة قال: (إذا بلغت خمس أواق) (1) ، فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصاباً له وزناً، فالأوقية وزن.
وقال شيخ الإسلام: بل المعتبر العدد من غير نظر إلى الوزن.
وعليه: ما نسميه نحن الريالات تقوم مقام الدراهم،.. .. .. (2) فسيأتي الكلام على الأوراق النقدية، لكن لو ضربت دراهم سميت بريالات أو بغيرها من الأسماء ضربت من الفضة، والدرهم فيها لا يساوي وزناً الدرهم الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه يسمى درهماً، وكذلك في الدينار، كأن يضرب دينار لا يساوي إلا نصف مثقال، فإنه متى ما بلغ العدد المذكور، فإن الزكاة تجب فيه.
__________
(2) بياض في الأصل.(9/84)
واحتج رحمه الله بأن الدراهم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن ذات وزن واحد، بل كانت ذات أوزان مختلفة، فمنها ما وزنه ثمانية دوانق، ومنها ما وزنه أربعة دوانق، حتى كان عهد عبد الملك بن مروان فضرب الدرهم الإسلامي الذي يساوي ستة دوانق، قال: فلا يمكن أن يحكم على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدرهم الحادث. فهذا درهم حادث، فهذه الأوزان إنما تعود إلى دراهم ودنانير فضربت في عهد عبد الملك بن مروان، فلا يحكم على القديم بما هو حادث.
فهو يرى أن الزكاة متعلقة بعدد الدراهم والدنانير من غير نظر إلى الوزن، واحتج بأن الدراهم والدنانير لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات وزن واحد، بل لها أوزان مختلفة، فعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة بعددها، وحيث كان كذلك، فإذا وجدت دنانير ودراهم، فإن الزكاة تجب فيها إذا بلغت العدد المتقدم، وإن كانت لا تساوي الوزن الذي تقدم.
وفيما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله نظر، فإنه لا يعقل أن تكون الدراهم أو الدنانير التي تتعلق بها قيم الأشياء وتتم بها الأنكحة في مهورها، والبيوع ونحو ذلك من الأحكام الشرعية لا يمكن أن تكون مختلفة الأوزان، وحيث كانت مختلفة في الواقع، فإنه لابد أن يكون هناك قدر هو المتعارف عليه، فإذا وجد دينار يساوي ضعف غيره من الدنانير، فإنه يحكم له بأنه بقيمة دينارين، فنحن وإن سلمنا لم تضرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر كذلك، وإنما ضربت – كما تقدم - في عهد عبد الملك، فإنا لا نسلم أنها كانت مجهولة القدر، بل لها قدر ظاهر واضح بيّن، فهي قيم الأشياء وبها تتم أنكحة الناس وبيوعهم وحقوقهم (1) متعلقة بها، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالدرهم والدينار.
__________
(1) أو كلمة نحوها.(9/85)
كما أن الشارع لا يمكن أن يجمع بين المختلفات، فيوجب في مئتي درهم الدرهم فيها قدر أربعة دوانق يوجب فيه الزكاة، ولا يوجب الزكاة مما يبلغ الدرهم فيها ثمانية دوانق حتى يبلغ هذا العدد، فإن المئة درهم مما يكون وزنه ثمانية دوانق تساوي مئتي درهم مما يكون وزن الواحد فيها أربعة دوانق، فكيف يفرق الشارع بينهما مع أنهما متساويان.
فالأظهر مذهب جمهور العلماء من اعتبار الوزن خلافاً لشيخ الإسلام.
وأما الأوراق النقدية المعاصرة، وهي ما تسمى " بنك نوت "، وتسمى بالأنواط في كلام الفقهاء المعاصرين.
وهي لغة: " بنك نوت " لغة فرنسية بمعنى الأوراق النقدية.
فهذه الأوراق اختلفت فيها أنظار الناس من الفقهاء المعاصرين:
فمنهم من قال: هي وثائق دين، يعني ليست أثماناً، وإنما هي وثيقة كما لو اقترضت من رجل مالاً فأعطيته ورقة فتثبت فيها هذا الحق الذي عليك، فهي وثيقة دين.
وهذا اعتماد على ما يكتب فيها من التزام مؤسسة النقد بدفع ما يقابلها من ذهب وفضة.
وهذا ضعيف، فإن هذه الكتابة المقصود منها توثيقها وإلا فإن صاحب الورق لا يعطي قيمتها من الذهب والفضة، لكن المقصود من هذه الكتابة هو توثيق هذه الأوراق وإعطائها قيمتها. وهذا القول فيه شدة، إذ يترتب عليه الأحكام الكثيرة من عدم جواز السلم فيها، ومن مسائل كثيرة تترتب على هذا، كما أنه لا يجوز شراء الذهب الخالص بها ولا شراء الفضة الخالصة بها؛ لأنها تعتبر ديون، فلا يجوز أن يشترى ذهباً فيها وإن دفعها، ولا فضة وإن دفع هذه الأوراق النقدية؛ لأنها ديون، والواجب أن يكون الشراء يداً بيد في الأموال الربوية، فهذا مع ضعفه فيه ضيق وشدة.
وأوسع المذاهب من قال: إنها عروض تجارة، وحجته: أنها مال مرغوب فيه، وليست بذهب ولا فضة، فأشبه العقارات وغيرها من العروض كالأقمشة وغيرها التي تباع وتشترى.(9/86)
وهذا أيضا ضعيف؛ لأن قيمتها في الحقيقة قيمة ثمنية، إذ لو أن السلطان أبطلها - أي أبطل التعامل بهذه الورق المعينة لم يبق لها قيمة مطلقاً. وهذا أوسع المذاهب.
ويترتب على هذا القول جواز الربا فيها بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنها عروض تجارة، فكما لو استبدل أقمشة بأقمشة، فله أن يستبدل مئة ألف بخمسة آلاف، سواء كان ذلك حاضراً أو نسيئة؛ لأنها ليست بأثمان، بل هي عروض تجارة.
وقال بعض أهل العلم: بل هي بدل عن الذهب والفضة، فلها أحكام الذهب والفضة؛ لأنها – على رأي هذا القائل - لابد مقابلها في صندوق النقد ذهب وفضة، فتعطى حكمه.
وعليه: إذا كانت بدلاً من الذهب، فنصابها نصاب الذهب، سواء كانت.. ... (1) نحو ثلاثة آلاف ريال. وأما إن كانت بدلاً عن الفضة فنصابها نصاب الفضة، وهو نحو أربعمئة أو خمسمئة ريال، وربما زاد أو نقص. فهذا القول يقول هي بدل عن الذهب والفضة، والبدل له حكم المبدل منه، فعلى ذلك يعطى حكم الذهب والفضة. وعليه: فإنه يترتب على هذا أن الأوراق النقدية المختلفة التي تكون من بلاد مختلفة يقع الربا بينها، أي ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنها كلا من جنس واحد.
فمثلاً الدولارات والريالات، إن قلنا أن أصلها ذهب، فلا يجوز أن يعطيه دولارات بريالات متفاضلة؛ لأنها من جنس واحد، وهو الذهب.
وذهب بعض أهل العلم، وهو أصحها: أن الأوراق النقدية من الريالات والدولارات وغيرها أثمان مستقلة بنفسها.
__________
(1) كلمة غير واضحة.(9/87)
أما كونها أثمان، فهذا ظاهر؛ فإن لها قيمة الذهب والفضة تماماً في البيع والشراء ونحو ذلك، ولا فرق بينها وبين الذهب والفضة في التعامل القديم، بل قد طغى التعامل بها بظهور ووضوح على التعامل بالذهب والفضة، بل لا يكاد أن يتعامل الناس بالذهب والفضة، بل ربما لا يتعاملون بها على أنها أثمان، وإنما يتعاملون بالأوراق النقدية، فهي الأثمان، ففيها البيع والشراء، فقد أخذت مكان الذهب والفضة تماماً، حتى لا تسمع في القوانين عامة الشرعية وغيرها من لم يقبلها على أنها ثمن للأشياء.
وأما كونها مستقلة - أي مستقلة عن الذهب والفضة -؛ فلأن هذا هو الواقع، فإن الواقع أن رصيدها في بيت النقد ليس بذهب على الخصوص أو فضة على الخصوص، بل يجتمع فيه الذهب والفضة والمعادن والعقارات وغير ذلك من الأموال، فليس لها رصيد محدد من ذهب أو فضة حتى نجعلها بدلاً من أحدهما، بل رصيدها من أموال مختلفة، فقد يكون رصيدها من البترول أو من بعض المعادن الأخرى ومن الذهب والفضة ومن العقارات ونحو ذلك، وربما كان رصيدها الثقة الدولية التي تعطى لهذه الدولة. فعلى ذلك: أصبحت مستقلة بنفسها، وحيث كان كذلك،فإن كل ورقٍ نقدي لبلد جنس مختلف، فعليه: يجوز التفاضل بين الريالات والدولارات أو غيرها من الأموال.
وهذا لاشك أن فيه دفعاً لحاجة الناس ورفعاً للحرج عنهم مع المحافظة على الأحكام الشرعية من وجوب الزكاة وتحريم الربا ونحو ذلك، فيثبت الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة فيها، وتثبت الزكوات فيها، كما أن هذا في كل جنس منفرداً، وفيما بينها لا يثبت إلا ربا النسيئة الذي هو أقبح الربا وأعظمه.
فعلى ذلك: أصح الأقوال للمعاصرين في مسألة الأوراق النقدية أنها أجناس مختلفة، وهي أثمان مستقلة عن الذهب والفضة. وحينئذ يشكل علينا نصابها، فهل يكون نصابها نصاب الذهب أو يكون نصابها نصاب الفضة؟(9/88)
وحيث هي أثمان، فإن نصابها بالقياس الظاهر هو نصاب الأثمان، لكن هل يكون نصابها نصاب الذهب أو نصاب الفضة؟
فهل.. .. (1) الريالات خمسا وثمانين جراماً أوجبنا فيها الزكاة، أم أنها.. . . خمسمئة وخمس وتسعين جراماً من الفضة أوجبنا فيها الزكاة؟
ثلاثة أقوال أيضا للمعاصرين:
فمن المعاصرين من قال: نصابها نصاب الفضة؛ لأن نصاب الفضة مجمع عليه، ولأنه ثابت في البخاري، والأحاديث الواردة فيه أصح.
وقال بعضهم: إن الزكاة تجب إذا بلغ أدنى النصابين، فإذا ساوى الفضة وجبت فيه الزكاة، وإن لم يساو الذهب، فإن كان نصاب الذهب أقل من نصاب الفضة، فإذا بلغ نصاب الذهب وجبت فيه الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب الفضة. وهذا أقوى في النظر؛ وذلك لأنها كليهما أثمان تجب فيه الزكاة، فإذا بلغ نصاب أحدهما، وجبت فيه الزكاة وإن لم يبلغ نصاب الآخر.
والقول الثالث: أن الواجب فيه نصاب الذهب؛ قالوا: لأن نصاب الفضة يسير لا يقارن بالأنصبة الواردة في الشرع في أربعين شاة أو خمس من الإبل وغيرها مما ورد في الشريعة من أنصبة الأموال. فإن نصاب الريالات السعودية لو حددناه بنصاب الفضة فإنه يساوي خمسمئة ريال، وهذه لا تساوي شاة واحدة، فيبعد أن يوجب الشارع في مثل هذا المبلغ الزكاة، فإن في ذلك إجحافاً بصاحب المال.
وأما الذهب، فإنه يصل كما تقدم إلى ثلاثة آلاف، وهذا يقرب أن يكون نصاباً يعرف به الغني.
وهذا القول فيما يظهر لي أقوى هذه الأقوال؛ لأنه ليس فيه إجحاف بصاحب المال، ولأن الشرع لا يعلق الزكاة بمثل هذا المبلغ اليسير، فإن الشاة كانت تساوي الدرهم ونحوه، فمئتا درهم تأتي بها مئة شاة ومئتى شاة، وأما هنا،فإنه بالنظر إلى نصاب الفضة لا تساوي الريالات إلا الشيء اليسير من الأموال. فالأظهر هو تقويمها بنصاب الذهب. كما أن الذهب أقوى في الثمنية من الفضة.
__________
(1) كلمة غير واضحة.(9/89)
فأظهر الأقوال أن يقدر بالريالات بالذهب، وأحوطها هو القول الثاني، وهو أنها إذا ساوت أدنى النصابين من الذهب والفضة فإن الزكاة تجب فيها. الله أعلم.
قال: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب]
هذا المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الذهب والفضة المقصود منهما واحد، فهما أثمان الأشياء وقيمها، فعلى ذلك: إن ملك نقداً من الذهب، ونقداً من الفضة، بحيث إن كل واحد من النقدين لا يبلغ نصاباً، وبمجموعهما يبلغان النصاب، فإن الزكاة تجب عليه، وهي ربع العشر.
- وقال الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد (1) : إنه لا يضم بعضهما إلى بعض؛ لأن كلاًّ منهما جنس مختلف عن الآخر، كالإبل والبقر والغنم، فكل منها جنس يختلف عن الآخر، فلم يضم بعضها إلى بعض لاختلاف جنسيهما.
والأظهر ما تقدم، وهو القول الأول، فإن جنسيهما وإن اختلفا، فهما بمعنى الجنس الواحد، فهما قيم الأشياء، فعلى ذلك: الأظهر مذهب الجمهور أن الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض.
وهذه مسألة غير واقعة لنا في الأزمنة المعاصرة إلا أن يقال هذا على القول الذي تقدم اختياره، وهو في الأوراق النقدية المختلفة، كأن يكون يملك دولارات وريالات، وقلنا إن كلا منهما جنس مجرد عن الآخر، فإنه يضم بعضها إلى بعض كما يضم الذهب والفضة.
فإذا ضم بعضها إلى بعض، فهل يكون هذا بالأجزاء أم بالقيمة؟
قال جمهور العلماء: يكون هذا بالأجزاء.
وصورة هذا: إذا ملك نصف نصاب الذهب وهو عشرة الدنانير، وملك نصف نصاب الفضة وهو مئة درهم، فإن الزكاة تجب عليه، فقد ملك نصفاً من هذا، ونصفاً من هذا، فيتم النصاب.
كذلك إذا ملك ثلثاً من نصاب الفضة، وثلثين من نصاب الذهب أو العكس، فإن هذه الأثلاث تجتمع فتكون نصاباً. هذا إذا قلنا:إنها تضم بالأجزاء.
__________
(1) واختاره الشيخ محمد العثيمين رحمه الله تعالى.(9/90)
أما إذا قلنا: إنها تضم بالقيمة، فإذا ملك عشرة دنانير وملك خمسين درهماً وهي تساوي ربع نصاب الفضة، وهذه الخمسون درهماً تساوي عشرة دنانير، لأن قيمة الذهب والفضة تختلف باختلاف الأزمان ونحو ذلك، بل قد يكون في الزمن الواحد بل بالأيام يحصل اختلاف في قيمة الذهب والفضة، فمثلاً إذا كان يملك خمسين درهماً ويساوي عشرة دنانير، وعنده عشرة دنانير، فهذه عشرون ديناراً، فتجب عليه الزكاة.
وقال أبو حنيفة: إن الضم يكون بالقيمة، وخالفه فيه صاحباه فوافقوا جمهور العلماء.
فجمهور العلماء على أن الضم يكون بالأجزاء، فإذا ملك نصفاً من هذا ونصفاً من هذا وجبت عليه الزكاة، فلو ملك عشرة دنانير ومئة درهم، وهذه المئة درهم لا تساوي إلا ثمانية دراهم، فإنه تجب عليه الزكاة.
أما أهل القول الأول، فقالوا: إنا لا ننظر إلى القيمة إذا كانا منفردين، فكذلك إذا ضم بعضها إلى بعض.
فعندما يملك عشرين ديناراً وهذه العشرون لا تساوي إلا مئة درهم، فإن الزكاة تجب عليه اتفاقاً، فلم ننظر إلى القيمة، وكذلك من ملك مئتي درهم، فإن الزكاة تجب عليه وإن لم تساو إلا عشرة دنانير، قالوا: فلم ننظر في القيمة وهما منفردان، فكذلك لا ننظر فيها وقد ضم بعضا إلى بعض. هذا هو مذهب الجمهور.
وأما القول الثاني، وهو الاعتبار بالقيمة، فقالوا: إن هذه العشرة دنانير لا تساوي إلا خمسين درهماً، فحينئذ يكون ماله بمجموعه لا يساوي نصاباً، وهذا فيما يظهر لي أقوى.(9/91)
وذلك لأن كوننا ننظر إليهما منفردين لأنهما مال واحد أوجب الشارع فيه الزكاة، وأما هنا فإنهما لم يبلغا نصاباً شرعياً، وإنما بجموعهما قد بلغاه بالقيمة، فحيث كان ذلك فقد وجبت الزكاة. وحيث لم يكن مجموعهما يصل إلى قيمة ما تجب فيه الزكاة فإن الزكاة لا تجب فيهما، ولا شك بالفارق بين ما إذا كانا منفردين وما إذا كانا مضمومين: بأنهما إذا كانا منفردين فقد بلغا النصاب الشرعي، وأما إذا كانا غير منفردين فإن كلاًّ منهما لم يبلغ النصاب الشرعي، وحيث لم يبلغ النصاب الشرعي، فإنا حينئذ نعلق الحكم بقيمته؛ لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، فحيث كان عنده من الدراهم والدنانير ما يساوي مئة درهم أو عنده من الدراهم والدنانير ما يساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب عليه، لأنه كما لو كان عنده عشرون ديناراً.
فالذي يظهر لي وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة من الاعتبار بالقيمة هنا لا بالأجزاء. والله أعلم.
قال: [وتضم قيمة العروض إلى كلٍ منهما]
رجل عنده دكان وعنده دراهم قد حال عليها الحول، فهذه الدراهم التي حال عليها الحول لا يبلغ نصاباً وبضمها إلى قيمة العروض يكون مجموعها نصاباً، فإن قيمة العروض تضم إليها، سواء كانت دراهم أو دنانير، وهذا ظاهر؛ لأنه تقدم أن العروض تجب الزكاة في قيمتها، وقيمتها دراهم أو دنانير، فعلى ذلك: تضم.
فإذا كان عنده دكان فقومه بدراهم، وعنده دراهم قد حال عليها الحول، وإذا أفرد كلاً منهما لم يتم نصاباً، فإنه يضم بعضها إلى بعض، ويجب عليه ربع العشر؛ لأن العروض من جنس الدراهم والدنانير، لأن النظر في قيمتها لا في أعيانها. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 1 / 1 / 1416 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم](9/92)
لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من فضة " (1) . فخاتم الفضة جائز لثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: [وقبيعة السيف]
هي ظرف مقبض اليد منه، فيجوز أن يكون من فضة؛ ودليل هذا ما ثبت في مسند أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك قال: " كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضةً " (2) .
قال: [وحلية المِنْطَقة]
المنطقة: تقدم أنها ما يشد به الوسْط، وهو من ملبوس الرجال سابقاً، فإذا وضع في أطرافه شيء من فضة، فحليت بالفضة فلا بأس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب (7) ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان (65) عن أنس رضي الله عنه بلفظ قال: " كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً - أو أراد أن يكتب – فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه … "، وفي كتاب اللباس، باب (46) خاتم الفضة (5866) عن ابن عمر بلفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: (لا ألبسه أبداً) ، ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم فضة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم وقع من عثمان في بئر أريس "، و (5869) (5870) عن أنس رضي الله عنه بألفاظ مختلفة، ومسلم (2092) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب (9) في السيف يحلى (2583) .(9/93)
وذكر الحنابلة في ذلك آثاراً عن الصحابة لم أقف على عزوها، ولم يعزوها، والقياس يدل على جوازه، وأظهر منه ما سيأتي من إباحة الفضة للرجال مطلقاً مما هو اختيار شيخ الإسلام. قالوا: ومثل ذلك رأس المكحلة وحلية الدرع وحلية المغفر أو أن يضع شيء في النصل أو نحو ذلك، فكل هذا جائز لا بأس به من باب القياس على الحلية التي توضع في السيف التي تقدم ثبوت فعلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وما سوى ذلك فهو محرم. هذا هو المذهب.
قال صاحب الفروع: " ولم أجدهم يحتجون على تحريم لبس الفضة على الرجال، ولا أعرف على تحريم لبس الفضة على الرجال نصاً عن أحمد ".
- وهناك قول في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القول الثاني في المسألة، وقد قواه صاحب الفروع: وهو أي لبس الفضة للرجال جائز مطلقاً؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (1) ، ومن ذلك الفضة، فالفضة مما خلقه الله لنا، فهو جائز لنا، ولا دليل يحرمه، وقد دلت الأدلة على جوازه للنساء، وهو بإجماع العلماء جائز لهن، والأصل أن ما جاز للنساء فهو جائز للرجال كما أن ما جاز للرجال فهو جائز للنساء إلا بدليل يدل على التخصيص ولا دليل يدل على ذلك. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن لباس الفضة جائز مطلقاً للرجال.
وأما كون الآنية محرمة منه، فإن باب اللباس أوسع من باب الآنية، بدليل أن الآنية محرمة على النساء كما تقدم، فالنساء لا يجوز لهن أن يشربن في آنية الذهب والفضة ويجوز لهن أن يلبسن الذهب والفضة، فباب اللباس أوسع من باب الآنية.(9/94)
فلبس الفضة للرجال جائز مطلقاً على الراجح إلا أن يدل دليل على التحريم، كأن يكون اللبس فيه تشبه بالنساء، فقد دلت الأدلة الشرعية على تحريم تشبه الرجال بالنساء، فلا يجوز أن يلبس سواراً أو غير ذلك، لكن إن لبسه لبساً يختص بالرجال فلا بأس بذلك.
ومما يدل على الفرق بين الذهب والفضة أن خاتم الفضة جائز لثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم الذهب محرم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصاً في الصحيحين كما سيأتي. ففرق بين الذهب والفضة.
قال: [ومن الذهب قبيعة السيف]
يجوز له أن يحلي قبيعة (1) سيفه بالذهب، فهذا جائز، وقد حكاه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، والوارد عن عمر كما في الطحاوي (2) وغيره بإسناد جيد أن سيفه كان محلاًّ بفضة، وهو الأليق به من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن سيفه كان محلاً بفضة، فالأظهر ضعف هذا الأثر، ولم أقف على سند له ينظر فيه، والمحفوظ عن عمر ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة. ورواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً لكن بإسناد لا يصح.
إذاً قالوا: قبيعة السيف يجوز أن تكون من ذهب، واستدلوا بما حكاه الإمام أحمد فقال: " روي عن عمر " وتقدم أن المحفوظ فيما وردت به الآثار التي يقف الناظر على سندها إنما ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة، لكن سيأتي الدليل على جواز ذلك.
قال: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه]
__________
(1) القَبِيعةُ: التي على رأس قائم السيف، وهي التي يُدخَلُ القائم فيها، وقيل: هي ما تحت شاربي السيف مما يكون فوق الغِمْد فيجيء مع قائم السيف، والشاربان أنفان طويلان أسف القائم، أحدهما من هذا الجانب والآخر من هذا الجانب، وقيل: قبيعة السيف رأسه الذي فيه منتهى اليد إليه، وقيل: قبيعته ما كان على طرف مَقْبِضِه من فضة أو حديد " لسان العرب [8 / 259] .(9/95)
يجوز أن يضع من الذهب ما يضطر إليه من أنف أو أسنان أو نحو ذلك. هذا جائز للضرورة. فقد روى أبو داود بإسناده الذي لا بأس به، فالسند لا بأس به إن شاء الله، ويشهد له عمل أهل العلم، فإنه لا خلاف بين العلماء في جواز اتخاذ ما يضطر إليه من أنف أو سن أو نحو ذلك من الذهب، فما يضطر إليه أن يتخذ من ذهب فهو جائز باتفاق العلماء، ويدل عليه أصول الشريعة من أن المحرمات يذهب تحريمها بالاضطرار إليها، فلا تحريم مع ضرورة، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عن عرفجة بن أسعد رضي الله عنه أنه أصيب أنفه يوم الكُلاَب في الجاهلية، فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذه من الذهب " (1) ، ولا خلاف بين العلماء في هذه المسألة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب (28) الخاتم، باب (7) ما جاء في ربط الأسنان بالذهب (4232) . قال المحقق [4 / 434] : " وأخرجه الترمذي في اللباس حديث 1770 باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، والنسائي في الزينة حديث 5164 باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب، وقال الترمذي " هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طرفة " وقال المنذري: وأبو الأشهب هذا، هو جعفر بن الحارث، سكن واسط وكان مكفوفاً، ضعفه غير واحد والكلاب - بضم الكاف وتخفيف اللام والباء – موضع كان فيه يومان من أيام العرب المشهور. الكلاب الأول، والكلاب الثاني، واليومان في موضع واحد، وقيل: هو ما بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة، فكانت به وقعة في الجاهلية، انتهى كلام المنذري، وفي عارضة الأحوذي شرح الترمذي: يوم الكلاب كان مرتين، الأولى بين بكر وتغلب، والثاني يوم الصعقة بين تميم وأهل هجر الحارثيين وغيرهم، وفي الثاني حضر عرفجة وأكثم بن صيفي والزبرقان بن بدر " انتهى كلام المحقق.(9/96)
نعود إلى ما تقدم من الاستدلال على جواز قبيعة السيف، دليله ما رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الذهب إلا مقطعاً " (1) ، وهو اختيار شيخ الإسلام (2) ، وهو قول أبي بكر من الحنابلة: أن الذهب اليسير التابع لغيره جائز،وهو الذهب المقطع. فإذا اتخذ في شيء من ملبوساته ذهباً يسيراً، فإن ذلك جائز؛ لأن الذهب هنا مقطع، فالذهب المقطع جائز، كأن يحلي الدرع بشيء يسير من ذهب أو يحلي المنطقة بشيء يسير من ذهب أو أن يضع في خاتمه فصاً من ذهب، فإن هذا جائز. وهذا خلاف المشهور في المذهب،فإن المشهور في المذهب جوازه في قبيعة السيف فحسب.
- واختار شيخ الإسلام، وهو قول في المذهب: جوازه مطلقاً إن كان تابعاً لغيره، وهو يسير.
أما إن كان ليس تابعاً لغيره، بل هو لباس مستقل، كالخاتم وغيره، فإن الأدلة دلت على تحريمه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى خاتم ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) (3) .
(4)
قال: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر]
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب (48) الزينة، باب (40) تحريم الذهب على الرجال (5150) بلفظ: " عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً وعن ركوب المياثر "، و (5149) عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير والذهب إلا مقطعاً ".
(2) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [21 / 87] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب (37) اللباس والزينة، باب (11) تحريم خاتم الذهب على الرجال.. (2090) . ولم أجده في البخاري، وكذا عزاه صاحب الدراية في تخريج أحاديث الهداية، إلى مسلم فقط.
(4) في أسفل المذكرة ما نصه: قال رحمه الله: فيباح خراز الذهب إذا كان أربعة أصابع فما دونها ...(9/97)
النساء يباح لهن أن يلبسن من الذهب والفضة ما جرت عادتهن به من قرط أو فتخات أو أسورة أو سلاسل أو غير ذلك محلقاً أو غير محلق، يجوز لهن أن يلبسن ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة.
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم تخريجه، وهو في بعض السنن أنه قال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثهم) (1) . فالذهب مباح للنساء مطلقاً.
وقيده المؤلف هنا بما جرت عادتهن، لا بما جرت عادة الرجال به، فما عادة الرجال به فلا يجوز لما فيه من التشبه.
إذاً ما جرت عادتهن بلبسه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، فإن ذلك جائز لهن ولو كثر.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب (26) اللباس، باب (14) في الحرير للنساء (4057) بلفظ: " عن عبد الله بن زُريَر يعني الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) ، وأخرجه النسائي في الزينة حديث 5147) باب تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه في اللباس حديث 3595 باب لبس الحرير والذهب للنسائي، وفي حديث ابن ماجه (حل لإناثهم) ، وأخرج الترمذي - عن أبي موسى الأشعري – في اللباس حديث 1720 باب في الحرير والذهب، وأخرجه النسائي أيضا في الزينة باب تحريم لبس الذهب، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [4 / 330] .(9/98)
وقوله: " ولو كثر "، " لو " إشارة إلى خلاف في المذهب، فقد قال ابن حامد من الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه إن بلغ ألف مثقال فإنه يحرم،وهذا القول ضعيف؛ لأنه تحديد بلا دليل، بل يجوز للنساء أن يلبسن ما شئن، فإن الأدلة مطلقة، لكن بشرط ألا يكون فيه إسراف ولا مخيلة، وقد يكون الإسراف أو المخيلة في أقل من هذا العدد المذكور، وقد لا يكون فيه، بل في أكثر منه، فمتى ما وقع الإسراف أو المخيلة فإنه لا يجوز.
فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا بغير إسراف ولا مخيلة) (1) . إذاً لا يحدد ذلك بقدر، إذ لا دليل على التحديد، وإنما ينهى فيه الإسراف أو المخيلة، فإنه محرم لما تقدم.
قال: [ولا زكاة في حليهما]
أي في حلي الذكر والأنثى، فإذا كان عند الرجل خواتم من فضة وله قبيعة سيف من فضة يبلغان نصاباً، فتجب (2) عليه الزكاة فيه، وكذلك المرأة إذا كان فيها لبس من فضة أو لبس من ذهب بلغ النصاب.
فقوله: " حليهما " أي الذكر والأنثى أي فيما يجوز لهما من الحلي.
قال: [المعد للاستعمال أو العارية]
أي لاستعمال مالكه وهو الملبوس، أم كان معداً للعاريَّة. فإن كان قد أعد للاستعمال أو العارية، فلا زكاة فيه. هذا هو المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية والشافعية، وأن الحلي لا زكاة فيه سواء كان معداً للاستعمال أو معداً للعارية.
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم في أول كتاب اللباس بلفظ: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مَخِيلة) وأخرجه النسائي في كتاب (23) الزكاة، باب (66) الاختيال في الصدقة (2559) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: لا تجب.(9/99)
واستدلوا بما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة) (1) .
قالوا: ولأن الحلي المعدة للاستعمال أو العارية ليس محلاً للنماء، والزكاة إنما تجب في الأموال النامية، وهذا ليس بمال نام، بل يستعمل ويعار، وحينئذ فليس قابلاً للنماء، قالوا: فأشبه متاع البيت، فأثاث البيت لا زكاة فيه، فكذلك حليهما المعد للاستعمال والعارية، وهو مذهب الشافعي.
- وذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب طائفة كثيرة من التابعين، فهو مذهب ابن المسيب ومجاهد وابن سيرين وعطاء، وهو مذهب ابن مسعود وعائشة كما في البيهقي بإسناد حسن: أن الزكاة تجب في الحلي المعد للاستعمال (2) .
__________
(1) رواه الطبراني، قال الألباني في الإرواء [3 / 294] رقم (817) : " باطل ". قال الإمام أحمد كما في منار السبيل: " خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون ليس في الحلي زكاة زكاته إعارته، وهم أنس جابر وابن عمر وعائشة وأسماء.
(2) أخرج البيهقي [4 / 234] رقم (7546) عن علقمة أن امرأة عبد الله سألت عن حلي لها فقال: إذا بلغي مئتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري قال: نعم، وقد روي هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بشيء ".وفيه (7551) عن ابن عمر قال: " زكاة الحلي زكاته "، وعن عائشة (7545) رضي الله عنها قالت: " لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته ".(9/100)
واستدلوا بما ثبت عند أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر، وهو كما قال: " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان – أي سواران – من ذهب، فقال: (أتؤدين زكاة هذا) قالت: لا يا رسول الله، قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار) فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله " (1) ، والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي أحاديث يحتج بها.
وثبت - وهو شاهد له - عند أبي داود بإسناد حسن، ورواه الحاكم وصححه، وقال ابن دقيق العيد فيه: " إسناده على شرط مسلم " عن عائشة قالت: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى يدي فتخات من ورق – أي من فضة – فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين بهن لك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتؤدين زكاتهن؟) قالت: لا أو ما شاء الله - أي من اللفظ المقابل للفظة " ما شاء الله "، فقال: (هو حسبك من النار) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (3) الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي (1563) .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق رقم (1565) .(9/101)
وروى أبو داود في سننه وهو شاهد لما تقدم عن عطاء عن أم سلمة قالت: " كنت ألبس أوضاحاً – أي خلخل (1) – من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) (2) ، وعطاء لم يسمع من أم سلمة، فالحديث فيه انقطاع، لكنه يصح شاهداً للحديثين المتقدمين. قالوا: فهذه أحاديث تدل على فرضية الزكاة في الحلي، قالوا: ويدل على هذا عمومات الأدلة الشرعية، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها..) (3) رواه مسلم، وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله..} (4) وغير ذلك من العمومات.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب الكنز ما هو وزكاة الحلي. [2 / 212] .رقم (1564) .
(3) أخرجه مسلم / في أول باب (6) إثم مانع الزكاة، من كتاب (12) الزكاة، رقم (987) .(9/102)
قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول من حديث جابر، فالحديث إسناده ضعيف جداً، وإنما هو ثابت من قول جابر كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح (1) ، فهو قول موقوف على جابر، والقول الموقوف معارض بغيره من الأقوال الموقوفة كما تقدم من أثر عائشة وابن مسعود، فلا يحتج به، فآثار الصحابة إنما يحتج بها حيث لم يخالف بأقوال غيرهم، وقد خولف أثر جابر بأثر عائشة وابن مسعود، وحيث اختلفت أقوال الصحابة فالحجة فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم. قالوا: وأما ما ذكرتموه من الحلي من الذهب والفضة المعد للاستعمال لا تجب فيه الزكاة لأنه ليس من الأموال النامية فأشبه متاع البيت، فهذا قياس مردود من وجهين:
الوجه الأول: أنه قياس مصادم للنصوص الشرعية، والقياس المصادم للنصوص الشرعية فاسد الاعتبار، فلا ينظر إليه. (2)
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 233] رقم (7539) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وغيره قالوا: ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه الزكاة، فقال جابر: لا، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار، فقال جابر: كثير ". قال المحقق: " أخرجه المصنف في معرفة السنن (2353) والشافعي في الأم (2 / 41) .
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: قال بعض العلماء: لا يشترط النصاب في الحلي، وقال سفيان الثوري: نضمه إلى غيره. ...(9/103)
الوجه الثاني: أنه قياس مع الفارق، فقد قستم حلي الذهب والفضة على متاع البيت المعد للاستعمال، وبينهما عندكم فارق، والفارق عند الحنابلة وغيرهم فيهما هو أنهم أوجبوا الزكاة في الحلي المعد للنفقة والمعد للكراء، فلو أن امرأة عندها حلي تبيع منه للنفقة على نفسها، فإن الزكاة تجب عليها؛ لأنه ليس بمعد للاستعمال، وإنما هو معد للنفقة، وسيأتي دليلهم على هذا، ولذلك إن أعد للكراء، كأن يكون عند امرأة ذهباً قد أعدته كلها للكراء، أي للإجارة،فإن الزكاة تجب.
وأما متاع البيت المعد للنفقة أو الكراء، فإن الزكاة لا تجب فيه عندهم، فبين المسألتين فارق، والقياس مع الفارق لا يصح.
ومما يدل على هذا: أن الكنز من الذهب والفضة تجب فيه الزكاة بنص القرآن {والذين يكنزون الذهب والفضة..} (1) ومعلوم أن الكنز ليس بمعد للنماء ومع ذلك فقد أوجب الله عز وجل فيه الزكاة.
وأما المواشي المعدة للعمل، فإنها لا تجب فيها الزكاة، وهذا أصح قياساً على هذه المسألة، فإنه لو قيس قولهم على هذا لكان أقوى من القياس المتقدم مع ضعفه.
والفارق بين الحلي من الذهب والفضة وبين البقر والإبل العوامل حيث أنها لا تجب فيها الزكاة، الفارق: أن الذهب والفضة مادة الأثمان وبهما قيام المعايش، ولاشك أن اختيارها حلياً ثم لا تجب فيها الزكاة يخالف مقصود الشارع من بقائها أثماناً للأشياء، فحيث أنها بقيت هكذا حلياً بحيث أنها لا تقع فيها هذه الأحكام الشرعية من الزكاة فقد تكون مهرباً لكثير من الناس، فتكون أثمان الناس وقيمهم.
وعموماً فإن الأدلة الشرعية قد دلت على إيجاب الزكاة فيها فلا ينظر إلى الأدلة النظرية حيث خالفت الأدلة الأثرية.(9/104)
واعلم أننا قد أوجبنا – وهو الراجح في المسألتين – الزكاة في الحلي، فإن الحلي إنما تجب الزكاة فيه حيث كان ذهباً وفضة كما دلت عليه الأدلة المتقدمة،وعليه فيخرج عن الزكاة ما لو صنع فيه من الجوهر ونحوه، فإذا رصعت فيه جواهر أو لآلئ أو ماس أو نحو ذلك، فإنها تخرج من وزنه، فلا توزن؛ لأن الزكاة إنما تجب في الذهب والفضة، وأما سائر الحلي من غير الذهب والفضة، فإن الزكاة لا تجب فيها اتفاقاً. وكذلك المخالط للذهب والفضة، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وهناك قول ثالث في مسألة زكاة الحلي، وقد قواه ابن القيم، وهو مذهب بعض التابعين وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحلي يجب فيها الزكاة أي العارية.. .. .. (1) أن يعيرها أن يزكيها. وهذا القول ضعيف؛ لأن الأدلة الشرعية المتقدمة فيها لفظ الزكاة، والزكاة إذا تلفظ بها الشارع فهي الزكاة الشرعية الحقيقية التي هي إخراج حق من المال لأهل الزكاة.
وما ذكروه من أن زكاتها عاريتها هذا مجاز، والألفاظ تحمل على حقائقها لا على مجازاتها إلا بدليل، ولا دليل شرعي يدل على ذلك. فأصح الأقوال وجوب الزكاة فيها.
قال: [وإن أعد للكرى أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة]
إذا كان عنده ذهب قد أعده للكراء كحلي النساء، فتجب الزكاة فيه، قالوا: لأن الأصل في الذهب والفضة وجوب الزكاة، وإنما استثنينا الحلي الملبوس لأدلة ثبتت عندنا، وحيث لم تثبت الأدلة في الكراء فإنا نبقى على الأصل من وجوب الزكاة في الذهب والفضة.
__________
(1) لم يتضح لي، قال في حاشية الروض المربع [3 / 256] : " ونقل الشيخ عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته، قال: والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة أن يعيره، وهو رواية عن أحمد ".(9/105)
وكذلك النفقة، فإن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ولا دليل على إسقاطها في النفقة بخلاف إسقاطها في الحلي، فعندهم ما يستدلون به على هذا، أما هنا فلا دليل عندهم. فعلى ذلك: بقوا على الزكاة فيها.
وكذلك إذا كان محرماً، كلبس الرجل للذهب المستقل، فإنه يزكيها، وكذلك المرأة إذا لبست حلياً فيها إسراف، فإنها تزكيها.
إذاً: ما لا يحل من الحلي تجب الزكاة فيه؛ قالوا: لأن الأصل هو وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وهذا الملبس غير مأذون فيه شرعاً؛ لأنه محرم، فلا يسقط الزكاة، فيبقى على الأصل من إيجاب الزكاة؛ لأن اللبس هنا غير مأذون فيه شرعاً، وحيث كان كذلك فإنا نبقى على الأصل، فلا يكون هذا الفعل المحرم مؤثراً في إسقاط الزكاة.
وعلى الترجيح المتقدم، فإنه لا إشكال في دخولها؛ لأنه إذا ثبتت في الذهب المستعمل فأولى منه ما أعد للكراء ونحوه، وإذا ثبتت في الحلي المباح فأولى منه إثباتها في الحلي المحرم.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة العروض
الدرس السادس بعد المئتين
(يوم السبت: 5 / 1 / 1416 هـ)
باب زكاة العروض
العروض: جمع عرض: وهو ما سوى الأثمان من الأموال، أي ما سوى الذهب والفضة من الجواهر والعقارات والثياب والأمتعة ونحو ذلك من الأموال.
وهي في تعريف الفقهاء: ما أعد للبيع بقصد الربح من متاع أو غيره. فعروض التجارة هي الأموال سوى الأثمان التي قد أعدها صاحبها للبيع، أما إن كانت للقنية أي للاقتناء من ملبوسه أو مسكنه أو ما في بيته من أمتعة ونحو ذلك، فإنها قد أعدت للقنية لا للتجارة، فهي بإجماع العلماء لا تجب فيها الزكاة. فلا تجب الزكاة فيما اتخذ للقنية من دابة ومركب أو فراش أو نحو ذلك.
وتجب الزكاة في عروض التجارة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع وآثار الصحابة.(9/106)
أما الكتاب، فقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} (1) ، وقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (2) فقوله {أموالهم} جمع مضاف فيفيد العموم أي خذ من كل أموالهم، والأمتعة والأثاث والعقارات التي أعدت للبيع أموال فتدخل في العموم.
وأما السنة، فقد ثبت عند الحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننيهما بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته) (3) والبز: هو القماش الذي يباع، فأوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البز الصدقة، وضبطها الحاكم في مستدركه – وهو تصحيف – (وفي البر صدقته) (4) ، لكن هذا تحريف وتصحيف كما صحح ذلك النووي وغيره، ولو كان الشارع يريد البر لقال: (وفي الحب صدقته) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (5) ، فهذا دليل على وجوب الزكاة في البز، ويلحق به غيره من أموال التجارة.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) سورة التوبة.
(3) أخرجه الدارقطني في سننه [2 / 268] رقم (1909) قال المحقق: " في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف … قال الحافظ في التلخيص (2 / 345) : إسناده غير صحيح … وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس عن أبي ذر، وهو معلول، لأن ابن جريج أخرجه عن عمران أنه بلغه عنه.اهـ. وقد تابعه سعيد بن سلمة بن أبي الحسام: ثنا عمران بن أبي أنس، أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 388) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وله متابعة أخرى،وهي التي أشار إليها الحافظ، وستأتي عند الدارقطني " انتهى كلام المحقق. وأخرجه البيهقي [4 / 247] رقم (7598) (7602) .
(5) متفق عليه، وقد تقدم صْ 37.(9/107)
وأما دليل الإجماع، فقد حكى غير واحد من أهل العلم، كابن المنذر وأبي عبيد القاسم بن سلام إجماع العلماء على وجوب الصدقة في الأموال التجارية.
أما دلالة أقاويل الصحابة، فقد صح ذلك عن عمر كما في البيهقي وغيره (1) ، وصح عن ابنه كما في البيهقي (2) ، وصح عن ابن عباس كما في كتاب الأموال لأبي عبيد (3) ، ولا يعلم لهم مخالف، فيكون قولهم إجماعاً وحجة.
- وذهب الظاهرية إلى أن الزكاة غير واجبة في عروض التجارة، واختار هذا القول الشوكاني في نيل الأوطار وغيره.
واستدلوا بالأصل، قالوا: الأصل براءة الذمة من الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا بدليل، قالوا: ولا دليل يدل على ذلك.
وهذا ظاهر البطلان، فقد تقدمت الأدلة الدالة على وجوبها من عمومات النصوص الشرعية في القرآن ومن الحديث والمتقدم، وهم محجوجون بالإجماع الذي تقدم ذكره.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) ، قالوا: وأنتم توجبون الزكاة فيما إذا بلغ الحب أربعة أوسق أو التمر، وقد أعد للتجارة. وهذا ظاهر، فإن الذين يوجبون الزكاة في العروض التجارية إذا كان عنده دكان فيه أربعة أوسق من الحب للبيع والتجارة، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأنها عروض التجارة.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذا باب آخر، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (4) ، هذا في زكاة الحبوب والثمار التي تجب عند الحصاد ويراعى فيها عينها، وأما عروض التجارة فإن زكاتها زكاة حولية وتراعى فيها قيمتها، فهذا باب آخر.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 248] رقم (7603) .
(2) رقم (7605) .
(4) تقدم قريباً.(9/108)
إذاً: ما عليه أهل العلم هو الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، وأما ما ذهب إليه الظاهرية، فلا يلتفت إليه لمخالفته ما تقدم، ولمخالفته الإجماع. وباتفاق العلماء أن الزكاة تجب في عروض التجارة عند مضي الحول، لعموم الآثار المتقدمة: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (1) ، فإذا مضى الحول وجبت الزكاة.
قال: [إذا ملكها بفعله]
أي باختياره، كالخلع والصداق والهبة والوصية والشراء ونحو ذلك، فالمقصود أنه وقع التملك على هذا السلعة باختياره لا قهراً عنه، ليخرج من ذلك ما يتملكه العبد بالإرث، فإنه يتملكه قهراً لا اختياراً، بحيث أنه بمجرد ما يموت الميت وله مال فإن هذا الوارث يمتلك نصيبه بموته، وإن كان له أن يتنازل عنه، لكن المقصود أنه يدخل في ملكيته قهراً عنه فليس باختياره.
فذكر شرطاً، وهو أن يكون ملكية هذه السلعة بفعله واختياره لا قهراً. هذا هو الشرط الأول.
قال: [بنية التجارة]
هذا هو الشرط الثاني، وهو أن تكون بنية التجارة. فإن كانت بنية القنية فلا تجب فيها الزكاة، فلو اشترى أرضاً على أنه يريد أن يبنيها فيسكنها، فهذه قنية، أو اشترى ثياباً بنية أن يلبسها أو يهديها، فإن الزكاة لا تجب.
فالشرط الثاني: هو أن تكون بنية التجارة أي من وقت ملكيتها. وسيأتي الكلام على هذين الشرطين.
قال: [وبلغت قيمتها نصاباً]
وباتفاق العلماء أن نصابها نصاب الأثمان، أي نصاب الذهب والفضة، والشارع لم يضع لها نصاباً لكثرتها وانتشارها؛ ولأن الاعتبار فيها بقيمتها، فإنها تباع وتشترى بالأثمان، فكان نصابها نصاب الذهب والفضة، فإذا بلغت النصاب من الذهب والفضة فيجب فيها الزكاة.
إذاً: تنظر قيمتها، فإذا بلغت نصاباً وجبت فيها الزكاة. وعليه: فإذا كانت عنده أمتعة لا تباع إلا بمئة درهم أو عشرة دنانير، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ لأنها لم تبلغ نصاباً، ولا خلاف بين العلماء في هذا.
__________
(1) تقدم.(9/109)
الشرط [الثالث] هذا من باب القياس الظاهر على الأثمان.
قال: [زكى قيمتها]
فإذا بلغت نصاباً، فإنها تزكى ويخرج زكاتها قيمة، فيكون المخرج القيمة لا العين. هذا هو المشهور عند الحنابلة. فإذا بلغت تجارته عشرين ديناراً فيجب عليه أن يتصدق بنصف دينار.
قالوا: لأن نصابها تعتبر فيه القيمة، فاعتبرت - أي القيمة - بالمخرج منها، فإنا إذا أردنا أن ننظر هل بلغت النصاب أم لم تبلغه فإنا ننظر على قيمتها، فإن بلغت القيمة النصاب أوجبنا الزكاة فيها، قالوا: وكذلك المخرج، فيجب أن يخرج القيمة، ولا يجوز له أن يخرجها من أعيان تجارته، فليس له أن يخرجها ثياباً أو نحو ذلك.
- وقال بعض الشافعية: بل تجب الزكاة في عينها، فعليه أن يخرج ربع العشر مما عنده من الأموال التي هي سوى الأثمان، فإذا كان عنده أقمشة فيخرج أقمشة ونحو ذلك.
قالوا: قياساً على سائر الأموال الزكوية، فكما أن الزروع تخرج زكاتها حباً والثمار يخرج زكاتها ثمراً والمواشي كذلك، فكذلك عروض التجارة.
ويمكن أن يجاب عليهم بالفارق، فيقال: الفارق بينهما أن المواشي نصابها مواشي والثمار نصابها ثمار، والزروع نصبها حبوب، وأما هنا فإن نصابها بالقيمة، فكان القدر المخرج منها أيضاً بالقيمة.
- وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: يجوز أن يخرج قيمة ويجوز أن يخرج عيناً.
أما كونه يجوز له أن يخرجها من أعيان هذه الأموال؛ فلأن الزكاة في الأصل تجب من عين المال، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، فالزكاة تؤخذ من المال.
وأما كونه يجوز أن يخرج قيمةً – ولم أره لشيخ الإسلام – فلعل ذلك بالنظر إلى نصابها، أو لأن المقصود منها القيمة.
وهذا هو الأرجح، فإن إخراجها من عين ماله جائز؛ وذلك لأن الأصل في الزكاة أن تخرج من عين المال، لأن المقصود منها المواساة، فلم يكلفها الغني من غير ماله.(9/110)
وإن أخرجها قيمة جاز ذلك؛ لأن هذه الأمتعة ونحوها المقصود منها القيمة، فإن أخرج القيمة أجزأه ذلك. هذا هو أرجح المذاهب، فيجوز إخراجها عيناً ونقداً.
واعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في جواز إخراج القيمة في غير العروض من المواشي ونحوها، فهل يجوز أن يخرج عن الحب دراهم أو دنانير أو يخرج عن الإبل أو البقر أو الغنم دراهم أو دنانير، أو يجب أن يخرجها من عين ماله؟
- قال جمهور العلماء: يجب أن يخرجها من عين ماله؛ لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} . والنصوص الشرعية في هذا الباب كقوله: (في كل أربعين من الغنم شاة) ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على أن المخرج يكون من جنس المال.
- وقال الأحناف: يجوز أن يخرج بالقيمة؛ لأن المقصود منها هو القيمة، فله أن يخرج مكان الشاة ما يساويها من الدراهم والدنانير.
- واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد، قولاً بين هذين القولين، فقال: يجوز إخراج القيمة عند الحاجة، فإذا احتيج إلى إخراج الدراهم والدنانير عن الشياه أو عن البقر أو عن الإبل أو عن الحب أو التمر، فإن كانت مصلحة الغني في ذلك من غير ضرر على الفقير أو كانت مصلحة الفقير في ذلك من غير ضرر على الغني، فله أن يخرجها قيمة.
قال: لأن هذا هو المقصود من هذه الأشياء، فإن هذه الأشياء تباع وتشترى فلا فرق بين أن يخرج قيمة وبين أن يخرج على الصفة الواردة في الشريعة، وحيث أن الشارع قد نص عليها فلا يجوز لنا أن نخرج القيمة إلا عند الحاجة إليها، فإذا ثبتت المصلحة جاز لنا أن نخرجها.(9/111)
ودليل هذا من الآثار: ما رواه طاووس عن معاذ بن جبل أنه قال: " ائتوني بخميص أو لبيس – وهي.. ثياب – مكان [الشعير] والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة " (1) ، وهذا الأثر يرويه طاووس عن معاذ وهو لم يسمع منه، لكنه أدرك حالة تلاميذ معاذ بن جبل في اليمن، وهو من أهل اليمن، وقد احتج بهذا الأثر البخاري في صحيحه، ومقاصد الشريعة تدل عليه.
فأصح الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن إخراج القيمة لا يجوز إلا عند الحاجة إلى إخراجها، فإذا كانت مصلحة أحدهما في إخراجها قيمة من غير ضرر على الآخر فيجوز إخراج القيمة.
هذا في غير عروض التجارة، وأما عروض التجارة فإن الجواز مطلق عند الحاجة وغيرها في الأرجح كما تقدم.
قال: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها]
إن ملكها بإرث، فهو ملك بغير الفعل، فلو أن رجلاً توفي والده وترك له دكاناً إرثاً، فإنه لا تجب عليه الزكاة فيه، وإن أبقاه للتجارة؛ لأنه ملكه بغير اختياره.
هذا في الحقيقة ضعيف جداً، وهو المشهور عند الحنابلة.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر وابن عقيل وغيرهم: أن الزكاة تجب فيه؛ وذلك لأنه مال تجاري فيدخل في عموم الأدلة المتقدمة وهو مالك له، فلا فرق بين أن يملكه باختياره أو بغير اختياره، فقد دخل في ملكيته، وكونه يدخل باختياره أو بغير اختياره، فإن هذا لا أثر له في الحكم.
__________
(1) كذا في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة، الفتح: [2 / 365] ، وفي الأصل: (ائتوني بخميص أو لبيس.. مكان الذرة والحنطة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ".(9/112)
ومثل هذا قوله: " أو بفعله بغير نية التجارة "، فلو أن رجلاً اشترى أرضاً وقد نواها قنية، ثم غير نيته إلى التجارة أو اشترى قماشاً بنية الهبة ثم نواه تجارة، قالوا: فلا تجب فيه الزكاة، فلابد أن تكون نية -للتجارة مقارنة للشراء أو عنده، فلابد أن تكون مقارنة للملك.
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنه متى نواه تجارة فإن المال أصبح مال تجارة، ولو كان ذلك بعد زمن من ملكيته، فإن كان نواه قنية ثم حولها إلى تجارة، فإنه بهذه النية أصبح مالاً تجارياً.
- وهذا كما تقدم رواية عن الإمام أحمد واختيار أبي بكر وابن عقيل وطائفة كثيرة من الحنابلة. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه بالنية وإن كانت غير مقارنة للملك، فهذه النية انتقل إلى مال تجاري، وحيث كان مالاً تجارياً، فإن الزكاة تجب فيه لعمومات الأدلة الشرعية.
إذاً: هذان الشرطان فيهما نظر، بل متى ما كان المال ملكاً له وقد نوى فيه التجارة ومضى على نية التجارة حول، فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه مال تجاري فيدخل في عموم الأدلة الشرعية.
قال: [وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورق]
رجل عنده قماش للبيع إن قومه بالدراهم ساوى مئتي درهم، وإن قومه بالدنانير ساوى خمسة عشر ديناراً، فإذا نظرنا إلى قيمته بالدراهم أوجبنا عليه الزكاة، وإذا نظرنا إلى قيمته بالدنانير لم نوجب عليه الزكاة، فما الحكم؟
تقوم بأحد النقدين، فإن بلغ نصاب الذهب أوجبنا الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب الفضة، وإن بلغت نصاب الفضة أوجبنا الزكاة وإن لم تبلغ نصاب الذهب. وهذا هو المشهور عند الحنابلة.
قال: [ولا يعتبر ما اشتريت به]
فالمشهور في المذهب: بأنه لا يعتبر ما اشتُريت به، فلو اشتراها بفضة مثلاً فلا بأس أن يقوم بالذهب، إن كان هو الأحظ للفقير، وإن اشتراها بذهب فيجوز أن يقوم بالفضة إن كان هو الأحظ للفقراء، فلا يعتبر ما اشتريت به.(9/113)
- وعن الإمام أحمد، وهو قول الشافعية: أن الاعتبار بقيمته عند الشراء، فإذا اشتراها بذهب قومناها بالذهب، وإذا اشتراها بالفضة قومناها بالفضة.
فإذاً: إن كان اشتراها بالفضة فنصابها نصاب الفضة، وإن كان اشتراها بالذهب فنصابها نصاب الذهب؛ قالوا: لأن قيمتها عند شرائها ذهب أو فضة، فروعي ذلك عند إيجاب الزكاة فيها.
وهذا تعليل ضعيف؛ لأن الاعتبار إنما هو في الانتهاء وهو وقت وجوب الزكاة، فالنظر إلى قيمتها عند وجوب الزكاة وهي لها قيمة من الورق ولها قيمة من الذهب.
ولا أثر لقيمتها عند الشراء، بدليل أنه قد يشتريها بدينار وتساوي عشرة دنانير بعد حول، فالاعتبار إنما هو بقيمتها وقت إخراجها، وقيمتها هنا يمكن أن تكون بالذهب ويمكن أن تكون بالفضة، فتعليق الحكم بأحد النقدين بالنظر إلى قيمة الشراء هنا متعلق ضعيف؛ لأنه لا أثر له.
وأما دليل القول الأول وهو المشهور عند الحنابلة، قالوا: هو مال قد بلغ نصاباً زكوياً فوجبت فيه الزكاة، فهذه العروض قد بلغت النصاب وهو النصاب من الفضة أو بلغت النصاب الآخر وهو النصاب من الذهب، فوجبت فيه الزكاة من غير اشتراط أن يبلغ نصاباً في النقد الآخر.
فما دام أن الاعتبار هو بالقيمة وقد بلغت قيمتها أحد النصابين، فإن الزكاة حينئذ تجب؛ لبلوغ هذا المال النصاب الزكوي.
وهذا تعليل قوي؛ فإن هذا المال – وهو عروض التجارة – المعتبر فيه القيمة من غير تحديد بذهب ولا ورق، وقد بلغت هذه القيمة نصاباً زكوياً سواء كان من الورق أو من الفضة، فوجبت فيه الزكاة.
ولما فيه من مصلحة الفقير، لذا قال المؤلف هنا: " بالأحظ للفقراء "؛ لأن هذه الطريقة أحظ للفقراء.
قال: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض بنى على حوله](9/114)
رجل عنده دراهم يبلغ النصاب مضى عليها ستة أشهر وهي عنده، فاشترى بها أقمشة للبيع والشراء، فحولها حول الدراهم، فيبني على حول الأثمان؛ لأن العروض والأثمان جنس واحد كما تقدم، لأن المقصود من العروض ثمنها، فكانت هي والأثمان جنس واحد، ولذا نصابها نصاب الأثمان، والقدر المخرج هو ربع العشر.
فعلى ذلك: رجل عنده مبلغ من المال ويبحث عن تجارة، فمضى على هذا المال عدة أشهر ثم اشترى به تجارة له، فإنه يبني على حول الأثمان.
كذلك عروض التجارة: عنده عروض تجارة فاستبدلها بعروض أخرى، فمثلاً عنده أقمشة فباعها واشترى بها أطياباً، فإن هذه الأطياب لا يستأنف لها حول جديد، بل حولها حول ما قبلها من الأقمشة، لأنها ذات قيمة واحدة، فكما لو كانت أثماناً كلها، فهي جنس واحد.
قال: [وإن اشتراه بسائمة لم يبن]
عنده عروض فباعها بسائمة من الإبل والبقر والغنم، فإنه لا يبني على حول العروض، بل يستأنف حولاً جديداً.
أو بالعكس: عنده.. سائمة فباعها بعروض، فإنه لا يبني على حول السائمة؛ وذلك لأن الجنس مختلف، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الجنسين المختلفين لا يبنى حول أحدهما على الآخر.
مسألة:
إذا كان عنده إبل سائمة وقد أعدها للتجارة، فهل تزكى زكاة عروض، لأنها قد أعدت للتجارة أو تزكى زكاة سائمة؟
1- قال الحنابلة: تزكى زكاة عروض.(9/115)
وعللوا هذا بأن قالوا: إن الزكاة واجبة فيها وإن كانت سائمة حيث لم تبلغ نصاب السائمة، فلو أن عنده أربع من الإبل سائمة وقد نواها تجارة وتساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب فيها. قالوا: فكما اعتبرناها عروضاً فأوجبنا فيها زكاة العروض وهي لم تبلغ نصاب السائمة، فكذلك إذا بلغت نصاب السائمة. فإذا كان عنده خمس من الإبل، فلا يخرج شاة بل ينظر إلى قيمة الإبل ويخرج ربع العشر. قالوا: ولأن هذا الأحظ للفقراء، وذلك لأنا إذا اعتبرناها عروضاً فلا وقص فيها، بل بحساب ذلك، فلو كان عنده سبع من الإبل، فزكاتها أكثر مما لو كان عنده خمس من الإبل، وإذا كان عنده ثمان من الإبل وقلنا: هي عروض تجارة، فزكاتها أكثر مما لو عنده خمس، وهكذا، فلا وقص فيها، بل تزيد بحساب ذلك , وهذا فيه مصلحة للفقير.
2 - وقال الشافعية: بل تخرج زكاتها على أنها سائمة؛ قالوا: لأن الأدلة الدالة على فرضية الزكاة في السائمة أقوى من الأدلة الدالة على وجوبها في عروض التجارة.
لكن هذا ضعيف، فإن كون الأدلة على فرضية الزكاة في السائمة أصح من الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة لا ينافي صحة الأدلة الدالة على الزكاة في العروض.
وكونها أصح لا يعني ذلك أن يتغير الحكم مع ثبوت الأدلة على صحة زكاة العروض.
فالصحيح مذهب الحنابلة، وأنه إذا كانت عنده سائمة أعدها للتجارة فإنه يخرج زكاتها زكاة عروض، بدليل إنها إذا لم تبلغ نصاب السائمة وقيمتها تساوي نصاب الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب فيها، فكذلك إذا بلغت النصاب؛ ولأن هذا هو الأحظ للفقراء لاعتبار حساب ذلك.
مسألة:
رجل عنده سائمة خمس من الإبل قد أعدها للتجارة، فلما مضى عليها ستة أشهر ألغى نية التجارة، وقال: بل هي سائمة، فهل يستأنف حولاً جديداً أم أنه يثبتها على أنها سائمة فتجب عليها الزكاة إذا مضى ستة أشهر – كما في المثال -.(9/116)
المشهور عند الحنابلة: أنه إذا ألغى هذه النية وأبطلها عن أن تكون تجارة، فلا زكاة عليه حتى يستأنف حولاً جديداً.
وعن إسحاق، وهو الأشبه – كما قال ذلك الموفق –: أنه يبني على الحول الأول. قالوا: لأن هذه الإبل وجبت فيها الزكاة لسببين: 1- أنها سائمة. 2- أنها عروض تجارة. فإن ألغى كونها عروض تجارة، فإنه يبقى كونها سائمة، فهي سائمة ترعى، فيجب فيها الزكاة، وإنما أوجبنا فيها زكاة العروض؛ لأنها بنية التجارة، فإذا ألغى هذه النية فقد بقي كونها سائمة، فتجب فيها الزكاة. وهذا هو الأظهر.
فالأظهر أنه إذا كان عنده مال من الأموال التي تجب فيها الزكاة، كالسائمة، وقد نواها تجارة ثم ألغى هذه النية، فإن الزكاة تبقى على أنها سائمة، فلا يستأنف حولاً جديداً لدخولها في عموم الأدلة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها) وقوله: (في كل سائمة من الإبل..) (1) ، وحيث ألغى أحد سببي الزكاة وهو كونها عروض تجارة، فقد بقي السبب الآخر وهو كونها سائمة.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة الفطر
الدرس السابع بعد المئتين
(6 / 1 / 1416 هـ)
باب زكاة الفطر
الفطر: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً.
__________
(1) تقدما.(9/117)
وإضافة الزكاة أو الصدقة إلى الفطر من باب إضافة الشيء إلى سببه أي الصدقة أو الزكاة التي سببها الفطر أي الفطر في رمضان، ففي سنن أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين) (1) الحديث.
قال: (تجب على كل مسلم)
فصدقة الفطر تجب على كل مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً كبيراً أو صغيراً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر (1827) : " حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان وأحمد بن الأزهر قالا حدثنا مروان بن محمد حدثنا أبو يزيد الخولاني عن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ".
وأخرجه أبو داود في باب زكاة الفطر من كتاب الزكاة (1609) : " حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حدثنا مروان قال عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق، وكان ابن وهب يروي عنه حدثنا سيار بن عبد الرحمن قال محمود الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو من الرفث وطعمة للمساكين، من أداها ... ) الحديث.(9/118)
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) (1) .
إذن: هي فرض على كل مسلم ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً.
قال: (فَضُل له يومَ العيد وليلته صاعٌ عن قوته وقوت عياله)
فلا يشترط أن يكون غنياً، بل الشرط أن يكون الصاع فاضلاً عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب فرض صدقة الفطر من كتاب الزكاة (1503) : " حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ". وأخرجه كذلك برقم (1504) ، (1507) ، (1511) ، (1512) . وأخرجه مسلم في باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) : " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا مالك. وحدثنا يحيى بن يحيى - واللفظ له – قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين ". وأخرجه أيضاً بأسانيد أخرى منها قال: " وحدثنا محمد بن رافع حدثنا بن أبي فُديك أخبرنا الضحاك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين، حرٍّ أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ".(9/119)
يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها على العبد والعبد لا مال له، ويدل عليه أيضاً قول أبي هريرة الثابت عنه في مسند أحمد بإسناد صحيح قال: (زكاة الفطر على كل صغير وكبير ذكر أو أنثى فقير أو غني صاع من تمر أو نصف صاع من بر) (1) فإن كان عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه، فإن الزكاة تجب عليه، أما إن لم يكن عنده ما يفضل عن يوم العيد وليلته فلا تجب عليه الزكاة وذلك للحوق الضرر به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (2)
__________
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) .
(2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ".
وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) .
نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".
قال في الأربعين النووية: " ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً "(9/120)
وقال صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بنفسك) (1) فإذا فضل عن قوته وقوت عياله ومن ينفق عليهم من خدم أو بهيمة أو نحو ذلك فإن الزكاة تجب عليه.
قال: (وحوائجه الأصلية)
فإذا كانت له حوائج أصلية في مسكنه أو ملبسه أو مركبه من الحوائج الأصلية التي يحتاج إليها المسلم - فليست من الحوائج الفرعية - فإن الصدقة لا تجب عليه، فلا يلزم طالب علم أن يبيع شيئاً من كتبه التي يحتاج إليها من الكتب الأصلية ولا يلزم صاحب المنزل أن يبيع شيئاً من أثاث بيته ليشتري به هذا الصاع لأن هذه حوائج أصلية وإلزام المكلف ببيعها وإخراجها صدقة حرج والحرج مرفوع كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) أما إن كان عنده شيء من المتاع أو الأثاث أو نحوه من الحوائج غير الأصلية مما لا يحتاج إليه أصلاً فإنه يجب عليه أن يبيعه فيشتري به صاعاً فيتصدق به.
قال: (ولا يمنعها الدين إلا بطلبه)
تقدم أن المذهب وهو الراجح أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة أما في زكاة الفطر فإنها لا يمنعها الدين، فالدين لا يمنع صدقة الفطر، قالوا: لأن صدقة الفطر لا تعلق لها بالمال بدليل وجوبها على الفقير ووجوبها على العبد فدل هذا على أنها لا تعلق لها بالمال فيجب وإن كان مديناً أي عليه دين بخلاف الزكاة فإنها متعلقة بالمال كما قال تعالى: {خذ من أموالهم} (3)
إذن: يجب عليه زكاة الفطر وإن كان مديناً لأنها لا تعلق لها بالمال بدليل وجوبها على العبد والفقير كما تقدم.
__________
(1) أخرجه مسلم (3 / 78 - 79، 5 / 97) ، والنسائي والبيهقي. الإرواء (833) .
(2) سورة الحج آية (78) .
(3) التوبة (103) .(9/121)
لكن استثنى المؤلف فقال: (إلا بطلبه) أي إلا بطلب الدين، فإن كان الدين مطالباً به فإن الزكاة لا تجب؛ وذلك لأن الدين إذا طولب به وجب أداؤه كما سيأتي تقريره في بابه فكان مقدماً على الزكاة، لأن الزكاة إنما تجب من باب المواساة ولأن الدين حق آدمي محض فقدم على الزكاة.
إذن: زكاة الفطر لا يمنعها الدين إلا إذا طالب الدائن به فإن الدين يمنع الزكاة لأنه حينئذ يكون أهم؛ إذ هو من حقوق الآدميين المحضة ولأن الزكاة مبناها على المواساة وحقوق الآدميين مبناها على المشاحة، والزكاة مبنية على المواساة فلم يكلفها المسلم مع وجود من يطالبه.
قال: (فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه)
فتجب صدقة الفطر عن النفس وتجب عمن يمونه.
أما وجوبها عن النفس فقد تقدم قول ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) (1) .
وتجب على من يمونه – أي على من ينفق عليه –، فعلى من ينفق الصدقة، فإذا كان له ولد وزوجة ورقيق فيجب عليه أن يتصدق عنهم صدقة الفطر كما يجب عليه أن ينفق عنهم.
__________
(1) تقدم صْ 84.(9/122)
ودليل هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها على العبد، والعبد لا مال له فدل على أنها تجب على سيده وهو المنفق عليه، وفرضها على الصغير، والصغير ينفق عليه ولا مال له في الغالب فدل على أنها تجب على من ينفق عليه، أما إذا كان الصغير ذا مال وهو اليتيم الذي له إرث فإن الصدقة تجب في ماله ويخرجها وليه عنه ويدل على أن الزكاة – زكاة الفطر – تجب على من يمونه ما ثبت في الدارقطني عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على العبد والحر والصغير والكبير ممن تمونون) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن وهو ثابت من فعل ابن عمر كما في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
فعلى ذلك تجب صدقة الفطر تبعاً للنفقة، فتجب صدقة الفطر على من وجبت عليه النفقة.
فعليه كما ينفق على ولده وزوجه وربما كان ينفق على والده ووالدته وربما كان ينفق على رقيق أو على أخ أو نحوه فيجب عليه - تبعاً للنفقة - أن يخرج عنهم صدقة الفطر للحديث المتقدم.
قال: (ولو شهر رمضان)
إذا مان (2) مسلماً يعني أنفق عليه ولو كان ذلك في شهر رمضان.
مثال: رجل - تبرعاً منه - جَمَع فقراء فأنفق عليهم في شهر رمضان من باب التبرع، فتبعاً لذلك تجب عليه صدقة الفطر.
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب زكاة الفطر، رقم (2052) قال المحقق: " أخرجه البيهقي في الكبرى (4 / 161) من هذا الوجه، قال الزيلعي في نصب الراية (2 / 413) : وهو مرسل، فإن جد علي بن موسى: هو جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر لم يدرك الصحابة، وقد أخرج له الشيخان، وقال ابن حبان في الثقات: يحتج بحديثه، ما لم يكن من رواية أولاده عنه، فإن في حديث ولده مناكير كثيرة ".
(2) مانه موناً: احتمل مؤونته وقام بكفايته، فهو مَمُون. تقول: مان الرجل أهله: كفاهم. المعجم الوسيط [2 / 892] .(9/123)
هذا هو المشهور عند الحنابلة وأن من أنفق على فقير في شهر رمضان فتجب عليه صدقته وإن كان ذلك تبرعاً للحديث المتقدم: (عمن تمونون) قالوا: وهو هنا يمونه وينفق عليه.
واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء: أن الصدقة لا تجب عليه؛ قالوا: لأن النفقة هنا من باب التبرع وأما النفقة المذكورة في الحديث فإنها النفقة الحقيقية التي تجب على المسلم في ولده ونحوهم. أما هنا فهي نفقة على وجه التبرع فلا يدخل في هذا الحديث، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن هذه النفقة منه على وجه التبرع لا على وجه الإيجاب، فليس فيها حقيقة النفقة بل هي من جنس الصدقات التطوعية فالراجح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء وصححه الموفق وهو قول أبي الخطاب من كبار الحنابلة.
قال: (فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه)
فإذا كان لا يفضل عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه وعن حوائجه الأصلية ولا يفضل إلا صاع، فالواجب عليه أن يبدأ بنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بنفسك) (1) .
وحينئذ يسقط عنه عن زوجه وولده ومن يمون فإن لم يكن عنده إلا صاع فإنه يبدأ بنفسه.
قال: (فامرأته)
قالوا: لأن الصدقة تبع للنفقة، ونفقة المرأة من باب المعاوضة وتثبت في عسر الزوج ويسره فكانت أقوى من نفقة الولد والرقيق وغيرهما، وحيث أن النفقة هنا قوية، فالصدقة تبع لها فكما أن الزوجة مقدمة في النفقة على غيرها فإنها تقدم في صدقة الفطر.
وجمهور العلماء يقولون بأن زكاة الفطر تجب على الزوج عن زوجته، مطلقاً وإن كانت زوجته ذات يسار وقدرة وغنى فإن الصدقة تجب على الزوج.
واستدلوا: بما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (عمن تمونون) .
- وذهب الأحناف: إلى أن صدقة الفطر لا تجب على الزوج عن زوجته، وإنما تجب على الزوجة في مالها.
__________
(1) تقدم قريباً.(9/124)
واستدلوا: بقول ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى) (1) .
فدل على أنها مفروضة عليها، فهي مفروضة على الأنثى وحينئذ فتجب عليها في مالها وهذا القول – فيما يظهر لي – أصح؛ وذلك لأن الحديث أصح مما تقدم، فالحديث الأول إنما يصح بشواهده وطرقه، وهذا الحديث أصح منه وأظهر فإنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى " فهي فرض على المرأة في مالها ولأن الأصل في الزكاة وجوبها في المال.
فالأصح أن الزوج لا تجب عليه صدقة الفطر عن زوجته وإنما تخرجها من مالها، هذا إذا كانت قادرة، وأما إذا لم تكن قادرة فإنه يتوجه القول الأول؛ وذلك لأنه ينفق عليها والصدقة تبع للنفقة كما تقدم.
قال: (فرقيقه)
قالوا: لأن النفقة على الرقيق تجب في العسر واليسر لكنها دون النفقة على المرأة لأن النفقة على المرأة من باب المعاوضة أما النفقة على العبد فإنها للملكية لا للمعاوضة، فكانت النفقة على الزوجة أولى، لكن النفقة على الرقيق أولى من النفقة على القريب من الأب والولد والأم لأن النفقة على الأقارب تجب في اليسر دون العسر وأما النفقة على الرقيق فإنها تجب في عسر السيد ويسره بحيث إنه إذا كان معسراً فإنه يؤمر ببيعه حتى لا يتضرر العبد بذلك.
قال: (فأمه فأبيه) .
تُقدّم الأم على الأب؛ قالوا: لأن الأم أولى بالبر من الأب كما في الحديث: (من أبر؟ فقال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك) (2)
فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم بر الأم على بر الأب قالوا: فكذلك تقدم على الأب في صدقة الفطر.
قال: (فولده)
__________
(1) تقدم صْ 84.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971) ، وفي أوله: " من أحق الناس بحسن صحابتي.. "، ومسلم في كتاب البر والصلة (2548) .(9/125)
قالوا: لأن الولد تجب النفقة عليه في الجملة وتجب في اليسر دون العسر وحق الوالدين مقدم على حق الولد هذا هو المشهور في المذهب.
قال: (فأقرب في ميراث)
فالأقرب فالأقرب، فالجد الأدنى يقدم على الجد الأعلى، فالجد مقدم على أب الجد وهكذا (الأقربون أولى بالمعروف) .
وفي تقديم المؤلف الزوجة على الولد نظر، فقد قال بعض الحنابلة بتقديم الولد على الزوجة، ودليله ما ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله عندي دينار؟ فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على زوجك قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر قال: أنت أبصر به) (1) فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الولد على الزوجة وقدم الزوجة على الرقيق، فالأظهر هو تقديم الولد على الزوجة والرقيق لهذا الحديث الثابت بإسناد صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم (1691) قال: " حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار.. " وفيه " (تصدق به على زوجتك أو قال: زوجك) ". وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب تفسير ذلك (2535) قال: " أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قال حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تصدقوا) فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، قال: (تصدق به على نفسك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على زوجتك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على ولدك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على خادمك) قال: عندي آخر، قال: (أنت أبصر) ". ففيه تقديم الزوجة على الولد.(9/126)
والأظهر – أيضاً – تقديم الأب على الأم؛ وذلك لأن صدقة الفطر مال وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) (1) فدل هذا على أن المال الوالد أحق به من الوالدة (2) .
وفي تقديم الرقيق على الأب والأم نظر ظاهر أيضاً حتى في النفقة فإن كون الرقيق يجب النفقة عليه في العسر واليسر ليس معنى ذلك أن يقدم على الأب والأم في النفقة وإنما معنى ذلك أنه إذا أيسر أبقاه في ذمته وفي ملكيته وأنفق عليه، وإن أعسر وعجز عن الإنفاق عليه فإنه يعتقه أو يبيعه ليُنفق عليه وليس معنى ذلك أن تقدم نفقته وهو رقيق مملوك له أجنبي عنه على نفقة الأم والأب اللذين حقهما بعد حق الله عز وجل ورسوله.
فإذن: فيما ذكره الحنابلة في هذا الباب من التقديم فيه نظر، فتقديم الزوجة على الولد، والرقيق على الولد فيه نظر كما تقدم، وتقديم الأم على الأب فيه نظر أيضاً، وتقديم الرقيق على الأب والأم فيه نظر.
* وهل يقدم الولد على الوالدين أو يقدم الوالدان على الولد؟
وجهان في مذهب الحنابلة:
الوجه الأول: ما ذكره المؤلف هنا من تقديم الوالدين على الولد.
والوجه الثاني: وهو تقديم الولد على الوالد.
والظاهر تقديم الوالدين على الولد، لأن هذا من باب المواساة والصدقة وليس من باب الحاجة، وحيث كان الأمر كذلك فإن الوالد أولى بتطييب خاطره وإدخال السرور في نفسه وإسقاط الواجب الشرعي عنه من الولد.
فالأرجح هو تقديم الوالدين على الولد، بل أيضاً على تقديمهما على الزوجة هو الأظهر؛ وذلك لما تقدم من أن الراجح أن صدقة الفطر واجبة في مال الزوجة – هذا أولاً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2291) والطحاوي في مشكل الآثار (2 / 230) والطبراني في الأوسط (1/ 141 / 1) والمخلص في " حديثه " (12 / 69 / 2 من المنتقى منه) . الإرواء (838) .
(2) وحكي ذلك رواية عن أحمد.(9/127)
وثانياً: لأن المسألة وإن كانت تبعاً للنفقة فهي تبع لها في الجملة لا في التفصيل، فتقديم الزوجة في النفقة على الوالدين لو سلم بها، على ما فيها من النظر لا تعني تقديمها عليهما في صدقة الفطر، فإن صدقة الفطر باب مواساة، وأما النفقة فهي باب حاجة، على أن الأظهر هو تقديم الوالدين على الزوجة في النفقة وإنما وجبت النفقة على المرأة في العسر واليسر كالرقيق فيما تقدم بحيث إنه ينفق عليها في يسره، فإن أعسر فإما أن ينفق عليها وإما أن يطلقها.
فعلى ذلك: الأظهر أنه يبدأ بنفسه ثم بوالديه ثم بولده ثم بزوجته ثم بخادمه ثم الأقرب فالأقرب ممن ينفق عليه من ورثته.
قال: (والعبد بين شركاءَ عليهم صاعٌ)
إذا كان العبد مملوكاً لأكثر من شخص، فإن هذا الصاع يجب عليهم بقدر ملكيتهم فإن اشترك في العبد اثنان لكل منهما النصف فإن على كل منهما نصف صاع، فإن اشترك فيه ثلاثة لكل منهم الثلث فعلى كل واحد منهم ثلث الصاع وهكذا.
فإذن: يجمع الصاع من الشركاء في العبد بقدر ملكيتهم فيه؛ لأن الصدقة تبع للنفقة والنفقة مشتركة على هذا القدر فكذلك صدقة الفطر.
قال: (ويستحب عن الجنين)
فيستحب صدقة الفطر عن الجنين
وقد أجمع أهل العلم على أن صدقة الفطر لا تجب عن الجنين حكى ذلك ابن المنذر.
واستحب الإمام أحمد صدقة الفطر عن الجنين واستدل بأثر عن عثمان رواه ابن أبي شيبة لكن إسناده منقطع.(9/128)
لكن ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة وهو من كبار التابعين قال: (كانت تعجبهم - أي السلف من الصحابة والتابعين - صدقة الفطر عن الصغير والكبير حتى الحمل في بطن أمه) (1) فإن تصدق عن الجنين فهو حسن من غير إيجاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرعها عن الصغير والكبير، والجنين لا يصدق عليه أنه صغير، فالصغير هو المولود وهذا ليس بمولود لكن إن فعل فهو حسن لما تقدم من أثر أبي قلابة.
قال: (ولا تجب لناشز)
المرأة الناشز هي المرأة التي خرجت عن طاعة زوجها بغير حق شرعي.
فلا تجب لها النفقة وبالتالي فلا تجب صدقة الفطر عنها كما تقدم من أن صدقة الفطر تبع للنفقة لقوله: (عمن تمونون) والمرأة الناشز لا ينفق عليها فكذلك لا يتصدق عنها لأن صدقة الفطر تبع للنفقة.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثامن بعد المئتين
(يوم الاثنين: 7 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ومن لزمت غيرَه فطرتُهُ فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأته)
لا خلاف بين العلماء في أن من وجبت عليه صدقة الفطر عن غيره فأستأذن الغيرُ - من تجب عليه النفقة، استأذنه - في أن يخرج عن نفسه صدقتها فلا خلاف بين العلماء في جواز ذلك وإجزائه.
فلو أن ولداً ينفق عليه والده فأستأذن والده أن يتصدق عن نفسه صدقة الفطر. وكذلك الزوجة إذا قلنا بوجوب الصدقة على زوجها عنها فإذا استأذنت زوجها أن تخرج الصدقة عن نفسها من مالها فإن ذلك يجزئ.
* ولا خلاف بين العلماء في أنه إذا أخرج عن غيره ممن يجب عليه أن يخرج عن نفسه بغير إذنه فإنه لا يجزئه:
فلو أن رجلاً أخرج عن آخر صدقة الفطر وهذا الآخر تجب عليه بنفسه فأخرجها عنه بغير إذنه فإنها لا تجزئ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف باب هل يزكى عن الحبل (5788) : " عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: " كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى الحبل في بطن أمه ".(9/129)
- واختلفوا فيما إذا أخرج عن نفسه صدقة الفطر وهي تجب على غيره بغير إذنه، وهي المسألة التي ذكرها المؤلف هنا.
فمثلاً: إذا أخرج الولد صدقة الفطر عن نفسه وهي تجب على والده بغير إذن والده، أو أخرجت الزوجة صدقة الفطر عن نفسها – على مذهب الجمهور – وهي واجبة على زوجها بغير إذنه، فهل يجزئه ذلك؟
قال المؤلف يجزئه؛ وذلك لأنها واجبة عليه في الأصل وإنما أوجبت على الغير تحملاً، لأنه مظنة ألا يقدر عليها بنفسه فالصغير مظنة ألا يقدر عليها بنفسه والعبد لا مال له، وهكذا سائر من ينفق عليه فهو مظنة ألا يقدر على إخراج صدقة الفطر عن نفسه.
ولذا أوجبت على من ينفق عليه فهي في الأصل واجبة عليه لكن لعدم قدرته عليها في الغالب وجبت على غيره فحيث قدر فتصدق عن نفسه ولو لم يأذن له من وجبت عليه فإن ذلك يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو الوجه الأول.
2- والوجه الثاني: أنه لا يجزئ؛ قالوا: كما لو أخرج عن غيره صدقته ممن تجب عليه بنفسه بغير إذنه فقاسوها على ما إذا أخرج صدقة الغير وهذا الغير ممن يجب عليه أن يخرج صدقة نفسه.
وهذا قياس مع الفارق – كما تقدم – والفارق بينهما: أنها في الأصل واجبة عليه وإنما وجبت على غيره من باب التحمل، وأما في المسألة الثانية فهي واجبة عليه مطلقاً فهي طهرة لصومه وواجبة عليه، وأما الأول فهي طهرة له وهي واجبة على غيره ففرق بينهما.
فأصح الوجهين ما ذكره المؤلف هنا، من أن من وجبت صدقته على غيره فأخرجها عن نفسه من غير إذن من وجبت عليه فإن ذلك يجزئ عنه.
قال: (وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر)
فتتعلق بذمة المسلم إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان؛ وذلك لأنها صدقة سببها الفطر والفطر يحصل بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان – هذا مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور –.(9/130)
- وقال الأحناف: بل وقت وجوبها طلوع فجر يوم العيد عيد الفطر؛ لأنه به يثبت الفطر حقيقة، فإن الليل ليس محلاً للصوم.
والأظهر ما ذهب إليه الجمهور من أنه بغروب الشمس تتعلق الفطرة بالذمة؛ وذلك لأنها طهرة للصوم، والصوم ينتهي بغروب الشمس، ولأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان، وهي متعلقة بشهر رمضان.
فقال المؤلف – مرتباً على هذه المسألة -:
(فمن أسلم بعده)
أي أسلم بعد غروب الشمس، فلم يدرك شيئاً من النهار يؤمر بإمساكه، فإنه لا صدقة عليه فلا تتعلق بذمته لأنها تجب بغروب الشمس وهو لم تغرب عليه الشمس وهو ممن يمكن أن تتعلق بذمته.
قال: (أو ملك عبداً)
تقدم أن السيد يجب أن يخرج صدقة الفطر عن عبده، لكن إن اشتراه بعد غروب الشمس فلا يجب عليه أن يتصدق عنه، وإنما يجب هذا على سيده الأول إن كان تحت مسلم قبل غروب الشمس.
قال: (أو تزوج أو ولد له)
إذا تزوج – وقلنا أن الصدقة تجب على الزوجة (1) عن زوجته – إذا تزوج بعد غروب الشمس فلا يجب عليه عنها وكذلك إذا أتاه ولد فلا يجب عليه عنه صدقة الفطر، وإنما يدخل في الصدقة على الجنين وهي مستحبة كما تقدم، فهذه المسائل مترتبة على هذه المسألة وهي مسألة تعلق الذمة بوجوب الفطرة إذا غربت الشمس.
قال: (وقبله تلزم)
إذا أسلم قبل غروب الشمس أو اشترى عبداً قبل غروب الشمس أو تزوج قبل غروب الشمس أو ولد له قبل غروب الشمس فإن الصدقة تجب؛ لأنه قد ملك هذا العبد وقد ولد له هذا الولد في وقت تعلق وجوب صدقة الفطر في ذمته.
- وقال الحنابلة: إن كان معسراً عند غروب الشمس فغربت عليه الشمس وهو معسر ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت ما (2) ينفق عليه فإن الصدقة تسقط عنه وإن قدر عليها قبل خروج وقتها.
__________
(1) لعلها: الزوج.
(2) لعلها: من(9/131)
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: أن الصدقة تجب عليه إذا أيسر بعد ذلك لأنه قادر على الأداء في الوقت فكونه عاجزاً في أول الوقت لا ينفي عنه الوجوب ما دام قادراً على أدائها في وقتها كما أن المتمتع إذا عجز عن الهدي ثم قدر عليه في يوم النحر وما بعده من أيام التشريق فإنه يجب عليه لقدرته على الأداء في الوقت – هذا القول هو الراجح.
قال: (ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط)
يجوز إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيومين.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وقال الأحناف: يجوز إخراجها من أول السنة.
وقال الشافعية: يجوز من أول شهر رمضان.
وهما قولان ضعيفان؛ لأن هذه الصدقة متعلقة بالفطر فهي صدقة الفطر وقد سماها الشارع كما تقدم بزكاة الفطر فهي زكاة سببها الفطر فهي متعلقة به فلم تثبت قبله.
- وقال المالكية: يجزئ قبل ثلاثة أيام، واستدلوا بما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: كان يعطي زكاة الفطر ممن يجمع عنده قبل يومين أو ثلاثة (1) .
قالوا: فهذا فعل صحابي ولا يعلم له مخالف فيدل على جواز إعطائها قبل يومين أو ثلاثة فإذا دفعها في اليوم السابع والعشرين من رمضان وكان شهر رمضان تاماً فإنها تجزئ وهو رواية عن الإمام أحمد.
والمشهور عند الحنابلة ما ذكره المؤلف وأنها لا تجزئ إلا قبل يوم أو يومين فقط فإن دفعها في يوم الثلاثين أجزأ أو في يوم تسع وعشرين أجزأ إن كان الشهر كاملاً وإن كان ناقصاً يجزئ في يوم ثمان وعشرين.
__________
(1) بلفظ: " كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة ". الموطأ برواية يحيى الليثي ص143(9/132)
واستدلوا: بما ثبت في البخاري من قول ابن عمر – وهو راوي حديث صدقة الفطر قال: (وكانوا يعطون " أي الصحابة " صدقة الفطر قبل يوم أو يومين) (1)
- وذهب الظاهرية: إلى أنه لا يجزئ إلا أن يخرجها قبل صلاة العيد أما إذا أخرجها في ليلة العيد فإنها لا تجزئه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (وأمر بها أن تخرج قبل الصلاة) (2) قالوا: فأمْر النبي صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث دليل على أنها لا تجزئ ليلة العيد أو قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة وذلك؛ لأن إخراجها في ليلة العيد أو قبله ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمل ليس على هديه وأمره فهو رد.
ويجاب عن أثر ابن عمر المتقدم: بأنها لم تكن تدفع إلى الفقراء قبل يوم أو يومين وإنما كانت تجمع عند العمال الذين كانوا يجمعون الصدقات فيخرجها المسلم قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يخرجها إلى العامل الذي يجمع الصدقة ثم تخرج قبل صلاة العيد.
ودليل هذا: ما ثبت عند ابن خزيمة: أن أيوب السختياني قال: (قلت لنافع: متى كان ابن عمر يخرج زكاته؟ يعني زكاة الفطر، فقال: كان يخرجها إذا قعد العامل، قلت متى يقعد العامل؟ قال: قبل [الفطر] بيوم أو يومين) (3) فدل على أن ابن عمر إنما كان يخرجها إلى العامل فلا يكون هذا دليلاً – وإن كان فيه استثناء – يدل على جواز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
__________
(1) ذكره البخاري تحت حديث (1511) وفيه: " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ".
(2) متفق عليه، وقد تقدم " وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ".
(3) إرواء الغليل [3 / 335] .(9/133)
وما ذهب إليه الظاهرية – فيما يظهر لي – قوي وأن إخراجها لا يجزئ إلا قبل صلاة العيد، فإذا دخل يوم العيد وذلك بصلاة الفجر فإن الصدقة تجزئ. أما جمعها عند العمال الذين يجمعون الصدقات كما يقع عندنا هنا في الجمعيات الخيرية أو بعض المتبرعين الذين يجمعون صدقات الفطر ثم يوزعونها بأنفسهم، فإنه يجوز أن يعطوا الصدقة قبل يوم أو يومين، والله أعلم.
قال: (ويوم العيد قبل الصلاة أفضل)
إذا أخرجها يوم العيد قبل الصلاة فهو الأفضل.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال ابن عمر: (وأمر بها أن تخرج قبل الصلاة) وهذا يدل على أن الحنابلة وغيرهم ممن ذهب إلى هذا المذهب - واستدل بهذا الحديث - يرى أن هذه الجملة تدل على أن الإخراج المقصود فيها هو الإخراج في يوم العيد قبل الصلاة لا قبله (1) فالمستحب عند الحنابلة أن يخرجها قبل الصلاة وتقدم أنه هو الواجب.
قال: (وتكره في باقيه)
إذا أخرجها بعد صلاة العيد أو بعد صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر من يوم العيد ما لم تغرب الشمس فإن هذا الفعل منه مكروه لكن الزكاة تجزئ عنه هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وعن الإمام أحمد: أنه يحرم.
وقال الظاهرية، وهو قول الشوكاني: لا يجزئ فإن أخرجها بعد صلاة العيد فإنها لا تجزئ. وهذا هو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (2) فهذا دليل ظاهر فيما ذهب إليه الظاهرية من أن الزكاة لا تجزئ، لأنه قال: (فهي زكاة مقبولة) ومفهومه أنها إن أخرجت بعد الصلاة فهي ليست زكاة مقبولة وإنما هي صدقة من الصدقات.
__________
(1) لعله: بعدها
(2) تقدم صْ 84.(9/134)
فالراجح أنه إن أخرجها بعد الصلاة لعذر أو لغير عذر فإنها لا تجزئ عنه زكاة وإنما هي صدقة من الصدقات فإن كان معذوراً فلا شيء عليه، وأما إن كان غير معذور فإنه آثم لتركه الواجب في وقته.
قال: (ويقضيها بعد يومه آثماً)
أي بعد يوم العيد كأن يخرجها في ليلة الثاني من شوال أو في اليوم الثاني أو الثالث من شهر شوال فإنها تجزئ عنه لكنه آثم فهي زكاة مقبولة لكنه آثم لتأخير الواجب عن وقته.
والصحيح أنها لا تجزئ عنه – أيضاً كما تقدم – بل هنا أولى فلا يجزئ عنه وهو آثم إن لم يكن معذوراً أما إن كان معذوراً فلا شيء عليه.
إذن: المشهور عند الحنابلة أن إخراجها يجزئ قبل يوم أو يومين وأن السنة أن تخرج قبل الصلاة وأنها إن أخرجت بعد الصلاة في يوم العيد فهي زكاة مقبولة لكنها مكروهة وأما إن أخرجها بعد يوم العيد فهو آثم.
والراجح: ما تقدم وأن الواجب عليه أن يخرجها قبل الصلاة فإن أخرجها بعد الصلاة فلا تجزئ عنه سواء كان هذا في يوم العيد أو بعده وإنما هي صدقة من الصدقات.
فإن قيل: لم فرق الحنابلة في هذا؟
فالجواب: لعلهم فرقوا من باب ما ورد في الدارقطني لكن إسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم) (1) أو كما روى، فكأنها عندهم في يوم العيد آكد من غيره.
والحديث وإن كان ضعيفاً لكن المعنى يدل عليه، فإن زكاة الفطر إنما تؤدى يوم العيد لهذا القصد.
فلا يشكل على الفقير طعمته في يوم هو عيد من أعياد المسلمين وهو يوم فطر من رمضان، فيُغنى عن المسألة في هذا اليوم، فالتفريق من هذا الباب.
والحمد لله رب العالمين
الدرس التاسع بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 8 / 1 / 1416 هـ)
فصل
قال: (ويجب صاعٌ من برٍ أو شعير أو دقيقهما أو سويقهما أو تمر أو زبيب أو أقط)
" صاع من بر " وهو الحنطة أو القمح.
__________
(1) سنن الدارقطني [2 / 348] رقم (2108) .(9/135)
" أو دقيقهما " الدقيق هو الطحين.
" أو سويقهما " السويق هو ما يطحن من الشعير والبر بعد أن يحمَّص " أي يوضع على النار قليلاً.
" أو أقط " وهو ما نسميه بالبقل.
فهذه الخمس يجب منها صاع صدقة الفطر.
ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نعطيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) (1) فقد ذكر في هذا الحديث أربعة، وكذلك الحنطة بإجماع الصحابة وسيأتي ما يدل عليه.
إذن: تخرج من هذه الأصناف الخمسة.
والقدر الواجب ما ذكره المؤلف وهو الصاع، وهو الصاع النبوي وتقدم أنه يساوي أربعة أخماس الصاع المعاصر.
وكلام المؤلف يدل على أن القدر الواجب في البر هو الصاع كغيره وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبه – أي الصاع – في هذه الأصناف المختلفة فهي ذوات قيم مختلفة ومع ذلك فقد أوجب الشارع فيها كلها صاعاً فالبر كذلك.
- وذهب الأحناف: إلى أن نصف الصاع من الحنطة يجزئ فإذا أخرج مُدَّيْن من حنطة – أي نصف صاع – فإنه يجزئه ذلك.
واستدلوا:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (75) صاعٍ من زبيب (1508) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كنا نعطيعها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السَّمْراءُ قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين "، أخرجه مسلم 985 بزيادة: فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك ".(9/136)
بما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب - ومراسيله أصح المراسيل عند أهل العلم – قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر مدين من حنطة) (1) أي نصف صاع فإن الصاع أربعة أمداد، وله شاهد عند النسائي من حديث ابن عباس، وشاهد ثالث عند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وشاهد رابع من حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله – الشك في الرواية - في سنن أبي داود (2) ، فهذه شواهد تدل على صحة الحديث، فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب جمهور الصحابة، فقد رواه ابن المنذر: عن عثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة وجابر وعبد الله بن الزبير وأسماء بنت أبي بكر قال الحافظ ابن حجر: " بأسانيد صحيحة " (3) .
وهو ثابت عن عائشة كما هو ثابت عند ابن حزم.
__________
(1) لم أجده في سنن أبي داود بهذا اللفظ، لكن فيه (1622) قال: " حدثنا محمد بن المثنى، حدثان سهل بن يوسف قال: حُميد: أخبرنا عن الحسن قال: خطب ابن عباس رحمها لله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة … فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر.. ". وفي صحيح مسلم / كتاب الزكاة / باب (4) زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) عن ابن عمر قال: فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة رمضان على الحر والعبد والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر " وفي رواية له: " فجعل الناس عدله مدين من حنطة ". وانظر فتح الباري [3 / 372] .
(2) في سنن أبي داود [2 / 270] ما نصه: " عن عبد الله ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صُعيْر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... "(9/137)
ورواه ابن حزم أيضاً عن أبي بكر وعمر وابن مسعود لكن بأسانيد ضعيفة فهو قول جمهور الصحابة ولا يعلم لهم مخالف إلا ما كان من أبي سعيد الخدري والمخالفة أيضاً ليست صريحة، ففي الصحيحين: (لما جاء معاوية وجاءت سمراء الشام " أي الحنطة " قال معاوية " (إني أرى مداً من هذه يعدل مدين من شعير) فهو قول معاوية أيضاً، فقال أبو سعيد الخدري: (أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) .
وعند أبي داود: (لا أخرجه أبداً إلا صاعاً) فهذا قول أبي سعيد، فإن كان صريحاً فالمخالف له جمهور الصحابة، وهو ما تقدم أيضاً ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون هذا فعل منه من باب الاحتياط، ولا شك أن من أخرج أكثر من الواجب عليه فإنه يجزئه وله أجر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما تقدم – فيمن أراد أن يخرج ناقة فتية سمينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن تطوعت قبلناه منك وآجرك الله عليه) (1) .
إذن: ما ذهب إليه الأحناف هو القول الراجح وهو اختيار ابن المنذر وهو من كبار المجتهدين وهو منسوب إلى الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا هو القول الراجح.
ومثل البر الأرز، فإنه يجزئه أن يخرج نصف الصاع منه إن كان من أطيب أنواع الأرز أما إن كان من النوع الرديء الذي يساوي قيمة الشعير ونحوه فإنه لا يجزئه إلا أن يخرج صاعاً لكن الأحوط وهو الآجر أن يخرج صاعاً.
قال: (فإن عَدِم الخمسةَ أجزأ كل حب وثمر يُقتات)
إذا عدم هذه الخمسة المذكورة فإنه يجزئه كل حب كالذرة مثلاً أو ثمر - يشبه أن يكون هذا التين ونحوه إن يبس (2) - يقتات أي يطعم، وتقدم الكلام على القوت.
إذن: إذا عدم هذه الخمسة فيجزئه كل نوع من أنواع الحبوب أو الثمار التي تقتات أي التي تطعم وتدخر.
__________
(2) كذا في الأصل.(9/138)
- وظاهر كلام المؤلف أنها إذا لم تعدم فلا يجزئه ذلك وأن الحكم مخصوص بهذه الأصناف الخمسة وهذا هو المشهور في المذهب فلو أخرج ذرة أو غيرها من الأطعمة التي تقتات،فإنه لا يجزئه. وأنه إذا أخرج شيئاً من الأصناف الخمسة وإن كان لا يقتات كالشعير في وقتنا أو الأقط فإنه يجزئه هذا هو المشهور عند الحنابلة.
واستدلوا بالحديث المتقدم الذي فيه ذكر الأصناف الخمسة وهو حديث أبي سعيد.
- وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المجزئ ما كان من قوت البلد سواء كان من هذه الأصناف المذكورة أم لم يكن، بل إذا أخرج شيئاً من هذه الأشياء المذكورة وليس قوتاً كالأقط أو الشعير مثلاً عندنا، فإنه لا يجزئه ذلك.
فالمجزئ هو إخراج طعام من طعام البلد وقوته سواء كان من هذه الأصناف الخمسة أم لم يكن منه، وأما ما ليس من قوت البلد فإنه لا يجزئه وإن كان من الأصناف الخمسة المذكورة في الحديث.
فعلى هذا القول: إخراج الشعير في وقتنا لا يجزئ، وإخراج الأقط لا يجزئ.
واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود وتقدم، من قول الصحابي وهو ابن عباس: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين) فصدقة الفطر إنما شرعت طعمة للمساكين فدل على أن ما كان من طعام البلدة وقوتهم فإنه يجزئ وأن ما لم يكن من طعامهم فإنه لا يجزئه.
قالوا: وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الخمسة لأنها كانت قوت البلد، فقد ثبت في البخاري وغيره أن أبا سعيد قال: (وكان طعامنا يومئذ الشعير والزبيب والتمر والأقط) فهو طعامهم ولذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه. وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
قال: (ولا معيبٌ)(9/139)
فلا يجزئ إخراج المعيب كأن يكون مبلولاً بالماء أو مسوساً أو أن يكون متغيراً طعمه لقدمه كما يقع هذا في التمر وبعض الأطعمة فيتغير طعمها لقدمها فإنها لا تجزئ لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} (1) فلا يجزئ أن يخرج من خبيث طعامه وما كان معيباً فهو من خبيث الطعام فلا يجوز إخراجه.
أما إن كان قديماً لكن طعمه لم يتغير وكان الطعام الجديد أحب إلى الناس – وهذا يختلف باختلاف الأطعمة فالتمر مثلاً الجديد أفضل من القديم، بخلاف بعض الأطعمة كالأرز فإن منها ما إذا طالت مدته كان أفضل فالمقصود من ذلك أن الجديد إذا كان أحب إلى الفقير فهو أولى وأفضل في الصدقة، مع أنه يجزئه أن يخرج القديم الطيب.
قال: (ولا خبزٌ)
الخبز ما يصنع من الطحين أي من القمح فلا يجزئ لأنه لا يُدّخر وما ذكر من الأطعمة مما يدخر.
- واختار ابن عقيل من الحنابلة إجزاءه، ووجه هذا القول الزركشي من الحنابلة فاختار أنه يجزئ إخراج الخبز.
وعلى ذلك الأرز المطبوخ يجزئه، وهذا إذا كان الطحين أو الأرز الذي صنع منه الطعام - إذا كان يعدل القدر الواجب إخراجه وهذه المسألة وهي مسألة ثابتة أيضاً في الطحين وفي الدقيق والسويق الذي تقدم ذكره، فلابد أن يكون الطحين أو السويق لابد أن يكون بوزن الصاع من الشعير والصاع من البر وهنا كذلك فإن الطحين الذي يصنع منه الخبز أو الأرز المطبوخ على القول بإجزائه لابد أن يكون قبل الطبخ أو قبل الخبز لابد وأن يكون صاعاً، على القول بأنه لا يجزئه إلا صاع، أو نصف صاع على القول الآخر.
__________
(1) سورة البقرة.(9/140)
وفيما ذكره – فيما يظهر لي – قوة؛ وذلك لأن قضية الادخار غير معتبرة في صدقة الفطر، فإن المقصود هو إغناء الفقير عن المسألة في يومه ذلك، ولذا أوجبناها على الفقير نفسه إن فضل له عن حاجة يوم العيد وليلته صاع، فليس المقصود الادخار إذ أنها تخرج منه فإن الرجل الذي لا يملك إلا صاعاً من بر وهو فاضل عن قوت يوم العيد وليلته هو فقير ونوجب عليه إخراج هذا الصاع وننهاه عن ادخاره فدل على أن الادخار غير مقصود وأن المقصود هو أن يكون له طعمة في ذلك اليوم.
فما اختاره ابن عقيل قوى، لكن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم وغيرهم.
قال: (ويجوز أن يعُطي الجماعةُ ما يلزم الواحد)
الذي يلزم الواحد هو الصاع، فيجوز أن يدفعه إلى جماعة من الناس بمعنى أن يقسم الصاع على أكثر من مسكين؛ لأنه فعل الواجب عليه، فقد أخرج صاعاً من طعام ففعل الواجب عليه.
- وقال بعض الحنابلة: لا يجزئه. وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام وأن الصاع هو القدر الذي يحتاج إليه الفقير الواحد وقد قال صلى الله عليه وسلم طعمة للمساكين، ولا شك أنه إذا قسم بينهم هذا حفنة وهذا حفنة، فإن هذا لا يكون لهم طعاماً.
فالأظهر أنه لا يجزئه ذلك، وأن الواجب إخراج القدر المجزئ بشرط أن يكون هذا القدر المجزئ طعاماً، وتحديد الشارع للصاع؛ لأن الصاع هو القدر الذي يحتاج إليه الفقير في طعامه، فلا يجزئه أن يقسم الصاع بين أكثر من مسكين وقد يتساهل فيما إذا كان الصاع يكفي أكثر من مسكين، كأن يقسمه بين مسكينين أو ثلاثة بحيث يكون القدر المعطى لكل شخص منهم أن يكون كافياً لطعامه – قد يتساهل بهذا -.
أما أن يقسم بينهم بحيث لا يكفيهم كأن يقسم بين عشرة ونحو ذلك فإن هذا غير مجزئ؛ لأنه لم يحصل به طعمة للمسكين. هذا هو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.(9/141)
واستثنى فيما إذا كان هناك مضطرون بحيث إنّا إذا قسمنا الصاع بينهم لكل شخص حفنة أنجيناهم من الهلكة والموت فحينئذ – يجوز أن يفرق بينهم، وهذا ظاهرٌ لاقتضاء المصلحة له.
إذن: الأظهر أن هذا الصاع يجب أن يعطى للمسكين؛ لأنه هو القدر الذي يحتاج إليه وبه تندفع حاجته لكن قد يتساهل في هذا ويقال بقول الجمهور إذا كان القدر المعطى يكفي المسكين يومه وليلته فإنه قد يتساهل بهذا كما تقدم.
قال: (وعكسه)
أي ويجوز عكسه وذلك أن يعطى الواحد ما يلزم الجماعة يعني جماعة أخرجوا صدقة الفطر إلى شخص واحد، قال الموفق: (لا نعلم خلافاً بين أهل العلم فيه) (1) .
وذلك لأن هذه الصدقة قد أعطيت مستحقها فبرئت الذمة.
ولو قال قائل: بعدم الإجزاء إلا أن يكون الفقراء قليل لكان قولاً قوياً؛ وذلك لما تقدم من أن زكاة الفطر يؤمر بها الفقير فلا يقصد منها الادخار بل يقصد منها طعمة يومه، وطعمة يومه إنما تكون بصاع كما تقدم فعلى ذلك إذا أعطي أكثر من ذلك فإنما يكون للادخار فلا يناسب شرعاً أن تؤخذ من فقير فتعطى فقيراً آخر فيؤخذ منه ما يمكن أن يدخره فيعطى غيره ليدخره – هذا محل نظر ظاهر.
لكن إن كان أغلب أهل البلد أغنياء يخرجون صدقة الفطر عن يسر – كما يقع هذا كثيراً في بلادنا – والفقراء قليل، فيعطون هذه الأموال وإن كانوا يدخرونها، فإن هذا جائز.
__________
(1) قال ابن قدامة في المغني [4 / 316] ما نصه: " أما إعطاء الجماعة الواحد فلا نعلم فيه خلافاً ".(9/142)
أما أن يُعطي شخصاً ويمنع منها شخص آخر ونقول بإجزاء ذلك، هذا فيه نظر، ولذا فإن الذي ينبغي أن يكون هناك عمّال يرتبون القيام بإخراجها فيخرجونها على سائر فقراء البلدة فلا يدَعوا فقيراً إلا وقد أوصلوا إليه طعمة يوم العيد وليلته، فإذا فضل بعد ذلك شيء من الطعام أُعطى بعد ذلك الفقراء وإن ادخروه، وأما كلام الفقهاء فإن ظاهره الإجزاء مطلقاً وإن كان هناك فقراء لم يصل إليهم شيء من صدقة الفطر مطلقاً.
والأظهر ما تقدم وأن هذا الطعام إنما يقصد به إغناء الفقير ليلة العيد ويومه ولذا يؤمر به الفقير نفسه.
وأصح الوجهين في المذهب أن من لم يجد إلا نصف صاع يفضل عن مؤنة يوم العيد وليلته فإنه يجب عليه إخراجه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) "
وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ".
وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) .
وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء.
حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ".(9/143)
وقد أمرنا بالصاع وعجزنا عنه وأمكننا أن نخرج المد أو نصف الصاع فإن إخراجه هو الواجب علينا وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) .
مسألة:
في الصنف الذي يعطى صدقة الفطر؟
- مذهب الحنابلة: أن أصناف أهل الزكاة هم الذين يعطون صدقة الفطر وهم الأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية.
فعلى ذلك يعطى المؤلفة قلوبهم وتعطى للجهاد في سبيل الله هذا هو المشهور عند الحنابلة.
قالوا: لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} فيدخل في ذلك صدقة الفطر.
- واختار شيخ الإسلام: أنها لا تجزئ إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ الصدقة لحاجة نفسه وهو الفقير والمسكين، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمساكين) فخصها النبي صلى الله عليه وسلم بالمساكين.
قال: والفارق بينها وبين زكاة المال: أن زكاة المال متعلقة بالمال، فما يخرج من الشياه أو من الإبل أو البقر أو من الذهب والفضة متعلق بهذه الأموال.
أما صدقة الفطر فهي متعلقة بالبدن ولذا يجب على الفقير فأشبهت الكفارة فإن الكفارات ككفارة اليمين وغيرها متعلقة بالبدن لا بالمال فأشبهت صدقة الفطر الكفارة فكانت مستحقة لمن يستحق الكفارة.
وهذا القول هو الراجح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طعمة للمساكين) فخصها بالمساكين وأما قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} فإن " أل " هنا عهدية وقد قال تعالى في هذه السورة: {خذ من أموالهم صدقة} الآية، فهي صدقة المال.
فقوله: {إنما الصدقات} أي إنما صدقات المال، وأما زكاة الفطر فهي صدقة بدن فهي طهرة للصائم من الرفث فهي صدقة بدن لا صدقة مال.وما اختاره شيخ الإسلام هو الراجح. فعليه: لا تدفع إلا للفقراء والمساكين طعمة لهم في ذلك اليوم.
والحمد لله رب العالمين
الدرس العاشر بعد المئتين
(يوم الجمعة: 11 / 1 / 1416 هـ)
باب: إخراج الزكاة(9/144)
قال: (ويجب على الفور مع إمكانه إلا لضرورة)
يجب على الفور إخراج الزكاة، فمن وجبت عليه زكاة في ماله سواء كانت من المواشي أو عروض التجارة أو من النقد أو غيرها فيجب عليه أن يخرجها فوراً، ولا يجوز له التراخي، وذلك للقاعدة الشرعية التي تقدم ذكرها وهي أن الواجبات على الفور وقد دلت عليها نصوص الشريعة، فعلى ذلك وقد قال تعالى: {وآتوا الزكاة} فيجب عليه أن يؤتيها فوراً، فإن تراخى أثم.
وقيده المؤلف بقوله: (مع إمكانه) أي مع إمكان الإخراج وهذه قاعدة في الواجبات، وأن الواجبات إنما تجب مع القدرة.
والفورية الواجبة هنا: إنما تجب مع القدرة عليها، فإن لم يقدر على أدائها فوراً فإنه لا تجب عليه ذلك بل له أن يتراخى بحسب ما تقتضيه قدرته كأن يكون المال غائباً عنه فلم يتمكن من زكاته إلا متراخياً فإنه يجوز له التراخي لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) .
واستثنى المؤلف هنا فقال: (إلا لضرورة) فإذا اقتضت الضرورة تأخير الزكاة فإنه يجوز له تأخيرها وإن كان قادراً على أدائها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فلو أنه مثلاً تأخر عنه الساعي، والساعي يطالب بها عادة، فتأخر عنه الساعي، وعلم أنه إن أداها بنفسه فإن الساعي يطالبه بها وقد لا يصدقه في أنه قد أداها بنفسه، فحينئذ يجوز له أن يتأخر حتى يأتيه الساعي حفظاً للمال وهي من الضروريات الخمس ومثل ذلك: إن احتاج إلى تأخير الزكاة في مؤنة نفسه وكفايتها وحاجتها فله أن يؤخرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) .
* وهل يجوز له أن يؤخرها ويتراخى في دفعها ليؤديها إلى من هو أحق بها؟
كأن يكون هناك غائب وهو فقير شديد الحاجة إلى الزكاة أو أن يكون هناك قريب إليه وهو محتاج إلى الزكاة وهو غائب؟(9/145)
ظاهر كلام بعض الحنابلة المنع من التأخير مطلقاً.
وظاهر قول بعضهم جوازه مطلقاً.
والمشهور عندهم وهو الأظهر: جوازه إن كان التأخير يسيراً عرفاً كأن يتأخر أياماً يسيرة عرفاً كاليوم واليومين، فإنه يجوز له أن يؤخرها ليدفعها إلى من هو أحوج إليها وأحق بها أما إن كان التأخير كثيراً عرفاً فليس له ذلك، وذلك لأن الأصل وجوب دفعها فوراً، وتأخيرها زمناً يسيراً لأدائها إلى من هو أحق بها، الحاجة داعية إليه ولا يفوت به مقصود الشرع من الفورية في الزكاة بل يحصل به مقصود الشرع من دفعها إلى من هو أحق بها. بخلاف ما إذا كان الزمن كثيراً فإن الزكاة حينئذ تكون عرضة للفوت إما بموت أو إفلاس أو نحو ذلك، ولا يجوز ترك واجب لمندوب. (1)
قال: (فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارفٌ بالحكم)
أي إذا لم يكن جاهلاً فإنه يكفر؛ وذلك لأنه مكذب لله ورسوله فإن أدلة إيجاب الزكاة ظاهرة من الدين ضرورة فإن جحدها وأنكرها فقد كذب الله في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته فيكفر هذا إن كان عارفاً بالحكم أما إن كان جاهلاً والجهل ممكن كأن يكون حديث عهد بإسلام فإنه لا يكفر حتى يبين له حكم الله عز وجل وقد أجمع العلماء على أن جاحد وجوبها كافر.
قال: (وأخذت منه)
أي الزكاة لأنها وجبت عليه قبل كفره، فلا يقال: لا تجب الزكاة لأنه كافر، والكافر لا يجب عليه الزكاة فحينئذ ينتقل إلى وارث أو بيت مال، بل يقال الزكاة واجبة؛ لأنها تعلقت في ماله قبل كفره وقبل ردته فكانت واجبة فتؤخذ من ماله زكاة.
قال: (وقتل)
__________
(1) في حاشية المذكرة ما نصه: " في الإنصاف: ويجوز له التأخير لحاجته إلى زكاته إن كان فقيراً محتاجاً إليها تختل كفايته ... .
وعنه: له أن يعطي قريبه كل شهر شيئاً، وحمله أبو بكر على تعجيلها، وخالفه المجد وأن الظاهر ... .
فائدة: نص أحمد على فورية النذر المطلق والكفارة، وهو المذهب ... "(9/146)
ردةً؛ لأنه كافر بالله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (1) .
قال: (أو بخلاً أخذت منه)
فمن تركها بخلاً أو تهاوناً وكسلاً فإنها تؤخذ منه قهراً لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وهذا حق مالي واجب فكان واجباً على الحاكم أن يأخذه من مانعه إن منعه بخلاً به أو تهاوناً وكسلاً. (2)
قال: (وعُزِّر)
لأنه قد ارتكب أمراً محرماً من ترك الزكاة وفعل المحرم – إن لم يثبت فيه حد – فإن الحاكم يعزر به كما سيأتي هذا في باب التعزيرات إن شاء الله.
فإذا منع الزكاة فإن الحاكم يعزره بسجن أو ضرب أو نحو ذلك.
وظاهره أنه لا تؤخذ منه شطر المال، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن مانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة الواجبة فحسب ويعزر على المنع. (3)
وعن الإمام أحمد: أنه يؤخذ منه شطر ماله، وهو قول أبي بكر وقول الأوزعي وقول الشافعي في القديم وهو اختيار ابن القيم وقد نصره في تهذيب السنن وأن مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله الذي وجبت فيه الزكاة مع الزكاة الواجبة، وهذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: " المذهب: أنه إن قاتل عليها لم يكفر، وعنه.. وهو قول بعض أصحابه: إن قاتل عليها كفر، وعنه: يكفر وإن لم يقاتل عليها.
فإن ادعى ما يمنع وجوب الزكاة من نقصان نصاب أو نحوه قبل قوله بلا يمين، هذا هو المذهب، ووجه في الفروع.. "
(3) في أعلى المذكرة ما نصه: " لأن الصحابة لم يأخذوا الزيادة، إلا أن يفعله لفسق الإمام، لكونه لا يضعها موضعها، وصوبه في الإنصاف، وقال: لو قيل بوجوب كتمانه لكان سديداً ".(9/147)
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والحديث إسناده جيد، وقد صححه غير واحد من أهل العلم والحديث ثابت جيد السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عَزْمةً من عزمات ربنا) (1)
فعلى ذلك يكون هذا من التعزيرات المالية.
فعلى ذلك تؤخذ الزكاة ويؤخذ معها شطر ماله.
قال: (وتجب في مال صبي ومجنون فيخرجها وليهما)
تقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون ويخرجها عنهما وليهما؛ لأنه هو القائم بالتصرفات المالية عنهما – كما هو مذهب الجمهور خلافاً للأحناف. وعن أحمد: لا يلزمه الإخراج إن خاف أن يطالب بذلك، كأن يخشى رجوع الساعي، لكن يعلمه إذا بلغ وعقل.
قال: (ولا يجوز إخراجها إلا بنية)
فلا تصح الزكاة ولا يجوز إخراجها إلا بنية فإن دفعها على أنها صدقة تطوع مثلاً ثم نواها زكاة فلا يجزئه ذلك أو تنازل عن حق مالي لشخص ثم نواها بعد ذلك زكاة فلا يجزئ - على القول بإجزاء تبرئة المدين زكاة –؛ وذلك لأن الزكاة عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) (2) فلا يصح العمل إلا بالنية ولا يجزئ إلا بها فإذا دفع شيئاً من ماله بغير نية الزكاة، كأن يرى مسكيناً مثلاً فيعطيه ولم ينوها زكاة فإنه لا يجزئه زكاة بل صدقة من الصدقات لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)
قال: (والأفضل أن يفرقها بنفسه)
فالأفضل له أن يفرقها بنفسه سواء كانت الزكاة من الأموال الباطنة كالذهب والفضة أو كانت من الأموال الظاهرة كالمواشي فالأفضل له أن يتولاها بنفسه فيفرقها على مستحقيها وذلك لأنه بهذا الفعل يتيقن وصولها إلى مستحقيها وله أن يدفعها إلى الإمام أو السعاة هذا هو المشهور عند الحنابلة
__________
(1) أخرجه أبو داود، وقد تقدم صْ 2.(9/148)
فالأفضل – عندهم – أن يدفعها بنفسه ويفرقها بنفسه سواء كانت الأموال الظاهرة أو الباطنة، قالوا: لأنه بذلك يتيقن وصولها إلى مستحقيها.
وقال بعض الحنابلة كأبي الخطاب وهو مذهب الشافعية: بل الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام، وهو رواية عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة وفي صدقة الفطر.
وهذا القول هو الظاهر وأن الأفضل أن يدفعها إلى الوالي؛ وذلك لأنه بهذا الفعل تزول التهمة عنه ولأن الصحابة كانوا يدفعونها إلى العمال والسعاة، وكانت تجبى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان الناس يدفعونها إلى السعاة كما هو مشهور في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول هو الأرجح، وأن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام إن كان الإمام عادلاً يضعها في مواضعها.
وظاهر كلام المؤلف أن له أن يدفعها إلى الإمام مطلقاً، لأنه قال: (الأفضل له أن يفرقها بنفسه) وظاهره أنه إن دفعها إلى الإمام جاز ذلك مطلقاً سواء كان الإمام عدلاً أو جائراً، وإن علم أنها تصرف في غير مصارفها وتوضع في غير مواضعها هذا هو المشهور عند الحنابلة.
فإن كان الإمام عادلاً ويضعها في مواضعها فلا إشكال في جواز دفعها إليه بل أفضلية ذلك – كما تقدم –.
وأما إن كان الإمام لا يضعها في مواضعها ولا يدفعها إلى مستحقيها وأمكنه أن يكتمها عنه فمذهب المالكية والشافعية وهو اختيار القاضي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس له أن يدفعها – حينئذ – إلى الإمام. وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن مقصود الشارع إيصالها إلى مستحقيها وحيث دفعت إلى سلطان لا يضعها مواضعها فإن في ذلك تضييعاً للحق عن صاحبه.
هذا حيث لم تترتب فتنة، بين الحاكم والمحكوم أما إن ترتب فتنة فإن ذلك لا يجوز للفتنة.
أما إذا كان الإمام عادلاً، فإن المشهور عند الحنابلة جواز دفعها إليه وله أن يصرفها بنفسه وتقدم أن المستحب له أن يدفعها إلى الإمام.
لكن هل يجب دفعها إلى الإمام أم لا؟(9/149)
إذا كانت الأموال باطنة فقد أجمع العلماء على أنه يجوز له أن يصرفها بنفسه ولا يجب عليه أن يدفعها إلى الإمام.
أما أن كانت الأموال ظاهرة:
فقال الحنابلة والشافعية: يجوز له أن يفرقها بنفسه ولا يجب أن يدفعها إلى الإمام.
وقال المالكية والأحناف: بل يجب أن يدفعها إلى السلطان.
واستدلوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة في الأموال الظاهرة.
وأما الحنابلة فاستدلوا: بالقياس على الأموال الباطنة إذ لا فرق وأما ما ذكرتموه من الأدلة، فإنه ليس فيه إلا إيجاب ذلك على الحاكم أو السلطان وأنه يجب عليه أن يأخذ الأموال فيصرفها إلى مستحقيها، وليس فيه وجوب ذلك على صاحب المال، وحيث دفعها – وهي الأموال الظاهرة – فإن الذمة تبرأ بذلك لأنها زكاة قد أعطيت مستحقها.
هذا: إذا لم يطالب بها الإمام، فإن طالب بها الإمام فيجب دفعها إليه سواء كانت باطنة أو ظاهرة؛ وذلك لما في منعها من الفتنة والافتيات على السلطان، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة) (2) كما ثبت في أبي داود بإسناد حسن، فقوله: (هاتوا) أمر والأمر للوجوب.
* بيان هذه المسألة مرة أخرى وتفاصيلها:
إن طلب الإمام أو نائبه الزكاة في الأموال الظاهرة أو الباطنة فيجب دفعها إليه لما في منعها من الافتيات عليه، ولما في ذلك من الفتنة ولقوله صلى الله عليه وسلم – وهو الإمام -: (فهاتوا صدقة الرقة) وظاهر الأمر الوجوب.
فإن لم يطالب بها الإمام ولم يرسل السعاة إلى جلبها من الناس بأعيانهم فهل يجب أن يدفعها إليه أو يجوز له أن يفرقها بنفسه؟
إن كانت باطنة فيجوز بالإجماع.
وإن كانت ظاهرة ففي ذلك قولان لأهل العلم:
__________
(1) سورة التوبة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (4) في زكاة السائمة (1574) .(9/150)
أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية – جواز تفريقها بنفسه؛ وذلك لأن الأدلة الواردة ليس فيها ما يدل على وجوب دفعها إلى الإمام وإنما فيها وجوب الإخراج، ووجوب أخذها من السلطان وليس فيه وجوب دفعها إليه إلا أن يطالبه السلطان بها فيجب حينئذ لما تقدم.
ثم هل الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام أم الأفضل له أن يفرقها بنفسه؟
الراجح – وهو مذهب الشافعية – أن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام لفعل الصحابة، ولزوال التهمة.
* أما إذا ثبت له أن الإمام لا يضعها في مواضعها ويتصرف فيها بغير حق وأمكنه كتمها:
فمذهب المالكية والشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه لا يجوز له دفعها إليه كما تقدم.
والمشهور من المذهب أنها تدفع إليه.
ومما يدل على وجوب دفعها إلى الإمام إن كان الإمام يطالب بها وإن كان الإمام لا يضعها مواضعها ولا يتصرف بها تصرفاً شرعياً آثار الصحابة، ففي البيهقي بإسناد جيد أن ابن عمر قال: (ادفعوها إليهم وإن أكلوا بها الكلاب) (1) ، وقال في رواية: (وإن شربوا بها الخمر) (2) .
وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي صالح قال: اجتمع عندي مال، فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وسعد بن أبي وقاص فقابلت كل واحد منهم وقلت له: إن هؤلاء يضعونها حيث ترى: " أي لا يضعونها في مواضعها الشرعية " وإني قد وجدت لها موضعاً حسناً، فكلهم قالوا: أدها إليهم) (3) .
إذن: إذا كان الإمام يطالب بها فيجب دفعها إليه وإن كان لا يضعها في مواضعها، أما إذا لم يطالب بها أو أمكن كتمها ما لم يترتب على ذلك فتنة فإنه يجب كتمها كما تقدم. (4)
__________
(2) السنن الكبرى للبيهقي / كتاب الزكاة، باب (38) الاختيار في دفعها إلى الوالي (7383) .
(3) وانظر سنن البيهقي [4 / 193] رقم (7385) .
(4) كلام في الحاشية بعضه غير واضح.(9/151)
ويجوز له أن يدفعها إلى ثقة توكيلاً هذا جائز لا حرج فيه، فإذا أعطى زكاته ثقة يؤديها إلى مستحقيها فلا بأس؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل في زكاة ماله فقد وكل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن ويفرقها بينهم وكان يوكل السعاة في أخذ الزكاة ويفرقها فدل ذلك على جواز التوكيل ولأنه يحصل المقصود ولا دليل أيضاً على منعه.
وهل يجب عليه أن يعلم الفقير أنها زكاة مال أم لا يجب عليه ذلك؟
نص الإمام أحمد على أنه لا يجب ذلك وأنه لا يستحب له؛ لما في ذلك من كسر قلب الفقير.
واستثنى الحنابلة: من كان عادته ألا يقبل الزكاة ويتنزه عنها فإنه حينئذ لا يدفع إليه إلا أن يخبر أنها زكاة، وقالوا: إن دفعت إليه من غير أن يذكر له أنها زكاة فإن ذلك لا يجزئ.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وقال بعض الحنابلة: بل يجزئ. وهذا هو الظاهر؛ وذلك لأنه من المستحقين وقد دفعت إليه علم أنها زكاة أم لم يعلم فهي زكاة قد دفعت إلى مستحق لها وهو من أهل الزكاة ولا دليل على عدم إجزائها والأصل هو الإجزاء لكن الذي ينبغي أن يخبر بذلك وألا يفتات عليه فيعطى ما لا يرضى ويعطى ما يتنزه عنها بل يخبر أنها زكاة فإن قبلها فذاك وإن ردها فكذلك.
ومع ذلك فالذي يظهر: أنه إذا اقتضت المصلحة الشرعية والحاجة عدم إخباره فإنه لا يخبر، كأن يكون هناك أحد من الناس يتنزه عنها تنزهاً بالغاً وعليه حاجة شديدة ويخشى عليه الهلكة ونحو ذلك وإن دفعت إليه وأخبر أنها زكاة لم يقبلها فالذي ينبغي ألا يخبر بذلك إذ لا ضرر عليه. لكن إن لم يكن الأمر على هذه الصفة فالذي ينبغي هو الإخبار وفي كل الحالات فإنها تجزئ لأنها زكاة توفرت فيها الشروط الشرعية ودفعت إلى مستحقيها ولا دليل على عدم إجزائها والأصل هو الإجزاء، أما إذا كان لا (1) يتنزه عن قبولها فلا ينبغي إخباره بل تدفع إليه بلا إخبار؛ لئلا يكسر قلبه بذلك.
__________
(1) لعل الصواب حذفها.(9/152)
هذا إن كان كسر القلب يحصل بذلك، أما إن كان كسر القلب يحصل بدفعها على أنها صدقة من الصدقات، بينما إذا دفعت على أنها زكاة رأى أن هذا حق من الله - عز وجل - دفع إليه قهراً من الغنى، وأنه لا منة للغني بذلك، فالأولى هو الإخبار بأنها زكاة؛ لئلا يبقى في قلبه منة لهذا الدافع - ولا منة له بذلك فهو حق من الله في مال هذا الغني دفع إلى هذا الفقير -.
