أن المستحب للمصلي أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. فقد ثبت في البخاري عن سهل بن سعد قال: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (1) ، وفي مسلم من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة) (2) فالمستحب أن يضع يده اليمنى على اليسرى فلا يرسل يديه.
المسألة الثانية:
في صفة الوضع: فيها صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم:
الصفة الأولى: القبض، فيقبض بيمينه على شماله بأن يمسك كف اليسرى بباطن كف اليمنى.
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي من حديث وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة يقبض بيمينه على شماله) (3) .
الصفة الثانية: أن يضع يده اليمنى من غير قبض على كفه اليسرى والرسغ والساعد.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) بلفظ: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (15) وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام.. (401) بلفظ " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر - وصف همَّام حيال أذنيه - ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. "
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في الصلاة (887) ، عن وائل بلفظ: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله ".(5/27)
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي: من حديث وائل بن حجر، وهو حديث طويل وفيه: (وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد) (1)
المسألة الثالثة:
في محل الوضع، هل المستحب أن يده على الصدر أو تحت السرة أو فوقها تحت الصدر؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
1- المشهور عند الحنابلة: أن المستحب أن يضع يديه تحت السرة.
واستدلوا:
بما روى أحمد وأبو داود عن علي قال: (من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة) (2) وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك الحديث، فعلى ذلك إسناده ضعيف جداً.
2- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المشهور عند الشافعية: أنه يضعهما فوق سرته وتحت صدرته (3) .
واستدلوا:
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة (889) بلفظ: " أن وائل بن حجر أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع … ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (120) وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (756) قال: " حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد، عن أبي جُحيفة، أن عليا رضي الله عنه قال: " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ".
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صدره.(5/28)
بما رواه ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) (1) ، والحديث فيه مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف لكن له شاهدان:
الشاهد الأول: عند أحمد مرفوعاً وموصولاً من حديث هُلْب الطائي لكن الحديث ضعيف.
والثاني عند أبي داود من حديث طاووس مرسلاً وسنده صحيح إلى طاووس، ويصلحان شاهدين له فيكون الحديث حسناً بشواهده فالحديث من ثلاثة أوجه.
لكن الاستدلال به على هذا القول فيه نظر؛ لأن أهل هذا القول لا يقولون بأنه يضع يديه على الصدر بل تحت الصدر وفوق السرة.
وإنما يصلح دليلاً لأهل القول الثالث، وهو قول للشافعي وقول إسحاق بن راهوية وهو مذهب لبعض المالكية: أن السنة أن يضع اليدين على الصدر.
وهذا أوجهها لما تقدم فالحديث حسن بشاهديه، ولم يعارضه معارض ينظر فيه، والحديث المتقدم إسناده ضعيف جداً.
فالراجح: أن السنة أن يضع يديه على صدره أي بأن يضعهما قريباً من النحر على عظام الصدر وبين الثندؤتين.
قال: (وينظر مسجده)
هذه سنة من سنن الصلاة وهي أن ينظر إلى مسجده أي إلى موضع سجوده.
قالوا: لأن ذلك أخشع للصلاة، وهو كذلك أبعد عن النظر إلى السماء المنهي عنه وهي حالة يتبين فيها خشوع الأعضاء لله عز وجل، وقد وردت فيها بعض الآثار.
__________
(1) وأخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب 120، (759) قال: " حدثنا أبو توبة، حدثنا الهيثم - يعني ابن حميد - عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاووس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة ".(5/29)
فقد روى البيهقي عن سليمان الخولاني عن أبي قلابة قال: حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين - يعني عمر بن عبد العزيز – قال سليمان: (فرمقت عمر في صلاته فكان ينظر إلى موضع سجوده) (1) والحديث فيه صدقة وهو ضعيف.
لكن له شاهد مرسل عند الحاكم، ورواه الحاكم موصولاً من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد أخطأ بعض الرواة فوصله، وعامة الرواة أنه مرسل، قال الذهبي: " والصحيح مرسل ".
ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} طأطأ رأسه) (2) فهذا يدل على أنه يطأطأ رأسه وحيث كان كذلك فإن بصره إلى موضع سجوده.
إذن: المستحب كما قرر الحنابلة ويد عليه ما تقدم من الآثار ويعضدها المعنى: أن المستحب للمصلي أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، سوى ما يأتي من التشهد من كونه يستحب له أن يرمي ببصره إلى السبابة كما ثبت هذا في صحيح ابن خزيمة وسيأتي.
قال: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)
" سبحانك اللهم ": أي تنزيهاً لك اللهم.
" وبحمدك ": أي وبحمدك سبحتك.
" وتبارك اسمك ": أي كثر خير أسمائك وثبت.
" وتعالى جدك ": أي تعالت عظمتك وشرف قدرك.
" لا إله غيرك ": أي لا إله في الوجود على الحقيقة غيرك.
هذا هو الاستفتاح، فيستحب أن يستفتح الصلاة بشيء مما ورد من الاستفتاحات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [2 / 402] كتاب الصلاة، باب (369) لا يجاوز بصره موضع سجوده (3543) قال البيهقي: " وليس بالقوي ".(5/30)
وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يستفتح صلاته فيقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) (1) الحديث.
وهو ثابت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري (2) وهو ثابت من قول عمر في مسلم منقطعاً ووصله الدارقطني بإسناد صحيح: (أن عمر كان يستفتح بسبحانك اللهم يجهر بذلك يُسمعنا ويُعلمنا) (3)
وقد اختاره الإمام أحمد لكون عمر كان يعلمه الصحابة وإلا فسائر الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، بل السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (122) من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (776) .قال أبو داود: " وهذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب، لم يروه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكروا فيه شيئا من هذا ". سنن أبي داود [1 / 491] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق حديث (775) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يقول: (لا إله إلا الله) ثلاثا ثم يقول: (الله أكبر كبيرا) ثلاثا، ثم (أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ثم يقرأ "، وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي حديث 242، سنن أبي داود [1 / 490] .
(3) قال الإمام مسلم في صحيحه في باب (13) حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) : " حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة: أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب (28) دعاء الاستفتاح بعد التكبير (1138) .(5/31)
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كبر للصلاة سكت هنيهة فسألته فقال: أقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) (1) ، وهي أنواع كثيرة هذا منها.
ولعل عمر إنما كان يستفتح بما تقدم لسهولة حفظه ولما فيه من الوحدانية لله والتعظيم له، ولذلك اختاره الإمام أحمد واستحسن غيره من الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن: الاستفتاح سنة.
والسنة فيه الإسرار كما تقدم من حديث أبي هريرة فإنه قال: (سكت هنيهة) فلم يكن يسمعه، وإلا لم يحتج إلى سؤاله.
وإنما كان عمر يجهر به للتعليم، فحيث كان ذلك بأن يكون الناس محتاجين إلى تعليم فلا بأس به فهو فعل عمر، وإلا فالسنة الإسرار.
ومن مسائله:
أنه إن نسيه أو تركه عمداً حتى شرع في الاستعاذة فلا يشرع له أن يستفتح بعد؛ لأنها سنة وقد فات محلها – كما قرر هذا الحنابلة وغيرهم.
قال: (ثم يستعيذ)
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم للقراءة قال تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (2)
وثبت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استعاذته في الصلاة: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) (3)
همزه: أي الجنون وهو مس الجن.
ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر القبيح، والحديث حسن.
فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (744) ، وأخرجه مسلم (598) في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة. وفيهما: ".. سكت هُنيَّة.. "
(2) تقدم قريبا في الحاشية (158) .(5/32)
فإن استعاذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لقوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
وإن قال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لورود آية أخرى فيه.
وهل هي سنة أم واجب؟
جمهور أهل العلم: أنها سنة، وهي عندهم سنة في القراءة مطلقاً في الصلاة وغيرها.
وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من كبار أصحابه المتقدمين وهو مذهب الظاهرية ومذهب عطاء: أنها واجبة للأمر القرآني: {فاستعذ بالله} وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول قوي.
واختلف أهل العلم هل تشرع الاستعاذة في كل ركعة أم لا تشرع إلا في الركعة الأولى؟
- المشهور عند الحنابلة: أنها لا تشرع إلا في الركعة الأولى، أما في الركعات الثانية فلا يقال باستحباب ذلك وتأكيده فإن فعل فذلك حسن وإلا فلا يقال بمشروعيته كمشروعيته في الركعة الأولى.
واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1)
قالوا: هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بالحمد لله رب العالمين ولا يسكت، والاستعاذة تحتاج إلى سكوت.
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أنه يشرع له أن يستعذ في كل ركعة.
ذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (2) وظاهر الآية أنه يشرع له كلما قرأ أن يستعيذ، وكل ركعة لها قراءتها فإن بين الركعات فواصل من ركوع وسجود وقيام ونحو ذلك وذكر ونحوه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (599)(5/33)
بخلاف سجدة التلاوة، فإن سجدة التلاوة التي تخلل الصلاة من متعلقات القراءة فهي سجدة للقراءة، أما هذا السجود وهذا القيام والركوع في الصلاة فهي منفصلة عنها، فالقراءة ركن كما أن ما تقدم ذكره أركان من أركانها فليست بمتصلة فيها إلا حديث أنها من الصلاة، ففرقٌ بينهما.
وأجابوا عن الحديث المتقدم: بأن قول أبي هريرة: (لم يسكت) أي لم يسكت سكوتاً كسكوته في الركعة الأولى وهو السكوت الذي نقله هنا، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سكوته في الصلاة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (اللهم باعد ….) ، فقد سأله عن تلك السكتة لكونها سكتة خارجية عن طبيعة السكوت الذي يكون الذي يكون قبيل القراءة، وأما المذكور في قوله: (ولم يسكت) أي لم يسكت كسكوته في الاستفتاح ولهذا نجمع بين الآية وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيكون قول أبي هريرة " لم يسكت " أي لم يسكت سكوتاً خارجاً عن السكوت الطبيعي الذي يكون قبيل القراءة للاستعاذة والبسملة، وإنما شرع بالحمد لله رب العالمين لم يسكت كسكوته الأول للاستفتاح فيكون ذلك لنفي الاستفتاح وأنه إنما هو مشروع في الركعة الأولى دون الركعات الأخر.
وهذا القول هو الأرجح وأنه يستعيذ في كل ركعة.
قال: (ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة)
أي يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقولها سراً.(5/34)
أما كونه يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " لما ثبت في النسائي عن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن) وفيه أنه قال بعد ذلك " والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)
ولأن البسملة يشرع أن يفتتح بها السور مطلقاً كما ثبت في مسلم وغيره من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {إنا أعطيناك الكوثر} لما نزلت عليها (2) فقرأ: (" بسم الله الرحمن الرحيم " {إنا أعطيناك الكوثر} …) (3)
وثبت في أبي داود بإسناد صحيح إلى أن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الفصل بين السور إلا إذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم) (4)
فهي مما تفتتح به السور وهو كذلك فاصل بين السور.
ومشروعية البسملة مما اتفق عليه أهل العلم.
" سراً ": لا جهراً، فلا يشرع الجهر بها.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
1- فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل العلم: إلى القول باستحباب الإسرار بالبسملة وعدم مشروعية الجهر بها وهو مذهب الحنابلة.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) (5) .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (21) قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (905) قال: " أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، حدثنا الليث، حدثنا خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: صليت.. "
(2) كذا في الأصل، ولعلها: عليه.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (125) من جهر بها (788) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (743) . ومسلم (399) .(5/35)
زاد مسلم: (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا آخرها) وفي أحمد والنسائي: (لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) (1) وعند ابن خزيمة: (يسرون) (2) .
وثبت في الترمذي من حديث ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أي بني محدث إياك والحدث قال: ولم أر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها " جهراً " فلا تقلها إذا أنت صليت فقل: " الحمد لله رب العالمين " (3) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال وأما ما ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما: أن الحديث فيه جهالة ابن عبد الله، فإن هذا ليس بصحيح، كما قرر ذلك الزيلعي، وأن ابن عبد الله بن مغفل قد روى عنه ثلاثة فزالت عنه بذلك جهالة العين، ولم يأت بحديث منكر بل أحاديثه كلها مستقيمة تجد لها المتابع والشاهد فليس من أحاديثه ما ينكر عليه، وقد حسن حديثه الترمذي وهذا حديث يوافق ما ثبت عن أنس؛ فالحديث حسن لا بأس به.
2- والقول الثاني، وهو مذهب الشافعية فقالوا بمشروعية الجهر بالبسملة.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (22) ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (907) بلفظ: " عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …. فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ".
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (66) ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (244) بنفس اللفظ، قال أبو عيسى: " حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن ".(5/36)
وعامة أدلتهم لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكلها موضوعة أو ضعيفة كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره. إلا ما رواه النسائي وغيره بسنده الصحيح إلى نعيم المجمر: قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن وفيه أنه قال: (إني أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1)
قالوا: فهذا يدل على مشروعية الجهر إذ لو لم يجهر أبو هريرة لم يسمعه نعيم وقد عزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لأشبهكم)
لكن الحديث ليس بصريح في الدلالة:
فيحتمل أن يكون نعيم قد سمعه وهو يسر بها وكان من الصالحين وكان هو الذي يجمر مسجد المدينة فلا يبعد أن يكون قريباً من أبي هريرة فسمعه وهو يقولها، كما سمع رجل أبا بكر في الركعة الثالثة من صلاة المغرب وهو يقرأ {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (2) .
ثم إن نعيماً قد تفرد برواية هذه اللفظة عن سائر الرواة عن أبي هريرة كما قرر ذلك ابن القيم، فكل الرواة لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها نعيم فكانت مظنة الضعف، وقد خالفها ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
وهناك احتمال آخر وهو أن أبا هريرة إنما جهر بها للتعليم، وللإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها كما كان عمر يجهر بالاستفتاح للتعليم.
وقد قال: " إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمشابهة لا تقتضي المماثلة.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) قال شيخنا في شرحه للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه: " كما سمع مَنْ سمع أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو يقرأ: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ، وكان رضي الله عنه يقرأ هذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب كما في موطأ الإمام مالك بإسناد صحيح ". وقد رواه مالك في موطئه في باب القراءة في المغرب والعشاء (170) من كتاب الصلاة.(5/37)
فالأحاديث التي استدلوا بها: إما أحاديث ضعيفة وعامتها كذلك، أو صحيحة وليست صريحة وهذا إنما هو حديث نعيم المجمر مع ما تقدم من تفرد نعيم وهو مظنة الضعيف، وعلى القول بقبوله وتحمل تفرده فله احتمالان:
أن يكون سمعه وهو قريب منه يسرّ بها.
أن يكون إنما جهر بها للتعليم كفعل عمر ولم يخبرهم بذلك لكونهم قد تقرر عندهم عدم مشروعية ذلك وأن هذا من الأمور المحدثة والعلم عند الله تعالى.
قال: " وليست من الفاتحة ":
فهي ليست من الفاتحة كما هو مذهب الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: " أثنى عليَّ عبدي " (1) الحديث
ولم يذكر البسملة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (395) بلفظ: " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أنثى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي - فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .(5/38)
وقد تقدم أنها إنما نزلت للفصل بين السور كما قاله ابن عباس (1) .
ولو قلنا إنها من الفاتحة لوجبت قراءتها وكانت فريضة سواء قلنا بالإسرار أو الجهر، ولقلنا بالجهر بها لأنها أسوة غيرها من آيات الفاتحة.
لكن الراجح ما تقدم وأنها ليست بآية من الفاتحة (2) .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثالث والسبعون
(يوم الثلاثاء: 23 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة)
فيقرأ المصلي فاتحة الكتاب فرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن) (3) متفق عليه.
وقد اتفق أهل العلم على فرضية قراءتها على الإمام والمنفرد.
واختلفوا في حكم قراءتها على المأموم:
- والمشهور في المذهب: عدم وجوب قراءتها عليه، وسيأتي البحث في هذا عند قول المؤلف في باب صلاة الجماعة " ولا قراءة على مأموم "
فإذن: يقرأ الفاتحة بشداتها وآياتها كلها وقد تقدم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليس منها فيقرأ من قوله {الحمد لله رب العالمين} إلى {ولا الضالين} وأما لفظة " آمين " فهي ليست من الفاتحة إجماعاً.
وشدات الفاتحة إحدى عشرة شدة – وإذا أسقط شدة فقد أسقط حرفاً، ومتى أسقطها فقد أنقص في قراءتها.
__________
(1) رواه أبو داود وقد تقدم.
(2) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه " وأما ما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفيه أن البسملة إحدى آياتها، فإن الحديث معلول، والصواب وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر هذا غير واحد من الحفاظ ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) .(5/39)
ويقرأها قراءة عربية لا تحيل المعاني، فإذا قرأها قراءة غير عربية لم تجزئه لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} (1) وقال تعالى: {بلسان عربي مبين} (2) ولا يكون قرآناً إذا قرأ بغير العربية أي ترجم؛ للآية المتقدمة، فإذا قرأ بغير العربية لم يجزئه.
وإذا قرأ بالعربية ولحن فإن قراءته إن كان اللحن فيها يحيل المعاني فإنها لا تصح فإذا قال: {أنَعمتُ} أو {إياك} (3) ونحوها، فإن القراءة لا تصح، لأن هذه تحيل المعاني.
أما إذا كان لا يحيل المعنى فالقراءة لا تبطل به.
ويجب أن يقرأها مرتبة متوالية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها كذلك وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (4) .
فإن كان غير حافظ للفاتحة فيجب عليه أن يتعلمها ما لم يتضايق الوقت، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي على حسب حاله.
* وهنا مسائل يذكرها الفقهاء عند هذه المسألة:
فمنها: إذا كان يحسن من الفاتحة آية فأكثر فإنه يقرؤها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فاتقوا منه ما استطعتم) (6)
وهل يجب عليه أن يكررها بقدر الفاتحة؟
__________
(3) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [1 / 24] : " وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذة مردودة، لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم " أياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم " هياك " بالهاء بدل الهمزة، كما قال الشاعر: فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره ".
(4) أخرجه البخاري رقم (631) في كتاب الأذان / باب (18) وسيأتي في صْ 181.
(5) سورة التغابن.
(6) تقدم، وهو متفق عليه، وقد ذكره النووي في الأربعين.(5/40)
- قال الفقهاء: يجب أن يكررها بقدر الفاتحة سواء كان يحسن غيرها أم لم يكن يحسنه، فإذا كان يحفظ آية فإنه يجب أن يكررها سبعاً، سواء كان يحسن آيات من غير هذه السورة أم لم يكن ذلك.
- وهناك قول في المذهب: أنه يتم قدر الفاتحة فيما يحفظه من القرآن، وهذا أظهر، لأنه إذا قرأ منها ما يحفظه فإنه يسقط فرضه؛ لأن الواجب هو قراءتها وحيث قرأه فإنه يسقط بذلك فرضه حيث قرأه فكان الأولى أن يأتي بآيات أخر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله) (1) فهنا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القول ولم يقيد التكرار في مثل الفاتحة وغيرها، وظاهر إطلاقه أنه يقرأ ما يتمكن منه من القرآن من غير أن يكرر ذلك، بل يقرأ ما أمكنه منه ويسقط عنه الباقي، وحيث أنه يمكنه أن يتم قدر الفاتحة بآيات أخر فإنه يتمها؛ لأن البدل له حكم المبدل منه.
أما إذا كان لا يحفظ منها إلا بعض آية، فإنه لا يقرأ ذلك ولا يكرره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من لا يحسن شيئاً القرآن علمه الذكر، وفيه لفظة " الحمد لله " وهي بعض من آية من الفاتحة ومع ذلك لم يأمره بتكرارها ولم يجعلها قائمة مقام التكرار، بل كانت من الذكر المجزئ عن القرآن.
فإن كان لا يحفظ من الفاتحة شيئاً قرأ من غيرها بقدرها.
والمذهب قولاً واحداً في عدد آياتها أي لا تجزئه إلا أن يقرأ عدد آياتها أي بأن يقرأ سبع آيات.
وهل يجزئه أن تكون هذه الآيات أنقص حروفاً من الفاتحة أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أن الواجب أن تكون بعدد حروفها فأكثر.
القول الثاني: أنه يجزئ أن تكون أقل منها حروفاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (861) .(5/41)
والقول الأول هو الأحوط وهو أن يختار آيات بعدد حروفها فأكثر، أي أن تكون الآيات سبعاً وتكون ما تضمنته من الحروف مساوية لما تضمنته سورة الفاتحة فأكثر؛ لأن الحرف له أثر في القراءة بدليل إن قرأ حرفاً من القرآن كان له حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما ثبت في الحديث (1) هذا هو الأظهر لأن البدل له حكم المبدل منه.
ولو قيل: إنه لا يجب عليه ذلك مطلقاً لا في حروفها ولا في آياتها لكان فيه قوة، لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يكون ذلك بقدر الفاتحة.
إلا أن يقال: إن البدل له حكم المبدل منه وهنا يمكنه أن يقرأ بقدر فاتحة الكتاب وحيث أمكنه ذلك فإنه يجب عليه أن يفعله ليكون ذلك قائماً مقام فاتحة الكتاب وهذا هو الأحوط.
فإن لم يكن معه إلا بقدر بعض الفاتحة، فإنه يكررها كما تقدم.
والأظهر كذلك أنه لا يكرر لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) فأطلق.
كأن يكون رجل يحفظ ثلاث آيات مثلاً من غير الفاتحة فإنه يقرأ هذه الثلاث ويكتفي بها من غير تكرار.
وإن لم يكن معه شيء من القرآن فإنه يجزئه الذكر الوارد، وهو ما ثبت في سنن أبي داود والحديث حسن، من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه فقال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (3)
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) تقدم.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (139) ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة (832) بنفس اللفظ إلا أنه في بدايته قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه.. "(5/42)
فإن لم يحسن شيئاً من ذلك كحديث عهد بإسلام لا يحسن العربية ونحوه فإنه يقف بقدر فاتحة الكتاب لأن الواجب القيام والقراءة وحيث سقطت عنه القراءة فيجب عليه القيام بقدرها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
وإن لقن من خارج عن الصلاة فإن ذلك يجزئه، كما لو فتح أحد على الإمام وهو خارج عن الصلاة فكذلك هنا.
وإن كان يمكنه أن يصلي خلف إمام يحسن الفاتحة وقلنا: إن الفاتحة لا تجب خلف الإمام كما هو المشهور في المذهب، فإنه يجب عليه ذلك.
قال: (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال …)
" بذكر ": كأن يسأل الله الرحمة أو يستعيذ به من النار أو يدعو الله ونحو ذلك.
" أو سكوت ".
" غير مشروعين ": فليس من السنة وليس مما فيه مصلحة الصلاة وليس مما تبطل به الصلاة وسيأتي في بابه.
فمثلاً: قرأ آيتين من الفاتحة ثم يسكت سكوتاً طويلاً عرفاً غير مشروع، أو يتكلم بذكر الله ذكراً غير مشروع طويلاً عرفاً فإن الفاتحة تبطل ويجب أن يعيدها.
إذن: لا تبطل الفاتحة بالقطع إلا إذا كان القطع طويلاً عرفاً وكان القطع غير مشروع.
فعندنا ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يكون القاطع قصيراً عرفاً، كأن يسكت سكتة وإن كانت غير مشروعة أو تكلم بذكر وإن كان غير مشروع وكان يسيراً عرفاً فإن الفاتحة صحيحة ولا يجب إعادتها وهذا القاطع لا يضره لأنه يسير.
قالوا: لأن الواجب في الفاتحة موالاتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
والموالاة ألا يكون هناك قاطع عرفاً، وحيث كان القاطع يسيراً فإن المولاة لا تنتفي بذلك، فالموالاة في الشيء لا تنتفي بالقاطع اليسير.
الحالة الثانية: أن يكون القاطع مشروعاً وهو طويل عرفاً فتصح.(5/43)
مثال: أن يقرأ بعض الفاتحة ثم سكت سكوتاً طويلاً ليسمع قراءة الإمام، فهذا سكوت مشروع له؛ لأنه يشرع أن يستمع قراءة إمامه فحينئذٍ لا تبطل بذلك الفاتحة.
هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر أنه يبطل الفاتحة ويجب عليه أن يستأنفها؛ ذلك لأنه وإن كان مشروعاً لكنه قاطع عرفاً والموالاة تنتفي وهي واجبة، وحيث قطعه بقاطع طويل عرفاً وإن كان مشروعاً فإنها تنتفي.
ومثله على الراجح – خلافاً للمشهور من المذهب - لو كان القاطع طويلاً عرفاً وهو معذور فيه كأن يسكت عن نسيان أو يخطئ فيقرأ في سورة أخرى وكان ذلك طويلاً عرفاً، فإنه يقطع القراءة فهو وإن كان معذوراً في نسيانه لكن الموالاة قد انقطعت فيجب عليه أن يستأنف القراءة من الجديد (1) لانقطاع موالاتها.
فالواجب شرعاً هو الموالاة وحيث قطعها بقاطع طويل سواء كان مشروعاً وسواء كان معذوراً فيه أم لم يكن معذوراً فيه فإنه يجب أن يستأنف قراءته من جديد لفساد الموالاة وانتفائها.
الحالة الثالثة: أن يكون القاطع يسيراً وهو مشروع، فلا تؤثر في الموالاة وهو أولى من الصورة الأولى لكونه مشروعاً.
فلو قطع الفاتحة بقوله: " آمين " مع تأمين الإمام، أو فتح على الإمام في قراءته – فإن هذا لا يؤثر في الموالاة – لأنه قاطع يسير.
إذن: مناط الحكم – على الراجح – أن يكون القاطع يسيراً فحينئذٍ لا يكون مؤثراً سواء كان مشروعاً أم لم يكن مشروعاً.
فالعبرة بطول القاطع، فإن كان طويلاً عرفاً فإنه يفسد الموالاة فيجب استئناف القراءة وإن كان قصيراً فلا يجب ذلك.
قال: (أو ترك منها تشديدة، أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها)
" ترتيباً ": كأن يقدم ما حقه التأخير من آياتها أو يؤخر ما حقه التقديم، فيلزمه الإعادة إن كان غير مأموم.
ويستثنى المأموم؛ لأنه لا يجب عليه القراءة خلف الإمام، على المشهور في المذهب.
وقوله: " إعادتها " يعود على الفاتحة.
__________
(1) كذا في الأصل.(5/44)
وحيث قلنا بأن المأموم يجب عليه أن يقرأ بفاتحة الكتاب والحكم كذلك فكذلك هنا فيجب عليه أن يعيد إن أخطأ بما يبطلها.
قال: (ويجهر الكل بآمين) في الجهرية.
" آمين " بمعنى اللهم استجب.
وفيها ضبطان وكلاهما بتخفيف الميم.
الأول: القصر: وهو بهمزة الوصل " أمين "
الثاني: المد " آمين " وهما لغتان فيها ولكن مع تخفيف الميم.
أما إذا شدد الميم فإن المعنى يتحول إلى معنى آخر وهو " قاصدين " كما قال تعالى: {ولا آمَّين البيت} (1) أي قاصدينه.
أي من القراءة قرأ فهي صحيحة (2) .
فيجهر الكل من إمام ومنفرد حيث جهر ومأموم، فكل من جهر أو جهر له من إمام أو مأموم أو منفرد فيشرع له الجهر بالتأمين.
ودليل مشروعية التأمين: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له) (3)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (4)
__________
(2) أي سوى قراءة التشديد.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (111) جهر الإمام بالتأمين (780) بلفظ: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وانظر (6402) ، وأخرجه مسلم (410) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) بلفظ: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقالوا آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وأخرجه مسلم (410) .(5/45)
وقد ثبت التأمين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: فروى أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين " (1) ، في رواية أبو داود: " ورفع صوته "، وفي الترمذي: " يمد بها صوته "، وفي ابن ماجه والحديث حسن: (أن المسجد – أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم – كان يرتج بها) أي من رفع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتأمين.
ويستحب كذلك: أن يمد بها صوته كما تقدم في حديث وائل بن حجر في رواية الترمذي، وورد من حديث وائل بن حجر في أبي داود إلا أن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه وهو انقطاع يسير يعضده ما تقدم.
وثبت هذا من فعل أبي هريرة: أنه إذا كان وراء الإمام قال: " آمين " يمد بها صوته ويقول: (إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم) (2) رواه البيهقي بإسناد صحيح.
فعلى ذلك: يشرع للإمام والمنفرد والمأمومين أن يجهروا به ويمدوا أصواتهم به.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (172) التأمين وراء الإمام (932) ، والترمذي حديث 28، وابن ماجه حديث 855، وقال الترمذي: حديث حسن "، وقال ابن القيم: " حديث وائل بن حجر رواه شعبة وسفيان، فأما سفيان فقال: " ورفع بها صوته، وأما شعبة فقال: خفض بها صوته، ذكره الترمذي " قال البخاري: " حديث سفيان أصح، وأخطأ شعبة في قوله: خفض بها صوته "، سنن أبي داود [1 / 574] .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة،باب (163) جهر المأموم بالتأمين (2453) .(5/46)
* والسنة أن يكون ذلك بعد قول الإمام "غير المغضوب عليهم ولا الضالين " لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قُولوا: آمين) (1) أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا) (2) فإن معناه إذا شرع بالتأمين، فإذا شرع الإمام بالتأمين ووافق ذلك عقيب قوله " غير المغضوب عليهم ولا الضالين: فقولوا: آمين.
* وإذا تركها الإمام فإنها تشرع للمأمومين للحديث المتقدم: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين) .
فتشرع للمأمومين مطلقاً قالها الإمام أم لم يقلها، فترك الإمام لها لا يعنى ذلك أن تترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها إماماً، إذا تركها الإمام فإن ذلك تفويت منه للسنة.
* فإن فات محلها وشرع بالقراءة بعدها ولم يؤمن فهي سنة فات محلها، فلا يشرع فعلها.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والسبعون
(يوم الأربعاء: 24 / 3 / 1415هـ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقرأ بعدها سورة)
أي بعد الفاتحة، فيشرع ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة من القرآن، وهذا على سبيل الاستحباب عند عامة العلماء، لما ثبت في الصحيحين: من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) (3) فهذا الفعل يدل على مشروعيته.
__________
(1) تقدم قريبا، وهو في الصحيحين.
(2) متفق عليه، وقد تقدم قريبا.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب (776) بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب، وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية.. "(5/47)
وستأتي الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سوراً من القرآن مع الصلوات الجهرية.
وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب بعض المالكية وبعض الأحناف وحكي رواية عن الإمام أحمد: إلى أن ذلك واجب أي يجب على الإمام والمنفرد أن يقرأ مع فاتحة الكتاب ما تيسر.
واستدلوا بدليلين صحيحين:
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) (1) .
قالوا: فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم " فصاعداً " فدل ذلك على أنه يجب عليه أن يقرأ مع فاتحة الكتاب سورة وأنه لا يجزئه سوى ذلك.
ما ثبت في أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري: قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ أم الكتاب وما تيسر) (2) .
قالوا: فهذا أمر وظاهر الأمر وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (394) قال: " وحدثناه إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، قالا: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد مثله، وزاد (فصاعدا) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (822) .
(2) أخرجه أبو داود في أول باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة (818) .(5/48)
وأما الجمهور فاستدلوا: بما ثبت في أبي داود في قصة صلاة معاذ بأصحابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفتى: ما تصنع يا ابن أخي إذا أنت صليت؟ فقال: " أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني ومعاذاً حول هاتين ندندن) (1) وفي رواية " حولها ندندن ".
والدندنة هو الصوت الذي يسمع ولا يفقه.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ولم يقرأ إلا بالفاتحة.
وأجابوا عن الحديثين الأولين:
أما ما رواه مسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) .
قالوا: فالجواب عليه: من جهتين:
الجهة الأولى: في ثبوته.
الجهة الثانية: في الاستدلال به.
أما الجهة الأولى: فإن الحديث قد أعله البخاري بتفرد معمر فعامة الرواة يرونه بلفظ: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (2) وتفرد معمر فرواه بهذا اللفظ عن سائر الرواة فيكون اللفظ شاذاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (127) في تخفيف الصلاة (793) بلفظ عن جابر، ذكر قصة معاذ، قال، وقال - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - للفتى: (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت) قال: اقرأ بفاتحة الكتاب، وسأل الله الجنة.. "، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (26) ما يقال بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (910) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، قال (حولها ندندن) .
(2) تقدم قريبا.(5/49)
لكن وردت متابعة له في سنن أبي داود من حديث سفيان ابن عيينة بلفظة " فصاعداً " لكن الذي يظهر أن هذه المتابعة لا تزيل الحكم عن الشذوذ؛ لأن سائر الرواة سوى سفيان ومعمر رووه باللفظ المتقدم، فتكون المخالفة منهما.
ولو قلنا بثبوته، فهنا الجواب الثاني، من جهة الاستدلال به: فإن هذا الحديث نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) (1) ومعلوم من الأدلة الشرعية والذي عليه أهل العلم أنها تقطع في ربع دينار فالحديث معناه: تقطع اليد في ربع دينار فأكثر.
وكذلك هذا الحديث يحمل على هذا الحمل وهو ظاهر في ذلك، فيكون المعنى: لا صلاة مجزية إلا بالفاتحة ومع فاتحة الكتاب آيات أخر.
وأما الجواب على حديث أبي سعيد: فإن الأمر فيه يحمل على الإرشاد والاستحباب.
والواو هنا إنما تفيد دلالة الاقتران ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، والذي حملنا على ذلك ما تقدم من حديث أبي داود فإن فيه الإجزاء بقراءة فاتحة الكتاب.
فالراجح: مذهب عامة العلماء من أن فاتحة الكتاب تجزئ في الصلاة، أما قراءة آيات أخر أو سورة أخرى فذلك مستحب.
قال المؤلف: (تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه)
المفصل اتفق العلماء على أن نهايته سورة الناس واختلفوا في أوله:
فذهب الجمهور: إلى أن أوله سورة الحجرات.
وذهب الحنابلة: إلى أن أوله سورة " ق ".
…وما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح.(5/50)
ويدل عليه: ما ثبت في أبي داود وابن ماجه ومسند أحمد والحديث إسناده حسن كما قال ذلك ابن كثير في فضائل القرآن وهو كما قال: من حديث أوس بن حذافة (1) الثقفي قال: سألت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: (ثلاث ثم خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشر ثم ثلاث عشرة ثم المفصل) (2)
ويتم العدد المتقدم وهو عدد ثلاث مع خمس مع سبع وتسع وإحدى عشر وثلاث عشر فيتم بما دون سورة " ق " فيكون شروع المفصل بسورة " ق " فهو الحزب السابع من أحزاب القرآن.
وسمي مفصلاً لكثرة الفواصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقصرها.
فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن أول المفصل سورة " ق "، وطواله إلى النبأ، وأوساطه إلى الضحى، وقصاره إلى الناس.
قال: (تكون في الصبح بطواله وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بوسطه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: حذيفة، كما سيأتي.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (326) تحزيب القرآن (1393) قال: " حدثنا مسدد، أخبرنا قُران بن تمام ح وحدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو خالد، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده، قال عبد الله بن سعيد في حديثه: أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف..، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (178) في كم يستحب يختم القرآن (1345) عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة قال: " قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة … قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن، قالوا: ثلاث وخمس.. ".(5/51)
كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح (1) .
قوله: " فلان " لم يسم وليس عمر بن عبد العزيز؛ لأنه لم يولد إلا بعد وفاة أبي هريرة.
سلمان بن يسار قال: كان فلان يطيل الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الفجر بطواله " فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
هذا هو المستحب في الغالب، وإلا فقد وردت الأدلة الشرعية بخلاف هذا.
بل المداومة على ذلك ينبغي القول بعدم استحبابها وأنها خلاف السنة، فقد ثبت في البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: " ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطول الطوليين " (2) وهي سورة الأعراف.
والطوليان هما سورة الأنعام وسورة الأعراف، والطولى هو أطول السورتين هي سورة الأعراف.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (61) تخفيف القيام والقراءة (982) قال: " أخبرنا هارون بن عبد الله، قال حدثنا ابن أبي فُديك عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما صليت رواء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطول المفصل ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (764) بلفظ: عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصارٍ، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟ ". وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (132) قدر القراءة في المغرب (812) . والنسائي في كتاب الافتتاح، باب (67) القراءة في المغرب بـ " المص " (991) .(5/52)
وقد ثبت التصريح بها في سنن أبي داود وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب، وفي النسائي أنه يقرأ بها في الركعتين كلتيهما (1) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في المغرب بالطور) (2)
وفي الصحيحين أيضاً: (أنه قرأ بالمرسلات) (3) .
وفي الطبراني في الكبير بإسناد صحيح: (أنه قرأ بالأنفال) (4) .
وفي ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أنه قرأ بسورة محمد) (5)
والفجر الغالب أن يقرأ فيها بطوال المفصل لكنه ربما قرأ فيها بقصار المفصل؛ فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر في سفر: بـ (قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " (6)
وفي أبي داود بإسناد صحيح: أنه قرأ بـ " إذا زلزلت الأرض زلزالها في الركعتين كلتيهما" (7) أي في كل ركعة قرأها.
__________
(1) تقدما قريبا.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب (765) ، ومسلم (578) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (763) ، ومسلم (462) .
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (354) في المعوذتين (1462) .
(7) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (134) الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين (816) .(5/53)
وفي مسلم: أنه قرأ بـ " إذا الشمس كورت " (1)
كما أنه ثبت عنه " أنه قرأ في الروم " (2) كما ثبت في سنن النسائي.
قال: (وفي الباقي من أوساطه)
في الباقي: في صلاة العشاء وصلاة الظهر والعصر يقرأ بأوساط المفصل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (35) القراءة في الصبح (456) بلفظ: " عن عمرو بن حُريث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح {والليل إذا عسعس} ، وفي باب (39) متابعة الإمام والعمل بعده (475) بلفظ " عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس} ، وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدا ". وأخرجه النسائي بلفظ " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر إذا الشمس كورت "، كتاب الافتتاح، باب (44) القراءة في الصبح بـ إذاالشمس كورت (951) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (41) القراءة في الصبح بالروم (947) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: أنبأنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى قال: (ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور، فإنما يلبس علينا القرآن أولئك) . قال الألباني رحمه الله في تحقيقه لمشكاة المصابيح، [1 / 97] حديث (295) : " ورجاله ثقات إلا أن عبد الملك بن عمير كان تغير حفظه، بل قال فيه ابن معين: مختلط، وقال ابن حجر: وربما دلس ".(5/54)
أما صلاة العشاء فتقدم الحديث الوارد فيها (1) ، وأما الظهر والعصر فثبت في أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر بـ " والسماء ذات البروج " و " والسماء والطارق ") (2) وهما من أوساط المفصل.
لكن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غالب أمره على هذا، فالظاهر أنها كانت غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها الإطالة، فقد ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الظهر بقدر " الم تنزيل السجدة " وفي رواية " بقدر ثلاثين آية " وفي الأوليين من العصر على النصف من ذلك) (3) .
- وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وطائفة من أصحابه: وأنه يستحب أن يطول والظهر وأن تكون صلاة العصر على النصف من الركعتين الأوليين من صلاة الظهر.
ومما يدل عليه ما ثبت في مسلم قال الراوي: (كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يأت النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها) (4) فهذا يدل على أن سنته في الظهر الإطالة.
__________
(1) أخرجه النسائي، وقد تقدم صْ 85.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (131) قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (805) بلفظ: عن جابر بن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج ونحوهما من السور " وأخرجه النسائي والترمذي (307) وقال: " حديث حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 506] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (452) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (454) .(5/55)
وفي النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع وهو يقرأ في الظهر بالذاريات) (1) .
فالسنة – على الراجح – في الظهر أن تكون طويلة بنحو ما يكون في صلاة الفجر، وصلاة العصر تصلى على النصف من ذلك.
وقد تقدم حديث سلمان بن يسار: (كان فلان يطول الظهر ويخفف العصر) ، " قال أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
وهنا مسائل في القراءة بعد الفاتحة:
اعلم أن المشروع له أن يرتب السور كما وردت في المصحف فيقرأ في الركعة الأولى سورة مقدمة على الركعة الثانية – هذا المستحب جرياً على ترتيب المصحف – الذي جرى عليه الخلفاء الراشدون.
المشهور في المذهب كراهية عكس ذلك.
وعن الإمام أحمد: أنه لا كراهية في ذلك وهذا هو الأظهر، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران) (2) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب بين السور فدل على جوازه.
وثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر قرأ في الصبح في الركعة الأولى بالكهف وفي الركعة الثانية بسورة يوسف أو يونس) (3) والشك في الرواية.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (55) القراءة في الظهر (971) قال: " أخبرنا محمد بن إبراهيم بن صُدْران، قال حدثنا سَلْمُ بن قُتيبة، قال حدثنا هاشم بن البريد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) .
(3) قال البخاري: " وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما " في باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة، من كتاب الأذان.(5/56)
وحيثما كان اليقين من الشك هنا فإن السورتين كليهما متقدمة على سورة الكهف.
فالأظهر جوازه لكن المستحب أن يرتبها على الترتيب في المصحف.
وقد يقال بكراهية المداومة على ذلك، فإن في المداومة على ذلك مخالفة صريحة ظاهرة للترتيب الذي جرى عليه المصحف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عدم الترتيب بين الآيات، وذلك بأن يقرأ في الركعة الأولى بآيات من آخر السورة وفي الثانية آيات من وسطها أو أولها: فجمهور العلماء على أن ذلك مكروه، وكراهيته أشد من كراهية الأول، لأن ترتيب الآيات ترتيب وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنص.
وأما ترتيب السور فإن المشهور عند جمهور العلماء إنه بالاجتهاد أي اجتهاد الصحابة. ثم إنه مظنة تغيير المعاني، فكان ذلك مكروهاً.
وعند الإمام أحمد أنه جائز، وهذا القول لا بأس به وهو قول قوي لكن بحيث تثبت من عدم تغيير المعاني وحيث لم يعتد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وهذا ما تيسر سواء قدم أو أخر فلا حرج.
أما تنكيس الكلمات في الآية نفسها فهو محرم إجماعاً ومبطل للصلاة، لأنه يخرج عن أن يكون قرآناً حيث نكس، وحيث خرج من أن يكون قرآناً فهو كلام أجنبي عن الصلاة – وحيث كان كلاماً أجنبياً فهو مبطل للصلاة مفسد لها.
إذن: هي ثلاث صور:
تنكيس الكلمات وهذا محرم وهو مبطل للصلاة.
تنكيس الآيات وهذا مكروه عند أكثر الفقهاء وهو مذهب الجمهور، وعن الإمام أحمد عدم كراهيته.
تنكيس السور، والمشهور عند الحنابلة والشافعية أنه مكروه والأظهر عدم كراهيته.
واعلم أن قراءة شيء من الآيات القرآنية من وسط سور القرآن أو أوله أو آخره لا بأس به ولا حرج.
أي يقرأ من وسط سورة وأولها أو آخرها فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد: " ما تيسر " وقراءة شيء من وسط السورة ونحوه مما تيسر.(5/57)
لكن مداومته كما قال شيخ الإسلام مكروهة، لأنها تتضمن ترك السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه يجوز للمصلي أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتين فأكثر ومما يدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن إمام مسجد قباء كان يقرأ قل هو الله أحد " يفتتح بها السورة التي بعد الفاتحة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني أحبها فقال: حبك إياها أدخلك الجنة) (1) .
وثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورتين في الركعة من حديث ابن مسعود في البخاري (2) ، وكذلك لأنه داخل فيما تيسر من القرآن.
كما أنه لا بأس أن يقرأ آية من كتاب الله فإذا قرأ آية بعد الفاتحة فإنه يجزئه ذلك عن السورة التي تقرأ بعد الفاتحة.
واعلم أن محل القراءة بعد الفاتحة، فلو سبق بها الفاتحة فإنها لا تجزئه ولا يعتد بها لأنها سنة فُعلت في غير محلها، لكن الفاتحة تجزئه.
قال: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان)
فإذا قرأ بقراءة هي داخلة في المصحف العثماني أجزأته اتفاقاً كأن يقرأ بشيء من القراءات السبع أو العشر أو نحوها من القراءات التي يشملها الرسم العثماني.
أما إن قرأ بقراءة لا توافق المصحف العثماني فلا يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور كقراءة ابن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " (3) فالمشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يجوز أن يقرأ بشيء من القراءات الثابتة بالسند الصحيح لكنها لا تدخل في المصحف العثماني.
ودليل هؤلاء: أنها ليست متواترة والمشروع من القراءة أن تكون متواترة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (774) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (775) ، وفي كتاب فضائل القرآن، ومسلم (822) .(5/58)
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد والإمام مالك واختاره ابن تيمية وابن القيم: أنه يجزئه ذلك لأنه بثبوته بالسند الصحيح يثبت قرآناً، وقد كان هؤلاء الصحابة الذين ثبتت عنهم قراءات لا تدخل في الرسم العثماني كانوا يقرؤون بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانت ولا شك تجزئ عنهم.
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على أخذ القرآن عن ابن مسعود وقد ورد عنه مثل هذه الآية التي تخالف ما استقر عليه المصحف عهد عثمان.
ومعلوم أن ما استقر عليه المصحف في عهد عثمان ليس حاوياً للمصحف كله بل هو حاوٍ لشيء فيه وضع على هذه الهيئة درءاً للخلاف والفتنة والفرقة في كتاب الله تعالى – وحيث أنه من القرآن لثبوته بالسند الصحيح إلى هذا الصحابي فإنه لا مانع من أن يقرأ به – وهذا هو القول الراجح.
وكونه ليس بمتواتر يقال: ليس بشرط هذا فإن كثيراً من أفراد القراءات الواردة عن القراء السبعة ليست بمتواترة، وادعاء أنها متواترة ليس بصحيح، بل إن كثيراً منها ليس بمتواتر وإنما يعود إلى غرابة السند أو عزته أو شهرته وليس كلها متواتر.
وإنما القرآن متواتر في مجموعه، وأما آحاد القراءات وأفرادها فإن القول بتواترها مجرد دعوى.
فعليه: إذا ثبت بالسند الصحيح إلى الصحابي فإنه يقرأ به وتصح به الصلاة، لكن ينبغي فعل هذا حيث لا تكون هناك فتنة وفرقة.
إذن: كل قراءة وافقت المصحف فيجوز القراءة بها في الصلاة اتفاقاً.
فإن لم توافق المصحف وصح سندها:
فالمشهور في المذهب أن القراءة لا تصح بها (1) .
والراجح – وهو رواية عن الإمام أحمد – بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هي أنصهما " أي أنص الروايتين عن الإمام أحمد هذه الرواية التي فيها أن القراءة التي لا تدخل في المصحف العثماني مع صحة سندها قرآن يقرأ به ويحتج به في الأحكام الشرعية.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الخامس والسبعون
__________
(1) في الأصل: فيها.(5/59)
(يوم السبت: 27 / 3 / 1415هـ)
قال المصنف رحمه الله: (ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ويضعهما على ركبتيه مفرجي الأصابع مستوياً ظهره)
قوله: " ثم يركع " لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (1) وقال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (3) في حديث المسيء صلاته، وهو ركن من أركان الصلاة وسيأتي الكلام عليها.
" مكبراً " أي بأن يقول: " الله أكبر " وهي تكبيرة الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يرفع رأسه من المثنى) (4) أي الجلوس أي حين يقوم من الركعتين الأولين في الصلاة الرباعية أو الثلاثية.
__________
(1) الحج: من الآية77)
(2) البقرة: من الآية43
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حن يرفع رأسه، ثميفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس "، وأخرجه مسلم (392) .(5/60)
فهذا الحديث فيه تكبيرات الانتقال.
" رافعاً يديه ": إما حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه.
أما كونه يرفعهما حتى يحاذي بهما منكبيه فلحديث ابن عمر المتقدم، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حين يقوم إلى الصلاة وإذا أراد الركوع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع) (1) .
وأما كونه يرفعها إلى حيال أذنيه فلما روى النسائي بإسناد صحيح إلى مالك بن الحويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (2) .
فكما أنه يستحب له ذلك – أي الرفع إلى حذو المنكبين أو فروع الأذنين – في تكبيرة الإحرام، فكذلك يستحب عند الركوع، وعند رفع اليدين.
- والمشهور في المذهب: أنه يستحب له أن يرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، يستحب ذلك مع تكبيرة الانتقال فيكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه.
وهو مشكل على مذهبهم من أن تكبيرات الانتقال إنما تشرع عند الانتقال وتنتهي بانتهائه، فإذا كبر للركوع فإنه يشرع بالتكبير وينتهي من التكبير إذا انتهى إلى الركوع وهو قائم يقول: الله أكبر، فيمد التكبير حتى يصل إلى الركوع، فيكون الانتقال قد شمله التكبير، وحينئذ يكون الرفع لليدين فيه إشكال.
__________
(1) تقدم صْ 61، حاشية رقم (131) . وهو متفق عليه.
(2) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (36) رفع اليدين للسجود (1085) ، (1086) ، (1087) .(5/61)
- والأظهر أن رفع اليدين والتكبيرة إنما يشرعان قبل الركوع، فيكبر ويرفع يديه ثم يركع، وهو ما دل عليه حديث أبي حميد الساعدى في سنن أبي داود بإسناد صحيح قال: (ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه ثم يركع) (1) وظاهر ذلك أن التكبير والرفع قبل الركوع.
فعلى ذلك المشروع أن يكبر رافعاً يديه ثم يركع، فيكونان أي التكبير والرفع قبل الانتقال.
(ويضعهما على ركبتيه)
لما ثبت في الصحيحين من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: " ركعت فجعلت يدي بين فخذي أو قال بين ركبتي فنهاني أبي وقال: كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (729) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ح، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى، وهذا حديث أحمد، قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - أخبرني محمد بن عمر بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو قتادة قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة … ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه … ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (118) وضع الأكف على الركب في الركوع (790) بلفظ: " قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي، فطبَّقْتُ بين كفيَّ،ثم وضعتُهُما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أننضع أيدينا على الركب " وأخرجه مسلم (535) .(5/62)
ويمكنهما من ركبتيه كما في البخاري من حديث أبي حميد الساعدى قال: (ثم ركع فأمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه.
ويكون كالقابض لهما، لما ثبت في سنن أبي داود وعن أبي حميد الساعدى قال: (ثم أمكن يديه من ركبتيه كأنه قابض عليهما) (2)
(مفرجي الأصابع)
قال أبو حميد – في حديثه المتقدم في أبي داود -: (ثم أمكن يديه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه) (3) .
كما أنه يستحب له أن يجافي يديه عن جنبه، كما في حديثه في أبي داود أيضاً بإسناد صحيح وقال: (ووتَّر يديه فجافي عن جنبيه) (4) " ووتر: أي نحاهما.
قال: (مسوياً ظهره)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) بلفظ: " فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره.. ".أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد - يعني ابن أبي حبيب - عن محمد بن عمرو بن حلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري قال: كنت في مجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حميد، فذكر بعض هذا الحديث وقال: " فإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. "
(2) وأخرجه أبو داود في الباب السابق برقم (734) ولفظه: " ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ".
(3) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) بلفظه: " فإذا ركع أمكن كفَّيْه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. ".
(4) أخرجه أبو داود في الباب السابق (734) ولفظه: ".. ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه.. "(5/63)
فيكون الظهر مستوياً، وقد تقدم: (ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه.
وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (وامدد ظهرك) (2) وفي ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) ، وذكره معلقا في باب (120) استواء الظهر في الركوع من كتاب الأذان أيضا.
(2) أخرجه أبو داود في باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رقم (859) قال: " حدثنا وهب بن بقيه، عن خالد، عن محمد - يعني ابن عمرو - عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر … وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدُدْ ظهرك ".
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (16) الركوع في الصلاة (872) قال: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا عبد الله بن عثمان بن عطاء حدثنا طلحة بن زيد عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر " قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف، فيه طلحة بن زيد، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال أحمد وابن معين: يضع الحديث، قلت: وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسند "، وانظر السلسلة الصحيحة (3331) .(5/64)
ويكون رأسه غير مصوَّب ولا مشخص بل يكون بإزاء ظهره، كما ثبت هذا في حديث عائشة في صحيح مسلم قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) (1) .
(لم يشخصه) أي لم يرفعه، (لم يصوبه) أي لم يخفضه.
كما أن رأسه يكون معتدلاً غير منحرف عن اليمين ولا عن الشمال، ففي أبي داود – من حديث أبي حميد المتقدم -: (ولا صافح بخده) (2) أي قد مال بأحد صفحتي رأسه فظهرت من أحد الجنبين فهذا ليس بمستحب.
قال: (ويقول سبحان ربي العظيم)
كما ثبت في مسلم من حديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى ") (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (46) ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح … (498) وهو آخر حديث في هذا الباب، وأخرجه أبو داود في باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وابن ماجه، والإمام أحمد في المسند 6 / 31، 194. المغني [2 / 176] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) وفيه: ".. ثم هصر ظهره غير مُقنع رأسه ولا صافح بخده.. "
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) بلفظ: " عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة … ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال …. ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى) ".(5/65)
ويستحب أن يكون ذلك ثلاثاً وذلك أدناه ن لما روى أبو داود عن ابن مسعود بإسناد منقطع وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات وذلك أدناه) (1) .
قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم.
وهل يستحب له أن يزيد لفظة (وبحمده) ؟
اختلفت الرواية عن الإمام أحمد:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (886) قال: " حدثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، حدثنا أبو عامر وأبو داود، عن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه " قال أبو داود: هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله، وأخرجه ابن ماجه والترمذي 261 وقال: " حديث ابن مسعود ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله بن عتبة لم يلق ابن مسعود "، وقال المنذري في مختصره: وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال: مرسل " سنن أبي داود [1 / 550] .(5/66)
فعن الإمام احمد: كراهية ذلك لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند مقبول، وإنما رواها أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر (1) ، ثم قال أبو داود: " لكن يخاف ألا تكون محفوظة " وفيها رجل لم يسم، وعامة ما ورد من الشواهد لها فهي معللة فلا يصح لها شاهداً.
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بها واختارها المجد بن تيمية ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (870) قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الليث - يعني ابن سعد - عن أيوب بن موسى أو موسى بن أيوب، عن رجل من قومه، عن عقبة بن عامر بمعناه زاد قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: (سبحان ربي الأعلى – كذا في السنن، ولعلها: العظيم - وبحمده) ثلاثا، وإذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ثلاثا " قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة، قال أبو داود: انفرد أهل مصر بإسناد هذين الحديثين، حديث الربيع وحديث أحمد بن يونس "، وقال الألباني في صفة الصلاة صْ 100: " صحيح رواه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي ". وأخرج في باب (154) مقدار الركوع والسجود (885) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا سعيد الجريري عن السعدي، عن أبيه أو عن عمه قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده) ثلاثا، قال المنذري: السعدي مجهول، سنن أبي داود [1 / 550] .
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ في كتاب الأذان، باب (139) التسبيح والدعاء في السجود (817) ، وانظر (794) ، ومسلم (484) .(5/67)
لكن الأظهر القول الأول، لأنها وإن ثبتت بهذا الحديث المتفق عليه، فإنها لا تثبت مع اللفظ الأول وهو لفظ " سبحان ربي العظيم ".
لكن مع ذلك فإن كراهيتها محل نظر، والأولى تركها لكن إن فعلها فلا بأس بذلك والعلم عند الله تعالى.
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده: ما ثبت في صحيح مسلم: أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (1) وتقدم الحديث المتفق عليه: (وأنه يكثر القول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ركع: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) (3) فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الباب.
إذن: أدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى ثلاثاً.
واختلفت في أتم الكمال:
__________
(1) أخرجه مسلم (487) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (872) .
(2) تقدم قريبا.
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (26) الداء في صلاة الليل وقيامه (771) بلفظ: " عن علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض …، وإذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت …) بنفس اللفظ.(5/68)
فاحتمل الموفق أن يكون ذلك عشر تسبيحات لما روى أبو داود في سننه عن أنس قال: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني عمر بن عبد العزيز – قال فحرزنا سجوده بعشر تسبيحات وركوعه بعشر تسبيحات) (1) لكن الحديث في إسناده جهالة.
كما أن هذا الركوع الطويل الذي حرز بعشر تسبيحات ليس هناك ما يدل على أنه كان يقول " سبحان ربي العظيم: عشراً، فيحتمل أن يكون قد قال غيره مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الاحتمال هو قوي لو صح الحديث في مقدار الركوع وهو أن يكون مقدراً بعشر تسبيحات، أما أن يكون لتقدير عدد التسبيحات فهذا محل نظر لما تقدم.
وقال القاضي من الحنابلة: إن كان منفرداً فبحيث لا يسهو. وينبغي – كذلك – أن يقال: ولا يمل، لأن الملل في العبادة غير مشروع، وإن كان إماماً فحيث لا يشق على المأمومين – وهذا ضابط حسن تدل عليه الأحاديث.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في ركوعه لكنا لا نجزم أن ذلك بلفظة " سبحان ربي العظيم " فحسب بل كان – فيما يظهر – يقول غيره مما ورد عنه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (888) قال: حدثنا أحمد بن صالح وابن رافع قالا: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان، حدثني أبي، عن وهب بن مأنوس قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فخَرزْنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات " قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس؟ قال: أما عبد الرزاق فيقول: مأنوس، وأما حفظي فمأنوس، وهذا لفظ ابن رافع، قال أحمد: عن سعيد بن جبير عن أنس بن مالك "، وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [1 / 551] .(5/69)
وفي الصحيحين من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان قيامه فركوعه فسجوده فجلسته بين السجدتين فجلسته للتشهد قريباً من السواء) (1) أي معتدلة متقاربة وليس المراد أنها بدرجة واحدة في الطول، وإنما المراد أنها متناسبة في الطول، فإذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وغيره، وإذا خففه خففها فتكون الصلاة معتدلة.
وسيأتي الكلام على القدر المجزئ من الألفاظ في الركوع وفي القدر المجزئ من الركوع في الكلام على أركان الصلاة وواجباتها.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والسبعون
(يوم الأحد: 28 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً)
يرفع رأسه من الركوع، ويرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، وتقدم دليل ذلك من حديث ابن عمر وكذلك من حديث مالك بن الحويرث وغيرهما.
وهنا متى يرفع يديه حذو منكبيه هل عند شروعه بالرفع من الركوع أم عندما يستوي قائماً؟
فيه تفصيل على المذهب:
- أما الإمام والمنفرد فيكون ذلك عند الاستواء بالقيام فإذا استويا قائمين شرع رفع اليدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين (820) بلفظ: " عن البراء قال: كان سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء ". وفي باب (121) حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة (792) بلفظ: " كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء " وانظر (801) . وأخرجه مسلم (471) .(5/70)
ودليل ذلك: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: (ثم رفع يديه بعدما رفع رأسه) (1) الحديث متفق عليه.
- أما المأموم فقالوا: يرفع يديه أثناء رفع صلبه، فإذا شرع في رفع صلبه رفع يديه حتى يستوي قائماً قالوا: لأن المأموم لا يشرع في حقه ذكر بعد الاستواء قائماً، فعلى المشهور من المذهب يقول: " ربنا ولك الحمد " إذا شرع بالرفع فينتهي منها إذا استوى قائماً فلا يشرع له حينئذ أن يقول ذكراً بعد رفع رأسه وحينئذ يقارن بين رفع اليدين والذكر.
والراجح: أن المأموم إنما يقول: ربنا ولك الحمد إذا استوى قائماً كالمنفرد والإمام، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وهو قائم ربنا ولك الحمد) (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) فيدخل في ذلك المأموم ولا دليل يدل على تخصيصه.
__________
(1) تقدم صْ 61، وهو في البخاري بلفظ (737) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه " وبلفظ (735) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا "، وبلفظ (736) " ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع "، وبلفظ (738) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فعل مثله "، وبلفظ (739) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه " وفي مسلم بنحو هذه الألفاظ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، … "، وأخرجه مسلم (392) في كتاب الصلاة، باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. .
(3) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.(5/71)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق عليه – وهو دليل الحنابلة قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به … فإذا قال: " سمع الله لمن حمده " فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (1) فليس في هذا ما يدل على أنه يقول ذلك أثناء رفعه، وإنما فيه أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " بعد قول إمامه: " سمع الله لمن حمده ".
والأدلة الشرعية في الصلاة تدل على أن كل ركن من أركان الصلاة يشرع له ذكر وارد، والرفع من الركوع أسوة غيره من الأركان فيشرع فيه ما يشرع في غيره من قول: " ربنا ولك الحمد ".
إذن: هنا مسألتان: أحدهما تترتب على الأخرى:
الأولى: هل يقول المأموم ربنا ولك الحمد عند شروعه في رفع صلبه إلى أن يستوي قائماً أم يقوله بعد استوائه قائماً؟
قولان: أصحهما أنه يقول ذلك بعد استوائه قائماً.
الثانية: متى يرفع المأموم يديه هل يرفعهما إذا رفع رأسه من الركوع إلى أن يستوي قائماً أو بعد الاستواء قائماً؟
قولان لأهل العلم:
وقد استدل القائلون بأنه يقولهما بعد رفع رأسه من الركوع بأنه يقول: " ربنا ولك الحمد " فكانا مقترنين، والجواب على ذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أن يقال: إن الراجح والذي دلت عليه الأدلة أنه إنما يقول: " ربنا ولك الحمد " عند رفع رأسه واستوائه قائماً.
الوجه الثانية: أن يقال: لا تلازم بين الأمرين، فلو ثبت أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " أثناء رفع رأسه، فلا تلازم بينه وبين رفع اليدين، وقد دل الدليل على أن رفع اليدين إنما يكون بعد الرفع من الركوع في الحديث المتقدم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فالراجح أن المأموم كالإمام يرفع يديه إذا استوى قائماً.
قال: (قائلاً إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) .(5/72)
أي استجاب الله تعالى حَمْد من حَمِدَه بأن يجازيه على الحمد ويثنيه عليه وهذه اللفظة " سمع الله لمن حمده " يقولها الإمام والمنفرد دون المأموم – هذا هو المشهور في المذهب –.
واستدلوا بالحديث المتقدم وهو ما اتفق عليه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (1)
قالوا: والفاء تفيد التعقيب أي يقول المأموم ذلك عقب قول إمامه " سمع الله لمن حمده " وعليه فلا يشرع أن يقول: سمع الله لمن حمده، لأنه إذا قال ذلك فلم يقلها عقيب قول إمامه، وهو مذهب الجمهور.
- وذهب الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: أن المأموم يقول ذلك ويشرع له.
واستدلوا: بأدلة منها:
ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) فهذا العموم شامل للمأموم كما هو شامل للأئمة والمنفردين (3) .
واستدلوا: بحديث المسيء صلاته في رواية أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (إنه لا تتم صلاة لأحدٍ من الناس) الحديث وفيه: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً) (4) .
وفي هذا الحديث فائدة: وهي أن لفظة " سمع الله لمن حمده " تقال عند رفع الصلب من الركوع إلى أن يستوي قائماً.
قالوا: فهذا الحديث عام في المنفرد والإمام والمأموم.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.
(3) وأصرح منه ما رواه الدارقطني في سننه [1 / 700] باب (39) رقم (1290) قال: " حدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا الحسن بن محمد، ثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون، قال: قال محمد: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال من خلفه: سمع الله لمن حمد، اللهم ربنا لك الحمد ".
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857) .(5/73)
وأجابوا عن الحديث المتقدم وهو ما استدل به الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) إنما ورد هذا في بيان عدم مشروعية قوله: " ربنا ولك الحمد " من المأموم إلا بعد قول الإمام: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يقول: سمع الله لمن حمده.
ونحن قلنا: إن المأموم يشرع له أن يقول: " ربنا ولك الحمد " وهو قائم كما دلت عليه الأدلة الشرعية.
فعليه إذا رفع المأموم صلبه من الركوع حتى يستوي قائماً فقال: " سمع الله لمن حمده " فإن هذا لا يؤثر لثبوت الانفصال فإن الانفصال ثابت سواء سكت أو تلفظ، فسكوته أو تكلمه لا يؤثر في كونه قد قال: " ربنا ولك الحمد " بعد قوله " سمع الله لمن حمده "، فإن الانفصال ثابت في السكوت وعليه فما فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟
والجواب أن يقال: إن فائدته تعليم المأمومين ألا يقول: " ربنا ولك الحمد " إلا بعد قول الإمام " سمع الله لمن حمده " وذلك لثبوت الفصل في ذلك، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (1) .
فهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين) (2) ليوافق التأمين تأمين الملائكة ليغفر الله [لهم] (3) ، وليس فيه أن المأمومين لا يقرؤون بفاتحة الكتاب وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (125) فضل اللهم ربنا ولك الحمد (796) ، وانظر (3228) ، ومسلم (409) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) ، وانظر باب (111) جهر الإمام بالتأمين. (780) ، ومسلم (410) .
(3) ليست في الأصل.(5/74)
والأقوى والأقرب ما ذهب إليه الشافعية وهو الأحوط والعلم عند الله تعالى.
قال: (سمع الله لمن حمده، وبعد قيامهما: ربنا ولك الحمد)
قيامهما: أي قيام الإمام والمنفرد.
" ربنا ولك الحمد " بحذف " اللهم " وزيادة الواو وهي صفة من صفات أربع ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
الصفة الأولى: ربنا لك الحمد (1) بحذف الواو، و " اللهم ".
الصفة الثانية: ربنا ولك الحمد (2) : بحذف " اللهم " وإثبات الواو.
الصفة الثالثة والرابعة بزيادة " اللهم وبحذف الواو وبإثباتها " اللهم ربنا لك الحمد " (3) " اللهم ربنا ولك الحمد " (4) هذه صفات واردة رواها البخاري في صحيحه وروى بعضها مسلم.
فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض – وفي رواية في مسلم (ملء السموات وملء الأرض) ، وفي رواية (وما بينهما) - وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (5)
يقول الإمام والمنفرد هذا التحميد الوارد بعد قيامهما من الركوع بعد أن يستويا قائمين.
قال: (ومأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد، فقط) .
هنا مسألتان:
1- المسألة الأولى: أنه يقول ذلك أثناء الرفع قبل أن يستوي قائماً.
__________
(1) البخاري حديث (789) .
(2) البخاري (789) ، ومسلم (392) .
(3) البخاري (796) .
(4) البخاري (795) . وفي مسلم (476) بلفظ " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (477) " ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (476) " اللهم لك الحمد، ملء السموات.. "
(5) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (40) ما يقول إذا رفع رأسه من.. (477) ، (478) .(5/75)
والراجح أنه يقوله: بعد أن يستوي قائماً لما تقدم وهو مذهب الشافعية.
ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد " وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، واستثناء المأموم من هذا العموم الشامل له يحتاج إلى دليل ولا دليل.
2- المسألة الثانية: أنه لا يزيد على لفظة " ربنا ولك الحمد " وهو رواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا بما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (2) فأمر المأمومين بأن يقولوا: ربنا ولك الحمد، وظاهره أن المشروع لهم ذلك وأن الزيادة ليس بمشروعة.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه كالمجد بن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية: أن المأموم كالإمام والمنفرد، يزيد ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يزيد ما تقدم.
وأما الحديث الذي استدللتم به فإنه لم يسق لبيان ما يقول الإمام ولا ما يقول المأموم، بدليل أن هذا الحديث فيه قول الإمام: سمع الله لمن حمده، وليس فيه زيادة على ذلك، وكذلك قوله: (ربنا ولك الحمد) فإنما سيق ذلك لبيان أن المأموم لا يشرع له التلفظ بلفظة " ربنا ولك الحمد " إلا عقب قول إمامه: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يشرع له الزيادة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم – هذا هو الراجح -.
إذن: الإمام والمأموم والمنفرد في حكم واحد في عامة مسائل هذا الباب، في لفظة (سمع الله لمن حمده) ، وفي الزيادة على لفظة " ربنا ولك الحمد " على الأظهر، وفي وقت الرفع وأن يكون ذلك بعد أن ينتصبوا قائمين، وغيرها.
وهنا مسألة:
صفة وضع اليدين، هل يضع اليد اليمنى على اليسرى أم يرسلهما أم هو مخير؟
ثلاثة أقوال:
__________
(1) تقدما.
(2) تقدم.(5/76)
نص الإمام أحمد: على أنه يخير بين الإرسال وبين الوضع، وكأنه تردد في إدخال القيام المشروع بعد (1) الركوع في القيام المشروع قبله، لهذا التردد قال بالتخيير.
وهو مذهب الأحناف: أنه يرسلهما، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
أنه يستحب له أن يضع اليمنى على اليسرى كوضعها قبل الركوع، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
واستدل أهل القول الثاني: بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في هذا الباب، حيث لم يثبت فلا يشرع فعليه أن يرسلهما ويبقيهما على طبيعتهما فإن الأصل في طبيعتها الإرسال، ولما لم يرد الوضع فإنا نبقى على الإرسال ويكون هو المشروع وغيره بدعة.
أما دليل أهل القول الثالث - وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد: وهو أرجحها - دليله عمومات الأحاديث ومنها حديث سعد بن أبي وقاص: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (2) رواه البخاري.
وهذه صفة خشوع وتذلل وخضوع لله تعالى، وهذا عام في الصلاة كلها إلا ما استثني من جلوس للتشهد ومن سجود ونحو ذلك، أما الرفع من الركوع والقيام بعده فلا دليل على استثنائه فيبقى في العموم.
وأوضح منه الحديث الذي تقدم وهو حديث وائل بن حجر في سنن النسائي بإسناد صحيح أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله) (3) وهذا عام في كل قيام فيدخل في ذلك القيام بعد الركوع.
__________
(1) في الأصل: بعدد.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في الصلاة (887) . وهو في مسلم (401) بلفظ: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة … ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. ".(5/77)
ثم إن هذا من باب إلحاق النظير نظيره، فإن القيام بعد الركوع شبيه ونظير للقيام قبله، فكلاهما قيام في الصلاة، وهذه صفة فيها خشوع وخضوع وتذلل لله عز وجل فهي أولى من الإرسال.
إذن: الراجح أنه يضع يده اليمنى على اليسرى كوضعها في الصفات المتقدمة كوضعها قبل الركوع.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع والسبعون
(يوم الاثنين: 29 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يخر مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء)
" يخر ": خر: أي سقط وانكب.
" مكبراً " أي قائلاً الله أكبر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفيه: (ثم يكبر حين يهوى ساجداً) (1) فمن تكبيرات الانتقال التكبير عند الانتقال من القيام بعد الركوع إلى السجود وهو مشروع بينهما، فيبدأ بالتكبير عند انخفاضه وينتهي عند انتهائه.
ولم يذكر المؤلف هنا: رفع اليدين؛ لأن المشهور في المذهب عدم مشروعية ذلك، وأنه لا يشرع الرفع عند السجود والرفع منه.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (ولا يفعل ذلك في السجود) وفي رواية مسلم: (ولا يرفع يديه إذا سجد ولا إذا رفع رأسه من السجود) (2) .
__________
(1) رواه البخاري باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد من كتاب الأذان رقم (803) عن أبي هريرة بلفظ: ".. ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجداً.. "، ومسلم رقم (392) في باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. من كتاب الصلاة بلفظ ".. ثم يكبر حين يهوي ساجداً ".
(2) رواه البخاري باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء رقم (735) وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رقم (736) ، ومسلم رقم (390) باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. / كتاب الصلاة بلفظ: ".. ولا يرفعهما بين السجدتين " وفي لفظ: " ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ".(5/78)
- الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين: أنه يشرع له الرفع، وأنه يشرع رفع اليدين في كل خفض ورفع.
وهذا القول هو الراجح ويدل عليه حديث مالك بن الحويرث في النسائي بإسناد صحيح وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (1) .
والمثبت مقدم على النافي، فحديث ابن عمر ليس فيه إلا النفي وغاية ما عند النافي عدم بلوغ علمه ما نفاه فإذا أتى ما يثبت ذلك فإن هذا المثبت حجة عليه؛ لأنه حفظ ما لم يحفظ وعلم ما لم يعلم.
إلا أن رواية ابن عمر وهو المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم والحافظ لحديثه تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ذلك أحياناً فعلى ذلك ينبغي أن يكون ذلك مستحباً أحياناً.
فعدم رواية ابن عمر وعدم إحصائه هذا الفعل عند السجود والرفع منه يدل على أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوات كثيرة لم يفعل فيها هذا الرفع، وهذا يدل على أنه لم يكن يداوم على ذلك.
فالراجح: أنه يستحب أن يرفع يديه إذا سجد ورفع رأسه أحياناً.
قال: (ساجداً على سبعة أعضاء رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهة مع أنفه)
في هذه الجملة مسألتان:
المسألة الأولى: فرضية السجود على سبعة أعظم وهي: الجبهة والأنف وهما عضو واحد، واليدان وهما عظمان (2) ، والركبتان وهما عظمان وأطراف القدمين وهما عظمان.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (84) رفع اليدين عند الرفع من السجدة الأولى، رقم (1143) بلفظ: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كلَّه يعني رفع اليدين ".
(2) كذا في الأصل.(5/79)
لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن اسجد على سبعة أعظم الجبهة وأشار إلى أنفه) (1) - وفي رواية النسائي: (الجبهة والأنف) (2) – واليدين، وفي رواية مسلم: (والكفين) والركبتين وأطراف القدمين) .
المسألة الثانية: هي في قوله: (رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته) .
هنا ما ذكره من الترتيب هو الترتيب الطبيعي فالرجلان ثابتتان ثم بعد ذلك الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف هذا هو الذي يقتضيه الهوي والخرور.
لكن السنة قد دلت على أن اليدين مقدمان على الركبتين، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد.
وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول، وهو مذهب عامة الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن المستحب أن يقدم الركبتين على اليدين.
واستدلوا:
بما رواه أبو داود عن وائل بن حجر وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (3)
__________
(1) رواه البخاري باب (134) السجود على الأنف رقم (812) وانظر (809) ، ومسلم (490) باب (44) أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر.. من كتاب الصلاة.
(2) رواه النسائي في كتاب التطبيق، باب (43) السجود على الأنف رقم (1096) بلفظ: " عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أسجد على سبعة لا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين ".
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ رقم (838) ، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه غير شريك "،وذكر أن هماما رواه عن عاصم مرسلا لم يذكر فيه وائل بن حجر، وقال النسائي: لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن هارون، من مختصر المنذري، سنن أبي داود [1 / 524] .(5/80)
وبما رواه ابن خزيمة من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين) (1)
أما أهل القول الثاني، وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل الحديث: إلى استحباب تقديم اليدين على الركبتين، واستدلوا بدليلين:
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 100
2469 أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني الفقيه أنبأ أبو محمد بن حيان ثنا بن الظهراني ح وأخبرنا محمد بن أحمد بن زكريا أنبأ محمد بن الفضل بن إسحاق بن خزيمة أنبأ جدي قالا ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن أبي سلمة بن كهيل ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين كذا قال والمشهور عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق والله أعلم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 319
628 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/81)
1- الأول: ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) (1) قالوا: ركبة البعير، وركبة كل ذي أربع في يديها، ومعلوم أن البعير إذا سجد، سجد في مقدمه ثم بعد ذلك لحقه المؤخر والركبتان في مقدمه كما نص على ذلك صاحب لسان العرب وغيره.
وقد روى البخاري في صحيحه في قصة سراقة بن مالك وفيه قال: (فساخت يد الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين) (2) فهذا يدل على أن ركبة الفرس وهكذا ذوات الأربع أنها في اليدين، فالبعير ركبتاه في يديه ولا يصح إنكار ابن القيم لذلك في الزاد فإن هذا الإنكار يخالفه ما ثبت في لغة العرب.
ومعلوم أن البعير يخر على ركبته، فنهي المصلي عن ذلك، وزاد ذلك وضوحاً بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وهذا الحديث إسناده صحيح ورواته كلهم ثقات وسنده متصل.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه رقم (840) ، قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا، وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ، وروي فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد – كذا في النسخة التي بين يدي – قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ".
(2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1422 رقم 3696 كذا في الاسطوانة، وفي نسخة عندي رقم (3906) باب (45) هجرة النبي وأصحابه من كتاب مناقب الأنصار، وهو في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1592 رقم 2009، كتاب الأشربة بدون ذكر الركبتين، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/82)
والثاني: ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (1) وروى ذلك البخاري في صحيحه معلقاً القسم الموقوف فيه: (أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه) (2) ومعلوم أن ابن عمر كان من أتبع الناس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يغلو في نظر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فكانوا ينكرون عليه، فكان في غاية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا كما هو معلق فقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو القول الراجح.
وأما ما استدل به أهل القول الأول:
فأما حديث أبي داود ففيه شريك بن عبد الله وهو ضعيف إذا تفرد وقد خالف هنا فقد خالف همام وهمام قد رواه مرسلاً، فكان فيه تفرد ومخالفة لذا ضعفه البخاري والبيهقي والدراقطني، فإسناد الحديث ضعيف.
أما الحديث الثاني ففيه إسماعيل بن يحيى وهو متروك.
والصحيح ما تقدم في الحديث المتفق عليه في التطبيق.
فالصواب أن هذا وهم وخطأ بل نكارة لأن الصحيح المشهور هو نسخ التطبيق.
ومن هنا فالراجح مذهب أهل القول الثاني (3)
__________
(2) ذكره البخاري في كتاب الأذان،باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد قبل رقم (803) .
(3) تراجع شيخنا عن هذا القول فقال في شرحه للزاد برأس الخيمة ما نصه: " إذاً: استدلوا بحديث وائل بن حجر، وهو من حديث شريك عن عاصم بن كُليب عن أبيه عن وائل بن حجر، وشريك إذا تفرد بالحديث، فإن الحديث لا يقبل، يعني ضعيف إذا تفرد، وقد روى هذا الحديث همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه مرسلا، يعني ليس فيه ذكر وائل بن حجر، إذاً: الصواب في هذا السند الإرسال.
فشريك رواه موصولا، وهمام رواه عن شقيق عن عاصم مرسلا.
لكنه ورد من طريق آخر عن وائل بن حجر من حديث محمد بن جُحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار لم يدرك أباه، وهذا طريق آخر، وعلى ذلك: يكون الحديث حسنا لغيره، فإن الحديث قد ورد عن وائل بن حجر من طريقين، والحديث صححه ابن خزيمة وغيره، وقد صح هذا أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في مصنف ابن أبي شيبة: أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ".
القول الثاني في المسألة، وهو قول المالكية، وقال أبو بكر بن أبي داود: " وهو قول أهل الحديث "، ومراده - كما قال ابن القيم - أي بعض أهل الحديث، فإن أحمد والشافعي وإسحاق على خلافه.
استدل أهل هذا القول بما روى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، واستدلوا أيضا: بما روى ابن خزيمة أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله.
والأرجح هو القول الأول، وأما الجواب عن الحديثين:
أما الحديث الأول، وهو حديث أبي هريرة (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فأولاً: قوله (وليضع يديه قبل ركبتيه) قد تفرد بها عبد العزيز الدَّروردي عن محمد بن الحسن، وروى هذا الحديث عبد الله بن نافع عن محمد بن الحسن بلفظ (يعمد أحدكم إذا سجد، فيبرك كما يبرك البعير) ولم يقل (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فتفرد بهذه الجملة (وليضع يديه قبل ركبتيه) عبد العزيز الدروردي، وهو كما قال الحافظ: " صدوق يهم " وقال أبو زرعة: " سيء الحفظ "، فقد تفرد بهذه الزيادة، وقد وهم في ذلك، فعلى هذا التقرير، يبقى الحديث (يعمد أحدكم، فيبرك كما يبرك البعير) وليس فيه (وليضع يديه قبل ركبتيه) .
وعليه: فما صورة بروك البعير؟
معلوم أن البعير إذا برك، فإنه يبدأ بمقدَّمه، ويبقى المؤخر منتصبا، سواء كان قلنا أن ركبة البعير في يديه أو أنها في رجليه، فإنه يبدأ بالمقدَّم، ويبقى المؤخر منتصبا.
ثانيا: أن الحديث من أصله – يعني جملة – حديث معلول، فقد أعلَّه الإمام البخاري والدارقطني والترمذي، قال الترمذي رحمه الله تعالى: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " اهـ، فالحديث من حديث محمد بن الحسن عن أبي الزناد، أبو الزناد من المكثرين من الحديث، وهو ممن تدور عليهم السنة، فأين أصحابه عن هذه السنة، حتى يتفرد بها محمد بن الحسن؟! وقد ذكر الإمام البخاري محمد بن الحسن في كتابه في الضعفاء، وقال: " لا يُتابع عليه "، وقال: " لا أدري هل سمع من أبي الزناد أم لا؟ "، فإذا كان ممن لا تعرف روايته عن أبي الزناد، فلا يدري الإمام البخاري رحمه الله، هل سمع من أبي الزناد أم لا، فكيف يتفرد بهذه السنة عن سائر أصحاب أبي الزناد. إذاً: الحديث، كما قال الترمذي: " غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " يعني أين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث؟! فقد تفرد به من لا يُعرف له عنه سماع، ولم يتابع على ذلك، ولذا كما تقدم أعله البخاري والدارقطني والترمذي، وكذلك حمزة الكِناني، وهو من شيوخ ابن مندة والدارقطني، كما ذكر هذا ابن رجب رحمه الله تعالى. إذاً: الحديث، الصواب أنه معلول.
نأتي إلى الحديث الآخر، وهو حديث ابن عمر عند ابن خزيمة:
الحديث من حديث عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " وعبد العزيز الدروردي، كما تقدم، صدوق له أوهام، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: " كان يقلب أحاديث عبد الله بن عمر، يرويها عن عبيد الله بن عمر " وهذا الحديث منها، فإن هذا الحديث يرويه عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ولذا قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في هذا الحديث: " لا أراه إلا وهما، والمحفوظ من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا سجد أحدكم، فليضع يديه، وإذا رفع وجهه، فليرفعهما) يعني أن الواجب على من سجد أن يضع يديه كما أنه يجب عليه أن يضع وجهه.
وهذا الأثر قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى معلقا موقوفا، ففي البخاري: " كان ابن عمر رضي الله عنه إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه " ولم أقف على سند لهذا، لكن معلقات الإمام البخاري رحمه الله صحيحة إذا جزم بها، ومع ذلك فإن هذا الأثر لم يُغلقه الحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق "، فإنه لم يذكر سند هذا المعلَّق.
إذاً: الصواب أن هذا لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو وهم، وعلى ذلك فالراجح أن المستحب له أن يضع ركبتيه قبل يديه، كما هو مذهب جمهور العلماء. والله أعلم.(5/83)
وتقدم من ذهب إليه، وقال الأوزعي فيما رواه المروزي عنه: (أدركت الناس وهم يضعون أيديهم قبل ركبهم) (1) وإسناده صحيح.
(والجبهة والأنف)
للحديث المتقدم في قوله: (والجبهة وأشار إلى أنفه) ففرض في السجود أن يسجد المصلي على الجبهة والأنف جميعاً لصحة الحديث الوارد في هذا: وهو أصح الوجهين في المذهب وهو أشهرهما.
قال: (ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده)
فلو سجد وبينه وبين الأرض حائل سواء كان متصلاً أو منفصلاً أي متصل بالمصلي كأن يضع طرف ثوبه فيصلي عليه، أو منفصلاً كأن يأتي بشيء آخر من سجادة ونحوها.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف ثوبه من شدة الحر في مكان السجود) (2) .
وروى البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على قلنسوته وعمامته) (3)
لكن استثنى من ذلك (ليس من أعضاء سجوده) :
فإذا وضع يديه ثم سجد عليها فلا يصح ذلك.
قالوا: لأن هذا الفعل يداخل أعضاء الساجد، فالشارع قد أمره بالسجود على هذه الأعظم السبعة وحيث جعل بعضها فوق بعض فإن ذلك تداخل فيما بينها ويجعلها متفرقة كما أمر الشارع فهو قد أمر بها متفرقة وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.
__________
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب (23) السجود على الثوب في شدة الحر رقم (385) ، ومسلم رقم (620) .
(3) ذكره البخاري في الباب السابق، ورواه البيهقي في الكبرى [2 / 153] رقم (2667) باب (202) من بسط ثوبا فسجد عليه من كتاب الصلاة. وعبد الرزاق في مصنفه [1 / 400] رقم (1566) في باب السجود على العمامة مختصراً.(5/84)
* اعلم أن المشهور في المذهب: أنه يسجد ببعض عضوه فإذا وضع أطراف الأصابع في السجود أجزأه ذلك وإن رفع راحتيه.
وذهب بعض الحنابلة كابن حامد وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد: إلى أنه لا يجزئه ذلك – وهذا هو الراجح – لظاهر الحديث، فإن في الحديث: (واليدين) وفي رواية: (والكفين) وحيث سجد على أطراف الأصابع فإنه لم يسجد على الكفين، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فيجب أن يفعل كله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) فيدل على أنهم إذا استطاعوا أن يأتوا به كله فلا يجزئهم سوى ذلك.
وهنا أمره - صلى الله عليه وسلم – السجود على الأعضاء السبعة بتمامها وكمالها فلا يجزئه سوى ذلك.
فالراجح أنه لا يجزئه أن يسجد على بعض عضوه بل لابد أن يسجد على العضو كله.
قال: (ويجافي عضديه)
__________
(1) تقدم مراراً.(5/85)
أي يجافي عضديه عن جنبيه، لما روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي عضديه عن جنبيه) (1) وثبت في الصحيحين من حديث ابن بحينة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فسجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) (2) حتى قالت ميمونة – كما في مسلم -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت) (3) البهمة: صغار المعز.
فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي عضديه عن جنبيه.
ويستحب له أن يرفع مرفقيه ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) (4) .
قال: (وبطنه عن فخذيه)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (900) قال: " حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أحمر بن جَزْء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له " أي نرثي له ونشفق عليه ونرق له، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 555] .
(2) أخرجه البخاري 390، 807، 3564، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (495) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (496) بلفظ عن ميمونة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ أن تمر بين يديه لمرت "، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (898) عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى بين يديه حتى لو أن بهْمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت ".
(4) أخرجه مسلم بنفس اللفظ آخر حديث في باب (45) الاعتدال في السجود ووضع الكفين.. من كتاب الصلاة (494)(5/86)
يستحب أن يجافي بطنه عن فخذيه، وفخذاه عن ساقيه فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه) (1) وفي النسائي وأبي داود بإسناد صحيح عن البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد جخَّ) (2) أي نحى وهي تنحية عامة، فينحي البطن عن الفخذين والفخذين عن الساقين.
قال: (ويفرق ركبته)
للحديث المتقدم حديث أبي حميد الساعدى وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه) (3) ومقتضاه التفريج بين الركبتين أيضاً.
ويستحب له في قدميه أن يضمهما وأن يتوجه بأطراف أصابعه إلى القبلة وأن يرص القدمين بعضهما إلى بعض.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (735) قال: " حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، حدثني عتبة، حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل الساعدي، عن أبي حميد، بهذا الحديث، قال: وإذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود، والنسائي في باب صفة السجود، من كتاب التطبيق، المغني [2 / 201] .
(3) رواه أبو داود، وقد تقدم قريباً.(5/87)
يدل على مسألة نصب القدمين: ما ثبت في الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نضع اليدين وننصب القدمين) (1) أي العقبان إلى أعلى وأطراف القدمين إلى أسفل.
وأما استقبال القبلة في الأصابع: فلِما ثبت في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) .
ويستحب أن يفرج بين أصابعه، لما ثبت في الترمذي: (وفتح أصابع رجليه) (3) .
وأما رص القدمين بعضهما ببعض فثبت هذا في ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رص بين قدميه) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود (277) قال: " حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين " قال أبو عيسى: " وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد – دون أبيه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين مرسل. وهذا أصح من حديث وُهَيب، وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد..، المغني [2 / 123] .
(3) سنن الترمذي ج: 2 ص: 106 بلفظ ".. ثم جافى عضديه عن أبطيه وفتح أصابع رجليه.. " في باب (227) منه، رقم (304) ، سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 116 رقم 2551، صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 297 رقم 587، وفي مواضع أخرى، كما في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(4) قال الألباني رحمه الله تعالى في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صْ 109: " الطحاوي وابن خزيمة (رقم – 654 – طبع المكتب) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ". وانظر تلخيص الحبير ج: 1 ص: 256 رقم 385، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/88)
وأما الكفان فيستحب أن يكونا حيال المنكبين أو يكونا حيال الأذنين أو الوجه، فهنا صفتان:
الأولى: أن تكون الكفان حذو المنكبين ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه) (1) .
الثانية: أن يكون حذو أذنيه، فدليله ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو أذنيه) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد سجد بين كفيه) (3) أي جعل وجهه بين كفيه أي قريباً من حيال الأذنين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة.المغني [2 / 201] ، ولفظه في باب افتتاح الصلاة (736) : " فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه "، وفي باب رفع اليدين في الصلاة (723) بلفظ: ".. ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه "، وبلفظ (726) ".. فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه.. "(5/89)
ويستحب أن يضم أصابعه ويستقبل بهما القبلة كما ثبت ذلك في البيهقي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضم أصابعه واستقبل بأطرافهما القبلة) (1)
قال: (ويقول: سبحان ربي الأعلى)
تقدم الكلام على هذا، وذكر الأدلة عليها وذكر ما يستحب ذكره في السجود – في الكلام على لفظة: (سبحان ربي العظيم في الركوع)
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن والسبعون
(الثلاثاء: 1 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرفع رأسه مكبراً)
أي يرفع رأسه من السجود إلى الجلسة بين السجدتين.
" مكبراً ": أي قائلاً: " الله أكبر " لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: (ثم يكبر حين يهوي ساجداً ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود) (2) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب يضم أصابع يديه في السجود ويستقبل بها القبلة (2695) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه، ثنا الحسن بن سفيان بن عامر، عن الحارث بن عبد الله بن إسماعيل بن عقبة الخازن، ثنا هشيم، عن عاصم بن كليب، عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع فرج أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه " وقال (2696) : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر، أنبأ عياش بن تميم السكري، ثنا مخلد بن مالك بن جابر، ثنا محمد بن سلمة، عن الفزاري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فوضع يديه بالأرض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة ".
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود رقم (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر … ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه … "، ورواه مسلم (392) .(5/90)
وهي – أي الجلسة بين السجدتين – ركن من أركان الصلاة وفي حديث المسيء صلاته المتفق عليه: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (1) .
وقد تقدم مشروعية رفع اليدين إلى المنكبين أو فروع الأذنين أحياناً.
قال: (ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه)
أي يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى، وهذه هيئة الجلوس بين السجدتين.
لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة وفيه: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61
(2) صحيح مسلم ج: 1 ص: 357 رقم 498 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني الأحمر عن حسين المعلم ح قال وحدثنا إسحاق بن إبراهيم واللفظ له قال أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا حسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب الحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/91)
وقد ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي في قصة صلاته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها حتى رجع كل عضو موضعه ثم هوى ساجداً) (1) وفيه أنه اطمأن في جلسته.
ويستحب أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه اليمنى – وهي المنصوبة – أن يستقبل بها القبلة كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) يعني في الجلسة بين السجدتين كما هو ظاهر الرواية.
ويضع يديه على فخذيه كما سيأتي في الكلام على وضع اليدين في التشهد، ومثله الجلوس بين السجدتين.
ولا يستحب أن يشير بأصبعه – في الجلسة بين السجدتين – خلافاً لابن القيم، حيث ساق في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة في الجلسة بين السجدتين، ولا دليل على ذلك، وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (3) فإنها رواية شاذة عند أهل العلم، ولم أر أحداً من أهل العلم ذكرها سوى ابن القيم.
قال: (ويقول: رب اغفر لي)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (730) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه …ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك.. ". ومعنى يفتخ كما قال الخطابي: يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة، والفتخ لين واسترسال في جناح الطائر.
(2) روى النسائي في كتاب التطبيق، باب (96) الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد عن عبد الله عمر قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ".(5/92)
لما ثبت في سنن النسائي: بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) (1) أي يكررها ما شاء الله، فالمستحب هذا اللفظ " رب اغفر لي "
وهو كالمستحب في " سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى " الواجب مرة، وأدنى الكمال ثلاثاً، والمستحب أن يكررها ما شاء بقدر جلوسه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يطيل الجلسة بين السجدتين حتى يقال: قد نسي) يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لا آلُ (2) أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان – أي أنس – إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي أو وهم وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد وهم أو نسي) (3) في رواية " نسي " وفي رواية أخرى " وهم ".
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (86) الدعاء بين السجدتين رقم (1145) .
(2) كذا في الأصل، وفي البخاري: آلو، بالمد.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين رقم (821) ولفظه: " عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. وانظر (800) ، ومسلم (472) .(5/93)
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم – من الأذكار في هذا الموضع ما رواه الأربعة إلا النسائي – وهذا لفظ أبي داود – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقول بين السجدتين " رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني ") (1) وفي رواية الترمذي: (واجبرني) (2) في موضع (عافني) وزاد ابن ماجه لفظة (وارفعني) (3) – والحديث إسناده حسن.
وحسن أن يجمع بينهما – أي هذه الألفاظ – لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذان الحديثان الوارد فيهما من باب الدعاء، ومنه يستفاد أن هذا الموضع موضع دعاء، وحيث كان موضع دعاء وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس حتى يقال قد نسي فإن فيه: أنه لا بأس أن يزيد من الأدعية ما شاء من غير أن يتخذ شيئاً من الألفاظ سنة مستحبة في هذا الموضع.
قال: (ويسجد الثانية كالأولى)
أي يسجد السجدة الثانية كهيئة السجدة الأولى فيستحب فيها ما يستحب في الأولى وما يجب من الأقوال والأفعال.
قال: (ثم يرفع مكبراً)
أي قائلاً: " الله أكبر " وقد تقدم هذا في حديث أبي هريرة.
قال: (ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبته إن سهل)
فيها مسائل:
المسألة الأولى: هل يستحب له أن يجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو الثالثة أم لا؟
على قولين:
1- القول الأول: وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يستحب له ذلك لذا لم يذكرها المؤلف.
واستدلوا:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة،باب (145) الدعاء بين السجدتين (850) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (95) ما يقول بين السجدتين رقم (284) .
(3) رواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (23) ما يقول بين السجدتين رقم (898) بلفظ: " عن ابن عباس قال: كان رسو الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني ".(5/94)
بأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة لم تذكر هذه الجلسة.
2- القول الثاني: وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخلال من أصحابه وذكر أن الإمام أحمد قد رجع إلى القول بها، وهو مذهب أهل الحديث: وأنه تستحب هذه الجلسة.
واستدلوا بحديثين ثابتين:
الحديث الأول: حديث مالك بن الحويرث في البخاري قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) (1)
الحديث الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي، وقد قاله بمحضر عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو قتاده وقالوا له – لما ذكر صفة الصلاة – من جملتها جلسة الاستراحة قالوا له: (صدقت هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي) وفيه: (ثم ثنى رجليه وجلس حتى رجع كل عضو موضعه ثم نهض) (2) .
قالوا: فهذان الحديثان فيهما إثبات جلسة الاستراحة.
أما حديث أبي حميد: فإنه قد أقره على ذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان،باب (142) من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض رقم (823) وانظر (824) ففيه: قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام، وانظر (677) .
(2) سنن الترمذي ج: 2 ص: 105 باب (227) باب منه رقم 304، قال في خلاصة البدر المنير ج: 1 ص: 136 رقم 451: " حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه وصف صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى يرجع كل عظم موضعه ثم نهض رواه الترمذي وقال حسن صحيح قلت وقول الطحاوي جلسة الاستراحة ليست في حديث أبي حميد غريب منه مع جلالته " انتهى من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم أجده في سنن أبي داود(5/95)
وأما حديث مالك بن الحويرث: فإن راويه – وهو مالك بن الحويرث – هو راوي أصل هذا الباب، وهو حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) وقد ذكر فيه جلسة الاستراحة وهذا هو القول الراجح (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631) راجع 628، ومسلم (674) .
(2) تراجع شيخنا عن ذلك في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 هـ فقال ما نصه " ومثل هذه المسألة في الخلاف بين أهل العلم، جلسة الاستراحة:
فإن من أهل العلم من استحبها كالشافعية.
ومنهم من لم يستحبها، كالجمهور.
ومنهم من قال: إنها إنما تُفعل عند الحاجة.
من لم يستحبها قال: إن أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها ذكر جلسة الاستراحة، وكذلك ما تقدم عن الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم.
وأما من استحبها، فاعتمد على حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فإن في البخاري أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا، وفي أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أنه كان إذا قام من السجدة، ثنَى رجله ثم جلس عليها حتى يرجع كل عضو موضعه، قال: ثم نهض ".
أما حديث أبي حُميد، فإن ذكر جلسة الاستراحة فيه وهم، كما قرر هذا ابن رجب في فتح الباري، ولذا قال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث: " ليس لهذا الحديث ثانٍ " أي ليس له من أحاديث الصحابة ما يشهد له، وهذا ليس فيه رد له، لكن المقصود أن سائر الصحابة لم يذكروها، فتفرد بذكرها مالك، فدل على أنها لا تستحب إلا في الحال التي أدركه عليها، ومالك بن الحويرث قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقل، والمعنى يتقضي ذلك: فإن هذه الجلسة للاستراحة، كاسمها عند أهل العلم، فالذي يحتاج إليها، يجلسها، سواء كان مريضا أو ثقيلا. فالأصح، وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد والشافعي، أن هذه الجلسة إنما تستحب عند الحاجة. إذاً: لأهل العلم في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أقربها أن هذه الجلسة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كبُر وثقل، وعلى ذلك فتستحب عند الحاجة ".(5/96)
أما ما ذكره أهل القول الأول: من أن هذه السنة لم تثبت إلا في هذين الحديثين.
فالجواب: أن هذا في الحقيقة كاف في إثباتها ولا يشترط أن يروي من غير هذين الحديثين بل لو ثبتت السنة في حديث واحد لكانت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقيل وهو اختيار الموفق: يستحب لمن ضعف وكبر. وعليه حمل الحديثان المتقدمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما على كبر.
لكن هذا وإن كان قد يكون واقعاً – فإن مالكاً راوي هذا الحديث قد يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد كبر، لكن هذا لا يعني أنه لا يستحب لغيره.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (صلوا كما رأيتموني أصلي) لم يستثن من ذلك شيئاً، وكانوا قد رأوه وقد جلس جلسة الاستراحة، فلو لم تكن مستحبة لاستثناها النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي حميد حديث مطلق ليس فيه ما يدل على أنه فعله حين الكبر.
كما أن إقرار هؤلاء العشرة وسكوتهم عن روايته وعدم اعتراض أحد منهم على ذلك بأنه قد فعلها حين الكبر، فسكوتهم يدل على أن ذلك سنة مستحبة مطلقاً.
إذن: الراجح سنية جلسة الاستراحة.
ويستحب أن يطمئن بها كما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي: (ثم جلس حتى رجع كل عضو) وهي جلسة لطيفة لم يرد فيها ذكر.
مسألة:
على القول باستحباب هذه الجلسة متى يكون التكبير؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم هي ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية:
الأول: أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم ينهض بلا تكبير.
الثاني: أنه لا يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم يكبر وينهض.
الثالث: أنه يكبر إذا رفع رأسه ويمد تكبيره حتى يجلس ثم ينهض.
وهذا أصحها عند الشافعية وهو المشهور عندهم.
والراجح عدم استحباب ذلك لأن هذه الصفة لو كانت ثابتة لنقلت إلينا لاختلاف الصفة عن غيرها من التكبيرات.
ثم إن هذه الجلسة إنما شرعت لإعطاء البدن شيئاً من الراحة وحيث كان على هذه الهيئة فإنه ينافي هذا.(5/97)
وأصحها أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير، والذي يدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه من رآه ممن حكى لنا هذا، ولو كان يكبر عن إرادة النهوض لما رويت لنا لعد رؤيتها، وهذا يضعف القول بأنه يكبر عند النهوض.
وقد تقدم تضعيف القول بمد التكبير بحيث يكون شاملاً للرفع والجلسة والنهوض.
فيبقى أصح الأقوال أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير ويؤيده قول أبي هريرة – في الحديث المتقدم -: (ثم يكبر حتى يرفع رأسه) وهذا إنما يصدق على فعله بعد الرفع مباشرة.
وهذا القول هو قول في مذهب الحنابلة.
وقد اختار بعضهم الرواية الأخرى عن الإمام أحمد ورتبوا عليها ذلك كما ذكر الموفق في المغني.
المسألة الثانية:
أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته.
أما قيامه على صدور قدميه، فلما روى الترمذي من حديث خالد بن إلياس وهو متروك الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا نهض ينهض على صدور قدميه) (1) وإسناده ضعيف جداً.
واستدلوا على استحباب اعتماده بيديه على ركبتيه أو فخذيه: بحديث وائل بن حجر في سنن أبي داود: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض ينهض على ركبته واعتمد بيديه على فخذيه) (2)
__________
(1) سنن الترمذي ج: 2 ص: 80 باب 214 باب منه أيضا رقم 288 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا أبو معاوية حدثنا خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه قال أبو عيسى حديث أبي هريرة عليه العمل ثم أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه وخالد بن إلياس هو ضعيف ثم أهل الحديث قال ويقال خالد بن إياس أيضا وصالح مولى التوأمة هو صالح بن أبي صالح وأبو صالح اسمه نبهان وهو مدني " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (736) .(5/98)
واستدلوا: بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة) (1) .
- وذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن المستحب له أن ينهض معتمداً على يديه.
فإذا جلس للاستراحة أو قام من التشهد الأول فإنه يعتمد على الأرض بيديه.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري من حديث مالك بن الحويرث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا رفع من السجدة الثانية جلس واعتمد بيديه على الأرض ثم قام) (2)
وأما الحديثان اللذان استدللتم بهما:
فالأول: ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه فإنه لم يدرك أباه.
وأما الثاني: فإن مداره على عبد الرزاق صاحب المصنف، وقد رواه الثقات كالإمام أحمد وغيره عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة) (3) وأخطأ بعض الرواة فرواه باللفظ المتقدم.
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 260 باب 188 كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / كتاب الصلاة، رقم 992 حدثنا أحمد بن حنبل وأحمد بن محمد بن شبويه ومحمد بن رافع ومحمد بن عبد الملك الغزال قالوا ثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر ثم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده وقال بن شبويه نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة وقال بن رافع نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده وذكره في باب الرفع من السجود وقال بن عبد الملك نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة ". اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (143) كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة رقم (824) وفي آخره: " قل أيوب: " وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام " وليس فيه " بيديه ".(5/99)
إذن الراجح أن المستحب له أن يعتمد بيديه على الأرض فيقوم (1)
__________
(1) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 ما نصه: " وأجاب الحنابلة: بأن أكثر الأحاديث الواردة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر الاعتماد على اليدين، وتفرد بهذه السنة الصحيحة مالك بن الحويرث، وكان من متأخري الإسلام، فقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كبُر عليه الصلاة والسلام، وهذا هو ما يسمى بالعجن، يعني فعل العاجن أو العاجز، يعني إذا قام اعتمد على يديه، فيكون قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقُل، وهذا هو الأصح، وأن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه، ولذا فإن هذه السنة هي الثابتة عن الأكابر من أصحاب النبي كما روى ذلك ابن أبي شيبة، فقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة أن عليا وابن مسعود وابن عمر كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، يعني كانوا إذا قاموا في الصلاة ينهضون على صدور أقدامهم، فعامة الأحاديث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر الاعتماد على اليدين، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهضون على صدور أقدامهم، وهذه السنة قد رواها مالك بن الحويرث، وهو من متأخري الإسلام، فدل هذا على أن هذه السنة، إنما تفعل عند الحاجة.
وصورة العجن: أن يضع اليدين على الأرض ثم يقوم، وأما تخصيص الاستحباب بأن يكون كما يضع العاجن – الذي يعجن العجين – فيعجن، فإن هذا التخصيص ضعيف، وأما ما رواه الطبراني في الأوسط، والحربي الحنبلي في غريبه من حديث الهيثم بن عمران، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يعجن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " فإن هذا الحديث لا يصح، فإن الهيثم بن عمران لم يوثقه سوى ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكونه روى عنه جماعة، هذا يُقبل حيث لم يأت بسنة غريبة، ولذا فإن هذا الحديث قد أعرض عنه سائر الأئمة، فلم يعتمدوا عليه، وقد قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى فيه: " لا يصح ولا يعرف، ولا يحتج به "، وقال النووي: " ضعيف باطل لا أصل له " ذكر هذا ابن حجر في تلخيص الحبير، ولم يتعقب ذلك، وأول من ذكر هذه السنة هو الغزالي في بعض كتبه، وأنكر عليه أئمة الشافعية، ولما ذكر ابن رجب هذا الحديث في فتح الباري قال فيه: " غريب، والهيثم لا يعرف "، فهذا الحديث حديث ضعيف، وعلى ذلك: فالمستحب له إن قلنا بالاعتماد، أن يعتمد على أي شكل، سواء هكذا أو هكذا، من غير تخصيص باستحبابه، يعني لا نقول: إن المستحب فقط أن يقول هكذا. على أن الراجح أن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه ".(5/100)
قال: (إن سهل) :
تقدم أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته، يفعل هذا إن سهل.
فإن كان فيه مشقة فإنه يعتمد على يديه دفعاً للمشقة.
وقد أجابوا عن حديث مالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لكونه كبر وثقل فكان يعتمد على يديه، وقد تقدم الجواب عن نحو هذا.
قال: (ويصلي الثانية كذلك)
فيصلي الركعة الثانية كصلاته الركعة الأولى.
قال: (ما عدا التحريمة)
فإنها تشرع في أول الصلاة.
قال: (والاستفتاح)
لحديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1) أي لم يسكت للاستفتاح.
قال: (والتعوذ)
فإنه يسقط على المشهور في المذهب.
وتقدم أن الراجح أنه يتعوذ كل ركعة للقراءة.
قال: (وتجديد النية)
فإن النية في أول الصلاة شاملة، لأولها ووسطها وآخرها فلا يحتاج إلى تجديد النية فيه.
وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته وفيه أنه أمره بقراءة ما تيسر من القرآن ونحو ذلك وفيه: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (2) فيفعل ما ذكر من الواجبات والأركان في الثانية كما فعله في الأولى.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة رقم (599) بلفظ: " سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} ولم يسكت ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . تقدم صْ 61.(5/101)
ثبت في مسلم جلسة الإقعاء وهي أن ينصب قدميه ويقعد عليهما وهي صفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ابن عباس: (سنة نبيكم) (1) .
مسألة:
إذا كان الإمام لا يجلس جلسة الاستراحة فهل يجلسها المأموم أم لا؟
الجواب: إن جلسها فلا بأس؛ لأنها سنة مستحبة وإن لم يجلسها فهو أولى، قال شيخ الإسلام: " وهذا الأقوى؛ لأن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب " (2) .
__________
(1) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) . وسيأتي صْ 152.
(2) جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ما نصه [22 / 451] : " وسئل: عن رجل يصلي مأموماً ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصا لأجره لأجل كونه لم يتابع الإمام في سرعة الإمام؟ فأجاب: جلس الاستراحة قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل ذلك لأنه من سنة الصلاة، فمن قال بالثاني استحبها، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الرواية الأخرى، ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان مأموماً، لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها، وهل هذا إلا فعل في محل الاجتهاد فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟ ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب، والله أعلم ".(5/102)
هذه المسألة لها صور، كأن يتخلف المأموم عن السلام بعد سلام إمامه بدعاء أو نحوه أو يتخلف عن القيام معه لاشتغاله بذكر أو نحوه فالأولى متابعة الإمام وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا كبر فكبروا ….) (1) وظاهره الإسراع والمبادرة بفعله بمجرد ما يفعله الإمام.
إذن: إن فعل ذلك فلا بأس؛ لأن هذا شيء يسير لا يخل بالمتابعة، لكن إن تركها متابعة للإمام فهو أولى.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس التاسع والسبعون
(يوم الأربعاء: 2 / 4 / 1415هـ)
ذكر المؤلف – فيما سبق – تفاصيل الركعة الأولى، وذكر الركعة الثانية مجملة، فيبقى الكلام على التشهد الأول وسننه.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يجلس مفترشاً (يسراه) ويداه على فخذيه …. إلى آخره)
في هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى:
في صفة جلوس التشهد، وهو أنه يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى – كما تقدم – في حديث عائشة (2) وهو ثابت من حديث ابن عمر كما في البخاري (3) ، فالسنة في التشهد أن يجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه.
المسألة الثانية: (ويداه على فخذيه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) ،وقد تقدم صْ 98.
(2) رواه مسلم، وقد تقدم صْ 113.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد رقم (827) ، وكذلك من حديث أبي حميد الساعدي في البخاري رقم (828) .(5/103)
فاليدان يوضعان على الفخذين، لحديث وائل بن حجر عند الخمسة بإسناد صحيح وفيه: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى (1) وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن وقبض اثنتين وحلق، ورأيته يقول: هكذا، وحلق بشر – وهو الراوي – الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة) (2) .
إذن يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بأصبعه السبابة.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يضع يديه على الركبتين وأنه يقبض أصابعه كلها ويشير بالسبابة، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إن قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وسبعين (3) - وهي طريقة الحساب عند العرب - وأشار بالسبابة) (4) .
وهذه الطريقة هي: أن يضم أصابعه الأربع ويشير بالسبابة وفي رواية: (قبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) (5) فهاتان صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: (ويشير بسبابتها في تشهدها)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم وأن يشير بها بلا تحريك أي لا يحرك إصبعه السبابة.
__________
(1) كذا في الأصل وهي موافقة للفظ الحديث كما في أبي داود وغيره.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (180) كيف الجلوس في التشهد (957) ، قال في حاشية سنن أبي داود [1 / 587] : " وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا حديث 867 ".
(3) كذا في الأصل وفوقها كلمة: خمسين، وهي الموافقة للفظ الحديث.
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد / باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين / رقم (580) بلفظ: " ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ".
(5) رواه مسلم في الباب السابق رقم (580) .(5/104)
واستدلوا: بأن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا ذكر الإشارة كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد ذلك صريحاً – كما في سنن أبي داود- عن ابن الزبير بإسناد جيد وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يشير بإصبعه ولا يحركها) (1) .
- وذهب المالكية: إلى استحباب تحريك الأصبع.
واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يحركها يدعو بها) (2)
والصحيح المذهب الأول، لأن هذا الحديث شاذ فعامة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها التحريك وإنما فيها الإشارة فحسب.
بل قد خالف صراحة حديث ابن الزبير وفيه عدم التحريك بل عامة الرواة عن وائل لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها بعض الرواة.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (186) الإشارة في التشهد رقم (989) .
(2) عزاه الحافظ كما في تلخيص الحبير لابن خزيمة والبيهقي، ولم يعزه لأبي داود، ولم أجده في سنن أبي داود لكن عزاه غير واحد إليه. وقد رواه النسائي - المجتبى ج: 2 ص: 126 باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة رقم (889) وج: 3 ص: 37 باب (34) قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى وعقد الوسطى والإبهام منها رقم 1268، وصحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 354 باب (224) صفة وضع اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة ثم الإشارة بها رقم (714) . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/105)
ومما يدل على ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مرَّ على رجل وهو يشير بأصبعيه يدعو بهما فقال: (أحِّد أحِّد) وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة) (1)
فإن هذا من جنس من يرفع اليدين للدعاء، فيشير بإصبعه إشارة إلى توحيد الله وأن هو المدعو وحده، وأن الدعاء يوجه إليه دون غيره.
قوله: (في تشهدها)
المستحب عند الحنابلة في المشهور عنهم: أنه يشير بها عند التشهد - وذكر الله – فإذا ذكر الله أشار ثم يعيدها، وكلما ذكر الله أشار.
وعن الإمام أحمد: أنه يشير بها في تشهده كله، فيرفع أصبعه السبابة فيشير بها في تشهده كله.
أما ما ذكره الحنابلة وغيرهم في هذا الباب فلا دليل عليه وظاهر الحديث المتقدم أنه أشار بها في تشهده كله.
والتشهد في الحقيقة دعاء، لأنه ما بين ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما من مقدمات الدعاء وسؤال المغفرة ونحو ذلك فكله في الحقيقة دعاء.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: (فأشار بأصبعه فدعا بها) (2) فإذن التشهد كله دعاء.
__________
(1) رواه النسائي في كتاب السهو، باب (37) النهي عن الإشارة بأصبعين وبأي أصبع يشير رقم (1372) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رجلاً كان يعدو بأصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحد، أحد) ، و (1373) بلفظ: " عن سعد قال: مر علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة ".
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين رقم (580) بلفظ: " عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها ".(5/106)
ومعلوم أن الداعي لله عز وجل إذا دعاه فإنه يرفع يديه ويتضمن ذلك ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما داخلان في الدعاء لأنهما من مقدماته.
فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه من أنه يشير بها في تشهده كله.
ويستحب له أن يديم النظر إليها وحينئذ يكون استثناءً من النظر إلى موضع سجوده، فقد ثبت في المسند وغيره بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يديم نظره إليها) (1)
المسألة الرابعة: (ويبسط اليسرى)
أي يبسطها على فخذه.
أو يلقمها ركبته، فقد صح في مسلم من حديث ابن الزبير وفيه: (وألقم ركبته كفه) (2) فيستحب أن يبسطها على فخذه أو يلقمها ركبته.
قال: (ويقول: التحيات لله ….)
(التحيات لله) بمعنى: البقاء والعظمة والملك والسلامة لله تعالى.
(والصلوات) كلها فرضها ونفلها، والصلاة الشرعية واللغوية وهي الدعاء كل ذلك لله تعالى مستحق له مصروف إليه بل (والطيبات) كلها فكل عمل أو قول طيب فهو إلى الله يوجه ويصرف إليه.
(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) هكذا في الرواية وهو ما كان يعلمه عمر بن الخطاب على المنبر – كما في الموطأ بإسناد صحيح (3) .
__________
(1) رواه أحمد في المسند رقم (6000) ، وفي طبعة برقم (5964) قال: " حدثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري، حدثنا كثير بن زيد، عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه وأتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لهي أشد على الشيطان من الحديد) يعني السبابة
(2) رواه مسلم في الباب السابق قبل رقم (519) قبل رقم (580) . بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده … ويلقم كفه اليسرى ركبته "
(3) الموطأ / كتاب الصلاة / باب التشهد في الصلاة / رقم (200) .(5/107)
وذهب كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول بعد وفاته: (السلام على النبي) ، كما روى البخاري عن ابن مسعود قال: (لما كان بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام) قال البخاري: (يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -) (1) وقد ورد تصريحاً في مصنف ابن أبي شيبة ومستخرج الإسماعيلي: (السلام على النبي) (2) .
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يقولون: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي) (3) .
__________
(1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2311 رقم (5910) حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال سمعت مجاهدا يقول حدثني عبد الله بن سخبرة أبو معمر قال سمعت بن مسعود يقول ثم علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم " اسطوانة مكتبة الحديث، وفي نسخة عندي برقم (6265) باب (28) الأخذ باليدين / كتاب الاستئذان
(3) مصنف عبد الرزاق [2 / 204) رقم (3075) بلفظ:" عن عطاء: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا السلام على النبي ورحمة الله وبركاته "(5/108)
والأولى الوقوف على الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لفظ علمه الصحابة في حضرته وغيبته، فهو وهو غائب عنهم يصلون في بيوتهم أو في بواديهم أو في مدنهم الخارجة عن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وفي مساجدهم الخارجة عن مسجده وهم في حكم الغائب عنه، وهو في حكم الميت، لأنه لا يسمع لفظهم، بل وهم يصلون خلفه لا يسمع – من حيث الطبيعة – لا يسمع تسليمهم فإنه في حكم الغائب الميت صلى الله عليه وسلم.
وإذا قلنا: بأنه يسمع كلامهم وهو حي فكذلك وهو ميت كما ورد في الحديث الصحيح: (أنه ما من أحد يمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) (1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإن تسليمكم ليبلغني حيث كنتم) (2) .
فحينئذ: لا فرق بين كونه حياً وميتاً، وهذا ما كان عليه عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كان يعلمه بمحضر الصحابة.
وأما ما رواه ابن مسعود وغيره فإن هذا اجتهاد منهم ونظر.
__________
(1) قال في تلخيص الحبير ج: 2 ص: 267: " وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب "، رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور رقم (2041) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 4 ص: 3 " رواه أبو يعلي وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات " وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسي في مختاره عن علي رضي الله عنه كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى.، ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا … فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) . في كتاب المناسك / باب (100) زيارة القبور رقم (2042) .(5/109)
فالراجح أنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) .
قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)
هكذا في الرواية المتفق عليها (1) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف مرفوعاً: (وحده لا شريك له) (2) وهي ثابتة في سنن أبي داود موقوفة على ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: (وزدت وحده لا شريك له) (3) .
إذن: المستحب – كما هو المشهور في المذهب أنه لا يزيد عليها ذلك كما أنه لا يزيد عليها التسمية، فإنها قد وردت من حديث جابر في النسائي وابن ماجه (4) لكنها ضعيفة.
وهذا النوع من التشهد هو أشهرها، وهو تشهد ابن مسعود الثابت في الصحيحين.
__________
(1) صحيح البخاري / كتاب الاستئذان،باب (28) الأخذ باليدين / رقم (6265) ،ومسلم رقم (402) .
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (182) التشهد / رقم (971)
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، باب (45) نوع آخر من التشهد (1281) قال: " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا أيمن بن نابل قال حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار) . قال أبو عبد الرحمن: " لا نعلم أحدا تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ، وبالله التوفيق " ورواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (24) ما جاء في التشهد / رقم (902) قال الألباني " ضعيف ". وانظر مصنف عبد الرزاق رقم (3071) [2 / 203] .(5/110)
فقد صح عنه أنه قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) .
وقد اختاره الإمام أحمد مع ورود أنواع أخرى؛ وقد اختاره الإمام أحمد لأنه ثابت في الصحيحين ولأن أكثر أهل العلم عليه، فقد ذكر الترمذي: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على ذلك (2) .
ومع ذلك فإنه – باتفاق أهل العلم – أنه لو قال أي تشهد وارد فإن ذلك يجزئه – قال الإمام أحمد: " وتشهد عبد الله أعجب إلي وإن كان غيره جائزاً ".
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) جامع الترمذي / كتاب الصلاة / باب (99) ما جاء في التشهد / تحت رقم (289) قال: " والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ".(5/111)
فقد وردت تشهدات أخرى كتشهد ابن عباس في مسلم وغيره (1) ، لكن الإمام أحمد اختار تشهد ابن مسعود لثبوته في الصحيحين ولكونه محفوظاً حفظاً ثابتاً حتى قال الأسود: " كنا نتحفظه من عبد الله كما نتحفظ السورة من القرآن " (2) .
وإن فعل هذا تارة وهذا تارة فهو أولى لثبوت ذلك كله.
قال: (هذا التشهد الأول)
ولا يستحب – كما تقدم - أن تزيد عليه " وحده لا شريك له " ولا التسمية.
أما النقص: فهل يجزئه إذا نقص أم لا؟
قولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه يجزئه ذلك.
فإذا نقص منه بحيث ذكر أصوله فإن ذلك يجزئه، وذلك بأن يقول: " التحيات لله، والسلام عليك أيها النبي والسلام على عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
وهذا القول هو المرجح في المذهب وعليه أكثر أصحاب الإمام أحمد.
القول الثاني في المذهب وهو قول ابن حامد: وأن ذلك لا يجزئه حتى يأتي بالتشهد الوارد بتشهد ابن مسعود أو غيره من الوارد.
وهذا أولى وأحوط.
أما كونه أولى؛ فلأن هذا ذكر والأذكار يجب أن تؤدى كما رويت لذا لا يجوز أن تروى بالمعنى وذلك لأن ألفاظها متعبد بها.
__________
(1) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (16) التشهد في الصلاة / رقم (403) بلفظ: " عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) .
(2) رواه أحمد في المسند رقم (4382) بلفظ: " عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد.. قال: فكنا نحفظ من عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه.. "، وانظر المغني [2 / 222] .(5/112)
وأما كونه أحوط فهو ظاهر، فإنه احتياط في الديانة فهؤلاء يقولون يجزئ، والآخرون يقولون: لا يجزئ، والسنة فعله، فهو الثابت، فالأولى والأحوط أن يقوله كاملاً سواء كان تشهد ابن عباس أو ابن مسعود أو غيرهما.
ولا يستحب له أن يطيل الجلوس بعد التشهد، بل يقوم بعد ذكر التشهد.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد من طريق أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود ولم يسمع أباه ففيه انقطاع،- وله شواهد سيأتي ذكرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف) (1) وهي الحجارة المحماة.
وله شاهد من السنة المرفوعة وهو ما رواه أحمد بإسناد جيد من حديث محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث وفيه: (فإذا كان وسط الصلاة نهض حين يتم التشهد) (2) وله شاهد من السنة المرفوعة وهي سنة أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق: (أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف) (3)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (188) في تخفيف القعود / رقم (995) ، وأخرجه الترمذي حديث 366، قال الترمذي: " هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ". سنن أبي داود [1 / 606] .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (4382) في مسند عبد الله بن مسعود قال: " حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عن تشهد رسول الله في وسط الصلاة وفي آخرها عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها … ".