فالمقصود من ذلك: أنه حيث حصل كسر قلب الفقير فإنه لا يخبر بذلك وإن كانت عادته عدم القبول فينبغي أن يخبر بذلك، فإن لم يخبر أجزأت على الراجح وهو قول بعض الحنابلة.
قال: (ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد)
أما هو فيقول عند دفعها: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً) (1) لكن الحديث رواه ابن ماجه وإسناده ضعيف.
وأما آخذها من السعاة فيقول ما ورد وهو ما ثبت في الصحيحين - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - عن عبد الله بن أبي أوفى: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الناس بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى) (2) أي: اللهم أثن عليهم، فهو من باب الدعاء وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (3) أي ادع لهم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة. المغني [4 / 96] .
(2) أخرجه البخاري في باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة من كتاب الزكاة، وفي كتاب المغازي، وكتاب الدعوات، ومسلم في باب الدعاء لمن أتى بصدقته من كتاب الزكاة وغيرهما. المغني [4 / 96] .(9/153)
فيستحب للإمام أو نائبه أن يدعو لدافعها وهذا الدعاء الوارد في الآية والحديث ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل عام له ولغيره ولكن الخاص به هذا الفضل المذكور بقوله: {إن صلاتك سكن لهم} ، ونظير هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) (1) فلا يعني هذا أن الصلاة على الميت في قبره خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل ذلك عام له ولغيره، لكن هذا الفضل وهو أن الله ينورها بالصلاة خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة:
إذا منع الزكاة بخلاً فإنها تؤخذ منه شطر ماله معها وهذا الشطر هل يصرف مصرف الفيء أو مصرف الزكاة؟
الظاهر أنه يصرف مصرف الزكاة لأنها متولدة من الزكاة فسببها الزكاة ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ولا تحل لآل محمد منها شيئاً) (2) وآل محمد تحل لهم الفيء أما الزكاة فلا تحل لهم. فالأظهر أنها تكون لها مجرى الزكاة.
مسألة:
مستحق الزكاة هل الأفضل له أن يقبلها أم يتنزه عنها؟
الجواب: بل يقبلها إلا أن يترتب على ذلك مفاسد، وإلا فإن الصحابة كانوا يقبلونها وتقدم أثر معاذ: (خير لأصحاب المدينة) (3) فلا شك أن التنزه عما كان عليه الصحابة تنزه مذموم وهي حق من الله - عز وجل - وليس فيها منة فالتنزه عنها ليس بسليم لكن قد يمتنع عنها الشخص إذا كان الناس يرونها مذمة فيكرهها لذلك وإن كان قد يقبلها باطناً لكنه ظاهراً لما يرى من مذمة الناس لذلك فحينئذ، والأصل أنه لا مذمة فيها فهي مال من الله ليس للغني فيه منة.
مسألة:
رجل زكاة ماله عشرة آلاف ريال، ويريد من فلان عشرة آلاف ريال، فهل له أن يحلل الفقير مما عليه من الدَّيْن ويخصم هذا من زكاته هل يجوز أم لا؟
__________
(1) أخرجه مسلم، وانظر فتح الباري [1 / 553] . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) تقدم.
(3) تقدم.(9/154)
الذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل – وإن كان فيما يظهر لي أن المشهور عند الحنابلة المنع مطلقاً.
لكن الأظهر هو التفصيل وهو أن يقال: إن كان حقه يخشى ضياعه كأن يكون على معسر فإنه ليس له ذلك؛ لأن هذا المال الذي على هذا الفقير بحكم المال الضائع، فليس له حينئذ أن يخرج هذا من زكاة نفسه، أما إذا كان في حكم ما في يده من المال كأن يكون له دين على فلان عشرة آلاف وهو يعلم أنه قادر على الوفاء وهو وفيّ فيجوز له ذلك؛ لأنه له أن يدفع إليه الزكاة مباشرة وللفقير إذا دفعها إليه أن يعيدها إليه وإن كان قد يمنع من هذا إن قلنا بالمسألة على مذهب الحنابلة إن كان فيها مواطأة لكن لو دفعها إلى هذا الفقير المدين له ثم أعادها هذا المدين من غير مواطأة، لقلنا بالإجزاء فلا فرق حينئذ بين أن يحلله منها مع علمه بقدرته على الوفاء لكن إن كان غير قادر على الوفاء فإنه لا يجوز ذلك، ولما في ذلك من تفويت الزكاة لأنه لا يكاد يجد غنياً إلا له أموال كثيرة قد ذهبت في أيدي كثير من الناس لا يمكن تحصيلها فإذا فعل هذا الفعل خرجت الزكاة وخرجت عن مستحقيها لذا المشهور في المذهب عدم الجواز مطلقاً.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الحادي عشر بعد المئتين
(يوم السبت: 12 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة) .(9/155)
فالأفضل – أي المستحب – إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة وبهذه الجملة يتبين أن مراد المؤلف في قوله: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده) التفضيل بين إخراجها في بلد المال وبين إخراجها في موضع آخر بينه وبين البلد الذي فيه المال الزكوي - بينه - مسافة لا تقصر فيه الصلاة، فعلى ذلك الأفضل له أن يخرج الزكاة في البلد أفضل له من أن يخرجها في البوادي أو في القرى القريبة من البلدة أو في المدن القريبة منها التي ليس بينها وبين هذه المدينة - التي فيها المال - مسافة قصر.
أما إذا نقلها إلى بلدة بينها وبين هذه البلدة التي فيها المال الزكوي مسافة قصر فإن ذلك النقل محرم فأصبح عندنا ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يخرج الزكاة في بلدة المال فهذا هو الأفضل.
الحالة الثانية: أن يخرجها إلى بادية أو بلدة قريبة إلى بلدة المال بحيث أنه ليس بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهنا يجوز له ذلك.
والحالة الثالثة: أن يخرجها إلى بلدة بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهذا حرام لا يجوز.
أما الحالة الأولى: فدليلها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) أي في فقراء أهل اليمن، وثبت في سنن أبي داود أن زياد بن أبيه أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع عمران قال له: (أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها [من] حيث كنا نأخذها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) (2) فدل على أنهم لم يكونوا يجبون الصدقة إلى بلدة الإمام وإنما كانوا يضعونها في فقراء البلد إلا إن فضل شيء فإنهم يرجعون به إلى بلدة الإمام.
__________
(2) سنن أبي داود [2 / 276] ، كتاب الزكاة: باب في الزكاة هل تحمل من بلد إلى بلد.(9/156)
ومما يدل عليه من النظر: تعلق قلوب الفقراء من أهل البلدة بهذا المال فصرفها إلى غيرهم كسر لقلوبهم ولا شك أن الشارع يراعي جبر خواطرهم.
وأما دليل الحالة الثانية: وهي أن يخرجها إلى موضع آخر بينه وبين البلدة دون مسافة القصر
فقالوا: لأنها بمعنى البلدة الواحدة لعدم قصر الصلاة بينهما فمن أتى من هذه البلدة إلى هذه لم يقصر، وكذلك العكس. وهذا فيه نظر، لأن ظاهر الأحاديث المتقدمة أنها تصرف في الموضع نفسه، ولذا قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال بالمنع " (1) أي منع صرفها في بلدة أخرى وإن كانت هذه البلدة ليس بينهما وبين بلدة المال إلا مسافة لا تقصر فيها الصلاة وهذا القول هو الأرجح، وأن الزكاة مختصة بالموضع نفسه فلا يصرف إلى البوادي أو البلدان القريبة التي لا تقصر فيها الصلاة وذلك لظاهر الأحاديث ولما تقدم من التعليل وهو تعلق قلوب الفقراء بها والذين تتعلق قلوبهم هم فقراء البلد نفسه.
أما الحالة الثالثة: وهو أن ينقلها إلى بلدة تقصر فيها الصلاة:
- فالمذهب المنع وأن ذلك لا يجوز وهذا مذهب جمهور العلماء والدليل ما تقدم من الأدلة السابقة فهي دليل على أنه لا يجوز له أن يصرفها في بلدة أخرى وأنها إنما تصرف في الموضع نفسه.
وظاهر كلام الحنابلة وغيرهم أن ذلك ممنوع مطلقاً للسلطان ونائبه وصاحب المال، فلا يجوز لأحد منهم أن ينقلها من بلدة إلى بلدة أخرى.
فظاهر قولهم أيضاً أنه وإن دعت المصلحة لهذا، كأن تنقل لطلاب علم في بلدة أخرى أو لشديدي حاجة أو لثغر من الثغور الإسلامية أو لهلكة في بلدة من البلاد الإسلامية أو نحو ذلك وأن هذا لا يجوز مطلقاً.(9/157)
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: جواز ذلك، واختاره طائفة من الحنابلة، وأنه إذا كانت ثمت مصلحة تقتضي نقلها من بلدة المال إلى بلدة أخرى لكون هذه البلدة الأخرى فيها طلاب علم أو فيها شديدو حاجة أو فيها مجاهدون هم على ثغر من الثغور الإسلامية، أو نحو ذلك من المصالح، فإذا ثبتت المصلحة ورجحت الحاجة فيجوز، وهذا القول هو الراجح الذي تقتضيه القواعد الشرعية من مراعاة المصالح وترجيح الأصلح على الصالح والأنفع على النافع وشديد الحاجة على المحتاج وهو أعظم نفعاً من أن يختص بها فقراء البلد مع كون الحاجة والمصلحة تقتضي نقلها إلى غيرهم.
ومما يستدل على هذا ما تقدم من أثر معاذ بن جبل من نقله صدقة أهل اليمن أو شيئاً منها إلى فقراء الصحابة في المدينة.
فعلى ذلك: النقل لا يجوز إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة فإنه يجوز.
قال: (فإن فعل أجزأت)
تقدم أنه لا يجوز له أن يخرجها من بلدة المال إلا لمصلحة راجحة فإن نقلها لغير مصلحة على الراجح – فإن ذلك لا يجوز ولكن هل تجزئ؟
قال المؤلف: (أجزأت) ؛ وذلك لأنها زكاة أعطيت مستحقاً لها وكونها تنقل إليه مع وجود من هو أحق منه، هذا يقتضي التحريم والإثم دون البطلان، فهو مستحق لها، فقد أخذها بحق، وهي زكاة مال صرفت إلى مستحق لها فأجزأت، ونقلها إليه من مستحقها الأصلي لا يبطلها بل تكون مجزئه ويثبت الإثم.
قال: (إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه)
فإذا كان في بلد لا فقراء فيه فقد اتفق أهل العلم على أنه يجوز له أن ينقلها إلى بلدة أخرى وذلك لعدم المزاحم الأحق، ففي المسألة السابقة هناك مزاحم أحق وهو صاحب البلدة الفقير، وأما هنا فإنه قد عدم فلا مزاحم أحق فيجوز حينئذ دفعها إلى بلدة أخرى، وهذا لا خلاف بين أهل العلم فيه.
قال: (فيفرقها في أقرب البلاد إليه)(9/158)
إذا وجبت عليه زكاة المال وكان البلد الذي هو فيه لا فقراء فيه فإنها تنقل كما تقدم، وحينئذ فيجب عليه أن يدفعها إلى أقرب البلاد إليه، فليس [له] أن ينقلها إلى بلدة بعيدة مع وجود بلدة قريبة يستحق أهلها دفع الزكاة.
قالوا: لأنهم أولى بها لقربهم وهذا التعليل ليس بتعليل قوي، والحنابلة ينقضونها في المسألة السابقة وهي جواز نقلها إلى بلدة لا تقصر فيها الصلاة فإنهم ينقلونها من الموضع الذي وجبت فيه الزكاة إلى موضع آخر لا تقصر فيه الصلاة ويرون جواز ذلك.
وهذه المسألة أولى بالجواز من المسألة السابقة، فينقلها إلى بلدة بعيدة مع وجود بلدة قريبة أولى من نقلها من موضع إلى موضع آخر يشتركان في عدم قصر الصلاة.
والأظهر هو جواز ذلك وأنه يجوز أن ينقلها إلى موضع بعيد مع وجود موضع قريب، وذلك لأن مستحقيها في الأصل هم فقراء البلد، فحيث عدموا جاز له أن يصرفها في أي موضع شاء، ولا دليل على إلزامه بموضع قريب دون موضع بعيد لكن لا شك أن الأولى هو دفعها إلى الموضع القريب وكونه أولى لا يعني ذلك وجوبه فليس هو أحق لكنه أولى بالدفع. والأفضل له أن ينقلها إلى الموضع القريب لأن أهل الموضع القريب أولى بمعروفه فالأقربون أولى بالمعروف.
قال: (فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده)
بعني بلد المال، فقوله: (في بلده) ضمير الغائب يعود إلى المال لا صاحب المال.
أي إن كان في بلد من البلاد وماله في بلد آخر فإنه يخرج زكاة المال في بلد المال؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بالمال فتدفع في موضعه، ولأن الفقراء متعلقون بها في موضعها فوجب أن تدفع لهم.
بخلاف صدقة الفطر فلتعلقها في البدن تدفع في الموضع الذي هو فيه لذا قال:
(وفطرته في بلد هو فيه)(9/159)
وإن كان ماله في موضع آخر، فلو كان من أهل هذه البلدة وسافر مثلاً إلى مكة ووافق يوم الفطر فيها فإنه يخرج زكاة الفطر في مكة وهكذا؛ وذلك لتعلقها بالبدن لا بالمال.
إذن: زكاة المال لتعلقها بالمال تدفع في الموضع الذي فيه المال، وأما صدقة الفطر فإنها تدفع في الموضع الذي هو فيه لتعلقها بالبدن.
قال: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل)
فيجوز له تعجيل زكاة المال، وذلك أن يخرجها قبل وقت وجوبها، أي يبقى عليه شهر ويمضي عليها الحول فيخرجها قبل شهر مثلاً أو أن يخرجها في أول السنة.
جمهور العلماء على جواز تعجيل الزكاة.
ومنعه المالكية؛ واحتجوا على المنع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) (1) قالوا: أي لا زكاة صحيحه.
وقالوا: لأن الشارع وقت لها ميقاتاً فلا يجوز تقديمها على ميقاتها كالصلاة، فكما أنه ليس له أن يصلي قبل زوال الشمس فليس له أن يدفع زكاة ماله قبل حلول الحول ومضيه.
وقال الجمهور: يجوز ذلك، واستدلوا: بما ثبت في أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب – والحديث حسن – أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في تعجيل زكاته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) (2) ، وهو عند أبي عبيد القاسم بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم: (تعجل صدقة العباس سنتين) (3) والحديث حسن كما تقدم.
قالوا: ولأن تأخيرها إلى حلول الحول ومضيه لمصلحة الغني لينمو ماله ويزداد، فإذا قدمها قبل وقتها فهو محض حقه، فإذا فعل هذا باختياره فإن هذا يجزئ عنه ويجوز له. وهذا القول هو الراجح.
والجواب عما استدل به المالكية:
__________
(1) أخرجه أبو داود وقد تقدم.
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (21) في تعجيل الزكاة (1624) ، والترمذي باب في تعجيل الزكاة حديث 678، وابن ماجه باب تعجيل الزكاة حديث 1795. سنن أبي داود [2 / 276] .(9/160)
أما ما استدلوا به مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) فتقدم أن الصحيح هو وقفه لا رفعه، ويجمع بين هذه الآثار الموقوفة وبين ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بأن مراد الصحابة: (لا زكاة واجبة) فلا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول.
وأما قولهم: أن العبادة لا تصح قبل ميقاتها كالصلاة.
فيجاب عنه: أن الميقات في الصلاة مجهول المعنى فلا يعقل لِمَ جعل الشارع زوال الشمس وقتاً لصلاة الظهر ولم جعل غروبها وقتاً لصلاة المغرب. وأما مضي الحول في الزكاة فإنه معلوم المعنى، فإن معناه توفير الوقت للغني ليتوفر ماله ويزداد وينمو فهو لمصلحة الغني فإذا قدمه فهو حق له قد تنازل عنه وهذا القول هو الراجح وهو مذهب الجمهور؛ لصحة الدليل الذي استدلوا به.
وهنا شرطان في جواز تعجيل الزكاة:(9/161)
الشرط الأول: وهو شرط متفق عليه: هو ملكية النصاب فلو كان عنده مثلاً ثلاثون شاة فلا يجوز له أن يعجل الزكاة فيها فيدفع شاة لاحتمال أن تكون بعد سنة أربعين شاة أو خمسين شاة؛ وذلك لأنه فعل الفعل قبل سببه، وسبب الزكاة هو ملك النصاب ولا يجزئ فعل الشيء قبل سببه كما لو أراد أن يحلف فكفر قبل أن يحلف فإنه لا يجزئه؛ لأن الحلف هو سبب الكفارة ويجزئه إذا حلف أن يكفر قبل الحنث لأن السبب موجود وهو الحلف، فهو فعل قبل سببه وهو خلاف ما أمر به الشارع وما لم يأمر به الشارع فهو مردود، وهنا كذلك فإذا لم يملك النصاب فليس له أن يعجل الزكاة. وملكية النصاب المشترطة هنا تشترط في الحول كله ليجزئ عنه عن زكاة المال، ومعنى هذا أنه لو ملك خمسين شاة فيجوز له أن يخرج شاة معجلة، فإن نقص هذه الشياه عن النصاب فأصبح لا يملك إلا خمساً وثلاثين شاة أثناء الحول فإن تلك الزكاة لا تجزئ وإنما يكون له صدقة من الصدقات وحينئذ إذا تم النصاب فبلغت أربعين فإنه يستأنف حولاً جديداً وتكون زكاته المتقدمة صدقة له؛ لزوال سبب الزكاة وهو ملكية النصاب وقد زال بنقصانها عن النصاب.
لكن إن كان النصاب بقدر ما عجل فإن هذا لا يؤثر، فلو أن رجلاً عنده أربعون شاة فعجل فيها شاة فبقيت عنده تسع وثلاثون شاة فهذا لا يؤثر؛ لأن المعجل بحكم الموجود في المال، فالواجب عليه أن يخرجه إذا حال الحول وحيث قدمه قبل ذلك فإن هذا المال المعجل يكون بحكم المال الموجود فلا يؤثر حينئذ.
وهل يشترط ملكية المال أم لا؟
بمعنى: رجل عنده ثلاثمئة شاة فالواجب عليه ثلاث شياه وهو يظن ظناً غالباً أن شياهه ستزيد على ثلاثمئة بحيث أنها لا يأتي عليها الحول إلا وقد وجب عليه أربع شياه فهل يجوز له أن يخرج أربع شياه، ثلاث شياه عن الثلاثمئة وهي ما يملكه الآن وشاة عما سيتولد من ماله أم ليس له ذلك؟(9/162)
المشهور عند الحنابلة: أنه ليس له ذلك؛ لأنه غير مالك للمال المستفاد هنا، فالمائة شاة غير مملوكة له.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك يجزئه؛ لوجود السبب في الجملة.
قالوا – تعليلاً لهذه الرواية -: كما يُضَم المال المستفاد إلى النصاب في الحولية، فيضم إليه أيضاً في جواز التعجيل. وهذا القول أظهر؛ لأن المال المستفاد تبعاً للنصاب في الحولية فيكون تبعاً له في جواز التعجيل.
الشرط الثاني: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (لحولين فأقل) أن يكون التعجيل حولين فأقل فله أن يعجل السنة والسنتين، وليس له أن يعجل ثلاث سنين أو أربع أو خمس.
- وعن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يعجل ثلاثة أعوام فأكثر. وهذا القول هو الأظهر؛ إذ لا فرق بين تعجيل السنتين أو الثلاث ولا بين الثلاث والأربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعجل صدقة العباس سنتين، وتقدم إن المعنى يدل على الجواز حيث أنه مالك للنصاب فجاز له أن يعجله قبل وقته ما دام أن ذلك باختياره، وأن التأخير إنما هو لمصلحته، وهذا المعنى ثابت في ثلاث سنين وثابت في أربع سنين وهكذا وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
إذن: الصحيح أنه لا يشترط للزكاة زمن محدد خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يقيد بسنتين.
مسألة:
إن عجل زكاة ماله ثم طرأ على المعجَّل له وهو الفقير مثلاً – طرأ عليه ما يجعله ليس أهلاً للزكاة لو أخرجت الزكاة في وقتها؟
فمثلاً زكاة ماله تجب في محرم فأخرجها في ذي الحجة وأعطاها من لم يصبح مستحقاً لها في محرم وهو وقتها وكان مستحقاً لها في ذي الحجة كأن يعطيها شخص فيموت أو يرتد أو يعطيها فقيراً فيغنى في وقت وجوبها الأصلي – فهل يجزئه ذلك أم لا؟(9/163)
- فالمشهور في المذهب أنه يجزئه؛ لأنه أخرج زكاة المال على وجه مأذون له فيه وهي زكاة مجزئة حينئذ، فلا دليل على إبطالها بعد ذلك، والفعل إذا صح فلا يبطل إلا بدليل، وهو مأذون له في ذلك وقد دفعها إلى مستحق لها حينئذ فالاعتبار في حالة الدفع.
مسألة:
إذا دفع الزكاة معجلاً لها ثم طرأ عليه ما يجعله ليس من أهل الزكاة دفعها عند وقت دفع الزكاة كأن يكون غنياً في أول السنة فيعجلها ثم يفتقر عند حلول الحول؟ فهل يرجع بالزكاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
لقول الأول: أنه ليس له أن يرجع لا إلى الفقير ولا إلى السعاة في زكاته، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة والقاضي؛ وذلك لأنه عجلها باختياره ورضاه ودفعت للفقير على وجه التمليك فكانت ملكاً له، فلا يجوز إخراجها من ملكيته إلا بدليل، وكونه يفتقر بعد ذلك هذا لا يعني إخراجها من ملكية الفقير إلى ملكيته هذا أحد الوجهين في مذهب أحمد.
القول الثاني: وهو الوجه الثاني في المذهب: أنه إن دفعها إلى الساعي فإنه يرجع مطلقاً سواء دفعت إلى الفقير وأخبر أنها زكاة معجلة أم لم يخبر. وأما إذا دفعها هو بنفسه إلى الفقير المستحق، فإنه لا يجوز له أن يرجع إلا أن يكون أخبره أنها زكاة معجلة فيجوز له الرجوع. ولا دليل على هذا القول وهو قول ضعيف، والراجح هو القول الأول.
قال: (ولا يستحب)
أي لا يستحب له أن يعجل بل المستحب له أن يخرج زكاته عند مضي الحول.
قالوا: لوجود الخلاف في هذه المسألة، فخروجاً من الخلاف لا يستحب التعجيل.
وتقدم أن الخروج من الخلاف ليس دليلاً على حكم ما من الأحكام الشرعية.(9/164)
والراجح: ما ذكره صاحب الفروع احتمالاً فقد قال: " ويتوجه احتمال أنه يتبع المصلحة " فإذا كانت المصلحة في التعجل فالمستحب هو التعجيل، كأن يصاب المسلمون بمجاعة في وقت من الأوقات ليس من أوقات زكوات الناس فحينئذ المستحب هو تعجيل الزكاة لدفع حاجة الناس وأما إن كانت المصلحة في التأخير وإعطائها في وقتها فهو المستحب.
فعلى ذلك الراجح: أنه يباح له التعجيل لحديث العباس المتقدم وإن كانت هناك مصلحة شرعية في التعجيل فهو مستحب مراعاة للمصلحة والحاجة، ومراعاة المصالح والحاجات من مقاصد الشريعة. وفي هذا الزمن الناس يخرجون زكوات أموالهم الباطنة لا سيما الباطنة – بأنفسهم – وفي أيام إخراجها يخرجونها على أوجه غير شرعية لعدم اهتمام منهم أو لضيق وقت أو نحو ذلك.
فإن عجلوا من أول السنة وهم يخرجون زكاة أموالهم حتى إذا تمت السنة يكونوا قد أخرجوا الزكاة كلها – هذا خير وأفضل.
فكون الغني – مثلاً – يتكفل عائلة من الفقراء فيعطيهم كل شهر من زكاة ماله فيغنيهم من الفقر حتى إذا تمت السنة حسب ما دفع لهم أو لغيرهم من مستحقي الزكاة ثم حسب ذلك زكاة له وكان قد نوى التعجيل فإن ذلك هو الأفضل أما إن كان هناك من يقوم بالزكاة ويصرفها في مصارفها الشرعية في وقتها فهذا هو الأصل وإن كان يباح له التعجيل مطلقاً وإن لم تقتضيه المصلحة.
مسألة:
من كان له مال مثلاً في الرياض ومال في حائل فهل يخرج الزكاة من الذي في حائل أم في الرياض؟
إن كان المالان يكملان نصاباً وكل واحد بمفرده ليس بنصاب فإنه يجوز له دفعها في أحد البلدين والأولى أن ينظر الأحوج والأحق بها.(9/165)
أما إذا كان المال نصاب في كلا البلدين فإنه يخرج عن كل بلد في بلدها، فمثلاً عنده مائة وخمس وعشرون شاة، أربعون منها في حائل، وخمس وثمانون في الرياض فالواجب عليه شاتان فيخرج شاة في الرياض وشاة في حائل عن الأربعين. (1)
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني عشر بعد المئتين
(يوم الأحد: 13 / 1 / 1416هـ)
باب
هذا الباب فيمن تجزئ الزكاة إن دفعت إليهم، وهم الأصناف الثمانية،
ولذا قال: (أهل الزكاة ثمانية)
وهم المذكرون في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله} (2) أي لا تحل الزكاة إلا لهؤلاء المحصورين وهم الأصناف الثمانية أي إنما الصدقات تحل.
ولذا اتفق العلماء على أن الزكاة لا يجوز ولا يجزئ أن تصرف في غير هذه الأصناف من أبواب البر والخير كبناء المساجد ووقف المصاحف وبناء القناطر، وإصلاح الطرق ونحو ذلك من أبواب الخير، وذلك لأن هذه الآية قد حصرت أهل الزكاة فلا يجوز أن تدفع لغيرهم.
واعلم أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لمن تحل لهم الزكاة وهم الأصناف الثمانية، فأي صنف منهم دفعت إليه أجزأت.
__________
(1) في أسفل المذكرة ما نصه: والتقديم على الشرط جائز دون السبب.
(2) سورة التوبة.(9/166)
ولا يظهر أن المراد في الآية هو الاستيعاب، خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من أن الآية فيها دليل على وجوب الاستيعاب، وهي أن تقسم الزكاة إلى ثمانية أسهم فيعطى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية نصيباً فالآية لا تدل على هذا بل ظاهرها أن الزكاة يحل دفعها وتجزئ إلى هذه الأصناف الثمانية، وليس فيها وجوب استيعاب الأصناف الثمانية ومما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث معاذ -: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) والفقراء صنف من هذه الأصناف الثمانية وقد أجزأ دفعها إليهم.
فالراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أي صنف دفعت إليه الزكاة أجزأت وأن استيعاب هذه الأصناف الثمانية ليس بشرط خلافاً لما ذهب إليه الشافعية.
قال: (الأول: الفقراء وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية)
فالصنف الأول الفقراء: قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء}
(وهم من لا يجدون شيئاً) أي لا يجد شيئاً يطعمه ولا مسكناً يؤيه ولا منكحاً ولا غير ذلك، أو له منكح وعيال وليس له ما ينفقه على نفسه وعياله مطلقاً، فليس له شيء مطلقاً ينفقه على نفسه أو من يعول.
(أو يجدون بعض الكفاية) كأن يجد ربع كفايته أو ثلثها.
وأما المسكين:
فقال: (والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها) .
فالفقير من لا يجد شيئاً البتة أو يجد أقل من النصف كالربع أو الثلث.
وأما المسكين فهو من لا يجد تمام كفايته وإن كان يجد أكثرها أو نصفها.
صورة هذا: إذا كان يكفيه في الشهر ألف ريال ينفقه على نفسه وعياله وعنده عقار أو دكان أو وظيفة لا يخرج له منه إلا أربعمئة ريال، فهنا لا يجد إلا أقل من نصف كفايته فهو فقير.
__________
(1) متفق عليه.(9/167)
أما إن كان يجد خمسمئة أو ستمئة أو ثمانمئة، فهو مسكين، وهذا باعتبار السنة، فلو أنه يحصل له في السنة ستة آلاف ولا يكفيه إلا اثنا عشر ألفاً، فإنه يُدفع له ستة آلاف لتتم كفايته، فإن الزكاة إنما تدفع له كفاية سنته وذلك لأنها لا تتكرر إلا في السنة فيعطى كفايته منها سنة.
وهنا المؤلف قد جعل الفقير أشد حاجة من المسكين وهو كما قال، ولذا قدمه الله عز وجل في الآية على المسكين فقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} والتقديم مشعر بأهمية إعطائه وأنه أحوج من المسكين وهما في الحقيقة صنف واحد يجمعهما عدم تمام الكفاية ولعل الداعي إلى جعلهما نوعين أو صنفين مع أنهما في الحقيقة صنف واحد تنبيهاً على أهمية الدفع إليهم فهو جنس واحد فذكرت أنواعه للتكثير لأهمية الدفع إليهم وأنهم أولى من غيرهم بالزكاة، ولذا خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حديث معاذ فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) .
إذن: من لا يجدون كفايتهم يدفع إليهم من الزكاة ما يتمها كل سنة مما يحتاجون إليه من مشرب وملبس ومنكح – فإن النكاح من الحاجات التي يحتاج إليها الفقير، فيعتبر له ذلك فيعطى ما يمكنه أن ينكح به.
واعلم أن الفقير والمسكين بضد الغني، فالغني لا يحل له أن يأخذ من الزكاة شيئاً والغني هو من يملك كفايته بالقوة أو بالفعل.
إذن: الغني قسمان:
من يملك كفايته بالفعل: أي عنده من الدراهم والدنانير أو عنده من المطاعم والمشارب والمساكن ما يكفيه فهو غني بالفعل.
غني بالقوة: وهو المكتسب فليس بيده درهم ولا دينار لكن عنده قدرة بدنية على التكسب فهو جلد يمكنه أن يتكسب وأن يعمل ويتحرف، فهو غني فليس له أن يأخذ من الزكاة شيئاً إلا ألا يتمكن من عمل مع البحث عنه أو تمكن منه لكنه لا يقوم بكفايته فإنه يأخذ من الزكاة.(9/168)
يدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: (أن رجلين أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة فقلب النظر فيهما فرآهما جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما - وهذا من التوبيخ والتقريع لهما أي إن شئتما أطعمتكما حراماً، ويحتمل أن يكون أرجع إليهم الأمر لاحتمال أنه لم يتهيأ لهما شيء من عمل - ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (1) .
وجمهور العلماء على أن المعتبر بالغنى هو ما تقدم وهو أحد الروايتين عن أحمد وأصحهما عنه، وهي اختيار أبي الخطاب والمجد من الحنابلة وأن الغني هو من يجد كفايته.
وقال أكثر الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الغني من يملك خمسين درهماً أو ما يساويها من الذهب أي خمسة دنانير، فمن ملكها فهو غني لا يحل له من الزكاة شيء.
وهذا القول لا وجه له في النظر، وإنما استدلوا بحديث رواه أبو داود من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس وعنده ما يغنيه كانت له خدوش أو كدوح يوم القيامة فقيل: يا رسول الله وما الغنى؟ فقال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب من يعطى من الصدقة وحد الغني. [2 / 285] .
(2) في سنن أبي داود [2 / 277] بلفظ: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: (خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) .(9/169)
لكن الحديث ضعيف ففيه حكيم بن جبير وهو ضعيف الحديث بل قد ترك الإمام شعبة حديثه لهذا الحديث [الـ]ـضعيف فهو منكر من مناكيره فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حظ لهذا القول من الرأي فهم يقولون أن من ملك خمسين درهماً فلا تحل له الزكاة وإن كانت هذه الخمسين لا تكفيه ولا تقوم بحاجته، بينما من ملك عشرة دراهم وهي فاضلة عن حاجته وهو غني غير محتاج فإن الزكاة تحل له، وهذا ضعيف كما تقدم.
- وقال الأحناف: من ملك نصاباً فهو غني، فلا يحل له أن يأخذ من الزكاة شيئاً.
واستدلوا: بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من تؤخذ منه غنياً وهي إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً فدل على أن مالك النصاب غني.
والجواب على هذا أن يقال: إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً؛ لأن الغالب فيه الغنى وإلا فقد يكون من يملك النصاب عنده من يعولهم كثرة وله حاجات كثيرة بحيث لا يكفيه ما عنده وهذا أمر ظاهر فإن من يملك أربعين شاة لا يكفيه ما يستفيده من هذه الأربعين شياه من القيام بنفسه وولده ونحو ذلك فيحتاج إلى أن يأخذ من الزكاة.
فإذن: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) وكون الزكاة تؤخذ من مالك النصاب هذا بناءً على الأغلب فإن الأغلب أن مالك النصاب غني، لكن من يكون مالكه فقيراً فيدخل في عموم قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فهو فقير أو مسكين فيدخل في عموم هذه الآية.
فعلى ذلك الراجح أن الغني هو من يملك كفايته وأن الفقير قد لا يملك كفايته وإن ملك نصاباً زكوياً.(9/170)
* واعلم أن من تفرغ للعبادة وهو قوي مكتسب فإنه لا يعطى من الزكاة شيئاً؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) وهو قوي مكتسب، والعبادة نفعها لازم به فلم يدفع له من الزكاة شيئاً بخلاف طالب العلم فإنه إن تفرغ للعلم وهو قوي مكتسب ولم يمكنه الجمع بين التكسب وطلب العلم فإن الزكاة تجوز له ويعطى منها لشراء كتب علم أو غيرها؛ وذلك لأنه قائم بمصلحة عامة من مصالح المسلمين والفرق بينه وبين العابد أن العابد قائم بنفع نفسه منفعة لازم له وأما طالب العلم فهو قائم بنفع متعد، فيجوز أن يأخذ منها طالب العلم وإن كان يمكنه التكسب إذا كان يشغله، وأما إن كان لا يشغله عن العلم ويمكنه الجمع بين العلم والتكسب فإنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه قوي مكتسب غني بقوته.
قال: (والثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفاظها)
وقسامها وكتبتها وغير ذلك، هؤلاء هم العاملون عليها، لقوله تعالى: {والعاملين عليها} فجباة الزكاة: الذين يجمعونها من الأغنياء.
وحفاظها: الذين يحفوظنها في المستودعات وغيرها.
وقسامها: الذين يصرفونها إلى أهلها، هؤلاء يدفع لهم من الزكاة أجرة وعُمالة على عملهم لقوله: {والعاملين عليها} فتدفع إليهم وإن كانوا أغنياء، فلا يشترط أن يكون العامل فقيراً.(9/171)
ودليل هذا: ما ثبت في مسلم عن ابن الساعدي قال: عملت على الصدقة لعمر فلما فرغت منها وأديتها إليه قال: خذ هذه العُمالة فقلت: إنما عملت لله فأجري على الله فقال: خذ ما أعطيتك فإني عملت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت مثل ما قلت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فخذ فكل وتصدق) (1) وهذا الحديث يدل على أنها تدفع للعامل وإن كان غنياً، ويفيده أيضاً إطلاق الآية في قوله: {والعاملين عليها}
وهل يشترط أن يكون العامل عليها مسلماً؟
قال جمهور العلماء باشتراطه واحتجوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} فدلت هذه الآية على أن الولاية لا يعطي للكافر والعمل على الزكاة ولاية ولذا قال تعالى: {والعاملين عليها} فأتى بلفظة " على " التي تفيد تضمن الولاية أي العاملون ولاية عليها وقد قال عمر: (لا تأمنوهم وقد خونهم الله) (2) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أصحابه: أن ذلك جائز فيجوز أن يتولاها الذمي؛ قالوا: لأنه يأخذها أجرة، لا زكاة.
والراجح هو القول الأول وأن ذلك لا يجوز لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} والعمل على الزكاة ولاية ولذا يتولاها في الغالب أشراف الناس فهو ولاية على الزكاة وتسليط على الغني لأخذ الزكاة فيها وصرف لها إلى المستحقين فهي ولاية، فلا يجوز أن يتولاها كافر لكن العمل على الزكاة في غير الولاية عليها كالرعاة لها والحاملين لها من منطقة إلى أخرى والحارس وغير ذلك يجوز أن يكونوا كفاراً؛ لأن هذه ليست من الولاية في شيء وإنما هي استئجار ويجوز أن يستأجر الكافر في مثل هذه الأعمال.
وهل يشترط أن يكون بالغاً؟
المشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم: اشتراط أن يكون بالغاً.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (37) إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف (1045) .(9/172)
ووجه صاحب الفروع: جواز استعمال المميز العاقل الأمين، وهو كما قال؛ لحصول المقصود به. فإنه إن كان أميناً عاملاً فإن المقصود يحصل به كحصوله بالبالغ ويشترط أن يكون أميناً ليحفظ هذه الأموال التي يجمعها وليصرفها إلى مستحقيها.
إذن: يشترط أن يكون مسلماً أميناً عاقلاً، وهل يشترط أن يكون بالغاً الظاهر أنه لا يشترط،
فإنه إذا توفرت فيه الأمانة والعقل فإن المقصود يحصل وإن لم يكن بالغاً وإن كان البالغ أولى.
* ولا يجوز أن يتولاها أحد من ذوي القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، يدل على هذا ما ثبت في مسلم أن بعض بني هاشم سأل النبي صلى الله عليه وسلم العمل على الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (1) لكن إن وضعهم الوالي جباة وأعطاهم من الفيء لا من الزكاة فإن هذا جائز، أما الزكاة فلا يعطون منها لهذا الحديث.
قال: (الرابع المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه)
رجل كافر ونرجو إذا أعطيناه شيئاً من المال أسلم وترك دينه، فإنه يعطى من الزكاة، فقد ثبت في مسند أحمد: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، فسأله رجل فأعطاه شاءً كثيراً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) .
قال: (أو كف شره)
رجل من أهل الشر كأن يكون من الكفار من يقطع الطرق على المسلمين أو من الدول الكبيرة من يخشى ضررها على المسلمين فيجوز أن تعطى من الزكاة، وذلك لكف الشر عن المسلمين فإنه كان لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه وهنا كذلك فإن هذا فيه حفظ للإسلام وأهله، فيجوز أن يعطي السيد من الكفار أو المسلمين ما يحفظ به شره.
فإذا خشي على قوم أو طائفة أن يمنعوا الزكاة فأعطى سيدهم مالاً لكي يجبرهم على إخراجها فلا بأس.
قال: (أو يرجى بعطيته قوة إيمانه)
__________
(1) تقدم.(9/173)
أي يرجى بإعطائه أن يحسن إسلامه، فكذلك وقد ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب: (بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذَهبة (1) ِ في تربتها – أي من اليمن – فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة: الأقرع بن حابس وعُيينة بن حصين وعلقمة بن عُلاثة وزيد الخير، فغضبت قريش وقالت: يعطي صناديد نجد ولا يعطينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما فعلت ذلك لأتألفهم) (2) فهذا فيه إعطاء السيد المطاع الذي يرجى تأليفه على الإسلام فهم كانوا ذوي إسلام
وإنما أعطوا من أجل أن يحسن إسلامهم، كذلك يجوز أن يعطي السيد المطاع لإسلام نظرائه في القبائل، فإنهم إذا رأوا ما يكرم به السيد المسلم كان ذلك أدعى لإسلامهم.
إذن: المؤلفة قلوبهم: هم من يرجى بإعطائهم نفع نفسه أو نفع غيره، وهم السادة المطاعون في أقوامهم أو من دونهم إذا وجدت هذه المصلحة.
فالسيد المطاع في قومه ونحوه سواء كان مسلماً أو كافراً إذا أعطى لجلب مصلحة أو دفع مضرة تأليفاً فإن ذلك جائز لا حرج فيه دل عليه عموم القرآن في قوله: {والمؤلفة قلوبهم} ودلت عليه السنة النبوية.
إذن: من يرجى إسلامه وهو كافر أو يخشى شره وضرره فإنه يعطى من الزكاة، أو هو مسلم فيعطى ليتقوى إيمانه بذلك أو ليكون ذلك سبباً في إسلام نظيره أو لئلا يمنع قومه من أداء الزكاة أو ليجبر غنيهم على دفعها ونحو ذلك من المصالح الشرعية فإن ذلك جائز.
__________
(1) في البخاري " بذُهيبة ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب (23) قول الله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} (7432) . وبرقم (3344) ، ومسلم (1064) .(9/174)
وإعطاء المؤلفة قلوبهم توقف في عهد عمر وعثمان وعلي لقوة الإسلام وظهوره. واحتيج إليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وتوقفه في عهد الخلفاء الثلاثة لا يعني تركه، وإنما لزوال الحاجة الداعية إليه، فإذا تكررت الحاجة الداعية فإن هذا الحكم يثبت فهؤلاء أصناف أربعة وهؤلاء تدفع إليهم الزكاة تمليكاً ولذا ثبتت لألفاظهم " لام " التمليك فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم …} قال: {وفي الرقاب} فالأصناف الأربعة الأخيرة لا تمتلكها فمتى زالت الحاجة الداعية إليها فإنها تعاد وترجع، أما هذه الأصناف الأربعة فإنهم يستحقونها وإن زال السبب.
فلو أن رجلاً فقيراً فدفعت إليه الزكاة ثم اغتنى بعد زمن يسير ولم يصبح محتاجاً إلى الزكاة، فإنه قد امتلكها بدفعها إليه قبل غناه، وكذلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها والمساكين يدفعها إليه قبل غناه وكذلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها والمساكين.
مسألة:
الفقير هل يعطى من الزكاة - هل يعطى - على حسب عرف الناس فيكون وسطاً بين الناس أم يعطى دون ذلك فيسكن السكن الرديء ويأكل الأكل الرديء ويشرب الشراب الرديء وهكذا؟
الظاهر أنه يعطى ما يكون به وسطاً؛ لأن النفقة في الأصل تكون بالمعروف فالنفقات الشرعية تكون بالمعروف كما في غير ما دليل يدل على ذلك، فما يكون في وسط الناس هو المعروف.
ولأن إعطائه الشيء الرديء قد تفوت به بعض مقاصد الشريعة من لجوئه إلى سرقة أو زنا أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة التي في الحقيقة الزكاة تدفع مثل هذه الأشياء كما أن حقيقة المواساة تثبت بهذا.
* تقدم أن الفقير يعطى زكاة سنة؛ لأنها لا تتكرر، فمثلاً يعطى رجل مئة ألف تكفيه سنة، أما إذا كانت تفيض على السنة فلا يجوز، وذلك لأن الكفاية محسوبة بالسنة فهو الآن فقير فإذا أعطيناه ما يكفيه أصبح غنياً، فإذا زدنا فكما لو أعطيناه وهو غني.(9/175)
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث عشر بعد المئتين
(يوم الاثنين: 14 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الخامس: الرقاب)
لقوله تعالى: {إنما الصدقات …} إلى قوله: {وفي الرقاب} .
قال: (وهم المكاتبون)
وتقدم تعريف المكاتب.
والكتابة: اتفاق بين السيد ورقيقه بتحرير الرقيق مقابل أقساط معلومة يدفعها الرقيق لسيده حتى يتم فك رقبته من العبودية لسيده، فالمكاتب يجوز أن يعان على مكاتبته من الزكاة، فيعطى من الزكاة ما يتم به فكاك رقبته.
ومثل ذلك أيضاً: الرقيق غير المكاتب لعموم قوله: {وفي الرقاب} فالرقيق غير المكاتب يجوز أن يفك أسره من عبودية سيده بأن تحرر رقبته بالأموال الزكوية. فيدخل في قوله:
{وفي الرقاب} الرقاب المكاتبة، والرقاب غير المكاتبة.
قال: (ويفك منها الأسير المسلم)
إذا وقع مسلم في الأسر تحت أيدي الكفار فيجوز أن يفدى من الزكاة، فيعطى الكفار من الزكاة ليفكوا أسره، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وفي الرقاب} ؛ لأنها رقبة مأسورة تحتاج إلى فك فدخلت في عموم قوله: {وفي الرقاب} .
وفي قوله: (المسلم) ما يدل على أن الرقبة إنما تفك إذا كانت مسلمة، وهذا ظاهر، فإن الزكاة إنما تختص بالمسلمين، إلا ما تقدم في المؤلفة قلوبهم فإنها إنما تدفع لكفار منهم لمصلحة المسلمين.
قال: (السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غنى أو لنفسه مع الفقر)
السادس: الغارم، وهو من عليه غُرم، والغرم هو الدين قال تعالى: {والغارمين}
وقسم المؤلف الغارم إلى قسمين:
القسم الأول: الغارم لإصلاح ذات البين.
القسم الثاني: الغارم لنفسه.(9/176)
أما الغارم لإصلاح ذات البين، فهو الرجل يصلح بين طائفتين من الناس فيتحمل من أجل هذا الإصلاح أموالاً في ذمته كأن يقع شجار بين قبيلتين بينهم ديات فيتحمل هذه الديات لتزول ما بينهم من العداوة فهو المصلح ذات البين، فإنه يعطى من الزكاة؛ لدخوله في عموم قوله: {والغارمين}
ولما ثبت في مسلم عن قبيصة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد تحملت حمالة فسألته فيها فقال صلى الله عليه وسلم: أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) (1)
قال: (ولو مع غنى)
فيعطى من الزكاة ولو كان غنياً، وقد تحملها ويمكنه أن يدفعها من ماله فإنه يعطى من الزكاة؛ وذلك لأن هذا الغرم لمصلحة عامة أشبه ما يعطى العامل الغني ومن يؤلفه قلبه، فإنه للمصلحة العامة يعطى مع الغنى فكذلك المصلح ذات البين ولإطلاق قوله تعالى: {والغارمين} فهي لفظة مطلقة غير مقيدة بالفقر أو بالعجز عن القضاء.
قال: (أو لنفسه)
عليه دين لمصلحة نفسه من مسكن أو منكح أو مطعم أو غير ذلك من الأمور المباحة له فإنه يعطى من الزكاة.
أما إن كانت أموراً محرمة فإن ذلك لا يجوز؛ لأن في ذلك تعاوناً على الإثم قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (2) وهذا تعاون على الإثم فلا يعطى من الزكاة.
لكن إن تاب فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم، وإنما منعنا من إعطائه لو لم يتب لما في ذلك من التعاون على الإثم أما وقد تاب إلى الله تعالى فإن هذا المعنى يزول.
ومثل ذلك إذا كانت الديون على أمور سرف فإن الزكاة لا تدفع إليه كمن يقترض لمفاخرة في منزل أو ملبس أو مشرب أو نحو ذلك من أمور التكاثر والترف فإنه لا يعان على ذلك لأنها أمور مرفوضة في الشريعة فلا يعان عليها لكن إن تاب إلى الله من ذلك أو ترك هذا فإنه يعاون لزوال المعنى المتقدم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (36) من تحل له المسألة (1044) .
(2) سورة المائدة.(9/177)
إذن: من عليه دين لنفسه لأمور مباحة أو لأمور محرمة، لكن تاب منها فإنه يُعان من الصدقة.
وهنا اشترط الفقر فقال: (أو لنفسه مع الفقر) :
وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اشتراط الفقر في المدين.
ولم أر دليلاً يدل عليه وفي اشتراطه نظر، فإن الآية القرآنية مطلقة وقد قال تعالى: {والغارمين} فظاهرها أن كل غارم يعطى من الزكاة وإن كان قادراً على التكسب والعمل وذلك؛ لأنه غارم والزكاة إنما أثبتت لهم – الزكاة - لمعنى الغرم لا لمعنى آخر سواه.
وإن كان مراد المؤلف هنا بقوله: مع الفقر، بأن يكون قادراً على دَيْنه من ماله، فهذا لا إشكال فيه، فلو كان عنده مال وهو قادر على قضاء الدين فلا يعطى من الزكاة بل يؤمر بقضاء الدين من ماله أما إن كان غنياً عنده ما يكفيه ويكفي عائلته لكن عليه ديون، فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم وقد قال تعالى: {والغارمين} .
إذن: الغارم لمصلحة نفسه يعطى من الزكاة مطلقاً سواء كان غنياً أو فقيراً ما دام غير قادر على قضاء دينه ولو كان عنده قدرة على التكسب والتحرف لقضاء الدين فإنه غارم فيعطى من الزكاة وإن كان عنده ما يكفيه ويكفي عائلته بالمعروف.
والغارم إنما يعطى من الزكاة لدفع غرمه لا للتمليك، فإنه لا يدفع له المال ليتملكه ويصرفه في أي مصرف شاء وإنما يدفع إليه ليقضي دينه منه.
ولذا فإن فضل منه شيء فيجب عليه رده. فلو أن رجلاً أعطي عشرة آلاف لقضاء دينه فذهب بها إلى الدائن فأعفاه عن بعضها فيجب عليه أن يرد هذا الباقي لأنه إنما دفع لمصلحة إزالة الغرم عنه، فليس له أن يتملكه وقد زال السبب الذي من أجله أعطي الزكاة.(9/178)
كذلك لا يشترط إذن الغارم في إعطاء الغريم حقه فلو أن رجلاً يطالب بمبلغ مالي لأحد من الناس فللقائم على مصلحة الزكاة – العامل عليها - ولصاحب المال أن يعطي الدائن مباشرة من غير إذن الغارم؛ وذلك لأن المقصود هو إزالة الغرم ولا يحتاج حينئذ إلى إذن الغارم؛ وذلك لأنه لا يمتلك هذا المال فلا يعطاه تمليكاً له وإنما يعطاه إزالة لغرمه وحيث كان كذلك فلصاحب المال أن يعطيه الغريم من غير إذن الغارم.
مسألة:
والصحيح من المذهب أن من أبرأ مدينه بنية الزكاة فإن ذلك لا يجزئه.
فلو أن رجلاً له على فلان عشرة آلاف فقال له: ذمتك بريئة من هذه العشرة آلاف ونوى ذلك زكاة، فإن ذلك لا يجزئه في الصحيح من المذهب.
- وقال بعض الحنابلة بالجواز، لأنها صدقة فإبراء ذمة المدين صدقة وحيث كانت صدقة فإن ذلك يجزئه عن زكاته بالنية.
والأظهر هو المذهب الأول؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه " أي أضاعه من حملته عليه أي لم يقم برعايته " فأردت أن اشتريه منه وظننت أنه يبيعه لي برخص فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تشتر ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يقيء فيعود في قيئه) (1) وهذا المعنى المستقبح يدل على تحريم العودة في الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك فقال: (لا تشتر) فدل على أن اشتراء الصدقة محرم، ودل هذا على ما نحن فيه من أن إعادة الصدقة إلى مصلحة نفسه ومنفعة نفسه فإن ذلك محرم وهو إذا أبرأ المدين من الدين فإنه قد أعاد الصدقة إلى نفسه فحرم ذلك. فالشارع نهى عن العود في الصدقة وفي إباحة ما تقدم، عودة في الصدقة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب (37) إذا حمل رجلا على فرس (2636) ، وراجع (1490) ، ومسلم (1620) .(9/179)
ومثل ذلك – أيضاً في الصحيح من المذهب، وخالف بعض الحنابلة أيضاً كالمخالفة في المسألة السابقة – في أنه لا يجوز أن له يعطي المدين له زكاته حيلة إلى العود.
فلو أن رجلاً يريد من رجل عشرة آلاف فليس له أن يدفعها له ويقول: هذه زكاة مالي حيلة لإعادتها إلى نفسه، سواء شرط هذا أو علم أن الغارم سيعيدها إليه، هذا أمر محرم.
فإن المسألة السابقة محرمة وإذا شرط ذلك فإنه محرم وإذا أبرأه فإن ذلك محرم والحيلة إلى المحرم محرم، أما لو دفعها إليه فإن ذلك جائز كأن يراه محتاجاً إلى الصدقة فأعطاه الزكاة فإن ذلك جائز لا حرج فيه.
إذن: لا يحل له أن يبرأ ذمة المدين ولا أن يدفع إليه الزكاة حيلة لإعادتها لمنفعة نفسه، وفي هذا – كما تقدم – مصلحة كبيرة حفظاً للزكاة من عبث أصحاب الأموال لتبرئة ذمم المعسرين وغيرهم الذين قد تسقط عنهم الحقوق بالإعفاء أو غيره فتذهب زكوات كثيرة لنفع أصحاب الأموال.
مسألة:
هل يجوز أن تدفع الزكاة للغارم الميت أم هي مختصة بالغارم الحي؟
فلو أن رجلاً توفى وعليه دين فهل يجوز قضاء دين من الزكاة أم هو مختص بالحي؟
قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب الحنابلة:
1- القول الأول: أن ذلك لا يجوز وهو مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن الزكاة حينئذ قد دفعت إلى الغريم لا إلى الغارم، وقد قال تعالى: {والغارمين} وعندما ندفعها إلى الدائن فقد دفعناها إلى الغريم ولم ندفعها إلى الغارم.
2- وقال المالكية، وهو قول في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام: أن ذلك جائز؛ لعموم قوله تعالى: {والغارمين} فيدخل في عمومها الغارم الميت.
قالوا: وأما تعليلكم فهو ضعيف فإن المقصود هو دفع الغرم سواء دفع المال إلى الغارم أو إلى الغريم، ولذا أجزنا – كما تقدم – دفعها إلى الغريم مباشرة بغير إذن الغارم، لأن دفعها إلى الغارم ليس بمقصود، بل المقصود هو إبراء ذمته من الدين سواء دفع هذا إلى الغريم أو الغارم.(9/180)
فعلى ذلك الراجح مذهب المالكية وهو قول في المذهب واختيار شيخ الإسلام أن الغارم الميت يجوز أن يبرأ ذمته من دينه بالزكاة.
قال: (السابع: في سبيل الله)
لقوله تعالى: {وفي سبيل الله}
قال: (وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم)
أي لا يعطون رواتب من الديوان أي من بيت المال أي من الفيء.
فإذا كان يعطى من الفيء فإنه لا يعطي من الزكاة أما إن لم يكن يعطى من الفيء أو كان يعطى من الديوان ما لا يكفيه فإنه حينئذ يعطى من الزكاة. يعطى – المجاهد – ما يكفيه لغزوته ذهاباً وإياباً وما يحتاج إليه من أدوات الحرب ومراكبه وما يحتاج إليه من الطعام وغيره، لقوله تعالى: {وفي سبيل الله} يعني الجهاد هذا ولو كان غنياً، وذلك لما تقدم من التعليل السابق فإنه إنما يعطى للمصلحة العامة، ولأن الله أطلق فقال: {وفي سبيل الله} ولم يقيده بالفقراء.
ويعطى من يريد الجهاد في سبيل الله ما يكفيه لغزوته تلك وليس له أن يوفر من ذلك شيئاً، فإذا بقى معه شيء من المال فاض عن غزوته فإنه يجب عليه أن يخرجه زكاة أو أن يعيده إلى مصلحة الزكاة. - وأدخل الحنابلة الحج والعمرة الفرض، فقالوا: يجوز أن يأخذ الحاج والمعتمر من الزكاة ما يحج به ويعتمر.
- وفي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد: في فرض أو نفل، وهو ظاهر إطلاق بعض الحنابلة فيأخذ للحج والعمرة سواء كان فرضاً أو نفلاً.(9/181)
قالوا: ولما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأم معقل، وكانت لم تحج واعتذرت بأنه ليس لها ما تركبه وأن زوجها قد أوصى بحمله في سبيل الله فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فهلا حججتي منه فإن الحج في سبيل الله) (1) ، وبما صح عن ابن عمر – كما في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد صحيح أنه قال: (أما إن الحج في سبيل الله) (2) فدل على دخول الحج والعمرة في حكمه – في عموم قوله تعالى: {وفي سبيل الله} .
- واختار الموفق وهو مذهب جمهور العلماء: أن الحاج والمعتمر لا يعطي شيئاً من الزكاة وإن كان الحج والعمرة فرضاً؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان مع الفقر فإن الله قال: {من استطاع إليه سبيلاً} فهما لا يجبان عليه؛ لأنه فقير.
والأقوى ما ذهب إليه الحنابلة لقوة ما استدلوا به من دخولها في سبيل الله وإن كان فيما ذكره جمهور العلماء قوة على أن الجهاد في سبيل الله الكفائي وهو سنة غير فرض يعطى الغازي ما يكفيه لغزوته وإن كان ذلك مستحباً لا واجباً، لكن يظهر الفرق بينهما بأن الجهاد لمصلحة عامة ومصلحة متعدية، وأما الحج والعمرة فهو لمصلحة خاصة أو مصلحة قاصرة على صاحبها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب (80) العمرة (1989) .(9/182)
ويدخل في سبيل الله طلب العلم، فيعطى طالب العلم الزكاة ما يكفيه لمؤنة نفسه، وما يكفيه لكتب العلم وغيرها مما يحتاج إليه في تعلمه ورحلته وغير ذلك، فهذا جائز لأن العلم في سبيل الله، فهو كالجهاد بل هو نوع من أنواع الجهاد وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (1) والعلم هو سبب الجهاد باللسان فلا قيام للجهاد باللسان إلا بالعلم وقد قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} (2) فالكتاب والميزان هو العلم والحديد هو أداة الجهاد في سبيل الله باليد.
فالعلم نصرة لله والجهاد في سبيله، وهو الجهاد الذي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر عمره بمكة فقد أقام ثلاث عشرة سنة يجاهد بالعلم والقرآن.
* وألحق الشيخ محمد بن إبراهيم، وأفتى به المجمع الفقهي على أن الدعوة إلى الله عز وجل ومصالحها داخلة في هذا. وهو قول قوي؛ لأن الدعوة جهاد في سبيل الله فهي جهاد باللسان كما تقدم، فيجوز أن يعطى الدعاة المتفرغون للدعوة أن يعطوا من الزكاة.
قال: (الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به)
أي المنقطع به سفره لقوله تعالى: {وابن السبيل} أي ابن الطريق. وهو كما قال المؤلف: (المسافر المنقطع به سفره) .
قال: (دون المنشئ للسفر من بلده)
فالمنشئ للسفر من بلده ليس ابن سبيل، فلو أن رجلاً في بلده وبين أهله وعشيرته فليس ابن سبيل، وذلك لأنه [ليس] في سبيل، فليس في طريق.
لكن ابن السبيل هو من انقطع به في طريقه خارجاً عن بلده فإنه يُعطى من الزكاة وإن كان غنياً أي إن كان غنياً في بلده ما دام محتاجاً إلى الزكاة في سفره وهذا إذا كان السفر مباحاً.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في نيل الأوطار.(9/183)
أما إذا كان السفر محرماً إلا أن يضطر إلى ذلك دفعاً للضرورة، أما إن أمكنه أن يقترض فإنه لا يعطى من الزكاة لما في ذلك من إعانته على المحرم إلا أن يظهر فيه التوبة فإنه يعطى.
أما من كان في سفر مباح فإنه يعطى من الزكاة وإن أمكنه الاقتراض في هذه البلدة فإنه يعطى من الزكاة كما هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة: {وابن السبيل} ظاهره وإن كان قادراً على الاقتراض فإن في طلب الاقتراض كلفة أو منة فلا يلزم به ويعطى من الزكاة.
قال: (فيعطى ما يوصله إلى بلده)
فيعطى المال الذي يحتاج إليه في طريقه من مركب، ومطعم ومشرب وغير ذلك مما يحتاج إليه فإنه يعطاه من الزكاة حتى يرجع إلى بلده.
كما أنه لو كان قاصداً بلداً من بلده فانقطع في الطريق بينهما فإنه يعطى ما يكفيه للذهاب إلى البلدة التي هو قاصد لها وما يكفيه للرجوع منها إلى بلده لأنه ابن سبيل فيعطى ما يكفيه حتى يرجع إلى بلده حيث ماله هناك.
فإن فضل منه شيء فيجب عليه الرد لأنه لا يعطاه تمليكاً له وإنما لزوال الحاجة التي هي سبب لإعطائه فمتى ما أن قضت الحاجة، وتوفر معه شيء فلا يجوز له أن يمسكه لنفسه بل يجب عليه أن يرده.
قال: (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم)
وهذا ظاهر فإن الرجل الذي يعول عائلة لا يعطى ما يكفيه وحده بل يعطى ما يكفيه وما يكفي من يعول؛ لأنه كما أنّا نقصد دفع حاجته فكذلك نقصد دفع حاجة من يعول فيعطى لزوجته ولأولاده، لأن المقصود هو دفع حاجة الفقراء وهم فقراء، وهو وإن كان عائلاً لهم فهو عاجز عن القيام بالنفقة عليهم فيعطى هو من النفقة ما يكفيه وما يكفي من يعول.
قال: (ويجوز صرفها إلى صنف واحد)
تقدم البحث في هذا في أول هذا الباب.
قال: (ويسن إلى أقاربه الذي لا تلزمه مؤنتهم)(9/184)
فيسن له أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه؛ وذلك لأن إعطاء القريب الزكاة صدقة وصلة، وأما إعطاؤها للأجنبي فهي صدقة فحسب ولذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - – فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح -: (الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي القرابة اثنتان صدقة وصلة) (1) .
وأما تقييده بقوله: (لا تلزم مؤنتهم) فيأتي هذا وأنه من تلزمه مؤنتهم لا يجوز أن يعطيهم من الزكاة شيئاً بل يجب عليه أن ينفق عليهم من غير الزكاة. أما إن كان لا يلزمه مؤنتهم فالأفضل دفع الزكاة لهم ولذا إن أخر زكاة ماله لإعطائها قريب وكان التأخير يسير فهو جائز له كما تقدم.
فإن إعطاء القريب أفضل من إعطاء البعيد؛ لما في ذلك من الصلة المأمور بها وهي أيضاً صدقة، فتفضل على الصدقة على البعيد بكونها صلة. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الرابع عشر بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 15 / 1 / 1416 هـ)
فصل
(ولا تدفع إلى هاشمي)
الهاشمي: هو نسبة إلى هاشم بن عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - فالهاشميون هو بنو هاشم بن عبد المطلب القرشي فالزكاة لا تدفع إلى هاشمي فمن ثبت نسبه إلى بني هاشم ذكراً كان أو أنثى فلا تحل له الزكاة.
ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض بني هاشم: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (2) فالصدقة لا تنبغي لآل محمد، وهم بنو هاشم وهذا باتفاق العلماء، وأن الهاشميين لا تحل لهم الصدقة.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في نيل الأوطار وغيره، ولم أجده في أبي داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (1072) . وانظر صْ 50.(9/185)
وظاهر كلام الفقهاء أنها لا تحل لهم مطلقاً سواء أعطوا من الخمس أو لا، فإن لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم لهم حق في الفيء فلهم خمس الخمس فظاهر كلام الفقهاء أن الزكاة لا تحل لهم وإن لم يعطوا نصيبهم من الخمس.
واختار شيخ الإسلام وهو وجه عند بعض الشافعية واختاره بعض الحنابلة: أن الصدقة تدفع إليهم إن لم يعطوا من الخمس لحاجتهم إلى ذلك.
وفي هذا نظر، فإن الحديث المتقدم عام وأن الصدقة لا تحل لهم مطلقاً وكونهم يمنعون من حقهم من الخمس لا يجعل ما حرم عليهم حلالاً، فإن الصدقة محرمة عليهم لا تحل لهم وكونهم يمنعون من الخمس لا يعني ذلك أن يباح لهم أخذ الزكاة.
وموالي بني هاشم ليس لهم في الخمس شيء ومع ذلك فإن الصدقة لا تحل لهم بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعلى ذلك الأظهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الصدقة محرمة عليهم وإن لم يعطوا من الخمس شيئاً.
وظاهر كلام المؤلف أيضاً وهو ظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل لهم وإن كانت من بعضهم، فلا تحل صدقة الهاشمي للهاشمي، فليس للهاشمي أن يدفع زكاته إلى هاشمي وليس للهاشمي أن يقبلها خلافاً لشيخ الإسلام، فإنه رأى جواز ذلك لهم، وفي ذلك نظر، فإن الحديث عام، وكما أن الصدقة أوساخ للناس فهي أوساخ لأموال بني هاشم.
وأما ما رواه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله العباس فقال: (هل تحل صدقة بعضنا لبعض) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) (1) فالحديث إسناده لا يصح.
فعلى ذلك الظاهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الزكاة لا تحل لبني هاشم أعطوا من الخمس أم لم يعطوا ولا تحل لهم أيضاً وإن كانت من بني هاشم.(9/186)
أما صدقة التطوع فإنها تحل لهم وحكى صاحب الفروع ذلك إجماعاً، وذلك لأن العلة الثابتة في صدقة المال الواجبة ليست ثابتة في صدقته التطوعية فإن صدقة التطوع ليست من أوساخ الناس بدليل أن من تصدق ولم يزك فإن ماله لا يتطهر، فهي وإن كانت مطهرة لصاحبها من الإثم لكنها ليست بوسخ المال هذا هو مذهب جماهير العلماء وحكاه صاحب الفروع إجماعاً.
إلا ما قاله الشوكاني من أن صدقة التطوع محرمة.. (1) أيضاً؛ وذلك لأنها من أوساخ الناس أيضاً.
وفي هذا نظر فإن صدقة التطوع ليست بأوساخ الناس كما تقدم بدليل أنها لا تطهر المال حتى تخرج زكاته.
فالصحيح مذهب جماهير العلماء من أن صدقة التطوع تحل لهم وهو الذي تقتضيه المصلحة فإنهم قد يمنعون من الخمس وعندما يمنعون من الصدقة التطوعية مع منعهم من زكاة المال لا شك أنه يلحقهم ذلك حرجاً عظيماً وقد أتت الشريعة بنفي الحرج ورفعه.
قال: (أو مطلبي)
المطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف أخي هاشم بن عبد مناف، فلعبد مناف: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.
فلا تحل الزكاة لبني هاشم ولا تحل أيضاً لبني أخيه المطلب أما بنو عبد شمس وبنو نوفل فإنها تحل لهم اتفاقاً – هذا ما ذكره المؤلف وهو مذهب الشافعي.
__________
(1) كلمة غير واضحة.(9/187)
واستدلوا: بما ثبت في مسلم: أن جبير بن مطعم – وهو من بني نوفل ابن عبد مناف قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان " وهو من بني عبد شمس ابن عبد مناف " إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله إنك قد أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة) (1) أي بمنزلة واحدة منك فجبير من بني نوفل بن عبد مناف وعثمان من بني عبد شمس فهم بمنزلة واحدة من بني المطلب أي تخصيصك لبني هاشم هذا لا غرابة فيه فأنت من بني هاشم، لكن إعطاءك لبني المطلب ونحن وهم بمنزلة واحدة منك هذا أوجد عندنا شيئاً من الاستغراب فنحن نطالب بذلك لما في ذلك من الشرف والمنزلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد) وذلك لأن بني المطلب كانت لهم نصرة عظيمة لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، فإنهم قد نصروهم في الشعب وغيره.
بخلاف بني عمهم من عبد شمس ونوفل فإنهم قد خذلوهم في الشعب وفي غيره ولذا لهذه النصرة العظيمة راعى النبي صلى الله عليه وسلم حق بني المطلب فأعطاهم من الخمس الذي هو لذي القربى قالوا: فكما لبني المطلب في الخمس فليس لهم نصيب من الزكاة فلا تحل لهم الزكاة.
وقال جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام: أن بني المطلب تحل لهم الزكاة.
واستدل بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على إعطائها للفقير والمسكين وغيرهم ممن تقدم ذكرهم من الأصناف وبنو المطلب يدخلون في هذه العمومات ولا دليل على استثنائهم فقد صحت الأدلة باستثناء آله وهم بنو هاشم ولم يصح دليل على استثناء بني المطلب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب (17) ومن الديل على أن الخمس للإمام.. (3140) . ولا أظنه في مسلم.(9/188)
قالوا: وأما قوله: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد) فإن هذا في الخمس لمقتضى النصرة التي قاموا بها لبني هاشم أما الزكاة فإنه لا معنى لاختصاصهم عن بني عبد شمس وبني نوفل، هذا هو القول الراجح وأن بني المطلب تحل لهم الزكاة.
قال: (ومواليهما)
أي موالي بني هاشم وموالي بني المطلب
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح عن أبي رافع – وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من موالي بني هاشم قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة رجلاً من بني مخزوم) وهذا يدل على أن سائر فروع قريش من بني مخزوم وغيرهم تحل لهم الزكاة فإنه قد جعله عاملاً على الصدقة فقال: (اصحبني حتى تنال منها) أي من الزكاة على العمل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: لا، مولى القوم من أنفسهم وإنها لا تحل لنا الصدقة) (1) فدل على أن مولى القوم - أي عتيقهم - أنه من أنفسهم فمولى بني هاشم من أنفسهم فلا تحل لهم الزكاة.
وقد تقدم أن ذوي قرابته لا يحل لهم العمل على الصدقة بأجرة، أما إذا كان من الفيء فإن ذلك لا بأس به.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (29) الصدقة على بني هاشم (1650) . والنسائي في الزكاة حديث 2613، والترمذي في الزكاة حديث 657 وقال: حسن صحيح، سنن أبي داود [2 / 299] .(9/189)
واعلم أن ما تقدم من منع بني هاشم ومواليهم من الصدقة إنما هو ما كان لمصلحة أنفسهم أما ما يدفع إليهم للمصلحة العامة كأن يكون أحدهم غازياً أو مصلحاً ذات البين أو مؤلفاً قلبه فإنه يعطى من الزكاة إذ لا فرق بين بني هاشم وغيرهم في هذا، وهو إنما يعطي حينئذ للمصلحة العامة، والمصلحة العامة المقصود إيجادها سواء كانت لهاشمي أو غيره فالمنع المتقدم حيث كان لمصلحة نفسه في عمل على الصدقة أو كان فقيراً أو مسكيناً أو غارماً لمصلحة نفسه، وأما إن كان غارماً لمصلحة غيره كالمصلح ذات البين أو كان مؤلفاً قلبه على الإسلام أو كان في سبيل الله غازياً فإن الصدقة تدفع إليه.
قال: (ولا إلى فقيرة تحت غني منفق)
إذا كانت الزوجة فقيرة لا مال لها لكن زوجها غني ينفق عليها، فلا تحل لها الزكاة لاستغنائها بزوجها وكذلك الولد الذي لا مال له ولا عمل ووالده ينفق عليه فلا تحل له الزكاة لاستغنائه بنفقة والده وهكذا.
فكل من ينفق عليه فلا تحل له الزكاة لوجود من ينفق عليه واستغنائه بذلك.
قال: (ولا إلى فرعه وأصله)
لا تحل الزكاة إلى الفروع، والفروع هم أولاده وإن نزلوا أي أولاده الذكور وأولاده الإناث، وأولاد الذكور وأولاد الإناث وإن نزلوا، الوارث منهم وغير الوارث فبنت البنت لا تحل لها منه الزكاة وإن كانت غير وارثة وغير منفق عليها.
وكذلك الأصول، والأصول هم الوالدان وإن علوا، أمه وأبوها وأمها وإن علوا، وأبوه وأبو أبيه وأم أبيه وهكذا وإن علوا الوارث منهم وغير الوارث.
وقد أجمع العلماء على أن الولد والوالد والزوجة لا تحل لهم الزكاة، حكى إجماعهم ابن المنذر وغيره.
وظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل للأصول ولا الفروع مطلقاً، وجبت النفقة عليهم للإرث أم لم تجب وسواء كان قادراً على النفقة عليهم أو غير قادر عليها.(9/190)
فمثلاً: رجل عنده بنات ابنته لا تحل لهن الزكاة منه وإن كان غير قادر على الإنفاق عليهن كأن يكون عنده من يعول.
وظاهر كلامهم أيضاً: أنه ولو لم تجب عليه النفقة فإنه لا يجب أن ينفق على بنات بناته أو أبنائهن لعدم الإرث كما لا يجب على أبي أمه لعدم الإرث، هذا ظاهر كلامهم.
- واختار شيخ الإسلام: أن الزكاة حينئذ تحل، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال رحمه الله: إن كان غير قادر على الإنفاق على أصوله وفروعه كأن يكون عنده أبوه وأمه وهو غير قادر على الإنفاق عليهم مع وجود أولاده وزوجته ومن ينفق عليهم.
أو كان قادراً على الإنفاق لكن النفقة لا تجب عليه في الأصل وإنما أوجبت عليه باضطرارهم إلى ذلك فأولاد البنت لا تجب عليهم النفقة في الأصل، لكن إذا اضطروا إلى نفقة جدهم من أمهم فإن الراجح أنه يلزم بالإنفاق لكن النفقة في الأصل لا تجب فاختار شيخ الإسلام أنه حينئذ يحل له دفع الزكاة لهم قال: لأن المانع من إجزاء الزكاة دفعاً لهم هو خوف تهربه من النفقة الواجبة عليه وهنا لا نفقة فحيث كان غير قادر على الإنفاق فلا نفقة، فإن لم يعطهم من الزكاة بقوا لا منفق عليهم.
وإذا كان لا يجب عليه الإنفاق عليهم فكذلك فإنه حينئذ يصرف الصدقة إلى البعيد وهؤلاء أقرب إليه ولا يجب عليه أن ينفق عليهم.
وهذا القول الراجح وأن من عنده أحد من أصوله أو فروعه وهو غير قادر على الإنفاق عليه – فعنده رأس مال تجب فيه الزكاة لكن ما يأتيه من هذا المال لا يكفي إنفاقه على نفسه وولده وزوجه ووالديه، فيحتاج حينئذ إلى أن يدفع إلى والديه الزكاة وينفق عليهم منها فإن ذلك جائز.
وكذلك [من] لا يجب عليه أن ينفق عليهم في الأصل كغير الورثة من أصوله وفروعه. هذا هو الراجح؛ لأن المانع من صحة دفع الزكاة لهم هو وجوب الإنفاق وهنا لا تجب النفقة فصحت الزكاة حينئذ ولدخولهم في عمومات الأدلة الشرعية، ولا مانع يمنع من صحة الزكاة لهم.(9/191)
أما الحواشي: فاتفق الفقهاء على أن ذوي الأرحام وهم غير الورثة – يصح أن يعطوا من الزكاة كبنت الأخ وبنت الأخت أو العمة أو الخالة يصح أن يعطوا من الزكاة لأنهم غير وارثين فلا تجب عليهم النفقة حينئذ. هذا في حكم الحواشي من غير الورثة.
أما الحواشي من الورثة كالأخ وابن الأخ والعم فاختلف أهل العلم في صحة دفع الزكاة لهم على قولين:
القول الأول: أن الزكاة لا تصح لهم، وهو المذهب وهو قول الشافعية.
قالوا: لأن النفقة تجب عليهم فإذا أعطاهم من الزكاة كان ذلك تهرباً من النفقة الواجبة عليهم.
2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الزكاة يجوز دفعها إليهم، وذلك لأن النفقة لا تجب لهم أصلاً فلا يجب على الأخ أن ينفق على أخيه أو ابن أخيه ولا على عمه فلا تجب النفقة عليهم أصلاً وإنما يوجب عند الضرورة فإذا اضطروا إلى نفقته أوجبناها في الضرورة وهنا - وهم يمكن أن يأخذوا من الزكاة – فلا ضرورة فالنفقة لا تجب عليهم أصلاً إلا إذا وقعت الضرورة والحاجة الماسة إلى ذلك وحيث كانوا يمكن أن يأخذوا من الزكاة فلا ضرورة، وهي الرواية الظاهرة عن الإمام أحمد كما قال ذلك الموفق. وهذا القول هو الراجح وهو مقتضى كلام شيخ الإسلام المتقدم.
واعلم أن ما تقدم في النفقة التي يحتاج إليها من طعام وشراب ونحو ذلك.
أما الدين:
فإن أصح قولي العلماء في هذه المسألة وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام وهو اختيار شيخ الإسلام أن الدين يجوز أن يقضيه من زكاته وإن كان يجب أن ينفق.(9/192)
فالوالد يجوز أن يقضي دين ولده، وذلك لأن قضاء الدين ليس من النفقة الواجبة على المنفق، فالواجب عليه أن ينفق عليه ما يحتاج إليه في طعامه وشرابه وسكناه ونحو ذلك وفي ملبسه ومنكحه وغير ذلك، وأما قضاء الدين فلا يدخل في باب النفقات ولذا صرح فقهاء الحنابلة بأنه يجوز أن يعطي الوالد ولده مالاً يغزو به أو غير ذلك من المصالح العامة وذلك لأنها لا تدخل في النفقة والعلة المتقدمة أن الزكاة إنما تمنع تهرباً من النفقة وهنا لا نفقة واجبة.
فعلى ذلك الراجح أنه يجوز للوالد أن يقضي دين ولده أو دين زوجته أو غير ذلك ممن ينفق عليهم؛ لأن ذلك غير داخل في النفقة الواجبة لكن إذا كان الدين بسبب إهماله في النفقة، كأن يكون على الابن دين في نكاحه أو في مسكنه وهو محتاج إلى نفقة والده، أو يكون على الزوجة دين بسبب عدم قيام الزوج بالنفقة فإن قضاء دينها من الزكاة لا يجوز؛ لأنه يجب عليه أن ينفق وهذا داخل في النفقة لكن الدين الخارج عن النفقة هو الذي يجوز أن يقضيه من الزكاة.
قال: (ولا إلى عبد)
لاستغنائه بنفقة سيده، فإن السيد يجب أن ينفق على عبده.
قال: (وزوج)
هذا أحد القولين في المذهب، وأن الزوجة لا يحل لها أن تعطي زوجها زكاتها سواء كانت من حلي على القول بالزكاة به أو غير ذلك.(9/193)
والقول الثاني في المذهب: أن الزكاة يجوز أن يعطي الزوج من الزوجة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الزوجة لا تنفق على زوجها فلا معنى لمنعها من إعطائه زكاتها والزوج داخل في العمومات التي فيها أصناف من تحل له الزكاة كما تقدم فهو إن كان فقيراً أو مسكيناً فهو داخل في عموم قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وقد ثبت في البخاري عن أبي سعيد: أن زينب امرأة ابن مسعود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (يا رسول الله إنك قد أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال: صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) (1) .
فلها أن تتصدق على زوجها ولها أن تتصدق على ولدها؛ لأنها لا يجب عليها أن تنفق على ولدها وإنما يجب ذلك على الوالد.
قال: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزئه)
رجل أخذ زكاة ماله فأعطاها هاشمياً أو غنياً أو نحو ذلك وهو يعتقد ذلك ويعلم أن هذا ليس من أهل الزكاة فلا يجزئه وإن ثبت له بعد ذلك خطأ ظنه.
فمثلاً: أعطاها غنياً وهو يعلم أنه غني فبان فقيراً فلا يجزئه هذه الزكاة؛ وذلك لأن من شرط الزكاة النية وهنا النية غير جازمة لأنه أعطاها من يعتقده ليس أهلاً وحينئذ لم ينوها زكاة؛ لأن الزكاة إنما تدفع للأصناف الثمانية كما لو صلى صلاة بظن أن الوقت لم يدخل فتبين دخوله فإنها لا تجزئه كما تقدم، فكذلك هنا.
(أو بالعكس)
رجل أعطى زكاته من يظن أنه من أهل الزكاة، كأن يرى رجل فظن أنه ليس من بني هاشم أو نحو ذلك فأعطاه الزكاة ثم بان بعد ذلك على خلاف هذا، فإنها لا تجزئه.
قالوا: لأن الذمة لا تبرأ إلا بدفعها إلى أهلها وقد ثبت أن هذا ليس من أهلها.
وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ عنه قياساً على الغني.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (44) الزكاة على الأقارب (1462) .(9/194)
فالمسألة هنا – فيما سوى الغني – كأن يدفعها إلى هاشمي أو إلى عبد أو إلى وارث يظنه بخلاف ذلك ممن هم من أهل الزكاة ثم تبين له أنه هاشمي أو عبد أو وارث – فهنا قالوا: لا يجزئ.
وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ قياساً على الغني.
فالغني – عند الحنابلة - إن أعطى من الزكاة ظناً أنه فقير فثبت غناه، فإن الزكاة تجزئ.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (1) قالوا: فهذا يدل على أنها إن أعطيت الغني بظن أنه فقير فإنها تجزئ وإن تبين أنه غني بعد ذلك.
وقال بعض الحنابلة: بل لا يجزئ أيضاً إن دفعت إلى الغني ظناً أنه فقير وتبين غناه، لأنها لم تدفع إلى أهلها فلم تبرأ بها الذمة. (2)
إذن: المشهور عند الحنابلة: أنها إذا دفعت إلى من ليس أهلاً لها سوى الغني فإنها لا تجزئ، وإن دفعت إلى الغني فإنها تجزئ.
قالوا: وإنما فرقنا بين الغني وغيره لخفاء الغني وظهور غيره، فإن النسب ظاهر والعبودية ظاهرة، والإرث ظاهر وأما الغنى فإنه يخفى غالباً.
وقال بعض الحنابلة: بل لا تجزئ مطلقاً.
وقال بعضهم بل تجزئ مطلقاً.
فعندنا ثلاثة أقوال للحنابلة.
والذي يظهر: أنه إن اجتهد وتحرى فأعطاها من يظنه أهلاً بعد التحري والاجتهاد فإنها تجزئ؛ لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (4) وقال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (5) وقد قام بوسعه وطاقته وقدرته فسقط عنه الواجب فبرأت بها الذمة – وهذا مطلقاً في الغني وغيره.
__________
(1) تقدم.
(2) في أعلى المذكرة ما نصه: " وظاهر هذا التعليل أنه إذا دفعها إلى رجل غناه ظاهر، فإنها لا تجزئه ولا تبرأ بها ذمته "
(4) تقدم.
(5) سورة البقرة.(9/195)
أما إذا لم يتحر ولم يجتهد فإن ذمته لا تبرأ لأنه مأمور بإعطائها أهلها، وهو لم يعطهم إياه، فلا تجزئه إلا أن يعطيها أهلها وحينئذ فيجب عليه الرجوع أو أن يخرجها من ماله.
فإذن يجب عليه الرجوع على من أعطاها إياه؛ لأنها لا تحل له ويحكم له القاضي بذلك لأنه أخذ مال بغير حق فيحل له الرجوع بل حتى إذا دفعها إلى من ليس بمستحق وثبت أنه غير مستحق فمع القول بالإبراء – حيث اجتهد وتحرى – فإن الرجوع واجب لإعطائها أهلها فهي محض حق الفقير وقد صرفت إلى الغني فوجب حينئذ الرجوع.
قال: (وصدقة التطوع مستحبة)
إجماعاً والأدلة من القرآن والسنة ظاهرة في هذا.
قال: (وفي رمضان أفضل)
لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) (1) ويتوجه أن تكون الصدقة في عشر ذي الحجة أفضل لصريح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر) (2) والصدقة من ذلك.
قال: (وأوقات الحاجات أفضل)
فعندما يصاب الناس بحاجة وفقر ومسغبة فإن الصدقة حينئذ أفضل، فهي أفضل منها في الأزمنة الفاضلة وذلك لتعلقها بالمحتاج نفسه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب (5) رقم (6) وفي مواضع أخرى، ومسلم (2308) .
(2) قال في نيل الأوطار: " رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ". أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب (11) فضل العمل في أيام التشريق (969) بلفظ: " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه.. " الفتح [2 / 530] .(9/196)
فإن الصدقة في الأزمنة الفاضلة متعلقة بالزمان، وأما في أوقات الحاجات فهي متعلقة بالمحتاج نفسه فكانت أفضل، فالصدقة في أوقات الحاجات أفضل من الصدقة في رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي غير ذلك وقد قال تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} (1) أي في حاجة وفقر.
قال: (وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمون)
فيسن له أن يتصدق بما يفضل عن حاجته هو وحاجة من يمون، لما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول) (2) أي أفضل الصدقة ما كان زائداً على حاجتك وحاجة من تمون، وقد تقدم أن الغنى هو الكفاية، فما فضل عن الكفاية فهو خير الصدقة.
أما أن يتصدق بما يلحقه أو يلحق من يمون ضرراً فإن ذلك محرم.
ولذا قال المؤلف: (ويأثم بما ينقصها)
أي بما ينقص المؤنة، أي مؤنته ومؤنة من ينفق عليهم.
فإذا تصدق وأضر بنفسه وبمن ينفق عليهم فإن ذلك محرم لما ثبت في المسند وسنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) (4) .
لكن يستثنى من ذلك: من كان من أهل اليقين والصبر وكانت أيضاً عائلته على هذه الصفة، فإنه وإن أنفق ماله كله مع رجاء رزق الله - عز وجل - ورجاء الخير فإن ذلك لا حرج فيه، فقد ثبت في مسند أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد صحيح: أن أبا بكر: (أتى بماله كله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ما أبقيت لأهلك فقال: أبقيت لهم الله ورسوله) (5) فهذا يدل على جواز ذلك.
__________
(1) سورة البلد.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (18) لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426) .
(3) أخرجه أبو داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة.
(4) انظر صْ 85.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (40) في الرخصة في ذلك (1678) .(9/197)
واعلم أن السنة في الصدقة الإسرار قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (1) .
وقد ثبت في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) (2) .
وقد ثبتت الأدلة بفضيلة الإسرار بالقرآن أي بين الناس وأن المصلي يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن كما ثبت هذا في مسند أحمد وغيره بإسناد صحيح (3) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) (4) .
لكن إن اقتضت المصلحة الجهر فهو مستحب كأن يأمن على نفسه من الرياء ويأمن على الفقير من ظهور حاجته إلى الناس ونحو ذلك ويكون في ذلك مصلحة الاقتداء ونحوه فإن ذلك يكون أفضل.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح – فيمن تصدق أمام الناس وكان قدوة في ذلك: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) (5) .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الزكاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ: حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. (6)
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (315) في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1333) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (36) من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (660) وانظر في الزكاة باب (13) ، ومسلم (1031) بقلب في لفظ الشمال.
(5) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (20) الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.. (1017) بلفظ: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن..) .
(6) مسألة:
حكم زكاة الأسهم؟
إن كانت محرمة فلا زكاة فيها، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وإن كانت مباحة ففيها أقوال:
القول الأول: إن كانت أسهم في مصانع وعقارات ونحوها التي لا يقصد منها البيع والشراء، فليس في رأس مالها زكاة، بل في الربح متى حال عليه الحول وبلغ النصاب.
وإن كانت في شركات تجارية، ففي رأس المال مضافاً إليه الربح الزكاة.
القول الثاني: أن في جميعها الزكاة؛ لأنها عروض تجارة.
القول الثالث: إن كان يقصد بهذه الأسهم أن يبيع ويشتري، ففيها الزكاة. وإن كان يقصد ـم يضعها ويحصل على الربح ولا يريد بيعها وشراءها فلا زكاة إلا في الربح بالشروط السابقة.
ملاحظة:
إن لم يستخدم المال حتى حال عليه الحول فالذي ينبغي القول فيه: وجوب الزكاة، كما تفعل بعض الشركات تحبس المال لمدة سنة أو أكثر ….
المراجع:
فتاوى الزكاة لابن جبرين.
فقه الزكاة للقرضاوي.
شريط " الزكاة " لمحمد بن صالح المنجد.
كيف تؤدي زكاة أموالك للطيار.(9/198)
كتاب الصيام
الصيام لغة:الإمساك، وفيه قوله تعالى عن مريم:
(إني نذرت للرحمن صوما) ً أي إمساكاً عن الكلام.
اصطلاحاً:التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس وقد دل على فرضيته الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب:فقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
أما السنة:فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس، وذكر منها:صيام رمضان) وأما الإجماع:فقد أجمعت الأمة على فرضيته، وعلى تكفير جاحده، وقد أجمع أهل السير على أن الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة – وعليه فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام تسع رمضانات.
واعلم أنه لا بأس أن يقول:جاء رمضان أو دخل رمضان خلافاً لمن منع ذلك من أهل العلم.
وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله تعالى) فالحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه أبو مَعْشر وهو ضعيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق ذلك، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة …) الحديث.
ورمضان مشتق من الرمَضَ، رمض يرمض رمضاً وهو شدة الحر وإنما سمي رمضان بهذا الاسم لأنه وافق شدة حر فسمي بذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب صوم رمضان برؤية هلاله)
فإذا رؤي الهلال ففرض على المسلمين أن يصوموا، وهي مسألة إجماعية، وقد قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، وقال صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) متفق عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين)(10/1)
الثلاثين، يحتمل أن تكون من شعبان، وتحتمل أن تكون من رمضان، فيقال:ليلة الثلاثين من باب الظن وإلا فيحتمل أن تكون من رمضان. فإذا كانت ليلة الثلاثين ولم يروا الهلال وليس هناك مانع يمنع الرؤية من سحاب أو غبار، فإنهم يصبحون مفطرين وهذا باتفاق أهل العلم.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يكون يصوم صوماً فليصمه) وقد قال الحنابلة وهو – أي يوم الثلاثين – يوم الشك الذي قال فيه عمار ابن ياسر – كما رواه أهل السنن والبخاري معلق والحديث إسناده صحيح -: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) – هذا المذهب، والراجح أن يوم الشك يوم الثلاثين إذا كان في ليلته غيم أو قتر -.
إذن يحرم صيام يوم الشك ويكره له أن يتقدمه بيوم.
وهل يكره له أن يصوم إذا انتصف شعبان؟
روى أحمد والترمذي وأبو داود – والحديث أعله أحمد وابن مهدي – عن أبي هريرة قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) لكن هذا الحديث مع أن سنده صحيح، فقد أعله أنكره الإمام أحمد وابن مهدي، بل حكى ابن حجر أن جمهور العلماء على تضعيفه. وقد أنكره لمخالفته ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة – وسيأتي ذكره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً) وجمع الموفق ابن قدامه بين الحديثين، بأن حديث النهي فيه نهي من لم يصم النصف الأول من شعبان أن يصوم نصفه الثاني درءاً لذريعة إرادة الإلحاق بالفريضة احتياطاً وهو جمع قوي، لكن ينكر عليه قوله: (فأمسكوا عن الصيام) فظاهره الإمساك مطلقاً سواء صام نصفه الأول أو لا. فعلى ذلك ما قاله أهل العلم من نكارة هذا الحديث أولى.
قال: (وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه)
" غيم " أي سحاب.
" قتر " أي غبار.(10/2)
فإذا كانت ليلة الثلاثين وكان في السماء غيم أو قتر يمنع من رؤية الهلال، فيحتمل أن يكون الهلال موجوداً، فظاهر المذهب يجب صومه احتياطاً للعبادة.
واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) أي ضيقوا عليه، كما قال تعالى: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يضيق، ومعلوم أن الشهر إما ثلاثون، وإما تسع وعشرون، فالتضييق عليه بأن يجعل تسعاً وعشرين: وهو قول راوي الحديث، ففي أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر: (أنه كان إذا حال دون قنطره " أي قنطر الهلال " سحاب أو قتر أصبح صائماً)
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصيام لا يجب، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وابن عقيل وأبو الخطاب وصاحب الفروع وصاحب الإنصاف وغيرهم قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية مسلم: (فاقدروا له ثلاثين) أي احسبوا له ثلاثين وفي رواية للبخاري: (فأكملوا العدة ثلاثين) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ونحوه في مسلم وفي أبي داود وابن خزيمة بإسناد صحيح عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره " أي يتكلف في معرفة دخول الشهر من ذلك " فيصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام) وأما ما استدل به أهل القول الأول أما قوله: (فاقدروا له) فإنها قد فسرتها الرواية الأخرى في الصحيح: (فاقدروا له ثلاثين) وغيرها فثبت أن المراد احسبوا له، وليس المراد ضيقوا عليه.(10/3)
وأما فعل ابن عمر فإن هذا رأي من خالف روايته، والعبرة بما روى لا بما رأى، والأحاديث ظاهرة في ذلك، بل هو يوم الشك الذي قال فيه عمار: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن حقيقة الشك ثابتة فيه فلا يدري أهو من رمضان أم من غيره. والراجح هو عدم وجوب صومه – كما هو مذهب الجمهور لكن هل يباح صومه أم يستحب أم يكره أم يحرم؟
أربعة أقوال للحنابلة القائلين بعدم الوجوب:
الاستحباب وكان قول شيخ الإسلام وقد حكى صاحب الاختيارات عنه أنه قال بعد ذلك.
إلى القول بعدم الاستحباب.
3 - 4- الثالث والرابع:النهي وهو قول أبي الخطاب وابن عقيل وهل النهي للكراهية أم للتحريم؟
والراجح من هذه الأقوال الأربعة تحريم ذلك لحديث عمار.
وظاهر المذهب – كما تقدم – أنه يجب صومه، فإذا ثبت أنه من رمضان فإنه يجزئ، لأنهم صاموه بنية الاحتياط لكن الراجح تحريم صومه – كما تقدم -.
قال: (وإن رؤى نهاراً فهو لليلة المقبلة)
فإذا رأى الناس الهلال نهاراً فإنه يكون لليلة المقبلة سواء كان ذلك – أي الرؤية – قبل الزوال أم بعده أما إذا كانت الرؤية بعد الزوال فلا نزاع بين العلماء في ذلك وأنه يكون لليلة المقبلة وأما إذا كانت رويته قبل الزوال، فعن الإمام أحمد أنه يكون لليلة الماضية، فعليه فإذا كان ذلك فإنهم يمسكون عن الطعام والشراب ويكون اليوم الأول من رمضان ومرجع ذلك إلى أهل الخبرة بالأهلة قال: (وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم)
فإذا رؤى الهلال في بلدة من البلاد الإسلامية لزم جميع البلاد الصيام. هذا هو المشهور في مذهب أحمد ومذهب مالك.
واستدلوا:بقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) .(10/4)
قالوا:هذا خطاب عام للأمة، فظاهر ذلك العموم لسائر البلدان ولما ثبت في الترمذي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) . قالوا:فقوله الصوم " يدل على أن الأمة يجتمعون على الصيام فصومهم واحد وفطرهم واحد، وإجماعهم واحد. وذهب إسحاق وغيره إلى أن لكل بلدة من البلاد رؤيتها.
واستدلوا:بما ثبت في مسلم عن كُريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: (فقدمت الشام على معاوية فقضيت حاجتي واستهل رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في أخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال:متى رأيتم الهلال فقلت:ليلة الجمعة، قال:أن رأيته قلت:نعم ورآه الناس فصاموا وصام معاوية، قال:لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه قال:قلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وأصحابه فقال: (لا هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم)
وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن لكل بلد رؤيتها. إلا إذا تحدث المطالع " أي مطالع القمر " فإذا المطالع فإنه إذا رؤى في بلدة لزم الأخر الصيام كما يقع هذا في البلدان المتقاربة كالبصرة والكوفة قالوا ولأنه متى رؤى في بلدة فيعلم أنه يرى في البلدة الأخرى لإيجاد المطلع، وقد منع من رؤيته غيم أو قتر أو إهمال " ونحو ذلك " وإلا فالأصل أنه يرى وهذا قول ظاهر، فإن اتخاذ المطالع معترف به في هذه المسألة عند أهل المعرفة فإنهم يقطعون أنه إذا روى في البلد فإنه يرى في البلدة الأخرى التي توافقها في مطلعها. وأما إذا اختلفت المطالع فلكل بلد رؤيتها لحديث كريب عن ابن عباس.(10/5)
وهذا القول أصح من القول الذي قبله وتبقى الخلاف بينه وبين القول الأول، فيجتب عن حديث: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) فأن المقصود بذلك أهل البلد ومن وافقهم في الرؤية أما إذا كانت المطالع مختلفة والهلال يرى في بلد الليلة ولا يرى في الأخرى إلا والحي - فهذا بذلك، فلا يحكم عليها بحكم واحد.
وأما حديث: (صومكم يوم تصومون) فإنه إنما يراد به أهل البلد الواحد لئلا يختلفوا واختلافهم يؤدي إلى اختلاف قلوبهم فيكون بعضهم صائم وبعضهم مفطر. وهذه المسألة مسألة اجتهاد – فإذا قال الحاكم فيها بأي قول وجب على أهل ذلك البلد أن يعملوا بحكمه.
فإذن الظاهر:أن لكل بلد رؤيتها إلا إذا اتحدت المطالع.
قال: (ويصام برؤية عدل ولو أنثى)
لأنه خبر ديني، والقاعدة في الأخبار الدينية أنها يقبل فيها خبر الواحد كالأحاديث النبوية ولا يشترط أن يكون المخبر ذكراً أو حراً بل لو كان أنثى أو عبد قبل لأنه خبر ديني فإذا أخبر عدل أنه رأى الهلال فإنه يحكم بقوله ويصوم الناس ولو كان المخبر أنثى لأن ذلك خبر ديني بخلاف باب الشهادة فإنها تتعلق بأموال الناس أما الخبر الديني فالتهمة منه بعيدة ومما يدل على ذلك ما روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) وذهب الأحناف والمالكية إلى
أنه لا يقبل إلا برؤية رجلين واستدلوا:بما روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) إلى أن قال: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا)
قالوا:فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الفطر والصوم برؤيته من اثنين، فلا يثبت دخول الشهر إلا برؤيتهما.
وهذا القول أضعف من الذي قبله، وذلك لثبوت الحديث المتقدم وهو المنطوق وما في هذا الحديث مفهوم، فإن مفهومه أنه لم يكن شاهدين فلا يثبت، والمنطوق مقدم على المفهوم.(10/6)
إذن:هلال رمضان يثبت برؤية واحد أما هلال شوال وهو الذي يثبت برؤيته خروج رمضان فقد اتفقوا العلماء – سوى أبي ثور – إلى أنه لابد لثبوته من رؤية اثنين، فلا يثبت برؤية الواحد.
واستدلوا:بحديث النسائي: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا) قالوا:حديث ابن عمر إنما يخصص دخول رمضان فيبقى خروجه على اشتراط الشاهدين ومع قوة ما ذهب إليه الجمهور – وإن ما ذهب – إليه أبو ثور قول قوي، فإن القاعدة هي قبول خبر الواحد في الأخبار الدينية مطلقاً وأما قوله: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا) فإنه يقال فيه ما قيل في المسألة السابقة، والذي يخرج هذه المسألة هو القياس الصحيح والدخول في قواعد الشريعة من أن خبر الواحد مقبول في الأخبار الدينية، فهنا بخبر الواحد يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تقطع به الأيدي وتراق به الدماء – وهو خبر واحد وواجب علينا قبوله فأولى من ذلك هذا.
فعلى ذلك يكون قوله: (فإن شهد شاهدان) على وجه الكمال والاستحباب ومع ذلك فإن العمل على ما ذهب إليه جمهور العلماء احتياطاً للصوم فلا يخرج عنه إلا بشهادة اثنين وإلا فما ذهب إليه أبو ثور وقال إليه الشوكاني في نيل الأوطار قول قوي والله اعلم.
قال: (فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، لم يفطروا)(10/7)
إذا ثبت رمضان برؤية رجل واحد، فيتم ثلاثين يوماً فهل يستقبل الغد على أنه فطر أم يتراءى الهلال فإن روى وإلا كان رمضان (لم يفطروا) لأنه يحتمل أن يكون قد أخطأ وهذا القول فيه نظر. والقول الثاني في مذهب الحنابلة أن ذلك يصح المسألة تبنى على المسألة السابقة، وهي مسألة خروجه بشاهدين، فإنه لا يخرج عندهم إلا شاهدين قالوا:فكذلك هنا فاتنا إن أخرجناه، كان ذلك بناء على شهادته لكن هذا النظر إنما يضعف لكوننا اعتمدنا على هذه الشهادة وبنينا عليها حكماً شرعياً فقويت فلا تكن شهادته هنا كشهادته ابتداءً، فشهادته ابتداءً ليست مساوية للشهادة التي اعتمدنا عليها متضمناً ثلاثين يوماً على ما تقدم من مذهب أبي ثور من قبول خبر الواحد فالأظهر ما ذهب إليه بعض الحنابلة أنه إذا اعتمد على شهادة رجل واحد في رمضان متضمناً
ثلاثين يوماً فأننا ننتهي ونخرج من رمضان ويكون الغد هو أول يوم من شوال اعتماداً على رؤيته السابقة على أن الأصل في الشهر أن يكون تسعاً وعشرين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر تسع وعشرون) متفق عليه، لأن هذه الشهادة قد قويت باعتمادنا عليها وبنائنا الحكم عليها فكانت أقوى من الشهادة الاثنين أنه فيما لو شهد ليلة الثلاثين أنه رأى الهلال وجوب، فإن هذه الشهادة الظنية أقوى، على ما تقدم من مذهب أبي ثور من قبول خبر الواحد وهنا على أقل تقدير هو خبر واحد – فالقول الثاني هو الراجح.
قال: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا)(10/8)
هذا يبنى على القول المتقدم في المذهب:وهو أنه إذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم فإنهم يصومون ذلك اليوم احتياطاً فإذا كان ذلك، ويتم لهم ثلاثون يوماً في هذا اليوم الذي ابتدؤا به للاحتياط فإنهم لا يفطرون في يوم الثلاثين من رمضان، فإنه يحتمل أن يكون الغد من رمضان، وهذا ظاهر، فإنهم إنما دخلوا فيه احتياطاً وإلا فيحتمل أن يكون آخر شعبان وحينئذ – يكون رمضان ثلاثون يوماً من دون هذا اليوم، وهذا إنما دخلوا فيه احتياطاً على أن القول الراجح هو عدم جواز صوم ذلك اليوم – أي الثلاثين من شعبان.
قال: (ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله …. صام)
كأن يخبر رجل القاضي أنه رأى الهلال وهو صادق في قوله لكن رد قوله لمعنى أما أنه لم يثبت شهادته وكان في بلدة يشترط فيها شاهدان وقد رأى الهلال فيجب عليه أن يصوم اعتماداً على رؤيته، فإن رمضان ثابت بالرؤية. وذهب شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد:إلى أنه لا يصوم وذلك للحديث المتقدم: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) وقد قال: (صوموا لرؤيته) فهذا الشهر ينبغي أن يجتمع عليه المسلمون لا أن ينفرد بعضهم عن بعض فيه.
وهذا القول هو القول الراجح، فذلك لاجتماع الناس على الصوم لكن يستثنى من ذلك ما استثناه شيخ الإسلام وهو ما إذا كان في موضع ليس فيه غيره كأن يكون في بادية، فإذا رأى الهلال فإنه يصوم لأن هذا المعنى المانع من الصيام المتقدم وهو اجتماع الناس ليس بمتوفر فيه فهو منفرد عن عامة الناس، ويحتمل أن يكون قد رأوه فصاموا.
قال: (أو رأى هلال شوال صام) .
هذه عكس المسألة السابقة كأن يرى رجل هلال شوال ويرد قوله فيجب عليه أن يصوم وهاتان المسألتين – في الأصل – حكمهما واحد لكنهم فرقوا بينها احتياطاً للصوم. وهذا ظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون) .(10/9)
إذن من رأى الهلال وحده فإنه يوافق الناس صياماً أو قطراً إلا أن يكون في موضع منفرداً فإنه يعتمد على رؤيته لعدم وجود المانع المتقدم. ونعود إلى المسألة الأولى وهي ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب الصيام ليوم الثلاثين الذي تكون ليلة فيها غيم وقتر وهو يوم الشك الذي تقدم تحريمه.
هنا عند الحنابلة مسائل فيه:
المسألة الأولى:هم اعتبروه في الصيام احتياطاً لكن لا يبنى عليه أحكام أخرى. فلو أن هناك أصل لدين مثلاً أو تعليق بطلاق أو انتهاء عدة أو انتهاء إيلاء فلا ترتبط بهذا اليوم فلو أن رجلاً عليه دين مؤجل إلى أول رمضان، أو علق طلاقه بأول رمضان أو لها عدة تنتهي بأول رمضان، فإن هذه الأحكام لا تبنى على هذا اليوم لأنه إنما يصام عندهم من باب الاحتياط فلا يترتب عليه الأحكام المتقدم وهذا وما ذكروه لا يحتاج إليه في القول الراجح لأنا لا يعتبر هذا اليوم من رمضان لا احتياطاً ولا حقيقة.
المسألة الثانية:هل يصلي التراويح في تلك الليلة أم لا؟
من أصح الوجهين في مذهب أحمد يشرع صلاة التراويح فيها وذلك احتياطاً لقيام رمضان.
واعلم أن الإمام أحمد لم ينص على هذه المسألة – أي وجوب صوم هذا اليوم – بل لا يصح عنه شيء من ذلك بل الصحيح عنه هو عدم إيجاب صيام هذا اليوم وحينئذ فكما قال صاحب الفروع: (فيتوجه عدم نسبته هذا القول إلى الإمام أحمد) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يلزم الصوم لكل مسلم)(10/10)
فلا يصح الصوم من كافر وهو لازم لكل مسلم إجماعاً وأما الكافر فلا يصح منه بالإجماع، وذلك لأن الكافر لا نية له، والأعمال بالنيات والتعبد الذي هو أصل النية لا يصح منه، والأعمال كلها غير مقبولة منه، كما قال تعالى: {وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله} الآية فأن أسلم الكافر في أثناء رمضان، فيجب أن يمسك ويتم الصوم اتفاقاً لأن الشهر ثابت وقد شهده فوجب عليه أن يصوم ولكن هل يجب عليه قضاء هذا اليوم؟
قولان لأهل العلم:
المشهور في المذهب أنه يجب عليه القضاء.
واستدلوا:بما روى أبو داود قال وأتت أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صمتم يومكم هذا فقالوا:لا، فقال:أتموا بقية يومكم واقضوه) .
وذهب الأحناف وهو اختيار شيخ الإسلام لا يجب القضاء
واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أرسل غداة عاشوراء إلى القرى التي حول المدينة من أصبح صائماً فليتم صومه ومن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه)
قالوا:فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقضاء مع الإمساك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قالوا:والقاعدة الشرعية أن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها وهي قاعدة مطردة في مسائل الديانة كلها وهذا القول هو الراجح وأما ما استدل به الحنابلة فإسناده ضعيف، وقد ضعفه عبد الحق الأشبيلي وغيره. ومثل ذلك المسألة التي سيأتي ذكرها – وهي مسألة ثبوت البينة نهاراً قال: (مكلف) .
المكلف هو البالغ العاقل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم:الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق) ولكن هل يأمر الولي من تحت ولايته بالصيام إذا بلغ سبع سنين ويضرب إذا بلغ عشر سنين؟
الأظهر:نعم إن كان قادراً على ذلك، فإن الأمر بالصلاة تبنيه على الأمر بعدها من شعائر الإسلام لأن المقصود هو تعويده على العبادة وهذا يثبت في الصلاة وغيرها فيستحب للولي ذلك.(10/11)
قال: (قادر) ، فالعاجز عن القيام أو المريض مرضاً يرجى برؤه أو لا يرجى برؤه فهؤلاء لا يجب عليهم الصوم، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} ؛ ولأن الشرائع لا تجيب إلا مع القدرة عليها، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذن:يجب الصوم على كل مسلم مكلف قادر.
قال: (وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من كان في أثنائه أهلاً لوجوبه) .
كأن يثبت للناس ضحى أن البارحة قد رؤى الهلال فاليوم من رمضان كأنهم يمسكون لأن الشهر قد ثبت فيجب الإمساك وهذا مما لا نزاع فيه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموه فصوموا) وقد رأوه شهدوا الشهر فوجب عليهم الإمساك ولكن هل يجب القضاء بذلك اليوم أم لا؟ ومثله الكافر إذا سلم والمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ فهؤلاء يجب عليهم الإمساك لكن هل يجب لقضاء أم لا؟
هذه المسائل كلها لها حكم واحد، وهو نفس الحكم الذي تقدم البحث فيه في أول الدرس، وأن الراجح عدم وجوب القضاء لأن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها وثبوت مخاطبة المكلف بها، وهو في اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ولذلك فإن يوم عاشوراء كان يوماً مفترضاً صومه قبل رمضان وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أصبح صائماً أن يتم صومه ومن أصبح مفطراً أن يصوم بقية اليوم ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ثم أنه لا فائدة للمكلف من أمره بالإمساك حيث لا يجزئ عنه ثم يؤمر مرة أخرى بالقضاء، والتكاليف لا يجب تكرارها إلا ما دل الشرع عليه، لذا نهى الشارع عن أن يصلي الصلاة مرتين كما في حديث ابن عمر وغيره.
قال: (وكذا حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً ومريض برئ) .(10/12)
فالحائض والنفساء إذا طهرتا أثناء نهار رمضان، أو مريض برئ وشفي أثناء النهار وكان مفطراً فيجب على هؤلاء كلهم القضاء إجماعاً، والأدلة دالة على ذلك، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه. وقال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخرى} أي فأفطر فعدة من أيام أخر ولكن هل يجب الإمساك عليهم أم لا؟
المذهب أنهم يجب عليهم الإمساك لذا قال: (وكذا …) لأن هذا من رمضان وقد زالت العلة عنهم.
وذهب الشافعية إلى أن الإمساك ليس بواجب عليهم.
قالوا:لأن الإمساك لا يجزئ عنهم، ولأنه لا دليل يدل على وجوب الإمساك عليهم، فقد أمروا بالقضاء ولم يؤمروا بالإمساك، وقد ثبت منهم الفطر في أول النهار فلا فائدة حينئذ من أمرهم بالإمساك في آخره إلا تكليف المكلف بأمر لا فائدة له منه - وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه – لكن استحب الشافعية له الإمساك لرفع التهمة عنه وهذا حسن لكن حيث كان ذلك، فإذا كانت التهمة متوجهة فنعم فيستحب له ألا يطعم أمام الناس أما إذا كان في بيته أو بين من يعلم عذره فإنه لا يتوجه استحباب ذلك لأن الاستحباب حكم شرعي والحكم الشرعي لا بد له من دليل ولا دليل على ذلك، والحكم يدور مع علته وجوداً أو عدماً فإذا كانت التهمة موجودة فيستحب الإمساك وإلا فلا.
قال: (ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً)(10/13)
هذا فيمن عذره لا يزول وهم الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان يشق عليهم الصيام، وكذلك المريض الذي لا يرجى برؤه كبعض الأمراض التي يشق على صاحبها الصوم مع كون هذا المرض في العادة المعروفة عند الأطباء عدم زواله فإن هؤلاء يفطرون ولا قضاء عليهم، لأنهم عاجزون عن الصيام أداءً وقضاء فلا قدرة لهم عليه لا أداءً ولا قضاءً، فحينئذ ينتقلون إلى أن يطعموا كل يوم مسكيناً مداً من حنطة أو أرز، أو نصف صاع من غيره أو خبزاً ولحماً أو غير ذلك من طعام الناس فقد ثبت في البخاري بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فقال: (ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً) وفي البخاري معلقاً:أن أنس بن مالك (أفطر لكبر عاماً أو عامين يطعم اللحم والخبز) .
قال: (وسن لمريض يضره) .
فيستحب للمريض الذي يضره الصوم، يستحب له الإفطار. والظاهر أن مراد المؤلف بقوله: (يضره) أي يلحق به الضرر، وحيث كان كذلك فإن هذا فيه نظر بل الظاهر وهو مذهب بعض الحنابلة أنه إذا كان يتضرر بالصوم فيجب عليه الفطر لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) وقد أتت الشريعة بحفظ النفوس فكان ذلك واجباً عليه والدليل على أن المريض يجوز له الفطر، قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} والمريض الذي يباح له الفطر هو المريض الذي يشق عليه الصوم أي يلحقه كلف ومشقة، أو يترتب عليه زيادة في مرضه أو تأخر في البرؤ، فهؤلاء يجوز لهم أن يفطروا، وإلا فقد يكون واجباً عليهم كما تقدم حيث الحقه ضرراً في بدنه.
وهل يجوز الفطر في الجهاد في سبيل الله عند وجود المشقة في غير السفر؟(10/14)
المشهور في المذهب أنه لا يجوز لهم ذلك بل يجب عليهم أن يصوموا إلا أن يكون مسافرين فتكون لهم رخصة السفر. واختار شيخ الإسلام وأفتى بذلك في عصره وقد فعله رحمه الله تعالى – جواز الفطر في الجهاد في سبيل الله – وذلك للمشقة وللقياس الظاهر – بل الأولى – على مسألة السفر والمرض ولحفظ الأديان الذي هو أعظم من حفظ الأبدان والأموال على ما في ذلك من حفظ أموال المسلمين ودمائهم، ففيه حفظ أديانهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم فكان ذلك أولى من غيره بهذه الرخصة – وهذا القول هو الراجح وأنه يجوز لهم الفطر إذا احتاجوا لذلك ليتقووا على العدو، بل قد يكونوا مأمورين به.
قال: (والمسافر يقصر)
أي يستحب الفطر للمسافر الذي يصح منه القصر وقوله (لمسافر يقصر) يريد أن يبين أنه ليس لكل مسافر بل للمسافر الذي يجوز له القصر، وهو السفر الطويل في المذهب – وقد تقدم البحث في هذا فحيث ثبت السفر فإنه يسن له الفطر – هذا هو المشهور في المذهب – سواء شق ذلك عليهم أم لا. واستدلوا بأدلة منها:
ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فسأل عنه فقيل هو صائم فقال ليس من البر الصيام في السفر) ، وبما ثبت في مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال: (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فهو حسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) ، فدل ذلك على أن الفطر هو الأحسن والأفضل فقد وصفه بهذا الوصف ونفى الجناح فحسب عن الصوم فدل على أن الأفضل هو الفطر ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه) كما في مسند أحمد وغيره. وذهب جمهور الفقهاء وهو وجه عند الحنابلة، أن المستحب له هو الصيام ألا أن يشق ذلك عليه واستدلوا:(10/15)
بما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحه) فهنا قد صام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فدل على أنه هو الأفضل مع ما في ذلك من إبراء الذمة وإيقاع الصوم في وقت الفضيلة وهو رمضان. وذهب طائفة من العلماء من الصحابة والتابعين وهو اختيار ابن المنذر:إلى أن المستحب فيهما أيسرهما فأيسرهما هو أفضلهما.
فإن كان صيامه في السفر مشقة عليه فالمستحب له الفطر، وأن لم يكن عليه مشقة فالمستحب له هو الصوم.
واستدل:بما ثبت في الصحيحين:عن أنس بن مالك قال: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولم يعب المفطر على الصائم) ونحوه في مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: (كانوا يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن) فإن هذه الرخصة شرعت دفعاً للمشقة المتوقعة في السفر فحيث لم تكن هناك مشقة فيرجح جانب الصيام لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو أرجح الأقوال وأن الأرجح منها هو أيسرها. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) فهو لوقوع تلك المشقة على ذلك الرجل الذي قد ظلل عليه فليس من البر والحالة هذه، أن يصوم في السفر حيث شق عليه مشقة عظيمة، وبمثل ذلك ليس من البر صومه بل هو عصيان، فقد ثبت في مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له – وهو في سفر-(10/16)
أن بعض الناس قد شق عليهم وهم ينتظرون فيما فعلت، عليه الصلاة والسلام فقيل له بعد ذلك: (أن بعض الناس قد صام فقال:أولئك العصاة، أولئك العصاة) فحيث كان فيه مشقة ظاهرة شديدة ومع ذلك صام لا سيما إذا كان ذلك مظنة للضرر فإنه يكون عاصياً وآثماً وليس من البر فعله. إذا كانت المشقة ظاهرة ويخشى الضرر فيجب عليه الفطر لحديث: (أولئك العصاة، أولئك العصاة) وأما إذا لم يكن كذلك فإن وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، وإن وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن.
قال: (وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر فله الفطر)
رجل نوى وهو مقيم الصوم، ثم أصبح فأراد السفر فهل يجوز له أثناء سفره ذلك الفطر أم لا؟
يجوز له ذلك، خلافاً لمن منعه من أهل العلم.
ودليل ذلك:ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم – أي من المدينة – عام الفتح إلى مكة حتى بلغ فدعا بإناء فيه ماء ثم رفعه إلى الناس ثم شرب) فدل هذا الحديث على أنه يجوز للمسافر أن يفطر في سفره وإن كان قد نوى الصوم في حضره.
وهل يجوز له الفطر أثناء الإقامة إذا تجهز للسفر وغلب على ظنه الذهاب أم لا يجوز له ذلك كما أن القصر لا يجوز له إلا بعد خروجه من مدينة ومفارقته لخيام قومه أو عمران بلدته؟(10/17)
المشهور عند أهل العلم فهو مذهب الجمهور:أنه لا يجوز له أن يفطر حتى يخرج من بلده أو أن نوى السفر وإن تأكد خروجه لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} فحيث كان على سفر فيجوز له الفطر، وأما إذا كان من بلدته لم يغادرها بعد فلا يجوز الفطر. وذهب إسحاق بن راهويه، وهو مذهب الحسن وعطاء من التابعين أنه يجوز له ذلك إذا تأكد عنده السفر. واستدلوا:بما رواه الترمذي وحسنه وذكر أن بعض أهل العلم عليه من حديث محمد بن كعب قال: (أتيتت أنس بن مالك وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب سفره فدعا بطعام فأكل فقلت:سنة فقال سنة ثم ركب) فلم يركب إلا بعد أن طعم، وهذا الأثر إسناده حسن ولا مطعن فيه وهذا المذهب قوي فيما يظهر لي، مع أن الاحتياط أن يبقى على صومه حتى يخرج من بلدته. فإن قيل فما الفارق بينه وبين مسألة القصر؟
فالجواب:أن الفطر يستمر ولا فائدة من أمره بالإمساك ونحن نجيز له بعد زمن يسيرأن يفطر مادام أنه قد تأكد عنده إرادة السفر، بخلاف الصلاة فإنها تنتهي في الموضع الذي تقام فيه، فإذا صلاها في موضعه فإنها لا تستمر بعد ذلك.
فالأرجح ما ذهب إليه هؤلاء مع أن الأحوط ألا يقع منه ذلك إلا بعد خروجه والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط، وعلى ولديهما قضتا وأطعمنا لكل يوم مسكيناً)(10/18)
الحامل والمرضع يجوز لهما الفطر إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما أو على نفسهما وولديهما جميعاً. ودليل ذلك:ما ثبت في الترمذي وحسنه، ورواه النسائي والحديث حسن كما قال الترمذي – عن رجل بن بني كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة ووضع عن الحامل والمرضع الصوم) وثبت في سنن أبي داود عن ابن عباس – بإسناد صحيح قال: (رخص للشيخ …. إلى أن قال:والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) وقد أطلق الخوف هنا فيشمل الخوف عليها والخوف على الولد. والمذهب إن الخوف إن كان على النفس أو الولد مع النفس فإنها تقضي ولا تطعم قياساً على المريض الذي يرجى برؤه فإنه يقض ولا يطعم. أما إذا كان الخوف على الولد كما يقع هذا في الغالب من المرضع وقد يقع للحامل فإنها تفطر وسبب لإفطارها هو الخوف على ولدها فهو خوف على الغير فإنها حينئذ تجمع بين القضاء والإطعام.
أما القضاء فلأنها مادرة عليه فأشبهت المريض الذي يرجى برؤه وقد قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
وأما الإطعام فللحديث (أثر بن عباس) المتقدم وهو قوله: (أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) – هذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء – وذهب إسحاق وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وعطاء وعكرمة 0 إلى أن المرضع والحامل إذا أفطرتا فلا يجب عليه إلا الإطعام ولا يجب عليهما القضاء مطلقاً سواء كان الخوف على النفس أو الولد أو عليهما معاً.(10/19)
واستدلوا:بما ثبت في الحديث المتقدم فإنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ووضع عن الحامل والمرضع الصوم) فقد وضعه الله عنهما ولا دليل على أيجابه عليهما، فقد وضعه الله لهما كما وضع الركعتين في الرباعية عن المسافر، وحيث أن الله وضعها ولا دليل يدل على إثباتهما وفي الحديث المتقدم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) ولم يذكر قضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقد ثبت في الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن
عمر وابن عباس رضي الله عنهما قالا: (الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي) وصح عن ابن عمر أيضاً ما هو صريح في المسألة، حيث روى معمر في جامعه كما ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستذكار والإسناد صحيح عن ابن عمر أنه:قال: (الحامل إذا خشيت على نفسها تفطر وتطعم ولا قضاء عليها) ولم أر أثراً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخالف ما ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما والقاعدة عند الحنابلة في فعل هذه المسألة:أن يقال:هو قول هذين الصحابيين اللذين لم يعلم لهما مخالف فيكون حجة - وهذا القول هو الراجح - فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الله أنه وضع الصيام عنهما ولا دليل يوجب القضاء عليهما ثم أيضاً:إن مما يتبين في مسألة الصيام أنه لا يجب الجمع بين القضاء ولا طعام بل الله جعل الإطعام نائباً عن القضاء، كما في قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقون فدية طعام مسكين} أي على الذين لا يرغبون بالصيام وهم يطيقونه عليهم فدية، وهذا الحكم منسوخ في الأصل لكن هذه الآية بقيت محكمة في الإطعام للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والحبلى والمرضع كما تقدم في أثر ابن عباس رضي الله عنه وهنا فروع على هذه المسألة:
1- الفرع الأول:عند قوله: (وأطعمنا) هذا من باب وإلا فإن الإطعام واجب على من يجب عليه نفقة الجنين أو الولد لأنها إنما أفطرت لمصلحة الجنين، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد.(10/20)
2- الفرع الثاني:قال الحنابلة:هذا الحكم حيث لم نجد الأم ظئراً – أي مستأجرة – تقوم بإرضاع الطفل ويتقبل الطفل الرضاع منها، (ومثل هذا ما هو عندنا في هذا العصر من الحليب الصناعي) فحيث أمكنها ذلك فلا يجوز لها الفطر وفيما قالوا نظر، فإن مصلحة الطفل إنما تكون في رضاعة من ثدي أمه حيث أمكن ذلك، ومراعاة مصلحة الطفل أولى من عدم مراعاتها وقد ثبت الرخصة مطلقاً.
3- الفرع الثالث:أن الظئر – وهي المستأجرة للإرضاع – أنها تلحق بالأم لكن ذلك بشرط أن يكون الطفل محتاجاً إلى إرضاعها، أو أن تكون هي محتاجة إلى الإرضاع لأخذ الأجرة عليها أما أن لم يكن ذلك فلا يجوز لها أن تفطر – وهذا أمر ظاهر.
4- الفرع الرابع:هل يقاس على هذه المسألة ما إذا أراد أن ينقذ غريقاً أو نحوه من هلكة؟
الجواب:نعم، فإنه يفطر أن احتاج لذلك دفعاً للضرر عن الغير وهذا ظاهر ولكن:هل يقاس على هذه المسألة في الفدية؟
والحنابلة يرون أن عليه القضاء، ولكن هل عليه الفدية أم لا؟
وجهان في مذهب أحمد:اختار ابن رجب في قواعده القول بوجوب الفدية وما ذكره ظاهر ذلك لأن القياس وأضح على الحامل والمرضع اللتين يخافان على ولديهما فإنه لم يفطر لمصلحة نفسه بل أفطر لمصلحة غيره فأشبه الحامل والمرضع اللتين تفطران لمصلحة ولديهما.
وحينئذ:فالأظهر والله أعلم أنه لا يجب عليه إلا الفدية ولا يجب عليه القضاء كما تقدم في الحامل والمرضع.
قال: (ومن نوى الصوم ثم جن أو أغمى عليه جميع النهار ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمي عليه القضاء فقط)
هنا ثلاث مسائل:(10/21)
المسألة الأولى:في حكم النائم في نهار رمضان، أجمع أهل العلم على أن النوم لا أثر له في الصوم، فإنه لو نوى ثم نام النهار كله فإنه لا يؤثر في صومه، وهذا بإجماع أهل العلم كما تقدم؛ لعدم المانع من التكليف، ولثبوت الحس، فإن الإحساس يثبت في النوم، لذا قال هنا (لا إن نام جميع النهار) .
المسألة الثانية:في حكم المغمي عليه له حالتان:
الحالة الأولى:أن يغمي عليه النهار كله.
فقال الحنابلة:لا يصح صومه لأن الصوم يشترط فيه إمساك مع نية، وهذا لا يثبت إليه الإمساك، فلا يقال أنه مدرك الطعام والشراب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) متفق عليه، فلا يضاف إليه أنه لم يأكل ولم يشرب وأن كان في الحقيقة ممسكاً من الأكل والشرب، فإنه بمعنى زائل العقل.
قالوا:ويجب عليه القضاء، أما ما ذكروه من عدم صحة الصيام فهذا ظاهر لدليلهم المتقدم. أما وجوب القضاء عليه فهذا المشهور في المذهب والراجح هو قول ابن شريح من الشافعية أن القضاء لا يجب على المغمي عليه وقد تقد البحث في هذه المسألة في المغمي عليه عن الصلاة
وأنه لا يجب عليه قضاء الصلاة وتقدم الاستدلال عنها.
وكذلك يقال هنا:أن الأمر بالقضاء غير ثابت هنا فيحتاج إلى أمر جديد بالقضاء، ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم بالقضاء لأن القاعدة الأصولية وهي قاعدة دلت عليها الأدلة الشرعية تقول:أن القضاء يحتاج إلى أمر وهنا كذلك فإن هذا المغمي عليه ليس يثبت دليل يدل على وجوب القضاء عليه فإنه في حكم المجنون، وإن كان المغمي ليس في حكمه في كون ذلك معيباً أو ليس بمصيب، لكن في حكمه في مسألة زوال العقل فليس هو بحكم النائم بل بحكم المجنون ولا يلحق النائم للفارق بينهما، فإن النائم فيه شيء من الحس بخلاف المغمى عليه، وكذلك فالإغماء غير معتاد بخلاف النوم فإنه معتاد.
إذن الصحيح:أنه لا يجب عليه القضاء.(10/22)
الحالة الثانية أن يفيق جزءاً من النهار كأن يفيق قبل غروب الشمس فهل يصح صومه أم لا
أ – قال الحنابلة:يصح صومه لثبوت شيء من الإمساك له فإنه يصدق عليه أنه ترك الطعام والشراب تلك اللحظة التي أما قدمتها.
ب – قال الشافعية:لا بد أن يكون هذا أي الإفاقة في أول النهار.
ج – قال المالكية:يشترط مع كونه يفيق أول النهار ألا يكون إغماؤه في أكثر النهار وحددوه بالنصف فأقل، فلو أغمى عليه إلى غروب الشمس وقد أفاق أول النهار فإنه يصح منه صومه والذي يظهر لي والله أعلم أنه أن أفاق جزءاً من النهار سواء كان ذلك في أوله أو آخره فإنه لا يجزئ عنه الصوم وذلك لثبوت زوال العقل في الأجزاء الأخرى من النهار، فلا يصدق عليه أنه ممسك فإن الإمساك في الصوم إنما يكون من أوله إلى آخره، فإنما يجب الإمساك بنية من أول النهار إلى آخره وهذا قد تخللت صيامه أوقاتاً زال عقله فلم يصح أن يكون في ذلك الجزء لو كان يسيراً ممسكاً – هذا هو الأظهر – وحينئذ نقول:إن أفاق فإنه يمسك ويجزئ ذلك عنه وإن كان لا يعتد بإمساكه المتقدم لكنه معذور فيه كما لو أفاق المجنون في منتصف النهار مثلاً فإنه يمسك بقية اليوم وأجزأئه صومه. فلو أن رجلاً أفاق أول النهار ثم أغمى عليه قبيل غروب الشمس فإنه على الأقوال المتقدمة يصح صومه وحيث قلنا:أن صيامه لا يصح فإننا نقول:أنه يمسك في ذلك الوقت ولا يأكل ولا يشرب حتى تغرب الشمس ويجزئه ذلك.
3 - المسألة الثالثة:حكم المجنون.
فإذا جن النهار كله فإنه كالمغمي عليه ولا شك، وهذا الاختلاف بين أهل العلم فيه وأن صومه لا يصح بزوال العقل وهل يجب عليه القضاء أم لا؟(10/23)
جمهور أهل العلم أنه لا قضاء عليه وهو القول الراجح، عن دليل ظاهر فإن التكليف مرفوع عنه لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فإن أفاق جزءاً من النهار، فقال الحنابلة:يصح صومه ودليلهم ما تقدم من أنه صح أنه ممسك وفي هذه الجزء وتقدم الجواب على هذا وأن الواجب هو الإمساك من أول النهار إلى آخره لا الاكتفاء بجزء منه.
وذهب الشافعية وهو قول المجد بن تيميه:أنه لا يصح صومه ولو كان الجنون قليلاً، لأن هذا الزمن اليسير الذي جن فيه ثبت زوال عقله فيه، وزوال العقل مانع من الصوم كما لو أن المرأة حاضت في آخر النهار فإنه يفسد صومها، فكذلك إذا جن في أي ساعة من النهار فإنه لا صوم عليه ولا قضاء أما كونه لا صيام له فلأنه وجد فيه مانع من الصوم وهو زوال العقل وأما كونه لا قضاء عليه فلأنه لا تكليف عليه والحالة هذه لكن يمسك إذا أفاق بقية يومه، ولو أكل أو شرب قبل ذلك كما تقدم الكلام عليه.
قال المؤلف: (ويلزم المغمي عليه القضاء فقط) فقط على أي لا يجب ذلك على المجنون.
قال: (ويجب تعيين النية)
يجب على من أراد الصوم أن يعين النية فينوي كون صومه عن رمضان أو عن كفارة أو عن نذر أو نفل أو نحو ذلك.
فلو أنه قال:أصوم غداً بنية صوم مطلق ولم ينو كونه من رمضان فإنه لا يجزئ عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
قال: (من الليل لصوم كل يوم واجب)
فيجب أن يكون ذلك من الليل أي جزء منه سواء كان ذلك بعد غروب الشمس أو منتصف الليل أو قبيل الفجر ينوي الصوم غداً وظاهره أنه لو نوى من النهار فإنه لا يجزئ عنه، فلو أن رجلاً في النهار نوى أن يصوم ثم نام إلى أذان الفجر فإنه لا يصح صومه لأنه لم ينو الصوم من الليل بل نواه من النهار والأظهر أنه إذا نوى في النهار ولم ينو القطع بل استصبحت النية ليلاً فلم ينو(10/24)
الفسخ فإن ذلك لا يؤثر في نيته فإن النية قد ثبتت ولم يقع فسخ لها فتصح ولا يؤثر ذلك في صيامه فيجب تبيت النية من الليل، فمن لم ينو إلا نهاراً فلا يجزئ ذلك عنه كأن يؤذن عليه الفجر ولم ينو بعد فإنه لا صيام له، فالواجب أن تغطي النية النهار كله.
ودليل ذلك ما ثبت في أبي داود وغيره والحديث صحيح من حديث حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) .
قال: (لا نية الفريضة)
فعندما ينوي أنه سيصوم غداً من رمضان فإنه يجزئ عنه ذلك وليس لا بد وأن ينوي أن يكون فرضه، فإنه بمجرد أن ينوي نحو ذلك اليوم من رمضان فيتضمن لنيته الفريضة وعندما ينوي أن يصوم في يوم الاثنين فإن هذه النية متضمنة لمعنى التطوع والتنفل.
واعلم أنه لا بد من الجزم بالنية أما أن لم يخرج بها تردد، فقال:أني صائم غداً إن شاء الله فإنه لا يجزئ عنه إن كان هذا الاستثناء لنية التردد، أما إذا كان بنية فلا حرج لحديث: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صوم له) " أي من لم يعزم ويجزم والأعمال لا تصح إلا بنية جازمة: (إنما الأعمال بالنيات) .
قال: (ويصح النفل نيته من النهار قبل الزوال وبعده)
فالنفل لا يشترط فيه تبييت النية من الليل بل يجوز أن تكون النية نهاراً وهو مذهب جمهور العلماء. واستدلوا بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال:هل عندكم شيء فقلنا:لا فقال:فإني أذن صائم، ثم أتانا يوماً أخر فقلنا:أهدى إلينا حسيس فقال:أرينه فلقد أصبحت صائماً فأكل) رواه مسلم، والشاهد قوله: (فإني أذن صائم) فإنه صلى الله عليه وسلم قد أصبح مفطراً ثم سأل عن الطعام فلم يجده فصام.
وقال المالكية وهو مذهب الظاهرية:لا يجوز أن ينوي نهاراً فرضاً كان أو نفلاً.(10/25)
واستدلوا:بعموم حديث: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) قالوا:فهو حديث عام يشمل الفرض والنفل. قالوا:وأما حديث عائشة فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نوى من الليل الصوم ثم أتى أهله وسألهم عن الطعام ونوى أنه أن وجد طعاماً عندهم أفطر وإلا بقى على صومه وما ذكروه يخالف ظاهر الحديث، فإن ظاهره أنه قد نوى الصوم حينئذ فإنه قال:
(فإني أذن صائم) بخلاف قوله في الفقرة الثانية: (فإني أصبحت صائماً) ولأن النظر يؤيد ذلك، فإن قاعدة الشريعة الترغيب في التنفل من هو للمسافر أن يصلي على راحلته النفل ولم يشترط للتنفل الصيام في الصلاة وهنا الصوم كذلك فإن الرجل قد ينوي الصيام أثناء النهار وهو أول النهار ممسك لم يطعم ثم ينوي أن يصوم فللرغبة في الصيام جاز له الصوم.
فأن قيل:وهل يجوز ذلك في النية في الصلاة النافلة؟
فالجواب:أن الصيام تمتد وفيه بخلاف الصلاة فإنها يقصر وفيها ولا مشقة ولا حاجة إلى أن يقال:أن ينوي أثناء الصلاة بل لا معنى لذلك. فالراجح مذهب جمهور أهل العلم. وهنا فرعان:
الفرع الأول:يجوز أن ينويه قبل الزوال أو بعده كما ذكر المؤلف وهذا هو المشهور في المذهب وهو من مفردات المذهب وذهب الجمهور إلى أنه إنما يجوز ذلك قبل الزوال لا بعده واستدل الحنابلة بقولهم:بالمعنى المتقدم، ولأنه حيث جازت النية في جزء من النهار فإنها يجوز في أجزاء أخر فحيث جازت في أوله فإنها تجوز في آخره.
وقال الجمهور من الشافعية والأحناف:لا يجوز لأنه ذهب معظم الوقت ومن هنا فإن الصلاة إذا فات ركوعها لم تدرك ركعتها بفوات معظمها فكذلك هنا.(10/26)
قالوا:ولأن الوارد في الحديث المتقدم إنما كان في الغداء والغداء إنما يكون قبل الزوال والأفعال لا عموم بها. ولا شك في قوة هذا القول، لكن مع ذلك الأظهر ما تقدم فتحاً لهذا الباب وهو باب الترغيب في النافلة، فإن الشارع أجازه للترغيب بالنفل، والإكثار منه وحيث كان ممسكاً من طلوع الفجر إلى بعد زوال الشمس فإنه لا مانع من أن يعمل بإمساكه ويؤخر بقدر صومه وحيث جاز فعله قبل الزوال فإنه يجوز بعده.
الفرع الثاني:أن الإمام أحمد نص على أنه إنما يثاب على الوقت على الذي أمسك فيه عن الطعام والشراب بنية الصوم هذا في الأصل وإلا فقد ينال من الثواب بفضل الله وكرمه أكثر من ذلك وذلك لأنه في أول النهار قد أمسك بغير نية التقرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا عمل لم ينوه فلم يثبت عليه وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع.
قال: (ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرض لم يجزئه)
رجل في ليلة الثلاثين من شعبان أمسك عن الطعام والشراب بنية أنه كان غداً من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن من رمضان فأنا متنفل، فنيته واقع فيها تردد فلا يجزئ وذلك لوقوع التردد فقد تردد هل هو صوم فرض أو نفل، والواجب في النية الجزم بالفرض أو النفل.(10/27)
قالوا:أما أن قال:إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإن لم يكن من رمضان فأنا مفطر، قالوا:فإنه يصح حينئذ لأنه علق صومه بأصل لم يثبت لنا زواله، فإنه علق ذلك بثبوت رمضان غداً ولم يثبت زوال هذا الأصل فكان صومه صحيحاً، فهو جازم نية الصوم على نية الفرض واختار شيخ الإسلام في الصورة الأولى الإجزاء أيضاً لأن النية تتبع العلم، فهو لا يعلم أن غداً رمضان والنية تتبع العلم، فعلمه متردد هل غداً من رمضان أو لا فنيته جاز أن يقع فيها التردد لأن هذا هو قدرته فهو لم يعلم إلا ذلك على أن الأصل في هذه المسائل ما تقدم وأنه لا يجوز له الصوم فإذا ثبتت النية أثناء النهار فإنه يمسك ولا حرج عليه ولا قضاء.
قال: (ومن نوى الإفطار أفطر) .
فمن نوى الإفطار فإنه يفطر وإن لم يأكل وليس المراد بقوله:" أفطر " أنه بمعنى الأكل والشارب، بل مراده أنه كما لو لم ينو الصوم.
بمعنى:رجل صائم ثم نوى أن يفطر فإنه يكون بحكم المفطرين لأنه قد قطع النية، والنية شرط أن تغطي العمل كله وقد قطعها، فحينئذ فسد صومه لبطلان نيته وهذا باتفاق العلماء وهي مسألة ظاهرة، لأن الواجب هو النية في اليوم كله، وحيث نوى الفطر فإنه يكون مفطراً.
وإنما قلنا:أنه يكون في حكم المفطر، لا في حكم من أكل أو شرب لأن هنا فرقاً بين المسألتين، ويتصور ذلك بأن يقال:رجل ممسك عن الطعام والشراب بنية التقرب إلى الله إلى أذان الظهر ثم نوى الفطر، فإنه أن لم يأكل ولم يشرب يجوز له أن ينوي مرة أخرى التنفل لأنه لم يقع منه أكل ولا شرب فهو ممسك. أما لو قلنا:أنه بمعنى أكل أو شرب فإنه لا يجوز له أن ينوي حينئذ ففرق بين قولنا:أفطر بمعنى أكل أو شرب وقولنا:أفطر بمعنى أصبح لا نية له فهو كما لو لم ينو. فإن تردد في القطع فما الحكم؟
قولان في مذهب أحمد:(10/28)
أرجحهما أنه لا ينقطع صومه بل يكون في حكم الصائمين لا المفطرين، لأن هذا التردد لم يؤثر في نيته الأصلية فهو مازال ناوياً الصوم أم لا يقطعه فلم تتأثر نيته بذلك. ويصح أن يستدل لذلك بقوله النبي الله عليه وسلم: (أن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) . مسألة:
المشهور في مذهب الحنابلة أنه يجب أن ينوى صوم كل يوم من رمضان بعينه.
وذهب المالكية فصوروا به عن الإمام أحمد إلى أنه يجزئه أن ينوي من أول الشهر بنية صيام رمضان، فيجزئه عن الشهر كله ما لم تفسخ هذه النية. وهذا هو الأظهر لثبوت النية له، فلم يقسمها ولم يقطعها.
مسألة:
الإطعام للحامل والكبير ونحو ذلك ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:قدر الإطعام.
فقد ورد في البيهقي والدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر في المرأة الحامل تخاف على ولدها قال: (تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة) وقال ابن عباس في الدارقطني بإسناد صحيح: (إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أفطر وأطعم مكان كل يوم مداً مداً) أي من حنطة وثبوت عنه نصف الصاع فما دونه. والحنطة يقوم مقامها الأرز الجيد، أما إذا كان رديئاً فإنه لا يكفي إلا نصف الصاع. ويجزئ أيضاً أن يصنع طعام يكفي مسكيناً أي يشبعه، فقد ثبت في الدارقطني بإسناد صحيح: (أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً فصنع جفنة ثريد ودعا إليها ثلاثين مسكيناً فأتبعهم) .
المسألة الثانية:إذا عجز عن الإطعام فهل يتعلق ذلك في ذمته أم لا يسقط عنه؟
قولان لأهل العلم:1- المشهور في المذهب أنه يتعلق في ذمته فإذا قدر فيجب عليه أن يبرأها بالإطعام.
2 – واختار ابن عقيل من الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أنه يسقط عنه، وهو الراجح لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من جامع امرأته في نهار رمضان بالكفارة إذا قدر عليها بل(10/29)
سقطها عنه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، على أن الشارع متشوق إلى عدم تعليق الذمة بخلاف حقوق الآدمي، أما هذه فهي حقوق الله فاسقطها سبحانه.
والحمد لله رب العالمين.
باب:ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة
قال المؤلف رحمه -الله تعالى-: (من أكل أو شرب أو اسقط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله ... )
هنا يذكر المؤلف مفسدات الصوم:
المفسد الأول فيها:هو الأكل والشرب وقد أجمع أهل العلم على أن من أكل أو شرب فإن صومه يفسد بذلك، يدل على ذلك قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وبحديث: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ويثبت الإفساد بقليل والطعام والشراب، فلو ابتلع شيئاً من أسنانه، أو ابتلع قدر الخردلة من طعام فابتلعها فإنه يفطر بذلك.
وهل يفطر بابتلاعه ما ليس بطعام كأن يبتلع حصاه أو خيطاً أو يسف تراباً أو نحوه؟
قال جمهور العلماء:يفطر بذلك واختار شيخ الإسلام أنه لا يفطر بذلك وهو مذهب الحسن ابن صالح. واستدل شيخ الإسلام بأن ذلك لا يصدق عليه أنه أكل، فالأكل إنما يكون للمطعوم الذي يحصل الغذاء به، أما لو ابتلع شيئاً ليس بغذاء كحصاه ونحوها فإنه لا يفطر لأنه قد بلع ما ليس بمطعوم، وهذا القول أظهر، لأن الله إنما حرم الأكل والشرب، وليس هذا من الأكل والشرب.
إذن:لا يفطر إلا بابتلاع ما يحصل به الغذاء، أما لو ابتلع ما لا يحصل به الغذاء فإنه لا يفطر بذلك وقد تقدم أن من ابتلع ما بين أسنانه فإنه يفطر أما ما يجري مع الريق مما يكون بين الأسنان ثم يجري طبيعة مع الريق، فقد أجمع أهل العلم على أنه لا تثبت به الفطر، لكن أن يطلب ابتلاعه فإنه يحصل على الفطر لأنه يصدق عليه أنه أكل وإن كان ذلك شيئاً يسيراً إذا ثبت ذلك فاعلم أن ما دلت عليه الأدلة هو أن طريق الأكل أو الشرب وهو الفم والأنف.(10/30)
أم الفم فهذا أمر ظاهر، وأما الأنف فهو قوله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره -: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فدل ذلك، خلافاً للظاهر - على أن الأنف منفذ للشراب، وهو ظاهر فيما يقع في هذه الأزمان فيما يقع من إدخال الطعام إلى الأنف للمرضى أما غيرها المنافذ فقد قعد فقهاء الحنابلة قاعدة واسعة في هذا الباب فقالوا:كل ما يصل إلى جوفه أو إلى مجوف في بدنه كالدماغ والحلق – فما يصل إلى المعدة فإنه يثبت به الفطر وعليه:فإذا
وضع قطرة في أذنيه أو اسقط في أنفه فإنه يفطر بذلك، والحقنة في الدبر يفطر بها، والدواء الذي يوضع على " وهي الجرح الذي يصل إلى الجوف أو المأمومة " فكل ذلك يفطر ولذا قال المؤلف هنا: (أو اسقط " أي يكون بالأنف " أو احتقن في الدبر أو اكتحل فالعين منفذة للطعام بما يصل إلى حلقه) فإذا اكتحل ولم يصل ذلك إلى الحلق فلا يكون ذلك قد وصل إلى الجوف ومثل ذلك القطرة التي تكون في الأذن فإن المراد ما يصل إلى دماغه لأن التجويف إنما هو في الدماغ لا في الأذنين.
(أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله)(10/31)
فلو وضع دواء على جائفة أو مأمومة فوصل ذلك إلى الجوف فإنه يفطر بذلك، غير الأحليل " وهو الذكر " وذلك لأن الذكر لا يصل منه عندهم إلى المعدة شيء وقد نازعهم بعض أهل العلم في بعض أهل هذه المسائل أو كلها – سوى ما تقدم الإجماع عليه – إلا أن الظاهرية قد نازعوا في الأنف، والحديث حجة عليهم كما تقدم ونازعوا في غير الأكل أيضاً، فإنهم قد خصوا الطعام والشراب بما يصل من الفم لا غير. ونازع الشافعية والحنابلة بما يكون في العين من كحل ونحوه فإذا اكتحل فالمشهور عند الشافعية أنه لا يفطر بذلك وقد نازع الإمام مالك الحنابلة فيما يوضع في الأذنين فإنه عنده أن لم يصل إلى الحلق فإنه لا يفطر به وإن وصل إلى الدماغ وأطلق الليث والأوزعي الخلاف في ذلك وقالوا:بل الأذن ليست منفذاً مطلقاً ونازع في الحقنة الظاهرية وشيخ الإسلام، وقالوا أنها ليست مفطرة، لأنها أشبه بشم ما يكون سهلاً والظاهر أن الحقنة كانت توضع عندهم للإسهال، أما إذا كان ذلك للطعام والشراب فهي مفطرة ونازع الإمام مالك الحنابلة فيما يوضع على الجائفة أو المأمومة فقال لا يفطر. أما شيخ الإسلام فهو مذهب الظاهرية سوى ما تقدم من استثناء الأنف، فرأى شيخ الإسلام:أنه لا يقع الفطر إلا بوصول شيء إلى المعدة على سبيل التغذية، أو يصل إلى الدم بحيث يكون مغذياً للبدن. فإذا وصل الدواء إلى الجوف عن طريق الجائفة أو المأمومة فإنه لا يفطر لأنه ليس من سببها فالغذاء، والكحل ليس من باب الغذاء وما يوضع في الأذن ليس من باب الغذاء فقاعدة شيخ الإسلام:أن ما وصل إلى جوف الآدمي على سبيل الغذاء فإنه يحصل به الفطر – وما ذكره هو الظاهر فإن الله إنما نهى عن الأكل والشرب وهما اللذان يحصل بهما الغذاء للآدمي، ويقاس عليهما كل ما يحصل به الغذاء، ومن(10/32)
ذلك ما يقع في هذه الأزمنة من الإبر المغذية أو المحاليل المغذية التي توضع في الوريد أو غيره فإنه تحصل بها الغذاء وعليه فإن الإبر التي ليست مغذية بل للدواء ولا يحصل بها غذاء بقول الطبيب الثقة فإنها لا تفطر.
فعليه:إذا وصل الغذاء إلى البدن من منفذ الأنف أو الفم أو جرح شيء من البدن فأدخل الغذاء من خلاله فإن ذلك يفطر أما مجرد دخول شيء من الأدوية أو شيء مما يوضع في الأذن أو العين وليس ذلك على سبيل التغذية فإنه لا دليل تدل على الفطر به.
ومسألة – أي مسألة مفسدات الصوم – مسألة كبيرة واجب بيانها من الشرع ولم يثبت في الكتاب والسنة ما تبين أن ما ذكره هؤلاء الفقهاء وغيرهم أنه من المفطرات ولا شك أنها من المسائل التي يحتاج إلى بيانها فإنها متعلقة بفريضة من فرائض الله تعالى. ثم أن الله قد خاطب العرب بالآية المتقدمة فحينئذ لا يكون مفطراً إلا ما هو أكل أو شرب في عرفهم وليس أكثر ما ذكر مما تقدم في عرفهم من الأكل والشرب.
قال: (أو استقاء)
أي طلب خروج القيء فحصل له ذلك فإنه يفطر بذلك أما إذا خرج القيء فيه من غير استدعاء ولا بطلب فإنه لا يفطر بذلك بالاتفاق أما أن يطلبه واستدعاه فإنه يفطر عند جماهير العلماء وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ووجهه صاحب الفروع وهو رواية عن الإمام مالك اختارها بعض أصحابه إلى إخراج القيء ليس بمفطر مطلقاً سواء تطلبه أم لا. استدل أهل القول الأول بما روى أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عيس بن أيوب عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض) وهذا الحديث إسناده صحيح في الظاهر، ورجاله رجال الصحيح.
واستدل أهل القول الثاني:بالأصل، وأن الأصل أن خروج القيء سواء كان بتطلب أم لم يكن ليس بمفطر وضعفوا هذا الحديث، وقد ضعفه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم.(10/33)
قال البخاري: (لا أراه محفوظاً) وكذا قال غيره.
ولم يتبين لي ما هو طعن هؤلاء الأئمة في هذا الحديث إلا ما ذكره الترمذي من تفرد عيس بن أيوب وهو ثقة من رجال الصحيحين، لكنه لم يتفرد بهذا الحديث بل تابعه حفص بن غياث كما في سنن ابن ماجة وهو من رجال الصحيحين أيضاً، ثم أنه لو تفرد به لقيل وقال عيس بن أيوب: (زعم أهل البصرة أن هشاماً قد أوهم وهذا هو الطعن الثاني، وهذا المطعن مجرد دعوى فإن الأصل هو عدم وهمه، ولم يتبين لنا سند أخر يثبت به الوقف أو نحو ذلك في هذا الحديث المرفوع وقد صححه طائفة من المتقدمين، والمشهور عند المتأخرين هو تصحيح وإن كان ما تقدم من أقوال الأئمة الكبار يجعل في النفس شيئاً من هذا الحكم المبني على هذا الحديث المتكلم فيه لكن لم يتبين للطعن فالأظهر البقاء على تصحيحه لا سيما وأن العمل عليه أهل العلم كما قال الترمذي رحمه الله، فإنه لما ذكر ما تقدم من تفرد عيس بن أيوب قال: (والعمل عليه عند أهل العلم) وهذا القول هو الأظهر فمن استقاء فليقض كما هو مذهب جماهير العلماء وهل للقي مدد محدد؟
المشهور في المذهب:أن خروج القيء بالتطلب مطلقاً يفطر سواء كان قليلاً أو كثيراً، وسوء خرج طعامه الذي في معدته أو شيئاً من الدم أو البلغم أو أو نحو ذلك فأي شيء يخرج من جوفه بسبب تطلبه لإخراج القيء يفطر بذلك.
وعن الإمام أحمد وهو قول ابن عقيل من الحنابلة أنه لا يفطر إلا ملء الفم. والقول الأول أظهر لظاهر الحديث، فإن ظاهره أنه متى ما خرج ما يصح أن يكون ميئاً فإنه يفطر بذلك ولعل العلة من ذلك والله أعلم – خلافاً لما أنكر شيخ الإسلام هذا التعليل – وقد نص على هذا التعليل ابن عبد البر وغيره الأظهر أن خروج الطعام من المعدة إلى الحلق مظنة رجوع شيء منه إليه، وهذا فيه معنى الأكل والشرب والله أعلم.
قال: (أو استمنى أو باشر فأمنى أو أمذى)(10/34)
إذا استمنى أو باشر أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى فإنه يفطر بذلك والمراد بالمباشرة هي ما دون الجماع أما لو باشر أو قبل أو استمنى ثم لم يحصل منه مني ولا مذي فإنه لا يفطر بذلك وهذا بالاتفاق ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أمللكم لأرَبه) أي حاجته، وتصح " الإرْبه " أي
عضوه أما أن حصل مع الاستمناء أو المباشرة أو القبلة أو اللمس حصل مني فإنه يفطر عند جمهور العلماء حتى قال الموفق " خلاف بعلمه " وذلك لأن خروج المني تتم به الشهوة، وقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فالشهوة قد امتنع عنها الصائم فهي مما يمسك عنه وحيث خرج المني باستدعاء فإن الشهوة قد وقعت تامة له فكان ذلك من مفسدات صومه خلافاً للظاهرية القائلين:بأنه لا يفطر إلا بالجماع فلو أمنى باستمناء أو مباشرة فلا يفطر بذلك. والراجح ما تقدم وهو مذهب عامة العلماء أما كون المني مفطراً بخروجه بسبب القبلة واللمس فهذا هو مذهب جمهور العلماء كما تقدم.(10/35)
أما قولهم أن خروج المني بالاستمناء والمباشرة يفطر الصائم فإن هذا ظاهر لأن الاستمناء والمباشرة سبب ظاهر لخروج المني بخلاف القبلة واللمس فإن الأصل عدم خروج المني بهما إلا على هيئة نادرة، فوقوع الصائم بإخراج الشهوة بسببهما ليس طبيعاً بل هو واقع على سبيل الندرة فمتى حصل ذلك فلا ينبغي القول بالفطر، لأن القبلة واللمس ليسا سبباً ظاهر في خروج المني، فهو لم يكن مقتصداً لخروجه بل قد خرج بغير قصد فيه، وقال إلى هذا القول صاحب الفروع وهو القول الظاهر وذلك لأن الشهوة وأن كانت قد وقعت عليه لم يكن ذلك بقصد منه، فإنهما ليسا سبباً لخروج المني في العادة أما لو علم من نفسه خروج المني بسبب القبلة أو اللمس ثم فعل ذلك، فإن موافقة الجمهور تكون ظاهراً فعلى ذلك يفطر لأنه قد أخرج شهوته بسبب قد تقصده.
قال: (أو أمذى)
كان يباشر أو يستمنى أو يقبل أو يلمس فيمذى فإنه بفطر هذا مذهب أحمد ومذهب مالك وذهب الشافعية والأحناف إلى أنه لا يفطر بذلك أما دليل أهل القول الأول فهو القياس على المني، فقاسوا خروج المذي على خروج المني وأما أهل القول الثاني فقالوا:هذا قياس مع الفارق، مفرق بين المذي والمني، فليس المذي كالمني، وما المذي إلا جزء من الشهوة بل هو دليل على الشهوة وتقدم لها وليس هو الشهوة نفسها وهو اختيار شيخ الإسلام.
واستدلوا:بالأصل، فإن الأصل ألا يكون ذلك مفطراً ولا دليل يدل على الفطر به – وهذا القول هو الراجح.
إذن:من باشر أو استمنى أو قبل أو لمس فأمذى فإنه لا يفطر بذلك لأن الأصل بقاء الصوم وصحته لا أبطاله ولا دليل على أبطاله:وقد استظهر هذا القول صاحب الفروع وصوبه في الإنصاف.
قال: (أو كرر النظر فأنزل)
أي أنزل منياً.(10/36)
رجل كرر النظر إلى امرأة فأنزل منياً فإنه يفطر بذلك قياساً على القبلة واللمس ونحوها. وذهب الشافعية والأحناف إلى أنه لا يفطر بذلك:إبقاء على الأصل، فالأصل صحة الصوم وبقاؤه ولا دليل على الإفطار.
قالوا:وقياساً على الفكر، فإنه لو فكر فأنزل فإنه بالاتفاق لا يفطر، والقياس أقرب من القياس المتقدم على أن تكرر النظر في الحقيقة – ليس سبباً ظاهراً في الإنزال كما تقدم بيانه فإن تكرار النظر لا يقع به في الأصل الإنزال فلو وقع الإنزال حينئذ فإنه لا يقع باختيار من المكلف أما لو علم من نفسه أنه بتكرار النظر يثبت فيه الإنزال فحينئذ نقول به لأنه أشبه الاستمناء فقد طلب خروج المني بهذا الفعل وعلم من نفسه خروجه وهذا نادر ولم يذكر المذي:فالمشهور عند الحنابلة في هذه المسألة أنه لو كرر النظر فأمذى فإنه لا يفطر بذلك، وذلك لمشقة التحرز من ذلك، وللفارق بين المني والمذي وهذا فيه تناقض.
قال: (أو حجم أو احتجم وظهر دم) .
إذا حجم أو احتجم فظهر الدم فإنه يفطر بذلك، فالحاجم والمحجوم يفطران.
ودليل ذلك:ما رواه الخمسة إلا الترمذي من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) والحديث إسناده صحيح. ويرى شيخ الإسلام هذا القول، ويرى أن الحاجم إنما يفطر حيث كان بمعنى أداة الحجامة بقية فتكون ذلك مظنة لدخول شيء من الدم – ولو كان دلك من نجاره – إلى حلقه فيفطر بذلك، وحينئذ فرأى شيخ الإسلام أنه لو لم تكن ذلك بمعنى أداة الحجامة فإنه لا يفطر. خلافاً الحنابلة في المشهور عندهم من أنه يفطر، وأن ذلك تعبدي والأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام لأن الأصل في الأحكام أن تكون أحكاماً تعليلية لا تعبديه. وهل يلحق بذلك الفصد أم لا؟
قولان في مذهب الإمام أحمد. اختار شيخ الإسلام أنه ثبت الفطر بالقصد وذلك لثبوت خروج الدم به، فالمعنى ثابت في الفصد كما هو ثابت في الحجامة.(10/37)
وحينئذ يلحق أي طريقة في إخراج الدم كما يقع ذلك في التحاليل الطبية التي يقع بها إخراج الدم فإنها تكون مفطرة هذا مذهب الحنابلة – أي كون الحجامة مفطرة – وهو مذهب أكثر أهل الحديث – كما قال ذلك شيخ الإسلام، وهو اختياره واختيار تلميذه ابن القيم. وذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر. واستدلوا:بما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم) .
قالوا:ويوافقه أنه مذهب رواية، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (الفطر فيما يدخل لا فيما يخرج) .(10/38)
قالوا:والجواب عما استدل به الحنابلة أن الحديث الذي استدلوا به منسوخ بحديثنا، ودليل النسخ الآثار الواردة في هذا الباب فمن ذلك:ما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد قوي عن أنس بن مالك قال: (أول ما كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب احتجم فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم) وروى الدارقطني والطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم وفي الحجامة) ومعلوم أن لفظ الرخصة لا يطلق إلا عزيمة، وقد كانت العزيمة في الفطر بالحجامة ثم رخص بعد بالحجامة. وثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحاب) فكانت العلة هي الإبقاء على الأصحاب لأن إخراج الدم مضعف لليدين ثم بعد ذلك رخص بالحجامة وثبت في البخاري عن أنس أنه قيل له: (أكنتم) ومثل هذا السؤال يكون الجواب عنه عن مذهب الصحابة عامة وإن كان الصحابة مختلفون في هذا، لكن هذا يدل على أن جمهورهم على هذا القول: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم فقال:لا إلا من أجل الضعف) وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة وكرها للضعف) قالوا:وهذه الأحاديث تدل على النسخ.
وقابلهم أهل القول الأول بأن حديثنا ناسخ لحديثكم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم.(10/39)
قالوا:لأن حديثنا ناقل عن الأصل، ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه احتجم وهو صائم فإنه متفق على الأصل، والقاعدة أن الناقل مقدم على المبقي على الأصل وهي قاعدة ترجح في باب النسخ. لكن يجاب عن هذا بأن ما تقدم من الآثار تدل على عكس هذا القول وأن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب الجمهور عن الاستدلال بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) بأن المراد يؤول أمرهما إلى الفطر فإن ذلك مضعف للمحتجم ومظنة لدخول شيء من الدم إلى الحاجم فيؤول أمرهما إلى الفطر – وهذا ظاهر للجمه بينهما لكن ينكر عليه الآثار والأحاديث المتقدمة فإن ظاهرها أن إفطار الحاجم والمحجوم كان عزيمة على الوجه المتقدم إلا أن يقال إنه كان منهياً عنه وإن لم يكن مفطراً والحاصل:أن مذهب جمهور الفقهاء هو القول الراجح في هذه المسألة.
فأن قيل:قد أعل بعض العلماء الحديث الذي رواه البخاري في صحيحيه، فقد أنكر الإمام أحمد – كما أعله شيخ الإسلام وغيره – لفظة (وهو صائم) وأتت (وهو محرم) .
فالجواب:أن الإمام أحمد كما فرد ذلك صاحب القيم قد ساق طرفاً ليس فيها طريق البخاري وأنكر هذه اللفظة في هذه الطرق.(10/40)
أما الطريق الذي خرجه البخاري في صحيحيه فإن الإمام أحمد لم يتعرضى له بإنكار ثم أن السند ظاهره الصحيح وقد قال ابن حجر: (والحديث لا مدفع فيه ولا اختلاف في ثبوته وصحته) فعلى ذلك جماهير العلماء على تصحيح هذا الحديث والحديث من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وقد اختلف فيه على أيوب فرواه وهيب وعبد الوارث موصولاً " أي عكرمة عن ابن عباس ورواه ابن عُلَّبة ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً واختلف على حماد بن زيد بالإرسال الوصل، ومثل هذا لا يؤثر في الحديث بل يكون ثابتاً موصولاً ومرسلاً، فإنه حيث تساوى الواصل والمرسل فإنه لا يقال بترجيح شيء من قوليهما على أن للحديث شواهد تثبت صحته، كيف وقد أخرجه البخاري في صحيحيه الذي تلقته الأمة بالقبول وأحاديث البخاري لا يقال بتعليل شيء منها إلا إذا كانت البينة ظاهرة في ذلك.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (عامداً ذاكراً لصومه فسد لا ناسياً أو مكرهاً) .
ما تقدم من المفطرات – سوى الجماع فسيأتي البحث فيه – مما تقدم من المفطرات وهي الأكل والشرب والاستقاء والاحتجام هذه المفطرات " في فعلها ناسياً ومكرهاً فإنه لا يفطر، بل لابد أن يفعلها ذاكراً عامداً.
عامداً:يقابله مكرهاً، وذاكراً مقابله ناسياً فلابد أن يكون عامداً أي غير مكره، ذاكراً أي غير ناس فإن كان ناسياً أو مكرهاً لم يفطر بذلك.(10/41)
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي الحاكم بإسناد صحيح: (من أفطر ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) ودليل المكره الحديث الصحيح: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فمن أفطر مكرهاً فليتم صومه فإن صومه صحيح، فإنما أطعمه الله وسقاه. ولم يستثن المؤلف رحمه الله الجاهل، لأن الجاهل في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور يفطر أن أكل أو شرب أو فعل مضطراً جاهلاً – والمراد الجاهل بالحكم -.
واستدلوا:بقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) لما مر على الرجلين وأحدهما يحتجم والأخر محتجم، قالوا فدل على أنه لا يعذر بالجهل وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب إسحاق ومجاهد والحسن وهو مذهب طائفة من السلف والخلف قالوا:هو معذور بالجهل، قياساً للجاهل على الناس، فكما أن الناسي لم يتعمد المفسد للصوم فكذلك الجاهل فإنه لم يتعمده إذا لا تعمد إلا بعلم وإن كان تعمد الفعل.
واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن عدي بن حاتم لما نزلت: {فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} قال عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض – فوضعتهما تحت وسادي فجعلت أنظر في الليل فلا يتبين ذلك لي قال:فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) وفي رواية: (إن وسادك إذاً إذا وسع المشرق والمغرب) فالمراد بذلك:بياض المشرق وسواده، وبياض المغرب وسواده أي سواد الليل وبياض النهار، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.(10/42)
واستدلوا:بحديث أسماء – سيأتي ذكره – من أن الصحابة أفطروا قبل غروب الشمس في يوم غيم فلم يؤمره بالقضاء وكذلك القاعدة الشرعية أن الشارع لا يفرق بين الجاهل والناسي في فعل المحذورات والمفسدات وما ذكروه أصح. وأما حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) فليس صريحاً في أنهما لا يفطران بل المقصود من ذلك أن من فعل ذلك فإنه يفطر على أن هذه قضية عين لا تخالف بها القاعدة الشرعية المتقدمة وهي قاعدة الشربعه في إلحاق الجاهل بالناسي ويحتمل فيها أنه مراد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد الأخبار بأن من فعل ذلك فإنه يفطر بدليل تعميميه في الأخبار فيها الأخرى من قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) فالأصح ما ذهب إليه أهل القول الثاني من أن الجاهل لا يفطر بذلك لأنه لم يتعمد المفسد فأشبه الناسي والمكره والحديث المتقدم دليل على ذلك، وهو قوله: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والخطأ هو الجهل.
قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار)(10/43)
أو دخان أو غير ذلك فإنه لا يفطر بذلك لأنه ليس بمتعمد لذلك ولا بمختار، والشرط في المفطرات أن تكون على هيئة الاختيار، فإن دخول الغبار لا يكون منه على هيئة القصد وهذا على القول بأن الغبار مفطر، وإلا فقد تقدم اختيار شيخ الإسلام بأن من سفا تراباً ونحوه فإنه لا يفطر بذلك لكن على المذهب من القول بأن الغبار ونحوه يفطر فإنه لا يقال بالفطر به حيث كان عن من غير تقصد ولا اختيار ومثل ذلك الدخان أو البخور فإنه إذا دخل من غير قصد فإنه – على المذهب – لا يفطر، لأنه دخل بغير اختياره أما لو دخل بتقصد منه فإنه يفطر بذلك في المشهور من المذهب وعليه يقاس الدخان المشهور عند الناس فإنه يخرج على المذهب من أنه مفطر من مفطرات الصيام والعمل على ما ذهب إليه الحنابلة فيما يشربه الناس من الدخان مما هو محرم في الشريعة وأما البخور فإن في النفس من ذلك شيئاً، وظاهر اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، ومقتضى السابق، أن شم البخور لا يفطر فإنه ليس بمأكول ولا بمشروب ولا بمعناهما – وهذا هو الأظهر – أما شم الروائح الطيبة من طيب ونحوه – من غير دخان يخرج معه – فإنه لا بأس به باتفاق العلماء.
قال: (أو فكر فأنزل)
إذا حدث منه تفكير موضع في ذهنه صوراً فوقع من ذلك إنزال فإنه لا يفطر بذلك.(10/44)
قالوا:لما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس معفو عنه وظاهر كلامهم الإطلاق وفي الإطلاق نظر، فإن الأظهر أنه إذا كان يستحضر الصور بقصد منه وتطلب مع علمه أن ذلك يورثه إنزالاً فالأظهر هو القول بأنه يفطر:وهذا هو اختيار ابن عقيل وأن كان اختياره على هيئة الإطلاق فإن ابن عقيل قال:أن من فكر فأنزل فإنه يفطر واستدل على ذلك بأن الفكر يأتي باستحضاره، وظاهر كلامه إذا لم يأت باستحضار منه بل كان عن غلبة فإنه لا يفطر بذلك وهذا هو الظاهر فإن هذا يشبه ما تقدم من تكرار النظر مع علمه أن ذلك يورثه إنزالاً أما إذا علم من نفسه ذلك واستدعى الفكر فإنه يفطر، لأنه تعاطى سبباً يورث مفسداً من مفسدات الصوم، تعاطاه باختيار منه فأسبه ذلك المباشرة والاستمناء اللذين يورثان إنزالاً.
قال: (أو احتلم)
فإنه لا يفطر وهذا بإجماع العلماء، والعلة:هي أن هذا الاحتلام لم يكن باختيار منه وينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو سبقه فكر، ويعلم أنه إذا وقع منه فكر فبل النوم فإنه يسبب له في الغالب الاحتلام فإنه إذا أوقع ذلك باستحضار عن غلبة فأورثه ذلك احتلاماً وهو يعلم من حاله أن ذلك يحدث منه فإنه يفطر فيما يظهر لي – على ما تقدم في الفكر والنظر ونحو ذلك والله أعلم.
قال: (أو أصبح في فيه طعام فلفظه)
بمعنى:أصبح وفي فيه طعام – أي قد نزل من أسنانه أو نحو ذلك – فلفظه فإنه لا يفطر لأن هذا الطعام الذي قد وقع في فيه وإن كان منه ما تحلل أثناء نومه ودخل في جوفه فإن ذلك لم يكن باختيار منه ولا تقصد أما إذا أبقاه في فيه بعد استيقاظه من النوم ثم تحلل منه بعد ذلك فإن دخل إلى الخوف فإنه يفطر بذلك لأنه حينئذ يكون مختاراً ومتعمداً للفطر.
قال: (أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر أو زاد على ثلاث)(10/45)
" اغتسل " يجوز الاغتسال في نهار رمضان ويستدل لذلك بما ثبت في الصحيحين عن عائشة وأم سلمه قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من غير احتلام ثم يغتسل وهو
صائم) ولو لم يكن الاغتسال جائزاً لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شروعه في الصوم ويدل عليه ما رواه أبو داود وأحمد بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسكب على رأسه الماء إما من الحر وإما من العطش وهو صائم) وفي البخاري معلقاً: (وبلَّ ابن عمر ثوباً فألقاه عليه وهو صائم) ومثل ذلك المضمضة، فدليلها:ما ثبت من سؤال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم فقال:لا بأس فقال النبي صلى الله عليه وسلم:فمه) أي فلم يكن هذا السؤال فإن هذا قياس ظاهر، فالقبلة من مقدمات الجماع، والمضمضة مقدمة للشرب فالقياس بينهما ظاهر. وكذلك ما ثبت من مضمضة الصائم في الوضوء سواء كان الوضوء واجباً أو مستحباً، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو كانت المضمضة منهياً عنها لما أحدث في الصوم إلا للوضوء الواجب ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف بين أهل العلم وأما الاستنشاق فيستدل له بما تقدم، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وهذا متضمن لجواز أصل الاستنشاق، وإن كانت المبالغة منهياً عنها وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. ولا بأس أن يدهن، فلو دهن على بطنه أو شعره أو نحو ذلك فلا بأس وأن كان لا يؤمن من تسرب شيء يسير من خلال مسافات اليدين لكن هذا مما عفي عنه، وليس بما تقدم عن الطعام والشراب وهذا مما اتفق عليه العلماء. وقد روى البخاري عن ابن مسعود قال: (إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهيناً مترجلاً) .(10/46)
(أو زاد على الثلاث) في المضمضة والاستنشاق لا يؤثر ذلك في صومه وإن زاد على ثلاث وأما هل هو مشروع أم لا؟ فقد تقدم أن من زاد على الثلاث فقد أساء وظلم.
قال: (أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد)
إذا بالغ في الاستنشاق فدخل الماء إلى حلقه فإنه لا يفطر بذلك هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والصحيح ما ذهب إليه جمهور وهو اختيار المجد ابن تيميه قالوا:يفطر بذلك، ذلك:لأنه بمبالغة بالاستنشاق فعل سبباً لدخول الماء إلى الحلق،، فوقع هذا الدخول بفعل هذا السبب الظاهر فيه فثبت الفطر ثم أنه لا يجوز له فعل ذلك وما ترتب على غير الماء دون فيه فليس بمضمون وتترتب عليه الأحكام الشرعية ثم هو وإن لم يتعمد دخول الماء إلى الحلق لكنه تعمد فعلاً هو سبب
ظاهر في دخول الماء إلى الحلق فكما لو استمنى أو باشر فأنزل، فهو وأن لم يقصد بهما نزول المني فإنه يفطر بذلك فكذلك هنا.
وذهب المالكية والأحناف:إلى أنه أن استنشق ولم يبالغ فنزل الماء إلى الحلق فإنه يفطر بذلك وهذا ضعيف، فإنه قد فعل أمراً جائزاً ليس سبباً ظاهر لدخول الماء إلى الحلق فدخول الماء لم يكن عن تقصد منه ولا اختيار فلا يفطر به.
إذن:إذا استنشق فإنه لا يفطر إلا بأمر.
أن يكون قد بالغ في الاستنشاق.
أن يصل إلى الحلق شيء من الماء وينزل منه إلى المعدة ومعلوم أنه لا يتيقن وصول ذلك إلى المعدة لكن وصوله إلى الحلق مظنة وصوله إلى المعدة، ولأنه لا يتم الشعور بنزول الماء اليسير إلى المعدة.
قال: (ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه)
رجل ظن أن الوقت لا زال ليلاً أو تيقن ذلك فأكل، ثم يثبت تبين أنه كان في نهار – فذلك لا يؤثر في صومه. وذلك لأن الأصل هو بقاء الليل، وليس المقصود من ذلك ألا يفعل الأسباب التي يتوصل بها إلى معرفة الوقت من نظر إلى ساعة أو الجو في الخارج أو نحو ذلك، بل المقصود أنه بقدر استطاعته لم يتبين له خروج الليل وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.(10/47)
قال: (لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس أو معتقد أنه ليل فبان نهاراً)
هذه مسألة بعكس المسألة المتقدمة فهو في النهار، فالنهار هو المتيقن ثم شك هل غربت الشمس أم لا، فأكل أو شرب فإنه يفطر بذلك لأن الأصل هو بقاء النهار فلا يتزحزح عن هذا الأصل إلا بثبوت غروب الشمس لكن أن ظن غروبها ولم يتمكن أن يتيقن غروبها كأن يكون أعمى أو في موضع ليس أمامه إلا الاجتهاد كأن يكون سجيناً ولم يمكنه السؤال، أو أن يكون الجو غيماً فظن أن الشمس غربت فأفطر فإنه لا يؤثر على ذلك شيئاً إذا بان أنها لم تغرب وذلك للعمل بغلبة الظن، فإنه من المتقرر في قواعد الشريعة أن العمل بغلبة الظن صحيح ما لم يمكنه العلم " التيقن "، وهو قد علم بقدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهار)
هذا مخالف لما تقدم تقريره من أنه إذا غلب على ظنه غروب الشمس ولم يمكنه العلم فإنه يصح صومه، لكن المذهب أنه يجب على الفقهاء وهو مذهب جمهور العلماء. وهذه مسألة الجاهل في الوقت:فهو جاهل في الوقت ظن أن الشمس قد غربت ولم يمكنه التيقن لوجود غيم فأمطر ثم تبين له بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فقد انجلى الغين وطلعت الشمس، فيجب عليه القضاء – وهذا مذهب جمهور العلماء. واختار شيخ الإسلام وهو مذهب إسحاق ومجاهد والحسن كما تقدم:ذهبوا إلى أنه لا يفطر بذلك.(10/48)
واستدلوا:بحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: (أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) فسئل هشام " وهو راوي الحديث عن أمه عن أسماء " سئل: (أقضوا فقال " بدُ من قضاء " أي لابد من القضاء) ، وهذا ليس من روايته بل من رأيه، بدليل ما ذكره البخاري في صحيحه قال: (قال معمر:سألت هشام أقضوا أم لا؟ فقال:لا أدري) فدل على أنه ليس عنده رواية ونقل في هذا الباب بل قال ذلك عن اجتهاده وحينئذ فإن هذا الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء، ولو كان ثمت أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لكان أولى بالنقل من مجرد فعلهم، فأسماء رضي الله عنها لو كان عندها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقضاء، لكان أخبارها بذلك أولى من أن تخبر عن فطرهم في يوم غيم ثم طلعت الشمس فإن هذا خبر يقع في عصرهم وفي غيره، وحيث لم تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء مع أن الهمة متوافرة لنقله فذلك يدل على عدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه جاهل في الوقت فأشبه الجاهل في الحكم، فإنه قد فعل المفطر من غير تعمد منه، بل هو قد ظن تمام صومه فأفطر، وقد اتقى الله ما استطاع لكن إذا طلعت الشمس فيجب عليه الإمساك، لثبوت اليوم ولقوله صلى الله عليه وسلم في الناسي إذا أكل قال: (فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) .
مسألة:من فعل مفطراً عمداً كالاستيقاء عمداً ونحو ذلك، فهل يمسك بقية يومه أم لا؟ (انظر لزاماً الدرس التالي فإنه – حفظه الله – قد رجح وجوب الإمساك عليه) يجب عليه القضاء كما هو مذهب جمهور العلماء.(10/49)
الظاهر:أنه لا يجب عليه الإمساك لأن القاعدة عدم الجمع بين القضاء والإمساك ففيه نوع عذاب، فلا يظهر أنه يؤمر بالإمساك بل قد يكون إمساكه وهو فعل هذا المفطر متعمداً يكون مخففاً للمعصية في نفسه، وحيث لم يؤمر بالإمساك فإن ذلك أعظم في نفسه وأردع من أن يتعاطى شيئاً من المفطرات، لكن مع ذلك لا يجوز له أن يأكل علانية لئلا يتهم في دينه. (انظر الدرس الذي بعده فقد رجح خلاف ذلك) .
مسألة:
رجل يأكل أو شرب ناسياً أو جاهلاً فهل تبين له ذلك أم يترك ويقال:قد أطعمه الله وسقاه؟
وجهان في مذهب الإمام أحمد:
الوجه الأول:أنه يترك فإن هذا رزق من الله ساقه إليه فلا يمنع منه.
الوجه الثاني:أنه ينكر وهذا أظهر، لوجوب إنكار المنكر، ومعلوم أن من تعاطى محرماً وهو يظنه حلالاً فهو رزق قد ساقه الله إليه لأنه جاهل بالحكم الشرعي ومع ذلك لا شك أنه تبين له أنه حرام فهذا واجبنا من الإنكار على أنه لا يقطع أن يكون ناسياً فقد يكون فعله متعمداً ولا شك من وجوب الإنكار على المتعمد.
فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو وجوب الإنكار عليه.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن جامع في نهار رمضان ….. فعليه القضاء والكفارة)(10/50)
لقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} فهذا يدل أن الجماع نهار رمضان مفسد للصوم، وهذا بإجماع العلماء سواء كان الجماع فيه إنزال أو لم يكن إنزال، وقد قال الله تعالى:في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) شهوته أي الجماع ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله هلكت وفي رواية: (احترقت) فقال:وما أهلكك فقال:وقعت على امرأتي في رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم:هل تجد ما تعتق رقبة فقال:لا قال:فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال:لا فقال:وهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً قال:لا، ثم جلس الرجل ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال:تصدق بهذا فقال:وعلى أفقر منا يا رسول الله، فو الله ما بين أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال:أطعمه أهلك) .
قال: (في قبل)
أي في قبل لامرأة سواء كانت أجنيه عنه أو زوجة له أما الزوجة فقد تقدم الحديث المتفق عليه وأم الأجنبية فهي أولى لأن ذلك محرم، ولأن هذا الجماع المحرم فيه ما في الجماع المباح من شهوة، فلا فارق بينهما، بل هو أولى تحريم الشارع له.
قالوا:ولو كان في بهيمة لأنه وطء مفسد للصوم وقال أبو الخطاب من الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد أنه يفسد الصوم لكن لا يجب فيه الكفارة – وهذا أظهر، لأنه قياس مع الفارق، فإن هذا جماع قد أباحه الله تعالى، وهو موافق لطبيعة الإنسان مما جعله الله محلاً للحرث والنسل والشهوة، وأما هذا فهو شذوذ وليس بمساو للجماع الذي يكون للآدمية، فمع إفساد للصوم فإنه لا يوجب الكفارة.
قال: (أو دبر)
إذا جامع الرجل زوجته في دبرها فقد فسد صومه ويجب عليه الكفارة في المشهور من مذهب أحمد ومذهب الشافعي ومالك.(10/51)
قالوا:لأنه وطء محرم مفسد للصوم فأشبه الجماع من القبل وذهب الأحناف ووجه ذلك صاحب الفروع إلى أنه وأن أفسد الصوم فإنه لا يوجب الكفارة. قالوا:لثبوت الفارق بين الجماع من الدبر والجماع من القبل في أحكام كثيرة فمن ذلك:ثبوت الإحصان فهو في الجماع من الدبر وهو ثابت في الجماع من القبل، ولأن الشهوة لا تتم به وإنما هو على وجه الشذوذ بمخالفة الفطرة – وهذا القول أظهر – فهو مفسد للصوم لكنه لا يوجب الكفارة للفارق بينه وبين الجماع من القبل، فليس بمنصوص عليه، وليس بمعنى المنصوص والأصل هو عدم وجوب الكفارة فلم يثبت بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه أو قياس، وهنا لم يثبت في الكتاب والسنة وليس القياس صحيحاً لوجود الفارق بينهما. والله أعلم.
قال: (فعليه القضاء)
هذا هو المشهور عن الحنابلة وغيرهم من أهل العلم أن من جامع في نهار رمضان فإنه يجب عليه القضاء وقد ورد مصرحاً به في رواية أبي داود في حديث المجامع امرأته في نهار رمضان وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صم يوماً مكانه) والحديث قد صححه الحافظ ابن حجر – وسيأتي البحث في هذه المسألة – عند الكلام على القضاء فيمن فعل مفطراً عمداً بلا عذر وقد ذهب جماهير العلماء إلى وجوب القضاء عليه، وقد ورد هنا هذا الحديث الذي له طرق كثيرة يشد بعضها بعضاً، وقد صححه الحافظ.
قال: (والكفارة)
ودليل وجوبها الحديث المتفق عليه المتقدم، فقد أوجب صلى الله عليه وسلم على المجامع في نهار رمضان الكفارة وهي عتق رقبه فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
قال: (وإن جامع دون الفرج فأنزل)
إذا باشر الرجل امرأته وأنزل، فلا يجب عليه الكفارة، كما أنه قد فعل مفسداً من مفسدات الصوم فمع فعل هذه المفسد ويجب عليه القضاء في مذهب الجمهور فإن الكفارة لا تجب عليه.(10/52)
قالوا:لأن الوارد إنما هو فيمن جامع امرأته من فرجها ولا نص من كتاب ولا سنة ولا قياس يدل على أن المباشرة لامرأته المنزل يجب عليه الكفارة، فإن هناك فارقاً بين الجماع وبين المباشرة
وأن كان فيها إنزال فإن الجماع أبلغ فيها وأتم في الشهوة، ولذلك وجبت الكفارة بمجرد الجماع وأن لم ينزل بخلاف المباشرة فإنها بالاتفاق لا تجب الكفارة مع عدم الإنزال بل لا يفطر الصائم كما تقدم، وحيث ثبت الفارق فلا يصح القياس وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أن المباشر إذا أنزل فإنه يفسد صومه ولا تجب عليه الكفارة لأن الشارع لم ينص على ذلك ولأن ذلك ليس بمعنى المنصوص والأصل هو عدم الكفارة إلا بدليل أو بتعليل صحيح.
قال: (أو كانت المرأة معذورة)
بأن كانت ناسية أو جاهلة أو مكرهة فلا يجب عليها الكفارة لأن الشارع قد عذر بالنسيان والإكراه وظاهره أن الرجل يجب عليه وأن كان معذوراً، فلو أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً ومكرهاً أو جاهلاً فإن الكفارة تثبت عليه – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة – ففرقوا بين الآكل والشارب، وبين المجامع أن المجامع في نهار رمضان يثبت عليه الكفارة ويبطل صومه وإن كان ناسياً أو مكرهاً. وأما الآكل أو الشارب فإذا كان ناسياً أو مكرهاً فلا يجب عليه قضاء ولا كفارة، وأما الجهل فقد تقدم البحث فيه وإن الحنابلة لا يرون العذر بالجهل بالآكل والشرب، فأولى من ذلك ألا يرونه في الجماع.(10/53)
واستدلوا بحديث المجامع المتقدم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة، وأمره بالقضاء في رواية أبي داود المتقدمة ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم أهو ناسي أم ذاكر أهو مكره أم لا، أهو جاهل أم عالم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال لترك منزلة العموم في المقال – وهذا ضعيف – ولذا ذهب جمهور العلماء إلى العذر بالنسيان والإكراه في هذا الباب وأما الجهل فكما تقدم ترجيح المسألة لشيخ الإسلام وهن كذلك ولذا يرى شيخ الإسلام يرى العذر في هذه المسألة بالجهل والنسيان والإكراه.
قالوا:لأن قصة الرجل المتقدمة – قوله: (هلكت) ونحو ذلك يدل على أنه لم يقع ذلك منه على سبيل النسيان أو إكراه أو جهل وإنما وقع ذلك على سبيل العلم والاختيار وإلا لما قال ذلك.
قالوا:ولأن الأصل هو عدم النسيان وعدم الإكراه وعدم الجهل فالأصل في الفاعل للشيء أن يكون قد فعله عن علو واختيار وذكر فالحكم قد أنزل على الأصل، ويؤيد هذا ما تقدم من سياق الحديث وأن ظاهر ذلك أنه فعله مختاراً ذاكراً وما ذكروه هو الأرجح، ودليلهم بعد أن أجابوا عن
دليل الحنابلة دليلهم القياس، قياس المجامع على الآكل والشارب مع عدم تعمد واختيار والمفسد وما ذهب إليه جمهور العلماء واختيار شيخ الإسلام أصح في هذه المسألة وقوله: (أو كانت المرأة معذورة) ظاهره أنها أن لم تكن معذورة بأن كانت مختارة لذلك، فإنه يجب عليها الكفارة كما تجب على الزوج – هذا هو ظاهر قول المؤلف وهو المشهور في مذهب أحمد وهو قول جمهور العلماء -.
قالوا:لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجل فهو ثابت في حق النساء وكلهم مكلفون بحدود الشريعة من حدود أو كفارات أو أحكام أو غير ذلك، ولأن الكفارات لا يتشارك فيها، فإن الكفارة تتوجه إلى شخص ما من غير أن يكون فيها شيء من التشارك والتداخل.
وذهب الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن الإمام أحمد أن الواجب عليها كفارة واحدة.(10/54)
واستدل:بأن النبي صلى الله عليه وسلم – في حديث المجامع امرأته – لم يأمره أن يأمر زوجته أن تكفر قالوا:فدل ذلك على أنه لا يكون ذلك عليها – وهذا الاستدلال ضعيف النظر فإن السؤال إنما صدر عن السؤال في نفسه فليس من الواجب أن يجاب فمن لم يصدر السؤال عنه، وفي حكم النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى إثبات ذلك للمرأة لما تقدم من اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام الشرعية من حدود ونحو ذلك فإن هذا مقرر معلوم عن الصحابة. والسؤال إنما صدر من الرجل فليس واجباً من البيان أن يذكر حكم المرأة حينئذ – على احتمال أن تكون المرأة معذورة كأن تكون قد طهرت من حيضها فجامعها أو مكرهة ونحو ذلك.
قال: (أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة)
رجل مسافر فجامع امرأته في السفر، فإنه يكون بذلك مفطراً ولا كفارة عليه كما لو أكل أو شرب وهذا ظاهر فيما لو فعل ذلك بغير نية الفطر كأن يكون جاهلاً بجواز الفطر في السفر فجامع امرأته لا يظن إلا أنه قد خالف أمر الله عز وجل معتقداً أنه فاعل مفسداً من مفسدات الصوم فهنا لا يتوجه القول بما ذكر المؤلف هنا، بل الأظهر أنه يجب عليه الكفارة – ذلك لأنه لا فرق بين الصوم في السفر والصوم في الحضر إلا بجواز الفطر، وأما أن فرق بينهما بما يترتب على فعل المفطرات فلا، وهذا رواية عن الإمام، وصاحب الفروع أي أنه عليه الكفارة.
قال: (وأن جامع في يومين أو كرر في يوم ولم يكفر فكفارة ثانية) .
إذا كرر الجماع فله حالتان، ولكل حالة صورتان.
الحالة الأولى:أن يكون الجماع في يومين فأكثر بمعنى يجامعها في اليوم ثم يجامعها في اليوم الآخر وهكذا.
الحالة الثانية:أن يكون الجماع في يوم واحد.
وأما الصورتان فيهما.
أ – أن يكون الجماع الثاني بعد الكفارة من الجماع الأول سواء.
ب- يوم واحد أو يومين فتكون الصور أربع صور.(10/55)
أما الصورة الأولى:وهي أن يجامع في يوم واحد يكرر جماعه لامرأته من غير أن يكفر فإن عليه كفارة واحدة لا خلاف بين أهل العلم في ذلك – وهذا ظاهر فإن اليوم المفسد يوم واحد، فهو إنما انتهك حرمة هذا اليوم فكان الواحد عليه كفارة واحدة.
أما الصورة الثانية:أن يجامع امرأته في يوم ثم يكفر ثم يجامعها في يوم أخر، فهنا أيضاً لا إشكال ولا خلاف بين أهل العلم بأنه يجب عليه في هذا اليوم الثاني كفارة أخرى لأن كل يوم عبادة مستقلة بنفسها وقد سبق لليوم الأول كفارة وكان الواجب لليوم الثاني كفارته.
والصورة الثالثة:أن يجامعها في يوم من أيام رمضان ولم يكفر ثم يجامعها في يوم أخر فهل يكتفي بكفارة واحدة؟
جمهور العلماء أنه لا يكفي بكفارة واحدة وهذا الظاهر لأن كل من هذين اليومين عبادة مستقلة قد انتهكت حرمته من هذا المجامع بالجماع فوجب عليه الكفارة.
أما الصورة الرابعة:فهي أن يجامع المرأة ثم يكفر في أول النهار ثم يقع فيه جماع في آخر النهار. فهذا اختلف فيه أهل العلم على قولين:
المشهور في المذهب أنه يجب عليه كفارة ثانية.
قالوا:لأنه يجب عليه الإمساك بعد جماعه الأول وحيث وجب عليه الإمساك فكان فعله هذا محرماً فأشبه الجماع الأول فيجب فيه كفارة أخرى. فهم قد استدلوا بالإمساك على وجوب الكفارة(10/56)
وقال جمهور العلماء بل لا يجب عليه كفارة أخرى ذلك لأن اليوم المتبقي وإن كان واجباً فيه الإمساك عليه ليس كأول اليوم الذي وقع فيه الجماع الأول فإن بينهما فارقاً والفارق أن الجماع الأول افسد الصوم وأما الجماع الثاني فإنه ليس هو المفسد للصوم لأنه إنما يجب عليه الإمساك مع وجوب القضاء فهذا الصوم ليس كالصوم المتقدم المقر به الذي لا يجب فيه قضاء وما ذهب إليه جمهور العلماء أصح لأن القياس مع الفارق ليس بصحيح فالقياس هنا مع الفارق، فهما مشتركان بالتحريم لكنهما ليس بدرجة واحدة، فالجماع الثاني جماع ليس بمفسد للصوم والأول مفسد له.
مسألة:
ما ذكره الفقهاء من أن من جامع امرأته يجب عليه الإمساك هذا هو مذهب جمهور العلماء، وذكر الموفق وأنه لا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة إلا ما حكى عن عطاء في مسألة يمكن تخريج هذه المسألة عليها، وذكر أنه قول شاذ لا يخرج عليه لكن ذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد في هذه المسألة وهذه المسألة هي أن من أفطر في رمضان فيجب عليه الإمساك.
قال الموفق بغير خلاف بين أهل العلم إلا ما يثبت إلى عطاء في مسألة يمكن أن تخرج هذه المسألة عليها … وذكر بعض الحنابلة عن الإمام أحمد رواية أن من أفطر بلا عذر فإنه لا يجب عليه الإمساك وما ذكره جمهور العلماء يتوجه فيما يظهر لي، ذلك لأن هذا اليوم واجب عليه أن يمسكه من أوله إلى آخره، وحيث فعل ذلك في أوله فإنه ليس بمعذور في آخره وإن كان الصوم فاسداً ويجب عليه القضاء.
إذن:من أفطر فلا عذر فيجب عليه الإمساك بالاتفاق إلا ما حكى عن الإمام أحمد في رواية عنه ذكرها بعض الحنابلة، وأيضاً تخرج هذه المسألة على قول عطاء كما تقدم.
إذن:الرجل إذا جامع في أول النهار فكفر فيجب عليه الإمساك بعد ذلك فإن جامع مرة أخرى فلا كفارة عليه - كما تقدم -.
قال: (وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع)(10/57)
رجل يجب عليه أن يمسك فجامع فيجب عليه الكفارة إذا قامت النية نهاراً فيجب الإمساك، ويجب القضاء - في المشهور من المذهب – وتقدم أن القضاء ليس بواجب في الأصح فإذا جامع فيجب عليه الكفارة أما على ما ذكره الحنابلة فهو مخرج على المسألة السابقة وأما على الراجح فإنه لا
إشكال في هذا فإنه يوم يعيد به ولا قضاء منه فأشبه اليوم الذي قد ثبت بنية ليلاً لكن ظاهر كلام المؤلف أن الرجل إذا قدم من سفر مفطراً فجامع امرأته فإنه يجب عليه الكفارة وهذا ضعيف وقد نص الإمام أحمد على أن هذا لا يجب عليه الكفارة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا على أنه قد تقدم أنه لا يجب عليه الإمساك لأنه قد أفطر في أول النهار معذوراً فلا يجب عليه الإمساك في يومه – وحيث جامع فلا يؤثر ذلك في صومه. فإطلاق المؤلف فيه نظر. أما إذا كان يجب عليه الإمساك حيث أفطر في أول النهار فلا عذر أو يثبت النية نهاراً فهذا لا إشكال فيه كما تقدم وإنما الإشكال حيث كان مفطراً في أول النهار ثم جامع في آخره وقد زال عنه العذر فإن هذا ضعيف لأن الإمساك لا يجب في الأصح، وإن قلنا بوجوبه فإنه مع وجوب القضاء مثلاً يشبه اليوم الذي لا يجب القضاء فيه وهو معتد به.
قال: (ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط)
رجل جامع امرأته في أول النهار وهو مكلف ثم كان فيه إن زال تكليفه أما بأنه بجنون أو وقع وطرأ له عذر كالسفر فهل يثبت عليه الكفارة؟
قال المؤلف هنا:يجب عليه الكفارة ولم تسقط – وهذا ظاهر بأن الكفارة قد استقرت في ذمته وقد يؤخر شرطها فهو مكلف فرض عليه الصوم محرم عليه الجماع مفسد لصومه فتعلقت الكفارة في ذمته وتعلق به الإثم وأما كونه مسافر بعد ذلك أو يصاب بمرض فإن ذلك قد طرأ وحيث كان طارئاً فإنه لا يؤثر على ما ثبت أصلاً.(10/58)
فالعبرة إذن:أنه أثناء الفعل، فإن كان مكلفاً مقيماً فإن جامع فعليه الكفارة والآثم فإن طرأ عليه العذر بعد ذلك فلا يؤثر فقد استقرت الكفارة في ذمته.
قال: (ولا يجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان)
رجل جامع امرأته في صيام نذر واجب، أو في صيام قضاء لرمضان أو في صوم تطوع فلا يجب الكفارة وذلك لأن النص إنما ورد في الجماع في رمضان، فلا يقاس عليه الجماع للفارق فإن المعنى الثابت في رمضان والحرمة الثابتة فيه ليس كالثابتة في غيره، فكونه يفطر في يوم صامه بعذر ليس ذلك متشبهاً لكونه مفطر في نهار رمضان الذي هو الأصل في الصيام – وهذا مذهب جمهور العلماء لأن انفي إنما ورد بالجماع في نهار رمضان وغيره ليس بمعناه.
قال: (وهي عتق رقبه) .
عتق رقبه مؤمنة سليمة من العيوب للحديث المتقدم:وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (هل ما تعتق رقبه) وقد مثبت في القرآن في باب أخر بعتق رقبه مؤمنة.
قال: (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)
فإن لم يجد مالا يشتري به رقبه فإنه يصوم شهرين متتابعين.
قال: (فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً)
فإن لم يستطع الصيام فإنه يطعم ستين مسكيناً، كل مسكين مداً من حنطة أو نصف صاع من غيره، أو يصنع طعاماً فيطعمه لهم وهذه الواجبات إنما هي على الترتيب على التخيير، فإذا قدر على العتق فلا يجوز له الصيام، وإذا عجز عن العتق وقدر على الصيام فلا يجوز له الإطعام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر فيها على المجامع امرأته – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: (فإن لم يجد سقطت)
فإن لم يجد مالاً يعتق به رقبه ولم يجد مالاً يطعم به ستين مسكيناً فإن الكفارة تسقط عنه مع عدم استطاعته لصيام شهرين متتابعين، فإذا عجز عن الكفارة كلها فإنها تسقط عنه ولا تتعلق بذمته إلى ألقى خلافاً للمسألة المتقدمة في الكفارة عن الحامل والمرضع.(10/59)
قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلقها في ذمة المجامع فلم يقل له:يجب عليك أن تفعل شيئاً من هذا الثلاث على الترتيب حيث استطعت وحيث لم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فإنه يدل على عدم الإيجاب لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وعن الإمام أحمد أنها لا تسقط قياساً على سائر الكفارات كما تقدم في كفارة المرضع والحامل.
والصحيح:أن سائر الكفارات تسقط كهذه الكفارة حيث عجز عنها.
والحمد لله رب العالمين.
----------- الدروس 160، 161، 162 غير موجودة -----------------
تقدم أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد وإن أصح أقوال العلماء في هذه المسألة صحة الاعتكاف في كل مسجد جماعة.
واعلم أن كل موضع يثبت أنه من المسجد فيصح الاعتكاف به كسطح المسجد ومنارته ورحبته وغير ذلك مما يتصل بالمسجد مما هو يتبع له والمشهور في المذهب أن المرأة إذا حاضت فيجوز لها أن تعتكف في رحبته وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لها ذلك بل تخرج من المسجد إلى بيتها، وهذا هو الأصح وذلك لأن رحبة المسجد منه، والحائض لا يجوز لها المكث في المسجد.
أما المستحاضة فإنه يجوز لها الاعتكاف كالصلاة.
أما الحائض، فإذا حاضت فيجب خروجها من المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: (ويعتزل الحيَّض المسجد) ويدخل في ذلك كل ما يتصل بالمسجد من سطح ورحبة ومنارة وغرف تفتح أبوابها إلى المسجد ونحو ذلك مما هو من المسجد.
قال: (ومن ينو زمناً معيناً دخل معتكفه قبل الليلة الأولى وخرج بعد آخره)
هذه مسألة في النذر في باب الاعتكاف، من نذر نذراً معيناً فإنه يجب عليه أن يدخل من أوله ويخرج من آخره.
فإذا نذر أن يعتكف شهر رمضان فيجب عليه أن يدخل قبيل غروب الشمس من الليلة الأولى من رمضان، ويخرج إذا غربت الشمس من اليوم الأخير من شهر رمضان.(10/60)
ومن نذر أن يعتكف نهاراً فيجب أن يدخل قبل طلوع الفجر الصادق ويخرج إذا غربت الشمس وذلك لأن الواجب عليه بالنذر أن يوقعه على من نذره، ولا شك أن الليلة تدخل في اليوم، فأول ليلة من رمضان داخلة في الشهر – بخلاف ليلة العيد فليست من شهر رمضان – وهذا باتفاق العلماء.
أما إن كان الاعتكاف تطوعاً فهنا روايتان عن الإمام أحمد في أول وقته:
الرواية الأولى:أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين أي يدخل في آخر نهار عشرين.
قالوا لأن الاعتكاف إنما هو للعشر الليالي، بدليل أن الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم تقول:اعتكف العشر.
القول الثاني:أنه لا يدخل إلا بعد صلاة الفجر، وهو قول إسحاق والليث والأوزاعي وابن المنذر، واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه) من حديث عائشة.
قالوا:وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف تطوعاً فكان إذا صلى الصبح دخل معتكفه.
وظاهر هذه الرواية أن ذلك من صبيحة إحدى وعشرين.
لكن قال القاضي من الحنابلة:ويحتمل أن يكون يوم عشرين أي في صبيحة يوم عشرين – وهذا في نظري – أصح.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف أولاً العشر الأوسط يلتمس ليلة القدر حتى تبين له أنها من العشر الأواخر)
فخرجنا صبيحة عشرين فخطبنا النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين فقال: (إني أريت ليلة القدر وإني أنسيتها ... …) الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، قال أبو سعيد: (فدخل الناس في المسجد)(10/61)
وظاهر ذلك أن دخولهم كان صبيحة عشرين لما خطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الأليق لتدخل ليلة إحدى وعشرين، فإن ليلة إحدى وعشرين التي هي مقصودة في الاعتكاف – لا تدخل في اعتكافه – ولا يصح حينئذٍ أن يكون اعتكف العشر الأواخر لأنه لم يعتكف الليلة الأولى.
فعلى ذلك تكون المسألة:يجوز له أن يعتكف قبل غروب الشمس، فيدخل ليلة إحدى وعشرين في اعتكافه، فإن اعتكف بعد صلاة الصبح من يوم عشرين فهو أفضل، وذلك ليتهيأ للاعتكاف لقيام هذه الليلة التي هي من ليالي العشر ويحتمل أن تكون ليلة القدر كما تقدم في حديث أبي سعيد المتفق عليه – هذا هو الراجح – أن المستحب له أن يدخل صبيحة عشرين كما عليه حديث أبي سعيد وذكره القاضي احتمالاً، فإن لم يدخل إلا قبيل غروب الشمس فلا بأس، أما إن لم يدخل إلا صبيحة إحدى وعشرين فإن ليلة إحدى وعشرين لا تدخل في اعتكافه وإن كان اعتكافه صحيحاً لما بعدها من الليالي لكن ليلة إحدى وعشرين لا تكون من اعتكافه.
قال: (ولم يخرج المعتكف إلا لما لابد منه)
لحاجة الإنسان من بول أو غائط، طعاماً يطعمه في المسجد أو من يحضر له الطعام فيخرج ليطعم في بيته، أو أن يحتاج إلى الخروج من المسجد لمرض أو أن يتعين عليه الشهادة في ذلك اليوم لإنقاذ مسلم من هلكة أو لأداء صلاة الجمعة وكل ذلك مما لان كله منه، أي كل واجب وما لا يمكن له أن يستغني عنه من طعام وشراب وحاجة ونحو ذلك فإنه يخرج – هذا ما لم يكن هناك مبدوحة – وذلك أما إذا كانت هناك مبدوحة كأن يؤتى بالطعام إليه في المسجد، أو يكون في نواحي المسجد ما يقضي فيه حاجته أو أن يكون غيره يشهد لحق هذا المسلم أو من ينقذ الغريق غيره أو من يقوم بأمر الجنائز غيره ونحو ذلك فإنه لا يجوز له الخروج.
ودليل ذلك:ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا اعتكف يبدي له رأسه فترجله ولم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)(10/62)
وتقدم حديثها الذي تقدم ترجيح وقفه، وفيه: (ولا يخرج إلا لما لابد له منه) مما لابد له منه فيجوز أن يخرج له وهذا بإجماع العلماء السنة تدل على ذلك فقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لحاجة الإنسان.
أما إذا كان الأمر منه بدّ وله مندوحة عنه فإنه إن خرج له بطل اعتكافه، كأن يخرج إلى البيت لطعام وهو يمكن أن يحضر له في المسجد أو خرج لمبيت فإنه يبطل اعتكافه.
فإن كان الاعتكاف نذراً فإنه يفسد اعتكافه فيجب عليه القضاء \ن وإن كان تطوعاً فإنه يستأنفه بنيةٍ جديدة ويفوته من الأجر بقدر ما خرجه وقد تقدم أن الاعتكاف يثبت مسماه ولو لساعة من ليل أو بنهار.
أما إذا كان الاعتكاف نذراً فخرج لما له بد فإنه يفسد اعتكافه لأن هذا منهي عنه في الاعتكاف مفسد له، بدليل ما تقدم من قول عائشة: (إلا لما لابدّ له منه) ومفهوم المخالفة فيه أنه خرج لما له منه بدّ فإنه يبطل اعتكافه.
قال: (ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة)
لقول عائشة في الأثر المتقدم فيما يكون من السنة على المعتكف قالت: (ولا يعود مريضاً) ومثل ذلك شهادة الجنازة ونحو ذلك من الأفعال الصالحة، فهي وإن كانت أفعالاً صالحة لكن فعلها خارج المسجد يبطل الاعتكاف لأن الاعتكاف حقيقته لزوم المسجد وحيث خرج منه بلا ضرورة
فإن ذلك يبطل اعتكافه ولو كان هذا الخروج مستحباً، بل ولو كان خروجه أفضل من اعتكافه وكما تقدم، فإن كان الاعتكاف نذراً فيجب عليه القضاء، وإن كان تطوعاً فإنه يستأنف نيته.
قال: (إلا أن يشترطه)
أي من نذر الاعتكاف أو أراد أن يتطوع به، فنوى المتطوع في قلبه أو تلفظ بالنذر فقال:" لله عليَّ أن أعتكف عشرة أيام بشرط أن أخرج لعيادة المريض أو اتباع الجنائز أو نحو ذلك من الشروط "
فهل يجزئ ذلك ويصح الاشتراط؟
قال الحنابلة يصح الاشتراط، وقيل ذلك في الاعتكاف التطوعي فلو اشترط عيادة المريض ونحو ذلك فإنه يصح.(10/63)
قالوا:مثل ذلك:لو اشترط ما له منه بدّ وليس قربة كأن يشترط مبيتاً في بيته أو يشترط أن يطعم في بيته ثم يعود إلى المسجد فإذا اشترط ما له منه بدّ مما يحتاجه ولا ينافي الاعتكاف كتجارة أو نحو ذلك فإن هذا الاشتراط لا يجوز لأنه ينافي الاعتكاف.
وخالف من الحنابلة ابن عقيل والمجد بن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد في مسألة اشتراط ما له منه بدّ مما ليس قربة، كأن يشترط طعاماً أو مبيتاً في البيت.
قالوا:إن اشترط ذلك فإنه لا يصح وأولى منه قالوا:شرط لخروج لتجارة ونحوها، قالوا:لأن ذلك ينافي الاعتكاف فإنه خرج من المعتكف على غير ولغير عيادة أو شهادة لأن العبادة في الأصل لا تنافي الاعتكاف فكلاهما عبادة لله عز وجل.
قالوا:بخلاف هذا الأمر الدنيوي الذي له منه بدّ ومع ذلك اشترطه فإن ذلك ينافي الاعتكاف فلا يصح ذلك.
وذهب الإمام مالك إلى أن الاشتراط من أصله لا يصح، لأن حقيقة الاعتكاف هي لزوم الشيء ولا اشتراط فيه يقتضي الخروج من هذا الالتزام في هذا الموضع، فحينئذٍ لا يصح الاشتراط مطلقاً والذي يظهر لي في هذه المسألة:
أما إن طرأ له طارئ من مرض أو خوف أو نحو ذلك فإنه لا يعتكف كأن ينذر رجل أن يعتكف شهراً في المسجد الحرام إلا أن يعوقني مرض أو يحدث خوف على الناس فإن هذا الاشتراط يصح لقوله(10/64)
صلى الله عليه وسلم بضُاعة بنت الزبير قال لها: (اشترطي على ربك فإن لك على ربك ما استثنى) أما أن اشترط أمر من الأمور التي تنافي الاعتكاف منافاة ظاهرة كما يكون ذلك في أمور التجارة ونحو ذلك، فإن القول بعدم جواز الاشتراط ظاهر كما تقدم، ولعله اتفاق بين أهل العلم فلم أر فيه بينهم اختلافاً. وأما اشتراط القربة أو ماله منه بد كميت ونحو ذلك فالذي يظهر لي جوازه أيضاً وذلك لأن غاية الأمر في الناذر أن نذره وقع على هذه مثلاً (نذر أن اعتكف لله اليوم تاماً سوى ما بين الظهر والعصر، ومثل هذا ليس بمؤثر، لاسيما على القول بصحة الاعتكاف ولو ساعة فإن نيته أو لفظه في النذر لم يدخل فيه ما بين الظهر والعصر ويصح الاكتفاء بالنذر ما قبل الظهر وتصح أيضاً ما بعد العصر، فغاية الأمر في نذره أنه كأنه يقول:نذرت لله أن اعتكف من هذا اليوم سوى كذا وكذا وهذا ليس بمؤثر فيه ومثل ذلك التطوع بل أولى منه. فالذي يظهر لي والله أعلم صحة الاشتراط مطلقاً كما ذهب إليه الحنابلة إذ لا دليل يمنع من ذلك، والاعتكاف مسماه الساعة ونحوها بنية الاعتكاف، ومثل هذا يثبت فيه هذا المعنى فلا يظهر لي مانع بل لو رأيت خلافاً بين أهل العلم فيما لو اشترط خروجاً لتجارة ونحوها فلا يظهر لي أن هناك فارق، وأنه لا بأس له أن يشترط تجارة أو عملاً أو وظيفة أو نحو ذلك يخرج إليها، وذلك أن هذه الأعمال وأن نافت الاعتكاف منافاة ظاهرة في المسجد لأن المسجد ليس محلاً للتكسب والعمل ومن هنا أجمع العلماء على تحريم التكسب والتجارة للمعتكف في المسجد فإنها ليست منافية بخروجه من المسجد وهو بمجرد خروجه يكون قد انقطع اعتكافه.
قال: (وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه)(10/65)
لا يجوز بإجماع العلماء الجماع للمعتكف، فإن فعل فسد اعتكافه قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} وفي أثر عائشة المتقدم: (ولا يمس امرأة ولا يباشرها) ومثل ذلك لو باشرها بإنزال فإنه بمعنى الجماع في إفساد الاعتكاف كما هو في معناه في إفساد الصوم وبه تكون الشهوة تامة ولكن اختلف أهل العلم فيما يفعله المعتكف فيما هو محرم عليه كأن يقبل امرأة أو يباشرها بلا إنزال، فإن هذا يحرم على المعتكف.
واستدلوا:بأثر عائشة وفيه: (ولا يمس امرأة ولا يباشرها) وإذا فسر المس بالجماع فإن المباشرة هي ما دونه، وإذا فسرت المباشرة بالجماع فإن المس فيما دونه لأن الأصل في العطف
هو التقارب وأن كان كلاهما يطلق على الجماع، كما أنه يطلق على مادون الجماع، فلما جمع بينهماهنا، دل على أن المراد الجماع ومقدماته أي لا يجوز للمعتكف أن يجامع ولا أن يفعل ما هو من مقدماته من جماع أو قبلة أو نحو ذلك. واختلف أهل العلم هل يفسد ذلك الاعتكاف أم لا؟
القول الأول:وهو مذهب الحنابلة والأحناف وأحد القولين في مذهب التناقض أنه لا يفسده.
القول الثاني وهو مذهب مالك والقول الآخر للشافعي أنه لا يفسده.
أما أهل القول الأول:فقالوا:نحن لم نقل بالإفساد به قياساً على عدم الإفساد به في الصوم، فإنه يباشر ويقبل وهو صائم فكذلك المعتكف.
وأما أهل القول الثاني فقالوا:يفسد صيامه لأنه قد فعل أمراً محرماً في الاعتكاف كما لو جامع أو أنزل.(10/66)
قالوا:وأما قياسهم فهو قياس مع الفارق، والفارق ظاهر، فإن قياس عدم إفساده في الاعتكاف على عدم إفساده في الصوم قياس مع الفارق وهو قياس لما به الله على ما أباحه الله فإنه قد حرم على المعتكف أن يباشر أو يقبل فمادون الإنزال والجماع وأما الصائم فلم يحرم عليه ذلك، وكونه لا يفسد الصوم فلا يعني بذلك أنه لا يفسد الاعتكاف، فإنه مباح للصائم وأما المعتكف محرم عليه ذلك ولم يتبين لي في هذه المسألة شيء، فإن ما ذكره المالكية قوي والرد على ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم قوي أيضاً لكن لم أر دليلاً يدل على أن ذلك مفسد حيث قياسهم على المجامع قياس مع الفارق، فإن كوننا نقيس المباشر والمقبل على المجامع الذي تمت له شهوته، وهذا غاية فعله أنه فعل مقدمات الجماع وما يكون ذريعة إلى الاعتكاف فإن هذا أيضاً قياس مع الفارق، فكلا القولين قد أوقع قياساً مع الفارق فيبقى على الأصل من أن الاعتكاف لا يفسد بذلك، إلا أن يأتي برهان قوي يدل على ذلك وهذا نوع ترحيم في هذه المسألة، وهو أننا نعود إلى الأصل، فالأصل أن الاعتكاف صحيح ولم يأت من أفسده بحجة وأن كان قد أجاب عن حجة لم تفسده سوى الأصل فإن الأصل وإن لم يستدل به هؤلاء فهو دليل قوي لهم، فهذه المسألة الذي يظهر لي البقاء على الأصل فيها وهو صحة الاعتكاف والاعتداء به حتى تبين لنا صحة دليل الإبطال.
قال: (ويستحب اشتغاله بالقرب)(10/67)
فيستحب أن يشتغل بالأعمال الصالحة – باتفاق العلماء – من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وهذا هو مقصود الاعتكاف فليس مقصود الاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في موضع وإنما المقصود من ذلك هو حبس النفس في هذا الموضع للإقبال على الله بالعبادة لا سيما قراءة القرآن فهي مستحبة في هذا الشهر، وهي كذلك من أفضل ما يتقرب به العبد، وإن كان اعتكافه في غير شهر رمضان، ويشتغل بذكر ودعاء فإن اشتغل بقراءة علم وحفظه ونحو ذلك فهو حسن أيضاً لكن ينبغي أن يكون له النصيب الوافر والحظ الكبير من الأعمال التي يتقرب بها لله من العبادات اللازمة التي ينتفع بها.
قال: (واجتناب ما لا يعنيه)
لأنه يشغله عن المقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه) ولا شك أنه يصد التقرب إلى الله بالعمل الصالح.
تقدم أنه مما لابد له منه الخروج لأداء صلاة الجمعة، فإذا حضرت الجمعة وهو في مسجد آخر من المساجد التي لا تقام فيها جمعة، فهل له أن يتعجل إليها أم لا؟
نص الإمام أحمد على أن له أن يتعجل إليها.
وقال بعض الحنابلة بل الأولى له أن يتعجل لأن الخروج يكون بقدر الحاجة فحينئذٍ يخرج قبيل أدائها.
وهذا الدليل من حيث الأصل له حظ من النظر ظاهر، لكن لما كان الموضع الذي يريد الذهاب إليه موضع في الحكم كالمسجد الذي هو فيه فإنه حينئذٍ لا معنى من كون ذلك خلاف الأولى، فهو إنما يذهب من مسجد إلى مسجد آخر.
ومن هنا أجاز الحنابلة وغيرهم له أن ينتقل إليه، فإذا ذهب من مسجده إلى المسجد الجامع فأحب أن يقيم فيه فلا بأس.
قالوا:لأن المسجد لا يتعين بتعينه فكذلك هنا ولأن المقصود يحصل منه، بل يحصل فيه ما هو أعظم مما لو رجع واحتاج إلى الخروج مرة أخرى، إلا أن تكون مصلحة في مسجده الأول – فإنه حينئذٍ – يعود إليه.
أما إن أتمه في المسجد الجامع فإنه لا بأس بذلك ولا حرج.(10/68)
مسألة:
متى يخرج من الاعتكاف؟
1- قال الحنابلة:يستحب له أن يمكث ليلة العيد في المعتكف، وهو مذهب الأحناف. لما روى سعيد ابن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال:كانوا يستحبون ذلك.
2 -القول الثاني:وهو مذهب المالكية والشافعية قالوا:بل يكون بانقضاء المدة.
والذي يظهر لي أنه يخرج صبيحة ثلاثين، والدليل على ذلك ما تقدم من حديث أبي سعيد عندما اعتكف العشر الأوسط وفيه أنهم خرجوا صبيحة عشرين.
وصبيحة عشرين تقابلها ليلة ثلاثين فيمن اعتكف العشر الأواخر.
والحمد لله رب العالمين
انتهى كتاب الصيام(10/69)
كتاب المناسك.
المناسك: جمع منسَك ويصح: منسِك بكسر السين وهما لغتان مشهورتان.
والقراءة المشهورة لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسَكاً} (1) هي بفتح السين، وقرئ بكسرها وهي من نسك وتنسك أي تَعبد، ويقال: ناسك أي عابد، وأطلقت في الغالب في الشرع على متعبدات الحج فيقال لها مناسك كما أن الغالب أن يسمى الحج نسكاً، كما أن الصلاة والزكاة نسكٌ وهكذا سائر العبادات لكن الغالب أن يطلق النسك ويراد به الحج.
قال: (الحج والعمرة)
الحَج: بفتح الحاء وكسرها، وهما قراءتان سبعيتان في قوله تعالى: {ولله على الناس حَِج البيت} (2) . والحج لغة: القصد، وفي الاصطلاح: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص. " هكذا يعرفه الفقهاء "، ومعرفة حقيقة الحج تتبين وتتضح بمعرفة أحكامه ومسائله.
والعمرة في اللغة: الزيارة.
واصطلاحاً: زيارة مكة على وجه مخصوص، وكذلك فالعمرة حقيقتها الشرعية تتضح وتتبين في معرفة مسائلها وأحكامها.
قال: (واجبان)
__________
(1) سورة الحج 34.
(2) سورة آل عمران 97.(11/1)
أما الحج فهو فرض بالإجماع، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس – وذكر فيها – حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) (1) وقد قال عمر – كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهودياً أو نصرانياً) (2) والأثر إليه إسناده صحيح وهذا من باب الترهيب وإلا فإن من ترك الحج على وجه التكاسل فإنه لا يكفر باتفاق العلماء إلا ما روى عن بعض السلف من تكفيرهم له، والصحيح المشهور الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا يكفر إلا تارك الصلاة، وتقدم في حكم تارك الصلاة، وإنما يكفر من جحد وجوبه وأنكره سواء فعله أم لم يفعله وأثر عمر الذي تقدم رواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه مات يهودياً أو نصرانياً) (3) لكن الحديث لا يصح مرفوعاً وإنما يصح موقوفاً على عمر.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 10] ومسلم [1 / 35] ، والنسائي، والترمذي، وأحمد. الإرواء [3 / 248] برقم 781.
(2) لم أجده في السنن الكبرى للبيهقي.
(3) رواه الترمذي في باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج من أبواب الحج.(11/2)
والعمرة واجبة في المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية سواء كانت العمرة منفردة أو كانت مع حجة سواء كان الحج تمتعاً أو قراناً. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم – في مسلم -: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (1) وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة – وكانت قد حجت قارنة كما هو مشهور في حجتها قال لها: (قد حللت من حجك وعمرتك) (2) وأما إذنه لها بأن تعتمر من التنعيم فذلك تطيباً لخاطرها وليس ذلك من باب عدم إجزاء القران عن العمرة كيف وقد صرح – النبي صلى الله عليه وسلم – بقوله: (قد حللت من حجك وعمرتك) فسألته ذلك وأعمرها أخوها عبد الرحمن وسيأتي ذكر الحديث إن شاء الله. ونص الإمام أحمد – وهو قول ابن عباس كما في مصنف ابن أبي شيبة وقول عطاء وطاووس (3) – إلى أن وجوب العمرة إنما هو على الآفاقيين، أما أهل مكة فلا تجب عليهم العمرة وجزم شيخ الإسلام (4) بأن أهل مكة من الصحابة لم يكونوا يعتمرون وأن ذلك لو كان ثابتاً منهم لنقل إلينا فإن الهمم تتوافر لنقل مثل ذلك. والمعنى يدل على ذلك فإن العمرة هي الزيارة، والزيارة إنما تكون لمن ليس من أهل المحل، وأهل مكة هم أهل المحل، وأهل الحرم فلم تشرع لهم العمرة ولم تجب عليهم كما أنهم يقومون بالطواف، والطواف بالبيت هو ركن العمرة الأعظم وإن كان ظاهر قول المؤلف وهو مذهب القاضي من الحنابلة (5) وغيره أن الوجوب عام في الآفاقيين والمكيين لكن الصحيح ما تقدم وهو نص الإمام أحمد واختاره الموفق وشيخ الإسلام وغيرهم، على ما سيأتي من النقل عن شيخ الإسلام أنه لا يرى الوجوب.
__________
(1) أخرجه مسلم [4 / 57] وأبو داود [1790] وغيرهما.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 159] .
(3) مصنف ابن أبي شيبة [3 / 431] باب (480) من قال ليس على أهل مكة عمرة من كتاب الحج. اسطوانة.(11/3)
فالمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية وهو وجوب العمرة واستدلوا بأدلة منها:
1- ما ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) (1) ولفظة " على " تفيد الوجوب كما هو مقرر في أصول الفقه أي أيجب على النساء الجهاد.
2- ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح عن أبي رَزين العُقيلى أنه قال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) (2) وإن كان الأمر ليس للوجوب هنا، لأنه أمر بعد سؤال لكن نفي الوجوب إنما يتوجه إلى السائل فلا يجب على السائل أن يعتمر عن أبيه ولا أن يحج وإنما ذلك على وجه الاستحباب كما هو معلوم، لكن يدل ذلك على إدخال العمرة في حكم الحج، فإن هذا السائل قد سأل عن والده الكبير الذي عجز عن أداء فريضة الله عز وجل فهل يجزئ عنه أن يقوم هو عنه بهذه الفريضة فأجابه – صلى الله عليه وسلم - بأمره له أن يحج عن أبيه وأن يعتمر، فيكون ذلك بياناً للفريضة الواجبة عليه.
__________
(1) أخرجه أحمد [6 / 165] ، وابن ماجه [2901] . إرواء الغليل برقم [981] .
(2) أخرجه أبو داود في باب الرجل يحج عن غيره من كتاب المناسك، والترمذي في باب منه: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت من أبواب الحج، والنسائي في باب العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع من كتاب المناسك، وابن ماجه في باب الحج عن الحي إذا لا يستطيع. المغني [5 / 14] .(11/4)
3-وبما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن الصُبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب: (إني كنت أعرابياً نصرانياً فأسلمت فرأيت الحج والعمرة مكتوبين علي – وفي رواية: (مفروضين علي) – فأهللت بهما معاً فقال له: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) (1) فقد أقره عمر على قوله: (مكتوبين علي) وبين أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مرفوعاً وفيه – أيضاً – دليل على المسألة السابقة وأن من اعتمر مع حجه قارناً أو متمتعاً فإن ذلك يجزئه فهذا السائل رأى أن العمرة والحج مكتوبان عليه فأهل بهما معاً ورأى أنه بهذا الإهلال يجزئ ذلك عن حجه وعمرته جميعاً فقال له: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) .
واستدلوا: برواية لابن خزيمة في حديث جبريل الطويل الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان – وفيه: (وأن تحج وتعتمر) (2) وإسناده صحيح ولا يقال هنا – فيما يظهر لي – بالشذوذ، وذلك لأن هذه اللفظة تكون تفسيرية للحج المذكور في اللفظة المتفق عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (3) هذا مذهب الحنابلة والشافعية وهو مذهب أكثر العلماء واختاره البخاري في صحيحه وإسحاق وداود وغيرهم.
__________
(1) أبو داود [1799] في باب الإقران، والنسائي [2 / 13 – 14] في باب القران. الإرواء برقم 983.
(2) أخرجه الدارقطني [207] والبيهقي في السنن الكبرى [4 / 349] ، وفي شعب الإيمان (7 / 532) رقم (3687) ، وابن خزيمة رقم 1، وابن حبان، بداية المجتهد [2 / 224] والمغني [5 / 14] .
(3) أخرجه مسلم، سبق تخريجه برقم 6.(11/5)
وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب العمرة واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث طلحة في سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، وذكر فيها الحج فقال: (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) قالوا: فهذا يدل على أن ما سوى المذكور في هذا الحديث تطوع وليس بفريضة ومن ذلك العمرة فإنها ليست بمذكورة.
واستدلوا: بما روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله: العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك) (1) .
وقد أجاب أهل القول الأول قالوا: أما الحديث الثاني فإسناده ضعيف فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث.
وأما الحديث الأول: قالوا: العمرة داخلة في الحج لحديث: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (2) فعدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها في حديث الأعرابي لا يدل على عدم وجوبها.
ولا يظهر لي على القول بوجوب التمتع كما سيأتي تقريره إن شاء الله (3) – أي إشكال في ذلك، فإن الراجح مذهب ابن عباس وأن التمتع واجب، وحيث قلنا بوجوب التمتع فإنه لا إشكال في هذا الحديث؛ لأن التمتع فيه عمرة وكما تقدم فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هذا الجواب الأول وهو جواب ظاهر بين.
والجواب الثاني: أن يقال: إن أحاديثنا التي استدللنا بها أحاديث صريحة صحيحة تدل على وجوب العمرة وأما هذا الحديث فليس بصريح، فإنه من دلالة المفهوم وحديثنا دلالته دلالة منطوق، ودلالة المنطوق مرجحة على دلالة المفهوم.
__________
(1) سنن الترمذي برقم 931، باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا، من كتاب الحج. ورواه أحمد كما في البلوغ.
(2) سبق برقم 5.
(3) تراجع شيخنا إلى استحباب ذلك دون الوجوب في شرحه لأخصر المختصرات كما سيأتي.(11/6)
فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول. واختار شيخ الإسلام القول الثاني وهو عدم الوجوب والصحيح ما تقدم – وهو القول الأول إلا ما تقدم من استثناء المكيين.
إذن العمرة واجبة على الآفاقيين.
قال: (على المسلم)
أما الكافر بالإجماع على أنه لا يجب عليه الحج، وهذا من حيث الأداء، أما من حيث العقوبة فإنه يعاقب عليها فإنهم مخاطبون بفروع الشريعة فيؤاخذون عليها أما في الدنيا فلا يصح منهم أداؤها، وقد قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا إنهم كفروا بالله وبرسوله} (1) فلكفرهم بالله ورسوله لم تقبل نفقاتهم والنفقة أولى بالقبول لأنها من باب النفع المتعدي فهي أولى من العبادات اللازمة ومع ذلك لم تقبل فغيرها من العبادات اللازمة أولى بعدم القبول وقد أجمع أهل العلم على أن الوجوب مختص بالمسلم على أنه يؤاخذ - أي الكافر – يوم القيامة على تركه لفروع الدين.
قال: (الحر) .
أما العبد فلا يجب عليه الحج – وهذا باتفاق العلماء – ويدل عليه ما رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والحديث إسناده صحيح – ورجح بعض العلماء وقفه والصحيح ثبوته رفعاً ووقفاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى) (2) فدل على أن حجته حيث كان رقيقاً لا تجزئ عن حجة الإسلام وحينئذ فلا تجب ولأن العبد متعلق بحق سيده، ولا شك أن الحج يطول زمانه لاسيما في الأزمنة المتقدمة فيفوت بذلك شيء كثير من حق سيده على أنه يحتاج إلى مال، والرقيق لا مال له، وتكليف السيد بأن يدفع له مالاً يحج به، فيه تكليف للسيد بما فيه مشقة ولا نفع له بذلك.
__________
(1) سورة التوبة 54.
(2) أخرجه الشافعي [1 / 290] ، والطحاوي [1 / 435] والبيهقي [5 / 156] ، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك [1 / 481] والبيهقي [4 / 325] . الإرواء برقم 986.(11/7)
قال: (المكلف)
أي البالغ العاقل، وقد تقدم الحديث الدال على ذلك: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة – وذكر منهم – الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) (1)
قال: (القادر) .
القادر بماله وبدنه – وسيأتي شيء من التفصيل في هذا في موضع آخر إن شاء الله – ودليل أصل هذه المسألة قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} فدل على أن من لم يستطع إليه سبيلاً فإن الحج غير واجب عليه والأدلة العامة أيضاً تدل على ذلك كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (2) ولا خلاف بين أهل العلم في هذه الشروط كما قرر ذلك الموفق في المغني وهذا الوجوب شامل للمسلم سواء كان ذكراً أم أنثى.
قال: (في عمره مرة)
فلا يجب الحج وكذلك العمرة إلا مرة واحدة في العمر؛ لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي وأصله في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لوجبت الحج مرة فما زاد فهو تطوع) (3) ولفظه في مسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) الحديث. فإذا حج مرة واحدة وقد توفرت فيه شروط صحة الحج على وجه الفرضية فإنه يجزئ عنه ذلك – وكذلك العمرة -.
قال: (على الفور)
فالحج يجب على الفور، فإذا بلغ فيجب عليه أن يحج فليس له أن يؤخر الحج إلا ألا يكون قادراً – هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة –
__________
(1) أبو داود [4398] والنسائي [2 / 100] ، والترمذي [1 / 267] وابن ماجه [2041] . الإرواء برقم 297 ج 2.
(2) سورة البقرة 186.
(3) صحيح مسلم، باب فرض الحج مرة في العمر من كتاب الحج، وأبو داود [1721] والنسائي في باب وجوب الحج، الإرواء980.(11/8)
واستدلوا: بما روى أبو داود من حديث ابن عباس، وفيه راوٍ ضعيف، لكن ورد من طريق آخر يتقوى به الحديث فيثبت حسنه، فالحديث وارد عند أبي داود من طريقه إلى ابن عباس وعند أحمد من طريق آخر يثبت بذلك حسن الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل) (1) ، وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كُسر أو عَرَج فقد حلَّ وعليه الحج من قابل) (2) فمن حصل له شيء من الإحصار بأن حصل له كسر أو عرج فقد حل وسقط عنه الحج تلك السنة – وسيأتي الكلام على هذه المسألة في موضعها من الفوات والإحصار – لكن الشاهد قوله: (وعليه الحج من قابل) فيجب على من حصل له شيء من الإحصار وتحلل أن يعود السنة القادمة فيحج وهذا يدل على التعجل في الحج ووجوبه على الفورية، ولا شك أن وجوبه على الفور على من لم يحج أصلاً أولى من وجوبه على من حصل له حج فيه شيء من الإحصار وللقاعدة الأصولية أن الأوامر على الفور، فالأصل في الأمر الفورية، فإذا أمر السيد عبده بأمر فالأصل أنه يجب عليه أن يفعله فوراً إلا أن يأتي دليل يدل على التراخي.
وقال الشافعية: لا يجب على الفور وإنما على التراخي.
__________
(1) رواه أبو داود [1732] وابن ماجه [2883] وأحمد [1 / 214، 323، 355] الإرواء برقم 990؟
(2) رواه أبو داود في سننه [2 / 433، 434] في باب الإحصار من كتاب المناسك برقم 1862. والترمذي في باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج برقم 940، والنسائي باب: فيمن أحصر بعدو برقم 2860، وابن ماجه في باب المحصر برقم 3077.(11/9)
واستدلوا: بقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ووجه الاستدلال: أن هذه الآية نزلت في السنة السادسة للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة. وأجيب عن هذه الآية بأن الآية ليست لفرضية الحج بل في إتمامه فالله أمر في هذه الآية بأن يتم الحج والعمرة، وهما معروفان في الجاهلية، وإنما الآية التي أوجبت الحج وفرضيته هي قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} وأما الآية التي استدلوا بها فليس فيها ما يدل على وجوبه أصلاً وإنما فيها ما يدل على وجوب إتمامه إن دخل فيه ومعلوم أن الحج والعمرة معروفان عند الصحابة وكان منهم من يحج البيت ويعتمر ممن يأذن له كفار قريش بذلك ممن له عندهم منزلة ووجاهة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر ذلك كله ولا ينكره وهما معروفان في الجاهلية.
وأما الآية الأخرى فهي التي دلت على وجوب الحج وقد نزلت في السنة التاسعة للهجرة، فهي من سورة آل عمران وصدر هذه السورة نزل في نصارى نجران، وقد قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجزية والجزية إنما شرعت في تبوك في السنة التاسعة – كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله – وهذا هو الراجح.
فإن قيل: يبقى الاستدلال لهم فإن هذه الآية فرض الله فيها على العباد الحج والعمرة وكان ذلك في السنة التاسعة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن يقال: ليس عندنا ما يدل على أن الآية أوجبت الحج والعمرة في وقت يتمكن فيه من أدائهما في السنة التاسعة فيحتمل أن يكون ذلك في آخر أشهر الحج، ويحتمل أن ذلك في وقت لا يتمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى مكة وأداء الحج ومع الاحتمال يبطل الاستدلال.
__________
(1) سورة البقرة 196.(11/10)
الوجه الثاني: أن يقال: لنفرض أنها فَرضَت الحج في وقت يتمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم من أداء الحج والعمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يحج تلك السنة لتتطهر مكة من أهل الشرك ومن هنا بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً – كما ثبت في الصحيحين – ينادي في الناس: (ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) (1) وكان ذلك في السنة التاسعة.
ولمصلحة أخرى عظيمة وهي اجتماع الناس لمعرفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وتهيؤهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أدرك وقتاً يمكنه وأهل المدينة أن يتهيئوا فإن أهل البوادي ونحوهم ممن يريدون الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ورؤية منسكه لا يتمكنون من ذلك، فلمصلحة بيان الشرع لم يحج الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السنة، فالراجح أن الحج واجب على الفور.
وكذلك يدل على ذلك: أن التراخي مظنة الترك والإهمال فإنا إذا قلنا بالتراخي فإنا لا نحد لذلك حداً – لأنه لا دليل على التحديد – فيقال له: إن حججت وأنت شيخ هرم فلا بأس عليك ولا حرج، وحينئذ فإن ذلك مظنة للترك، ولا شك أن الشارع متشوف لإقامة الحج.
قال: (فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً)
تقدم أن من كان رقيقاً أو صبياً فإن حجه يكون نفلاً ولا يجزئ عن حجة الإسلام. فإذا بلغ الصبي أو أعتق الرقيق أو عقل المجنون في الحج بعرفة أو في العمرة قبل الطواف فيصح ذلك فرضاً فمثلاً: رجل رقيق أحرم بالحج بنية التنفل لأنه لا فرض عليه وأثناء ما هو واقف بعرفة أعتق، فيصح ذلك فرضاً له أو أحرم بعمرة وقبل أن يشرع بالطواف أعتق فإنه يصح له ذلك فرضاً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، (10) ما يستر من العورة (360) ، وانظر (1622) و (3177) و (4363) و (4655) و (4656) و (4657) ، ومسلم / كتاب الحج / باب (78) لا يحج البيت مشرك.. (1347)(11/11)
قالوا: أما الوقوف بعرفة فهو فرض الحج الأكبر، والطواف يقابله في العمرة وهما في الأصل أول الأركان فحينئذ يكون قد فعل الأركان وهو حر، وهذا وهو بالغ، وهذا وهو عاقل، فيصح ذلك منهم فرضاً – هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية –
ومثل ذلك لو أفاض الناس من عرفة إلى مزدلفة – ومعلوم أن الوقوف بعرفة لا ينتهي وقته إلا بأذان الفجر فلو أعتق بالمزدلفة فعاد فوقف فإن ذلك يجزئ عنه: قالوا: لأنه فعَل هذه الأركان وهو حر وهذا وهو عاقل، وهذا وهو بالغ فأجزأ ذلك عنه.
وقال الإمام مالك: بل لا يجزئ ذلك عنه؛ لأنه قد أحرم بنية التنفل فلم يجزئ ذلك عنه، فإنه حين إحرامه كان متنفلاً فلا ينتقل النفل إلى الفرضية.
وأجاب أهل القول الأول بأن الإحرام ليس مقصوداً لذاته وإنما المقصود لذاتها هي الأركان كالوقوف بعرفة والطواف في العمرة. ومع قوة ما ذهب إليه الإمام مالك فإن الأظهر – لي – هو ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك تحصيلاً لمصلحة الفرضية لهما، ولمشقة الحج في الغالب وقد قاموا بفرائض الحج وهم من أهله فيتساهل حينئذ بالإحرام الذي هو ليس مقصوداً لذاته.
فالمشهور عند الشافعية والحنابلة أن من أحرم بالحج وهو من أهل التنفل وليس من أهل الفرضية ثم أدرك الوقوف بعرفة وهو حر أو بالغ – في الحج – وفي العمرة قبل الطواف فإن حجه ينتقل إلى الفرضية – وهذا القول مروي عن ابن عباس في مصنف ابن أبي شيبة لكن فيه ليث بن أبي سليم (1) وهو ضعيف الحديث. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً)
" وفعلهما " أي الحج والعمرة.
فإذا حج الصبي والعبد فإن حجهما نفل لهما، وكذلك إذا اعتمرا فإن عمرتهما نفل لهما ولا يجزئ ذلك عن حجة الإسلام وهذا مما اتفق عليه العلماء.(11/12)
ويدل عليه حديث ابن عباس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى) (1) والحديث روى مرفوعاً وموقوفاً، والصحيح صحته رفعاً ووقفاً وعلى القول بوقفه فلا يعلم لابن عباس مخالف من الصحابة فيكون قوله حجة فالصبي والعبد إذا حجا فلا يجزؤهما عن حجة الإسلام.
وهنا قول المؤلف: (الصبي) عام في الصبي المميز وغير المميز فكلاهما حجهما يصح ويكون له نفلاً، أما المميز فلا إشكال فإن العبادات كالصلاة ونحوها تصح منه كما تقدم، وأما غير المميز فدليله ما ثبت في مسلم أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر) (2) .
وهو مذهب جمهور العلماء خلافاً للحنفية، والحجة مع ما ذهب إليه الجمهور لهذا الحديث الثابت في مسلم.
__________
(1) سبق برقم 15
(2) أخرجه مسلم [4 / 101] وأبو داود والنسائي، الإرواء برقم 985.(11/13)
والصبي غير البالغ لا يصح أن يحج إلا بإذن وليه فإن حج بغير إذن وليه لم يصح حجه؛ وذلك لأن الحج عبادة متضمنة لعقد يلزم به المال، فهو عقد تعبدي لله عز وجل يلزم به المال على الحاج من هدي وفدية ونحو ذلك، والصبي ليس له أن يتصرف بالتصرفات التي تلزم بها الأموال إلا بإذن وليه وإلا لم يصح تصرفه، والصبي المميز إذا أذن له وليه فإنه يصح حجه ويفعل مناسك الحج وينوي الإحرام وغير ذلك. أما الصبي غير المميز فإن وليه يحرم عنه، أي ينوي له الحج أو العمرة، ولا يشترط أن يكون الناوي محرماً بل لو كان حلالاً فإن حج الصبي يصح، وذلك لأن النية في الأصل تكون من غير المحرم ثم بعد ذلك ما يمكنه فعله من المناسك لا يجزئ أن يفعل عنه كالوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة ونحو ذلك فإن هذه أفعال لا يعجز عنها الصبي غير المميز؛ لأن المقصود هو مجرد الوقوف، وهذا يحصل من الصبي المميز وغير المميز وغيرهما، والمقصود أيضاً المبيت بمزدلفة.
أما الأفعال التي لا يقدر على فعلها كالرمي ونحوه فإنها تفعل عنه ويجزئ ذلك عنه.
واستدل أهل العلم بما روى ابن ماجه من حديث جابر قال: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) (1) ، لكن الحديث في إسناده أشعث بن سُوار وهو ضعيف الحديث، لكن العمل عليه عند أهل العلم، قال ابن المنذر: (كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي وكان ابن عمر يفعل ذلك) ، فهو اتفاق من أهل العلم، والأصول الشرعية تدل على ذلك من قيام الغير بفعل الآخر عند العجز عنه كما سيأتي في غير ما مسألة إن شاء الله في الدرس القادم في الحج عن العاجز وغيره.
__________
(1) ابن ماجه برقم 3038، باب الرمي عن الصبيان.(11/14)
أما الطواف فإنه يحُمل، فهو قادر على الطواف لأن الطواف ليس من شرطه أن يطوف ماشياً بل لو طاف محمولاً يصح طوافه وكذلك السعي فإنه يحمل ويسعى به؛ لأن السعي ليس من شرطه المشي وهو من كماله.
وإذا طيف بالمميز فإنه ينوي عن نفسه، أما الصبي غير المميز فإذا طيف به فإنه ينوي عنه الطائف به.
وهنا مسألة: هل هذا الطواف يجزئ الحامل والمحمول أم لا يجزئ إلا المحمول؟
فإذا طاف رجل بابنه ونوى لابنه الطواف، ونوى لنفسه الطواف أيضاً فهل يجزئه ذلك أم لا يجزئ إلا المحمول؟
قال الحنابلة: لا يجزئ إلا المحمول، وأما الحامل فلابد وأن يستأنف طوافاً جديداً، قالوا: لأن هذا الفعل أجزأ عن المحمول وهو الصبي أو غيره من العجزة ونحوهم ممن يحملون في الطواف، فهذا الفعل قد أجزأ عن المحمول، فلم يجزئ عن الحامل. وهذا تعليل ضعيف.
وذهب الأحناف وهو قول في مذهب الإمام أحمد واستحسنه الموفق واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الطواف يجزئ عنهما جميعاً؛ وذلك لأن كلاً منهما قد نوى وطاف طوافاً صحيحاً فلكل منهما طوافه ونيته، فالمحمول طوافه الركوب، وقد نوى له الطواف ولا دخل له بحركات هذا الطائف ولذا لو طيف به على دابة لأجزأ ذلك وهذا الحامل قد نوى لنفسه الطواف وطاف ماشياً فهو طواف مستقل عن طواف المحمول – وهذا القول هو القول الراجح.
قال: (والقادر من أمكنه الركوب ووجد زاداً وراحلة)
تقدم أن من شروط وجوب الحج أن يكون قادراً فالقادر بينه المؤلف بقوله: (من أمكنه الركوب ووجد زاداً وراحلة) .
(أمكنه الركوب) أي يستطيع الركوب إلى مكة، ويقدر على الركوب للتنقل هناك بين مواضع المناسك فيها، أما غير القادر على الركوب فلا يجب عليه الحج لأنه غير مستطيع وقد قال تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} .
(ووجد زاداً وراحلة) لابد وأن يجد زاداً وراحلة.
"زاداً ": من مأكل ومشرب وملبس.(11/15)
(وراحلة) يركبها مما يوافق عرف الناس في زمنهم من المركوبات التي تختلف باختلاف عادات الناس وأعرافهم فالقادر هو من وجد زاداً وراحلة سواء كان ذلك في الراحلة استئجاراً وهو قادر على المبلغ الذي يستأجر به أو كانت الراحلة مملوكة له والزاد كذلك سواء كان محصلاً له وهو بيده أو يكون له حرفة يعلم أو يظن ظناً غالباً أنه يستطيع أن يتكسب بها في طريقه وينفق على نفسه مأكلاً ومشرباً وكسوة خلال أيام الحج ومناسكه فإنه حينئذ – يعتبر مالكاً للزاد. فالقادر هو من ملك زاداً وراحلة، وبه فُسر قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} ففسر السبيل بأنه الزاد والراحلة ودليل ذلك ما رواه الترمذي وحسنه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما السبيل؟ قال: (الزاد والراحلة) (1) ونحوه من حديث أنس في الدارقطني، وإسناد الحديثين ضعيف لكن الحديث له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن ومن هنا حسنه الترمذي وحسنه شيخ الإسلام، وجود بعض أسانيده ابن عبد الهادي، وقال الضياء صاحب المختارة في بعض أسانيده لا بأس به والحديث – كما تقدم – له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن وبه استدل جمهور العلماء على أن السبيل هو الزاد والراحلة فلا يجب على من لا راحلة له ولا زاد أن يحج، وحينئذ فلا يجب عليه أن يحج ماشياً وإن كان قادراً على المشي للمشقة التي تلحق الماشي لكن استثنوا أن يكون موضعه الذي هو فيه دون مسافة القصر فإنه إن لم يجد راحلة فيجب عليه السير راجلاً إلى بيت الله تعالى.
__________
(1) أخرجه الترمذي [1 / 155، 2 / 166] والدراقطني [254] . الإرواء برقم 988.(11/16)
والذي يظهر لي: أن تقييده بمسافة القصر محل نظر، والذي ينبغي أن يقال فيه: أنه إذا كان قريباً عرفاً بحيث أنه لا يلحقه بالمشي مشقة ظاهرة فإنه يجب عليه أن يحج ماشياً كما يكون هذا في القرى القريبة المجاورة لمكة ممن لا يلحقهم حرج ظاهر في المشي إلى بيت الله وأما مسافة القصر، وهو في المشهور من المذهب 80 كيلو متراً هذا فيه في الظاهر مشقة ولا شك أنه يختلف باختلاف الأجناس والبلدان، لكن المقصود وضع ضابط لهذه المسألة والضابط أن يقال إنه إذا كان قريباً عرفاً بحيث لا يكون فيه مشقة في الغالب فإنه يجب عليه السعي إلى بيت الله. ودليل ذلك: أن الآية عامة فيمن كان إلى مسافة القصر أو إلى دون مسافة القصر وهي قوله: {من استطاع إليه سبيلاً} والسبيل هو الزاد والراحلة وهو عام فيمن كان فوق مسافة القصر أو من دون مسافة القصر، لكن يستثنى من ذلك من كان قريباً عرفاً لا يلحقه في الغالب مشقة فلا يكون له هذا الحكم لأنه بحكم واجد الزاد والراحلة.
قال: (صالحين لمثله)
وعبر صاحب المقنع بقوله: (صالحة لمثله) أي الراحلة فإذا كان الرجل من أهل الوجاهة والغنيمة والغنى القوي فإنه لا يناسبه أي راحلة يركبها غيره، فلابد وأن تكون صالحة لمثله، والمقصود ما يكون من مركوبه أو نحو مركوبه، لكن إذا كان من مركوب عامة الناس ممن يلحقه مشقة بأن يركب مركوبهم فإنه لا يجب عليه الحج، لأن قوله " الراحلة "، يرجع إلى الراحلة في عرف الناس، ولا شك أن الراحلة في عرف الناس تختلف باختلافهم.(11/17)
قالوا: ولأن المقصود بالراحلة وعدم إيجاب المشي عليه سيراً هو دفع المشقة، وإلا فإن الإنسان قادر أن يذهب إلى مكة وإن كان في مكان بعيد، ومع ذلك عفي عنه وكان الوجوب مختصاً بمن كان مالكاً للراحلة أو قادراً على استئجارها وذلك لدفع المشقة عنه، وهنا كذلك فكونه يؤمر أن يركب راحلة غير صالحة لمثله هذا فيه مشقة عليه تشبه المشقة التي تلزم القادر على المشي أن يمشى إلى بيت الله وإن كان قادراً على ذلك لكن في ذلك مشقة.
وأما الزاد فإن عبارة صاحب المقنع ظاهرها أن الشرط إنما يكون للراحلة وأما الزاد فلا يشترط أن يكون الزاد صالحاً لمثله بل أي زاد يمكنه أن يتقوت به ولا يلحقه ضرر به وإن كان دون أكله ودون ما اعتاده من الطعام، فلو أنه وجد زاداً يطعمه عامة الناس وهو من كبراء الناس ممن لم يعتد هذا الطعام لكن لا يلحقه ضرر بذلك وإن لم يجد الزاد الصالح لمثله – هذا ظاهر كلام الموفق في المقنع وهو الصحيح في مذهب الحنابلة.
وأما المؤلف هنا فإن ذهب إلى قول آخر وجهه صاحب الفروع وهو قول عند الحنابلة: وهو أنه الزاد كذلك، قالوا: كما أن الراحلة يلحقه بها مشقة وإن كانت توصله إلى حاجته لكن في ذلك مشقة على نفسه فكذلك في الزاد فإن كونه يطعم طعام الناس فيه مشقة عليه.
وما اختاره الموفق أظهر فإن المسافات بعيدة ولا شك أنه يلحقه مشقة بأن يركب مركوب عامة الناس الذي هو دون مركوبه وقد يكون من أمراء الناس ونحو ذلك فيكون في ذلك مشقة بأن يركب مالا يناسبه من المركوبات.
وأما الأطعمة فإن الطعام لا يلحقه ضرر، لا يظهر أنه يكون شرطاً في فرضية الحج عليه بل متى ما وجد من الزاد ما يدفع عنه الجوع والعطش فإنه يجب عليه ذلك، والله أعلم.
وهذا لعموم قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} وهذا مستطيع إلى الحج سبيلاً، ولا يلحقه المشقة بهذا الزاد الذي هو من زاد الناس ويندفع به الجوع والعطش ولا يلحقه به ضرر والله أعلم.(11/18)
والأحسن أن يفصّل في مسألة الزاد، فإن الزاد منه ما يكون قريباً إلى زاده أو نحوه من زاد الناس مما تتحمله كبراؤهم، ومنه ما يكون فيه مشقة.
والراحلة أمر ظاهر أمام الناس بخلاف الزاد فإنه يأكل زاداً من طعام الناس كالخبز مثلاً ويأكله في موضعه المعد له، هذا لا يلحقه مشقة كما يلحقه في مركوب يركبه أمام الناس ويكون غير صالح لمثله.
أما لو كان الزاد في شوارع ونحو ذلك، فإن لم يستطع زاداً إلا مع سوقة الناس في الشوارع والأسواق فيقال فيها بعدم الوجوب.
قال: (بعد قضاء الواجبات)
فهذا بعد ما يقضي الواجبات عليه، كأن تكون عليه زكاة أو كفارة يمين أو أن يكون عليه ديون للعباد، فهذه العبادة لا يجب عليه الحج إلا بعد قضائها.
مثال ذلك: رجل عليه دين وهو يريد قضاءه فهل يجب عليه أن يحج مع ثبوت هذا الدين في ذمته الذي يريد سداده ووفاءه؟
فالجواب: أنه لا يجب عليه الحج وذلك لأن حقوق الآدمين مبنية على المشاحة، وأما حقوق الله عز وجل ومنها الحج فهي مبنية على المسامحة فمن هنا قدم حق العباد على حق الله تعالى. وما تقدم ذكره متعلق بحقوق العباد، فإن الزكاة ينصرف إلى حقوق العباد فهي تنصرف إلى الفقراء والمساكين ونحوهم وهكذا الكفارات ومن هنا قدمت هذه على أداء فريضة الحج.
قال: (والنفقات الشرعية)
إذا كان عليه نفقات، نفقة لوالده أو من يعول فلا يجب عليه الحج حتى يدخر مالاً يكفي لنفقة أهله.
فرجل – مثلا – معه مبلغ من المال ويعلم أنه إذا حج أضر بمن يجب عليه أن ينفق عليه من ولده أو من يعول فإنه لا يجب عليه الحج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (1) وهذا حق لآدمي، وحقوق الآدمي مقدمة في الوفاء على حق الله عز وجل لأنها مبنية على المشاحة.
قال: (والحوائج الأصلية)
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود، الإرواء برقم 894، 989.(11/19)
أي الحوائج اللازمة أو يلحق حرج بالاستغناء عنها، وهذه تختلف باختلاف الناس.
فمثلاً: السكن هذا من حوائج الناس فلا يلزم ببيع بيته من أجل الحج، وكذلك السيارة، وكذلك الكتب لطالب العلم وغير ذلك. فالحوائج الأصلية التي يحتاج إليها من كسوة وسكن وكتب علم ومن مركوب ونحوه مما تحتاج إليه فلا يجب عليه أن يبيعه حتى يؤدي الفريضة، فإن هذه من الحوائج الأصلية التي يلحق الناس بتكليفهم بالحج وبيعها يلحقهم حرج في الاستغناء عنها، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) .
أما ما فضل عن حوائجه الأصلية فيجب عليه أن يبيع هذا ويحج بماله كأن يكون له بيتان يحتاج أحدهما ولا يحتاج الآخر، لكن إن كان الآخر يؤجره وينتفع من ماله في النفقة الواجبة عليه فلا يجب عليه؛ لأن هذه تكون من جنس التجارات، لكن إن كان عنده شيء فاضل يستغني عنه ولا يؤثر في نفقته ونحو ذلك كأن يكون له مسكنان أو مركبان، أو المرأة يكون عليها حلي زائد عن حاجتها الأصلية، وهكذا كل من كان عنده أي شيء من الأمور التي ليست من حوائجه الأصلية فيجب عليه أن يبيعها ليؤدي فريضة الحج.
وهذا وإن كان عيناً لكنه بمعنى النقد لأنها ذات قيمة نقدية وهو مستغن عنها لا يحتاج إليها حاجة أصلية.
مسألة: في الدين:
إذا كان الدين حالاً فلا إشكال في أنه لا يجب عليه الحج، أما إذا كان الدين غير حال فلا يخلو من حالين:
- الحالة الأولى: أن يكون قد امتنع من الحج لوفاء هذا الدين ولتخليص ذمته منه فحينئذ لا يجب عليه الحج؛ لأن الشخص يحتاج إلى تبرئة ذمته من الديون المتأخرة كما هو محتاج إلى تبرئتها من الديون الحالة.
__________
(1) سورة الحج 78.(11/20)
الحالة الثانية: أن يكون لا يريد سداد دينه وهذا المال سينفقه في أمور أخرى مما لا يحتاج إليه، وهذا الدين مقسط أقساطاً لا يرغب أن يسدده إلا في أوقاته، فإن ذلك لا يمنع وجوب الحج عليه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً والعلة هنا غير موجودة بل منتفية.
ولو أن رجلاً عنده مال يكفي للحج لكن قال: أريد أن أسدده لأحد من الناس، الذين لهم عليه ديون متأخرة فإنه يفعل ذلك.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه)
هذه مسألة في المستطيع بغيره، وهو من عنده استطاعة مالية وهو غير قادر على الحج ببدنه، أو له ولد ذو مال وقدرة مالية على الحج وهو يطيعه في أمره – فيجب عليه أن ينيب من يحج عنه إما بماله وإما بأن يأمر ولده المطيع بذلك – أي بالحج والعمرة عنه هذا هو المستطيع بغيره.
ودليل هذه المسألة: ما ثبت في الصحيحين: (أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده قد أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) (1) وفي رواية لمسلم: (إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال: فحجي عنه) .
ووجه الاستلال ليس في أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة بأن تحج، فإن هذا الأمر بعد سؤال، والأمر بعد السؤال لا يفيد الوجوب، وإنما الاستدلال بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم قولها: (إن فريضة الله) وقولها في رواية مسلم: (عليه فريضة الله) فدل على أن الشيخ الكبير العاقل والمريض الذي لا يرجى برؤه الحج فرض عليهما، لكن ليس بأبدانهما لعجزهما، وإنما بأموالهما أو بمن يطيعهما من ولدٍ ونحوه.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 384، 464، 3 / 102] ومسلم [4 / 101] .(11/21)
وحينئذ: النائب ما يثبت من غرامة مالية بدم ونحوه إن كان هذا بسبب ما يترتب على الحج أصلاً كدم التمتع أو القران ونحو ذلك فإنه واجب على صاحب المال المحجوج، ومثل ذلك ما يأذن له فيه – كأن يكون محتاجاً إلى أخذ شيء من شعر رأسه لمرضٍ أو نحوه ويكون عليه الفدية فإذا أذن له في ذلك فإن هذه الفدية تلزم صاحب المال.
أما إذا فعل شيئاً لم يؤذن له فيه كجناية في مثل صيد أو سلك طريقاً بعيداً مع إمكانية سلوك طريق أقرب فإنه يلزم النائب لا المنوب عنه؛ لأن هذا فعل ليس بمأذون فيه.
قال: (من حيث وجبا)
يعني: من حيث وجب عليه الحج أو العمرة، فلو أن رجلاً وجب عليه الحج وهو في المشرق فالواجب أن ينيب من موضعه الذي وجب عليه الحج فيه فليس له أن ينيب رجلاً في بلدة أخرى دون بلدته، أو من عند الميقات أو في مكة. قالوا: لأن البدل يقوم مقام المبدل عنه، فهذا المحجوج عنه لو حج لحج من موضعه الذي وجب عليه الحج فيه وهذا بدل عنه فوجب عليه أن يحج من موضع المبدل عنه – وهذا تعليل لا يقوم به حجة فهوتعليل ضعيف.
ولذا ذهب جمهور العلماء إلى أنه له أن ينيب من الميقات من يحج عنه.
وظاهر قول الجمهور أنه لو أناب عنه رجلاً من مكة – أنه لا يجزئ عنه –.
والذي يظهر أنه يجزى عنه أيضاً وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للمرأة: (حجي عن أبيك) أطلق عليه الصلاة والسلام ولم يشترط أن يكون ذلك من حيث وجب عليه الحج، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ثم إن المعنى يقتضي ذلك، فإنه لا فائدة من ذلك والشارع إنما أوجب الحج على العباد لأداء مناسك الحج، وأوجب على من وراء الميقات أن يحرم منه، ومن دونه أن يحرم من موضعه، وأما المسافة التي تكون من بلدته إلى الميقات الذي يحرم منه فإنها ليست مقصودة لصاحب الشريعة، وإنما هي من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.(11/22)
بدليل أنه لو كان شخص من الآفاقيين صادفه الحج وهو في مكة فأحرم من مكة أجزأ ذلك عنه ولم يوجب عليه أن يحرم من بلده، فليس ذلك مقصوداً لصاحب الشريعة بل المقصود أن يحج حجاً صحيحاً، والنظر في الحج إنما هو إلى البدل لا إلى المبدل عنه والبدل في بلدة دون الميقات كأن يكون في مكة، أو هو في الميقات دون بلدة ذلك.