(3) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 263 رقم (3017) حدثنا جرير عن منصور عن تميم بن سلمة قال كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف يعني حتى يقوم ".
ولم أجده في مصنف عبد الرزاق في الاسطوانة، ولم يعزه إليه في تلخيص الحبير حيث قال في ج: 1 ص: 263 ما نصه: " وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، إسناده صحيح وعن ابن عمر نحوه قال ابن دقيق العيد المختار أن يدعو في التشهد الأول كما يدعو … " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/113)
إسناده صحيح وكذلك رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر.
ويسن له كما تقدم أن يعتمد على يديه إذا أراد القيام، كما هو القول الراجح.
ويستحب له إذا نهض من التشهد الأول أن يرفع يديه خلافاً للمشهور في المذهب، وهذا هو رواية عن الإمام أحمد واختاره المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدلوا: بما روى البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام من الركعتين رفع يديه) (1) فهذه سنة صحيحة لا يجوز العدول عنها.
ثم يصلي الركعة الثالثة من المغرب والركعتين الأخريين من صلاة الظهر والعصر والعشاء، ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب فحسب؛ لحديث أبي قتادة المتقدم: (أنه كان يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) (2)
ويستحب له تارة – كما هو رواية عن الإمام أحمد: أن يقرأ بسورة بعد الفاتحة – كما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك) (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان / باب (86) رفع اليدين إذا قام من الركعتين / رقم (739) .
(2) رواه البخاري / كتاب الأذان / باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب / رقم (776) , ومسلم رقم (451) .
(3) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (34) القراءة في الظهر والعصر / رقم (452) بلفظ: عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك ".(5/114)
وحينئذ: تكون قراءته في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر بقدر الفاتحة مرتين أي الفاتحة وسورة.
فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما قرأ مع فاتحة الكتاب سورة في الركعتين الأخريين من الظهر، وهو جائز ولا حرج فيه، بل يستحب أحياناً.
وقد أشار المؤلف إلى هذه المسائل التي تقدم ذكرها أشار إليها – بعد ذكر جملة من المسائل –
فقال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول)
(نهض مكبراً) للحديث المتقدم – حديث أبي هريرة – في الصحيحين: (وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط) (1) هذا هو المشهور في المذهب وأنه يقرأ بالحمد فقط، فإن قرأ بها وبغيرها فإنه يباح.
بل عن الإمام أحمد استحباب ذلك أحياناً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثمانون
(يوم السبت: 5 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
هذا لفظ من الألفاظ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه في الصلاة، وهو أصحها؛ لثبوته في الصحيحين ولذا اختاره الإمام أحمد.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: (قلنا يا رسول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك – في رواية مسلم " إذا نحن صلينا " فقال: قولوا: اللهم صل على محمد ... ) (2) الحديث.
وبأي نوع صليت عليه أجزأك ذلك وفعلت السنة.
* وهل يجزئه أن يكتفي بقول: " اللهم صل على محمد " أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يجزئه حتى يصلي عليه بالصلاة الواردة، واستدلوا: بورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان المشروع أن يقال كما ورد.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797) (63357) ، ومسلم (406) .(5/115)
القول الثاني: وهو المشهور عند الحنابلة واختاره الموفق: أنه يجزئه ذلك ولا يشترط أن يأتي به بتمامه بل يجزئه صلاة مطلقة، واستدل: بأن الصلاة الواردة عنه كانت عن سؤال، وما كان طريقه السؤال فليس بواجب، إذ لو كان واجباً لابتدأ به.
فهنا قال ذلك بعد سؤال الصحابة: فقالوا: " قولوا " وليس في هذا وجوب ذلك إذ لو كان واجباً لعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فسكوته عن تعليمهم ذلك حتى يسألوه يدل على أن ذلك إنما هو على وجه الإرشاد والتعليم وليس على وجه الوجوب والشرطية للإجزاء، وهذا القول هو الأرجح وأنه متى قال: " اللهم صل على محمد " أجزأه ذلك.
* ولكن هل يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهده أم لا؟
ذهب الشافعية والحنابلة: إلى فرضية ذلك، أما الحنابلة فيوجبونها في التشهد الثاني فقط، وأما الشافعية ففي كل تشهد، واستدلوا: بقوله: " قولوا " قالوا: وهذا أمر والأمر للوجوب.
وذهب المالكية والأحناف: إلى عدم وجوب ذلك، ولكنه سنة.
وهذا القول أظهر؛ لما تقدم من التعليل السابق فإن هذا إنما ورد على هيئة سؤال، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم الصلاة عليه في الصلاة حتى سألوه عنها، وما كان طريقه ذلك فليس بواجب وإنما هو مستحب.
ومع ذلك ففيما قاله الحنابلة قوة، والاحتياط الالتزام بذلك وعدم تركه، بل الاحتياط أن يقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تماماً لا يسقط من ألفاظه شيئاً.
قال: (ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)(5/116)
لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن [شر] فتنة المسيح الدجال ") (1)
وجماهير العلماء على: أن هذه الاستعاذة أنها سنة في الصلاة.
وعند الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من أهل العلم: أن الاستعاذة على هذه الصفة فرض في الصلاة.
حتى عن الإمام أحمد: أنه يعيد صلاته إن تركها، وهو قول طاووس بن كيسان من كبار التابعين.
واستدلوا: بالأمر الوارد: " فليستعذ "
وذهب جماهير العلماء إلى أنها مستحبة وإن الأمر الوارد فيها إنما هو على وجه الاستحباب.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود وفيه – بعد أن ذكر التشهد – قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (2)
فهذا يدل على أنه لا يجب عليه نوع من أنواع الأدعية أو الاستعاذات وإنما يدعو بما شاء ويتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيكون هذا الأمر من باب الإرشاد، وهذا هو الأظهر.
قال: (ويدعو بما ورد)
__________
(1) هذا لفظ مسلم، أخرجه في كتاب المساجد، باب (25) ما يستعاذ منه في الصلاة / رقم (588) ، وأخرجه البخاري بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) في كتاب الجنائز / باب (88) التعوذ من عذاب القبر / رقم (1377) ، ورواه البخاري عن عائشة بلفظ مختلف بدون ذكر عذاب النار في كتاب الأذان، وبألفاظ أخرى عنها في أبواب أخرى.
(2) أخرجه البخاري بلفظ: " ثم يتخير " دون اللام. في كتاب الأذان، باب (150) ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب / رقم (835) ، ومسلم (402) .(5/117)
كما في الصحيحين من حديث أبي بكر قال: (قلت يا رسول الله علمني شيئاً أدعو به في صلاتي فقال: قل " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ") (1)
أو نحوه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين أيضاً من الاستعاذة من المأثم والمغرم (2) .
وظاهر قوله: " بما ورد " أي بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب لكن هذا غير مراده، إنما المراد ما ورد في الشريعة، كأن يقول: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " و " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " ونحو ذلك مما ورد.
وظاهره أنه إذا دعا بدعاء من ملاذ الدنيا ونعيمها فإنه لا يشرع له ذلك ولا يجوز بل قد صرح فقهاء الحنابلة بأن الصلاة تبطل بذلك، لأنه كلام أجنبي والكلام الأجنبي يبطل الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (149) الدعاء قبل السلام / رقم (834) وفي كتاب الدعوات / باب (17) الدعاء في الصلاة / رقم (6326) ، ومسلم رقم (2705) .
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 286 رقم (798) حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) ،ومسلم رقم (589) اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.(5/118)
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بذلك، واختاره الموفق من فقهاء الحنابلة، وقد نص عليه الإمام أحمد، وهذا القول هو الراجح، وظواهر الأدلة تدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) وعند البيهقي: (ثم ليدعو بما بدا له) (2) . فظواهرها أنه يتخير من الدعاء أعجبه إليه، والدعاء عام فيما ورد وما لم يرد.
قال: (ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك)
في هذه الجملة ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
أن المستحب أن يسلم عن يمينه وعن شماله فيقول عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة الله.
__________
(2) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 142
2656 وأما الرواية عن ابن عمر فأخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي أنبأ محمد بن إبراهيم ثنا بن بكير ثنا مالك عن نافع ثم أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول بسم الله التحيات لله والصلوات الزاكيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدت أن لا إله إلا الله وشهدت أن محمدا رسول الله يقول هذا في الركعتين الأوليين ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضا إلا أنه يقدم التشهد ثم يدعو بما بدا له فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم على يمينه ثم يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه "، ومالك في الموطأ برقم (204) . الاسطوانة.(5/119)
ويستحب له في سلامه أن يبدو بياض خده للمأمومين لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم حتى يبدو بياض خده عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره حتى يبدو بياض خده، السلام عليكم ورحمة الله) (1)
المسألة الثانية:
أن الوارد هو لفظة: " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه وعن شماله في هذا الحديث المتقدم وقد وردت أنواع أخر:
فمن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله) (2)
والنوع الثالث: ما رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم) (3)
__________
(1) رواه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (189) في السلام / رقم (996) بلفظ: " عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: السلام عليك ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) . والترمذي حديث 295، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي حديث 1323، وابن ماجه حديث 914، سنن أبي داود [1 / 607] .
(2) لم أجده بهذا اللفظ في سنن أبي داود في باب (189) في السلام / كتاب الصلاة، وإنما هو فيه بلفظ: " عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ورقمه (997) ، كذا في النسخة التي بين يدي، لكن في اسطوانة مكتبة الفقه في الحاسب الآلي بدون (وبركاته) في شماله. فليراجع.
(3) رواه النسائي في كتاب السهو / باب (17) كيف السلام على الشمال / رقم (1321) بلفظ: " وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم، عن يساره ".(5/120)
وهناك صفة رابعة رواها سعيد بن منصور كما في المغني – لكن الاطلاع على سندها غير متيسر لأن الجزء المذكور فيه هذا الحديث لم يطبع ويخشى أن يكون مفقوداً – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي -: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم وعن يساره السلام عليكم) (1) هذه الصفة يتوقف فيها حتى تثبت.
وهناك صفة خامسة لكن الحديث فيها ضعيف: وهي ما رواه الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم تسليمة قبل وجهه يأخذ عن يمينه قليلاً) (2) وقد أعله أبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم من الأئمة المتقدمين.
والحديث من حديث زهير بن محمد ويروي هذا الحديث عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة منكرة فعلى هذا لا يثبت هذا الحديث.
المسألة الثالثة:
__________
(1) المغني لابن قدامة [2 / 245] .
(2) رواه الترمذي / كتاب الصلاة / في الباب الذي بعد باب (105) ما جاء في التسليم في الصلاة، وهو باب (106) منه أيضا رقم (296) قال: " حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التِّنِّيسي عن زُهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئاً " قال: وفي الباب عن سهل بن سعد، قال أبو عيسى: " وحديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير،ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. قال محمد: وقال أحمد بن حنبل: كأنّ زهير بن محمد الذي كان وقع عندهم ليس هو هذا الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه. قال أبو عيسى: وقد قال به بعض أهل العلم في التسليم في الصلاة، وأصح الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليمتان، وعليه أكثر أهلا لعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم ".(5/121)
- ظاهر قول المؤلف هنا أن هذا السلام يكون عن اليمين وعن الشمال، فيتجه إلى يمينه ويقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ثم يلتفت إلى يساره فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله " هذا هو ظاهر قول المؤلف، وهو ظاهر الأدلة الشرعية المتقدمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يسلم عن يمينه "، " كان يسلم عن يساره "، وغيرها، فظاهر هذه الأحاديث ما تقدم.
- وقال ابن عقيل: يبتدئ بالسلام إلى القبلة ثم يلتفت يميناً وشمالاً أي: يقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليمين، " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليسار مبتدئا السلام إلى القبلة ثم يتمه إلى اليمين، ويبدؤه إلى القبلة ثم يتمه إلى اليسار.
وهذا ضعيف لعدم الدليل الدال عليه، ولأن ظاهر الأحاديث المتقدمة تخالفه.
* هل يجزئه أن يقول " السلام عليكم "؟
أما لو صح الحديث المتقدم في سنن سعيد بن منصور فلا إشكال في الجزم بصحة ذلك لثبوت السنة فيه، ولكن تقدم التوقف فيه لعدم معرفة سنده.
واختلف في ذلك على قولين:
1- القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية: أنه يجزئه ذلك.
2- قال ابن عقيل من الحنابلة: لا يجزئه ذلك.
قال: لأنه ليس بوارد هكذا، وإنما الوارد بزيادة لفظة: " ورحمة الله " فلم يجزئه لأنه لم يأت بما ورد بتمامه.
واستدل أهل القول الأول: بأن هذا تسليم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) (1)
وبالنظر إلى هذين الدليلين تبين ضعف ما استدل به أهل القول الأول، لأن هذا وإن كان تسليماً لكنه ليس هو الوارد.
لذا قال الحنابلة لو قال: " عليكم السلام " أو " سلام عليكم " لم يجزئه لأنه ليس وارداً؛ وهنا كذلك فإن الوارد أن يقول ذلك بتمامه.
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي، وقد تقدم صْ 3.(5/122)
لكن يستدل لأهل القول الأول بالحديث المتقدم: الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عن يساره " السلام عليكم ") فحيث أجزأ في التسليمة الثانية فإنه يجزئ في التسليمة الأولى لأن بالهما (1) واحد، فهما تسليم في الصلاة فحيث ثبت في التسليمة الثانية فكذلك في التسليمة الأولى فالراجح إجزاء ذلك: " السلام عليكم "
فهذا هو القدر المجزئ – وأما المستحب فهو أن يسلم بأحد الأنواع الواردة المتقدمة.
* ولو قال: " سلام عليكم " ونحو ذلك من الألفاظ الواردة فإنه لا يجزئه فهو وإن كان تسليماً لكنه تسليم غير وارد والواجب هو الوقوف على هديه.
مسألة:
هل التسليم عن اليمين واليسار واجب أم مستحب؟
قال جمهور العلماء: أن ذلك مستحب فلو سلم تسليمة واحدة أجزأه.
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض المالكية وهو اختيار القاضي من الحنابلة: أنه لا يجزئه ذلك إلا أن يسلم تسليمتين.
استدل: أهل القول الأول بالحديث المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسلم تسليمة واحدة. ولكن تقدم ضعف الحديث.
والراجح هو القول الثاني: وأن التسليمتين فرض.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك فيكون فعله بياناً لمجمل قوله: (وتحليلها التسليم)
ولا يثبت ذلك إلا بالتسليم الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بيان لمجمل، وما كان بياناً لمجمل من الفعل فحكمه حكم المجمل.
فقوله " تحليلها التسليم ": كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمتين لم يثبت عنه سوى ذلك، فلم يدع أحد التسليمتين في أي حديث.
قال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول وصلى ما بقي من الثانية بالحمد فقط)
تقدم شرح هذا في الدرس السابق.
قال: (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً)
هذا هو المستحب في الجلوس بالتشهد الأخير: أن يجلس متوركاً.
__________
(1) كذا في الأصل.(5/123)
وصفة التورك: أن يقدم رجله اليسرى وينصب اليمنى ويقعد على مقعدته.
لما ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي والحدث صحيح – في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس بعد الركعة الأخيرة قدم اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته) (1) .
فإذا كانت الصلاة ذات تشهدين فيستحب في تشهدها الثاني.
وأما أن كانت الصلاة ذات تشهد واحد، كصلاة الفجر أو السنن التي تصلى مثنى مثنى، فإنه يجلس مفترشاً.
لما تقدم: فإنه ذكر الافتراش ثم ذكر السلام، وظاهره أن الصلاة إذا كانت ذات تشهد واحد فإنه يجلس فيها مفترشاً – هذا هو المشهور في المذهب وأن التورك لا يشرع إلا في الصلاة ذات التشهدين في تشهدها الثاني.
- واستحبه الشافعية في التشهد الأخير من الصلوات كلها سواء كانت ذات تشهد واحد أو تشهدين.
واستدلوا: بعموم الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعة الأخيرة) الحديث، والركعة الأخيرة تقع في الصلوات ذات التشهد الواحد كما تقع في الصلوات ذات التشهد الثنائي.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (117) افتتاح الصلاة / رقم (730) ، وفي باب (181) من ذكر التورك في الرابعة / رقم (963) بلفظ: " …حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر..) ، وبلفظ (964) : " … فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى وجلس على مقعدته ". والترمذي في كتاب الصلاة / باب (110) رقم (304) بلفظ: ".. حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي بها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم "(5/124)
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح جلس مفترشاً) (1)
فعلى هذا يكون تخصيص للعموم المتقدم، وأنه إذا كان في الركعة الأخيرة في صلاة ذات تشهدين جلس متوركاً وأما إذا كانت ذات تشهد واحد كصلاة الفجر فإنه لا يجلس متوركاً فيها، بل مفترشاً.
قال: (والمرأة مثله)
فإن النساء شقائق الرجال كما ثبت في مسند أحمد (2) وغيره بإسناد صحيح.
فما ثبت للرجل فهو ثابت للمرأة إلا أن يأتي دليل يخصص الرجل بالحكم، لكن استثنى من ذلك مسائل:
قال: (لكن تضم نفسها وتستدل (3) رجليها في جانب يمينها)
يعني: فإنها إذا جلست في محل التورك فإنها لا تتورك وإنما تستدل (4) رجليها في جانب يمينها. هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر: أن المرأة مثل الرجل مطلقاً في جلوسها ورفع اليدين، لكن يستثنى من ذلك المرأة في حضور الأجانب فإنها – حينئذ – تفعل ما يكون فيه ستر لها فتضم نفسها وتستدل رجليها ولا تبالغ في رفع يديها ولا تجافي يديها ونحو ذلك مما يكون فيه تمام لسترها، كأن تصلي في مسجد مكشوف.
وأما أن كانت لا تقع عليها نظرة الأجانب كأن تصلي وحدها أو بين نساء أو في بيتها بنظر محارمها فإنها في حكم الرجل تماماً إذ لا دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) لم أجده في النسائي طبعة بيت الأفكار، ولا في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم يتطرق إلى هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد [1 / 243، 252] ، ولا الشوكاني في نيل الأوطار [2 / 274] .، ولكن عزاه الألباني رحمه الله في صفة الصلاة صْ 121 للنسائي [1 / 173] ، فالله أعلم.
(2) تقدم.
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: تسدل، كما في النسخ الأخرى للزاد، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله [3 / 302] .
(4) كذا في الأصل، ولعلها: تسدل.(5/125)
وإنما استثنى ما يكون في نظر الأجانب لأن أصول الشريعة قد دلت على ذلك من النهي عن الفتنة، وقد وردت صور كثيرة على ذلك – كما أن المرأة لا ترمل في طوافها ولا تسرع بين الميلين ونحوه مما يكون ظاهراً للرجال لسد باب الفتنة، وإن كان الأصل أنها تفعل ذلك لفعل الرجال له، لكن استثني من ذلك لما فيه من الستر لها والحفظ من الوقوع في الفتنة بها فكذلك في الصلاة.
وبقيت مسائل: في الذكر الوارد بعد الصلاة وفي التفات الإمام ونحو ذلك سيأتي ذكرها في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الحادي والثمانون
(يوم الأحد: 6 / 4 / 1415هـ)
مسائل في صفة الصلاة وتمامها:
فمن مسائل صفتها:
أنه يستحب إخفاء التشهد أي أن يكون سراً، لما ثبت في أبي داود والترمذي – والحديث صحيح – من حديث ابن مسعود قال: (من السنة إخفاء التشهد) (1) وهو مستحب اتفاقاً.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (185) إخفاء التشهد / رقم (986) عن عبد الله قال: " من السنة أن يخفي التشهد) ، والترمذي حديث 291 وقال: " حديث حسن غريب "، والحاكم في المستدرك ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". سنن أبي داود [1 / 602] .(5/126)
ويستحب له - في باب السلام – أن يحذفه ولا يمده بل يكون حذفاً، لما روى الترمذي من حديث أبي هريرة قال: (حذف السلام من السنة) (1) لكن الحديث فيه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن عليه العمل عند أهل العلم: حتى قال الترمذي: " لا يعلم بين أهل العلم فيه خلاف" وقال الدارقطني: " والصحيح أنه من قول أبي هريرة فثبوته عن أبي هريرة ولا يعلم له مخالف يحتج به، والمسألة اتفاقية فلا خلاف فيها، فيستحب له أن يحذفه حذفاً.
ومما يكون من تمام الصلاة:
ويستحب للإمام أن ينفتل إلى المصلين مقبلاً بوجهه إليهم لا يخص ناحية دون ناحية، لما ثبت في البخاري من حديث سمرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا صلى أقبل علينا بوجهه) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (192) حذف التسليم / رقم (1004) من الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حذف السلام سنة) . وأخرجه الترمذي في الصلاة / باب حذف السلام سنة حديث 297، وقال " حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 610] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (156) يستقبل الإمام الناس إذا سلم / رقم (845) بلفظ: " عن سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه "، وأخرجه مسلم بلفظ: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: (هل رأى أحدٌ منكم البارحة رؤيا؟) [صحيح مسلم / كتاب الرؤيا / باب (4) رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (2275) ] .(5/127)
وينفتل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى، ففي مسند أحمد بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت عن يمينه وعن يساره) (1) أي وهو متوجه إلى القبلة، في إقباله على المأمومين ينصرف تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار حتى قال ابن مسعود – كما في الصحيحين -: (لا يجعل أحدكم للشيطان نصيباً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن ينصرف عن يمينه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن شماله) وفي مسلم: (أكثر ما ينصرف عن شماله) (2)
لكن في مسلم عن أنس بن مالك قال: (أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) (3)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند آل العباس رقم (2792) قال: " حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، قال: حدثني ثورٌ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالا ولا يلوي عنقه "، ورقم (2485) قال: " حدثنا الحسن بن يحيى والطالقَاني، قالا: حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلفه ظهره ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (159) الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال / رقم (852) بلفظ قال عبد الله: " لا يجعل أحدُكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره "، وأخرجه مسلم (707) .
(3) تقدم.(5/128)
ومن هنا يكون كل صحابي منهما قد حدث بما رأى، فهذا رأى أن أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وهو إليه، وأنس رأى أن أكثر انصرافه عن يمينه، فعلى ذلك كلاهما سنة ويستحب له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ويكره أن يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، فإنه حينئذ: يكون قد جعل للشيطان نصيباً من صلاته باعتقاد ما ليس بواجب.
فإذا أقبل على المأمومين: استغفر ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "
فقد ثبت في مسلم عن ثوبان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (1)
وفي مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (2)
قال ابن القيم مستدلاً بهذا الحديث أنه يستحب للإمام أن يقول ذلك تجاه القبلة فينصرف إلى المأمومين وقد قال: " اللهم أنت السلام …. إلى قوله: " ذا الجلال والإكرام " أي لا ينصرف عن القبلة إلى المأمومين حتى يقول ذلك واستدل بحديث عائشة: (كان لا يقعد إلا مقدار ما يقول)
وقد سئل عن ذلك الإمام أحمد فقيل له: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقعد إلا مقدار ما يقول " أي لا يقعد إلى القبلة ثم ينصرف فقال: " لا أدري " أ. هـ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته / رقم (591) بلفظ: " عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله ".
(2) صحيح مسلم رقم (592) .(5/129)
والمستحب عند الحنابلة والشافعية: أن ينفتل بمجرد سلامه فيكون قوله: " اللهم أنت السلام … ذا الجلال والإكرام " بعد إقباله بوجهه إلى المأمومين.
والحديث ليس فيه ما يدل على ما ذهب إليه ابن القيم؛ إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول وليس في ذلك أنه لا يقعد تجاه القبلة إلا مقدار ما يقول، فالحديث مطلق وظاهره أنه لا يقعد مطلقاً، أي لا يقعد في مصلاه الذي صلى فيه إلا بمقدار ما يقول، بل ليتعجل في القيام من مجلسه وينفتل عنه منصرفاً، وهذا ما كان عليه أبو بكر كما صح في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه: (كان إذا سلم من الصلاة فقال: السلام عليكم ورحمة الله، انفتل ساعتئذٍ كأنه على الرضف) (1)
إذن الراجح: أن المستحب له ألا يقعد في مجلسه الذي صلى فيه إماماً كان أو مأموماً إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام … ".
هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني وظاهر ذلك أنه مذهب الحنابلة وهو المشهور عند الشافعية.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان هناك نسوة يصلين في المسجد فإنه لا يستحب للإمام ولا المأمومين أن ينصرفوا حتى ينصرفن.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [2 / 242] رقم (3214) في باب مكث الإمام بعدما يسلم، قال: " عبد الرزاق عن معمر والثوري عن حماد وجابر وأبي الضحى عن مسروق: أن أبا بكر كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليك ورحمة الله ثم انفتل ساعتئذ كأنما كان جالسا على الرضف " قال المحقق: " وأخرجه الطحاوي في التسليم ".(5/130)
فقد ثبت في البخاري عن أم سلمة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته انصرف النساء اللاتي صلين معه فدخلن في بيوتهن قبل أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم) (1)
وذلك لئلا يختلط الرجال بالنساء فتقع الفتنة، فلذلك يكره أن ينصرف المأموم والإمام قبل انصراف النساء وذهابهن عن المسجد.
ومع ذلك فإنه إن جلس في مجلسه فقد أحسن لما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له اللهم وارحمه) (2) فهذا الحديث يدل على فضيلة الجلوس فإنه فاضل وحسن، وإذا انصرف فقد فعل السنة.
ولو قيل، وهو فيما يظهر لي تفصيل حسن: أنه يستحب للإمام أن ينصرف إذا قال ذلك ويبقى في مجلس آخر في المسجد - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين – أو ينصرف عن المسجد فيسبح الله في طريقه، لأن الحديث المتقدم في النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر وكانا إمامين – هذا ما لم يكن هناك نسوة – وأما المأمومون فإنهم يستحب لهم أن يجلسوا مصلاهم فيذكروا الله فيه - للحديث المتقدم – فإنه فيه الترغيب في ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (157) مكث الإمامفي مصلاه بعد السلام / رقم (850) عن أم سلمة بلفظ: " قالت: كان يُسلِّم فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن، من قبل أن ينصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (61) الحدث في المسجد من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . وانظر (176) و (477) .(5/131)
ولمصلحة أخرى وهي أن في استعجال المأمومين في الخروج وقد يكون ذلك قبل خروج الإمام أن فيه مفسدة متوقعة وهي أن يكون في الصلاة نقص، أو أن يحب الإمام إرشاد الناس وتعليمهم فيسبقوه بالانصراف – فلو قيل بهذا التفصيل فهو حسن.
– وفي انصراف الإمام عن مكانه تمام للإخلاص في الذكر وأكثر إقبالاً على الله تعالى.
ويستحب له أن يذكر الله تعالى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (1)
وثبت في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (2)
وفي النسائي وابن خزيمة بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) ثلاث مرات.
وفي الطبراني بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير هو على كل شيء قدير) (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (594) .
(2) صحيح مسلم الباب السابق / رقم (593) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (86) كم مرة يقول ذلك / رقم (1343)
(4) قال في فتح الباري ج: 2 ص: 332
زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ورواته موثقون وثبت مثله في البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف ".(5/132)
ويستحب له أن يسبح الله ويحمده ويكبره، ويهلله في نوع من الذكر الوارد وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الذكر بعد صلاته المكتوبة وهي:
1- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين؛ لما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة من حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور ... ) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) وفي رواية قال بعض الرواة: (حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثون (1)) (2) .
2- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول: تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ؛ لما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (3)
__________
(1) كذا في الأصل،ولعل الصواب: " ثلاثاً وثلاثين " كما في البخاري.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (843) ، وفي كتاب الدعوات / باب (18) الدعاء بعد الصلاة / رقم 6329. وأخرجه مسلم رقم (595) باختلاف.
(3) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (597) بلفظ: " عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون،وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) .(5/133)
3- أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين. لما ثبت في مسلم من حديث كعب بن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن يسبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين) (1)
4- أن يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، وهو ثابت في مسند أحمد وسنن الأربعة بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان أو خلتان من حافظ عليهن دخل الجنة هما قليل ومن يحافظ عليهن قليل أن يسبح الله دبر كل صلاة مكتوبة عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، فذلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر الله أربعاً وثلاثين عند مضجعه ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) (2)
5- أن يسبح الله خمساً وعشرين ويحمده خمساً وعشرين ويكبره خمساً وعشرين ويهلله خمساً وعشرين.
__________
(1) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (596) بلفظ: "عن كعب بن عجرة عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: (معقبات لا يَخيبُ قائلهن أو فاعلهن، دُبُرَ كل صلاة مكتوبة، ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) وفي لفظ: " معقبات لا يَخيب قائلهن أو فاعلهن ثلاث وثلاثون تسبيحة،وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة ".
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الأدب / باب (109) في التسبيح عند النوم / رقم (5095) ، والترمذي في الدعوات حديث 3410 باب كم يسبح بعد الصلاة – في نسخة: باب منه، وهو بعد: باب ما جاء في التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام - وقال: " حسن صحيح "، والنسائي في الافتتاح حديث 1349 باب عدد التسبيح بعد التسليم. ولم أجده في فهرس ابن ماجه.(5/134)
لما ثبت في الترمذي والنسائي بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين فرأى رجل من الأنصار أن قائلاً يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمكم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين وتكبروه أربعاً وثلاثين فاجعلوها خمساً وعشرين واجعلوا فيها التهليل) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اجعلوها كذلك) وفي رواية: (فافعلوا) (1)
وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على النوع المتقدم من أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين، والله أعلم.
ويستحب له أن يقرأ آية الكرسي لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (25) منه / رقم 3413 بلفظ: " عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أُمرنا أن نسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمده ثلاثا وثلاثين ونكبره أربعا وثلاثين، قال: فرأى رجل من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدوا الله ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين؟ قال: نعم، قال:فاجعلوا خمسا وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه، فقال: (افعلوا) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قال صاحب الطبعة: " ولم يذكر في النسخ ولا ذكره المزي ".
(2) السنن الكبرى ج: 6 ص: 30
9928 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا ان يموت " الاسطوانة.
الحسين بشر الطرسوسي: لا بأس به، التقريب.
محمد بن حمير: صدوق.
محمد بن زياد: هو الألهاني الحمصي، ثقة من الرابعة، وقد روى عن أبي أمامة كما في تهذيب الكمال.
عمل اليوم والليلة ج: 1 ص: 182
ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة 100 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال آح حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
وصحح الحديث ابن حبان كما في نيل الأوطار.(5/135)
وعند الطبراني: استحباب قراءة " قل هو الله أحد " (1) وإسناده صحيح بعد كل صلاة.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي من حديث عقبة بن عامر قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة) (2)
__________
(1) مجمع الزوائد ج: 10 ص: 102
وفي رواية وقل هو الله أحد " رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد. الاسطوانة.
(2) لم أجده في أبي داود، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن / باب (13) ما جاء في فضل قارئ القرآن / رقم (2903) فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حَبيب، وقد عنعن. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ". سنن النسائي - المجتبى ج: 3 ص: 68
80 باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1336
السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 397
التكبير بعد تسليم الإمام 1258 أخبرنا بشر بن خالد العسكري أنا يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن بن عباس قال ثم إنما كنت أعلم انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1259 أخبرنا محمد بن سلمة نا بن وهب عن الليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال ثم أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة الاستغفار بعد التسليم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 372
8 باب الأمر بقراءة المعوذتين في دبر الصلاة 755 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر قال قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فأخبرني أن أباه أخبرهم قال أخبرنا الليث وحدثنا الحسن بن محمد وحدثنا عاصم يعني بن علي حدثنا ليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح وفي حديث بن عبد الحكم عن علي بن رباح عن عقبة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة لم يقل الحسن بن محمد لي.
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 344
ذكر الأمر بقراءة المعوذتين في عقب الصلاة للمصلي 2004 أخبرنا بن خزيمة قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبيه عن الليث بن سعد عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة.(5/136)
والظاهر أن ذلك عام في الصلوات المكتوبة كلها، وأما مضاعفة ذلك في صلاة المغرب والفجر فالظاهر أن ذلك ليس لصلاة المغرب والفجر، وإنما ذلك للمساء والصباح فهو من أذكار الصباح والمساء.
ويستحب له أن يعقد التسبيح والتحميد والتكبير – بيده اليمنى لما ثبت في الترمذي والحاكم بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه) (1)
ويستحب أن يكون عقده بأنامله لما ثبت في أبو داود ومسند أحمد والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات) (2)
والأنامل: جمع أنمله وهي أعلى الإصبع.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (359) التسبيح بالحصى / رقم 1502. أخرجه البيهقي رقم (2850، الاسطوانة) ، وفي الترمذي عن عبد لله بن عمرو: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده " كتاب الدعوات / باب (71) ما جاء في عقد التسبيح باليد / رقم (3486) وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب "، ولم أجد لفظة: " بيمينه " في الترمذي والحاكم في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة /باب (359) التسبيح بالحصى / رقم (1501) عن يُسَيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يُراعين التكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ". وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (120) في فضل التسبيح والتهليل والتقديس / رقم (3583) بلفظ: " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ولا تغفلن فتنسين الرحمة " قال: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث هانئ بن عثمان، وقد رواه محمد بن ربيعة عن هانئ بن عثمان "، ورواه الترمذي أيضا تعليقا (3486) بلفظ: " يا معشر النساء اعقدن بالأنامل … ".(5/137)
وإن عقد بأصابعه فلا بأس، فيكون من باب ذكر البعض وإرادة الكل، وإن عقد بأنامله فهو أولى لموافقة اللفظ.
* ولا يستحب له أن يكون بغير الأنامل كأن يعقد بحصى ونحوها.
* وهل يستحب له أن يرفع صوته بالذكر بعد الصلاة المكتوبة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
1- مذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المستحب له أن يسر به، للحديث المتفق عليه وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصحابه في سفر وقد رفعوا أصواتهم بالذكر فقال: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ... .) (1) .
قالوا: فهذا يدل على أن المستحب هو خفض الصوت بالذكر وعدم الرفع فيه.
2- وذهب طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى استحباب رفع الصوت بالذكر.
واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس قال: (كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) (2)
قالوا: فهذا الحديث واضح ظاهر في مشروعية ذلك، فهذا ابن عباس يخبر أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحيث كان على عهده صلى الله عليه وسلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقره، وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره من أصحابه فيبعد أن أصحابه كانوا يفعلونه من تلقاء أنفسهم وإنما كانوا يقتدون به عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول هو الراجح لهذا الحديث المتفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي / باب 38 غزوة خيبر / رقم (4205) ، وفي كتاب الجهاد والسير / باب (131) ما يكره من رفع الصوت في التكبير / رقم (2992) . وفي مواضع أخرى، وأخرجه مسلم رقم (2704) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (841) ، (842) . ومسلم (583) .(5/138)
وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فحيث اُحتيج إلى التعليم استحب وإلا فلا.
والجواب على ذلك: إنه لا دليل على ذلك، بل الحديث فيه أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عامة وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فهذا تقييد لا دليل عليه.
ثم لو كان المراد منه التعليم، وسلمنا أن التعليم يحتاج إلى فترة زمنية محددة لما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كله ولاكتفى برفع الصوت بقدر التعليم، فلما تعلم الناس اكتفى عن ذلك.
كما أن التعليم لا يحتاج إلى أن يرفع الناس أصواتهم بالذكر، بل إذا اكتفى الإمام برفع صوته بالذكر اكتفى بذلك ولم يشرع لبقية الناس.
ثم إنَّا لا نسلم أن التعليم يكتفى به لفترة زمنية محدودة بل الناس محتاجون إلى التعليم، والتعليم في كل زمن، فلا يخلو زمن من جاهل يحتاج إلى تعليم الذكر الوارد.
فإن قيل: إن فيه تشويشاً على المتم صلاته؟
فالجواب: أن هذا الوقت حق لهذا الذاكر فإن الأصل أن يصلي المأمومون مع الإمام فينصرفوا جميعاً، أما هذا المتم صلاته فإن الأصل فيه أن ينصرف مع الناس.
الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي وأبي داود بإسناد صحيح من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (361) في الاستغفار / رقم (1522) بلفظ: " يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فلقال: (أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأخرجه النسائي دون ذكر الوصية في الافتتاح باب الدعاء حديث (1304) .(5/139)
* متى يقال هذا الدعاء ونحوه قبل السلام أم بعده؟
في ذلك قولان:
الأول: أنه يقوله بعد سلامه لظاهر قوله: " دبر كل صلاة "
والثاني: أنه يقوله بعد تشهده قبل السلام، وهذا القول هو الراجح، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وإنما رجح ذلك:
لأن دبر الصلاة يطلق ويراد به آخرها مما هو منها، ويطلق ويراد به ما بعدها، كما أن دبر كل شيء كذلك، فدبر كل شيء هو آخره أو هو ما بعده.
وإنما رجحنا هنا: أن يكون بمعنى آخرها قبل سلامها: لأن الدعاء الأولى فيه أن يكون حال الإقبال على الله ومناجاته وإنما هذا قبل سلامه، فلا يليق أنه إذا انصرف وسلم وأقبل على المخلوقين بعد انصرافه من خطاب الله تعالى أن يدعو الله بل اللائق أن يدعو الله قبل سلامه، لذا في الحديث بعد التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1)
استدراك:
الإجابة على ما استدل به الجمهور في عدم سنية رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة؟
أن يقال: هذا حديث عام وحديثنا خاص، والمقرر هو الإسرار كالنية فإن المقرر فيها أن تكون في القلب وألا يتلفظ بالمنوي به، هذه قاعدة لكن وردت النصوص بالتلفظ بالنية في الأضحية والحج فنخصص ذلك ويكون هذا لمعان رجحت ذلك.
وهنا كذلك، فإن الأصل بالذكر أن يكون بصوت خافض لأنه هو الأليق، فإن الله ليس بأصم ولا غائب.
لكن في هذا الموضع رجح رفع الصوت بالذكر لمعان منها:
إظهار هذه الشعيرة ومعرفة الناس انصراف الإمام بذلك، فقد يكون صوت الإمام غير واضح بسلامه فيسمع برفع الصوت بالذكر ونحو ذلك من المعاني، وأظهرها إظهار هذه الشعيرة.
فهذه معان رجحت الرفع على الخفض.
وبهذا انتهى من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
والحمد لله رب العالمين
فصل
الدرس الثاني والثمانون
(يوم الاثنين: 7 / 4 / 1415هـ)
هذا فصل في مكروهات الصلاة وشيء من مستحباتها، وكذلك البحث في مبطلاتها.
__________
(1) تقدم.(5/140)
قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة التفاته)
المكروه هو: ما يثاب العبد على تركه امتثالاً، ولا يأثم على فعله.
فيكره في الصلاة الالتفات، أي أن يلتفت عن يمينه وشماله برأسه وهذا باتفاق أهل العلم.
أما الالتفات ببدنه فهذا مبطل للصلاة؛ لأنه ينقل عن القبلة، فإذا التفت حتى استدار عن القبلة وانحرف عنها فصلاته باطلة.
أما الالتفات برأسه فإنه مكروه كما تقدم، لما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) والاختلاس هو الاختطاف بسرعة.
وفي أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه) (2) فهذا يدل على كراهيته.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (751) ، وانظر (3291) .
(2) أخرجه أبوداود بنفس اللفظ في كتاب الصلاة / باب (165) الالتفات في الصلاة / رقم (909) ، والنسائي، وفي سنده أبو الأحوص، لا يعرف له اسم، وهو مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يرو عنه غير الزهري،قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الكرابيسي:ليس بالمتين عندهم (من مختصر المنذري) . سنن أبي داود [1 / 560] .(5/141)
والذي يدل على جوازه للحاجة وزوال الكراهية بها كأن يسمع صوتاً أو حركة فيحتاج إلى الالتفات؛ ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث سهل بن الحنظلية قال: (ثُوِّب بالصلاة – يعني صلاة الصبح – فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب) قال: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس " (1)
فهو مكروه ليس بمبطل للصلاة وهذا مذهب عامة أهل العلم لكن هذه الكراهية تزول حيث اُحتيج إليه.
قال: (ورفع بصره إلى السماء)
أي يكره رفع بصره إلى السماء وهو يصلي، لما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو ليتخطفن أبصارهم) (2)
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (168) الرخصة في ذلك / رقم (916) قال: " حدثنا الربيع بن نافع، حدثنا معاوية، يعني ابن سلام عن زيد، أنه سمع أبا سلام قال:حدثني السلولي - هو أبو كبشة – عن سهل بن الحنظلية قال: " ثُوِّب بالصلاة، يعني صلاة الصبح، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس. والحنظلية: أمه وقيل:أم جده، وسهل: هو سهل بن الربيع. سنن أبي داود [1 / 563] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (92) رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (750) بلفظ: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .(5/142)
ورواه مسلم من حديث أبي هريرة نحوه (1) ، ورواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة وفيه: (لينتهون (2) عن ذلك أو لا ترجع إليهم) (3) وهذا الحديث ظاهره فوق الكراهية، فإن ظاهره التحريم وهو قول في مذهب أحمد، وهو مذهب الظاهرية ومذهب الظاهرية أن الصلاة تبطل به.
والراجح أنها لا تبطل فهو محرم لا تبطل الصلاة به.
أما كونه محرماً فلظاهر الحديث المتقدم، فإن فيه وعيداً ولا يكون الوعيد إلى على فعل محرم.
لكنه لا تبطل به الصلاة خلافاً للظاهرية لأن النهي لا يعود إلى ذاتها، فالصلاة قد ثبتت بشروطها وأركانها وهذا خارج عن ذاتها.
إذن الراجح: أنه محرم كما هو قول في المذهب وهو مذهب الظاهرية، والراجح عدم بطلان الصلاة به وهو قول في المذهب خلافاً للظاهرية.
قال: (وتغميض عينيه)
فيكره في الصلاة تغميض عينيه، فالمستحب له أن يفتحهما واستدلوا: بمجموع الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل وفيها دلالة على أنه كان يفتح عينيه في الصلاة فمن ذلك: أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (26) النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (329) بلفظ: " ليَنتَهِيَنَّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ليَنْتَهينّ، كما في مسلم.
(3) في الباب السابق /رقم (428) بلفظ: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم) .
(4) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 283
402 باب لا يجاوز بصره موضع سجوده رقم (3354) وما بعده. سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 158
9507 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن عبد الجبار بن مالك اللخمي بتنيس ثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي ثنا زهير بن محمد المكي عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة ثم كانت تقول عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله وإعظاما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ".
صحيح ابن خزيمة ج: 4 ص: 332
389 باب الخشوع في الكعبة إذا دخلها المرء والنظر الى موضع سجوده إلى الخروج منها رقم (3012) .
فتح الباري ج: 2 ص: 232
وقال الشافعي والكوفيون يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب للخشوع وورد في ذلك حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين ورجاله ثقات وأخرجه البيهقي موصولا وقال والجواب هو المحفوظ وفيه أن ذلك سبب نزول قوله تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للأمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام والله أعلم.(5/143)
، وكذلك أنه كان يرمي ببصره إلى إشارته (1) وكذلك الحديث المتفق عليه في قصة انبجانية أبي جهم وفيه: (فنظر إلى أعلامها نظرة) (2) وكذلك حديث سهل بن الحنظلية المتقدم، فهذه الأحاديث وغيرها بمجموعها تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفتح عينيه فيها.
وكرهه الإمام أحمد وغيره من أهل العلم؛ لكونه من فعل اليهود كما قال الإمام أحمد وسفيان بن عيينة وغيرهم.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 355
227 باب النظر إلى السبابة ثم الإشارة بها في التشهد 718 أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا بندار نا يحيى بن سعيد نا بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة لا يجاوز بصره إشارته ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (14) إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى عَلَمِها / رقم (373) ، وفي كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (752) ، وأخرجه مسلم (556) .(5/144)
فعلى ثبوت ذلك وهو قول هؤلاء الأئمة الذي يتلقى خبرهم بالقبول - على قولهم - يكون ذلك محرماً لأن التشبه باليهود وغيرهم من الكفار محرَّم، لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1)
- وذهب طائفة من أهل العلم – كما قال ذلك ابن القيم في زاد المعاد –: إلى إباحة ذلك.
واختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة:
فقال: إن كان الخشوع يثبت مع فتح عينيه فهو المستحب له، ولا يغمض عينيه.
وإن كان أمامه شيء يحول بينه وبين الخشوع كزخرفة وبريق ونحوه يشوش عليه صلاته وكان في تغميض عينيه خشوع فهو المستحب له قطعاً، واستحبابه أقرب إلى مقاصد الشرع من القول بكراهيته.
قال شيخنا حفظه الله: " والذي تميل إليه النفس ما ذهب إليه أهل القول الأول مع ثبوت ما ذكروه من فعل اليهود، وحيث كان ذلك فإنه لا يشرع مطلقاً، بل القول بتحريمه أظهر لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) "
ومعلوم أن المصلي غالباً تحول بينه وبين القبلة لا سيما إذا كان في فضاء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح عينيه.
ومع ذلك فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي فتح العينين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه (بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد. وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] . وقد تقدم في الطهارة.(5/145)
فالأظهر أن ذلك مكروه مطلقاً بل القول بتحريمه قول قوي؛ لأنه من فعل اليهود وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)
قال: (وإقعاؤه)
فيكره ذلك أي الإقعاء.
وصفته: عندهم: أن يجلس على عقبيه فقالوا: هذا مكروه.
وأما إقعاء الكلب وهو أن يجلس على أليته (1) وينصب فخذيه فهو مكروه اتفاقاً لحديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) (2) وهو إقعاء الكلب كما فسره أبو عبيدة وغيره.
أما الإقعاء المتقدم – وهو أن يجلس على عقبيه فهو مكروه عند الحنابلة، واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقعاء بين السجدتين) (3) .
والصحيح عدم كراهية ذلك وعليه عمل العبادلة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه ثبتت السنة فقد ثبت في مسلم من حديث ابن عباس: أنه قال له طاووس وسأله عن الإقعاء فقال: (هو السنة، فقال: إنا نراه من جفاء الرجل فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) (4) .
فهو إذن من السنن الثابتة – وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد – خلافاً للرواية الأخرى المشهورة.
__________
(1) الأَلْيَة: إحدى الأليتين، وهما: العجيزة أو ما رَكِبَها من شحم ولحم. (ج) : أَلاَيا. المعجم الوجيز.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (46) ما يجمع صفة الصلاة … / رقم (498) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (22) الجلوس بين السجدتين / رقم (894) عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقع بين السجدتين) قال الألباني " ضعيف ". ورقم (895) بلفظ (يا علي لا تقع إقعاء الكلب) قال الألباني: " حسن ".
(4) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) ، وقد تقدم صْ 121.(5/146)
ويكره له أن يعتمد على يديه في الصلاة، لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يقعد الرجل في الصلاة معتمداً على يديه) (1) وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (رأى رجلاً وهو يصلي وقد اعتمد على يده اليسرى ومال إلى شقه الأيسر فقال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون) (2) فهذه الجلسة في الصلاة منهي عنها وهي أن يجلس معتمداً على يديه أو أحدهما.
قال: (وافتراش ذراعيه ساجداً)
تقدم أن الصفة المستحبة في السجود أن يضع كفيه ويرفع مرفقيه.
فإذا افترش ذراعيه بأن يضع مرفقيه على الأرض باسطاً ذراعيه فإن هذا مكروه عند الحنابلة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (3) وظاهره تحريم ذلك.
قال: (وعبثه)
يكره في الصلاة أن يعبث بيديه أو ثوبه أو نحو ذلك؛ لأن في ذلك منافاة للخشوع، وحيث كان كذلك كان مكروهاً وهذا باتفاق أهل العلم.
وهذا ما لم يكن هذا العبث كثيراً يخرجه عن الصلاة فإنه يكون مبطلاً لها – كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
قال: (وتخصره)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (992) .
وفي مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 197
3054 عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه ".
(2) أخرجه أبوداود في الباب السابق رقم (994) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة / باب (8) المصلي يناجي ربه عز وجل / رقم (532) ، وفي كتاب الأذان / باب (141) لا يفترش ذراعيه في السجود / رقم (822) . ومسلم (493) .(5/147)
التخصر هو أن يضع يديه على خاصرته أي شاكلته وقد صرح المؤلف بكراهيته كما هو المذهب ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلي الرجل مختصراً) (1) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث زياد بن صُبيح: (أنه صلى إلى جنب ابن عمر فوضع يده على خاصرته فلما انصرف – أي ابن عمر – قال: هذا الصلب في الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه) (2)
وهذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهية؟
ظاهر النهي التحريم.
وقد صرح الحنابلة بالكراهية، والظاهر تحريم ذلك ويؤكده ما ثبت في البخاري عن عائشة: (أن هذا فعل اليهود في صلاتهم) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (17) الخصر في الصلاة / رقم (1220) بلفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرا " ورقم (1219) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نُهيَ عن الخَصْر في الصلاة. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومسلم (545) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (160) في التخصر والإقعاء / رقم (903) عن زياد بن صُبَيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء / باب (50) ما ذُكر عن بني إسرائيل / رقم (3458) عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يَجعل يده في خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله ". والظاهر أن زيادة " في صلاتهم " ليست في البخاري، لقول ابن حجر فتح الباري ج: 3 ص: 89: " وقيل لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة زاد بن أبي شيبة فيه في الصلاة ". الاسطوانة.(5/148)
فالراجح أن الاختصار في الصلاة منهي عنه نهي تحريم لأنه من فعل اليهود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وظاهر النهي التحريم.
قال: (وتروحه)
أي تروحه بمروحة ونحوها فيكره ذلك؛ لأنه عبث في الصلاة وينافي الخشوع.
لكن إن احتاج إليه كأن يكون هناك حر شديد فيحرك يده بشيء ليحرك الهواء إلى بدنه من غير أن يكون ذلك مبطلاً للصلاة بأن يكون كثيراً عرفاً – فإنه لا بأس به للحاجة إليه أما دون حاجة فهو مكروه لأنه عبث.
وأما المراوحة بين القدمين: وهي أن يتكئ على أحد رجليه بثقل بدنه، فتكون القدم الأخرى في راحة من حمل بدنه، ثم يحمل بدنه على القدم الأخرى – هذه تسمى المراوحة.
وقد ورد في النسائي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: (أنه رأى رجلاً وقد رص (1) قدميه فقال: (أخطأ هذا السنة لو رواح في صلاته لكان ذلك أعجب إليّ) (2) .
واستدل به الإمام أحمد على استحباب ذلك، لكن الحديث ضعيف للانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه ولكن مع ذلك يقوى القول باستحبابه حيث طال القيام لما فيه من الثبوت على العبادة وتهيئة النفس للاستمرار عليها لأنه إذا فعل ذلك فتكون عنده قدرة على الإطالة أكثر مما لو لم يفعل ذلك.
قال الأثرم: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه ورأيته وهو يراوح بينهما)
فاستحب ذلك الإمام أحمد، ولو قيل باستحبابه لكان قوياً لما فيه من التشجيع على الإطالة.
وقوله: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صف بين قدميه، كما في النسائي.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح / باب (13) الصف بين القدمين في الصلاة / باب (893) : " عن عبد الله أنه رأى رجلا يصلي قد صف بين قدميه، فقال: أخطأ السنة ولو راوح بينهما كان أعجب إلي ".(5/149)
هذا هو الأولى، لأن قبل هذا الفعل يجعل القدمين على طبيعتها، وحيث لم يرد نص في قدميه حال القيام فإنه يبقيهما على الطبيعة، وطبيعتهما أن يكونا بحيال المنكبين، فليستا بمرصوصتين بل يكون مفرجاً بينهما.
ومما يدل على ذلك: أن المصلي يستحب له أن يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبيه بمنكبه وحيث كان ذلك فإنه لا يثبت إلا بأن يفرج بين قدميه، فعلى ذلك رص القدمين حال القيام غير مشروع، بل المستحب التفريج بينهما.
قال: (وفرقعة أصابعه)
أي يكره أن يفرقع أصابعه في الصلاة، لأنه عبث وهو – أي العبث – مكروه اتفاقاً.
وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن شبيبة مولى ابن عباس صلى إلى جنب ابن عباس ففقع أصابعه فلما انصرف قال له ابن عباس: لا أم لك تفقع وأنت في الصلاة) (1) فهذا إنكار منه لذلك يدل على أنه مكروه.
قال: (وتشبيكهما)
__________
(1) سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 310
965 حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو قتيبة ثنا يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة) .(5/150)
فتشبيك الأصابع مكروه، لما ثبت عند الدارمي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد فهو في صلاة فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه) (1) فإذا كان يكره له هذا وهو في طريقه إلى المسجد لكونه في حكم المصلين، فأولى من ذلك أن يكره أثناء الصلاة.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر سئل عن التشبيك في الصلاة فقال: (تلك صلاة المغضوب عليهم) (2) ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم هم المغضوب عليهم وحيث كان هذا فهو يقوي التحريم لأنه تشبه بهم.
وحيث قلنا بالإطلاق أي عامة المغضوب عليهم فينهى العبد عن التشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وظاهر الحديث: (فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه) ظاهره التحريم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث والثمانون
(يوم الثلاثاء: 8 / 4 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يكون حاقناً)
__________
(1) أخرجه الدارمي في كتاب الصلاة / باب (121) النهي عن الاشتباك إذا خرج إلى المسجد / رقم (1440) عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداًَ إلى الصلاة فلا يشبك بين أصابعه) ، ورقم (1441) عن كعب بن عجرة أيضا قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد، فلا تشبكن بين أصابعك، فإنك في صلاة) ، ورقم (1442) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة، فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا) يعني يشبك بين أصابعه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (993) .(5/151)
فيكره أن يصلي وهو حاقن، والحاقن: هو المحتسب بوله ومثله من احتبس غائطه أو ريحه، فإن الصلاة تكون مكروهة في هذه الحال، لأن هذا ينافي كمالها ويؤثر في الخشوع بها والإقبال على الله فيها.
ويدل عليه: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) (1) أي الغائط والبول ومثل ذلك الريح فإن الصلاة تكون مكروهة.
لكن الصلاة تصح إجماعاً كما حكاه ابن عبد البر.
ولهذا الإجماع فإن الحديث يؤول على (لا صلاة كاملة) أو - لو قلنا بالتحريم - (لا صلاة جائزة) ولا يقال: (لا صلاة صحيحة) لإجماع أهل العلم على صحة الصلاة فهذا الفعل مكروه أو محرم لظاهر الحديث المتقدم لكن الصلاة صحيحة إجماعاً.
قال: (أو بحضرة طعام يشتهيه)
أي تتوق إليه نفسه، فإن الصلاة مكروهة أيضاً للحديث المتقدم: (لا صلاة بحضرة طعام) ، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا [عن] عشاءكم) (2) وثبت في البخاري نحوه من حديث ابن عمر – نحوه – وفيه: (وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يعجل عن عشائه حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام) (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.. /رقم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قصة حديث ابن أبي عتيق مع القاسم عند عائشة.
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ عن أنس رقم (671) و (5465) كتاب الأذان / باب (42) إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطام / رقم (557)
(3) صحيح البخاري الباب السابق / رقم (673) بلفظ: " وكان ابن عمر: يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام ".(5/152)
وثبت في ابن شيبة بإسناد صحيح: (أن ابن عباس وأبا هريرة كانا يأكلان طعاماً في التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تقم لئلا نعجل وفي أنفسنا شيء) وفي رواية (لئلا يعرض في الصلاة) (1) .
وفي هذا الأثر الصحيح يتبين أن هذا إنما هو خاص فيما إذا كان الطعام تتوق إليه النفس ويشتهى، وللنفس حاجة إليه – فيخشى أن يعرض في الصلاة فيؤثر في خشوعها، ومما يدل أنه ليس في مطلق الطعام ما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن أمية قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل كتفاً يجتز منها فدعي إلى الصلاة فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ) (2) .
فهذا يدل على أنه إذا كان عنده طعام لا يشتهيه وليس للنفس حاجة فيه فإنه يصلي.
وإنما الذي ينهى عن الصلاة حيث وجد هو الذي تتوق إليه النفس (3) .
ومثل ذلك الشراب والجماع قياساً وقال صاحب الإنصاف: " بل هما أولى بالكراهية ".
فعلى ذلك يكره له أن يصلي حاقناً أو بحضرة طعام يشتهيه وإن أدى ذلك إلى فوات الجماعة.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 2 ص: 184 رقم (7925) حدثنا وكيع عن شريك عن عثمان الثقفي عن رجل يقال له زياد قال كنا عند ابن عباس وشواء له في التنور وحضرت الصلاة فقلنا له فقال لا حتى نأكل لا يعرض لنا في صلاتنا ".
قال في ابن حجر في فتح الباري ج: 2 ص: 161: " وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس انهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم فقال له بن عباس لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء وفي رواية بن أبي شيبة لئلا يعرض لنا في صلاتنا ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (43) إذا دُعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل / رقم (675) ورقم (210) و (208) من كتاب الوضوء باب (50) . وأخرجه مسلم في كتاب الحيض / باب (24) نسخ الوضوء ما مست النار / رقم (355) .
(3) كذا في الأصل.(5/153)
لكن إن أدى ذلك إلى خروج وقت الصلاة فلا، لأن فوات الخشوع أهون من خروج وقت الصلاة وفواتها فإنه إذا صلاها بعد الوقت فإنه يكون قد خرج عليه وقتها، ولا شك أن فوات الخشوع أهون من فوات الصلاة.
فعلى ذلك: لا صلاة حيث كان الوقت متسعاً، أما إذا كان ضيقاً ويخشى خروج الوقت وفوات الصلاة فإنه يصلي على حاله ويجب عليه ذلك لئلا يخرج وقت الصلاة.
قال: (وتكرار الفاتحة)
فهو مكروه في الصلاة، وذلك لأنه (1) لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يكررها بل يقرؤها في كل ركعة من صلاته بلا تكرار وحيث كان ذلك، فإن هذا الفعل من المكرر خلاف هديه عليه الصلاة والسلام وحيث كان ذلك فهو محدث في الدين.
قال: (ولا جمع سور في فرض كنفل)
أي لا يكره جمع سور، فلو جمع السور في الركعة فلا يكره ذلك، وقد تقدمت الأدلة على ذلك كقراءته – صلى الله عليه وسلم – البقرة والنساء وآل عمران في ركعة (2) وكقول ابن مسعود: إنه يعرف القرائن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بها في الصلاة (3) .
وقراءة الرجل بقل هو الله أحد وسورة في كل ركعة (4) .
فلا يكره أن يجمع بين السورتين فأكثر في الركعة، لا كراهية فرضاً ولا نفلاً كما تقدم في الأحاديث.
وإنما قال: (كنفل) لأن النفل مجمع عليه، فكذلك الفرض؛ لأن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً، فلم يثبت دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) في الأصل: لأنها.
(2) أخرجه مسلم من حديث حذيفة في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (49) ترتيل القراءة واجتناب الهذ.. وإباحة سورتين فأكثر في ركعة / رقم (822) ، والبخاري (4996) ، (5043) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين / باب (45) فضل قراءة قل هو الله أحد / رقم (813) من حديث عائشة رضي الله عنها.(5/154)
على أن الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما هو في الفريضة كما كان من الإمام الذي يفتتح قراءته بعد الفاتحة بـ {قل هو الله أحد} فإنها كانت في الفريضة (1) .
ومما يكره له الإكثار من تسوية التراب حيث يسجد، فإنه مكروه أو خلاف الأولى.
لما ثبت في الصحيحين من حديث معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الرجل يسوي التراب حيث يسجد فقال: (إن كان لابد فاعلاً فواحدة) (2) ، أما الإكثار من ذلك فإنه مكروه أو خلاف الأولى فإن كان لابد فاعلاً فليكتفي بواحدة يسوي بها التراب وإلا فإنه ينبغي أن يسوي التراب قبل صلاته لئلا ينشغل بتسويته أثناء الصلاة.
ومثل ذلك – أيضاً – مسح التراب عن الجبهة فإنه خلاف الأولى.
__________
(1) لفظه في مسلم: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قل هو الله أحد} ، فلما رجعوا ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن،فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أخبروه أن الله يحبه) .
(2) أخرجه البخاري رقم (1207) ،ومسلم في كتاب المساجد / باب (12) كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة / رقم (546) .(5/155)
يدل عليه: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود أنه قال: (أربع من الجفاء أن يبول الرجل قائماً " والسنة وردت بخلاف ذلك والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره " وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره ومسح التراب عن جبهته وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه [في قوله] ) (1) فهذه هن الجفاء وهو غير مشروع في الصلاة فعلى ذلك هو خلاف الأولى أو مكروه.