فالصحيح أن هذا ليس بشرط مطلقاً لا من الميقات ولا من ورائه خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
واعلم أن المريض الذي يرجى برؤه، أو المحبوس الذي يرجو خروج نفسه من الحبس فليس له أن يقيم غيره فيحج عنه؛ لأن الحديث قد ورد في الشيخ الكبير، وهو لا يرجى استطاعته على الحج، وألحق به المريض الذي لا يرجى برؤه. وأما من يرجى برؤه أو المحبوس الذي يرجو الخروج فليس أن ينيب غيره عنه لأن الأصل هو وجوب الحج بالنفس لا بالغير وهذا مرجو زوال العلة.
قال: (ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام) .
لهذه المسألة صورتان:
الأولى: أن يشفى هذا المريض من مرضه الذي كان ميئوساً منه بعد قيام البدل بالحج وانتهائه منه، فإنه يجزئ عنه حجه ولا يجب عليه الحج، وهذا ظاهر؛ وذلك لأنه قد فعل ما أمر به، فقد أمر أن يدفع من ماله ما يحج به عنه ففعل ما أمر به فأجزأه ذلك عن حجة الإسلام وخرج ذلك من عهدته، ولأن هذا الحجة قد وقعت صحيحة مجزئة فلا دليل على إبطالها.
الثانية: أن يعافى المريض الذي لا يرجى برؤه بعد إحرام النائب عنه وقبل انتهائه من الحج.
مثال: رجل مريض لا يرجى برؤه دفع مالاً لمن يحج عنه، فلما أحرم هذا النائب وقال: لبيك عن فلان شفي هذا المريض، فإنه يجزئه ذلك عن حجة الإسلام ولا يجب عليه الحج – هذا قول في مذهب الإمام أحمد.(11/23)
والقول الثاني: وهو وجه عند الحنابلة، وهو أظهر الوجهين عند الشيخ تقي الدين – كما قال ذلك صاحب الإنصاف وغيره – أنه لا يجزئه ذلك؛ قالوا: لأنه قدر على الأصل قبل تمام الحج من البدل " وهو النائب عنه " فوجب عليه أن يحج عن نفسه ولا يكتفي بهذا الحج وظاهر هذا التعليل أن هذا ولو كان بعد الوقوف بعرفة ولو كان ذلك أثناء الطواف ما لم يتم الحج، فإذا تم الحج فحينئذ يسقط عنه الفرض.
أما حجة القول الأول وهو المشهور في المذهب فحجتهم: أنه قد شرع في البدل، والقاعدة أن من شرع في البدل لعجزه عن الأصل فإنه يجزئ عنه ذلك وإن قدر على الأصل أثناء فعله للبدل وهذا له صور عند أهل العلم.
منها: رجل غير قادر على الهدي فبدل الهدي الصيام، فإذا شُرع الصيام ثم قبل أن يتم الصيام قدر على الهدي فإن الصيام يجزئ عنه ولا يجب عليه أن يعود إلى الأصل.
ومنها: رجل عليه كفارة يمين فعجز عن إطعام عشرة مساكين فشرع في الصيام، فلما صام الأول قدر على الإطعام فهو بالخيار إن شاء استمر على الصيام ويجزئ عنه ذلك، وإن شاء عاد إلى الأصل وهو إطعام عشرة مساكين قالوا: فهنا كذلك ولا شك أن إلحاق الشيء بمثيله ظاهر في الشريعة، فالشريعة لا تفرق بين المتماثلات فهذا قد شرع في البدل وأثناء ذلك قدر على الأصل فلم يجب عليه أن يعود إليه وكان ذلك مجزئاً عنه – وما ذكروه أصح مما ذكره أصحاب القول الثاني فالراجح ما ذكره المؤلف: وأنه إذا أناب عنه غيره فأحرم " أي نوى الدخول في الحج " ثم قدر المنوب عنه على الحج فإنه لا يجب عليه أن يحج، وإن حج فإن ذلك تطوع له، ويجزئ عنه حجة النائب عنه لأن القاعدة التي دلت عليها الشريعة: أنه إذا شرع في البدل فإن الأصل يسقط ويجزئ البدل عن الأصل، ولو قدر على الأصل أثناء اشتغاله بالبدل.
مسألة:(11/24)
لا يجزئ المنوب عنه حج النائب إن كان النائب لم يحج حجة الإسلام فيشترط في النائب أن يحج حجة الإسلام. ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) (1) وقد اختلف فيه رفعاً ووقفاً والراجح وقفه – فهذا الحديث دليل على هذه المسألة فلا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره.
فإن عجز عن الحج عن نفسه بسبب عدم القدرة المالية، لكنه قادر بنفسه فهل له أن يحج عن غيره أم لا؟
المشهور في المذهب أنه لا يجزئ ذلك المنوب عنه للحديث المتقدم.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو قول سفيان الثوري: إلى أنه يجوز له ويجزئ عن المنوب عنه وهذا أرجح؛ فإن الأصل أن النائب يجزئ حجه عن المنوب عنه، وإنما لم تصح حجته حيث كان قادراً على الحج لأن حجه عن غيره مزاحم لحجه عن نفسه، فهو وإن صح عن غيره فاته حج نفسه والواجب عليه أن يحج عن نفسه. فهناك مزاحمة وأما هنا فليس ثمت مزاحمة فإنه ليس بقادر على الحج، فإن لم يحج عن غيره فإنه لا يحج.
والحديث المتقدم فيه قرينة تدل على أن ذلك الرجل قادر على الحج عن نفسه وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حج عن نفسك) ولا يوجه هذا الخطاب إلا للقادر على الحج، وثمت قرينة أخرى وهي قوله: (أخ لي أو قريب) والغالب فيمن يحج عن قريبه ألا يكون ذلك من مال القريب أو الأخ وإنما يكون ذلك بتبرع محض منه بالمال والبدن جميعاً.
فالراجح: أن من حج عن غيره – وهو غير قادر على الحج عن نفسه – فإن ذلك يجزئ عن المنوب عنه.
* فإن حج عن غيره مع قدرته على الحج عن نفسه، فهل يصح الحج لأحد منهما أم يبطل لهما جميعاً؟
ثلاثة أقوال:
__________
(1) رواه أبو داود [1811] وابن ماجه [2903] وغيرهما، الإرواء [994] .(11/25)
الأول: أن الحج يقع عن المحجوج له.
الثاني: يقع عنه هو " أي النائب ".
الثالث: أنه لا يصح منهما جميعاً.
أما حجة أهل القول الأول: فإنهم قالوا: الرجل لو أخرج زكاة أخيه قبل أن يخرج زكاة نفسه أجزأ ذلك، وهذا يخالف الحديث المتقدم وكل قياس يخالف النص فاسد. على أن هناك فارق بين المسألتين، فإن إخراج الزكاة عن الغير ثم إخراجها عن النفس لا يؤثر ولا يزاحم فإنه يخرجها عن غيره ثم عن نفسه في وقتها ولذا لو أنه أخرجها عن أخيه مثلاً بحيث أنه لا يستطيع أن يخرجها عن نفسه إلا في سنة أخرى فإنه لا يجوز له ذلك، والحج هنا كذلك فإنه إذا حج عن غيره لم يستطع الحج عن نفسه إلا في سنة أخرى.
وإلى هذا القول ذهب الأحناف والمالكية.
وأما القول الثاني فهو مذهب الشافعية والحنابلة: وهو أنه إن حج عن غيره فإنه ينصرف الحج إلى نفسه؛ لأن الحديث بين بطلان الحج عن الغير قبل الحج عن النفس وحينئذ ينصرف الحج إلى النفس.
وأما القول الثالث فهو رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه قالوا: يبطل ولا يصح من أحدهما فلا يصح من الحاج ولا المحجوج عنه –. وهذا القول هو الراجح، أما كونه لا يصح من المحجوج عنه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفسده وأبطله ونهى عنه، أما كونه لا يصح من الحاج نفسه فلأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى وهذا لم ينوه لنفسه، والحج عبادة وحيث لم ينوه لنفسه فحينئذ لا يجزئ عنه، وشرط العمل النية.
فإذا أُخبر فنوى عن نفسه قبل الوقوف بعرفة فإنه يجزئ ذلك عنه وتكون حجة صحيحة له.
قال: (ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرمها)(11/26)
هذا شرط وجوب، والفرق بين شرط الصحة وشرط الوجوب: أن شرط الصحة إذا انتفى بطلت العبادة، وأما شرط الوجوب فإذا انتفى فإن العبادة لا تبطل لكن لا يجب في الأصل بهذا الشرط بمعنى أن انتفاء شرط الوجوب يعني انتفاء الوجوب يعني إن حج فالحج صحيح. وعليه: فالمرأة إذا حجت بلا محرم فحجها صحيح وهي آثمة، وهذا قد اتفق عليه العلماء لأنه شرط وجوب لا شرط صحة، وهي آثمة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال رجل: يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: انطلق فحج مع امرأتك) (1) ، وفي الدارقطني وصححه أبو عوانة: (ولا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم) .
فإن حجت مع جماعة النساء فهل يجوز لها ذلك ويسقط عنها الإثم؟
ذهب إلى جواز ذلك الإمام مالك واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وأن المرأة إذا ذهبت في قافلة آمنة ومعها جماعة النساء فإن ذلك يجوز لها.
واستدلوا: بما روى البخاري: أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف " (2) وكان ذلك بمحضر من الصحابة، والشاهد أنه قد بعث معهن عثمان وعبد الرحمن وهما ليس بمحارم لهن.
وهذا الاستدلال فيه ضعف من وجهين:
الوجه الأول: - وهو أضعف من الوجه الثاني – أن يقال: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن من حفظ الله وعنايته لحفظ عرضه صلى الله عليه وسلم ما ليس لغيرهن، ولهن من الصيانة والعفاف أعظم ذلك، فلا يقاس غيرهن بهن – هذا لو سلمنا أنه ليس معهن محرم.
__________
(1) أخرجه البخاري [3006، 3061، 5233، 1862] ، ومسلم [424، 1341] . بداية المجتهد [2 / 223]
(2) صحيح البخاري، باب حج النساء من كتاب جزاء الصيد رقم 1860.(11/27)
الوجه الثاني: أن يقال: إن هذا الأثر ليس فيه أنه ليس معهن محرم، وإنما فيه أن عمر بعث معهن على القافلة عثمان وعبد الرحمن أي أمراء على القافلة، فهما أمراء القافلة التي فيها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الأثر أنه ليس معهن محارم فإن الأثر لم يتعرض لذلك، وهنَّ أجلَّ من أن يخالفن النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه العام أن تسافر المرأة بلا محرم.
لذلك الصحيح ما هو مشهور في المذهب من: أن المرأة ليس لها أن تسافر إلا مع ذي محرم. ثم إن الفارق ظاهر، فإن المحرم لا يقوم مقامه شيء فلا يقاس به غيره، فكونها تكون مع جماعة النساء لا يغني ذلك عن محرمها ولا يقوم مقامه، والأصل في القياس هو التماثل فلا يلحق هذه المسألة بمسألة المحرم مع وجود الفارق، فإن مظنة [الحفظ] قوية وإن كانت موجودة مع صحبة النساء أو في صحبة منه ولا يشبه ذلك وجود محرمها.
واعلم أن من شروط المحرم أن يكون بالغاً – باتفاق العلماء، فالصبي وإن كان مميزاً ليس بمحرم لا في الخلوة ولا في السفر؛ ذلك لأن الحفظ والصيانة لا يكون إلا بمن كان بالغاً وهذا هو المقصود من المحرم.
قال: (ومحرمها هو زوجها)
فالزوج محرم لها وهذا ظاهر.
ولا يجب على الزوج أن يحج بها إذ لا دليل على إيجاب ذلك عليه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) (1) فإن هذا أمر بعد سؤال فلا يدل على الوجوب؛ ولأن في ذلك مشقة وليس من التعبد المختص بنفسه والأصل في مثل ذلك ألا يكون واجباً إلا بدليل ظاهر يدل عليه، وليس عندنا ما يدل على إيجابه على الزوج ولكن ليس للزوج أن يمنعها من حج الفريضة، فهو حق الله عليها بخلاف حج التطوع فله أن يمنعها.
قال: (أو من تحرم عليه على التأبيد)
__________
(1) سبق برقم 30.(11/28)
فيخرج من ذلك من تحرم تحريماً غير مؤبد، فمثلاً: الزوج ليس محرماً لأخت زوجته وعمتها وخالتها لأنها لا تحرم تحريماً مؤبداً، بل هو مؤقت ببقاء عصمته على أختها، أما إذا زالت هذه العصمة بطلاق أو وفاة، فإنها تحل له.
نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن على التأبيد لكن ليس هذا للمحرمية وإنما للتحريم، فليس الرجال من المؤمنين بمحارم لهن، لكنه لا يحل لأحد منهن أن ينكح إحداهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا تحريم وليس بمحرمية.
قال: (بنسب)
أي بقرابة، كالأم والأخت والعمة، فالرجل محرم لأمه وأخته وعمته وخالته.
قال: (أو سبب مباح)
كالمصاهرة فهي سبب مباح تثبت به المحرمية كأم الزوجة وبنت الزوجة، فهي تحرم على التأبيد بسبب مباح وهو النكاح الذي أباحه الله فتثبت به المصاهرة.فالرجل محرم لأم زوجته وبنت زوجته.
والرضاع أيضاً سبب مباح فعمته وخالته من الرضاع هو محرم لها ولا شك أن مثل هذا مع أمن الفتنة، فإذا أمنت الفتنة جاز ذلك.
وقيَّد السبب بالمباح، ليخرج السبب المحرم كالملاعنة، فإن الرجل إذا لاعن امرأته حرمت عليه على التأبيد لكن ليس له أن يسافر محرما لها لأن هذا السبب سبب محرم لا تكتسب به محرمية وإنما تكتسب به تحريم وكذلك تخرج بنته من الزنا، فليس له أن يسافر بها وإن علم أنها ابنته من الزنا لأن هذا سبب محرم لا يثبت به المحرمية.
إذن المحرمية: تثبت بمن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.
قال: (وإن مات من لزماه أخرجا من تركته) .
لزماه: أي الحج والعمرة. فإذا مات الرجل وقد لزمه الحج وهو لم يحج فإنه يخرج من أصل تركته قبل قسمة الميراث – يخرج مالاً يحج عنه به ويعطى حكم الديون.(11/29)
ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله أن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) (1) فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الديون التي تقضى وحينئذ تخرج من تركته كسائر الديون كما تخرج الزكوات ونحوها.
مسألة:
رجل عاجز أو قادر – على الحج هل يجوز أن يوكلا من يحج عنهما تطوعاً؟
قال الحنابلة: نعم في الصورتين في العاجز والقادر فعندهم باب التطوع ليس كباب الفريضة.
والراجح: أنه لا يحج أحد عن أحد كما قال ذلك ابن عمر وهو ثابت عنه بإسناد صحيح، وقال تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (2) وإنما يستثنى العاجز في حجة الفريضة، أما القادر فلا يصح أن يناب عنه لا في حج فرض ولا نفل، وأما العاجز فلا يجوز في النفل ويجوز في الفرض
والحمد لله رب العالمين.
باب المواقيت.
المواقيت: جمع ميقات من وقت الشيء أي حدده وقدره.
ومواقيت الحج قسمان:
مواقيت مكانية: وهي المواضع التي يهل منها الحاج وسيأتي ذكرها.
مواقيت زمانية: وهي الأشهر التي يهل بها الحاج وسيأتي ذكرها أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وميقات أهل المدينة ذو الحليفة)
شرع المؤلف في بيان المواقيت المكانية، فبدأ بميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة وهو ما يسمى عند العامة بـ " آبار علي " وسمي بذلك لقصة كاذبة مختلقة أن علياً قاتل الجن فيها لكن هذه القصة لا أصل لها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 464، 4 / 431] والنسائي وأحمد. الإرواء [993] .
(2) سورة النجم 39.(11/30)
وهو وادي العقيق (1) الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في البخاري: (أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي فإنه مبارك) (2) .
قال: (وأهل الشام ومصر والمغرب الجُحفة)
والجُحفة: موضع يبعد عن مكة نحو ثمانين كيلو متراً، لكنه موضع خراب وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين: (دعا أن تنتقل حمى يثرب إليه) (3) فكانت فيه حمى يثرب، فانتقل إلى رابغ وهو موضع بحذائه فميقات أهل مصر والشام الآن هو رابغ.
قال: (وأهل اليمن يلملم)
وهو ما يسمى الآن بـ " السعديَّة " وهو جبل في تهامة.
قال: (وأهل نجد قرن)
والقرن في اللغة: الجبل المنفرد وهو ما يسمى الآن بالسيل الكبير.
قال: (وأهل المشرق ذات عرق)
فأهل المشرق من أهل العراق وأهل خراسان ونحوهم ميقاتهم ذات عرق، وهو ما يسمى الآن بـ " الضريبة " فهذه هي مواقيت الحاج.
__________
(1) العقيق: واد عليه أموال أهل المدينة، ومهل أهل العراق هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة. معجم البلدان.
(2) رواه البخاري في كتاب الحج، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العقيق واد مبارك.
(3) أخرجه البخاري في المرضى باب من دعا برفع الوباء والحمى [2677] ومسلم في الحج باب الترغيب في سكنى المدينة [1376] .(11/31)
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة) وفي النسائي (ولأهل الشام ومصر الجحفة) (1) (ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة) (2)
__________
(1) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب ميقات أهل مصر برقيم [2653] .
(2) رواه البخاري في كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، وباب مهل أهل مكة وغيرهما، ومسلم، باب مواقيت الحج والعمرة من كتاب الحج، وأبو ادود في باب المواقيت، والنسائي في باب ميقات أهل اليمن.(11/32)
فهذه مواقيت أربعة وأما ذات عرق فثابت في حديث آخر، وهو ما ثبت في أبي داود والنسائي من حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: وقت لأهل العراق ذات عرق) (1) وأصله في مسلم (2) من حديث جابر إلا أن الراوي شك في رفعه، لكن ورد الجزم بأنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديثه في مسند أحمد بإسناد حسن، وقد وقته عمر فخفي عليه ميقات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن توقيته كان مظنة الخفاء لأن العراق لم تكن مفتوحة في عصره عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك من أعلام نبوته، وأما المواقيت الأخرى فكان يحرم منها ويهل في عصر النبي عليه الصلاة والسلام فخفي ذلك على عمر فأجتهد فأصاب السنة، فقد ثبت في البخاري: (لما فتح المصران " البصرة والكوفة " أتوا عمر فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرناً وإنه جور عن طريقنا " أي مائل ومنحرف عن طريقنا " وإنا إن أردنا قرناً شق علينا فقال: انظروا إلى حذوه فوقت لهم ذات عرق) (3) وفي قوله رضي الله عنه: (انظروا إلى حذوه) ما يدل على أنه إن كان الطريق لبلدة من البلاد إلى مكة ليس إلى ميقات وإرادتهم الميقات وانصرافهم إليه فيه مشقة فإنهم يحرمون مما يحاذي الميقات وهذا مما اتفق عليه العلماء.
قال: (وهي لأهلها)
فهذه المواقيت لأهلها، فذو الحليفة لأهل المدينة.
قال: (ولمن مر عليها من غيرهم)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب في المواقيت، والنسائي باب ميقات أهل مصر، وباب ميقات أهل العراق.
(2) صحيح مسلم، باب مواقيت الحج والعمرة، من كتاب الحج. كما أخرجه ابن ماجه في باب موقيت أهل الآفاق، والإمام أحمد في المسند 3 / 333، 336.
(3) باب ذات عرق لأهل العراق، من كتاب الحج، صحيح البخاري [2 / 166](11/33)
فمن مر على هذه المواقيت من غير أهل هذه البلاد فهي مواقيتهم أيضاً، فإذا مر المدني بميقات أهل الشام أهلّ منه والعكس كذلك وهكذا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) (1) فالشامي إذا مر بميقات أهل المدينة فإنه يحرم منه – هذا هو المشروع في حقه باتفاق العلماء وهل لشخص من أهل الشام مر على المدينة – هل له أن يتجاوز ميقات أهل المدينة حتى يأتي إلى ميقات أهل الشام فيهل منه أم لا؟
والمستحب له بالاتفاق أن يهل من ميقات أهل المدينة، لكن هل يجوز له ويجزئه أن يتجاوز إلى ميقاته أم لا؟ قولان لأهل العلم:
قال جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية: لا يجوز له أن يهل إلا من هذا الميقات الذي مر به، فإن تجاوزه إلى ميقات أهل بلده فإن عليه دماً.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) .
قالوا: فمعنى قوله: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) أي هذه المواقيت مواقيت لأهل هذه البلاد، ولأهل البلاد الأخرى إذا مروا عليهن وحينئذ فما دام ميقاتاً فلا يجوز أن يتجاوز، فهو ميقات لهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يتجاوزوه.
__________
(1) سبق تخريجه برقم 39.(11/34)
وذهب الإمام مالك إلى أن له أن يتجاوزه وإن كان الأفضل في حقه ألا يفعل، لكن إن فعل فإنه يجزئ عنه. واستدل بعموم قول ابن عباس: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة..) فهذا الحديث يدل على أن ذا الحليفة – مثلاً – ميقات لأهل المدينة سواء كانوا في بلادهم أو في غير بلادهم، وأن لهم أن يتجاوزوا البلاد حتى يأتوا ميقات بلادهم. وفيما قاله – رحمه الله – نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على ما تقدم وأن هذه مواقيت لمن مر عليها من أهل البلاد الأخرى. وأما قوله: (وقت لأهل الشام) فإن هذا من باب الغالب ولا شك أنه يسمى ميقات أهل الشام وهذا يسمى ميقات أهل المدينة ونحو ذلك فهو ميقاتهم أي ميقات بلدهم، وأما الأشخاص الذين يمرون عليه فسواء كانوا من أهل هذه البلدة أو من غيرهم فهذا هو ميقات من يذهب إلى مكة من جهة الشام وهذا ميقات من يذهب إلى مكة من جهة المدينة – وهكذا – فقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) يدل على أنه ميقات له، والميقات لا يجوز لأحد أن يتجاوزه.
فما ذهب إليه جمهور العلماء أصح مما ذهب إليه الإمام مالك.
فعليه: إذا تجاوز الشامي ميقات أهل المدينة حتى أتى ميقات أهل الشام فأحرم منه فإنه قد ترك ما أوجبه الله عليه فيكون عليه دم لتركه واجباً من واجبات الحج وهو الإحرام من الميقات.
قال: (ومن حج من أهل مكة فمنها)(11/35)
من حج من أهل مكة سواء كان مقيماً أو غير مقيم – وهذا باتفاق العلماء – وقد يقال أن مثل هذه المسألة تدل على ضعف ما ذهب إليه الإمام مالك فإنه باتفاق العلماء لمن كان من أهل المدينة وقد مر على ميقات أهل الشام مقبلاً من جهة الشام أنه يحرم منه ولو قلنا بأن هذا الميقات خاص بأهل الشام وهذا خاص بأهل المدينة لم نقل بجوازه، فتبين أن المراد من مر به سواء كان من أهل تلك الجهة مقيماً بها أو كان ماراً غير مقيم. فهنا من كان في مكة مقيماً أو لم يكن مقيماً باتفاق العلماء
لمن صادفه الحج وهو في مكة، أو نوى العمرة وهو في مكة فإنه يهل من مكة بالاتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة) (1) فأهل مكة المقيمون وغير المقيمين يهلون بالحج من مكة وهذا مما لا خلاف بين أهل العلم ومما يدل على دخول غير المقيمين ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم، ومعلوم أن عائشة من أهل المدينة فأعطاها حكم أهل مكة في كونها تهل من الحل وهذا إنما يكون لأهل مكة.
قال: (وعمرته من الحل)
للحديث الذي تقدم ذكره وهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم) (2) والتنعيم هو أدنى الحل إلى مكة والحكم عام في التنعيم وغيره من الحل وإنما أعمرها من التنعيم لقربه من الحرم فهو أدنى الحل.
فعلى ذلك المكيون إذا أرادوا العمرة وكانوا في الحرم فإنهم لا يعتمرون في موضعهم الذي هم فيه بل من أدنى الحل، وكذلك الآفاقي إذا كان بمكة وأدركه الحج أو أراد العمرة وهو في الحرم فيجب أن يحرم من الحل للحديث المتقدم.
__________
(1) سبق تخريجه برقم 39.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي [1786] ، ومسلم [1211](11/36)
والعلة من التفريق بين الحج والعمرة: أن الحج فيه جمع بين الحل والحرم، فإن فاعل أنساك الحج يجتمع فيه الحل والحرم فعرفة مثلاً في الحل ومنى في الحرم، أما المعتمر فإنه إن لم يخرج إلى الحل فإن مناسكه لا يكون فيها حل – هذا ما ذكره أهل العلم – من التفريق.
ويظهر لي أيضاً معنى آخر للتفريق وهو أن العمرة هي الزيارة والزيارة إنما تكون من الخارج لا من الداخل، فيخرج إلى الحل ويأتي معتمراً.
إذاً: اتفق أهل العلم على التفريق بين الحج والعمرة في الإحرام فقالوا: يحرم من مكة للحج وأما العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل سواء كان ذلك من التنعيم أو غيره.
إذاً: عندنا هنا طرفان:
الطرف الأول: من كان في المواقيت فما وراءها وتقدم الكلام عليه.
الطرف الآخر: من كان في مكة في الحرم فتقدم حكمه وأنه يحرم للحج من موضعه، وأما العمرة فمن الحل.
الطرف الثالث: من كان بين ذلك كالقرى والمدن التي تكون دون المواقيت إلى مكة فهؤلاء باتفاق العلماء يحرمون من مواضعهم، فكل يحرم من مكانه وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) (1) وإن كان بينه وبين الميقات مسافة يسيرة.
قال: (وأشهر الحج شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة)
(ذو القعدة) بالفتح ويصح الكسر " أي كسر العين [لعل الصواب: القاف] " القعِدة.
(ذو الحجة) بكسر الحاء ويصح بفتحها، والمشهور هو الكسر، فعكس ذي القعدة فالمشهور فتح العين ويصح كسرها هذه أشهر الحج عند جمهور العلماء.
__________
(1) سبق تخريجه برقم 39.(11/37)
واستدلوا بقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} (1) ووجه الاستدلال: قوله: {فمن فرض فيهن الحج} قالوا: ولا يمكن لأحد أن يفرضه إلا في عشر ذي الحجة فما قبلها فحينئذ: الأيام الأخرى من ذي الحجة ليست من أشهر الحج لأنه لا يفرض فيها الحج أي لا يهل بالحج، فإن الحج ينتهي الإهلال به بأذان الفجر من ليلة النحر. وهذا القول ثابت عن ابن عمر كما في البخاري معلقاً ووصله ابن جرير أنه قال: (أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) (2) .
ويورد إشكال على ما ذهب إليه الجمهور وهو أن يقال: إن الله عز وجل قال في كتابه: {الحج أشهر} والأشهر جمع، والجمع إنما يكون في الأصل بثلاثة، وهذه شهران وبعض شهر، وليست بجمع.
فأجابوا عن ذلك بأن هذا من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء وهذا مشهور في لغة العرب، فإن الرجل يقول قمت الليل ولم يقم إلا بعضه، ويقول: رأيت فلاناً اليوم، ولم يره إلا بعضه، وهذا أسلوب معروف في لغة العرب.
- وذهب المالكية: إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً.
واستدلوا: بقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} فقوله: (أشهر) جمع، وهذا يصدق في الأصل على ثلاثة، وما ذكرتموه – أي الجمهور – تأويلٌ، فإن إطلاق الكل على الجزء تأويل، والأصل إطلاق الكل على الكل، فإذا قال رجل: قمت الليل، فالأصل أنه قامه كله إلا أن تكون هناك قرينة تدل على أنه لم يقمه كله.
قال الجمهور – قرينتنا – قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} فهذه قرينة تدل على أنه أطلق الكل وأراد به الجزء.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات..} .(11/38)
ويمكن أن يجاب على هذا بأن يقال: إنكم قد أدخلتم فيها العاشر من ذي الحجة ومعلوم أن يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر لا يفرض الحج فيه، فإن الحج ينتهي بما يمكن أن يدرك فيه عرفة، وعرفة يدرك بإدراك جزء يسير قبل أذان الفجر من يوم النحر.
فعليه تبين أن ما ذهب إليه المالكية أصح في هذه المسألة، فإن يوم الحج الأكبر أعظم أيام الحج لا يفرض الحج فيه ومع ذلك قطعاً هو من أيام الحج، على أن اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر أيام فيها مناسك الحج.
فما ذهب إليه المالكية أصح. وأما قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} فإن ذلك يرجع إلى السُّنة وقد بينت السنة أن أشهر الحج التي يفرض فيها الحج ما يمكن أن تدرك فيه عرفة، فيبقى هذه خصيصة لما قبل يوم النحر في إدراك الحج وفرضه فيه، وتبقى الأيام الأخرى من شهر ذي الحجة من أشهر الحج.
وهذه المسألة لا يترتب عليها كبير ثمرة في المسائل الفقهية ومع ذلك فإن الراجح ما ذهب إليه المالكية في هذه المسألة وأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه وهو ثابت عن ابن عمر كما عند ابن جرير بإسناد صحيح (1) وعليه فقد اختلف قول ابن عمر في هذه المسألة.
مسألة:
إذا أهل بالحج قبل أشهره، وهذا وإن كان لا يتصور كثيراً في هذه الأزمان لكنه يتصور في الأزمنة السابقة لمّا كان الناس يبكرون إلى الحج لبعد المسافة، فإذا أهل قبل أشهر الحج كأن يهل بالحج في رمضان فهل يصح حجه أم لا؟
قولان لأهل العلم:
قال الحنابلة: يصح حجه لكن يكره – وهو مذهب جمهور العلماء.
__________
(1) رواه ابن كثير في تفسيره [1 / 224] وقال: " إسناد صحيح ".(11/39)
واستدلوا بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} والأهلة هي أهلة القمر أي أهلة الشهور، فهنا قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة} أي بيِّن لنا الأهلة، فصرفهم الله إلى الفائدة منها فقال: {هي مواقيت للناس والحج} ، قالوا: فقوله: {مواقيت للناس والحج} يدل على أن الأشهر كلها مواقيت للحج.
وقال الشافعية: إذا أهل قبل أشهر الحج لم يجزئه ذلك.
قال الشافعية: قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} دليل على أنه لا يجوز له أن يحرم قبل هذه الأشهر، فإن قوله تعالى: {الحج أشهر} خبر من الله تعالى بأن الحج أشهر، والحج لا يوصف بكونه أشهر، فإنه فعل مناسك، فتبين أن هناك محذوف مقدَّر تقديره: " مواقيت الحج أشهر " وهذا من باب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، فدل على أن مواقيت الحج هي هذه الأشهر، ومعلوم أن الميقات لا يجوز أن يتجاوز لا بتقديم ولا بتأخير وقد قال تعالى: {فمن فرض فيهن} فدل على أن الفرض لا يكون إلا فيهن. وما ذهبوا إليه أصح.
وأجابوا عن الآية المتقدمة قالوا: قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} هنا جعل الله الأهلة مواقيت للحج؛ لأن أشهر الحج تعرف بمعرفة بقية الشهور، فإنا نحتاج إلى معرفة شهر شوال بمعرفة خروج شهر رمضان وبمعرفة صحة دخوله وهكذا. فعلى ذلك هذه الآية فيها بيان [أن] الأهلة يستعان بها على معرفة الحج.
أو أن المراد أن بعض الأهلة مواقيت للحج وهي الأشهر الثلاثة.
ومذهب الشافعية أصح وأن الإهلال لا يصح، وحينئذ فينقلب عمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه وقد أهلوا بالحج أن يحلقوا رؤوسهم فتكون لهم عمرة.
مسألة: " في المواقيت المكانية "
تقدمت المواقيت المكانية وأن الواجب هو ألا يتجاوزها، فإذا أحرم قبل الميقات المكاني فهل يجزئ ذلك عنه أم لا؟(11/40)
أجمع أهل العلم على أن ذلك يجزئ (1) وأن المقصود ألا يتجاوز هذه المواقيت إلا بإحرام واتفقوا على أن المشروع أن يحرم منها، وأن الإحرام قبلها مكروه، وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك) (2) ففيه جابر بن نوح وهو ضعيف الحديث، وأما ما رواه أبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأدخل الجنة) (3) ففيه جهالة، وقال ابن القيم: قال غير واحد من الحفاظ: " إسناده ليس بالقوي ".
ولولا الإجماع على أن ذلك جائز، لقلنا بأنه محرم.
مسألة:
هل يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام إن كان غير مريد للحج والعمرة؟
قولان لأهل العلم:
1- ذهب جمهور العلماء وهو مذهب الحنابلة: إلى وجوب ذلك، فلا يجوز له أن يمر من الميقات إلا بإحرام.
واستدلوا: بما ثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لا يدخل مكة أحد من أهلها أو من غير أهلها إلا بإحرام) (4) .
2- وذهب الشافعية: إلى أنه لا يجب ذلك عليه، وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل مكة وعلى رأسه المغفر) أي دخل مكة فاتحاً وهو غير محرم.
__________
(1) قال ابن حجر في فتح الباري [3 / 448] : " وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر " رقم 1522 من صحيح البخاري.
(2) أخرجه البيهقي في باب تأخير الحج من كتاب الحج [4 / 341] وفي باب من استحب الإحرام من دويرة أهله [5 / 30] .
(3) أخرجه أبو داود [1741] باب المواقيت، وابن ماجه [3001، 3002] . زاد المعاد [3 / 301] .
(4) زاد المعاد [1 / 50] .(11/41)
واستدلوا: بمفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ممن أراد الحج أو العمرة) فمهومه أن من لم يرد الحج والعمرة فلا يجب عليه أن يحرم من هذه المواقيت.
قالوا: وأما أثر ابن عباس فهو مخالف بأثر ابن عمر الذي رواه البخاري في صحيحه معلقاً ووصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أنه كان لا يفعل ذلك، فهذا فعل منه يخالف ما ورد عن ابن عباس، والحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فما ذهب إليه الشافعية هو الصحيح.
والحمد لله رب العالمين
بابُ: الإحرام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الإحرام نية النسك)
الإحرام في اللغة: مصدر أحرم، يقال: أحرم يحرم إحراماً وهو الدخول في التحريم.
وأما في الشرع فقال المؤلف هنا: نية النسك.
والنية تقدم تعريفها بأنها: القصد الجازم، والنسك: هو الحج أو العمرة.
وهنا يشكل أن الرجل إذا خرج من بلدته إلى مكة فهو قاصد جزماً الحج أو العمرة ومع ذلك فلا يعد محرماً، وإنما يعد محرماً إذا أتى الميقات فنوى فيه، وحينئذٍ فيجب أن يقيَّد بما قيَّده المؤلف كما في الشرح بأن يقال: نية الدخول في النسك أي نية الدخول في الحج أو العمرة – ولا شك أن هذا القيد هو مراد المؤلف -.
والصلاة كذلك فإن الرجل يخرج من بيته وهو قاصد الصلاة وأما النية التي هي شرط في الصلاة فهي نية الدخول في الصلاة، فالإحرام هو نية الدخول في النسك سواء كان النسك حجاً أو عمرة.
وهل يشترط فيه شرط آخر؟
جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية في المشهور عندهم: أنه لا يشترط شيء، فإذا نوى الدخول في النسك فإن ذلك يجزئ عنه ولا يشترط شرطاً آخر سوى ذلك.
وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام: إلى أنه يشترط مع النية قول أو فعل يدل على النية وهو أن يسوق الهدي أو أن يلبي.(11/42)
فإذا أتى رجل الميقات ولم يسق الهدي ولم يتلفظ بقول: " لبيك عمرة أو لبيك حجاً " أو يقول " لبيك اللهم لبيك ... " فإنه لا يجزئ عنه.
أما الأحناف: فإنهم قاسوا الحج على الصلاة، فإن الرجل إذا صلى بنية فإنه لا يجزئ عنه إلا بتكبيرة الإحرام.
وأما شيخ الإسلام فعلل ذلك بقوله: إن الرجل إذا خرج من بلدته إلى مكة فإنه قاصد الحج والعمرة ناوٍ ذلك ففرض عليه إذا نوى عند الميقات أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يدل على إرادته للحج، والقول هو التلبية والفعل هو سياقه الهدي.
وعليه - فإن مقتضى تعليله – رحمه الله – أنه يجزئ عنه تجرده، فإذا تجرد ولبس الإزار والرداء فإن هذا فعل في أزماننا لا يراد إلا للحج فيكون دليلاً على نيته.
وعلى ذلك فإن الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء؛ وذلك لأن الأصل هو الاكتفاء بالنية وتكبيرة الإحرام قد دلت الأدلة الشرعية على أنها ركن من أركان الصلاة ولم يرد مثل ذلك في التلبية في الحج أو في سياق الهدي.
وأما تعليل شيخ الإسلام، فإن فيه نظراً تقدم التنبيه عليه: وهو أن الرجل إذا قصد مكة خارجاً من بلدته فإن هذا مجرد قصد للعبادة والنسك بخلاف نيته في الميقات فإنها نية الدخول في النسك – وهذا شبيه كما تقدم بالصلاة – فإن الرجل يخرج من بيته قاصداً المسجد ناوٍ الصلاة ومع ذلك فإن هذه النية لا تجزئ عنه وإن كبر للإحرام ما لم ينو نية جديدة وهي نية الدخول في الصلاة، فالصحيح أنه لا يشترط، وسيأتي حكم النية هل هي ركن أم واجب أم سنة في موضعه – إن شاء الله -.
قال: (يسن لمريده الغسل)
فيسن لمن يريد الدخول في النسك الغسل، ودليله ما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخوله مكة) وقول الصحابي من السنة يرفعها.(11/43)
ويدل عليه أيضاً ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أسماء بنت عميس وكانت نفساء أن تغتسل عند إحرامها) (1)
قال: (أو يتيمم لعدم)
فإن لم يقدر على الاغتسال لعدم ماء أو لعذر كمرض أو برد فإنه يسن له أن يتيمم – هذا هو قول القاضي من الحنابلة – وهو المشهور عند المتأخرين.
ودليلهم: أن التيمم ينوب عن الغسل في الطهارة المشروعة أو المفروضة كما يكون هذا فيمن أصيب بجنابة فلم يجد ماءً يغتسل به فإنه يتيمم.
واختار الموفق وصوبه وصاحب الإنصاف: إلى أنه لا يشرع له التيمم.
قالوا: لأن هذا الغسل غسل مستحب، قالوا: والأغسال المستحبة إنما شرعت للتنظيف وإزالة القذر فهي مشروعة لذلك، والتيمم لا يحصل به ذلك.
قلت: ومما يدل على ذلك ما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس أن تغتسل وكانت نفساء ومعلوم أن غسلها لا يفدها طهارة، لا طهارة مفترضة ولا طهارة مستحبة - وإنما يراد منه التنظف وإزالة القذر من عرق ونحوه – وهذا هو القول الراجح.
قال: (وتنظيف)
فيستحب له التنظيف بأن ينتف إبطه ويحلق عانته ويقلم أظافره ويزيل ما يكون في بدنه من الأوساخ ونحو ذلك.
ودليل ذلك: مشروعية الاغتسال فإنه تقدم أن الاغتسال إنما شرع للتنظيف فيشبهه إزالة الأقذار وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة فإنها مستحبة لما فيها من التنظيف فهذا من باب القياس على الاغتسال، فالاغتسال إنما شرع للتنظيف وهنا كذلك.
قال: (وتطيب)
__________
(1) رواه مسلم في باب إحرام النفساء واغتسالها بالإحرام، من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 133] .(11/44)
فيستحب له أن يتطيب عند إحرامه، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) قالت: (وكأني أنظر إلى وبيص " أي لمعان " الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) وهذا الحديث فيه فائدتان:
الأولى: ما تقدم وهو مشروعية الطيب عند الإحرام.
الثانية: أنه لا بأس باستدامته، فإذا وضع الطيب على رأسه فبقي بعد الإحرام فإنه لا بأس بذلك، أو بقي على ردائه بعد الإحرام فلا حرج في ذلك، مما يدل عليه ما ثبت في أبي داود عن عائشة قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد وجوهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها) (2) ، في هذا الحديث فائدة أخرى وهي أنه إذا تحول الطيب من موضع إلى موضع بغير فعل من المحرم فلا حرج، كأن ينتقل بسبب إذابة الشمس، أو بالعرق إلى موضع آخر فلا حرج.
أما إذا أخذه المحرم بيده فوضعه في موضع آخر فإن ذلك ابتداء للتطيب في ذلك الموضع فيجب عليه أن يفدي.
ولا فرق بين الطيب الذي يبقى أثره ولونه، وبين الطيب الذي لا يبقى أثر له إلا الرائحة.
مثال الأول: المسك، ومثال الثاني: البخور، فلا فرق بينهما.
__________
(1) رواه البخاري كتاب الحج، باب الطيب قبل الإحرام رقم 1538، الفتح لابن حجر [3 / 463] ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب الطيب قبل الإحرام، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 100] .
(2) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب ما يلبس المحرم رقم 1830، سنن أبي داود [2 / 414] .(11/45)
- وذهب الإمام مالك: إلى أن استدامته من محظورات الإحرام، واستدل بما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل في عمرة الجعرانة (وكانت في السنة 8 هجرية) فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: (اغسل الطيب الذي عليك) (1) الحديث وهو من حديث يعلى بن أمية.
وردّ هذا جمهور العلماء بأن هذا الحديث منسوخ فإنه كان في السنة الثامنة للهجرة في عمرة الجعرانة، وما تقدم فكان في حجة الوداع في السنة العاشرة فهي أحاديث ناسخة لحديث يعلى بن أمية المتقدم.
فالقول الراجح هو مذهب الجمهور.
(قال الفقهاء: إذا كان الثوب … فليس أن يلبسه) (2) .
قال: (وتجرَّد من مخيط)
المخيط: هو الثوب المفصل على شيء من البدن كالقمص والسراويل وليس المراد ما فيه خيوط، فالمراد: الثوب المفصل على شيء من البدن سواء كان البدن كله أو جزء منه كالقمص والسراويل.
وأما ما كان فيه خيوط كأن يكون عليه رداء فيه خيوط أو نعول فيها خيوط فإن هذا لا حرج فيه وليس ثمت أحد من العلماء ينهى عن ذلك، وإنما يريدون بالمخيط الثياب المفصلة على قدر البدن أو بعضه.
فإذاً: يسن أن يتجرَّد من المخيط، وقد روى الترمذي بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (تجرَّد لإهلاله واغتسل) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج باب غسل الخلوق ثلاث مرات رقم 1536، 4985، ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم رقم 1180، وأبو داود باب الرجل يحرم في ثيابه 1822، والترمذي والنسائي.
(2) هذه العبارة في أعلى المذكرة وليست في الأصل.
(3) أخرجه الترمذي [1 / 159] ، والدارمي والدارقطني والبيهقي، الإرواء رقم [149] وقال: " حسن ".(11/46)
وقال صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي -: (وليحرم أحدكم بإزار ورداء ونعلين) (1) فيسن له أن يتجرد من الثياب المخيطة.
وهذا فيه إشكال فإنه من المعلوم الإجماع على وجوب ذلك برواية من لبس مخيطاً فإن عليه فدية – وسيأتي -.
وزوال الإشكال أن يقال: إن مراد المؤلف قبل الإحرام فقبل نية النسك يستحب له أن يخلع ما عليه من المخيط لتكون نيته للنسك وليس عليه شيء يحتاج إلى إزالته.
وعليه: فإذا نوى النسك وعليه شيء مخيط فخلعه فلا حرج عليه في ذلك.
أما إذا استدامه ولم يزله فوراً فعليه الفدية.
فالواجب عليه بمجرد نية النسك أن يزيل ما عليه فإذا تركه ولو لحظة مع إمكان إزالته فإن عليه الفدية.
فمرادهم يسن قبل إحرامه لئلا يعرّض إحرامه لبقاء هذه الثياب المخيطة عليه لحظة من زمن مستديماً لها مفرطاً فتلزمه الفدية.
قال: (ويحرم في إزار ورداء أبيضين)
للحديث المتقدم الذي رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) (2)
وأما دليل استحباب كونهما بيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم) (3) فإن أحرم بثوب لونه آخر فلا حرج في ذلك.
قال: (وإحرام عقب ركعتين)
فيستحب له أن يكون إحرامه بعد ركعتين، فإن كانت فريضة فبعد أن يصلي الفريضة، وإن لم تكن فريضة صلى ركعتين للإحرام، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد [2 / 34] وابن الجارود في المنتقى، قال الألباني رحمه الله: " صحيح " الإرواء رقم 1096.
(2) سبق برقم 59
(3) أخرجه أبو داود كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل رقم 3878 سنن أبي داود [4 / 209] ،وابن ماجه في اللباس باب البياض من الثياب رقم 3566، والترمذي في الجنائز باب ما يستحب من الأكفان رقم 994 وقال: (حسن صحيح) .(11/47)
واستدلوا: بما روى أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل عند المسجد بعد أن صلى فيه ركعتين) (1) والحديث فيه خُصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن له شاهد عند البزار من حديث انس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة) .
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن المستحب له أن يصلي إن وافق فريضة وإلا فإنه ليس للإحرام صلاة تخصه.
قالوا: لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص صلاة للإحرام لا بقوله ولا بفعله.
وأما ما تقدم من حديث ابن عباس فكان ذلك بعد الفريضة، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين فبات بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء) (2) فكان ذلك بعد صلاة الصبح فهما الركعتان اللتان ذكرهما ابن عباس في الحديث الذي تقدم أنه حديث حسن لغيره.
فعلى ذلك يستحب له أن يحرم بعد صلاة الفريضة، فإن لم توافق فريضة فلا يشرع أن يصلي صلاة بنية أنها للإحرام فإن ذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ولا بفعله.
قال: (ونيته شرط)
فنية الإحرام شرط وهذا ظاهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (3)
والحج عمل فلا يصح إلا بنية فمن شروط الحج النية، فإن حج بلا نية لم يصح حجه.
قال: (ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي)
لم أر هذا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ثبت عنه قوله: (لبيك عمرة في حجة) (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود باب في وقت الإحرام رقم 1770، [2 / 372] ، وأحمد في المسند رقم 2358.
(2) أخرجه البخاري [1 / 277] ومسلم [2 / 144] وأبو داود والنسائي والترمذي. الإرواء رقم 570.
(3) متفق عليه.
(4) سبق برقم 36(11/48)
قالوا: ويستحب له هذا – أي ما تقدم – أو ما في معناه، لكن إن دعا بدعاء مباح فلا بأس بذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء ولا غيره.
قال: (وإن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني)
" إن حبسني حابس " يعني منعني من الوصول إلى المناسك مانع من مرض أصبت به أو عدوٍ أو نحو ذلك فمحلي حيث حبستني، فإذا قال مثل هذه العبارة فحصل له شيء فإنه يحل من حجه ولا شيء عليه، فلا يجب عليه هدي الإحصار.
قالوا: لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله: إني أريد الحج وأنا شاكية " أي مريضة " قال: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) ، وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيت) (2) .
قالوا: فهذا يدل على مشروعية الاشتراط، وهذا سواء كان للشخص عذر يحتمل وقوعه أم لم يكن، فإن هذا المشهور في مذهب الحنابلة.
واختار شيخ الإسلام أن ذلك لا يشرع إلا للخائف، فإن اشترط الخائف نفعه ذلك.
كرجل مريض يُخشى أن يؤثر عليه المرض ويمنعه من الحج فيشترط إن حبسه حابس أن محله حيث حبس فحينئذٍ متى ما ثقل عليه المرض فلم يستطع أن يمضي إلى الحج وقد أحرم فيه فإنه يحل ولا شيء عليه.
وقبل ذلك: لو كانت البلاد خائفة فاشترط ثم كان في الطرق ما يخل بأمنها بحيث أنه لا يستطيع المضي لأداء الحج فإنه يحل ولا شيء عليه.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ولا أمر به أصحابه، وإنما أمر به من كانت شاكية خائفة أن تمنعها شكايتها من تمام حجها، فعلّمها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاشتراط، وهذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه البخاري [3 / 417] ومسلم [4 / 26] .
(2) أخرجه النسائي [2 / 20] . الإرواء رقم 1009، 1010.(11/49)
فيستحب ذلك لمن كان خائفاً كالمريض والخائف ونحوهما فيستحب لهم ذلك وينفع لهم ذلك، فإن حدث لهم مانع فإنهم يحلون ولا شيء عليهم.
أما الآخر فإنه لا يشرع له ولا يترتب عليه هذه الأحكام لأن هذا فعل غير مشروع فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأفضل الأنساك التمتع)
الأنساك ثلاثة: التمتع والقران والإفراد
فالتمتع والقران يجمع فيهما بين العمرة والحج، والفرق بينهما أن التمتع يتحلل منه المعتمر ثم يهل بالحج في أشهره، وأما القران فإنه يقرن بينهما من غير تحلل.
فعلى ذلك التمتع: هو الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج بتمتع بينهما، فيقول في الميقات: لبيك عمرة، ثم يؤدي مناسك العمرة ثم يتحلل الحل كله ثم يهل بالحج – وهذا كله في أشهر الحج – وعليه فإذا أهل بالعمرة في رمضان ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل به فليست بمتمتع، فإن التمتع عند أهل العلم الجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج.
وأما القران فهو أن يهل بالعمرة والحج معاً، فيقول عند الميقات: " لبيك عمرة وحجاً " أو " لبيك عمرة في حجة " ويفعل مناسك الحج ولا يتحلل بينهما، فلا يتحلل إلا إذا رمى الجمرة يوم النحر.
وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج مفرداً فلا يدخل فيه عمرة.
فالتمتع هو: الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج يتحلل بينهما، والقران بغير تحلل.
وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج منفرداً متجرداً عن العمرة.
وقد قال المؤلف: " أفضل الأنساك التمتع "
اعلم أن جماهير العلماء على أن المسلم مخير بين هذه الأنساك الثلاثة فإن شاء أهل متمتعاً وإن شاء أهل قارناً وإن شاء أهل مفرداً.(11/50)
واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل " وهذا هو القران " ومن أراد أن يهل بالعمرة فليفعل " وهذا هو التمتع " ومن أراد أن يهل بالحج فليفعل) (1) وهذا هو الإفراد)
وذهب ابن عباس رضي الله عنه – وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية ومال إليه ابن القيم – إلى أن التمتع واجب، وذكر ابن القيم في زاد المعاد أربعة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أمره بالتمتع لأصحابه في حجة الوداع.
فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كانوا – أي أهل الجاهلية – يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة بأصحابه صبيحة رابعة مهلين أمرهم أن يهلوا بعمرة أي أن يقلبوا حجهم إلى عمرة " فيعتمرون ثم يحلون ثم يحجون) فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال: الحل كله (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم تحت باب بيان وجوه الإحرام في مذاهب العلماء في تحلل المعتمر والمتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 143] ، وأخرج البخاري بعضه باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي رقم 1786.
(2) أخرجه البخاري باب التمتع والقران والإفراد بالحج، رقم 1564، ومسلم باب جواز العمرة في أشهر الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 225] .(11/51)
وثبت في الصحيحين عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما قدم مكة أمر أصحابه فقال: (أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدِمْتُم بها متعة فقالوا: يا رسول الله كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم ولولا أني سقت الهدي لفعلت الذي أمرتكم به ولكن لا يحل منى حرام حتى يبلغ الهدي محله) (1)
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا الحج) (2) – الحديث – وفيه: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: (اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه هدي)
فهذه أحاديث صحيحة فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهلوا بعمرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه في ذلك فدل ذلك على وجوبه.
__________
(1) أخرجه البخاري، باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي رقم 1568، ومسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع. صحيح مسلم بشرح النووي [8/ 166] .
(2) البخاري باب التمتع والقران والإفراد، رقم 1561، مسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع) ، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 147، 154] .(11/52)
قالوا: وأما ما استدل به الجمهور من حديث مسلم عن عائشة فإن هذا كان قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه قال ما تقدم: (من أحب أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل) (1) فلما قدم مكة أمرهم بأن يهلوا بعمرة كما تقدم من حديثها نفسها، فإنها قالت في الحديث المتفق عليه المتقدم: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا حجاً) إلى أن قالت: (فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: اجعلوها عمرة) (2) فنسخ النبي صلى الله عليه وسلم التخيير المتقدم.
فهذه أحاديث ظاهرة في وجوب ذلك.
وسلك شيخ الإسلام مسلكاً آخر وارتضاه الشنقيطي في أضواء البيان فقال: هذا الوجوب الذي دلت عليه الأحاديث المذكورة كان على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أما غيرهم فإن ذلك يستحب لهم ولا يجب.
واستدل: بما روى أبو داود في سننه من حديث الحارث بن بلال عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فقيل له: (ألنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة) (3) لكن الحديث فيه الحارث بن بلال وهو مجهول.
__________
(1) سبق برقم 68
(2) سبق قريباً.
(3) أخرجه أبو داود باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة رقم 1808.(11/53)
ويعارض هذا الحديث حديثاً متفق عليه وهو ما ثبت في الصحيحين عن سراقة بن مالك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل للأبد) (1) وزاد مسلم: (فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (2) فهذا حديث متفق عليه فلا يعارض بالحديث المتقدم، وفيه الحارث بن بلال وهو مجهول.
واستدل شيخ الإسلام أيضاً: بما ثبت في مسلم عن أبي ذر أنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) (3) ونحوه عن عثمان في مسند أبي عوانة بإسناد صحيح.
والجواب على هذا: أنها أقوال صحابة فلا يعارض بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما سئل (ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد) فيدل على أن هذا رأي منهما رضي الله عنهما.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب عمرة التنعيم من كتاب العمرة، وفي باب الاشتراك في الهدي والبدن..، من كتاب الشركة، وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، من كتاب التمني، ومسلم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 165، 178] ، وابن ماجه في باب فسخ الحج.
(2) سبق برقم 5
(3) أخرجه مسلم في جواز التمتع من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 203](11/54)
فالراجح: ما ذهب إليه ابن عباس من الصحابة من وجوب التمتع (1) ، وأن الواجب على المسلم أن يتمتع بالعمرة إلى الحج.
وأفضل المناسك في المشهور عن الحنابلة هو التمتع، وهم يقولون – كما تقدم – بالتخيير بينه وبين القران والإفراد.
والتمتع عندهم أفضل للأحاديث المتقدمة فإنهم حملوها على الاستحباب.
وظاهر ذلك أن هذا مستحب مطلقاً لكن ذكر شيخ الإسلام أن نص الإمام أحمد وغيره من الأئمة الأربعة على أنه إن أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة أخرى فإن ذلك أفضل، ودليل هذا ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح أن عمر بن الخطاب قال: (إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحرموا بالعمرة في غير أشهر الحج أتم لحج أحدكم وعمرته) (2)
__________
(1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المتخصرات ما نصه: " واختار شيخ الإسلام رحمه الله والشنقيطي أن ما كان للأبد هو مشروعية التمتع يعني كونه قد أهل بحج فيفسخ إلى عمرة هذا إلى يوم القيامة – إلى الأبد – وأما وجوب الفسخ الذي هو وجوب التمتع فإنه خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة) ، ونحوه عن عثمان رضي الله عنه بإسناد صحيح عند أبي عوانة.
والمعني يدل على ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون كما تقدم في حديث ابن عباس المتفق عليه} أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور {، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابه أن يعتمروا) فكان الفسخ إلى عمرة واستحباب التمتع، إلى الأبد، وأما وجوب ذلك فهو خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان على هذا أبو بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون الناس عن المتعة. وهذا القول الذي عليه الجماهير هو الأولى وأفضل الأنساك هو التمتع من غير إيجاب " اهـ.
(2) زاد المعاد [2 / 209](11/55)
فالإمام أحمد نص على أن من أراد أن يفرد كلاً منهما بسفر فإنه هو الأفضل، فإذا جمع بينهما فإن الأفضل هو التمتع أما إن أراد عمرة منفردة بسفرة منفردة، وحجة منفردة بسفرة منفردة فإن هذا أتم لحجه وعمرته كما ورد ذلك عن عمر.
والصحيح ما تقدم: وهو وجوب التمتع وقد ثبت عند الطحاوي عن عمر بإسناد جيد، وقال ابن القيم: صح عن عمر من غير وجه أنه قال: (لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت مع حجي عمرة) فيحتمل أن يكون هذا ناسخاً لقوله.
قال: (وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه)
فلابد أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع اتفاقاً.
ومثل ذلك في المشهور من المذهب وهو أصح قولي العلماء: لو أحرم في رمضان وفعل المناسك في رمضان فإنه لا يعد متمتعاً، كرجل أحرم في آخر نهار رمضان وفعل المناسك ليلة العيد أو صبيحة العيد أي في شوال فإنه ليس بمتمتع، لأن الإحرام وهو ركن من أركان العمرة، قد وقع في غير أشهر الحج، ولا تكون العمرة في أشهر الحج حتى تكون العمرة كلها في أشهر الحج، وهنا قد وقع الإحرام في غير أشهره.
ولابد أن يهل بالحج في عامه ذلك، فإن أهل في عام آخر فليس بمتمتع، فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في أشهر الحج ثم مكث بمكة سنة حتى أتى الحج القادم فأهل بالحج فليس بمتمتع.
وقد روى البيهقي بإسناد حسن – كما قال النووي – عن سعيد بن المسيب قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا) .
ويدل على ذلك أيضاً الآية الكريمة: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فظاهر الآية الموالاة بين الحج والعمرة، فإن اعتمر في سنة وحج في أخرى فليس ثمت موالاة. فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأن يكون الحج في العام نفسه الذي اعتمر فيه وإلا فليس بمتمتع، وبالتالي فليس عليه دم.(11/56)
فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في غير أشهر الحج ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل بالحج فليس بمتمتع وليس عليه حينئذٍ دم هدي التمتع، ولو أنه أهل بالعمرة في أشهر الحج لكنه لم يحج إلا في عام آخر فإنه ليس عليه دم؛ لأنه ليس بمتمتع، وقد قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي (1) } وهو في هاتين المسألتين السابقتين ليس بمتمتع وهذا مما اتفق عليه أهل العلم.
قال: (وعلى الأفقي دم)
الأفقي: هو من ليس بحاضر المسجد الحرام.
فإذا تمتع حاضر المسجد الحرام فلا هدي عليه بلا خلاف بين العلماء، أما من لم يكن حاضراً للمسجد الحرام فعليه هدي.
وحاضر المسجد الحرام: هو من كان في الحرم أو بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
ودليل المسألة قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}
والحاضر للمسجد الحرام هو المكي ومن بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
أما المكي فلا إشكال في أنه حاضر المسجد الحرام، وأما غيره فلأنه في حكم الحاضر له ولذلك صلاته صلاة حضر، فمن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة أو هو في موضع لا تقصر فيه الصلاة فإن صلاته حضر لا سفر.
وهنا فروع في هذه المسألة:
الفرع الأول: إذا اعتمر من ليس أهله حاضري المسجد الحرام في الحج ثم أنشأ سفراً آخر ثم رجع من سفره بحجة فهل يجب عليه الهدي أم لا؟
مثال: رجل سافر إلى مكة معتمراً في أشهر الحج لكنه لم يمكث في مكة بل سافر سفراً تقصر فيه الصلاة كأن يسافر – مثلاً – إلى الطائف أو إلى خارج البلاد ثم يأتي من هذه البلدة التي سافر إليها ويأتي مهلاً بحج، فهل يجب عليه الهدي؟
قولان لأهل العلم:
__________
(1) سورة البقرة.(11/57)
1- القول الأول، وهو مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يجب عليه الهدي، على خلاف بينهم في هذا السفر. فمنهم من قال: هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة – كما هو مذهب الحنابلة –، ومنهم من قال: بل الميقات، فإذا ذهب إلى الميقات ثم رجع حاجاً فلا هدي عليه، وهذا مذهب الشافعي، ومنهم من قال: بل إذا رجع بلده خاصة كما هو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من قال: إذا رجع إلى بلده خاصة أو ما يماثله مسافة وأولى من ذلك إذا كانت المسافة أكثر.
إذاً: هم متفقون على سقوط الهدي بتنوع السفر لكن اختلفوا في السفر.
2- وذهب الحسن البصري واختار ذلك ابن المنذر: إلى أنه لا يسقط عنه وإن رجع إلى بلدته أم إلى ما هو أبعد منها.
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في الآية في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي … ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فاختلف أهل العلم في " ذلك " هل الإشارة إلى التمتع أو إلى الهدي؟
أ- فهل هي إشارة إلى التمتع، فيكون التمتع غير مشروع لحاضري المسجد الحرام، فيكون المعنى: ذلك التمتع المذكور إنما يشرع لمن لم يكن حاضر المسجد الحرام، أما من كان حاضراً له فليس له أن يتمتع.
ب- والقول الثاني: أن الإشارة راجعة إلى الهدي أي ذلك الهدي المشروع إنما يشرع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام فتمتع فليس عليه هدي.
فمذهب الأحناف وهو اختيار البخاري: أن الإشارة راجعة إلى التمتع ولذا يقول الأحناف بعدم مشروعية التمتع لحاضري المسجد الحرام.
ومذهب جمهور العلماء: إلى أن الإشارة إلى الهدي أي ذلك الهدي وما ينوب عنه من الصيام إنما يكون لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وذلك لأنه ترخَّص وترفَّه بأن جمع بين نسكين في سفر واحد، فلما جمع بينهما في سفر واحد أوجبنا عليه الهدي لترخصه في ذلك.(11/58)
أما المتمتع من حاضري المسجد الحرام فليس له سفر فلم يترفه حينئذٍ فليس عليه هدي.
وقد استدل من قال بأنها راجعة إلى التمتع قالوا: يدل على ذلك أن لفظة " ذلك " قد جمعت بين اللام والكاف وهما إذا اجتمعا في اسم الإشارة فإن ذلك يدل على البعد والمذكور البعيد هو التمتع، فإنه قد ذكر قبل الهدي فهو أبعد.
قالوا: والقرينة الثانية أن الله قال {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فأتى باللام –والتمتع له – والهدي عليه، فلم يقل ذلك " على " أي ذلك الهدي على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. فدل على أن المراد بذلك التمتع الذي له وله أجره وثوابه أما الهدي فهو عليه واجب.
وأجاب الجمهور على ذلك فقالوا:
أما الإتيان بـ"ذلك " التي تفيد الإشارة إلى البعيد فإنه معلوم في لغة العرب أنها تأتي للإشارة إلى القريب وهذا مشهور في استعمالهم.
قالوا: ولفظة " اللام " تأتي بمعنى على، كقوله تعالى {ويخرون للأذقان} أي عليها، وقوله: {وتله للجبين} أي على الجبين.
قالوا: والأصل في الإشارة كالضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الهدي.
والذي يتبين لي أن الأقوى ما ذهب إليه الأحناف واختاره الإمام البخاري: وأن الإشارة تعود إلى التمتع؛ وذلك لأن لفظة " ذلك " في الأصل إشارة إلى البعيد، وكونها إشارة إلى القريب خلاف الأصل وخلاف الظاهر.
ولأن اللام في الأصل كما ذكره الأحناف واختاره البخاري، وأما كونها تكون بمعنى " على " فإن هذا خلاف الأصل فهو نوع تأويل.(11/59)
ولذا فالراجح – كما أنه الأحوط -: ما ذهب إليه الحسن البصري وهو اختيار ابن المنذر: من أن من سافر سفراً بين عمرته وحجته سواء كان هذا السفر يقصر فيه الصلاة فحسب أو كان أبعد من ذلك بأن يرجع إلى بلدته أو نحو ذلك مما تقدم فإن عليه أن يهدي لعموم قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وحقيقة التمتع هو الجمع بينهما في أشهر الحج، وقد قوى هذا القول الشنقيطي في أضواء البيان.
الفرع الثاني: هل يشترط أن ينوي في عمرته في ابتدائها أو في أثنائها أنه يريد الحج وأنه سيتمتع أم لا يشترط ذلك؟
رجل ذهب في شوال معتمراً فلما تحلل نوى أن يمكث في مكة حتى يأتي الحج فيحج فهل هو متمتع فيجب عليه الهدي أم ليس بمتمتع حتى ينوي في عمرته التمتع؟
وبصورة أخرى: هل يشترط له وهو في الميقات وقد قال لبيك عمرة أن ينوي أنه سيتمتع سواء كان ذلك في مبتدأ تلبيته أو كان ذلك في أثناء العمرة وقبل أن يحل أم لا يشترط ذلك؟
المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك شرط وهذا عندهم كما يكون في الجمع بين الصلوات، فشرط عندهم كما تقدم أن ينوي الجمع في الصلاة الأولى.
واختار الموفق أن ذلك ليس بشرط، وهذا هو القول الراجح فإنه لا دليل على اشتراطه، ولأنه قد تمتع بالعمرة إلى الحج فدخل في عموم الآية، واشتراط النية أثناء العمرة لا دليل عليه.
وعليه فلو ذهب معتمراً من غير أن ينوي أن هذه العمرة سيتمتع بها إلى الحج فلما أحل نوى أن يحج فبقي في موضعه حتى الحج أو رجع إلى بلدته فإنه متمتع وعليه الهدي.
الفرع الثالث: هل الهدي واجب على من جمع بين نسكي الحج والعمرة، ولكن أحدها له والآخر لغيره؟
كمن جمع بين الحج والعمرة بأن كانت العمرة له والحج عن غيره، فهل عليه الهدي أم لا؟
قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة.(11/60)
والمشهور في مذاهبهم: وجوب الهدي عليه؛ نظراً للفاعل فإن الفاعل واحد، والنسك قد حصل من قِبَل فاعل واحد فوجب عليه الهدي.
وقال بعض العلماء وهو قول في مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة خلافاً للمشهور في مذاهبهم، قالوا: لا يجب عليه الهدي؛ نظراً لأن أحد النسكين له والآخر ليس له.
والأظهر هو الأول؛ فإن النظر إنما يكون للفاعل فإنه واحد والآخر له، وإنما أهدى ثوابه لغيره، فإن الأصل أن هذا الفعل له لكنه أهدى ثوابه لغيره، ولا شك أن هذا هو الأحوط.
واعلم أن القران باتفاق أهل العلم داخل في حكم التمتع في باب الهدي، فالقارن يجب عليه أن يهدي، والصحابة يطلقون على القران تمتعاً كما في غير حديث ثابت عنهم كما في الصحيحين وغيرهما.
وقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – عن أزواجه وكن قارنات؛ ولأنه قد جمع بين النسكين فأشبه المتمتع الجامع بينهما – وهذا كما تقدم – مما اتفق عليه العلماء.
استدراك:
التمتع يجب على من لم يسق الهدي، فلو أن رجلاً ساق الهدي ثم تبين له الإيجاب فإنه لا يجب عليه حينئذٍ لأنه ساق الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الهدي لم يحل، بل الواجب على من ساق الهدي أن يكون قارناً ولا يجوز له أن يتمتع.
مسألة:
رجل اعتمر في أشهر (1) الحج ثم مكث في مكة ونوى الحج فهل يجب عليه أن يتمتع فحينئذٍ يأتي بعمرة؟
فإن قلنا بوجوب التمتع فإنه يجب عليه أن يخرج إلى الحل فيأتي بعمرة لوجوب التمتع.
وإذا نظرنا إلى جهة أخرى وهي أن العمرة ليست بمشروعة لمن كان في مكة سواء كان آفاقياً أو مقيماً قلنا: إنه لا يشرع. وهذا - فيما يظهر لي – أقوى؛ وذلك لأن هذا الفعل ليس بمشروع والأمر به يناقض مقصود الشارع من عدم مشروعية الاعتمار لمن كان في مكة وكان آفاقياً أو غيره.
__________
(1) لعلها: في غير أشهر الحج، بناء على عدم اشتراط النية.(11/61)
فالذي يظهر لي أن يقال: أنه ليس بواجب عليه، وحينئذٍ فيكون التمتع واجباً لمن كان خارجاً عن مكة.
وهذا ظاهر في اختيارنا المتقدم في قوله " ذلك " وأن التمتع لا يشرع لمن كان حاضراً المسجد الحرام – لكن هذا قد ينظر في الاستدلال به – بأن هذا ليس حاضراً للمسجد الحرام وإن كان فيه حينئذٍ؛ لأنه ليس مقيماً في المسجد الحرام فإقامته مؤقتة فليس له حكم المقيمين بل في حكم المسافرين فليس أهله حاضري المسجد الحرام، لكن الاستدلال السابق هو الأظهر وهو أن يقال: إن العمرة من مكة ليست بمشروعة والأمر بها ينافي مقصود الشارع من عدم مشروعيتها.
فإن قيل: عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع لم يستثن المكيين؟
فالجواب أن يقال: ظواهر الأحاديث أن هذا كان لغير المكيين فإنه قال: " فلما قدمنا مكة "
ثم أيضاً: الأدلة الأخرى التي تدل على عدم مشروعية العمرة على أهل مكة تدل على أن ذلك إنما يوجه لغيرهم.
كما أن الغالب أن من كان معه لم يكن من أهل مكة بل من أهل الآفاق.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة)
إذا حاضت المرأة المتمتعة فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة.(11/62)
فإذا لبت المرأة بعمرة على أنها متمتعة – حينئذٍ – تطوف بالبيت وبالصفا والمروة وتحل ثم تهل بالحج، لكن إن طرأ عليها الحيض قبل الطواف بالبيت، والمرأة ممنوعة من الطواف بالبيت – كما سيأتي دليله – فحينئذٍ إن بقيت منتظرة طهرها حتى تطوف لعمرتها فات عليها الوقوف بعرفة، فمثلاً في صبيحة اليوم الثامن أهلت بعمرة عند الميقات فأتاها الحيض، والحيض يمكث معها عدة أيام بحيث أنها لا تطهر قطعاً إلا بعد الوقوف بعرفة وهي لم تهل بالحج بعد، فإذا انتظرت حتى تطهر لتطوف بالبيت لعمرتها فاتها الحج فحينئذٍ تدخل الحج على عمرتها وتكون قارنة، فتقول: لبيك حجاً، وتكون حينئذٍ جامعة بين الحج والعمرة، وحينئذٍ تقف بعرفة وتفعل المناسك كلها وتطوف بالبيت إذا طهرت.
ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها أهلت بالعمرة فلم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فلما كان يوم النفر قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) [صحيح مسلم بشرح النووي: 8 / 156]
ويلحق بها كل من خشي فوات الحج من المتمتعين، فلو أن رجلاً قال: لبيك عمرة ثم طرأ عليه عارض منعه من الطواف بالبيت حتى خشي فوات الوقوف إن طاف وهو لما يطوف بالبيت فإنه حينئذٍ: يدخل الحج على العمرة ويكون حينئذٍ قارناً.
فهذه المسألة إدخال الحج على العمرة، والحديث دليل ظاهر في ذلك.
وهنا مسألة بعكس هذه المسألة: وهي مسألة إدخال العمرة على الحج.
رجل أهل بالحج مفرداً ثم بدا له أن يدخل العمرة فيكون قارناً " وقد يكون محتاجاً لذلك " بحيث أنه لا يمكنه التمتع كأن يكون قد ساق الهدي تبرعاً وقد أفرد الحج فأحب أن يدخل العمرة فيكون قارناً فهل يجوز ذلك؟
قال الحنابلة: لا يصح منه ذلك، واستدلوا: بأثر عن علي بن أبي طالب رواه البيهقي والأثرم وغيرهما.(11/63)
وقال الأحناف: يصح منه ذلك، وهذا القول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يقلبوا حجهم إلى عمرة ولا شك أن مسألتنا أولى بالجواز من تلك المسألة، فإن إدخال العمرة على الحج مع بقائه أولى من إبطال الحج وإثبات العمرة.
مسألة: حكم من أهل بالنسك مبهماً؟
وصفة الإبهام أن يقول: أهللت أو لبيت بمثل ما أهل به فلان أو لبى به فلان، فهذا هو الإهلال المبهم.
وحكمه الجواز بدليل: ما ثبت في الصحيحين بأن أبا موسى الأشعري: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت؟ فقال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، فأمرني بالطواف بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: أَحِلَّ) (1) .
مسألة:
يقاس على الإهلال مبهماً، ما إذا نوى نسكاً مُطْلِقاً ذلك، فنوى نسكاً مطلقاً، كأن يدخل في النسك هكذا على نية الإطلاق فيقول: " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك.. .. " من غير أن يقيد حجاً أو عمرة أو حجاً وعمرة، فقد نوى الدخول في النسك لكنه لم ينو أن يكون متمتعاً ولا قارناً ولا مفرداً، فهذا جائز باتفاق العلماء قياساً على المسألة السابقة.
وحينئذٍ: فإنه يصرف نسكه إلى أيها شاء.
لكن المستحب له أن يعين كما تقدم من حديث مسلم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على التعيين فقال: (من أحب أن يهل بالحج فالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل ... ) (2) الحديث فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد استحب لهم التعيين.
قال: (وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك ….)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، وباب يحل المعتمر من كتاب العمرة، و..، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي. المغني [5 / 97] .
(2) سبق برقم 68(11/64)
وهل المستحب له أن يكون ذلك عند مسجد الميقات أو يكون ذلك إذا أتى البيداء " وهي الموضع المرتفع وهو داخل الميقات "؟
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا وفي هذا:
أما أنه على البيداء، فقد ثبت هذا من حديث أنس بن مالك في البخاري قال: (حتى إذا استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبحه وهلله ثم أهل بالحج والعمرة فأهل الناس معه) (1) وهو أيضاً ثابت في البخاري من حديث ابن عباس.
وأما أنه أهل عند المسجد: فهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ما أهل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (2)
بل أنكر أن يكون قد أهل على البيداء وقال: (بيداؤكم هذه التي تكذبون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (3) رواه مسلم، وفي البخاري أنه قال: (حتى استوت به راحلته قائمة) أي عند المسجد.
فإذاً: الأحاديث اتفقت على أن المستحب له أن يهل بالحج أو العمرة إذا استوت به راحلته.
ومن الصحابة من روى أنه أهل عند المسجد، ومنهم من روى أنه أهل عندما استوت به راحلته على البيداء.
والجمع بينهما: أن يقال: كل منهما حدث بما رأى. فابن عمر رآه يهل عند المسجد، وأنس وابن عباس رأياه يهل وقد استوت به راحلته على البيداء، وكل قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال.. رقم 1551، 1545؟
(2) أخرجه البخاري باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة رقم 1541، ومسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91]
(3) مسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91](11/65)
فعلى ذلك المستحب له أن يهل إذا استوت به راحلته عند المسجد، وكذلك يهل إذا استوت به راحلته على البيداء، وقد تقدم أن المستحب أن يهل إذا استوت به راحلته، وهو ثابت في الأحاديث المتقدمة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وفي البخاري من حديث أنس، وفي البخاري من حديث ابن عباس.
وفي البخاري سنة أخرى وهي أن يستقبل القبلة عند التلبية فقد ثبت هذا في البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: (وهو مستقبل القبلة) (1)
قال: (لبيك اللهم لبيك … إلى قوله: لا شريك لك)
لبيك: من لبى في المكان أي لزمه واستقر به، والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها غير خارج عنها إلى معصيتك.
وثنيت لإفادة التكثير أي أنا مقيم إقامة بعد إقامة، فأنا ملازم لطاعتك مجيب لأمرك سامع لخطابك.
فالتلبية هي: الإقامة على طاعة الله تعالى وعدم الخروج عنها إلى معصيته، وثنيت للتكثير.
وقوله: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وهذه الجملة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر (2) ، وهي أيضاً ثابتة من حديث غيره من الصحابة.
وثبتت الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم عليها: ففي النسائي من حديث أبي هريرة: (لبيك إله الحق) (3) وفي ابن خزيمة: (إنما الخير خير الآخرة)
وهل يجوز له أن يزيد في التلبية؟
لا حرج في الزيادة، فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم شيئاً) (4)
__________
(1) أخرجه البخاري باب الإهلال مستقبل القبلة رقم 1553.
(2) أخرجه البخاري [1 / 360] ومسلم [4 / 8] الإرواء رقم 1097.
(3) رواه النسائي رقم 2752، في باب كيف التلبية.
(4) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/66)
ومن ذلك ما ثبت في مسلم عن عمر أنه كان يقول: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل) (1)
وفي أبي داود: أن الصحابة كانوا يقولون: (لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج) (2)
وفي البزار من حديث أنس: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً)
فهذه الألفاظ ثابتة عن الصحابة، ولا بأس بالزيادة على ذلك.
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: متى يقطع التلبية؟
في هذه المسألة تفصيل:
فإن كان قارناً أو مفرداً فإنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، ففي الصحيحين عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (3) ، وفي ابن خزيمة: (قطع التلبية مع آخر حصاة)
لكن يستثنى من ذلك: إذا دخل الحرم، فإنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري أن ابن عمر: (كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ثم بات بذي طوى حتى يصبح ثم يغتسل ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (4) وفي الموطأ: من فعله، وفيه: أن ذلك كان في الحج.
أما إن كان معتمراً أو متمتعاً فإنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم، فإذا دخل الحرم أمسك عن التلبية حتى يهل بالحج يوم التروية، فإذا أهل بالحج أعاد التلبية.
وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، وما ذكرته هو مذهب الإمام مالك وهو مذهب ابن عمر كما تقدم في الأثر المتقدم.
وهو صريح عنه في البيهقي في المعتمر، أن عطاء بن أبي رباح سئل متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: (إذا دخل الحرم، وقال ابن عباس: إذا استلم الحجر) .
__________
(1) أخرجه مسلم، باب التلبية وصفتها، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 88] .وأبو داود في باب كيف التلبية.
(2) رواه أبو داود في باب كيف التلبية دون قوله (ذا الفواضل) ، لعله في باب آخر منه. [2 / 404] .
(3) أخرجه الجماعة، الإرواء رقم 1098.
(4) رواه البخاري باب الاغتسال عند دخول مكة رقم 1573.(11/67)
فمذهب ابن عمر أن المعتمر أو المتمتع: أنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
ومذهب ابن عباس وهو مذهب جمهور العلماء أنه لا يقطعها إذا دخل الحرم بل إذا استلم الحجر عند الطواف فإنه يقطعها، وفي الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر) (1) لكن الحديث فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف الحديث والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
فعندنا أثران متعارضان: أثر ابن عمر وأثر ابن عباس.
ومذهب ابن عمر وهو مذهب المالكية - هذا المذهب - أشبه بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم – وكان قارناً – كان يمسك عن التلبية إذا دخل الحرم فيشبهه المعتمر إذ لا فرق بين المعتمر وبين القارن في مثل هذه المسألة.
فالعلة التي من أجلها قطع القارن أو المفرد – قطع التلبية ثابتة قطعاً، وإن لم تعلم لكنها - ثابتة قطعاً لنفي الفارق في المتمتع.
فالأصح أن المعتمر إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
المسألة الثانية: أنه يستحب له الإكثار من التلبية، ففي الترمذي والحديث حسن بشواهده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الحج فقال: (أفضل الحج العج والثج) (2)
والعج: هو رفع الصوت بالتلبية.
والثج: هو النحر.
وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ملبي يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) (3)
قال أهل العلم: ويستحب له أن يلبي متى تجددت به حال، فإذا هبط وادياً لبى وإذا صعد لبى وإذا التقى برفيق لبى ودبر الصلوات يلبي وإذا نزل في موضع لبى، وإذا ركب راحلته لبى فكلما تجددت به حال لبى.
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم 919، باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة، من كتاب الحج.
(2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 827.
(3) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 828.(11/68)
وفي مسند الشافعي بإسناد جيد: (أن ابن عمر: كان يلبي راكباً ونازلاً ومضطجعاً) .
وفي ابن أبي شيبة أن السلف كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع: (دبر الصلاة وإذا هبطوا وادياً أو علوه وإذا التقوا بالرفاق)
ويدل على هذا ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: لبى عند المسجد ولما استوت به راحلته على البيداء لبى.
المسألة الثالثة: حكم التلبية؟
فيها ثلاثة أقوال:
الأول: وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أنها سنة، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها أصحابه.
الثاني: وهو مذهب بعض المالكية وبعض الشافعية: أنها واجبة فعلى من تركها دم. واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها وأمر بها وقال: (لتأخذوا عنى مناسككم) (1) .
الثالث: أنها ركن من أركان الحج لا يصح الإحرام إلا بها، وقد تقدم البحث في هذا القول في مسألة سابقة وترجيح أن التلبية ليست بركن من أركان الحج.
والذي يظهر لي من هذه الأقوال: القول الثاني: وأن التلبية واجبة بدليل: ما ثبت عن الخمسة عن خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) (2) فهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
فعلى ذلك: الواجب عليه أن يلبي ولو مرة فإن ترك التلبية فعليه دم، كما هو مذهب بعض الشافعية وبعض المالكية.
قال: (يصوت بها الرجل)
مستحب للرجل أن يرفع صوته بها وأن يجهر، بل يستحب له أن يبالغ ففي البخاري: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا يصرخون بها صراخاً) (3) من حديث أنس.
__________
(1) أخرجه مسلم [4 / 79] ، وغيره، الإرواء 1074؟
(2) أخرجه أبو داود باب كيف التلبية، والترمذي باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، والنسائي. المغني [5 / 101] .
(3) أخرجه البخاري باب رفع الصوت بالإهلال، وابن ماجه. المغني [5 / 102] .(11/69)
وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم) [الفتح: 3/477]
فيستحب رفع الصوت بالتلبية والمبالغة في ذلك.
قال: (وتخفيها المرأة)
لأن ذلك مظنة الفتنة، ولذا أجمع العلماء على أن المرأة لا يشرع لها أن ترفع صوتها بالتلبية كما حكى الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر وغيرهما، فقد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن ترفع صوتها بالتلبية.
لكن يستثنى من ذلك: إن كانت في موضع لا يخرج منه صوتها إلى أجنبي؛ فإن النساء شقائق الرجال في الأحكام الشرعية وإنما استثنيت هنا؛ لأن رفعها لصوتها مظنة الفتنة أما إذا كان الموضع ليس فيه إلا رفيقاتها ومحارمها فإنه يستحب لها ما يستحب للرجال فإن النساء شقائق الرجال.
أما إذا كان مظنة أن يخرج الصوت لأجنبي فإنه لا يشرع لها، وهذا بإجماع أهل العلم.
والحمد لله رب العالمين.
باب: محظورات الإحرام
محظورات الإحرام: أي ممنوعاته، أي المحرمات بسبب الإحرام.
قال: (وهي تسعة حلق الشعر)
وهنا ذكر المؤلف الحلق، ولا خلاف بين العلماء في أن إزالته بغير الحلق كالتقصير أو إذهابه بالنُورة أو نحو ذلك أنه له حكم الحلق.
وهنا عمم الشعر كله فقال: " حلق الشعر " فيدخل شعر الرأس وشعر الإبطين والشعر الذي يكون في الوجه وفي سائر الجسد.
والله عز وجل نص في كتابه الكريم على حلق الرأس فقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله (1) } وقاس جمهور العلماء – على حلق الرأس – إزالة غير شعر الرأس مما يكون على البدن كشعر الإبطين وغيره.
واستدل جمهور العلماء على هذه المسألة – أي إدخال غير شعر الرأس – في حكم شعر الرأس. استدلوا:
أولاً: بحكاية الإجماع على ذلك – فقد حكاه الموفق في المغني – وأن الشعر كله أو سائره له حكم شعر الرأس.
__________
(1) سورة البقرة.(11/70)
وثانياً: بالقياس على حلق الرأس بجامع الترفيه، فإن حلق الرأس علة المنع فيه – عندهم – الترفه، فيقاس على ذلك إزالة بقية البدن بجامع الترفه، هذا هو مذهب جماهير العلماء.
- وذهب الظاهرية إلى القول بأن شعر البدن لا يلحق بشعر الرأس.
وهم لا يقولون بالقياس، وإن القياس الذي ذكره جمهور العلماء فيه نظر فإنا لا نسلم أن العلة من النهي عن حلق الرأس هي الترفه فإن الترفه قد يكون بإبقاء الشعر لا سيما لمن اعتاد ذلك. ثم إن المحرم يجوز له كثير من الترفه كالاغتسال ونحوه.
والأظهر أن العلة هي تعلق النسك بشعر الرأس، فإن الحلق أو التقصير نسك من أنساك الحج والعمرة فهو واجب من واجبات الحج فنهى الشارع أن يؤخذ منه شيء بحلق أو تقصير حتى يوفر لينسك به الحاج في أوانه، فهذه هي العلة الظاهرة.
وأما ما ذكروه من الإجماع فإن كان صحيحاً فلا كلام في هذه المسألة وإلا فإن حكاية الإجماع فيها عسر، وكما قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، لا سيما في هذه المسائل التي ليس فيها نصوص ظاهرة فهي من الإجماعات الظنية.
وفي رواية عن الإمام مالك: أنه لا فدية في حلق شعر البدن سوى شعر الرأس وأوجبها في حلق الرأس، والمشهور من مذهبه وجوب الفدية.
ومذهب الظاهرية أقرب إلى النظر إلا أن يصح الإجماع المتقدم، وقد تقدم التنبيه على أن كثيراً من الإجماعات التي يحكيها كثير من الفقهاء فيها نظر.
ولا يصح فيما يذكره كثير منهم إلا ما كانت عليه نصوص ظاهرة من الشريعة. ومن المستبعد أن يجمع أهل العلم على مسألة كهذه ونجد الخلاف في مسائل فيها نصوص شرعية، فنرى الخلاف فيها منتشر ومثل هذه المسألة أولى ألا يثبت فيها الإجماع والله أعلم.
قال: (وتقليم الأظافر)
هذه كالمسألة السابقة فجماهير العلماء حكوا الإجماع في هذه المسألة كما حكاه ابن المنذر والموفق وأن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.(11/71)
واستدلوا: بالقياس على الشعر: كما أن المحرم ينهى عن حلق الشعر وتقصيره والعلة من ذلك الترفه فإنه ينهى عن تقليم الأظافر للترفه، فالجامع بين المسألتين هو الترفه.
وقد تقدم النظر في هذا التعليل وأن الأصح في العلة التي من أجلها الشارع نهى عن حلق الرأس إنما هو النسك وليس الترفه وحكاية الإجماع فيها ما فيها كما تقدم.
وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا فدية في تقليم الأظافر – مع أنه قال أنه محظور من محظورات الإحرام – ففرق بينه وبين حلق الرأس.
الحاصل من هذا: أن جماهير أهل العلم على أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.
قال: (فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم)
هذا هو الحلق أو التقصير أو الإزالة أو التقليم الذي تثبت به الفدية.
وقول المؤلف هنا: " فعليه دم " موهم، والعبارة الصحيحة أن يقال: " فعليه فدية " فليس مراده الدم حتماً، وإنما مقصوده الفدية من دم أو إطعام أو صيام – كما سيأتي تقريره.
فمن حلق ثلاثة شعرات أو قصرها من رأسه أو شيء من بدنه من موضع واحد أو من مواضع مختلفة أو قلم ثلاثة أظفار من يديه أو رجليه أو بعضها من يديه وبعضها من رجليه فإن عليه الفدية.
قالوا: لأن الثلاثة هي أقل الجمع.
1- فأقل الجمع الذي يصدق عليه أنه شعر ثلاثة، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
2- وقال المالكية: إذا حلق ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية، أو قلم ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية.
3- وقال الظاهرية: إن فعل ما يصدق عليه أنه حلق فإن عليه الفدية فما صدق عليه أنه حلق، أو ما صدق عليه أنه تقليم، وهم لم يبحثوا في مسألة التقليم لكن هذا من باب قياس مذهبهم وإلا فإنهم لايقولون بالفدية أصلاً في تقليم الأظافر.(11/72)
قالوا: إذا حلق من رأسه ما يثبت به أنه حلق بحيث أنه إذا فعله وجب عليه أن يحلق الجميع فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه فقال: (احلقوه كله أو اتركوه كله) (1)
وهذا هو أظهر المذاهب، فهو ظاهر في الحلق لكنه في التقليم مشكل.
قال فقهاء الحنابلة والشافعية: فإن أخذ شعرة واحدة فعليه فدية طعام مسكين، وإن أخذ شعرتين فعليه فدية مسكينين.
قالوا: لأن ما ثبت الضمان بجملته فليثبت الضمان في أبعاضه، فإذا ثبت في الثلاثة فدية فيجب أن يثبت في الأبعاض، ومثل ذلك الأظافر.
وعن الإمام مالك رواية: إلى أنه لا يثبت الإطعام ولا غيره فيما دون التحديد، وهو عنده ما يزول به الأذى، فلا فدية عليه لأن النص إنما ورد في حلق الرأس وهذا – أي أخذ شعرة أو شعرتين ليس بحلق، ولا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية.
ولو قلنا بتقليم الأظافر فالذي يظهر لي أن يقال: ما يصدق عليه أنه تقليم، ولا يقال إنه يصدق عليه أنه تقليم في الأظفر والأظفرين ونحو ذلك، بل لا يقال ذلك إلا إذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره فإذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره صدق عليه أنه مقلم عرفاً.
وعلى القول بما ذهب إليه الظاهرية لا يشكل على هذا الكلام في مسألة الأظافر فإنا لا نحتاج إلى ذلك، وهذا قد يكون مما يبين صحة هذا القول، إذ الشريعة مع الحاجة إلى مثل هذه المسائل لم تبين شيئاً من مثل هذه الفروع مع حاجة الناس إليها.
وقد استدل الفقهاء بقياس، استدلوا به على النهي عن حلق بقية شعر البدن وتقليم الأظافر، وهذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهي المضحي أن يأخذ شيئاً من شعره أو بشرته.
قالوا: فيقاس على ذلك المحرم في الحج.
__________
(1) رواه أبو داود وأصله في الصحيحين.(11/73)
وهذا قياس مع الفارق أيضاً، فإن المضحي لا ينهى عن الطيب ولا ينهى عن كثير مما ينهى عنه المحرم في النسك، والعكس أيضاً فإن المحرم في النسك لا ينهى أن يأخذ شيئاً من بشرته بجرح أو نحو ذلك وينهى عن ذلك المضحي، فيثبت بينهما بالأدلة الشرعية فوارق وحيث ثبت ذلك فلا يصح القياس.
قال: (ومن غطى رأسه بملاصق فدى)
من غطى رأسه بشيء ملاصق كالعمامة أو الطاقية أو وضع على رأسه خباء فيستر رأسه أو نحو ذلك مما يغطي الرأس فإنه يفدي وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.
وتغطية الرأس في الجملة من محظورات الإحرام بإجماع العلماء، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل ما يلبس المحرم من الثياب فقال: (لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس شيئاً من الثياب مسه ورس أو زعفران) (1) والشاهد قوله: " ولا العمائم ولا البرانس ".
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الذي وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (2)
فهذه الأدلة تدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه سواء كان هذا المغطى لباساً معتاداً كالعمائم ونحوها أو كان غير معتاد كأن يضع على رأسه خماراً أو شيئاً من ذلك.
فإن حمل على رأسه شيئاً فما الحكم؟
قولان لأهل العلم:
مذهب الحنابلة والمالكية: أنه لا حرج في ذلك؛ لأنه لا يقصد به من ذلك الستر، فإن هذا الفعل لا يقصد منه في الأصل ستر الرأس وإنما يقصد منه حمل هذا الشيء.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 47، …] ومسلم [4 / 2] وغيرهما، الإرواء [1012] .
(2) أخرجه البخاري [1 / 319، …] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] .(11/74)
مذهب الشافعية: أنه لا يجوز له هذا وأن عليه الفدية لأنه سترٌ وتغطية.
والأصح هو الأول، لأن المقصود منه اللباس، ما يقصد به ستر الرأس وتغطيته وأما هنا فلا يقصد منه ذلك.
فإن كان في محمل كأن يكون في هودج أو سيارة أو نحو ذلك أو كمن يحمل الشمسية فما الحكم في ذلك؟
المشهور في المذهب أنه لا يجوز له ذلك وعليه الفدية؛ قالوا: لأنه بحكم تغطية الرأس.
2- وذهب الشافعية إلى أن ذلك لا بأس به، واستدلوا بما ثبت في مسلم عن أم الحصين أنها حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قالت: (فرأيت أسامة بن زيد وبلالاً أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه فوق رأسه يستره من الحر حتى رمى الجمرة) رواه مسلم [صحيح مسلم بشرح النووي: المجلد الثالث: 9 / 45، 46]
ثم إن هذا – بدليل هذا الحديث – ليس في حكم التغطية الملاصقة للرأس، فليس في حكم التغطية التي هي من جنس الملبوسات ألا ترى أن الشارع نهى المحرم أن يغطي بدنه بالقمص والسراويل ونحوهما وأمره أن يغطيها بالأُزر والأردية ونحو ذلك فهذا من جنس ذلك.
فإنه ليس النهي عن مجرد التغطية، بل النهي عن التغطية الملاصقة التي هي بحكم الملبوسات.
وقد أجمع أهل العلم على أن من دخل قبة أو داراً فإن ذلك جائز ولا فدية عليه.
ودليل ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر وهو حديث طويل وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضربت له قبة بنمرة) (1) .
مسألة:
هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أم لا؟
روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى: وهي المشهورة عند الحنابلة: أنه يجوز له أن يغطي وجهه لعدم الدليل الوارد في النهي عن ذلك.
قالوا: وأما الحديث الذي رواه مسلم وفيه: (ولا تغطوا وجهه) (2) - في حديث الذي وقصته راحلته فمات – فإن الحديث لا يصح إذ هو ليس في الرواية المتفق عليها.
__________
(1) رواه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) سبق برقم 103.(11/75)
الرواية الثانية: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه لا يجوز له أن يغطي وجهه وهو من محظورات الإحرام، إلا أن الإمام مالكاً لا يرى فيه الفدية.
واستدلوا: برواية: (ولا تغطوا وجهه) وهي ثابتة في صحيح مسلم في حديث الذي وقصته راحلته فمات وهي رواية ثابتة في مسلم ولا مطعن فيها.
ثم إن القياس يدل عليها فإن أهل العلم نهوا المرأة عن تغطية وجهها إلا إن كان ثمت أجانب، ولا يجوز لها أن تغطي وجهها في خيمتها حيث لا يراها أجنبي، وإحرامها في وجهها – كما سيأتي بيانه – ولا فرق بين الرجل والمرأة في مثل هذه المسألة بل الرجل أولى فإن المرأة في الأصل واجب عليها أن تغطي وجهها عند الأجانب بخلاف الرجل فإنه لا يغطي وجهه مطلقاً فكان أولى بهذه المسألة.
فالقياس يدل على ذلك، فإذا كانت المرأة منهية عن تغطية وجهها فالرجل أولى من ذلك. فالصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب الأحناف والمالكية أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه.
قال: (وإن لبس ذكر مخيطاً فدى)
المخيط هو الثوب المفصل على البدن أو على شيء منه.
والواجب على المحرم أن يلبس إزاراً ورداءً، فنهى عن القمص والسراويلات ونحوها من الثياب المفصلة على البدن، ومثل ذلك الخفاف والجوارب.
فإن لبس إزاراً ووضع فيه إبراً أو خيطاً أو شوكاً ونحو ذلك فأصبح على هيئة الملبوس – فإنه كما ذكر ذلك صاحب المغني وغيره – يكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام لأنه حينئذٍ يكون في حكم المخيط، والنظر يقتضيه لأنه أصبح في حكم المخيط.
مسألة:
إن لم يجد نعلين فلبس خفين فهل يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول، وهو مذهب الجمهور: أنه يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه: (فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) (1)
__________
(1) سبق برقم 102(11/76)
القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم قالوا: لا يجب عليه ذلك بل يلبس الخفين ولا شيء عليه.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات فقال: (من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) (1)
قالوا: وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم هنا فلم يأمر بقطع الخفين حتى يكونا أسفل من الكعبين.
قال جمهور العلماء: هذا حديث مطلق وحديثنا حديث مقيد فيقيد المطلق بالمقيد.
فأجاب الحنابلة وقالوا: حديثنا الذي استدللنا به قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ومعه المدنيون والمكيون وسائر الناس ممن حج من جهات كثيرة من العرب، وأما حديث ابن عمر الذي استدللتم به فإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر أي منبره في المدينة)
فالنبي صلى الله عليه وسلم حدث بحديث ابن عباس على مشهد الناس عامة وحدث بحديث ابن عمر على مشهد الناس خاصة، ولو كان واجباً قطع الخفين إلى أسفل الكعبين لبينه النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد العام، فدل ذلك على أنه منسوخ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فيمتنع على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث الناس بقيد في مجتمع خاص ثم يحدث بغير قيد في مجتمع الناس العام.
وقد يقال: أنه إذا قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فإنهما يكونان بحكم النعلين بل هما نعلان – وحينئذٍ – يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب العزيمة، أما حديث ابن عباس فيكون من باب الرخصة.
__________
(1) أخرجه البخاري باب من أجاب السائل من كتاب العلم، وفي كتاب الصلاة، وفي باب لبس الخفين للمحرم و.. من كتاب الحج. ومسلم باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة من كتاب الحج، وغيرهما. المغني [5 / 77] .(11/77)
فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه لا يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
مسألة:
حكم الهِمْيان والمِنطَقة؟
الهميان: هو ما يوضع فيه النقود مما يكون على الحقو.
المنطقة: هو ما يوضع على الإزار فيشد به على الحقو.
اختلف العلماء في حكمهما:
قولان لأهل العلم – هما قولان في مذهب أحمد:
الأول: أنه لا يجوز ذلك إلا أن يحتاج إليهما في النفقة.
الثاني: وهو مذهب الجمهور: أنه يجوز مطلقاً سواء احتاج إليه في النفقة أم لا.
وهذا القول أظهر؛ فإن المنطقة، والهميان كانت مشهورة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها حكما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثم إن الهميان والمنطقة شبيهة بالنعلين ونحوهما من الألبسة فليست مما يفصل على العضو تاماً. ولا شك أنه إذا أمكنه أن يتخلى عنهما وأمكنه أن يشد إزاره بغير ذلك فإن هذا أولى وأحوط.
وعلى قول الحنابلة: لو لبسهما لغير حاجة فقد فعل محظوراً وعليه الفدية، والصحيح مذهب الجمهور.
مسألة:
هل يجوز للمحرم أن يلبس الساعة ومثل ذلك الخاتم؟
الذي يظهر لي أنه لا بأس بذلك، وأن هذه من الأمور المشهورة وهي ليست من الألبسة التي تعم البدن أو عضواً منه كالألبسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. فالأظهر الجواز وهي شبيهة بحكم المنطقة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن طيب بدنه أو ثوبه)
هذا محظور من محظورات الإحرام: الطيب.
فمن طيب بدنه أو ثوبه فدى وهذا بالإجماع لأنه قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.(11/78)
والدليل على أن الطيب من محظورات الإحرام، ما تقدم من حديث من وقصته راحلته فمات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تحنطوه) والحنوط أخلاط من الطيب، وفي رواية للبخاري: (ولا تقربوه طيباً) (1)
قال: (أو أدهن بمطيب)
إذا ادهن أو استعط أو اكتحل بشيء من الأدهان المطيبة كدهن ورد ونحو ذلك فإن عليه الفدية، لأنه قد قرب طيباً فإن هذا الدهن مطيب وحيث ادهن به فإنه يكون حينئذٍ قد مس طيباً، أما إذا ادهن بدهن ليس من الأدهان المطيبة فلا حرج في ذلك إجماعاً.
قال: (أو شم طيباً)
كذلك إذا شم الطيب قصداً فإن عليه الفدية؛ وذلك لأن المقصود من الطيب رائحته، وهذا يحصل بالشم فإذا شمه قاصداً فإنه يكون قد فعل هذا المحظور.
فالمقصود من الطيب هو رائحته بدليل أنه لو مسه بيده وكان يابساً لا ينتقل إلى اليد بالمس كما لو مس قطع كافور أو نحو ذلك فإنه بالاتفاق ليس بفاعل لمحظور لأن اليد لم يعلق فيها شيء من الطيب فلا يؤثر هذا المس.
وهنا: إن أكل أو شرب طعاماً فيه شيء من الأطياب كالزعفران أو نحوه؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية قالوا: أنه يكون قد فعل محظوراً.
قالوا: لأن المقصود هو الرائحة فإذا أكله أو شربه فظهرت الرائحة من فيه فإنه حينئذٍ يكون قد حصل المقصود من الطيب بخلاف ما لو ذهبت الرائحة بالطبخ فإنه لا حرج في ذلك إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
القول الثاني: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه ليس بمحظور سواء وجدت الرائحة أم لم توجد لأنه استحال بالطبخ عن كونه طيباً إلى كونه مطعوماً.
والقول الأول أظهر؛ لأن العلة فيه أصح والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
__________
(1) البخاري [1 / 319..] ومسلم [4 / 23..] وغيرهما، الإرواء 1016.(11/79)
فسواء وضع الطيب على بدنه أو ثوبه أو أكل طعاماً فيه نوع من الأطياب فظهرت هذه الرائحة من فيه ولم يذهبها الطبخ بل بقيت ظاهرة في فيه فالأصح – حينئذٍ - أنه يكون قد فعل محظوراً لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والمقصود من التطيب هو الرائحة وقد ظهرت الرائحة من فيه.
مسألة:
وهنا: إن كان الطعام الذي قد أكله فيه رائحة طيبة ليست برائحة الأطياب، لكن هذا الطعام ليس طِيباً في الأصل بل فيه هذه الرائحة الطيبة فباتفاق أهل العلم أنه ليس بفاعل محظوراً من محظورات الإحرام وأنه لا بأس بذلك كأن يأكل فاكهة أو نحو ذلك.
وليس معنى ذلك أنه لو استخرج من بعض الأطعمة طِيباً واتخذه الناس طِيباً أنه ليس طِيباً يقع - المكلف بقربه - في المحظور. بل متى اتخذ الناس شيئاً من الأطياب ولو كان من بعض الأطعمة كما يوجد الآن في الأطياب التي تكون من فاكهة أو نحوها فإن هذا طيب لأن الناس قد اتخذوه طيباً.
لكن الرائحة الموجودة في بعض الأطعمة هذه لا حرج فيها ولا يكون قد فعل محظوراً، أما لو وضع الطيب في طعام وهو مما يتخذه الناس طيباً فلم يذهب بالطبخ بل بقيت رائحته ظاهرة فإنه حينئذٍ يكون قد فعل المحظور بقربه الطيب.
قال: (أو يتبخر بعود أو نحوه)
هنا كذلك لأن هذا تطيب والمقصود من التطيب الرائحة ولا شك أن البخور يبقي رائحة في الثياب وفي البدن.
قال: (وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه أو من غيره أو تلف في يده فعليه جزاؤه)
المحظور السادس من محظورات الإحرام وهو قتل الصيد البري.
والأصل في تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} (1) وقال تعالى: {أُحل لكم صيد البر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} (2)
__________
(1) سورة المائدة 95.
(2) سورة المائدة 96.(11/80)
فصيد البر محرم على المحرم، وقد بيَّن المؤلف الصيد الذي يحرم على المحرم فقال: " صيداً مأكولاً " فإذا كان الصيد غير مأكول فإنه ليس بمحظور، بل ليس بصيد فهذا القيَّد في الحقيقة قيد إيضاحي، وإلا فإنه من المعلوم أن غير المأكول لا يسمى صيداً اتفاقاً.
" برياً ": هذا قيد يحتاج إليه فإن الصيد منه ما يكون برياً ومنه ما يكون بحرياً، وسيأتي استثناء الصيد البحري ودليله، فالصيد المحرم إنما هو الصيد البري.
ويدخل في ذلك طائر البحر الذي يقع على البحر فإنه صيدٌ بريٌ إجماعاً.
قال: " أصلاً ": هذا قيد يحتاج إليه، فإنه قد يكون الحيوان متوحشاً وهو في الأصل مستأنس كأن يتوحش إبل أو بقر ونحو ذلك قد سكن في البر وهو في الأصل من الحيوانات المستأنسة فهذا ليس بصيد اتفاقاً للنظر إلى أصله فإنه أصله أنه مستأنس وليس بصيد.
والعكس بالعكس أيضاً: فإذا كان الحيوان برياً متوحشاً كغزال أو حمار وحشي أو نحو ذلك فهذا متوحش في الأصل فهو صيد فإذا استأنس فإنه يبقى صيداً برياً للنظر إلى أصله.
فكونه مستأنس استئناساً طارئاً ويتوحش توحشاً طارئاً هذا لا يؤثر في أصله، فالنظر إنما هو إلى الأصل.
" ولو تولد منه ومن غيره ": أي من المتوحش الذي هو الصيد وغيره من هو ليس بصيد تغليباً لجانب الحظر.
فلو تولد هذا المصيد من حيوان متوحش وغيره كما يقع من التوالد بين مثلاً الفرس والحمار الوحشي فهذا المتولد منهما أهو صيدٌ أم لا؟
قال هنا: " ولو تولد منه ومن غيره "
ظاهر كلام المؤلف الإطلاق والتعميم.
والمسألة فيها تفصيل: فإن المتولد منه – أي من المصيد – وهو البري المصيد ومن غيره قسمان:
القسم الأول: ما تولد من وحشي ومن حيوان مأكول. كأن يتولد من حمار وحشي ومن فرس فإنه حينئذٍ يكون مأكولاً لأن أصلَيْه مأكولان.(11/81)
فإذا صيد فإنه – تغلباً لجانب الحظر – لأن أحد المتولد منهما صيد وهو الحمار الوحشي فتغليباً لجانب الخطر إن صيد فعلى من صاده الجزاء وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام، وهذا مذهب أكثر أهل العلم تغليباً لجانب الخطر.
القسم الثاني: أن يتولد من الوحشي ومن غير الوحشي لكنه غير مأكول، كأن يتولد مثلاً من حمار وحشي وحمار أهلي.
فظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أنه إذا صيد ففيه الجزاء، وهذا فيه نظر؛ لأنه محرم الأكل فإن أحد أصليه غير مأكول وما كان كذلك فإنه محرم الأكل؛ وبهذا يقول الحنابلة تغليباً لجانب الخطر ومع أنه غير مأكول عندهم – مع ذلك - قالوا: بأنه لا يجوز صيده ومن فعل فعليه الجزاء. وهذا فيه نظر، ذلك لأنه ليس بصيد إذ الصيد هو المأكول وهذا ليس بمأكول وبهذا قال بعض الحنابلة.
قال: (أو تلف في يده)
فإذا أمسك رجل صيداً فلم يقتله لكنه بحبسه إياه قتله فتلف في يده فإن عليه الضمان وهو الجزاء لأنه بإمساكه له يكون قد قتله فقد أتلفه في حال إحرامه.
بل إذا أشار إلى أحد بقتله أو أعان أحداً ولو بإعطائه السلاح أو أمر أحداً بقتله فإنه إن فعل ذلك فقد فعل المحظور وعليه الجزاء، وإن كان هذا المشار إليه أو المعان أو المأمور بالقتل حلالاً – أي ليس بمحرم -.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة صيد أبي قتادة الحمار الوحشي وكان حلالاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وكانوا محرمين -: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء) فقالوا: لا فقال: (فكلوا مما بقي من لحمه) (1) وثبت في الصحيحين أنه قال لهم: (ناولوني السوط فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء) .
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 457] ومسلم [4 / 16] وغيرهما، الإرواء 1028.(11/82)
فإذا أعان أو أشار أو أمر فلا يحل له أن يطعم منه شيئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب جواز الأكل على السؤال المتقدم فقال: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء) فلما قالوا لا قال: (فكلوا مما بقي من لحمه)
كذلك لا يحل له أن يأكل منه إن صيد من أجله، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما أهدى إليه الصَّعب بن جَثَّامة حماراً وحشياً وكان صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودَّان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) (1)
وثبت عند الخمسة إلا ابن ماجه والحديث حسن - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم) (2) وله شاهد من قول عثمان كما في الموطأ بإسناد صحيح أنه رضي الله عنه: (أهدي إليه صيد فقال: لأصحابه كلوا فقالوا: وأنت ألا تأكل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي) (3) . وهذا مذهب جمهور العلماء.
فلو اشترى صيداً مذبوحاً لم يصد من أجله فلا بأس بأكله، أو أُهدي إليه صيد من غير أن يُتقصد في الأصل بالصيد فلا حرج في ذلك.
وإن صاد المحرم صيداً فإنه بحكم الميتة له ولغيره، فهو ميتة، وهذا باتفاق العلماء لقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فسماه تعالى قتلاً، فدل على أنه ميتة.
قوله: " فعليه جزاؤه " سيأتي بيانه في الكلام على الفدية.
قال: (ولا يحرم حيوان إنسي)
__________
(1) أخرجه البخاري [4 / 26، 28] باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً، ومسلم [1193] باب تحريم الصيد للمحرم. زاد المعاد [2 / 163]
(2) أخرجه أبو داود [1851] باب لحم الصيد للمحرم، والنسائي [5 / 187] والترمذي [849] ، زاد المعاد [2 / 165] .
(3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 790.(11/83)
الحيوان الإنسي كأن يذبح إبلاً أو شاة فلا بأس بذلك بإجماع العلماء لأنه ليس بصيد، فالحيوان الإنسي المأكول ليس بصيد فإذا ذبح فلا حرج في ذلك.
قال: (ولا صيد البحر)
فصيد البحر لا يحرم على المحرم بالإجماع.
إلا ما اختلف فيه أهل العلم من صيد البحر إن كان في الحرم وسيأتي ذكره، وقد قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً}
قال: (ولا قتل محرم الأكل)
لا يحرم قتل محرم الأكل، فيجوز له ذلك، فلا تعلق للإحرام بقتل شيء من غير مأكول اللحم، وإنما الحكم يتعلق بمأكول اللحم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية وأن الإحرام لا دخل بشيء من قتل ما هو غير مأكول اللحم.
وذهب المالكية: إلى أنه يحرم عليه ذلك وعليه جزاؤه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب والحدأة والغراب - زاد مسلم: الأبقع - والفأرة والكلب العقور) (1)
وفي رواية في الصحيحين: (من قتلهن فلا جناح عليه)
والمسألة في الأصح من قولي العلماء فيها تفصيل:
فيقال: أما هذه التي أمر الشارع بقتلها فإنه لا شك بجواز قتلها وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فهو خارج عن محل النزاع.
ويقاس عليها في المشهور عند أهل العلم كل ما هو مؤذٍ، فكل ما يتأذى منه الآدمي وفيه عدوان وأذية كالحية ونحو ذلك فإن هذا يقاس على الخمسة المذكورة في الحديث فتقتل.
وإنما محل النزاع في هذه المسألة ما ليس كذلك – أي ليس من هذه الخمس المذكورة في الحديث ولا مما يقاس عليها مما فيه أذية وعدوان – ففيه لأهل العلم قولان:
__________
(1) أخرجه البخاري باب ما يقتل المحرم من الدواب من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب. وغيرهما. المغني [5 / 115] .(11/84)
1- مذهب الحنابلة والشافعية: أنه يجوز قتلها ولا أثر للإحرام في شيء من ذلك، لكن مذاهبهم تدل على أنهم لا يريدون التعميم بل يستثنون من ذلك ما دلت الأدلة الشرعية على النهي عن قتله كالضفدع ونحو ذلك. وإنما مرادهم أنه لا تعلق للإحرام.
بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه القتل أما إن كانت هناك أدلة شرعية تحرم فإن المحرم هو تلك الأدلة وليس هو الإحرام. بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه قتل الصيد البري.
2- وذهب المالكية إلى أن عليه فدية إن قتله، ويكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا جناح عليكم في قتلهن) فإن مفهومه إثبات الجناح في قتل غيرهن.
وما ذهب إليه المالكية أصح، لكن في غير الفدية.
فالصحيح أنه لا يجوز له القتل وهو محرم لمفهوم هذا الحديث، فإن هذا الحديث مفهومه تحريم ذلك، لأنه قال: (يُقتلن في الحل والحرم) ومفهوم ذلك أن غيرهن لا يقتل في الحل ولا في الحرم.
وكذلك قوله: (لا جناح) مفهومه يدل على إثبات الجناح في قتل غيرهن.
وأما إثباتهم الفدية أو الجزاء فهو محل نظر، فإن الله عز وجل إنما أثبته في الصيد فقال تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذه التي قلنا بتحريم قتلها على المحرمين ليست من الصيد إذ هي ليست بمأكولة، فلا تدخل في هذه الآية وإنما هي داخلة في الحديث المتقدم.
فالراجح: وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم أن يقتل شيئاً إلا أن يكون فيه أذية وعدوان، لكن إن قتله فلا جزاء عليه، لكنه يكون قد فعل محرَّماً.
ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه.
وقال بعض الحنابلة: لا يضمن، ويحرم.
قال: (ولا الصائل)(11/85)
فإذا صال شيء من الصيد عليه أو على شيء من ماله أو نحو ذلك فخشي الضرر واحتاج إلى قتله وعلم أنه لا يندفع هذا الضرر المظنون في بدنه أو ماله أو نحو ذلك، إلا بقتل هذا الصيد فإنه يجوز له أن يقتله دفعاً للصائل. باتفاق أهل العلم، وذلك لأنه باعتدائه التحق بالحيوانات المؤذية المعتدية التي أمر الشارع بقتلها كالكلب العقور المؤذي الذي يجرح.
ولا جزاء في قتله لأن فعله بإذن شرعي وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
لكن إن قتله مضطراً إلى أكله كأن يضطر إلى الطعام ولا طعام فاضطر إلى أن يقتل الصيد فيأكله فعليه الجزاء، لكن هذا الفعل جائز منه.
وإنما قلنا بالجزاء هنا ولم نقل به هناك لأن قتله هنا لمصلحة له، أما هناك فهو دفع مفسدة.
كما أن من حلق رأسه لدفع الأذى عن رأسه كان عليه الفدية بنص القرآن فكذلك من قتل الصيد لمصلحة نفسه فعليه الجزاء لأن هذا لمصلحة نفسه.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية)
فلا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحاً لا لنفسه ولا أن يكون ولياً أو وكيلاً عن غيره، فلا يحل للمحرم أن يكون أحد المتعاقدين في النكاح سواء كان أصالة عن نفسه كالزوج البالغ الذي ينكح نفسه أو كان ذلك بوكالة عن غيره أو ولاية على ابنة له أو ابن أو نحو ذلك، فلا يحل له أن يعقد لنفسه (1) بالنكاح.
ولا يدخل في هذا ما إذا كان شاهداً أو من يكون قائماً على عقد النكاح من القضاة أو غيره فإنه لا بأس أن يكون محرماً.
إلا أن يكون أحد المتعاقدين محرماً فلا تحل الشهادة ولا يحل لأحد من أهل الشرع أن يعقد لهما. فالمراد هنا: أن يكون أحد المتعاقدين أو من ينوب عنهما بوكالة أو ولاية، أن يكون محرماً، فهو لا يجوز والنكاح باطل.
__________
(1) في الأصل: نفسه.(11/86)
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم) أي لا يعقد لنفسه (ولا يُنكح) أي لا يعقد لغيره بولاية أو وكالة أو نحو ذلك (ولا يخطب) (1) .
فهذه أمور محرمة، وذلك لأنها من مقدمات الجماع، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} والرفث: هو الجماع ومقدماته. وأما كونه يبطل – أي النكاح – فللنهي عنه، والقاعدة: أن المنهي عنه فاسد أو باطل إلا أن يدل دليل على تصحيحه.
وقد ثبت في الموطأ: أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه " (2) أي أبطله أو أفسده، وقد ذهب جمهور العلماء إلى ذلك.
وذهب الأحناف إلى أن النكاح يصح ولا حرج فيه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: عن ابن عباس: قال (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) (3) قالوا: ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يدل على جوازه.
والجواب عن هذا أن يقال: إن ابن عباس في هذه الرواية الصحيحة عنه قد خالف صاحبة القصة وهي ميمونة، وخالف السفير بينهما وهو أبو رافع.
فقد ثبت في مسلم عن ميمونة قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال) (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 163] .
(2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 777، باب نكاح المحرم.
(3) أخرجه البخاري باب تزويج المحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 162] .
(4) أخرجه مسلم [1411] وأبو داود وابن ماجه وأحمد، زاد المعاد [3 / 373] .(11/87)
وفي المسند وسنن الترمذي بإسناد صحيح قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما) (1) .
فلا شك أن روايتهما أولى من رواية ابن عباس، فإنه لم يكن صاحب القصة، ولم يكن الرسول بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين صاحبة القصة ومعلوم أن صاحب القصة روايته أصح ممن يرويها عنه.وأيضاً من له اتصال بالقصة كأبي رافع أولى ممن ليس له اتصال كابن عباس.
أضف إلى ذلك أن ابن عباس قد تحمل هذه القصة ولم يكن بالغاً ولا شك أن من تحملها وهو بالغ كميمونة وأبي رافع أولى وأصح ممن تحملها وهو غير بالغ وإن كان رواية غير البالغ تحملاً لا أداء صحيحة، لكن هذا حيث لم يخالف رواية من بلغ. فعلى ذلك: هو وهمٌ من ابن عباس كما قال ذلك الإمام أحمد وغيره.
ولا يؤثر هذا في رواية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن روايتهم على التصحيح مطلقاً، ومن حفظ الله للشريعة أنه إن كان من وهم مع صحة السند إلى الصحابي فإنه يثبت عن صحابي آخر ما يبين الوهم منه حفظاً من الله عز وجل للشريعة كما في هذا المثال في هذه المسألة.
وجمع بعض أهل العلم بين حديث ابن عباس وحديث ميمونة: بأن مراد ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: * قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً *
ولم يكن محرماً بحج أو عمرة وإنما كان في البلدة الحرام أو في الشهر الحرام، فالمقصود أن الراجح ما حدثت به ميمونة عن نفسها، ويمكن أن يجاب عن حديث ابن عباس بالجمع المتقدم الذي ذكره بعض أهل العلم – والله أعلم –.
إذاً: الصحيح أن المحرم لا يجوز له أن ينكح ولا أن ينكح.
__________
(1) أخرجه أحمد [6 / 393] ، والترمذي [841] . على أن أبا عمر ابن عبد البر أعله بالانقطاع بين سليمان بن يسار وأبي رافع، زاد المعاد [3 / 373] .(11/88)
" ولا فدية ": فإذا حدث منه ذلك فالنكاح باطل، ولا فدية عليه لأنه لا دليل على الفدية، ولأن الأصل براءة الذمة منها.
فإن الفدية تتعلق بالذمة، والأصل براءة ذمة المكلف إلا بدليل يدل على شغلها، وهنا الذمة خالية فإشغالها يحتاج إلى دليل ولا دليل وكذلك في الحديث المتقدم لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفدية وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك عمر لما أفسد نكاح من تزوج وهو محرم لم يأمره بالفدية.
قال: (وتصح الرجعة)
فإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً – لا طلاقاً بائناً يحتاج إلى عقد جديد، بل طلقها طلاقاً رجعياً – فإذا راجعها قبل انتهاء عدتها فلا بأس بذلك وإن كان محرماً؛ وذلك لأن الرجعة إمساك وليست بنكاح مبتدأ، فلا حرج فيها وهو مذهب جمهور العلماء. لكن لو بانت منه فلا يحل له أن يعقد عليها وهو محرم لأن ذلك ابتداء نكاح.
والخطبة هل تصح أم تحرم؟
قولان، أظهرهما التحريم؛ لتحريم مقدمات الجماع، وهو قول ابن عقيل.
قال: (وإن جامع المحرم …)
الجماع من محظورات الإحرام قال تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
والرفث: هو الجماع ومقدماته.
والفسوق: اسم للمعاصي كلها.
الجدال: هنا الجدال بغير حق إما بغير علم أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين له، فالمراد به: المراء بغير حق.
وقد أجمع العلماء – خلافاً لبعض المذاهب الشاذة – أجمعوا على أنه ليس شيء من محظورات الإحرام مفسداً للحج سوى الجماع، فقد أجمعوا على أنه مفسد للحج إن كان قبل التحلل الأول، وأما إذا كان بعد التحلل الأول فلا يفسده اتفاقاً.
قال هنا: (وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام)(11/89)
" فسد نسكهما " أي المجامِع والمجامَع، فكل وطءٍ سواء كان وطأً في الأصل مباح كوطء الرجل زوجته، أو محرم كالوطء في قبل أو دبر محرم كل ذلك يدخل في الجماع المفسد للحج.
وسيأتي البحث إن شاء الله في النسك الذي يثبت به التحلل الأول وأن أصح أقوال العلماء في ذلك: أن ذلك برمي جمرة العقبة يوم النحر.
فعلى هذا القول – وهو الراجح – فإذا جامع قبل رمي الجمار فإن الحج يفسد ولا يجزئه عن حجة الإسلام، ويمضي فيه فيجب عليه الاستمرار فيه وهذا من جنس الاستمرار في الصوم فإن الصائم إذا أفطر بحيث لا يجوز له أن يفطر فإنه يمسك فيما بقي كما تقدم، وهنا كذلك فيمضي في الحج وهو حج فاسد ويجب عليه أن يقضيه في العام المقبل وجوباً على الفور لأنه أصبح فرضاً عليه وحيث كان كذلك وجب عليه أن يحج من العام المقبل ويجب أن ينحر بدنة (بعيراً أو بقرة) .
فدليل ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث مرسل، أما الآثار فهي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو، كما ثبت ذلك عنهم في البيهقي: أن ابن عباس: (سئل عن الجماع قبل التحلل الأول؟ فقضى بفساد نسكهما ومضيهما فيه وأن يحجا عاماً آخر وأن يهديا كل واحد منهما بدنة) ونحوه عن ابن عمر وابن عمرو، والإسناد جيد ولا يعلم لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعاً.
وأما الحديث المرسل فقد رواه ابن وهب بسند جيد إلى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى بذلك) ومراسيل سعيد بن المسيب أصح المراسيل.
هذا إن كان قبل التحلل الأول.
وأما إذا جامع بعد التحلل الأول: فإن إحرامه يفسد في المشهور من المذهب وعليه شاة.
فيفسد إحرامه، فحينئذٍ يذهب إلى التنعيم أو إلى موضع آخر من الحل فيحرم منه إحراماً جديداً ثم يأتي ببقية أعمال الحج، وعليه أن يذبح دماً فيذبح شاة، وهذا المشهور في المذهب.(11/90)
ونازع بعض الحنابلة في الاكتفاء بإفساده للإحرام وقالوا: بل الواجب عليه أن يعتمر وهو المنصوص عن الإمام أحمد وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.
بمعنى: أنه يجب عليه أن يذهب إلى التنعيم أو موضع آخر من الحل فيهل بعمرة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يأتي ببقية أعمال الحج.
ونازع الشافعية كونه يكتفي بأن يذبح شاة وقالوا: عليه بدنة. قالوا: لأنه جماع في الحج فأشبه الجماع قبل التحلل الأول وهو ما زال محرماً بالحج ولم يثبت له التحلل التام فحينئذٍ يجب عليه أن ينحر بدنة.
وأما الحنابلة فقالوا: إنما أوجبنا عليه شاة لأنه جماع لم يفسد الحج فلم يجب فيه بدنة.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعية في المسألة الثانية، وما اختاره شيخ الإسلام في المسألة الأولى وهو المنصوص عن الإمام أحمد.
ودليل ذلك: ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: أن ابن عباس سُئل عمن جامع امرأته بعد التحلل الأول فقال: (يعتمر ويهدي) وفي رواية: (يعتمر وينحر بدنة) (1) ولا يعلم له مخالف.
فعلى ذلك: الراجح: أن الرجل إذا جامع امرأته - أو جماعاً محرماً - بعد التحلل الأول فيجب عليه أن يعتمر فيذهب إلى الحل فيحرم بعمرة ثم يأتي فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ثم يأتي بعد ذلك ببقية أعمال الحج وعليه بدنة. وهذا للأثر الصحيح عن ابن عباس الذي لا نعلم له فيه مخالف فإنه قضى على من جامع بعد التحلل أنه يعتمر وظاهر ذلك أنه اعتمار حقيقي تام، وهو الجامع للإحرام من الحل والطواف بالبيت وبين الصفا والمروة والتقصير.
وأما إذا جامع في العمرة:
__________
(1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 867، 868، باب هدي من أصاب أهله قبل أن يُفيض.(11/91)
فإن جامع قبل طوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة ففيه ما تقدم من الجماع قبل التحلل الأول: فعمرته فاسدة وعليه أن يتمها وأن يعتمر من قابل وعليه بدنة كالحج تماماً، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، ولها أحكام الحج بالاتفاق في مسائل المحظورات والفدية وغير ذلك.
وأما إذا كان الجماع بعد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وقبل التقصير فإن العمرة صحيحة وعليه أن يذبح شاة فما فوقها.
فقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن ابن عباس قال لمن جومعت قبل أن تقصر أي بعد طوافها بالبيت وسعيها بين الصفا والمروة، قال لها: (أهريقي دماً، فقالت: أي دم؟ فقال: (بدنة أو بقرة أو شاة) قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: (بدنة) فالشاهد أنه قضى بأنه يجزئ عنها أن تذبح شاة فقد خيرها بين أن تنحر بدنة أو بقرة أو أن تهدي شاة ولا يعلم له مخالف.
قال: (وتحرم المباشرة)
المباشرة هي: الاجتماع مع المرأة أو نحوها بما دون الجماع أي دون الوطء بقبل أو دبر، وهي محرمة اتفاقاً قال تعالى: {فلا رفث} والرفث: هو الجماع أو مقدماته.
ولأن الشارع نهى المحرم عن عقد النكاح فالنهي عن المباشرة أولى وهذا باتفاق العلماء.
قال: (فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه)
فإذا باشر فأنزل فإن الحج لا يفسد، وذلك لأن الأصل في المحظورات أن فاعلها لا يفسد حجه، ولا نص ولا إجماع يدل على الإفساد بالمباشرة. فالإجماع والآثار عن الصحابة إنما دلت على أن الجماع مفسد ولم تدل على المباشرة، والأصل في محظورات الإحرام ألا تفسد النسك.
فليست المباشرة بمعنى الجماع ولم ينص عليها ولا إجماع على ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفسد نسك من نكح وهو محرم، فكذلك المباشرة.
قال: (وعليه بدنة)
هذا هو المشهور في المذهب، وهذا من باب القياس على الجماع، فكما أن الجماع تجب فيه بدنة فكذلك المباشرة إذا أنزل فيها فيجب فيها بدنة بجامع الإنزال.(11/92)
وذهب الشافعية وهو أصح: إلى أنه لا يجب عليه بدنة، بل الواجب عليه فدية الأذى إما أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين أو أن يصوم ثلاثة أيام، وهذا أرجح، فلا دليل على وجوب البدنة، ومحظورات الإحرام لا يجب فيها الدم وإنما يجب فيها الفدية حيث دل الدليل على الفدية فيها، أو كانت بمعنى ما دل عليه الدليل فالأصح مذهب الشافعية وأن من باشر فأنزل فعليه فدية الأذى، وأما البدنة فلا دليل يصار إليه في هذه المسألة، ولم أر آثاراً عن الصحابة يصح في هذا الباب.
أما إذا لم ينزل:
فقال الحنابلة: عليه أن يذبح شاة.
وقال الشافعية: عليه فدية الأذى، وهو أصح ما تقدم.
قال: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض)
ذِكْر المؤلف لهذا فيه إشكال، فإن المذهب ما تقدم ولا يحضرني كلاماً لهم في أن من باشر فيجب عليه أن يحرم، ولعل هذا إدخال للمسألة التي لم تذكر هنا، وهي إذا ما جامع بعد التحلل الأول فإنه يحرم من الحل لطواف في الفرض في المشهور من المذهب، وتقدم أن الراجح أنه يعتمر اعتماراً تاماً (انظر الدرس الذي بعده) .
واعلم أن ما دون المباشرة من القبلة والمس ونحو ذلك للمرأة بشهوة أن ذلك كله محرم ومحظور من محظورات الإحرام - فإن ذلك من مقدمات الجماع – ومقدمات الجماع داخلة في الرفث المنهي عنه.
فإن فعل فعليه – في الأصح – فدي الأذى – على القول بإثبات الفدية عليه – فإن الأصح أنه لا يجب عليه دم خلافاً لبعض الحنابلة، والراجح أن عليه فدية الأذى كما هو المشهور عند الشافعية.
فعلى ذلك: يدخل في الرفث الجماع والمباشرة وما دونها من القبلة أو المس أو تكرار النظر حتى يمذي أو ينزل أو نحو ذلك فكل ذلك داخل في الرفث المنهي عنه.
مسألة:
من أفسد عمرته، فهل يهل بها من الحل أو من حيث أهل (1) ؟
أما آثار الصحابة في هذا: فان ابن عباس ذكر – كما في البيهقي -: (أنهما يهلان بها من حيث أهلاَّ)
__________
(1) أي من الميقات أو غيره.(11/93)
فالأظهر أنه يهل بها كما وجبت عليه لأن هذا من باب القضاء والقضاء يحكي الأداء.
مسألة:
إذا كانت المرأة مكرهة على الجماع فهل يفسد حجها؟
الظاهر في المذهب هو فساد نسكها، وأن البدنة على من أكرهها (انظر آخر باب الفدية) [انظر ص67]
والراجح في هذه المسألة: أن نسكها لا يفسد لأنها مكرهة، ومن فعل شيئاً من المحظورات مكرها فإنه لا يترتب عليه حكم، بل هو كما لو لم يفعله، فإن المحظور ينهى عنه حيث كان ذلك بتعمد من المكلف أما إن كان من غير تعمد فإنه في حقيقة أمره ليس بمخالف للشرع.
فالصحيح أنها إذا أُكرهت فلا شيء عليها ولا يفسد نسكها.
والحمد لله رب العالمين.
تقدم ذكر محظورات الإحرام وهي تسعة:
1- حلق الشعر ... ... 2- تقليم الأظافر
3- تغطية الرأس والوجه ... …4- لبس المخيط للذكر
5- مس الطيب ... ... 6- قتل الصيد …
7- عقد النكاح ... ... 8- الجماع
9- المباشرة
تقدم الإشكال في قول المؤلف: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض)
وقد تقدم أن في هذه العبارة نظراً وأنها في مسألة لم يذكرها المؤلف - وهي مسألة الجماع بعد التحلل الأول – ورأيت ذلك مذكوراً في الروض المربع في شرح زاد المستقنع، وأن المؤلف أدخل هذه المسألة على المسألة المذكورة في المتن، وهذا الإدخال عن طريق الوهم أو الخطأ.
قال: (وإحرام المرأة كالرجل)
إجماعاً فالمرأة فيما يحرم عليها هي كالرجل في كل ما تقدم من المحظورات فليس لها أن تتطيب وليس لها أن تقتل الصيد وليس لها أن يُعقد نكاحاً تكون طرفاً في هذا العقد وكذلك الجماع والمباشرة، فكل ما تقدم من المحظورات ليس مختصاً بالرجل وإنما هو للمرأة أيضاً وهذا بإجماع العلماء، إلا ما سيأتي استثناؤه.
قال: (إلا في اللباس)
فالمرأة في اللباس ليست كالرجل.
فقد تقدم أن الرجل ينهى عن لبس المخيط من قميص وعمامة وسراويل وغير ذلك.(11/94)
أما المرأة فحكمها بخلاف الرجل فلها أن تلبس من الثياب ما شاءت من المعصفرة أوغيرها من الألوان، فليس حكمها كحكم الرجل في أنها لا يجوز لها أن تلبس المخيط، فعلى ذلك تلبس الخفاف والجوارب والسراويل والقمص ونحو ذلك. وهذا بإجماع العلماء وقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عائشة قالت: (المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً فيه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تتلثم وإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها)
قال: (وتجتنب البرقع والقفازين)
والبرقع: مشهور معروف فتتجنبه المرأة، وتجتنب القفازين وهما أيضاً مشهوران، فالبرقع للوجه، والقفازين لليدين.
ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري من حديث ابن عمر المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) (1)
والنقاب معروف: وهو غطاء للوجه يكون الاعتماد فيه على الأنف وأولى منه بالحكم البرقع، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على النقاب ليدخل في ذلك بظهور ووضوح فإنه أولى منه في هذا الحكم.
إذاً: تجتنب المرأة اللباس المختص بالوجه كالبرقع والنقاب وتجتنب أيضاً اللباس المختص بالكفين وهما القفازان.
قال: (وتغطية وجهها)
أي تجتنب المرأة المحرمة تغطية الوجه، فليس لها أن تغطي وجهها وإن كان ذلك بغير البرقع والنقاب، كأن تسدل ثوبا على وجهها كما هو مشهور عندنا.
فليس لها أن تغطي وجهها إلا أن يكون هناك أجنبي فإنها تغطي وجهها عنه، أما إن لم يكن هناك أجنبي كأن تكون في هودجها، أو خيمتها أو أن يكون معها محارمها فحسب فإنه ليس لها أن تغطي وجهها فإن فعلت فقد فعلت محظوراً من محظورات الإحرام.
__________
(1) أخرجه البخاري باب ما ينهى من الطيب للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وأبو داود، المغني [5 / 154] .(11/95)
ودليل ذلك: - أي تغطية المرأة وجهها إن كان هناك أجانب – فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال ونمتشط قبل ذلك في الإحرام) وفي موطأ مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر) .
وفي المسألة أثر مشهور لكن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف الحديث، وهو ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (كان الركبان ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفت) (1)
وقد تقدم الاستدلال بالأثرين المتقدمين، وكذلك ما تقدم عن عائشة وهو قولها: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فهذه آثار عن هاتين الصحابيتين ولا نعلم لهما مخالف في هذه المسألة.
أما مسألة: أن المرأة إن لم يكن هناك أجنبي فلا يجوز أن تغطي وجهها ويجب أن تدعه مكشوفاً: فدليل ذلك: عند أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن المرأة إحرامها في وجهها، وأنه ليس لها أن تغطي وجهها بالنقاب، وذكر النقاب إشارة إلى غيره مما يغطى به الوجه.
وقد صح عن ابن عمر – كما في البيهقي – بإسناد صحيح: أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه)
وهذا المذهب هو مذهب فقهاء الأمصار، حتى قال الموفق: (لا يعلم بين أهل العلم في هذه المسألة خلاف) فهي مسألة متفق عليها عند أهل العلم.
ولكن ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى إطلاق جواز السدل، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام، واختيار تلميذه ابن القيم: وأنه يجوز لها أن تسدل جلبابها على وجهها مطلقاً سواء كان ذلك في حضرة الأجانب أم لا.
__________
(1) أخرجه أبو داود باب في المحرمة تغطي وجهها، وأحمد، والبيهقي باب تلبس الثوب.. من كتاب الحج، المغني [5 / 154](11/96)
قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الألبسة المختصة بالوجه كالنقاب والبرقع، وأما مجرد تغطيته بأي شيء كأن تسدل ثوبها على وجهها فإنه لا حرج في ذلك.
وأنكر شيخ الإسلام ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إحرام المرأة في وجهها) وقال: " إنما هو قول لبعض السلف "، وهو كما قال فإنه قد رُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا يصح، وأما قول شيخ الإسلام: أنه قول لبعض السلف.
فنعم هو لبعض السلف، لكنه ليس كأي أحد من السلف بل هو إلى ابن عمر ممن يحتج بقوله حيث لم يكن له مخالف ولم يخالف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا علم الخلاف في هذه المسألة: فليعلم أن منشأ الخلاف في هذه المسألة – أي باعث الخلاف – هو: هل الشارع نهى المرأة عن النقاب والبرقع لكون النقاب والبرقع لباساً مختصاً بالوجه [فيشبه القميص في حق الرجل] وحينئذٍ لا يحرم على المرأة إلا اللباس المختص به، أم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النقاب والبرقع لكونه غطاءً للوجه فيحرم عليها كل غطاء وكل تغطية؟
أما الجمهور فقد سلكوا المسلك الثاني.
أما شيخ الإسلام في ظاهر قوله، وهو قول ابن القيم ومذهب بعض الحنابلة فقد سلكوا المسلك الأول.
قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اللباس المختص بالوجه وهو النقاب والبرقع، ولم يمنع من تغطية الوجه فأشبه ذلك المحرم فإنه ينهى أن يلبس القميص ويجوز له أن يغطي بدنه بإزار ورداء.
وأما الجمهور فقالوا: - كما تقدم – أنه نهى عن التغطية مطلقاً. ومسلك الجمهور أصح مما ذهب إليه بعض الحنابلة.(11/97)
فإن النساء في اللباس لسن في حكم الرجال، فإن المرأة يجوز لها أن تلبس القمص وأن تغطي رأسها بالألبسة المختصة بالرأس وتلبس الخفاف والجوارب ونحو ذلك، فليست كالرجل، فلا يحرم عليها شيء من الألبسة، ولو كان المقصود من النهي عن البرقع والنقاب أنه لباس لجاز لها كسائر الألبسة، فدل على أن المقصود من ذلك إنما هو تغطية الوجه.
ولأن الغالب في النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يضعن ألبسة مختصة بتغطية الوجه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
كما أنه لما سئل عما يلبس المحرم نهى عن العمائم، ولم يكتف بذلك عند أهل العلم بل قالوا: وإن غطى رأسه بخرقة فإنه لا يجوز له ذلك فالمقصود النهي عن تغطية الرأس.
ثم إن قول ابن عمر صريح في ذلك، فإنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) ولا نعلم أثراً صريحاً يخالف أثره.
وأما قول عائشة: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فإنه من المعلوم أن المرأة لا تسدل ثوبها على وجهها إلا أن كان هناك أجنبي، وإلا فإنها لا تشاء ذلك أصلاً إلا على أحوال نادرة، على أن هذا ليس صريحاً في المخالفة كما تقدم.
إذن: الراجح مذهب جماهير العلماء وقد حكى اتفاقاً أن المرأة إحرامها في وجهها، فإذا غطت وجهها من غير حاجة فإنها تكون فاعلة محظوراً من محظورات الإحرام.
فرعٌ:
إن غطت المرأة وجهها فهل يجب عليها أن تضع عوداً أو شيئاً من ذلك يمنع مسَّ هذا الثوب لوجهها؟
قال بعض فقهاء الحنابلة وهو القاضي من الحنابلة: يجب عليها ذلك فإن مسَّ هذا الثوب شيئاً من بشرة الوجه فإن عليها الفدية.
وأنكر هذا الموفق، وبيَّن أن كلام الإمام أحمد لا يدل عليه، وأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على ذلك، وبيَّن رحمه الله أن المسدول في الغالب لابد أن يمس الوجه، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان يدل على اشتراط ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام، وهذا هو الراجح.(11/98)
قال: (ويباح لها التحلي)
فيجوز للمرأة أن تتحلى فتلبس السوار والقرط ونحو ذلك والخاتم ونحو ذلك من الحلي كل ذلك جائز إذ لا دليل يدل على منعه بل إلحاقه باللباس ظاهر، فلا حرج في ذلك.
وهنا مسائل فيما يباح للمحرم:
المسألة الأولى: يباح للمحرم أن يتاجر في حال إحرامه وأن يصنع ويتكسب ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وقد قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} .
المسألة الثانية: أنه لا بأس بالاغتسال للمحرم، وقد ثبت في الصحيحين أن أبا أيوب الأنصاري: (سئل عن الغسل للمحرم؟ فأمر أن يصب على رأسه الماء فصب على رأسه الماء فجعل يحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل) (1) أي وهو محرم. وقد قال ابن عباس – كما في البخاري معلقاً -: (ويدخل المحرم الحمام) (2) أي المغتسل. ولا بأس أن يغتسل بسدر أو صابون - غير مطيب – أو قطمي ونحوه من المنظفات لا بأس بذلك، ودليله ما تقدم في من وقصته راحلته فمات وهو محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر) (3) مع كونه نهى أن يخمر وأن يمس طيباً، ومع ذلك فقد أمر أن يغسل بماء وسدر فدل على أن السدر ونحوه من المنظفات ليس من محظورات الإحرام.
المسألة الثالثة: أنه لا بأس من أن يحك رأسه أو بدنه، وفي البخاري معلقاً: (ولم ير ابن عمر وعائشة في الحك بأساً) (4)
المسألة الرابعة: أنه لا بأس أن يقتل القمل ولا فدية في ذلك وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وذهب المالكية إلى أنه يحرم قتله وفيه الفدية.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الاغتسال للمحرم، من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 125] .
(2) ذكره البخاري باب الاغتسال للمحرم.
(3) متفق عليه، سبق برقم 103
(4) البخاري باب الاغتسال للمحرم.(11/99)
أما ما ثبت في الصحيحين: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الفدية على كعب بن عجرة (1) ، فإن ذلك ليس للقمل الذي في رأسه، وإنما ذلك لحلقه الرأس.
وكذلك لأنه مؤذٍ فأشبه ما تقدم مما يقتل في الحل والحرم.
المسألة الخامسة: فيما يباح للمحرم: أنه يباح نظر المحرم إلى المرآة ولا يكره ذلك وهو المشهور في المذهب، خلافاً لمن منعه أو كرهه، وفي البخاري معلقاً: (أن ابن عباس جوزه) (2)
المسألة السادسة: أنه يجوز للمحرم أن يحتجم، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) (3) وفي رواية: (في وسط رأسه) وفي رواية للبخاري: (من شقيقة كانت به) .
وفي قوله: (وسط رأسه) يدل على أنه أخذ شيئاً من رأسه للحجامة.
قال الفقهاء: وعليه إن أخذ شيئاً من رأسه الفدية. وفيه نظر، فإن الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتدى ولو افتدى لنقل إلينا ذلك.
وهذا يدل على ما تقدم من رجحان خلاف ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أخذ شيء من الرأس فيما لا يعد حلقاً أنه لا تجب فيه الفدية.
فإن أخذ الشيء اليسير للحجامة - شيء يسير - لا تجب فيه الفدية والنبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه ولابدّ أنه أخذ شيئاً من الشعر حيث لا يمكن الاحتجام إلا بذلك ولم ينقل لنا أنه افتدى.
والنص الوارد إنما هو في حلق الرأس، وهذا ليس بحلق تام له.
__________
(1) أخرجه البخاري باب قول الله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى..} .. ومسلم باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى..، المغني [5 / 116] .
(2) ذكره البخاري باب الطيب عند الإحرام من كتاب الحج قبل رقم 1537.
(3) أخرجه البخاري باب الحجامة للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد.. ومسلم باب جواز الحجامة للمحرم. المغني [5 / 127] .(11/100)
فالحجامة جائزة، ومثله الفصد والجرح في الرأس أو سائر البدن أو العمليات الجراحية، وسحب الدم ونحو ذلك، فذلك جائز للمحرم لا حرج عليه في ذلك.
المسألة السابعة: فيما يباح للمحرم:
يباح للمرأة المحرمة أن تكتحل أو تضع في يديها أو رأسها الحناء، والرجل يجوز له الاكتحال والاختضاب فيما لا يعد تشبهاً.
فلا بأس للمرأة والرجل أن يكتحلا ويختضبا، الرجل فيما يختص به والمرأة فيما يختص بها.
ولا دليل يدل على المنع عن ذلك للمحرم، والأصل في الأمور الإباحة.
مسألة:
المرأة يجوز لها أن تغطي يديها بالعباءة ونحوها غطاءً مؤقتاً لكن هل تغطي يديها في غير حضرة أجانب؟
ينبغي لنا مما تقدم أن نقول بالنهي عن ذلك وأن نلتزم به وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب طائفة من أصحابه أن المرأة لا تغطي يديها إلا إذا كان هناك أجنبي فتغطي يديها بثوبها " أي عباءتها " خلافاً للمشهور في المذهب.
والحمد لله رب العالمين.
باب: الفدية
الفدية والفَدي والفَِدَاء بمعنىً.
وهو ما يعطى في افتكاك أسير ونحوه، واستعير هنا: في إنقاذ المحرم من تلبسه بمحظورات الإحرام.
قال: (يخير بفدية حلق أو تقليم أو تغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة)
فهذه هي الفدية، وقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (1)
صيام: صيام ثلاثة أيام.
" أو صدقة ": إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أقط أو شعير أو نحوه، فإن كان براً فإنه مدٌ منه - من الحنطة -، ومثل ذلك الأرز فإنهما بدرجة واحدة في القيمة، فيطعم كل مسكين نصف صاع من تمر أو نحوه، أو ربع الصاع من البر أو الأرز أو نحوهما.
" أو نسك ": أي ذبح شاة.
__________
(1) سورة البقرة.(11/101)
وقول المؤلف: " أو ذبح شاة " معطوف على قوله: " أو إطعام " وهو معطوف – أي قوله: " أو إطعام " - على قوله: " بين صيام ".
فيخير بين أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من الطعام من التمر ونحوه أو ربع صاع من الأرز أو الحنطة ونحوهما، أو يذبح شاة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي ذكره نص على نصف الصاع من التمر وجعل الحنابلة مداً من البر يجزئ عن نصف صاع من التمر وهو كما قالوا، فإن الكفارات ككفارة اليمين وغيرها كذلك يجزئ فيها مد الحنطة عن نصف الصاع من غيره.
والخيار الثالث: أن يذبح شاة.
أما الآية الكريمة فهي آية مجملة ليس فيها عدد الأيام التي تصام ولا عدد المساكين الذين يطعمون وما هو مقدار إطعامهم، وليس فيها بيان النسك أهو دم شاة أم دم بدنة أم دم بقرة. لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك وهذه من منازل السنة مع القرآن أن يبيَّن مجمله.
فقد ثبت في الصحيحين: أن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمَّل يتناثر على وجهي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ذلك أتجد شاة؟ قلت: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) (1)
وفي رواية: (ثلاثة آصع من تمر) أي لكل مسكين نصف صاع من تمر.
وظاهر الحديث وجوب الترتيب بين الدم وبين الإطعام والصيام فإنه قال: (أتجد شاة؟ قال: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) لكن هذا الترتيب ليس على الإيجاب بل على الاستحباب بدليل ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: (أي شيء فيها فعلت أجزأ عنك) (2) وهو مذهب جمهور العلماء.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، سبق برقم 130.
(2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 947، باب فدية من حلق قبل أن ينحر.(11/102)
وبدليل التخيير في الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم له أولاً بذبح شاة لأن ذلك أفضل.
والآية القرآنية والحديث النبوي في مشروعية الفدية لمن حلق رأسه معذوراً من مرض ونحوه. وألحق جمهور العلماء في حلق الرأس: تغطية الرأس وتقليم الأظافر والتطيب ولبس المخيط فرأوا أن من فعل أحد هذه الأربع فعليه الفدية الواجبة على من حلق رأسه. هذا أولاً.
ثانياً: ألحقوا بالمعذور غيره، فالآية والحديث نص في المعذور فألحق جمهور العلماء في المعذور غيره، فلو فعل ذلك تعمداً بلا عذر عالماً بالحكم أو لبس مخيطاً متعمداً عالماً بالحكم أو نحو ذلك فإن عليه الفدية.
واستدلوا: بالقياس.
وفي النفس مما ذهب إليه الجمهور شيء.
وقد ذهب الظاهرية واختاره الشوكاني: أن ذلك – أي الفدية – خاص بحلق الرأس وهو للمعذور فقط.
أما الظاهرية فإنهم لا يرون القياس، وحينئذٍ: فردهم على الجمهور هو إبطال القياس من أصله، ولا شك أن قولهم باطل في لغي القياس، لكن القياس هنا فيه نظر، فإن المحظورات الأربعة لا تشبه حلق الرأس فإنه نسك يتعلق به واجب من واجبات الإحرام وهو الحلق أو التقصير بخلاف بقية المحظورات التي ذكروها فإنه لا يتعلق بها واجب كما يتعلق ذلك بالحلق فهو نسك يوفره المسلم ليقوم بحلقه أو تقصيره في يوم النحر، وعند طوافه وسعيه للعمرة. والقياس مع الفارق غير صحيح.
وأما إلحاقهم غير المعذور بالمعذور فهو – أيضاً – قياس مع الفارق فإن المعذور غير عاصٍ لله ولا إثم عليه، بخلاف غير المعذور فإنه قد فعل ما نهى الله عنه على وجه يأثم به، فلا شك أن قياس العاصي على المطيع قياس غير صحيح.
ومع ذلك فإن الأحوط في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وإلا فكما تقدم ففي القياس الذي ذكروه نظر.
ما تقدم هو فدية الأذى.(11/103)
ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على جزاء الصيد، وقد تقدم الكلام على الصيد وتحريم قتله للمحرم، وهنا في بيان جزاء الصيد. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره}
جزاء الصيد الذي دلت عليه هذه الآية بالخيار أيضاً بين ثلاثة أشياء:
الأول: أن ينظر إلى هذا الصيد الذي صاده وما يماثله من النعم من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فينظر ما يماثله ويحكم بالمماثلة ذوا عدل من المؤمنين، فيحكمان بأن هذه البهيمة من النعم عدل لهذا الصيد.
مثال ذلك: النعامة يماثلها عند أهل العلم الإبل - وسيأتي الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله - فحينئذٍ يذبح هذا المثيل ويوزع على فقراء الحرم: {هدياً بالغ الكعبة} هذا هو الخيار الأول.
الثاني: {أو كفارة طعام مساكين} بيان ذلك: أنه إن شاء ذبح هذا المثل وجعله هدياً بالغ الكعبة، وإن شاء قوَّم هذا المثل فيشتري بقيمته طعاماً من أرز أو نحوه ثم يوزع على المساكين لكل مسكين نصف صاع.
فمثلاً: قومنا – البعير – في المثال المتقدم فوجدناه يساوي ألف ريال فاشترينا بالألف ريال مئة صاع من التمر فإنه يوزعه على 200 مسكين. فالمقوّم إنما هو المثل وليس الصيد هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية.
وذهب المالكية إلى أن الذي يقوم هو الصيد نفسه.
واستدل المالكية على أن المقوم الصيد: قالوا: لأنه هو الأصل وهو المتلف فيجب ضمانه إما بمثله أو بقيمته وحيث أنا لم نأت بالمثل فعلينا أن نأتي بقيمته نفسه.(11/104)
واستدل أهل القول الأول على أن المقوم هو المثل قالوا: لأن المقصود من الكفارة أن تكون عدلاً بين هذه الأشياء، فكان ينبغي أن تكون مساوية للمثل لا مساوية للأصل، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {أو عدل ذلك صياماً} فدل على أن هذه الكفارات الثلاث المخير فيها أن المقصود فيها أن تكون على هيئة متساوية متقاربة.
قالوا: ولأن الواجب في الأصل المثل فحسب أما هنا فإنه لما وقع الخيار بين هذه الثلاثة الأشياء، كان التساوي هو الأنسب فيها.
وأما ما ذكرتموه أنتم – أي المالكية – فحيث كان ذلك مع العجز عن المثل، لأن الواجب هو المثل، فإن عجز عن المثل انتقل إلى القيمة، وهنا على خلاف ذلك: فإنا نأتي بالقيمة مع قدرتنا على المثل.
والأظهر ما ذهب إليه الحنابلة، فإن تعليلهم أظهر.
ثم إن الحاجة – فيما يظهر لي – تقتضي ذلك فإن تقويم الصيد فيه مشقة ظاهرة بخلاف بهيمة الأنعام فإنها مشهورة في التقويم عند الناس، فالناس يعرفون أقيامها ويقدرونها تقديراً ظاهراً بخلاف الصيد فإن في تقويمه شيئاً من المشقة، فكان الأنسب أن يعود التقويم إلى المثل، وكما تقدم فإن في قوله تعالى: {أو عدل ذلك صياماً} تنبيهاً إلى المثلية بين هذه الكفارات الثلاث بين المثل وبين الإطعام والصيام.
الثالث: {أو عدل ذلك صياماً} ينظر عدد المساكين الذين يمكن إطعامهم، فيصوم بعددهم أياماً.
فمثلاً: بلغوا مئتين كما في المثال السابق فيصوم مئتي يوم، {ليذوق وبال أمره} : أي ليذوق نتيجة عدوانه على ما نهى الله عنه من حرمه أو على فعل هذا الأمر المحظور عليه.
قال المؤلف – في بيان ذلك -: (وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعام فيطعم كل مسكين مُداً " أي من البر " أو يصوم عن كل مدٍ يوماً)
والمقصود بالمد هنا: مدٌ من حنطة، فإن بقي بعض مدٍ فلا يصوم بعض يوم لأن اليوم لا يتجزأ بل يجبره فيصومه تاماً.(11/105)
وهل يجوز له أن يجمع بين الإطعام والصيام، كأن يطعم بعضاً ويصوم بعضاً؟
لا يجوز له ذلك فإن الكفارات لا يجمع فيها بين شيء وآخر، فليس له أن يصوم بعض الأيام ويطعم بعض المساكين بل الواجب عليه أن يختار شيئاً من هذه الكفارات، كما هو ظاهر القرآن وهكذا في سائر الكفارات.
قال: (وبما لا مثل له بين صيام وإطعام)
إن كان هذا الحيوان المصيد لا مثل له، يعني قرر أهل العدالة فبينا أنه لا مثل له فحينئذٍ يبقى له خياران تقدم الخيار الأول فيكون ذلك بين الإطعام والصيام، وحينئذٍ فإن المقوم هو الصيد بحسب الاستطاعة، فيقوم الصيد نفسه لأنه لا مثل له فلا يمكن أن نرجع ذلك إلى شيء معدوم فأرجعناه إلى الموجود حينئذٍ للحاجة إلى ذلك ولتعيين ذلك.
فيقوّم الصيد ويشترى بقيمته طعاماً يطعم به المساكين لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من تمر وغيره، أو يصوم عدل ذلك أياماً.
مسألة:
لو صاد غزالاً ثم استطاع أن يأتي بغزال مثله فإنه لا يجزئ عنه بل لابد أن يماثله من بهيمة الأنعام لأن هذا من جنس الهدي والهدي لابد أن يكون من بهيمة الأنعام لا غيرها، كالأضاحي وكالدم الذي يكون في الحج لا يكون إلا من جنس بهيمة الأنعام.
والحمد لله رب العالمين.
* ثبت في البخاري معلقاً أن عائشة أذنت لحاملي هودجها بلبس التُّبّان ولم تر عليهم شيئا. [التُّبّان: بضم المثناة وتشديد الموحدة، سروايل قصير بغير أكمام. فتح الباري لابن حجر: 3/ 465]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما دم متعة وقران فيجب الهدي)
أي يجب الهدي تعييناً فليس ثمت خيار كما هو في فدية الأذى وفي فدية جزاء الصيد.
بل الواجب عليه أن يهدي في التمتع والقران قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وتقدم أن القران داخل في حكم التمتع باتفاق العلماء، كما أن القران تمتع في لغة العرب، وتدل على ذلك آثار الصحابة كما تقدم.(11/106)
قال: (فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام)
إن عدم الهدي فلم يقدر عليه مع قدرته على ثمنه – كأن يكون قادراً على الثمن لكن لم يجد هدياً يشتريه بهذا الثمن – أو كان غير قادر على ثمنه وهذا هو الغالب.
والعبرة في قدرته عليه أثناء حجه وتمكنه من ذبحه أو نحره فلو كان قادراً عليه عند رجوعه إلى بلده فهو صاحب قدرة مالية في بلده لكنه أثناء الحج لم يتيسر له ثمن يمكنه أن يشتري به الهدي فإنه في حكم غير القادر أصلاً، فإن العبرة في الواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها وهذه قاعدة في كل واجب مؤقت، فالواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها.
ونظير ذلك: غير القادر على الطهارة المائية أثناء وقت الصلاة فإنها تسقط عنه إلى التيمم لعجزه عنها أثناء الوقت وإن كان قادراً عليها بعد خروج الوقت كأن يكون يعلم حضور الماء بعد خروج الوقت، أو يعلم وصوله إلى بلدته بعد خروج الوقت فإن العبرة إنما هي في قدرته على هذا الواجب المؤقت أثناء الوقت وهنا كذلك: فإن العبرة في قدرته على الهدي أثناء الوقت الذي ينحر به الهدي وهو يوم النحر وأيام التشريق.
قال: (فصيام ثلاثة أيام والأفضل كون آخرها يوم عرفة)
قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} فإن كان غير قادر على الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، والأفضل كون آخرها يوم عرفة.
إذاً: يصوم يوم عرفة ويومين قبله وهما يوم التروية واليوم السابع، هذا هو الأفضل له وفي ذلك آثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
فمن ذلك ما ثبت عن علي – في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة – أنه قال في تفسير هذه الآية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} قال: (قبل يوم التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق)(11/107)
ونحوه عن ابن عمر في مصنف عبد الرزاق ابن أبي شيبة وعن عائشة في موطأ مالك: أنها قالت: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هدياً ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق)
فهذه آثار عن علي وابن عمر وعائشة، وفيها أن الأفضل أن يصوم يوم عرفة ويومين قبله.
وكره الشافعي صيام يوم عرفة لكراهية النبي صلى الله عليه وسلم واستحب أن يكون آخر الأيام يوم التروية.
فعلى ذلك يصوم اليوم السادس والسابع والثامن.
والقول الأول أظهر للآثار المتقدمة عن الصحابة.
ولما في ذلك من الكلفة على الحاج من أن يتقدم يومين قبل يوم التروية، فإن المشروع في حقه أن يهل يوم التروية بالحج لكن استحب الصحابة أن يتقدم يوماً ليكون صيامه في الحج.
أما تقديمه بيومين فإن في ذلك كلفة على الحاج، وموافقة آثار الصحابة أولى وهو المشهور عند الحنابلة.
قال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله)
ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، فالواجب عليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإذا رجع إلى بلدته وأقام عند أهله صام سبعة أيام.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) (1) وهذا بيان للآية المتقدمة: {إذا رجعتم} : أي إذا رجعتم إلى أهلكم كما بينته السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم.
إذاً: المشروع في حقه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج يكون آخرها يوم عرفة، وأن يصوم سبعة إذا رجع إلى أهله. هذا هو المختار فهو صيام الفضيلة.
أما صيام الإجزاء، فقد اختلف أهل العلم في وقت الإجزاء لصيام الثلاثة أيام، وفي وقت الإجزاء لصيام سبعة أيام.
أما صيام ثلاثة أيام:
فقال الحنابلة: يجوز أن يشرع فيها إذا أحرم بالعمرة.
__________
(1) متفق عليه.(11/108)
رجل أراد أن يتمتع بالعمرة إلى الحج أو يقرن وهو غير قادر على الهدي فأحرم في اليوم الرابع من ذي الحجة، فيجوز له أن يشرع بصيام الثلاثة أيام من ذلك اليوم.
وإذا تحلل من العمرة فيجوز له أيضاً أن يشتغل بالصيام قالوا: لأنه قد أحرم بأحد نسكي التمتع، فالتمتع له نسكان: عمرة وحج فكما أنه يجوز له أن يشرع بالصيام إذا أهل بالحج اتفاقاً، فالعمرة كذلك لأنها أحد نسكي التمتع.
وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يجوز له أن يشرع بالصيام إلا إذا أحرم بالحج ولا يجزئه.
فعلى ذلك: أثناء إحرامه بالعمرة لا يجزئه الصيام.
وأما القارن فإنه لا إشكال على أنه يجوز له لأنه إذا أحرم بالعمرة فإن الحج أيضاً داخل في إحرامه فإنه يحرم بهما جميعاً.
واستدلوا: بالآية فإن الله قال فيها: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فعين الله عز وجل الحج للصيام: ولا يكون في الحج حتى يحرم به.
وهذا القول هو الظاهر، وهو الموافق لظاهر الآية الكريمة وأما كون العمرة أحد نسكي التمتع: فإن هذا غير كافٍ في الإجزاء لمخالفة ذلك للآية الكريمة أولاً.
ولأنه لا يصدق عليه التمتع حتى يشرع بالحج إهلالاً فإذا أهل به فإنه يصدق عليه أنه قد تمتع بإهلاله بالحج.
فالراجح ما ذهب إليه المالكية، والشافعية: وأنه ليس له أن يصوم إلا إذا أحرم بالحج.
وهو فيما يظهر لي الموافق للآثار المتقدمة عن الصحابة كما قالت عائشة: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد الهدي من أن يهل إلى يوم عرفة) (1) فظاهر ذلك أنه من إهلاله بالحج وهو كما تقدم ظاهر الآية القرآنية.
وظاهر الآية القرآنية أنه ليس له أن يصوم بعد ذلك لأن التلبس في الحج ينتهي بيوم النحر، ويوم النحر ليس من أيام الصيام مطلقاً فظاهر الآية: أن الصيام محصور من الإهلال بالحج وينتهي يوم عرفة فإذا فاته يوم عرفة انتهى صيام الثلاثة أيام.
__________
(1) تقدم ص64(11/109)
لكن السنة النبوية رخصت في ذلك فقد ثبت في البخاري عن عائشة وابن عمر أنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) (1)
وأيام التشريق فيهن أفعال للحج لكن ليس فيهن تلبس بالحج فإنه ينتهي الإهلال بالحج في يوم النحر عند رمي الجمرة وحينئذٍ لا يكون في الحج لكن بقيت أحكام متعلقة بالحج.
ولعله لتعلق هذه الأحكام رخص في ذلك.
إذاً:أيام التشريق يجوز له أن يصومهن وكونهن لسن من الأيام التي يكون المسلم متلبساً في الحج فيهن، هذا حيث دلالة القرآن وأما السنة النبوية فإنها قد زادت على ما ورد في القرآن.
وأيضاً المعنى يدل على ذلك وهو بقاء أفعال للحج ثابتة في أيام التشريق.
وأما صيام السبعة الأيام:
فالمشروع في حقه كما تقدم أن يصومها إذا رجع إلى أهله.
لكن الخلاف في هل يجوز له أن يصوم قبل ذلك كأن يصوم في مكة أو في طريقه؟
قولان لأهل العلم:
1- القول الأول: مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة: يجزئه ذلك وحملوا الآية الكريمة على أنها رخصة.
وعللوا ذلك بأن السبب قد وجد فسبب الصيام موجود وهو عدم وجود الهدي في وقته، وحيث وجد سببه فإنه يجزئ الصيام وأما الآية القرآنية فهي رخصة.
والمعنى يدل على ذلك فكونه يصوم إذا رجع إلى أهله هذا رخصة من الله ليكون ذلك أهون عليه وأسهل في حقه لكن لا مانع أن يصوم قبل ذلك لوجود سبب الحكم وهو عدم الهدي
وقالوا: نظير ذلك الصيام للمسافر فإن الله عز وجل قال: {فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} فظاهر ذلك أنه إن سافر فلا يصوم ويصوم عدة من أيام أخر، لكن هذه الآية رخصة بدلالة السنة النبوية، بل قد يكون الصيام أفضل كما تقدم في كتاب الصيام. والمقصود أنه يجزئ بلا خلاف أن يصوم في السفر لوجود سبب الحكم وهو رمضان.
__________
(1) أخرجه البخاري: [4 / 211 – فتح] . الإرواء رقم 964(11/110)
2- الشافعية إلى أنه لا يجزئ ذلك – فلا يجزئه أن يصوم في الطريق ولا في مكة – وذلك للآية القرآنية وللحديث النبوي.
والأصح: ما تقدم وأن الآية رخصة بدليل وجود سبب الحكم وهو عدم وجود الهدي ثم، ولأن المعنى يقتضي ذلك فلا فائدة من تحديد ذلك برجوعه إلى أهله إلا سهولة ذلك على المحرم أما لو تكلف الصيام فإنه لا حرج عليه في ذلك، وهذا يشبه كما تقدم الصيام في السفر في رمضان.
إذن: يجوز له أن يصوم هذه السبعة في مكة أو في طريقه لكن المشروع في حقه وهو الأحوط أيضاً ألا يصوم إلا إذا رجع إلى أهله.
واعلم أن الآية القرآنية في صيام الثلاثة أيام والسبعة مطلقة غير مقيدة بتتابع ولا تفريق، فله أن يفرق وله أن يتابع ويجمع ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك لأن الآية مطلقة ليس فيها التقييد بالتتابع ولا التفريق.
قال: (والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل)
المحصر: هو من منع من تمام النسك، كأن يختل الأمن في مكة أو نحو ذلك فلا يتم نسكه، وسيأتي الكلام على هذا في باب مفرد.
والمحصر عليه الهدي لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} أي إذا منعتم وحبستم عن المناسك فتحللوا من إحرامكم - بحج أو عمرة، تحللوا منه - بهدي تنحرونه أو تذبحونه فإذا ذبح أو نحر الهدي فإنه حينئذ يتحلل من الإحرام.
فإن لم يجد المحصر هدياً: صام عشرة أيام ثم حل قياساً على المتمتع فكما أن المتمتع إن لم يجد هدياً فإنه يصوم عشرة أيام كما تقدم فإن المحصر يصوم عشرة أيام. ولم يقيد المؤلف هنا بالحج أو في غيره؛ لأنه ليس بمتلبس بالحج، فيصوم عشرة أيام ثم يتحلل فليس له أن يتحلل إلا بعد أن يتم الصوم.
قالوا: بدل هدي التمتع صيام عشرة أيام، فكذلك بدل هدي الإحصار صيام عشرة أيام أيضاً.
وذهب المالكية والأحناف: إلى أنه لا يجب عليه أن يصوم عشرة أيام بل إذا لم يجد الهدي فإنه يتحلل.
قالوا: لأن الله لم ينص على ذلك.(11/111)
قلت: ولأنه أيضاً ليس بمعنى المنصوص.
أما قولهم أن الله لم ينص على ذلك: فإن الله قال في الآية الكريمة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب على غير القادر صياماً بخلاف المتمتع فإنه أوجب عليه الصيام بعد ذلك.
لكن هذا القول من المالكية والأحناف يمكن أن يجاب بأن كونه غير منصوص عليه غير كاف في رد الحكم، فإنه – عندنا – بمعنى المنصوص عليه، ولذا قسناه على ذلك، ولذا قلنا: " وهو ليس بمعنى المنصوص " فإن ثمت فارق.
والفارق فيما يظهر لي: إن هدي التمتع هدي موجبه فعل المناسك وأما هدي الإحصار فإن موجبه ترك المناسك، ولا شك بالفارق بين الفعل والترك، فإن المحصر تارك للنسك، وأما المتمتع فهو بفعله النسك وجب عليه الهدي وأن يجبره بعد ذلك ببدله إن عجز عنه، وحيث ثبت الفارق فإن القياس لا يصح، فإن المحصر تارك للنسك متحلل منها، وأما المتمتع فهو متحلل من فعلها، فهو ليس بمنصوص عليه ولا بمعنى المنصوص.
ثم إن في ذلك – في الصيام – مشقة وكلفة، فإن كوننا ننهاه أن يتحلل حتى ينتهي من صيام عشرة أيام لا شك أن في مثل هذا كلفه ومشقة، وهذا فارق آخر بين المسألتين، فإن المتمتع إذا رجع إلى أهله وهو متحلل يصوم سبعة أيام ولا حرج عليه في ذلك ولا مشقة.
أما المحصر فإنه ليس له أن يتحلل حتى ينتهي من هذا الصيام وذلك لأن المسألتين بينهما فارق، فإن هدي التمتع يفعل بعد التحلل، وأما هدي الإحصار فإنه يفعل للتحلل فلا يتحلل حتى يفعله فيشقه الصيام، فليس للمحصر - على قول الحنابلة - أن يتحلل حتى يصوم عشرة أيام وهذا فارق آخر بين المسألتين.
فالصحيح ما ذهب إليه المالكية والأحناف من أن هدي الإحصار ليس له بدل بل إذا لم يجد الهدي فإنه يحل ولا شيء عليه.
قال: (ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة، وفي العمرة شاة)
تقدم البحث في هذا في مسألة الجماع (1) .
قال: (وإن طاوعته زوجته لزماها)
__________
(1) انظر ص52.(11/112)
إن طاوعت الزوجة زوجها على الجماع فإنه يجب عليها البدنة أو الشاة على التفصيل المتقدم في حق الرجل.
وذلك لأن كليهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فلم يجزئ كفارة أحدهما عن الآخر، والكفارة لحق الله تعالى، وكلاهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فوجبت في حقه – أي المكلف – وحينئذٍ فيجب في حق المرأة وإن قام الزوج بها عن نفسه لأن المرأة مكلفة وقد فعلت ما يوجب الكفارة.
وقد تقدم أثر ابن عباس الذي لا يعلم له مخالف من الصحابة وفيه أنه أوجب الهدي على كليهما – أي على الزوج والزوجة –. الأول نظر، وهذا أثر ابن عباس لا يعلم له مخالف.
وظاهر قوله: - أي المؤلف – أن الزوجة إن كانت مكرهة فإن الفدية لا تجب عليها وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة خلافاً للمالكية في هذه المسالة.
فالمشهور في المذهب أنه لا فدية عليها – إن كانت مكرهة - قالوا: لأنها مكرهة وقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه.
قال الحنابلة: ولا يجب ذلك على المكره وهو الزوج أو غيره، فالمكره لا يجب عليه الفدية.
وقال المالكية: بل يجب على زوجها فدية ويجب عليه أن يدفع من ماله ما يحججها به في السنة الأخرى لأنه هو المفسد لحجها.
أما قولهم أنه يجب عليه أن يعطيها نفقة للحج، فهذا ظاهر لو قلنا بإفساد الحج؛ لأن هذه الغرامة حق لآدمي فهي امرأة قد فسد حجها بسبب غيرها فواجب على هذا الغير أن يقوم بالنفقة التي تكفيها في الحج لأنه هو المتسبب لذلك.
وأما الكفارة فلا لأنها حق الله تعالى يجب على المكلف حيث توفرت الشروط فيه وهي لم يتوفر فيها شروط الإيجاب؛ لأنها مكرهة.
فإذاً: مذهب الحنابلة أصح من مذهب المالكية وأنها إذا أكرهت فليس عليها فدية ولا على زوجها فدية.
والمذهب على أن المرأة المكرهة يفسد حجها وهو مذهب المالكية كما تقدم في (1) .
وذهب الشافعية وهو الراجح إلى أن المرأة إذا أكرهت على الجماع لا يفسد حجها.
__________
(1) بياض في الأصل.(11/113)
وذلك لأنها لإكراهها لا فعل لها فالمكره لا فعل له، وإنما أفسد الحج بالجماع لأنه فعل من المكلف خالف فيه أمر الله أو اقترف فيه نهي الله عز وجل.
وحيث كان مكرهاً فإنه لا فعل له فلا يعد مخالفاً، ولأن الله تجاوز عن هذه الأمة ما أكرهت عليه.
ولا يجب عليها بدنة لما تقدم، ولأن الكفارة مترتبة على الفعل المتقصد المتعمد وهنا لا تقصد ولا تعمد بل لا ينسب إليها فعل.
مسألة:
رجل رجع من الحج ولم يصم ثلاثة أيام – وهو لم يجد هدياً – فهل يقضيها إذا رجع إلى أهله؟
قال الجمهور عليه أن يقضيها.
واختلف هل عليه دم أم لا دم عليه؟
2- والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يقضي ويكون آثماً لتفريطه وهذا يرجع إلى مسألة سابقة، وهي إذا أمر الشارع بأمر له وقت محدد فخرج وقته فهل أمره السابق متضمن للقضاء بعد الوقت أم لا؟
قال الجمهور: لا يتضمن ذلك، فأمر الشارع بالشيء المؤقت لا يستلزم قضاءه بعد خروج وقته لفوات مصلحة الشارع، فإن الشارع قد رأى مصلحة في فرضيته في ذلك الوقت فإخراجه عن وقته إلى وقت آخر من باب القضاء هذا يحتاج إلى دليل جديد.
لكن جمهور العلماء خالفوا هذه القاعدة التي هم يقولون بها خالفوها لبعض الأدلة كحديث: (دين الله أحق بالقضاء) ونحو ذلك.
والذي يظهر البقاء على هذه القاعدة إلا بدليل ظاهر، فإن عليه أن يستغفر ويتوب لكن السبعة الأيام لا تسقط عنه بل ينبغي فعلهن لأن وقتها ما زال، ولا شك أن الأحوط له أن يصوم.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
هذا فصل في شيء من أحكام الفدية
قال: (ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة)
كرر محظوراً من جنس واحد كأن يلبس مخيطاً في اليوم الأول من أيام الحج، ثم يلبسه في اليوم الثاني ولم يفد بينهما.
أو أن يتطيب متفرقاً لا متتابعاً بأن يكرر التطيب، ولم يفد بين ذلك، فإنه يفدي مرة، فيكفيه عن هذه الأفعال ذات الجنس الواحد ما لم يتخللها فدية يكفيه فدية واحدة.(11/114)
قالوا: لأن الله عز وجل أطلق في فدية الأذى ولم يفرق فيمن حلق رأسه متتابعاً، أو فيمن حلقه متفرقاً بأن حلق ثم حلق.
وأشبه ذلك إقامة الحدود الشرعية، فإن الرجل إذا تكرر زناه بامرأة أو قذفه لرجل ولم يقم عليه الحد فإنه لا يقام عليه الحد إلا مرة واحدة فهنا كذلك.
إذاً: إن فعل فعلاً من محظورات الإحرام من جنس فكرره في نسكه كأن يكرر في حجه لبس المخيط مرتين أو ثلاثاً، أو أن يفعله متتابعاً، فيستمر في نسكه كله لابساً لثوبه أو أن يفعله ثم يخلعه، أو أن يخلعه ثم يلبسه مرة أخرى فإذا لم يتخللها كفارة فإنه لا يفدي إلا مرة واحدة، أشبه ما يكون هذا بإقامة الحدود.
وأشبه أيضاً الأيمان فإن حلف يميناً ثم حنث فيها فحنث فحنث فكرر ذلك فإنه لا يكفر إلا مرة واحدة.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه إذا فدى فإنه يلزمه أن يفدي مرة أخرى وثالثة وهكذا.
فلو أن رجلاً لبس ثوبه في يوم التروية ثم فدى (فذبح أو صام أو أطعم) ثم لبسه في المساء أو في الغد فإنه عليه فدية أخرى.
قالوا: لأن المحظور الثاني وإن كان من جنس الأول لكنه صادف إحراماً خالياً من فعل محظور تجب فيه الفدية.
ففعله للمحظور مرة ثانية أو ثالثة صادف إحراماً خالياً من محظور موجب للفدية فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه.
إذن: إذا فعل محظوراً من جنس واحد وكرره فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يتخلل ذلك فدية، بمعنى: يفعل المحظور ثم يفدي ثم يفعله مرة ثانية فتجب عليه الفدية مرة أخرى لأن فعله الثاني صادف إحراماً خالياً من فعل موجب للفدية، فلا موجب حينئذٍ لإسقاط الفدية عنه كما لو زنى فأقيم عليه الحد ثم زنى مرة أخرى فإن الحد يقام عليه مرة أخرى.
الثاني: ألا يتخلل ذلك فدية، فإنه ليس عليه إلا فدية واحدة لأن الله عز وجل لما أمر بالفدية أطلق فمن فعل هذا المحظور فواجب عليه أن يفدي وظاهر هذا الإطلاق ثبوته بالتفرق كثبوته بالتتابع فأشبه ذلك إقامة الحدود.(11/115)
هذا إذا كان المحظور المكرر من جنس واحد.
أما إذا لم يكن المحظور من جنس واحد فقال المؤلف هنا:
(من فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة بخلاف صيد)
" ونعود بعد ذلك إلى الكلام على قول (بخلاف صيد) "
رجل فعل محظورات مختلفة الأجناس، كأن يلبس مخيطاً ويتطيب ويغطى رأسه فإنه يجب لكل محظور فدية لأن الأجناس مختلفة.
قالوا: وقد دلت الأدلة – وقد تقدم البحث في هذا – على إيجاب الفدية على كل جنس فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه باجتماعها. كما لو قذف وزنى وسرق فإن هذه الحدود تقام عليه كلها لاختلاف أجناسها فكذلك هنا.
وقد استثني من المسألة الأولى الصيد، فلو أن رجلاً صاد ثم صاد ثم صاد، فيجب عليه لكل صيد جزاؤه، سواء فدى بين ذلك أم لم يفد، بل لو فعله دفعة واحدة فإن عليه الجزاء، وهذا لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ، فظاهر ذلك أن المثلية في نوعه وفي تعدده.
فإذا أوجبنا في نعامة بدنة، فظاهر الآية أن في النعامتين بدنتين، وفي الثلاث ثلاثاً، وهكذا، فإنه قال تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فظاهر هذا أن المثلية ثابتة بالنوع الذي يحكم به ذوا عدلٍ، وثابتة بعدده.
فإنه لو ذبح عشراً من الصيد ثم كان الجزاء واحداً فإن المثلية ليست بثابتة حينئذٍ، فلابد للمثلية من النوع والعدد.
قال: (رفض إحرامه أو لا)
يجب عليه إن تعددت المحظورات من أجناس مختلفة، أو فعل محذوراً واحداً من جنس فيجب عليه الكفارة، وإن قال: أبطلت إحرامي ونويت الخروج من النسك، وهذا المراد بقوله: " رفض إحرامه أو لا " فإذا رفض إحرامه فإن الفدية واجبة عليه وذلك: لأن رفضه لا حكم له، وهذا بخلاف سائر العبادات، فإن الحج لا يبطل بنيته الخروج من النسك، باتفاق العلماء بخلاف سائر العبادات، وهذا من فوارق الحج عن سائر العبادات أنه لا يبطل بقصد المكلف وإرادته إبطال النية.(11/116)
وذلك لأنه إن فعل مفسداً للحج فإنه لا يخرج من الحج بذلك، فإذا جامع المحرم فإنه – وإن قلنا بفساد النسك – فإنه يبقى مستمراً به لا يخرج منه، فإفساده للحج لا يخرجه من الحج فأولى من ذلك إبطال النية.
ورفض الإحرام لا يفسده باتفاق العلماء.
ولذا: إذا حدث له جنون أو إغماء في أثناء حجه أو عمرته فإن زوال العقل هذا لا يخرجه من الحج ولا يفسد حجه بذلك، فلو أُغمي عليه يوم عرفة – وسيأتي – فإن وقوفه يصح.
قال: (ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء وصيد وتقليم وحلق)
هذه المحظورات فرق بينها المؤلف وهو مذهب الحنابلة فقالوا: المحظورات من حيث الفدية قسمان:
الأول: نوع يسقط الفدية فيه النسيان والجهل والإكراه.
الثاني: لا تسقط الفدية بهذه الثلاثة.
وضابط ذلك: أن ما فيه إتلاف كالصيد، والوطء، لأن الوطء قد يكون فيه إتلاف وهو إذهاب بكارة المرأة ويلحق بذلك ما لو كانت ثيباً، والصيد فيه إتلاف الصيد، وحلق الرأس فيه إتلاف الشعر، فما كان فيه إتلاف فإنه لا يسقط بنسيان ولا إكراه ولا جهل.
وما لم يكن فيه إتلاف كالطيب، واللبس وتغطية الرأس فإن الفدية تسقط فيه بالجهل والإكراه والنسيان.
قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
قالوا: ولما ثبت في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق " أي طيب " فقال: يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخلع هذه الجبة واغسل عنك أثر هذا الخلوق واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك)
قالوا: فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية وقد لبس الجبة وتطيب وذلك لجهله.(11/117)
قالوا: وإذا ثبت هذا في الجهل فسائر الأعذار كذلك من نسيان وإكراه. وفي الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية لجهله وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كانت الفدية واجبة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها.
قالوا: وأما ما فيه إتلاف من وطء وصيد وحلاق ونحوه فإنه لوجود الإتلاف فيه يستوي عمده وسهوه، فلا فرق بين نسيان وإكراه وجهل وبين تعمد وعلم وذكر.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قالوا: تسقط الفدية في هذا.
ولم أرهم ينصون في اختيارهم على الوطء والظاهر أنه كذلك – اختاروا أن الفدية تسقط وإن كان الإتلاف ثابتاً قالوا: لأن الإكراه والنسيان والجهل عذر ثابت فيهما جميعاً وتفريقكم بين الإتلاف وغيره تفريق غير معتبر، وذلك لأن الإتلاف إنما يستوي عمده وسهوه إذا كان في حق الآدمي أما إذا كان في حق الله عز وجل المبني على المسامحة فإنه لا يستوي عمده وسهوه للمعنى فإن مقصود الشارع من المكلف ترك المحظور وعدم مخالفة الشرع ومشاقته في فعله وحيث فعله على وجه النسيان والإكراه والجهل فإنه ليس هناك مخالفة للشرع سواء كان ذلك بما فيه إتلاف أو لم يكن مما فيه إتلاف.
إنما الإتلاف معتبر في حقوق الآدميين حفاظاً لحقوقهم أما حقوق الله عز وجل فهي مبنية على المسامحة.
ومما يدل على ذلك: تقييد الله عز وجل إيجاب الجزاء في الصيد بالتعمد فقال تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم}
وهذا قيد لابد من اعتباره، ومفهومه أنه إن لم يقتل على وجه التعمد وذلك يكون بالنسيان أو الإكراه أو الجهل فإنه لا حرج عليه في ذلك، والصيد إتلاف فهكذا سائر ما يقع فيه إتلاف، وهذا القول الراجح.
فعليه: يشترط لوجوب الفدية لفعل المحظورات كلها سواء كانت فيها إتلاف أم لم يكن فيها إتلاف: يشترط ثلاثة شروط:(11/118)
العلم: وضده الجهل فإن كان جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بنوع الشيء ودخوله في التحريم فإنه لا شيء عليه لجهله.
الذِكر: وهو ضد النسيان.
التعمد: فلابد أن يكون متعمداً، أما لو كان مكرهاً فإنه لا شيء عليه.
قال: (وكل هديٍ أو إطعام فلمساكين الحرم)
مساكين الحرم: هم أهل الحرم والواردون إليه ممن تحل لهم الزكاة لفقرهم فكل هديٍ فإنه لمساكين الحرم، قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} وقال تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} .
ومثل ذلك الإطعام فكل إطعام كالإطعام في الصيد مثلاً فإنه يكون لمساكين الحرم. قالوا: قياساً على الهدي بجامع النفع المتعدي للمساكين، فالإطعام نفعه متعدي للمساكين فأشبه الهدي.
وقال الجمهور خلافاً للحنابلة: بل الإطعام حيث شاء؛ لأنه قد ورد على هيئة الإطلاق، وما ورد على هيئة الإطلاق فإنه يفعل حيث شاء المكلف، قال تعالى: {أو كفارة طعام مساكين} ولم يقيد ذلك بأن يكون لمساكين الحرم.
ويمكن أن يجاب عن قياس الحنابلة بثبوت الفارق، وهو ما في الهدي من نحره وذبحه الذي هو من إظهار شعائر الله فكان ذلك مختصاً في الحرم، ولما كان كذلك كان لمساكينه، ففرق بين الإطعام وبين الذبح، فإن الشارع متشوف إلى فعله في الحرم وحينئذٍ فيكون لمساكينه.
ولا شك أن الأولى والأحوط أن يصرف الطعام إلى مساكين الحرم.
قال: (وفدية الأذى واللبس ودم الإحصار حيث وجد سببه)
رجل وهو في طريقه إلى مكة فعل محظوراً من محظورات الإحرام، فإنه يفعله حيث وجد سببه، فإذا أراد أن يذبح شاة أو يطعم فإنه يتصدق به على المساكين الذين في ذلك الموضع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعب بن عجرة أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين وكان ذلك في الحديبية لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن يكون في مساكين الحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.(11/119)
وكذلك إطلاق الآية في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فالآية أطلقت وظاهر ذلك أنه يفعل حيث وجد سببه لتشوف الشارع إلى المسارعة في فعل الكفارات والفِدى وغيرها.
ودم الإحصار كذلك، فإذا أحصر الرجل في موضع وهو ليس في الحرم ومنع من إتمام نسكه قبل أن يدخل الحرم فإنه يذبح الهدي حيث أحصر.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أحصروا نحروا في الحديبية.
ولإطلاق الآية القرآنية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يقيد ذلك سبحانه بأن يكون في مكة.
وحينئذٍ فالقاعدة أن يقال: الفِدى والهدي الذي له سبب، يفعل حيث وجد سببه، فما كان سببه الإحصار يفعل حيث وجد سببه، والفِدى بأن يفعل حيث وجد سببه.
والإطعام في مكة وفي غيرها حيث وجد سببه إلا أن يقيَّد الله عز وجل في كتابه أو يقيد رسوله صلى الله عليه وسلم قيداً يدل على فرضيته في موضع ما كهدي المتمتع والقارن فإن الله أوجبه في الحرم، ومثل ذلك جزاء الصيد فإن الله قيَّده بقوله: {هدياً بالغ الكعبة}
قال: (ويجزئ الصوم بكل مكان)
الصوم يجزئ في كل مكان، سواء كان صوم جزاء الصيد: {أو عدل ذلك صياماً} أو صوم فدية الأذى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم قالوا: لأنه لا معنى لتخصيص الصوم في مكان معين، وذلك لأن نفعه غير متعدٍ، فلا يتعدى إلى المساكين أو غيرهم، إنما هو خاص بفاعله فلا معنى أن يقيد بمكان ما.
والآيات القرآنية الواردة في هذا الباب: قد وردت مطلقة قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأطلق وقال سبحانه: {أو عدل ذلك صياماً} فأطلق أيضاً، وظاهر ذلك أنه يفعله حيث شاء.
قال: (والدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عنها بقرة)(11/120)
حيث وجب الدم سواء كان ذلك على التخيير كما يكون في فدية الأذى – فإن الواجب دم أو صيام أو إطعام – أو كان ذلك في ترك واجب من واجبات الحج فإنه يجب عليه دم – كما سيأتي ذكره إن شاء الله – فالدم شاة.
قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم النسك بقوله في حديث كعب بن عجرة المتفق عليه بقوله: (أو ذبح شاة) وقال تعالى: {فما استيسر من الهدي} فيصدق ذلك على الشاة فالدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عن البدنة بقرة.
فالدم شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة.
أما الشاة فقد تقدم الاستدلال عليها.
وأما البقر والإبل فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة فقيل له: أيشترك في البقرة؟ فقال: ما هي إلا من البدن) (1)
وثبت في مسلم عن جابر قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة) (2)
وليس كل بقرة أو بعير أو شاة تجزئ، وسيأتي شروط ما يهدى ويضحى ونحوه.
والحمد لله رب العالمين.
باب: جزاء الصيد
تقدم في درس سابق ذكر بعض مسائل الصيد، وما فيه من الجزاء.
وهنا مسألة: - تقدم ذكرها – إذا أشار المحرم أو دل على صيد فهل عليه الجزاء مع ثبوت الإثم أم لا يثبت إلا الإثم؟
في هذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: أن يدل المحرم حلالاً.
الصورة الثانية: أن يدل المحرم أو يشير إلى محرم مثله.
* أما الصورة الأولى: وهي ما إذا دل المحرم حلالاً على صيد فصاده المحل:
1- قال الحنابلة: عليه مع الإثم الجزاء فيجب عليه الجزاء – أي على الدال المحرم -.
__________
(1) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67] .
(2) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67](11/121)
قالوا: لأنه قد حرم عليه أن يأكل منه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ فقالوا: لا قال: فكلوا مما بقي من لحمه) (1)
قالوا: فيترتب على تحريم الأكل وجوب الجزاء.
وهذا ليس بظاهر، فإنه لا يظهر بترتب الجزاء على تحريم الأكل، فإنه من صيد لأجله يحرم عليه الأكل ولا يترتب على ذلك جزاء اتفاقاً ما لم يكن منه دلالة أو إشارة.
قالوا: ولنا دليل آخر، وهو أن الضمان لا يجب على المُحِل وهو المباشر للصيد، فلا يجب عليه الضمان لأنه محل، والضمان إنما يجب على المحرم، ومن باشر الصيد محل فينتقل الضمان إلى المتسبب وهو هذا المحرم الذي دل أو أشار.
وهذه قاعدة سيأتي ذكرها في الكلام على الحدود، وهي: أن الضمان يجب على المتسبب إن لم يمكن أن يكون على المباشر.
كأن يرمي رجل رجلاً عند أسد فيأكله، فإن الضمان لا يمكن أن يكون على المباشر فحينئذٍ يلزم المتسبب، وهذه قاعدة.
قالوا: فهنا كذلك.
هذا هو مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
2- وقال الشافعية: لا يجب عليه الجزاء بل عليه الإثم فحسب.
قالوا: لأن الله عز وجل إنما رتب الجزاء على قتل الصيد والصيد لم يقتل، لأن فِعل المحل للصيد ليس بقتل للصيد، فقد صاده من غير أن يكون ذلك قتلاً، فهو صيد صحيح، ولذا يجوز للمحل أن يأكله فهو ليس بمقتول، فهو صيد حينئذٍ.
وهذا القول أظهر، لأن القاعدة المتقدم ذكرها وإن كانت صحيحة وهي وجوب الضمان على المتسبب إن لم يمكن وجوبه على المباشر فهنا نقول: أصل الضمان لا يترتب، لأن الضمان إنما يترتب على قتل الصيد والصيد لم يقتل وإنما ذبح ذبحاً صحيحاً شرعياً.
والقتل إنما هو حيث كان على هيئة غير شرعية، والمحل إذا دله المحرم على صيد فصاده فهو حلال للمحل حرام على المحرم فدل على أنه غير مقتول، وهذا القول هو الأرجح.
__________
(1) سبق برقم 111.(11/122)
* أما الصورة الثانية: وهي فيما إذا دل المحرم محرماً مثله على صيد فقتله:
1- قال الحنابلة: يشتركان في الجزاء أي المتسبب والمباشر.
قالوا: لأن كليهما قد فعل المحظور، فهذا قد فعل المحظور بالقتل وهذا قد فعل المحظور بالإشارة والدلالة.
2- وقال المالكية والشافعية: يجب الجزاء على المحرم الذي قتله مباشرة وأما المتسبب فعليه الإثم فحسب.
وهذا هو الراجح، لأن الضمان يجب على المباشر ولا يجب على المتسبب إلا إذا لم تمكن إضافته إلى المباشر فإنه حينئذٍ يضاف إلى المتسبب وهنا يمكننا أن نضيفه إلى المباشر فيغلب جانب المباشر على المتسبب.
قال تعالى في كتابه الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم}
* جمهور أهل العلم على أن المثلية في الصورة والخلقة، فمن صاد صيداً فعليه مثله صورة وخلقة من النعم وهي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وهذا تقريب لا تحقيق، فهو تقريب؛ لأن التحقيق متعذر، فالمسألة مسألة تقريبية.
وفي قوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} هل يشترط في الهدي الذي هو من جزاء الصيد، هل يشترط فيه ما يشترط في الهدي الذي هو واجب على المتمتع من السن ونحو ذلك من الشروط؟
آثار الصحابة تدل على خلاف هذا، فقد فرضوا العناق والجفرة ونحوها وهي لا تجزئ في الهدي ولا في الأضحية، هذا الذي يدل عليه إجماع الصحابة.
فهو في حكم الهدي في كونه يكون لمساكين الحرم، ولا يشترط ما يشترط في الهدي من السن ونحوها.
وقد قال تعالى قبل ذلك: {يحكم به ذوا عدل منكم}
لا خلاف بين أهل العلم أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فإنه يجب العمل به.
كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن في الضبع كبشاً) (1) كما ثبت هذا في أبي داود وغيره والحديث صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع، رقم 3801. الإرواء 1050، 1051.(11/123)
وجمهور أهل العلم على أن ما حكم به الصحابة كذلك، وهذا راجع إلى الاحتجاج بآثارهم هذا ما لم يعلم لهم مخالف.
أما إذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه جزاء في ذلك فإنه يحكم به ذوا عدل من أهل المعرفة والخبرة، فيحكم من أهل العدالة اثنان لهم معرفة وخبرة وفطنة في باب التماثل بين الصيد وبين جزائه من النعم.
ولا يشترط أن يكونا علماء بل يكفي كونهم عدولاً ثقات لهم خبرة وعلم بذلك، هكذا طريقة الحكم.
وإن لم يكن للصيد ما يماثله كبعض الطير والجراد فإنه يقوَّم ويشترى بقيمته طعاماً ويهدى إلى مساكين الحرم – كما هو مذهب الحنابلة،ومذهب الجمهور أن الإطعام لأهل الحرم وغيرهم، وقد تقدم البحث في ذلك – أو يصوم عدل ذلك.
قال: باب جزاء الصيد
قال (في النعامة بدنة)
النعامة: طير معروف وهي تشبه البعير إلى حد كبير في هيئته وحجمه ففيها بدنة وهي البعير.
قضى بذلك عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية كما في سنن البيهقي. والمراد بالبدنة هنا: الإبل.
قال: (وحمار الوحش وبقرته والأيَّل والتيتل والوعل بقرة)
هذه كلها من الأوعال وهي ما يسمى عندنا بـ تيس الجبل، أو " الْبِدَن " فهذه فيه بقرة. قضى بذلك ابن عباس كما في سنن البيهقي (1) .
قال: (والضبع كبش)
كما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في سن أبي داود (2) .
قال: (والغزالة عنز)
حكم بذلك عمر كما في موطأ مالك والبيهقي بإسناد صحيح أنه قضى في الغزالة بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة. (3)
والجفرة: ما له أربعة أشهر من أولاد المعز.
والعناق: أكبر من ذلك يصل إلى ستة أشهر إلى دون الحول وهي أنثى المعز.
ففي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة.
__________
(1) الإرواء 1049.
(2) في كتاب الأطعمة كما سبق.
(3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 941، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش. وانظر الإرواء 1052، 1053، 1054.(11/124)
قال: (والوبر والضب جدي)
الضب: قضى به عمر كما في البيهقي.
والجدي: ما له ستة أشهر من ذكر المعز.
فالضب فيه جدي.
قالوا: ويقاس عليه الوبر، أما الأثر فهو وارد في الضب.
قال: (واليربوع جفرة)
اليربوع معروف: وهو ما نبدل ياءه جيماً (الجربوع) هذا فيه جفرة وهي ما له أربعة أشهر من أولاد المعز وقد تقدم أثر عمر الدال على ذلك.
قال: (والأرنب عناق)
لأثر عمر المتقدم.
قال: (والحمامة شاة)
هذا ما قضى به ابن عباس فيما رواه البيهقي ابن عباس: (جعل في حمام الحرم على المحرم والحلال في كل حمامة شاة) (1)
ولكن المماثلة بينهما التي ذكرها أهل العلم فيها شيء من الغرابة قالوا: الحمامة تعُبَّ الماء كما تَعَبُّه الشاة.
فالحمامة إذا شربت الماء فإنها تضع منقارها في الماء ثم تمصه مصاً كما تفعل الشاة، بخلاف غيرها من الطيور فإنه يأخذ القطرة ثم يرفع رأسه حتى تنزل ثم يعيده مرة أخرى وهكذا.
لكن هذه المماثلة – فيما يظهر لي – لا يترتب عليها مثل هذا الحكم وهو باب المماثلة.
لكن يشكل علينا قضاء ابن عباس رضي الله عنه فإنه قد قضى بذلك ولا يعلم له مخالف، لكن ذهب الإمام مالك إلى تفصيل في هذه المسألة فقال: هذا خاصٌ في حمام الحرم، وأما غيره مما يصيده المحرم من الحمام في غير الحرم فإن فيه الثمن أي القيمة.
ويعضد ذلك: ما ورد عن ابن عباس في البيهقي في بعض الروايات عنه والسند صحيح قال: (وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه إذا صاده المحرم)
فظاهر ذلك أن كلامه المتقدم خاص بحمام الحرم، وأما غيره من الحمام فإنه لا يلحقه هذا الحكم.
وهذا قوي لأن المماثلة بين الشاة والحمامة بعيدة جداً، لكن كونها تجب في حمام الحرم قويٌ لعظم الخطأ فتعظم العقوبة فلعل ذلك من ابن عباس من هذا الباب.
__________
(1) الإرواء 1056.(11/125)
فالذي يظهر لي ما ذهب إليه المالكية من التفصيل: أما حمام الحرم فيجب فيه شاة كما قضى بذلك ابن عباس تغليظاً لهذا الفعل، وأما غيره من الحمام فإن صاده المحرم فلا يجب فيه إلا القيمة فيشترى بقيمته طعام ويهدى إلى مساكين الحرم، وتقدم.
مسألة:
رجل وجبت عليه شاة فأهدى بدنة، فإن ذلك يجزئه لأنه فعل ما يجب وزيادة، فمن تطوع خيراً فهو خير له.
مسألة:
الظاهر أنه يجوز نقل الهدي ونحوه عن مساكين الحرم إذا كانوا مكتفين.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صيد الحرم
أي الحرم المكي: ويتبعه المؤلف أيضاً بذكر حكم صيد الحرم المدني.
قال: (يحرم صيده على المحرم والحلال)
يحرم صيد الحرم وهذا بالإجماع، فلا يجوز للمسلم - أن يصيد بالإجماع - أن يصيد صيد الحرم محلاً كان أو محرماً.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تُلتقط لقطته إلا لمن عرَّفها ولا يختلى خلاها " وهو العشب الأخضر الرطب " فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم " لقينهم " أي لصانعهم، يوقد به النار لصنعته " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا الإذخر) (1) وهو عشب معروف هناك.
فهذا الحديث وغيره يدل على تحريم مكة – وهذا بإجماع العلماء وأن صيدها حرام على المحل والمحرم.
قال: (وحكم صيده كصيد المحرم)
فحكم صيد الحرم كحكم صيد المحرم، وقد تقدم البحث في مسألة صيد المحرم في تحريم ذلك وأنه يثبت فيه الجزاء قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ... } فعلى ذلك كل ما يثبت من الجزاء فيما تقدم البحث فيه من وجوب المثلية أو القيمة أو الإطعام والصيام كل ذلك ثابت في صيد الحرم للمحرم والمحل، وهذا باتفاق العلماء.
ويدل على ذلك الأثر والقياس:
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 401،..] ومسلم [4 / 109] . الإرواء رقم 1057.(11/126)
أما الأثر: فهو ما تقدم عن ابن عباس من إيجابه في حمام الحرم شاة على المحرم والمحل، وهو في البيهقي بإسناد صحيح.
وأما النظر: فهو قياس صيد الحرم على صيد المحرم بجامع أن الصيد ممنوع لحق الله فيهما. فالصيد ممنوع لحق الله تعالى على المحرم، وممنوع لحق الله أيضاً عليه وعلى المحل في صيد الحرم.
فقد اتفق أهل العلم على ثبوت الجزاء في صيد الحرم على التفصيل المتقدم في النعامة بدنة وفي الضبع كبش ... وهكذا.
وفي قوله: (وحكم صيده كصيد المحرم)
ظاهره أن الصيد المائي في الحرم جائز، كأن يكون في العيون أو المياه التي في الحرم – أن يكون فيها- شيء من صيد الحرم، فظاهر كلام المؤلف جواز اصطياده وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا من باب القياس فكما أن المحرم لا يحرم عليه صيد البحر فكذلك هو والمحل في الحرم.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: وهي أصح: أن صيد البحر محرَّم في الحرم أي الصيد المائي في العيون ونحوها.
وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) و" صيد " جمع مضاف فيفيد العموم أي كل صيدها، فيدخل في ذلك الصيد المائي.
وقياسهم قياس مع الفارق: فإن المحل يجوز له أن يقطع الشجر ويحش الحشيش وأما في الحرم فلا يجوز له ذلك فثبت بينهما الفارق.
والقياس مع الفارق غير صحيح.
إذاً: أصح قولي العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الصيد المائي لا يجوز صيده في الحرم المكي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) .
قال: (ويحرم قطع شجره وحشيشه الأخضرين إلا الإذخر)
يحرم قطع شجر الحرم – أي شجره النابت فيه بغير فعل من الآدميين كالشجر البري، فما ينبت فيه من الشجر البري وليس من صنع الآدميين لا يجوز بالإجماع أن يعضد ولا أن يحش الحشيش الأخضر وذلك للحديث المتقدم في قوله: (ولا يعضد شوكها) .
فالشوك مع ما فيه من الأذى لا يجوز أن يعضد فالشجر أولى من ذلك وهذا باتفاق العلماء.(11/127)
وكذلك الحشيش وهو العشب الأخضر النابت في الحرم مما هو ليس من صنع الآدميين لا يجوز للمحرم أو المحل أن يحتسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يختلى خلاها) والخلا هو العشب.
وهنا قال: (الأخضرين) فيخرج من ذلك اليابسان فيجوز أن تقطع الشجرة اليابسة التي لا حياة فيها، وأن يحتش الحشيش اليابس الذي لا حياة فيه لأنه ميت فلا قيمة له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يختلى خلاها) والخلا إنما هو الرطب لا اليابس فلا بأس بقطعه ما كان يابساً.
ويجوز بلا خلاف بين العلماء أن ينتفع بما يكون من الأغصان الساقطة أو الحشيش المقطوع في الأرض وإن كان رطباً ما دام مقطوعاً لأنه انتفاع بلا قطع، والنهي إنما هو عن قطعه.
ولا بأس أيضاً أن يؤخذ ما يكون من احتياجات الناس من النباتات الطبيعية كالسنا أو المساويك أو غير ذلك لا حرج في ذلك لأن الحاجة ثابتة إليه فلا حرج فيه كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر فقد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس إليه ويقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النباتات الطبيعية وما يحتاج إليه الناس من النبات أو الشجر الذي يقوم به حاجاتهم. والظاهر أن مرادهم بالحاجة ما يلحق الحرج بتركه، فهذا ضابط الحاجة.
قال: " إلا الإذخر ": وقد تقدم دليل ذلك في المتفق عليه من قول العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: " إلا الإذخر " وتقدم أنه يقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النبات الطبي كالسنا وما يحتاج إليه الناس من السواك ونحوه.
واعلم أن الكمْأة: تستثنى من ذلك لأنها ثمرة، ولأنه لا أصل لها في الأرض كالنبات من عشب أو شجر، فعلى ذلك يجوز أخذ الكمأ.
واختلف أهل العلم في رعيه، فهل يجوز له أن يطلق غنمه أو إبله ترعى في الحرم أم لا؟
قولان لأهل العلم:(11/128)
أصحهما جوازه: وذلك لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأرسلت الأتان ترتع) (1) وكان ذلك في منى، ومنى من الحرم؛ ولأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأتون بالهدايا من إبل وبقر وغنم فلم يكونوا يربطون أفواهها أن تأكل من حرم الله عز وجل، ولو كان هذا ثابتاً لنقل إلينا.
ولأن الحاجة إليه – أي للرعي – شبيهة بالحاجة إلى الإذخر بل أعظم فعلى ذلك الرعي جائز، لكن لا يجوز له أن يحتش لها بل يطلقها ترعى في الحرم.
هل في قطع شجر الحرم واحتشاش حشيشته هل فيه الجزاء؟
قال جمهور الفقهاء: فيه الجزاء.
ا) قال الحنابلة والشافعية: الدوحة " وهي الشجرة الكبيرة " فيها بقرة، والشجرة الصغيرة فيه شاة، وما دون ذلك فإنه يقوّم، كالحشيش فإنه بقيمته.
واستدلوا: بأثر ابن عباس أنه قال: (في الدوحة بقرة، وفي الجزْلة " وهي الشجرة الصغيرة " شاة)
وهذا الأثر قال الألباني في إرواء الغليل (2) : " لم أقف عليه " وهو كما قال، وقد نظرت باحثاً عن هذا الأثر فلم أجده وإلا لو صح لقلنا به فإنه أثر صحابي لا يعلم له مخالف.
فعلى ذلك العمل به متوقف على تصحيحه، وتصحيحه متوقف على النظر في سنده، ولم يعزه الحنابلة إلى كتاب من الكتب المشهورة فينظر فيه كما تقدم.
ب) وقال الأحناف: جزاؤه قيمته، فيقوم ثم يتصدق بقيمته.
ودليل الجمهور على ثبوت الجزاء فيه: القياس على الصيد.
قالوا: كما أن الصيد يجب فيه الجزاء فكذلك قطع الشجر واحتشاش الحشيش يجب فيه الجزاء؛ بجامع أن كليهما مما يمنع في الحرم.
__________
(1) أخرجه البخاري باب سترة الإمام سترة لمن خلفه،من كتاب الصلاة، رقم 493، ومسلم باب سترة المصلي من كتاب الصلاة، صحيح مسلم بشرح النووي [4 / 221] .
(2) الإرواء رقم 1060.(11/129)
2- وذهب المالكية واختار ذلك ابن المنذر إلى أنه لا جزاء فيه وذلك لأن الضمان يحتاج إلى دليل ولا دليل يدل عليه، والأصل براءة ذمة المكلف من أن يلحق به غرامة مالية.
والأظهر ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الضمان قياساً على الصيد بجامع أن كليهما ممنوع في الحرم، ولما سيأتي في الكلام على شجر الحرم المدني من ثبوت السلب فيه، فأولى من ذلك أن يثبت في حرم مكة الجزاء.
والأصح من قولي الجمهور: ما ذهب إليه الأحناف من وجوب القيمة فيقوم ما قطع أو احتش.
* واعلم أن القطع الذي يترتب عليه الجزاء إنما هو القطع المتلف، وأما إن قطعه ثم نقله إلى موضع آخر فلم يتلف الشجر فإنه لا يترتب عليه الجزاء حينئذٍ.
ولا يجوز له أن ينقله إلى خارج الحرم لأن ذلك مظنة لإتلافه.
واعلم أن الأغصان تلحق الأصل فلو أن شجرة في طرق الحرم جذرها، وأغصانها تخرج إلى الحل فإنه لا يجوز أن يقطع شيء من أغصانها لأنها تبع لأصلها وأصلها في الحرم (1) .
قال: (ويحرم صيد المدينة)
صيد المدينة يحرم لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور) (2)
وفي مسلم: (لا يقطع عِضاها " وهو الشجر ذو الشوك " ولا يصاد صيدها) (3)
وفي مسند أحمد وأبي داود وتمامه لأحمد: والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا يقطع فيها شجرة إلا أن يَعْلِف رجل بعيره) (4)
__________
(1) قال في المغني [5 / 189] : " وإن كانت في الحل وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان.. ".
(2) أخرجه البخاري ومسلم، الإرواء 1058.
(3) مسلم وأبو نعيم وأحمد، الإرواء 1058 [4 / 251] .
(4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي كما في الإرواء [4 / 251] .(11/130)
فالمدينة يحرم صيدها فلا ينفر فضلاً عن أن يقتل، وكذلك حشيشه كل ذلك محرم على التفصيل المتقدم في الكلام على حرم مكة من أن ذلك إنما هو في الأخضر الرطب لا في اليابس الميت، وأن ذلك فيما لم يكن للآدمي فيه فعل بخلاف ما يكون للآدمي فيه فعل فإنه جائز.
قال: (ولا جزاء)
فمن فعل بأن صاد صيداً أو احتش حشيشاً أو قطع شجرة في حرم المدينة فإنه لا جزاء عليه.
قالوا: لأن ثبوت التحريم لا يستلزم ثبوت الجزاء فالأصل براءة الذمة من أن يلحقها شيء من الغرامة المالية، فهو محرم ولا يجب عليه الجزاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولما ذكر حرمها قال: (فمن آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولم يذكر جزاءً وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، هذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم.
وعن الإمام أحمد: أن من وجد فاعلاً لذلك فله سلبه، أي فله أن يأخذ ثيابه وما معه من متاع وما معه من آلة صيد وما على يديه من خاتم وساعة ونحو ذلك ولا يبقي عليه إلا ما يستر به عورته وهذا هو الثابت في السنة الصحيحة.(11/131)
فقد ثبت في مسلم أن سعد بن أبي وقاص: (ذهب إلى البقيع فرأى غلاماً يقطع من شجر الحرم فأخذ سلبه، فأتى أهل الغلام يسألونه سلب غلامهم فقال: والله لا أعطيكم شيئاً نفلنيه النبي صلى الله عليه وسلم) (1) وهو أيضاً في أبي داود بلفظ: (إن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن شجر المدينة وقال: من قطع منه شيئاً فلمن وجده سلبه) (2)
إذاً: لا جزاء عليه لكن لمن وجده حاكماً أو محكوماً له سلبه وإنما المحكوم حيث لم يترتب على ذلك مفسدة أما إذا ترتب مفسدة فلا. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الراجح من أقوال العلماء.
لكن إن لم يؤخذ منه سلبٌ فلا جزاء عليه وعليه الاستغفار والتوبة.
قال: (ويباح الحشيش للعلف وآلة الحرث ونحوه)
فيباح الحشيش للعلف بأن يحتشه ليعلف دوابه.
إذن: يفارق حرم مكة بجواز احتشاش العلف للبهائم.
ودليل ذلك: ما تقدم في مسند أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يقطع من شجره إلا أن يعلف رجل بعيره) (3)
قال: " وآلة الحرث ونحوه " فيجوز أن يقطع من الشجر ما يستخرج منه الخشب لآلة الحرث التي يحرث بها وهي تحتاج إلى أخشاب كالرحل وغيره.
__________
(1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة.. من كتاب الحج، ولفظه: " أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً أو يَخْبِطُه، فسلبه، فلما رجع سعدٌ جاءه أهل العبد،فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم،فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى أن يرد عليهم " صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 138] .
(2) أخرجه أبو داود باب في تحريم المدينة من كتاب الحج رقم 2038 باللفظ المذكور وهو (من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه) ، ورقم 2037 بلفظ (من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه) .
(3) سبق قريباً.(11/132)
واستدلوا: بما ذكره صاحب المغني وغيره أن الإمام أحمد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما حرَّم المدينة قالوا: يا رسول الله: إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وليس لنا أرضاً سواها فرخص لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القائمتان) وهي مقدمة الرحل ومؤخرته، أي ما يوضع على الناقة مما يتكئ عليه في مؤخرته، وما يستمسك به في مقدمته، (والوسادة والعارضة والمَسَدَّ) (1) والوسادة والمسد خشب يوضع في البكرة التي يستسقى بها الماء " والعارضة: خشب يوضع سقفاً للمحمل " وما سوى ذلك فلا يعضد ولا يؤخذ منه حطباً.
والحديث ذكره صاحب المغني – كما تقدم – ناسباً إياه إلى الإمام أحمد ولم أجده في المسند، وهكذا قال المعلق على كتاب المغني أنه لم يجده في المسند والاحتجاج به متوقف على النظر إلى إسناده ولعله في شيء من كتب الإمام أحمد سوى المسند.
لكن حاجة الناس من أهل المدينة ثابتة لذلك، فإن حاجتهم إلى ذلك أعظم من حاجة أهل مكة لاحتياجهم إلى الحرم بخلاف أهل مكة فإن الأمر يتسع لهم أعظم من أهل المدينة فيما سوى الحرم. ولأن حرم المدينة مخفف عن حرم مكة كما تقدم من أنه لا جزاء في صيد صيده ولا في احتشاش حشيشه ولا قطع شجره إلا ما ورد من السلب وهو ليس من باب الجزاء على الإطلاق، وإنما قد يقع له، فإن لم يقع فلا جزاء، فلا شك أن حرم المدينة أخف من حرم مكة.
فعلى ذلك: إن احتاجوا إلى شيء من الأخشاب أو الحشيش ونحو ذلك فذلك جائز لهم.
قال: (وحرمها ما بين عَيْر إلى ثور)
__________
(1) المغني [5 / 193] .(11/133)
عير: جبل في جهة الميقات، وأما ثور: فهو جبل خلف جبل أحد من جهة الشمال، فهذا " أي ثور " من جهة الشمال، وعير من جهة الجنوب وبينهما نحو أربعة فراسخ وهي تساوي اثنا عشر ميلاً أي نحو عشرين كيلو متراً أو نحو ذلك. هذا من جهة الشمال والجنوب. وأما من جهة الشرق والغرب: فالحرتان، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أنس: (إني أحرم ما بين لابتيها) (1) واللابتان هما الحرتان.
فما بين الحرتين من جهة الشرق والغرب، وما بين جبل عير وثور من جهة الشمال والجنوب هذا هو حرم المدينة.
فعليه حرم المدينة بريدٌ في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ أي اثنا عشر ميلاً في اثني عشر ميلاً.
وأما حرم مكة فهو ظاهر فالأميال موضحة له ومبينة.
مسألة:
هل يجوز أخذ سلب الجاهل؟
الجاهل إن صاد الصيد وهو محرم في الحرم فإنه لا جزاء عليه لجهله لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً …ليذوق وبال أمره} فدل على أنه عالم بالحكم فأولى من ذلك هنا، فلا يجوز سلبه.
مسألة:
حديث: (يا أبا عمير ما فعل النغير) (2)
هذا دليل يعارض الحديث المتقدم فإن ظاهره جواز الصيد في الحرم؟
الجواب عن هذا: أن يقال: يحتمل أن يكون هذا قبل الحكم، فعندنا أحاديث ظاهرة ومحكمة في تحريم صيده فلا نتركها لمثل هذا المحتمل، ويحتمل أن يكون ممسكاً خارج الحرم ومحبوساً في الحرم، وهو جائز عند الحنابلة أن يمسك الصيد في الحل ثم يحبس في الحرم فهو جائز وقد تكون حاجة الناس إلى ذلك، فيجوز ذلك لأنه ليس مصيداً في الحرم.
__________
(1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 140] .
(2) أخرجه البخاري باب الانبساط إلى الناس.. وباب الكنية للصبي.. من كتاب الأدب، ومسلم باب استحباب تحنيك المولود من كتاب الآداب، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، المغني [5 / 194] .(11/134)
وجعل الحنابلة هذا فارقاً بين صيد الحرم المدني وصيد الحرم المكي، وأن صيد الحرم المكي يجب أن يترك وإن صيد في الحل، فمن دخل الحرم ومعه صيد فيجب أن يفلته.
والظاهر أن هذه المسألة كتلك؛ لأنه لا فارق بين المسألتين لأن النهي إنما هو عن صيد الحرم نفسه وهذا ليس صيد الحرم وثبوت الإمساك فيه ليس بصيد ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
فعلى ذلك هذه القصة دليل على ما ذهب إليه الحنابلة من أن إمساكه في الحرم وقد صيد في الحل هذا جائز فيه.
ويحتمل ما تقدم وأنه قبل التحريم فإن هذا الطفل قد صيد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر هذا أنس بن مالك.
مسألة:
ثبت لنا أن المحرم لابد وأن يتوفر فيه الشروط حتى يثبت عليه الجزاء.
لكن هل هذا في صيد الحرم؟
قال فقهاء الحنابلة: إذا صيد في الحرم فإنه يثبت الضمان مطلقاً وإن كان صائده كافراً أو صغيراً غير مكلف أو غير عاقل؛ والنظر يقتضي ذلك، لأن التحريم ليس بالنظر إلى المكلف وإنما بالنظر إلى حرمة المصيد وحفظه.
فليس هذا بالنظر إلى المكلف كما يكون ذلك في تحريم الصيد على المحرم، فإن الصيد حلال ما دام خارج الحرم لكن حرم على المكلف الذي قد أحرم.أما هذا فهو صيد محرم لمعنى في المكان فهو قد ارتبط بمعنى في المكان خارج عن المكلف فعلى ذلك يجب الضمان مطلقاً وإن كان من صاده صغيراً أو غير مكلف.
وقد ذكر الموفق هذه المسألة ولم يذكر خلافاً بين أهل العلم فيها.
مسألة:
رجل أراد أن يستظل تحت شجرة لها أغصان فاحتاج إلى أن يقطع من أغصانها – وكان ذلك في الحرم – فما الحكم؟
فيه تفصيل: إن كان يلحقه الحرج بترك الاستظلال في هذا المكان فنعم. وإن لم يكن يلحقه حرج فلا.
مسألة:
الثمار في الحرم يجوز قطعها لأن هذا لا يؤثر في أصلها كما تقدم في المساويك ونحوها.
والحمد لله رب العالمين.
باب: دخول مكة(11/135)
هذا الفصل في سياق ما يستحب للمحرم من السنن عند دخول مكة في صفة طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة وحلق رأسه أو تقصيره، فقال المؤلف هنا.
: (يسن من أعلاها)
أي يسن لداخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يدخل من أعلاها وهو الحجون وهو كداء، فيستحب أن يدخل منه سواء كان في طريقه أو لم يكن في طريقه فيسن له أن يعدل إليه.
ويستحب له أن يخرج من أسفلها وهو كدي وهو في سمت شعب الشاميين، ودليل هذه السنة: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها) (1)
وفي الصحيحين عن ابن عمر: قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من كداء " وهو الحجون " ثم خرج من الثنية السفلي " (2) وهو كدي ") .
وظاهر ذلك كما تقدم أنه يستحب له ذلك ولو كان بأعلى مكة أو أسفلها عادلاً جائراً عن طريقه فإنه مستحب له تكلف ذلك.
وقال بعض الشافعية: بل لا يستحب ذلك. وإنما كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاتفاق.
وهذا ضعيف، ولذا نظر فيه النووي فقال راداً على هذا القول: إن الآتي من المدينة ليس في طريقه الحجون " كداء " فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل إلى أعلاها فليس هذا في سمت طريقه فيكون قد فعله على وجه الاتفاق، بل قد عدل عن طريقه وتكلف الدخول من أعلاها.
ثم هذا هو الأصل فيما ينقله الصحابة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون على وجه الاستحباب لا على وجه الاتفاق.
قال: (والمسجد من باب بني شيبة)
__________
(1) أخرجه البخاري باب من أين يخرج من مكة من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية..المغني [5 / 210] .
(2) أخرجه البخاري باب من أين يدخل مكة وباب.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية.. المغني [5 / 210](11/136)
أي يسن دخول المسجد من باب بني شيبة: روى ذلك الطبراني عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل من باب بني شيبة) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرقي به إلى درجة الحسن.
فلذا: يستحب لمن دخل البيت أن يدخله من باب بني شيبة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فينظر فإن كان باب بني شيبة في سمت طريقه أعلى مكة فإنه يقوى أن يكون هذا قد وقع من باب الاتفاق إذ لا مزية لباب بني شيبة على غيره من الأبواب ولا يسن معنى لذلك بخلاف دخوله من أعلاها وأن يأتيها مشرفاً عليها، فإن ذلك أعظم في نفسه، بخلاف الخروج منها فيكون شبيهاً بذهاب الرجل إلى العيد يأتي من طريق ويرجع من طريق آخر.
قال: (فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد)
يستحب عند فقهاء الحنابلة: إذا دخل البيت فرآه أن يرفع يديه وأن يقول ما ورد وهو قوله: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبراً) (2) روى هذا الحديث البيهقي في سننه بإسناد ضعيف معضل. فعلى ذلك: لا يستحب لعدم الدليل الصحيح فيه.
قال الشافعي: " ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أستحبه ولا أكرهه) قال البيهقي: (ولعله لم يعتمد عليه لانقطاعه) فعلى ذلك لا يقال بالاستحباب لضعف الحديث.
لكن صح عن عمر بن الخطاب كما في البيهقي بإسناد جيد: أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام) (3) .
ومعلوم أنه يستحب له ما يستحب للمساجد من تقديم الرجل اليمنى وذكر ما ورد عند الدخول والخروج منه، لأنه مسجد فاستحب له بل هو أولى من غيره باستحباب ذلك.
قال: (ثم يطوف مضطبعاً)
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [5 / 72] ، المغني [5 / 211] .
(2) ترتيب مسند الشافعي [1 / 339] ، المغني [5 / 212] .
(3) ترتيب مسند الشافعي [1 / 338] ، المغني [5 / 121] .(11/137)
صفة الاضطباع: أن يضع وسط رداءه تحت عاتقه الأيمن ويرد طرفيه على عاتقه الأيسر – فحينئذٍ -: ينكشف عاتقه الأيمن، هذا مستحب في طواف القادم وطواف المعتمر.
ودليله: ما ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن يعلى بن أمية قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت مضطبعاً ببرد أخضر) (1) وفيه أنه لا حرج في لبس غير الأبيض في الإحرام وإن كان المستحب هو الأبيض.
وهو مستحب في الطواف خاصة فلا يشرع في بقية المناسك كالسعي بين الصفا والمروة وغيره لأن هذه الصفة صفة غير معتادة، فوردت في الطواف للقادم والمعتمر وقياس غيره عليه لا يصح؛ لأن هذه الصفة غير معتادة ولم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها في طوافه بين الصفا والمروة لذا لما سُئل الإمام أحمد عن ذلك قال: (ما سمعنا) أي ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في سعيه بين الصفا والمروة، والأصل في العبادات التوقف.
فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً أعاد إحرامه إلى هيئته الطبيعية، وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله " أي ثبت " الإسلام ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب الاضطباع في الطواف، وابن ماجه باب الاضطباع، والترمذي باب ما جاء في استلام الحجر. المغني [5 / 216] .
(2) باب في الرمل من كتاب المناسك. المغني [5 / 217] .(11/138)
ففي هذا الأثر: أن مشروعيته – أي الاضطباع – كانت لإظهار قوة المسلمين أمام الكفار وكان ذلك في عمرة القضية في السنة الثامنة للهجرة، وسميت قضية لأنها كانت قضاءً لعمرة الحديبية التي أحصر عنها النبي صلى الله عليه وسلم " فكان الكفار يقولون: يأتيكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب " وكانت يثرب معروفة بالحمى فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهر للكفار جلد المسلمين وقوتهم فأمرهم بالرمل في الأشواط الثلاثة وبالكشف عن المناكب في الطواف كله، فإن في ذلك كله إظهاراً للجلد.
ومع ذلك قال عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك: لأنه لا مانع أن يستحب الشيء لمصلحة ثم يبقى استحبابه بعد ذلك فإن فيه تذكيراً لنعمة الله عز وجل بعد أن كان المسلمون ضعفاء وينظر إليهم الكفار أنهم ضعفاء فاحتاجوا إلى أن يظهروا قوتهم، وكانوا كذلك – بعد أن كانوا – على ضعف، فيتذكر المسلم كذلك ما كان عليه المسلمون من الضعف السابق لقوتهم.
قال: (يبتدئ المعتمر بالطواف للعمرة والقارن والمفرد للقدوم)
هذا هو السنة والمستحب للقادم مكة حاجاً أو معتمراً أن يكون أول شروعه بالاشتغال بالطواف فلا يسبق ذلك اشتغال بشيء من العبادات من قراءة قرآن أو ذكر أو تحية مسجد أو نحو ذلك بل يستحب له أن يتعجل بطوافه بالبيت.
فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (1)
فالمستحب للمعتمرين أن يشرعوا بطواف عمرتهم ومثل ذلك المتمتع الذي أول نسكه العمرة يشرع بطواف عمرته، والقارن والمفرد طوافهم حينئذٍ طواف القدوم فيطوفون بالبيت طواف القدوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً فكان طوافه طواف القدوم.
__________
(1) أخرجه البخاري، ومسلم باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 220] .(11/139)
قال: (فيحاذي الحجر الأسود بكله)
يقف محاذياً للحجر الأسود بكل بدنه وذلك ليستوعب البدن البيت كله – أي حتى يكون البدن قد طاف على البيت كله -.
وحينئذٍ إذا انتهى من الشوط الأول وشرع في الثاني يكون البدن قد طاف على البيت كله. ولا أعلم بين أهل العلم خلافاً في فرضية ذلك، وأن الطواف لا يجزئ إلا بأن يستوعب البيت كله بالطواف.
قال: (ويستلمه)
إذا حاذى الحجر فإنه يستلمه واستلام الحجر مسحه باليد.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) (1)
ففيه مشروعية استلام الحجر الأسود ومشروعية استلام الركن اليماني، فالحجر الأسود والركن اليماني هما الركنان اليمانيان لأنهما من جهة اليمين.
قال: (ويقبله)
لما ثبت في الصحيحين: أن عمر قبَّل الحجر وقال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (2)
فإن استلمه بيده فقبلها فذلك سنة ففي صحيح مسلم: (أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم يقبلها ويقول: ما تركته مذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله) (3) والأفضل هو تقبيل الحجر لأن ذلك مباشرة للتقبيل لكن حيث كان فيه شيء من الزحام أو لتطبيق هذه السنة أحياناً فإنه يقبل يده، ولذا قال:
(فإن شق قبَّل يده)
أي قبل يده بعد الاستلام؛ لأنها يد استلمت فاستحب تقبيله، فانتقل ذلك إلى تقبيلها، فاستحب - لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم – أن تقبل.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الرمل في الحج والعمرة، ومسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف. المغني [5 / 226] .
(2) متفق عليه. البخاري باب تقبيل الحجر رقم 1610. ومسلم باب استحباب تقبيل الحجر … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 16، 17]
(3) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 15] .(11/140)
قال: (فإن شق اللمس أشار إليه)
فإن شق استلامه بيده فإنه يشير إليه، فقد ثبت في البخاري عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير فكان كلما مرَّ على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبَّر) (1)
ولا يستحب تقبيل هذا الشيء من يد مشيرة أو عصا قد أشير به لأنه لم يمس الحجر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبله، لأنه لم يباشر اللمس وإنما أشير به فحسب.
فإذن: إن شق فإنه يشير بيده أو بعصا ونحوه ولا يقبل ذلك لأنه لم يرد، ويكبَّر " يقول: الله أكبر ".
ويستحب له أن يستلمه بشيء كأن يكون على بعير أو يكون هناك بعدٌ عن الحرم أو زحام ويمكنه أن يمد إليه شيء فإنه يُمس هذا العصا ونحوه الحجر ويقبله.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على بعير فكان يستلم الحجر بمِحْجن " (2) وهو العصا المعكوف.
ونحوه في مسلم من حديث أبي الطفيل وفيه: (ويقبل المحجن) فهذه من الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من تقبيل مباشر أو استلام باليد أو استلام بعصا ونحوه وتقبيله، كل ذلك ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.
وثبت عن عمر: أنه كان يلتزمه ففي مسلم: (أنه – رضي الله عنه – قبَّله ثم التزمه وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كان بك حفياً " (3) أي معتنياً ")
__________
(1) أخرجه البخاري باب من أشار إلى الركن.. باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج، وفي كتاب الطلاق، كما أخرجه الترمذي وغيره، المغني [5 / 214] .
(2) أخرجه البخاري باب استلام الركن بالمحجن رقم 1607، ومسلم باب جواز الطواف على بعير وغيره من كتاب الحج.
(3) باب استحباب تقبيل الحجر.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 17] .(11/141)
وإن سجد عليه فحسن فقد صح عن ابن عباس كما في البيهقي: (أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه) (1)
فهاتان الصفتان ثابتتان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
قال: (ويقول: ما ورد)
وقد تقدم ورود التكبير في حديث ابن عباس: (أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبَّر) (2) أي يقول: " الله أكبر "
وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبله ببدنه فالاستقبال بالبدن لا أصل له ولو كان ثابتاً لنقل، بل كان يشير إليه وهو ماشي.
ووردت التسمية عن ابن عمر، ففي المسند بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر)
قالوا: ويستحب له أن يقول: (اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البيهقي من حديث عبد الله بن السائب والحديث إسناده ضعيف فلا يحتج به.
فإذن: الوارد عند الإشارة أو الاستلام قول: " بسم الله والله أكبر "
أما الركن اليماني فلا يستحب فيه إلا الاستلام، فلا يستحب فيه تقبيل اليد ولا تقبيله مباشرة ولا يستحب أن يقول: " بسم الله والله أكبر " لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه.
ويستحب له بين الركنين أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (3) كما ثبت ذلك في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول بين الركنين:: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
__________
(1) البيهقي باب استلام الركن اليماني بيده من كتاب الحج.. المغني [5 / 226] . الإرواء رقم 1112.
(2) أخرجه البخاري باب التكبير عند الركن من كتاب الحج، رقم 1613.
(3) أخرجه أبو داود باب الدعاء في الطواف من كتاب المناسك رقم 1892.(11/142)
ويشتغل في الطواف بما أحب من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن أو صمت أو نحو ذلك، يشتغل بما أحب من التعبد لله بالعبادات القولية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نوع معين من الدعاء خاصٌ بالطواف أو بشيء من مواضعه سوى ما تقدم من قوله بين الركنين.
قال: (ويجعل البيت عن يساره)
وهذا بإجماع العلماء ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) (1) ولا يصح الطواف إلا به.
قال: (ويطوف سبعاً)
لا يجزئه خمساً ولا ستاً، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم)
قال: (يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً)
الآفاقي: وهو غير المكي – القادم من الأماكن البعيدة – سوى أهل مكة فالآفاقي يستحب له الرمل في الطواف.
والرمل: هو إسراع المشي مع تقارب في الخطا بلا وثب، فلا يستحب له الوثب، والوثب لا أصل له، بل الرمل مشي سريع مع تقارب في الخطا هكذا عرَّفه الموفق وابن مفلح والنووي وغيرهم من أهل العلم وهو المعروف في لغة العرب.
والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة الأولى كلها إن كان آفاقياً، أما أهل مكة فلا يستحب لهم ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه للقادمين فلا يلحق بهم غيرهم.
وهو مستحب في طواف العمرة وطواف القدوم فلا يستحب في طواف الإفاضة ولا في غيرها مما يطوفه الحاج، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لم يرمُل النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه الذي أفاض فيه) (2) أي في طواف الإفاضة.
والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة دون الأربعة الأخيرة، لما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (رمَل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثم مشى أربعاً) (3)
__________
(1) سبق ص38
(2) أخرجه أبو داود باب الإفاضة في الحج رقم 2001.
(3) أخرجه مسلم باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 9] .(11/143)
فإن قيل فما الجواب عما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين) (1)
فالجواب عن هذا: أن يقال: هو في عمرة القضية، وأما حديث ابن عباس فهو في حجة الوداع. فحديث ابن عباس هو [آخر] الأمرين عنه صلى الله عليه وسلم.
فإن فاته الرمل في الشوط الأول فعله في الثاني والثالث، وإن فاته في الأول والثاني فعله في الثالث، وإن فاته في الثلاثة لم يفعله في الأشواط الباقية لأنها سنة فات محلها فهي مشروعة عند ابتداء الطواف في الأشواط الثلاثة فإن فاتته فلا يشرع له أن يفعلها في الرابع والخامس.. .
قال: (يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة)
هذا جواب عن سؤال وهو أن يقال: هل استلام الحجر إنما يستحب في الشوط الأول أم هو مستحب في الأشواط كلها وكذا استلام الركن اليماني؟
فأجاب بقوله: أنه يستحب في كل مرة أي في الأشواط السبعة كلها.
ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوافه) (2) لكن لا يستلمه عند نهاية الشوط السابع لأنه ينتهي الطواف بوصوله إلى الحجر الأسود.
مسألة:
في الرمل تستثنى المرأة فلا يشرع لها ذلك لما فيه من منافاة لسترها وكذلك في الإسراع في المسعى بين العلمين الأخضرين لما فيه من منافاة سترها.
ورد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (إنك رجل قوي فلا تؤذِ الضعفة أشر إليه وكبر) روى في المسند ورأيت فيه شيئاً من الجهالة لكن المعاني الشرعية تدل على ذلك فإن فيه أذية للضعيف.
__________
(1) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 13] والبخاري باب كيف كان بدء الرمل من كتاب الحج رقم 1602.
(2) أخرجه النسائي في باب استلام الركنين في كل طواف من كتاب المناسك رقم 2947.(11/144)
ولا سيما إذا كان فيه اختلاط نساء فإن الفضيلة تكون للإشارة حيث كان فيه مشقة.
* ظاهر قول عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (1)
فظاهر ذلك أنه قد خفي عليه رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف في حجة الوداع وإن كان الظاهر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون خفي عليه فاجتهد رأيه فأصاب.
قاعدة:
الرمل والاضطباع خاص للآفاقيين في طواف العمرة والقدوم فقط.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك شيئاً من الطواف … لم يصح)
" شيئاً " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم فإن ترك طوافاً أو بعضه.
فإن ترك شيئاً من الطواف ولو كان يسيراً، كأن ينصرف من الطواف قبل خطوات يسيرة من وصوله إلى الحجر الأسود فإن طوافه لا يصح ولا يجزئه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد طاف بالبيت سبعاً وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وما كان من الفعل هكذا فإنه له حكم ما بينه أي حكم المجمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) فلا يجزئه إلا أن يطوف بالبيت أسبوعاً – أي سبعاً.
قال: (أو لم ينوه)
طاف بلا نية فإنه لا يجزئه ذلك لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة تشترط فيها النية فكذلك الطواف – هذا مذهب الحنابلة –.
واعلم أن الطواف الخارج عن الحج والعمرة وهو طواف التطوع يشترط فيه نية لأن هذا الطواف عبادة والعبادات شرطها النية وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) – ولا نزاع في هذا بين أهل العلم وإنما النزاع بين أهل العلم في شرطية النية لطواف الحج والعمرة سواء كان طواف إفاضة أو طواف قدوم أو طواف عمرة أو طواف وداع، هل يشترط فيه النية أم لا؟ أي هل يشترط له فيه خاصة أم يكتفي فيه بنية الحج العامة؟
__________
(1) سبق ص84(11/145)
قال الحنابلة: أنها شرط، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) .
وذهب الشافعية إلى أن النية ليست بشرط، لكن يشترط ألا ينوي غير نسكه. فإن نوى غير النسك لم يجزئه ذلك كأن يطوف حول البيت بقصد البحث عن أحد من الناس أو نحو ذلك فإنه هنا قد نوى البحث عن هذا الشخص بغير نية للطواف أصلاً أو نية منافية للطواف.
واستدلوا: بأن الحج كالصلاة فكما أن الصلاة تكفي نيتها لركوعها وسجودها وقيامها وقعودها فلا يشترط أن يجدد نية لكل ركن من أركانها، فكذلك الحج يكتفي بنيته أي بنية الحج - وهو الدخول في النسك تكفي - عن الطواف والوقوف بعرفة والسعي ونحو ذلك من المناسك.
وهذا القول هو الراجح وهو مذهب أكثر العلماء فكما أن الصلاة تكفي نيتها عن نية أفعالها التي أجزاء منها فكذلك الحج فإن نيته وهي نية الدخول في الإحرام تكفي عن أفعال الحج.
وبدليل أن أهل العلم أجمعوا على أن الواقف بعرفة الناسي يجزئه وقوفه فكذلك هنا.
وتفريق من فرّق بين الوقوف بعرفة وبين الطواف: بأن الوقوف بعرفة مجرد مكث وأما الطواف ففعل، فهو تفريق غير مؤثر لأن الوقوف بعرفة وإن كان مجرد مكث فهو عبادة من العبادات والعبادات لا تصح إلا بنية وإن كانت مجرد مكث.
فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه أكثر العلماء من أن أفعال النسك. " وأفعال الحج والعمرة " ومن ذلك الطواف لكن بشرط أن [لعل الصواب: ألاّ] ينوي غير نسكه، فإن نوى غير النسك كأن يطوف باحثاً عن غريم أو شخص أو نحوه فإنه لا يجزئه ذلك. فالطواف نية الحج تكفي عنه ولا نقول: إنه لا يحتاج إلى نية أصلاً.
قال: (أو نسكه) (1)
__________
(1) قال في الشرح الممتع [7 / 289] : " أو نسُكَهُ: أي أو لم ينو نسكه لم يصح … ".(11/146)
ويصح أيضاً: " أو نكَّسه " فإن التنكيس في الطواف لا يصح إجماعاً بل الواجب في طوافه أن يجعل البيت عن يساره فلو جعله عن يمينه لم يصح إجماعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف جاعلاً البيت عن يساره وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
وإن لم ينو نسكه، بأن لم يبين النسك، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة وأن من أحرم إحراماً مطلقاً فإنه يجزئه ذلك لكن يجب عليه أن يعينه بعد ذلك إما حجاً وإما عمرة.
فلو نوى رجل الدخول في النسك " أي الإحرام المطلق " ولم يعين أهو حج أم عمرة ثم طاف قبل التعيين فإنه لا يجزئه هذا الطواف لأن العمل يجب فيه التعيين وهنا لم يعين فواجب في النية تعيينها أهي للعمرة أم للحج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فهو لم ينو بعد أنسكه حج أم عمرة وحينئذ لا يجزئه ذلك لأنه لم يعين، وفرض تعيين نية العبادة، لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
كأن يكون رجل أحرم مطلقاً نسكه فلم يعينه لأنه غير واجد المال يشتري به هدياً وهو يرجو حصوله قريباً فيحرم إحراماً مطلقاً، فإذا حصل له أهل بعمرة حتى يكون متمتعاً وإلا أفرد.
قال: (أو طاف على الشاذروان)
الشاذروان: وهو ما فضل من جدار الكعبة وهو ما يحيط بالبيت، فيما يرتقيه بعض الناس عند التزام جدران الكعبة – وهو لا يصل إلى المتر.
فلو طاف مضطراً على الشاذروان فهل يجزئه ذلك أم لا؟
1 – قال المؤلف: لا يجزئه؛ وذلك لأن الشاذروان وهو ما فضل من جدران الكعبة من البيت فهو جزء من البيت، وفرض عليه أن يطوف حول البيت كله، فإذا طاف على الشاذروان أو بعضه فإنه لا يصدق عليه أنه طاف على البيت كله فلم يجزئه ذلك.
2-وقال شيخ الإسلام: بل يجزئه وذلك لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له فلو طاف على الشاذروان فإنه يصدق عليه أنه طاف على البيت لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له.(11/147)
وما ذكره شيخ الإسلام أظهر، وذلك: لأن الشارع استحب استلام الركنين اليمانيين؛ لأنهما أركان البيت وأطرافه ولم يستحب استلام الركنين الشاميين لأن الحجر من البيت وقد قصرت النفقة الخالصة من الإثم بقريش فلم يدخلوها في بناء الكعبة وإلا فإن حجر إسماعيل من البيت، ولذا لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما من البيت وليست بأركان له.
فالصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن الشاذروان ليس من البيت بدليل استحباب استلام الركنين اليمانيين فهما أركان الحرم وأطرافه، ولو كان الشاذروان من البيت لم يكونا أطرافاً له وأركاناً بل كانا منه. ومع ذلك فإن الأحوط هو عدم فعل ذلك لقوة الخلاف في هذه المسألة.
واعلم أن الحجر من البيت، فقد ثبت في مسلم أن عائشة: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجْر؟ فقال: هو من البيت) (1) .
والحِجْر: ما يكون في الجهة الشامية من البيت، وقد قصرت – كما تقدم – النفقة الخالصة من الإثم على قريش فبنوه على هذه الهيئة غير الكاملة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – كما في الصحيحين -: (لولا حدْثان قومك بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) (2) فمن طاف على الحِجْر أو فيه فلا يجزئه الطواف لأنه لم يطف بالبيت كله ولذا قال المؤلف.
قال: (أو جدار الحجر)
لأن جداره من البيت ولذا لم يشرع أن يستلم أركانه من جهة الحِجر ولا أن يستلم جدار الحجر لأنه من البيت وليس ركناً له.
قال: (أو عرياناً)
__________
(1) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم باب جدر الكعبة وبابها، من كتاب الحج، المغني [5 / 230] ، وصحيح مسلم بشرح النووي [9 / 96] .
(2) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها 1586، ومسلم باب نقض الكعبة 1333، 398، من كتاب الحج.(11/148)
فشرط في الطواف ستر العورة قال تعالى: {يا بني آدم حذوا زينتكم عند كل مسجد (1) } وقد نزلت هذه الآية في الطواف على هيئة غير ساترة كما ثبت في مسلم عن ابن عباس أن المرأة كانت تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: ومن يعيرني ثوباً تجعله على فرجها فنزل قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، وثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث مؤذناً يؤذن في حجة أبي بكر بالناس قبل حجة الوداع: ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) (2) فمن طاف عرياناً فإن طوافه غير صحيح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي لفساد ذلك.
قال: (أو نجساً) .
هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي من طاف بالبيت نجساً أو محدثاً حدثاً أكبر أو أصغر فهل يصح طوافه أم لا؟
بمعنى: هل يشترط الطهارة بقسميها: الطهارة من الأحداث والأنجاس في الطواف أم لا؟
1- ذهب جمهور أهل العلم إلى اشتراطها من الحدث والنجس في الطواف فيشترط كونه طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر ومن النجس فلو طاف جنباً أو غير متوضئ أو عليه نجاسة لم يجزئه ذلك.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (3) قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم)
واستدلوا: بما رواه النسائي والترمذي وغيرهما: عن ابن عباس مرفوعاً: (الطواف بالبيت صلاة فمن نطق فيه فلينطق بخير) (4)
__________
(1) سورة الأعراف 31
(2) أخرجه البخاري 369، 1622، ومسلم [8 / 146] نووي.
(3) أخرجه البخاري باب الطواف على وضوء رقم 1641، ومسلم. سبق ص84.
(4) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الكلام في الطواف، والنسائي رقم 2922 عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام ". وانظر الإرواء رقم 121، والمغني [5 / 224] .(11/149)
قالوا: فلما كان الطواف صلاة فيشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة من الأحداث والأنجاس.
2- واختار شيخ الإسلام وهو قول في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وهو مذهب طائفة من السلف: إلى أن ذلك ليس بشرط، بل هو مشروع مستحب.
واستدل: بالأصل فإن الأصل فيه عدم اشتراط ذلك.
وأجاب عن أدلة الجمهور:
أما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فالوضوء فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب أما قوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فإن الوضوء خارج عن المناسك، فأنتم - أي الجمهور – لم توجبوا الاضطباع ولا الرمل ولا غير ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه وهما أولى بالإيجاب من الوضوء الخارج عن المناسك.
والاضطباع والرمل من سنن الطواف بالإجماع فأولى من ذلك الوضوء الخارج عن الطواف وأما الحديث – حديث ابن عباس - فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بل هو موقوف على ابن عباس، قال شيخ الإسلام: (أهل العلم لا يرفعونه) .
قلت: ونحوه عن ابن عمر في النسائي (1) .
ولكن هذا الجواب يمكن أن يقال في رده: إنه قول صحابي اشتهر ولا يعلم له مخالف فيكون إجماعاً.
والجواب عن ذلك هو ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه – من أن قول الصحابي هنا -: (الطواف بالبيت صلاة) لا يقتضي اشتراط ما ذكرتموه بدليل أن استقبال القبلة ليس بشرط في الطواف، والحركة الكثيرة المبطلة للصلاة لا يبطل الطواف اتفاقاً، وبدليل جواز الأكل والشرب فيه، وبدليل جواز الكلام فيه وغير ذلك مما ينهى عنه في الصلاة.
__________
(1) برقم 2923.(11/150)
فكل هذه المنهيات والشروط التي في الصلاة من استقبال قبلة ونحوها ليست ثابتة في الطواف بالاتفاق فيتعين أن يكون مراد الصحابي أنه في حكم الصلاة في الإقبال على الله عز وجل والتعبد له، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماكث ينتظر الصلاة هو: (في صلاة) (1) مع أنه لا يشترط عليه ما يشترط على المصلين وهو مع ذلك في صلاة.
أو أن الطواف يجتمع هو والصلاة في كونهما حول البيت فكما أن المصلي يتوجه إلى القبلة فإن الطائف يتعلق طوافه بالبيت وهذا هو الجامع بين الطواف والصلاة، والمفارقات بينهما كثيرة جداً. وحيث كانت كذلك فلا يمكننا أن نلحق ما اشترطه الجمهور والمفارقات على هذه الطريقة وعلى هذه الكثرة.
فالراجح: ما اختاره شيخ الإسلام من أن الطهارة من الأحداث والأنجاس ليست شرطاً في الطواف.
مسألة:
طواف الحائض هل يصح أم لا؟
1- ذهب جمهور أهل العلم إلى أن طوافها لا يصح.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت بسرف وكانت قد أهلت بعمرة فأمرها أن تهل بالحج: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (2) وفي رواية لمسلم: (حتى تغتسلي) قالوا: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف يقتضي فساده.
2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن طواف الحائض صحيح محرم وعليها إن فعلت الدم.
قالوا: لأنها إنما نهيت عن ذلك مع جواز سائر الأنساك لها – لكون الطواف بالبيت، والحائض تنهى عن دخول المساجد والمكث فيها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الحائض من الطواف بالبيت ليس لمعنى الطواف لكن لمعنى المسجد وطوافها في المسجد يلزم منه أن تكون ماكثة ولابد منه ومكثها محرم.
__________
(1) متفق عليه، صحيح مسلم بشرح النووي [5 / 666] .
(2) رواه البخاري [1 / 83 …] ومسلم [4 / 30] وأبو داود والنسائي والترمذي، الإرواء رقم 191.(11/151)
فحينئذ: إن طافت فطوافها صحيح لأن النهي لم يتعلق بالطواف بل تعلق بالمكث في المسجد وهو أمر خارج، فتكون حينئذ آثمة.
3- واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن طواف الحائض لا يصح إلا لضرورة.
قالوا: لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها كما يسقط عن العريان ستر عورته في الصلاة، فإنه إذا لم يجد ثوباً يستر به عورته فإنه يصلي عرياناً، فكان واجباً عليها ألا تطوف إلا وهي طاهرة فعجزت عن ذلك واضطرت فيجوز لها حينئذ أن تطوف للضرورة.
وجمهور أهل العلم: يقولون: إذا خشيت الحائض فوات رفقتها مثلاً فإنها ترجع إلى ديارها محرمة فلا تفعل شيئاً مما يحرم على الحاج ثم تأتي بالطواف بعد ذلك.
ولا خلاف بين أهل العلم أن طواف الإفاضة ليس له وقت محدد ينتهي فيه فلو طاف الإفاضة بعد شهر ذي الحجة فإنه يجزئ عنه اتفاقاً.
وإنما اختلف أهل العلم في وجوب الدم فيه:
فأوجبه المالكية: إذا أخره إلى بعد شهر ذي الحجة.
وأوجب الأحناف الدم فيه إذا أخره عن أيام التشريق.
وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا فيه الدم مطلقاً.
فعلى ذلك مذهب الجمهور أنها إذا اضطرت فإنها لا تطوف بالبيت بل ترجع ثم تطوف بعد ذلك ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين.
واختار شيخ الإسلام صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك.(11/152)
ومما يؤيد صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أسماء بنت عميس: (أنها نفست في ذي الحليفة فأمرها أن تحرم وتغتسل) (1) ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عما نهى عنه عائشة من ألا تطوف بالبيت حتى تطهر وذلك لأن ذلك فيه مشقة ظاهرة عليها فإن النفاس في الغالب يطول وهي قد نفست ولم يبق من ذي القعدة إلا أربعة أيام، فلم يبق ليوم النحر إلا نحو أربعة عشر يوماً، والنفساء لا تطهر غالباً في مثل هذه المدة، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بما أمر به عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر لمشقة ذلك.
وأظهر الأقوال – فيما يتبين لي والعلم عند الله عز وجل - ما ذهب إليه الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: أن طوافها صحيح مطلقاً لكنها آثمة وحينئذ إذا اضطرت فلا إثم.
وذلك لأنه لا معنى يقتضي نهيها عن الطواف وهي حائض، وقد فارقنا بين الطواف والصلاة – فلا معنى يقتضي أن تنهى عنه إلا أن الطواف بالبيت وفي المسجد والحائض نهيت عن المكث فيه، والله أعلم. والأظهر ألا دم عليها لعدم الدليل.
قال: (ثم يصلي ركعتين)
وهما ركعتا الطواف فيستحب له إذا انتهى من طوافه أن يصلي ركعتين.
ودليله: ما ثبت في مسلم من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين بـ {قل هو الله أحد} ، و {قل يا أيها الكافرون} ثم رجع إلى الركن فاستلمه – وفي رواية النسائي: (بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) – " (2) . والواو لا تفيد الترتيب.
واختلف أهل العلم في هاتين الركعتين أهما سنة أم واجبتان؟
__________
(1) صحيح مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، سبق ص24
(2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي باب القراءة في ركعتي الطواف رقم 2963.(11/153)
1- فذهب جمهور العلماء إلى أنهما سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يفيد وجوباً.
2- وذهب الأحناف إلى وجوبهما وبجبران يوم.
واستدلوا: بقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد استظهرها صاحب الفروع.
قالوا: هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
والصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.
أما استدلال الأحناف بالآية ففيه نظر، لإجماع العلماء على أنه لا يجب أن يصلي الركعتين خلف المقام فلا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى، حكى هذا الإجماع ابن المنذر وغيره، وأن له أن يصليهما في أي موضع شاء، وقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى ركعتين بذي طوى) (1) والشاهد من هذا الأثر أنه يجوز له أن يصلي ركعتي الطواف في أي موضع شاء، فثبت لنا أنه لا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى بالإجماع، فتعين أن يكون الأمر للاستحباب في الآية.
إذن: يسن له أن يصلي ركعتين بعد طوافه، ويستحب له أن يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وبقل هو الله أحد.
* فإن كرر الطواف بأن طاف سبعاً ثم سبعاً فله أن يصلي سنة الطواف لكل أسبوع أن يصليها بعد هذه الأسابيع.
بمعنى: طاف أسبوعاً ثم أسبوعاً ثم صلى أربع ركعات ركعتين للأسبوع الأول، وركعتين للأسبوع الثاني، فلا بأس بذلك روى ذلك البيهقي عن عائشة رضي الله عنها ولأنه لا تشترط الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بدليل فعل عمر المتقدم فإنه قد صلى بذي طوى.
فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً ثم سبعاً ثم جمع الركعات بعد الانتهاء من الطواف فصلى لكل أسبوع ركعتين فإن ذلك يجزئه، والمستحب له أن يتبع كل أسبوع ركعتيه.
وهل تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف كأن يطوف سبعاً ثم يصلي مكتوبة فهل يجزئ عن ركعتي الطواف؟
__________
(1) ذكره البخاري باب الطواف بعد الصبح والعصر قبل رقم 1628.(11/154)
قال الحنابلة: يجزئه كما أنه يجزئه في ركعتي الإحرام الفريضة – وقد تقدم – أن الحنابلة يستحبون ركعتي الإحرام فإذا أحرم فيستحب له أن يصلي ركعتين فإذا صلى الفريضة أجزأت عن ركعتي الإحرام وكلاهما سنة شرعت للنسك، فركعتا الطواف وركعتا الإحرام شرعتا للنسك فتجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما تجزئه المكتوبة عن ركعتي الإحرام.
وفي هذا نظر، فقد ذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه: إلى أن المكتوبة لا تجزئه وذلك لأن ركعتي الطواف مقصود لذاتهما فلم يجزئ عنهما المكتوبة أشبه ذلك ركعتي الفجر فإنهما لا يجزئ عنهما قضاء أو فريضة فهما مقصودتان لذاتهما فكذلك هنا. أما ركعتا الإحرام على القول بهما – فإنهما غير مقصودتين لذاتهما بل المقصود هو الصلاة فإذا صلى فريضة أو نافلة مقيدة أو مطلقة فإنه يجزئه لأن المقصود هو الصلاة أما هنا فإن المقصود هو سنة الطواف.
فإذاً: لا تجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما هو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو مذهب جمهور أهل العلم.
قال: (خلف المقام)
استحباباً فليس من شرط ركعتي الطواف أن يصليا خلف المقام بل لو صلاهما في موضع آخر أجزأه إجماعاً، وقد تقدم ما رواه البخاري معلقاً في صحيحه: (أن عمر طاف بالبيت ثم ركب فصلى ركعتين بذي طوى) .
وهنا مسألتان في الطواف:
المسألة الأولى:
وأن الموالاة شرط من شروط الطواف عند جمهور أهل العلم. فليس له أن يوجد فاصلاً بين طوافه يثبت أنه قاطع في العرف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف موالياً وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
قالوا: فإن حضرت فريضة فإنه يتوقف عن الطواف ويصلي الفريضة ثم يتم طوافه – هذا مذهب جمهور أهل العلم – وخصه المالكية بالفريضة.
وعدى الحنابلة والشافعية كل فعل مشروع يخشى فواته كصلاة الجنازة ونحوها. قالوا: لأنه فعل مشروع أثناء الطواف فلم يبطله كاليسير.(11/155)
وذهب الحسن البصري: إلى أنه إذا قطعه لفريضة أو صلاة جنازة ونحو ذلك أنه يجب عليه أن يستأنف الطواف من جديد. وهذا القول أقيس وأظهر؛ وذلك لأن الواجب في الطواف الموالاة وكونه يكون معذوراً بقطعه لصلاة الفريضة فإن هذا العذر إنما يكون لجواز القطع مع منافاته للموالاة، فكونه يقف لصلاة الفريضة هذا ينافي ما فرض من الموالاة فإنه حينئذ تنقطع الموالاة. وهو إنما يكون معذوراً لخشية فوات الفريضة أما أن يكون هذا العذر يصحح طوافه فلا، فإن ذلك قاطع.
فما ذهب إليه الحسن البصري – فيما يظهر لي – أقيس فيجب عليه حينئذ أن يستأنف، لانتفاء الموالاة بصلاة الفريضة أو غيرها فإن الموالاة شرط وقد انتفت حيث قطعها بقاطع سواء كان هذا القاطع مشروعاً على وجه الفريضة أو مشروعاً على وجه الاستحباب أو لم يكن مشروعاً.
(وهنا في أثر البخاري معلقاً عن ابن عمر (1) أنه صلى الفريضة ثم أتم طوافه، قال شيخنا: قول المالكية) .
وعلى القول بأنه لا يستأنف كما هو مذهب جمهور أهل العلم إذا قطع طوافه فهل يبتدئ بالطواف من الحَجَر أم من الموضع الذي وقف عنده؟
قولان لأهل العلم:
المشهور عند الحنابلة أنه يبدأ من الحَجَر.
وقال بعض العلماء: بل يبدأ من الموضع الذي وقف فيه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو القول الراجح.
وهذا متفرع على الترجيح في المسألة السابقة، فلو رجحنا ما ذهب إليه الجمهور فإن هذا أقيس، لأن الطواف عبادة واحدة فسواء قطع الطواف لأمر لا يوجب الاستئناف من أول الطواف أو من أثنائه فالطواف عبادة واحدة فهذا هو الأقيس والأظهر.
المسألة الثانية:
أن طواف المحمول والراكب لعذر كمرض ونحوه صحيح بلا خلاف بين العلماء.
__________
(1) ذكره البخاري باب إذا وقف في الطواف، الفتح [3 / 565] .(11/156)
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة قالت: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (1) .
أما طواف غير المعذور راكباً أو محمولاً فاختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال: هي روايات عن الإمام أحمد:
الرواية الأول: أن الطواف لا يجزئه قالوا: لأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة لا تصح من الراكب غير المعذور فكذلك الطواف لا يصح من الراكب غير المعذور.
الرواية الثانية: وهو مذهب المالكية والأحناف: قالوا: يجزئه لكن عليه دم لأن الطواف ماشياً واجب فيجب في تركه الدم.
الرواية الثالثة: وهي مذهب الشافعية: يجزئه ولا شيء عليه وهو اختيار ابن المنذر وهذا القول الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (طاف وهو راكب على بعير له) (2) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معذوراً في ركوبه عذراً يجيز ذلك وإنما مجرد درء مفسدة لا تصل إلى أن تكون عذراً، فقد ثبت في مسلم عن ابن عباس – وهو سبب ركوب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرجت العواتق من البيوت " أي في محبته " ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب والمشي والسعي أفضل) فالمشي والسعي أفضل لكن إن ركب لغير عذر فإنه يجزئه؛ ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال: (ثم يستلم الحجر)
__________
(1) أخرجه البخاري باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج رقم 1633، ومسلم باب جواز الطواف على بعير.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 20] .