فيكره أن يمسح التراب عن وجهه وهو يصلي وأولى من ذلك الإكثار منه لما فيه من الانشغال والإقبال على أمر آخر في الصلاة.
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة / با ب (371) لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يسلم / رقم (3552) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ سعيد عن قتادة عن ابن بريدة عن ابن مسعود أنه كان يقول: " أربع من الجفاء أن يبول.. " وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود، ورواه سعيد بن عبيد الله بن زيادة بن جبير بن حية / عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه إلا أنه قال: والنفخ في الصلاة بدل المرور، ولم يقل أربع. قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون فيه " " ا. هـ كلام البيهقي.(5/156)
ويكره ألا يكظم التثاؤب أو أن لا يضع يده على فيه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم - في الترمذي: في الصلاة - فليكظم ما استطاع) وفي مسلم: (فليمسك يده على فيه فإن الشيطان يدخل) (1)
قالوا: ويكره له أن يصلي إلى نار أو قنديل أو نحو ذلك كأن يصلي إلى مدفئة ونحوها مما هو نار.
وظاهر ذلك – وهو قول – أنه يكره أن يصلي إلى شيء من الضوء وإن كان متولداً من كهرب ونحوه لأنه نار، فهذا كله مكروه، وهو مذهب الشافعية أيضاً.
واستدلوا بأن هذا من فعل المجوس من كونهم يصلون إلى نيرانهم فيكون في ذلك تشبه بهم.
وهو قول طائفة من السلف كابن سيرين ومقتضى هذا التعليل التحريم؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق / باب (11) صفة إبليس وجنوده / رقم (3289) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان) ومسلم دون اللفظة الأخيرة في كتاب الزهد والرقائق / باب (9) تشميت العاطس وكراهة التثاؤب / رقم (2994) من حديث أبي هريرة، ورقم (2995) من حديث أبي سعيد الخدري باللفظ الثاني، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة بالزيادة في كتاب الصلاة / باب (156) ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة / (370) قال الترمذي: " وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وجدّ عَدي بن ثابت " وقال: " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ".(5/157)
وظاهر تبويب البخاري جواز ذلك حيث قال: (باب: من صلى وقدامه شيء من تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله) وذكر الحديث في صلاة الكسوف وفيه: (وعرضت لي النار وأنا أصلي) (1) فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرضت له النار فكانت بين يديه وهو يصلي، ولو كان ذلك مكروهاً لما كان ذلك بين يديه.
وما ذهبت إليه البخاري أظهر وذلك لما استدل به من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولما ثبت في سنن النسائي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استتر بشجرة وصلى إليها) (2) ومعلوم أن الشجرة تعبد من دون الله.
وهذا العبد يصلي وبين يديه الأحجار، بل الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون إنما هي من الأحجار، ومعلوم أن الأحجار تعبد من دون الله: لكن العبد أراد بتوجهه الله تعالى.
وأما ما ذكروه من أن ذلك فيه تشبه بالمجوس.
فيجاب عنه: أن هذه النار التي عرضت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا القنديل الذي يصلي إليه العبد ونحو ذلك أنه ليس هو ذات النار التي تعبد من دون الله.
__________
(1) ذكره البخاري تعليقا في كتاب الصلاة / باب (51) من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله / قبل حديث (431) فقال: " وقال الزهري: أخبرني أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت علي النار وأنا أصلي) .
(2) السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى ".(5/158)
فإن النار أنواعها كثيرة، وأما النار التي عبدت من دون الله فهي بخصوصها ينهى عن التوجه إليها، وأما أن يتوجه إلى نار أخرى فإنه لا يقال: إنه توجه إلى شيء يعبد من دون الله بذاته بل توجه إلى جنس ذلك.
فالنار التي تعبد من دون الله لا يجوز للعبد أن يصلي إليها لما فيه من التشبه بالمجوس، وأما عموم النار فإنه لا يمنع من ذلك؛لأن من النار ما لا يتوجه إليه ولا يصرف العبادة إليه.
كما أنه لو صلى بين يديه صنم يعبد من دون الله فإنه يمنع من ذلك، " فإن صلى وبين يديه حجارة ونحو ذلك لا يعبد، فلا يمنع من ذلك " (1) .
فالأرجح ما ذهب إليه البخاري في صحيحه، هو ظاهر تبويبه، وأن الصلاة إلى قنديل أو نار أو شمعة أنه ليس بمكروه خلافاً للشافعية والحنابلة.
قال: (وله رد المار بين يديه)
بل يسن له ذلك، فإن ظاهر لفظه " له " أنه يباح لكن ذلك مسنون ومستحب عند الحنابلة في المشهور عندهم لذا ذكر الشارح في الشرح بعد لفظة " ويسن ".
ودليل ذلك، ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) (2) وفي مسلم من حديث ابن عمر: (فإن معه القرين) وبه يفسر قوله " فإنما هو شيطان " أي معه شيطان أو القرين.
أو أنه فعل ما يفعله الشيطان من تنقيص صلاة العبد وصرف قلبه عنها بمروره بين يديه.
__________
(1) في المطبوع بدل هذه العبارة ما نصه: " لكن لو كان مطلق حجر لا يتوجه إليه العبادة فإنه لا يمنع منه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (100) يرد المصلي من مر بين يديه / رقم (509) ، ومسلم (505) .(5/159)
فيشرع له أن يدفع المار بين يديه، فإن أبى فليقاتله أي يدفعه دفعاً شديداً، ومما يدل على أن المراد ذلك قصة هذا الحديث فقد بين في الصحيحين: (أنه صلى في يوم جمعة وبين يديه شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه فدفعه في نحره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً فعاد يجتاز فدفعه أشد من الأولى) (1)
وحينئذٍ: لو ترتب على دفعه أذى في بدنه فإنه لا يضمنه لأن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.
- وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك وهو الراجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فليدفعه " وظاهر الأمر الوجوب.
إذن: عن الإمام أحمد روايتان:
أصحهما وهي غير المشهورة عنه وجوب ذلك لظاهر الحديث وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (2) فلا يجوز له أن يمر بين يدي المصلي سواء كان بين يديه سترة أم لا، بأن يمر بين يديه في موضع صلاته.
وللمصلي اتفاقاً دفعه إن مر وهل هو واجب أو مستحب؟ الراجح وجوبه كما هو رواية عن الإمام أحمد.
قال: (وعد الآي)
له أن يعد آيات القرآن التي يقرؤها، وهو وارد عن طائفة من السلف؛ وهل له أن يعد التسبيح فيه قولان في المذهب، وقد توقف الإمام أحمد فيه لعدم وروده عن أحد من السلف، وأجازه طائفة من أصحابه.
فعلى ذلك: عد الآي وجه واحد في المذهب أنه مباح وليس بمكروه، وأما التسبيح فهل يكره أم يباح؟
قولان في المذهب:
الصحيح في المذهب عندهم أنه يباح أيضاً.
وذهب الشافعية والأحناف: إلى أنه مكروه.
__________
(1) متفق عليه، الباب السابق.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) .(5/160)
وهذا أظهر فإن فعل طائفة من السلف من التابعين لا يفيد إباحته حيث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد ثبتت الأدلة في أن الصلاة شغل وإقبال إلى الله تعالى وحيث انشغل في العد فإن ذلك انشغالاً عن الصلاة وعن إتمام خشوعها والخضوع لله فيها.
وهو متى قام بالواجب فإن الله عز وجل يجازيه على ما فعله بعده وإن لم يعرف حسابه، ولو فعل ذلك فإن الصلاة صحيحة لكنه مكروه.
قال: (والفتح على إمامه)
أي: وله الفتح على إمامه، بأن يفتح عليه في قراءته.
فإذا لُبس على الإمام في القراءة، فيشرع له أن يفتح عليه بأن يرد عليه ما أخطأ فيه في قراءته.
ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى صلاة فلُبس عليه فيها، فلما انصرف قال لأُبي أصليت معنا؟ قال نعم قال: " ما منعك " أي ما منعك أن تفتح عليَّ في الصلاة) (1) .
إلا أن التعجل في ذلك بحيث يكون في ذلك تلبيس على الإمام هذا غير مشروع، بل يترك الإمام حتى يتبين أن الخطأ عنده صواب وأنه يظن هذا الخطأ صواباً.
أما حيث كان في مهلة من أمره وهو ما زال يمكنه أن يصلح خطأه كأن يخطئ في صدر آية وهو لم يصل إلى منتصفها أو آخرها فهو ما زال يمكن أن يصلح خطأه فلا ينبغي التعجيل في ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب الفتح على الإمام (907) ، وابن حبان (2242) ، والطبراني في الكبير (13216) ، والبيهقي [3 / 212] ، والبغوي (665) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال الخطابي في معالم السنن [1 / 216] : " إسناد حديث أبي جيد "،وقال النووي في المجموع 4 / 241: " رواه أبو داود بإسناد صحيح ". من حاشية الشرح الممتع لابن عثيمين [3 / 347] .(5/161)
وقد قال علي – في البيهقي بإسناد صحيح – " إذا استطعمك الإمام فأطعمه " (1) أي إذا طلب منك أن تفتح عليه فافعل.
والفتح على الإمام بالفاتحة واجب، لأن الصلاة لا تصح إلا بها، وحيث أخطأ الإمام في الفاتحة فإن الصلاة تبطل بذلك. وأما غير الفاتحة فإن ذلك مشروع حيث كان الإمام محتاجاً إليه للحديث المتقدم في قصة أبي بن كعب.
قال: (ولبس الثوب ولف العمامة)
هذا لا بأس به في الصلاة.
فلا بأس أن يلبس ثوبه، كأن يقع ردائه فيرفعه إلى عاتقه أو أن يلبس عمامته هذا لا بأس به ولا كراهية إذا احتاج إليه لأنه عمل يسير في الصلاة والعمل اليسير في الصلاة مباح لا كراهية فيه إلا إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لكونه عبثاً فيها. ومما يدل عليه حديث حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة (2) .
ولما ثبت في أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح لعائشة الباب وهو يصلي) (3)
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الجمعة / باب (48) إذا حصر الإمام لقن / رقم (5792) وما بعده. وفيه: " قلنا ما استطعامه؟ قال – أي الراوي -: إذا تعايا فسكت فافتحوا عليه ".
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 193 باب 16 إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة رقم (494) ، ومسلم رقم (543) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (169) العمل في الصلاة / رقم (922) . والنسائي في كتاب السهو / باب (14) المشي أمام القبلة خطى يسيرة / رقم 1206 عن عائشة قالت: استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا والباب على القبلة فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب ثم رجع إلى مصلاه "، والترمذي وقال: " حسن غريب ". وحسنه الألباني.(5/162)
فالحركة اليسيرة إذا احتاج إليها المصلى فلا بأس بها ولا كراهية لأنها عمل يسير فيباح في الصلاة ولا كراهية إذا احتاج إليه.أما إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لأنه عبث، وكل عبث في الصلاة فهو مكروه كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والثمانون
(يوم الأربعاء: 9 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (وقتل حية وعقرب وقمل)
أما الحية والعقرب؛ فلثبوت النص بذلك، فقد ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) (1) ويقاس عليهما القمل ونحوه مما فيه ضرر ويجوز قتله، فيقاس عليه وقد ثبت عن طائفة من الصحابة والتابعين.
والحديث إنما يقيد بحيث لا تختل الصلاة، فإن اختلت الصلاة، فاحتاج قتل الحية والعقرب إلى عمل كثير ينافي الصلاة فإنه يبطل الصلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (في الصلاة) ، وظاهره أن ذلك في الصلاة مع ثبوتها، وجبت كان قائماً بعمل كثير ينافي الصلاة فإنه يكون خارجاً عنها، قياساً على إنقاذ الغريق، فإنه إن احتاج إلى إنقاذه وهو يصلي ولا يمكن أن ينقذه إلا بعمل كثير يبطل الصلاة، فيبطلها وينقذه.
هذا تقرير مذهب جماهير أهل العلم، وأن قتل الحية والعقرب إنما يكون حيث كانت الصلاة ثابتة ولم يكن هذا القتل بفعل كثير عرفاً يبطلها، فإن كان بفعل كثير يبطلها، فإن الصلاة تبطل.
قال: (فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة ولا تفريق بطلت ولو سهواً)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الباب السابق / رقم (921) ، وأخرجه النسائي في الصلاة حديث 1203 بلفظ (أمر) ، وابن ماجه في الصلاة حديث 1245 بلفظ (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، والترمذي حديث 390 وقال: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [1 / 566] .(5/163)
فمرجع معرفة الطويل والقصير في الصلاة هو العرف وهي قاعدة شرعية: في كل ما لم يثبت تحديده في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف ويرجع فيه إلى أوساط الناس وقد اتفق أهل العلم على أن العمل الكثير مبطل للصلاة وأن العمل اليسير ليس بمبطل لها.
وقد تقدمت أمثلة للعمل اليسير كأن يفتح باباً أو يلبس ثوباً أو نحو ذلك.
فالعمل الكثير يقطع الصلاة اتفاقاً؛ لأنه ينافي الصلاة ويقطع موالاتها، وهو ليس على الهيئة الشرعية ولا مما أجازه الشارع فيها، وحيث كان كذلك كانت الصلاة خارجة عن الهيئة الشرعية الصحيحة وكل عمل خارج عن هديه – صلى الله عليه وسلم – فهو مردود.
قال: (من غير ضرورة) :
وعليه: فإن كان مضطراً إلى فعل كثير في الصلاة فإن الصلاة لا تبطل بذلك، كأن يكون هارباً من عدو أو سبع ونحوه فإنه يصلي على هيئته وحسب حاله، وإن كان في الصلاة عمل كثير ينافيها في الأصل لكنه مضطر إلى ذلك فتصح صلاته.
كما أجاز الشارع الصلاة حال الخوف رجالاً وركباناً كما سيأتي في باب صلاة الخوف – إن شاء الله تعالى -.
قال: (ولا تفريق) :
بأن كان هذا الكثير متوالياً
أما إن كان بمجموعه كثير لكنه بآحاده يسير (1) ، كأن يعمل عملاً يسيراً في الركعة ثم يعود إليها ثم يعمل عملاً يسيراً في الركعة الثانية وهكذا – ويكون هذا اليسير بمجموعه كثيراً فلا تبطل الصلاة به.
لأنه حيث لم يبطلها وهو يسير بمفرده فلا يبطلها وهو كثير بمجموعه، فما دام أن الصلاة صحت مع ثبوت العمل اليسير فيها بمفرده فكذلك لا يبطلها بمجموعه، فهذا عندما يفعل فعلاً يسيراً ثم يعود إلى صلاته فهي صحيحة، وإذا فعل فعلا آخر يسيراً ثم عاد فالصلاة صحيحة، وهو لم يقطع موالاتها بمفرده فكذلك إذا كان متفرقاً لكنه بمجموعه كثيرة عرفاً.
(بطلت ولو سهواً) :
__________
(1) في الأصل: يسيراً.(5/164)
فلو عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فإن الصلاة تبطل، وهذا هو المشهور في المذهب وعللوا ذلك بما تقدم: من انقطاع الموالاة.
- وعن الإمام أحمد: أن العمل الكثير الساهي صاحبه لا يقطع الصلاة بل تصح الصلاة مع العمل الكثير إن كان صاحبه ساهياً.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين في قصة ذي اليدين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين ساهياً ومشى وخرج من المسجد وأتى بيته ثم بعد ذلك أتم صلاته) (1) فقد قام أثناء الصلاة بعمل كثير عرفاً خارج عن الصلاة منافياً لها، ومع ذلك لم تبطل به الصلاة بل أتم صلاته لكونه ساهياً – وهذا هو الظاهر – وهو اختيار المجد بن تيمية.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب 19 السهو في الصلاة والسجود له / رقم (574) عن عمران بن حصين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخِرْبَاق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضْبَانَ يَجُرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا) قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم ثم سجد سدتين ثم سلم ". وفي لفظ له قال عمران: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مُغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم ". وقد أخرج البخاري قصة ذي اليدين من حديث أبي هريرة في مواضع منها (482) ، (714) ، (1228) ، (6051) ، (7250) ، ومسلم (573) ، ولكن ليس في شيء من هذه الألفاظ أنه دخل بيته، وإنما ذلك في حديث عمران المتقدم في مسلم.(5/165)
وأما مسألة الموالاة فإنها ليست هي العلة التي من أجلها أبطلت الصلاة، بدليل أن العمل اليسير لا يبطلها مع كونه قاطعاً للموالاة، فإن العمل اليسير فعل يجانب الصلاة، ومع ذلك فإنه لا يبطلها، وحيث لم يبطلها، فإن العمل الكثير لا يبطلها إن كان صاحبه ساهياً؛ لأنه فعل ما هو منافي للصلاة من غير تقصير ولا تعمد، وحينئذ [حيث] كان كذلك، فإنه لا يعد فاعلاً شيئاً.
والحديث المتقدم ظاهر في ذلك فإنه عمل كثير ومع ذلك لم يعد الصلاة ولم يستأنفها وقد عمل عملاً كثيراً منافياً الصلاة لكنه ساهياً.
إذن الراجح: أنه إذا عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فلا تبطل صلاته.
قال: (ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها)
أي يباح للمصلي أن يقرأ من أواخر السور وأوساطها سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً.
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر في الأولى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء …} (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (14) استحاب ركعتي سنة الفجر.. / رقم 727. من حديث ابن عباس، وفي رواية أخرى له: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} التي في البقرة،وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} ".
قلت: وبدايتها: {فلما أحس عيسى منهم الكفر..} .
يقول بعض طلبة العلم: وأكثر الرواة على هذه الرواية الأخيرة، وأما الرواية الأولى والتي فيها في الركعة الثاني {تعالوا إلى كلمة سواء..} فقد تفرد بها خالد الأحمر عن بقية الرواة. والله أعلم.(5/166)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) (1) وأوساط السور وأواخرها مما تيسر.
وقد تقدم أن هذا مباح، لكن اتخاذه عادة وسنة خلاف الأولى، لأن في ذلك تركاً للسنة، فكونه يقرأ من أواخر السور وأوساطها مداوماً على ذلك، ففي ذلك ترك لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة السور بتمامها، ومما كان ظاهراً وغالباً في صلاته – عليه الصلاة والسلام -.
فإذن: هو مباح لكن إذا داوم عليه فهو خلاف الأولى مع كونه مباحاً.
وقد تقدم حديث زيد بن ثابت وإنكاره على مروان لأنه يداوم على قصار السور في المغرب.
قال: (وإذا نابه شيء سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى)
إذا عرض شيء في الصلاة كسهو إمام أو تنبيه أو نحو ذلك فيقول الرجل " سبحان الله " وتصفق المرأة.
وصفة التصفيق ببطن كفها على ظهر الأخرى هذه هي الصورة المشروعة، ونحوها كأن تضرب ببطن أصبعين من أحدهما على كف الأخرى.
أما ضرب بطن أحدهما بالأخرى فإنه تصفيق وهو من اللهو واللعب المحرم.
ومثل ذلك: ما قال: عيسى بن أيوب كما في سنن أبي داود وهو من رواة هذا الحديث قال: (تضرب بأصبعين من اليمينى على كفها اليسرى) وفي رواية أبى داود: (تصفيح) (2) .
والتصفيح: بأن يضرب بطن أحدهما بظهر الأخرى أو بأصبعين من أحدهما على كف الأخرى.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (757) و (793) و (6252) ، ومسلم في كتاب الصلاة / باب (11) وجوب قراءة الفاتحة / رقم (397) ، وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب 173 التصفيق في الصلاة / رقم 942 عن عيسى بن أيوب قال: " قوله: " التصفيح للنساء " تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى ". وفيه أيضا (941) حديث سهل مرفوعاً: (إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح – كذا - النساء)(5/167)
أما التصفيق المتقدم فهو من اللهو واللعب في الصلاة وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) (1) وفي رواية: (في الصلاة) (2) وفي رواية: (إذا نابكم أمر فليسبح الرجال ولتصفق النساء) (3) .
ولا يستحب له أن يعدل إلى غير التسبيح كالنحنحة قد روى النسائي وابن ماجه عن علي قال: (كان لي من النبي صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيتبه وهو يصلي تنحنح لي) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف ففيه جهالة عين فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويبصق في الصلاة عن يساره، وفي المسجد في ثوبه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (5) التصفيق للنساء / رقم (1203) من حديث أبي هريرة، و (1204) من حديث سهل بن سعد، ومسلم رقم (422) كتاب الصلاة / باب (23) تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة.
(2) رواية (في الصلاة) عند مسلم برقم (422) كتاب الصلاة /باب (23) تسبيح الرجل … من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام / باب (36) الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم / رقم (7190) عن سهل وفيه وقال – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - للقوم: (إذا رابكم أمر فليسبح الرجال وليصفِّح النساء) . وفي رواية (684) : (ما لي أراكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) في كتاب الأذان باب (48) . ومسلم في كتاب الصلاة / باب (22) تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم / رقم (421) .
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (17) التنحنح في الصلاة / رقم (1212) و (1211) ، قال الألباني: ضعيف الإسناد "، وابن ماجه في كتاب الأدب / باب (17) الاستئذان / رقم (3708) .(5/168)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه) (1) متفق عليه.
فإن كان عن شماله مأموم فإنه يبصق تحت قدمه، لما ثبت في رواية للبخاري: (فليبصق عن يساره أو تحت قدمه) (2) .
وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ طرف ثوبه فبصق فيه ثم رد بعضه وقال: (أو يفعل هكذا) (3) ففي المسجد يبصق في ثوبه لأنه بقعة ظاهرة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البصاق (4) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) (5)
فإذن في المسجد يبصق في ثوبه، وأما في غير المسجد فإنه يبصق عن يساره أو تحت قدمه.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس والثمانون
(يوم السبت: 12 / 4 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ويسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرحل)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جماهير العلماء وأن السترة في الصلاة سنة وليست بواجبة.
وقد اتفق أهل العلم على مشروعية السترة، والسنة ظاهرة في ذلك وأن السترة سنة في الصلاة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعها حضراً ولا سفراً.
وإنما اختلف العلماء في هل تجب أم لا؟
قولان:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (33) حك البزاق باليد من المسجد / رقم (405) من حديث أنس، وباب (34، 35، 36، 37، 38، 39) من رقم (406) إلى (417) بألفاظ مختلفة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد (547) إلى (551) بألفاظ مختلفة.
(2) البخاري الباب السابق رقم (416) بلفظ: " وليبصق.. ".
(3) صحيح البخاري الباب السابق.
(4) لعلها البزاق كما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً " فلا يبصق " في الصحيحين.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (37) كفارة البزاق في المسجد / رقم (415) ، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد.. / رقم (552) .(5/169)
فذهب الجمهور: إلى أن الصلاة إلى السترة سنة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت من بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فلم ينكر ذلك علي أحد) (1)
وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى في فضاء وليس بين يديه شيء) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم / باب (18) متى يصح سماع الصغير / رقم (76) ، وفي كتاب الأذان / باب (161) وضوء الصبيان / رقم (861) ، وفي أبواب أخرى، ومسلم (504) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 2 ص: 63: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف ". ورواه في سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 273 (3294) حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف إملاء أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة ح وأخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار قالا ثنا سعدان بن نصر المخرمي ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة عن الحكم بن عتبة عن يحيى بن الجزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس وسيرد بعد هذا إن شاء الله تعالى "، وعزاه صاحب المنتقى إلى أبي داود، والمنذري إلى النسائي، نيل الأوطار [3 / 5] ، ولم أجده فيهما بهذا اللفظ، وإنما هو في أبي داود [1 / 459] كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754..(5/170)
وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن الفضل بن عباس قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وعباس في بادية لنا، فصلى في صحراء وليس بين يديه سترة، وحمارة وكلبة لنا تعبث بين يديه) (1)
2 - وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب البخاري وطائفة من أهل العلم: إلى وجوب السترة.
واستدلوا:
بما ثبت في أبي داود والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) (2) وظاهر الأمر الوجوب.
__________
(1) رواه داود [1 / 459] في كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754..
(2) أخرجه النسائي في كتاب القبلة / باب (5) الأمر الدنو من السترة / رقم (748) عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) ، وقال الألباني: صحيح " وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (108) ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه / رقم (698) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة،وليدن منها " ثم ساق معناه. أي معنى الحديث السابق وهو: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر … فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان "، وليس فيه: " لا يقطع الشيطان عليه صلاته ".(5/171)
وروى أحمد والحاكم - والحديث حسن – من حديث سبرة بن معبد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1)
قالوا: فهذه أحاديث ظاهرها الوجوب، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه تركها حضراً ولا سفراً.
وأما ما ذكره أهل القول الأول:
فالحديث الأول حديث صحيح غير صريح، والحديثان بعده ضعيفان لا يثبتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما كون حديث ابن عباس حديث صحيح فلثبوته في الصحيحين.
أما كونه غير صريح؛ فلأنه نفى أن يكون قد صلى إلى جدار وإنما نفى أنه صلى إلى جدار ولم ينف أنه صلى إلى سترة وظاهر لفظة " غير " أنه قد صلى إلى شيء، فإن لفظة " غير" في الغالب أنها تأتي صفة وهي هنا صفة لمحذوف تقديره " شيء " أي إلى شيء غير جدار.
فالحديث ليس فيه نفي السترة مطلقاً وإنما نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار يحجز بينه وبين الدواب أن تمر بين يديه.
__________
(1) قال في نصب الراية ج: 2 ص: 80: " وروى البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة سبرة بن معبد الجهني " وذكره بسنده.
وفي المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: 382 رقم (925) حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليستر أحدكم صلاته ولو بسهم "، وبلفظ (926) : " استتروا بصلاتكم ولو بسهم، على شرط مسلم "، وفي مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 24، رقم (2862) ، السنن الصغرى للبيهقي ج: 1 ص: 531 رقم (952) وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 270 رقم (3276) صحيح ابن خزيمة ج: 2 ص: 13، باب (284) / رقم (810) ، ورقم (841) . الاسطوانة.(5/172)
ومعلوم أن المصلي إذا صلى إلى سترة غير جدار فإن الدواب قد تمر بين يديه فيحتاج إلى دفع منه، بخلاف ما إذا صلى إلى جدار فإنه يحجز بينه وبينها فلا يحتاج إلى دفع وقد مر ابن عباس بالحمار بين يدي بعض الصف لعدم وجود الحاجز والجدار، فلم تكن الصلاة في مبنى ذي جدران يحجز المصلين عن مرور الدواب.
وأما الحديث الثاني فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وأما الحديث الثالث ففيه انقطاع وجهالة.
قالوا: فهذه أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حديث صحيح غير صريح، فلا يعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فيبقى الأمر محكماً وأن ذلك للوجوب.
ومما يقوي ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عن أن يمر بين يدي المصلي ونهاه عن ذلك وقال: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (1) وترك السترة بين يديه ذريعة لمرور الناس بين يديه فيقعون في محرم، ويقطعون من صلاته ما يقطعون.
وقد قال ابن مسعود – في المرور بين يدي المصلي -: " يقطع نصف الصلاة " (2) فإذا مر أحدهم بين يديه فإنه مع تفريطه في ذلك يذهب عنه نصف أجر صلاته.
قال: (كمؤخرة الرحل)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 252 باب 61 في الرجل يمر بين يدي الرجل يرده أم لا رقم 2908 حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال نا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال كان ابن مسعود إذا مر أحد بين يديه وهو يصلي التزمه حتى يرده ويقول: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه ".
قال في فتح الباري ج: 1 ص: 584: " وقد روى بن أبي شيبة عن بن مسعود إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته " الاسطوانة.(5/173)
ظاهره أن هذا هو القدر المجزئ وأنه مثل مؤخرة الرحل وهي ما يتكئ عليه راكب الإبل، فإنه يتكئ على خشبة نحو الذراع، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سُئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة الرحل) (1)
وفي مسلم – أيضا – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار – والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (2) وظاهره هذه الأحاديث أن المجزئ – مع القدرة ذلك – أي طولاً.
واختلف العلماء في قدر المؤخرة:
فعن الإمام أحمد: أنه ذراع، وهو مذهب الأحناف وهو قول عطاء، قال عطاء – في سنن أبي داود - في مؤخرة الرحل قال: (ذراع فما فوق) (3) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والمالكية: أنه قدر عظم الذراع أي بإخراج الكف من اليد.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (47) سترة المصلي / رقم (499) عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: (كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (102) ما يستر المصلي / رقم (686) عن عطاء قال: " آخرة الرحل ذراع فما فوقه ".(5/174)
والأظهر – كما قرر ذلك الموفق – أن هذا إنما هو على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كمؤخر الرحل) سواء كان ذلك ذراعاً فما فوق [أو] فما دونه بقليل لا حرج في ذلك وأنه ذكر على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد.
بدليل الاختلاف في مؤخرة الرحل – طولاً – في الحقيقة والواقع فإنها ليست بقدر واحد بل هي مختلفة فيها الذراع وفيها ما هو فوق ومنها ما هو دون.
فعلى ذلك: القدر المجزئ في الطول أن تكون كمؤخرة الرحل ذراعاً فما فوق أو عظم الذراع فما فوق.
وأما من حيث غلظها، فإن الحديث الذي في المستدرك ومسند أحمد – يدل على أنه لا يشترط لها حجماً محدداً في الغلظ بل لو كانت كسهم أو نحوه فلا بأس – في قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1) .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين -: (كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر ومن ثم اتخذها الأمراء) (2) والحربة أدق من مؤخرة الرحل. وثبت أنه كان يصلي إلى العنزة كما ثبت في البخاري (3) وغيره.
فعلى ذلك: كل ذلك جائز ولا يشترط أن يكون محدداً في العرض – بل لو كان ذلك دقيقاً فلا حرج.
وهذا حيث كان قادراً، وإلا فلو كانت دون ذلك وهي التي قد قدر عليها فإنه لا بأس بذلك ولا حرج.
قال: (فإن لم يجد شاخصاً فإلى خط)
__________
(1) تقدم قريباًَ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (90) سترة الإمام سترة من خلفه / رقم (494) ، وانظر (972) ، ومسلم (501) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب العيدين / باب (14) حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد / رقم (973) عن ابن عمر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنَزَة بين يديه تُحمل وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها ".(5/175)
أي إن لم يجد شاخصاً يضعه بين يديه من خشب أو حجر أو شجر أو سارية أو نحو ذلك، ومثله لو صلى وبينه وبين القبلة آدمي، فقد ثبت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر يقولون لنافع إن لم يجد سترة: (ولني ظهرك) (1) وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة (2) – كما ثبت في الصحيحين –، وكان الصحابة يتبادرون سواري المسجد فيصلون إليها (3) كما في البخاري.
وثبت في النسائي أنه صلى إلى شجرة (4) .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 250 رقم (2878) حدثنا أبو بكر قال نا وكيع عن هشام بن الغاز عن نافع قال كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلي سارية من سواري المسجد قال لي ولني ظهرك " الاسطوانة.
قال في نصب الراية ج: 2 ص: 96: " وأما ما روى من النهي خلف النائم والمتحدث فأخرجه أبو داود وابن ماجة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث انتهى في سند أبي داود رجل مجهول وفي سند بن ماجة أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه وقال الخطابي هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبسط القول فيه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (103) الصلاة خلف النائم / رقم (512) وانظر (513) .
(3) صحيح البخاري ج: 1 ص: 225
14 باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة رقم (599) . وانظر البخاري رقم (504) .
(4) السنن الكبرى ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى "، وقد تقدم صْ 159.(5/176)
فالمقصود: أنه يصلي إلى شاخص مثل مؤخرة الرحل فما فوق ولا ينظر إلى كونه دقيقاً أو غليظ فإن تحديد ذلك ليس بشرط في الإجزاء بل هو ليس شرطاً في ثبوت السنية والاستحباب؛ لثبوت ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فإلى خط) :
دليله: ما رواه أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطاً ثم لا يضره ما مَّر بين يديه) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف مضطرب، ففيه جهالة، مع الاضطراب الوارد في سنده وهو من حديث أبي محمد محمد بن عمرو بن حُريث (2) عن جده، على أثبت الأسانيد في ذلك وهما مجهولان.
ولذا ضعفه ابن عيينة والبخاري وغيرهم، فالحديث ضعيف.
وكرهه الشافعي في قوله الجديد، وكذلك الأحناف والمالكية، وكرهه – كذلك – الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – وهو الراجح؛ لأن الحديث الوارد في الخط ضعيف لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يخط خطاً فأن لم يجد شيئاً شاخصاً فإنه يصلي حسب حاله، ويكون قد سقط عنه وجوب ذلك أو سنيته على القول بها.
والمشهور عن الإمام أحمد: أن الخط يقوس كالهلال.
وقيل: أنه يوضع طولاً.
وقيل: عرضاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (103) الخط إذا لم يجد عصا / رقم (689) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثا يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن مع عصا فليخططْ خطاً لا يضره ما مر أمامه) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبي محمد بن عمرو بن حريث، قال في التقريب: " أبو عمرو بن محمد بن حُريث، أو ابن محمد بن عمرو بن حريث، وقيل: أبو محمد بن عمرو بن حريث، مجهول من السادسة. / د ق ".(5/177)
ولا دليل على شيء من ذلك فالخط مطلق، وإن كان أقربها أن يكون عرضاً؛ لأنه ظاهر الإطلاق، لكن الحديث ضعيف كما تقدم.
وفي قوله: (فليجعل تلقاء وجهه) :
ظاهره أن السترة تكون بين يديه وهو ظاهر الأحاديث، كما تقدم في المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالحربة فتوضع بين يديه " ظاهر ذلك أنها تكون قبلته وتلقاء وجهه.
- لكن المشهور في المذهب أنه لا يستحب أن يصمد إليها صمداً أي لا يتوجه إليها توجهاً تاماً بل يجعلها إلى حاجبه الأيمن أو الأيسر.
لما روى أحمد وابن ماجه (1) من حديث المقداد بن الأسود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله تلقاء حاجبه الأيسر أو الأيمن ولا يصمد له صمداً) (2)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبو داود [1 / 445] رقم (693) .
(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 184
106 باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه 693 حدثنا محمود بن خالد الدمشقي ثنا علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قال ثم ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا ".
الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج: 1 ص: 181
أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن عدي في ترجمة الوليد بن كامل عن المهلب ابن حجر عنها وأخرجه ابن الموطأ من وجه آخر عن الوليد فقال عن ضبيعة بنت المقدام بن معد يكرب عن أبيها والإضطراب فيه من الوليد وهو مجهول "
نصب الراية ج: 2 ص: 83
ورواه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل وأعله بالوليد بن كامل ونقل عن البخاري أنه قال عنده عجائب وأما بن القطان فإنه ذكر فيه علتين علة في إسناده وعلة في متنه أما التي في إسناده فقال إن فيه ثلاثة مجاهيل فضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدا ذكرها وكذلك المهلب بن حجر مجهول الحال والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم يثبت عدالتهم وليس له من الرواية كثير شيء يستدل به على حاله وأما التي في متنه فهي أن أبا علي بن الموطأ رواه في سننه هكذا حدثنا سعيد بن عبد العزيز فلهذا ثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك ثنا بقية عن الوليد بن كامل ثنا المهلب بن حجر البهراني عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على حاجبه الأيسر انتهى قال بن الموطأ أخرج هذا الحديث أبو داود عن رواية علي بن عياش عن الوليد بن إسناده ومتنه فإنه عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها وهذا الذي روى بقية هو عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها وذاك فعل وهذا قول قال بن القطان فمع اختلافهما في المتن بقية يقول ضبيعة بنت المقدام وابن عياش يقول ضباعة بنت المقداد فالوهن من حيث هو اختلاف على الوليد بن كامل ومورث للشك فيما كان عنده من ذلك على ضعف الوليد بن كامل وأنه يروى عن ضباعة بنت المقداد وأما ضبيعة بنت المقدام فجاء هو بأمر ثالث وذلك كله دليل على الاضطراب والجهل بحال الرواة انتهى "(5/178)
لكن الحديث ضعيف فيه: الوليد بن كامل البجلي الشامي وهو ضعيف فلا يستدل به.
ونبقى على ظواهر الأحاديث المتقدمة، وأنه يجعل السترة إلى تلقاء وجهه دون ما تقدم.
* واعلم أن ظاهر الأحاديث أن السترة مشروعة في مكة وغيرها من غير استثناء لمكة بل هي كغيرها في مشروعية السترة ورد لمار بين يدي المصلي وغير ذلك لعمومات النصوص الشرعية الواردة في ذلك.
ومعلوم أن ترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان الاستثناء وارداً لصح في ذلك حديث، ولم يثبت عنه في ذلك شيء.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك وأنه لا بأس بترك السترة في مكة، وكذلك رد المار لا يكون فيها لازدحام الناس فيها.
ومذهب الشافعية والمالكية خلاف ذلك وأن مكة كغيرها، وهو الراجح لظاهر الأحاديث.
وأما كون مكة تكون محلاً للازدحام فإننا نخصص الأوقات التي يزدحم الناس فيها بحيث يشق رد المار كأن يكون ذلك في حج أو في مواسم، ففي هذه الحال لا بأس بالقطع لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه مشقة عامة، بخلاف المشقة الخاصة التي يلحق الواقف نفسه فيها مشقة خاصة لا يترتب عليها إلا فوات بعض المصالح المترتبة عليه أو نحو ذلك، أما هنا فقد ترتب عليها مفاسد كبيرة وأذية لعموم الناس.
فحينئذ لا يقال بالمنع فيها عند ازدحام الناس.
وأما إن لم يكن هناك ازدحام شديد وكانت مكة كغيرها من المساجد في الازدحام فإنه يجب وضع السترة ورد المار بين يدي المصلي.
قال: (وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط)
البهيم هو الذي لا يخالطه غير لونه الظاهر فالأسود البهيم هو الذي ليس فيه إلا السواد، وهذا في كل الألوان فالبهيم هو ما كان لوناً لا يخالط بغيره.
فالكلب الأسود البهيم، ومثله – على الراجح – ذي النقطتين وهو ما يكون بين عينه نقطتان فهو شيطان كما ثبت في الحديث وأمر بقتله، فهذه كلها قاطعة للصلاة.(5/179)
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (1) وفي مسلم من حديث أبي ذر الغفارى قال: (والكلب الأسود شيطان) (2) وفيه أنه قد قيد الكلب بالأسود.
وهذا الحديث المتقدم ظاهره أن هذه الثلاث تقطع الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد " الرواية الأخرى " وهو اختيار المجد وشيخ الإسلام وتلميذه، وقال ابن تيمية: " وهو مذهب أحمد " (3) أي هو المذهب الذي ينبغي أن يثبت إليه ففيه قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم.
القول الثاني: أن الثلاث كلها قاطعة للصلاة لعموم الحديث المتقدم وهو الأرجح.
وإنما استثنى - من القول بقطع الصلاة - الحنابلة الحمار والمرأة؛ لأن الحمار قد تقدم في حديث ابن عباس أنه مر بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك.
فدل على أن مروره بين يدي المصلي لا يقطع حيث لم ينكر ذلك.
وأما كون المرأة لا تقطع الصلاة: فلما ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه اعتراض الجنازة) (4) .
وحيث ثبت ذلك فلا يبقى إلا الكلب الأسود البهيم فهو قاطع للصلاة دون غيره.
والراجح ما تقدم: واستدلوا بالعموم المتقدم.
وأجابوا عن الحديثين:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) . وقد تقدم.
(2) الباب السابق.
(4) تقدم.(5/180)
أما حديث ابن عباس: فإنه قد مر بين يدي بعض المأمومين من الصف والإمام كان بين يديه سترة – كما تقدم ترجيحه – وحيث كان ذلك فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه، فمرور شيء من قاطعات الصلاة بين يدي المأمومين - وهم يأتمون بالإمام، والإمام له سترة - هذا لا يقطع صلاة المأموم.
فسترة الإمام سترة لمن خلفه، فإذا مر بين يديه شيء فكأنه قد مر من وراء السترة لأنه غير مبطل لصلاة الإمام فلم يكن مبطلاً لصلاة المأموم.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأخذ الحربة فيضعها بين يديه ويصلي وراءه الناس) (1) وليس فيه أن الناس كانوا يتخذون السترة، وإنما كانوا يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيصلون وراءه وقد اتخذ سترة ولا سترة لأحد منهم، فدل على أن سترة الإمام سترة لهم، وهو مذهب عامة أهل العلم.
وبوب البخاري باباً بهذا اللفظ: (وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه) وفيه حديث عند الطبراني في الأوسط (2) فيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (3) بهذا اللفظ وإسناده ضعيف أيضاً.
وعامة أهل العلم عليه؛ للحديث المتفق عليه المتقدم.
فعليه: هذا الحديث الذي رواه ابن عباس: إنما لم تبطل صلاة البعض من المأمومين حيث مر الأتان بين أيديهم لكونهم مؤتمين بإمام والإمام له سترة وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
__________
(1) تقدم.
(2) مجمع الزوائد ج: 2 ص: 62
باب سترة الإمام سترة من خلفه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سترة الإمام سترة من خلفه رواه الطبراني في الأوسط وفيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف " وقال في موضع آخر: " مجمع على ضعفه ".
(3) مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 18
2317 عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال سترة الإمام سترة من ورائه قال عبد الرزاق وبه آخذ وهو الأمر الذي عليه الناس(5/181)
وأما اعتراض عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض الجنازة فإنها ماكثة والكلام في المار.
والفرق بينهما واضح: فإن المرور هو التجاوز بين المصلي وبين سترته.
وأما الماكث فهو باقي أمامه قبلة له كالشيء الذي يستتر به وقد تقدم قول ابن عمر (ولني ظهرك) (1) .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد المار بين يديه من بهيمة ونحو ذلك، ولو كانت ثابتة مستقرة لما فعل ذلك؛ لما ثبت أنه قد صلى إلى راحلته ولو كانت مارة غير ماكثة لدفعها النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن المستحب في السترة أن تكون عن المصلي ثلاثة أذرع فيما بين قدمه والسترة.
أو بينها وبين مواضع سجوده ممر شاة كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن بلالاً أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع) (2) وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: (كان بين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم والجدار ممر شاة) (3) أي بين موضع سجوده وبين الجدار المستتر به ممر شاة.
فعلى ذلك: السترة يدنو منها المصلي فتكون منه على قدر ثلاثة أذرع أو بين السترة وبين موضع سجوده ممر شاة.
فإن لم يكن بين يديه سترة فإنه لا يجوز المرور بين يديه ويجب عليه أن يدفع المار بين يديه كما تقدم.
وموضع ذلك حيث كان يمكنه دفعه بحيث أنه يمكنه أن يمد يده إليه أو يتقدم يسيراً فيدفعه، فمثل هذا الموضع لا يجوز المرور، وإذا مر بينه وبين ذلك شيء مما تقدم فإنه يبطل الصلاة أو ينقصها.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (97) / رقم (506) ، وفي باب (51) الصلاة في الكعبة / رقم (1522) وفي نسخة رقم (1599) من كتاب الحج، وأخرجه مسلم (1329) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة /باب (19) قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة / رقم (496) .(5/182)
فالقدر حيث لم يضع سترة بحيث أنه يمكنه من غير إخلال بالصلاة أن يتقدم تقدماً يسيراً فيدفع، هذا تقريباً ثلاثة أذرع.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن ذلك يحدد بقدر رمي حجر، وهذا ضعيف.
والراجح ما تقدم من أنه ثلاثة أذرع ونحوها.
* والمشهور عند جمهور أهل العلم أن الصلاة لا تنقطع بشيء مما تقدم ذكره.
واستدلوا بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم) (1) لكن الحديث فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف فلا يعارض به ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
فعلى ذلك: الراجح: أن الحمار والكلب الأسود والمرأة الحائض مرورهم يقطع الصلاة.
وقد ورد في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح: تقييد المرأة الحائض (2) ، وإنما يراد بالحائض البالغة.
فإن لم تكن حائضاً فإنها تنهى عن المرور وتدفع لكنها لا تقطع الصلاة.
قال: (وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عن آية رحمة ولو في فرض)
لما روى مسلم من حديث حذيفة – في قصة قيامه الليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ) (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (115) من قال لا يقطع الصلاة شيء / رقم (719) بلفظ: " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (110) ما يقطع الصلاة / رقم (703) ، والنسائي حديث 752. سنن أبي داود [1 / 452] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين.. / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) عن حذيفة قال: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المئة … إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع.. ".(5/183)
وقوله: (ولو فرض) قياساً على النفل، فإن الحديث ثابت في النفل وما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يخصص ذلك.
وكره ذلك الأحناف والمالكية وقالوا: إنما هو خاص في النفل دون الفرض، فلا يستحب له في الفرض.
وهذا قوي في الغالب، فإن الغالب في فعل ذلك أن فيه إشقاقا (1) ً على المأمومين، فوقوف الإمام عند الرحمة يسألا والعذاب يستعيذ منه هذا يكون فيه إطالة على المأمومين فيكون فيه مشقة، والمشروع في الصلاة الجماعية أن يخففها الإمام بحيث لا يشق على المأمومين.
لذا لم يُنقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مثل ذلك ثابت في الفرض لنقل لنا ذلك نقلاً بيناً.
وأما المأموم فإن في فعل ذلك انشغالاً عن الإمام في متابعة قراءته، وقد قال تعالى: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (2) فكان الأولى عدم فعله في الفرض كما تقدم، لكن لو تبين أنه ليس في فعله مشقة على المأمومين، كأن يكون المأمومون محصورين بعدد يعلم أن لا يشق عليهم فإنه لا معنى لكراهية ذلك؛ لأن الأصل أن ما ثبت في الفرض فهو ثابت في النفل.
وحينئذ: فيشرع للمأموم ذلك.
فإذن: الأصل أو الغالب أن في فعله مشقة على المأمومين، وفعله للمأموم يشغله عن متابعة قراءة الإمام أو عن تمامها، فإن فعلها الإمام حيث لا مشقة فلا ينبغي القول بكراهيتها.
وحينئذ يفعلها المأموم ما دام الإمام يسكت لها، فسكوت الإمام لها وفعل المأموم لها أثناء السكوت لا يشغله عن متابعة قراءته.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والثمانون
(يوم الأحد: 13 / 4 / 1415هـ)
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأركانها)
أي أركان الصلاة.
والأركان: جمع ركن وهو جانب الشيء الأقوى وقد تقدم الفارق بينه وبين الشرط.
أن الشرط هو الفرض المرتبط بالصلاة من غير ماهيتها وغير حقيقتها.
وأما الركن فهو المرتبط بها وهو من حقيقتها وذاتها.
__________
(1) أي مشقة.(5/184)
فالنية من شروط الصلاة وهي قضية خارجة عن حقيقة الصلاة، وأما الركن فهو من حقيقتها وذاتها كالركوع والسجود ونحو ذلك.
والركن هو الفرض في تعبير بعض فقهاء الحنابلة وهذا على التفريق بين الفرض والواجب كما هو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
والركن لا يسقط سهواً ولا عمداً، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهواً ويجبر بالسجود، فأركان الصلاة لا تسقط سهواً ولا عمداً وسيأتي بيان ذلك في سجود السهو.
قال: (القيام)
هذا هو الركن الأول من أركان الصلاة وهو القيام مع القدرة، فهو فرض في الفريضة بإجماع العلماء لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم في البخاري من حديث عمران بن حصين: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تسطع فعلى جنب) (2) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به المسيء صلاته وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) .
وهو فرض بالإجماع مع القدرة لا مع العجز فإن العجز يسقط الواجبات.
وهو فرض في الفريضة دون النافلة، وقد تقدم جواز صلاة النافلة على الراحلة، فالقعود جائز هناك لكونها نافلة.
وقد اختلف أهل العلم في حقيقة القيام:
1- فقال الحنابلة: حقيقته: ما لم يصلِّ راكعاً، فإذا لم يثبت ركوعه فهو قائم قياماً مجزئـ[ـاً] .
فعليه: لو انحنى بحيث لا تصل راحتاه إلى ركبته وإن كان قريباً إلى ذلك فإن القيام يجزئ عنه.
2- وقال الشافعية: هو الانتصاب أي انتصاب فقار الظهر فإذا كانت منتصبة وإن كان هناك انحناء يسير كأن يكون قد طأطأ رأسه وكأن [يكون] في ظهره انحناء يسير فإن هذا مجزئ.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة / باب (19) إذا لم يطق قاعداًَ صلى على جنب / رقم (1117) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631)(5/185)
وما ذكروه هو الأظهر: وهو أن يكون قائماً في العرف وهو أن يكون منتصب الظهر، والانحناء اليسير معفو عنه لأن حقيقة القيام ثابتة له عرفاً.
وعلى هذا: فلو انحنى انحناء يقرب من الركوع فإن هذا ليس بقيام مجزئ، فلا يجزئه.
والواجب والفرض عليه هو قيام مثله، فإن كان في ظهره شيء من الحُدبة أو كان في سجن قصير سقفه، فالواجب عليه أن يقوم بقدر استطاعته وإن كان فيه انحناء لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فهذا هو قيام مثله.
* وهل يجزئه أن يكون قائماً مستنداً إلى شيء أم لا؟
لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون على هيئة المتعلق بحيث تكون القدمان لا عمل لهما في القيام مطلقاً، بحيث لو أزيلت قدماه لم يقع، فمثل هذا ليس بقيام على الإطلاق ولا يجزئ بلا خلاف بين أهل العلم فلا خلاف فيه.
الحالة الثانية: أن يستند إلى جدار أو عصا أو نحوه، وكان بحيث لو أزيل هذا الجدار أو العصا لاختل قيامه فسقط، ففيه قولان لأهل العلم:
1- القول الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن الصلاة تبطل.
وعليه: لو كان الرجل قادراً على القيام فانتصب مستنداً إلى عصا أو جدار، فلا يجزئ عنه في مذهب جمهور أهل العلم، وعليه فالصلاة باطلة؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه.
2- القول الثاني، وهو وجه للشافعية اختاره النووي وغيره قالوا: القيام مجزئ عنه؛ لأنه قائم قد فعل القيام، وكونه مستنداً إلى شيء لا يؤثر هذا الحكم؛ لأن القيام قد ثبت، فسواء كان قائماً بنفسه أو قائماً بغيره فقد ثبت القيام وهذا هو الواجب عليه.
وهذا القول هو الأرجح، لأن هذا القيام صحيح، ولا ننظر بعد ذلك هل هو قام بنفسه من غير اعتماد على غيره أو كان بالاعتماد على الغير. فهو قيام صحيح فحقيقة القيام موجودة فيها.
واعلم أن العاجز عن القيام إن كان يمكنه أن يقوم على هذه الصورة فيجب عليه فعل ذلك.(5/186)
وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأصح الوجهين في مذهب الشافعية.
أي لا يستطيع القيام بنفسه لكن يستطيع القيام (1) على عصا ونحوه فيجب عليه ذلك؛ لأنه قادر على القيام وقد اتقى الله ما استطاع، ولو لم يفعل بطلت صلاته فلا يصح فيه القعود، لأن هذا قيام صحيح، وحيث كان قياماً صحيحاً فيجب عليه فعله وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيجب أن يعتمد على عصا أو نحوه.
- وهناك وجه للشافعية يقدم وجوب ذلك وفرضيته عليه. وهذا يبنى على المسألة السابقة.
فحيث قلنا: إنه ليس بقيام مجزئ فلا يجب عليه؛ لأنه في الحقيقة ليس بقائم وهو حيث جلس فقد اتقى الله ما استطاع، ولا فائدة من اعتماده على شيء؛ لأنه لا يعد قائماً.
والراجح ما تقدم في المسألتين كلتيهما.
قال: (والتحريمة)
هي ركن من أركان الصلاة وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والفاتحة)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (2) وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والركوع)
وهو ركن، لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (3) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته -: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (4) .
وقد تقدم ذكر صفته المستحبة.
وأما القدر المجزئ فيه فهو – عند جمهور أهل العلم – هو: أن ينحني بحيث تمس راحتاه ركبتيه فإذا مست الراحتان الركبتين فهذا هو القدر المجزئ منه.
__________
(1) في الأصل: بالقيام.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) . وقد تقدم.
(3) سور الحج 77.
(4) تقدم.(5/187)
وهذا حيث كان منتصباً في رجليه غير حان أو مقدم لركبتيه، أما إذا قدم ركبتيه فلا، لأنه إذا مس بالراحتين حيث قَدَّم الركبتين فهذا المس لم يحصل بسبب الانحناء وهو الركوع، وإنما حصل بسبب تقديم الركبتين.
فعليه: تنصب الرجلان وتكون الركبتان في موضعهما الطبيعي غير مقدمتين، فينحني حتى تمس الراحتان الركبتين – هذا هو القدر المجزئ عند جماهير أهل العلم؛ لأن هذا هو حقيقة الركوع، فإن حقيقة الركوع هو الانحناء.
وليتميَّز عن القيام فإنا نحتاج إلى أن يكون ذلك على هذه الصورة المتقدمة.
وما ذكروه من الاستدلال في الحقيقة، غير واضح وينبغي الاستدلال بما ثبت في حديث المسيء صلاته في أبي داود وغيره – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يضع يديه على ركبتيه) وفي رواية لابن حبان وابن خزيمة: (فضع راحتيك على ركبتيك) (1) .
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 227 رقم (859) عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك …) .
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 206 رقم (1887) : عن ابن عمر قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن قال اجلس وجاء رجل من ثقيف فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال صلى الله عليه وسلم سبقك الأنصاري فقال الأنصاري إنه رجل غريب وإن للغريب حقا فابدأ به فأقبل على الثقفي فقال إن شئت أجبتك عما كنت تسأل وإن شئت سألتني وأخبرك فقال يا رسول الله بل أجبني عما كنت أسألك قال جئت تسألني عن الركوع والسجود والصلاة والصوم فقال لا والذي بعثك بالحق ما أخطأت مما كان في نفسي شيئا قال فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك ثم فرج بين أصابعك … ".(5/188)
وحيث قلنا: إن الفعل واقفاً – ليس بواجب – كما هو مذهب الجمهور وهو أن وضع الراحتين على الركبتين ليس بواجب وإنما الواجب هو الانحناء. فحيث قلنا بذلك فإنه لابد وأن يكون متمكناً من وضع الراحتين على الركبتين ولا يكون ذلك إلا بالانحناء المتقدم الذي ذكره الجمهور لكنهم لا يوجبون وضع الراحتين على الركبتين.
وحديث المسيء صلاته يوجب ذلك وبفرضه وإلا فحقيقة الركوع في اللغة مجرد الانحناء، فالانحناء في الحقيقة ركوع وإن لم يصل الراحتان إلى الركبتين، لكن حديث المسيء صلاته يدل على فرضية وضع الراحتين على الركبتين أو على قول الجمهور يدل على أنه لابد أن يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين.
فعلى ذلك: حقيقة الركوع أن ينحني انحناء بحيث إذا مد يديه والمراد بذلك حيث كانت اليدان ليس فيهما طول أو قصر بل هما معتدلان في الخلقة، فمدهما فوضع الراحتين على الركبتين فهذا هو المجزئ.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله صلى الله عليه وسلم: - في حديث المسيء صلاته -: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) (1) .
وما قلناه في القيام قبل الركوع يقال في القيام بعد الركوع وأن الفرض فيه أن ينتصب قائماً بحيث تكون فقار ظهره منتصبة.
قال: (والسجود على الأعضاء السبعة)
تقدم الكلام عليه، وفيه حديث ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة من فرضية السجود على الأعضاء السبعة.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله في حديث المسيء صلاته: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (2)
قال: (والجلسة بين السجدتين)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (3) ولم أر لفقهاء الحنابلة ذكر [اً] للقدر المجزئ في الجلوس كما ذكروا القدر المجزئ في القيام ونحوه.
ورأيت عند فقهاء الشافعية: أن الواجب هو مطلق الجلوس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251) ، وأخرجه مسلم (397) .
(2) تقدم قريباً.
(3) تقدم قريباً.(5/189)
فإذا تورك أو افترش أو مد رجليه أو نصب أحد رجليه أو نحوه فإنه يجزئ عنه في المواضع كلها التي فيها الجلوس كالتشهد الأول والثاني والجلسة بين السجدتين فهذه المواضع كلها القدر المجزئ فيها مطلق الجلوس.
وسكوت الحنابلة يدل على مثل ذلك وأن القدر المجزئ في الجلوس هو مطلقه.
والقدر المجزئ هو مطلق الجلوس؛ لأن الشارع أوجب الجلوس، فأي جلوس فعله قد صح منه الجلوس، والقدر المستحب تقدم الكلام عليه: من الافتراش في موضعه، والتورك في موضعه، والإقعاء بين السجدتين.
قال: (والطمأنينة في الكل)
لحديث المسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تطمئن قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً …) (1) الحديث. ولقول حذيفة – لما رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده قال له: (ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر [الله] عليها محمد صلى الله عليه وسلم) (2) .
*واختلف فقهاء الحنابلة في حقيقة الطمأنينة:
فالصحيح من المذهب - والمراد الذي صححه الحنابلة والمرجع عندهم –: هو السكون وإن قل، فإذا سكن واستقر راكعاً أو جالساً أو قائماً فإن هذه هي الطمأنينة الواجبة.
أما إذا وصل إلى السجود فرفع من غير سكون فيه ولا استقرار فذلك لا يجزئ عنه.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) أخرجه البخاري بهذا اللفظ بتأخير " عليها " في كتاب الأذان / باب (119) إذا لم يتم الركوع / رقم (791) ، وفي كتاب الصلاة، باب (26) إذا لم يتم السجود / رقم (389) بلفظ: " عن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته ئ، قال له حذيفة: " ما صليت - قال: وأحسبه قال - لو مت مت على غير سنة محد - صلى الله عليه وسلم - ".(5/190)
والقول الثاني في المذهب: أنه بقدر الذكر الواجب، فهو في القيام بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وفي الركوع بقدر (سبحان ربي العظيم) ، وفي الرفع منه بقدر (ربنا ولك الحمد) – حيث قلنا بوجوبه بعد الرفع، وإلا فالحنابلة يقولون بوجوبه أثناء الانتقال وعليه فهذا الركن ثابت فيه مجرد السكون وإن قل. وفي السجود بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) .
ويترتب على ذلك: معلوم أن الطمأنينة ركن، وأن ترك الذكر ترك لواجب، وأن الأذكار في الصلاة واجبة لا فرض.
فإذا سجد وسكن في سجوده ورفع لم يذكر الله تعالى (سبحان ربي الأعلى) ساهياً، فهل يكون قد ترك فرضاً أو واجباً؟
لا شك أنه تارك لواجب.
لكن هل يضاف لذلك تركه للركن؛ لأنه لم يطمئن بقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) أو (سبحان ربي الأعلى) فهو قد سكن لكن ليس بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) ولم يقل هذا الذكر، فهل يعد تاركاً للواجب فقط فيجبره سجود السهو أو يعد تاركاً للركن لأن الركن شرط فيه الطمأنينة؟
على القولين السابقين:
والراجح القول الأول وأن مجرد السكون وإن قل هو الطمأنينة؛ لأن هذه هي حقيقة الطمأنينة.
وأما قضية الذكر الواجب فهو ذكر يجب في الصلاة ويجب أن يطال في الركوع أو السجود لأجله؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لكنه ليس بركن فيها بل الركن هو مجرد الطمأنينة وهذه يحصل بمجرد السكون ولو كان ذلك بمقدار (سبحان ربي) وإن لم يقل (الأعلى) فإن هذا يعتبر سكوناً، وإن كان ليس بقدر الذكر الواجب.
فيقال: فرض عليه أن يستقر ويسكن في سجوده، وواجب عليه أن يكون هذا السكون بقدر الذكر الواجب.
فعلى المسألة السابقة لا يعد تاركاً للركن بل للواجب وهو الذكر.
قال: (والتشهد الأخير وجلسته)(5/191)
هو ركن لحديث ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (1)
فهذا يدل على أن التشهد فرض في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعله ولم يثبت عنه تركه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلى) والعلم عند الله تعالى.
فالمشهور في المذهب: فرضية التشهد الأخير والجلوس له كذلك؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ولأن التشهد لا يصح إلا بالجلوس وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض.
وتقدم أن التشهد ينتهي بقوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه)
كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وأنه فرض، وهو عند الحنابلة فرض في التشهد الأول (2) فقط، وأما الشافعية فهو فرض في التشهد كليهما.
وقد تقدم القول حول هذه المسألة وأن الراجح أنه ليس بفرض في التشهد الأول.
وأما التشهد الثاني أي الصلاة فيه فالمشهور في المذهب فرضيتها.
__________
(1) سنن الدارقطني ج: 1 ص: 350 (4) وقال: " هذا إسناد صحيح "، والبيهقي في السنن الكبرى رقم (2644) و (3777) . تلخيص الحبير ج: 1 ص: 262 رقم (403) قال: " الدارقطني والبيهقي من حديثه بتمامه وصححاه وأصله في الصحيحين وغيرهما دون قوله قبل أن يفرض علينا ".
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الثاني أو الأخير، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [3 / 423] .(5/192)
- وعن الإمام أحمد: أنها ليست بفرض بل سنة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو الراجح؛ لأنه لا دليل على فرضيتها وليس في الباب إلا الحديث المتقدم في قول الصحابي: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال: قولوا) (1) فهذا أمر ورد بعد سؤال، والأمر بعد سؤال ليس ظاهراً في الوجوب بل هو للاستحباب كما قرر ذلك غير واحد من الأصوليين.
وقد قال ابن مسعود – وهو راوي حديث التشهد – ورواه أبو داود مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح وقفه قال: (أما إذا قلت هذا أو قضيت هذا) يعني التشهد المذكور في حديثه إلى قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد قضيت صلاتك) (2) .
فهذا يدل على أن ما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بواجب وهو قول ابن مسعود وهو مذهب أكثر الفقهاء.
والأصل عدم الوجوب حتى يرد دليل على ذلك، وما استدل به ليس فيه الإيجاب بل فيه مشروعية ذلك واستحبابه والعلم عند الله تعالى.
قال: (والترتيب)
فرض بالإجماع بين فرائض الصلاة وأركانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في بيان مجمل القرآن في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [سورة البقرة 2/43] وما كذلك فهو فرض ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه المسيء صلاته، فيعلمه لصلاة مرتبة فكان الواجب الترتيب فيها، فإذا قدم الركوع على القيام لم تصح الصلاة وإذا ترك الترتيب سهواً فلا يجبر إلا بفعله.
قال: (والتسليم)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات / باب (32) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (6357) ، وانظر رقم (4797) و (3370) ، ومسلم (406) في كتاب الصلاة / باب (17) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.. .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (183) التشهد / رقم (970) ، والبيهقي والدارقطني وابن حبان. الاسطوانة.(5/193)
هو ركن كذلك، وتقدم دليله في قوله: (وتحليلها التسليم) (1) ، فهذا يدل على أن من شرع في الصلاة لا يحل له ما نهي عنه خارج الصلاة إلا بالسلام فهو فرض فيها.
وهذا باتفاق أهل العلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن التسليمة الأولى فرض.
* لكن اختلفوا في الثانية:
فذهب جمهور أهل العلم (2)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] . وقد تقدم صْ 61.
(2) الكافي لابن قدامة [1 /143] ، الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 117
والتسليمة الثانية في رواية وكذا قال في الهادي والمذهب الأحمد وهذه إحدى الروايات مطلقا جزم بها في الإفادات والتسهيل قال القاضي وهي أصح وقال في الجامع الصغير وهما واجبان لا يخرج من الصلاة بغيرهما وصححها ناظم المفردات وهو منها وقدمها في الفائق والرواية الثانية أنها ركن مطلقا كالأولى جزم به في المنور والهداية في عد الأركان وقدمه في التلخيص والبلغة والرعايتين والحاويين والنظم والزركشي وإدراك الغاية قال في المذهب ركن في أصح الروايتين وصححها في الحواشي واختاره أبو بكر والقاضي والأكثرون كذا قاله الزركشي مع أن ما قاله في الجامع الصغير يحتمله وهي من المفردات وعنه أنها سنة جزم به في العمدة والوجيز واختارها المصنف والشارح وقدمه ابن رزين في شرحه.. " ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، لكن قال في الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 118: " قلت هذا مبالغة منه وليس بإجماع قال العلامة ابن القيم وهذه عادته إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعا وعنه هي سنة في النفل دون الفرض وجزم في المحرر والزركشي أنها لا تجب في النفل وقدم أبو الخطاب في رؤوس مسائله أنها واجبة في المكتوبة.. " الاسطوانة.(5/194)
: إلى أن الثانية ليست بفرض.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وذهب إليه بعض المالكية: إلى أنها فرض.
وهذا القول هو الراجح، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) مجمل بينته السنة في كونه يسلم عن يمينه وعن شماله.
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنه اكتفى بالتسليم عن يمينه لا في فرض ولا في نفل، وما ورد في ذلك فهو إما حديث ضعيف أو حديث ليس بصريح فعليه التسليمة الثانية فرض في الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد.
فهذه أركان الصلاة التي لا تصح الصلاة إلا بها وهي لا تسقط عن المصلي سهواً ولا عمداً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع والثمانون
(يوم الاثنين: 14 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها)
أي واجبات الصلاة وهي ما تجبر بسجدتي السهو وتركها عمداً مبطل للصلاة.
قال: (التكبير غير التحريمة والتسميع)
فمن واجباتها التكبيرات التي هي تكبيرات الانتقال، والتسميع كذلك.
فالألفاظ التي يتلفظ بها الإمام والمأموم والمنفرد فيما بين الأركان من تكبيرات أو تسميع واجب في الصلاة.
واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح من حديث المسيء صلاته وفيه: (ذكر تكبيرات الانتقال والتسميع) (1) والحديث صحيح.
- وذهب جمهور العلماء: إلى أنه ليس بواجب وهكذا ما بعده فيما ذكر في هذا الباب من الواجبات.
وقالوا: إنه لم يذكر في حديث المسيء صلاته.
والصحيح أنه مذكور كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح وفيه: (لا تتم صلاة أحدكم – الحديث – وفيه ذكر التكبيرات والتسميع) (2) فالصحيح أنه واجب في الصلاة.
- بل عند الإمام أحمد: أنه ركن، وهذا الذي يقتضيه حديث المسيء صلاته، وأن الصلاة لا تتم إلا به وهذا هو الركن.
__________
(1) تقدم. وهو في أبي داود، كتاب الصلاة،باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857)
(2) تقدم قريبا.(5/195)
إذن: المشهور في المذهب أن تكبيرات الانتقال والتسميع واجبات وتركها يجبر بالسجود.
وعن الإمام أحمد أنها ركن فيه، فعلى ذلك لا تجبر بالسجود بل يجب أن يأتي بها، والحديث يدل على ما ذهب إليه أهل القول الثاني، لكن المشقة واردة في الحكم بركنية التكبير، والتكبير إنما يقصد منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر ومثل هذا يصعب الجزم بركنيته مع ما فيه من المشقة وصعوبة التحرز عن ترك شيء منه لاسيما للمنفرد والمأموم، فينبغي أن يقال: إنه واجب لما في القول بركنيته من المشقة والمشقة تجلب التيسير.
مسألة:
تقدم أن هذه التكبيرات إنما تشرع في حالة الانتقال ما بين الركن إلى الآخر.
وعليه: فإنها تفعل أثناء الانتقال، فإذا شرع برفع رأسه من الركوع – مثلاً – شرع يقول: سمع الله لمن حمده، فينتهي وقد وصل إلى القيام، فلا يشرع فيه في ركوعه ولا يتمه أثناء قيامه، بل يقوله أثناء الانتقال، هذا هو مقتضى كونه مشروعاً أثناء الانتقال.
- واعلم أن المشهور في المذهب أن هذا فرض وشرط فيه فلا يصح التكبير إلا حيث كان ذلك.
فلو أنه كبر أثناء ركوعه ثم رفع، أو كبر وقد رفع من الركوع فأتمه أثناء القيام فإنه لا يجزئ عنه ولا يصح ذلك منه، وعليه فإنه تارك للواجب فيجب عليه سجود السهو مع النسيان، وإلا فإن صلاته تبطل.
قالوا: كما أن القراءة لا تصح قبل القيام ولا بعده.
فلو أنه شرع في الفاتحة وهو يرتفع من الركعة إلى ما بعدها فشرع في القراءة أثناء نهوضه قبل أن يصل إلى القيام فلا يجزئ عنه، وإذا أتمها وهو راكع فكذلك لا يجزئ عنه. فكذلك تكبيرات الانتقال، وهذا القول أقيس من القول الثاني.
- والقول الثاني في المذهب: أن ذلك يجزئ عنه، ومع ذلك فإن هذا القول هو الراجح مع كون القول الأول أقيس، واختاره المجد ابن تيمية.(5/196)
وكونه هو الراجح، لما في القول الأول من المشقة وصعوبة التحرز، حتى قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذا القول: " وهو الذي لا يسع الناس غيره " (1)
فالتحرز عنه شاق، والمشقة تجلب التيسير، ولأن المقصود منه إنما هو إظهار الانتقال ما بين ركن إلى آخر، وهذا يحصل في الحقيقة وإن قاله أثناء الركن المنتقل منه، أو الركن المنتقل إليه.
ومع ذلك فإنه لا يتساهل بهذا، إلا ما يقع من الناس وهذه مسألة لا شك يكثر الوقوع فيها فيشق التحرز منها، والمشقة تجلب التيسير، وهذا لا شك أن السهو فيه يكثر، والجهل فيه يفشو، فمثله ينبغي أن يتساهل فيه لا سيما وأن المقصود منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر.
كما أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان فرضية هذا - مع كونه لا شك في وقوعه وكثرته في الناس، سكوت النبي صلى الله عليه وسلم - يقتضى عدم وجوبه والتسامح فيه، لأن عدم البيان مع الحاجة لا يجوز، والناس يقع منهم هذا ولا شك، بل كان التكبير في عصور المتقدمين مشروعيته أصلاً مجهولة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره – كما يدل عليه روايات كثيرة – بسبب إمامة الأمراء وكانوا يتساهلون بالتكبيرات أي التلفظ [بها] .
قال: (والتحميد)
تقدم دليل ذلك ومشروعيته للإمام والمنفرد والمأموم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (2) والأمر للوجوب.
قال: (وتسبيحتا الركوع والسجود وسؤال المغفرة مرة مرة ويسن ثلاثاً)
أي قوله: " سبحان ربي العظيم " في ركوعه، و " سبحان ربي الأعلى " في سجوده.
__________
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (51) إنما جعل الإمام ليؤتم به (689) ، وفي باب (128) الهوي بالتكبير حين يسجد (805) ، وفي أبواب تقصير الصلاة، باب (17) صلاة القاعد (1114) . وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة،باب ائتمام المأموم بالإمام (411) .(5/197)
لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال: النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الأعلى " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في سجودكم ") (1) والأمر يقتضي الوجوب.
وسؤال المغفرة كذلك، بالقياس وإلحاق الشيء بنظيره والشبيه بشبيهه.
فإن هذا الجلوس ركن من أركان الصلاة، فيشرع فيه ما يشرع في غيره ويجب فيه ما يجب في غيره، فكما أن الركوع فيه ذكر واجب، والرفع منه فيه ذكر واجب والسجود والجلوس الأخير والجلوس وسط الصلاة كل ذلك فيه ذكر واجب، فكذلك الجلسة بين السجدتين.
فعلى ذلك يجب عليه أن يقول: (رب اغفر لي) في جلوسه بين السجدتين، وهو المشهور في المذهب وكل هذه المسائل عند جمهور العلماء ليست بواجبة والراجح ما تقدم.
أما ما ورد فيها في حديث المسيء صلاته فهذا الحديث حجة في وجوبها.
وأما ما لم يرد فإنها قد وردت بالأمر، وكونها لم ترد في حديث المسيء صلاته لا يدل ذلك على عدم وجوبها إذ الحديث لا يحيط بأركان الصلاة وواجباتها، وفيه ما هو ثابت بالسنة الصحيحة فرضيته ووجوبه ولم يرد في حديث المسيء صلاته، لقول ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (2) والتشهد وجلوسه ليسا مذكورين فيه.
فالحديث لا يحصر ذلك كله، فإن من الواجبات ما يحتمل أن يكون قد فرض بعد حديث المسيء صلاته.
وفيها ما لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانه للمسيء صلاته لكون ذلك واضحاً ومعروفاً له، وقد قام به على وجهه فلا يحتاج إلى بيانه.
(مرة مرة) : في كل مما تقدم في قوله: (سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى) و (رب اغفر لي) فكلها تجب مرة.
(ويسن ثلاثاً) : وقد تقدم.
قال: (والتشهد الأول وجلسته)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869)
(2) تقدم.(5/198)
فالتشهد الأول من واجبات الصلاة، لما ثبت في حديث ابن مسعود وفيه: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) .
والجلوس له واجب أيضاً؛ لأن التشهد لا يتم إلا بجلوس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وليسا بركنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عن التشهد الأول وانتصب قائماً لم يعد إليه وجبره بسجدتين، وهذا لا يفعل بالركن.
وهذا – أي وجوب التشهد الأول وجلسته – مشكل على المذهب حيث أن الدليل واحد في التشهد وقد أوجبوا التشهد الأول، وفرضوا التشهد الثاني وجعلوه من أركان صلاة، مع أن الحديث الوارد في التشهد حديث واحد وهو حديث ابن مسعود.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن التشهد الثاني والجلوس له واجبان وليسا بركنين – كما أن التشهد الأول واجب – لأن الحديث الوارد فيها واحد، وحكمهما في الحقيقة واحد.
وهذا قول قوي، لكن يشكل عليه قضية الجلوس له، لأن الجلوس له لا يتم السلام – وهو ركن من أركان الصلاة – إلا بهذا الجلوس فينبغي أن يكون الجلوس ركن من أركان الصلاة.
وهذا قول في مذهب أحمد: وهو أن الجلوس للتشهد الثاني ركن والتشهد واجب.
وهذا – فيما يظهر لي – أرجح الأقوال.
قال: (وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة)
فكل ما لم يكن واجبـ[ـاً] ولا شرطـ[ـاً] ولا ركنـ[ـا] فهو سنة، وهذا ضابط واضح.
قال: (فمن ترك شرطاً بغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال بطلت صلاته)
فمن ترك شرطاً لغير عذر – كالوضوء مثلاً – فإن الصلاة تبطل ولو كان ساهياً ناسياً.
إلا أنه استثني المعذور، كالعاجز عن الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة، فإن صلاته تصح، لأنه معذور في ترك الواجب لكونه عاجزاً عنه.(5/199)
(غير النية) : فالنية لا تسقط بحال، لأنه لا يتصور سقوطها، فالنية محلها القلب، ولا يتصور أبداً أن يعجز عنها المكلف فهو قادر عليه على الإطلاق، لذا وجب استثناؤها لأنه لا يمكن أن يكون العبد معذوراً في تركها، إذ محلها القلب وحيث كان محلها القلب فلا عذر في تركها.
قال: (أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته)
فمن ترك واجباً أو ركناً عمداً في الصلاة، فإن الصلاة تبطل.
أما إذا تركه على سبيل السهو فلا تبطل الصلاة وتجبر بسجود السهو في الواجبات.
وأما الأركان فإنها لا تصح الصلاة إلا أن يؤتى بها.
فهما في التعمد باب واحد، فكلاهما أمر الشارع به، فإذا ترك واجباً أو ركناً فقد أدى الصلاة على غير أمر الله وشرعه، وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.
قال: (بخلاف الباقي)
أي بخلاف الباقي من السنن فإنه إذا تركها عمداً لا تبطل صلاته. كمن ترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام أو إرادة الركوع أو نحو ذلك.
قال: (وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال)
سنن أقوال: كزيادة (سبحان ربي العظيم) مرتين على المرة الواجبة فيكون المجموع ثلاثاً.
وسنن الأفعال: كجلسة الاستراحة – على القول بها – وكرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وإرادة الركوع والرفع منه (1) .
قال: (ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس)
هذا قول في المذهب: وهو أنه لا يشرع له السجود لتركه لكن إن سجد فذلك جائز.
__________
(1) في الأصل منها.(5/200)
لحديث رواه أبو داود من حديث إسماعيل بن عياش عن زهير بن سالم الشامي (1) – إلى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل سهو سجدتان) (2) وهذا عام في كل سهو، فإذا سها في ترك سنة شرع له أن يسجد لها لكن الحديث ضعيف، ضعفه البخاري بقوله: (مضطرب) وفيه إسماعيل بن عياش ويروى عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة.
وزهير بن سالم ضعيف أيضاً فالحديث لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يسجد وعليه أيضاً فلا يجوز له أن يسجد – كما هو رواية عن أحمد – لأن السجود زيادة في الصلاة لا يشرع إلا في موضعها الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه السجود عن ترك سنة.
فعلى ذلك: فلا يشرع ولا يجوز له أن يسجد للسهو لأن السجود زيادة في الصلاة لا تشرع إلا حيث شرعها النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا تصح إلا حيث وردت ولم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
باب سجود السهو
أي السجود المشروع بسبب السهو وهو النسيان والذهول الواقع في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشرع)
__________
(1) في أبي داود: أن ابن عياش حدثهم عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير.. "
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (201) من نسي أن يتشهد وهو جالس (1038) قال: حدثنا عمرو بن عثمان والربيع بن نافع وعثمان بن أبي شيبة وشجاع بن مخلد، بمعنى الإسناد أن ابن عياش حدثهم، عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير - يعني ابن سالم العنس - عن عبد الرحمن بن جبير ابن نُفير، قال عمرو وحده: عن أبيه عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) ولم يذكر " عن أبيه " غير عمرو.(5/201)
أي يشرع السجود، وهي لفظة تعم الواجب والمستحب وقد تقدم بيان الراجح في مسألة السجود لترك سنة وأنه لا يشرع السجود لترك سنة، بل هو إما سجود واجب تبطل الصلاة بتركه وإما غير مشروع فلا يجوز في الصلاة.
فقوله: " يشرع " بناء على المشهور في المذهب من استحباب سجود السهو لترك سنن الأقوال والأفعال أو ترك سنن الأقوال على قول.
" لزيادة ": في الصلاة بقيام أو قعود أو ركوع ونحوه.
" ونقص ": إما بترك سجدة أو التشهد الأول أو نحو ذلك.
" أو شك ": إما شك استوى طرفاه، وإما شك مع عليه لأحد الطرفين.
فيشرع لثبوت ذلك الأحاديث فيه، فقد ثبتت الأحاديث في هذه الأنواع الثلاثة.
قال: (لا في عمد)
فلو تعمد عمل فعل من جنس الصلاة فزاد قياماً أو قعوداً أو نحو ذلك أو نقص أو نحو ذلك، فالصلاة تبطل، بالإجماع كما تقدم.
قال: (في الفرض والنافلة)
فسجود السهو مشروع أو واجب – على ما تقدم صحة خلافاً للمذهب – في الفرض والنفل، فكما أن الفريضة يشرع فيها السجود فكذلك في النافلة، وهذا باتفاق أهل العلم.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم – من حديث ابن مسعود: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (1) وهذا الحديث عام في الفريضة والنافلة، وهذا الحديث يستدل به على المسألة السابقة وهي أنه لا يسجد في عمد لقوله: " فإذا نسي " فالسجود إنما شرع للنسيان، ومفهوم المخالفة لهذا الحديث أنه لا يشرع إلا فيه، والأصل عدم ثبوته إلا لوروده فكرره إلا فالنسيان فلا يشرع في التعمد.
فسجود السهو مشروع فرضاً ونفلاً، لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً إلا بدليل على تخصيص أحدهما.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة (572) بلفظ: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس … "(5/202)
ولذا نص الإمام أحمد: على أن من كان يصلي لليل مثنى مثنى فقام إلى الثالثة ساهياً فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأن صلاة الليل مثنى، وهذا مذهب جمهور العلماء لأنه قد فعل ذلك ناسياً أو ساهياً وصلاة الليل مثنى، وهذا هو المشهور في المذهب.
والمشهور في المذهب أنه إن فعل ذلك في الصلاة في السفر فصلاها أربعاً فالحكم ليس لذلك بل يتم أربعاً، وهذا ضعيف، فإن حكمها واحد.
فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر ركعتين ركعتين لم يثبت عنه سوى ذلك فهو بمنزلة قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) (1) فكأنه قال: " صلاة السفر مثنى مثنى) وعليه فالقياس على المذهب: أن يقال: إنه قام إلى الركعة الثالثة في صلاة في السفر فإنه يجب عليه أن يجلس فيسجد سجدتي سهو.
فإن قالوا: إنه إن زاد زيادة جائزة، فإن صلى الصلاة في السفر أربعاً كصلاة صحيحة كما هو مذهب جماهير العلماء.
قلنا: وكذلك في صلاة الليل فإنه لو صلاها خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة فذلك يصح لورود السنة فيه. وهذا الالتزام أولى – فيما يظهر لي – وهو أن يقال: أنه قام إلى ركعة يصح أن يصليها فلا يجب عليه أن يسجد للسهو فلو أنه قام – وهو يريد أن يوتر باثنين – قام إلى الثالثة فإنها تصح فيه ولا يسجد للسهو، لأن هذه الركعة صحيحة في هذه الصلاة ولا غيره بنيته والعلم عند الله تعالى.
قال: (فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، سهواً يسجد له)
فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة أن يكون من جنس الصلاة فلو لم يكن من جنسها بأن كان فعلاً خارجاً عن الصلاة، كحركة ليست من أفعال الصلاة فحكمها من التقدم من التفصيل السابق منها، وأنها متى كانت كثيرة عرفاً أبطلت الصلاة وأما إذا زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت وهذا بالإجماع.(5/203)
(وسهواً يسجد له) فيسجد سجدتي السهو، فإذا زاد سجدة أو قياماً أو ركوعاً أو نحو ذلك سهواً فإنه يجبر هذا سجود السهو.
وظاهر قوله: (قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً) وأن قل. فلو أنه جلس بقدر جلسة الاستراحة ولم ينوها كذلك فإن الصلاة تجبر بالسهو فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأنه قعود هذا هو المشهور في المذهب واختار طائفة من الحنابلة كالزركشي وغيره، وذكره وجهاً في المغني: أن الصلاة لا تبطل به ولا من الفعل اليسير، قالوا: لأنه لا يبطل على وجه التعمد، فكذلك لا يبطل على وجه السهو فلو أنه جلس جلسة للاستراحة ولم ينوها السنة، فإنها لا في صلاته أن فعلها عمداً فكذلك أن فعلها سهواً وهذا هو القول الراجح فإن هذا الفعل اليسير في الصلاة وأن كان قعوداً لكنه فعل يسير لو فعله عمداً لم يغيره فكذلك إذا فعله على وجه السهو ومثله العمل اليسير، فإنه إذا كان خارجاً عن الصلاة ليس من جنسها، فإذا فعله فلا يبطل صلاته، فمثله ما كان من أفعال الصلاة وكان يسيراً، فلا يجب سجود السهو فيها، ولا تبطل إذا تعمدها.
قال: (وأن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منه سجد)
رجل صلى الظهر خمساً أو الفجر ثلاثاً أو المغرب أربعاً فلما أنصرف من صلاته علم أنه زاد في صلاته ركعة سهواً فإنه يسجد بعد أن يفرغ وهذا لا شك فيه فإنه لا يمكنه إلا أن يفعل ذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة قال: وما ذاك قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)
قال: (وإن علم فيها جلس في الحال فتشهد أن لم يكن تشهد وسلم)
رجل صلى الظهر خمساً فلما كان في الخامسة، فلما انتصف قائماً أو هو راكع وهو رافع من الركوع أو وهو ساجد أو وهو بين السجدتين أو نحو ذلك علم أنه قد زاد في الصلاة جلس في الحال، فتترك الركن الذي هو مشتغل فيه وعاد إلى التشهد ليسلم.(5/204)
فإن لم يجلس في الحال بطلت صلاته لأنه يكون بفعل أفعالاً عمداً وزيد في الصلاة ما ليس منها عمداً فما تبطل الصلاة به.
فيجب عليه أن يعود إلى الجلوس بغير تكبير، فيجلس لتسلم من صلاته. " فيتشهد إن لم يكن تشهد " وإلا فيكفيه التشهد الذي قد تشهده.
فلو أنه تشهد ثم قام يظن أنه التشهد الأول وهو في الحقيقة التشهد الثاني، فإنه يعود فيجلس ويكفيه التشهد الذي تشهده سابقاً.
قال: (تشهد وسجد وسلم)
إذن: السجود هنا قبل السلام فهنا زادت الصلاة فإن قام إلى ركعة خامسة في رباعية فعليه سجود قبل السلام هذا المشهور في المذهب.
وقاعدة المذهب في سجود السهو: أن السجود مشروع قبل السلام مطلقاً إلا ما وردت به الشريعة، وهي المواضع التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها بعد السلام فإنها تسجد بعد السلام، سواء كان ذلك زيادة أو نقصاً أو شكاً.
والراجح – الذي يدل عليه الأحاديث – ما ذهب إليه الإمام مالك من الزيادة يكون السجود لها بعد السلام والنقص قبله. واختاره ابن تيميه لكن ظاهر مذهب مالك استحباب ذلك، واختار شيخ الإسلام وجوبه وهو الراجح. لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فوجب أن يسجد كما سجد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله، وسيأتي ذكر الأحاديث التي تدل على ذلك.
وفيها: حديث أبي هريرة – المتفق عليه – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى إحدى صلاتي الظهر ركعتين، فسلم واتكأ على خشبه معروضة في المسجد فقام رجل يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال: لم أنس ولم نقصر فقال: بلى قد نسيت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فقالا – ومن معهما – بلى يا رسول الله، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك ثم سلم ثم سجد سجدتين) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد زاد سلاماً فسجد بعد الكلام لهذه الزيادة.(5/205)
قال: (وأن سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته)
فلابد أن يكون ثقتين لا ثقة واحد.
(فإذا سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته) فإذا سبح بالإمام ثقتان من المأمومين أو غيرهم، ونيته على أن الصلاة فيها سهو لكنه أصر ولم يجزم لصواب نفسه.
فإذا جزم بصواب نفسه وتيقن أن الصلاة على صواب فإن الصلاة لا تبطل ولا يستجب لتسبيحهما لأنه متيقن واليقين لا يزول بمثل هذا، فإن غاية تسبيح التيقن غلبة ظن، وعنده يقين.
فإن لم يتيقن وسبح به ثقات سواء غلب على ظنه صدقهما أو غلب على ظنه خطؤهما – فأصر فالصلاة تبطل وذلك لأن غلبة ظن الاثنين أعظم وأرجح من غلبة ظن الواحد – فعلى ذلك يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما فإن لم يفعل بطلت صلاته وأن كان في قلبه غلبة ظن أنه على صواب فتبطل صلاته، لنه يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما وحيث لم يستجب فقد ترك واجباً في الصلاة متعمداً وترك الواجب على جهة التعمد يبطل الصلاة. فسواء كان عنده غلبة ظن أو سك أو غلبة ظن لصوابها لكنه لم يقبل تسبيحهما فقد ترك واجباً في الصلاة.
فإذا سبح به ثقة فلا يعتمد حينئذ إلا إذا غلب على ظنه صدقه ولا تسبيح ذلك الرجل بل لغلبة الظن، فوجب عليه أن يتبع غلبة الظن الواقعة في قلبه.
وعليه فإن سبح به ثقات ولم يغلب على ظنه صدقه أو غلب على ظنه عدم صدقه فإنه لا يستجيب لتسبيحه ولا يضر ذلك صلاته. فتسبيح الثقة لا يبطل الصلاة، لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة بعد إخبار ذي اليدين له ولم يكتف بخبره فدل على أن الصلاة هنا لا يقبل فيها خبر الواحد، وإنما يقبل فيها خبر الاثنين فأكثر.
قال: (وصلاة من تبعه عالماً)
إمام قام إلى متبعة بعض المأمومين، فما حكم صلاتهم؟(5/206)
فتبطل الصلاة أن تبعه عالماً بمعنى قام وهو يعلم أن هذه زيادة في الصلاة وأن الإمام ناسي فتبطل صلاته لأنه قد زاد في الصلاة فيها، وفعل في الصلاة من زيادة على المشروع على وجه لتعمد فتكون الصلاة باطلة وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً ساهياً كالإمام فلا تبطل صلاته لحديث ابن مسعود، فإن الصحابة قاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إما جاهلون وإما ساهون فمنهم الناسي والساهي ومنهم الجاهل فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة.
قال: (ولا من فارقه)
فلا تبطل صلاة من فارق الإمام.
بمعنى: قام الإمام إلى الخامسة فجلس بعض المأمومين فتشهدوا وسلموا فهنا فارقوا الإمام.
قالوا: لأنهم معذورون بالمفارقة، فإن الإمام قد فعل في الصلاة ما ليس منها ففارقوه معذورين فكان كالمسألة المتقدمة فيمن فارق الإمام فصلى منفرداً بعذر قالوا: فكذلك هنا.
والمشهور في المذهب أن المفارقة وإتمام الصلاة والتسليم واجب، فيجب عليه إذا قام الإمام للخامسة أن يجلس فيتشهد ويسلم، هذا قول في المذهب وهو المشهور فيه.
وهناك أقوال هي روايات عن الإمام أحمد:
القول الأول: أنه يفارقه في موضعه الذي خالف فيه لكنه ينتظره، وهذا الانتظار هل هو واجب أو مستحب أو مباح ثلاث روايات عن الإمام أحمد أصحها وجوب الانتظار، لأن المتابعة للإمام واجبة في فعل أركان الصلاة كلها، وحيث وقع الإمام في مخالفة في الصلاة فإنه ينهي مسابقته وتنتظره حتى تتابعه في بقية الصلاة وإلا فليزم من ذلك أن الإمام لو اختل في الركعة الأولى فزاد فيها فإن للمأموم أن ينفرد عنه وحينئذ ينفتح باب واسع نهى عنه الشارع.
مسألة:
مسبوق إذا زاد الإمام خامسة، وكان معه مسبوقون فتابع الإمام فيها ساهياً أو جاهلاً فهل يعتد بها أم لا؟(5/207)
القول المشهور في المذهب: أنه لا يعتد بها لأنها زيادة لاغية لا قيمة لها، فإنها في حق الإمام لا قيمة لها فهي زيادة لا غية.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق: أن هذه الركعة معتد بها للمأموم لأنها وإن كانت لا غية في حق الإمام لكنها ركعة صحيحة في حق المأموم فوقعت في محلها وإن كان الإمام هذه الركعة لاغية له لأن الحكم هنا إنما هو في حق المأموم لا في حق الإمام.
كما أنه لو صلى الإمام وثبت له بطلان صلاته لفعله ما يبطلها فإن صلاة المأموم صحيحة لأن هذه الركعات باطلة بالنسبة إلى الإمام وهي صحيحة بالنسبة إلى المأموم.
فعلى ذلك هذه الركعة يعتد بها - إن كان ساهياً أو جاهلاً بخلاف إذا كان عالماً – فإذا علم أنها زيادة فلا يتابعه بل يفارقه لأنه قد ثبت له أن الإمام يزيد في الصلاة ما ليس منها فلا يحل له والحالة هذه أن يتابعه لأن الإمام يفعل ما ليس من الصلاة، وما كان ليس من الصلاة في اعتقاد المأموم فإنه لا يحل له متابعته عليه فالبحث فيما إذا كان ساهياً أو جاهلاً. فلو أتى وقد بقي ركعة من الصلاة فزاد الإمام ركعة ناسياً وتابعه المأموم ساهياً أو جاهلاً فإن الركعة يعتد بها ويسلم معه، وتنتهي بذلك صلاته.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وشهده
هذا هو المشهور في المذهب وتقدم ترجيح أن العمل الكثير في الصلاة سهواً لا يبطل الصلاة فإذا فعل فعلاً كثيراً من غير جنس الصلاة ساهياً جاهلاً فلا يبطل الصلاة بذلك.
قال: (ولا يشرع ليسره سجود)
هذا الشاهد في باب سجود السهو، أنه لا يشرع ليسره سجود.
تقدم أن الفعل اليسير وهو ظاهر قول المؤلف هنا – أن اليسر لا يبطل الصلاة فمن فعل فعلاً من غير جنس الصلاة وكان يسيراً كفتح باب ولبس ثوب ولف عمامة ونحو ذلك فلا يبطل الصلاة، وهل يشرع له سجود سهو أم لا؟(5/208)
قال هنا: (ولا يشرع ليسره سجود) لعدم وروده مع ثبوت داعيه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً يسيراً في الصلاة كفتح الباب ولم يثبت أنه سجد سجدتي السهو، ولأن هذا يقع من المكلف كثيراً فيشق الأمر بالسجود له.
قال: (ولا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً ولا نفل يسير شرب عمداً)
هذه المسألة في مبطلات الصلاة، وقد ذكرت للمنا.
وهي: أن الصلاة لا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً وإذا أكل أو شرب في الفريضة عامداً فالصلاة باطلة بالإجماع مثل ذلك أو كثر عرفاً والصلاة – كما تقدم – أن إنها لا تبطل أن أكل أو شرب في الفريضة أو النافلة يسيراً سهواً لأن الله تجاوز عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، في قوله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فالسهو نسيان، والجهل من الخطأ وهنا قيده باليسير لأنه أن كان كثيراً، فإنه عمل كثير والعمل الكثير تقدم أنه يبطل الصلاة عمداً وسهواً - على المذهب – وتقدم الراجح.
وعن الإمام أحمد: أن الكثير كذلك للسهو – وهو الراجح – فعلى ذلك يقيد هذه المسألة باليسير تقييد رجوح والراجح عدم تقييده.
فالمشهور في المذهب: أن اليسير من الأكل والشرب لا يبطل الصلاة، أما الكثير مبطلها، ذلك لأن الفعل الكبير وأن كان سهواً يبطل الصلاة والأكل والشرب الكبير كذلك.
والصحيح في هذه المسألة والتي ألحقوها، أن السهو يعذر في المكلف فلا يبطل به الصلاة – وهو رواية عن أحمد.
(ولا نفل يسير شرب عمداً) فالنفل أن شرب فيه يسيراً كأن يشرب أو نحو ذلك، عامداً فلا يبطل الصلاة وهو مروي عن ابن الزبير.
قالوا: لأن النافلة يستحب إطالتها وحيث شرب فيها فإن هذا على إطالتها، والصلاة النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها.(5/209)
وظاهره أن الأكل اليسير عمداً يبطل النافلة كما يبطل الفريضة للفارق بين الأكل والشرب فيما تقدم، فإن المصلي يحتاج إلى شرب مالا يحتاج إلى الأكل.
والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد أن الأكل كذلك، وأن الأكل والشرب اليسير في النافلة جائز وهو قول إسحاق بن إبراهيم.
وحجتهم: أنه أكل يسيراً أو شرب يسير فأشبه العمل اليسير في الصلاة لكن هذا منتقض فإن العمل اليسير جائز في الفريضة أيضاً، والأكل لا الشرب اليسير لا يجوز فيها مع أن العمل اليسير لا يؤثر فيها فالحكم على النافلة – هنا – يجوز الأكل والشرب اليسير لأن العمل اليسير جائز فهنا يقال: مقتضاه أن الفريضة يجوز الأكل والشرب اليسير فيها، لأن العمل اليسير جائز أيضاً ومقتض الإجماع المتقدم خلاف هذا، فأن فيه أن الأكل والشرب مبطل مطلقاً قل أو كثر.
لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى، قال الموفق فيها: (وهي الصحيح من المذهب، وهو مذهب الجمهور – أن الأكل والشرب اليسير عمداً في النافلة مبطل لها وهذا هو الذي يقتضيه القياس، فأن ما أبطل الفريضة فإنه مبطل النافلة إلا أن يدل دليل على تخصيص أي منهما بحكم، وحيث لا دليل على تخصيص فأنا نبقى الحكم على عمومة فيشمل الفريضة والنافلة.
فالراجح: أنه لا يجوز له مطلقاً الأكل والشرب في النفل واحد كان يسيراً خلافاً للمشهور عند المتأخرين من الحنابلة وهو الصحيح في المذهب كما قال الموفق: وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: (وأن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخير تبين لم تبطل ولم يجب له سجود بل يشرع) .
إذا أتى بقول مشروع كالفاتحة في غير موضعه، كأن يقرأ الفاتحة في ركوعه أو سجود أو نحو ذلك، أو يقول: " سبحان ربي العظيم " في غير موضعه كالسجود – مع قيامه بما وجب عليه.(5/210)
فمثلاً: قرأ الفاتحة فقام بالواجب عليه لكنه قال ذكر مشروعاً في قيامه لا يشرع فيه القيام – فلا تبطل الصلاة بذلك وأن كان عامداً – ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
(أو لم يجب له سجود بل يشرع له) فيشرع له السجود من غير وجوب أما كونه يشرع له فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) قالوا: وهذا نسيان في الصلاة وأما كونه غير واجب، فلأنه جبر لما لا يجب، ففي الأصل لا يجب عليه ألا يفعل ما فعل، وإنما يستحب له ويشرع له ألا يفعل ذلك فعلى ذلك سجوده ليس بواجب – هذا هو المشهور في المذهب وعن الإمام أحمد أنه لا يشرع له مطلقاً أن يسجد، وهذا هو الراجح ذلك، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود في هذا الموضع ولم يرد أيضاً السجود فيما هو بمعناه، فإن السجود الوارد عن البيهقي في فعل يبطل الصلاة كأن يعهدمما ترك تشهد تبطل الصلاة ويتركه عمداً ونحو ذلك، وهنا ليس الأمر كذلك فقد سهى في أمر أن فعله متعمداً لا يؤثر في صلاته ولا يبطلها، أما سجود السهو فإنه جبر لما لو تعمده يتطلب الصلاة لكنه لم يتعمد فوجب عليه سجدة السهو.
أما هنا فالأمر خلاف ذلك. فأنه يسجد فهو لما لو تركه تعمداً لم تبطل صلاته وليس هذا في معنى المشروع ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله لا يبعد وقوعه.
قال: (وأن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت)
إذا سلم قبل إتمام الصلاة عمداً فالصلاة باطلة لأنه تحلل منها قبل محل التحلل وقبل أن تصح منه وتتم على المشروع وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد)(5/211)
رجل سلم من ركعتين والصلاة رباعية – ساهياً، ثم ذكر ذلك قريباً في العرف فليس هناك فاصل طويل عرفاً وأن خرج من المسجد أو دخل منزله لكن الفاصل قريب عرفاً فحينئذ يتمها ويسجد بعدها، لحديث ذي اليدين المتقدم وثبت من حديث عمران بن حصين – في مسلم – قال: (سلم النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام إليه رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة فخرج مغضباً فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحجرة وهذا يعتبر فاصلاً، ومع ذلك فأن النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة ولم يستأنفها.
وسيأتي كلام شيخ الإسلام في مسألة قريبة من هذه المسألة وهي مسألة من سها في صلاته فنسى سجود السهو فطال الفاصل أو قصر فما حكم ذلك؟ سيأتي الكلام عليه أن شاء الله.
فأذن: أن قصر الفاصل عرفاً وأن خرج من المسجد ودخل منزله ونحو ذلك فإنه لا يؤثر في صلاته بل يتمها – ما لم يحدث – فإن أحدث فهو مبطل للصلاة باتفاق العلماء، لأن الصلاة في حكم المتصل فإن أحدث فقد قطعها.
قال: (فأن طال الفصل عرفاً أو تكلم لغير مصلحتها بطلت)
" تكلم في غير مصلحتها " كأن يكون تكلم مع أحد من الناس في غير مصلحة الصلاة – كما كان محتملاً من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد خرج فيحتمل أنه سلم على أهله ونحو ذلك – فإذا تكلم لغير مصلحتها بطلت.
أما لو تكلم لمصلحتها كأن يتكلمون في السهو ويسأله المأمومون عنه فتباحث معهم في ذلك فأن هذا لا يؤثر لكن المؤثر هو أن يتكلم فيما هو خارج عن مصلحتها لكنه فعل ذلك على سبيل السهو أو الجهل " وسيأتي البحث في هذه المسألة الدرس القادم أن شاء الله " وترجيح أن الكلام في الصلاة سهواً أو جهلاً لا يبطلها وسيأتي دليل على ذلك.(5/212)
وحينئذ فأن الحكم في هذه المسألة كذلك، وعليه فإذا تكلم جاهلاً أو ناسياً بعد أن سلم فإن الصلاة لا تبطل لذلك وأن كان في غير مصلحتها لأنه وأن كان في حكم المصلين لكنه تكلم ساهياً أو جاهلاً فيكون معذوراً – هذا هو الراجح –
أما على المذهب: أنه إذا طال الفصل أو تكلم في غير مصلحة الصلاة فإنها تبطل.
مسألة: الطعام الذي يكون في الفم، ما حكمه؟
له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يضع الطعام في فيه من غير أن يمضغه فيكره ذلك في الصلاة.
فلو أن رجلاً وضع لقمة في فيه فصلى مع إمكان القراءة ونحوها فالصلاة صحيحة مع الكراهية.
الصورة الثانية: أن يضع في فمه شيئاً يتحلل قالوا: كسكر ونحوه فتحلل ودخل، فالصلاة باطلة بالاتفاق لأن هذا أكل.
الصورة الثالثة: أن ما يكون بين أسنانه ونحوه فله صورتان:
الأولى: أن يكون مما يجري في الريق، يعني: شيء متحلل بين الأسنان لكنه يجري في الريق فهذا لا يؤثر قولاً واحداً في المذهب وذلك لمشقة التحرز منه.
الثاني: أن يكون يحتاج إلى دفع، فقولان في المذهب:
القول الأول: أنه يبطل الصلاة، فإذا دفعه فدخل في الجوف فأن الصلاة تبطل به، لأن أكل فلا يشق التحرز منه.
القول الثاني: أنه لا يبطلها فهو له حكم ما يجري بالريق والأظهر والأحوط القول الأول: لأنه في الحقيقة أكل، ولا يشق التحرز منه.
مسألة: رجل صلى مع الإمام، فسها الإمام فصلوا ثلاثاً في رباعية، فلما أراد أن يخرج أخبره رجل أنهم صلوا ثلاثاً فكبر وهو قائم وأتى بركعة فما حكم ذلك؟
الحنابلة قالوا: تبطل صلاته لأنه ترك النهوض بل يجب عليه أن يجلس ثم يقوم وهذا غير معتبر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين – لم ينقل عنه أنه جلس ولو كان ذلك تنقل إلينا.(5/213)
والتعطيل بذلك: أن يقال: أن هذا الانتقال ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود القيام، فهو وسيلة إليه، فما دام أنه وصل إلى القيام بعد ذلك مع العذر فلا بأس بذلك وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (بطلت ككلامه في صلبها)
الكلام في الصلاة يبطلها هذا في الجملة – وذلك بإجماع أهل العلم – فالكلام في الصلاة عمداً بغير مصلحتها يبطل الصلاة.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم بالصلاة يكلم أحدنا صاحبه إلى جنبه نزلت: {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت) زاد مسلم: (ونهينا عن الكلام) وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: (كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيرد علينا، فقلنا يا رسول الله إن كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: (أن في الصلاة لشغلاً) وفي مسلم: (أن هذه التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذه الأحاديث مستند إجماع العلماء على أن من تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها ولغير واجب وجب عليه ولا خروج منه إلا بالكلام فيبطل صلاته إجماعاً، وقد اختلف أهل العلم في مسائل ذكرها المؤلف لقوله: (ككلامه في صلبها) فهذا لفظ عام فيه أن الكلام في الصلاة مبطل لها مطلقاً سواء كان لمصلحتها أو لإنقاذ مسلم من هلكة أو كان عن جهل أو إكراه أو نسيان أو نحو ذلك فكله مبطل لها ودليلهم: عموم الأحاديث المتقدمة، فعموم الأحاديث تدل على هذا، وأن الكلام لا يصلح في الصلاة مطلقاً وأن كان عن نسيان أو جهل أو إكراه سواء كان من إمام أو مأموم وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغير مصلحتها أو كان إنقاذاً أو لم يكن فكله مبطل لها ما دام في صلبها.(5/214)
وقوله: (في صلبها) احترازاً من الكلم بعد السلام عند السهو فيه، فإذا سهى مسلم قبل وقته فتكلم في مصلحة الصلاة فسيأتي استثناؤه وأما ما سواها فكله إلى عدم البطلان بما تقدم: الإكراه والنسيان والإنقاذ والجهل ".
أما النسيان: فإذا تكلم في صلب الصلاة ناسياً فما حكم صلاته؟
فالصحيح ما ذهب إليه الشافعية في أن النسيان لا يبطل الصلاة.
ودليل ذلك: حديث ذي اليدين المتقدم فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بعد السلام ناسياً وتكلم أصحابه وهذا أمر ظاهر فإن المتكلم ناسياً ليس كالمتعمد، فأن المتعمد مناقض لأمر الشارع مخالف له، وأما الأخر فلا.
والحقيقة: أن هذا الفارق إنما هو مؤثر في الإثم، بخلاف الإعادة، فلا مانع أن يؤمر الناس بالإعادة مع رفع الإثم عنه لأنه غير مناقض للشرع، لكن لما كان النسيان يقع من المكلف كثيراً فشق إبطال الصلاة به، والمشقة تجلب التيسير شرع هذا الحكم فأن الناسي إذا تكلم في صلاته فلا تبطل صلاته – وهذا هو الراجح –
أما المكره: ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أن الصلاة تبطل إذا أكره على الكلام.
القول الثاني: أنها لا تبطل وهو مذهب الشافعية.
ودليلهم: قياس المكره على الناسي فأن الشارع لم يفرق بينهما في قوله: (أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
أما القول الأول فإن الصلاة تبطل به وهو الراجح، وذلك لأن الشارع قد جمع بين الإكراه والنسيان في رفع الحرج والإثم، فالمكره لا حرج عليه لكنه يؤمر بالإعادة فلا يؤثم على كلامه في الصلاة كما أن الناسي لا يؤثم أما مسألة إبطال الصلاة فهي مسألة خارجة عن هذا الحديث.
والقياس المتقدم قياس مع الفارق، والفارق بين الإكراه والنسيان: أن النسيان يكثر فيشق التحرز فيه، وأما الإكراه فيقل بل يندر، فعلى ذلك يرفع عنه الإثم ويبقى عليه إعادة الصلاة.(5/215)
أما إنقاذ الهالك: كأن يتكلم رجل في الصلاة لينبه من هو في طريق هلكه، ولا يمكن تنبيهه إلا بذلك فما الحكم؟
الشافعية قالوا: لا تبطل الصلاة بذلك، لأن المصلي هنا قد تكلم بما يجب عليه، كما ثبت في الصحيحين من كلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم تكلموا فيما يجب عليهم من بيان سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وهم في الصلاة ليسوا بناسين ولا ساهين، فمن تنبهه من الصحابة فإنه يعلم أنه ناسي فينتبه.
والحنابلة: قالوا تبطل الصلاة.
وأجابوا عن استدلالهم بكلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: أن هذا الكلام خارج عن هذا الباب، فالكلام الوارد عن الصحابة إنما لمصلحة الصلاة، أما هنا فليس لمصلحتها، فإن من مصلحة المأموم إصلاح صلاة إمامه، وعلى ذلك فلو أن المأموم لم يمكنه أن ينبه إمامه إلا بقوله: (أركع أو أسجد) فإنه يفعل ذلك ولا حرج عليه.
أما إذا نبه خارج الصلاة، فإن الصلاة تبطل بذلك للفارق بين المسألتين.
فأن تنبيه الصحابة كان لواجب يتعلق بصلاتهم، وأما هنا فهو واجب أخر يخرج عنها.
فعلى ذلك: يجب عليه تنبيه هذا الذي هو في طريقه إلى الهلكة لكن صلاته تبطل بذلك.
أما الجاهل: فلو تكلم رجل في الصلاة جاهلاً فما حكم صلاته؟
قال الحنابلة: تبطل الصلاة، لأنه كلام داخل في عموم الحديث.
وقال الشافعية: لا تبطل الصلاة.(5/216)
واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه: أن معاوية بن الحكم السلمي قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: (وأثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فرأيتهم أنهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما نهرني " أي قهرني " ولا ضربني ولا شتمني، قال: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذا الحديث ظاهر في هذه المسألة ترجيح لمذهب الشافعية.
فالراجح: إذا تكلم في الصلاة جاهلاً فلا تبطل الصلاة.
فالراجح: أن الصلاة لا تبطل بالكلام عن النسيان أو جهل وإنما تبطل بالتعمد أو الإكراه أو التنبيه على أمر خارج عن الصلاة.
قال: (ولمصلحتها أن كان يسيراً لم تبطل)
والمراد إن كان خارجاً عن صلبها، في المسألة المذكورة سابقاً وهي ما إذا سلم قبل إتمام صلاته ساهياً فبعد السلام تكلم هو والمأمومون لمصلحة الصلاة فهذا يستثنى عند الحنابلة بشرط أن يكون يسيراً لأن ما ثبت العفو عنه إنما هو التيسير.
والراجح: ما تقدم وأن الكلام مطلقاً لمصلحة الصلاة سواء كان يسيراً أو كثيراً ما دام لمصلحتها فإنه لا يبطل الصلاة.
لكن متى ثبتت للإمام أن الصلاة ناقصة ويجب إتمامها فلا يجوز أن يستمر في الكلام مع المأمومين وأن كان في مصلحة الصلاة، بل يكون ذلك بقدر ما يحتاج إليه لمعرفة الخطأ في صلاته.
قال: (وقهقهة ككلام)
القهقهة: هو الضحك الذي يخرج منه الصوت.
فهو مبطل للصلاة بالإجماع، وذلك لمنافاته للصلاة وقد قال جابر: (القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء) رواه الدارقطني مرفوعاً وصوب وقفه، فالصواب أنه موقوف.(5/217)
وأما التسبيح فلا يبطل الصلاة بالاتفاق لأنه ليس مناف للصلاة ولا دليل يدل على بطلان الصلاة به.
قال: (وأن نفخ أو انتحب من غير خشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت)
" أن نفخ " أي قال: " أف " في الصلاة.
" أو انتحب " أي رفع صوته بالبكاء.
أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت الصلاة أي خرج منه، من تنحنحه أو نفخ أو بكاء أو أنين أو تأوه أو نحو ذلك فإنه – أن كان من غير حاجة فأن الصلاة تبطل به.
وعليه أن كان وقع منه عن غلبة فإنه لا يؤثر، فلو تنحنح أو نفخ عن غلبة فلا يؤثر.
وعلة هذه المسألة: أن الكلام يثبت بالحرفين " لا " و " نعم " و " أب " و " أخ " فالكلام يقع من حرفين فأكثر، فإذا تنحنح فخرج منه حرفين أو أكثر فذلك يكون كلاماً فيكون مبطلاً للصلاة.
والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الإمام مالك أن الصلاة لا تبطل كذلك، لأن مثل ذلك ليس بكلام فالنفخ والنحنحة ونحوها ليس بكلام وأن بان فيها حرفان.
فالكلام – من حيث كلماته ومفرادته – وهو ما أفاد معنى. والكلام المحذور في الصلاة ما أفاد معنى مخاطباً به الآدمي فلفظه " نعم أو " لا " وليس في لغة العرب أن النحنحة أو البكاء أو النفخ – أن ذلك يعد كلاماً –
فالراجح: أنه ليس بكلام فإذا وقع ذلك منه سواء كان عن غلبة أو لم يكن عن غلبة وسواء كان عن حاجة أو عن غير حاجة فأن ذلك لا يبطل الصلاة – وقد روى – أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال: فكأن يقول في سجوده " أف، أف " فلم يكن هذا مبطلاً للصلاة ولا مؤثراً فيها ومعلوم أن الكلام وأن احتاج ومعلوم أن الكلام وأن احتاج إليه المصلي –(5/218)
كما هي قاعدة المذهب – لا يبطل الصلاة فكيف جعلوا هذا كلاماً ولا يبطلها مع الحاجة، وما تقدم يبطلها ولو كان ذلك لمصلحتها أو لمصلحة من يجب تنبيهه بما بها تصل إلى الضرورة في المسائل المتقدمة، ومع ذلك ابطلوا الصلاة بها، واعتبروا هذا كلاماً وأجازوه في لحاجة فهذا مما يبين ضعف هذه المسألة عندهم.
والقاعدة: أنه لو ثبت أنه كلام لكان حكمه كحكم الكلام تماماً لا فرق بينهما فيبطل به الصلاة ضرورة أو حاجة ما لم يكن مما يستثنى كما تقدم في المذهب.
وقد تقدم حديث علي في تنحنح النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لكن الحديث ضعيف، وما ذكر كاف فيه وهو أنه ليس بكلام ولا دليل على إبطال الصلاة فيه مع أنه يقع من المصلي كثيراً فيشق أن تبطل الصلاة به.
مسألة: إذا قرأ في الصلاة آيةً أو جزءاً منها مخاطباً ونحو ذلك، كأن يطرق عليه الباب فيقول: " أدخلوها " أو نحو ذلك؟
قال شيخنا: (هذا لا يخلو – فيما يظهر لي – من حالتين وما أتذكر كلاماً لأهل العلم في ذهني الآن)
الحالة الأولى: أن يكون قد جمع بين هذا وبين خطاب الله فاكتفى بآية خاطب بها الله وخاطب بها الآدمي.
فحينئذ: لا يعدو الأمر ألا أن يكون إسماعاً للآدمي بما يخاطب الله به مما يكون مناسباً للآدمي فحينئذ لا يبطل به الصلاة.
الحال الثانية: أن يخاطبه بغير نية خطاب الله والتعبد له، فحينئذ: تبطل به الصلاة، لأن هذا لا يعتبر قرآن، بدليل أن قرأ الآية وهو جنب، وقلنا أن الجنب لا يجوز أن يقرأ القرآن كما هو مذهب الجمهور. فالجمهور يقولون: لا يضر لأنه ليس قرآن، لأنه خرج عن أن يكون قرآن. فهذه الطريقة – من كونه يخاطب به آدمي لمقصد حادث – أخرجه عن أن يكون قرآن فحينئذ يبطل الصلاة.
ثم ذكر لنا – شيخنا بعد ذلك أن هذا ما يقرره الشافعية فقد قرره الشيرازي في كتابه " المهذب " الذي شرحه النووي في المجموع.
والحمد لله رب العالمين.(5/219)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده)
من ترك ركناً من أركان الصلاة غير التحريمة فإنها لا تدخل في هذا الباب، لأن الصلاة لا تصح إلا بتكبيرة فمن صلى بلا تكبيرة إحرام فالصلاة باطلة وأن كان عن سهو فالصلاة لا تنعقد إلا بها فمن ترك ركنا سوء تكبيرة الإحرام، كأن يترك سجوداً أو ركوعاً أو نحو ذلك.
مثال: رجل صلى وهو في الركعة الأولى سجد الأولى فقام إلى الركعة الثانية فترك ركعتين الجلسة بين السجدتين والسجدة الثانية فلهذه المسألة صورتان: ذكرهما المؤلف:
الأولى: أن يذكر السهو الواقع منه بعد قيامه وقبل أن يشرع في القراءة.
الثانية: أن يذكره بعد شروعه في القراءة.
أما في الصورة الأولى: وهي ما إذا ذكر ذلك قبل شروعه بالقراءة فأنه يرجع وجوباً – هذا الإجماع كما حكاه المجد ابن تيميه وقال الموفق: (لا نعلم فيه مخالفاً) فيرجع ويجلس بين السجدتين ويسجد السجدة الثانية وما بعده وما قامه فإنه لأنه وقع في غير محله وموضعه.
أما الصورة الثانية: وهي ما إذا ذكره بعد شروعه بالقراءة ,
فقال: (فذكره بعد شروعه في ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها)
فتبطل الركعة وتلغو لأنه قد ترك ركناً منها، فتكون الصلاة صحيحة لكن هذه الركعة باطلة، فتقيم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى – هذا هو المشهور في المذهب – وهناك قول في المذهب – وهو مذهب الشافعية – أنه يجب عليه الرجوع وأن شرع في القراءة ما لم يصل إلى الركن الذي يقابل الركن الذي تركه، فإذا وصل إليه فإنه يقوم مقامه وهذا القول أرجح، لأنه لا دليل على التعريف بين ما إذا ذكره قبل الشروع وبين ما إذا ذكره بعد الشروع.(5/220)
قالوا: أن تذكره له أثناء شروعه بالفاتحة قد شرع في ركن مقصود وأما قبل ذلك فالقيام ركن غير مقصود لكن هذا ليس بصحيح، فأن القيام ركن مقصوداً أيضاً بدليل وجوبه على من لم يكن قائماً، فيجب عليه القيام، فالقيام ركن، وهو قد شرع في ركن، فكما أوجبنا عليه وقد شرع في الركن الذي هو القيام قبل القراءة، فكما أوجبنا عليه الرجوع في هذا، فكذلك يجب عليه أن يعود إذا شرع في القراءة فليس هناك فرق مؤثر ثم أنه يلزم من القول الأول إبطال ما ثبت صحته فأنه قد كبر وقرأ الفاتحة وركع وسجد كل ذلك أوقعناه صحيحاً له وليس هناك ما يدل على بطلانه.
وكوننا نلغي الركعة كما ذكر الحنابلة، فيه إبطال لما وقع صحيحاً ثابتاً ولم يرد دليل على إبطاله
وكذلك فيه إثبات لزيادة لم تقع سهواً، فإنه لما قام في الركعة الأولى وركع وسجد كل ذلك – كان عمداً لا سهواً، فإذا ألغيناه فقد أثبتنا في الصلاة زيادة قد تعمدها صاحبها.
لذا الراجح ما ذهب إليه الشافعية وهو أحد القولين في المذهب وأنه يجب عليه الرجوع مطلقاً ما لم يصل إلى الركن المقابل إلى الركن المتروك فحينئذ يقوم مقام الذي ترك.
وهنا صورة ثالثة لم يذكرها المؤلف: وهي ما إذا ذكره أثناء الركعة فأنه يجب عليه الرجوع بالإجماع كرجل كبر للصلاة وركع ثم سجد مباشرة ساهياً، وذكر في أثناء الركعة فإنه يرجع إليه وجوباً.
قال: (وأن علم بعد السلام فترك ركعة كاملة)
أي أنه لما سلم علم أنه ترك سجوداً، يقيناً لا شكاً (فترك ركعة كاملة) لأن هذه الركعة قد اختلت بترك ركن من أركانها وتبطل ولا تصح لأنه قد ترك فيها ما هو من قوامها مما لا تصح إلا به، فتكون الصلاة صحيحة وما تركه من الركن يجبره بفعل ركعة كاملة ويسجد للسهو أما قبله أو بعده على الخلاف المتقدم.
والقول الثاني في المذهب: وهو قول غير مشهور في المذهب: أنه يأتي بالركن الذي تركه وما بعده.(5/221)
فإذا ترك مثلاً السجدة الثانية من الركعة الأولى، فإنه يكبر فيأتي بالسجدة وما بعدها.
وهذا هو الأرجح لأن ما فعله قبل ذلك الركن قد ثبت صحيحاً وهذا الركن المتروك وما بعده باطل أما المتروك فظاهر لأنه لم يفعل، وأما ما بعده فلأنه لم يقع في موقعه: فكان الواجب عليه أن يأتي بالركن وما بعده من الركعات فعلى ذلك: إذا كان سهوه في الركعة الأولى فإنه يأتي بما بعدها من الركعات.
فإن كان الركن الذي تركه ليس متعلقاً بركعة من الركعات وإنما هو ركن منفرد بنفسه كالتشهد الثاني، فإذا تركه فأنه يأتي به فقط ويسلم.
قال: (وأن نسى التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينصب قائماً فإن قائماً كره رجوعه، وأن لم ينصب لزمه الرجوع) .
إذا نسى التشهد الأول فنهض فيلزمه الرجوع وهو في حالة النهوض ما لم يصل إلى القيام، فيجب عليه الرجوع لأنه ترك واجباً يجب عليه فعله، ولم يشتغل بركن، ولا ترتب على فعل الواجب الذي فعله فإنه زيادة ركن في الصلاة – وهذا مذهب الجمهور – وقد روى أبو داود بإسناد فيه جابر الجعض وهو ضعيف – من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فلا يعود وليسجد سجدتين فأن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) وهذا حديث ضعيف لكن المعنى المتقدم يدل عليه، فقد ترك واجباً ولم يشتغل بعد بركن فوجب عليه أن يأتي به إذ هو متعلق في ذمته ويمكن فعله من غير بدل ولا ترتيب زيادة في الصلاة ولا ترك ركن بسبب فعله.(5/222)
(فأن استتم قائماً كره رجوعه) فإذا استتم قائماً فيكره رجوعه، لكن لو رجع تصح لكنه مكروه لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأولين ولم يجلس فقام الناس معه حتى قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه وكبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قام من الجلوس، وظاهر لفظة (قام) أنه قد ثبت قيامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإنما يكره لمخالفته السنة. ولذا فالراجح أن استمراره بالقيام واجب، فلا يجوز له الرجوع كما هو قول في المذهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يجب عليه أن يجلس فتركه للوجوب يدل على أنه لا يجوز فعله، وقد استتم قائماً فلم يرجع ولأنه قد اشتغل بركن لا يجوز تركه، فإنه قد اشتغل بالقيام، فهو كما لو اشتغل بالقراءة، وقد اتفق العلماء على أنه لو اشتغل بالقراءة فلا يجوز له أن يرجع ولا فرق بين الصورتين لأن القيام ركن والقراءة ركن.
فالراجح: أنه إذا استتم قائماً سواء شرع في القراءة أم لم يشرع فلا يجوز له الرجوع.