(2) سبق ص85(11/157)
إن أتم طوافه بالبيت سبعاً وصلى ركعتي الطواف فيستحب له أن يرجع إلى الركن فيستلمه، وقد تقدم حديث مسلم الدال على ذلك وهو حديث جابر وفيه: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) (1) .
قال: (ويخرج إلى الصفا من بابه)
وهو باب الصفا وهو باب بني مخزوم وإنما يخرج منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا فليس هذا لتميزه عن سائر الأبواب بفضله وإنما لكونه أقرب الأبواب إلى الصفا.
وقد كانت الصفا والمروة خارج المسجد، وباب بني مخزوم باب يدخل منه إلى المسجد ويخرج منه إلى الصفا والمروة فلم تكن الصفا والمروة في المسجد ومن هنا جاز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة مع أنها تنهى عن دخول المسجد لأن الصفا والمروة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، فلم يتسع بناء المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام، لتدخل فيه الصفا والمروة كما اتسع في الأزمنة المتأخرة فدخلت فيه.
قال: (فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد)
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/158)
يرتقي على الصفا وهو جبل صغير، فيرتقيه حتى يرى البيت، فلا يزال في صعوده حتى يتمكن من رؤية البيت فيستقبل القبلة ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ابدأُ بما بدأ الله به، فرقي الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله " أي قال: لا إله إلا الله " وكبَّره) وفي النسائي: (وكبره ثلاثاً) ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك، فعل هذا ثلاث مرات) (1) فالذكر الوارد بعد أن يرقى الصفا ويرى البيت ويستقبل القبلة يقول: " لا إله إلا الله " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بما شاء ثم يعيد الذكر مرة ثانية ثم يدعو ثانية بما أحب ثم يعيده ثالثة.
قال: (ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول ثم يسعى سعياً شديداً إلى الآخر ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا)
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/159)
بعد أن يرقى الصفا ينزل ماشياً حتى يأتي العلم الأول وهو العلم الأخضر الذي هو علامة ابتداء بطن الوادي فيسعى سعياً شديداً حتى يصل إلى العلم الثاني وهو علامة انتهاء بطن الوادي فإذا انتهى من ذلك مشى حتى يأتي المروة ويقول ما قاله على الصفا. وتمام القطعة من حديث جابر الذي تقدم سياقها قال: (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا " أي عن بطن الوادي " مشى حتى أتى المروة ففعل في المروة كما يفعل في الصفا) (1) .
وظاهره أنه يجمع بين الذكر الوارد والفعل الوارد فيرقى المروة حتى يرى البيت ويستقبل القبلة ويقول: الذكر الوارد كما في الصفا. وفي النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الوادي إلا شداً) (2) والمراد هنا بالوادي بطنه وهو ما بين الميلين.
ويستحب له أن يقول: ما ورد عن ابن مسعود في البيهقي بإسناد جيد أنه كان يقول بين العلمين: (اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز الأكرم) .
واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن تسعى بين الميلين ولا أن ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى في الطواف وفي البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (ليس على النساء سعي في البيت " وهو الرمل " ولا بين الصفا والمروة) .
واعلم أن السعي بين الصفا والمروة المجزئ هو ما يكون بين الجبلين " الصفا والمروة " بحيث أنه يستوعبهما أي يستوعب ما بينهما بالسعي من غير اشتراط رقي فإن الرقي مستحب وليس بواجب فالواجب عليه أن يضع عقبه على طرف الصفا ثم يمشي حتى يصل إلى طرف المروة ثم يعود سبعة أشواط.
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) أخرجه النسائي رقم 2980.(11/160)
فالواجب عليه أن يسعى بين الصفا والمروة أما رقيه فهو مستحب وهذا باتفاق أهل العلم. واعلم أنه لو ترك شيئاً فيما بين الصفا والمروة من السعي لم يجزئه، فلو ترك ذراعاً أو نحوه فإن سعيه لا يجزئه لأنه لم يستوعبهما في الطواف بين الصفا والمروة.
قال: (ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك سبعاً)
كذلك في رجوعه من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه فيسعى بين الميلين ويمشي ما بين المروة إلى الميل الأول وما بين الميل الثاني إلى الصفا يمشي كما تقدم في شوطه ما بين الصفا إلى المروة فكذلك في شوطه بين المروة إلى الصفا.
قال: (ذهابه سعية ورجوعه سعية)
فما بين الصفا والمروة سعية، وما بين المروة والصفا سعية أخرى، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (طاف بين الصفا والمروة سبعاً) (1)
فإذن: ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، وإيابه من المروة إلى الصفا شوط – وهذا باتفاق العلماء.
قال: (فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول)
فلو أنه بدأ من المروة إلى الصفا فإن هذا الشوط لا يحسب ويسقط ولا يجزئ عنه، وذلك لأن الواجب عليه والفرض أن يبدأ من الصفا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وفعله بيان لمجمل القرآن وفي النسائي: (ابدؤوا بما بدأ الله به) (2) فإذا ابتدأ من الصفا أجزأه، أما إذا ابتدأ من المروة فإنه لا يجزئه الشوط الأول ويحسب له الشوط الثاني الذي هو من الصفا إلى المروة فيجب عليه أن يزيد شوطاً لسقوط الأول وعدم إجزائه.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 409 …] ومسلم [4 / 53] ، الإرواء رقم 1104.
(2) أخرجه النسائي باب القول بعد ركعتي الطواف رقم 2962، من كتاب المناسك.(11/161)
فإذن: إذا ابتدأ بالمروة فهذا الشوط لا يجزئه لأنه على خلاف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (1)
قال: (وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة)
فالطهارة من الأحداث والأنجاس سنة بالاتفاق – في السعي بين الصفا والمروة فلو أنه طاف بين الصفا والمروة جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر أو امرأة حائضاً أو كان عليه شيء من الأنجاس في ثوبه فإن سعيه مجزئ بالاتفاق.
كذلك الستارة فليس أيضاً شرطاً أن يستر عورته وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: (والموالاة) فالموالاة سنة وكلام المؤلف هنا موهم فإن المراد بالموالاة هنا الموالاة بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فليس شرطاً أن يبادر بالسعي بعد طوافه بالبيت فلو طاف في البيت في أول النهار وسعى في آخره يجزئه اتفاقاً لأنه قد فعل ما أمر الله به من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وإن كان المستحب له أن يوالي بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة هذا مستحب له لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس واجباً بالاتفاق.
وأما الموالاة بين أشواط السعي، فإنها شرط في السعي – وهو مذهب الحنابلة وغيرهم من أهل العلم – فهي شرط من شروط السعي على التفصيل المتقدم في الطواف.
قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وقد طاف الأشواط السبعة موالياً، فإن قطعها بفاصل عرفي فإنه يجب عليه أن يستأنف إلا ما تقدم استثناؤه فيما إذا حضرت الصلاة المكتوبة أو فعل مشروع، على خلاف بين أهل العلم كما تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري [5 / 221] في الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم [1718] في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة. زاد المعاد [5 / 224] .(11/162)
واشترط الحنابلة أيضاً النية فهي شرط من شروط السعي وتقدم النظر في هذا وأن الراجح أن أفعال الحج كلها لا تجب فيها النية المستقلة بل نية الإحرام في أول الحج تجزئ عن النية لأفعال المناسك كلها.
قال: (ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل)
لما ثبت في مسلم قال: (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي) (1) فالمتمتعون يقصرون ويحلون، وأما القارنون والمفردون فإنهم لا يقصرون ولا يتحللون بل يتحللون في يوم النحر. وفيه أن المستحب للمتمتع أن يقصر رأسه ولا يستحب له حلقه توفيراً للحج ولأن الصحابة هكذا فعلوا، كما في الحديث المتقدم.
واعلم أن التقصير المجزئ هو التقصير الشامل كله لعموم الرأس، ولا يقصد من ذلك أن يشتمل كل شعرة فإن هذا لا يسع الناس فعله إذ لا يمكن للشخص أن يعلم دخول كل شعرة في التقصير إلا بالحلق، لكن المقصود أن يقصر من عموم رأسه بحيث يظن ظناً غالباً أن هذا التقصير قد شمل الرأس كله، هذا هو المشهور عند الحنابلة.
خلافاً لمذهب الشافعية وأنه يجزئه أن يأخذ من ثلاث شعرات.
فالصحيح مذهب الحنابلة، لقوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (2) وقوله: {رؤوسكم} عام للرأس كله، فواجب أن يعم الرأس كله حلقاً أو تقصيراً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه كله وفعله بيان للأمر فيعطى حكمه.
واعلم أن التقصير المجزئ هو أخذ الشيء من جميع الشعر الذي يصدق عليه أنه تقصير وإن قل سواء كان أنملة أو أقل منها.
__________
(1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) سورة الفتح 27.(11/163)
والمستحب له أن يبدأ بالجهة اليمنى ثم اليسرى في الحلق والتقصير ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: (خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) (1) وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيامن في شأنه كله.
قال: (وإلا حلَّ إذا حج)
إذا كان قارناً أو مفرداً فإنه يتحلل إذا حج أي إذا فعل أركان الحج.
والمقصود من الكلام هنا: أنه يتحلل إذا رمى الجمرة أي يتحلل في يوم النحر، وإلا فإنه لا يصدق عليه أنه حج حتى يأتي بالطواف، وسيأتي البحث إن شاء الله في المنسك الذي يثبت به التحلل الأول.
ويمكن أن يكون مراد المؤلف هنا: التحلل التام، فإنه لا يكون له التحلل التام بحيث أنه تحل له محظورات الإحرام كلها حتى النساء حتى يتم الحج كله أي أركانه وإلا فإنه يبقى شيء من واجباته كالرمي والمبيت ليالي التشريق وسيأتي إن شاء الله في موضعه.
قال: (والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية)
تقدم البحث في هذا (2) ، وأن الراجح أنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم كما هو مذهب ابن عمر.
مسألة:
السعي كالطواف في باب الركوب، بل أولى بالحكم لما تقدم من أن بعض أهل العلم يرى أن الطواف بالبيت صلاة، بخلاف السعي فإنه لا يقال فيه هذا، وقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه بين الصفا والمروة لكي يراه الناس كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) .
مسألة:
قراءة الآية: {إن الصفا والمروة..} الظاهر لي أنه لا يستحب له ذلك إلا عند دنوه من الصفا أول مرة من غير أن يكررها في الأشواط الأخرى وأما قول جابر: (ثم فعل على المروة ما فعل على الصفا) فإنه لا يدخل فيه لأن هذا الذكر قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل رقيه على الصفا كما أن المعنى يقتضي ذلك.
مسألة:
__________
(1) مسلم، باب السنة يوم النحر من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] .
(2) سبق ص37.
(3) الإرواء رقم 1118.(11/164)
إذا سعى الشوط السابع فهل يدعو بعد نهايته ويقول الذكر أم لا؟
الأظهر عندي والله أعلم أنه لا يقول ذلك لأنه هناك ينتهي سعيه كما ينتهي الطواف عند الحجر الأسود فلا يشرع له الاستلام ولا الإشارة فالأظهر هنا كذلك لأنه قد رقى المروة ثلاثاً فدعا، وفي الصفا أربعاً فهذه سبع. والمسألة اجتهادية، والقول بأنه يشرع له ذلك له محل من النظر لكن الذي أميل إليه أنه لا يشرع له ذلك.
مسألة:
هل يجزئ الطواف بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أم لا؟
جمهور العلماء على أنه لا يجزئه ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه.
وذهب أهل الظاهر وهو مذهب عطاء بن أبي رباح من التابعين وهو مذهب بعض أهل الحديث إلى أنه يجزئه.
واستدلوا: بما رواه أبو داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: سعيت قبل أن أطوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج) (1) وكما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت حتى تطهري) ويدخل في ذلك السعي فدل على أن السعي لا يشترط لصحته أن يسبق بطواف.
وهذا القول فيه قوة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على الاستحباب، ومن طاف وسعى فقد فعل ما يجب عليه وما تقدم من الحديثين يدلان على أنه يجزئه.
ومع ذلك فإن الأحوط له ألا يشتغل بالسعي قبل اشتغاله بالطواف والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
هنا فوائد:
الفائدة الأولى: ثبت في البيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه " أي في وقوفه على الصفا والمروة.
وظاهر كلام الحنابلة – كما قال صاحب الإقناع – أن رفع اليدين لا يشرع.
__________
(1) رواه أبو داود باب فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه، رقم 2015.(11/165)
واستحبه بعض الحنابلة، قال صاحب الإقناع: وهو الظاهر للخبر. ووهم من عزاه إلى مسلم تبعاً للبيهقي، والبيهقي إنما عزاه إلى مسلم لأن أصل الحديث في مسلم أما لفظة رفع اليدين فإنما هي ثابتة في حديث جابر في سنن البيهقي بسند الإمام مسلم.
الفائدة الثانية: أنه ثبت عند النسائي من حديث جابر لفظة: " وحمده " (1) أي وحمد الله عز وجل، ولذا ذكرها الحنابلة في الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة: " الحمد لله على ما هدانا " أي من الذكر.
فيحمد الله عز وجل – كما يهلله ويكبره ويحمده بهذا اللفظ أو غيره من الألفاظ التي هي من الحمد.
3- الفائدة الثالثة: ثبت في حديث جابر في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب إلى زمزم فشرب منه وصب على رأسه ثم رجع إلى الركن واستلمه) ففيه مشروعية الشرب من ماء زمزم بعد طواف القدوم أو طواف العمرة.
الفائدة الرابعة: أنه ثبت في حديث جابر أيضاً في النسائي لفظة: (يحي ويميت) (2) (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) فهذه الزيادة ثابتة في النسائي من حديث جابر.
باب صفة الحج والعمرة
قال: (يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية)
يوم التروية: هو اليوم الثامن من أيام ذي الحجة، فيستحب للمحلين وهم أهل مكة الذين يريدون الحج أو الآفاقيون الذين أتوا لعمرة وتحللوا منها وهم المتمتعون دون القارنين والمفردين من الآفاقيين فإنهم إنما يحرمون من مواقيتهم كما تقدم، أما أهل مكة ممن أراد منهم الحج أو الآفاقيون الذين تحللوا من عمرتهم يستحب أن يكون إهلالهم بالحج يوم التروية وسمي يوم التروية لتروية الناس المياه فيه استعداداً لبقية أيام الحج.
__________
(1) سنن النسائي رقم 2974.
(2) أخرجه النسائي باب الذكر والدعاء على الصفا رقم 2974.(11/166)
ودليل استحباب الإهلال يوم التروية من مكة: ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (1) أي في منى.
ولذا قال المؤلف هنا: (قبل الزوال منها)
أي قبل الزوال حتى يصلي الظهر بمنى، فقبل زوال الشمس يسن له الإهلال بالحج ليصلي الظهر بمنى، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويجزئ من بقية الحرم)
يجزئه أن يهل بالحج من بقية حرم مكة وإن خرج من بنيانها كأن يهل من الأبطح أو من منى فإنها من الحرم فيجزئه ذلك لأن ذلك كله ميقات أهل مكة، فالحرم كله ميقاتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة) فلا يجوز له أن يهل بالحج من الحل كأن يهل من التنعيم ونحوه لأنه بحكم أهل مكة وأهل مكة يهلون من مكة من بنيانها أو حرمها.
ومما يدل على جواز الإحرام من خارج البنيان مادام في الحرم ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فأهللنا من الأبطح) وهو موضع من الحرم خارج بنيان مكة أما إذا أحرم من الحل فلا يجوز له ذلك كما لو أحرم خارج الميقات.
قال: (ويبيت بمنى)
استحباباً اتفاقاً فهو من المستحبات لحديث جابر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (2) فصلى العشاء والفجر بها فقد بات بها – وهو مستحب بالاتفاق لأنه ليس فيه إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يقتضي إيجاباً كما تقدم.
قال: (فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة)
أي إذا طلعت الشمس من يوم عرفة سار إلى عرفة.
__________
(1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/167)
إذاً: يمكث بعد صلاة الفجر حتى إذا طلعت الشمس ارتحل إلى عرفة فقد ثبت في حديث جابر الطويل بعد ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى قال: (ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة ثم ارتحل ولا تشك قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية فأجاز " أي أجاز المشعر الحرام " حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركبها حتى أتى بطن الوادي " وهو بطن عرنة " فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة " أي طريق المشاة " بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) (1) .
قال: (وكلها موقف إلا بطن عرنة)
فلا يجزئ الوقوف به، وهو الموضع الذي خطب به النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في ابن ماجه والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسِّر) (2) وهذا باتفاق العلماء.
قال: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)
كما تقدم هذا في جمعه بين الظهر والعصر في بطن عرنة، وظاهر الحديث أنه لا يجهر بالقراءة فليست جمعة بل هي ظهر فيسر بالقراءة.
__________
(1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
(2) أخرجه النسائي باب الموقف بعرفات من كتاب المناسك، رقم 3012.(11/168)
وظاهر الحديث أن الجمع مشروع للمكيين وغيرهم فكل من وقف بعرفة من المكيين وغيرهم فإنه يشرع له الجمع، كما أنه يستحب له أن يتعجل الصلاتين في ذلك اليوم، فقد ثبت في البخاري: أن سالم بن عبد الله بن عمر قال للحَجاج: (إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة، فقال ابن عمر وكان حاضراً: صدق) (1) فصدقه في أنها سنة. ويستحب له أن يجمع – كما تقدم بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين.
قال: (ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة) .
كما تقدم في حديث جابر وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) (2) ولا يشرع بالإجماع – كما حكى الإجماع شيخ الإسلام – أن يصعد الجبل فإنه ليس من السنن بالإجماع.
قال: (ويكثر من الدعاء بما ورد)
وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن لشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) .
فإن قيل هذا ثناء وليس بدعاء؟ فالجواب بما قاله سفيان بن عيينة لما سئل عن ذلك: فاستشهد ببيتين لشاعر في هذا المعنى:
فأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه الثناءُ
فهذا الثناء بمعنى الدعاء، أي إنما أثنيت عليك لتكفيني حاجتي فهو تعريض بالدعاء.
إذن: يستحب له أن يكثر من قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
__________
(1) أخرجه البخاري باب قصر الخطبة بعرفة من كتاب الحج، رقم 1663.
(2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج.
(3) أخرجه الترمذي رقم 3585.(11/169)
ويستحب له أن يرفع يديه بالدعاء كما صح ذلك في النسائي عن أسامة بن زيد قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فرفع يديه) (1) أي في الدعاء.
ويستحب له أن يستقبل القبلة في دعائه سواء كان راكباً أو قاعداً كما تقدم في حديث جابر الثابت في مسلم ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم (استقبل القبلة) (2) .
ويوم عرفة يوم عظيم يعتق الله فيه من النار أكثر ما يعتق في سائر الأيام ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم فيقول: ماذا أراد هؤلاء) (3) وهو من أعظم الأيام وأحبها إلى الله كما أنه من أيام عشر ذي الحجة ويستحب له أن يغتسل في هذا اليوم كما صح هذا عن علي في سنن البيهقي بإسناد صحيح فهو من الأيام الفاضلة التي يشرع الاغتسال فيها.
قال: (ومن وقف ولو لحظة)
فمن وقف ولو لحظة أجزأه ذلك. وليس المراد الوقوف الحقيقي بل لو كان قاعداً أو مضطجعاً أو مر مروراً منها أي يجاوزها إلى غيرها فإنه يجزئه لأنه بمعنى الوقوف هنا، إذ الوقوف هنا بذاته ليس بمعتبر فلو مر مروراً منها إلى غيرها فإن هذا المرور يجزئه ولو كان ذلك لحظة.
ودليله: ما روى الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (4) فظاهره لما يصدق عليه الإدراك وإن قل.
في الحديث أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج بل هو الحج فهو ركن الحج الأعظم وقد أجمع أهل العلم على أنه ركن من أركانها.
قال: (من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر)
__________
(1) أخرجه النسائي رقم 3011.
(2) أخرجه مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) أخرجه مسلم باب فضل يوم عرفة من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 117] .
(4) أخرجه أبو داود [1949] والنسائي والترمذي وابن ماجه. الإرواء رقم 1064.(11/170)
هذا بيان من المؤلف لطرفي الوقوف بعرفة من حيث الوقت، فهو من طلوع الفجر الصادق يوم عرفة ما لم يطلع الفجر من يوم النحر.
ودليل ذلك: ما ثبت عند الخمسة من حديث: عروة بن مضرس الطائي: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله فسأله عن الوقوف بعرفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه " أي صلاة الفجر من يوم النحر بمزدلفة " ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) والشاهد قوله: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) وما قبل الزوال يصدق عليه النهار.
ووافق جمهور العلماء الحنابلة على الإجزاء ليلاً قبل طلوع الفجر من ليلة النحر.
ونازعوا الحنابلة في إجزائه قبل زوال الشمس من يوم عرفة فقالوا: لو وقف ضحى عرفة لم يجزئه ذلك.
واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما أتى عرفة لما زالت الشمس وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليلاً أو نهاراً) ولأن من وقف ليلاً فإنه فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فلم يقف ليلاً ومع ذلك يقولون بإجزائه. فالحديث إنما يدل على استحباب ذلك.
إذن: يستحب له ألا يقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس لكن لو وقف قبل زوالها وبعد طلوع الفجر يوم عرفة فإنه يجزئه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لعروة: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) .
وقوله: (أو نهاراً) يصدق على أي جزء من أجزاء النهار من يوم عرفة لكن المستحب له ألا يأتي يوم عرفة إلا بعد زوال الشمس.
قال: (وهو أهل له صح حجه وإلا فلا)
__________
(1) أخرجه أبو داود 1950 والنسائي والترمذي وابن ماجه، الإرواء رقم 1066.(11/171)
فلابد أن يكون أهلاً له، فإن لم يكن أهلاً له كغير البالغ أو غير العاقل ونحوه ممن ليس أهلاً للحج فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام كما تقدم البحث فيه.
قال: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم)
إذن: الواجب عليه أن يقف إلى الغروب، فإذا أتى بعد زوال الشمس أو قبل زوالها فإنه ليس له أن يفيض إلا بعد غروب الشمس.
قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا مذهب جمهور العلماء بوجوبه.
وفي هذا نظر، ولذا سيأتي اتفاقهم على أنه لو وقف ليلاً فإنه ليس عليه شيء من ذلك ولذا قال المؤلف هنا:
(ومن وقف ليلاً فقط فلا)
رجل لم يأت إلا بعد غروب الشمس فوقف ساعة من الليل ثم رجع فإنه ليس عليه دم – على أن الأول موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف نهاراً وهذا كذلك فقد وقف نهاراً، أما هذا فلم يقف إلا بالليل ومع ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه لا دم عليه. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1)
قالوا: ولم يوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم دماً.
والصحيح أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس فلا دم عليه أصلاً وهو رواية عن الإمام أحمد وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه للاستحباب بدليل ما تقدم من أن من وقف بعرفة ليلاً فلا شيء عليه فأولى من ذلك ومن وقف نهاراً وأفاض قبل غروب الشمس هو أولى ألا يوجب عليه الدم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبه في حديث عروة لما قال: (ووقف قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) (2) .
فالصحيح مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وأن من أفاض قبل غروب الشمس فإنه مع مخالفته للسنة النبوية لكنه لا شيء عليه ويجزئه.
ويجزئه الوقوف عند جمهور أهل العلم.
__________
(1) سبق ص103.
(2) سبق ص104.(11/172)
ومذهب المالكية أنه لا يجزئه وهذا أعظم بعداً من القول المتقدم فإن كونه يقف في النهار فنقول لا يجزئه لأنه أفاض قبل غروب الشمس وأما إذا وقف ليلاً فإنه يجزئه هذا أبعد عن الترجيح من القول المتقدم.
إذن: إن وقف بعرفة أي ساعة من ليل أو نهاراً أجزأ عنه ذلك للحديث المتقدم لكن إن أفاض قبل غروب الشمس من يوم عرفة فجمهور العلماء على أن عليه دماً.
ومذهب المالكية أن وقوفه لا يعتد به.
والصحيح هو مذهب الجمهور من الاعتداد به، ومذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا دم عليه لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولأنه أولى مما اتفق عليه العلماء من عدم إيجاب ذلك عليه إذا وقف ليلاً.
أما إذا خرج من عرفة ثم رجع قبل غروب الشمس، فإنه لا يجب عليه دم، لأنه أدرك الطرف الأخير من النهار وهو غروب الشمس أدركه بعرفة، فكما لو أتى قبل غروب الشمس فوقف إلى غروب الشمس فإنه لا شيء عليه بالاتفاق، فكذلك إذا وقف نهاراً فخرج ثم عاد قبل غروب الشمس فأدرك غروب الشمس فإنه لا شيء عليه.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة)
فقد ثبت في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم وفيه: (فلم يزل وافقاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص فأردف أسامة بن زيد وشنق للقصواء الزمام) (1) فهنا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض إلى مزدلفة من عرفة بعد أن غربت الشمس وهذا هو المستحب، بل هو الواجب عند جمهور العلماء وقد تقدم أن الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد عدم وجوب ذلك فالمشروع له ألا يفيض إلى مزدلفة حتى تغرب الشمس.
قال: (بسكينة ويسرع في الفجوة)
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتاب الحج.(11/173)
فينبغي أن يكون بسكينة بلا إسراع ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ) (1) والعنق: هو ما بين الإسراع والإبطاء، " نصَّ " أي أسرع.
وفي البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بالإيضاع) (2) أي ليس بالإسراع، وفي مسلم من حديث جابر أنه كان يقول بيده: (أيها الناس السكينة السكينة) (3) فالمستحب أن يكون سيره إلى مزدلفة بسكينة وتؤده إلا أن يجد فجوة فلا بأس أن يسرع.
قال: (ويجمع بها بين العشاءين)
أي بمزدلفة بين العشائين كما ثبت هذا في حديث جابر في صحيح مسلم قال: (فأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر) (4) فالمستحب له في ليلة المزدلفة أن يجمع بين المغرب والعشاء.
قال: (ويبيت بها)
أي بمزدلفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عن مناسككم) وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اضطجع حتى طلع الفجر) .
* واختلف أهل العلم في المبيت بمزدلفة هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: أنه ركن فلا يصح الحج إلا به، فمن لم يبت بمزدلفة فلا حج له.
__________
(1) أخرجه البخاري باب السير إذا دفع من عرفة من كتاب الحج وفي كتاب الجهاد، وكتاب المغازي، ومسلم باب الإفاضة من عرفات.. من كتاب الحج، وأبو داود، المغني [5 / 277] .
(2) أخرجه البخاري باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 277] .
(3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/174)
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعروة بن مضرس: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) .
قالوا: فدل على أن من لم يشهد الصلاة ليلة مزدلفة ولم يقف فإن حجه لا يتم وتفثه لا يقضى. هذا مذهب طائفة من السلف وهو مذهب الأوزعي وابن خزيمة وابن جرير الطبري.
القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء: أنه واجب يجبر بدم.
واستدلوا: بما روى الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (2) .
قالوا: فدل هذا على أنه يدرك الحج وإن فاته المبيت بمزدلفة فظاهر الحديث أن من أدرك عرفة ليلاً قبل طلوع الفجر بدقائق ثم أذن عليه الفجر وهو بعرفة ثم أفاض إلى مزدلفة فإن حجه يصح.
فهذا الحديث ظاهره عدم ركنية المبيت بمزدلفة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح حج من أدرك عرفه قبل طلوع الفجر ومن أدركها على هذه الهيئة فإنه لابد أن يفوته المبيت بمزدلفة.
قالوا: وظاهر الحديث وجوب صلاة الفجر فيه، وأنتم لا تقولون بهذا بل تجيزون للظعن والضعفة وغيرهم أن يفيضوا قبل حطمة الناس قبل أذان الفجر كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولو كان ركناً من أركان الحج – أي شهود صلاة الفجر – فيه لما قلتم بالترخيص للضعفة من النساء وغيرهن أن يفيضوا قبل طلوع الفجر.
وأنتم تقولون: أن من نام عن صلاة الفجر فلم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس فإنه يدرك المبيت وإن لم يصل صلاة الفجر.
__________
(1) سبق ص104.
(2) أخرجه أبو داود باب من لم يدرك عرفة 1949، والترمذي باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 889، والنسائي في الحج باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 210، 3047، وابن ماجه في الحج باب من أتى عرفة قبل الجمع، 3015.(11/175)
فإذن: أنتم لا تقولون بظاهره، فإن ظاهره أن من صلى وشهد صلاة الفجر مع الإمام فهو الذي يصح حجه ويقضي تفثه.
القول الثالث: وهو مذهب بعض أهل العلم من الشافعية: إلى أن المبيت بمزدلفة سنة وليس بواجب. قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله لا يدل على الوجوب.
وأصح الأقوال هو مذهب جمهور أهل العلم أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم، وأن من فاته فإن حجه صحيح لكنه يجبر ما فاته بأن يهريق دماً.
بدليل ما تقدم من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن أن يدفعن من مزدلفة قبل أذان الفجر ورخصته بذلك، ولا شك أن الرخصة والإذن إنما يوجه إلى الواجب إذ لا يقال فيمن أذن له بترك رخصة: رخص له بذلك أو أذن له بذلك، فإن هذا إنما يقابل الواجب.
فهذه الأحاديث ترد على من قال بسنية المبيت بمزدلفة، فرخصة النبي صلى الله عليه وسلم وإذنه إنما يتوجهان إلى ما ثبت وجوبه، وأما ما ثبت استحبابه فإن الإذن والترخيص ثابت فيه أصلاً فلا يحتاج إلى إذن وترخيص.
قال: (وله الدفع بعد نصف الليل)
مطلقاً سواء كان معذوراً كضعفة الرجال وكالنساء ونحوهم من المعذورين الذين يشق عليهم أن يدفعوا مع الناس في حطمتهم، أو كان من الأشداء الذين لا يثقل عليهم ذلك فكلهم لهم الدفع بعد نصف الليل – هذا مذهب الحنابلة، ومذهب الشافعية أيضاً.
ومذهب المالكية أوسع من ذلك فإن مذهبهم جوازه إن مكث قدراً يكفيه لصلاة المغرب والعشاء وإنزال رحله وهذا لا يتجاوز الثلث ساعة ولا يصل إلى النصف ساعة فإذا قدر نصف ساعة فإنه يجزئه ذلك وله أن يدفع.(11/176)
وقال الأحناف: لا يجوز له أن يدفع إلا بعد طلوع الفجر. وهذا القول الراجح إذ لا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية فضلاً عما ذهب إليه المالكية. فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وإذنه وترخيصه للضعفة يدل على وجوب المبيت وعدم الترخيص والأذن للأقوياء. وقياس الأقوياء على الضعفاء: قياس مع الفارق.
ولذا قال ابن القيم فيما ذهب إليه الحنابلة: ولا دليل له من كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: بل الأدلة الشرعية تخالف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن، ولغيرهن من الضعفة أن يدفعوا وأما غيرهم فإنهم يبقون على وجوب المبيت، فليس لهم أن يفيضوا أو يدفعوا قبل طلوع الفجر.
ثم – أيضاً – الضعفاء من النساء والرجال ممن يجوز دفعهم قبل الفجر لا يجوز دفعهم إلا إذا دخل الثلث الأخير من الليل كما دلت عليه الآثار أيضاً.
فمن ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمولاها (هل غاب القمر) والقمر إنما يغيب ليلة المزدلفة وهي ليلة العاشر من ذي الحجة إنما يغيب في ثلث الليل الأخير فقال: لا، فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر فقال: نعم، قالت: فارتحل لي، قال: فارتحلنا حتى أتت الجمرة فرمتها ثم صلت الفجر في منزلها فقلت لها: يا هَنْتاه " أي يا هذه " لقد غلسَّنا " أي بكرنا " فقالت: كلا أي بني، أذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن) (1) أي بما تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء من كتاب الحج. وأحمد والبيهقي. المغني [5 / 285] .(11/177)
ولا شك أن امتناعها عن الذهاب قبل مغيب القمر يدل على أن الإذن إنما كان عند غيابه وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة " أي ثقيلة " فأذن لها، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأدفع بأذنه أحب إلي من مفروح به) (1) وفي رواية: (فأصلي الصبح فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس) فدل على أن هذا الدفع يكون بوقت يكفيها أن تصل إلى بيتها أو منزلها بمنى فتصلي فيه الصبح ثم ترمي الجمرة.
وفي الصحيحين: أن ابن عمر: كان يقدم ضعفة أهله ليلة مزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون " أي يبدؤون السير " قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فيصلون منى لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك فإذا قدموا منى رموا الجمرة فيقول ابن عمر: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2) فهؤلاء أيضاً إنما كانوا يدفعون قبل صلاة الفجر في الثلث الأخير من الليل بحيث أنهم منهم من يصل لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج رقم 1681 وأخرجه مسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 38] .
(2) البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل رقم 1676، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء.. صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 41] .(11/178)
إذن الراجح: أنه ليس للضعفاء ولا للضعفة ممن يجوز لهم أن يدفعوا ليلة المزدلفة، ليس لهم أن يفيضوا إلا في الثلث الأخير من الليل فيصلون الفجر بمنى، كما أنه ليس للأقوياء أن يدفعوا قبل طلوع الفجر على الراجح – إلا من احتاج الضعفة إليه، كأن تكون هناك نسوة يحتجن إلى من يدفع معهن من الرجال فيجوز لمن احتجن إليه من الرجال أن يدفعوا معهن فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من جمع بليل) (1) .
* متى يكون رمي الجمرة للضعفة ومن معهم من الأقوياء: هل يكون قبل طلوع الفجر أم لا يرمون إلا بعد طلوع الفجر أو لا يرمون إلا بعد طلوع الشمس؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: أن لهم أن يرموا قبل طلوع الفجر، أي الضعفة ومن معهم من الأقوياء هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي الجمرة قبل طلوع الفجر) (2) لكن الحديث ضعيف مضطرب ولذا أنكره الإمام أحمد وغيره. فقد استدلوا بهذا الحديث على جواز الرمي قبل الفجر للضعفة وبالقياس الأقوياء.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والأحناف: أنه ليس للأقوياء ولا للضعفة أن يرموا إلا إذا طلعت الشمس.
واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة والحديث له طرق وهو حديث صحيح عن ابن عباس قال: (قدمنا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة أُغَيْلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا، فجعل يلطخ أفخاذنا " أي يصرفها بلين " ويقول: أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة.
(2) أخرجه أبو داود باب التعجيل من جمع رقم 1942.
(3) أخرجه أبو داود [1940] والنسائي [2 / 50] وابن ماجه [3025] والترمذي [1 / 169] وأحمد الأرواء رقم 1076 [4 / 276] .(11/179)
القول الثالث: هو ما اختاره ابن القيم فقد اختار قولاً جمع فيه بين الأحاديث الثابتة في هذا الباب.
فقال: أما الضعفة فيجوز لهم أن يرموا بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وليس لهم قبل طلوع الفجر. واستدل بالآثار المتقدمة بحديث أسماء، وحديث ابن عمر، وحديث عائشة فكل الآثار المتقدمة الثابتة في الصحيحين فيها أنهم كانوا يرمون بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فإن أسماء رمت ثم صلت الفجر في منزلها وعائشة تقول: (فأصلي الصبح فأرمي الجمر، قبل أن تأتي الناس) (1) وظاهره أن هذا هو ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لسودة. وهكذا أيضاً أثر ابن عمر فإنهم يقدمون لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا – وقدوم أولهم لصلاة الفجر – رموا الجمرة ويقول: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2)
قال فهذه الأحاديث تدل على أنه يجوز للضعفة أن يرموا بعد طلوع الفجر ولا شك أن ثمت فارق ظاهر بين طلوع الفجر وبين ما قبله فإن طلوع الفجر ثبت به دخول ليوم النحر الذي من مناسكه رمي جمرة العقبة أما قبل طلوع الفجر فإنه لم يدخل بعد هذا اليوم والرمي إنما هو من مناسك يوم النحر.
قال: أما الأقوياء فليس لهم وإن دفعوا مع الضعفة ليس لهم أن يرموا حتى تطلع الشمس لحديث ابن عباس المتقدم فإنه كان من الأقوياء الذين قدمهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الضعفة ثم نهاهم وقال: (أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) وهذا القول هو الراجح وبه يكون الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب.
قال: (وقبله فيه دم) .
فإذا وقع [لعلها: دفع] قبل نصف الليل فعليه دم.
إذن: يخرج على قولنا المتقدم: أن من دفع قبل طلوع الفجر من الأقوياء فإن عليه دم والضعفة إذا دفعوا قبل ثلث الليل الأخير فعليهم دم، لوجوب المبيت بمزدلفة ولا يحصل المبيت إلا بما تقدم
قال: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله) .
هذه مسألة:
__________
(1) سبق ص108
(2) سبق ص108(11/180)
إذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فلم يأت قبل ذلك فعليه دم لفوات المبيت.
(لا قبله) : إذا أتى قبل أذان الفجر فإنه لا دم عليه.
فإذن: إذا أتى قبل أذان الفجر فلا دم عليه، وأما بعد الأذان فعليه دم. وذلك لأنه قد ترك واجباً من الواجبات، ويلزمه الدم سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً لأثر ابن عباس وسيأتي.
قال: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه)
إذا صلى الصبح بمزدلفة أتى المشعر الحرام وهو جبل " قَزَح " (1) وهو جبل معروف هناك، وهو ما يسمى بالمشعر الحرام.
ومزدلفة كلها يثبت فيها هذا الاسم على وجه العموم كما صح ذلك عن ابن عمر فقد قال: (المشعر الحرام المزدلفة كلها) لكن هذا الجبل يثبت فيه هذا الاسم على وجه الخصوص فيقف عند المشعر الحرام فيدعو الله ويكبره ويهلله ويحمده ويوحده فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (– بعد أن صلى الصبح – ركب القصواء فأتى المشعر الحرام فوقف عنده فاستقبل القبلة فدعاه " أي دعا الله " وكبره وهلله ووحده) (2) وعند أبي داود: (فحمد الله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس) (3)
لذا قال المؤلف هنا: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر فيرقاه)
ورقيه ثابت في حديث جابر من رواية أبي داود ولحديثه قال: (فرقي عليه) (4)
قال: (أو يقف عنده)
__________
(1) في معالم السنن [2 / 478] : " قُزَح: بضم ففتح، موضع وقوف الإمام بمزدلفة، بزنة عمر، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعدل ".
(2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
(3) أخرجه أبو داود باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 1905.
(4) باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج رقم 1905.(11/181)
فإذاً: إن وقف عنده أو رقى عليه فكل ذلك حسن لكن المستحب أن يرقى عليه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم -: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في بيوتكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) (1) وقوله: " هاهنا " أي عند المشعر الحرام.
قال: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: {فإذا أفضتم من عرفات} الآيتين)
ولم أجد دليلاً يدل على استحباب قراءة هاتين الآيتين عند الموقف.
قال: (ويدعو حتى يسفر)
أي حتى يسفر الجو، ثم قبيل طلوع الشمس يدفع إلى منى.
قال: (فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر)
ومحسر: وادي بين مزدلفة ومنى، وسمي محسراً: من حسر، أي أعياه وأتعبه، وسمي بهذا الاسم: لأنه أعيا الفيل وأتعبه فحصل له إعياء في ذلك الموضع فسمي محسراً من حسر، وفيه قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} أي وهو كليل متعب.
فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر أي يسرع مسافة قدرها رمية حجر – كما صح ذلك عن ابن عمر في موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يسرع فيه رمية من حجر) (2) ، واستحباب الإسراع ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: (فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً) (3)
قال: (وأخذ الحصى، وعدده سبعون بين الحمص والبندق)
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 195] .
(2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب السير في الدفعة رقم 889.
(3) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.(11/182)
أي أخذ الحصى في طريقه غداة العقبة وذلك لمصلحة التعجل بالرمي عند الوصول إلى جمرة العقبة، حتى لا ينشغل بجمع الحصى عند الوصول إلى الموضع الذي يرمي فيه، فيستحب له قبيل وصوله المرمى أن يجمع الحصى من أي موضع شاء من مزدلفة أو من غيرها فليس هناك موضع يتعين استحبابه وقد ثبت في النسائي عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة العقبة " أي فجر غداة اليوم الذي ترمي فيه جمرة العقبة ": هلمَّ القط لي قال: فلقطت له حصيات مثل الخذف " وهو الحصى الصغير الذي يمكن وضعه بين السبابتين ليرمي به " فأخذهن من يده ثم قال: بمثل هؤلاء وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (1)
والشاهد أن الحصى كحصى الخذف.
ثم قال المؤلف هنا: (بين الحِمَّص والبندق)
الحمص: معروف ولعله بنصف أنملة الأصبع الصغرى، والبندق كذلك.
فبينهما يكون حصى الخذف.
وقوله: (عدده سبعون) : ظاهره أنه يجمع سبعين من ذلك الموضع، وهذا فيه نظر.
بل الأظهر أنه يجمع لكل يوم في يومه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجمع غداة العقبة أي لجمرة العقبة وأما غيرها من الجمرات فيجمع لها في أيامها.
وعدد الجمرات التي ترمى في الجمرات كلها على وجه التمام سبعون حصاة.
في اليوم الأول (العاشر من ذي الحجة) : سبع.
وفي اليوم الحادي عشر: إحدى وعشرون.
وفي الثاني عشر كذلك.
وفي الثالث عشر كذلك.
فيكون مجموعها سبعين حصاة. يجمعها من أي موضع شاء، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره أن يلقطها في طريقه غداة العقبة وهي بين الحمص والبندق – كما تقدم –
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة)
__________
(1) أخرجه النسائي باب من التقاط الحصى رقم 3057 من كتاب المناسك بلفظ: " هات القط لي، فلقطت … قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو … ".(11/183)
ومنى: شعب بين جبلين وهي بين حدين هما: جمرة العقبة ووادي محسر، فجمرة العقبة ووادي محسر ليسا من منى باتفاق العلماء كما نص على ذلك الموفق وابن القيم وغيرهما.
والحنابلة ذكروا أن وادي محسر وجمرة العقبة ليسا من منى ولم يذكروا في هذه المسألة خلافاً، وهو المشهور عند أهل العلم وقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح أن عمر قال: (لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة) (1) فدل على أن ما وراء العقبة ليس من منى، ولا يعلم لهم مخالف وكذلك وادي محسر.
ومما يدل على أنه ليس من منى، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مَّر به حرك قليلاً وهي سنته صلى الله عليه وسلم في الأماكن التي وقع فيها بأس الله عز وجل وعذابه كما فعل ذلك في مروره بديار ثمود، ولا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يسرع فيه ويتعجل – لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد لله به. وأما ما ذكره الشيخ الألباني: أن محسراً من منى استدلالاً برواية في صحيح مسلم في حديث الفضل بن عباس من سياق فعل النبي صلى الله عليه وسلم من قول الفضل وفيه ذكر مروره بوادي محسر قال: (وهو من منى) .
والأظهر إن هذا من قول بعض الرواة وليس من قول الفضل بن عباس إذ لا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يشرع الإسراع به والتعجل بمروره لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد الله به. وهذا هو المشهور عند أهل العلم وقد ذكره الأزرقي عن عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، قال ابن القيم – في وادي محسر: (وهو برزخ بين منى ومزدلفة) وهو – كما تقدم – رمية بحجر أي ثلاثمائة أو أربعمائه متراً ونحو ذلك.
فعلى ذلك منى: حداها جمرة العقبة ووادي محسر، وأما من الجهتين الأخريين فتحفها الجبال فيهما.
قال: (رماها بسبع حصيات)
__________
(1) الموطأ براوية يحيى بن يحيى الليثي، باب البيتوتة بمكة ليالي منى رقم 919.(11/184)
كما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) (1) ويستحب أن يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ويستبطن الوادي – وذلك عند رمي جمرة العقبة – لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (2) .
قال: (متعاقبات)
أي واحدة بعد واحدة، فإن رماها دفعة واحدة لم يجزئه لأنه خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف هديه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (3) فلا يجزئه ذلك وكانت له رمية بحصاة واحدة، فالواجب فيها متعاقبات لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
* الأظهر أنه يجب ألا يقطع بينها بفاصل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: (فرماها) فيه اشتراط الرمي وأن الإلقاء والطرح لا يجزئ، فلابد أن يفعل ما يصدق عليه أنه رمى، فلو ألقاها إلقاءً أو طرحها طرحاً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما رماها رمياً فلا يجزئ إلا ما يصدق عليه الرمي وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وهذا باتفاق العلماء وإلقاؤها أو طرحها خلاف هديه، وكل ما كان خلاف هديه فهو رد على صاحبه.
قال: (يرفع يده حتى يرى بياض إبطه)
هكذا ذكر بعض الحنابلة وأن ذلك مستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولم أر ما يدل على ذلك من السنة لكن فعل ذلك حسن لأنه أمكن في الرمي وأتم وأما ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا دليل عليه لكن ذلك أعظم في التمكن من الرمي فيستحسن.
__________
(1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) أخرجه البخاري باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، من كتاب الحج رقم 1749، ومسلم
(3) سبق ص98(11/185)
إذن: يستحسن له أن يرفع يده ثم يرمي بالحجر ولا نقول إن هذا سنة لا سيما تقييده بأن يرى بياض إبطه لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويكبر مع كل حصاة)
لما تقدم في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (1) أي يقول الله أكبر.
قال: (ولا يجزئ الرمي بغيرها)
فلا يجزئه أن يرمي بغير الحصى فلو رمى بغير الحصا كالمدر أو الكحل أو ذهب أو فضة أو نحو ذلك مما ليس بحجر ولا يسمى حجراً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، فقد أمر ابن عباس أن يلقط له حصيات، وقال: (بمثل هؤلاء) (2) أي فارموا، فهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وكل فعل يخالف هديه فهو رد.
ومثل ذلك لو رمى بحجر كبير فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: رمى بحصى الخذف وقال: (بمثل هؤلاء وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرمي بأكبر من حجر الخذف وذكر أنه غلو في الدين، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو فاسد، وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد، فالنهي يقتضي الفساد.
قال: (ولا بها ثانياً)
ليس له ولا لغيره أن يرمي بحصاة قد رمى بها وذلك لأنها استعملت في عبادة، فأشبه ذلك الماء المستعمل في الوضوء فإنه لا يجوز الوضوء به في المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية: له أن يرمي بحصاة قد رمى بها، كأن يأخذ من المرمى حجراً فيرمى به ثانياً.
__________
(1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبخاري، سيأتي ص114.
(2) سبق ص111(11/186)
قالوا: لأنه يصدق عليه اسم الرمي، فهو حصى وقد رمي به وأما كونه يأخذه من المرمى ولا يأخذه ابتداءً من الأرض فهو خلاف الأولى لكنه رمي مجزئ، وأما ما ذكره الحنابلة من قياسه على الماء المستعمل في الوضوء، فالراجح في هذا الأصل: أن الوضوء بالماء المستعمل جائز ولا حرج فيه مع أنه – كما تقدم – خلاف الأولى.
فالصحيح أنه لو أخذ حصاة من المرمى قد رمى بها هو أو غيره فإن ذلك يجزئه لكن الأولى له أن يأخذها من الأرض ابتداءً فيرمي بها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه لا يجزئه الرمي إلا أن تقع الحصاة في المرمى باتفاق العلماء، وأنه لو رماها فلم تقع في المرمى فإنه لا يجزئه باتفاق العلماء، لأن الواجب هو رمي الجمرة وهنا لم يقع ذلك منه فلم يجزئه. ولو رماها فوقعت على موضع صلب ثم تدحرجت فوقعت في المرمي أو ضربت حائطاً ووقعت في المرمى فإنه يجزئه؛ لأن ذلك فعله، فهذا كله من فعله فقد رماها وكانت نتيجة رميه وقوعها في المرمى فيجزؤه ذلك.
أما لو كانت بفعل غيره فإنه لا يجزئه.
واعلم أنه لا يجزئ الرمي إلا أن بيقين أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمى، أما لو شك في ذلك فإنه لا يجزئه لأن ذمته لا تبرأ إلا بيقين أو غلبة ظن، فالواجب عليه أن يرميها رمياً يتيقن أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمي أما إذا شك فإن الأصل عدم وقوعها فيه.
واعلم أن الرمي واجب باتفاق العلماء وقد ذهب، بعض العلماء إلى ركنيته، والصحيح هو وجوبه فهو واجب يجبر بدم، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
قال: (ولا يقف) .(11/187)
فلا يشرع له أن يقف، بل يرمي ثم يذهب عن جمرة العقبة فلا يقف عندها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها لا في يوم النحر ولا في أيام التشريق، بخلاف الجمرة الصغرى والجمرة الوسطى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عندهما كما سيأتي في حديث ابن عمر في البخاري أما جمرة العقبة فلم يقف عندها. فلا يشرع الوقوف ولا الدعاء ولا ذكر، بل ينصرف عنها ولا يقف.
قال: (ويقطع التلبية قبلها)
أي قبل الرمي، فيقطع التلبية قبل أن يرمي الجمرة وذلك لحديث الفضل وفيه: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (1)
فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء أنه يقطع التلبية قبل اشتغاله برمي الجمار.
وذهب إسحاق إلى أنه يقطعها عند آخر حصاة، لما ثبت في صحيح ابن خزيمة بإسناد حسن من حديث الفضل وفيه: (فقطع التلبية مع آخر حصاة) .
والذي يظهر لي هو صحة القول الأول، وأن هذه اللفظة منكرة فإن الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (2) وهذا يدل - كما قرر هذا البيهقي والموفق، يدل - على أنه قطع التلبية قبل اشتغاله بالرمي إذ لا يمكنه الجمع بين التكبير والتلبية أثناء الرمي.
قال: (ويرمي بعد طلوع الشمس)
يرمي جمرة العقبة، لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رمى الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (3) أي أيام التشريق كان يرمي بعد الزوال وأما جمرة العقبة فقد رماها ضحى أي بعد طلوع الشمس.
قال: (ويجزئ بعد نصف الليل)
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 390،..] ومسلم [4 / 71] وغيرهما، الإرواء رقم 1098.
(2) أخرجه البخاري باب يكبر مع كل حصاة، ومسلم باب رمي جمرة العقة.. من كتاب الحج. المغني [5 / 297] .
(3) أخرجه مسلم باب بيان استحباب الرمي من كتاب الحج. المغني [5 / 294] .(11/188)
أي يجزئه قوياً أو ضعيفاً أن يرمي بعد نصف الليل، وتقدم ضعف هذا القول وأن الراجح أنه إن كان من الأقوياء فلا يرمي إلا بعد طلوع الشمس وإن كان من الضعفاء فبعد طلوع الفجر.
واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن رمي جمرة العقبة يمتد إلى غروب الشمس حكى الإجماع ابن عبد البر ويدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: رميت بعدما أمسيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (1) والمساء: من زوال الشمس إلى أن يشتد الظلام.
وقيل: إلى نصف الليل.
والمشهور هو الأول.
واختلفوا في الرمي ليلاً هل يجزئ أم لا؟
الحنابلة قالوا: لا يجزئ أن يرمي ليلاً، ومن فاته الرمي نهاراً فغربت الشمس ولم يرم، فإنه يرمي من الغد بعد زوال الشمس – أي في اليوم الحادي عشر -.
وقال المالكية والشافعية: يجزئه أن يرمي ليلاً إلا أن المالكية قالوا: عليه دم فهو عندهم من باب القضاء لا من باب الأداء وأما الشافعية فهو عندهم من باب الأداء ولا دم عليه.
استدل الحنابلة: مما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (من نسى رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) والإسناد إليه صحيح.
وأما حجة المالكية والشافعية: فاستدلوا: بحديث البخاري المتقدم ففيه أن السائل لما قال: (رميت بعدما أمسيت قال له: النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) قالوا: والمساء يصدق على جزء من الليل كما أنه يصدق على جزء من النهار باتفاق أهل اللغة.
فإن ما قبل اشتداد الظلام بعد غروب الشمس هو من المساء اتفاقاً قالوا: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق، وباب إذا رمي بعدما أمسى من كتاب الحج. المغني [5 / 295] .(11/189)
وأجاب الحنابلة عن استدلال الشافعية بهذا الحديث قالوا: السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فثبت لنا أن سؤاله موجه إلى المساء في النهار، وهو ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ويوم النحر ينتهي بغروب الشمس والحديث فيه أن السائل سأله يوم النحر، فدل على أنه قد رمى في مساء النهار، فإن المساء قسمان 1- مساء نهار 2- ومساء ليل.
فمساء الليل بعد غروب الشمس إلى أن يشتد الظلام، وأما مساء النهار فهو من زوال الشمس إلى غروبها.
فالسؤال قد وقع في اليوم الذي يدل على أن السؤال إنما كان في النهار.
ويدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل في ذلك اليوم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (1) .
وللفارق بين هذين المسائين فإن مساء الليل تبع لليوم الحادي عشر، فإذا غربت الشمس دخلت ليلة إحدى عشرة وأما ما قبل غروب الشمس فهو من الليل العاشر وهو يوم النحر فالأظهر أن في استدلال الشافعية بهذا الحديث نظراً.
واستدلوا – أيضاً – بما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد زوج ابن عمر نفست فتخلفت هي وصفية في المزدلفة فأتيتا بعد غروب الشمس فأمرهما ابن عمر أن يرميا ولم ير عليهما شيئاً) (2) فهذا يدل على جواز الرمي ليلاً.
والذي يظهر لي – والله أعلم – قوة ما ذهب إليه الشافعية لثبوت هذا الأثر عن ابن عمر صريحاً.
وأما أثره السابق: فالذي يظهر لي أن ذلك في أيام منى وأن من نسى رمي الجمار في أيام منى، فإنه لا يرمي ليلاً وإنما يرمي بعد زوال الشمس من الغد – على رأى ابن عمر وسيأتي الكلام عليه في موضعه.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الفتيا على الدابة عند الجمرة من كتاب الحج وأخرجه مسلم باب جواز تقديم الذبح على الرمي … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 54، 56] ، المغني [5 / 321] .
(2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب الرخصة في رمي الجمار رقم 931.(11/190)
فالجمع بين أثري ابن عمر: أن الأثر الأول في رمي الجمار أيام التشريق وذلك لأن أيام التشريق وقتها واحد، فكلها إذا زالت الشمس رميت، فأُمر بجمعها، وسيأتي الكلام على جمعها ومذاهب أهل العلم في ذلك، فالمراد جمار أيام التشريق بدليل الجمع في قوله: (من نسى رمي الجمار) (1) أي جمرة العقبة والجمرة الوسطى والجمرة الصغرى.
وأما أثره الآخر فهو دال على جواز الرمي ليلاً لاسيما للمعذورين وهكذا في ازدحام الناس وحطمتهم فإنه يقال بهذا المذهب.
وحينئذ فالأحوط ألا يرمي إلا نهاراً، لكن ينبغي أن يوسع في هذا حيث كانت هناك حطمة وزحام شديد فإنه يوسع في هذا كما تقدم عن ابن عمر في امرأته لما تخلفت وابنة أخيها فإنه أمرهما أن يرميا ليلاً.
هناك أثر عن ابن عباس: أن الحجر الذي يرمي فيقبل (2) أنه يرفع وهو ثابت عن ابن عباس لكن هل المراد رفع معنوي أو حقيقي – هذه مسألة أخرى.
الجبال التي تحف منى: ما أقبل فهو من منى وما أدبر فليس منها، أما الذي في رأس الجبل لا مقبل ولا مدبر: فالأظهر أنه ليس من منى لأن الحدود في الأصل ليست منها لكن الناس في هذا الوقت لا يمكن إلا أن يخرجوا من منى فهذا باب آخر، لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها.
ولا شك أن الموضع لا يكفي فيحتاجون أن يكون في مواضع أخرى من المواضع التي تتصل بمنى. فإذا اتصلت المواضع بمنى فقد امتدت فإن لها حكم منى، كما أن الناس إذا صلوا في المسجد فامتدت صفوفهم خارج المسجد فهم في المسجد، فكذلك منى فإذا اتصلت في الخيام ولو كان ذلك خارج منى فإنه يجزئ لأن الواجبات تسقط عند العجز عنها ولأن المشقة تجلب التيسير ولا يتكلفون أيضاً الخروج من خيامهم إلى المبيت في الليل بمنى لما في ذلك من الكلفة عليهم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم ينحر هدياً إن كان معه)
__________
(1) سبق ص116
(2) لعلها: فيضل.(11/191)
سواء كان الهدي واجباً كهدي التمتع والقران، أو كان هدياً مستحباً كهدي المفرد، فمن كان معه هدي فإذا رمى الجمرة استحب له أن يهدي فالترتيب: أن النحر أو الذبح يكون بعد الرمي.
دليل ذلك حديث جابر في مسلم قال – وقد ذكر رميه لجمرة العقبة – قال: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما غبر وأشركه في هديه) (1) .
قال: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره)
السنة في باب الترتيب أن يكون الحلق أو التقصير بعد النحر ففي مسلم من حديث أنس بن مالك قال: (ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ …) (2) الحديث ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أولاً ثم نحر ثانياً ثم حلق ثالثاً.
واعلم أن الأفضل بإجماع العلماء هو الحلق، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: اللهم ارحم المحلقين والمقصرين فدعا لهم في الثالثة) (3) ولأن الله قدم الحلق على التقصير في قوله: {محلقين رؤوسكم ومقصرين (4) } فالحلق أفضل من التقصير وقد تقدم الكلام على التقصير وما يجزئ فيه وأن ما يصدق عليه اسم التقصير من تعميم الشعر كله. فالجزء الذي يصدق عليه مسمى التقصير يجزئ عنه سواء كان بقدر أنملة أو أقل من ذلك.
واختلف أهل العلم في الحلق أو التقصير هو نسك أم أنه إطلاق من محظور؟
__________
(1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) أخرجه مسلم باب بيان أن السنة يوم النحر …، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] .
(3) أخرجه البخاري [1 / 433] ومسلم [4 / 80، 81] وغيرهما. الإرواء رقم 1084.
(4) سورة الفتح.(11/192)
1- فقال جمهور العلماء: هو نسك، ولذا قال المؤلف بعد ذلك: (والحلق والتقصير نسك) فهو نسك من أنساك الحج كالرمي والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك.
ودليل ذلك قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين والمقصرين) فدل ذلك على أنه نسك وعبادة في الحج.
ويدل عليه بظهور أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان منكم ليس قد أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليتحلل) (1) فدل على أن التحلل مترتب على الحلق أو التقصير وأنهما نسك من أنساك الحج.
2- وقال الإمام أحمد في رواية عنه: هو إطلاق من محظور كالتطيب، فكما أن المحرم يجوز له إذا تحلل أن يتطيب وأن يفعل ما شاء من محظورات الإحرام مما ليس محرماً في الشريعة فكذلك حلق الرأس فهو مجرد إطلاق من محظور من محظورات الإحرام.
واستدل الإمام أحمد في هذه الرواية غير المشهورة عنه، بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري والحديث تقدم لفظه: وفيه: أنه أهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: " حُل " (2) ولم يذكر حلقاً ولا تقصيراً.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 425] ومسلم [4 / 49] وغيرهما، الإرواء رقم 1048.
(2) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، و…، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي وغيرهم. المغني [5 / 97، 305] . سبق ص35.(11/193)
والصحيح هو القول الأول وأن الحلق أو التقصير من مناسك الحج بدليل الأدلة المتقدمة وأما حديث أبي موسى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يأمره بالتقصير صراحة وقد أمر به غيره من الصحابة كما تقدم في حديث ابن عمر ثم أن قوله: " حل " أي افعل ما يترتب عليه التحلل من حلق أو تقصير أي افعل ما تكون به حلالاً ولا يكون حلالاً حتى يحلق رأسه أو يقصر.
فالصحيح ما ذهب جمهور العلماء وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد أن الحلق نسك.
قال: (وتقصر منه المرأة أنملة)
الأنملة هي: رأس الأصبع من المفصل الأعلى.
فالمرأة لا يشرع لها أن تكثر من التقصير بل ينبغي لها أن تقصر أنملة أو نحو ذلك، فلا ينبغي لها أن تبالغ بالتقصير.
وتقييد المؤلف هنا بقدر أنملة ليس المراد أن هذا هو الواجب عليها بل المقصود إنها لا تبالغ بل يكون قدر أنملة أو نحو ذلك، لكن لو أخذت نصف أنملة أو أقل من ذلك أو أكثر فإنه يجزؤها.
فتقييده بالأنملة لبيان عدم مشروعية المبالغة في أخذ الشعر فإن المرأة المستحب لها هو توفير شعرها لا تقصيره.
وأما الحلق فهو محرم بالإجماع ولا يشرع للمرأة في الحج وفي الترمذي وغيره والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى المرأة أن تحلق شعرها) (1) وفي أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير) (2) .
قال: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء)
إذا رمى الجمرة وحلق – فالنحر ليس في هذا الباب، فإن النحر لا يثبت على المفرد ونحوه، ولأن بدله تمتع من ترتيب التحلل عليه - فإذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء.
وهنا مسألتان:
__________
(1) أخرجه الترمذي باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج رقم 914.
(2) أخرجه أبو داود باب الحلق والتقصير من كتاب المناسك رقم 1984، 1985.(11/194)
المسألة الأولى: أن هذا هو المشهور في المذهب وأن من فعل نسكين من ثلاثة فإنه يتحلل التحلل الأول، فإذا فعل النسك الثالث حل التحلل التام، والأنساك الثلاثة هي الرمي والحلق والطواف.
والسعي داخل في هذا الباب مع الطواف وإنما لم يذكروه لأن السعي أيضاً ربما فعله مع طواف القدوم. فإذا فعل نسكين من ثلاثة حل التحلل الأول، فإذا فعل الثالث حل التحلل التام وهذا مذهب الشافعية أيضاً.
واستدلوا: بما روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (1)
قالوا: فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا نسكين ولا شك أن الطواف أولى منهما، فهما من الواجبات (الحلق والرمي) ، والطواف ركن فهو أولى منهما قالوا: فدل على أنه لو رمى وطاف أو حلق وطاف فكذلك لأن الطواف أولى منهما.
وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أنه إذا رمى الجمرة فقد حل وإن لم يحلق.
واستدلوا: بما روى النسائي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (2) والحديث صحيح، وله شاهد عن ابن الزبير في مستدرك الحاكم. وصحح هذا القول الموفق ابن قدامة. (3)
وأجابوا عن دليل أهل القول الأول: بأنه حديث ضعيف فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث، وهو كما قالوا فإن الحديث ضعيف.
فعلى ذلك الراجح: ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب الإمام مالك واختاره الموفق – أنه إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء. فإذا تم له أنساك الحج فحلق وطاف، وسعى المتمتع فإنه يحلل التحلل التام.
__________
(1) أخرجه أبو داود باب في رمي الجمار من كتاب المناسك، وأحمد. المغني [5 / 308] .
(2) أخرجه النسائي باب ما يحل للمحرم.. من كتاب المناسك، وابن ماجه باب ما يحل للرجل إذا رمى.. من كتاب المناسك.
(3) المغني [5 / 310] .(11/195)
والقياس أن يقال أيضاً: أنه لو حلق فقط أو طاف فقط فإنه يحل التحلل الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب التحلل على رمي الجمرة وهو نسك من أنساك يوم النحر، فالقياس إثباته في أي نسك من أنساكه، فلو حلق فكذلك أو طاف فكذلك أو سعى فكذلك، لكن الأولى ألا يتحلل التحلل الأول حتى يرمي الجمرة وإلا فالقياس أنه لو طاف فحسن أو حلق فكذلك فإنه يحل التحلل الأول بجامع أنها كلها أنساك من أنساك الحج.
2-المسألة الثانية قوله: (إلا النساء)
قال الحنابلة: إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً أو عقداً.
وعن الإمام أحمد أنه لا يحرم إلا الوطء من الفرج لأنه أغلظ المحظورات فهو الذي يفسد الحج به وأما مقدماته من مباشرة أو مس ونحوها فإنها لا تحرم.
وفي هذا نظر، فإن الشارع إذا نهى عن الشيء نهى عن ذرائعه الموصلة إليه فمقدمات الجماع ينبغي أن ينهي عنها لأنه إذا حرم الشيء حرمت ذرائعه الموصلة إليه.
وذكر شيخ الإسلام عن الإمام أحمد – وهو داخل في عموم الرواية المتقدمة – أن عقد النكاح جائز، واختاره رحمه الله وهو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد أنه يجوز له عقد النكاح وأن الداخل في ذلك إنما هو الجماع ومقدماته أما مجرد عقد النكاح فإنه لا حرج فيه.
وفيما ذهب إليه شيخ الإسلام قوة، إذ قوله (إلا النساء) إدخال العقد فيه بُعد، فإن العقد ليس فيه شيء من مجانسة النساء ولا مباشرتهن ولا جماعهن فيكون كما لو كانت معه امرأته من غير أن يمسها أو يباشرها أو يجامعها.
فمجرد العقد الظاهر أنه يدخل في عموم قوله (فقد حل له كل شيء) (1) أما لفظة " إلا النساء " فهي ثابتة في الوطء وأدخلنا مقدمات الوطء لأنها ذرائع موصلة إلى الوطء نفسه.
ومع ذلك فإن الأحوط هو الامتناع من العقد أيضاً لا سيما مع قصر الوقت فإنه بتمام المناسك في ذلك اليوم يحل له الوطء والعقد على النساء اتفاقاً.
__________
(1) سبق قريباً.(11/196)
فإذن: ذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: استثنوا عقد النكاح ولم يروه داخلاً في قوله: (إلا النساء) ورأوا أن المنهي عنه إنما هو الجماع ومقدماته، وأما عقد النكاح فإنه لا حرج فيه.
إذن: الأظهر أنه إذا رمى الجمرة فإنه يحل له كل شيء إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً وأما العقد فالأظهر عدم دخوله والله أعلم.
قال: (والحلق والتقصير نسك)
تقدم هذا وأنه هو المشهور في المذهب.
قال: (ولا يلزم بتأخيره دم)
أي لا يلزم بتأخيره عن أيام منى دم.
أما تأخيره في أيام منى فلم أر خلافاً بين أهل العلم في أنه لا يجب عليه الدم.
وأراد المؤلف هنا: أن ينبه على اختيار الحنابلة أن تأخير الحلق عن أيام منى كأن يحلق مثلاً في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة أو بعد شهر ذي الحجة فلا يلزمه دم.
1 - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (1) فأطلق الله عز وجل فذكر ابتداء الحلق وأنه إذا بلغ الهدي محله ولم يذكر – سبحانه – وقت انتهائه فأطلق ذلك فحينئذ يكون لا مدة لانتهائه، كالطواف فكما أنه يجوز له أن يطوف في اليوم الخامس عشر ونحو ذلك ولا شيء عليه فكذلك الحلق.
2-وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن من تأخر في الحلق فلم يحلق حتى فاتته أيام منى فعليه دم.
__________
(1) سورة البقرة.(11/197)
وهذا القول – فيما يظهر لي – قوي وهو مقتضى كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في مسألة الطواف فإنه نظر في قول الحنابلة وغيره من جواز تأخير الطواف عن أيام منى، وأن ذلك لا يجوز، وذلك لأن أيام منى هي أيام الحج، والحج عبادة مؤقتة {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} (1) فكون الله عز وجل لم يقيَّد وقتاً لانتهاء الحلق في الآية المتقدمة لكنه سبحانه وقت للحج في قوله: {الحج أشهر معلومات} فالحج له أيامه التي يفعل فيها، ومقتضى ذلك أنه لا يجوز تأخيره عن أيامه.
فالراجح أنه لا يجوز تأخيره عن أيام منى وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وأنه يجب عليه دم وهو مذهب بعض الحنابلة.
وعلى ما تقدم من ترجيح مذهب المالكية أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه، فإنه على ذلك إذا أخر الحلق عن شهر ذي الحجة فعليه دم وقبله لا دم عليه، ومع ذلك فالأحوط أنه: إن أخره عن أيام منى فعليه دم لأن أيام التشريق هي آخر أيام الحج في التعبد وفعل المناسك.
قال: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر)
لو أن رجلاً حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن ينحر فلا دم عليه ولا حرج في ذلك.
ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: (يا رسول الله! حلقت قبل أن أذبح فقال: اذبح ولا حرج، فقال رجل: يا رسول الله! ذبحت قبل أن أرمي فقال له صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (2) .
وفي مسلم: فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (3) .
وحينئذ فإن هذا يكون ترخيصٌ دلت عليه سنة، وإلا فإن ظاهر قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} أنه لا يجوز له أن يحلق حتى يبلغ الهدي محله وأن الواجب عليه أن يهدي ثم يحلق لكن استثنت السنة هذا في يوم النحر.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) سبق ص115
(3) سبق ص115(11/198)
واعلم أنه يستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر، ففي البخاري من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب الناس يوم النحر) (1) .
وليس هي خطبة العيد، لأنها إنما تشرع لأهل الحاضرة والمقيمين.
ويستحب له أن يعلمهم مناسكهم فيه، ففي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن معاذ قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ففتحت أسماعنا له حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ رمي الجمار فوضع أصبعيه السباحتين " أي بعضهما على بعض " وقال: بحصى الخذف) (2) .
ويستحب أن يكون ضحى لما ثبت في أبي داود من حديث رافع المزني قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حتى ارتفع الضحى وهو على ناقته الشهباء وعلي يعبِّر عنه " أي يبلغ عنه " والناس بين قاعد وقائم) (3) .
فإذن المستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر فيعلمهم مناسكهم.
وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قلم أظافره بعد التحلل)
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال: (ثم يفيض إلى مكة ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة)
يطوف القارن والمفرد بنية طواف الزيارة.
وأما المتمتع فإنه يطوف طواف القدوم ثم طواف الزيارة فيما نص عليه الإمام أحمد.
فقد نص – رحمه الله تعالى – على أن المتمتع والقارن والمفرد إن لم يطف طواف القدوم يستحب لهما أن يطوفا طواف القدوم يوم النحر ثم يطوفا طوافاً آخر وهو طواف الزيارة الذي هو ركن الحج.
__________
(1) أخرجه البخاري باب الخطبة أيام منى رقم 1739.
(2) أخرجه أبو داود باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى من كتاب المناسك، رقم 1957 بلفظ: " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن.. السبابتين
(3) أخرجه أبو داود باب أي وقت يخطب يوم النحر رقم 1956 بلفظ: " رأيت … على بغلة شهباء … ".(11/199)
واستدل رحمه الله تعالى: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة – وهو القارنون – فلم يطوفوا إلا طوافاً واحداً) (1) فاستفاد - رحمه الله – من هذا الحديث مشروعية طواف القدوم للمتمتعين ثم يطوفون بعده طواف الزيارة.
واستحبه للقارنين والمفردين الذين لم يطوفوا للقدوم لما قدموا مكة.
قال الموفق رحمه الله تعالى: (ولم يوافق أبا عبد الله أحد على هذا) (2) ، فجمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه على خلاف هذا القول، وأن المتمتع لا يشرع له في الحج إلا طواف الزيارة وهو طواف الحج الأكبر أما طواف القدوم قبله فلا يشرع له، وكذلك لا يشرع للقارنين الذين طافوا طواف القدوم، لا يشرع لهم أن يطوفوا قبل طواف حجهم طوافاً آخر قالوا: ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولأن طواف القدوم يشبه تحية المسجد ومن اشتغل بالفرض سقطت عنه تحية المسجد بل لم تشرع له.
__________
(1) أخرجه البخاري، باب كيف تهل الحائض.. وباب طواف القارن من كتاب الحج رقم 1638، ومسلم باب بيان وجوه الإحرام وباب بيان حج الحائض من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 140] .
(2) قال في المغني [5 / 315] : " ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله على هذا الطواف.. ".(11/200)
وأما الحديث الذي استدل به الإمام أحمد رحمه الله فقالوا: هو السعي بين الصفا والمروة أي أن المتمتعين لم يكتفوا بالطواف بالبيت يوم الحج الأكبر بل ضموا إلى ذلك السعي بين الصفا والمروة فكان للمتمتعين في ذلك اليوم طوافان طواف بالبيت يشتركون به مع المفردين والقارنين، وطواف آخر تفردوا به وهو الطواف بين الصفا والمروة – ولا شك أن السعي بين الصفا والمروة طواف كما قال تعالى في كتابه الكريم: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (1) .
إذن قالوا: قول عائشة - أن المتمتعين لما رجعوا من منى طافوا طوافاً آخر، قالوا - هو الطواف بين الصفا والمروة وأما طوافهم الأول فهو طوافهم مع القارنين والمفردين وهو الطواف بالبيت.
والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء كما تقدم.
وقول المؤلف: (بنية الفريضة) : تقدم الكلام على شرطية النية في الطواف وكلام أهل العلم في ذلك.
(طواف الزيارة) يسمى طواف الزيارة لأنه زيارة من منى إلى مكة كما أنه يسمى بطواف الإفاضة لأنه يقع بعد الإفاضة من منى ويسمى – أيضاً – بطواف الركن وذلك لأنه ركن من أركان الحج ويسمى طواف الصدر لأنه يفعل بعد الصدور من منى: فهذه أربعة أسماء له.
وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وقد قال تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق (2) } وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل عن صفية أم المؤمنين فقيل له: إنها حائض فقال: أحابستنا هي؟ فقيل له: إنها قد أفاضت يوم النحر " وطافت طواف الإفاضة " فقالوا: اخرجوا) (3) أي اخرجوا من مكة.
فظاهر هذا أنها لو لم تطف طواف الإفاضة لحبستهم حتى تطوفه فدل على أنه ركن من أركان الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا وأنه ركن على المفرد والقارن والمتمتع.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) سورة الحج.
(3) أخرجه البخاري: 3 / 173، ومسلم [4 / 93] وغيرهما، الإرواء رقم 1069.(11/201)
وأما الطواف الآخر الذي استحبه الإمام أحمد فهو إضافة طواف قبله هو طواف القدوم استحبه للمتمتعين مطلقاً وللقارنين والمفردين الذين لم يشتغلوا به عنـ[د] قدومهم مكة.
وخالفه جمهور أهل العلم فلم يستحبوا ذلك ولم يوافقه أحد من أهل العلم على مشروعية هذا.
قال: (وأول وقته بعد نصف ليلة النحر)
هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وأن طواف الزيارة يبدأ وقته إذا انتصف الليل من ليلة النحر.
واستدلوا: بحديث أم سلمة المتقدم وقد تقدم تضعيفه وإنكار الإمام أحمد له.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بطلوع الفجر وهو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف يوم النحر وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر) أي طاف طواف الإفاضة ثم رجع إلى منى) (1) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف طواف الإفاضة يوم النحر كما في حديث ابن عمر، وحديث غيره كحديث جابر في مسلم (2) ، ولأنه من عبادات يوم النحر فلم يجزئ إلا به وقد تقدم نحو هذا في الرمي.
فعلى ذلك من طاف قبل طلوع الفجر فإنه لا يجزئه ذلك سواء كان من الأقوياء أو الضعفة.
فالراجح أن أول وقته طلوع الفجر يوم النحر.
قال: (ويسن في يومه)
__________
(1) أخرجه مسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج، وأبو داود، قال محققا المغني: " أما حديث ابن عمر فلم يروه البخاري، انظر اللؤلؤ والمرجان 2 / 73، وتحفة الأشراف 6 / 155 " ا. هـ. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في باب الزيارة يوم النحر رقم 1732: " وقال لنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طاف طوافاً واحداً ثم يقيل ثم يأتي منى، يعني يوم النحر، ورفعه عبد الرزاق أخبرنا عُبيد الله " ا. هـ.
(2) باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من صحيح مسلم.(11/202)
أي المستحب أن يكون في يوم النحر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم.
قال: (وله تأخيره)
أي تأخيره مطلقاً.
قال جمهور العلماء له تأخيره ما بقى حياً، لأن الله عز وجل قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} ولم يبين وقتاً لانتهائه.
وإنما اختلفوا في لزوم الدم بتأخيره.
فأوجبه الأحناف إذا ذهبت أيام منى.
وأما المالكية فأوجبوه إذا انسلخ شهر ذي الحجة ولم يطف.
وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا الدم مطلقاً، وتقدم النظر في هذا في الدرس السابق.
وما ذهب إليه ابن حزم في هذه المسألة – فيما يظهر لي – قوي جداً فإنه قد ذهب إلى أن أشهر الحج لا تصح أفعال الحج إلا بها، فإذا [خرجت] أشهر الحج فإن أفعال الحج لا تصح ولا تحل، فإذا خرج شهر ذي الحجة فلا يصح الإتيان بالطواف ولا غيره من أركان الحج – وهذا هو ظاهر القرآن فقد قال تعالى: {الحج أشهر معلومات} أي وقت الحج أشهر معلومات، ومعلوم أن العبادة لا تصح بعد خروج وقتها. فما ذهب إليه مذهب قوي والله أعلم.
قال: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم)
يسعى بين الصفا والمروة يوم الحج الأكبر قسمان من الناس:
القسم الأول: المتمتعون، فإنهم مطلقاً يسعون بين الصفا والمروة.
القسم الثاني: القارنون والمفردون إذا لم يسعوا عند قدومهم، هذا مذهب جمهور العلماء وأن القارن والمفرد إنما يجب عليه سعي واحد، فإذا سعى عند قدومه أجزأه عن السعي يوم الحج الأكبر، وإن تركه عند قدومه فطافه يوم الحج الأكبر أو بعده فإنه يجزئه ذلك.
ودليل هذا حديث عائشة المتقدم وكانت قارنة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) (1) .
__________
(1) سبق ص34.(11/203)
وأما المتمتعون فجمهور العلماء على أنه يجب عليهم أن يطوفوا بالصفا والمروة طوافين طواف لعمرتهم وطواف لحجهم: (المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة) أي يجب عليهم سعيين سعي لحجهم وسعي لعمرتهم.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة المتقدم وفيها أنها قالت في المتمتعين: إنهم طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر " (1) تقدم سياقه.
واستدلوا: بما رواه البخاري في صحيحه، قال البخاري: قال أبو كامل الفضل بن حسين ثم ساق بسنده إلى ابن عباس وفيه: أن ابن عباس قال: (وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج - فهم متمتعون إذ القارنون والمفردون ما زالوا على إهلالهم المتقدم من ميقاتهم - فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي) (2) .
وعن الإمام أحمد واختار هذا ونصره شيخ الإسلام: أن المتمتع لا يجب عليه إلا سعي واحد بين الصفا والمروة فإذا سعى للعمرة أجزأ ذلك عن الحج.
واستدل رحمه الله بما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) (3) .
__________
(1) سبق ص121 برقم 286.
(2) ذكره البخاري باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام} رقم 1572 قال: " وقال أبو كامل فُضيل بن حسين البصري حدثنا عثمان بن غياث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن … ثم أَمَرَنا عشية التروية … ".
(3) أخرجه مسلم باب بيان وجوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 162] .(11/204)
قالوا: وهذا في المتمتعين كما هو في القارنين والمفردين بدليل أن جابر كان من المتمتعين فقد ثبت في مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه قال: (فقربنا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب - أي بعد العمرة - فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (1) إذن جابر كان من المتمتعين.
وأجاب شيخ الإسلام عن حديث عائشة المتقدم بقوله: (قيل: إنه من قول الزهري) أي قوله: (فطاف الذين تمتعوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر) فما بعده قيل إنه من قول الزهري.
ولا شك أن هذا التعليل لا يصح فإن هذا الحديث ثابت في الصحيحين فلا يرد بمثل هذا، وهو قوله: (قيل إنه من قول الزهري) .
كما أن الأسانيد الثابتة في هذا الحديث يرد هذا، والأصل ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعلل بمثل هذا القول المحكي المضعف بقوله " قيل ". فعلى ذلك حديث عائشة حديث صحيح متفق عليه فلا يعلل بمثل هذا.
وأما حديث ابن عباس فأعل بأن البخاري لم يسمعه من أبي كامل الفضل بن حسين، فإنه قال في صحيحه (قال أبو كامل) ولم يقل: حدثنا فعلى ذلك هو منقطع.
والصحيح أن مثل هذه اللفظة: (قال) أنها إما أن تكون من باب العنعنة كما هو مذهب جمهور العلماء ولذا غلطوا ابن حزم في رده حديث المعازف، فإنه لما ضعف حديث المعارف لقول البخاري: " قال " ردوا مقالته تلك وقالوا: إن هذا من باب العنعنة، وأبو كامل من شيوخ البخاري وقد عاصره معاصرة كثيرة فهو من شيوخه فإذا قال: (قال) فكما لو قال: (عن) والبخاري ليس معروفاً بالتدليس اتفاقاً فعلى ذلك تحمل روايته على السماع.
وإنما صرفها إلى مثل هذه العبارة؛ قيل: لأنه أخذ هذا عرضاً أو بمناولة أومذاكرة – فلم يصرح بالتحديث لذلك – هذا أولاً.
__________
(1) أخرجه مسلم باب بيان جوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 160] .(11/205)
ولو سلمنا أنه معلق فإن معلقات البخاري صحيحة حيث جزم بها، فإن القاعدة عند أهل العلم أن ما جزم به البخاري من المعلقات عما كان من الطبقات العليا أنه صحيح إلى من جزم إليه، فكيف إذا كان المجزوم عنه به من شيوخه لا شك أنه أولى بالقبول.
على أن الحديث ثبت موصولاً فقد رواه مسلم خارج صحيحه موصولاً ورواه الإسماعيلي في مستخرجه موصولاً، ورواه عنه البيهقي في سننه موصولاً، فالحديث ثابت موصولاً.
فعلى ذلك الحديث صحيح ثابت قطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لتضعيف الحديث.
وأجاب أهل القول عن حديث جابر فإنه مشكل في هذا الباب أجابوا عنه بأن مراده القارنون بدليل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قارناً فإنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً) (1) قالوا: فهذا المحكي عن جابر إنما كان في القارنين.
وهذا فيه نظر – أي هذا الجواب – لما تقدم من قول جابر في روايته الأخرى قال: (فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (2) فدل على أنه في المتمتعين.
وحينئذ يكون الخروج من هذا بالترجيح لا بالجمع فيقال:
عندنا إثبات ونفي فابن عباس يثبت الطواف بالصفا والمروة وكذلك عائشة فإنها تثبته وأما جابر فإنه ينفي ذلك ولا شك أن المثبت مقدم على النافي وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فحفظت لنا عائشة وابن عباس أن المتمتعين قد طافوا بالصفا والمروة طوافاً آخر، وأما جابر فقد نفى ذلك، ولا شك أن المثبت مقدم على النافي.
والوجه الثاني من الترجيح: أن يقال: قد ثبت حديث عائشة في الصحيحين وأما حديث جابر فهو في مسلم ولا شك بترجيح أحاديث الصحيحين على أحاديث مسلم.
كما أن حديث ابن عباس ثابت في البخاري فهو مرجح على حديث جابر حيث هو ثابت في مسلم.
__________
(1) سبق ص124
(2) سبق أنه أخرجه مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 161] .(11/206)
الوجه الثالث: أن يقال: إن إثبات السعي بين الصفا والمروة للمتمتعين يوم الحج الأكبر ثابت عن صحابيين ونفى ذلك ثابت عن صحابي واحد ولا شك أن ترجيح ما ثبت عن راويين أولى من ترجيح ما ثبت عن راو واحد.
على أن رواية أبي الزبير – وهو نوع آخر من أنواع الترجيح، رواية أبي الزبير - التي فيها أن جابر حكى ذلك عن المتمتعين فيها كلام لبعض أهل العلم حيث وردت بالعنعنة، ونحن وإن كنا لا نقر هذا القول في أحاديث مسلم التي لم يرد ما يخالفها فيقتضي إنكارها لكن في مثل هذا الموضع قد يقال بمثل هذا حيث إن هذه الرواية تخالف ما ثبت في الصحيحين فإن قوله: (فقربنا النساء) قد ورد من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة، بخلاف حديثه الأول فقد ورد بالتحديث ولا شك أن قوله: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) يمكن حمله - جمعاً بينه وبين حديث ابن عباس وعائشة - على أصحابه القارنين كما تقدم، لكن منعنا هذا سابقاً ورود هذه الرواية، لكن ورودها من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة يجعل في النفس شيئاً من هذه الرواية.
وهنا وجه آخر من أوجه الترجيح: وهو أن العمرة يثبت بعدها التحلل التام من لبس الثياب ومس النساء ونحو ذلك فانفصلت انفصالاً تاماً عن الحج فوجب للحج سعي آخر حيث هو منسك آخر منفصل عن المنسك الأول وهو العمرة.
فعلى ذلك الأرجح مذهب جمهور العلماء خلافاً لإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
وما ذهب إليه الجمهور هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد كما أن هذا القول أحوط فهو متعلق بركن – على الأرجح – من أركان الحج وهو السعي بين الصفا والمروة.
قال: (ثم قد حل له كل شيء)(11/207)
أي حتى النساء، فإذا طاف بالبيت القارن أو المفرد وطاف وسعى المتمتع فقد حل له كل شيء ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ثم طاف بالبيت – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ثم حل له كل شيء حرم عليه) (1) .
وأما أن المتمتع لا يحل التحلل التام حتى يسعى فلقول ابن عباس في الحديث المتقدم – في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) ففيه أنه لا يتم حجهم إلا بعد السعى بين الصفا والمروة.
وإنما تحل النساء بتمام الحج.
قال: (ثم يشرب من ماء زمزم)
لما ثبت في حديث جابر في سياقه لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أتى بنى عبد المطلب وهم يسقون فناولوه دلواً فشرب) (3) وذلك بعد طوافه للإفاضة.
قال: (لما أحب) .
لما أحبه من خير الدنيا والآخرة ففي مسند أحمد وسنن ابن ماجه والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماء زمزم لما شرب له) (4) .
قال: (ويتضلع منه)
أي يشرب حتى يرتوي حتى يبلغ الماء أضلاعه أي ارتواءً.
واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم) (5) لكن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويدعو بما ورد)
__________
(1) أخرجه البخاري باب من ساق البدن معه.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب الدم على المتمتع من كتاب الحج، المغني [5 / 314] .
(2) سبق ص124 رقم 295.
(3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4) أخرجه أحمد [3 / 357، 372] وابن ماجه [3062] وغيرهما الإرواء [1123] وقال الألباني رحمه الله: " صحيح ".
(5) أخرجه ابن ماجه [3061] الإرواء رقم 1125.(11/208)
وذكروا في هذا: أنه يقول: (اللهم اجعله لنا علماً نافعاً ورزقاً واسعاً ورياً وشبعاً وشفاء من كل داء اللهم اغسل به قلبي واملأه من حكمتك) ، ولم يرد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما روى بعضه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه وإسناده لا يصح. فليس هذا وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن ابن عباس لكن إن دعا به فهو دعاء حسن.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال)
أي يرجع من مكة إلى منى.
وقد تقدم أنه يفيض إلى مكة ضحى فيطوف بها طواف الزيارة فهل يستحب له أن يصلي الظهر بمنى أو يستحب له أن يصليها بمكة؟
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) (1) ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى.
لكن في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم قال: (فصلي الظهر بمكة) (2) .
والجمع بين الحديثين فيما ذكره النووي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صلى الظهر بمكة ثم صلاها تطوعاً بأصحابه بمنى " كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف مرتين في حديث تقدم فصلى المكتوبة بطائفة ركعتين ثم صلاها بطائفة أخرى ركعتين.
فهنا كذلك وبهذا يجمع بين الحديثين.
(فيبيت بمنى ثلاث ليال) : ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر أي ليالي التشريق، وهذا لمن تأخر.
أما من تعجل فإنه يبيت ليلتين ليلة الحادي عشر والثاني عشر وينفر من منى إذا رمى بعد زوال الشمس من اليوم الثاني عشر.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً في باب الزيارة قبل النحر من كتاب الحج وقال: " ورفعه عبد الرزاق "، ومسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج. المغني [5 / 324] ، سبق ص123
(2) مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(11/209)
والمبيت بمنى واجب من واجبات الحج ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته) (1) فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له لعذره يدل على أن من لا عذر له يجب عليه أن يبيت بمنى إذ ضد الرخصة العزيمة: فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يدل على أن هذا الحكم وهو المبيت بمنى عزيمة على غيره من الحجاج.
قال: (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف بسبع حصيات ويجعلها [عن] يساره ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً، ثم يرمي الوسطى مثلها ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها)
(فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف) وهو مسجد مشهور، فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف وهي أبعد الجمار عن مكة، فرميها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة.
(ويجعلها عن يساره) إذا رماها بسبع جعلها عن يساره أي أخذ ذات اليمين، وليس هذا في الحديث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله لكن لعلهم إنما استحبوا ذلك من باب استحباب التيامن فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن.
(ويتأخر قليلاً) : أي يسهل فيأخذ مكاناً سهلاً ويتأخر عن الناس وعن حطمتهم وزحامهم.
(ويدعو طويلاً) فيدعو الله بدعاء طويل يرفع يديه ويستقبل القبلة.
(ثم الوسطى مثلها) فيأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة ثم يأخذ ذات الشمال.
ففي الجمرة الأولى يأخذ ذات اليمين أما هنا فيأخذ ذات الشمال أي يجعل الجمرة عن يمينه ثم يسهل مستقبل القبلة كما تقدم ويرفع يديه قائماً ويدعو دعاء طويلاً.
(ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه) أي يجعل الجمرة عن يمينه ليكون مستقبلاً للقبلة.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب سقاية الحاج وباب هل يبيت أصحاب السقاية.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب المبيت بمنى.. من كتاب الحج. وأبو داود وغيرهم، المغني [5 / 325] .(11/210)
(ويستبطن الوادي ولا يقف عندها) أي يكون في بطن الوادي ولا يكون في أعلاه.
(ولا يقف عندها) بدعاء ولا غيره.
وفي قول المؤلف هنا أنه يجعلها عن يمينه نظر، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الصحيحين أن ابن مسعود رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه وقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) (1) .
فلا يستحب له أن يستقبل القبلة وليس في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ثم يرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة.
ودليل هذه الصفة في الرمي ما ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا - أي القريبة إلى الخيف - بسبع حصيات يكبر الله إثر كل حصاة ثم يسهل (2) - ولم يذكر أنه أخذ ذات اليمين لكن تقدم أنه يمكن القول باستحباب هذا استدلالاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يعجبه التيامن) - فيستقبل القبلة ويقوم طويلاً ويرفع يديه يدعو ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال ثم يسهل فيقوم فيستقبل القبلة فيرفع يديه.. طويلاً يدعو ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ثم يقول: (هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله " أي الرمي ") وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة عند رمي جمرة العقبة ولا غيرها وثبت كما تقدم في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه.
__________
(1) سبق ص112
(2) أخرجه البخاري باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى من كتاب الحج رقم 1752.(11/211)
وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر (كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة) ، وفي موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ويحمده ويدعو) (1) .
قال: (يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق)
في اليوم الأول من أيام التشريق وهو اليوم الحادي عشر، وفي اليوم الثاني وهو اليوم الثاني عشر وفي اليوم الثالث وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
قال: (بعد الزوال)
لحديث جابر المتقدم وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ضحى وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (2) .
وفي البخاري عن ابن عمر قال: (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) (3) .
هذا هو مذهب جمهور الفقهاء: وأن الرمي لا يصح إلا بعد زوال الشمس لا في اليوم الأول من أيام التشريق، ولا في اليوم الثاني وهو يوم النفر الأول، ولا في اليوم الثالث وهو يوم النفر الثاني، لا يجوز ولا يجزئ الرمي قبل الزوال لأنه يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان على خلاف أمره فهو رد.
وقال إسحاق: يجزؤه أن يرمي قبل الزوال في يوم النفر الثاني أي يوم 13.
وهو قول أبي حنيفة، وخالفه في ذلك صاحباه، وهو مروي عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد ضعيف وهو قول طاووس – أنه يجوز له أن يرمي في اليوم الثالث عشر قبل زوال الشمس.
وذلك: لأن يوم النفر الثاني لا يجب في الأصل مبيت ليلته ولا الرمي إلا لمن اختار التأخر فخففوا في ذلك.
__________
(1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 922 بلفظ: " كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفاً طويلاً يكبر الله ويسبحه ويحمده ويدعو الله ولا يقف عند العقبة ".
(2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج وأبو داود، والبخاري معلقاً باب رمي الجمار من كتاب الحج.
(3) أخرجه البخاري باب رمي الجمار، من كتاب الحج رقم 1746.(11/212)
ولا شك أن هذا فيه نظر فإنه وإن خفف فيه لكن هذا بالاختيار أصلاً، وحيث اختار فإنه يجب عليه مبيت تلك الليلة ويجب عليه الرمي وحينئذ يجب عليه أن يكون رميه بعد زوال الشمس.
- وعن الإمام أحمد وهو رواية عن أبي حنيفة: أنه يجوز له أن يرمي في يوم النفر الأول أيضاً قبل زوال الشمس وأن المتعجل يجوز له أن يرمي قبل زوال الشمس.
والمشهور عن الإمام أحمد وفاق جمهور أهل العلم في هذه المسألة وهو القول الراجح إذ لا دليل يدل على هذا القول ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) يدل على أنه لا يجزئ الرمي إلا بعد زوال الشمس في الأيام الثلاثة كلها.
وهذا هو الصحيح وهو مذهب جمهور العلماء إلا ما تقدم من رواية عن بعضهم وإلا فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الرمي لا يجزئ إلا بعد الزوال في الأيام الثلاثة كلها إلا ما تقدم من مذهب أبي حنيفة في اليوم الثاني من أيام النفر وخالفه فيه صاحباه.
* وأما آخر وقت الرمي: فينبني على المسألة السابقة وهي هل ينتهي الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس أو يجوز الرمي ليلاً وحيث قلنا بجوازه ليلاً فهل فيه دم أم لا؟
وتقدم أن أقوى المذاهب أن الرمي بالليل جائز وأنه لا شيء على من رمى ليلاً إلا أن الأحوط – كما تقدم – هو عدم ذلك وهو أن يرمي نهاراً، وفي ذلك سعة لكن إن احتاج إلى الرمي ليلاً فلا بأس ولا دم عليه.
فالصحيح أن وقت الرمي في أيام التشريق من زوال الشمس ويمتد ليلاً لكن الأحوط ألا يرمي إلا نهاراً.
قال: (مستقبل القبلة)
أما إذا كان هذا في الدعاء فقد تقدم الحديث.(11/213)
وأما استقبال القبلة عند رمي الجمار وهو ظاهر قول المؤلف هنا فإنه لا دليل عليه وهو المذهب وهو نص الإمام أحمد وأنه يستحب له عند رمي الجمار كلها أن يستقبل القبلة، ولا دليل يدل على ذلك فلم أر حديثاً يدل على استحباب ذلك، بل تقدم أن جمرة العقبة لا يستحب فيها هذا بل المستحب أن تكون القبلة عن يساره كما في حديث ابن مسعود (1) . فالأظهر هو عدم استحباب ذلك.
قال: (مرتباً)
فيجب عليه أن يرميها بالترتيب فيرمي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة.
فإذا نكسها فإنه لا يجزؤه ذلك – إلا في الأولى - لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وقال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (2) وهديه أنه رمى الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة.
قال: (فإن رماه كله في اليوم الثالث أجزأه ويرتبه بنيته)
أي رمى جمرة العقبة في يوم النحر (هذه سبع حصيات) ورمي اليوم الحادي عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثاني عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثالث عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) – إذا رماها – وهي سبعون حصاة في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأه لكن يجب عليه كما ذكر المؤلف أن يرتبه بنيته.
فيبدأ باليوم الأول فيرمي جمرة العقبة ثم يرمي الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الأول، ثم يرمي الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن الثاني، ثم الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الثالث، لأن الشارع قد رتب ذلك وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا هو المشهور في المذهب (3) .
إذن يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عن الأيام قبله. هذا باتفاق العلماء.
__________
(1) تقدم ص112.
(2) سبق ص98.
(3) في أسفل المذكرة ما نصه: " والأظهر عند شيخنا أنه لو رمى الجمرة الصغرى عن اليوم الأول، فالثاني فالثالث ثم الوسطى كذلك، فلا بأس ".(11/214)
واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وما بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر) (1) فجمعوا بين اليوم الحادي عشر والثاني عشر.
وفي رواية لأبي داود: (يرموا يوماً ويدعوا يوماً) (2) فعلى ذلك: إذا رمى في اليوم الثاني عشر عنه وعن اليوم الحادي عشر مرتباً أجزأه، وإذا رمى في اليوم الثالث عشر عنه وعن الثاني عشر والحادي عشر أجزأه ذلك باتفاق العلماء، لهذا الحديث الثابت.
لكن اختلفوا هل هذا من باب القضاء أم من باب الأداء؟
1- فقال الجمهور: هو من باب الأداء فعلى ذلك لا دم عليه لأنه قد فعل العبادة في وقتها.
ويشبه هذا: الوقت الضروري للصلاة، فعند اصفرار الشمس مثلاً يجوز صلاة العصر ويجزئ لأهل الأعذار، وهو وقتها وليس من باب القضاء بل من باب الأداء.
وقال الأحناف: هو من باب القضاء فعليه دم.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على رعاء الإبل وقد جمعوا لم يوجب عليهم دماً، ولأن ابن عمر – كما تقدم (3) – فيمن نسى رمي الجمار حتى غربت الشمس أنه يرمي من بعد الزوال ولم يوجب عليه ابن عمر شيئاً.
فعلى ذلك الراجح أنه لا دم عليهم.
لكن الأظهر أن ذلك لا يجوز وأن الواجب عليه أن يرمي كل يوم في يومه لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) ويشبه هذا كما تقدم الوقت الضروري للصلاة، فإنه لا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العشاء حتى ينتصف الليل، لكن إن صلاها بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر فإنه وقت أداء لا وقت قضاء والصلاة تجزئه ولا شيء عليه. فهذا من هذا الباب.
__________
(1) أخرجه أبو داود [1975] والنسائي [2 / 50] والترمذي [1 / 179] وابن ماجه [3037] ، الإرواء رقم 1080.
(2) أخرجه أبو داود [1976] .
(3) تقدم ص115(11/215)
وجمهور العلماء لا يرون جواز الجمع في الرمي إلا تأخيراً فليس له أن يرمي في اليوم الحادي عشر عنه وعن الثاني عشر بل لا يجزئه إلا أن يكون ذلك من باب التأخير.
وظاهر الحديث إجزاء ذلك وقد صرح به طائفة من شراح هذا الحديث فإن الحديث قال: (يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين) (1) فأطلق فدل ذلك على أنه يجوز تقديماً وتأخيراً.
كما أن هذا مقتضى قولهم – أي إجزاء ذلك – فإنهم قالوا: وقتها وقت واحد، ومقتضى ذلك جواز التقديم كالتأخير، فكما أن صلاة الظهر يجوز أن يصليا تأخيراً لأنه وقت لهما للعذر، فكذلك يجوز أن يصليا تقديماً لأنه وقت لهما.وهذه قاعدة الشريعة في الصلاة فينبغي أن تكون في باب الرمي، فيجوز للعذر تقديم الرمي.
وظاهر مذهب الحنابلة أنه يجوز له أن يرمي يوم النحر كذلك أي أن يدخله في هذا، فلو رمى في اليوم الثالث عشر عن يوم النحر وأيام التشريق أجزأه ذلك، هذا مذهب الحنابلة.
والأظهر أن يوم النحر يوم مستقل بنفسه، يدل على هذا أنه له وقت يخالف الوقت الذي يشرع فيه الرمي في بقية الأيام فإن وقته ضحى ووقت بقية الأيام إذا زالت الشمس ففارقها في الوقت. ولما تقدم عن ابن عمر في أمره زوجته وبنت أختها أن ترمي ليلاً (2) وأما أيام التشريق فإنه رأى أن ترمي من الغد (3) لتوافق الوقت المشروع للرمي لأن أيام التشريق كاليوم الواحد وأما يوم النحر فهو يوم مستقل بوقته.
فالأظهر أن يوم النحر لا يدخل في هذا، وهو مذهب بعض العلماء واختاره الشنقيطي في أضواء البيان، فليس لأحد أن يؤخره إلى الغد فإن أخره فعليه دم.
فالصحيح: أن رمى جمرة العقبة في يوم النحر لا يدخل وقتها في وقت الرمي للجمار في أيام التشريق بل وقتها مستقل، بدليل مفارقتها له في أنها ترمى ضحى وأما أيام التشريق فإنه يرمي بعد الزوال ولما تقدم من تفريق ابن عمر.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) تقدم ص116
(3) تقدم ص115(11/216)
* واعلم أنه لا يجزئه إلا أن يرمي سبع حصيات كل جمرة من الجمار وهو مذهب جمهور أهل العلم فإن رمى بست أو خمس لم يجزئه ذلك خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
فالمشهور عند الحنابلة: أنه يجزئه أن يرمي الجمرة خمس حصيات أو ست، فإن أنقص عن السبع حصاة أو حصاتين أجزأه ذلك.
وعن الإمام أحمد: أنه يجزؤه إن أنقص حصاة، فإذا رمى ستاً فإنه يجزئه.
والمشهور عنه جواز إنقاص الحصاة والحصاتين.
ودليل هذا: ما رواه النسائي وأحمد عن سعد قال: (رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضهم يقول رميت بست حصيات فلم يعب بعضهم على بعض) (1) .
وأما دليل جمهور العلماء فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
وأما هذا فهو أثر عن بعض الصحابة ولم يثبت لنا أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخالف به سنته – وهذا القول هو الراجح وأنه لا يجزئه إلا أن يرمي كل جمرة سبع حصيات فإن أنقص حصاة لم يجزئه ذلك، فشرط الرمي أن يكون بسبع حصيات.
قال: (فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم)
(إن أخره عنه) : أي أخر الرمي عن أيام التشريق فقد تقدم أنه يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عشر عن الثاني عشر والحادي عشر عند جمهور العلماء.
__________
(1) أخرجه النسائي باب عدد الحصى التي يرمى بها الجمار من كتاب المناسك رقم 3077(11/217)
لكن إن أخره فرماه بعد أيام التشريق كأن يرميه في الرابع عشر من ذي الحجة فعليه دم؛ لأن العبادة فعلت في غير وقتها فلم يجزئ فيكون تاركاً لشيء من النسك، ومن ترك شيئاً من النسك فعليه دم كما صح ذلك عن ابن عباس في موطأ مالك أنه قال: (من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً) (1) .
وهذا هو حجة جمهور العلماء في إيجاب الدماء، فليس في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أثر عن ابن عباس لكنه حجة لأنه لا يعلم مخالف.
فمن ترك من نسكه شيئاً من رمى أو غيره أو نسيه فعليه أن يهريق دماً.
قوله: (أو لم يبت بها) : أو لم يبت بمنى بل بات بمكة لغير عذر فعليه دم لما تقدم من ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى (2) قالوا: فترخيصه يدل على إيجاب المبيت، وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس (3) يدل على العزيمة في المبيت، فهي شيء من النسك ومن ترك شيئاً من النسك فعليه أن يهريق دماً.
قال: (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب)
فمن أراد أن يتعجل فيكتفي بالمبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر ورميهما فعليه الخروج من منى قبل غروب الشمس.
قال: (وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد)
فإلا يخرج قبل غروب الشمس، فغربت عليه الشمس ولم يخرج من منى فإنه يلزمه أن يبيت بمنى تلك الليلة وأن يرمي من الغد بعد زوال الشمس.
__________
(1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي، باب ما يفعل من نسي نسكه شيئاً رقم 950 ولفظه: عن عبد الله بن عباس قال: " من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً، قال أيوب: لا أدري قال: ترك، أو نسي ".
(2) تقدم ص130
(3) تقدم ص127(11/218)
ودليل هذه المسألة: قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه (1) } فجعل اليومين ظرفاً للتعجل واليوم ينتهي بغروب شمسه فإذا غربت الشمس انتهى اليوم ولا شك أنه إذا تعجل وقد غربت الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق فإنه لم يتعجل في اليومين.
فإذن: التعجل في اليومين رخصة لمن خرج من منى قبل غروب الشمس أما إذا غربت عليه الشمس ودخل الليل من ليلة الثالث عشر فإنه يجب عليه المبيت والرمي بعيد زوال الشمس، ولما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن ابن عمر: قال: (من غربت عليه الشمس من وسْط أيام التشريق " وهو اليوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول " فلا ينفر ثم ليرم الجمار من الغد) (2) .
ولا يعلم له مخالف وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأن من غربت عليه الشمس فلا يجوز له التعجل بل يجب عليه أن يبيت بمنى تلك الليلة ويرمي الجمار بعد زوال الشمس وذلك لأن التعجل رخصة لمن لم تغرب عليه الشمس.
* واعلم أن ما تقدم من إجزاء الرمي - أي الجمع فيه - في اليوم الثالث عشر للمعذورين وأنه لا دم عليه لحديث البيتوتة بمنى لرعاء الإبل وكانوا معذورين في ذلك – يلحق به كل معذور من مريض أو نحو ذلك وخائف فوات مال.
وهذا له صور، فإن كثيراً من النساء يشق عليهن أن يرمين في يوم النفر الأول، وهنَّ يرون التأخر إلى اليوم الثالث عشر فلا حرج عليهن ألا يرمين في الثاني عشر ويؤخرنه إلى الثالث عشر للعذر فإن الزحام في ذلك اليوم شديد، ولا شك أن الرمي بعد غروب الشمس محل حرج في النفس فيؤخر ذلك إلى بعد زوال الشمس من الغد.
__________
(1) سورة البقرة 203
(2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 925 بلفظ: " من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ".(11/219)
فالمقصود من ذلك أن هذا الحكم يصدق لرعاء الإبل وغيرهم من المعذورين كالمرضى ومن خاف فوتاً في ماله أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يؤخر في الرمي.
ويستحب للإمام أن يخطب الناس في وسط أيام التشريق لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في وسط أيام التشريق) (1) فيستحب للإمام أن يخطب في الحادي عشر بالناس فيعلمهم المناسك في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وفي طواف الوداع ونحو ذلك من المسائل.
فإذا تعجل أو تأخر فيستحب له أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح وهو المحصّب ويرقد رقدة ثم يطوف طواف الوداع.
فقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب – أي ليلاً – فطاف بالبيت) (2) وهو طواف الوداع.
وحكمة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يظهر فيه شعائر الإسلام من إقامة الصلوات في ذلك الموضع الذي تقاسم فيه الكفار على الكفر من مقاطعته عليه الصلاة والسلام ومقاطعة من آمن معه وناصره من بني هاشم في الشعب الذي حوصروا فيه ومنعوا من أن يباع لهم شيء من الأرزاق، فأراد أن يظهر في هذا الموضع هذه الشعائر الإسلامية ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة " وهو المحصب " حيث تقاسموا على الكفر) (3) والمحصب أقرب إلى منى منه إلى مكة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع]
__________
(1) أخرجه أبو داود باب أي يوم يخطب بمنى من كتاب المناسك.
(2) أخرجه البخاري باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح من كتاب الحج رقم 1764
(3) أخرجه البخاري باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ومسلم باب استحباب النزول بالمحصب [1314] من كتاب الحج، زاد المعاد [2 / 294](11/220)
إذا أراد الحاج الخروج من مكة فيجب عليه قبل خروجه أن يطوف للوداع، ويسمى طواف الصدر، ويسمى بطواف الوداع؛ لأنه آخر العهد بالبيت، فهو توديع له من جنس توديع القريب أقاربه عند سفره.
وسمي بطواف الصدر؛ لأنه يقع عند صدور الناس متوجهين من مكة إلى بلادهم، كما أن طواف الزيارة فيما تقدم يسمى طواف الصدر عند بعض أهل العلم؛ لأنه يفعل عند الصدور من منى إلى مكة.
ولا مشاحة في التسمية؛ لوجود العلاقة بين المسمى وتسميته في اللفظين كليهما.
وفي قول المؤلف " إذا أراد الخروج " ما يدل على أن من لم يرد الخروج سواء كان مقيما في مكة أو بدت له الإقامة فيها أنه لا يشرع له طواف الوداع، ولا يجب عليه؛ لأنه إنما شرع للمفارقين لا للملازمين، فإن الوداع لا يقع من ملازم مقيم وإنما يقع من مفارق.
ودليل طواف الوداع: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض " (1) ، أي آخر عهدهم بالبيت طوافاً، فإن السعي إنما يشرع في حج أو عمرة، وهذا بالإجماع، وأن المراد هنا إنما هو الطواف.
ثم إن السعي بين الصفا والمروة لم يكن في البيت، بل هو خارج عنه.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب طواف الوداع لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الصحابي: " أمر الناس ".
وفي قوله: " إلا أنه خفف عن الحائض "، ما يدل على وجوبه؛ لأن السنة مخفف فيها أصلاً، فلا تحتاج إلى تخفيف عن طائفة، فدل هذا على أن طواف الوداع واجب.
__________
(1) أخرجه البخاري باب طواف الوداع، ومسلم باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض من كتاب الحج، المغني [5 / 337](11/221)
وليس بركن من أركان الحج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل عن صفية؟ فقيل: هي حائض، فقال: (أحابستنا هي؟) فقيل: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، فقال: (اخرجوا) (1) ، أي اخرجوا من مكة، فدل هذا على أن طواف الوداع ليس بركن، إذ لو كان ركنا لما أمر بخروجها مع الناس مع بقاء هذا الركن عليها.
قال: [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده]
وقت طواف الوداع هو انتهاء الحاج من جميع أموره ومناسكه، بحيث أنه يريد الخروج من مكة ومفارقتها؛ لقول الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم "، فهو إنما يشرع حيث أراد الخروج من مكة وانتهى من جميع أموره، وهذا المعنى الذي تفيده كلمة الوداع، فالوداع إنما يكون عند المفارقة، فإذا أراد المسافر بأن يفارق ودَّع إخوانه وأهله.
فعلى ذلك: إذا طاف طواف الوداع ثم أقام أو اتجر بعده، فيجب عليه أن يعيده؛ لأنه واجب توديعاً، وهنا لم يفعله توديعاً، بل قد فعل بعده ما ينافي التوديع من إقامة أو تجارة أو نحو ذلك، وقد قال الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت "، وهذا ليس آخر عهده بالبيت.
وقال الأحناف: بل متى فعله في وقته – بعد النفر -، فلو أقام بعده فلا حرج.
وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما شرعه بحيث يكون آخر العهد، وحيث لم يكن آخر العهد فإنه يجب أن يعاد. فالراجح مذهب الجمهور خلافاً للأحناف.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه إن وقع له شراء لحاجة أو قضاء حاجة من الحوائج في طريقه فإنه لا يجب عليه أن يعيده، كأن يشتري.. للطريق ونحو ذلك، فإن هذا لا ينافي الوداع، فلا يبطله، ولا يجب عليه أن يعيده؛ لأن هذا في عرف الناس لا ينافي التوديع، فإن المودع ربما اشترى حاجة أو قضى غرضاً في طريقه قبل خروجه.
قال: [وإن تركه غير حائض رجع إليه فإن شق أو لم يرجع فعليه دم]
__________
(1) أخرجاه، تقدم ص122(11/222)
في قوله " غير حائض ": ما يدل على أن الحائض لا يجب عليها طواف الوداع، بل لا يصح منها.
ودليل ذلك ما تقدم من قول الصحابي: " إلا أنه خفف عن الحائض "، وفي حديث صفية ما تقدم من قوله (أحابستنا هي) ، فلما قيل له: إنها طافت للزيارة، قال: (اخرجوا) .
فدل هذا على سقوط طواف الوداع عن الحائض وأنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، بل يسقط عنها، وإن كان طهرها قريبا، فما دام أنها انتهت من حجها ومناسكها وأرادت الخروج، فإنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر، بل قد خفف عنها ذلك.
وكذلك النفساء، فأحكام الحائض ثابتة للنفساء مما يجب ومما يسقط، باتفاق العلماء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة وقد حاضت: " لعلك نفست "، ومن ذلك سقوط طواف الوداع عنها.
قوله: " وإن تركه رجع إليه ": فإن تركه ممن يجب عليه، فإنه يرجع إليه؛ لأنه واجب، فيجب عليه أن يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) ، وهو مستطيع فلا مشقة عليه في الرجوع. [انظر الكلام في آخر هذا الدرس]
قوله: " فإن شق ": فإذا شق عليه ذلك، كأن يكون قد بعد بمسافة قصر أو كان دون مسافة القصر، لكن فيه مشقة عليه، كأن يكون مريضاً يشق عليه تحمل المسافة مرة أخرى، أو أن يكون قصد رفقة يخشى فواتهم، فإنه لا يجب عليه الرجوع.
وعندهم المسافة البعيدة هي مسافة القصر فما فوق، وأما القريبة فهي دون مسافة القصر.
فإذا شق عليه ذلك، فإنه لا يجب عليه الرجوع ويجب عليه دم، أو كانت المسافة بعيدة، فعليه دم.
" أو لم يرجع ": أي كانت المسافة قريبة ولا مشقة عليه في ذلك فلم يرجع، فإنه يجب عليه دم؛ لأنه تارك لشيء من نسكه.
__________
(1) أخرجه البخاري [4 / 422] ومسلم [7 / 91] وغيرهما، الإرواء [155] .(11/223)
إذاً: من لم يرجع سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً فعليه دم؛ لعموم قول الصحابي: " من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فعليه دم " (1) ، فقوله: " أو تركه " شامل للمعذور وغيره.
قال: [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عنه وداعاً]
فإذا أخر طواف الإفاضة بعد النهاية من مناسكه من منى في اليوم الثاني عشر أو في اليوم الثالث عشر، فطاف طواف الإفاضة، فيجزئه عن طواف الوداع. أي يجزئه أن يخرج بعد هذا الطواف الذي هو طواف الإفاضة، يجزئه أن يخرج إلى بلده من غير أن يشتغل بطواف الوداع. فلا يجب عليه شيء ولا يعد تاركاً لشيء من نسكه؛ وذلك لأنه مأمور أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ذلك، فطواف الوداع ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود أن يودع البيت بطواف، وقد ودعه بطواف وهو ركن من أركان الحج، فأجزأ ذلك عنه، لكن بشرط ألا ينوي أن يكون للوداع، فإن نوى أنه للوداع لم يجزئ عن طواف الزيارة؛ لأن طواف الزيارة ركن من أركان الحج، فلابد وألا ينوي بنية تنافيه، وحيث نوى أنه طواف للوداع فإن هذا ينافي كونه للزيارة، وقد تقدم أن نية الحج تجزئ عن الطواف وغيره من مناسك الحج، لكن بشرط ألا ينوي نية تنافي ذلك، وحيث نوى طواف الوداع، فالنية حينئذ تنافي كونه طواف الزيارة، فلا يجزئه.
إذاً: إذا نواه طواف زيارة أو اكتفى بنية الحج، فإنه يجزئه طوافاً للزيارة ويسقط عنه طواف الوداع إن خرج من مكة بعد هذا الطواف. أما إذا نواه طوافاً للوداع فإنه لا يسقط عنه طواف الزيارة؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج مقصود لذاته فلابد له من نية يختص به أو من نية للحج عامة له ولغيره من غير أن يصدر من المكلف نية تنافيه.
قال: [ويقف غير الحائض بين الركن والباب]
أما الحائض فلا يجوز لها أن تقف في البيت؛ لأنها ممنوعة من دخول المساجد.
__________
(1) تقدم ص132(11/224)
فيشرع أن يقف بين الركن – وهو الحجر الأسود – والباب، وهو ما يسمى بالملتزم، فيستحب له أن يقف عنده فليتزمه واضعاً وجهه وصدره وذراعيه وكفيه عليه التزاماً.
لما روى أبو داود في سننه من حديث المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما بسطاً، وقال: " هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل " (1) .
لكن المثنى بن الصباح ضعيف الحديث، لكن للحديث شاهد عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن صفوان وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف أيضاً، وله شاهد موقوف عن ابن عباس عند البيهقي وعبد الرزاق في مصنفه وفيه ضعف، فهذه شواهد لعلها ترتقي إلى تحسينه.
وهو مشروع عند أهل العلم من الحنابلة والشافعية وغيرهم.
إذاً: يستحب له أن يلتزم هذا الموضع وهو ما بين الركن والباب.
قال: [داعياً بما ورد]
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم أر هذا يصح عن أحد من الصحابة في هذا الباب، فلم يصح عنهم دعاء مخصوص في هذا الباب.
لكن ذكروا عن بعض السلف كما ذكر هذا صاحب المهذب قال: " وقد روي هذا عن بعض السلف ".
فذكر الشافعية والحنابلة دعاءً طويلاً في هذا الموضع، وهو مذكور في المغني وفي الروض المربع وفي سائر كتب الحنابلة والشافعية، ومطلعه: " اللهم هذا بيتك وأنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك حملتني وسخرت لي ما خلقت.. " (2) إلى آخره، وهو دعاء طويل.
لكن هذا الدعاء لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه وإنما ذكروه عن بعض السلف، ولا بأس بالدعاء به، فهو من عموم الدعاء الحسن، لكن من غير اعتقاد أنه سنة بألفاظه، بل هو من عامة الدعاء الذي لا بأس أن يدعى به في هذا الموضع وغيره.
__________
(1) أخرجه أبو داود باب الملتزم من كتاب المناسك، وابن ماجه، المغني [5 / 342] .
(2) المغني [5 / 343] .(11/225)
فالمقصود من ذلك: أنه يلتزم ويدعو بما شاء.
قال: [وتقف الحائض ببابه فتدعو بهذا الدعاء]
أي تقف بباب الحرم فتدعو هذا الدعاء، لأن الحائض ممنوعة – محذور – عليها دخول البيت، وحيث كان ذلك، فإنه لا يجوز لها أن تدخل البيت فتلتزم هذا الموضع فتدعو بهذا الدعاء، وحينئذ فتدعو عند بابه.
وهذا ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمر به صفية ولا غيرها من نساء المؤمنين اللاتي أصبن بالحيض، لم يأمرهن بالوقوف عند الباب ودعاء الله بهذا الدعاء ولا غيره. فالصحيح أنه لا يقال باستحبابه.
قال: [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبري صاحبيه]
أما إذا كان هذا من غير شد للرحال فنعم، فإن أفضل زيارة لقبر هي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة قبور أصحابه لاسيما الشيخين، فلا شك بفضلية زيارة القبور وأن أخص القبور بالزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ومن ذلك أبو بكر وعمر، فعلى ذلك: إن كان ذلك من غير شد رحل، فإنه من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.
وأما إن كان بشد رحل، فإنه لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (1) . فلا يجوز شد الرحال إلى غيرها من المواضع تعبداً، لكنه يقصد المدينة وعبادة الله في حرمها، فإن زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الصحابة لاسيما الشيخين فهو فعل يتقرب به إلى الله.
ومن البدع أن يتمسح بقبره، فقد قال الإمام أحمد: " أهل العلم كانوا لا يمسونه " أي لا يمسون القبر ولا الحجرة الشريفة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 299] ومسلم [4 / 126] وغيرهما، الإرواء رقم 970.(11/226)
كما أنه لا يستقبل القبر بالدعاء، فإذا دعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم استقبل البيت. وحكى شيخ الإسلام النهي عن ذلك باتفاق أهل العلم.
كما أنه من البدع أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عند قبر أحد من الناس، فإن هذا من البدع، كما نص على هذا شيخ الإسلام، وأنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة، فإن هذا من العبادة، والقبور لا تتخذ معابداً ومساجداً يعبد الله فيها.
وإنما يدعى لأهل القبور، فإن دعا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالشفاعة والوسيلة، فإن هذا دعاء حسن، ودعا لأبي بكر وعمر برفعة الدرجات ونحو ذلك فهو دعاء حسن، أما أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه أو غيرها من القبور فهو من البدع المحدثة.
وما يذكره بعض الفقهاء من الأحاديث في هذا الباب لا أصل له، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حج فزار قبرى بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي وصحبتي) رواه الدارقطني وغيره ولا أصل له، بل هو حديث باطل، وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب هي أحاديث باطلة ضعفها شيخ الإسلام وغيره، فلا أصل لهذه الأحاديث.
ولا ارتباط لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بالحج. والله أعلم
مسألة:
من خرج ولم يطف طواف الوداع؟
هل نقول: فات وقته ويلزمه الدم، أو لا نقول: فات وقته، بل هو مطالب به؟
وكوننا نقول: إنه إذا خرج من مكة ولم يطف فإنه قد فات الوقت، وحيث قلنا بوجوب الدماء في ترك شيء من الواجبات، فنقول: بأنه يجب عليك الدم، هذا في الحقيقة قوي؛ لأن العبادات إذا فات وقتها فنحتاج إلى دليل آخر يدل على مشروعية قضائها والوقت هنا هو التوديع، فحيث خرج من مكة من غير أن يفعل هذا، فقد فات الوقت، وحينئذ إن قلنا بالدماء في ترك الواجبات كما هو مذهب ابن عباس وغيره ومذهب الجمهور، فنقول: إنه يجب عليه الدم وإن أمكنه الرجوع.(11/227)
لكن يقوى القول أنه إن كان معذوراً بجهل أو نسيان أنه يسقط عنه كما أن الحائض يسقط عنها ولا تنتظر لعذرها، فكذلك، فهذا القول قوي ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره، فهو فعل قد فات موضعه ومحله ولا دليل على قضائه.
إلا أن يصح أثر قد ذكر في هذا الباب في سنن سعيد بن منصور: أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع "، فإن ثبت هذا، فإنه يقوي القول بالرجوع لثبوت هذا الأثر عن عمر.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات)
فإن كان من أهل المدينة ومن أتى على المدينة فميقاتهم ذو الحليفة وهكذا البلدان الأخرى، ودليل هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة) (1) فهذه المواقيت مواقيت للحج والعمرة.
قال: (أو من أدنى الحل من مكي ونحوه)
هذا إذا كان مكياً سواء كان مقيماً في مكة من أهلها أو كان من الزائرين لها، فإن ميقاتهم هو أدنى الحل من التنعيم أو الجعرانة أو الحديبية أو غيرها مما هو من الحل، فميقاتهم الحل في العمرة.
وأما ميقاتهم للحج فمن مكة كما في الحديث: (حتى أهل مكة من مكة) (2) .
قال: (لا من الحرم)
فليس للمكيين أو من نزل مكة من غير المقيمين أن يهلوا من الحرم ليس لهم ذلك بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) .
فإن أهلّ من الحرم، فكما لو أهلّ بالحج والعمرة من كان من أهل المواقيت من دونها – أي كما لو أهل المدني من المدينة لا من ذي الحليفة فإنه يجزئه ذلك، فالإهلال صحيح مجزئ وعليه دم.
وكذلك إن أحرم المكي من الحرم، فعليه دم لأنه لم يحرم من المواقيت فيكون قد ترك واجباً من واجبات العمرة فعليه دم.
__________
(1) تقدم ص18
(2) تقدم ص18
(3) سبق ص19(11/228)
ولا يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام ولا يشرع: أن يعتمر المكي أو غيره من النازلين بمكة أن يعتمروا من التنعيم خارجين إليه للعمرة فالعمرة إنما تشرع للقادمين – أي بأن يأتي من خارج مكة قادماً إلى مكة فيعتمر أما أن يتكلف الخروج من مكة للعمرة فليس بمشروع ولا مستحب.
ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم – وقد اعتمر مراراً وحج حجة الوداع لم يتكلف هذا، فلم يخرج من مكة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره ليعتمر منه خارجاً من مكة وكذلك أصحابه من المكيين وغيرهم لم يصح عن أحد منهم مع توافر الهمم لنقل ذلك – لم يصح عنهم الخروج من مكة لأجل العمرة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره.
ومن هنا أسقط العمرة - من أوجبها، أسقطها - عن المكيين كما تقدم، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من أهل العلم ولذا قال ابن عباس – كما في مصنف ابن أبي شيبة وغيره: (يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) ونحوه عن عطاء إمام أهل زمانه في المناسك فإنه كان يقول: " يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت " رواه ابن أبي شيبة.
وقال طاووس – كما رواه سعيد بن منصور كما حكى ذلك شيخ الإسلام قال: " لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون، قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج أربعة أميال وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتى طواف فكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء ".
ولذا لما سئل عطاء وهو إمام أهل مكة – كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه: أنه سئل فقيل له: " أأعتمر من الشجرة " أي من الحديبية أي من شجرة الرضوان فقال: لا ".(11/229)
فالعمرة خروجاً من مكة إلى الحل ليست بمشروعة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لعائشة بها تطييباً لخاطرها بعد مراجعة كثيرة منها للنبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين – فلم يأمرها بها ولم يستحبها لها وإنما استأذنته وأكثرت عليه فأذن لها وكانت تقول في مصنف عبد الرزاق – فيما حكاه شيخ الإسلام: " لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من العمرة التي اعتمرت من التنعيم " وهي عمرة مجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم – أذن لعائشة بها لكنها ليست بمستحبة.
قال: (فإذا طاف وسعى وقصر حل)
إجماعاً فإذا طاف وسعى وقصر أو حلق حل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في سياق عمرتهم في حجة الوداع.
قال: (ويباح كل وقت)
أي في أشهر الحج وغيرها.
وأما ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أنها لا تشرع في أشهر الحج قد أبطله الإسلام بل عُمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في أشهر الحج، فله أن يعتمر في أشهر الحج وغيرها بل لو اعتمر في يوم عرفة أو في يوم النحر من ليس متلبساً بحج لأجزأه ذلك إذ لا دليل يدل على المنع من ذلك.
وأفضلها العمرة في رمضان كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) (1) وفي مسلم: (تقضى حجة أو حجة معي) .
__________
(1) أخرجه البخاري باب عمرة في رمضان وباب حج النساء من كتاب الحج، ومسلم باب فضل العمرة في رمضان من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 17] .(11/230)
وله أن يكررها في السنة مراراً، فلو اعتمر في كل شهر أو في كل شهرين فإنه لا بأس بذلك لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (1) متفق عليه. فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد.
وقال فيما رواه الترمذي: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن العمرة بعد عمرة أخرى تصح من غير توقيت إلا ما تقدم استثناؤه من أن يعتمر خارجاً من مكة فإن هذه عمرة غير مشروعة، فلو اعتمر بعد أيام يسيرة أجزأ ذلك.
إلا أن الإمام أحمد قال: (لابد للعمرة من حلق أو تقصير وفي عشرة أيام يمكن الحلق) وروي هذا عن أنس كما عند الشافعي: " أنه كان إذا حمَّم رأسه - يعني إذا خرج بحيث يمكن حلقه - فإنه يعتمر ".
لكن الحديث المتقدم مطلق فله أن يكرر ذلك ما شاء شريطة ألا يقع ذلك منه خروجاً من مكة بحيث يخرج من مكة ليعتمر أما إن اعتمر قادماً من بلدته ثم رجع إلى بلدته فمكث فيها أياماً ثم عاد فاعتمر فلا مانع من هذا.
قال: (ويجزئ عن الفرض)
يجزئ عمرة التنعيم وعمرة القارن: يجزئ عن الفرض أي يجزئه عن العمرة الواجبة عليه وكذلك العمرة المفردة – فإنها تجزئه عن العمرة الواجبة وقد تقدم ترجيح المذهب أن العمرة واجبة وذلك لأنه عمرة صحيحة فأجزأت عن العمرة الواجبة، فالواجب عليه أن يعتمر وقد اعتمر ففعل ما يجب عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في أول باب العمرة من كتاب الحج، ومسلم باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة من كتاب الحج.المغني [5 / 16] .
(2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة من أبواب الحج، والنسائي باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة. المغني [5 / 19] .(11/231)
فعمرته مع تمتعه وعمرته مع قرانه أو عمرته من التنعيم وأولى من ذلك عمرته إن أفردها كل ذلك يجزئه عن العمرة الواجبة ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وكانت قارنة قال: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك) (1) .
قال: (وأركان الحج الإحرام والوقوف)
الإحرام: تقدم تعريفه وهو نية الدخول في النسك وهو ركن وتقدم دليله وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) (2)
" والوقوف " بعرفة وهو ركن وتقدم دليله.
قال: (وطواف الزيارة والسعي)
فطواف الزيارة ركن وتقدم دليله وكذلك السعي فإنه ركن.
واعلم أن مذهب جمهور العلماء أن السعي ركن من أركان الحج وهو رواية عن الإمام أحمد وهي المشهورة عنه.
وذهب الأحناف وهو قول طائفة من الحنابلة كالقاضي والموفق: أنه واجب يجبر بدم، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أنه سنة وهو رواية عن الإمام أحمد.
فعن الإمام أحمد في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ثلاث روايات.
أما من قال: إنه سنة، فاستدل بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (3) فنفي الجناح يدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس بواجب.
وهذا دليل باطل أبطلته عائشة رضي الله عنها – كما في الصحيحين – فقالت لعروة: (بئسما رأيت) (4) عندما استدل بهذه الطريقة ولو لم يكن هذا التفسير باطلاً لما قالت فيه عائشة هذه المقالة.
وبيان بطلان هذا التفسير من أوجه:
__________
(1) سبق ص34
(2) أخرجاه. وقد تقدم.
(3) سورة البقرة.
(4) أخرجه البخاري باب وجوب الصفا والمروة وجُعل من شعائر الله من كتاب الحج رقم 1643، ومسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 23] .(11/232)
الأول: أن الله قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} فجعله من شعائره، وشعائر الله وشعائر الحج لا يجوزان أن تحل قال تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} والطواف بين الصفا والمروة من شعائره ومن شعائر الحج ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
الثاني: أن الله عز وجل لم يقل: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} كما بينته عائشة في روايتها فإنه قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ولو كان المقصود هو نفي الإيجاب لقال: {ألا يطوف بهما} أي لا إثم عليه ألا يطوف فلا يقال: لا إثم عليه أن يطوف إذ قطعاً السعي بين الصفا والمروة لا إثم فيه، لكن البحث هل يثبت الإثم في تركه وعدم الطواف أم لا؟
فهذا هو محل البحث، ولو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.
الثالث: إن سبب نزول هذه الآية هو تحرُّج وقع من بعض الأنصار – كما ثبت هذا عن عائشة في روايتها، فكان الجواب لرفع الحرج والجناح، لأن السؤال وقع من أناس تحرجوا ورأوا الجناح في الطواف بالصفا والمروة لاعتقاد كانوا يعتقدونه في الجاهلية فأتى الجواب ينفي الجناح بناءً على سؤالهم وموافقة له كما لو قال قائل: هل من جناح في أداء الصلوات المكتوبة؟ فإن الجواب لا جناح في أدائها. فلا شك ببطلان هذا القول، والأدلة الشرعية تبطله كما سيأتي.
وأما دليل من قال بالركنية وهو قول الجمهور.(11/233)
- ما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) (1) والشاهد هنا: أن عائشة أثبتت أن الطواف بين الصفا والمروة سنة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ورتبت على ذلك بالفاء، وأقسمت على أن الله عز وجل لا يتم حج من لم يطف بالصفا والمروة، وحيث رتبته بالفاء فدل على أن هذا الحكم منها فيترتب على هذه السنة وأنها من السنن المفترضة فيكون قولها له حكم الرفع.
- وكذلك ما تقدم من قول ابن عباس: (أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) فرتب تمام الحج على الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة فدل على أنه لا يتم الحج إلا بهما.
- ما ثبت في المسند والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) .
- وكذلك قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقد تقدم طريقة الاستدلال بهذه الآية.
- ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) .
أما دليل من قال بالوجوب وهم من الأحناف ومن وافقهم فهي هذه الأدلة لكن قالوا: هي لا تدل إلا على الوجوب.
وهذا ضعيف فإن الأدلة أو بعضها تدل على الركنية كما تقدم والصحيح أنها تدل على الركنية فالراجح مذهب جماهير العلماء وهو ركنية السعي في الحج والعمرة.
قال: (وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى الغروب)
مجرد الوقوف ركن لكن الوقوف إلى الغروب هذا واجب وتقدم أن هناك رواية عن الإمام أحمد عنها أنه سنة.
__________
(1) أخرجه مسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، كما أخرجه البخاري في باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج من كتاب العمرة. المغني [5 / 238] .
(2) سبق ص124(11/234)
قال: (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل، والرمي والحلاق والوداع)
كل هذا تقدم دليله فهذه واجبات الحج (1) .
قال: (والباقي سنن)
فالاضطباع والرمل وغيره.
ومن ذلك طواف القدوم فهو سنة عند جمهور العلماء.
وذهب المالكية إلى وجوبه.
والأظهر قول الجمهور.
قال: (وأركان العمرة، إحرام وطواف وسعي)
قوله: " الإحرام " ليس المراد الموضع، بل المقصود نية الدخول في النسك.
قال: (وواجباتها: الحلاق، والإحرام من ميقاتها)
فهذه واجبات العمرة.
ولم يذكر المؤلف طواف الوداع من واجبات العمرة وهو ظاهر كلام المؤلف وظاهر كلام غيره من الحنابلة أن طواف الوداع ليس بواجب في العمرة.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عدة عمر ولم يثبت أنه طاف للوداع ولا أمر به ولو كان ذلك ثابتاً لنقل إلينا ولأن الأصل هو براءة الذمة من أن تتعلق بواجب من الواجبات.
- وذهب بعض أهل العلم: إلى أن طواف الوداع واجب في العمرة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائل في عمرة الجعرانة: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) (2) قالوا: فهذا يدل على أن كل ما يصنع في الحج فيجب أن يصنع في العمرة.
__________
(1) تقدم ص127، 106، 117، 134
(2) أخرجه البخاري باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج من كتاب العمرة، رقم 1789، ومسلم باب ما يباح لبسه للمحرم بحج أو عمرة من بداية كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 76] .(11/235)
قالوا: وإنما استثناء الوقوف بعرفة والرمي وغير ذلك من مناسك الحج التي لم نقل بوجوبها في العمرة لأنها بالإجماع لا تشرع في العمرة فأخرجها الإجماع، ولأن العمرة متعلقة بالبيت فحسب ولا تعلق لها بغيره بخلاف الحج فإنه يتعلق بالبيت وبغيره فشرعت له تلك المناسك أما العمرة فإنما يشرع لها ما يتعلق بالبيت مما هو ثابت في الحج وطواف الوداع كذلك. وروى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت) (1) لكن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث.
وهذا الاستدلال فيه قوة.
والأقوى – فيما يظهر لي – استدلالاً: أن يقال: إن طواف الوداع لا تعلق له بالحج كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية – فإنه لا تعلق له بالحج أصلاً حتى يختص به دون العمرة بل هو متعلق بالبيت توديعاً له.
بدليل: أن من طافه ثم أقام فإنه يبطل ويجب عليه أن يعيده. وبدليل: أنه إنما يشرع له إذا أراد الخروج ولو لم يكن ذلك منه إلا بعد سنين طويلة بخلاف مناسك الحج فإنها مشروعة في أيام الحج بالاتفاق، فإن سائر واجبات الحج وأركانه وسننه إنما تشرع في أيام الحج، وأما طواف الوداع فإنه يشرع عند إرادة الخروج ولو كان ذلك بعد شهر ذي الحجة، فدل على أنه لا ارتباط له بالحج وإنما ارتباطه بتوديع البيت للناسكين، والمعتمر ناسك كما أن الحاج ناسك، وهذا المذهب مذهب قوي فيما يظهر لي وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (2) والله أعلم (3) .
أما إذا اعتمر ثم خرج مباشرة فإنه لا يجب عليه طواف الوداع باتفاق العلماء.
قال: (فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه)
__________
(1) أخرجه الترمذي باب ما جاء من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت من كتاب الحج رقم 946.
(2) لقد توفي بالأمس، رحمه الله تعالى وغفر لنا وله ورفع درجته.
(3) انظر ص145(11/236)
رجل لم ينو في حج أو عمرة فإنه لا تنعقد نسكه؛ لأن الأعمال لا تصح إلا بالنيات: (إنما الأعمال بالنيات) (1) فإذا لم ينو الحج أو العمرة فإن حجه أو عمرته لم ينعقدا ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، بل هي من مسائل الإجماع.
قال: (وإن ترك ركناً غيره لم يتم نسكه إلا به)
أي إن ترك ركناً غير الإحرام من الأركان الأربعة للحج أو الأركان الثلاثة للحج (2) ، فترك الطواف أو السعي في الحج أو العمرة أو ترك الوقوف في الحج لم يتم نسكه إلا به لأنه ركن ولا تصح العبادات ولا تتم إلا بأركانها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – لما قيل له – أن صفية حاضت فقال: (أحابستنا هي) (3) ؟ وهذا أيضاً باتفاق العلماء.
قال: (ومن ترك واجباً فعليه دم)
من ترك واجباً سواء كان ذلك سهواً أو جهلاً فإن عليه أن يجبره بدم عند جماهير العلماء.
ودليل ذلك ما تقدم عن ابن عباس أنه قال: (من نسى من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً) (4) ولا خلاف من أحد من الصحابة لابن عباس فلا يعلم له مخالف، وحيث كان ذلك فقوله حجة، ولأن مثل ذلك له حكم الرفع فإنه لا يعقل أن ابن عباس يوجب الدماء في مسائل كثيرة من مسائل الحج في واجباته من غير أن يكون عن نص من النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يدرك بالاجتهاد وحيث كان كذلك فإنه له حكم الرفع وهذا الأثر اشتهر عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف فيه فيكون حجة وإجماعاً.
فإذن: من ترك واجباً من واجبات الحج ساهياً أو جاهلاً أو متعمداً فإن عليه دم، هذا إن لم يتمكن من الفعل، فإن تمكن فعليه أن يفعل فإن لم يفعل فعليه دم.
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) لعل الصواب: العمرة.
(3) تقدم ص122
(4) تقدم ص132(11/237)
أما من ترك واجباً من الواجبات عاجزاً عنه معذوراً شرعاً في تركه كمن لم يتمكن من المبيت بمزدلفة لازدحام الناس أو نحو ذلك فإنه لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
إن قال قائل: لم فرقنا بين هذه المسألة ومسألة سابقة وهي مسألة الفدية فقلنا: أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه وهنا نقول من ترك واجباً ناسياً أو جاهلاً فعليه دم؟
فالجواب: أنا فرقنا بمفرق وهو أن هذه واجبات وهذه محرمات فهذه أوامر وهذه نواهي فالأوامر مازال المكلف مطالباً بها وأما النواهي فإنها إن وقعت منه فقد وقع في المنهي عنه فكما لو لم يقع منه حيث كان ناسياً أو جاهلاً، وأما الأوامر فإنه لا يزال مطالباً بها فحينئذ يجبر هذا بالدم.
فمن فعل أمراً محرماً منهياً عنه ليس كمن ترك واجباً.
ولذا فرقنا في مسألة سابقة بين من صلى وعليه نجاسة فقلنا: صلاته صحيحة، وبين من صلى ولا وضوء عليه فقلنا: صلاته باطلة لأن هذا من باب الأوامر وهذا من باب النواهي.
قال: (أو سنة فلا شيء عليه)
فمن ترك سنة من السنن كالاضطباع والرمل وغيرهما فإنه لا شيء عليه وهذا باتفاق العلماء.
والحمد لله رب العالمين.
تقدم في الدرس السابق تقوية ما ذهب إليه بعض أهل العلم من وجوب طواف الوداع في العمرة كوجوبه في الحج، وأن أظهر الأدلة على هذا ما قرره شيخ الإسلام: في أن طواف الوداع ليس من واجبات الحج بل من واجبات البيت توديعاً له وحينئذٍ فلا فرق بين الحاج والمعتمر، بدليل أن من أراد الخروج من مكة شرع له ذلك ولو كان خروجه بعد خروج شهر ذي الحجة.
وبقي الحديث عن دليل ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عمرتين أو ثلاثاً ومع ذلك فإنه لم يطف طواف الوداع ولم يأمر به ولو كان ثابتاً لنقل إلينا.(11/238)
فالجواب عن هذا: أن طواف الوداع أو الصدر إنما شرع في حجة الوداع كما يدل على ذلك سياق الحديث، فإن الناس كانوا ينصرفون إلى كل جهة فأمروا في حجة الوداع أن يكون آخر عهدهم بالبيت. فدل هذا على أن طواف الوداع إنما شرع في حجة الوداع، فلا يرد ما تقدم بما يستدل للحنابلة به مما تقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه في حجة الوداع.
باب: الفوات والإحصار
الفوات: مصدر فات أي سبق فلم يُدرك هذا لغة.
أما اصطلاح: هو عدم إدراك الوقت بعرفة أي يدخل في يوم النحر ولم يقف بعرفة، فهو لم يدرك عرفة فهذا هو الفوات.
أما الإحصار فهو في اللغة: المنع والحبس.
وفي الاصطلاح: منع المحرم من إتمام نسكه، كأن يمنع من الوقوف بعرفة أو من طواف الزيارة، أو يمنع من الحج كله أو العمرة كلها، فهذا هو الإحصار.
أما الفوات: فهو عدم إدراك عرفة فهو خاص بعرفة.
وأما الإحصار: فهو عام في عرفة وغيرها، كما أنه عام في الحج والعمرة فهو شامل لهما.
قال: (من فاته الوقوف فاته الحج)
من لم يدرك عرفة قبل أذان الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
ودليله ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح - وتقدم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1) فمفهوم الحديث أن من لم يدرك عرفة لم يدرك الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
قال: (وتحلل بعمرة)
فمن فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة.
فهو قد نوى النسك ونسكه نسك حج ففاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر.
قال: (ويقضي)
أي يقضي من العام القادم.
قال: (ويهدي إن لم يكن اشترطه)
أي يهدي من العام القادم إن لم يكن اشترطه أي إن لم يكن قد قال: (فمحلي حيث حبستني) فمن اشترط فلا يجب عليه قضاء ولا هدي وإنما الحكم فيمن لم يشترط ذلك.
__________
(1) تقدم ص103(11/239)
إذا فاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر ويجب عليه في العام القادم أن يحج ويهدي مع حجه عن تلك الحجة التي فاته الوقوف بها.
ودليل هذا: ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن عمر سأله من فاته الوقوف بعرفة فقال: " اصنع كما يصنع المعتمر - وطف واسع وحلق أو قصر - ثم قد حللت فإذا كان من قابل فاحجج واهد ما تيسر من الهدي " (1) ولا يعلم له مخالف بل وافقه زيد بن ثابت كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح – فلا يُعلم لهما مخالف -.
وفي قول المؤلف: (ويقضي) إطلاق منه سواء كانت هذه هي حجة فريضة أو حجة تطوع فيجب عليه أن يحج من قابل ويهدي وهذا مذهب جمهور العلماء.
وعن الإمام أحمد ومالك لكل منهما رواية أخرى: على أنه لا يجب عليه ذلك في التطوع، فإذا كانت تطوعاً فلا يجب عليه القضاء أما إذا كانت فريضة فيجب عليه الحج من قابل لا من باب القضاء لكنه من باب الأمر الأول المتعلق به فهو ما زال مطالباً بحجة الإسلام ولم يحج بعد حجة صحيحة.
فإذن: إن كانت حجة فريضة وفاته الوقوف بعرفة فلا خلاف بين أهل العلم أنه يجب عليه الحج، وذلك لأن حجته تلك لا يجزئ عنه فما زال مطالباً بحجة صحيحة مجزئه.
وهل يجب عليه الحج من قابل؟ – على الخلاف بين أهل العلم في هل يجب الحج على الفور أو على التراخي.
أما إن كان الحج الذي قد أفسده الفوات إن كان تطوعاً فهل يقضي أم لا؟
قولان:
قال الجمهور: يجب عليه القضاء من قابل.
وعن الإمام أحمد ومالك: أنه لا يجب عليه القضاء.
قال أهل القول الأول:
__________
(1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب هدي من فاته الحج من كتاب الحج رقم 865. والبيهقي باب ما يفعل من فاته الحج من كتاب الحج، المغني [5 / 426] .(11/240)
يجب عليه القضاء لظاهر الآثار فإن أثر عمر المتقدم ظاهره أنه عليه الحج من قابل مطلقاً ولم يستفصل عمر أهي حجة تنفل أو حجة فريضة، فلم يستفصل وأعطى حكماً عاماً فدل على أن الحكم يشمل الحجة التي فات الوقوف فيها وهي تطوع كما أنه شامل للحجة التي فات الوقوف فيها وهي فريضة.
قالوا: ولأن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) فالحج يجب بالشروع فيه، وحيث وجب بالشروع فيه، فإذا فاته الوقوف في هذه السنة فيجب عليه أن يأتي به في سنة أخرى كالنذر.
وأما حُجة الإمام أحمد في الرواية غير المشهورة عنه: فهي أن الشارع لم يوجب الحج إلا مرة واحدة، وحيث كان ذلك فلا يوجب عليه حجة أخرى.
والراجح هو القول الأول لقوة دليله، فإن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} وحيث فاته الوقوف وقد شرع في الحج فإن الحج لازم في ذمته واجب عليه، فحيث لم يتمكن منه هذه السنة فإنه يجب عليه في السنة الأخرى.
ثم عندنا ذاك الأثر عن عمر ولم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ولا أثر يخالفه ولا حديث يخالفه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالراجح أنه يجب عليه القضاء مطلقاً.
مسألة:
إذا فات رجل الوقوف بعرفة فهل يجوز له أن يختار البقاء على إحرامه إلى السنة القادمة. فيقول: أنا نويت الحج وأريد إبقاءه ولو كان ذلك إلى السنة القادمة. هل يجوز له هذا؟
1- قال الحنابلة: يجوز له هذا قياساً على العمرة، فكما أن العمرة يجوز أن يبقى محرماً بها السنة والسنتين والثلاث فكذلك الحج.
2- وقال جمهور العلماء وذكره الموفق احتمالاً: لا يجوز ذلك ولا يجزئ بل يجب عليه أن يتحلل منه بعمرة كما تقدم.
__________
(1) سورة البقرة.(11/241)
قالوا: لأن الحج لا يجزئ إلا بأشهره، فأشهر الحج هي مواضع إحرامه أي حج السنة نفسها، فلابد وأن يحرم في أشهر السنة نفسها. وهنا قد أحرم في أشهر ليست في تلك السنة التي يقع فيها الحج. والعمل والعبادة لا تصح قبل وقتها. ولابد وأن يكون الإحرام – كما تقدم ترجيحه – في أشهر الحج للحجة نفسها.
وهذا فرق بين الحج وبين العمرة، فإن العمرة – كما تقدم – تجزئ في كل وقت فله في كل وقت أن يحرم بها. وأما الحج فليس له أن يحرم به إلا في أشهره.
ولظاهر الآثار فإن الصحابة – كما تقدم في أثر عمر، أمره أن يتحلل بطواف وسعي وحلق أو تقصير – ظاهر الأمر الوجوب.
فالصحيح خلاف الحنابلة في هذه المسألة وأنه إذا فاته الوقوف فليس له أن يبقى محرماً إلى السنة القادمة بل يجب عليه أن يتحلل بعمرة كما هو مذهب جمهور الفقهاء.
قال: (ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حل)
إن صده عدو عن البيت أهدى " أي نحر أو ذبح هديه " ثم حل أي تحلل.
رجل أحرم بحج أو عمرة ثم منع عدوٌ له عن أن يتم نسكه من حج أو عمرة فإنه ينحر الهدي ويتحلل.
لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
ولم يذكر المؤلف الحلق، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة وأن الحلق أو التقصير لا يجب على المحصر.
قالوا: لأن الله لم يشترطه فقد قال تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يذكر حلقاً أو تقصيراً.
وقال بعض الحنابلة وهو أحد القولين في المذهب واختاره أكثر أصحابه: يجب عليه الحلق، وهذا هو الراجح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقد ثبت في البخاري عن المسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك، ونحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) (1)
__________
(1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد(11/242)
وذلك لما أحصر كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه) (1)
فقد نحر ثم حلق وأمر أصحابه بذلك، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن من فرض أو استحباب أو تحريم أو كراهية أو غير ذلك من الأحكام كما هو باتفاق أهل العلم.
فعلى ذلك فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حلق رأسه وأمر بالحلق.
فأصح القولين في المذهب وهو اختيار أكثر الحنابلة: أن الحلق واجب فمن أحصر فيجب عليه أن ينحر ثم يحلق وليس له أن يحلق قبل أن ينحر لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}
وإنما استثنى ذلك في يوم النحر للحرج فقدم الحلق على النحر وجاز ذلك كما تقدم في الحديث المتفق عليه رفعاً للحرج فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: افعل ولا حرج (2) .
أما في المحصر فإن ظاهر الآية الكريمة: أنه ليس له أن يحلق رأسه قبل أن ينحر.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجب عليه القضاء، فمن أُحصر فالواجب عليه أن ينحر ويحلق ولا يجب عليه الحج في السنة المقبلة، إلا أن تكون هذه الحجة حجة فريضة فيجب عليه الحج من قابل للأمر الأول. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن المحصر لا يجب عليه القضاء. واستدلوا بطريقتهم السابقة في الاستدلال بالآية في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب قضاء.
وعن الإمام أحمد أن القضاء واجب عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب بيان جواز التحلل بالإحصار من كتاب الحج. المغني [5 / 195] .
(2) تقدم ص115(11/243)
فعن الإمام أحمد روايتان ودليل الرواية الثانية: ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كُسر أو عُرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1)
ولقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فهذا قد نوى الحج فوجب عليه أن يتمه وحيث لم يمكنه الإتمام في هذه السنة فإن عليه أن يحج في السنة القادمة كما تقدم في استدلالهم في المسألة السابقة.
والنص المتقدم ظاهر في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق ولم يفرق بين حجة الفريضة وحجة النافلة. فمن أحصر في فريضة أو نافلة فإن عليه أن يحج من قابل، وهذا هو الأرجح. فالراجح أن المحصر يجب عليه أن يحج من قابل، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: (فإن فقده صام عشرة أيام ثم حل)
أي فقد الهدي فإنه يصوم عشرة أيام ثم يحل.
فعندهم أنه يسقط عنه الهدي لبدلٍ وهو الصيام - وليس له أن يتحلل حتى يصوم؛ لأنه بدل عن الهدي، ولا يتحلل حتى ينحر الهدي – هذا هو المذهب.
وقد تقدم هذا وأن الراجح أنه يسقط عنه الهدي لا إلى بدل كما هو مذهب بعض أهل العلم، فقد تقدم ذكر هذه المسألة في باب سابق.
فالراجح: أن من عجز عن الهدي فإنه يسقط عنه لا إلى بدل لأن الله لم يذكر البدل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وتقدم إبطال قياسهم على هدي التمتع في باب سابق. (انظر باب الفدية)
قال: (وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة)
أي رجل لم يُصدَّ عن البيت فيمكنه أن يطوف ويسعى ولكنه صُد عن عرفة التي هي ركن الحج.
فحينئذٍ حكمه: أنه يتحلل بعمرة ولا هدي عليه ولا قضاء.
فلو أن رجلاً قال: لبيك حجاً فلما أتى مكة أُحصر عن الوقوف بعرفة فحينئذٍ نقول: اقلب حجك إلى عمرة فطف بالبيت وبالصفا والمروة وحلق أو قصر ولا شيء عليك.
__________
(1) تقدم ص5(11/244)
وهذا ظاهرٌ فإنه تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة وقد أهلوا بالحج أمرهم أن يقلبوا إهلالهم بالحج إلى عمرة وحيث جاز هذا بلا إحصار فإنه مع الإحصار أولى.
أما إن حبس وصد هذا عن الطواف بالبيت، أي وقف بعرفة ورمى وحلق لكنه منع وصد عن الطواف – عن طواف الإفاضة -.
قالوا: يبقى محرماً أبداً حتى يطوف بالبيت.
إن منع من الطواف وحبس عنه فإنه لا يمكنه أن يتحلل بعمرة كمن فاته الوقوف وحينئذٍ فليس له أن ينقل النسك وما تقدم قلبٌ للنسك لأنه يمكنه أن يقلبه من حج إلى عمرة، أما هنا فلا يمكنه أن يقلبه إلى عمرة لأن المنع متعلق بالبيت.
فحينئذٍ: عليه أن يبقى محرماً أبداً حتى يتمكن من الطواف بالبيت ولو بعد سنوات طويلة.
لكن هل له أن يتحلل كما يتحلل المحصرون فيذبح هدياً؟
قالوا: ليس له ذلك. قالوا: لأن الإحصار إنما ورد من الإحرام التام وهو الذي يكون المحرم فيه ممنوعاً من جميع المحظورات وهذا يكون قبل التحلل الأول.
قالوا: وهذا هو الإحصار المشروع.
أما هنا فإنه ليس بإحرام تام لأنه قد حل التحلل الأول لوقوفه بعرفة ورميه جمرة العقبة ولم يبق محظوراً عليه إلا النساء، والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام أما وقد بقي عليه طواف الزيارة فقد حل التحلل الأول فإنه لم يرد الشرع فيه، هذا مذهب الحنابلة.
وهذا لا شك أنه ضعيف.
ولذا ذهب الشافعية: إلى أنه يتحلل كما يتحلل المحصرون، فيذبح ثم يحلق.
قالوا: لأن الآية عامة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} فالآية عامة في كل محصر سواء كان الإحصار قبل عرفة أم بعدها.
فمن أحصر ومنع سواء كان الإحصار بعد عرفة أو قبلها، بعد التحلل الأول أو قبله، فإن ذلك كله داخل في عموم الآية.
والمعنى يقتضي هذا، ثم إن التحلل من الإحرام الناقص أولى من التحلل من الإحرام التام، وهذا القول هو الراجح وفيه ما فيه من رفع الحرج.(11/245)
فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه الشافعية وأن من صُد عن طواف الزيارة فإنه ينحر هديه ثم يحل.
فالصحيح أنه إن منع عن شيء من أركان الحج فإنه لا يبقى محرماً بل يتحلل من ذلك.
ومثل ذلك المرأة الحائض: لو قلنا أنها ليس لها أن تطوف بالبيت وهي حائض ضرورة كما هو مذهب الجمهور. فالصحيح أنها تتحلل بعد هدي تذبحه وأنها في حكم المحصرين – كما هو مذهب الشافعية.
أما أن يمنع عن شيء من واجبات الحج فإن التحلل لا يقع، لأن التحلل إنما يكون لفعل المحظورات إن لم يقع له التحلل التام أو التحلل الناقص – على الراجح – والواجبات تجبر بالدماء فليس محلاً للتحلل وحينئذٍ فمن أحصر عن واجب من الواجبات كأن يحصر عن طواف الوداع كان عليه دماً في المشهور في المذهب.
وفي إيجاب الدم – فيما يظهر لي – نظر لأنه عاجز عنه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، – وهم يقولون بوجوب الوقوف بعرفة من زوال الشمس إلى غروبها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن من فاته الوقوف بعرفة نهاراً وأدركه بشيء من الليل فمع فوات الواجب الذي هم يقولون به لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه دماً فهنا كذلك.
فالأظهر أنه لا دم عليه، فمن أحصر عن شيء من مناسك الحج فإنه لا دم عليه ولا شك أن الأحوط هو الدم.
إذن: المشهور عند الحنابلة أن من منع من شيء من الواجبات فإنه لا يوجه إليه التحلل المختص بالمحصرين لأن حجه يصح من غير فعل هذا الواجب، فإن ترك الواجبات كرمي أو غيره لا يبطل الحج ويجبر بالدم فليس محلاً لتحلل المحصرين وحينئذٍ: فعليه أن يذبح دماً لتركه لهذا الواجب.
قال: (وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة بقي محرماً إن لم يكن اشترط)(11/246)
إذا حصره مرض كأن يكسر أو يعرج أو يصاب بشيء من الأمراض أو نفدت نفقته فلم يبق له ما ينفق منه على نفسه أو نحو ذلك من العوائق المانعة من تمام الحج سوى العدو – فقد تقدم أن العدو عند الحنابلة إن أحصر الحاج أو المعتمر فإنه يكون محصراً،وحينئذ ينحر ويحلق أو يقصر -.
لكن هنا المسألة: إن كان هذا المعيق ليس عدواً وإنما مرض أو ذهاب نفقة أو نحو ذلك.
فقال الحنابلة، وهو مذهب الجمهور: يبقى محرماً ولا يكون له حكم المحصرين.
قالوا: لأن الله قال في كتابه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وهذه الآية نزلت في منع المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة فهي قد نزلت في الإحصار من العدو.
ولم يلحقوا به غيره. فجعلوا هذه الآية دليلاً على هذه المسألة.
وصح عن ابن عباس أنه قال: (لا حصر إلا من عدو) رواه الشافعي بإسناد صحيح، ونحوه عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح.
- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن مسعود وقول طائفة من التابعين كمجاهد والحسن وعلقمة، وهو مذهب الظاهرية ومذهب أبي ثور، قالوا: بل الإحصار عام من العدو والمرض وذهاب النفقة وغيرها من العوائق المانعة من الحج أو العمرة.
واستدلوا: بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1) رواه الخمسة وإسناده صحيح، وهو دليل على هذه المسألة ظاهر. فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من كسر أو عرج وهما من الأمراض أعطاهما حكم المحصرين.
قالوا: ولأنه داخل في عموم الآية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ومن منعه مرض أو ذهاب نفقة فهو محصر.
__________
(1) تقدم ص5(11/247)
بل قال غير واحد من أهل اللغة: " الإحصار من مرض والحصر من عدو " وعليه حمل ابن القيم مقالة ابن عباس المتقدمة أي من حيث اللغة فهذه اللفظة " الإحصار " هي في المرض أظهر منها في الأعداء، فعلى ذلك يكون اختيارها في هذه الآية الكريمة تنبيهاً على دخول من منعه المرض من باب أولى لأن لفظة الإحصار أخص في منع المرض من منع العدو، وهذا هو اختيار ابن القيم.
وأما الجواب على دليلهم فيقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
هذا هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم.
إذن: اختلف أهل العلم هل يختص الإحصار بمنع العدو أو يعمه ويعم كل حبس ومنع سواء كان من عدوٍ أو من مرض أو ذهاب نفقة على قولين:
الراجح: أنه عام في العدو وفي غيره وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والنظر الصحيح إذ المعنى ثابت فيه كما هو ثابت في إحصار العدو.
هذا إن لم يكن اشترط، أما من اشترط فإنه يتحلل ولا شيء عليه فلا دم عليه ولا يبقى محرماً كما ثبت في قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: (اشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيتِ) .
فإذا اشترط فقال: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) فإنه يتحلل ولا شيء عليه لا هدي ولا قضاء وتقدم الكلام على الاشتراط.
والمسائل السابقة معروضة فيمن لم يشترط.
والحمد لله رب العالمين.
باب: الهدي والأضحية (2)
الهدي: من الهدية وهو ما يهدى إلى حرم الله تعالى من النعم، وسيأتي الكلام عليه.
__________
(1) متفق عليه، وتقدم ص27
(2) قبل ذلك صفحة بيضاء فيها العنوان بخط عريض وفي الصفحة المقابلة لها وبخط مختلف ما نصه: " هل يجزئ الاشتراك مع من ليس بمضح في بدنة؟ 1- الجمهور على الإجزاء (الشافعية وأحمد..) . 2- مالك قال بعدم الإجزاء، وهو قول، وكذلك لو كان متقرباً بغير أضحية. 3- أبو حنيفة: يجزئ أيضاً … "(11/248)
الأضحية: فهي ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق من النعم تقرباً إلى الله تعالى.
وفيها أربع لغات: أضحية: كسر الهمزة، وضمها وتشديد الياء وتخفيفها " (أُضحية – إضحية – أضحيَّة، إضحيّة)
وهنا لغة خامسة وهي " ضحيَّة " سيأتي الكلام عليها.
قال: (أفضلها إبل ثم بقر ثم غنم)
الأفضل في الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، والبحث هنا في الأضحية وسيأتي الكلام على الهدي.
استدل الجمهور على أن أفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم، بالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) (1)
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإبل هي الأفضل ثم البقر ثم الغنم " من الضأن أو المعز ".
وقال المالكية: الأفضل في الأضاحي هو الغنم فهي أفضل من الإبل والبقر.
واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) (2)
والشاهد قوله: " ضحى بكبشين " فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالغنم
ولما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي أيوب الأنصاري قال: (كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون ثم تباهى الناس كما ترى) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري باب فضل الجمعة من كتاب الجمعة، ومسلم باب الطيب والسواك يوم لاجمعة من كتاب الجمعة، وأهل السنن، المغني [3 / 165] .
(2) أخرجه البخاري [4 / 25، 451] ومسلم [6 / 77] وغيرهما، الإرواء رقم 1137.
(3) أخرجه الترمذي [1 / 284] وابن ماجه [3147] وغيرهما الإرواء رقم 1142.(11/249)
وهنا ينكر على التباهي في هذا الباب فدل على أنه خلاف الهدي - وهذا القول فيه قوة – فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ضحى بالغنم ولا شك أن فعله أولى في هذا الباب – وبخصوص الأضحية – أولى بالاستدلال من الحديث المتقدم الذي هو ليس مختص بباب الأضاحي.
فحديث الحنابلة وغيرهم في تفضيل الإبل هو حديث عام يدل على فضيلة الإبل على البقر والغنم وعلى فضيلة البقر على الغنم.
وحديث المالكية يدل على اختصاص الغنم بالفضيلة في باب الأضاحي فالذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية أقوى والله أعلم.
وأفضل كل جنس أسمنه فأغلاه وسواء كان ذكراً أو أنثى فلا بأس أن يضحي بالأنثى من الإبل أو بالذكر وكذلك في البقر والغنم، وأفضل ذلك أسمنه فاعلاه.
ففي البخاري معلقاً عن أبي أمامة معلقاً قال: (كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون) (1) ووصله أبو نعيم في مستخرجه.
وفي أبي عوانة في مستخرجه من حديث أنس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) (2) عند أبي عوانة: (سمينين)
وفي بلوغ المرام لابن حجر (3) أن عند أبي عوانة: " ثمينين " فلعلها رواية أخرى غير الرواية التي تقدم ذكرها.
ولأن هذا من تعظيم شعائر الله، والأضاحي من شعائر الله، وقد قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} فأفضل الأضحية أسمنها فأغلاها.
قال: (ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن)
الجذع من الضأن يجزئ من الأضاحي لا من المعز، وبينهما فارق فإن الجذع من الضأن يرد على الأنثى فيلقح بخلاف الجذع من المعز.
ويعرف الجذع بأنه ينام صوفه على ظهره.
وقال الحنابلة: وهو ما له ستة أشهر.
وقال الشافعية: ما له سنة.
__________
(1) ذكره البخاري باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين من كتاب الأضاحي، الفتح [10 / 11] .
(2) تقدم ص152
(3) كتاب الأطعمة، أول حديث في باب الأضاحي.(11/250)
قال ابن الأعرابي: - وهو من أهل اللغة المشاهير -: " الجذع إن كان من شابين أجذع لستة أشهر، وإن كان من هرمين أجذع لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر " فدل هذا على أنه يصح أن يجذع وهو لستة أشهر لكن هذا ليس ثابتاً بل قد يجذع لستة أشهر أو لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، فمتى نام صوفه ويعلم هذا أهل الخبرة من أهل الغنم متى نام صوفه فقد أجذع.
فالجذع من الضأن هو المجزئ، ولا يجزئ من غيره إلا المسن، ولذا قال:
قال: (وثني سواه)
الثني هو المسن فلا يجزئ من غير الضأن إلا المسن، وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان، ومن المعز سنة. لذا قال:
(وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن الغنم سنة)
فلا يجزئ جذعاً إلا أن يكون من الضأن.
ودليل إجزاء الجذع من الضأن ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجذع يوفي مما توفي من الثنية) (1) ، وثبت في النسائي بإسناد جيد عن عقبة بن عامر قال: (ضحينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) (2) وهو أيضاً ثابت في الصحيحين نحوه.
وأما ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن) (3)
فهذا الحديث يحمل على الاستحباب جمعاً بينه وبين الأحاديث المتقدمة أي: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا المسن إلا إن عسر عليكم ذلك فاذبحوا الجذع من الضأن.
__________
(1) أخرجه أبو داود [2799] وابن ماجه [3140] وغيرهما الإرواء 1146.
(2) أخرجه النسائي باب المسنة والجذعة، كتاب الضحايا رقم 4382، وهو في صحيح البخاري برقم 5547 في باب قسمة الأضاحي بين الناس من كتاب الأضاحي، ومسلم رقم 1965.
(3) أخرجه مسلم [6 / 77] وأبو داود [2797] وغيرهما الإرواء 1145.(11/251)
إذن: يجزئ الجذع من الضأن وهذا هو مذهب جماهير العلماء، ولا يجزئ من غير الضأن إلا الثنى أو المسن وهو ما له من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن المعز سنة.
قال: (والضأن نصفها)
أي ستة أشهر، هذا هو المشهور في المذهب وتقدم كلام ابن الأعرابي من أهل اللغة.
قال: (وتجزئ الشاة عن الواحد)
أي عن الواحد وأهل بيته وعياله. كما تقدم في حديث أبي أيوب في الترمذي وابن ماجه قال: (كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون) (1)
فالشاة لا تجزئ إلا عن الواحد أي وأهل بيته.
ويريد المؤلف بقوله " ويجزئ عن الواحد " أي لا يصح الاشتراك فيها بخلاف الإبل والبقر.
وأما إجزاؤها عن أهل بيته وعياله فإنها تجزئ عند الحنابلة ودليل هذا قول أبي أيوب المتقدم وله حكم الرفع.
وأما الاشتراك فلا، فإنها لا يشترك بها وإنما يجزئ عن الواحد [و] من اتبعه من أهل بيته وعياله.
قال: (والبدنة والبقرة عن سبعة)
تقدم ما يدل على هذا وهو حديث جابر في مسلم في قوله: (نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) (2) فإذا اشترك سبعة فأقل من ذلك ببقرة أو بدنة أجزأ ذلك عنهم.
قال: (ولا تجزئ العوراء)
وهي التي ذهبت إحدى عينيها.
قال: (والعجفاء)
وهي الهزيلة الضعيفة التي لا مخ في عظامها.
قال: [والعرجاء]
البين عرجها أي عرجها شديد يُضر بها في الرعي ولحاق الغنم في المرعى.
__________
(1) تقدم ص152
(2) أخرجه مسلم باب جواز الاشتراك في الهدي، وإجزاء البدنة.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 66](11/252)
ويدل على هذا ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها " ودل هذا على أن إحدى العينين إذا كان فيها شيء من البياض من العور الخفيف فإنه لا يؤثر، وإنما المؤثر هو العور البيِّن- والمريضة البيِّن مرضها - أي فيها مرض بيّن مضر ببدنها سواء كان جرباً أو غيره خلافاً لمن قيده من أهل العلم بالجرب فالحديث عام فيه وفي غيره - والعرجاء البيِّن ظلعها - أي عرجها - والكسير - عند النسائي: والعجفاء – - التي لا تنقي) (1) أي التي لا مخ فيها. فهذه الأربع لا تجزئ في الأضاحي، فإذا ضحى بها لم تجزئه.
قال: (والهتماء)
وهو التي سقطت ثناياها من أصلها.
وقال شيخ الإسلام: بل هي التي سقط بعض أسنانها.
المشهور عند الحنابلة أن الهتماء لا تجزئ.
وذهب بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين لمذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام أنها تجزئ وهذا هو الراجح إذ لا دليل يدل على عدم إجزائها.
وللحصر المتقدم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر غير المجزئ من الضحايا بأربع فدل هذا على أنها إن سقطت ثناياها أو سقط بعض أسنانها فإنه تجزئ خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
قال: (والجدَّاء)
من جدَّ الضرع إذا يبس وهي التي يبس ضرعها فلا لبن فيها، فهذه لا تجزئ.
قالوا: لأن هذا أولى من ذهاب شحمة عينها، فإن العوراء قد ذهبت شحمة عينها فهذه أولى منها بعدم الإجزاء.
وفي هذا نظر؛ فإن العوراء إنما ورد الشرع بعدم الإجزاء بها لأن عورها يضر برعيها، بخلاف الجداء " التي يبس ضرعها " فإن هذا لا يؤثر في رعيها ولا يؤثر في لحمها والمقصود هو اللحم.
__________
(1) أخرجه أبو داود [2802] والنسائي [2 / 203] والترمذي [1 / 283] وابن ماجه [3144] وأحمد [4 / 284] ، الإرواء رقم 1148.(11/253)
فالأظهر أن الجدَّاء تجزئ التضحية بها مع أن الأولى أن تكون سليمة من ذلك لقوله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وهذا يقتضي اختيار الأفضل.
قال: (والمريضة)
تقدم أن المريضة بجرب أو نحوه لا تجزئ، والمراد بالمريضة البين مرضها التي فيها مرض ظاهر مضرٍ للحمها فهذه لا تجزئ في الأضحية.
قال: (والعضباء)
وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها – أي أكثر من النصف -.
قالوا: لا يجزئ لما روى النسائي والترمذي وصححه عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي بأعضب القرن والأذن) (1) .
- وذهب جمهور العلماء وهو اختيار طائفة من الحنابلة كصاحب الإنصاف واستظهره صاحب الفروع واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي: أن ذلك يجزئ.
والحديث الذي استدل به الحنابلة يرويه قتادة عن جُري السدوسي عن علي بن أبي طالب، ولم يرو عن جُري إلا قتادة.
وقال أبو حاتم: " لا يحتج بحديثه " أي بحديث جُري لأنه لم يرو عنه إلا قتادة.
وتعقب الذهبي قول أبي حاتم المتقدم بقوله: " قلت: لكن أثنيَ عليه " فعلى ذلك حديثه لا بأس به.
فعلى ذلك الحديث حسن إن شاء الله وقد صححه الترمذي وغيره فقد روى عنه قتادة وتفرد عنه بالرواية لكن أثنى عليه.
ومن لم يرو عنه إلا راوٍ واحد لكن وثق سواء كان الموثِّق هو الراوي عنه أو غيره فإن حديثه مقبول.
__________
(1) أخرجه أبو داود باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2805 والنسائي باب العضباء من كتاب الضحايا رقم 4377 بلفظ: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن "، والترمذي رقم 1504 باب في الضحية بعضباء القرن والأذن من كتاب الأضاحي.(11/254)
لكن الحديث لا يظهر الاستدلال به على عدم الإجزاء، بل الظاهر أنه يدل على الكراهية، بدليل أن أهل العلم قد أجمعوا على أن التضحية بالخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة، وقد ثبت النهي عنها في حديث صحيح سيأتي أنه يجزئ في الأضاحي مع الكراهية وهنا كذلك فإن هذا لا يعدو إلا أن يكون أثراً في القرن أو الأذن ولا يؤثر هذا في اللحم.
وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجزئ بأربع ولم يذكر أعضب الأذن والقرن، فالأظهر حمله على الكراهية.
فالراجح من قولي العلماء أن التضحية بأعضب الأذن والقرن مجزئ مع الكراهية.
قال: (بل البتراء خلقة)
البتراء (1) : هي التي لا أذن لها، وتقييد المؤلف بقوله: " خلقة " موهم أن هذا القيد معتبر عند الحنابلة وليس كذلك بل البتراء عندهم سواء كان ذلك خلقة أو مقطوعاً أنه يجزئ فلو قطعت الأذن كلها أو كان ذلك خلقة فإنه يجزئ في المشهور عند الحنابلة.
قال: (والجمَّاء)
هي التي لا قرن لها، وهي مجزئة.
فالبتراء والجماء تجزئ عندهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذا.
ولأن هذا لا أثر له على لحمها فأجزأت.
ولا شك أن قولهم بإجزاء مقطوع الأذن وعدم إجزاء ما قطع أكثر الأذن أو أكثر القرن منه لا شك أن هذا فيه نظر ظاهر.
فعلى ذلك: العيب المتعلق بالأذن أو القرن سواء كان العيب بذهاب شيء يسير من الأذن أو القرن أو بذهاب الشيء الكثير منهما أو بذهابهما كلهما خلقة أو قطعاً أن هذا لا يؤثر في الأضاحي.
قال: (وخصي)
الخصي: لا خلاف بين أهل العلم أنه يجزئ.
وفي أبي داود من حديث أنس المتقدم قال: (موجوءين) (2) من الوجاء وهي الخصاء. فقد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل للحم وأطيب وأسمن.
__________
(1) قال في الروض المربع [4 / 223] : " البتراء التي لا ذَنَب لها.. ".
(2) أخرجه أبو داود [3 / 231] باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795، وأحمد [6 / 8] الإرواء رقم 1147.(11/255)
قال: (غير مجبوب)
فإن ترتب على الخصاء أنه يُجب عضوه " ذكره " فإنه لا يجزئ في المشهور عند الحنابلة، لأنه قد ذهب شيء من أعضائه وهو ذكره.
وذهب بعض الحنابلة إلى أن الخصاء وإن كان معه جب للعضو فإنه يجوز التضحية به.
وهذا أظهر، لأنه لا يؤثر في اللحم، لأن عضوه ليس مقصوداً للأكل عادة.
فالأظهر أن الخصي وإن ترتب على خصائه أن جب ذكره، أنه يجزئ في التضحية.
قال: (وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف)
إن كان في أذنه قطع أو قرنه قطع أقل من النصف فإنه يجزئ. وقد تقدم أنه إذا كان القطع أكثر من النصف فهو الأعضب وهو لا يجزئ عند الحنابلة.
فإن كان القطع نصفاً فأقل فإنه يجزئ عندهم ولا خلاف بين أهل العلم في هذا كما تقدم، فإن قطع شيء من أذنه أو قرنه ولو كان ذلك النصف فإنه يجزئ لكن مع الكراهية.
ودليل الكراهية عندهم: ما ثبت عند أبي داود والترمذي بإسناد صحيح عن علي قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) (1)
المقابلة: هي التي قطع شيء من أذنها من جهة مقدم الأذن ويعلق ذلك بها.
والمدابرة: نحوها لكن القطع من مؤخر الأذن.
الخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير وهذا يفعل سمة لها.
الشرقاء: التي في أذنها شق سواء مستديراً أو لا.
فعلى ذلك: ما كان في أذنها شق أو قطع ولم يصل ذلك إلى أكثر من النصف فإنه عند عامة العلماء أن ذلك لا يؤثر في باب الأضاحي.
أما إذا كان أكثر من النصف، فالمشهور في المذهب أنه لا يجزئ وهو الأعضب. والصحيح القول بإجزائه.
كل ما كان فيه شيء من النقص والعيب من بهيمة الأنعام فإنه مكروه التضحية به.
__________
(1) أخرجه أبو داود [3 / 237] باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2804. والترمذي باب ما يكره من الأضاحي من كتاب الأضاحي رقم 1498.(11/256)
* النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العوراء البين عورها) وألحق أهل العلم إجماعاً العمياء بها، والسؤال: هو إذا قام صاحبها بإطعامها – أي العوراء أو العمياء – فهل يجزئ أو لا؟
إذا نظرنا إلى ما تقدم من القاعدة فإننا نقول أنها تجزئ لأنها ذات لحم طيب، وهذا العور أو العمى لم يؤثر في بدنها.
وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (العوراء البين عورها) قلنا أنها لا يجزئ لأن هذا الوصف بها.
والذي يظهر لي – والله أعلم – هو القول بالإجزاء لكن مع ذلك الأولى عدم التضحية بها.
وذلك لأن الأصل في العوراء أن يؤثر ذلك في رعيها لكن إن قام صاحبها برعيها، فلم يؤثر ذلك في رعيها فإن مثل عورها ليس في الحقيقة مؤثر، فذهاب شحمة في عينها غير مؤثر.
ولا شك أنها مكروهة لأن هذا العيب يؤثر فيها كراهية، كما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك مما هو مشقوق الأذن فأولى من ذلك العوراء وإن سُمنت.
مسألة:
هل يُضحي عن الميت؟
هذه ترجع إلى مسألة: هل تصل الأعمال الصالحة إلى الميت أم لا – سوى الصدقة والدعاء فقد أجمعوا على وصولهما -؟ .
والذي يظهر لي عدم الوصول، وحينئذٍ هل الأضحية من جنس الصدقات أو لا؟
فإن قلنا إنها من جنس الصدقات قلنا بإجزائها لأن الصدقة تصل إلى الميت. والذي يتبين لي – والله أعلم – أن الأضحية ليست من الصدقات بدليل أن صاحبها لو لم يتصدق بشيء منها بل أكلها وأطعمها جاره وأهدى فإنها تجزئ. فالمقصود من الأضحية إراقة الدم في ذلك اليوم فلما كان الأمر كذلك – وهو أن المقصود إراقة الدم وهو نسك وعبادة – فإنه ليس صدقة ولا من جنس الصدقات. فالأظهر أنه لا يضحى عنه إلا أن يوصي بذلك.(11/257)
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يضحي عن أحد من أهل بيته كخديجة وحمزة مع أن المشهور عند أهل العلم أن الأضاحي شرعت في السنة الثانية للهجرة فالأظهر هو عدم مشروعية ذلك، لكن إن أوصى الميت بذلك فإنه يجوز؛ لأنه تصرف بالمال على وجه صحيح.
مسألة:
الكبش الأبيض منه أفضل من الأسود كما قال الحنابلة وهو أظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أملح وهو ما فيه بياض وسواد لكن بياضه أغلب لسواده.
فالأظهر أن الأملح أفضل من الأسود – هذا في الأصل لكن لو كان هذا أسمن من هذا أو أغلى ثمناً من هذا فإنه أفضل.
مسألة:
الأضحية لابد أن تكون كاملة فإن كانت مقطوعة الرجل أو نحو ذلك فإنها لا تجزئ لأنها ليست كاملة تامة.
أما إذا كان مما تقدم مما ليس بمقصود في الأكل عادة وإن كان ربما أكل لكن ليس هو المقصود في الأكل فإنه يجزئ.
مسألة:
لابد أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (1) ولابد وأن يكون مستأنساً ومن أبوين مستأنسين، فلو كان وحشياً أو أحد أبويه وحشي فإنه لا يصدق عليه ذلك ولا يجوز أن يضحي به.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولةً يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوَهدة التي بين أصل العنق والصدر)
" الوهدة " هو المكان المطمئن.
هذه الصفة المستحبة في نحر الإبل أن تكون قائمة قد عقلت يدها اليسرى أي ربطت – فهي قائمة على ثلاثة أطراف – ثم تنحر بحربة في الوهدة التي بين عنقها وبين صدرها.
ودليل ذلك قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها (2) } قال ابن عباس كما في البخاري: " {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أي قياماً " (3) {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت فهي قائمة.
__________
(1) سورة الحج.
(2) سورة الحج 36.
(3) ذكره البخاري باب نحر البدن قائمة من كتاب الحج قبل رقم 1714.(11/258)
وثبت في البخاري أن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) (1)
وفي مراسيل أبي داود: (معقولة اليسرى) (2) وهو مرسل فإن عقلت اليمنى فلا بأس لكن العمل بأن تكون المقيدة هي اليسرى أولى لثبوت هذا الأثر المرسل.
وكونها تنحر في الوهدة فلأن ذلك أسهل لخروج روحها وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) (3) فهذا الموضع أسهل لخروج روحها فيستحب ذلك.
قال: (ويذبح غيرها)
غيرها من بقر وغنم، فإنها تذبح ذبحاً لا نحراً.
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الكبشين الأملحين بيده ووضع رجله على صفاحهما أي على الجنوب.
فإذن: تضجع البقرة أو الغنمة على جنبها ثم توضع الرجل على الجنب الذي إلى السماء وذلك إراحة لها لئلا تتحرك فيكون الذبح عليها فيه عسر ومشقة فتوضع الرجل على جنبها وتوجه إلى القبلة استحباباً.
قالوا: ويستحب – وهذا باتفاق العلماء – أن تضجع على جنبها الأيسر وذلك من أجل أن يكون الذبح من الذابح باليد اليمنى وهذا أسهل للذبح.
وحينئذٍ: فإن كان أيسراً " أي يذبح بيده اليسرى " فإنه إن أضجعها على جنبها الأيمن فإن هذا أسهل.
إذن: تضجع إلى القبلة استحباباً ويكون اضجاعها على جنبها الأيسر ليكون ممسكاً بالسكين بيده اليمنى وهذا أسهل لذبحها وفي الحديث: (وليرح ذبيحته)
__________
(1) أخرجه البخاري باب نحر الإبل مقيدة من كتاب الحج، رقم 1713.
(2) في باب كيف تنحر البدن من كتاب المناسك رقم 1767. المغني [5 / 298] .
(3) أخرجه مسلم باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة من كتاب الصيد، المغني [11 / 516] .(11/259)
لكن إن كان الأسهل اضجاعها على جنبها الأيمن فإن هذا حسن ويضع رجله على جنبها البارز عن الأرض لئلا تتحرك البهيمة فيشق عليه الذبح وفي الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .
قال: (ويجوز عكسها)
فلو ذبح الإبل أو نحر في البقر والغنم فإن ذلك جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتفق عليه: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) (1) فإذا أنهر الدم بالسكين نحراً أو ذبحاً فإنه يجزئ وإن كان المذبوح محله النحر والمنحور محله الذبح؛ لكنه خلاف المستحب.
قال: (ويقول: باسم الله والله أكبر)
" باسم الله " وجوباً وسيأتي الكلام على حكم التسمية على الذبيحة في باب الذبائح إن شاء الله تعالى.
" والله أكبر " استحباباً، وقد تقدم حديث أنس وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الكبشين الأملحين سمى وكبر) (2) وفي مسلم قال: (باسم الله والله أكبر)
قال: (اللهم هذا منك ولك)
ثبت هذا في سنن أبي داود من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا منك ولك) (3) والحديث فيه عنعنة محمد بن إسحاق لكن له شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد.
وله شاهد آخر عند الطبراني من حديث ابن عباس فالحديث حسن.
" هذا منك " أي هذا نعمة منك وفضلاً.
" ولك " أي لك تعبداً ورقاً.
قال: (ويتولاها صاحبها)
__________
(1) أخرجه البخاري باب قسمة الغنم وباب من عدل عشرا من كتاب الشركة، باب ما يكره من ذبح الإبل.. من كتاب الجهاد، وفي باب ترك التسمية على الذبيحة.. وباب ما أنهر الدم من كتاب الذبائح والصيد، وأبو داود وغيرهما. المغني [13 / 265] .
(2) سبق ص152
(3) أخرجه أبو داود باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795 ولفظه: " إني وجهت وجهي … اللهم منك ولك … ".(11/260)
المستحب أن يتولاها صاحبها وقد تقدم في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبحها بيده، (وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما بقي وقد أشركه في هديه) .
فهذا يدل على أن المستحب في الأضحية والهدي أن يتولى صاحبها الذبح أو النحر.
لكن لو تولاها غيره وكان هذا الغير صحيح الذبح فإن هذا جائز ولذا قال:
(أو يوكل مسلماً)
التوكيل إن كان لمسلم فلا خلاف بين أهل العلم في إجزائه، واتفقوا على أنه لو وكَّل وثنياً لذبح أضحيته فإنه لا يجوز ولا يجزئ لأن ذبيحته لا تحل.
لكن اختلفوا في إجزاء ذبح الكتابي فهل يجوز أن يوكل المسلم كتابياً بأن يضحي له أم لا؟ قولان لأهل العلم:
أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة ومذهب الجمهور: أن ذلك يجزئ.
قال المالكية: لا يجزئ لأنها قربة وعبادة فلا تصح من كافر.
والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو مذهب الجمهور من الإجزاء وذلك لأن الكافر تصح منه القربة عن المسلم أي فعل القربة عن المسلم والقربة تقع للمسلم.
بدليل أنه يجوز بناء المساجد عمارة من الكفار فيجوز أن يتولى الكافر عمارة المساجد ونحوها، فهنا لا يعدو الأمر إلا أن يكون توكيلاً فليس من باب العبادة، فهذا الذمي لا يتعبد الله بالذبح بل هو موكل، وإنما الذي يتعبد الله بالذبح هو المؤمن بنيته وبماله الذي دفعه في هذه الأضحية، والذمي يجوز أن يتولى فعل القربة إن كان فعلها ليس على وجه التعبد وهنا فعل القربة ليس على وجه التعبد فإنه لا يعدو إلا أن يكون موكلاً بالذبح وهو صحيح الذبح.
فعلى ذلك الصحيح وهو المشهور عند الحنابلة أنه يجوز ذلك، وإن كان عندهم أن ذلك مكروه خروجاً من الخلاف.
والأظهر ألا يقال بالكراهية لعدم الدليل على ذلك، والخروج من الخلاف ليس بدليل يقتضي الكراهية.
قال: (ويشهدها)(11/261)
أي يشهدها المسلم أي يستحب للمسلم أن ينظر إليها ذكراً كان أو أنثى واستدلوا بحديث رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (احضري أضحيتك يغفر لك عند أول قطرة من دمها) (1) والحديث لا يصح، فقد رواه البيهقي وضعفه وهو كما قال.
قال: (ووقت الذبح بعد صلاة العيد)
دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) (2) فمن ذبح قبل صلاة العيد فإنها لا تجزئه أضحية وإنما هو لحم لأهله للحديث المتقدم.
وثبت في الصحيحين من حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضحَّى قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) (3) وظاهر هذه الأحاديث أن الوقت مقيَّد بفعل الصلاة نفسها لا بوقتها.
فلو أخرت صلاة العيد فلا يجزئ الذبح قبلها وإن ذهب من وقتها ما يكفي لفعلها، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء.
- وعن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة وهو مذهب بعض الحنابلة: أنه إذا ذهب من وقت صلاة العيد قدراً يكفي لفعل الصلاة فإنه يجزئ الذبح.
فإذا دخل وقتها – وهو يدخل بارتفاع الشمس قيد رمح – فإذا فات قدر يكفي لصلاة العيد فإنه يجزئ الذبح بعد ذلك وإن لم يصل الناس.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق باب فضل الضحايا من كتاب المناسك، المصنف [4 / 388] ، والبيهقي باب ما يستحب من ذبح النسيكة من كتاب الحج، السنن الكبرى [5 / 239] . المغني [5 / 444] .
(2) أخرجه البخاري باب من ذبح قبل الصلاة أعاد من كتاب الأضاحي رقم 5561، ومسلم باب وقتها من كتاب الأضاحي، وغيرهما، المغني [13 / 385] .
(3) أخرجه مسلم باب وقت الأضاحي من كتاب الأضاحي، صحيح مسلم بشرح النووي [13 / 112] ، والبخاري باب الذبح بعد الصلاة من كتاب الأضاحي رقم 5560.(11/262)
وهذا خلاف ظاهر الأحاديث، فإن الأحاديث المتقدمة ظاهرها أن الوقت مقيد بفعل الصلاة نفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) فظاهره أن من ذبح قبل الصلاة وإن كان بعد مرور وقت يكفي لفعلها فإنها لا تصح منه وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء وهو الراجح.
لكن إن كان في موضع لا تقام به صلاة العيد فإنه إذا فات قدر ما يكفي لصلاتها بعد دخول وقتها فإنه يجزئ الذبح.
كمن يكون في بادية أو في سفر فأول وقت الذبح هو مرور قدر يكفي لصلاة العيد بعد دخول وقتها إذ لا صلاة في حقهم، وقبل ذلك لا يجوز الذبح لأن الصلاة غير مشروعة في حقهم والوقت حينئذٍ يقوم مقام ذلك.
لذا قال: (أو قدره)
أي أو بعد قدره، و " أو " هنا ليست للتخيير وإنما هي للتفسير فمن كان في الأمصار التي تقام فيها صلاة العيد ولو لم يصل صلاة العيد فإنه لا يجزئه إلا بعد صلاة العيد. وأما إن كان في موقع لا تقام فيه صلاة العيد فقدره أي قدر الوقت الكافي لصلاة العيد.
قال: (إلى يومين)
هذا آخر وقتها إلى يومين من أيام التشريق، فعلى ذلك أيام النحر والذبح ثلاثة أيام: يوم النحر واليومان الأول والثاني من أيام التشريق، فعلى ذلك لا يجزئه الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) (1)
وقال الإمام أحمد: " عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أي القول بأن أيام الذبح ثلاثة أيام (وهذه المسألة في الهدي والأضاحي)
وذهب الشافعية إلى أن أيام الأضاحي أربعة أيام وأيام التشريق كلها، قالوا: هذه هي أيام النحر.
__________
(1) أخرجه البخاري [4 / 27] ، ومسلم [6 / 80] وغيرهما، الإرواء 1155.(11/263)
واستدلوا: بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أيام التشريق ذبح) (1)
قالوا: والحديث إسناده منقطع لكن للحديث شواهد وطرق يرتقي بها إلى الصحة فالحديث صحيح.
قالوا: وهو مروي عن علي وجبير بن مطعم، ولأنها – أي هذه الأيام – أيام رمي فكانت أيام ذبح أيضاً وهي من أيام الحج والنحر من مناسك الحج، وهذه المسألة في الهدي والأضاحي.
وما ذهب إليه الشافعية هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
لأن الحديث الوارد في هذا صحيح لشواهده وطرقه، ولأن أيام التشريق كلها أيام رمي وأيام مناسك فكذلك النحر.
وأما دليلهم الذي ذكروه فإنه ليس بدليل على هذه المسألة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) فهذا الحديث إنما هو في أيام الادخار وأنها ثلاثة أيام.
فلو ذبح في يوم النحر فليس له أن يدخر إلا في يوم النحر ويومين بعده، ولو نحر في اليوم الثاني من أيام النحر وهو أول أيام التشريق فليس له أن يدخر إلا فيه وفي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق، وهكذا.
فالمسألة في النهي عن الادخار، فعليه لو ذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فليس له أن يدخر ثلاثة أيام بل يدخر ذلك لليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
على أن الحديث منسوخ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وتزودوا وادخروا) (2) .
وإنما نهوا عن الادخار فوق ثلاث لحاجة أصابت الناس في سنة من السنوات فنهي عن الادخار ثم نسخ ذلك.
__________
(1) أخرجه أحمد [4 / 82] والبيهقي باب النحر يوم النحر من كتاب الحج..، المغني [13 / 386] .
(2) أخرجه مسلم باب بيان ما كان من النهي.. من كتاب الأضاحي، وأيضاً البخاري باب ما يأكل من البدن وما يتصدق.. من كتاب الحج. المغني [5 / 446] .(11/264)
فالمقصود من هذا: أن ما ذكروه لا يصح دليلاً في هذه المسألة.
وأما الآثار التي ذكرها الإمام أحمد فإنها معارضة بأثر علي المروي عنه، وبأثر جبير بن مطعم.
وبالحديث أيضاً فإن الحديث تقدم تصحيحه وهو حديث: (كل أيام التشريق ذبح) (1) فعلى ذلك: الراجح أن أيام التشريق كلها أيام هدي وأيام أضحية.
قال: (ويكره في ليلتهما)
أي في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق وفي ليلة اليوم الثاني من أيام التشريق، وأما ليلة يوم النحر فلا يجزئ فيها الذبح كما تقدم.
وأما ليلة الأول وليلة الثاني من أيام التشريق فيكره فيها الذبح، وإذا قلنا بجواز الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فكذلك تكره الأضحية أو الهدي في ليلته.
وفي هذه المسألة قولان:
الأول، وهو مذهب الجمهور: أن الذبح بالليل يجزئ. قالوا: ولعدم الدليل المانع من ذلك. وإنما كرهناه خروجاً من الخلاف، ولأنه إن ذبح ليلاً فإن اللحم لا يفرق رطباً وإنما يبقى ساعات طويلة ينتظر فيها دخول النهار ليوزع على المساكين أو يهدى على الجيران ونحوهم فكرهوه لذلك.
الثاني: وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد: أن الذبح لا يجزئ ليلاً.
قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فجعل وقت الذبح الأيام، والأيام جمع يوم، واليوم هو النهار، فجعل الله الوقت للذبح هو النهار وأما الليل فليس وقتاً – حينئذٍ – للذبح.
وروى الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي ليلاً)
أجاب أهل القول الأول عن أدلة المالكية:
قالوا: أما الآية: فإنها في مثل هذا يدخل في اليوم: الليل والنهار، كقوله تعالى: {فتربصوا في داركم ثلاثة أيام} أي بلياليهن وهنا كذلك. فإذا ذكرت الأيام مجموعة دخل ليلها فيها إلا أن يدل دليل على خروج ذلك.
__________
(1) تقدم ص162(11/265)
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التضحية ليلاً فإن الحديث لا يصح بل هو متروك فإن فيه راوٍ متهم بالكذب فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما ذهب إليه الجمهور أقوى من أن الذبح ليلاً مجزئ.
وأما القول بالكراهية خروجاً من الخلاف فقد تقدم رد مثل هذا وأن الخلاف ليس دليلاً على الكراهية، إذ الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل مختص به.
وأما كونه يوزع رطباً وإذا ذبح ليلاً لا يمكن ذلك، فنعم، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فحيث وجد ما يحفظ اللحم ولا يؤثر فيه فإنه لا مانع من ذلك.
كما أن هذه العلة لا تقوى على الكراهية.
فعلى ذلك الأولى أن يذبح نهاراً لكن إن ذبح ليلاً فإنه يجزئه ذلك على أن الأحوط هو الخروج من الخلاف في هذه المسألة فيضحي نهاراً. وكذلك فإن في التضحية نهاراً إظهاراً لهذه الشعيرة والله أعلم.
قال: (فإن فات قضى واجبه)
إذا خرج وقت الأضاحي بأذان المغرب من يوم التشريق الثالث - على الراجح – وبأذان المغرب من يوم التشريق الثاني – على المذهب -.
فإذا خرج الوقت فلا تخلو الأضحية من: أن تكون واجبة أو مستحبة.
فإن كانت التضحية واجبة – وهذا حيث كانت منذورة أو وصية - فإنها تذبح ولو كان ذلك بعد خروج الوقت تحصيلاً لمصلحة تفريقها ويكون ذلك من باب القضاء.
أما إن كانت التضحية مستحبة: فإذا ضحى بعد خروج الوقت فهي ليست بأضحية، وإنما هي شاة لحمٍ، فإن فرقها على الفقراء والمساكين فهي صدقة من الصدقات.
إذن: إن كانت نذراً ففات وقتها فإنه يضحي بعد خروج الوقت من باب القضاء.أما إن كانت غير واجبة بل هي تطوع فهي سنة فات محلها فإن ذبحها فهي شاة لحم فإن تصدق بلحمها فهي صدقة من الصدقات. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويتعينان بقوله: هدي أو أضحية)(11/266)
فالهدي والأضحية يتعينان فيكونان واجبتين بعينهما بقوله: " هذا هدي أو أضحية " فإن هذه البهيمة تتعين هدياً أو أضحية باتفاق العلماء لا بالنية.
(لا بالنية)
إن نوى أنها هدي أو أضحية فإنها لا تتعين بذلك، وذلك لأن ما أخرجه العبد على وجه القربة لا يثبت إلا بالتلفظ بالتقرب إلى الله عز وجل به لا بالنية المقارنة للشراء، فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين.
وإنما يثبت التعيين فيما أخرج على وجه القربة بالتلفظ بإخراجه كما لو اشترى رقيقاً بنية إعتاقه أو بيتاً بنية إيقافه فإن العبد لا يتحرر بذلك،
والبيت لا يكون وقفاً بمجرد شرائه مع النية المقارنة للشراء، فإن قال هو حر أو هذا البيت وقف فإنه حينئذ يتعين العبد حراً والبيت وقفاً.
فكذلك هنا مما كان على وجه القربة فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين بل يثبت ذلك باللفظ فإن تلفظ بلفظ من الألفاظ والتي فيها دلالة على إخراج هذه العين من ملكيته لحق الله تعالى فإنه يثبت بذلك.
ومثل التلفظ تقليد الهدي وإشعاره أو ما يقوم مقام هذا في الأضاحي فإنه يثبت به التعيين.
والإشعار هو أن تدمى صفحة البعير اليسرى حتى يخرج الدم إظهاراً على أنه هدي، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أشعر بدنه وقلدها)
والتقليد هو: أن يوضع فيها على سنة القلادة نعال ونحوها.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى غنماً وقلدها)
وإشعار الغنم ليس مشروعاً بالإجماع، وإنما المشروع هو تقليدها هذا في الهدي، وأما الأضحية فلم يرد شيء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قلد هديه أو أشعره فإن هذا الفعل يقوم مقام التعيين باللفظ وهذا أصح قولي العلماء، ففي هذه المسألة قولان للحنابلة:
اختار الموفق أنها إن قلدت أو أشعرت فإنها لا يتعين هدياً إلا باللفظ.(11/267)
واستظهر صاحب الفروع أنها تتعين بذلك، وهذا هو الراجح، كمن بنى مسجداً وجمع الناس للصلاة فيه، ولم يقل: هذا مسجد، فإن هذا الفعل منه يقوم مقام اللفظ.
فهذا المشعر لهديه أو المقلد له يقوم مقام قوله: " هذا هدي "
كذلك إن وضع شيء من إشعار أو تقليد في أضحيته – وإن لم نقل بمشروعيته – لكن هذا الفعل يقوم مقام التلفظ فكما لو قال: هذه أضحية.
إذن: التعيين لا يثبت إلا باللفظ أو بالفعل الدال عليه كالإشعار والتقليد.
قال: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها)
فإذا تعينت البهيمة هدياً أو أضحية فلا يجوز بيعها، لأنها بتعينها خرجت من ملكه وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له التصرف فيها كالوقف وغيره.
قال: (إلا أن يبدلها بخير منها)
أي له إن اشترى أضحية من الغنم وعينها ثم رأى غيرها خيراً منها فله أن يبدلها خيراً منها.
قالوا: لمصلحة ذلك – هذا هو أشهر الوجهين عند الحنابلة.
والوجه الثاني وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة قالوا: لا يجوز له ذلك لأنها قد تعينت بلفظه أو فعله فليس له والحالة هذه أن يبدلها ولو كان البدل خيراً منها.
وهذا هو مذهب الشافعية – وهذا هو الأرجح فيما يظهر لي – لأنه بتعينه لها قد أخرجها من ملكيته وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له أن يبدلها ولو كان هذا البدل خيراً منها.
قال: (ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به)
إن كان جز الصوف من البهيمة أنفع لها كجزه في وقت الربيع ليكون أخف لها في رعيها فله ذلك لكنه يتصدق به. أما إن كان هذا الجز لغير نفع لها فليس له ذلك لأنها حق لله تعالى فليس [له] أن يتصرف فيه إلا بما ينفعه.
مسألة:
وهل له أن يركبها؟ قولان لأهل العلم:
الأول: وهو مذهب الشافعية وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أنه ليس له أن يركبها إلا عند الضرورة إليها بمعنى: أن يلجأ إلى ركوبها فلا يجد ظهراً غيرها يركبه.(11/268)
الثاني: وهو مذهب المالكية وأحد الوجهين في المذهب: أن له أن يركبها مطلقاً ولو لم يُضطر إلى ركوبها.
استدل أهل القول الأول: بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ركوب الهدي فقال: (اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها حتى تجد ظهراً)
واستدل أهل القول الثاني: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً يسوق بدنةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها) فقال: (إنها بدنة) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها ويلك) في الثانية أو الثالثة.
والقول الأول أظهر فإن الحديث فيه أخص وأوضح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قيَّد هذا بقوله: (إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً) .
وهذا الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اركبها) الظاهر أنه كان لا يجد ظهراً غيرها ولذا كان يسوقها.
فالأظهر أنه له أن يركبها إن اضطر إليها، وهكذا الأضحية إن تعينت، فإذا تعين بدنة يضحي بها فله أن يركبها إذا اضطر إلى ذلك.
ويتبعها ولدها سواء عُينت وهي حامل أو حملت بعد تعيينها فإن ولدها يتبعها فحكمه حكمها هدياً أو أضحية وهو قول علي بن أبي طالب ولا يُعلم له مخالف كما روى ذلك سعيد بن منصور كما في كتاب المغني.
وأما شرب لبنها، فإن لم يضر بولدها ولم يضر بلحمها فإنه يجوز وذلك لأنه هو الذي يعلفها ويطعمها ويقوم بشأنها فأشبه المرتهن، فإن المرتهن الذي يقوم بعلف الدابة المرهونة لبن هذه الدابة له مقابل ما ينفق عليها من علف ونحوه فكذلك هنا.
قال: (ولا يعطي جازرها أجرته منها)(11/269)
الجازر لا يعطى أجرته منها، فليس لمن ضَحى له جزار أن يعطيه أجرته من لحمها أو جلدها أو صوفها أو نحو ذلك ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن علي قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه أن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها " وهي ما يوضع على ظهورها " وألا أعطي الجزار منها قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيه من عندنا)
ولأنه إنما أذن له بالانتفاع بها أكلاً أو غيره وأما البيع فلا.
فعليه: لا يجوز أن يُعطي الجزار منها أجرةً لجزارته لكن إن كان الجزار فقيراً مستحقاً فأعطي منها لفقره وأعطي أجرته من غيرها فإن هذا جائز لا بأس به. أو كذلك أعطي لكونه جاراً أو صديقاً ونحو ذلك مع إعطائه أجرته من غيرها فلا بأس.
قال: (ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها بل ينتفع به)
لما تقدم، فإن الشارع إنما أذن له بأن يأكل منها وينتفع بها وأما أن يبيع جلدها فلا يجوز، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعطى الجزار شيئاً منها) ومثل ذلك: البيع، فإن هذا دليل بالتنبيه على النهي عن بيع شيء منها.
فلا يجوز له أن يبيع جلدها أو صوفها أو نحو ذلك. لكن له أن ينتفع بها، لأنه أجيز له الانتفاع بأكلها فكذلك الانتفاع بجلدها.
فله أن ينتفع بجلدها وصوفها أو نحو ذلك لكن ليس له أن يبيعه.
قال: (وإن تعيَّبت ذبحها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين)
صورة هذه المسالة:
إذا عيَّن رجل أضحيته وقبل أن يأتي يوم النحر حدث فيها عيب يمنع الإجزاء بها أصلاً كأن يصيبها عرج بيِّن، أو نحو ذلك فإنها تجزئ عنه.
ومثل ذلك لو أنه عين هدياً على سبيل التطوع ثم حدث له عطب أو شيء يمنع من الإجزاء فإنه يجزئ عنه ولا يجب عليه أن يهدي غيره ولا أن يضحي بغيره.(11/270)
وذلك لأنه ليس بواجب عليه فالأضحيه ليست بواجبه في الأصل والهدي – أي هدي التطوع – ليس بواجب وإنما وجب هذا المعين، فالواجب هو هذا المعيَّن، فحيث حدث له تلف أو عيب فإنه لا يجب عليه أن يبدله، فإن الوجوب المتقدم متعين به هو، أما ذمته فهي بريئة من أن يتعلق بها شيء، وإنما التعيين في هذه البهيمة نفسها فإذا حدث بها عيب فإنها تجزئ عنه لأنها تعينت فثبت حقاً لله. فقد خرجت من ملكيته لحق الله تعالى حين عينها، ولا يجب عليه أن يذبح بدلها، لأن ذلك ليس بواجب عليه أصلاً وإنما وجبت هي بنفسها بتعيينها.
(إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين)
فإنه يجب عليه أن يذبح بدلها.
رجل معه هدي واجب فكان أن حدث في هذا الهدي الواجب عيب يمنع من الإجزاء وقد عينه بتقليده أو إشعاره أو بقوله: " هذا هدي " حدث فيه عيب يمنع الإجزاء قبل نحره.
أو قال هذه أضحية وكان قد نذرها فإنها إن تلفت أو عطبت أو حدث بها ممنع الإجزاء:
فإن الواجب لا يسقط عنه وذلك لأن ذمته قد تعلقت بها إيجاب شاة أو نحوها سليمة من العيوب سواء كان ذلك بالنذر أو بالهدي الواجب فقد تعلق في ذمته أن يذبح شاة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته لا تبرأ بل تبقى مشغولة.
وذلك لأن الواجب عليه أن ينحر أو يذبح بهيمة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته تبقى مشغولة.
وحينئذٍ: فهل له التصرف بهذا المعيب أم ليس له التصرف به؟
جمهور أهل العلم أن له التصرف به وهو قول ابن عباس كما رواه سعيد بن منصور في سننه. وذلك لأنه لا يجزئ عنه وقد أوجب الشارع عليه بدله وحيث كان كذلك فإن هذا يكون قد عاد إلى ملكيته وحينئذٍ يكون قد بطل تعيينه.
فإذن: حيث أوجبنا عليه غيرها فهذا إبطال لتعيينه المتقدم فله أن يتصرف فيها بما شاء من بيع أو أكل أو نحو ذلك.(11/271)
وهدي التطوع إن حدث به عطب أو نحو ذلك فإنه ينحر ثم يؤخذ من دمه بالقلائد التي عليه وتلطخ به جوانبه ليعرفه الفقراء، وليس لمن هو سائق لهذه البدن أو رفقته ليس لهم أن يطعمون من ذلك فقد ثبت في مسلم عن دؤيبة أبي قبيصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعثه على البدن فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن عطب شيء منها " أي من هذه البدن وكانت على هيئة التطوع " فخشيت عليها موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها " وهي القلائد التي على رقبتها " في دمها ثم اضرب على صفحتها " أي على جانبها وهذا من أجل معرفة الفقراء لها " ولا تطعم منها شيئاً ولا أحد من رفقتك) (1)
وهذا لسد الذريعة لكي لا يكون سعي في إعطابها ليأكلها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمها سائقها ومن كان معه من رفقة.
قال: (والأضحية سنة)
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً)
قالوا: فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية بإرادة المكلف والواجبات لا تعلق بإرادته، فلا يقال في الواجبات " من أرادها " فإنها لا تعلق لها بإرادة المكلف بل يجب عليه أن يفعلها مطلقاً، يدل هذا على أنها – أي الأضحية – ليست بواجبة، هذا مذهب جمهور العلماء.
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنها واجبة على الغني.
واستدلوا: بما روى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) والحديث الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة – قال الحافظ ابن حجر – وقد ذكر تصحيح الحاكم له قال: " ورجح الأئمة غيره وقفه " وهذا هو الراجح فهو موقوف على أبي هريرة.
__________
(1) رواه مسلم في باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق من كتاب الحج. المغني [5 / 439](11/272)
وهو مخالف لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففي سنن البيهقي بإسناد صحيح: (أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان مخافة أن يُقتدى بهما) أي مخافة أن يقتدي الناس بهما فيعتقدون أنها واجبة.
والقول الأول: هو الراجح، فليس في هذه المسألة إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب.
وأما الحديث الذي ذكره الأحناف فهو موقوف على أبي هريرة وهو معارض لفعل أبي بكر وعمر، فيبقى فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب.
قال: (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها)
فذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الصدقة بثمنها ذريعة لترك سنته، والنبي صلى الله عليه وسلم يختار الأضحية على الصدقة بثمنها فكان يضحي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى ذلك الأفضل أن يضحي؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً)
يسن له أن يأكل ثلثها، وأن يتصدق بثلثها وأن يهدي ثلثها.
واستدلوا: بأثر عن ابن عمر ذكره الموفق في المغني ولم يعزه وبأثر ابن مسعود ذكره الإمام أحمد فقال الإمام أحمد " نحن نذهب إلى أثر عبد الله) أي ابن مسعود.
وحيث لم نقف على الأثر، فالذي يظهر لي هو اتباع الإمام أحمد في العمل بهذا الأثر فهو من أهل الحديث ومعرفة الآثار وحيث أنه احتج به وليس عندنا ما يضعفه فالأولى هو اتباع هذا الأثر الذي استدل به الإمام أحمد.
فعليه: المستحب أن يقسم الأضحية أثلاثاً فيتصدق بثلثها ويهدي – أي إلى الجار والقريب – ثلثها، ويدخر لنفسه ثلثها هذا في الأضحية.
وأما في الهدي له فالمستحب له أن يأكل شيئاً منه ويتصدق بالباقي، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر ببضعة من كل بدنة فجعلت في قدر فأكلا منها وشربا من مرقها) أي هو وعلي رضي الله عنه فلم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثلثها بل أخذ ببضعة من كل واحد منها.(11/273)
قال: (وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز)
إذا وضع الأضحية كلها لبيته ادخاراً أو أكلاً فهو جائز بشرط أن يتصدق بجزء منها ولو كان هذا الجزء يسيراً، للإطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الصدقة والأكل فقال: (كلوا وتصدقوا) وحيث أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فأي شيء يصدق عليه أنه صدقة فإنه يجزئ عنه، فلو أخذ بضعة فتصدق بها أجزأ عنه.
ولو كان ذلك مقدار أوقية أو أقل منها مما يصدق عليه أنه صدقة.
قال: (وإلا ضمنها)
إن لم يخرج شيئاً منها، فإنه يضمن هذا الشيء المجزئ فيجب عليه أن يشتري لحماً يتصدق به، وذلك لأن الصدقة فيها واجبة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا) وحيث أكلها أو تزود بها ولم يتصدق بها فإنها تبقى في ذمته فيجب عليه ضمانها فيخرج شيئاً من ماله يشتري به لحماً يتصدق به.
قال: (ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً)
لا يجوز لمن أراد أن يضحي سواء باشر الأضحية هو أو باشرها غيره أو كان موكلاً غيره، فليس للمضحي أو المضحَى عنه ليس لأحد منهم أن يمس من بشرته ولا من شعره، وذلك للحديث المتقدم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر) وذلك يكون من إهلال شهر ذي الحجة وهو ثابت في بعض روايات مسلم فإذا دخلت الليلة الأولى من شهر ذي الحجة فليس له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئاً للحديث المتقدم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً) .
وظاهر الحديث كما قال المؤلف التحريم – فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره التحريم إلا أن يدل دليل على الكراهية.
وذهب جمهور أهل العلم إلى كراهية ذلك لا تحريمه.
الأظهر هو التحريم كما هو مذهب الحنابلة لظاهر الحديث.(11/274)
واعلم أن من تعينت أضحيته المستحبة وقد تقدم أنه لا يجب عليه أحد إن حدث بها تلف أو عيب يمنع الإجزاء، لا يجب عليه أن يضحي.
اعلم أنها إن وقع فيها عيب من فعله فإنه يضمنها لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
فهي يد أمينة، فإن حدث في هذه البهيمة شيء من العيوب بغير فعله فلا شيء عليه.
وأما إن كان بفعله وتعديه وتفريطه فإنه يلزمه أن يذبح غيرها لأنها تلفت في يده وبتعديه وتفريطه، فهي قد تعينت وتعدى عليها أو فرط في حفظها فوجب عليه أن يضحي ببدلها.
مسألة:
وهل الأضحية مشروعة للحاج؟ انظر الجواب في مطلع الدرس القادم " بعد هذا الدرس ".
والحمد لله رب العالمين.
تقدم البحث في حكم الأضحية، واعلم أن مذهب جمهور العلماء مشروعية الأضحية في يوم النحر مطلقاً للحاج وغيره، وأن الحاج يشرع له أن يضحي كغيره من المسلمين.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى في حجة الوداع عن نسائه بالبقر) .
قالوا: فدل هذا على مشروعية الأضحية للحاج كغيره.(11/275)
وقال المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها لا تشرع للحاج بل يشرع له الهدي واستدل على هذا الشنقيطي في أضواء البيان بقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} قال: فبهيمة الأنعام المذكورة في هذه الآية الكريمة هي الهدي بدليل أن الله عز وجل ذكر الأذان بالحج إليها فقال: {وأذن في الناس} وقال: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فبين أن العلة من الأذان بالحج أن يشهدوا منافع لهم وأن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومعلوم أن الأضحية لا تحتاج إلى هذا فإن الأضحية تثبت بكل موضع فتبيَّن أن بهيمة الأنعام التي يذكر اسم الله عليها في هذه الآية الكريمة هي الهدايا لا الأضاحي.
ويستدل على هذا أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه ولا عن أصحابه إلا الهدي في حجة الوداع.
وأما ما استدل به جمهور العلماء فإن هذه اللفظة وهي لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة، بدليل أنها وردت في بعض الروايات (نحر) وفي بعضها (أهدى) .
ويدل على هذا أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن قارنات فدل هذا على أن هذا الذبح كان لهدي التمتع بالقران، وأن لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة.
فالراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وأن الهدي هو المشروع للحاج دون الأضحية وأن الأضحية لا تشرع له وإنما يشرع له الهدي فإن أحب استقل من الهدي وإن أحب استكثر كما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مئة بدنة وأشرك علياً معه في ذلك.
وأما الهدي فهو مشروع للحاج وغيره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا وهو غير حاج.
فصلٌ
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن العقيقة)(11/276)
العقيقة من العق وهو القطع، والعقيقة هي الذبيحة تذبح عن المولود، وسميت عقيقة لأنها تقطع أي تذبح، والذبح يكون بقطع الحلقوم وما معه مما تثبت به التذكية فسميت هذه الذبيحة التي تذبح للمولود عند ولادته بالعقيقة.
" تسن " فالعقيقة سنة وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على سنيتها بما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين) .
أما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عنهما كبشاً كبشاً) فإن الحديث ضعيف فالصواب أنه مرسل كما رجح ذلك أبو حاتم الرازي وغيره.
وفي الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة قالت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وإسناده صحيح.
ولا تجب – أي العقيقة – كما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن العقيقة فقال: (إن الله لا يحب العقوق - وكأنه كره الاسم - فمن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان " متماثلتان متشابهتان في السن والإجزاء وفي السلامة من العيوب " وعن الجارية شاة) .
قالوا: فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينسك " فعلقه بإرادة المكلف ومحبته، وحيث كان ذلك فإن هذا لا يدل على وجوبه وأنه راجع إلى اختيار المكلف، ولا شك أن الأحكام الواجبة ليست براجعة إلى اختيار المكلف، بل ملزم بها.(11/277)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب العقوق) يدل على أن هذا الاسم (العقيقة) : يستحب ألا يداوم عليه، والمداومة عليه مكروهة، وإنما قلنا أن المكروه هو المداومة عليه دون إطلاق التسمية هكذا من غير مداومة – إنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: (كل غلام رهينة بعقيقته) فسماها – أي هذه الذبيحة – عقيقة، فدل على أن المكروه هو أن تغلب هذه التسمية على أسمائها الأخرى فتكون هي التسمية السائدة الغالبة أما إن تسمى بهذا الاسم من غير أن تكون هذه التسمية غالبة فلا حرج في هذا، وهكذا تسمية المغرب بالعشاء وكتسمية العشاء بالعتمة فإنها إنما تكره إن كانت ثابتة غالبة على غيرها من الأسماء الشرعية فعلى ذلك تسمى بالنسيكة فإن سميت تارة بالعقيقة من غير أن يغلب هذا الاسم على اسمها الشرعي وهو النسيكة، فإنه لا حرج في هذا، وإنما قلت: إنها تمسى نسيكة لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم الفعل المشتق منها، فقد قال صلى الله عليه وسلم وقد كره العقوق: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه) فدل هذا بالإشارة والتنبيه على أن المستحب أن تسميها بالنسيكة.
إذن: مذهب جمهور العلماء وهو المشهور عند الحنابلة أن العقيقة سنة وليست بواجبة.
وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه واختاره أهل الظاهر وهو قول الحسن البصري أن العقيقة واجبة.
واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته يذبح يوم سابعه ويحلق ويسمى) والشاهد قوله: " رهينة بعقيقته " قالوا: فهو محبوس مرتهن بعقيقته فلا فكاك له من هذا الحبس وهذا الارتهان إلا بالعقيقة. وكما أن الرهن يجب أن يفك فكذلك يجب أن يفك رهن هذا الغلام فيعق عنه.(11/278)
واستدلوا: - أيضاً – بحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وفي الاستدلال بهذين الدليلين – فيما يظهر لي – نظر.
أما الدليل الأول: فإن الله عز وجل لا يوجب على أحد – إلا أن يكون هذا صريحاً – لا يوجب على أحدٍ ما يكون فكاكاً لغيره إلا أن يرد هذا صريحاً كإيجاب صدقة الفطر على الولد أو من تحت اليد ممن ينفق عليه، وأما أن يوجب هذا لفك رهينة على الوالد فإن في هذا نظراً.
فالذي يظهر أن هذا لا يقوى على الإيجاب فهو مرتهن ومحبوس بذلك لكن لا يعني ذلك أن هذا واجب على الأب، كما أنه لا يجب على الأب أن يقضي دين ولده الذي توفي وعليه دين مع أنه محبوس بدينه أعظم من هذا الحبس فإن هذا يتعلق بحق الآدمي وأما الأول فغايته أن يكون متعلقاً بحق الله وحقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة فلا يظهر لي الاستدلال بهذا على وجوب العقيقة.
وأما حديث عائشة: فلا يظهر الاستدلال به على الوجوب فالأمر فيه للاستحباب فيما يظهر، بدليل أنه لو عُق عن الغلام بشاة، فإنه ذلك يجزئ كما سيأتي الدليل عليه، فدل هذا على أن الأمر للاستحباب، فإن الحديث فيه الأمر أن يعق عنه بشاتين وقد دلت الأحاديث على أنه لو عق عنه بشاة، فإن ذلك يجزئ.
ففي سنن أبي داود بإسناد حسن عن بريدة قال: (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام نذبح شاة ونلطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة " أي عن الغلام " ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران) فكره الشارع لطخ رأسه بدم العقيقة وشرع حلق رأسه وأن يلطخ بزعفران والشاهد أنه قال: (فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة) فالظاهر أن الشاة تجزئ لهذا الحديث.
فالأقوى ما ذهب إليه جمهور العلماء وأن النسيكة سنة مستحبة وليست بواجبة والله أعلم.
قال: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)(11/279)
لحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة)
قال: (يذبح يوم سابعه)
استحباباً لحديث سمرة الذي رواه الخمسة وقد تقدم وفيه: (تذبح يوم سابعه) فإن ذبحها قبل سابعه أجزأت عند جمهور العلماء ولم يجزئ عند المالكية.
أما جمهور العلماء فاستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وحيث كان كذلك فإنها إن ذبحت قبل السابع فإنه يفك رهنه كما يفك الرهن بإعطاء الحق قبل أوانه.
وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل ما صحَّ مما سيأتي من السنة من جواز ذبحها بعد ذلك في اليوم الرابع عشر وفي اليوم الواحد والعشرين، فإذا ثبت هذا – وسيأتي – فإن هذا يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) أنه للاستحباب، ثم إن ذبحها قبل سابعه يحصل به المقصود.
وأما المالكية فقد استدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) قالوا: فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للنسيكة يوم السابع فلا يجوز أن يقدم عليه كسائر المواقيت.
والأظهر ما ذهب إليه الجمهور، لما تقدم، فإن قوله: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل جواز ذبحها بعد يوم السابع ولأن المعنى يقتضي ذلك فالمقصود يحصل بذبحها في اليوم الرابع أو في اليوم الثالث أو في اليوم الأول.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) والرهن يفك متى دفع الحق وإن كان ذلك قبل أجله وأوانه. والله أعلم.(11/280)
ويستحب في اليوم السابع: أن يحلق رأسه وأن يلطخ رأسه بزعفران وأن يتصدق بوزن شعره من فضة – هذا إن كان غلاماً ذكراً – ففي المسند بإسناد جيد عن أبي رافع قال: (لما ولد الحسن قالت فاطمة للنبي صلى الله عليه وسلم: أعق عنه؟ قال: لا " وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يعق عنه كما تقدم " ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة) والحديث في الغلام.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) وقال: (ويحلق) ولأن النساء يكره في حقهن الحلق – وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن الحلق واللطخ بالزعفران بعد الحلق، والتصدق بوزن شعره من الفضة – أنه مختص بالذكور دون الإناث، وهو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وأما التسمية فقد تقدم حديث سمرة وفيه: (ويسمى) وأن ذلك في اليوم السابع، وهذا مذهب بعض الحنابلة.
قالوا: يستحب أن تكون التسمية في اليوم السابع.
- وذهب بعض الحنابلة إلى أن المستحب في التسمية أن تكون حين ولادته.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة ولد فسميته باسم أبي إبراهيم)
ولما ثبت عن أنس بن مالك: (أنه ذهب بابن لأبي طلحة حين ولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه بتمر وسماه عبد الله)
وثبت أيضاً في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمى المنذر بن الأسود المنذر حين ولد) وهذه أحاديث متفق عليها دلت على أن التسمية مشروعة حين الولادة، وكلا الأمرين جائز لكن الأظهر هو استحباب التسمية عند ولادته لأن الأحاديث الواردة فيه أصح، فإن سمي يوم سابعه فلا بأس.
قال: (فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين)(11/281)
لما روى الحاكم في مستدركه بإسناد جيد أن امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر نذرت إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرت جزوراً، فقالت عائشة: (لا بل السنة عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تذبح جدولاً " أي أعضاء " ولا يكسر لها عظم وأن يكون ذلك يوم سابعه فإن لم يكن ففي أربعة عشر فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين) وفي قولها: " لا بل السنة " ثم ساقته، ما يدل على أنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يثبت ذلك سنة فإنه قول الصحابي لا يعلم له مخالف فيكون حجة.
فعلى ذلك: إن فات السابع فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الرابع عشر فإن فاته اليوم الرابع عشر فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الحادي والعشرين فإن فات اليوم الحادي والعشرين فإنه يذبحها متى شاء.
وظاهر إطلاقهم أنها تذبح عنه ولو كان ذلك بعد بلوغه.
وعند الإمام أحمد أنها إنما تكون عن الصغير أي غير البالغ، وهذا هو الأظهر فإن الأحاديث الواردة في ذلك مقيدة بالغلام والجارية وهما من لم يبلغا. فإن بلغا فليس بغلام وليست هي بجارية.
فهي مشروعة عن الغلام وعن الجارية وحيث بلغا فهي سنة فات محلها، أما ما رواه الطبراني أن: (النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه) فإنه إسناد لا يثبت وقد أنكره الإمام أحمد.
واستحب الحسن وعطاء أن يعق عن نفسه إن لم يعق عنه أبوه وقال الإمام أحمد: " لا أقول به ولا أكرهه ".
الأظهر ما تقدم: وأنه إن بلغ فهي سنة فات محلها، وأما من لم يبلغ وقدر أن يعق عن نفسه فإنه يعق.
والذي يعق عنه في المشهور عند الحنابلة هو الأب فقط، فلا يجزئ أن يعق عنه غيره.
وقال الشافعية: بل كل من ينفق عليه، ممن وجبت عليه النفقة فإنه يعق عنه سواء كان أباً أو أخاً أو عماً.
وذهب بعض أهل العلم وهو اختيارالشوكاني إلى أن العقيقة تجزئ من الأب أو من يجب عليه النفقة أو من غيرهما.(11/282)
فمن عق عنه ولو كان العاق بعيداً عنه لا ينفق عليه فضلاً أن يكون أباً فإن ذلك يجزئ.
واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين) وأبوهما علي رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تلزمه النفقة عليهما وهذا هو القول الراجح.
وما ذهب إليه الحنابلة والشافعية لا دليل عليه، فالراجح أنه إن عق عنه فإن ذلك يجزئ من غير نظر إلى فاعل ذلك سواء كان أباً أو غيره منفقاً أو غيره.
قال: (تنزع جُدولاً ولا يكسر عظمها)
" جدولاً " أي أعضاءً، فلا تكسر عظامها، ولذا قال: " ولا يكسر عظمها " أي تنزع اليد، والرجل، والرقبة هكذا عضواً عضواً ولا تكسر عظامها، للأثر المتقدم عن عائشة قالت: " وتذبح جدولاً ولا يكسر لها عظم ".
وقال المالكية: لا بأس أن تكسر عظامها ولا يقال باستحباب ذبحها جدولاً وعدم تكسير عظامها.
قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك.
والراجح القول الأول لصحة الأثر عن عائشة، فإن كان مرفوعاً فكما تقدم وإن كان من قولها فهو قول صاحب لا يعلم له مخالف.
ولما في ذلك من التفاؤل بأن يكون هذا الغلام سليمة أعضاؤه من أن يقع فيها شيء من الكسر أو العيب أو نحو ذلك.
وقد استحب الحنابلة أن تطبخ لأن ذلك أيسر مؤونة على الفقير، وهو كما قالوا حيث كان الطبخ أيسر لكن إن كان إعطاؤه إياها لحماً من غير طبخ أحب إليه أي لحفظها وتخزينها فإن ذلك أفضل، فيراعى في ذلك مصلحة الفقير من طبخ أو غيره.
وفي أثر عائشة المتقدم قالت: (فتأكل وتطعم وتتصدق) أي يأكل صاحب العقيقة فيها ويطعم جاراً أو قريباً ويتصدق على الفقير، فمجراها شبيه بمجرى الأضحية يؤكل منها وتُتصدق ويُهدى.
فإن تصدق بها كلها أو أهداها كلها أو وضعها لضيف فإن ذلك يجزئ على أنها عقيقة، لأن المقصود هو ذبحها.
وإن تصدق بها على الفقراء فهو الأولى، بل الأولى من ذلك أن يتصدق ويطعم ويهدي لأثر عائشة المتقدم.(11/283)
قال: (وحكمها كالأضحية)
فيشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية من كونها سليمة من العيوب ذات سن مجزية، إن كانت من الإبل فخمس سنين، وإن كانت من البقر فسنتان وإن كانت من المعز فسنة وإن كانت من الضأن فستة أشهر – وهذا من باب القياس – والجامع أن كليهما نسك فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم نسكاً واستحبها فتقاس – حينئذٍ – على الأضحية.
قال: (إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم)
هذا استثناء، فهي في أحكامها كالأضحية لكن لا يجزئ فيها شرك من دم، فليس له أن يشارك غيره في إبل أي في العقيقة فقد تقدم أن السبع من البدن والبقر عن شاة في الأضاحي والهدي.
قالوا: أما العقيقة فلا، فلو أن له ثلاثة من البنين فأراد أن يذبح جزوراً فيعق به عنهم فإن ذلك لا يجزئ فلابد وأن يكون لكل واحدٍ منهم دماً سواء كان إبلاً أو بقراً أو غنماً فلا يشارك فيها.
قالوا: لأن مجراها مجرى الفداء فهي فداء عن النفس فكانت النفس بالنفس فهي فداء عن نفس هذا الغلام فلا يجزئ فيها إلا نفساً تامة سواء كانت من الإبل والبقر والغنم.
وقال جمهور العلماء: بل يجزئ ذلك.
وهذا أظهر؛ لأن الشريعة دلت على أن السبع من البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة وحيث كان ذلك، وقد تقدم أن العقيقة مقيسة عند أهل العلم على الأضحية فكذلك هنا، فيجزئ السبع من البقر أو الإبل عن الشاة، ويجزئ السبعان عن الشاتين في العقيقة. هذا القول أظهر.
وأما قولهم: إنها فداء عن النفس فكما تقدم، فإن سبع البدن وسبع البقر يقوم مقام الشاة الواحدة.(11/284)
لكن المستحب له أن يذبح شاتين عن الغلام وشاة واحدة عن الجارية وأنها أفضل من السبع مطلقاً بل الظاهر أنها أفضل من البعير أو البقر كاملاً، لما تقدم من قول عائشة فيمن نذرت جزوراً قالت: (لا بل السنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة) ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذبح عن الحسن والحسين بكبشين كبشين فالأظهر أن الكبش في باب العقيقة أفضل من الإبل والبقر وإن كانت الإبل والبقر تامة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
* وهل يجزئه أن يضحي ويدخل العقيقة في أضحية فيذبح ذبيحة واحدة في يوم النحر وأيام التشريق وينوي بها العقيقة؟
ثلاثة روايات عن الإمام أحمد:
الأولى: الإجزاء وهو المشهور عند الحنابلة.
الثانية: عدم الإجزاء.
الثالثة: التوقف في هذه المسألة.
وأصح هذه الروايات عدم الإجزاء خلافاً للمشهورة في المذهب لأن لكل منهما – أي العقيقة والأضحية – لكل منهما سبب مختلف عن الأخرى، ولكل منهما مقصد فلم يجزئ أحدهما عن الآخر، هذا هو القول الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد.
وهم استدلوا بإجزاء النافلة عن تحية المسجد وإجزاء الفريضة عن تحية المسجد.
وهذا ضعيف فإن تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإن المقصود ألا يجلس حتى يصلي سواء صلى فريضة أو نافلة بخلاف العقيقة والأضحية فإن كليهما مقصود لذاته.
قال: (ولا تسن الفَرَعة ولا العَتيرة)
الفرعة هي ذبح أول ولد الناقة.
والقتيرة: هي الرجبية أي الذبيحة تذبح في رجب وهما من سنن الجاهلية وقد أبطلهما الإسلام.
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا فرع ولا عتيرة)
قال الحنابلة: نفى الشارع سببهما فلا يكرهان وإنما لا يستحبان.(11/285)
وفي هذا نظر بل هما مكروهان بل بدعتان وذلك لأن التعبد لله عز وجل بالذبح في أمر لم يشرعه الله بدعة في الدين لكن إن أرادوا أنه إن ذبح أول ولد للناقة للحاجة إلى ذلك لا للتعبد أو ذبح في رجب لا لمعنى رجب وإنما وافق ذلك رجباً كأن يوافق ضيافة أو عقيقة توافق رجباً فيذبحها فلا بأس به وقد صرحوا بذلك، فإن كان هذا مرادهم فنعم.
وأما إن كان مرادهم أن التعبد لله بذلك جائز ولا يكره لكنه ليس بمستحب فهذا ليس بصحيح، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وظاهر الأحاديث المنع "؛ وذلك لأن العبادات مبناها على التوقف.
فعلى ذلك الفرعة والعتيرة بدعة وهما مكروهان في الشريعة لكن إن ذبح أول ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو ذبح في رجب لحاجته إلى ذلك من غير نية التعبد فلا حرج في هذا.
مسألة:
الجنين لا يظهر أنه مستحب أن يعق عنه، لكن إن عق عنه فلا بأس لكن لا يظهر استحباب ذلك لعدم دخوله وظاهر الأحاديث: (كل غلام) وهو ليس كذلك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد)
وأما إن مات قبل سابعه فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد) وقوله: (كل غلام رهينته بعقيقته) يدخل فيه هذا، وفي قوله: (يذبح عنه يوم سابعه) يخرجه من هذا فإنه لم يبلغ اليوم السابع لكن تقدم إن الذبح يوم سابع للاستحباب وأنه لو ذبح قبل ذلك فإنه يجزئ.
فالأظهر أنه متى ولد فإنه تشرع عنه العقيقة وإن مات بعد ذلك لأنه غلام وولد فيدخل في عموم الأحاديث، وكذلك التسمية لأنها تشرع عند الولادة.
* الأذان في أذن الصبي، فقد رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة) يعني حين الولادة، والحديث فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
وأما الإقامة فقد رواها ابن السُني بإسناد لا يصح فالحديث موضوع في الإقامة أما الأذان فالسنة فيه ضعيفة، لكن قال الترمذي: (والعمل عليه عند أهل العلم) فهو مستحب عند أهل العلم.(11/286)
وأما التحنيك لا حرج فيه لكن بتمر لا بريق، لكن إن كان بريق مقروء فيه قرآن فقد يقال أنه أمر حسن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحنك بتمر.
فالتحنيك لا بأس به، أما أن يذهب إلى صالح فهذا من التبرك المنهي عنه، لكن إن كان المقصود ذات القرآن بأن يقرأ فيها شيء أو نحو ذلك فيخرج عن التبرك لكن يبقى معنى آخر وهو إدخال القرآن إلى جوفه، هذا لا دليل عليه.
ولا تجزئ العقيقة إلا أن تكون من بهيمة الأنعام.
وقد أشكل قول بعض الأئمة ولعله الإمام مالك قال: " يعق ولو بعصفور " وإنما مراده بذلك المبالغة أي بأنه يعق ولا يترك العق ولو كان بشيء زهيد.
والحمد لله رب العالمين.
فهرس الموضوعات
حكم الحج والعمرة ... … 1، 2
شروط وجوب الحج ... ... 3، 4
الفورية في الحج ... ... ... 4
إن زال الرق والجنون والصبا بعرفة ... … 6
وفعلهما من الصبي والعبد نفلا ... ... 7
القادر من أمكنه الركوب ... … 8
مسألة الدين ... ... … 11
إن أعجزه كبر أو مرض ... ... 11
ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام ... … 12
مسألة: من حج عن غير ولم يحج عن نفسه … 13
ويشترط لوجوبها على المرأة وجود محرمها ... 14
شروط المحرم ومن هو؟ ... … 15
إن مات من لزمه الحج والعمرة ... … 16
مسألة: التوكيل في حج التطوع مع القدرة … 16
باب المواقيت ... … 17
عمرة أهل مكة ... ... … 19
أشهر الحج ... ... ... 20
مسألة: إذا أهل بالحج قبل أشهره ... … 21
إذا أحرم قبل الميقات المكاني ... … 22
الإحرام لمن لا يريد الحج والعمرة ... … 22
باب الإحرام ... … 23
هل يشترط مع نية الإحرام شيء يدل عليه … 23
سنن الإحرام ... ... ... 24
وإحرام عقب ركعتين ... ... … 26
الاشتراط عند الإحرام ... ... 27
أفضل الأنساك ... ... 28
وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج ... 34
من أهل بالنسك مبهماً ... … 35
حكم التلبية ... ... 38
باب محظورات الإحرام ... … 39
حكم الجماع في الحج والعمرة …. 53
ما يباح للمحرم ... ... 58
باب الفدية ... ... 60
فصل في أحكام الفدية ... … 68(11/287)
باب جزاء الصيد ... ... 73
باب صيد الحرم ... ... 76
باب دخول مكة ... ... 82
طواف الحائض ... … 92
إن كرر الطواف فله أن يصلي أربعاً ... 94
فصل: ثم يستلم الحجر ... ... 96
فصل: ثم يفيض إلى مكة ... … 121
وقت طواف الزيارة ... ... 123
ثم يرجع فيبيت في منى ثلاث ليال ... 127
فيرمي الجمرة الأولى ... 128
طواف الوداع ... ... 134
وصفة العمرة ... … 139
باب الفوات والإحصار ... 145
ومن صده عدو عن البيت … 148
باب الهدي والأضحية ... … 152
ويتعينان بقوله هدي أو أضحية ... 164
فهرس الأحاديث والآثار
أأعتمر من الشجرة … 140
ابدؤوا بما بدأ الله به ... … 98
ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 159
أتاني آت من ربي فقال: صل ... ... … 17، 27
أتاني جبريل فأمرني ... … 38
اجعلوها عمرة ... ... ... …. 29
أحابستنا هي؟ ... ... 122، 135، 144
إحرام المرأة في وجهها ... ... 56
أحسنت ... ... ... ... ... 35
احضرى أضحيتك يغفر لكِ ... … 161
أحل ... ... ... ... ... …. 35، 117
احلقوه كله أو اتركوه كله ... ... 41
أحلوا من إحرامكم بالطواف ... ... 28
اخرجوا ... ... ... 122
اخلع هذه الجبة واغسل عنك ... ... 70
إذا استلم الحجر (ابن عباس) ... ... 37
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ... … 136
إذا رميتم الجمرة فقد حل ... ... 119
إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم ... … 118
إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل وإذا لم يجد نعلين … 44
أذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة … 15
أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي قبل طلوع الفجر … 109
أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء … 155
أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 108، 109
ارم ولا حرج ... … 115، 120
استأذنت سودة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة ... … 108، 109
استقبل القبلة ... … 103
اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ... … 142
اشترطي أن محلي حيث حبستني ... 151، 27(11/288)
اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة … 72
أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر (ابن عمر) … 20
اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإذا أدركك … 146
اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ... … 143
اغتسال علي يوم عرفة ... … 103
اغسل الطيب الذي عليك ... ... 25
اغسلوه بماء وسدر ... ... 42، 58
أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ... ... 123، 127
أفضل الحج العج والثج ... ... 38
افعل ولا حرج ... … 115، 121، 148
افعلي ما يفعل الحاج غير أنه لا تطوفي ... 92، 100
ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف ... … 6، 90
البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ... … 26
أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل عند إحرامها … 24، 93.
أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة و … 87
أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ... … 134
أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... ... 142، 124
أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء … 157
أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل ... 72
إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون ... 127
أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم قبل يده … 85
أن ابن عمر كان يلبي راكباً ونازلاً ... 38
أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم ... 39
أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ... … 116، 131
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون … 96
أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب ... … 137
أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع ... ... … 139
أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى بذي طوى … 94
إنا لم نرد عليك إلا أنا حرم ... ... … 48
إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله في بخيف بني كنانة … 134
إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحروا بالعمرة (عمر بن الخطاب) … 30
إن الجذع يوفى مما يُوفي منه الثنية ... … 154(11/289)
أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه ... 50
انظروا إلى حذوه (عمر رضي الله عنه) ... 16
إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ و ... ... … 70
إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم … 159
إن الله كتب عليكم الحج ... ... 4
إنما الأعمال بالنيات ... ... 27، 88، 89، 141
إنما الخير خير الآخرة ... ... 36
أن سعد بن أبي وقاص ذهب إلى العقيق فوجد عبداً يقطع ... 80
أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 15
إنك رجل قوي فلا ... …. 88
إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة ... 102
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم ... ... … 59
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر … 19، 139
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل دبر الصلاة ... ... … 26
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل عند المسجد بعد أن صلى … 26
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الفدية على كعب ... … 58، 72
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من باب بني شيبة ... … 83
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير كلما أتى الحجر أشار ... 85
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها و ... … 82
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ... ... 16
إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات …. 76، 77، 78
أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ... … 112، 128
أنه كان يسرع رمية حجر ... ... 111
أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبر ... … 86
أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه (ابن عباس) ... 86
أنهما يهلان بها من حيث أهلا ... 54
إني أحرم ما بين لابتيها ... … 81
إني لأعلم أن حجر لا تضر ولا ... . 85
إني لست كهيئتم، إنما صيد (عثمان بن عفان) … 48
أهريقي دماً ... … 53
أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المسجد بعد أن صلى ... 26(11/290)
أهل دبر الصلاة ... ... 26
أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة ... … 84، 91
أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس ... … 109
أي شيء فيها فعلت ... ... ... 61
أيما صبي حج ثم بلغ الحنث … وأيما عبد ... … 4، 7
أيها الناس، السكينة السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع … 106
بئس ما قلت ... … 141
بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما ... … 111
بسم الله والله أكبر ... … 86
بل للأبد ... ... … 29، 30
بمثل هؤلاء فارموا وإياكم ... ... 111، 113
بني الإسلام على خمس ... ... … 1
بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … 36
تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان ... 140
تجرد لإهلاله واغتسل ... ... 25
تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ... 51
تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ... 50
تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال (ميمونة) ... … 51
ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون ... 126
ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ... 117
ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124
ثم انصرف إلى المنحر فنحر ... ... 116
ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب الصفا ... … 96
ثم رجع إلى الركن فاستلمه ... … 96
ثم طاف بالبيت ثم حل له كل شيء … 126
ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ... 102
ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه ... … 97
جعل في حمام الحرم (ابن عباس) ... … 75، 77
حتى إذا استوت به راحلته على البيداء ... … 35، 36
حتى أهل مكة من مكة ... ... … 18، 16، 17، 101، 139
حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان … 7
الحج عرفة فمن أدرك ... ... 103، 105، 146
حج عن أبيك واعتمر ... ... ... 2
حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ... … 13
حجي عنه ... ... 11
حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16
حجي واشترطي وقولي: اللهم إن ... 27، 151
حل ... ... 117، 35
حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك … 148(11/291)
خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ... 99
خرجنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة لا نذكر إلا حجاً … 29
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحال كفار قريش دون البيت ... 148
خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى ففتحت أسماعنا … 121
خطب الناس في وسط أيام التشريق ... 134
خطب الناس يوم النحر ... ... 121
خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... … 48
خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت و ... 103
دخلت العمرة في الحج ... ... … 1، 3، 29
دخل مكة وعلى رأسه المغفر ... … 22
دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من كداء و… 82
دعا أن تنقل حمى يثرب ... ... 17
ذهب إلى زمزم ... ... 101
رأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى.. 121
رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً ... ... 86
ربنا آتنا في الدنيا حسنة و ... 86
رجعنا في الحجة مع النبي وبعضنا يقول رميت بسبع حصيات و ... 132
رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ... 130، 133
رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى … 127، 133
رفع القلم عن ثلاثة ... ... 4
رفع يديه ... … 100
ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سعيه بين الصفا والمروة … 100
رمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ... … 87
رمى الجمرة يوم النحر ضحى ... ... 114
رميت بعدما أمسيت ... … 115
الزاد والراحلة ... ... ... 8
سئل عن الجماع قبل التحلل الأول (ابن عباس) … 52، 67
سئل عن الغسل للمحرم ... ... 58
سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر ... … 44
صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26
صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر … 102
الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد ... 64
صيد البر لكن حلال وأنتم حرم ما لم ... 48(11/292)
ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين … 152، 153، 160
ضحينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بجذع من الضأن ... 154
ضربت له قبة بنمرة ... … 42
طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري … 142
طاف بين الصفا والمروة سبعاً ... … 98
طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعير كلما أتى الحجر أشار …. 85، 96
الطواف بالبيت صلاة فمن نطق ... … 91
طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك … 141
طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ... .. 95
عليهن جهاد لا قتال فيه ... ... … 2
العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور … 140
عمرة في رمضان تعدل حجة ... … 140
فأتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء ... ... 106
فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و ... 126، 124
فأرسلت الأتان ترتع ... ... … 78
فإن لك على بك ما استثنيت ... … 27
فأهللنا من الأبطح ... … 102
فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد ... … 36
فحجي عنه ... ... . 11
فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - و ... 99
فحمد الله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ... … 110
فرأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42
فرقي عليه ... ... 110
فرماها بسبع حصيات ... … 112
فصلى بمكة الظهر ... 127
فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا … 121
فقربنا النساء ولبسنا الثياب ... 124
فقطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 114
فكلوا مما بقي من لحمه ... ... 47، 73
فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً ... … 111
فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول ... 125
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ... 101
فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ... 105
فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 114
فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد ... 106
فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام ... . 64
في صلاة ... … 92(11/293)
فيم الرملان اليوم والكشف عن ... ... 84، 88
القائمتان والوسادة والعارضة والمسد ... 80
قبل يوم التروية يوم ويوم التروية … 64
قد حللت من حجك وعمرتك ... ... ... … 1
قدمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة ... … 109
قضى ابن عباس في حمار الوحش و.. ببقرة … 75
قضى بذلك ... … 52
قضى عمر في الغزالة بعنز وفي … 75
قضى عمر وعثمان و.. في النعامة بدنة ... 75
قضى عمر في الضب بجدي ... … 75
قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في الضبع كبشاً ... ... 74، 75
قطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 37
قلم أظافره بعد التحلل ... ... … 121
قياماً ... … 159
كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ... … 37
كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمرون في أشهر (ابن المسيب) … 30
كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته … 152، 154
كان الركبان ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - … 56
كانت المتعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... 29
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة العقبة ضحى، وأما ... … 129
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم الركن اليماني والحجر في كل طواف … 87
كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ... … 129
كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر ... 28
كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع ... 38
كانوا يصرخون بها ... ... 38
كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ... … 106
كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة ... 129
كان يكبر مع كل حصاة ... ... 113، 114
كفى بالمرء إثماً أن يضيع ... ... … 10
كلا يا بني، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن ... … 108
كل أيام التشريق ذبح ... … 162، 163
كل عرفة موقف وارتفعوا ... 102
كل عمل ليس عليه أمرنا ... ... 98، 112، 130
كلوا وتصدقوا وتزودوا ... … 163
كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ... ... 129(11/294)
كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمِّد (عائشة) … 25
كنا نخمر وجوهنا ... … 56
كنا نسمن الأضحية بالمدينة ... 153
كنا نغطي وجوهنا … 56
كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل (عائشة) ... 24
كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فرفع يديه ... … 103
كنت فيمن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله ... . 108
لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين … 140
لا ... 140
لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون؟ … 140
لا إلا أن تطوع ... ... 3
لا تحجن امرأة ... … 14
لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة … 154
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... ... 138
لا حرج ... … 115
لا حصر إلا من عدو ... … 151
لا وأن تعتمر خير لك ... ... 3
لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة ... 112
لا يختلى خلاها ولا ينفر ... … 79، 80
لا يخلون رجل بامرأة ... … 14، 15
لا يدخل مكة أحد (ابن عباس) ... … 22
لا يقطع عضاها ولا ... ... 79
لا يقطع الوادي إلا شداً ... … 97
لا يلبس القميص ولا العمائم ... … 42، 43
لا ينكح المحرم ... … 50
لبيك إله الحق ... ... 36
لبيك حقاً حقاً تعبداً ... … 37
لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج ... … 36
لبيك عمرة في حجة ... ... 27
لبيك اللهم لبيك ... … 36
لبيك وسعديك والخير بيديك ... ... 36
لتأخذوا عني مناسككم ... ... 38، 86، 87، 88، 89، 91، 95، 98، 100، 104، 106، 107، 112، 123، 129، 130، 132، 142
لعلك نفست ... … 135
اللهم اجعله علماً نافعاً ورزقاً واسعاً … 127
اللهم ارحم المحلقين ... ... 117
اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز … 97
اللهم أنت السلام ومنك السلام ... … 83
اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء ... … 86
اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً و ... 83
اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت علي … 137
اللهم هذا منك ولك ... … 160(11/295)
لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء ... 103
لما فتح المصران (ابن عمر رضي الله عنه) ... 16
لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت ... … 85
لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا ... 65
لم يرمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع الذي أفاض فيه ... 87
لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 37
لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً … 124، 125، 126
لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت (عمر بن الخطاب) … 30
لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة ... .. 90
ليس على النساء حلق ... ... 118
ليس على النساء سعي ... ... 97
ماء زمزم لما شرب له ... … 126
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل … 160
ما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد ... ... .. 35
ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ما أرى ... … 60
ما من ملبي يلبي إلا لبي ما عن يمينه وشماله ... 38
ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً ... … 103
المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت ... … 55
المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ... … 79
المشعر الحرام المزدلفة كلها ... ... 110
معقولة اليسرى ... … 159
ممن أراد الحج والعمرة ... ... 22، 18
من أحب أن يهل بالحج ... ... … 28، 29، 35
من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ... … 28، 29
من أراد الحج فليتعجل ... ... … 5
من أطاق الحج فلم يحج فسواء ... ... 1
من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى ... 22
من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك ... 22
من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت ... 143
من حج فزار قبري بعد مماتي ... … 138
من ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161
من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة … 152
من السنة أن يغتسل عند إحرامه (ابن عمر) … 24
من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ... … 104، 105، 106
من ضحى قبل الصلاة فإنما هي شاة ... 161(11/296)
من غربت عليه الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى … 133
من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه ... ... 80
من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161
من كان منكم ليس قد أهدى ... ... 117
من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج ... 5، 149، 151
من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين … 44
من ملك زاداً وراحلة فلم يحج ... ... 1
من نسي رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس … 115، 116، 131
من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً ... … 132، 136، 144
موجوءين ... ... 157
نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ... ... 110
نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة والبقرة ... 154
نعم ... ... ... ... 11
نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16
نعم، ولك أجر ... ... 7
نهى أن يضحى بأعضب القرن ... … 156
نهى أن يضحى ليلاً ... … 163
نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث … 162
نهى المرأة أن تحلق شعرها ... ... 118
هديك لسنة نبيك (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) … 2
هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ... … 112، 128، 130
هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... … 137
هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... ... … 58
هل غاب القمر؟ ... 108
هل منكم أحد أمره أو أشار إليه … 73، 47
هن لهن ولمن أتى عليهن ... … 18، 19، 139
هو من البيت ... .. 90
وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124
وأن تحج وتعتمر ... ... 3
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ... … 93
وحمده ... … 101
وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ... ... 18، 17، 19
وكبر ثلاثاً ... … 97
وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه ... … 76
ولا تحجن امرأة إلا ومعها ... … 14
ولا تحنطوه ... … 45
ولا تغطوا وجهه ... ... … 43
ولا تقربوه طيباً ... ... 45
ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا ... . 56
ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً ... …. 58(11/297)
ولم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحدا … 124، 125، 126
وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ... 25، 26
ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ... 18، 16، 17
وهو مستقبل القبلة ثم يلبي ... 36
ويدخل المحرم الحمام ... … 58
وينظر في المرآة ... ….. … 59
يا أبا عمير ما النغير ... ... 81
أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما ... … 139، 140
يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف ... 100
يحيي ويميت … 101
يسعك طوافك لحجك وعمرتك ... ... 34، 124
يعتمر وينحر بدنة ... ... … 53
يعتمر ويهدي ... …. 53
يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ... ... 37(11/298)
كتاب الجهاد
* الجهاد: مصدر على زنة فِعال. وهو مصدر فاعل فِعالا، أي جاهد جهادا.
وجاهد الذي مصدره جهاد هو المبالغة في قتال العدو، فيقال: جاهد فلان أي بالغ في قتال عدوه.فالجهاد مصدر جاهد من جهد أي بالغ في قتال عدوه.
* وهو في الشرع: جهاد الكفار خاصة.
فإذن: الجهاد لغة مصدر جاهد إذا جهد عدوه أي بالغ في قتاله.
والجُهد بالضم والجَهد بالفتح قيل هما مترادفان وقيل بالفتح يعني المشقة، وبالضم يعني الوسع والطاقة وهو المشهور.
فعلى ذلك الجهاد هو: بذل الوسع والطاقة في قتال أعداء الله من الكفار.
* فضيلة الجهاد:
وفضيلة الجهاد متواترة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا أرى داعيا لذكرها لشهرتها وتواترها في الكتاب والسنة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهو فرض على الكفاية] .
فالجهاد فرض كفاية.
فيجب على الأمة الإسلامية أن تجاهد في سبيل الله فإن قام منها طائفة به على وجه يكفي سقط الإثم عن الباقين.
فإن لم تقم طائفة منهم بذلك أو قامت طائفة على وجه لا يكفي فإن الإثم يعمهم.
فإذا قامت طائفة بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هجوما على الكفار ودفاعا عن البلاد الإسلامية فكانت كلمة الله هي العليا وفرض دين الله على العباد سقط الإثم على الباقين.
وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن فرّطت في هذا. وهذا حيث كانت القدرة.
* أما مع العجز بأن كان المسلمون ضعفاء فلا عدد ولا عدة يمكنهم أن يجابهوا بها الكفار فإن الواجبات تسقط مع العجز كما قال الله تعالى: [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها] ولكن لاشك أن الأمة إذا فرّطت في الاستعداد وفي التطور المادي وغير ذلك مما يحتاج إليه في مجابهة أعدائها فإذا فرطت في تعاطي الأسباب حتى كانت أمة ضعيفة فلا شك أنها تكون آثمة حينئذٍ.
إذن الجهاد فرض كفاية. وعليه فلا يجب على كل مسلم أن يجاهد في سبيل الله بل إذا(12/1)
قامت طائفة من الأمة بالجهاد في سبيل الله سواء كان ذلك على وجه التبرع منها (1) أو كانوا جندا
لهم رَزق من بيت المال فإن الإثم يسقط عن الأمة حيث قامت الكفاية.
ضابط الكفاية:
والكفاية كما تقدم؛ بأن يترتب على هذا الجهاد ظهور الدين وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
أدلة وجوب الجهاد:
والأدلة كثيرة في كتاب الله على فرضية الجهاد ومن ذلك:
1 ـ قوله تعالى: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم]
2 ـ وقوله تعالى: [انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فهذه أدلة على فرضية الجهاد.
الأدلة على أنه على الكفاية لا العين:
وإنما قلت: هو فرض على الكفاية لا فرض عين لأدلة دلت على ذلك:
1 ـ منها قوله تعالى: [لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى] أي وعد المجاهد والقاعد.
2ـ ولقوله تعالى: [وما كان المؤمنون لينفروا كافة] .
3 ـ وعليه عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإنه كان يبعث السرايا مع مكثه في المدينة وسائر أصحابه ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
فهذا يدل على:
أن الجهاد فرض كفاية وهو مذهب عامة العلماء.
شبهة وجوابها:
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم] ؟ فإن هذا يدل على أن من ترك الجهاد فإنه يعذب عذابا أليما، وهذا يدل على أنه فرض عين.
الجواب من وجهين:
__________
(1) ـ بعد إذن الإمام لها بذلك، إلا إذا أصبح عينيا فلا يشترط الإذن، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(12/2)
الأول: أن يقال: إن ذلك حيث استُنفر الإنسان، وقد استنفر في هذه الآية: [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض] .. إلى قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم] فقد ثبت الاستنفار وحيث ثبت الاستنفار فإن القتال يجب علينا. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وإذا استنفرتم فانفروا { (1) .
الوجه الثاني:
أن هذه الآية منسوخة فقد ثبت في سنن أبي داود عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: [إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] [وَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ] إِلَى قَوْلِهِ [يعْمَلُونَ] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كَافَّةً] (2) .
* شروط وجوب الجهاد: ... ...
واعلم أن الجهاد لا يجب إلا بسبعة شروط:
الشرط الأول: الإسلام. وهو ظاهر.
الشرط الثاني: العقل. وهو ظاهر أيضا.
الشرط الثالث: البلوغ.
ودليله:
حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:} رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ { (3) .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري. وسيأتي تخريجه.
(2) ـ (د: 2144) ك: الجهاد. ب: في نسخ نفير العامة بالخاصة. وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه على باب: النفير ومايجب من الجهاد والنية.وحسنه الشيخ الألباني في صحيح (د: 2187) . تنبيه: ترقيم الأحاديث كالتالي: (خ وم (محمد فؤاد عبد الباقي، الخمسة (ط. العالمية، وما عدا ذلك يقع التنبيه عليه عند أول إحالة إن شاء الله تعالى) .
(3) ـ (ن: 3378، د: 3822، ت: 1343، حم: 23553) .(12/3)
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي) (1) .
الشرط الرابع: الذكورية.
أي أن يكون ذكرا، فلا يجب الجهاد على الأنثى.
ودليل ذلك:
ماثبت في البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ {) (2)
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ـ بإسناد صحيح ـ عنها قالت: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ:} نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ {) (3)
الشرط الخامس: الحرية.
الخلاف في هذا الشرط: العلماء في اشتراط الحرية لوجوب الجهاد على قولين:
القول الأول:
أنه لا يجب على العبد، هذا هو المشهور في المذهب كما ذكر ذلك الموفق ابن قدامة في كتابة المغني وغيره.
القول الثاني:
__________
(1) ـ (فتح: 2664، م: 1868) وهذا لفظ مسلم: ك: الإمارة. ب: بيان سن البلوغ. وتمامها: قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَال َ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ.
(2) ـ (فتح: 2875) ك: الجهاد والسير. ب: جهاد النساء.
(3) ـ (حم 24158، جه: 2892) وهو في صحيح (هـ 2345) للألباني.(12/4)
وجوبه على العبد. وهو القول الثاني في المذهب. وهو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية الدالة على ذلك.وحيث لا دليل يخصص العبد منها.