قال: (وأن لم ينصب لزمه الرجوع) هذا تكرار للمسألة السابقة في قوله: (وأن نسي التشهد الأول لزمه الرجوع)
قال: (وأن شرع في القراءة حرم الرجوع)
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، وهو مما اتفق عليه أهل العلم.
واعلم أن القاعدة: أنه إذا مضى فيما يجب عليه الرجوع فيه أو رجع فيما يجب عليه المضي فيه عامداً فالصلاة باطلة.
مثال: ما إذا مضى فيما يجب عليه الركوع: كرجل قبل أن يستتم قائماً مضى مع علمه بالوجوب فإن الصلاة تبطل لأنه ترك واجباً من واجبات الصلاة.(5/223)
(وإذا رجع فيما يجب عليه المضي فيه) كأن يرجع بعد أن يشرع في القراءة فإذا رجع فصلاته تبطل أن كان عامداً عالماً بالحكم أما الجاهل والناسي فلا شيء عليه.
واعلم أن الإمام إذا استتم قائماً فسُبح به فرجع فأنه يكون مخطئاً وعليه فإن المأمومين في خطئه أما إذا قاموا فنتصبن، ورجع الإمام قبل أن يستتم قائماً لكنهم سبقوه بالانتصاب فإنه يجب عليهم الرجوع لأن الإمام مصيب بفعله ويجب عليهم أن يتابعوه، لأن الإمام يتابع حيث كان مصيباً أو ساهياً سهواً نتابع بمثله وأما متابعته في القيام عن ترك التشهد فأن السنة قد دلت عليه كما في حديث ابن بحينة المتقدم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد وقام مقام الصحابة وراءه وفي ابن خزيمة: (فسبحوا به فمعنى) فهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساهياً في عن هذا الواجب ولم يفارقوه بل تابعوه ولم ينكر ذلك عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أمرهم عليه.
لذا اتفق أهل العلم على أنه الإمام إذا سهى فتركه الجلسة للتشهد فإن المأمومين يتابعونه.
مسألة:
ترك التشهد ترك واجب من واجبات الصلاة، فهل غيره من الواجبات كغيره في هذا الحكم – كالتسبيح والتحميد وغيرها من الأذكار الواردة في الأركان؟
الجواب: فارق بين مسألة القيام عن التشهد الأول وبين ترك التسبيح والتحميد ونحوها من الواجبات التي في الأركان في تلك الجلوس للتشهد تبع للتشهد وإنما شرع له وأما هنا فإنه إذا رجع إلى الواجبات ليأتي بها وأن لم يصل إلى الركن فإنه يلزم فيه أن يأتي بالركن مرة أخرى، فيكون في الصلاة زيادة متعمدة. لذا هذه الواجبات إذا خرج عن محلها فأنه لا يعد ويجبرها بالسجود، وأن لم يصل الركن الذي بعدها، لأنه برجوعه يفعل الركن مرة أخرى.
أما في التشهد: فإنه لو جلس للتشهد ولم يتلفظ بالتشهد فقام فإنه يرجع لأن الجلوس مشروع للتشهد أما هذا فالركوع ركن وهذه الأذكار واجبة فيه، وهي أركان مقصودة بذاتها.(5/224)
قال: (وعليه السجود للكل)
للمسألتين، والسجود – كما تقدم في المذهب – قبل السلام.
أما المسألة الثانية فالحديث الصحيح يدل عليها وهو حديث عبد الله بن بحينة، والقاعدة تدل عليها فإنها نقص في الصلاة.
وأما المسألة الأولى فهي زيادة في الصلاة، فقد زاد في الصلاة أركاناً على سبيل السهو. فالواجب أن يكون سجد بعد السلام، لأن ما كان عن زيادة فإنه بعد السلام على الراجح كما تقدم – وهو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمهما الله جميعاً.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن شك في عدد الركعات أخذنا بالأقل)
من شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً فإنه يبني على اليقين فيأخذ بالأقل.
واستدلوا بما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً له صلاته وأن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) ومثله لو شك وقد ركع هل أدرك الإمام في ركوعه أم لا، كأن يأتي متأخراً فيسجد الإمام راكعاً فيركع ثم يشك هل رفع الإمام رأسه قبل أن يدركه أم بعد أن أدركه ومثل ذلك لو شك في ركن هل فعله أم لا؟ فأنه يبني على اليقين وهو أنه لم يفعل أو لم يزدهن الزيادة.
وظاهر كلام المؤلف مطلقاً سواء كان إماماً أو منفرداً، وسواء كان الشك مع علته ظن أو مع استواءت الطرفين.
فظاهر كلام المؤلف أن الصورتين كليهما داخلة في البناء على التيقن وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي ظاهر مذهبه (أي المشهور فيه) .
التفريق بين الإمام والمنفرد:(5/225)
أما المنفرد فإنه يبني على اليقين مطلقاً فلا يحكم عليه ظنه وأما الإمام فإنه أن أمكنه غلبه ظن تسبيح الناس خلفه فإنه يعمل به، وأن لم يمكنه ذلك إما بأن يختلف المأمومون أو لا ينتبه أحد منهم – فإنه يبني على اليقين.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسجد سجدتين) وفي رواية البخاري: (فليتم ثم يسلم ثم يسجد) فهذا الحديث فيه أن من أمكنه أن يتحرى الصواب فإنه يتم عليه ويسجد بعد السلام.
وقد حمل الحنابلة هذا الحديث على الإمام الذي يمكنه أن يتحرى الصواب بنية المأمومين.
فإن لم يمكنه تحري الصواب كأن يختلف المأمومون أو لا يحدث تنبيه مع الشك الواقع فيه فإنه – حينئذ يبني الإمام على اليقين.
وهناك رواية ثالثة عن الإمام اختارها شيخ الإسلام: وهي الراجحة إلى أن الإمام والمنفرد كليهما على غلبة الظن ويتحرى الصواب فأن لم يكن هناك صواب يتحراه فإنه يبني على اليقين وهذا هو القول الراجح لعمومات الأحاديث.
فأن حديث أبي سعيد الشك عام من الإمام والمنفرد: (إذا شك أحدكم في صلاته) سواء كان إماماً أو منفرداً فإنه يبني على اليقين مادام الشك مع استواء في الطرفين كما أن حديث ابن مسعود حديث عام في الإمام والمنفرد ثم إن غلبة الظن يحصل من المنفرد كما حصل من الإمام، فغلبة الظن التي تحصل بنيته المأمومين يمكن أن يحصل هذا الغلبة للمفرد وأن لم يكن هناك تنبيه فإن يكون الواقع في قلبه أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً أو نحو ذلك، وهذا هو المقصود، فأن تنبيه المأمومين لا يعدوا إلا أن يكون وسيلة إلى غلبة الظن، فإذا حصلت غلبة الظن بدون تنبيه من المأمومين فيحكم بها لأنها هي المقصودة في الحكم.
تقدم أن المذهب أن غلبة الظن يحصل للإمام دون المنفرد في هذه المسألة، بسبب تسبيح المأمومين.(5/226)
وعليه: فإذا كان الإمام ليس وراءه إلا مأموم واحد فإن هذا المأموم لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – في المشهور من المذهب.
وعليه فأن هذه المسألة السابقة: حيث كان مع الإمام مأمومان فأكثر يحصل بتسبيحها الظن الغالب أما إذا سبح به واحد أو لم يكن وراءه إلا مأموم فأن الإمام لا يحكم بغلبة ظنه هنا، لأن المأموم واحد، والواحد لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – هذا تقرير المذهب –
وعليه – وهو على المذهب – إذا شك المأموم في صلاة إمامه فأن المأموم يبني على اليقين لأن الإمام لا يرجع إليه لكونه واحداً – وهذا خلاف الظاهر، لأن الشارع قد أمر بمتابعة الإمام ما لم يثبت في صلاته خلل، ومجرد الشك لا تعارض الظاهر.
فالظاهر أن صلاة الإمام صحيحة يجب على المأموم أن يتابعه عليها، وحيث شك المأموم فأن شكه لا تعبير لأنه مخالف للظاهر.
هذان التفريقان على مذهب الحنابلة – وألا فالراجح – كما تقدم – هو اعتبار غلبة الظن مطلقاً للإمام والمنفرد.
قال: (ولا شك في ترك ركن فكتركه)
فإذا شك في ركن فلما لو تركه، كأن يشك هل ركع أم لا؟ فهو كما لو ترك الركوع.
وقد تقدم حكم ترك الركن – وأنه في المشهور من المذهب إذا شرع في القراءة في الركعة الثانية لم يرجع إليه وقامت الركعة الثانية فقام الركعة الأولى التي سقط ركنها نسياناً.
وإذا لم يشرع فإنه يعود إلى الركن فيأتي به.
كذلك إذا شك، فقبل الشروع بالقراءة يرجع إلى الركن فيأتي به، لأن الأصل أنه لم يأت به فهذا ركن إيجادي يجب إيجاده فالأصل عدمه، فما دام أنه شك فإننا نبقى على الأصل وهو عدم فعله منه وقد تقدم الكلام إذا ترك ركناً من أركان الصلاة، فكذلك إذا شك في تركه فإنه يعطي حكم الترك مطلقاً.
وظاهر كلامه – إنقاذ – أنه يبني على التيقن مطلقاً واليقين هنا أنه لم يفعل هذا الركن، فعليه أن يرفع إليه قبل الشروع بالفاتحة، وإذا شرع بطلت الركعة التي شك في ركن من أركانها.(5/227)
والقول الثاني: في المذهب أنه يبني على غلبة الظن إن كان هناك غلبة ظن.
كان يشك هل ركع أم لا، ويمكنه ظنه أنه ركع، فحينئذ حكمه أنه أتى به فيتم الصلاة على أنه قد أتى بهذا الركن ثم إذا سلم سجد سجدتين وهذا هو الراجح – كما تقدم –
فالراجح في هذه المسألة – كالراجح في المسألة المتقدمة استدلالاً ودليلاً، فإن هذه المسألة داخلة في عمومات الأحاديث، فينظر في شكه فأن كان عنده غلبة ظن فأنه يعمل به، ويسجد سجدتين بعد السلام وإلا بنى على اليقين وسجد قبل السلام – واليقين هنا – أنه لم يفعل –
قال: (ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة)
لما رفع من الركوع شك هل سبح فيه أم لا؟
والشك: المعتبر هو الذي لا يقع عن وسوسة من الشيطان وهو الذي يكثر في الصلاة وبتحديث كثيراً فيعلم أنه من الشيطان.
وكذلك الشك بعد السلام ليس بمعتبر، فإذا صلى وشك هل تركت الركن أو هل صليت ثلاثاً أم أربعاً أو هل تركت الواجب – فهذا ليس بمعتبر اتفاقاً لأن الظاهر أن الصلاة قد تمت وصحت فلا يفارقها هذا الشك الوارد إليها.
فإذا شك من ترك واجب، فلا يشرع له السجود سواء عنده غلبة ظن أو لا.
قال: لأن الأصل عدم السجود وقد شك في سببه، لكن هذا ضعيف، لأن المسائل المتقدمة، كذلك فأن الأصل عدم سجود السهو وقد شك في السبب، لما تقدم في حديث: (فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً) فإنه شك والأصل عدم السجود، فالصحيح الشك في ترك الواجب كالشك في ترك الركن وهو قول في المذهب، لأن الأصل عدم فعل الواجب، فلما شك ما استوى الطرفان رجعنا إلى الأصل وهو عدم الفعل، لأنه واجب إيجادي كما تقدم في الركن وأنه ركن إيجادي، فالأصل أنه لم يفعله، فما دام أنه لم يتيقن أو أنقلب على ظنه فعله فإنا نحكم أنه لم يفعل وهذا القول هو الراجح.
وعليه: ترك الواجب كترك الركن، لكن تقدم أن ترك الركن يرجع إليه.(5/228)
لكن هنا نقول: يبنى على إنه لم يفعل مطلقاً، فلا يرجع لأن الرجوع ممتنع ويسجد قبل السلام.
إلا إذا كانت عنده غلبة ظن، كأن يشك في التسبيح في الركوع ويغلب على ظنه قوله فإنه يسجد بعد السلام وإلا فإنه يسجد قبله.
إذن: إذا كان عنده شك في فعل الواجب – وكان شكاً فاستوى الطرفين فالسجود قبل السلام.
وإذا كان مع ترجيح الفعل فإنه يسجد بعد السلام.
قال: (أو زيادة)
فإذا شك في زيادة فلا يشرع له أن يسجد، كأن يشك هل صلى أربعاً أم خمساً أو يشك أنه ركع في ركعة ركوعين أو ثلاث سجودات أو نحو ذلك فهذا شك زيادة فلا يشرع له السجود لأن الأصل عدم الزيادة وعدم السجود.
فحينئذ: نبني على الأصل، فلا يشرع له أن يسجد لأن هذا الشك الوارد شك زيادة والأصل عمها والأصل عدم السجود: فلا يشرع له أن يسجد.
كما أنه لا يشرع له السجود إذا زال شكه وزال موجب سجوده وكأن يشك رجل هل صلى ثلاثاً أم أربعاً فبنى على اليقين، فلما شرع في الرابعة تيقن أنه لم يكن مخطئاً وأنه ليس هناك شك وإنه مجرد خاطر وقع في قلبه فحينئذ: لا يشرع له السجود لأنه موجبة الشك وقد زال الموجب، فلا يشرع له السجود – كما ذكر ذلك الحنابلة وهو قول ظاهر، ودليله ما تقدم من زوال موجبة وهو الشك.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه)
فإذا سهى المأموم فلا يسجد للسهو إلا تبعاً لإمامة فإذا سهى ووافق سهوه سهو الإمام، أو سهى الإمام فإنه يسجد معه.
ويستثنى من ذلك: ما إذا كان السهو للمأموم في حال القراءة عن إمامه، كأن يكون مسبوقاً، فيقع السهو منه في حال إتمامه للصلاة، لأنه لإمام إنما يحتمل سهوه حيث كان تبعاً له متصلاً به مأموماً، وأما والحالة هذه فإنه يسجد ولا يحتمل عنه الإمام لأن صلاته التي وقع فيها السهو ومنفرداً فيها عن إمامه.(5/229)
فإذا سهى المأموم مع إمامه فلا يسجد للسهو إلا في الصور المتقدمة – هذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه إسحاق وابن المنذر إجماعاً وأن المأموم إذا سهى خلف إمامه متى تابع فيه إمامه فإنه لا يسجد – وهو مذهب عامة أهل العلم.
وذهب طائفة من أهل العلم وهو مذهب الظاهرية ومذهب الشوكاني والصنعاني من المتأخرين إلى أنه يسجد للسهو الذي وقع منه خلف إمامه.
استدل أهل القول الأول:
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من تكلم جاهلاً خلفه – لم يأمره بالسجود فلو كان السجود واجباً خلف الإمام لأمره بالسجود وهذا استدلال ضعيف لأنا لا نسلم أصلية السجود في مثل هذا وأن الإمام والمأموم إذا تكلم ساهياً أنه يسجد بل الظاهر أنه لا يسجد لعدم الدليل الدال على مشروعية السجود هنا وليس بمعنى ما ورد به النص.
واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني لكن إسناده ضعيف جداً من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على من خلف الإمام سهو فإذا سهى الإمام فعليه وعلى من خلفه) .
واستدل بعضهم: بأن الصحابة يبعد جداً ألا يقع منهم السهو خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل لنا أن أحداً منهم سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم سهو وقع منه.
وأجيب عن هذا: بأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، والصحابة لا يشترط أن يثبت لنا أنهم طبقوا عموماً من العمومات أما إذا خالفوه فنعم، فإن هناك من العلماء من يرى التخصيص بعملهم أو قولهم.(5/230)
واستدلوا – وهو أصح أدلتهم – بأن الإمام يتابعه المأموم في سجوده وهذه زيادة في الصلاة أوجبنا على المأموم أن يتابع إمامه فيها، كما أن الإمام يتحمل عنه عمده، فإن الإمام إذا قام عن التشهد الأول ساهياً وجب على المأموم أن يتابعه فيقوم عمداً، والنقص مثل ذلك، فإن السجود إنما هو جبر لنقص حدث في الصلاة ترك يبطل الصلاة عمداً، وقد وقع من المأموم سهواً وهناك كذلك، فإن الزيادة في الصلاة مبطلة لها ومن أجل متابعة الإمام وألا يحدث في الصلاة خلاف بين المأمومين وإمامهم – من أجل ذلك أمر الشارع المأموم أن يريد في صلاته هاتين السجدتين لمتابعة الإمام، فهذه زيادة وترك السجود نقص فكان هذا قياساً ظاهراً.
وأما أهل القول الثاني: فاستدلوا بعمومات الأدلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) فهذا حديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم لكن الصحيح ما تقدم من باب القياس الصحيح المذكور فإن الإمام يتحمل عن مأمومه الزيادة في الصلاة " في سجدتين السهو " ومتابعة في تعمد ترك واجب من الواجبات فيقوم عن التشهد متعمداً ليتابع إمامه كل ذلك ليحصل الموافقة بين صلاة المأموم وصلاة إمامه.
فالراجح أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد للسهو خلف إمامه إلا تبعاً لإمامه.
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: - لعدم ذكرها – وهو أنه إذا سهى المأموم خلف إمامه فيما انفرد به من الصلاة فإنه يجب عليه السجود قولاً واحداً.
المسألة الثانية: وإذا سهى الإمام فيجب على المأموم أن يتابعه في السجود كما تقدم – وحينئذ – فأن كان المأموم مسبوقاً في صلاته وكان الإمام عليه سجود لسهواً قبل السلام أو يعده، فكيف يتابعه؟ هل يجب عليه أن يتابعه عند سجوده أو يجب عليه أن يؤخر ذلك؟
قولان لأهل العلم:(5/231)
القول الأول: وهو مذهب الحنابلة: أنه يجب عليه أن يسجد مع إمامه، سواء كان سجوده قبل السلام أو بعده فإذا سلم الإمام قام فأتم صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) فإذا سجد الإمام للسهو وجب على المأمومين عامة أن يسجدوا سواء من كان منهم مسبوقاً أو لم يكن مسبوقاً.
فالمسبوق: أن كان السجود قبل السلام فلا أشكال فإنه يسجد مع الإمام فإذا سلم قام فأتم صلاته وأما إذا كان بعد السلام فإنه لا يسلم مع الإمام، فإذا سلم الإمام وكبر سجد للسهو سجد معه ثم إذا سلم الإمام قام فأتم صلاته ويجزئه ذلك عن السجود.
القول الثاني: وهو مذهب الشافعية والمالكية: إذا كان قبل السلام فإنه يسجد مع الإمام، لحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) وهو عموم.
وأما إذا كان بعد السلام فإن المأموم يقوم بعد سلام الإمام من الصلاة ولا يسجد معه سجدتي السهو، ويتم صلاته ويسجدهما بعد السلام.
قالوا: لأن هاتين السجدتين إنما هما مشروعتان خارج الصلاة فتمام المتابعة للإمام أن يفعلا خارجها، فكان المشروع للمسبوق ألا يسجد مع إمامه بل يسجدهما بعد السلام وهذا القول أرجح.
وهناك قول ثالث: بالإطلاق وأنه لا يسجد مع الإمام مطلقاً سواء كان السجود قبل السلام أو بعده وهو قول الأوزعي بل يسجد بعد إتمام صلاته سواء كان بعد السلام أو قبله.
والراجح مذهب أهل القول الثاني: وأنه يسجد معه أن سجد قبل السلام لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) وكونه ينتظر ولا يسجد معه مفارقة للإمام والواجب أن يتابعه، أما بعد السلام فإنه يتم صلاته ولا يتابع الإمام في سجدتي السهو ثم يسجدهما بعد سلامه وهذه هي المتابعة فأن السجدتين إنما شرعاً بعد السلام فلا يشرع للمأموم أن يتابع إمامه فييفعلهما في صلب صلاته.(5/232)
وإذا قلنا بالمذهب: فهنا مسألة متفرعة وهي: ما إذا كان على الإمام سجدتين للسهو فقام المأموم قبل أن يشرع في القراءة أن يسجدهما ساهياً، فينظر أن انتصب قائماً لم يجز له الرجوع، وأن لم ينتصب قائماً فيجب عليه الرجوع.
هذا على المذهب المرجوح، وألا فالراجح أن المأموم لا يتابع إمامه في هذا الموضع وسجدتي السهو واجبتان فكان حكمهما كحكم من قام عن التشهد، فإنه إذا شرع في القيام فقد شرع في ركن فلا يجوز له أن يدعه إلى الواجب فيعود بل ينتصب قائماً ثم يسجد بعد ذلك.
- المسألة الثالثة: إذا سهى الإمام في صلاته ولم يسجد فهل يسجد المأموم أم لا؟
قولان لأهل العلم:
أ – قال جمهور أهل العلم: يجب على المأموم أن يسجد لأن الصلاة قد وقع فيها نقص من جهة الإمام فيلحق هذا النقص المأمومين، ويجبر ذلك بالسجود ولم يحدث ذلك من الإمام فكانت الصلاة فيها نقص من جهة المأمومين فوجب عليهم السجود.
ب- القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يسجدون لأن سجود المأموم تبع لسجود إمامه، فالأصل أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد هاتين السجدتين، إنما يسجدهما تبعاً لسهو إمامه فهو لم يقع فيه سهو بل وقع من الإمام لكنه شرع له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد موجب السجود فإنه لا يسجد له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد فوجب السجود فإنه لا يسجد وموجبة هو وقوع ذلك من الإمام، فحيث لم يقع ذلك من الإمام فإنه لا يشرع له السجود ألا أن يكون السهو منهم فهي مسألة أخرى، أما ما تقدم فالكلام على ما إذا كان السهو واقعاً من الإمام فحسب.
فالراجح أنه إذا لم يسجد لم يشرع للمأمومين السجود لزوال الموجب.
قال: (وسجود السهو لما يبطل عمده واجب)(5/233)
والأحاديث ظاهرة في وجوب سجود السهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وظاهر الأمر الوجوب وهنا ذكرها قاعدة وهي: أن ما يبطل عمده يجب السجود له لكن هذا ليس على إطلاقه، فأن الكلام يبطل الصلاة عمده ومع ذلك فالراجح أنه لا يشرع له السجود فهي قاعدة ليست مطلقة بل حيث ورد الدليل فالأصل عدم السجود ألا أن يرد دليل يدل عليه أو يرد صوره بمعنى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود فيه.
قال: (وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط)
هنا ثلاث مسائل:
الأولى: أن من ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام فالصلاة باطلة فإذا ترك السجود قبل السلام في شك قد استوى طرفاه وهو مستحب له السجود قبل السلام، فإذا ترك السجود فإن الصلاة تبطل، لأنه يكون تاركاً لواجباً من واجباتها وترك الواجب عمداً تبطل الصلاة.
الثانية: إذا ترك سجوداً للسهو مشروعاً بعد السلام فأن الصلاة لا تبطل به – هذا هو المشهور في المذهب – لكنه يكون آثماً لتركه واجب.
قالوا: هو يشبه – حينئذ – ما هو واجب خارج الصلاة، كالإقامة والأذان فأنها من واجبات الصلاة التي هي خارجة عنها، فالسجود بعد السلام هو واجب لكنه خارج عنها فاشبه الإقامة والأذان وقد تقدم أن من ترك الأذان والإقامة مع وجوبهم فأن الصلاة تصح ويكون آثماً لتركه هذا الواجب.
وهناك قول في المذهب اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الصلاة – تبطل بذلك، لأن السجود متمم للصلاة جابر لها فالصلاة ناقصة دونه، وإنما شرع بعد السلام لا لكونه شبهاً للإقامة والأذان وإنما شرع بعدها لأن الأليق في حقه أن يكون بعدها، فإنه يكون عن زيادة فإذا شرع قبل السلام اجتمع في الصلاة زيادتان، وأما إذا شرع بعده فلا يجتمع في الصلاة زيادتان ومع ذلك فإنه يبقى بلفظ الزيادة ويذهب أثرها.
وهذا القول أرجح، لأنه واجب متصل بالصلاة وأن كان خارجاً عنها، متمم لصلبها فهو منها.(5/234)
الثالثة: قوله: (أفضليته) هذا المشهور في المذهب حكى ذلك إجماعاً وهو أن السجود في كونه قبل السلام أو بعده أنه وأن كان السجود واجباً فإن كونه قبل السلام أو بعده هذا ليس على الوجوب بل على الاستحباب فمثلاً إذا شك في الصلاة استحب أن يكون سجوده قبل السلام فإن سجد بعده أجزأه ذلك.
وإذا سلم قبل تمام الصلاة استحب له – عندما يتم الصلاة - أن يكون سجوده بعد السلام وأن سجد قبله أجزأه.
وقد تقدم أن الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن الإمام أحمد أن النقص يجب أن يكون سجوده قبل السلام: (وهو ظاهر كلام أحمد " وقال الزركشي " وهو ظاهر كلام أبي محمد – يعني الموفق – وأكثر أصحابنا) لكن المصرح به في كتب الحنابلة أن ذلك على الاستحباب.
والراجح وجوبه وهو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر بذلك كما قوله: (فليسجد سجدتين) وهذا أمر وهو للوجوب.
قال: (وأن نسيه وسلم سجد أن قرب زمنه)
إذا نسى السجود سواء كان قبل السلام أو بعده، فإنه يسجد أن قرب زمنه عرفاً، والمشهور في المذهب مادام في المسجد أو في موضعه الذي صلى فيه فإنه في حكم المسجد وهناك رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين المسجد وغيره وإنما العبرة بطول الزمن عرفاً أو قصره.
وعن الإمام أحمد رواية ثالثة اختارها ابن تيميه أنه يسجد وأن بعد الزمن أي لو تذكر سجود السهو بعد أيام فإنه لا يعيد الصلاة بل يسجد سجدتي السهو.
قال شيخ الإسلام: (لأن تحديد ذلك يختلف في عادات الناس وأعرافهم) فليس له حد معروف عندهم، فكوننا نربط الناس به يكون فيه مشقة بل لا يمكنهم معرفة ذلك لأن الناس يختلفون في حده عرفاً أو ليس له حد في أعرافهم.
وقال أيضاً: (وليس لهذا أصل في الشريعة) فليس هناك دليل يدل على التفريق بين طول الزمان وقصره وهذا القول هو الراجح.(5/235)
وظاهر كلام ابن تيميه: كذلك في المسألة السابقة وهي من ترك شيئاً من الصلاة ناسياً كأن يسلم من ثلاث ركعات فإنه يأتي بها وأن طال الزمن.
وقد استدل شيخ الإسلام بحديث عمران بن حصين المتقدم وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حجرته فأخبر ما في المسجد فأتم الصلاة) – وظاهر ذلك أن هذا طويل عرفاً ولا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها وأن كان شيخ الإسلام لم ينص على المسألة التي قبلها لكن في حكم هذه المسألة دليلاً واستدلالاً.
فالراجح: أنه وأن طال الزمن فإنه يأتي بما ترك – وحينئذ – تكون الموالاة الواجبة قد سقطت عند العذر، فعذر النسيان اسقط الموالاة الواجبة في إتمام الصلاة فمن ترك شيئاً واجباً في الصلاة فالواجب أن يكون موالياً للصلاة لكن النسيان عذر اسقط الموالاة وقد دلت الشريعة على اعتباره – كما تقدم – لكون النبي صلى الله عليه وسلم مع فرضية الموالاة يأتي حجرته فيتحر فيأتي فيصلي ركعة، فهنا الموالاة منتفية والعذر موجود.
أما من ترك سجود السهو متعمداً أي ترك الموالاة فيه ففعله متأخراً فالصلاة تبطل به لأن الواجب هو الموالاة وحيث تركها عمداً فتبطل الصلاة.
قال: (ومن سها مراراً كفاه سجدتان)
رجل سهى في الصلاة، مرتين أو أكثر فما الحكم؟
فيه تفصيل:
أما أن كانا – أي السهوان – من جنس واحد، والمراد بذلك أن يشرع لهما سجود أما قبل السلام أو بعده أي هما من نوع واحد أما بالنقص أو زيادة.
فحينئذ: لا خلاف بين أهل العلم أنه يكفيه سجود واحد، فإذا كانا زيادة فيسجد بعد السلام سجدتين وتكفيه عنهما، وكذلك إذا كانا نقصاً فيسجد قبل السلام ويكفيه عنهما، وهذا باتفاق أهل العلم.
وإنما اختلفوا فيما إذا كانا من نوعين: أي أحدهما يشرع له السجود قبل السلام والأخر بعده.(5/236)
مذهب جمهور أهل العلم أنه يكتفي بسجدتين قبل السلام لأنه هو الأحق بذلك فهو المتقدم ويكون ذلك أي سجوده قبل السلام استحباباً، والراجح وجوبه كما تقدم.
وذهب الأوزعي إلى أنه أن كان السهو من جنس واحد فيكفيهما سجود واحد بعد السلام أو قبله فقد وافق الجمهور وخالفهم فيما إذا كان الأمر على خلاف ذلك وهو ما إذا كان السهوان من جنس مختلف.
واستدل: بما رواه أبو داود وغيره من حديث ثوبان: (لكل سهو سجدتان) لكن تقدم أن الحديث ضعيف. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وهذا عام فيما إذا كان موضعه قبل السلام أو بعده، وسواء كان ذلك في موضعين أو موضع واحد، سواء كان منه سهوان أو أكثر من ذلك فهو حديث عام.
مسألة: إذا كان السجود بعد السلام فهل يشرع له تشهد أم لا؟
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن يشرع له التشهد فإذا كبر للسجدتين – كما في حديث أبى هريرة – وسجد السجدتين وجب عليه التشهد.
واستدلوا: بحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم) رواه أبو داود والترمذي.
وذهب محمد بن سيرين وهو اختيار ابن تيميه وقال إليه الموفق إلى أنه لا يشرع له التشهد لظاهر حديث ابن مسعود وأبي هريرة الواردين في السجود بعد السلام وليس فيهما ذكر التشهد.
قالوا: وقياساً على سجدة التلاوة فهي سجدة خارج الصلاة كما أن هاتين السجدتين خارج الصلاة، فكما أن سجدة التلاوة لا يشرع لها تشهد فكذلك سجدتا السهو.
وأجابوا عن حديث عمران: بأنه حديث ضعيف شاذ وقد ضعفه ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ضعفوه وتفرد اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وقد تفرد به عن عامة الرواة عن ابن سيرين وهو المحفوظ عنه فلم يذكروا التشهد فتفرد اشعث بذكر التشهد.(5/237)
والمحفوظ من حديث ابن سيرين عدم ذكر التشهد بدليل أن مذهبه عدم القول بالتشهد ولو كان عنده رواية يقال بها.
فالحديث شاذ لذا قال عنه الترمذي: (حديث غريب) والصواب ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع التشهد لأن حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة ليس فيه ذكر التشهد مع توفر الهمم والدواعي لذكره، فإنه طويل لو كانا ثابتاً لذكر، فلما لم يذكره مع توفر الهمم والدواعي لنقله فهو لهذا طويل، فدل ذلك على عدم ثبوته ,
وأما حديث عمران فهو حديث شاذ كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين.(5/238)
باب سجود السهو
قوله: [يشرع - سجود السهو- لزيادة ونقص وشك]
إذاً عندنا ثلاثة أحوال: 1- زيادة. 2- وعندنا نقص. 3- وعندنا شك.
زيادة: كأن يصلي الظهر خمسا.
نقصا: كأن يقوم في الركعتين، فلا يجلس للتشهد الأول.
شك: كأن لا يدري هل صلى ثلاثا أم أربعا.
وسيأتي تفاصيلها إن شاء الله.
قوله: [لا في عمد]
إذاً السجود في سهو لا في عمد، أما في ترك واجب أو ركن عمداً، فإن الصلاة تبطل كما تقدم، وهذا باتفاق العلماء، وإن كان القول بأن هناك واجب هذا من مفردات المذهب، فترك الواجب عندهم كترك الركن، فمن ترك واجبا أو ترك ركناً بطلت صلاته إن كان عمداً، ولأنه لم يفعل ما أمره الله به فلم يصل كما أمر الله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) .
إذاً سجود السهو خاص بالسهو، ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما صحيح مسلم: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (2) .
قوله: [في الفرض والنافلة]
يعني يُشرع في الفرض، ويُشرع في النافلة، أما الفرض فظاهر، وأما النفل؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعمومات الأدلة، فقوله: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، هذا عام في الفرض وفي النفل. فإذا سها في سنة الظهر أو سنة الضحى ونحو ذلك، فإنه يسجد للسهو.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة [1718] ، زاد المعاد [5 / 224] .
(2) أخرجه مسلم باب السهو في الصلاة من كتاب المساجد، وابن ماجه باب السهو في الصلاة من كتاب إقامة الصلاة، المغني [2 / 418] .(6/1)
وهنا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها، هناك يصلي فرضاً أو نفلاً، ثم يترك سنة في هذه الصلاة، فنقول: لا يسجد للسهو، لكن هنا يترك ركناً أو واجباً سهواً في صلاة نفل، كأن يترك التسبيح في الركوع أو التسبيح في السجود في سنة الفجر مثلاً، فإنه يسجد؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) .
ومن صور السجود في النفل:
لو قام لثالثة في الليل، وصلاة الليل كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثنى، مثنى) ، فإذا قام لثالثة سهواً، فإنه يجلس ويسجد سجدتين للسهو؛ لأن صلاة الليل مثنى مثنى، وأما إذا كان في النهار فقام إلى ثالثة، فله أن يُتم أربعاً، وفي صلاة الليل له أن يصلي خمساً أو سبعاً أو تسعاً، لكن ليس له أن يصلي أربعاً. فإذا دخل على أن يصلي مثنى مثنى، فصلى فقام إلى ثالثة، فإنه يجلس ويسجد للسهو، لأن صلاة الليل مثنى مثنى.
قوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة]
قيَّد الفعل بكونه من جنس الصلاة، فلو كان الفعل من غير جنسها، فإنه يدخل في المسألة السابقة، وهي مسألة الأفعال الكثيرة، أو مسألة الفعل في الصلاة، ما الذي يُبطل الصلاة منه؟ تقدم هذا، وأن الذي يبطله ما كان بحيث من يراه يقول: إنه لا يصلي، لكن هنا الكلام إذا كانت الزيادة من جنس الصلاة، وأما إذا كان الزيادة من غير جنس الصلاة، فننظر، إذا كانت كثيرة، فإنها تبطل الصلاة، وهي التي بحيث إذا رُئي المصلي قيل: إنه لا يصلي، وأما إذا كانت يسيرة، فإنها لا تبطل الصلاة، كما تقدم تقريره، ولذا قيد هنا المسألة بقوله: " من جنس الصلاة ".
قوله: [قياماً]
أي زاد قياما، كأن يقوم إلى ركعة خامسة.
قوله: [أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له](6/2)
قوله هنا " أو قعوداً " أي قعوداً في غير محل القعود، لكن إن كان القعود في محل القعود فإن هذا لا يجب له سجود السهو.
مثاله: جلس في محل التشهد يظن أنه جالسٌ بين السجدتين، فتذكر. هل نأمره بالسجود؟
الجواب: لا نأمره بالسجود، لأن هذا في محله، وليست الزيادة ظاهرة – فليست هناك زيادة -، غاية الأمر أنه تذكَّر أن هذا القعود ليس هو القعود الذي نواه، فكان يظن أنه في قعود للجلسة بين السجدتين، فتبين أنه في قعود للتشهد، فهنا القعود الآن في محل القعود، فقعد في محل قعود، لا في محل قيام.
لكن لو أنه جلس بعد أن رفع من السجدة الثانية في الركعة الأولى، فلما أراد أن يقوم للركعة الثانية جلس وأطال الجلوس، يظن أن هذا هو التشهد الأول، - يظن أنه قد صلى ركعتين، وهو لم يصل إلا ركعة واحدة -، فتذكر فقام، أو نُبِّه، فهل يجب عليه سجود؟
الجواب: نعم، يجب عليه سجود؛ لأنه ليس في محل قعود.
لكن لو كان في محل قعود، فغاية الأمر أن يكون قد نوى غير ما هو واجب عليه، ثم عاد فنواه، فلا يؤثر ذلك. وهذا التقييد في المذهب.
هنا ظاهره أيضاً: أنه ولو كان ذلك بقدر جلسة الاستراحة، فلو أن رجلاً لا يرى جلسة الاستراحة، لما قام من الركعة الأولى جلس بقدر هذه الجلسة، ثم قام، فظاهر كلام المؤلف، وهو المذهب أنه عليه سجود السهو.(6/3)
والقول الثاني، وذكره صاحب المغني وجهاً في المذهب، واختاره الزركشي من الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: أنه لا يسجد له. وهذا هو الراجح، وذلك لأن تعمده لا يبطل الصلاة، فلو تعمد رجل هذه الجلسة اليسيرة، فهل نبطل صلاته؟ لا نبطل صلاته، فكذلك إذا سها؛ لأن المسائل السابقة إذا فعلها تعمداً بطلت صلاته، وإذا فعلها سهواً سجد، فهنا هذه الجلسة لو أن رجلاً جلس عجزاً أو تثاقلاً، ثم قام، وهو لا يرى استحبابها، فهل تبطل صلاته؟ الجواب: لا تبطل، حتى في المذهب، فكذلك إذا زادها سهواً. إذاً الراجح أنه لو جلس بقدر هذه الجلسة اليسيرة، ما دام أنها بنحو جلسة الاستراحة، فإنها لا تؤثر.
قوله: [وإن زاد ركعة ولم يعلم حتى فرغ منها سجد]
إن زاد ركعة في الصلاة، كأن يصلي خمسا، فلم يعلم حتى فرغ منها، سجد.
رجل صلى الظهر خمسا، فلما سلّم نُبِّه، فما الواجب عليه؟
أن يسجد سجدتين، لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له عليه الصلاة والسلام: أزيد في الصلاة؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: إنك صليت خمساً، فقام عليه الصلاة والسلام فسجد سجدتين بعد ما سلّم. إذاً المذهب أنه إذا صلى الظهر خمساً، ثم علم بعد الصلاة أنه قد زاد خامسة، فإنه يسجد للسهو بعد السلام، وتكون حال ضرورة، لأن الواجب عندهم أن يسجد قبل السلام، لكن هنا لم يعلم إلا بعد السلام، فتكون حال ضرورة.
وتحرير مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أنه يجب سجود السهو قبل السلام إلا ما ورد به النص، وهو في ثلاثة صور.
إذاً الأصل عنده أن السجود قبل السلام، لأن السجود يتمم الصلاة، فكان قبل الصلاة، ولم يستثن إلا ثلاث صور قد وردت بها الأحاديث:
الصورة الأولى: هذه الصورة، وهي أن يزيد في الصلاة، فيعلم بعد السلام، فيسجد بعد السلام، لأنها حال ضرورة.(6/4)
الصورة الثانية: أن يَنقص من الصلاة ركعة فأكثر، فيسلِّم، ثم بعد أن يسلم الواجب عليه أن يتم صلاته، قالوا: ويسجد للسهو بعد السلام.
يعني إذا صلى الظهر ثلاثا، فسلم أو صلى الظهر اثنتين، فسلم، فهنا نقص ركعة فأكثر، فيجب عليه أن يتم صلاته، ثم يسجد للسهو بعد السلام، لحديث عمران وأبي هريرة، وحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العَشيِّ ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) ، لما قال له ذلك، علم الرجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوح إليه بوحي جديد يوجب قصر الصلاة، فقال: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، وقد هابا أن يكلماه، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: صدق ذو اليدين، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين " إذا كان السجدتان للسهو بعد السلام. إذاً الصورة الثانية أن يُنقص من صلاته ركعة فأكثر، يعني يسلم قبل تمام الصلاة، فيجب عليه أن يتم ثم يسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام.
الصورة الثالثة: أن يشك، فيتحرى.
يعني يكون عنده شك، يقول: ما أدري هل صليت ثلاثاً أم أربعاً، فيتحرى، فيترجح عنده أنه قد صلى أربعاً، فهنا قال: يسجد للسهو بعد السلام، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسيأتي إن شاء الله.
إذاً الإمام أحمد استثنى هذه الصور الثلاث.(6/5)
وفي هذه المسألة ستة أقوال لأهل العلم أوردها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في فتح الباري، وأصح هذه الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك: أن الصلاة إن كان فيها نقص، فإن السجود يكون قبل السلام، وإن كان فيها زيادة، فإن السجود يكون بعد السلام، وهنا يوافقه الإمام مالك في هاتين الصورتين، والصورة الثالثة في الشك، فالإمام مالك عنده الشك قبل السلام، وأما شيخ الإسلام فيقول: إن كان الشك عند تحر، فبعد السلام فيوافق مذهب الإمام أحمد في هذا، وإن كان بلا تحر – يعني شك يستوي فيه الطرفان – فإنه يكون قبل السلام. إذاً الإمام مالك ليس عنده القول بالتحري، ويرى السجود قبل السلام. إذاً شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يختار، - وهو أصح الأقوال - أنه إن كانت في الصلاة زيادة، فالسجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، لأنه قد زاد، فإذا أوجبنا عليه السجود قبل السلام، كان فيه زيادتان، ولأن المقصود من هاتين السجدتين ترغيم الشيطان، فشُرع ذلك بعد السلام، ليكون إرغاماً للشيطان، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الظهر خمساً، سجد بعد السلام، ولو كان السجود قبل السلام، لنبه الصحابة، ولقال لهم: إذا صليتم فاسجدوا قبل السلام، وإنما سجدت بعده لأن هذه حال ضرورة، فلما لم ينبههم عليه الصلاة والسلام لهذا عُلم أن هذا هو المشروع، فإن كان نقصاً فإنه يكون قبل السلام، فلو ترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن السجود إنما يشرع الآن لتتميم الصلاة، وتتميمها إنما يكون قبل الفراغ منها، لأن الصلاة فيها نقص، فيسجد للسهو قبل السلام ليتمم نقصها، فكان جبرانا، فكان المشروع إن كان عن نقص أن يكون قبل السلام، وأما إذا كان مع تحر، فإنه يكون بعد السلام، لأنه قد تحرى، وغلب على ظنه صحة صلاته، وأن الصلاة على هذه الصورة، فكان(6/6)
سجوده بعد السلام ترغيماً للشيطان، وأما إذا كان بلا تحري، فلأنه يُحتمل أن يكون قد زاد، فيحتمل أن يكون قد صلى خمسا، فتكون هاتان السجدتان تشفعان له صلاته. إذاً الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك، وما خالف فيه مذهب مالك، فهو موافق فيه مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وهنا: هل لو سجد قبل السلام لِمَا السجود مشروع بعده، فهل يجزئه؟ وهل إذا سجد بعد السلام لِما السجود مشروع قبله، هل يجزئه ذلك؟ وهل خلاف أهل العلم المتقدم في الإجزاء أم في الأفضلية؟
يعني رجل نقص، فلو سجد بعد السلام هل يجزئه؟ ورجل زاد، فهل لو سجد قبل السلام – هذا على القول الراجح، وكذلك على الأقوال الأخرى –هل يجزئه؟
اختلف أهل العلم في هذا الخلاف:
فمن أهل العلم كابن عبد البر من قال: إن خلاف أهل العلم فيما هو دون الإجزاء، هذا هو معنى كلامهم رحمهم الله تعالى، وأنهم لا يختلفون في أنه لو سجد قبل السلام لِما كان السجود مشروعا له بعده، أجزأه، وكذلك إذا سجد بعد السلام لما كان السجود مشروعا له قبله، فلا بأس، وهذا أيضا مذهب طائفة من أهل العلم.
وذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وأصحاب الإمام الشافعي إلى: أن هذا الخلاف ليس في الأفضلية، وإنما في الإجزاء. وهذا هو ما قرره أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن أصح القولين كما قال رحمه الله في مذهب أحمد وغيره أنه يجب السجود قبل السلام لِما شُرع السجود له قبل، ويجب بعده لما شرع بعده، قال: " وهو أصح القولين في مذهب أحمد وغيره " قال: " وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة ".(6/7)
إذاً عندنا بين أهل العلم خلاف، والذي يترجح هو القول الثاني، وأن هذا الخلاف في الإجزاء، وعلى ذلك فلو سجد قبل السلام لما يجب السجود فيه بعده، لم يجزه، وكذلك العكس، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لورود السنة في ذلك، والسنة متنوعة على حسب ما تقدم تقريره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقال في بعض الأحاديث: (فليسجد سجدتين بعدما يسلم) ، إلى غير ذلك، وهذا القول هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وغيره.
قوله: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد، وإن علم فيها جلس في الحال]
إن علم بالزيادة فيها – أي في الركعة – فإنه يجلس في الحال.
رجل وهو قائم في الخامسة، علم أنه في زيادة، فالواجب عليه أن يجلس في الحال، ولو استمر لبطلت صلاته؛ لأنه يكون قد زاد أفعالاً عمداً.
قوله: [فيتشهد إن لم يكن تشهد]
إذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد.
هل يُحتمل أن يكون قد تشهد؟
يحتمل، فقد يجلس في التشهد الأخير، ويظن أنه في التشهد الأول، فيتشهد ثم يقوم يظن أن هذا هو التشهد الأول، فإذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد.
قوله: [وسجد وسلَّم]
وتقدم أن الراجح هنا: أنها لما كانت زيادة، فالواجب عليه أن يكون السجود بعد السلام. والله أعلم. انتهى الدرس الأول من باب سجود السهو في ليلة الاثنين التاسع من شهر رجب لعام 1420 للهجرة.
قوله: [وإن سبَّح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته]
إن سبح به ثقتان لا فاسقان؛ لأن الفاسق لا يقبل خبره.
فإن سبح به ثقتان ولو امرأتان فكذلك؛ لأن هذا خبر ديني فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى.(6/8)
إذاً لو سبح به ثقة فلا يرجع إلى قوله، وإنما يرجع إذا سبح به ثقتان أو أكثر، خلافا لما ذهب إليه إسحاق وأبو حنيفة من أنه يرجع إلى تسبيح الثقة. إذاً المذهب وهو مذهب الجمهور أن الإمام إنما يرجع بتسبيح ثقتين،لا بتسبيح ثقة. وهذا هو الراجح، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى سأل القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا الحديث المشهور وهو حديث ذو اليدين الثابت في الصحيحين وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، فقام رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تُقصر!) فقال ذو اليدين: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، فلما قال له ذو اليدين ما قال، قالوا: بلى يا رسول الله، - أي لقول ذو اليدين – فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين، ثم سلم ثم سجد سجدتين بعدما سلَّم) ، واحتج الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على ما يقرره أهل العلم من أهل الحديث في باب العلل من رد تفرد الثقة عن الثقات، وأنه لا يُقبل ما تفرد به الثقة عن الثقات، قال: " لاسيما إذا كان مجلس سماعهم واحدا "، فهنا الأصل قبول خبر الواحد، لأنه خبر ديني، كما يُقبل الحديث الذي يتفرد به الراوي، لكن لما تفرد أحد المأمومين عن سائر المأمومين كان ذلك مظنة الخطأ والريبة في خبره، ومن ثم لم يقبل الواحد حتى يعضده خبر ثان.
هنا إن سبح به ثقتان:
فقد يكون يترجح عنده خطؤه.
وقد يترجح عنده صوابه.
وقد يتيقن أنه على صواب.
إذاً هذا الإمام الذي سبح به ثقتان:
إما أن يترجح عنده خطؤه، فهنا يجب عليه أن يرجع إلى خبر الاثنين.
الحال الثانية: أن يترجح عنده صوابه، فهنا كذلك يجب عليه أن يرجع، لأن ظن الاثنين أقوى من ظن الواحد.(6/9)
لكن هنا استثنى المؤلف الصورة الثالثة: وهي ما إذا تيقن صواب نفسه يعني إذا كان يتيقن أنه على صواب، وخبرهما غايته الظن، وهو ظن غالب، ولكن لا يصل إلى اليقين، وعلى ذلك فلا يرجع إلى قولهما لأن قولهما ظن، وما يحصل في نفسه يقين.
إذاً إن لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته، لكن إن جزم بصواب نفسه، فإن صلاته لا تبطل، بل لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما وهو يرى أنه على صواب.
قوله: [بطلت صلاته]
إن لم يرجع هذا الإمام الذي قام خامسة يظنها رابعة، فسبح به ثقتان، ولم يعتقد صواب نفسه، فهنا إن لم يرجع فصلاته باطلة، لأنه واجب عليه الرجوع، فإذا ترك هذا الواجب عمدا فصلاته باطلة.
قوله: [وصلاة من تبعه عالما لا جاهلا أو ناسيا]
عالما: بحيث يعلم أن الإمام زاد خامسة، ويعلم أن الواجب على المأموم ألا يتابع الإمام إذا زاد خامسة، فإذا قام وهو يعلم أن ذلك لا يجوز، فإن صلاته أيضا تبطل، لأنها زيادة في الصلاة متعمدة.
قال " لا جاهلا أو ناسيا ": إذا قام جاهلا، يظن أن عليه أن يتابع الإمام إذا زاد. أو ناسيا: قد حصل له من السهو ما حصل لإمامه، فهنا صلاته صحيحة. إذاً إذا تابعه ناسيا ساهيا أو تابعه جاهلا، فإن صلاته صحيحة. والذين تابعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما زاد خامسة في حديث ابن مسعود الذي تقدم، منهم من هو جاهل بالحكم، ومنهم من هو ناس، فلم يبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاتهم.
هل للمسبوق أن يتابع الإمام إذا زاد خامسة؟
الجواب: ليس له أن يتابعه، بل يفارق؛ لأنها زيادة لاغية.
فإن تابعه ساهياً أو جاهلاً، فهل يعتد بهذه الركعة؟
- المذهب: أنه لا يُعتدُّ بهذه الركعة؛ لأنها زائدة لاغية في حق الإمام، فكذلك في حق المأموم.(6/10)
- والقول الثاني، وهو الراجح، وهو قول في المذهب، واختاره الموفق ابن قدامة: أنه يعتد بهذه الركعة؛ وذلك لأنه لم يعتقدها زائدة، فهذا المأموم تابع الإمام على اعتقاده، فكما لو صلى الإمام وهو لم ينو إقامة الصلاة، فلو أن إماماً صلى وهو لم ينو، كأن يكون محدثا، لكن صلى بالناس، فصلاته باطلة، لكن المأمومين – كما تقدم، وكما سيأتي في الكلام على الإمامة - صلاتهم صحيحة، فكذلك هنا. إذاً الراجح أن المسبوق إذا تابعه ناسياً أو جاهلاً، فإنه يعتد بهذه الركعة؛ لأنها وإن كانت زائدة لاغية في حق الإمام، لكنه قد تابعه على وجه يُعذر فيه، فاعتد بهذه الركعة.
قوله: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه]
تقدم هذا، وأن الفعل الكثير يبطل الصلاة، عمده وسهوه. والراجح أن سهوه لا يبطل الصلاة، وذلك لما تقدم في غير ما مسألة من أن باب المنهيات إن فُعل على جهة النسيان، فإن العبد يكون معذوراً لا يؤاخذ وتكون العبادة صحيحة، وهنا الرجل عمل أعمالا كثيرة، لكن على جهة النسيان والسهو، فتحرَّك مثلا حركات كثيرة على جهة السهو، وعلى ذلك فيكون معذورا، وعليه فالصلاة صحيحة، لأن باب المنهيات كما تقدم، لا تُعاد العبادة عند النسيان والجهل، كما تقدم تقريره من الفرق بين باب المنهيات وباب المأمورات.
قوله: [ولا يشرع ليسيره سجود]
رجل الباب بجواره، فطرق الباب طارق، ففتح الباب، أو تحرك بحركات يسيرة لا تبطل الصلاة، قال هنا: لا يشرع له سجود السهو؛ لعدم وروده عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك فلا يشرع له أن يسجد للفعل اليسير الذي لا يبطل الصلاة. إذاً مراده بالفعل اليسير هو الذي لا يبطل الصلاة، قال: فلا يشرع له سجود، وهو كما قال.
قوله: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً أو جهلاً، ولا نفل بيسير شرب عمداً](6/11)
قال: لا تبطل الصلاة بيسير أكل، فقال " بيسير "، وهذا القيد يُخرج الكثير.
لِمَ قيَّد هنا باليسير؟
لأن الأكل الكثير عملٌ كثير، والعمل الكثير في المذهب يستوي فيه السهو والخطأ، فإذا أكل كثيرا سهوا، فالصلاة تبطل.
والراجح وهو رواية عن أحمد: أنه لا فرق بين يسير ولا كثير، فكما أن الكثير في الفعل لا يبطل الصلاة سهوا، فإن الأكل الكثير سهوا لا يبطل الصلاة.
إذاً قوله " بيسير " احتراز من الكثير، فهي فرع عن المسألة، وقد تقدم أن الفعل الكثير يُعذر فيه المكلف بالنسيان، وتُصحَّح عبادته بالسهو، فكذلك الأكل الكثير.
أما لو أكل يسيرا أو كثيرا عمدا، فإن صلاته تبطل بالإجماع؛ لمنافاة ذلك للصلاة، فإن الأكل والشرب ينافي الصلاة، وعلى ذلك فتبطل به الصلاة، وهذا بإجماع العلماء.
وهنا إذا وضع طعاما في فيه، فلا يخلو من حالين:
إما أن لا يمضغه، فهنا لا تبطل الصلاة مع الكراهية، فهذا لا يُعدُّ آكلاً، ولو وضع عِلْكاً في فيه لكنه لم يمضغه، فإن صلاته لا تبطل بذلك.
فإن كان الطعام وضعه في فيه بحيث يتحلل، كما لو وضع سُكَّراً أو نحو ذلك في فيه، فيتحلل هذا السكر، فيدخل جوفه، فإن هذا يُعدُّ آكلاً، وعلى ذلك: فتبطل صلاته.
وأما ما يكون في الأسنان، كأن يطعم ثم يُكبِّر للصلاة، وهناك شيء من الطعام بين أسنانه، فهنا إن كان يجري مع الريق فيدخل الجوف، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا يشق التحرز منه، وأما إن كان هذا الطعام الذي يكون بين الأسنان يحتاج إلى دفع، يعني لا يجري مع الريق، بل يدفعه ثم يدخله إلى جوفه، ففيه قولان:
والمذهب: أنه يبطل الصلاة. وهذا هو الأظهر؛ لأن هذا أكلٌ، فإذا أخرج ما بين أسنانه ثم ابتلعه، يعني دفعه بريقه حتى دخل جوفه، ففيه قولان لأهل العلم، أظهرهما أنه يبطل الصلاة.
إن أكل يسيرا على سبيل الجهل أو النسيان، فإن صلاته لا تبطل.
قوله: [ونفلٌ بيسير شرب عمدا](6/12)
فلو كان يصلى النفل، فشرب عمدا شربا يسيرا، واليسير هنا يرجع إلى العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا. وقوله " شرب " يعني سواء كان ماء أو لبنا مما هو شرب ولا يحتاج إلى مضغ.
وأما الأكل اليسير فإنه يبطل النافلة؛ لأن الأكل يحتاج إلى تحريك فم.
إذاً المذهب أنه إن شرب يسيرا في العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا لا فرضا، إذاً الفرض لا فرق فيه بين الأكل والشرب، فكلاهما يبطل الصلاة، وأما النفل فقالوا: إن الأكل يبطل الصلاة، وأما الشرب فلا يبطل الصلاة إن كان يسيرا؛ قالوا: لأن النفل يُتسامح فيه ما لا يتسامح في الفرض، ولأن هذا مما يقويه على إطالة التطوع، فبعض الناس يصلي الليل ويطيل، فيحتاج إلى أن يشرب شيئا من الماء، قالوا: فلا بأس بذلك، وذكروا ذلك عن ابن الزبير رضي الله عنه، ولم يعزوه، ولم أقف على هذا الأثر.
وقال جمهور العلماء: بل الصلاة تبطل، قال الموفق: " وهو الصحيح في المذهب " إذاً هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وهو الصحيح في المذهب عند الموفق، وهو مذهب الجمهور، أن ذلك يبطل الصلاة؛ لأن ما ثبت فرضا فهو ثابت نفلا. وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة، وقد يُتردَّد حيث كانت الصلاة طويلة كقيام الليل، فقد يقال بما ذهب إليه الحنابلة تسامحا وترغيبا في التطوع، لاسيما لمن يحتاج إلى الشرب، فإن بعض الناس قد لا يصبر، كأن يكون مريضا ويحتاج إلى تكرار الشرب. والله أعلم.
قوله: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه، كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام وقراءة سورة في الأخيرتين]
قرأ مثلا الفاتحة في السجود أو الركوع.
" وقعود ": قرأ القرآن مثلا في القعود.
" وقراءة سورة في الأخيرتين " وهذا على القول بأنه لا يشرع، وتقدم أنه يستحب أحيانا.(6/13)
هنا إذا أتى بقول مشروع في الصلاة، لكنه في غير موضعه، كأن يقرأ القرآن في غير القيام، أو أن يتشهد في غير الجلوس في الركعتين، والجلوس في آخر الصلاة، وكأن يسبح في القيام والرفع في من الركوع أو يحمد الله في ركوعه أو سجوده أو غير ذلك، فهنا أتى بقول مشروع في غير موضعه، فلا تبطل الصلاة به.
قوله: [ولم يجب له سجود بل يُشرع]
فالصلاة لا تبطل، لأن الأصل أن الصلاة صحيحة، ولا دليل يدل على بطلانها، لكن هل عليه سجود سهو أم لا؟
قال هنا " ولم يجب له سجود، بل يشرع "، يعني لا يجب أن يسجد، لكن يستحب له السجود.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب، يعني لا يشرع أيضا. وهذا هو الراجح؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أحاديث سجود السهو، ليس فيها السجود عن قراءة أو ذكر في غير موضعهما – ليس ذلك في سجدات النبي عليه الصلاة والسلام -، فليس بمنصوص عليه، وليس بمعنى المنصوص – يعني ولا مُلحقاً بالمنصوص عليه -.
إذاً المذهب لا يجب السجود، لكنه يشرع، إذاً جعلوها كالمسألة السابقة فيما لو ترك بعض المستحبات، فلو ترك مستحبا من المستحبات فإنه لا يجب السجود، لكن يشرع، وتقدم أن الراجح أنه لا يشرع. إذاً لا يشرع له سجود سهو، فالسجود إنما ورد بالأفعال، ولم يرد في باب الأقوال، يعني في باب الزيادة.
قوله: [ولم سلَّم قبل إتمامها عمدا بطلت]
إن سلم قبل إتمام الصلاة عمدا، بطلت، وهذا باتفاق العلماء، وهذا واضح، كما لو تكلَّم عمدا، فهنا قد تحلَّل من صلاته حيث لم يؤمر، وصلى صلاة على غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما كان على غير هديه وأمره، فهو رد.
قوله: [وإن كان سهواً ثم ذكر قريبا أتمها وسجد](6/14)
سلَّم في الظهر عن ركعتين أو ثلاث، سهوا، فهنا أتمها وسجد، كما تقدم في حديث ذي اليدين. إذاً إن سها فسلَّم قبل إتمامها، فإن الواجب عليه أن يتم الصلاة وأن يسجد بعد السلام كما تقدم.
لكن قال هنا " ثم ذكر قريبا " يعني قريبا في العرف، فلو أن الإمام سلَّم في صلاة العشاء مثلا عن ركعتين، ثم إنه جلس يذكر الله، وكلّمه بعض الناس ببعض الشيء، ثم قال له اثنان من المصلين: إنك قد سلمت عن ركعتين، ولم يتيقن صواب نفسه، هل هذا قريب في العرف؟ هذا قريب في العرف، وعلى ذلك: يصلي ركعتين ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، فإن خرج إلى بيته، وتذاكروا بعد خروجه، أو أخبروه لما حضر إلى الصلاة الأخرى، فالواجب عليهم هنا الإعادة؛ لأنهم لم يذكروا قريبا – في العرف – يعني بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، فإن هذا بعيد في العرف. هذا هو مذهب جمهور العلماء. إذاً جمهور العلماء قالوا: إن ذكرها قريبا، فإنه يتمها ويسجد، وإن لم يذكر قريبا، فإنه يعيد.(6/15)
وذهب طائفة من السلف، وهو قول الأوزاعي ومكحول، وهو منقول عن الإمام أحمد رحمه الله، يعني نُقل عن الإمام أحمد ما يدل عليه، كما قال ذلك ابن رجب، قالوا: إنه يتمها ولو طال الفاصل عرفا، فلو صلوا العشاء مثلا ثلاث ركعات، فلما أتوا الفجر، نبههم بعض المصلين، فإنهم يتمونها، ولا تجب عليهم الإعادة. وهذا هو ظاهر حديث عمران في صحيح مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلَّم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحُجرة، فقام إليه رجلٌ بسيط اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة؟ فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُغضَباً، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم " فهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المسجد ودخل حجرته، ثم قام إليه هذا الرجل، وفي الغالب يكون في ذلك تأخر، لما عُلم من الصحابة من هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترددهم لعل الصلاة تكون قد قُصرت، ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجرته وأتم صلاته ولم يستأنفها عليه الصلاة والسلام. وهذا القول هو الأقرب. وجمهور العلماء على أنه إن كان ذلك قصيرا في العرف، فإنه يبني وإلا فإنه يستأنف.