نعم. يشترط في الجهاد التطوعي أن يستأذن سيده مراعاة لحق السيد.
* أما الجهاد العيني فلا دليل يدل على إخراجه من العمومات الدالة على الوجوب على العبد والحر ولا دليل لدى القائلين باستثناء العبد فيصار إليه.
وعلى ذلك: فلا نشترط الحرية في فرض العين.
أما الجهاد التطوعي فليس للعبد أن يجاهد إلا أن يستأذن سيده لحق السيد عليه.
الشرط السادس: السلامة من الضرر.
فالأعمى والأعرج والمريض لا يجب عليهم الجهاد في سبيل الله وإن تعين على غيرهم لقوله تعالى: [ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج]
والمراد بالعرج: العرج الفاحش، الذي يؤثر عليه في جهاده في ركوبه وغير ذلك.
أما مطلق العرج فلا.
ومثل ذلك المرض، فالمرض الذي يؤثر عليه ويشق عليه معه الجهاد في سبيل الله.
وأما مطلق المرض فلا.
وعلى ذلك: إن كان مستطيعا ببدنه فيجب عليه الجهاد، وإلا فلا. فالأعمى والأعرج شديد العرج والمريض شديد المرض لا يستطيعون بأبدانهم الجهاد في سبيل الله. فالشرط السادس هو السلامة من الضرر، وبتعبير آخر: (أن يكون مستطيعا ببدنه الجهاد في سبيل الله) .
الشرط السابع: وجود النفقة.
أي أن يكون لديه ما ينفقه على نفسه في آلات الحرب وفي زاده، هذا إذا لم تكن هناك نفقة من بيت مال المسلمين.
فإن كانت هناك نفقة من بيت المال فيجب عليه أن يجاهد منها.
فإن لم يكن هناك نفقة فلا يتعين عليه الجهاد لقوله تعالى: [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون] في الجهاد [حرج إذا نصحوا لله ورسوله] .
إذن الجهاد يشترط في وجوبه: وجود النفقة أي: القدرة أو الاستطاعة المالية.
فإن كان معه نفقة تكفيه في جهاده وتفضل عمن يعول وجب عليه الجهاد فعلا.(12/5)
وعليه: فإن كان معه نفقة لكنها لا تفضل عمن يعول بحيث أنه يضر بأهله فإن الجهاد ـ حينئذٍ ـ لا يجب عليه.
*ـ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن العاجز ببدنه عن الجهاد والقادر بماله يجب عليه أن يجاهد بماله.
الدليل:
ويدل على ذلك قوله تعالى: [جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فأمر سبحانه وتعالى بالجهاد بالمال.
* وعليه: فيجب على النساء أن يجاهدن بأموالهنّ.
* وعليه أيضا: إن احتيج إلى مال الصبي للجهاد في سبيل الله فإنه يؤخذ منه أيضا. فهذا من الجهاد المالي. فإذا احتاج المسلمون إلى أموال الصغار وأموال النساء فإنه يتعين إخراج حاجة المسلمين من أموالهم.
ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أيضا: أنه إذا تعين الجهاد بالمال واحتاج المسلمون إلى المال في الجهاد فإن دفعه إلى القائم على الجهاد مقدم على وفاء الدين.
قال: لأنه أولى من النفقة حينئذٍ.
ومعلوم أن النفقة الواجبة عليه على ولده وزوجه وغير ذلك مقدمة على وفاء الدين، فهنا أولى من ذلك.
ثم إنها ـ حينئذٍ ـ أي إذا احتاج المسلمون إلى المال إنه يعتبر نفقة واجبة مقدمة على وفاء الدين.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وَيَجِبُ إذَا حَضَرَهُ] .
أي إذا حضر القتال أي الصف؛ فالمسلمون والكفار صافون للجهاد فقد تعين عليه الجهاد وإن كان في الأصل مستحبا له، لكن إذا حضر الصف فإن الجهاد يكون فرض عين في حقه.
الأدلة:
1 ـ لقوله تعالى: [يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا] .
2 ـ وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا تحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير]
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ] .(12/6)
وهي في الأصل في المقنع (أو حضر) بالضد وضبطها بعض الحنابلة (أو حصر) بالصاد.
أي إذا حصر بلده عدو أو حضر بلده عدو.
فعلى (حضر) بالضاد يتعين القتال على أهل البلدة وإن لم يحصرهم العدو أي بمجرد ما يحضر العدو لقتال هذه البلدة يتعين على أهلها القتال.
وعلى (حصر) أي إذا حصل من الكفار الحصار فأحاطوا ببلدة المسلمين فيجب عندئذ على من فيها أن يقاتلوا في سبيل الله.
لذا فالتعبير بلفظة (حضر) بالضاد ـ كما هو المشهور ـ أولى، وذلك لتعليق الحكم بمجرد حضور العدو سواء حصر أم لم يحصر. فبمجرد ما يحضر العدو لقتال المسلمين فإن الجهاد يكون فرض عين على من فيها من المسلمين.
فهذه هي الحالة الثانية التي يكون الجهاد فيها فرض عين. وهي أن يحضر العدو بلدا من بلاد المسلمين فيجب على أهل هذه البلد أن يقاتلوا في سبيل الله.
أما غيرهم من البلدان فلا يجب عليهم الجهاد وذلك إلا أن لا تقوم الكفاية بقتال أهل تلك البلدة. فإذا احتاج أهل هذه البلدة إلى إخوانهم في البلاد البعيدة فجب على أهل البلاد البعيدة أن يعينوا إخوانهم بمن تقوم بهم الكفاية.
ـ ومثل ذلك من احتيج إليه فإن الجهاد يتعين عليه، كمن يُحتاج إليه في معرفة بعض الطرق في تلك البلدان أو يحتاج إليه في القيادة أو نحو ذلك فإن الجهاد حينئذٍ يكون فرض عين عليه لأن الكفاية لا تقوم إلا بحضوره.
والدليل:
على أن الجهاد فرض عين فيما إذا حضر بلده عدو، أنه لا تحفظ الأديان والأعراض إلا بذلك فيتعين عليهم الجهاد. لأنهم إن لم يقوموا به على هذه الصفة فإن الأموال والأنفس والأعراض التي هي الضرورات لكلها تكون معرضة لأيدي العدو.
ولكن ظاهر كلامهم أنه عين على أهل البلد عامة لا على كل شخص من أهل البلد فإنهم يقولون: تَعَيّنّ على أهل البلد. والظاهر أنه لا يجب على كل شخص منهم.(12/7)
فهو إذن عيني نسبي أي عيني بالنسبة إلى أهل البلدان التي حضرها العدو، فهو متعين على أهل البلدة عن سائر البلدان وأما على كل شخص فإنهم لم يصرحوا بهذا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أو استنفر الإمامُ] .
فإذا استنفر الإمام فإن الجهاد يتعين على من استنفرهم الإمام.
الأدلة:
1 ـ وذلك لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ:} لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا { (1) فيتعين عليكم أي إذا طُلب منكم النفر فعليكم أن تنفروا وليس لكم أن تتخلفوا.
2 ـ وقد تقدمت الآية الكريمة والكلام عليها [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم: (انفروا في سيبل الله) اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا] فإذا استنفر الإمام طائفة أو خصص شخصا بعينه فإنه يتعين عليهم ذلك.
3 ـ ولأن طاعة الإمام واجبة في مثل ذلك وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ {. (2)
ـ ذكر المؤلف ثلاثة أحوال يتعين فيها الجهاد.وبقيت حالة:
4 ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حالة رابعة: وهي إذا كان من الجند الذين جعل لهم الإمام أرزاقا على أن يجاهدوا في سبيل الله من الشُّرَط وغيرهم.
الدليل:
__________
(1) ـ (فتح: 2825، م: 1353) البخاري: ك: الجهاد والسير. ب: وجود النفير.
(2) ـ (فتح: 7144، م: 1839) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(12/8)
فهؤلاء يتعين عليهم الجهاد لما بينهم وبين الإمام من عقد على ذلك.وقد قال تعالى: [يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود] . فالطائفة التي قد جعل لها الإمام أرزاقا على الجهاد في سبيل الله يتعين عليهم الجهاد حيث كان ذلك في العقد.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتمام الرباط أربعون يوما] .
الرباط: هو الإقامة بالثغور لجهاد الكفار.
والثغور: هي الحدود التي تكون بين المسلمين والكفار. والمقصود بها الحدود بين بلدة إسلامية وبلدة كافرة محاربة. أي الأماكن والمواضع التي يخيف المسلمون الكفار فيها ويخيف الكفارُ المسلمين فيها.فهذه هي الثغور.
ـ وسمي رباطا لأن الخيل تربط فيه استعدادا للقتال في سبل الله.
ـ وأفضل الرباط ما يكون في ثغر هو أشد من غيره خوفا أي احتمال ورود الكفار إلى المسلمين منه أقوى، فهو مخوف أكثر من غيره، ولذلك أي لشدة الحاجة إلى الإقامة فيه فهو أفضل الرباط. فأفضل المواضع التي يرابط فيها ما كان الخوف فيه أشد للحاجة إلى لزومه.
* فضل الرباط في سبيل الله:
وقد وردت أحاديث نبوية تدل على فضيلة الرباط في سبيل الله. من ذلك:
ـ ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ { (1) أي فتنة القبر وهي سؤال منكر ونكير.فالرباط في سبيل الله من أفضل الأعمال.
* وقد ذكر المؤلف هنا أن تمام الرباط أربعون يوما. فهذا تمامه. لكنه يثبت الرباط بالقليل والكثير فلو أقام ساعة إنه يثبت له رباط ساعة ولكن تمامه أربعون يوما.
__________
(1) ـ (م: 1913) ك: الإمارة. ب: فضل الرباط في سبيل الله. من حديث سلمان ـ رضي الله عنه ـ.(12/9)
لما روى الطبراني في الكبير عن أبي هريرة (1) ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا:} إن تمام الرباط أربعون يوما {لكن إسناده ضعيف. وإنما يثبت موقوفا على أبي هريرة كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه (2) .
وعلى ذلك فالمستحب له أن يرابط أربعين يوما لثبوت ذلك عن أبي هريرة وليس ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالحديث ـ كما تقدم ـ ضعيف، لكن هذا لا مجال للرأي فيه وما كان كذلك من أقوال الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ فإن له حكم الرفع، ولذا استحبه الإمام أحمد وغيره.
__________
(1) ـ لم أجده عنده في معاجمه الثلاثة من حديث أبي هريرة. والذي في معجمه الكبيرهو عن أبي أمامة [7606] عن مكحول عن أبي أمامة قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تمام الرباط أربعين يوما ومن رابط أربعين يوما لم يبع ولم يشتر ولم يحدث حدثا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (8/133) ط2/ العلوم والحكم ـ الموصل.تحقيق حمدي بن عبد المجيد. قال الهيثمي في المجمع: وفيه أيوب بن مدرك ضعيف. وقال الألباني في الإرواء في آخر كلامه عليه [1201] وبالجملة فالحديث ضعيف بهذه الطرق، ولم أره الآن من حديث ابن عمر وأبي هريرة.
(2) ـ (عب 4 / 584) (152) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ نا دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. كتاب فضل الجهاد.) قال الألباني: وهذا سند ضعيف، العسقلاني قال ابن أبي حاتم عن أبيه: (مجهول) (6 / 245) ط1.دارإحياء التراث ـ بيروت)
الإرواء: 5 / 23 = [1201] . وهكذا جهله الذهبي في الميزان والمغني وجهله ابن حجر في اللسان.(12/10)
ـ ولا يستحب لمن رابط أن يحمل نساءه وذريته في المواضع المخوفة لئلا يظفر العدو بذلك الثغر فيستولي على من فيه من نساء المسلمين وذراريهم. فهو موضع مخوف يحتمل في كل وقت أن يظفر فيه العدو. بل إن القول بالتحريم يقوى في تلك المواضع. فلا ينبغي للمسلمين أن يحملوا نساءهم وذراريهم إلى تلك الموضع المخوفة.
ويستثنى من ذلك أهل الثغر، أي أهل تلك البلدة فإنه لا قرار لحياتهم إلا بذلك. فهم أهل الثغر وسكانه. أما من يأتي إليهم من المرابطين في سبيل الله فليس لهم أن يحملوا نساءهم وذراريهم.
* الحراسة في سبيل الله:
ومن الأعمال الفاضلة: الحراسة في سبيل الله.
1 ـ وقد روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ:} عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { (1)
2 ـ وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنس بن أبي مرثد الغنوي ـ رضي الله عنه ـ وقد بات يحرسهم ليلة:} أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعد ذلك { (2)
واعلم أن الجهاد في سبيل الله ـ المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ أنه أفضل الأعمال، فهو أفضل من سائر النوافل.
الدليل:
1 ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: (أي الناس أفضل؟) فقال:} مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ { (3) ولاشك أن تفضيل المتصف بهذه الصفة وجعله أفضل من غيره يدل على أن هذه الصفة أفضل من غيرها من الصفات.
__________
(1) ـ (ت: 1563) .
(2) ـ (د 2501) كتاب الجهاد. باب: فضل الحراس في سبيل الله.
(3) ـ (فتح: 2786، م: 1888) .(12/11)
2 ـ وقد ثبت في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:} إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} حَجٌّ مَبْرُورٌ { (1)
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن تعلّم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد في سبيل الله
والظاهر أن العلم تعلما وتعليما نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله (2) وأن تفضيل أحد النوعين على الآخر راجع إلى المصلحة العامة. فإذا كان الاشتغال بالعلم أصلح للأمة من الاشتغال بالجهاد ـ كما في هذه الأزمان ـ فإن العلم أفضل.
وأما إن كانت الأمة محتاجة إلى الجهاد في سبيل الله وإلى المجاهدين فإن الاشتغال بالجهاد في سبيل الله أفضل من العلم.
فهما نوعان من جنس واحد. وكوننا نفضل أحدهما على الآخر على الإطلاق فيه نظر، بل هما في درجة واحدة لكن إن اقتضت المصلحة العامة أحدهما فهو أفضل.
القول الثالث:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: استيعاب العشر الأوائل من ذي الحجة بالصلاة ليلا ونهارا أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا أن يذهب بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.
__________
(1) ـ (فتح: 26) ك: الإيمان. ب: من قال إن الإيمان هو العمل.
(2) ـ لعله يستدل لذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم: " جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ " كما في حديث أنس عند النسائي في المجتبى (ن: 3045) .(12/12)
وهو كما قال وهذا استثناء دلت عليه الأدلة الشرعية فقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ {قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ. قَالَ:} وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ { (1) ولذا قيد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التفضيل بقوله: (إلا ما يذهب فيه النفس والمال) فالجهاد الذي يذهب فيه النفس والمال أفضل من الجهاد في عشر ذي الحجة.إذن استيعاب عشر ذي الحجة بالعمل الصالح من العبادة والصيام والقيام أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال
ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن الجهاد تعدله أشكال العبادة ليلا ونهارا فمن اجتهد ليلا ونهارا صياما وقياما في غير عشر ذي الحجة فإن عمله يعدله الجهاد في سبيل الله.
الدليل:
__________
(1) ـ (فتح: 969) ك: الجمعة. ب: فضل العمل في أيام التشريق.(12/13)
فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟) قَالَ:} لَا تَسْتَطِيعُونَهُ {قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ:} مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى { (1) فمن كان هذا نصيبه من العبادة لا يفتر من الصيام والقيام قائم قانت بآيات الله قد أسهر ليله في العبادة وأظمأ نهاره بالصيام فإن عمله
يعدل عمل المجاهد في سبيل الله.
إذن: فاستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهار أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
واستيعاب سائر السنة بالعبادة يعدل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان اثنان أحدهما جاهد شهرا والآخر قد استوعب هذا الشهر بالصيام والقيام فإن عملهما يتعادل بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما] .
إذا كان أبواه: أي والديه مباشرة، الأب المباشر والأم المباشرة.
وقوله (مسلمين) قيد يخرج ما إذا كانا كافرين.
وقوله (تطوعا) قيد آخر يخرج ما إذا كان الجهاد فرضا.
وهي مسألة اتفق العلماء عليها، وأن الجهاد التطوعي لا على المسلم إلا أن يستأذن والديه المسلمين.
الدليل:
__________
(1) ـ (فتح: 2785، م: 1878) واللفظ لمسلم؛ ك: الإمارة. ب: فضل الشهادة في سبيل الله.(12/14)
ودليل ذلك ما ثبت الصحيحين: من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ {قَالَ: نَعَمْ قَالَ:} فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ { (1) فيحب باتفاق أهل العلم استئذان الوالدين المسلمين في الجهاد التطوعي.
وأما جهاد الفرض فإن الوالدين لا يستأذنان فيه لأنه فرض فتركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
* فرع:
فإن كان والداه كافرين لم يستأذنهما كما هو ظاهر كلام المؤلف وهو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم.
قالوا: وعليه عمل الصحابة فإنهم كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم الكفار كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وغيره.
وقالوا: يستبعد أن يأمر الشارعُ المسلمَ باستئذان الكافر في جهاد أهل ملته أو غيرهم من ملل الكفر مع أنه عدو لله ورسوله. فلا يمكن والحالة هذه أن يستأذن المسلم والده وهو كافر عدو لله ورسوله في الجهاد في سبيل الله.
القول الثاني:
وقال الثوري: بل يستأذن الوالد الكافر في الجهاد في سبيل الله.
أدلته:
واستدل بعمومات النصوص كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {.
وجه الاستدلال: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسأله عن والديه أهما كافران أم مسلمان مع أن ذلك في الآباء كثير في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ـ كما هو مقرر في أصول الفقه.
قال: وعلى ذلك يستأذن الوالد وإن كان كافرا.
الترجيح:
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن المسألة فيها تفصيل:
__________
(1) ـ (فتح: 3004، م: 2549) .(12/15)
وهو أنه إن كان الوالد له ضرورة أو حاجة إلى ولده بحيث يحتاج إليه للقيام بحقه والنظر في شؤونه فإنه لا فرق بين أن يكون الوالد كافرا أو مسلما إلا أنه يستثنى من ذلك أن يكون الوالد محاربا. فإن كان ليس بمحارب كالذمي الذي يعيش في البلاد الإسلامية أو يعيش في بلدة بيننا وبينها أمان لا حرب وكان له حاجة إلى ولده ومضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة تامة وظاهرة فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه الثوري من وجوب الاستئذان وذلك لعموم الحديث المتقدم.فإن هذا الحديث يحمل على حاجة الوالدين بدليل قوله:} ففيهما فجاهد {أي فيهما فابذل طاقتك ووسعك، فدل هذا على أنهما محتاجان إلى طاقته ووسعه، والشريعة تأتي ببر الوالدين مطلقا سواء كانا مسلمين أم كافرين كما قال تعالى: [وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه إن كان الوالدان يحتاجان إلى مجاهدة الولد فيهما والقيام بحقوقهما فإنهما يستأمران في ذلك، هذا إذا كانا معصومي الدم، وأما إن كانا حربيين فلا لأن دمهما هدر فما كان فيه حفظ لأبدانهما غير مراعى شرعا.
* فرع:
في حكم استئذان الوالدين إن كان رقيقين: ... ... …
ـ واعلم أن المشهور في المذهب أن الوالدين الرقيقين لا يستأذنان.
قالوا: لأنهما لا ولاية لهما، فإن الولاية تنتقل بالرق.
القول الآخر:
والوجه الثاني في المذهب هو وجوب استئذانهما وإن كانا رقيقين وهذا هو الظاهر.
الأدلة عليه:
1 ـ لعمومات النصوص في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {والحديث عام في الأحرار والعبيد.
2 ـ ولأن المقصود من ذلك مراعاة حق الوالد
3 ـ ولئلا يقع في نفسه شيء من الحسرة بفوات نفس ولده أو تعرضه للقتل وهذا ثابت في الرقيق كما هو في الأحرار.(12/16)
ولأن الولاية لا أثر لها هنا، فإن الابن القائم بنفسه وهو ولي نفسه فيستأذن والده مع أنه لا ولاية للوالد عليه فالابن البالغ الرشيد القائم بشؤون نفسه لا ولاية لوليه عليه وإن كان والده حرا ومع ذلك فإنه يستأذنه. فانتفاء الولاية لا تعلق له بالحكم هنا ولا أثر لها.
إذن لا أثر للولاية بدليل أن الأب الحر لا ولاية له على أبنائه البالغين الراشدين، فكون الأب رقيقا لا ولاية له على أولاده هذا ليس بمؤثر في هذه المسألة بل المؤثر كونه والدا، وفي قلبه من الرأفة والرحمة ما يجعل الشارع يراعي ذلك حيث كان الجهاد تطوعيا يمكن أن يُستغنى عن الولد فيه.
* فرع:
… في استئذان الجد والجدة: ... ... ... ... ... ... ... ...
واعلم أن المشهور في المذهب: أن الجد والجدة لا يستأذنان وهذا ظاهر.
وذلك لأن الأصل هو تصرف الولد في نفسه فله أن يجاهد من غير أن يرتبط بإذن أحد من الناس هذا هو الأصل وإنما استثنى الوالدان لما لهما من الحق الكبير العظيم. ولما يقع في قلوبهما من الحسرة ونحو ذلك حيث تعرض الولد لأذى أو قتل وهذا لا يساويه ما يقع في قلب الجد أو الجدة ولا قياس مع الفارق.
ـ واحتمل صاحب الفروع وجها آخر وهو: أن أب الأب يستأذن.
الترجيح:
والراجح ما تقدم وأن الجد مطلقا سواء كان أب للأم أم للأب فإنهما لا يستأذنان. وكذا الجدة لأم أو لأب لا يستأذنان.
وذلك لأن الأصل هو تصرف الشخص في نفسه من غير أن يرجع في ذلك إلى إذن أحد. ولا يصح إلحاقهما بالوالدين للفارق.
* فرع:
… في جهاد المدين:
ـ قال أهل العلم: ومثل ذلك من عليه دين ولا وفاء له فإنه ليس له أن يجاهد الجهاد التطوعي إلا بإذن غريمه.
الدليل:
قالوا: لأن الجهاد ذريعة إلى الشهادة، والشهادة تفوت بها النفس، وحيث فاتت النفس فات حق الغريم، فليس له أن يقاتل ويجاهد وعليه دين إلا أن يستأذن غريمه.
الاستثناءات:(12/17)
1 ـ ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجهاد فرضا فإنه إذا كان كذلك فلا يعارض بوفاء دين ولاغيره.
2ـ ويستثنى أيضا: إذا كان له وفاء كأن يترك دورا أو عقارا تقابل الدين الذي عليه بحيث إذا استشهد قضي عنه دينه منها.
فإذا كان له وفاء فله أن يجاهد الجهاد التطوعي من غير أن يستأذن الدائن.
3 ـ قالوا: كذلك إذا أقام كفيلا أي غارما فإنه يجوز له أن يجاهد من غير استئذان الدائن لكنه يستأذن كفيله الغارم.
4 ـ وكذلك يجوز له ألا يستأذن غريمه إذا وثّق دينه برهن. فإذا كان الدين موثقا برهن فإن له أن يقاتل من غير استئذان.
إذن: لا يحل لمسلم أن يجاهد جهادا تطوعيا وعليه دين لا وفاء له مالم يقم كفيلا أو يوثّق دينه برهن أو يكون له وفاء وذلك لئلا يفوت حق الغير.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمام جيشه عند المسير] .
يجب على الإمام أن يتفقد الجيش، أو نائبه، أو يوكّل ثقة ذا خبرة بالجيش فيتفقده، فينظر فيه عددا وعُدة وينظر في حمله وسلاحه ورجاله، فيتفقد الجيش واستعداده وتهيؤه للقتال في سبيل الله.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنع المخذل والمرجف] .
المخذّل: هو المثبط عن الجهاد في سبيل الله المزهد فيه، فيمنعه الإمام.
والمرجف: هو المهوّل قوة العدو والمضعّف قوة المسلمين، الذي يُلقي في قلوب المسلمين الضعف والوهن. فهذا يجب على الإمام منعه من القتال في سبيل الله.
وهكذا كل من لا يصلح للقتال. كأن يشهد القتال صبي ضعيف البدن. أو أن يشهده رجل هرم يخشى أن يلقي بنفسه إلى التهلكة أو نحو ذلك.
فينظر الإمام في الجيش فيمنع من لا يصلح لشهوده المعركة من مخذل ومرجف أو غيرهمأ.(12/18)
ـ ويوصي الإمام أميره بتقوى الله في نفسه ويوصيه بالمسلمين خيرا بأن يرفق بهم ولا يلقي بهم في التهلكة ويحثه على الإخلاص واتباع السنة في القتال في سبيل الله والاستعانة بالله عز وجل فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:} اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.. { (1) الحديث وهو طويل.
ويعين الإمام القواد ويعين الألوية هذا واجب على الإمام بنفسه أو نائبه أو أن يوكل ثقة من أهل الخبرة بقوم بذلك.
ـ ويستحب أن تكون الغزوة يوم الخميس لما ثبت في البخاري من حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (2) .
__________
(1) ـ (م 1731) ك: الجهاد. ب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته. وهو عند (حم: 21900و21652، د: 2245، ت: 1542، جه: 2849، مي: 2332) .
(2) ـ (فتح 2950) ك: الجهاد. ب: من أراد غزوة فورى بغيرها.(12/19)
ـ ويستحب أن يكون لقاء العدو في بكرة النهار أي في أول النهار فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عند الخمسة (1) بإسناد صحيح من حديث صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا {قَالَ: (وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ) (2) .
فإن فاته ذلك فحتى تزول الشمس وتهبّ الرياح فقد ثبت في المسند وعند الثلاثة بإسناد صحيح عن النعمان بن مقرِّن ـ رضي الله عنه ـ قال: (شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ) (3)
__________
(1) ـ لم أجده عند النسائي في المجتبى. وهو في الكبرى (5/ 258 من محققة البنداري وسيد كسروي حسن) .
(2) ـ أخرجه (حم: 14891 و 14896و 15006 و 15007 و 18613 و 18660، ت: 1133، د: 2239، جه:2227،، مي: 2328) .
(3) ـ (د 2283: ك: الجهاد. ب: في أي وقت يستحب اللقاء.) وهو عند (حم: 22627، ت: 1538) ولم أجده في المجتبى وهو في الكبرى: 5 / 191. المحققة المشار إليها آنفا.
وهو في البخاري بنحوه (فتح: 3160: ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.)
من حديث جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ ـ وهو من كبار التابعين ـ في خبر قتال كسرى في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ في خبر طويل في سبيل الله آخره: فَقَالَ النُّعْمَانُ:.. وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.قال الحافظ في الفتح: (تهب الأرواح) جمع ريح. قوله: (وتحضر الصلوات) في رواية ابن أبي شيبة (وتزول الشمس) وهو بالمعنى.وقال في آخره: وفي الحديث: … وفضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله.. ولا يعارضه ما تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغير صباحا لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة. اهـ.(12/20)
أي هو مظنة لنزول النصر حيث نزل النصر عند هبوب الريح يوم الأحزاب.
ـ ويستحب للإمام أن يورّي في غزوة بغيرها. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها (1) .فإذا أراد الشمال سأل عن الجنوب وطرقها وأوديتها وآبارها وغير ذلك وهو يريد الشمال ليكون قتاله لعدوه في الشمال على حين غرة منه من غير أن يكون عن استعداد لأن العدو يكون له عيون في البلد وقد يُخرج الخبرَ المسلم الغِرّ فكانت التورية فيها مصلحة ظاهرة.
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وله أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده] .
النفل: هو الزيادة على سهم القسمة. فالمقاتل في سبيل الله له نصيب من القسمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وهنا للإمام أن يعطي زيادة على القسمة المقررة للمقاتل، فله أن ينفل بالربع بعد الخمس وله أن ينفل الثلث بعد الخمس.
بيان هذا:
إذا غزا الجيش في سبيل الله فتقدمت سرايا من سرايا المسلمين فأصابت غنيمة، فإذا أخرج الخمس أعطيت هذه السرية الربع زيادة على سهمها الأصلي في القسمة ثم يكون لها سهمها في القسمة،هذا في البدء.
__________
(1) ـ في الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه لتخلفهما عن غزوة تبوك. (فتح: 4418 , م: 2769) وزاد (د) وكان يقول ـ أي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الحرب خدعة ". وصححه الألباني (د 637) وهي عندهما من غير طريق كعب ـ رضي الله عنه ـ.(12/21)
وأما في الرجعة فله أن ينفل السرية الثلث بعد الخمس، بمعنى إذا قفل الجيش راجعا من القتال فذهبت سرية تقاتل بأمر الإمام فأصابت غنيمة فإنه يخرج أولا من هذه الغنيمة الخمس ثم يعطي هذه السرية ثلث الباقي زيادة على سهمها الأصلي من الغنيمة. واختلفت العطيتان لاختلاف الداعي فيهما إلى الإعطاء لأن هذه السرية في البدء والجيش وراءها فهو ظهر لها، وأما في الرجعة فإن الجيش راجع إلى البلاد الإسلامية وهم قد أوغلوا في بلاد الكفار ولاظهر لهم فكان للإمام أن يعطي أكثر مما يعطيهم في البدء.ولأن الرجعة يقع فيها من الكسل ما لايقع في البدء فإنهم في الرجعة يكونون في شوق إلى بلدانهم وأهليهم فيكون في ذلك مشقة أكثر من المشقة التي تكون عليهم في البدء فلذا كان للإمام أن يعطيهم الثلث وليس هذا واجبا لها وهو للإمام.
الدليل:
ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في حديث حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: (شَهِدْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ (1)
وفي رواية بعد الخمس (2) .
فيجوز للإمام أن ينفل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] .
يلزم الجيش طاعة قائد الجيش أو أميره.
الأدلة على لزوم طاعة أمير الجيش:
1 ـ قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي ألأمر منكم] .
__________
(1) ـ (د: 2370) ك: الجهاد. ب: فيمن قال الخمس قبل النفل.
(2) ـ عند (حم 16820) عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ وَنَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ.(12/22)
2 ـ وفي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ:} مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي { (1) .
3 ـ وقد أجمع سلف الأمة كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية على وجوب طاعة أمير الجيش في مواضع الاجتهاد وأن الرأي يترك لرأيه، وبيّن رحمه الله أن مصلحة الائتلاف والجماعة ومفسدة الاختلاف والفرقة أعظم من مسائل جزئية فلا شك أن المصلحة العامة الحاصلة بالجماعة والائتلاف والمفسدة الناتجة عن الفرقة والاختلاف لا تقابل بمسألة جزئية يقع الاجتهاد فيها.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والصبر معه] .
قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا] فيجب على من معه من المسلمين أن يصبروا معه وألا يخذلوه فإن في ذلك إضعافا للمسلمين وكسرا لهم كما أن فيه قوة للكفار وإظهارا لهم.
* مسألة: التجنيد السنوي:
واعلم أن المشهور عند الحنابلة والشافعية ـ وهي من المسائل التي محلها الدرس الأول لكن نذكرها هنا لوجود شيء من المناسبة بينها وبين هذه المسألة ـ أن الإمام الأعظم يجب عليه أن يجند المسلمين للجهاد في كل عام مرة.
دليلهم:
فقد تقدم أن الجهاد فرض كفاية. قالوا: فيجب في كل سنة مرة.
قالوا: لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتال فكان القتال واجبا في كل سنة مرة.
المناقشة:
ولايخفى بعد هذا النظر وعدم الارتباط بين هاتين المسألتين.
واختاره في المقنع.
__________
(1) ـ (فتح: 2957، م: 1835) واللفظ لمسلم.(12/23)
فالأظهر: أن الجهاد في سبيل الله يجب بقدر ما تقع به المصلحة للمسلمين وبقدر ما يحصل به للمسلمين من العلو والظهور ولدينه من العلو والظهور ولدينه أيضا من الحجة والبيان فيجب الجهاد بقدر حصول ذلك. ولا شك أن هذا يختلف من زمان إلى زمان.
فإذا ابتدأت الأمة الإسلامية حياتها من جديد فلا شك أنها تحتاج إلى جهاد طويل متكرر في السنة مرات حتى تستعيد مجدها وظهورها في الأرض.
بخلاف ما إذا كان لها سلطان ظاهر وقوة ظاهرة في الأرض فإنها قد لا تحتاج إلى الجهاد في السنة بل ربما مضت السنة والسنتان والثلاث من غير أن يحتاجوا إلى قتال وجهاد عام.
فالمقصود من ذلك أن فرض الكفاية يجب بقدر الحاجة وبقدر ما يحصل به المقصود ومن ذلك الجهاد في سبيل الله.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] .
لا يجوز للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله وأن يقاتلوا الكفار إلا بإذن الإمام.
الدليل:
وذلك لأن هذه المهمة موكولة إليه ففعلها دون إذنه افتيات عليه فهي مهمته وهو موكول بها فإن قام بها أجر وإن ترك أثم.
أما أن يقوم طائفة من الأمة بالجهاد بغير إذنه فإن ذلك غير جائز لما فيه من الافتيات عليه.
ولأن ذلك ذريعة إلى شق عصا الطاعة فقد يدّعي طائفة من الطوائف بأنها قد اجتمعت للقتال في سبيل الله وتعدّ لذلك العدة والعدد فتكون في الظاهر مقاتلة في سبيل الله وهي في الباطن خارجة عن طاعة الإمام شاقة لعصا الطاعة فلهذا وذاك لا يجوز أن تقاتل طائفة إلا بإذن الإمام.(12/24)
واستثنى المؤلف ما إذا فجأ المسلمين عدو فحينئذ لايجب عليهم أن يستأذنوا الإمام وذلك لتعذر استئذانه حينئذ، ولو تمكن من الاستئذان فإنه تمكنهم يكون بعد فوات المقصود أو كثير منه فلذا إن فاجأهم عدو فلهم أن يقاتلوا من غير أن يستأذنوا السلطان وذلك لتعذر استئذانه في الغالب ولأنهم لو تمكنوا منه فالغالب أن يكون تمكنا بعد فوات المقصود وربما كان هذا بعد استيلاء الكفار على البلاد الإسلامية.
* لذا قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه (1) ] .
وهنا مسائل:
* المسألة الأولى: في جواز تبييت الكفار
وتبييت الكفار: بأن يغير المسلمون عليهم ليلا على حين غفلة منهم.
وما يقع من قتل للنساء والذرية حينئذ؛ فما يكون على غير وجه التعمد لا حرج على المسلمين فيه.
الدليل:
ماثبت في الصحيحين: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: (مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ:} هُمْ مِنْهُمْ {) (2)
* ومثل ذلك:
لو تترس الكفار بالنساء والذرية فللمصلحة ودرء المفسدة يجوز للمسلمين أن يرموا هؤلاء الكفار وإن أصابوا من تترس به من النساء والذرية.
وأما قتل النساء والذرية على وجه التعمد فلا يجوز.
1 ـ فقد ثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَخْبَرَهُ: (أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَان ِ) (3) .
__________
(1) ـ كلبه بفتح اللام أي شرّه وأذاه.
(2) ـ (فتح: 3013، م: 1745) .
(3) ـ (فتح: 3014، م: 1744) .(12/25)
2ـ وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ وتقدم سياق أوله وفيه:} ولا تقتلوا وليدا { (1) .
والعلة في نهي الشارع عن قتل النساء والذرية مع مافي الشريعة من الرأفة والرحمة أن النساء والذرية لا يقاتلون فلم يقابلوا بالقتل.
فقد ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ عن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ:} انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ {فَجَاءَ فَقَالَ: (عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ) . فَقَالَ:} مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ {قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ قُلْ لِخَالِدٍ:} لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا {) (2)
أي أنها: لِمَ تُقتل؟! فإنها لم تكن لتقاتل.
ولذا يقاس على النساء والذرية كل من لا يقاتل من الكفار كالرهبان والشيوخ الهرمين والزمنى وغيرهم ممن لا يمكنهم القتال.
فكل من لا يقاتل المسلمين من راهب أو شيخ فان أو مريض شديد المرض عاجز عن القتال فإنه لا يقتل لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ما كانت هذه لتقاتل {فدل على أن كل من لا يقاتل لا يُقتل.
ـ ودل هذا الحديث على أن هؤلاء إن قاتلوا فإنهم يُقتلون فالمرأة أو الصبيان إن رفعوا السيف وقاتلوا فإنهم يُقتلون.
ومثل ذلك أيضا من كان لهم رأي ومكيدة في الحرب كما يقع هذا للشيوخ أو غيرهم.
* والمسألة الثانية: في جواز نصب النجنيق
__________
(1) ـ سبق تخريجه وهو في مسلم (م 1731) .
(2) ـ (د: 2295) ك: الجهاد. ب: في قتل النساء.(12/26)
فقد روى أبو داود في مراسيله عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصب المنجنيق في الطائف (1) .
وروى البيهقي أنّ عمرو بن العاص نصب المنجنيق في الإسكندرية (2) .
وعليه عمل المسلمين في قتالهم.
والأثر المتقدم وإن كان مرسلا لكن عليه العمل وهو مذهب جماهير العلماء.
ويشبهه القنابل الموجودة في زماننا فهي شبيهة بالمنجنيق فلا بأس برميها على الكفار.
تنبيه:
أما ما يكون إحراقا لهم يشبه هذه القنابل الذرية التي تحدث إحراقا عاما أو أن يكون إحراقا عاديا بالنار فإن ذلك لا يجوز.
الدليل:
ما ثبت في البخاري أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ ـ حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ فَقَالَ: (لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ {وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ {) (3)
فالنار عذاب الله ولا يجوز للمسلمين أن يعذبوا بعذاب الله.
__________
(1) ـ (المراسيل لأبي داود: ـ صلى الله عليه وسلم ـ 248) قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيحين غير ابن يزيد الكلاعي فإنه من رجال البخاري. ثم أورد أبو داود أثرا عن الأوزاعي أنه سأل يحيى بن سعيد عن ذلك فأنكره.وأشار ابن حجر أن العقيلي وصله في الضعفاء في ترجمة عبد الله بن خراش بن حوشب (2 / 797) غير أن العقيلي قال في طرق خبر المنجنيق في ترجمة المذكور: كلها غير محفوظة ولا يتابعه عليها الا من هو دونه أو مثله.
(2) ـ (هق: 9 / 84) ط. دار الباز بمكة. تحقيق محمد عبد القادر عطا. أورده عن الشافعي في القديم. وأورده كذلك الهيثمي في زوائد مسند الحارث (2 / 684) .
(3) ـ (فتح: 3017) ك: الجهاد والسير ب: لا يعذب بعذاب الله.(12/27)
لكن إن لم يكن الاقتدار على الكفار إلا بذلك أي بالنار ونحوها فإن ذلك جائز باتفاق أهل العلم لمصلحة الأمة، وهي مصلحة عامة وفيها درء المفاسد عنهم من تسلط الكفار وغيرهم.
* المسألة الثالثة: في ثبوت الرق على النساء والذرية.
اعلم أن النساء والذرية وإن أصابهم المسلمون بسبي فإنهم يثبت عليهم الرق بمجرد سبيهم.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـأن رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بني قريظة فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ) (1)
وثبت في الصحيحين ـ من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. (2)
فبمجرد ما يحصل السبي للنساء أو الذرية ـ والذرية هم غير البالغين من الذكور والإناث ـ يحصل حينئذٍ عليهم الرقّ.
* ومثل ذلك من لايُقتل كالرهبان وغيرهم ممن لايقاتل المسلمين فبمجرد ما يحصل له السبي يحصل حينئذٍ التملك على رقبته فيكون رقيقا حيث يكون من جنس الغنيمة.
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سبى قوما أوقع الرق عليهم كما تقدم في سبيه نساء بني المصطلق وكانت منهنّ جويرة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
* المسألة الرابعة: خصال المقاتلة.
أما المقاتلة فالإمام مخير بين خصال أربع:
الخصلة الأولى: القتل.
__________
(1) ـ (فتح: 4122) ك: المغازي. ب: مرجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأحزاب. (م: 1769) .
(2) ـ (فتح: 2541) ك: العتق. ب: من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع. (م: 1730) .(12/28)
ـ لقوله تعالى: [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب]
2 ـ وروى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل يوم بدر ثلاثة صبرا (1) .
الخصلة الثانية: المنّ. أي أن يطلق من غير مال.
الخصلة الثالثة: الفداء. أي يفدي نفسه بمال. قال تعالى: [فإما منّا بعد وإما فداء]
الخصلة الرابعة: الاسترقاق. أي أن يكون رقيقا.
وقد اتفق العلماء على ثبوت الرقّ على أهل الكتاب.
* مسألة: في ثبوت الخصال الأربع لعبدة الأوثان
واختلفوا في عبدة الأوثان، هل هناك خيار رابع في حقهم أم أنه ليس هناك إلا ثلاث خصال.
القول الأول:
وهو المشهور عند الحنابلة ألا استرقاق في غير أهل الكتاب والمجوس.
القول الثاني:
وهو قول الشافعية ورواية عن الإمام أحمد أن الرق يقع عليهم كغيرهم من عبدة الأوثان إذ لا فرق بين الكفار فيما يثبت من الأحكام إلا أن يدل دليل على تخصيص طائفة منهم بحكم.
قالوا: ولا دليل يصار إليه في هذه المسألة.
وهذا القول فيه قوة ـ والله أعلم ـ.
فتقع الخصال الأربعة على عامة الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم فيخير الإمام بين أربع الخصال كما تقدم.
وهذا التخيير للإمام ليس على وجه التشهي ولكن على وجه المصلحة العامة. فإن ثبت له أن المصلحة في القتل قتل، وإن ثبت له أن المصلحة في المنّ منّ، وإن رأى أن المصلحة في الفداء فدى، وإن رأى أن المصلحة في الاسترقاق فعل ذلك.
* مسألة: إسلام الأسير:
فإذا أسلم الأسير فلا يجوز قتله.
وهل يثبت عليه الرق أم يبقى للإمام الخيار في الخصال الثلاث؟ أي هل بمجرد إسلامه يكون رقيقا؟ أم يبقى الخيار السابق لكن تسقط خصلة وهي خصلة القتل؟
القول الأول:
__________
(1) ـ (المراسيل: صحفة: 249) قال المحقق الأرنؤوط: فيه زياد بن أيوب ـ شيخ أبي داود فيه ـ من رجال مسلم ومن فوقه من رجال الشيخين.وانظر الإرواء: [1214] .(12/29)
قالت الحنابلة بمجرد ما يسلم الأسير فإنه يكون رقيقا وليس للإمام أن يمنّ عليه وليس له أن يقبل منه الفداء.
قالوا: لأنه لا يجوز قتله فأشبه النساء. فكما أن النساء لا يجوز قتلهنّ فتعين فيهن الرق فكذلك الأسير إذا أسلم يتعين فيه الرق للمنع من قتله قياسا على النساء والذرية ومن يمنع قتلهم
القول الثاني:
قالت الشافعية: بل يبقى التخيير لأن تخيير الإمام بين الفداء والمنّ ثابت مع كفره فثبوت ذلك مع إسلامه أولى، فالمسلم أولى أن يمنّ عليه أو يقبل منه فداء من الكافر. وكونه يمنع من قتله ليس هذا للمعنى الموجود في النساء وإنما لثبوت إسلامه.
الترجيح:
وما ذكروه أظهر، من أن الكافر إذا أسلم وهو أسير عند المسلمين فإن الإمام يخير بين ثلاث خصال إن شاء جعله رقيقا وإن شاء قبل فيه المال فدية وإن شاء منّ عليه هذا كله تحت خيار الإمام على حسب المصلحة التي يراها.
* مسألة: هل يصدق الأسير في ادّعاء الإسلام؟
فإن ذلك لا يقبل منه حتى يأتي ببينة لأن الظاهر خلاف قوله. وقد تعلق برقبته حق الرقّ فلم يسقط هذا الحق بمجرد دعواه، فإن رقبته قد تعلق بها حق الرق أو حق الفداء الذي قد يختاره الإمام فتعلق هذا الحق برقبته يمنع من قبول دعواه إلا أن يأتي ببينة.
* مسألة: هل يقتل آحاد المسلمين الأسير؟
وإذا أسر مسلم كافرا فليس له أن يقتله إلا أن يضطره إلى ذلك كأن يدافعه الكافر أو يخشى صولة الكفار فينالوا أسيرهم أو أن يأبى هذا الكافر السير معه أو نحو ذلك مما يكون داعيا لقتله. أما إن لم يكن هناك داع لقتله فليس له أن يقتله. وذلك لأنه بمجرد أسره تعلق به حق الإمام فإن شاء الإمام قتل أو منّ أو قبل الفداء وإن شاء أوقع عليه الرق، فقتْله تفويت لحق الإمام فيه فلم يجز له ذلك.
* مسألة: في من قتل شيوخ المشركين.(12/30)
عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ { (1)
هنا قسمة ثنائية فقسمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شيوخ وشرخ والشرخ هم غير البالغين فدل على أن المراد بالشيوخ هم البالغون فيكون هذا من باب التغليب ولأن الشيوخ يقاتلون ونحن ـ إذ استثنيناه من القتل سابقا ـ إنما قيدناه بالشيخ الهرم الذي لايقاتل أما الشيخ فإنه يقاتل وله رأي ومكيدة في الحرب.
* مسألة: في تترس المشركين بأسرانا
ـ إذا تترس المشركون بأسرى مسلمين فهل يجوز أن يرموا؟
الجواب:
لا يجوز لعصمة دماء هؤلاء المسلمين إلا أن تترتب مصلحة ظاهرة جدا وتترتب على عدم رمي الكفار مفسدة ظاهرة ويُخشى أن يقع في المسلمين من القتل إن لم يقوموا بهذا أكثر مما يقع من القتل لهؤلاء الأسرى الذين هم وهم تحت أيدي العدو مظنة القتل.
فعلى ذلك: يُنظر إن كانت هناك مفسدة أكبر فإن المفسدة الصغرى تتلاشى مع وجود المفسدة الكبرى.
* مسألة: في الإغارة قبل الدعوة
ـ هل للإمام أن يُغِير قبل أن يدعوهم؟
الجواب:
ليس للإمام أن يغير قبل أن يدعوهم وهذا شرط تُقيّد به المسألة السابقة.
فيقال: يجوز للإمام أن يغير على الأعداء ويبغتهم بشرط وهو: أن يكون قد دعاهم إلى الله عزوجل لقوله تعالى: [وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا] ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بريدة السابق وقد ذكر دعوتهم إلى الله قال:} فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم { (2) فلا تقاتل طائفة من الكفار حتى تدعى إلى الله وتقام عليها الحجة. لقوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] فليس للأمة أن تقاتل حتى تبين لهم الحق فإن أبوا فإنهم يقاتلون.
__________
(1) ـ (د: 2296) ك: الجهاد. ب: قتل النساء.
(2) ـ سبق تخريجه وهو في (م: 1731) .(12/31)
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] .
إذا اقتتل المسلمون والكفار ووضعت الحرب أوزارها وانتهت الوقعة فإن هذه الغنائم يملكها الغانمون وإن كانت الغنائم لم تحز لدار الإسلام وإن كانت لم تقسم فهي ملك لهم.
وعليه: فإن مات بعض الغزاة فالحق من بعده لورثته في الغنيمة.
قالوا: لأنه بانتهاء الحرب وغلبة المسلمين تكون الغنائم قد زالت ملكية الكفار عنها ووقعت تحت أيدي المسلمين فكانت ملكا لهؤلاء الغزاة.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
القول الثاني:
لاتملك حتى تقسم، هذا إن كانت لم تحز إلى ديار الإسلام. أما إن حيزت فإنها تملك بمجرد حوزها وإن لم تقسم.
إذن شرط القسمة أن تكون الغنائم في دار الحرب.
القول الثالث:
وأطلق ابن القيم فقال: بل تشترط القسمة مطلقا سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام
فلا تملك الغنيمة إلا بقسمتها مطلقا وهذا هو أصح الأقوال.
الدليل:
ودليل ذلك ما ثبت في البخاري (1) أن وفد هوازن قدموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه أموالهم ونساءهم وذراريهم فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} إني كنت قد استأنيت لكم {أي أمهلت وفي رواية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتظرهم بعد قفوله من الطائف تسع عشرة ليلة.
(استأنيت لكم) أي تمهلت فلم أقسمها لعلكم ترجعون فتأخذون نساءكم وذراريكم وأموالكم وأما الآن وقد قسمت فلا.
فدل هذا على أن الغنيمة إنما تملك بعد القسمة لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمهل هوازن بعد انتهاء الحرب وبعد أن حيزت إلى البلاد الإسلامية لم يقسمها فهذا دليل ظاهر للمسألة.
وعلى ذلك: إن مات قبل أن يقسم سواء كانت الغنيمة في ديار الحرب أو في ديار الإسلام فإن الإرث لا يثبت لعدم الملكية.
والغنيمة: هي ما أخذ من مال الحرب قهرا بالقتال.
مصارف الغنيمة
__________
(1) ـ (فتح: 2308، 2540، 2608، 3132، 4319) .(12/32)
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] .
فالغنيمة لمن شهد الوقعة من أهل القتال فقد ثبت في البخاري (1) أن أبان بن سعيد بن العاص قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد خيبر وقد قسّمت فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اقسم لي) فقال:} اجلس {ولم يقسم له.
وثبت في مصنف عبد الرزاق بسند صحيح عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة) (2)
__________
(1) ـ (فتح: 4238) .
(2) ـ (عب: 7 / 268) وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (3 / 219) : {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُعْرَفُ مَوْقُوفًا كَمَا سَيَأْتِي , لَكِنْ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى {أَنَّهُ لَمَّا وَافَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ - أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ , أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَ مَنْ شَهِدَهَا , وَأَسْهَمَ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا غَيْرَهُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ , فَقَدِمَ أَبَانُ بَعْدَ خَيْبَرَ , فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ , وَأَبُو دَاوُد.
وَأَمَّا لَفْظُ: {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} . فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ: نَا شُعْبَةُ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيِّ , أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَكَتَبَ عُمَرُ: " إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ". وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ , وَالْبَيْهَقِيُّ , مَرْفُوعًا , وَمَوْقُوفًا , وَقَالَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ , وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ بُخْتُرِيِّ بْنِ مُخْتَارٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ , عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا.(12/33)
فمن لم يشهدها فلا حظ له منها، لكن من لم يشهدها لمصلحة الجيش كالعين والرسول والدليل ونحوه فإنه يقسم له.
دلّ على ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسّم لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وكان قد جلس في المدينة عند النساء.
* فرع:
هل يسهم للمرأة؟
وهي لأهل القتال، فعليه المرأة لا سهم لها، لأنها ليست من أهل القتال.
وقد ثبت في مسلم أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين ـ أي يعطين من الغنيمة ـ أما سهم فلم يضرب لهنّ) (1)
__________
(1) ـ (م: 1812) وهذا لفظه: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ وَعَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ هُوَ لَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ.(12/34)
أي يعطين من الغنيمة شيئا دون السهم وهو مايسمى بالرضخ أي يرضخ لهن شيء من الغنيمة دون السهم لشهودهنّ القتال.
* فرع:
هل يُسهم للعبد؟
ومثل ذلك العبد فهو لايجب عليه القتال فليس في الأصل من أهله وعليه فإنه لا يعطى سهما بل يرضخ له. لذا ثبت في سنن أبي داود أن عميرا قَالَ: (شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ) قَالَ أَبُو دَاوُد: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ) (1)
أي من متاع الميت فلم يسهم له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
* فرع:
هل يُسهم للكافر المشارك.
ـ ومثل ذلك الكافر فإن شهد الوقعة مع المسلمين فإنه يرضخ له ولا يعطى سهما كما يعطى الغزاة المسلمون. وذلك قياسا على العبد:فكما أن العبد مع قتاله لا يعطى إلا رضخا لأنه ليس من أهل القتال فكذلك الكافر هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني:
وهو المشهور في المذهب أن الكافر يسهم له، فيُعطى سهمها من القسمة.
واستدلوا: بما رواه سعيد بن منصور في سننه أن صفوان بن أمية شهد مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة حنين وهو على شركه فأسهم له.
الترجيح:
فأصح القولين هو ماذهب إليه الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب: أن الكافر إذا شهد الوقعة فإنه لا يسهم له.
* فرع:
… هل يُسهم للصبي؟
ومثل ذلك الصبي فإن الصبي يرضخ له ولا يسهم له.
الدليل:
__________
(1) ـ (د:2354) ك: الجهاد. ب: في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة. (حم: 20935، ت: 1478، جه: 2846) .(12/35)
1 ـ يدل على ذلك ما ذكره صاحب الغني وعزاه إلى الجوزجاني وأن الجوزجاني رواه بإسناده وقال فيه: (من مشهور حديث مصر وجيده) فقد جوّد سنده أن تميم بن فٍرَع (1) كان من الجيش الذين فتحوا الإسكندرية مع عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فلم يعطه من الغنيمة شيئا وقال: (غلام لم يحتلم) وكان في القوم أبو نضرة الغفاري وعقبة بن عامر ـ رضي الله عنهما ـ فقالا: (انظروا فإن أشعر ـ أي نبت شعر عانته ـ فاقسموا له) (2)
فهذا قول عمرو بن العاص وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف.
2 ـ وكذلك بالقياس على المرأة بجامع أنهما ليسا من أهل القتال
* مسألة: الاستعانة بالمشركين في القتال.
وفيها ثلاثة أقوال:
القول الأول:
وهو المشهور في المذهب: أن الكافر لا يستعان به في القتال في سبيل الله.
الدليل:
__________
(1) ـ الإكمال لابن ماكولا (7 / 51) .
(2) ـ رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3 / 217) .(12/36)
ما ثبت في الصحيحين (1) : عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهَا قَالَتْ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ:} فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ {قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ (2)
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد أنه يجوز أن يستعان بالمشرك.
الدليل:
ما تقدم من حديث صفوان بن أمية وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعان به وكان على شركه وأسهم له.
لكن تقدم أن الحديث مرسل ضعيف (3) .
القول الثالث:
وقال الشافعي وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجوز عند الحاجة.
الترجيح:
والقول الثالث أظهر الأقوال.
__________
(1) ـ لم أجده في البخاري.
(2) ـ (م: 1817) ك: الجهاد والسير. ب: كراهية الاستعانة في الغزو بكافر.
(3) ـ تقدم تخريجه فيهما.(12/37)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} فارجع فلن أستعين بمشرك {هذا حين لم تكن المصحلة ظاهرة في الاستعانة به وأما إذا كانت المصلحة ظاهرة في الاستعانة به وأمن شره فإن الاستعانة به جائزة لا حرج فيها جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة.
* وأما عند الضرورة فلا إشكال في جوازه فإن المحرمات تباح عند الضرورة إليها.
إذن: الغنيمة تقسم أسهمها على الغزاة إذا كانوا من أهل القتال، أما إذا لم يكونوا من أهل القتال فلا يعطون أسهما، وإنما يرضخ لهم رضخا أي يعطون شيئا من الغنيمة يقدره الإمام لهم باجتهاده لكن يكون دون أسهم الغزاة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ثم يقسّم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له وسهمان لفرسه] .
فإذا حضرت القسمة بين يدي الإمام. فقبل الخمس يخرج السلب.
والسّلَب: ما يحصله القاتل من مقتوله من أدوات الحرب من مركوب ورحل وسلاح.
فيخرج أولا.
الدليل:(12/38)
ما ثبت في الصحيحن (1) من حديث سلمة بن الأكوع قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَل أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ قَالَ سَلَمَةُ وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ:} مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ {قَالُوا
__________
(1) ـ (فتح: 3051) ولفظه: عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ وهو مختصر جدا عن الذي عند مسلم حتى قال الشيخ الألباني ـ بعد إيراده لفظ مسلم ـ وأما لفظ البخاري فهو أبعد عن هذا بكثير. (الإرواء: 5 / 55) .(12/39)
: (ابْنُ الْأَكْوَعِ) قَالَ:} لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (1) {
وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ (2)
ـ ويخرج أيضا قبل الخمس: ما تحتاج إليه الغنيمة من أجرة لحملها وحفظها.
* مسألة: هل يخرج الرضخ المتقدم قبل الخمس أم بعده؟
قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب أحمد والشافعي.
القول الأول:
أن الرضخ يخرج قبل أن تخمس الغنيمة.
قياسا على أجرة الحامل والحافظ للغنيمة.
القول الثاني:
أن الرضخ يخرج بعد الخمس.
قالوا: لأنه أخذ بسبب حضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
الترجيح:
والقول الثاني أقيس وهو أن الرضخ لا يخرج إلا بعد الخمس لأنه قد أخذ بسبب شهود الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
إذن: إذا حضرت القسمة فيخرج منها ما يحتاج إليه من أجرة حامل وحافظ ونحو ذلك.
ثم يخرج منها السلب فلايخمس. ثم تخمس الغنيمة فيخرج خمسها.قال الله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل]
* قوله [فأن لله خمسه] : ليس لله عزوجل سهم، وإنما المراد: أن هذا الخمس يصرف فيما يرضي الله تعالى. وليس المراد أن هناك سهم لله عزوجل ـ كما قال بعض العلماء ـ يصرف إلى الكعبة أو غيرها.
ودليل ذلك:
ماثبت في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن المغنم فقال:} لله خمسه وأربعة أخماسه للجيش {
__________
(1) ـ (م: 1754) ك: الجهاد والسير. ب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2) ـ (د: 2345) ك: الجهاد. ب: في السلب لا يخمس.(12/40)
وثبت في سنن أبي داود عن عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ:} وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ { (1)
والوبر هو ما يقابل الشعر من الغنم ونحوه.
إذن: الخمس لله والرسول أي فيما يرضي الله تعالى وهو بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصرفه فيما يراه من المصالح وكذلك هو بأيدي خلفائه من بعده يصرفونه فيما يرونه من المصالح هذا هو الخمس الأول (خمس الرسول) .
إذن: هو لله لأنه يدفع فيما يرضي الله تعالى، وهو للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه تحت يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو السهم الأول: تحت يده يصرفه في مصالح المسلمين.
السهم الثاني:لذوي القربى.
أي لقرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم: بنو هاشم بنو المطلب.
السهم الثالث: لليتامى.
السهم الرابع:للمساكين.
السهم الخامس:لابن السبيل.
فهذه خمسة أخماس. يقسم خمس الغنيمة إلى خمسة أخماس؛ سهم يكون بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه من بعده فيصرفونه في مصالح المسلمين هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو أن الغنيمة تخمس خمسة أخماس لكل صنف من هذه الأصناف الخمسة نصيبه.
القول الثاني:
ومال الإمام مالك إلى أن يعطى بعض ذوي القربى حقهم منه والباقي يصرفه الإمام فيما يراه من المصالح سواء أنال اليتامى والمساكين وابن السبيل منه نصيب أم لم ينلهم.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم.
الدليل:
__________
(1) ـ (د: 2374) ك: الجهاد. ب: في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه.(12/41)
قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن خلفائه من بعده هذه القسمة، ولو كان ذلك ثابتا لنقل نقلا بينا، فهو ما تقوى الهمم وتقوى الدواعي على نقله.
قالوا: ولأن الزكاة قد وجبت في الأصناف الثمانية ولو صرفت لصنف واحد لأجزأت فكذلك هنا.
الترجيح:
وهذا هو الراجح.
فالخمس يوضع في يد الإمام فيعطى ذوي القربى حقهم منه ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
* مسألة: كيفية توزيع سهم ذوي القربى
وفيها قولان:
القول الأول:
أن ذوي القربى يعطون منه ـ في المشهور من المذهب ـ للذكر مثل حظ الأنثيين.
قالوا: لأنه نيل بسبب الأب فأشبه الإرث؛ فإن بني هاشم نالوه بسبب هاشم وبني المطلب نالوه بسبب المطلب.
القول الثاني:
وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم يعطون بالسوية لا يفرق بين ذكر وأنثى ولا صغير ولاكبير.
قالوا: لأن الله قد أمرنا بإعطائهم وليس هذا على سبيل الإرث بدليل عدم ثبوت الحجب فيه فإن الابن يأخذ مع وجود أبيه.
ثم إن سببه هو القرابة والنصرة في بني هاشم، والنصرة في بني المطلب.
القول الثالث:
أنهم يعطون بقدر الحاجة وبحسب ما يراه الإمام سواء كان بالتفضيل أو بالسوية.
وهو مذهب مالك.
الترجيح:
والقول الثالث هو الراجح في هذه المسألة وهو اختيار ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ فيعطون على مايراه الإمام، ويعطون قدر حاجاتهم، فيعطى الفقير أكثر من الغني، ويعطى الغني الذي هو صاحب كرم ويجتمع الناس حوله أكثر مما سواه وهكذا..
فهو شامل لفقيرهم وغنيهم.
الدليل:(12/42)
1 ـ ما ثبت في البخاري والنسائي عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) . فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما جاءا يسألانه من الفيء لم يعتذر لهما بكونهما أغنياء وإنما اعتذر لهما بأنهما ليسا من بني المطلب وبني هاشم.
فدل على أن للغني نصيبه في الغنيمة ثابت كالفقير.
2 ـ وللإطلاق في الآية، فإنها مطلقة لم تقيد سهم ذوي القربى بالفقراء دون الأغنياء.
هذا هو الخمس.
ـ إذن: إذا أخرج الإمام الخمس فحينئذ يقسم الغنيمة ويخرج منها النفل فإن النفل يخرج بعد الخمس كما تقدم هذا في نفل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الربع بعد الخمس والثلث بعده.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود ـ بسند صحيح ـ من حديث معن بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت:} لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُس ِ { (2)
__________
(1) ـ (ن: 4068) كتاب: الفيء. باب. وأصله في البخاري بأخصر من ذلك. (فتح 3140،3503، 4229، 4068، د 2585، جه: 2872)
(2) ـ (د: 2273، حم: 15301) .(12/43)
فالنفل: هو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة زيادة عن سهمهم.إما لتقدم سرية من السرايا، أو لحسن بلائه وشدة بأسه بالكفار كما أعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل وسهم الفارس كما ثبت في صحيح مسلم (1) .
ثم يقسم الغنيمة للراجل أي للماشي على رجليه ومثله الراكب على بعير ونحوه يعطى سهما.
والفارس وهو الراكب فرسا يعطى ثلاثة أسهم؛ سهما له وسهمين لفرسه.
وذلك لما للفرس من مكانة في العدو.
الدليل:
ماثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) . قَالَ: (فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ) (2)
وفي سنن أبي داود (3) للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهم له؟
* فرع:
…في سهم الفارس الهجين.
ـ وهل هو في كل فرس سواء كان عربيا أم هجينا؟
قال جمهور العلماء:
نعم، سواء كان الفرس هجينا وهو غير العربي أو كان عربيا فإن للفرس سهمين.
لعموم الحديث.
__________
(1) ـ (م: 1807) ك: الجهاد والسير. ب: غزوة ذي قرد وغيرها.
(2) فتح: 4228) ك: الجهاد. ب: خيبر. (م: 1762) .
(3) ـ الذي في (د 2358) ك: الجهاد. ب:في سُهمان الخيل. قال أَبُوعَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ زَادَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.(12/44)
القول الثاني:
وقال الحنابلة في المشهور عندهم:الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لاسهمان.
الدليل:
واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله بإسناد صحيح عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهما (1) .
وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد (2) وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع. وعليه فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. وبه يترجح ما قال الحنابلة لأن الفرس العربي أقوى وأعظم نكاية في العدو من الفرس الهجين.
القول الثالث:
وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الفرس الهجين إذا عمل بعمل الفرس العربي فإن له سهمين
وهذا قول قوي ظاهر لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
إذن الفرس الهجين له سهم، لكن إن عمل كما يعمل الفرس العربي وكان فيه نكاية ظاهرة في العدو فإن له سهمين لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
ـ هذا إذا كان الفرس قادرا على القتال قويا.
أما إذا كان مريضا فإنه لا سهم له لأن السهم إنما أعطي لنكايته في العدو أما إن كان مجرد مركوب ولا نكاية له في العدو فإنه لا فرق بينه وبين الجمل فحينئذ لا يسهم له شيء.
* فرع:
__________
(1) ـ (مراسيل أبي داود: ص 227) 287 حدثنا أحمد بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن خالد وزيد بن الحباب حدثوهم المعنى عن معاوية بن صالح عن أبي بشر عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي للعربي سهماه وللهجين سهم) ط. مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ونقل عن العجلي توثيقه لأبي بشر التابعي.وذكرأن الشافعي رواه في الأم والبيهقي.
(2) ـ (مراسيل أبي داود: ص 226) 286 حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن خالد بن معدان قال: (أسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعربي سهمين وللهجين سهما) قال المحقق: الشعيثي: صدوق وباقي رجاله رجال الشيخين.(12/45)
… في ما يُسهم للفرسين فأكثر.
إذا شارك بأكثر من فرس فهل يسهم لهما؟ فيها قولان:
القول الأول:
قالت الحنابلة: إن كان له فرسان فله أربعة أسهم.
الدليل:
ما رواه سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ أنه اقسم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم وللرجل سهما.
لكن الأثر منقطع.
القول الآخر:
قال الجمهور: بل ليس له إلا سهمان لفرس منهما.فليس له إلا نصيب فرس واحد
الدليل:
قالوا: لأن الفرس الثاني لا يعدو إلا أن يكون نائيا عن الفرس الأول قائما مقامه ... ... فعلى ذلك لا يكون له إلا سهم فرس واحد.
وهذا هو القول الراجح.
* أما إذا كان معه ثلاثة أفرس أو أربعة فاتفق العلماء على أنه لايأخذ على الثالث ولا على الرابع وغنما الخلاف في الأخذ على الثاني.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيشُ سراياه في ما غنمت ويشاركونه فيما غنم] .
فالجيش المنطلق من بلاد الإسلام إلى بلاد الأعداء تخرج منه سرايا فتغنم فله نصيبه من هذه المغانم فهو يشاركها وهي أيضا تشاركه.فقد تخرج بعض السرايا فيما ينال الجيش غنيمة دونها فلها نصيبها من هذه الغنيمة.
الدليل:
1 ـ ما تقدم من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعده للسرايا وهي غنيمة لها دون الجيش ومع ذلك فإن الجيش يشاركها، فإن الثلث أو الربع يخرج بعد الخمس والباقي يشترك فيه بقية الجيش فأشركهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرك الجيش بما تناله السرية وكذلك العكس.
ـ ولأن مقصدهم واحد وكلهم قد خرجوا لقتال العدو وهذا ربما أرسل في سرية وهذا بقي في الجيش للمصلحة العامة فحينئذ تشتركون في الغنيمة جمعيا.
مسائل الغلول
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والغالّ من الغنيمة يُحرّق رحله كله إلا السلاح]
الغالّ: هو الكاتم شيئا من المغنم على وجه لا يحل له.(12/46)
الغلول من كبائر الذنوب. للأدلة التالية:
1 ـ قال تعالى: [ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة]
2 ـ وفي الصحيحن (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} هُوَ فِي النَّارِ {فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا) (2) .
3 ـ وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ـ بإسناد صحيح ـ في حديث عبادة ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} .. فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { (3) .
* مسألة: ما يُفعل بمال الغالّ.
القول الأول:
__________
(1) ـ لم يرو مسلم قصة كركرة من طريق ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وإنما ذكر قصة مثيلة لها واحتمل الحافظ في الفتح أن تكون قصة البخاري مفسرة لما ذكره مسلم (م: 114) عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ.
(2) ـ (فتح: 3074) ك: الجهاد والسير. ب: القليل من الغلول.هي غير قصة صاحب الشملة كما قرر ذلك الحافظ (فتح: 4234) .
(3) ـ (حم: 21641، ن: 3628، جه: 2840) .(12/47)
وهنا قال المؤلف: (يحرق رحله كله) أي ما على راحلته من أثاث من أوان وزاد وسرج وغير ذلك ويستنثى من ذلك الحيوان وماله روح.ويستثنى كذلك المصحف وكتب العلم وكذلك الأسلحة هذا هو المشهور عند الحنابلة.
الأدلة:
1 ـ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ {قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ) (1) .
والحديث فيه: صالح بن محمد بن زائدة وهو منكر الحديث، وقد ضعف الحديث البخاري والترمذي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم.
2ـ وروى أبوداود في سننه: (..قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنْ الْوَلِيدِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ) (2)
والحديث: ضعيف أيضا فإنه فيه الوليد بن مسلم وهو شامي عن زهير بن محمد، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة.
والصحيح أنه من قول عمرو بن شعيب فهو مقطوع عليه، كما رجّح ذلك غير واحد من الأئمة فلا يصح شاهدا للحديث الأول.
القول الثاني:
وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام ليس له أن يحرق رحله.
__________
(1) ـ (د: 2338) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال. (ت: 1381، مي: 2379) .
(2) ـ (د: 2340) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال.(12/48)
الدليل: ما رواه أبوداود في سننه ـ بإسناد حسن ـ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ) فَقَالَ:} أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا؟ {قَالَ نَعَمْ قَالَ:} فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ {فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ:} كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ { (1)
قالوا: فهنا الرجل لم يحرق متاعه.
قالوا: ولم يصح في تحريق المتاع حديث كما قرر ذلك الإمام البخاري رحمة الله عليه.
القول الثالث:
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم: أن تحريق المتاع جائز من باب التعزير لا من باب الحد.
أي أنه للإمام أن يعزر بذلك وله أن يعزر بشيء آخر كضربه أو تأنيبه أو غير ذلك كما أنّب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل في القصة المتقدمة.
__________
(1) ـ (د: 2337) ك: الجهاد. ب:في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق. ورواه (حم: 6701) وفي آخره: إني لن أقبله حتى تكون أنت الذي توافيني به يوم القيامة.(12/49)
وهذا مبني على القول الراجح في مسألة جواز التعزير بالمال. كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ـ في زكاة السائمة ـ:} وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ { (1) وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذه المسألة وسيأتي الكلام عليها في باب التعزير إن شاء الله تعالى.
فالتعزير بالمال جائز وتدخل فيه هذه المسألة فللإمام أن يعزر بتحريق متاعه.
فإن قيل: هذا فيه إتلاف للمال وإفساد له
فيقال: نعم، لكن لمصلحة راجحة وهي عظم التنكيل وشدة التأنيب فإن في ذلك تنكيلا ظاهرا به.
الترجيح:
وهذا القول الثالث هو الراجح في هذه المسألة واستظهره صاحب الفروع وصوبه صاحب الإنصاف.فالراجح إذن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وأن تحريق المتاع جائز للإمام إن رأى مصلحة شرعية في ذلك.
* مسألة: وهل يمنع من سهم الغنيمة؟
الجواب:
لايمنع من سهمه من القسمة كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه منع من غلّ من سهمه أو استرده منه.
وهو حق مالي ثابت له فلا يمنع منه بمعصية.
القول الثاني:
وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الإمام يمنعه من سهمه.
وهذا القول ظاهر في باب التعزير المالي. فللإمام أن يعزره بأن يمنعه سهمه. وله أن يعطيه سهمه ويعزره بباب آخر من أبواب التعزير.
إذن: للإمام أن يمنعه من سهمه تعزيرا له. وهذا داخل في مسألة التعزيز بالمال.
* مسألة: في توبة الغال.
__________
(1) ـ (د: 1344) .(12/50)
ـ وقد أجمع أهل العلم على أن الغالّ إن تاب فأراد أن يعيد ما غلّ وكان قبل القسمة والتخميس فإنه يدفعه بيت المال ليخمس ويقسم على الغانمين ليأخذ كل صاحب حق حقه فلبيت المال الخمس وأربعة أخماسه للغانمين.
* فرع:
أما إن كان ذلك بعد تخميس الغنيمة وتقسيمها: ففيه قولان:
القول الأول:
قال الحنابلة: يدفع إلى بيت المال الخمس. ويتصدق بأربعة أخماسه عن الغانمين.
وذلك لأنه حق لا يمكن أن يعطى صاحبه فقد أخذ الغزاة نصيبهم ولا يمكن أن يقسم عليهم هذا الباقي بعد الخمس فحينئذ يكون كالمال الذي لا يهدى إلى صاحبه فيتصدق عنه به.
القول الثاني:
قال الشافعية وهو اختيار الآجرّي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه يدفع كله إلى بيت المال أي كل ما غُلّ يدفعه إلى بيت المال.
الترجيح:
والقول الثاني أظهر بناء على المسألة السابقة التي تقدم ذكرها وهي أن الغنيمة لا تملك إلا بعد قسمتها. فالغنيمة حق لبيت المال وملك له حتى تقسم بين الغانمين وهنا لم تقسم الغنيمة التي وقع عليها الغلول فحينئذٍ تكون في بيت المال.
هذا هو الأظهر وعليه فيرد ما غلّ إلى بيت المال مطلقا سواء كان ذلك قبل أن تخمس الغنيمة وتقسم أو كان ذلك بعد تخميسها وتقسيمها.
الأراضي المفتوحة (المغنومة)
الأراضي المفتوحة قسمان: ـ الأول: ما فتح عنوة.الثاني: ما فتح صُلحا.
والكلام الآن عن:
القسم الأول: ـ وهي ما فتح عنوة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا غنموا أرضا فتحوها بالسيف خُيّر الإمام بين: قسمها، ووقفها على المسلمين] .
إذا افتتح المسلمون قرية بالسيف ـ أي بالقتال ـ فإن الإمام مخير بين أن يقسم هذه الأرض بين الغانمين وبين أن يوقفها على المسلمين.
هذا هو القول الأول وهو المشهور في مذهب أحمد وأبي حنيفة.
الدليل:(12/51)
1 ـ ما ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ: (عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ النَّاسِ) (1)
فهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجعل أربعة أخماسها للغانمين، بل جعل النصف للغانمين، وجعل النصف الآخر للمصالح.
2ـ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ) (2)
فعمر ـ رضي الله عنه ـ قد أوقف مصر والشام والعراق لمّا فتحت في عهده ـ رضي الله عنه ـ لمصلحة آخر المسلمين ولم يقسمها على الفاتحين.
ولم يعلم له مخالف فكان إجماعا.
3 ـ قالوا: فهذه الأدلة السابقة تبين آية الأنفال وتخصصها، تبين أن المراد بالغنائم فيها ماسوى الأرض من الأموال المنقولة كالذهب والفضة والمواشي والثياب وغير ذلك فيه التي تقسم بين الغانمين. وأما الأرض فللإمام في ذلك الخيرة.
4 ـ ومما يدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما عدا الأرض أن هذه الأمة قد اختصت بإباحة الغنائم لها، كما في الصحيحين من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي {.
__________
(1) ـ (د: 2617) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: ماجاء في حكم أرض خيبر. (حم: 15821) .
(2) ـ (فتح: 1325) ك: فرض الخمس. ب: الغنيمة لمن شهد الوقعة.(12/52)
قالوا: والأرض أحلت لمن قبله كما في قوله تعالى: [وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها] فكانوا يرثون الأرض ويغنمونها.
فدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما سوى الأرض من المنقول كالذهب والفضة والماشية وغيرها.
القول الثاني:
وذهب المالكية والشافعية إلى أن مجراها مجرى القسمة أي فتخمس وأربعة أخماسها للفاتحين فليس للإمام أن يوقفها كلها بل له الخمس وأما أربعة أخماسها فإنه يقسم في الغانمين
الدليل:
قوله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول.
قالوا: والأرض غنيمة فيخمسها الإمام وأما أربعة أخماسها فإنه يقسمها على الغانمين.
الترجيح:
والقول الأول وهو ما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح لقوة دليلهم ولما أوردوه في الرد على ما استدل به المالكية والشافعية وبه صحت سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده] .
هذه هي المصلحة: وهي أن الأرض التي قد أوقفت يضرب الإمام عليها خراجا. وهو مال يدفع سنويا ممن الأرض تحت يده. فيدفعه إلى الإمام. والإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
قوله: (ممن هي في يده) سواء كان مسلما أم ذمّيّا فيؤخذ هذا الخراج كأجرة على من هي بيده.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] .(12/53)
فالإمام يجتهد ويحدد قدر الخراج فيحدده بما هو اصلح باجتهاده بالنظر إلى أحوال الناس وبالنظر إلى الأرض في كونها ذات جصّ قوي أو جصّ ضعيف وباختلاف الأزمنة من زمن لآخر فيقدر الإمام ما يراه مناسبا. لأن الشارع لم يرد فيه تحديد فيرجع إليه فيه فالمرجع في ذلك إلى الإمام فيحدد باجتهاده فيما وأصلح كالجزية تماما.هذا في أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
كل هذا فيما لو فتحت الأرض عنوة وقهرا.
القسم الثاني: وهي ما فتح صُلحا:
ـ أما إذا فتحت الأرض صلحا فلا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى:
أن يصالح الكفار المسلمين على أن تكون الأرض لهم أي للكفار.
فحينئذٍ تكون الأرض للكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
الحالة الثانية:
أن يصالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للمسلمين، ويشتغل بها الكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
فهذه الحالة لها حكم المسألة السابقة أي الحالة الأولى من جهة أن الأرض تبقى بأيديهم ويعملون بها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين ولم بيعها إلى مسلم أو ذمي ويبقى الخراج ثابتا عليها.
أما الحالة الأولى: فحينئذٍ إذا أسلم الكفار أو أسلم بعضهم سقط الخراج عمن أسلم وبقيت الأرض ملكا له لا خراج فيها.
فإذا صالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للكفار فإذا أسلموا أوأسلم بعضهم فإن الخراج يسقط وذلك لعدم ملكية الأرض للمسلمين أولا.
ولأن الخراج كالجزية يسقط بالإسلام: فكما أن الجزية تسقط عن الكافر إذا أسلم فكذلك الخراج يسقط عنه فتبقى الأرض على ملكيتها ويسقط عنه الخراج.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رُفع يده عنها] .
رجل له أرض خراجية ولم يعمرها بزرع أو شجر فإنه يجبر على إجارتها أو رفع يده عنها.(12/54)
أي: إما أن يعمّرها وإما أن يؤجرها، وإما أن نرفع يده عنها أي يتركها تقع في يد الأسبق إليها. وذلك لأن في تركها عاطلة تفويتا لحق بيت المال بالخراج.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويجري فيها الميراث] .
بمعنى أنها تورث لأنها حق فتورث كسائر الحقوق فإذا مات الرجل ورثها أقاربه كسائر ماله لأنها حق له فبموته يجري فيها الإرث.
بابٌ: الفَيْء
الخلاصة: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ ما تركوه فزعا وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ] .
العشر: هو مايضرب على تجارة الكفار إذا أدخلوا تجارتهم إلى البلاد الإسلامية.
وعلى الذميين نصف العشر.
وعلى الحربيين الذين يدخلون بأمان إلى البلاد الإسلامية ليتجروا فيها أو يدخلوا تجارتهم فيها عليهم العشر.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما تركوه فزعا] .
أي لم يقع قتال بين المسلمين والكفار وقد ترك هؤلاء الكفار أموالهم من غير قتال.
قال تعالى: [ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب]
فهذا يُعتبر فيئا لا يقسم بين الغانمين فليس له حكم القسمة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وخمس خمس الغنيمة] .
تقدم الكلام في هذا عند الكلام على خمس خمس الغنيمة وأنه يكون في يد الإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
وتقدم ترجيح قول الإمام مالك وأن الخمس كله فيء لمصالح المسلمين إلا ما يحتاج إليه ذوو القربى.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .(12/55)
إذن: الجزية والخراج والعشور وما يؤخذ من الكفار بغير قتال وخمس خمس الغنيمة كل هذا فيء يصرف في مصالح المسلمين. فمنه رزق الإمام والقضاء والأمراء والمدرسين وغيرهم وكذا بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين وإغناء الفقراء وغيرها من المصالح والحاجيات للمسلمين.
إذن: الفيء يصرفه الإمام في مصالح المسلمين.
وهذا في كل مايدخل بيت المال حتى التجارات والمكاسب التي يكتسبها بيت المال ومن ذلك ما في هذه الأزمان من بترول ومعادن وغير ذلك مما يستخرج من الأرض هذا كله فيء يصرف في المصالح الإسلامية.
الأدلة:
1 ـ قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ: (كل المسلمين لهم حق في الفيء) وقال: (لم يبق أحد إلا له حق في هذا المال إلا ما ملكت أيمانكم من أرقائكم فإن عشت إن شاء الله تعالى لم أُبق أحدا من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي يأتيه حقه منها ولم يعرق فيها جبينه) (1) والأثر إسناده صحيح.
2 ـ وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا) (2)
* ويبدأ بالأهم فالمهم، فيبدأ مثلا بأرزاق القضاة والأمراء والمقاتلة فهذا أولى من البدء بالغني الذي لا حاجة له في المال. وما يبقى فيصرفه في مصالح المسلمين فهو حق لهم يقسمه بين المسلمين غنيهم وفقيرهم من الأحرار.
باب عقد الذمة وأحكامه..
الذمة لغة واصطلاحا:
الذمة: لغة، العهد.
وفي الاصطلاح: عقد يقيمه الإمام، يقر به الكفار على كفرهم مع إعطائهم الجزية أو التزامهم بأحكام الشريعة في الجملة.
__________
(1) ـ (هق: 6 / 351) .
(2) ـ (د: 2564) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: قسم الفيء.
ورواه (حم: 22878، 22861) .(12/56)
وقوله (يقر به الكفار على كفرهم) أي في حكم الدنيا وإلا فإنهم لا يُقرون عليه في حكم الآخرة.
فالمعقود عليه هو الذمي. جماعتهم: الذميون.
هذا هو عقد الذمة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] .
فلا يجوز هذا العقد إلا لصنفين من الناس.
1 ـ الصنف الأول: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
2 ـ الصنف الثاني: وهم المجوس.
أما صنف الكتابين:
فدليله قوله تعالى: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فهذا في الجزية على أهل الكتاب.
وأما المجوس:
فقد ثبت في البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ـ الجزية ـ من مجوس هجر (1) .
هذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي وأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس ومن تبعهم أي من تبعهم على دينهم. وإن لم يكن أصلا منهم.
ذلك لأن اليهود والنصارى من بني إسرائيل فمن تبعهم من العرب والإفرنج أو غيرهم له هذا الحكم وكذلك ديانة المجوس فإنها في الأصل في الفرس ممن كانوا مجوسا من غير الفرس كبعض مجوسية العرب أو غيرهم فإن الجزية تؤخذ منه ولا تؤخذ الجزية ـ في هذين المذهبين ـ من غير هذه الأصناف فهي خاصة في اليهود والنصارى والمجوس.
لأن الله تعالى قال: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون]
وقد أمرنا بقتال الكفار، قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة] وقال: [وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة] وليس في ذلك ذكر للجزية.
قالوا: وأما المجوس فقد ثبت الدليل بأخذ الجزية منهم ماثبت في البخاري وتقدم.
قالوا: وإنما فرق بين المجوس وعبدة الأصنام أن لهم كتابا فرفع.
__________
(1) ـ (فتح 2923) ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.(12/57)
روي ذلك عن علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق (1) غير أن السند لا يصح كما قرر هذا ابن القيم وغيره.
قالوا: فإذا ثبت أن لهم كتابا فرفع فإن فيهم شبهة أهل الكتاب.
وعليه: فإن الجزية تؤخذ منهم.
القول الثاني:
وقال الأحناف والمالكية: تؤخذ الجزية من الكفار عامة، فكل الكفار مخيرون بين ثلاثة خصال:إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال.
1 ـ واستدلوا بحديث بريدة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:} فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال {: وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم {فهنا قد ثبت الحكم على وجه العموم. فإنه قال:} فإن لقيت عدوك من المشركين {قالوا: هذا الحديث عام في كل كافر.
2ـ قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها من المجوس وهم عبد النار ولا كتاب لهم.
أما ما روي عن علي فإنه لا يصح. ولو صح فإن العبرة بالحال. فإنهم في الحال لا كتاب لهم وهؤلاء عبدة الأصنام من العرب ومن قريش وغيرهم كانوا أتباعا لإبراهيم عليه السلام ومع ذلك فأنتم لم تروا الجزية عليهم مع أنهم لهم رسول وقد اتبعوه واتبعوا ما معه من صحف ومع ذلك قد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس ولا فرق بينهم وبين عبدة الأصنام من العرب أو العجم.
قالوا: وأما قوله تعالى: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية] فإن هذا قيد لبيان الواقع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه هذه الآية وقد فتح الله عليه بلاد العرب وذلك بعد أن أذل الله له عبدة الأصنام وأمر بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا القيد لبيان الواقع حين شرعته الجزية.
الترجيح:
__________
(1) ـ (عب: 6 / 70) ط. المكتب الإسلامي. تحقيق: الأعظمي.(12/58)
وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم فكل ملة من الملل تخير بين ثلاث خصال:الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوها فالقتال لعموم حديث بريدة المتقدم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه] .
لا يعقد هذا العقد بين المسلمين والكفار إلا الإمام الأعظم أو نائبه أو أحد قواد جيشه ممن خول لهم الإمام ذلك. وذلك لأن عقد الذمّة من الأمور العامة الموكولة للإمام فلا يجوز الافتيات عليه بعقدها دونه وهذا ظاهر.
وعليه فلا يجوز ولا يصح أن يعقده إلا الإمام أو نائبه أو من خوله الإمام من قواد الجيش.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية.. الحديث وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أطاعوا فاقبل منهم {فدل على أنّ قائد الجيش يجوز يجوز له أن يعقد هذا العقد دون الإمام إن أذن له الإمام بذلك.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا جزية على صبي ولا امرأة]
الجزية لغة:
… مأخوذة من الجزاء؛ لأنها جزاء للكافر وجزاء للمسلم؛ جزاء للكافر على كفره فهي عقوبة على الكفر، وجزاء للمسلم على حفظه دم الكافر وصيانة ماله أي ثواب فهي ثواب للمسلم وأجرة على ما يقوم به من حفظ دم الكافر وماله.
وهي جزاء على الكافر أي عقوبة له على كفره فإنها إنما تضرب عليه إذا امتنع عن الإسلام.
الجزية شرعا:
… مال يؤخذ من الكافر على جهة الصغار عليه بسبب عقد الذمة.
وقد تقدم تعريف عقد الذمة.
* أما الصبي فلقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ فيما رواه الخمسة بإسناد صحيح وقيد ذكره في باب (زكاة البقر) ومنه:} ومن كل حالم دينارا أو عدله معافريا { (1) أي من كل بالغ، فهذا يدل على أن غير الحالم وهو الصبي لا تؤخذ منه الجزية.
__________
(1) ـ (ت: 566، ن: 2407،د:1345، حم: 21112)(12/59)
وأما المرأة فلما ثبت في البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد أن يأخذوا الجزية وألا يأخذوها من النساء والصبيان (1) .
وهكذا كل من لا يقاتل المسلمين من الرهبان المعتزلين في صوامعهم لعبادتهم الذين ليس لهم رأي ولا مكيدة في الحرب.
وذلك لأن الجزية لصيانة الدم من أن يهدد فإنه يخير بين الإسلام وبين الجزية وبين القتل ومعلوم أن هؤلاء لا يقتلون وعليه فلا تؤخذ منهم الجزية.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا عبد] .
لأنه مال كسائر مال سيده فكما أن الكافر لايؤخذ منه على مسكنه وعلى تجارته الجزية، فكذلك لا يؤخذ من رقيقه. ولأن العبد لا مال له فلا تؤخذ من العبد وإن كان سيده كافرا. قد حكى ابن المنذر الإجماع على هذا.
ولكن هنا رواية عن الإمام أحمد: أن الجزية تؤخذ من العبد واستدل: بما روى البيهقي في سننه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تشتروا رقيق أهل الكتاب فإن عليهم خراجا) (2)
لكن السند فيه سفيان العقيلي لم يوثقه سوى ابن حبان.
والمشهور عن الإمام أحمد أن العبد لا تؤخذ منه الجزية وهو الراجح. لأنه مال فأشبه سائر مال سيده ولأن العبد لا يجب عليه واجب مالي لأنه لا مال له.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا فقير يعجز عنها] .
فالفقير الذي يعجز عن دفع الجزية لا تؤخذ منه قال تعالى: [لا يكف الله نفسا إلا وسعها]
وهذا هو مذهب جمهور العلماء للأمة المتقدمة.
إذن: تؤخذ الجزية من المكلف الذكر الحر الذي هو من أهل القتال.
فأما غير المكلف وهو الصبي والمجنون وغير الحر وهو العبد، وغير الذكر وهي الأنثى ومن ليس من أهل القتال كالأعمى والزمن والراهب المعتزل في صومعته فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية لأنهم غير مقاتلين، والجزية إنما شرعت لصيانة دمهم. ودمهم مصون في الأصل فلم تجب عليهم الجزية بعد ذلك.
__________
(1) ـ (هق: 9 / 198)
(2) ـ (هق: 9 / 140)(12/60)
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلا أخذت منه في آخر الحول] .
أي بالحساب. صورة هذا:
بلغ الصبي في نصف السنة فإنها تؤخذ منه الجزية في آخر الحول بالحساب فلا يؤخذ منه حينئذ إلا نصف الجزية.
وذلك لئلا يفرد وحده فيشق. فكوننا ننظر حتى يحول الحول على بلوغه ثم يعطي الجزية منفردا هذا فيه مشقة وذريعة لفوات ذلك إما بإهمال أو نسيان أو غير ذلك.
بخلاف ماإذا كان لها وقت واحد تجمع فيه من سائر الكفار فإن هذا مظنة لحصولها وعدم فواتها.
ومن أسلم منهم فإنها تسقط عنه. ولو كان ذلك بعد الحول فلو أن رجلا أسلم أثناء الحول أو بعد مضي الحول وما بقي إلا أن يدفعها لعاملها فإنها تسقط عنه.
وذلك لأن الجزية تؤخذ مع صغاروالمسلم لا صغار عليه وهي إذلال وعقوبة على الكفر وحيث أسلم فإنه لا يدفعها لأن المسلم لا صغار عليه.
ـ ومن مات وقد وجبت عليه فإنها تؤخذ من تركته إذا مضى الحول.
فإن لم يتم عليها حول فبحساب ذلك. فتؤخذ من التركة لأنه حق مالي للمسلمين متعلق بالتركة بعد الموت كسائر الحقوق التي تتعلق بالتركة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم] .
فإذا بذلوا الجزية فلا يجوز القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} فإنْ هم أجابوا فاقبل منهم {وقد قال تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فجعل إعطاءهم الجزية غاية فيحث أعطوا الجزية فلا يجوز أن يقاتلوا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمتهنون عند أخذها ويطال وقوفهم وتجر أيديهم] .
يمتهنون امتهانا بليغا عند أخذها صغارا لهم، فيكون الآخذ جالسا ويكون الدافع قائما مطأطئ الرأس ذليلا.
(ويطال وقوفهم) فيقال له: انتظر. ويطال وقوفه كثيرا إذلالا لهم وصغارا.
(وتجر أيدهم) أي لا تؤخذ منهم بسهولة بل تجذب يده جذبا شديدا عند أخذ الجزية منه.(12/61)
قالوا: لقوله تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] أي أذلاء فلا بد وأن يدفعوها على هيئة يكونون فيها أذلاء. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
والراجح: خلاف ذلك وأن هذا لا أصل له في كتاب الله ولاسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمل الصحابة فإن هذا لم ينقل عنهم.
وإنما الصغار المذكور في الآية هو مجرد إذلالهم بإعطائهم الجزية. وقبولهم التزام الشريعة الإسلامية في الجملة فهذا إذلال ظاهر لهم.
ولذا فإن بني تغلب وكانوا من العرب أبوا أن يعطوا الجزية وقالوا: بل ندفعها صدقة ونقول: هي صدقة. فقبل ذلك منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بشرط أن تكون ضعف صدقة المسلمين (1) .كما ثبت هذا في مصنف بن أبي شيبة وغيره.فاستنكف هؤلاء عن دفع الجزية لأن مجرد دفعها صغار وذلة والتزامهم أيضا بشريعة أخرى لا يدينون بها صغار وذلة
وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية وقد أنكر هذا القول النووي في روضة الطالبين وبيّن أنه لا أصل له في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عمل خلفائه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ. وهو كما قال.
الترجيح:
فالراجح هو خلاف هذا، وأن الجزية تؤخذ منهم برفق وإحسان والشريعة تأمر بالإحسان وفي ذلك دعوة لهم إلى الإسلام.
مبحث: في مقدار الجزية:
وفيه أقوال:
القول الأول:
وهو المشهور عند الشافعية أن الجزية دينار.
__________
(1) ـ (خلاصة البدر المنير لابن الملقن: 2/ 356) [2618] أن عمر ـ رضي الله عنه ـ طلب الجزية من نصارى العرب وهم تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الزكاة فقال عمر هذا فرض الله على المسلمين فقالوا زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة ذكره الشافعي وقال قد حفظه أهل المغازي وساقوه أحسن سياق. وانظر (نصب الراية: 2 / 362) .(12/62)
لحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ المتقدم، وفيه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا.
القول الثاني:
وهو للمالكية: على الغني أربعة دنانير وعلى الفقير دينار.
واستدلوا بما ثبت في سنن البيهقي (1) ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضرب الجزية: أربعة دنانير أو أربعين درهما ـ وهي عدل الدنانير من الدراهم.
القول الثالث:
وهو مذهب الأحناف ورواية عن الإمام أحمد أنه يؤخذ منه ألغني ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما، ومن الفقير اثني عشر درهما. وفي ذلك أثر رواه البيهقي في سننه.
القول الرابع:
وهو رواية عن الإمام أحمد وهو الصحيح في المذهب ـ كما قال صاحب الإنصاف ـ وهو مذهب الثوري وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنها تؤخذ على حسب ما يراه الإمام؛ فمردّ ذلك إلى الإمام.
لأن هذه المسألة تختلف باختلاف الأزمان واختلاف الناس غنى وفقرا واختلاف أراضيهم وأحوالهم فكان مرجع ذلك إلى الإمام.
ويدل عليه: اختلاف الآثار المتقدمة. ولذا فإنها ضربت على أهل اليمن دينارا وعلى أهل الشام أربعة دنانير.فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضربها على أهل الشام أربعة دنانير كما في الأثر المتقدم وضربها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل اليمن دينارا، ولذا قال مجاهد كما في البخاري لما سئل: (ما بال أهل الشام تؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير وأهل اليمن تؤخذ منهم دينارا؟) فقال: (إنما فعل ذلك من أجل اليسار) أي من أجل الغنى. فلما اختلفوا في الغنى اختلفوا في الجزية.
وهذا يدل على أنه ليس هناك مقدار ثابت بل يختلف باختلاف الناس غنا وفقرا وباختلاف أحوالهم وأماكنهم وهذا القول هو الراجح.
* مسألة: عقد الذمة عقد باق لا يجوز تغييره.
هذا هو المشهور في المذاهب.
__________
(1) ـ (هق: 9 / 195) .(12/63)
وهناك قول آخر اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: وهو أن عقد الذمة يجوز تغييره للمصلحة.
وهذا هو الظاهر.
فإذا اختلفت المصلحة باختلاف الأزمان فيجوز للإمام أن ينقض هذا العقد معهم ويعلن الحرب ويمهلهم حتى يستعدوا للحرب. وذلك لأن المصلحة قد زالت.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] .
يلزم الإمام أخذ الذميين بشرائع الإسلام في النفس وفي المال والعرض؛ في النفس كالقتل والجناية على طرف من الأطراف فالسن بالسن والعين بالعين، فمن قتل ذميا من جنسه قتل به، ومن جنى على ذمي من جنسه اقتص له منه وهكذا.. وكذلك في الأموال في حماية الممتلكات فمن أتلف مالا لآخر فإنه يضمنه. وكذلك في العرض في القذف إذا قذف ذمي ذميا آخر بالزنا أو قذف مسلما فإن حكم الله يقام عليه.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله] .
تقام عليهم الحدود.
1 ـ وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما (1) .
2ـ وفي الصحيحين أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين واعترف فأتي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر أن يرض رأسه بين حجرين (2) .
3 ـ وقد قال الله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله]
__________
(1) ـ (فتح: 6320، م: 3211) .
(2) ـ (فتح: 2236) ك: الخصومات.ب: ما يذكر في الأشخاص والخصومة.َ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (م: 3167) .(12/64)
وقيده المؤلف هنا بما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة فإن الحدود تقام على الذميين من قبل الحاكم المسلم إن كانوا يعتقدون التحريم، أما إن كانوا يعتقدون حل الخمر ونكاح المحارم فإن الشريعة لا يُحكم بها عليهم، لكن يُمنعون من إظهاره بين المسلمين لما فيه من أذية المسلمين وإظهار المعصية فإن أظهروه فللإمام أن يعزرهم عقوبة لهم على إظهار المعصية في بلاد الإسلام
أما مسائلهم التي هي من شؤونهم الخاصة كالأنكحة والطلاق والظهار وغيرها وما ألحق بها من المسائل الأسرية فإنه لا يحكم عليهم بالشريعة الإسلامية إلا أن يتحاكموا إلينا فإن تحاكموا إلينا فللإمام أن يحكم بينهم بما أنزل الله. وله أن يعرض عنهم.
قال تعالى: [فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا]
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزمهم التميز عن المسلمين] .
فيجب أن يتميزوا عن المسلمين بملابسهم ومراكبهم وأسمائهم وكناهم … فلا يكونوا على هيئة تختلطون فيها بالمسلمين اختلاطا لا يميزون به عنهم. وذلك لأن هذا ذريعة إلى أن يعاملوا معاملة المسلمين، ومعاملتهم معاملة المسلمين محرم،بل لهم معاملة تخصهم ولا يمكن أن يعاملوا المعاملة الشرعية التي تخصهم إلا بأن يكونوا متميزين عن المسلمين، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويجب على المسلم أن يعاملهم معاملة الكفار ولا يمكن هذا إلا بأن يكونوا على هيئة يتميزون بها عن المسلمين فوجب أن يميزوا.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولهم ركوب غير الخيل بغير سرج بأكاف] .
الأكاف: هو كساء يوضع على المركوب.
والسرج كذلك لكن السرج فيه زينة. ويركبه أهل الشرف والعلو سواء كان علوا جائزا أم غير جائز.
وأما الأكاف فهو مجرد كساء يوضع على الدابة فتركب.(12/65)
فينهى أهل الذمة عن ركوب الدواب التي فيها علو وشرف فإنها قد تكون طريقا إلى خيلائهم وفخرهم على فقراء المسلمين ولأنها مركوبات علو وشرف، وهم ليسوا بأهل علو وشرف. بل هم أهل ضعة حيث خالفوا شرع الله وقد قال تعالى: [وهم صاغرون]
وفي الدارقطني من حديث عائذ بن عمرو والحديث حسن بشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} الإسلام يعلو ولا يعلى عليه { (1) .
فينهون عن ركوب الخيل ويؤذن لهم بالجمل والبغل والحمير وغير ذلك من المركوبات وهنا كذلك في هذه الأزمان فالسيارات الفاخرة يمنعون منها وأما ما يركبه أوساط الناس أو دونهم فإن هذا لا حرج عليهم بركوبه.
إذن: ينهون عن ركوب الخيل وعن وضع السرج لما فيه من العلو والشرف وقد يكون فيه استطالة على ضعفة المسلمين.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس] .
للعلة المتقدمة فإن المجالس إنما يصدر لها أهل العلو في الدنيا أو أهل الديانة والصلاح أما هؤلاء فليسوا كذلك بل هم صاغرون. ولا شك أن تقديرهم وإكرامهم هذا التقدير والإكرام الزائد حيث يوضعون في صدور المجالس يخالف المقصود. وليس المقصود أن يمتهنوا لكن أن يكونوا في وسط الناس فلا يرفعون على الناس في المجالس فيوضعون في أفضلها بل يجلسون كعامة الناس لأن هذا مجلس شرف وعلو وهم ليسوا كذلك بل هم أهل صغار والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا القيام لهم] .
فإذا قدموا فلا يجوز القيام لهم للتحية بل يحيي وهو جالس لما في القيام لهم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم وهذا يناقض ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من عدم إكرامهم الإكرام الذي يعامل به أهل الشرف والمقام العالي.
__________
(1) ـ (قط: 3 / 252، هق:6 / 205، طح: 3 / 257) وحسنه الحافظ في الفتح (3: 220) .(12/66)
ولذا ورد في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ { (1) .
فهذا يدل على أنهم لا يعطون شيئا من الإكرام بل يضيق عليهم الطريق.
ويقاس على ذلك هذه المسألة وهي أنه لا يقام لهم وكذلك لايصدّرون في المجالس.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا بداءتهم بالسلام] .
فلايبدؤون بالسلام للحديث المتقدم} لاتبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام {ولاما يشبه السلام كقوله: (كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟) وغير ذلك من الألفاظ التي قد تكون في النهي أعظم أثرا من السلام فإن السلام يلقى على الخاص والعام أما مثل هذه الأسئلة فإنها توجه إلى الخاص فالمقصود أنه لايبدؤهم بتحية إنما يبدؤون هم بالتحية للحديث المتقدم فإذا ابتدؤوه بالتحية أجابهم. قال تعالى: [وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها] إلا أن يُخشى أن يكون في سلامهم شيء من التعريض كما كان يقع من اليهود في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يحييهم بما كان يجيب به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اليهود فيقول: (وعليكم) . كما ثبت هذا في الصحيحين من حديث عائشة (2)
* مسألة: في تهنئة أهل الكتاب:
وهل تجوز تهنئتهم بما يجوز أن يهنّأ به المسلمون؟ كمولود أو ربح تجارة..لا بما لايجوز كالتهنئة بأعيادهم فإن التهنئة بها إقرار لهم على باطلهم فهي باطل.
لكن إن هنّأهم على أمر جائز في الأصل كتهنئة بمولود أو نحو ذلك أو يعزيهم في مصابهم أو أن يشيع جنائزهم أو يعود مرضاهم، فهل يجوز هذا أولا؟
قولان، هما روايتان، عن الإمام أحمد.
الرواية الأولى:
__________
(1) ـ (م: 4030) ك: السلام. ب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
(2) ـ (فتح: 2718،5565،5570،5786 وم: 4027) .(12/67)
وهي المشهور في المذهب: أن ذلك لايجوز.
الرواية الثانية:
أن ذلك يجوز لمن رُجي إسلامه.وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الراجح في هذه المسألة لما ثبت في البخاري أن غلاما ليهودي كان يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعوده فقال له:} أسلم {فأسلم (1) .
وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد أباطالب كما في الحديث المشهور ودعاه إلى الإسلام.
فلا بأس من تهنئتهم بالأشياء الجائزة وعيادة مرضاهم إن رجي إسلامهم أي إن كان في ذلك مصلحة للدعوة.
وإلا فإنهم يهجرون في معصيتهم. لكن إن ثبتت المصلحة الشرعية في عيادة مريضهم واتباع جنائزهم وغير ذلك فلا بأس به إن رجي إسلامهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنعون من إحداث كنائس وبيع] .
بالإجماع، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.
__________
(1) ـ (فتح: 1268) ك: الجنائز.ب: إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ولفظه: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".(12/68)
وذلك لأن إحداث الكنائس والبيع إظهار لشعيرة الكفر ولا يجوز الإقرار على ذلك، فلا يجوز أن يقروا على شعيرة من شعائر الكفر وإحداث الكنائس كذلك. فلايؤذن لهم ببناء كنائس بناء جديدا. لكن إن كانت الأرض لهم كأن يقع صلح بين المسلمين والكفار فتكون الأرض للكفار فإن ذلك لا يمنعون فيه لأن الأرض لهم، إلا أن يشترط ذلك عليهم المسلمون، فإن اشترط عليهم المسلمون ألا يحدثوا كنيسة ولا بيعة فإنهم يجب عليهم أن يلتزموا بذلك وعلى المسلمين منعهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وبناء ما انهدم فيها] .
إذا فتح المسلمون بلدا وفيها كنائس فأقرت هذه الكنائس على بناياتها يتعبد هؤلاء بها فإذا حصل فيها انهدام فهل يؤذن لهم ببنايتها من جديد؟
قال المؤلف هنا (يمنعون من اصلاح ما انهدم فيها) وهذا هو المشهور في المذهب.
والوجه الثاني أن ذلك جائز وهذا هو الأرجح.
لأن تجديد البناء استدامة لاإنشاء والاستدامة جائزة فهذا الكنيسة يجوز أن تبقى مستمرة مادام أنها كانت موجودة أثناء العقد بين المسلمين وبين الذميين , وتجديد بناياتها إذا انهدمت استدامة وليس بإنشاء.
وهذا هو مناط المسألة: أن يقال: إذا انهدمت الكنيسة فهل بناؤها إنشاء أو استدامة؟
إن قلت: هو إنشاء، فإنه لا يجوز لهم لأن هذا كبناء كنيسة جديدة. وهذا لايجوز.
وإن قلت: هو استدامة ـ وهذا هو الأظهر ـ فإن ذلك جائز لهم، لأن هذا الموضع من الأرض قد أُقر أن يكون كنيسة لهؤلاء الذميين فحيث حصل فيه انهدام فإنه لم يزل موقعا للكنيسة ومعبدا فإذا بني من جديد فلا يعدو الأمر إلا أن يكون استدامة لهذه الكنيسة.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولو ظلما] .
لو اعتدى بعض المسلمين ـ وهذا أمر لا يجوز ـ فقاموا بهدم كنيسة من كنائس الذميين التي قد أقرها الإمام بالعقد الذي بينه وبين الذميين فإذا هُدمت فلا يجوز أن يبنوها مرة أخرى.(12/69)
الأَولى أن يقال بجواز ذلك كما قال صاحب الفروع،لأن هذا استطالة عليهم، وإزالة حق لهم بغير وجه شرعي صحيح فلا مانع من إعادة بنائه مرة أخرى. وقد أزيل ظلما لهم.
وعلى الترجيح المتقدم وأن بناء الكنيسة بعد انهدامها وإصلاحها استدامة لها لا إنشاء لا إشكال في هذا القول، وأنه سواء كان ظلما أو غير ظلم فإن لهم أن يبنوها من جديد وليس للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك، إلا أن يكون هناك شرط بين الإمام وأهل الذمة أن ما انهدم من الكنائس فإنه لا يبنى، فإنهم يمنعون من ذلك لأن الناس على شروطهم فيمنعون أن يبنوا ما انهدم مادام هناك شرط بينهم وبين الإمام.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن تعلية ببناء على مسلم] .
لا يجوز أن يقر الذمي على بنيان بيته بحيث يكون فيه علو على بيوت المسلمين للمعنى المتقدم فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن البيوت العالية هي بيوت أهل العلو والشرف وهم ليسوا كذلك فهم أهل ذلة وصغار كما تقدم. بل يمنعون من البيوت العالية مطلقا وإن لم تكن مجاورة لبعض بيوت المسلمين لأنهم بيوت عالية يسكنها أهل الشرف والعلو وهم يمنعون من فعل ما فيه علو وشرف كما تقدم.والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
واستثنى الحنابلة فيما إذا اشترى الذمي بيتا من مسلم وفيه علو وارتفاع فإن ذلك جائز وهذا قول ضعيف، ولذا قال ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ: إن هذه المسألة أُدخلت في المذهب غلطا محضا وأنها لاتوافق أصول المذهب ولا فروعه. إذ لافرق بين أن يبني الذمي بيتا عاليا شاهقا يعلو به على المسلمين أو على طائفة منهم وبين أن يشتري هذا البيت من مسلم ثم يسكنه على هذه الهيئة. لا فرق بين المسألتين فإن المفسدة حاصلة منهما جميعا
ومثل ذلك الاستئجار فإن استئجار البيوت العالية ممنوع عليهم.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا مساواته له] .(12/70)
فإذا بنى بيتا يساوي بيت المسلم ولو كان هذا البيت الذي قد بناه بيت عال فلا بأس ما دام أنه على مساواة البيوت التي قد بناه من حوله من المسلمين.
الوجه الثاني في المذهب:
أن ذلك لا يجوز. وهذا هو الأرجح.
وذلك لأن البيت المساوي لبيت المسلم وفيه علو قد حصل له به العلو والشرف، وهو ممنوع عليه وإن كان ذلك مساويا للمسلمين كما يمنعون من ركوب الخيل وإن ركبها
المسلمون كما يمنعون من وضع السرج وإن وضعها المسلمون فكذلك يمنعون من البيوت العالية المرتفعة التي إنما يسكنها أهل الشرف والجاه والمنزلة وإن كانت بيوت المسلمين كذلك لأنها بيوت علو وشرف، وهم ليسوا كذلك، وإن كانت أقل مفسدة من البيوت التي هي أعلى من بيوت المسلمين لمنع دخول الاستطالة فيها، فإن الاستطالة ممكنة مادام أن بيوتهم كبيوت المسلمين.
فإذن يكونون في مركوبهم وفي مسكنهم على درجة دون درجة أهل العلو والشرف.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن إظاهر خمر وخنزير وناقوس وجهر بكتابهم] .
لأن الجهر بالمعصية محرم فإظهارالمعاصي محرم وفيه أذية للمسلمين فيمنعون من إظهار شرب الخمر ومن إظهار أكل الخنزير أو وضع المسالخ له أو نحو ذلك وبيعه بالمحلات ويمنعون مما ذكره من الناقوس في كنائسهم ومن الجهر بقراءة كتبهم ومثل ذلك وضع الدعايات لدينهم وتأليف الكتب في ديانتهم ووضع إذاعات للدعوة إلى دينهم كل هذا يمنعون منه لما فيه من إظهار دينهم. والشريعة إنما فرضت عليهم ما يمنع إظهار الدين. ولما فيه إظهار شعائر الكفر من قصد إيذاء المسلمين ومجرد إظهارها يخالف مقصود الشارع.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإن تهود نصراني أو عكسه لم يقرّ ولم يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه] .
إذا كان تحتنا في بلادنا ذميون يهود ونصارى فانتقل اليهودي إلى النصرانية أو النصراني إلى اليهودية فهل يُقر على هذا؟ فيه ثلاثة روايات:
الرواية الأولى:(12/71)
قال المؤلف: (لا يُقرّ) ، وعليه فإن الإمام يحبسه ويعذبه في نفسه وماله حتى يعود إلى دينه أو يدخل في الإسلام ولا يقتل لشبهة العقد الذي بيننا وبينهم من حفظ دمه وماله لكنه يلزم بأحد الأمرين. وإلزامه أن يرجع إلى دينه قول غريب.
الرواية الثانية:
ورد عن الإمام أحمد أنه يلزم بالإسلام فإما أن يسلم وإما أن يبقى على ماهو عليه بالضرب والتأديب وغير ذلك. لأن في إرجاعه إلى النصرانية شيء من الإقرار الظاهر له. وفي إلزامه أن يعود إليها تأييد لها فيبقى الإلزام بالإسلام.
الرواية الثالثة:
وعن الإمام أحمد وهو أظهرها أنه يقرّ مطلقا؛ فله أن يرجع من اليهودية إلى النصرانية ومن النصرانية إلى اليهودية أو غيرها من ملل الكفر وذلك لأن العقد الذي بيننا وبينه هو إقراره على الكفر والكفر ملة واحدة.
ثم في الحقيقة فاليهودي والنصراني وعابد الوثن وعابد النار في الحقيقة ملة واحدة قال تعالى: [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض]
فالراجح:
أنه يُقرّ، وأن له أن ينتقل إلى أي دين شاء. لأنه إنما أُقر على الكفر أصلا بالشروط المتقدمة ولافرق بين أن يبقى على ديانته النصرانية أو ينتقل إلى اليهودية أو العكس لافرق بين هاتين الملتين أو غيرهما.
إذن هنا ثلاثة أقوال أرجحها القول الأخير.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [فإن أبى الذمي الجزية أو التزام حكم الإسلام أو بغى على مسلم بقتل أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو ذكر الله أو رسوله أو كناية بسوء انتقض عهده] .
إذا أبى الذمي بذل الجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو كان منه اعتداء على المسلمين بقتل أو قطع طريق أو زنا أو سبّ الله ورسوله أو دين الإسلام أو كتاب الإسلام فإن عهده ينتقض مطلقا، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
القول الثاني:(12/72)
وذهب الشافعية إلى التفصيل في هذا وأنه إن أبى أن يلتزم بالجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو فعل ما يناقض عهد الذمة كالقتل فإن عهده يُنقض وما سوى ذلك فإن حكم الإسلام يُقام عليه إن كان حدا أو قصاصا أو تعزيرا. إلا أن يكون قد اشترط فإن هذا الشرط يعمل به بمعنى: إن قيل للذميين أثناء العقد متى ما فعلتم القتل أو الزنا أو آويتم جاسوسا أو نحو ذلك فإن العهد ينتقض ولاذمة لكم فإن الناس على شروطهم.
فمذهب الشافعية هو التفصيل فإن أبى بذل الجزية أو التزام الشريعة فإن عهده ينتقض وذلك لأنه لا قوام لعهد الذمة إلا بهما. فإن عقد الذمة لايصلح إلا بهما.
قالوا: وكذلك إذا كان ما فعله يخالف وينافي مقتضى العقد ـ وهو فيما إذا قاتلنا ـ فإذا قاتل الذمي المسلمين أو سعى في قتالهم فإن عهده ينتقض وذلك لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين وحيث وقع من الذميين قتال فإن هذا ينافي ويخالف العقد الذي بيننا وبينهم وهو عقد الذمة الذي مقتضاه الأمان من الجانبين أما ماسوى ذلك فيحكمون بما أنزل الله وهذا هو الراجح إذ لادليل على انتقاض العقد بماذكروه مع إبرامه وثبوته.
وما ذكروه فإن مثله في الغالب يقع من اعتداء على الأعراض أو على النفوس في المجتمعات الكبيرة.
وإذا سب الذمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا فإنه يقتل من غير استتابة كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الصارم المسلول وهكذا إن قتل نفسا أو زنا فإنه يقام عليه الحدّ فالأصل هو بقاء عقد الذمة فلا ينتقض إلا بدليل.
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [انتقض عهده دون نسائه وأولاده] .
أي عهده هو دون نسائه وأولاده وذلك لأنه لم يحصل منهم ما يوجب النقض وحصوله من عائلهم لا يوجب النقض منهم [لا تزر وازرة وزر أخرى] فلا يكونون حربيين لكون من يقوم بشأنهم قد ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين بل يعطي لهم ذمة الله ورسوله.(12/73)
* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وحلّ دمه وماله] .
(حل دمه) : أي أصبح في حكم الحربيين، لأن حفظ دمه إنما كان للعهد الذي بينه وبين المسلمين وحيث إنه نقض العهد فقد أصبح دمه حلالا لا حرمة له.
وحينئذٍ فالإمام مخير فيه بين أربعة خصال. القتل والفداء والمنّ والاسترقاق.
فللإمام الخيار بين هذه الخصال لأنه أصبح كالأسير الحربي.
(وماله) : أيضا ماله يكون حلالا لأن الحربي ماله حلال وهو حربي.
فإن قيل: فلم لا يكون لنسائه وأولاده؟
الجواب: أنه إنما يكون لنسائه وأولاده بسببه، وهنا لم يقع سببه، وسببه هو الموت، فإذا مات انتقل إلى نسائه وأولاده إرثا وهنا لم يمت، هو مال له، فحينئذٍ يتبعه في عدم الحرمة فيكون فيئا لبيت المال. لأنه تبع له ولا ينقل لهم إلا بطريق شرعي من إرث أو غيره وهنا الطريق لم يثبت فبقي المال فيئا.
استدراكات: ولم يتكلم المؤلف في كتاب الجهاد عن مسألة الأمان والهدنة.
وسنتكلم عليهما إن شاء الله تعالى تباعا.
الأمَان
لغة: من الأمن وهو ضد الخوف، والمستأمَن أو المستأمِن: هو من رفض استباحة دمه وماله ورقه ودخل ديار الإسلام.
ومن أحب من المشركين أن يسمع كلام الله في البلاد الإسلامية ويتعلم الإسلام فإنه يجب أن يؤمّن. قال تعالى: [وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه] إذا سمع كلام الله فإنه يبلغ مأمنه فيحفظ في طريقه حتى يصل إلى الموضع الذي يؤمن به من المسلمين.
* وعقد الأمان يصح من كل مسلم مكلف ذكر كان أو أنثى حرا كان أو عبدا بشرط أن يكون مختار أي غيرمكره وبشرط عدم الضرر. هذا هو الأمان الخاص.
* نوعا الأمان:
فإن الأمان نوعان خاص وعام.
فالأمان الخاص: هو أن يؤَمَّن رجل أو طائفة من الناس.
وأما الأمان العام: فهو ما يقع لحماية الكثرة من الكفار، كأن يقع لبلدة كبيرة أو نحو ذلك.(12/74)
فالأمان العام لا يكون إلا من الإمام لأن مثل هذه الأمور أمور عامة فتوكل بالإمام فهو الناظر فيها والاعتداء عليه في عقدها افتيات عليه.
والأمان الخاص يشترط عدم الضرر على المسلمين ودليل ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم { (1)
وما ثبت عن عائشة كما في سنن أبي داود: (إن كانت المرأة لتأخذ على الناس) (2) أي لتأخذ الأمان على الناس.
ـ وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأم هانيء:} قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء { (3) متفق عليه.
فإذا أمّن مسلم كافرا فإنه لا يجوز الاعتداء عليه في دمه ولا ماله ... .
واختلف في المميز العاقل على قولين هما قولان في مذهب الإمام أحمد.
القول الأول: وهو مذهب مالك.
أن المميز يصح أمانه لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم {.
القول الثاني:وهو مذهب الجمهور.
أن الصبي لايقع منه أمان. وذلك لضعف يصرفه. ولذا فإن الصبي لايصح تصرفه في ماله فكيف يصح تصرفه في شأن من شؤون المسلمين.
وهذا هو الراجح.لأن الصبي ضعيف التصرف ولذا يكون عليه الولي في ماله فهنا كذلك لايصح أمانه.
ـ وإن اعتدى فقتل معاهَدا أو مستأمنا فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق عليها تعزيرا بالغا.
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل { (4) من أخفر أي نقض عهده
__________
(1) ـ متفق عليه من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ (فتح: 2943،6258، 6756. م: 2433، 2774) .
(2) ـ (د: 2383) ك: الجهاد. ب: في أمان المرأة. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيَجُوزُ.
(3) ـ (فتح: 344، 2935، 5692. م: 1179) .
(4) ـ (فتح: 2943، ك: الجزية. ب:إثم من عاهد ثم غدر)(12/75)
وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا { (1)
الهدنة
هي عقد يقيمه الإمام أو نائبه مع الحربيين مدة محدودة من الزمن بعوض أو بغير عوض وفيها مسائل:
* المسألة الأولى: الدُّور دارن
أن الدور داران؛ دار إسلام ودار كفر.
فدار الإسلام: هي التي يُحكم فيها بالإسلام.وإن كان أكثر أهلها يهودا أو نصارى.
وأما دار الكفر: فهي الدار التي لايحكم فيها بشرع الله وإن كان أكثر أهلها مسلمين.
ودار الكفر قسمان:
الأولى: دار حرب: وهي التي ليس بين المسلمين وبينها عقد ولا ذمة.
الثانية: دار عهد: وهي التي بينها وبين المسلمين عهد.
هكذا قسم الفقهاء الدور.
فإذا عقد الإمام مع دار الحرب عقدا لمدة زمنية محدودة سواء بعوض أم بغير عوض فهذه هي الهدنة.
* المسألة الثانية: هل تجوز الهدنة مع الكفار بعوض؟
لا إشكال أنه يجوز أن يكون العوض من الكفار فإنه من جنس الجزية.
لكن: هل يجوز أن يكون العوض من المسلمين؟
القول الأول:
وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي: أن ذلك لا يجوز.
وهذا ظاهر؛ فإن فيه ذلة وصغارا. وهو من جنس الجزية ولا يجوز للمسلمين أن يرضوا بالصغار والذلة وقد أظهرهم الله.
ويستثنى من ذلك ـ كما قرره الموفق وغيره ـ إذا اضُطر المسلمون إلى ذلك فإن الضرورات تبيح المحرمات.
فإذا خشي المسلمون على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وبلادهم وكان للكفار سطوة وقوة والمسلمون على ضعف فيجوز إقامة الهدنة بعوض من المسلمين من باب الوقوع في المفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى.
* المسألة الثالثة: في مدة الهدنة
__________
(1) ـ (فتح: 2930، ك: الجزية. ب: إثم من قاتل معاهدا بغير جزم)(12/76)
ثبت في السنة ـ كما في سنن أبي داود ـ والحديث حسن وفيه عنعنة محمد بن إسحاق ـ لكن صرح بالتحديث في سنن البيهقي من حديث المسور بن مخرمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صالح قريشا عشر سنين يأمن فيها الناس.
واختلف أهل العلم: هل يجوز الزيادة على عشر سنين؟ على ثلاثة قوال:
القول الأول: وهو قول الشافعية والحنابلة.
أنه لايجوز ذلك.
لأن الله أمرنا بقتالهم قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة]
وغيرها من الآيات الدالة على وجوب قتالهم. والهدنة تنافي القتال فلا يجوز فيها إلا ما وردت به السنة وهو عشر سنين.
القول الثاني:وهو قول الأحناف.
وهو جواز الزيادة على عشر سنين. وذلك إن ثبتت المصلحة في ذلك.
قالوا: لأن وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها عشر سنوات هذا لامعنى له إلا أن في العشر مصلحة حينئذ وإلا فإن هذا العدد لا أثر له.
وهذا هو الأظهر. وأن إقامة الهدنة مع الكفار أكثر من عشر سنوات جائز وذلك إذا ثبتت المصلحة في ذلك.
القول الثالث:
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ جواز الهدنة مطلقا لكن بشرط أن تكون الهدنة يجوز نقضها وإن كان ذلك ولا بد مسبوقا بإعلام.
وهذا قوي وذلك لأن العقد والهدنة لازمة، فليس للكفار أن ينقضوا وليس للمسلمين أن ينقضوا. أمّا والعقد جائز فإن هذا لامفسدة فيه فمتى رأى المسلمون من أنفسهم القوة على قتال الكفار فحينئذٍ ينقضون ما بينهم وبين الكفار ويعلنون هذا للكفار لاحرج في مثل هذا العقد.(12/77)
فإن رأى الإمام من الكفار أمارات النقض وظهر منهم ما يدل عليه فإن الإمام ينقض عهدهم قال تعالى: [فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] ولكن عليه أن يعلن ذلك وأن يظهره فلا يقاتلهم على حين غرة منهم. قال تعالى: [فإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء] أي انبذ إليهم عهدهم والعقد الذي بينك وبينهم على سواء أي على وضوح وظهور فلا تكن في ذلك خفيا.
وهو إذا قاتلهم على غير ذلك فإن ذلك في الظاهر خيانة ولا ينبغي للمسلم أن يتصف به إذ الله عزوجل لا يحب الخائنين.
* فرع: في مدة الأمان
اختلف العلماء هل يجوز أن يكون عقد الأمان مطلقا، أم لا بد أن يكون مقيدا؟
الجواب:
فمنهم من قال: يجوز أن يكون مطلقا.
ومنهم من منع من ذلك. وقال: غايته سنة. فإذا مضت السنة فإنه يُلزم بالجزية وذلك لأن الله عزوجل أمر بقتالهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا بد وأن يقاتل إلا أن يعطى الجزية وهذا أظهر وأن الأمان لا يكون مطلقا بل يكون عدة يسيرة تقتضيها المصلحة العامة.
* مسألة: في الهدنة:
إذا كان في الهدنة شرط يخالف كتاب الله أو يخالف مقتضى العقد فإن الهدنة لا تصح.
مثال ما يخالف كتاب الله: لو اشترط الكفار أن ترد إليهم النساء المهاجرات قال تعالى:
[لاهنّ حل لهم ولاهم يحلّون لهم] .
وإرجاعهنّ إليهنّ ذريعة إلى الوقوع بهن ….
* ومثال ما خالف مقتضى العقد: أن يشترط أحدهما النقض له , أو يكون لهما كليهما النقض.ومن هنا فإن ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ نوع آخر من الأمان وهو في معنى الهدنة.فلك أن تقول:
الهدنة نوعان: لازمة، وجائزة.
والذي يحكم به أنها لازمة أو جائزة مايقع في العقد بين الكفار والمسلمين.(12/78)
كتاب البيع
البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وأما اصطلاحا فقد عرفه المؤلف وسيأتي.
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على جوازه، أما الكتاب فقد قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأما السنة فالأدلة متواترة على جواز البيع، وقد عقد الأئمة في مؤلفاتهم في الكتب الستة أبوابا في البيع، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جوازه، والمصلحة تقتضي ذلك، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض، ولو لم يشرع البيع لوقع الناس في حرج عظيم، ولسلك الناس الطرق المحرمة للحصول على ما في أيدي الناس من الأموال، فكان جوازه دفعا للحرج.
قوله [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض]
قوله (مبادلة) المبادلة هي إعطاء شيء في مقابلة شيء آخر، فهذا يعطي الآخر المال، وذلك يعطيه السلعة.
قوله (ولو في الذمة) سواء كان المال معينا أو في الذمة، والمال المعين: هو المال المشار إليه، كأن يقول: بعتك هذا الثوب، فهذه سلعة معينة، أما لو قال: بعتك ثوبا صفته كذا، فهذا بيع في الذمة، وليس المراد النسيئة، فإن النسيئة فيها معنى التأجيل، ولكن المراد: أن السلعة التي وقع عليها البيع ليست معينة بل موصوفة، ومثل ذلك الثمن، فإذا قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدنانير، فالدنانير التي هي عن الثوب معينة، أما إذا قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دنانير، والدنانير غير معينة، فهي في الذمة، فالمال سواء أكان معينا أم في الذمة فإن التعاقد عليه يقع في البيع.(13/1)
قوله (أو منفعة مباحة كممر في دار) فالمنفعة المباحة يقع عليها البيع، مثاله: ما ذكره المؤلف وهو أن يبيع ممرا، فلو أن رجلا بين داره وبين الشارع أرض لرجل آخر، فاشترى منه المرور ليتمكن من الوصول إلى الشارع، فهنا قد اشترى منه المرور، فهو لا يملك الأرض قرارها وهواءها، لكن هو يشتري المرور على هذه الأرض، فلم يقع التبايع على شيء لا مال معين ولا مال في الذمة، وإنما وقع على منفعة مباحة، ومثال آخر: أن يحتاج إلى أن يحفر بئرا في أرض عند داره، فيشتري من جاره هذه المنفعة، فيقول: احفر في أرضك بئرا بكذا وكذا من المال، فلا يكون من باب الإجارة، بل يكون البئر ملك له دائم، ولصاحب الأرض أن يبني فوقه لأنه يملك الهواء، وهذا إنما ملك هذا الحفر الذي حفره وانتفع به، وأما أصل الأرض وهواؤها فإنه لا يملكه، فهذا نوع ثالث، فالنوع الأول: مال معين، والنوع الثاني: مال في الذمة، والنوع الثالث: منفعة مباحة، وحينئذ تكون الصور تسعا، أي ثلاثة في ثلاثة وهي:
1- مال معين بمال معين.
2- مال معين بمال في الذمة.
3- مال معين بمنفعة مباحة.
4- مال في الذمة بمال معين.
5- مال في الذمة بمال في الذمة.
6- مال في الذمة بمنفعة مباحة.
7- منفعة مباحة بمال معين.
8- منفعة مباحة بمال في الذمة.
9- منفعة مباحة بمنفعة مباحة.
وقد قيد المؤلف المنفعة بكونها مباحة، فدل على أن المنفعة المحرمة لا تجوز، فلو اشترى منه الممر ليكون له حانة خمر، أو دار زنا أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز، لما سيأتي في شروط البيع، وأن الذي يقع عليه العقد لا بد أن يكون مباحا.
قوله (بمثل أحدهما) كما تقدم فتكون الصور تسعا.(13/2)