فإن دخل في صلاة، كأن يصلى ثلاث ركعات، ثم وهو يتنفل تذكر أنه صلى ثلاث ركعات، أو علم الإمام فنبه المأمومين، فقاموا ليصلوا: فيُبطل الصلاة الذي هو فيها ويقطعها؛ لأنه ما زال في الصلاة الأولى، فيقطع الصلاة التي هو فيها، ثم يتم صلاته التي لم يتمها. إذاً: إذا شرع في صلاة، فإنه يقطعها ويتم الصلاة التي قد نسي منها.
قوله: [فإن طال الفصل – عرفا بطلت – أو تكلم لغير مصلحتها بطلت]
الإمام بعد أن سلَّم من ثلاث ركعات، قال: يا فلان أطفئ الميكرفون، فهذا لغير مصلحتها، ثم قالوا له: إنك لم تصل إلا ثلاث، وثبت له ذلك، فأراد أن يقوم ليصلي؟
نقول: لا، عليك أن تستأنف؛ لأنه تكلم لغير مصلحتها.(6/16)
والراجح خلاف هذا، كما سيأتي في باب الكلام، وأن من تكلم سهوا فإن صلاته لا تبطل، وكذلك هنا، ولذا قال المؤلف:
[ككلامه في صلبها]
لو أن رجلا سها في الصلاة، فمر عليه أحد أولاده، فناداه سهوا، أو قال يا فلان سهوا، فهنا الكلام ليس لمصلحة الصلاة. فيبطلها في المذهب. والراجح أنه لا يبطلها كما سيأتي، فكذلك هنا، فلو قال: أطفئ الميكروفون، أو افعل أو لا تفعل، فإن الصلاة لا تبطل؛ لأن ذلك على سبيل السهو، لكن إن علم، فهل له أن يتكلم بعد، علم أن في الصلاة نقص، فتكلم عالما، فالصلاة تبطل؛ لأنه لما سلَّم قبل، ما زال في الصلاة حتى يتمها. إذاً الكلام هنا لغير مصلحتها سهوا، لكن لو تكلم على سبيل العمد، فإن الصلاة تبطل بذلك، وهذا واضح.
إذا تذكر الإمام أنه لم يصل الرابعة؟
– فالمذهب: أنه يجب أن يقعد ثم يقوم فيتم الرابعة؛ لأن الواجب عليه أن ينتقل من الركن إلى الركن، فإن هذا الرجل سلم من ثلاث، فالواجب عليه إذا أراد أن يتم الرابعة أن يقعد، ثم يقوم، ليأتي بالانتقال إلى الرابعة.
– والقول الثاني في المسألة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: أنه لا يجب ذلك، ولا يشرع، بل يتمها عن قيام، يعني إذا كان قائما، فإنه يتمها عن قيام، لأن هذا الانتقال ليس مقصودا لذاته، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمران وحديث أبي هريرة لم يثبت أنه قعد ثم قام، ولو كان ذلك ثابتا لنقل لنا.
قوله: [ككلامه في صلبها](6/17)
الكلام السابق ليس في صلبها، فإنه قد سلم، ثم نُبِّه فتنبه، لكن إذا تكلم في صلبها، فإن الكلام في الجملة يبطل الصلاة، على خلافٍ في التفاصيل. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: " كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه عن جنبه، حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام " متفق عليه، وقوله " ونهينا عن الكلام " تفرد بهذه الزيادة مسلم، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة نسلِّم عليه فيرد علينا، فلما أتينا من الحبشة سلمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا) ، وقال كما في صحيح مسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، فالكلام مبطل للصلاة في الجملة باتفاق العلماء، لكن الخلاف في تفاصيل ذلك. والمذهب - كما قال المؤلف هنا " ككلامه في صلبها " -: أن الكلام مطلقا يبطل الصلاة، مطلقا يعني سواء كان سهوا أو عمدا، سواء كان عالما أو جاهلا، سواء كان كلامه واجبا أم لم يكن واجبا. واجبا: كما لو كان لانقاذ من يُخشى عليه الهلكة، أو لم يكن ذلك، سواء كان مكرها أم لم يكن مكرها، قالوا: فإن الصلاة تبطل بذلك. هذا هو المشهور في المذهب.(6/18)
والراجح في هذه المسألة، وهو مذهب الشافعية: أن من تكلم جاهلاً أو ساهياً أو مكرهاً أو لانقاذ من يخشى هلكته – يعني كان كلامه واجباً -، فإن الصلاة لا تبطل، ويدل على هذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، فإنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إذ عطس رجل من القوم، فقال: الحمد لله، فقلت: يرحمك الله؛ لأنه كان حديث عهد بالإسلام، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل أُمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمتُ أنهم يصمِّتونني، لكني سكتُّ " يعني كدتُ أن أتكلم وأن أقابلهم بشيء من الكلام لكني سكت، قال: " فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي وأمي، ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، والله ما كَهَرَني – أي ما قهرني - ولا شتمني ولا ضربني، ولكن قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، قالوا: فهذا يدل على أن الجاهل لا تبطل صلاته إن تكلم، قالوا: والجاهل هو الذي يكون حديث عهد بإسلام أو نحوه، كالذي يكون في بادية، كبعض الأعراب، وأما إن لم يكن كذلك، فصلاته تبطل لتقصيره في التَّعلُّم. إذاً يُعذر بالجهل حيث لم يكن مفرِّطا في التعلم.
قالوا: وإن كان يتكلم، وهو يعلم أن الكلام حرام، لكنه يخفى عليه أنه يُبطل الصلاة، فإنه صلاته تبطل، كما لو زنى وهو لا يعلم حدَّ الزنا، فإنه يقام عليه الحد.
وأما النسيان والسهو، قالوا: فالأحاديث المتقدمة، لما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم مع أصحابه، وكان ذلك سهوا، فلم يُبْطِل الصلاة.(6/19)
قالوا: ويقاس عليه المُكرَه، إذاً يقاس الناسي على الجاهل، ويقاس المكره على الجاهل. ويقاس أيضا من تكلم كلاما واجبا، كأن يكون هناك رجل أعمى يريد أن يسقط في بئر أو طفل يريد أن يمس الكهرب، فينادي هذا المصلي أمَّ هذا الطفل لتحمله، فهنا هذا الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، قالوا: والكلام هنا واجب، والمتكلم هنا معذور، فيكون ككلام الجاهل والناسي. وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. فالراجح ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسائل، وأن كلام الجاهل والناسي والمكره وكلام من لابد له من الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، فلا يكفي التنبيه والتسبيح، بل لابد من الكلام، فتكلم، فلا حرج عليه.
قوله: [وإن كان لمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل]
هذا إذا كان الكلام في غير صلبها، وأما إذا كان في صلبها، فإن الصلاة تبطل، في المذهب. يعني الكلام هنا راجع إلى المسألة السابقة، يقولون: إذا تكلَّم لمصلحتها يسيرا لم تبطل، وإن تكلم لمصلحتها كثيرا بطلت، هذا فيمن سلَّم يظن أن الصلاة قد تمت.
قوله: [وقهقهة ككلام]
القهقهة: هي الضِّحكة التي يكون معها صوت، فهذه تبطل الصلاة، وفي الدارقطني عن جابر مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القهقهة تنقض الصلاة، ولا تَنْقُض الوضوء) ، ولا يصح مرفوعا، بل الصواب وقفه على جابر، ولا يُعلم لجابر مخالف، وهذا هو مذهب عامة العلماء، وأن القهقهة تبطل الصلاة.
* لكن إن غلبه ذلك، ولم يكن ذلك عن اختيار، فهل تبطل الصلاة أم لا تبطل؟
الذي يترجح أنها لا تبطل، كما لو سبقه الكلام، حتى في المذهب.(6/20)
رجل وهو يقرأ القرآن في رمضان، ردوا عليه، فالذي اعتاد على التسميع، قد يتكلم، فيقول: لا، أو: نعم، فهذه كلمة، لكنها سبق لسان، غلبت عليه، فهنا لا تبطل الصلاة حتى في المذهب، لأن هذا يشق التحرز منه كبعض الناس يمشي طفل أمامه فيريد أن يسقط، فيقول: لا، أو نحو ذلك، فتخرج على غلبة لا عن اختيار، فهذه لا تبطل حتى في المذهب، فكذلك أيضا في القهقهة.
وأما التبسم، فإنه لا يبطل الصلاة عند عامة العلماء، وليس هناك ما يدل على الإبطال.
قوله [وإن نفخ – قال: أُف في الصلاة – أو انتحب – يعني رفع صوته بالبكاء – من غير خشية الله تعالى]
يعني لم يكن ذلك من خشية الله تعالى، فإذا انتحب من غير خشية الله تعالى أو قال: أُف، من غير خشية الله.
قوله: [أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت]
فإن قال: أُف، بان الآن حرفان، أو تنحنح، بان أيضا حرفان، هما الهمزة والحاء، أو انتحب، يعني بكى، فخرج شيء من الصوت، وكان ذلك حرفين، فإن الصلاة تبطل. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.(6/21)
والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك، بل هو ظاهر مذهب مالك، كما قال شيخ الإسلام، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا ليس بكلام، فإن كلمة أف، أو التنحنح أو نحو ذلك، ليس بكلام في لغة العرب، وإنما هو بالطبع دال على المعنى، يعني بالطبع يدل على المعنى لا بالوضع، ولذا تجد أن اللغات تتفق عليه، فكل البشر يتفقون على النحنحة والتأفيف، كالبكاء يدل على التحسر، وكالضحك يدل على الاستبشار، فكذلك هذه الأصوات، فهي ليست كلاماً بالوضع، وإنما هي كلام بالطبع، وعلى ذلك يكون لها حكم الحركات، ومعلوم أن الحركات اليسيرة لا تبطل الصلاة، وقد روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده في صلاة الكسوف: أف، أف، وإن كان هذا من خشية الله، والحنابلة لا يربطون بذلك، لكن الحجة والعمدة على ما تقدم تقريره، ولذا فإنهم يقولون: " أو تنحنح من غير حاجة "، نقول: لو قال رجل " لا " عمدا لحاجة، فهل تبطلون صلاته؟
صلاته تبطل في المذهب، وإذا تنحنح لحاجة، قالوا: لا تبطل صلاته، فإذا كان كلاما، فلا ينبغي التفريق بينهما، ما دام أن كليهما كلام فلا يصح التفريق بينهما، فهذا التفريق يدل على ترجيح القول السابق. إذاً الراجح أن النحنحة أو التأوُّه، وهو قول: آه، بالمد أو الأنين وهو بالهمزة والهاء يعني بالقصر " أه " يعني يئنُّ، فإن هذا ليس بمبطل للصلاة كما تقدم تقريره. والله أعلم. انتهى الدرس الثاني في ليلة الاثنين السادس عشر من رجب لعام 1420 للهجرة.
فصل
قوله: [ومن ترك ركنا فذكره بعد شروعه في قراءة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوبا فيأتي به وبما بعده](6/22)
هذه المسألة فيمن ترك ركنا من أركان الصلاة، ويستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام، لأن تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة إلا بها، فمن نسي تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته.
فإذا نسي ركنا سوى التكبيرة، كركوع أو سجود أو قيام أو غير ذلك من أركان الصلاة، فإما أن يذكر ذلك بعد أن يشرع في قراءة الفاتحة من الركعة الثانية، وإما أن يذكر ذلك قبلُ:
مثال للصورة الثانية: لو أنه ترك السجود الثاني، يعني سجد سجدة ثم قام ولم يجلس للفصل بين السجدتين، ولم يسجد السجدة الثانية، فتذكر قبل أن ينتصب قائما أو تذكر بعد أن انتصب قائما ولم يشرع في قراءة الفاتحة فما الحكم؟ هذه الصورة الثانية، فهذه الصورة أجمع أهل العلم، كما حكى الإجماع المجد ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقال الموفق: " ولا أعلم في هذه المسألة مخالفا "، على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فيأتي به. فقبل أن يستتم قائما تذكر أنه إنما سجد سجدة واحدة، فنقول له: ارجع فاجلس للفصل بين السجدتين، ثم اسجد السجدة الثانية، وكذلك إذا تذكره وقد انتصب قائما قبل أن يشرع في الفاتحة، فنقول أيضا: ارجع، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. لو ترك مثلا الركوع، وهو منتصب قائما حصل له سهو، فسجد ولم يركع، فتذكر أنه لم يركع وهو ساجد، نقول له: ارجع فاركع، ثم اعتدل قائما، وإذا تذكره وهو في الجلسة بين السجدتين، نقول له: ارجع فاركع. إذاً الواجب عليه أن يرجع ما لم يشرع في الفاتحة، هذا بالإجماع.
فإن شرع فما الحكم؟(6/23)
قال الحنابلة: إن شرع لغت التي قبل، وقامت التي بعدُ مكانها، فتلغى الركعة وتقوم الأخرى مكانها. لمّا شرع في فاتحة الكتاب تذكَّر أنه ترك سجدة أو ركوعا في الركعة التي قبل، فنقول له: تقوم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى، ولو تذكر في الركعة الثالثة أو الرابعة، تكون رابعته ثالثة، وتكون ثالثته ثانية، وهكذا، يعني هذه تقوم مقام هذه وإن لم ينو، فلو تذكر في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة في الركعة الأولى، فنقول له: قد قامت الثانية مقام الأولى، وقامت الثالثة مقام الثانية، إذاً تَلغى الركعة التي سها فيها وترك ركنا، إذا شرع في قراءة التي بعدها.(6/24)
وقال الشافعية، وهو قولٌ في المذهب: بل لا تلغو هذه الركعة، وإنما إن وصل إلى الركن الذي يقابلها، قام هذا الركن الذي يقابل، مكان الركن الذي ترك، وإما إن لم يصل فيجب عليه الرجوع وإن شرع في الفاتحة، فعلى المثال المتقدم في الذي ترك الفصل بين السجدتين وترك السجدة الثانية، فلمَّا شرع في الفاتحة تذكَّر، فيقول الشافعية: ارجع فائتي بالجلسة بين السجدتين والسجود الثاني، وإذا ذكره وهو راكع نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره بعد أن رفع من الركوع، نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره وهو في السجدة الأولى، نقول كذلك: ارجع، فلما وصل إلى الفصل تذكَّر يعني لما جلس بين السجدتين في الركعة الثانية تذكر أنه لم يكن جلس للفصل بين السجدتين في الركعة الأولى، فنقول: قام هذا الجلوس مقام الذي تركت، وأما ما حصل بين ذلك، قد وقع في غير موقعه، فيكون لاغيا , وهذا القول أصح، وذلك لأن القول بأن الركعة تلغو فيه إبطال لما قد وقع في موقعه وصح، لأنا على ذلك سوف نبطل فاتحته وركوعه والرفع من الركوع وسجدته الأولى، فهذه كلها وقعت في موقعها وكانت صحيحة، وأما على مذهب الشافعية فإنهم يصححون ما وقع في موقعه، وأما الذي لم يقع في موقعه، فإنهم يقولون إنه باطل. أيضا نقول: ما الفرق بين ما إذا انتصب قائما وبين ما إذا شرع في القراءة؟
تقدم لكم أنه إن انتصب قائما، فإن الإجماع على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فما هو الفرق بين القيام وبين ما إذا شرع؟(6/25)
قالوا: إن القيام ركن غير مقصود. وهذا فيه نظر، بل القيام ركن مقصود، بدليل أن من لم يكن قارئا يجب عليه القيام. إذاً الراجح ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول في مذهب أحمد: أنه إن ترك ركنا في ركعة، فنقول: إن وصل إلى هذا الركن في الركعة التي بعد، قام هذا الركن مقام الذي ترك، وأما إذا لم يصل، فيجب عليه الرجوع، فإذا لم يتذكر إلا بعد، فكما تقدم في ما ذكره الحنابلة، فإذا لم يتذكر إلا في آخر الصلاة، كأن يتذكر في الركعة الرابعة أنه لم يكن قد سجد ولم يكن قد جلس للفصل في الركعة الأولى، نقول: أنت الآن في الركعة الثالثة.
قوله: [وقبله يعود وجوبا]
يعني قبل الشروع في القراءة يعود وجوبا.
[فيأتي به وبما بعده]
قوله: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة]
رجل لما سلّم، ذَكَر– وليس شكا، لأن الشك بعد العبادة لا يؤثر اتفاقا – أنه قد ترك ركنا من أركان الركعة الأولى، أو من أركان الركعة الثانية، فما الحكم؟
قال هنا " يأتي بركعة كاملة "، فإذا تذكر مثلا أنه لم يكن قد سجد السجدة الثانية، ولا الجلوس التي بعده في الركعة الرابعة، يعني سجد السجدة الأولى، ثم جلس فتشهد فسلّم، فقالوا: يأتي بركعة كاملة.(6/26)
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يأتي بما ترك وما بعده، فنقول له: اجلس الجلسة بين السجدتين، ثم اسجد، ثم اجلس فتشهد، وكذلك ما لو ترك ذلك في الركعة الأولى، فتكون الجلسة في الركعة الثانية، والسجود الذي بعدها قام عن الركعة الأولى، والثالثة قام عن الثانية، والرابعة قام عن الثالثة، فأصبح النقص راجع إلى الرابعة، وإن كان في الأولى؛ لأن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها حتى نصل إلى الركعة الرابعة. وهذا القول أصح، وعلى ذلك: فنأمره أن يأتي بما ترك، لأنه إنما ترك شيئا من الركعة، ولم يترك الركعة كاملة، فيصلي ما ترك، ويسجد سجدتين للسهو. إذاً الراجح أنه يأتي ما ترك وما بعده، أما الذي قبله فلا يأتي به؛ لأنه قد وقع موقعه، فإذا قلنا بأن الركعة كاملة تلغو، فإن في ذلك إبطالا لما وقع في موقعه، بل نأمره بأن يأتي بما ترك؛ لأنه لم يفعله، وأن يأتي بما بعده؛ لأن ما بعده ترتب على خطأ فوقع في غير موقعه. إذاً الراجح أنا نأمره بأن يفعل ما ترك، وما بعده، لكن كما تقدم يُتنبه أن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها، فالخلل الذي يكون في الركعة الأولى يُسدُّ بالركعة الثانية، والنقص الذي حصل في الثانية يُسدُّ في الثالثة، ويلغو ما بين ذلك، حتى نصل إلى الرابعة.
قوله: [وإن نسي التشهد الأول]
وتقدم أن التشهد الأول على الراجح واجب من واجبات الصلاة.
قوله: [ونهض]
بأن فارق فخذاه ساقيه، وأما إن لم ينهض كأن يتهيأ للقيام، ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، لكن الكلام هنا حيث نهض، ففارق الفخذان الساقين، ونهض للقيام.
قوله: [لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً، فإن استتم قائما كره رجوعه، وإن لم ينتصب - قائما – لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرُم الرجوع]
إذاً أصبح عندنا ثلاثة أحوال، ولك أن تقول أربعة أحوال:(6/27)
الحال الأولى: ألا ينهض، كأن يتهيأ للقيام ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، ولا يلزم سجود سهو.
الحال الثانية: أن ينهض ولا يصل إلى القيام.
الحال الثالثة: أن ينتصب قائما.
الحال الرابعة: أن يشرع في القراءة.
فقالوا: إذا شرع في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا بالاتفاق.
الحالة التي قبلها، انتصب قائما، وقبل أن يشرع في القراءة تذكر أنه قد ترك الجلوس للتشهد، فما الحكم؟
قال هنا: " كُره الرجوع "، لكن لو رجع، فلا بأس بذلك.
الحال التي قبلها: أن يكون في الحالة النهوض ولم ينتصب بعد – لم يصل إلى القيام -، فهنا يجب عليه الرجوع.
إذاً باستثناء الحالة السابقة التي لم ينهض فيها، نقول: إذا نهض ولم يستتم قائما بعد، فيجب عليه الرجوع، فإن انتصب قائما، كره الرجوع، فإن شرع في القراءة حرم الرجوع.
أما ما ذكروه في أنه يحرم الرجوع إذا شرع في القراءة، فقد تقدم لكم أن هذا بالاتفاق.
وأما ما ذهبوا إليه من أنه إذا انتصب قائما، فليس له الرجوع، فهذا هو المشهور في المذهب، فإذا انتصب قائما كره الرجوع، ولم يحرم الرجوع، هذا قول في المذهب، وهو المشهور فيه.(6/28)
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يحرم الرجوع أيضا. وهذا هو الراجح؛ وذلك لأنه اشتغل بركن، لأن القيام ركن، فاشتغل بركن، كما لو اشتغل بالقراءة، فإنه إذا اشتغل بالقراءة فليس له الرجوع، فكذلك إذا انتصب قائما، لأنه شرع في ركن. وأما التفريق بينهما بأن القيام ركن غير مقصود، وأن القراءة ركن مقصود، فهذا فيه نظر كما تقدم، وعلى ذلك فالراجح أنه ليس له أن يرجع، وقد ثبت في الصحيحين، وهو الأصل في هذه المسألة التي يذكرها المؤلف هنا من حديث عبد الله بن بُحينة رضي الله تعالى عنه قال: " صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر فقام في الركعتين ولم يجلس، وقام الناس معه، فلما قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه، كبَّر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم ثم سلَّم " فهذا الحديث هو الأصل في هذه المسألة، وهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام، ولم يرجع، وهذا القيام عام فيما إذا قام ولم يشرع في القراءة بعد، وفيما إذا شرع في القراءة. إذاً الراجح أنه إذا انتصب قائما فليس له الرجوع. أما إن لم ينتصب قائما فهنا لا إشكال أنه يرجع، لأنه لم يشتغل بركن، فيجب أن يرجع ويأتي بالواجب الذي تركه؛ وذلك لأنه لم يدخل في ركن، لأنه إذا دخل في ركن ثم رجع، كان في ذلك زيادة هذا الركن الذي اشتغل فيه، ثم تركه ثم عاد إليه. إذاً على ذلك نقول: أنه إن تذكر قبل أن ينتصب قائما فإنه يجب عليه الرجوع، وأما إذا انتصب قائما فليس له الرجوع على الصحيح، سواء شرع في القراءة أو لم يشرع فيها.
قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع]
فإن رجع عمدا بطلت صلاته، لأن القاعدة أنه إن مضى حيث يجب الرجوع، أو رجع حيث يجب المضي، فإنه يكون تاركا للواجب، ومن ترك الواجب عمدا بطلت صلاته:(6/29)
يعني إذا كان بحيث يجب عليه الرجوع، مضى، - ويجب عليه الرجوع فيما إذا لم يستتم قائما – عامدا وعالما بالحكم، فنقول: إن الصلاة تبطل، لأنه ترك واجبا في الصلاة عمدا.
وإذا رجع حيث يجب المضي، فكذلك: فإذا استتم قائما أو شرع في القراءة، فإنه يجب عليه المضي، فإذا رجع فإنه يكون قد رجع حيث يجب المضي عامدا، فتبطل الصلاة.
وهذه المسألة، وهي ترك التشهد الأول، يُلحق فيها ترك كل واجب، فإذا ترك التسبيح في الركوع، فتذكر قبل أن يستتم قائما، فنقول له: راجع فسبِّح، فإن استتم قائما، فنقول: لا ترجع. إذا ترك قول: رب اغفر لي، في الجلسة للفصل بين السجدتين، فتذكر أن قبل أن يصل إلى السجود، نقول له: ارجع، فإن تذكر وقد وصل إلى السجود، نقول له: لا ترجع. إذاً هذه المسألة عامة في ترك كل واجب، كما هو الصحيح في المذهب.
قوله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل]
إذا شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثا أم أربعا، قال: " أخذ بالأقل "؛ لما ثبت في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم، وفيه زيادات ليست في البخاري، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن – والمتقين هو الأقل -، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته – أي شفعت هاتان السجدتان له صلاته – وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان) ، إذاً يأخذ بالأقل.
ولا فرق في هذه المسألة بين الإمام والمنفرد، وظاهر المذهب أن ذلك في المنفرد، وأما الإمام فإنه إنما يأخذ بالأقل حيث لم يكن عنده تحري، وأما إذا كان عنده تحري فإنه يأخذ بما تحراه.
ظاهر المذهب التفريق بين المنفرد وبين الإمام.
وظاهر كلام المؤلف هنا، هو قول في المذهب أنه لا فرق بين الإمام ولا المنفرد.(6/30)
وأما ظاهر مذهب الإمام أحمد فإنه قال في الإمام: أنه يتحرى، فإذا كان الشك يستوي فيه الطرفان، فيأخذ بالأقل، وأما إذا كان هناك تحرٍّ بتسبيح المأمومين خلفه، لكن لم يكن عنده يقين، بأن يسبِّح واحد فقط بحيث لا يجب عليه الرجوع، فحصل عنده تحر، فرجَّح أحد الطرفين، فهنا يبني على ما تحرى.
كأن يقول الإمام: أنا أشك، هل صليت ثلاثا أم أربعا؟ لكنه لما جلس للثالثة سبَّح به المأموم الذي خلفه، فأصبح عنده ترجيح أنه قد شك، وأنه إنما صلى ثلاثا، فهنا يصلي رابعة، ويكون سجوده بعد السلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فيتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، متفق عليه، وفي رواية للبخاري (فليتم ثم يسلَّم ثم يسجد) (1) ، إذاً السلام قبل السجود.
واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد: أن لا فرق بين منفرد ولا إمام، وهذا هو الراجح، وعلى ذلك تكون القاعدة واضحة وهي: أنه إن كان عنده تحر، سواء كان منفردا أم إماما، فإنه يعمل بتحريه وليسجد سجدتين بعد السلام، وإما إذا كان ليس عنده تحري، فليبن على الأقل، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم.
__________
(1) قال ابن حجر في الفتح: " تنبيه لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود ولا في رواية الزهري التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعاً: " إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم " إسناده قوي، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ: " وهو جالس قبل التسليم "، وله من طريق ابن إسحاق، قال حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه: " فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم " قال الملائي: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به، والله أعلم ".(6/31)
شك وهو في الرابعة، هل هي الثالثة أم الرابعة؟ فترجَّح في نفسه أنها الرابعة، سواء كان منفردا أم إماما، فنقول: اجعلها الرابعة، ولا تبن على الأقل، وسلِّم، ثم اسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح وهو اختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين الإمام والمنفرد. فإذاً عندنا الشك نوعان:
شك مع استواء الطرفين، وشك مع الترجيح.
فإذا كان مع استواء الطرفين، فيبني على الأقل، ويسجد سجدتين قبل السلام.
والثاني: شك مع التحري، يعني مع الترجيح، فهنا: يبني على ما تحرى ويسجد سجدتين بعد السلام.
ويُلحق بذلك المأموم الذي أتى والإمام راكع، فشك وقد كبَّر تكبيرة الإحرام، هل أدرك الإمام راكعا أم لا؟
نقول له: هل عندك تحرٍّ؟ فإن قال: نعم، نقول: ابن على تحريك. وإن كان عنده شك بلا ترجيح، فنقول: ابن على أنك لم تدرك الإمام، وعلى ذلك فلا تحسب هذه ركعة لك.
إذا شك المأموم الواحد؟
رجل خلف إمام، وهو واحد، فشك هل صلى إمامه ثلاثا أم أربعا، فشك هذا المأموم في صلاة إمامه، فما الحكم؟
المذهب: أن المأموم لا يرجع إلى إمامه، فلو سلَّم الإمام والمأموم عنده شك، فنقول له: ابن على الأقل، وقم وصل ركعة.
والقول الثاني وهو الصواب: أنه يرجع إلى قول إمامه، ولو كان المأموم واحدا، أما لو كان مع المأموم مأموم آخر، لحصل له بسكوت المأموم الآخر عن التسبيح زوال للشك، لكن هنا المأموم واحد. فنقول: بل يرجع إلى الإمام ولو كان واحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الإمام ضامن) ، وعلى ذلك فيرجع إلى قوله.
إذا حصل تيقن بعد؟
رجل شك، وأثناء الصلاة زال الشك وحصل اليقين، فهنا لا عبرة بهذا الشك، ولا يسجد للسهو؛ لأنه لما زال الشك، زال موجَبُه، فموجب الشك السجود، فلما زال الشك زال موجَب الشك وهو السجود. وهذا واضح.
قوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه](6/32)
رجل شك، هل ترك الركن أم لم يتركه؟
نقول له هذا كتركه؛ لأنه يُبنى على الأقل كما تقدم في المذهب، والأقل – المتيقَّن – هو الترك، وعلى ذلك نقول: ارجع إليه إن لم تكن قد شرعت في القراءة، هذا على المذهب.
وعلى القول الثاني، نقول: ارجع إليه ما تصل إلى الركن الذي بعده.
يعني لما انتصب قائما قال: أنا لا أدري هل سجدت وجلست للفصل بين السجدتين أم لا – عنده شك -، نقول له: ارجع، وكذلك إذا شرع في القراءة على الصحيح.
والراجح أيضا أنه إن كان عنده تحري، فإنه يرجع إلى تحريه، وذلك لعموم الحديث، فيقول: هل جلست للفصل وسجدت أم لا، لكن الراجح عندي أني جلست وسجدت، فنقول له: ابن على ذلك، واسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح أن هذه المسألة داخلة أيضا في عموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قوله: [ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة]
إذا شك في ترك واجب، فقال: أنا لا أدري هل جلست للتشهد الأول أم لا؟ أو قال: لا أدري هل سبَّحتُ في الركوع أم لا؟
فيقول هنا " ولا يسجد لشكه في ترك واجب؛ قالوا: لأن الأصل عدم السجود.
إذاً قالوا: إذا ترك الركن، فهذا كترك الركن، لكن إن شك في ترك واجب، فهل يكون كترك الواجب؟
قالوا: ليس كترك الواجب، وعلى ذلك: فإنه لا يسجد، لأن الأصل عدم السجود.
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أن الشك في ترك الواجب كتركه أيضا، وهذا هو الراجح؛ لعمومات الأدلة.
وأما قولهم " الأصل عدم السجود "، فنقول لهم أيضا: الأصل عدم فعل الواجب مع الشك، رجل شك، يقول: لا أدري أجلست للتشهد الأول أم لا، فما هو الأصل؟
الأصل أنه لم يجلس، وعلى ذلك فنبني على هذا الأصل، ونوجب عليه سجود السهو.(6/33)
إذاً المذهب: أن من شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فليس كتركه، لكن الراجح أنهما سواء، فمن شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فكتركه أيضا، فيجب السجود في المسألتين جميعا.
قوله: [أو زيادة]
هنا شك، قال: لا أدري أصليت أربعا أم خمسا؟ فالشك هنا في الزيادة، الحديث الذي تقدم قال فيه (ثلاثا أم أربعا) ، لكن هنا شك، فلا يدري أصلى أربعا أم خمسا، أو شك هل ركع ركوعا أو ركوعين، أو هل سجد سجودين في الركعة أم ثلاث سجودات، فحصل له شك، لكن الشك هنا في الزيادة؟
فهنا لا يجب عليه السجود، لأن الأصل عدم الزيادة، والأصل أيضا عدم السجود. هناك في النقص قلنا: عدم الفعل، لكن هنا نقول: الأصل عدم الزيادة، ولذا إذا شك، لما جلس للتشهد حصل عنده شك يقول: لا أدري هل صليت خمسا أم أربعا؟
فنقول له: لا تسجد؛ لأن الأصل عدم الزيادة. والله أعلم. اتنهى الدرس الثالث من سجود السهو في ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة.
قوله: [ولا سجود على مأموم إلا تبعا لإمامه]
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: فيما إذا سها الإمام، فيجب على المأموم أن يتابعه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) ، فإذا سها الإمام فيجب على من خلفه السجود، سواء حصل منهم سهو مع الإمام أم لم يحصل منهم، فهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام (وإذا سجد فاسجدوا) .
فإن لم يسجد الإمام وقد حصل منه ما يوجب السجود، فإذا لم يسجد وكان واجبا عليه السجود، فهل يجب على المأموم - حيث ترك الإمام السجود – السجود؟(6/34)
قال جمهور العلماء: يجب عليه السجود؛ وذلك لأن الصلاة فيها نقصٌ، لأنه لما سها الإمام حصل في الصلاة نقص، وعلى ذلك: فلابد من جبران هذا النقص، لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام، فإذا حصل سهو من الإمام، كأن يقوم إلى خامسة مثلا، فلا يتابعه المأمومون، ثم إنه جلس، فيجب على المأموم هنا سجود سهو، فإذا لم يسجد الإمام، فهل يسجد من خلفه أم لا؟ قال جمهور العلماء: يجب، لأن الصلاة فيها نقص، وعلى ذلك فيجب جبران هذا النقص. وهذا القول قول ظاهر، لكن يستثنى من ذلك على الصحيح ما لو كان الإمام لا يرى وجوب السجود عليه، كأن يكون ممن يختار عدم السجود في هذا الموضع، فحينئذ لا يجب على المأموم أن يسجد، وذلك لأنه لا نقص في الصلاة، فلا نقص في صلاة الإمام، وإنما يكون فيها نقص حيث ترك سجودا يجب عليه أن يسجده.
إذاً: إذا حصل من الإمام سهو فلم يسجد، وكان يرى وجوب السجود، فإن في صلاته نقصا، وهذا النقص يلحق المأموم، وعلى ذلك: إن لم يسجد الإمام، فيجب على المأموم أن يسجد، لأن في الصلاة نقصا، فلابد من جبره. وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
فإن كان المأموم مسبوقا، فسجد الإمام قبل السلام، فإنه يتابعه اتفاقا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) .
فإن كان سجوده بعد السلام، يعني سلَّم الإمام، فسجد سجدتين بعد السلام، وهذا المأموم مسبوق، فهل يسجد معه، بمعنى أنه لا يسلم إذا سلم الإمام، فإذا سجد الإمام سجدتين، سجد، فإذا سلَّم الإمام السلام الثاني قام فأتم، أم أنه يقوم فيتم صلاته، ثم يسجد سجدتين بعد السلام؟ قولان لأهل العلم:(6/35)
فالمذهب: أنه يتابعه، وعلى ذلك: فلو أنه نهض، إذ بالإمام – قبل أن يستتم المأموم قائما – يسجد، فنقول: عليك أن ترجع فتسجد مع الإمام سجدتين، وأما إذا شرع المأموم في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا هو المذهب، قالوا: لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) .
والقول الثاني، وهو قول المالكية والشافعية، قالوا: إذا سها الإمام فسجد بعد السلام، فإن المسبوق لا يتابعه، وإنما يسجد بعد سلامه؛ قالوا: لأن تمام المتابعة للإمام أن يكون سجوده بعد السلام، لأن هذا السجود إنما يشرع بعد السلام، فتكون متابعته للإمام بسجوده هاتين السجدتين، بعد سلام إمامه. وهذا القول هو الأرجح، فالأقرب والأرجح في هذه المسألة أنه ينهض، فيتم صلاته، فإذا سلَّم سجد سجدتين، لأن هاتين السجدتين إنما يشرعان بعد السلام، وعلى ذلك: فيكون من تمام متابعته للإمام أن يكون سجوده بعد السلام. هذا هو القول الراجح.
إذاً: إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السجود، فإذا لم يسجد، فإن على المأموم أن يسجد؛ لأن في ذلك نقصا في الصلاة، فإن كان سجوده قبل السلام تابعه فسجد حيث يسجد الإمام، وأما إذا سلَّم الإمام فسجد بعد السلام، فإنه لا يسجد معه، وإنما يسجد بعد أن يتم صلاته؛ لأن هذا هو تمام المتابعة في أصح القولين. هذا هو الشق الأول.
الشق الثاني: فيما إذا سها المأموم خلف الإمام، فلسهوه حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون مسبوقا قد سها فيما انفرد به، يعني لما قام ليتم الصلاة سها، فهنا يجب عليه السجود قولا واحدا، فالإمام لا يتحمل، وعلى ذلك: فعليه السجود، لعموم الحديث: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . إذاً المسبوق إذا سها فيما انفرد به، فإن عليه السجود.
الحالة الثانية: أن يسهو خلف إمامه، سواء كان مسبوقا أم غير مسبوق، فهنا قد حصل له سهو حال اقتدائه بإمامه، لا حال انفراده عنه؟(6/36)
فذهب العامة والجماعة من أهل العلم: على أنه لا يجب عليه السجود، وأن الإمام يتحمل ذلك عنه.
وقال أهل الظاهر، وهو قول مكحول: بل يجب على المأموم السجود.
استدل أهل القول الثاني بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا عام، فيدخل فيه فيما إذا سها خلف إمامه.
وأما أهل القول الأول، فاستدلوا بأدلة منها:
أن الإمام يتحمل عن المأموم عمده، يعني عمده في النقص وعمده في الزيادة.
يتضح هذا بمثالين، المثال الأول: فيما إذا قام الإمام من الركعتين تاركا للتشهد، فهنا المأموم يتابعه ويترك التشهد، فيكون قد ترك التشهد الأول، وترك التشهد الأول عمده يبطل الصلاة، وقد تركه عمدا متابعة للإمام، وقد تحمل الإمام عنه ذلك.(6/37)
المثال الثاني: وهو تحمل الزيادة عمدا: فيما إذا سها الإمام، فسجد الإمام سجدتين، والمأموم لم يسهو، كأن يترك الإمام التسبيح في الركوع أو السجود، فإن الإمام يسجد، وهذا السهو قد حصل من الإمام، ولم يحصل من المأموم، ويجب على المأموم أن يتابع إمامه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) ، وهذه زيادة في الصلاة، قالوا: فإذا ثبت هذا في عمده، فأولى من ذلك سهوه، وعلى ذلك: فنقيس السهو هنا على العمد، وهذا القياس الصحيح يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، فإن في ذلك تحصيل لمقصود الشرع من متابعة الإمام. قالوا: وأيضا إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون خلفه، ولا يخلو ذلك من سهو، فلابد أن يقع من أحد منهم سهو في الصلاة، ولم ينقل لنا أن أحدا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سجد للسهو خلفه، ولو كان ذلك واقعا، لنقل لنا نقلا بينا. يعني لابد أن يقع من المأمومين سهو خلف الإمام، لاسيما في القديم، لأن الصوت مع كثرة المصلين قد لا يبلغهم، فيحصل شيء من السهو من المأمومين، وقد يترك المأموم بعض التسبيحات، ونحو ذلك، ولم ينقل لنا أن ذلك قد وقع منهم، ولو كان ذلك واقعا لنقل لنا نقلا بينا، وعلى ذلك فهذا القول هو القول الراجح، فإذا سها المأموم خلف إمامه، فإنه لا يسجد للسهو، وأما ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، وإذا سها المأموم فلا سجود عليه) ، فهذا الحديث إسناده ضعيف جدا، فلا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: [وسجود السهو لِمَا يبطل عمده واجب]
سجود السهو لما يبطل عمده، إن كان من جنس الصلاة، فإذا حصل سهوا فعل ما يبطل عمدا، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون هذا من جنس الصلاة، كأن يزيد قياما أو ركوعا أو سجودا، فهذا فيه السجود.(6/38)
الحال الثانية: ألا يكون من جنس الصلاة، كأن يتكلم في الصلاة مثلا، أو يفعل أفعال كثيرة في الصلاة سهوا، فهل تبطل الصلاة بذلك؟ لا تبطل، لكن هل عليه سجود سهو؟ ليس عليه سجود سهو كما تقدم تقريره.
إذاً هنا نقيِّد هذه القاعدة بقيد، وهو أن يكون ذلك من جنس الصلاة كما تقدم. إذاً سجود السهو لما يبطل عمده إن كان من جنس الصلاة، فإن لم يكن من جنس الصلاة، كأن يفعل أفعالا ليست من جنس سهوا وتكون كثيرة، فإنها لا يشرع لها سجود السهو، كذلك لو تكلم، فإنه لا يشرع له سجود.
قوله: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام]
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: قوله " أفضليته قبل السلام "، وعلى ذلك فالسجود الذي يشرع قبل من باب الأفضلية، والذي يشرع بعد، هذا من باب الأفضلية، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الراجح أن ما شُرع قبل السلام، فيجب قبل السلام، وما شرع بعد السلام فيجب بعد السلام، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن أحمد، وأحد القولين في المذهب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما قال شيخ الإسلام، وقال الزركشي: " وهو ظاهر كلام أبي محمد " يعني الموفَّق رحمه الله تعالى. وهذا هو القول الراجح. إذاً المذهب: أن المسألة أفضلية، فإن كان زيادة، فإن له أن يسجد قبل السلام أو بعده، وإن كان نقصا فله أن يسجد قبله أو بعده، وإن كان عن شك، فله أن يسجد قبل أو بعده، لكن الأفضلية على ما تقدم تفصيله في المذهب في درس سابق، ولكن الراجح ما تقدم من أن من شُرع قبل السلام فيجب قبله، وما شرع بعد السلام فيجب بعده.(6/39)
الثانية: أنه إن ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام، فإنه يبطل الصلاة، وأما إذا كانت الأفضلية بعد السلام فلا يبطل الصلاة، فإذا كان عنده شك مع تحر، تقدم أنه يشرع بعد السلام، فلو تركه فلم يسجد، فلا تبطل صلاته، والشك إذا كان بلا تحر، فإنه له السجود قبل السلام، فإذا تركه عمدا تبطل صلاته، وإذا كان عن زيادة، تقدم أن الراجح أنه يكون بعد السلام، فإذا تركه فلا تبطل الصلاة، ولو كان عمدا، وإذا كان مما يشرع قبل السلام، فتركه عمدا، فإن الصلاة تبطل. هذا هو المشهور في المذهب، قالوا: مع الإثم، كما لو ترك الأذان أو الإقامة، لأنه مشروع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، يقولون: ما يشرع بعد السلام، هذا إنما شُرع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، ولو ترك الإذان والإقامة، تصح صلاته، لكن مع الإثم، قالوا: فكذلك إذا ترك هذا السجود الذي يشرع بعد السلام.
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه إن ترك ما أفضليته بعد السلام – وعلى الراجح ما هو واجب بعد السلام – يبطل الصلاة أيضا، وهذا أصح، وذلك لأن الصلاة ناقصة، وهذا السجود جبرانها، وإنما شرع خارج الصلاة لأن المناسب واللائق أن يكون كذلك؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان - زيادة قبل، ثم نسجد للسهو قبل -. إذاً القول الثاني في المسألة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ترك سجود السهو سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده – تركه – عمدا يُبطل الصلاة، والمذهب أن ما كان مشروعا قبل الصلاة فإن تركه عمدا يبطل الصلاة، وإن كان مشروعا بعد السلام فإن تركه عمدا لا يبطلها.
قوله: [وإن نسيه سجد إن قرُب زمنه]
في المسألة السابقة تعمد، وهنا الكلام في السهو.
إذا نسيه، سواء كان قبل السلام أو بعده، قال: " سجد إن قرب زمنه " فإن قرُب زمنه عرفا، فإنه يسجد.(6/40)
فلو أنه بعد أن سلَّم ذُكِّر، فتذكَّر فسجد سجدتين، فإن صلاته تتم بذلك، سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده.
لكن لو أنه ذُكِّر بعد زمن طويل عرفا، فإنه لا يبني، وإنما يستأنف الصلاة من جديد، هذا إذا كان السجود قبل السلام، وأما إذا كان بعدها، فإن تركه عمدا لا يبطل الصلاة. هذا هو المذهب.
قالوا: وإذا خرج من المسجد أيضا، فإنه يستأنف الصلاة، وعلى ذلك يشترط أن يكون الزمن قريبا عرفا، ويشترط أن يكون في المسجد أيضا، فإذا خرج من المسجد، ولو كان الزمن قصيرا – سلَّم فخرج، فذُكِّر وهو خارج المسجد – فعليه أن يستأنف الصلاة من جديد.
وعن الإمام أحمد، وهو أصح، أنه لا فرق بين كونه في المسجد أو خارج المسجد ما دام الزمن قريبا.
وأصح من القولين كليهما ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد، وتقدم ذكر ما يدل عليه من حديث عمران: وهو أنه يسجد ولو طال الزمن عرفا، سواء كان في المسجد أو لم يكن في المسجد، فإن حديث عمران في مسلم فيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الحجرة بعد أن صلى العصر ثلاثا، ثم قام إليه رجل بسيط اليدين، فقال: أنيست أم قصرت الصلاة؟ ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغْضَباً، فصلى عليه الصلاة والسلام ما ترك، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين بعد أن سلَّم، ثم سلَّم " كما تقدم، فهنا الزمن طويل عرفا، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد. هذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام هنا، وهو رواية عن الإمام أحمد. إذاً الراجح أنه لو ترك سجود السهو سواء كان قبل السلام أو بعده، ثم تذكر، فإن يسجد سجدتين ولو كان الزمن طويلا. لما أتى الإمام ليقيم صلاة العصر أخبروه أنه حصل سهو في صلاة الظهر، وأنه لم يسجد قالوا: إنك قد قمت عن التشهد ولم تسجد، فيسجد سجدتين ولا شيء عليه. إذاً الراجح ولو طال الزمن عرفا، فإنه يبني.(6/41)
قوله: [ومن سها مرارا كفاه سجدتان]
إذا سها مرارا، حصل منه في الصلاة أكثر من سهو، زاد في الصلاة ونقص، أو نقص ونقص، أو زاد وزاد، فقد يكون سها فزاد مرتين أو ثلاثا، أو سها فنقص مرتين أو ثلاثا أو سها فجمع بين زيادة ونقص، فهنا حصل من الإمام أكثر من سهو، سها مرتين أو أكثر، فهنا لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الموجِب لسجود السهو غير مختلف، يعني مما يشرع فيه السجود إما قبل السلام، وإما بعده.
رجل قام عن التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد للسهو قبل السلام، وترك تسبيح الركوع أو السجود، فالواجب عليه السجود قبل السلام كذلك، وشك، هل صلى ثلاثا أم أربعا ولم يرجح، فهنا حصل له نقص، وكل هذه المسائل فيها سجود قبل السلام، فهنا الواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن موجِب السجود هنا غير متفرق وغير مختلف، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
المسألة الثانية: أن يكون هناك موجِب مختلف، فيكون هناك ما يوجب السجود قبل السلام، وما يوجب السجود بعده.
قام فترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يكون قبل السلام، ثم شك هل صلى ثلاثا أم أربعا، ورجَّح أنه صلى أربعا، فالواجب عليه السجود بعد السلام، فهنا هل يكفيه سجدتان كما قال المؤلف هنا، أم لا يكفيه ذلك، قولان لأهل العلم:
فقال الجمهور: يكفيه سجدتان، كما هو قول المؤلف هنا.
وقال الأوزاعي: بل يجب عليه سجود قبل السلام، وسجود بعده، يعني يشرع له سجدتان قبل السلام، وسجدتان بعد السلام.
والقول الأول هو الراجح، استدل أهل القول الأول بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا الحديث عام، سواء كان السجود واحدا أم متكررا، وإذا كان متكررا، سواء كان موجَبه واحدا أو كان موجَبه مختلفا.(6/42)
وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث (لكل سهو سجدتان) ، وتقدم لكم أن الحديث ضعيف، وعلى ذلك فالراجح هو القول الأول، وعلى ذلك: فيسجد قبل السلام، ويكون سجوده قبل السلام يجزئه عن السجود بعد السلام، هذا هو الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافا للأوزاعي، وقول الأوزاعي أيضا هو وجه في مذهب أحمد.
مسألة: هل يشرع لسجدتي السهو بعد السلام تشهد أم لا؟
يعني إذا سلَّم فسجد سجدتين، فهل يُشرع أن يتشهد أم لا؟
قال الجمهور: يشرع له أن يتشهد، يعني يسلم ثم بعد أن يسلم يسجد سجدتين ثم يتشهد، ثم يسلم، إذاً يستحب للسجدتين بعد السلام التشهد. واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي من حديث أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن محمد بن سيرين عن عمران، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشهد ثم سلم.
والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام، ومال إليه الموفق ابن قدامة، وهو قول محمد بن سيرين: أنه لا يشرع التشهد. استدلوا بحديث أبي هريرة، وحديث ابن مسعود، فإن الرواة لم يذكروا تشهدا، وقد تقدم سياق حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وحديث عمران بن حُصين في قصة بسيط اليدين، وكذلك في حديث ابن مسعود في التحري، وليس فيها ذكر التشهد، والتشهد كما تعلمون طويل، فلو كان ثابتا لنقل، فهذا مما تتوافر الدواعي على نقله.
يبقى الجواب عن حديث عمران في أبي داود والترمذي؟(6/43)
هذا الحديث حديث شاذ، فهذه الزيادة (ثم تشهد) معلولة، وقد أعلَّها ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا التعليل هو الصواب، فإن الزيادة معلولة، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين، وغيره من الرواة لم يذكروها، وهذا هو المحفوظ عن محمد بن سيرين، أي عدم ذكر التشهد، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك، فهو وإن كان ثقة، لكنه تفرد عن غيره من الثقات، وعلى ذلك فهذه الزيادة معلولة، ولذا استغرب – أي ضعّف – هذا الحديث الترمذي أيضا بعد أن رواه. وعلى ذلك فالراجح أن التشهد لا يشرع، وهو رأي محمد بن سيرين الذي قد روى عنه أشعث هذه الزيادة، ولو كانت مروية له لما خالفها، هذا أيضا مما يقوي التعليل المتقدم.والله أعلم
تم بحمد الله شرح باب سجود السهو من زاد المستقنع في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، …حفظه الله تعالى.
فهرس الأحاديث والآثار
إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... ….. 1
فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... … 1
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ... ... 1(6/44)
باب: صلاة التطوع
التطوع لغة: فعل الطاعة.
اصطلاحاً: الطاعة غير المفترضة، وهي النفل والمستحب.
فقوله: " صلاة التطوع " أي الصلاة التي يتطوع بها صاحبها لله تعالى.
قال: (آكدها كسوف ثم استسقاء ثم تراويح ثم وتر)
قوله: " آكدها " أي آكد الصلاة المتطوع بها.
وذكر المؤلف أن أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الكسوف ثم صلاة الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر.
أما الكسوف: فلأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها مع ثبوت سببها وهو خسوف الشمس أو القمر، فكلما قام سببها صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي الكلام عليها في بابها.
وأما الاستسقاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما تركها مع وجود سببها وهو قحط الأرض فكانت الكسوف أفضل منها.
وفضلت صلاة الاستسقاء على غيرها لأنها تُصلى جماعة فأشبهت الفريضة.
ثم التراويح لأنها تُصلى جماعة، ثم الوتر لأنه يصليه منفرداً، وفُضِّل على السنن الراتبة بما فيه من الأحاديث المؤكدة له، هذا ما ذكره المؤلف.
والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل – كما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)
قال الإمام أحمد: " ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام الليل "
والراجح أن صلاة الكسوف واجبة كما سيأتي دليل ذلك في بابه.
وعلى ذلك فإنه لا يفضل بينها وبين المستحبات فهي لا تدخل في هذا الباب لأنها ليست بتطوع بل فريضة.
وعن الإمام أحمد: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة ركعتا الفجر لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح)(7/1)
والحديث وإن دل على فضلها وأنها أفضل السنن الراتبة، لكنه لا يدل على تفضيلها على قيام الليل، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم بتفضيله.
فالراجح: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل.
ثم إن قضية أن هذه الصلاة تُصلى جماعة أو فرادى، هذه ليس سبباً للتفضيل، فقد يكون المعنى الذي شرعت من أجله الصلاة إنما تشرع فيه الجماعة، فليس هذا بكونه فاضلاً على صلاة أخرى لا تشرع فيه الجماعة، وإنما شرعت فيه الجماعة لما فيه من المعاني المقتضية لأن يكون جماعة ولا يدل هذا على شيء من التفضيل.
كما أن تفضيلهم لصلاة الاستسقاء على صلاة التراويح – مع ثبوت الجماعة فيهما – يقتضي أن يكونا سواء بل صلاة التراويح أولى بأن تكون هي الفضلى من صلاة الاستسقاء لأنه قد ورد في التراويح من الترغيب ما لم يرد في صلاة الاستسقاء.
قال: " ثم وتر " إذن: الوتر مستحب، وليس بواجب وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الوتر ليس بواجب مع ما ورد من التشدد فيه، فقد قال الإمام أحمد – ونحوه قول الإمام مالك -: (من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة)
فهذا يدل على أن الوتر مؤكد غاية التأكيد، ومن تركه فإنه مظنة الضعف وشهادة الزور ونحو ذلك.
ودليل استحبابه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الأعرابي عن الصلوات المكتوبة فذكر له ما أوجبه الله فيها قال: هل على غيرها قال: " لا إلا أن تطوع ".
فدل على أن ما سوى الفرائض الخمس ليس بواجب إلا ما سيأتي استثناؤه من صلاة الكسوف لأنها ليست من الصلوات الدائمة بخلاف الوتر فإنها صلاة يومية فلو كانت واجبة لذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
ولما ثبت في الترمذي والحديث حسن عن علي قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -) .(7/2)
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى الوتر على الراحلة) وهذا يقتضي عدم وجوبها إذ لو كانت واجبة لفرض فيها القيام، لأن القيام فرض في المكتوبة.
- وذهب الأحناف إلى فرضية الوتر.
واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا) والحديث منكر فلا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالصحيح أنها سنة وليست بفرض.
- لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن الوتر واجب على المتهجد لمن قام الليل فيجب أن يوتر فيه.
فأصل قيام الليل والوتر ليس بواجب لكن من قام الليل فلا يجوز ألا يوتر بل يجب أن يوتر.
وهذا قول قوي ظاهر يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب – والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر -.
ورواه أبو عوانة والحاكم والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر بلفظ: (من صلى من الليل فليوتر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك) وهذا الحديث لا صارف له عن الوجوب.
بخلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا يا أهل القرآن) ونحوه من الأحاديث التي فيها الأمر بالوتر فإن صارفها عن الوجوب قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) .
وأما هنا فهذا الواجب قد طرأ بسبب كونه قد صلى الليل فلا يجوز والحالة هذه إلا أن يصلي وتراً. وهذا القول قوي ظاهر.
قال: (يُفعل بين العشاء والفجر)
فالوتر يُفعل بين العشاء والفجر وهكذا قيام الليل فهو مشروع ما بين صلاة العشاء والفجر.
والمراد بصلاة العشاء أداؤها ولو كان ذلك بغير وقتها كأن يجمع إلى المغرب جمع تقديم فإنه يبدأ وقت الوتر وإن لم يغب الشفق.(7/3)
فوقته من صلاة العشاء سواء كانت صليت في وقتها أو جمعت إلى ما قبلها، ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرها والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله زادكم صلاة هي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)
فتفعل بين صلاة العشاء وأذان الفجر، فإذا أذن الفجر فقد انتهى وقت الوتر فقوله الفجر: " أي أذان الفجر ".
ويدل عليه الحديث المتقدم وفيه: (ما بين العشاء إلى طلوع الفجر) وثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا قبل أن تصبحوا) من حديث أبي سعيد الخدري.
وثبت في الترمذي – والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر)
- وعن الإمام أحمد أن وقتها إلى صلاة الفجر، فما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر وقت بصلاة الوتر.
وظاهره مطلقاً للمعذور وغيره، وظاهره أنه أداء وليس بقضاء.
ودليله ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن مسعود أنه سُئل عن الوتر فقال: (أوتر وإن أذن، فقال السائل: " أوتر بعد الأذان؟ " فقال: " نعم وبعد الإقامة " ثم حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس فصلى)
وهنا يحتمل أن يكون مراد ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلى صلاة الفجر قضاء فحينئذ يكون هذا من باب القياس فهو يلحق النظير بنظيره، فكما أن صلاة الفجر تقضي بعد وقتها فكذلك الوتر.
ويحتمل أن يكون مراده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الوتر فقضاها، وهو الذي يقتضيه السياق، لكنه ضعيف لقوله: (حتى طلعت الشمس) وطلوع الشمس ليس وقتاً نهائياً لصلاة الوتر، بل هو وقت نهائي لصلاة الفجر.(7/4)
فالظاهر أن ابن مسعود استدل بالقياس فذكر هذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه حتى طلعت الشمس ثم صلاها، وهو فريضة، فكذلك النافلة فإذا نام عنها فإنه يقضيها بين الأذان والإقامة وبعد الإقامة.
وروى محمد بن نصر آثاراً عن عائشة وغيرها فيها الإيتار بين الأذان والإقامة. وهذا القول يخالف الأحاديث المصرحة بأن الوتر ينتهي إذا طلع الفجر.
والراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عنه وأن طلوع الفجر ينتهي به وقت صلاة الوتر.
أما هذه الآثار فتحمل على أن ذلك من باب القضاء والوتر يقضى على القول الراجح الظاهر.
فقد روى الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن الوتر ونسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر)
وظاهر الحديث في قضائه أنه يقضي وتراً.
وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسلم من حديث عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) فهذا الحديث نوع آخر وصفة أخرى للقضاء، فعلى ذلك يكون القضاء له صفتان.
الأولى: أن يقضيه وتراً.
الثانية: أن يقضيه شفعاً.
أما قضاؤه وتراً فهو ظاهر حديث أبي سعيد وعليه أفعال الصحابة وأما قضاؤه شفعاً فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قيل: لِمَ لم تفسروا الحديث الأول بالحديث الثاني؟
فالجواب: أن يقال: هو قول قوي، لكن الذي جعلنا لا نقول به هنا هو تقوية القول الأول – وهو ظاهر الحديث تقويته - بأقوال الصحابة، فإنهم كانوا يقضونه وتراً كما تقدم في الأثر السابق عن ابن مسعود في الأثر المتقدم عن عائشة.
فعلى ذلك: من نام عن الوتر أو نسيه حتى طلع الفجر فقد ذهب وقت الأداء ويشرع له أن يقضيه شفعاً وله أن يقضيه وتراً.(7/5)
فإن كان وتره بالليل سبع ركعات مثلاً، فله أن يقضيها بالنهار سبعاً وله أن يقضيها ثمان بأن يزيد ثامنة يشفع بها صلاته.
واعلم أن المستحب في صلاة الليل أن يصليها من آخره ما لم يخف عدم الاستيقاظ، فإن خاف ألا يستيقظ فيستحب له أن يصليها في أوله؛ لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقله ركعة)
أقل الوتر ركعة، فإذا صلى ركعة فقد أوتر ويجزئه ذلك عما يشرع له من فعل الوتر.
والمشهور في المذهب أنه لا يكره ذلك، وقد صح عن عثمان وسعد بن أبي وقاص الوتر بواحدة. أما أثر عثمان فرواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بإسناد صحيح، وأما أثر سعد فرواه الطحاوي بإسناد حسن.
قال: (وأكثره إحدى عشرة ركعة مثنى مثنى)
فأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، أي أكثره المستحب وسيأتي الكلام عن أكثره الجائز، فأكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً)
- وقد قال بعض الحنابلة: المستحب أن أكثره ثلاثة عشرة ركعة.
واستدلوا: بحديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر) فهذه ثلاث عشرة ركعة.
والراجح هو القول الأول.(7/6)
أما ما ذكره ابن عباس فهذا بإضافة الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما قيام الليل، فإن عائشة لم تذكرهما في الحديث المتقدم، فقد قالت: (صلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) مع أنها قالت في صحيح مسلم: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين) .
وثبت الأمر بهما من حديث أبي هريرة في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم في الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) .
فعائشة لم تذكر الركعتين الخفيفتين، وذكرهما ابن عباس ومما يدل على ذلك ما ثبت في مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال قلت: (لأرمقن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فافتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة)
فعلى ذلك أكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
قال: " مثنى مثنى " فيصلى قيام الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين، يسلم من كل ركعتين، يدل عليه حديث ابن عباس وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى ركعتين ثم ركعتين …الحديث.
وحديث عائشة المتقدم في رواية لمسلم: (يسلم بين كل ركعتين) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) وهو نوع من الأنواع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر. وسيذكر المؤلف الأنواع الأخر.
قال: (وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها)
ما تقدم – أي إذا صلى مثنى مثنى – فإن وتره يكون بواحدة، لكن إن أحب أن يوتر بخمس أو سبع فإنه يصليها سرداً لا يجلس إلا في آخرها بمعنى يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بخمس سرداً أو بسبع سرداً فهي السنة.(7/7)
فالسنة لمن صلى الوتر سبعاً أو خمساً ألا يجلس إلا في آخرها.
ومرادنا بالإيتار بخمس أو سبع، سواء كان الوتر بخمس صلاته كلها أو كان صلى قبله مثنى مثنى.
دليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام)
وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد الصورة الثانية فيما إذا أوتر بخمس عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر، من الليل بثلاث عشرة ركعة " فقد أضافت الركعتين اللتين يفتتح بهما القيام " يوتر فيها بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها) فلم يفصل بينهن بجلوس ولا كلام.
أما الوتر بالسبع فقد ثبت في أبي داود ما يخالف ما تقدم في حديث أم سلمة، فقد روى أبو داود في سننه وأصله في مسلم وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة) وفي رواية لمسلم: (أنه أوتر بسبع) .
بمعنى: صلى ست ركعات ثم قام ولم يسلم ثم جلس جلوساً ثانياً فسلم فيه.
وهذا هو مذهب الموفق ابن قدامة وهو وجه في مذهب الحنابلة وأنه إذا أوتر بسبع فإنه يصلي ستاً سرداً ثم يجلس بعد السادسة ثم يقوم فيصلي السابعة ثم يجلس فيها ويسلم.وهذا هو الأرجح.
أما حديث أم سلمة فهو على الشك، فإن فيه شك ومثله يوجب التوقف، فإنها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس) وهنا شك، وقد ثبتت الرواية في المتفق عليه فيما إذا أوتر بخمس وأنه لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام، أما السبع فإن هذا الشك يوجب التوقف فيها لا سيما وقد وردت في الرواية الأخرى المخالفة.
فعلى ذلك: الأرجح خلاف المشهور في المذهب وهو قول الموفق أنه إن أوتر بسبع فإنه لا يسردها كلها بل يسرد فيها ستاً فيجلس بعد السادسة فيذكر الله، ويدعو ثم يقوم من غير سلام فيصلي السابعة ثم يجلس فيتشهد ويسلم.(7/8)
قال: (وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم)
فإذا أوتر بتسع، فيصلي ثماني ركعات سرداً لا يجلس في شيء منهن فإذا انتهى من الثامنة جلس فذكر الله وحمده ودعاه ثم قام فصلى التاسعة ثم جلس فتشهد وسلم، فحينئذٍ يتم له تسع ركعات بتشهدين وسلام واحد.
وهذه الصفة ثابتة في مسلم من حديث عائشة - وهو الذي تقدمت الإشارة إليه عند ذكر رواية أبي داود وأن أصلها في مسلم – عن عائشة أنها سألها سعد بن هشام فقال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كنا نعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس في شيء منها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعو وينهض ولا يسلم ويقوم إلى التاسعة ثم يجلس فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم)
قالت: - أي عائشة -: (ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول)
وهاتان الركعتان ثبت فعلهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة، فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد وتره ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما " إذا زلزلت الأرض زلزلاها " و " قل يا أيها الكافرون ") .
قال ابن القيم: " هي كالسنة للفريضة ". أ. هـ.
فهنا الوتر كأنها عبادة مستقلة تشبه الفرائض فكان لها سنة كالفرائض فهذه كالفرائض فهذه سنتها، فحينئذٍ: لا يعارض هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) .
فإنه إذا أوتر استحب له أحياناً أن يصلي بعد وتره ركعتين خفيفتين وهو قاعد.
وقد قال الإمام مالك بعدم المشرعية.
وقال أحمد: إن فعلها فلا بأس وإن تركها فلا بأس.
قال: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين)(7/9)
هذا أدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات، فالإجزاء أن يصلي ركعة، وأدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات لكن بسلامين هذا هو المستحب.
فلا يستحب الوتر بثلاث بمعنى: أن يصلي ثلاثاً سرداً لا يفصل بينهن بسلام، بل المستحب أن يفصل بينهن بالكلام والسلام.
فإن صلى ثلاثاً سرداً قالوا: فلا بأس.
وذهب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القول بالكراهية، فقد صح عن ابن عباس قال: (ولا أحب ثلاثاً تتراً) أي سرداً.
وعن عائشة قالت: (وأكره ثلاثاً تتراً) .
والأثران رواهما محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل.
ويدل على ذلك ما ثبت عند ابن حبان والحاكم بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب) .
فهذا فيه النهي عن الإيتار بثلاث، وهو حديث مطلق وظاهر إطلاقه النهي عن ذلك سواء كانت الثلاث سرداً بلا تشهد، أو كان فيها تشهد بلا سلام، لقوله: (لا توتروا بثلاث) ثم قال: (لا تشبهوا بصلاة المغرب)
فإن قيل: أنه إن سردها من غير تشهد فإنها لم يتشبه بصلاة المغرب؟
فالجواب: إن أصل المشابهة ثابت، إذ المشابهة لا تقتضي المماثلة.
ثم إن قوله: (لا توتروا بثلاث) شامل للصفتين كلتيهما، وأما قوله: (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) فلا يخرج الصفة التي ليس فيها تشهد؛ لأن التشبيه ثابت لعدم السلام ولكونها ثلاثاً.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف المخاطب إلى أن أمره أن يوتر بخمس أو سبع، فدل ذلك على أن الإيتار بثلاث مكروه مطلقاً، وهذا هو الأظهر وأنه مكروه مطلقاً، وأن المستحب له أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي الثالثة.
وقد صح عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته)
إذن: الإيتار بثلاث مكروه سواء جلس للتشهد أو لم يجلس والمستحب أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يأتي بالثالثة.(7/10)
والحمد لله رب العالمين.
الوتر: في لغة العرب: هو الفرد.
اصطلاحاً: فهو الركعة الواحدة وما أضيف إليها مما اتصل بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالكافرون وفي الثالثة بالإخلاص)
لما روى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي بن كعب – حديث صحيح -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشرع له أن يقرأ في الثالثة بالمعوذتين مع سورة الإخلاص.
وهو المشهور في المذهب.
ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
لما روى أبو داود من حديث عائشة وفيه: (ويقرأ في الثالثة بقل هو الله أحد، والمعوذتين) والحديث فيه خصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف.
لكن الحديث ورد من طريق آخر عند الحاكم فحسن به الحديث، فعلى ذلك الحديث حسن بطريقه، وعليه فيشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
ولا بأس له أن يقرأ سواها من السور في الركعات الثلاث، وأما ما تقدم فهو على سبيل الاستحباب للقاعدة المشهورة: مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
قال: (ويقنت فيها)
أي يقنت في ركعته الثالثة، فيدعو الله بالدعاء الوارد كما سيذكره المؤلف، أو بما شاء.
فالقنوت هو الدعاء الواقع في الركعة الأخيرة من صلاته.
– وظاهره أنه يقنت مطلقاً في جميع السنة، وأن القنوت مستحب في جميع السنة. وهو المشهور في المذهب، وإليه رجع الإمام أحمد فقال: " كنت أذهب إلى أن القنوت في النصف الأخير من رمضان ثم قنت هو دعاء بخير " وهو قول بعض الصحابة حكاه ابن تيمية عن ابن مسعود وغيره.
والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد أنه لا يستحب بحال لا في رمضان ولا في غيره.(7/11)
والقول الثالث: أنه يستحب في النصف الأخير من رمضان.
هذه ثلاث أقوال لأهل العلم هي روايات عن الإمام أحمد وقد حكى ابن تيمية هذه الأقوال عن الصحابة - رضي الله عنهم - واختار ابن تيمية التخيير بين الفعل والترك وقال: (حقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة فمن شاء فعله ومن شاء تركه)
والظاهر: أنه يستحب لكن استحبابه ينبغي ألا يكون على هيئة الدوام بل يفعله تارة ويتركه تارة أخرى، لأن القنوت قد ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تعليمه.
فقد ثبت في سنن النسائي بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقنت في الوتر قبل الركوع)
وثبت عند الخمسة، وفيه أن الحسن قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر) وإسناده جيد.
وثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن علي قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)
فهذه الأحاديث تدل على مشرعية القنوت.
وإنما لم نقل باستحباب مداومته، لأن من نقل لنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل كعائشة وابن عباس وزيد بن خالد وغيرهم لم يحكوا لنا قنوته، وإنما حكاه علي والحسن، وأبي بن كعب فكون عائشة وابن عباس ومن روى ذلك من الصحابة لا يذكر القنوت مع حرصه على استقصاء صفة قيامه، طولاً وقصراً وما كان يقرأ فيها ونحو ذلك، يدل هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إذ الهمم والدواعي متوفرة لنقله منهم فلما لم ينقلوه دل على أنهم لم يروه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وحكاه من رآه كأبي بن كعب وعلي فدل على أنه كان يفعله برؤية هؤلاء ولم يكن يداوم عليه لعدم حكاية أولئك له.(7/12)
فعلى ذلك، يستحب أحياناً من غير مداومة، لكن إن دوم عليه فلا بأس والمستحب له ألا يداوم لأنه من جنس الدعاء والمسألة في الصلاة. هذا الذي يتبين في هذه المسألة والله أعلم.
قال: (بعد الركوع)
ندباً، فيستحب القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنازلة وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع) وهو من حديث ابن عمر وغيره.
وهذا من جنسه، فالقنوت في الوتر من جنس القنوت في النوازل، وهذا التنظير وإن كان راجحاً لكن السنة تخالفه، فقد ثبت في النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قنت في الوتر قبل الركوع) .
وإليه ذهب الإمام مالك وهو الراجح، وأن المستحب أن يقنت قبل الركوع، فإن قنت بعده فلا حرج إن شاء الله.
قال: (ويقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وآل محمد)
أما قوله: " اللهم اهدني " إلى قوله: " تباركت ربنا وتعاليت " فقد ثبت عند الخمسة بإسناد جيد عن الحسن بن علي قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر ... الحديث) إلا أن لفظة " ولا يعز من عاديت " تفرد بها النسائي وإسنادها صحيح.
وقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت ": أي وفقني إلى معرفة الحق والعمل به.
" وعافني يمن عافيت ": أي عافني من الشرك والمعاصي وعافني من الأمراض والبلايا ونحوها.
" وتولني فيمن توليت ": أي قربني إليك وتولني بعنايتك وحفظك وتسديدك.(7/13)
" وبارك لي فيما أعطيت " من الخير الديني والدنيوي، اجعله لي مباركاً من علم نافع أو رزق دنيوي.
" وقني شر ما قضيت ": أي قني المقضيات التي فيها شر والشر يُنسب إلى مقضيات الله لا إلى فعله كما في الحديث: (والشر ليس إليك)
" إنك تقضي ولا يُقضى عليك ": وفي رواية: " فإنك تقضي ... " وزاد ابن خزيمة بعده: (لا منجى منك إلا إليك)
وقوله: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك " ثابت عند الأربعة بإسناد صحيح من حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في وتره …
أما قوله: " اللهم صل على محمد وآل محمد " فقد روى النسائي بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث تعليمه للحسن: " اللهم صل على النبي" لكن الحديث إسناده ضعيف، فلا يثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لكن فعله حسن لثبوته عن أُبي بن كعب كما عند ابن خزيمة فقد صح عنه في ابن خزيمة أنه كان يقول في آخر قنوته: " اللهم صل على آل محمد " فعلى ذلك هو مستحب لفعل هذا الصحابي له.
قال: (ويمسح وجهه بيديه)
كما روى الترمذي من حديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا رفع يديه في الدعاء لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) .
لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه: إلى أنه لا يشرع له ذلك لضعف الحديث فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف.
وهذه المسألة متضمنة لرفع اليدين وأنه يستحب له ذلك في دعاء قنوت الوتر، وهذا ظاهر لأنه من جنس الدعاء في قنوت النوازل.
وقد ثبت في مسند أحمد – في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - – للنوازل: (أنه كان يرفع يديه) ففيه مشروعية رفع اليدين لثبوت ذلك في قنوت النوازل.(7/14)
وهنا ما ذكره من الدعاء هو دعاء المنفرد في قوله: " اللهم اهدني ... … " أما دعاء الإمام فإنه يكون بصيغة الجمع فيقول: " اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلى آخره "
فإذا دعا الإمام أمَّن المأمومون خلفه ورفعوا أصواتهم بالتأمين بالاتفاق، قال الموفق: " لا نعلم فيه خلافاً "،
ويدل عليه ما رواه أبو داود في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنوازل وفيه: (يؤمن من خلفه) فعلى ذلك: يستحب لمن خلف الإمام أن يؤمن.
* وهنا اقتصار المؤلف وغيره من الحنابلة على الدعاء الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت هل يدل على أنه لا يشرع سواه أم أنهم اكتفوا به لأنه هو المستحب وإن لم يكن متعيناً؟
هذا ما ذكره صاحب الفروع – إجمالاً – فقال: - أي من اقتصر على ذكر ذلك – لعله أراد أنه يستحب وإن لم يتعين؛ وذلك لأن الإمام أحمد نصَّ أن له أن يدعو بما شاء.
وصرَّح بذلك طائفة من أصحابه – وهذا هو الأظهر –، فهو محل للدعاء فله أن يدعو بما شاء من الدعاء فكما أن السجود محل للدعاء وله أن يدعو بما ورد وما لم يرد، نعم المستحب له أن يأتي بالوارد، فإن أطال فدعا بما لم يرد فلا بأس ومثل ذلك الدعاء في التشهد، فالمستحب أن يدعو بما ورد فإن زاد ما لم يرد أو دعا أصلاً بما لم يرد فلا بأس ولا حرج.
إلا أن يصحب ذلك اعتقاد ينقل الحكم كأن يعتقد في هذا الدعاء أنه أفضل من الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنه أرجى للإجابة أو اعتقاد أنه سنة أو نحو ذلك فله حكم آخر.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض)
فيكره قنوت المصلي في غير الوتر – من الصلوات – كأن يقنت في صلاة الفجر أو صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فهو مكروه في المشهور من المذهب.
وهذا له حالتان:
الحالة الأولى: أن يقنت في صلاة الفجر.(7/15)
الحالة الثانية: أن يقنت في بقية الصلوات.
أما القنوت في صلاة الفجر أي مشروعيته فقد ذهب إليه المالكية والشافعية وأنه مستحب.
وأما القنوت في بقية الصلوات فذهب إليه بعض الشافعية، وقد بدَّع شيخ الإسلام هذا الفعل، ولا ينسب إلى إمام من الأئمة وإنما هو قول قاله بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي.
أما القنوت في صلاة الفجر فهو مذهب الشافعية والمالكية.
وذهب الأحناف والحنابلة وعليه العمل عند أهل العلم كما قاله الترمذي: أنه لا يشرع.
استدل القائلون بالمشروعية: بما روى أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك وفيه: (أما الصبح فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت حتى فارق الدنيا)
واستدل القائلون بعدم المشروعية بأحاديث:
منها: ما ثبت في الصحيحين عن انس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً في صلاة الفجر يقول: " اللهم أنج الوليد ابن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وفي مسلم: (ثم تركه) .
وفي أبي داود: قال: (فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال: " أو ما تراهم قد قدموا ") فكانت نازلة فانتهت فترك القنوت لزوالها.
ومنها ما رواه ابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم)
ومنها – وهو أصرح الأدلة – بما ثبت في الترميذي وصححه وهو كما قال من حديث: سعد بن طارق الأشجعي قال: (قلت لأبي: إنك صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكانوا يقنتون؟ فقال: أي بني محدث) أي هو بدعة. وهو حديث صحيح وعليه العمل كما ذكر الترمذي.(7/16)
أما حديث: (أما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) فالحديث فيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف إذا تفرد، وقد تفرد بهذه الرواية وهو صاحب مناكير فلا يقبل حديثه.
ثم لو سلمنا بصحة الحديث فإنه يحتمل – جمعاً بينه وبين ما تقدم من الأدلة – بأن المراد إطالة القيام في الصلاة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يطيل قيام صلاة الفجر.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصلاة طول القنوت " أي طول القيام ") رواه مسلم.
فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من عدم مشروعية القنوت في غير النوازل وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه.
وهل يكره أم يحرم؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: هو الكراهية.
القول الثاني: أنه محرم وهو قول قاله بعض الحنابلة، وقال بعضهم هو بدعة.
أما ابن القيم فذكر في زاد المعاد أنه ليس ببدعة وأنه من الخلاف السائغ، وحكاه عن أهل الحديث.
أما ما ذكره عن أهل الحديث من اتفاقهم على عدم تبديع هذا الفعل فإنه يحتاج إلى تثبت في نسبته إلى أهل الحديث لأنه جارٍ مجرى البدع وكون الأمر بدعة لا يعني أن فاعله مبتدع ما دام أنه مجتهد في فعله.
فكون الإمام الشافعي يشرع ويستحب القنوت استدلالاً بالحديث المتقدم، لا يعني ذلك أن ينسب إلى شيء من البدعة، وإن كان هذا الفعل بدعة كما أن البدعة قد نسبت إلى فعل بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تكون غير مشروعة والسنة بخلافها.
فعلى ذلك – وكما نص الصحابي المتقدم – وهو طارق الأشجعي في قوله: " أي بني محدث " فهو محدث وكل محدثة بدعة.
فالراجح: أنه بدعة لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما من فعله على أنه سنة فإن له نصيبه من الأجر والاجتهاد فإنه مجتهد مخطئ فله أجره على اجتهاده.
فالراجح من قولي المذهب: خلاف المشهور عندهم: أن ذلك محرم وأنه بدعة.(7/17)
والمالكية والشافعية – كما تقدم – يستحبون القنوت في صلاة الفجر، لكن بينهم فيه اختلاف.
فمذهب المالكية: أنه مشروع قبل الركوع سراً.
ومذهب الشافعية: أنه مشروع بعده جهراً.
واختلفوا أيضاً: في اللفظ الذي يقنت به.
فالمشهور عند الشافعية أنه يقنت بحديث الحسن بن علي: (اللهم اهدني فيمن هديت) وهو قول ظاهر الضعف، لأن الحديث إنما ورد في قنوت الوتر ولم يثبت في قنوت الصلاة.
وذهب المالكية إلى القنوت بما ورد عن عمر - رضي الله عنه -، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الفجر فسمعه يقول: قبل الركوع وبعد القراءة: (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد " أي نسارع " نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك في الكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك)
فبه استدل المالكية على استحبابه سراً وعلى أنه قبل الركوع لفعل عمر فإنه قد قنت قبل الركوع سراً لأنه لم يظهر من عمر بل سمع منه.
وهذا الأثر يحمل على أنه من قنوت النوازل كما تقدم.
أما قنوت النوازل فهو مشروع، كأن تقع بالمسلمين نازلة من تسلط عدو ونحو ذلك، للحديث المتقدم من حديث أنس وحديث أبي هريرة الذي فيه: (اللهم أنج الوليد بن الوليد…الحديث) .
واعلم أن السنة أن يكون بعد الركوع بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " لرواية في الصحيحين للحديث المتقدم: (أنه كان يقول ذلك بعد الركوع بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) .
فإن كان قبل الركوع فلا بأس للأثر المتقدم عن عمر، مع أنه قد صح عن عمر في البيهقي أنه (قنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء) .
ويدعو بألفاظ منبعثة عن هذه النازلة التي وقعت على المسلمين.
واعلم أن قنوت النوازل ليس خاصاً في صلاة الفجر بل عام فيها وفي غيرها من الصلوات المكتوبة.(7/18)
فقد ثبت في أبي داود من حديث ابن عباس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إذا قال: سمع الله لمن حمده، دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) .
ففيه أن القنوت مشروع في كل الصلوات المكتوبة، لذا قال المؤلف هنا: " فيقنت الإمام في الفرائض " فهو عام في الفرائض كلها.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (القنوت في الظهر العشاء والفجر) . وثبت في البخاري من حديث أنس: (القنوت في المغرب والفجر) ، ونحوه من حديث البراء بن عازب في مسلم في قنوت المغرب والفجر.فهذه أربع صلوات ثبتت في الصحيحين أو أحدهما.
وأما العصر فقد ثبت فيما تقدم من حديث ابن عباس في سنن أبي داود وهو جامع للصلوات الخمس.
والظاهر أنه يجهر بالقنوت مطلقاً سواء كانت الصلاة جهرية أم سرية.
وقد صرح بعض الحنابلة بخلاف ذلك وأنه يجهر فيما يجهر به من الصلوات.
وأطلق بعضهم، وظاهر إطلاقه أنه يجهر بها كلها، وهو الظاهر لحديث ابن عباس المتقدم: (دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) فظاهره أنه قد رفع صوته وجهر به فسمعه من خلفه فأمَّن.
فعلى ذلك لو قنت في صلاة الظهر أو العصر فإنه يجهر بالقنوت.
قوله: (غير الطاعون)
- المشهور في المذهب: أن الطاعون لا يشرع فيه القنوت، وذلك من وجهين:
الأول: أنه قد وقع في عهد الصحابة، كما وقع في عهد عمر في ناحية الشام فلم يثبت أنهم قنتوا.
الثاني: أنه شهادة، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطاعون شهادة لكل مسلم)
- والمشهور عند الشافعية القنوت في الوباء من طاعون وغيره أي مشروعية ذلك.
ويُجاب عما استدل به الحنابلة من الوجهين:
أما كونه لم يثبت لنا عن الصحابة وأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فلا يقضي أنهم لم يفعلوه.(7/19)
وأما كونه شهادة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا فيما تقدم للوليد بن الوليد ومسلمة بن هشام وما هم عليه إنما هو شهادة أو بمعنى الشهادة فهم معرضون للشهادة أو بمعنى الشهادة من التعذيب في سبيل الله، فكونه شهادة لا يعني ذلك أنه لا يقنت منه.
فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية من مشروعية القنوت فيه، وأنه من النوازل فيجوز للمسلمين أن يقنتوا فيه إذا نزل بهم الطاعون أو غيره من الأوبئة الخطيرة التي تهلك الحرث والنسل.
واعلم أن ظاهر حديث أبي هريرة: أن النازلة وإن وقعت في طائفة من المسلمين من أسر أو تعريض لقتل أو وباء على القول به أنه وإن نزل في طائفة من المسلمين ولم يكن عاماً فإنه يشرع ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قنت لطائفة مأسورة عند قريش.
قوله: (فيقنت الإمام)
أي الإمام الأعظم.
هذا هو المشهور في المذهب وأنه إنما هو الإمام الأعظم أي الحاكم أو السلطان أو الخليفة.
وعن أحمد: أنه نائبه إن أذن الإمام.
وعن أحمد: أن إمام الجماعة يشرع له ذلك.
وعن أحمد: كل مصل له ذلك.
فهذه أربع روايات عن الإمام أحمد: أظهرها وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه مشروع لكل مصل لأنه دعاء لله عز وجل لا يترتب عليه فتنة وشر ولا افتيات على السلطان والحاكم.
وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وقد تقدم أثر عمر، وفيه أنه دعا سراً، فهذا يدل على أنه وإن لم يكن مجهوراً به مختصاً بالمصلي نفسه فإنه يبقى مشروعاً.
فإذا فعله من يصلي وحده أو المرأة، فلا حرج في ذلك ويبقى على مشروعيته.
إلا أن يترتب على فعله فتنة أو يمنع منه السلطان أو الحاكم فيترتب على فعله مفاسد، فينهى عنه لهذه المفاسد. أما إن لم يكن ذلك، فإنه دعاء لله، الأصل فيه ألا مفسدة فيه، فلا ينهى عنه وإن لم أذن السلطان.
[في الفرائض]
تقدم أن القنوت عام في الفرائض كلها.(7/20)
وتقدم أنه يستحب له أن يرفع يديه كما في أثر عمر بن الخطاب، وتقدم في مسند أحمد عند الكلام على رفع اليدين في قنوت الوتر.
ويجهر الإمام كما هو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في حديث أبي هريرة، فظاهر أنه جهر، وحديث ابن عباس، وظاهر في ذلك، وأثر عمر فيه أنه جهر.
ويؤمن من خلفه كما تقدم في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، فعلى ذلك: يرفع يديه ويدعو الله بما يناسب المقام من الدعاء مما وقع في المسلمين من نازلة، ويؤمن من خلفه.
وقد استثنى الحنابلة في المشهور عندهم صلاة الجمعة، فقالوا: لا يشرع فيها القنوت.
واستدل بعضهم: على أنها يوم عيد، فلا يناسب ذكر النازلة فيه.
وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب القاضي من الحنابلة: إلى أن الجمعة كغيرها، يشرع فيها القنوت.
وهذا هو الأظهر؛ فإن حديث ابن عباس المتقدم عام في الجمعة وغيرها، في قوله: " دبر كل صلاة مكتوبة "، فيشمل الجمعة كما يشمل غيرها.
وليس هناك معنى يناسب لإخراج الجمعة عن هذا الحكم، فإن وقوع النازلة في المسلمين يقتضي دعاء الله - عز وجل -، وسواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها.
مسألة:
إذا قنت إمام في غير نازلة، كأن يقنت في صلاة الفجر، كما يقع هذا من الشافعية أو من المالكية بالسكوت منهم، فما الحكم في حق المأموم؟
المشهور في المذهب: أن المأموم يتابع الإمام، فيؤمن بدعائه، وعليه فإنه يرفع يديه وغير ذلك. وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام: في أن الإمام إذا فعل ما يسوغ له مما هو من الاجتهاد، فإن المأموم يتابعه، كأن يقنت أو أن يصل الوتر. هكذا قال شيخ الإسلام.
وقال بعض الحنابلة: لا يتابعه.
وهذا القول ضعيف من جهة إطلاقه، وفيه معنى صحيح.(7/21)
أما إطلاقه فظاهره أنه يفارق الإمام، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا من الإمام فعل يسير في الغالب، ويمكن للمأموم أن ينتظره، ولا يعدو ذلك إلا أن يكون إطالة في ركن مشروع، فكونه يتابعه، هذا لا يؤثر في صلاته. وأما المعنى الصحيح فيها فهو كونه يفارقه في الفعل والقول، فهذا هو المعنى الراجح في ذلك.
فالأظهر أنه يتابعه في القيام والانتظار، فلا يسبق الإمام إلى النزول إلى السجود أو إلى الركوع إن قنت قبل الركوع، لكنه لا يرفع يديه ولا يؤمن على دعائه، وإنما ينشغل بذكر مشروع في هذا الموضع، كأن يطيل من تمجيد الله - عز وجل - والثناء عليه؛ لأن المقصود من متابعته عدم الخلاف على الإمام بأن يتقدم عليه في ركوع ونحوه.
أما أن يخالفه فيما يمكن مخالفته فيه من غير أن يكون ذلك مؤثراً في الصورة الظاهرة، فهذا لا حرج فيه.
فالظاهر أنه لا يتابعه وقد فعل أمراً محدثاً، لكنه يبقى منتظراً له قائماً مشتغلاً بما يشرع من غير أن يقع منه الحدث.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والتراويح عشرون ركعة)
التراويح: جمع ترويحة، وهي الجلسة اليسيرة للاستراحة وسمي قيام الليل تراويحاً: لأنهم – أي السلف – كانوا يجلسون بعد كل أربع ركعات جلسة يسيرة، وقد حكى صاحب الفروع اتفاق أهل العلم عليها.
ويستدل لذلك بحديث عائشة في الصحيحين أنها قالت: (ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً ... …ثم يصلي ثلاثاً) فأتت بلفظة " ثم " التي تفيد التراخي، بينما جمعت بين الأربع في قولها: " يصلي أربعاً " مع أنها قالت: " يسلم من كل ركعتين " كما في رواية مسلم فهذا يدل على ثبوت هذه الجلسة بين الأربع ركعات.(7/22)
إلا أن الحديث المتقدم ليس فيه اختصاص هذه الجلسة لقيام رمضان فحسب، بل القيام كله، وأنه يستحب الراحة بعد صلاة أربع ركعات مطلقاً في رمضان وفي غيره.
وقد تقدم أن صاحب الفروع حكى اتفاق أهل العلم على استحبابها وقال: " وفعله السلف ولا بأس بتركه " وهو كما قال فهي سنة مستحبة من تركها فلا بأس.
وهي – أي التراويح – سنة مستحبة باتفاق العلماء وإجماعهم فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ذات ليلة فصلى أناس بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: قد رأيت ما صنعتم، فلم يمنعني من الخروج عليكم إلا أني خشيت أن تفرض) قال الراوي: وذلك في رمضان ".
فهذا هو أصل مشروعيتها من السنة النبوية.
وبقي الأمر كذلك في عهد أبي بكر الصديق وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما: ثم سنها عمر فجمع الناس إليها على أبي بن كعب.
كما ثبت في البخاري عن عبد الرحمن القارئ قال: (خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون فقال: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها خير من التي يقومون، كان وكان الناس يقومون أوله)
" التي ينامون عنها " من صلاة الليل في آخره فهي أفضل.
وكانوا مراعاة لمصلحة عامة الناس يصلون في أوله لا سيما قبل العشر الأواخر، فكان عمر يقول ذلك.(7/23)
فهي سنة نبوية أولاً، فلما زال ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشاه من كونها تفرض بوفاته عليه الصلاة والسلام وانتهاء التشريع كان من عمر أن استأنف شرعيتها فجمع الناس إليها وهذا من موافقة أمير المؤمنين للحق كما هو معلوم فيما هو عليه - رضوان الله عليه – وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) .
(عشرون ركعة) فتصلى عشرون ركعة كما هو مذهب جماهير العلماء وهو فعل أهل مكة حكاه عنهم الشافعي وغيره.
أما فعل أهل المدينة فكما حكاه الشافعي وغيره أنهم يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث.
فجمهور العلماء وهو مذهب أكثر الفقهاء كما حكى ذلك الترمذي وغيره على القول باستحباب صلاة عشرين ركعة ثم يوتر بواحدة أو بثلاث.
واستدلوا: بما رواه البيهقي بإسناده الصحيح وصححه شيخ الإسلام وغيره عن السائب بن يزيد قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان عشرين ركعة) الأثر إسناده صحيح ورواه مالك في موطئه عن يزيد بن رُومان قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة) فذكر فيها الوتر بثلاث، لكن السند هنا منقطع فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.
فهذا الأثر يدل على أنها كانت تصلى في عهد عمر عشرين ركعة، وهو فعل أهل مكة.
وروى مالك في موطئه عن السائب بن يزيد قال: (أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نتكأ على العصي من طول القيام قال: فما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر) .
ولعل هذا يحمل – للجمع بينه وبين الرواية المتقدمة – على حدوث ذلك في العشر الأواخر وأنهم لا ينصرفون إلا عند طلوع الفجر، بخلاف صلاتهم قبل ذلك فإنهم يتركون قيام آخره كما في قول عمر: " والتي ينامون عنها خير من التي يقومون ".(7/24)
والجمع بين الأثرين الصحيحين: أنه لا مانع من ثبوتهما جميعاً لاختلاف الأحوال فإن عصر أمير المؤمنين عمر، ثبت سنين طويلة فلا مانع أن يثبت هذا في بعض السنين ويثبت الآخر في بعضها الآخر أو أن يكون إمامين " أبي وتميم " ويكون ذاك من أئمة أخر.
ويحتمل أيضاً: أن هذا بالاختلاف في تطويل القراءة وتخفيفها فإذا طولت القراءة خفف الركعات، وإذا خففت القراءة أكثر الركعات، كما نص على ذلك الشافعي.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذين الاحتمالين للجمع بين الأثرين، فذكر أنه يحتمل أن يكون على اختلاف الأحوال أو اختلاف القراءة تطويلاً وتخفيفاً. وهذا جمع ظاهر بين الآثار.
قال شيخ الإسلام: " فإن فعل ذلك أو صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فقد أحسن " ونص على ذلك الإمام أحمد.
وقال شيخ الإسلام: " من ظن أن قيام الليل مؤقت بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ " وهذا ما نص عليه الأئمة أحمد والشافعي وغيرهما.
فليس هناك في قيام رمضان ولا غيره عدد مؤقت لا يزاد فيه ولا ينقص.
نعم المستحب أن يصلي إحدى عشرة ركعة مع تمام ركوعها وسجودها وإطالة القيام فيها.
لكن إن خفف ذلك – أي القراءة – فالأحب أن يزيد في السجدات فثبت له فضيلة السجود. فليس للقيام عدد مؤقت، والأدلة على ذلك كثيرة.
فمن ذلك الأثر المتقدم عن زمن عمر.
ومن ذلك – وهو أولى بالاستدلال – ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " صلاة الليل مثنى مثنى " وهذه اللفظة تفيد التكرار ولم يوقته بعدد، فلم يقل: " ولا يزيد على إحدى عشرة ركعة " ومعلوم أن فعله لا يقتضي الوجوب.
ومن ذلك: ما في مسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر) .(7/25)
وعليه الصحابة، فقد روى البخاري بسنده الصحيح عن ابن عمر قال: (أصلى كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها)
وهذا – أيضاً – ما تقتضيه الأدلة الشرعية التي فيها النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فظاهرها أنه يصلي في غير وقت النهي ما شاء، وهذا ما يدل عليه ما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عبسة وسيأتي ذكره في أوقات النهي.
وعليه عمل السلف الصالح فإنهم يصلون بألوان كثيرة وأعداد مختلفة من غير أن يثبت نكير في ذلك والسنة تقرر هذا وتدل عليه.
قال: (تفعل في جماعة)
هذا هو المستحب في المشهور من المذهب، أن المستحب في قيام رمضان أن يكون في جماعة، ويكون في المسجد، كما دلت عليه الآثار المتقدمة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته في المسجد، ومن حديث عمر في البخاري ففيه أنها تشرع في المسجد.
قال صاحب الإنصاف: " وتُصلى في المسجد في كل عصر ومصر " فهذا عمل الأمة في كل أعصارها وأمصارها أنها تصلي في المساجد.
وذهب الإمام مالك إلى أن المستحب أن تُصلى في البيت.
واستدل بما في مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن أتى ليصلي بصلاته وقد صلى بصلاته أناس فأتى قوم من الليلة القابلة ليصلوا بصلاته فقال: (ما زال صنيعكم بكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فصلوا الصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)
أما أهل القول الأول: فدليلهم: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها وسنية عمر، لكن هذا الدليل دليل على فضيلة ذلك ومشروعيته لا على أفضليته مع المعارض.
والدليل الثابت في مسلم يدل على أن الصلاة في البيت أفضل وهو قول بعض الأحناف وقول لبعض الشافعية، بل هو رواية عن الإمام أحمد.
فعلى ذلك المستحب له أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.(7/26)
ومحل هذا – أي استحباب صلاته في البيت – حيث كان لا يكسل عن صلاتها في البيت، وحيث لا تتأثر الجماعة في المسجد بعدم حضوره كالإمام، فيشرع له أن يصليها في المسجد وتكون صلاته في المسجد في حقه أفضل من صلاته في البيت أما سوى ذلك وهو من لا يكسل عن الصلاة في البيت بل يقوى عليها ولا تتأثر الجماعة به فإن المستحب أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.
قال: (مع الوتر)
فيصلي التراويح عشرين ركعة في الجماعة مع الوتر، فالوتر يصلى جماعة في المسجد، يدل عليه حديث أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) ففيه أنه يصلي معه الوتر أيضاً.
وقد أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة فهو ظاهر في أنه أمره بالوتر وأن يقوم للناس بذلك.
قال: (بعد العشاء)
فهي سنة بعد العشاء كالوتر وقد تقدم دليله.
وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد فمن صلى قبل العشاء فلا تصح منه ولا تقبل.
أما قيام الليل فالمشهور في المذهب أن وقته يبدأ من بعد صلاة المغرب.
وقد أجازها بعض متأخري الحنابلة، وأنكر ذلك شيخ الإسلام وقال: " ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعين المخالفين للسنة " فهي مخالفة صريحة للسنة.
ويستحب أن يصليها بعد سنة العشاء لترتبط السنة بالفريضة، فإن الأصل في السنة أن تكون مرتبطة بفريضتها. لكنه إن صلى قبلها فلا بأس. فتسن بعد العشاء وسواء صُليت العشاء في وقتها أو قدمت جمعاً مع المغرب.
قال: (في رمضان)
فالتراويح إنما تُشرع في رمضان.
وقد تقدم الحديث المتفق عليه، قوله: (وذلك في رمضان)
فإن صلوا في غير رمضان جماعة فلا بأس لكن من غير أن يتخذ ذلك سنة ومن غير أن تكون ظاهرة في المساجد.(7/27)
ودليل جوازه ما ثبت في الصحيحين من صلاة ابن عباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك صلاة جابر وجبار - في مسلم – مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل في سفر.
فهذا يدل على جوازه لكن من غير أن يتخذ سنة ومن غير أن يظهر في المساجد.
قال: (ويوتر المتهجد بعده)
بعده: أي بعد التهجد.
فمن أراد أن يصلي بعد التراويح، فإنه يجعل الوتر بعد تهجده، وعلى ذلك فإذا قام الإمام للوتر انصرف للحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه.
قال: (فإن تبع إمامه شفعه بركعة)
إذا تابع إمامه فقام فصلى معه الوتر فإنه يشفعه بركعة فإذا سلم الإمام قام يصلي ركعة تشفع له ركعة الإمام، ليصيب الفضيلة المتقدمة في حديث أبي داود: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)
وإن سلم معه وتهجد بلا وتر فصلى من الليل بعد ذلك مثنى مثنى فلا بأس كما ثبت هذا من فعل أبي بكر وأقره على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في أبي داود.
وقد تقدم ثبوت ركعتين بعد الوتر، فهنا صلى مع الإمام اقتداءً وانصرف معه، وأحب أن يتهجد من آخر الليل فله أن يتهجد ويصلي مثنى مثنى.
وليس له نقض وتره، وصفة نقضه: أن يصلي ركعة واحدة تشفع له وتره المتقدم، فهذا غير مشروع لأنه وتر أيضاً وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا وتران في ليلة) رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما والحديث حسن. فلا يشرع في الليل إلا وتر واحد، له أن يشفع ذلك ما دام مع الإمام – كما تقدم – أما بعد ذلك فهو غير مشروع اتفاقاً.
قال: (ويكره التنفل بينهما)
فيكره أن يتنفل بين ركعات التراويح، وقد حكى الإمام أحمد كراهيته عن ثلاثة من الصحابة فقال رحمه الله: " عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة وأبي الدرداء وعقبة بن عامر "(7/28)
ولما فيه من الزيادة عن الإمام والرغبة عن البقاء على ما هو عليه من الصلاة، فلا يشرع له أن يتنفل ما دام في المسجد، أما لو كان هناك زمن طويل بينها، كأن يصلي الإمام بعض الركعات في أول الليل، ثم يصلي بعضها في آخره فهذا فاصل كثير له أن يتنفل به كما صرح بذلك الحنابلة.
قال: (لا التعقيب في جماعة)
صفة التعقيب: أن يصلي بعد التراويح التي صلاها مع الإمام يصلي جماعة.
كأن يشهد رجل التراويح مع المسجد في أول الليل، فصلى في مسجد آخر في آخر الليل، فله أن يصلي مع المسجد آخر.
أو أناس صلوا مع الإمام ثم أحبوا أن يجتمعوا فيصلوا جماعة فلا بأس بذلك، نصَّ عليه الإمام أحمد، لأنه لا مانع منه شرعاً، وأصل الاجتماع في ليالي رمضان مشروع فلا بأس به وإن تكرر.
واستحب الحنابلة أن يختم القرآن كله في التراويح لا يزيد على ذلك ولا ينقص إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة.
وقال بعض الحنابلة: بل ينظر إلى المأمومين مطلقاً، فله أن ينقص عن الختمة إذا آثر المأمومون ذلك.
والأظهر أنه ينظر فيها إلى السنة لأنها صلاة مستحبة ليس في فعلها إلزام فيطبق بها السنة، وإن شق ذلك على بعض المأمومون.
وكونه يختم بختمة أو بختمتين أو ثلاث لم أر دليلاً من السنة يدل على شيء من ذلك إلا ما تقدم من أثر عمر وفيه: (أن الناس يتكئون على العصي في صلاة أبي بن كعب وتميم الداري) .
فإن قيل: بالتخفيف في أول رمضان والتطويل في آخره فلا بأس بمثل هذا القول، ولم أر في السنة حداً محدداً.
ولو قيل: أنها من جنس قيام الليل إلا أنها يصحبها شيء من التخفيف لاجتماع الناس إليها، فإن هذا قول حسن، لكن لا ينبغي أن يكون هذا راجعاً إلى المأمومين مطلقاً بحيث أنه لو شق على طائفة منهم أن يصلي بختمة مثلاً فإنه يخفف. القول بهذا ضعيف؛ ذلك لأن تلك المشقة إنما هي في الفريضة.(7/29)
أما في النافلة فإنها ليست إلزامية فمن أحب أن يصلي صلى مع الإمام ومن أحب أن يصلي وحده صلى وحده.
إلا أن يقال: إنها تدخل في عموم حديث: (من أمَّ الناس فليخفف، ومن صلى بنفسه فليطول ما شاء) فيكون قدرها ليس كقيام الليل، وإنما فيها شيء من الإطالة وإن كانت ليست كقيام الليل.
والمقصود من ذلك: أنه ليس في السنة تحديد لقدر الختمات أو نحو ذلك، وإنما تبقى أن تكون من قيام الليل إلا أنه يصحبها شيء من التخفيف الذي يطيقه المأمومون.
لكنها أن تكون تحت رغباتهم، فهذا محل نظر فإنها تذهب بالعبادة، فإن العبادة شرعت – في الأصل قياماً لليل – لا سيما في العشر الأواخر التي يشرع فيها إطالة العبادة والإكثار منها، والله أعلم.
ونص الإمام أحمد: أنه يستحب أن يفتتح قيام الليل في أول ليلة بأن يقرأ بسورة: " اقرأ " لكونها أول ما أنزل من القرآن. ولم أر أثراً يدل على ذلك، وقد قال صاحب شرح منتهى الإرادات في شرحه" ولعل عنده أثر ". وهذا الغالب في مثل الإمام أحمد أنه لا يذكر مسألة إلا وعنده أثر منها لكن الأثر لم يذكر.
وعن الإمام أحمد، وقال شيخ الإسلام: " وهو أحسن " أي من القول الذي قبله – أنه يقرأ بسورة " اقرأ " في صلاة العشاء الآخرة ثم يشرع في البقرة في التراويح.
وهذا لا دليل عليه، فيتوقف عن القول به إلا أن يرد دليل يدل عليه أو أثر عن الصحابة.
فعلى ذلك: الأولى – ما دام الأثر لم يثبت لنا – أن يشرع بسورة البقرة.
ثم إن ظاهر كلام الإمام أحمد استحباب قراءة سورة " اقرأ " كاملة، مع أن أول ما نزل منها إنما هو صدرها؟
ولقائل أن يقول: إنما شرع إتمامها لا لكونه أول ما نزل ولكن لاتصاله بأول ما نزل في السورة، والمستحب في السور أن تتم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم السنن الراتبة)
أي في الفضيلة، فلفظة " ثم " تفيد الترتيب، فبعد الوتر والتراويح تأتي فضيلة السنن الراتبة.(7/30)
وقد تقدم تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل على الصلاة مطلقاً، وأن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل والتراويح من صلاة الليل فتكون داخلة في عموم هذا اللفظ فعلى ذلك: الراجح ما تقدم وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة ومن ذلك الوتر وقيام الليل ومنه التراويح.
وكون المؤلف يفرِّق بين التراويح وبين غيره من الصلاة محل نظر، بل التراويح نوع من أنواع صلاة الليل وصلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة.
" ثم السنن الراتبة " وهي السنن المؤكدة مع الفرائض.
والرواتب ذكرها المؤلف عشراً فقال:
: (ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر)
هذا المشهور في المذهب وأن الرواتب عشر وهي ما تقدم ذكره.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل صلاة الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد صلاة المغرب في بيته، وركعتين بعد صلاة العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح في بيته) وفي رواية (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فذكر عشر ركعات ومنها ركعتان قبل الظهر.
- وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن المستحب أربع قبل الظهر فتكون الرواتب اثنتي عشرة ركعة.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)
وثبت في مسلم من حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته يبنى له بهن بيت في الجنة) وفي رواية: (تطوعاً) .
ورواه الترمذي وزاد: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح) .
ففيه أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة.(7/31)
وهذا القول هو القول الراجح، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وفي حديث عائشة وأم حبيبة زيادة علم على ما في حديث ابن عمر.
وجمع ابن القيم بين هذه الأحاديث بجمع آخر: فذكر احتمالين استظهر أولهما:
الاحتمال الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين في المسجد وأربعاً في بيته واستظهر هذا.
والاحتمال الثاني: أنه كان يصلي تارة ركعتين وتارة أربعاً.
والأولى ما تقدم.
أما ما ذكره من الاحتمال الأول، فإن فيه نظر، لأن صلاة البيت أفضل من صلاة المسجد، فاللائق أن تكون الصلاة في المسجد مكررة زائدة على صلاة البيت ليجبر ما يكون من النقص في صلاة البيت، فتكون أربعاً في المسجد وركعتين في البيت. وصلاة البيت أفضل، فلو أن هذا يحتمل في هذه الأحاديث لكان أقوى، لكن هذا غير محتمل؛ لأن من حدثتنا وهي عائشة عن صلاة قبل الظهر فإنما حدثتنا عن صلاته في بيته – كما سيأتي التصريح في مسلم -.
وأما الاحتمال الثاني: فإنه وإن كان فيه شيء من القوة لكن ما تقدم ذكره أقوى، لأن غاية حديث ابن عمر الإخبار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين، وليس فيه نفي أن يكون قد صلى أربعاً لا سيما إذا صلى في بيته.
أو يحتمل أن يكون ابن عمر قد رآه صلى ركعتين في المسجد وكان قد صلى ركعتين في البيت مرة أو مرتين فحدث بذلك.
وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً ويقول: (أنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) فالراجح: أن المستحب له أن يصلي أربعاً قبل الظهر.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - – كما عند الخمسة بإسناد صحيح -: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار) .
والراجح أن السنن الراتبة اثنا عشرة ركعة.
قال: (وركعتان قبل الفجر وهما آكدها)
أي الركعتان قبل الفجر آكد السنن الراتبة.(7/32)
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) وفي مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)
ومن السنن المتصلة بركعتي الفجر:
فمن ذلك: أن المستحب له أن يقرأ بهما: {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} .
أو {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران.
فقد ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ: ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} ) .
وثبت فيه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين قبل صلاة الفجر، في الأولى بـ: ( {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران) (1) .
فالمستحب أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
كما أن المستحب له أن يقرأ بالسورتين في الركعتين بعد صلاة المغرب، فقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقرأ في الركعتين بعد صلاة المغرب بـ ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} )
ومن ذلك: أن يخففهما، فالسنة في سنة الفجر التخفيف، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) وهذا من باب المبالغة.
ومن ذلك: أن يضطجع على شقه الأيمن بعد هذه السنة أو أن يتحدث مع أهل أو غيرهم.
أما دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
__________
(1) أخرجه مسلم.(7/33)
وفي الصحيحين من حديثها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) .
وفي أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن) . والحديث معلول، فإنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وروايته عن الأعمش فيها مقال كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
ورواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
فالحديث المعلول فيه الأمر بذلك وبه استدل من ذهب على الوجوب، وأما الحديث الثاني فإنه يصف الفعل ثم لو صححناه قولاً فإن هذا الأمر ليس للوجوب بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ما ذكرته عائشة من قولها: (فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) فهذه من سنن ركعتي الفجر.
ويستحب في هذه الصلوات الراتبة أن يصليها في بيته لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)
وفي مسلم عن عائشة – وهو الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه – قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في بيته أربعاً قبل الظهر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين) فذكرت أن من سنته صلاة السنن الرواتب في البيت.
وآكد ذلك: سنة المغرب حتى روى عن الإمام أحمد القول بعدم الإجزاء إذا صليت في المسجد.
والقول المشهور عنه خلاف ذلك وهو الذي تدل عليه الأدلة.(7/34)
ودليله ما ثبت عند أبي داود والحديث صحيح: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مسجد بني عبد الأشهل فلما قضوا صلاة المغرب قاموا يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)
فهذه الصلاة لا تشرع أن تصلى إلا في البيوت، لكن مع ذلك إن صليت في المسجد فهي صلاة مجزئة صحيحة.
قال: (ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه)
فمن فاته شيء من النوافل سواء كانت ركعتي الفجر أو غيرها سن له قضاؤه.
لعموم قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) و " صلاة " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم.
وثبت ذلك من فعله، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام في سفره حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر) .
وثبت عن أم سلمة في الصحيحين: (أنه شغله وفد عبد القيس عن الركعتين التي بعد صلاة الظهر فصلاهما بعد صلاة العصر)
وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصليهما بعدها)
فهذه أحاديث تدل على مشروعية القضاء للسنن الرواتب.
واعلم أن وقت النافلة هو وقت الفريضة مجزءاً، فما كان من السنن قبلياً فوقته من دخول وقت الصلاة إلى صلاة الفريضة.
وما كان بعدياً فوقته من نهاية الصلاة إلى خروج الوقت.
فركعتا الفجر القبلية من أذان الفجر إلى صلاة الفجر.
وسنة المغرب البعدية وقتها إذا صلى المغرب ما لم يغب الشفق – كما ذكر ذلك الموفق – ولم يذكر فيه خلافاً والنظر يدل عليه.
فإذا صلى القبلية في وقت البعدية فهذا من القضاء، ومن ذلك ما ثبت في أبي داود والحديث صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين فقال له: (صلاة الصبح ركعتان) فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلها فصليتهما الآن فسكت مقراً له.(7/35)
فإذا فاتته سنة الفجر القبلية فله أن يصليهما بعد الصلاة وله أن يؤخرها حتى تطلع الشمس، والأولى له أن يصليها بعدها لأن السنة في القضاء المسارعة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلها إذا ذكرها) .
وما ذكره المؤلف هنا هي السنن الرواتب اليومية.
وهنا سنن غير راتبة فهي صلوات مستحبة لكنها لا تتخذ راتبة كالسنن الراتبة المتقدمة.
فمن ذلك: أن يصلي ركعتين بعد الظهر زيادة على الركعتين اللتين تقدم ذكرهما، فتكون صلاته أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها.
ودليل ذلك الحديث المتقدم عند الخمسة بإسناد صحيح: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار)
ومن ذلك: أن يصلي قبل صلاة العصر أربعاً، فقد ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال فالحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً)
قالوا: ومن السنة أن يصلي ستاً بعد المغرب، ولعل مرادهم أربع مع الركعتين المتقدمتين فيكون مجموعها ستا.
واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ضعيف جداً في الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى بعد المغرب ستاً لا يتكلم بينهن بسوء عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة) لكن الحديث لا ثبت.
واستحبوا: أن يصلي بعد العشاء أربعاً أو ستاً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل عليَّ إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) لكن الحديث فيه مقاتل بن بشر البجلي وهو مجهول، فالحديث ضعيف.
وذكروا أن الركعتين قبل صلاة المغرب مباحتان أي بعينها مباحة وإن كانت مستحبة بالنظر إلى عموم الصلاة.
واستدلوا: - بما يقتضي استحبابهما – وهو الراجح.(7/36)
ودليل ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)
في رواية أبي داود: (صلوا قبل المغرب ركعتين)
وثبت في ابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى قبل المغرب ركعتين)
وفي البخاري ومسلم: (أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يبتدرون السواري فيصلونها) حتى ثبت في مسلم: (فيأتي الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها)
وهذا في الحقيقة ليس خاصاً في صلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات، وأنه يستحب أن تقدم بين يديها ركعتان ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بين كل أذانين صلاة)
وثبت في ابن حبان بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من صلاة مكتوبة إلا بين يديها ركعتان)
فهذا الحديث يدل على أنه يستحب بين الأذان والإقامة في العشاء أن يصلي ركعتين، وأن هذا مستحب بين الأذان والإقامة في الظهر وفي الفجر، لكن تلك قد وردت بها السنة في الصلاة المتقدمة، فعلى ذلك ما لم يرد فيه السنة يستحب أن يصلي ركعتان فيه بين الأذان والإقامة.
والصلاة بين أذان المغرب وإقامته آكد لحديث عبد الله بن مغفل ولفعل الصحابة ومواظبتهم عليها، فهذا يدل على أنها آكد لكن مع ذلك بين كل آذانين صلاة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار)
أي قيام الليل المطلق، فيخرج من ذلك التراويح والوتر فقد تقدم الكلام عليها – فهي – أي صلاة الليل المطلقة أفضل من صلاة النهار المطلقة " فيخرج الرواتب فقد تقدم ذكرها ".
فصلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.(7/37)
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)
وهذا الدليل أعم من المسألة، فهو يعمها ويعم المسائل المتقدمة فهو يدل على تفضيل صلاة الليل مطلقاً على صلاة النهار.
فقيام الليل أفضل الصلوات مطلقاً سواء كانت راتبة أو كانت استسقاء أو نهارية مطلقة، فصلاة الليل أفضل منها لعموم الحديث المتقدم.
فهم استدلوا بهذا الحديث وذكروا هذه المسألة لكن ليس على وجه التعميم المتقدم بل على وجه التخصيص المقيد أي صلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.
قال: (وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه)
فثلث الليل بعد نصفه أفضل وقت لصلاة الليل.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) فهذه أفضل الصلاة أن يصلي ثلث الليل بعد نصفه وهذا الثلث يأخذ من الثلث الأوسط نصفه الأخير، من الثلث الأخير نصفه الأول.
قال: (وصلاة ليل ونهار مثنى)
أما صلاة الليل فلحديث ابن عمر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) فيكره أن يصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إلا ما تقدم مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وصلاة النهار كذلك قالوا: لما روى الخمسة بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وهذا الحديث معلول، فلفظة (والنهار) تفرد بعض الرواة، والمحفوظ (صلاة الليل مثنى مثنى) أما لفظة (النهار) فهي لفظة معلولة، وقد نص على خطئها النسائي والدارقطني وغيرهم من الأئمة. [نيل الأوطار: 3 / 31]
وإنما هي ثابتة عن ابن عمر كما عند ابن وهب – كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح، فهي من قول ابن عمر.(7/38)
ولكن مع ذلك فالسنة دلت على ذلك، ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لما صلى بمكة ضحى ثماني ركعات سلم بين كل ركعتين) فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النهار مثنى مثنى، فالمستحب فيها أن تكون مثنى مثنى. كما دل هذا الحديث وغيره.
قال: (وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس)
فإن صلى صلاة النهار أربعاً فلا بأس ولا كراهية أما صلاة الليل تكره كما تقدم.
أما النهار فلا بأس بذلك، لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لها أبواب السماء) والحديث فيه عُبيدة الضبي وهو ضعيف.
وروى أحمد والترمذي والحديث إسناده جيد عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين) فهذا الحديث وإن كان إسناده جيد، لكن الاستدلال به محل نظر لأن لفظة التسليم فيها احتمال قوي مخالف.
فيحتمل أن المراد سلم التسليم الشرعي بأن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) يميناً وشمالاً فإن هذا تسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
ويحتمل أن يكون هذا لأنه جلس للتشهد بين الأربع فتشهد وقام ولم يسلم وفي الحديث في التشهد: (السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الله الصالحين) وهذه تشمل الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
وكلا الاحتمالين قوي، وحملها على الاحتمال الأول هو الأولى لموافقة ما هو معلوم من النبي - صلى الله عليه وسلم - من كونه يصلي من النهار مثنى مثنى فالأظهر الاحتمال الأول.(7/39)
وإنما ذكر ذلك ليبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها متوالية لم يفصل بينها إلا بالسلام المشروع الذي هو سلام على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، ولم يفصل بينها بكلام ولا غيره.
ولكن يستدل لها: بما ثبت من فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح: (أنه كان يصلي من النهار أربعاً أربعاً) وليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدال على استحباب صلاة النهار مثنى، وابن عمر فعله يدل على الجواز وهو راوي حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) بخلاف صلاة الليل فقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المشروع فيها أن تصلى مثنى مثنى.
بل لو قيل: أن صلاة الليل لا تصح إلا مثنى مثنى لكان قوياً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بهذا الحديث أن صلاة الليل إنما تشرع مثنى مثنى وخلاف المشروع مردود لا يصح.
فعلى ذلك: صلاة الليل لا تشرع إلا مثنى مثنى.
أما صلاة النهار فالمستحب فيها أن تصلي مثنى مثنى فإن صلاها أربعاً فلا بأس لفعل ابن عمر.
قالوا: ولا كراهية أيضاً.
قال: (وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم)
فصلاة القاعد غير المعذور على نصف أجر صلاة القائم، لما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً - قال البخاري: " أي مضجعاً " - فله نصف أجر القاعد) فالمراد من كان بغير عذر.
أما إن كان معذوراً فقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: (إن العبد إذا مرض أو سافر ثبت له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) فالمعذور يكتب له أجر غيره لا ينقص له من أجره شيئاً.
وقد أجمع العلماء على صحة صلاة التطوع قاعداً مطلقاً، سواء كانت وتراً أو سنة فجر أو غير ذلك من الصلوات التطوعية لكن للمصلي أجر لا يساوي أجر القائم بل هو على النصف منه.(7/40)
* وهل تصح صلاة المضطجع تطوعاً أم لا؟
قولان لأهل العلم:
المشهور في المذهب، وهو مذهب جماهير العلماء: أن ذلك لا يجوز، حتى قال شيخ الإسلام - فيمن قال: إن صلاة المضطجع صحيحة في التنفل -: " وهو قول شاذ لا يعرف له أصل في السلف ".
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك،قالوا: يصح للحديث المتقدم ففيه: (من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) فهذا حديث ثابت، وبثبوت أصل الثواب يدل على الصحة، ولا يحمل هذا على المعذور؛ لأن المعذور له الأجر كاملاً فوجب حمله على غير المعذور.
وأما ما ذكره شيخ الإسلام: أن هذا ليس له أصل في السلف، فهذا فيه نظر، فهذا القول قد ذهب إليه الحسن البصري كما رواه عنه الترمذي وغيره، وذهب إليه الإمام أحمد في رواية محكية عنه، وهو مذهب بعض أصحابه. والسنة تدل عليه لكن الأجر كما تقدم على النصف من صلاة القاعد. فالحديث ظاهر في ذلك.
هنا مسألتان في صلاة التطوع:
المسألة الأولى: جواز صلاة التطوع جماعة:
فيجوز - في المشهور في المذهب – أن تصلى صلاة التطوع سواء كانت نهارية أو ليلية أن تصلى جماعة.
ومما يدل عليه ما في الصحيحين عن أنس مالك من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم قال: (فصليت أنا واليتيم خلفه وأم سليم خلفنا) .
وثبت نحو هذا من حديث عتبان بن مالك في البخاري عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوره فيصلي في بيته فيتخذه مسجداً، فكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذهب إليه فصلى في بيته وصلى خلفه أصحابه.
وتقدم حديث ابن عباس المتفق عليه، وحديث جابر وجبار الذي رواه مسلم في صلاتهما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل.
فهذه الأحاديث تدل على صحة وجواز صلاة التطوع جماعة.
وقيَّد ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد بقيد صحيح معتبر وهو: ألا تتخذ سنة فتضاهي ما شرعت لها الجماعة.(7/41)
فإن الشارع قد شرع لبعض الصلوات الجماعة كالتراويح في رمضان وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف على القول بسنيتها - ونحو ذلك – فكوننا نتخذ هذه الصلاة تطوعاً جماعة - نتخذها - سنة، يضاهي ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشروعية تلك جماعة، ولما كان مضاهياً للمشروع لم يشرع.
المسألة الثانية: هل الأفضل الإكثار من الركوع والسجود أم الأفضل أن يطيل القيام؟
1- المشهور في المذهب: أن المستحب له أن يكثر من الركوع والسجود وأن ذلك أفضل من إطالة القيام.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم من حديث ربيعة الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (سل) فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال (أو غير ذلك؟) قال: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) .
وفي مسلم من حديث ثوبان أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب العمل إلى الله وما يدخل العبد الجنة؟ فقال: (عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعت بها درجة وحط عنك بها خطيئة) .
2- وعن الإمام أحمد، وهو اختيار بعض أصحابه كالمجد ابن تيمية. قالوا: الأفضل هو طول القيام.
لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي طول القيام. ونحن إذا نظرنا من غير ما ذكروه من الأدلة: فإنك ترى أن لكل منهما فضيلة، فالركوع والسجود لا شك أنه أفضل من ذات القيام، فإن في الركوع والسجود من التذلل لله والانكسار بين يديه ما ليس في القيام.
وإذا نظرت إلى ما في القيام من القراءة التي هي كلام الله تعالى، وجدت أنه أفضل مما في الركوع والسجود من ذكر الله تعالى، فإنه ليس فيه إلا الذكر حتى ثبتت الأدلة في النهي عن قراءة القرآن فيه، ولا شك بفضيلة القرآن على ذكر الله.(7/42)
فلكل منهما فضيلة، ونصت السنة على فضيلة طول القنوت - فيما ذكره أهل القول الثاني – وهو الراجح؛ لتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفضيل.
والقيام وإن كان مفضولاً بالنسبة إلى الركوع والسجود فهو فاضل لما فيه من قراءة القرآن.
والأحاديث التي ذكرها أهل القول الأول تدل على ففضيلة الإكثار من الركوع والسجود لكن ذلك لا يدل على الأفضلية، بخلاف دليل أهل القول الثاني فهو يدل على الأفضلية.
وهذا ما تشير إليه الآيات القرآنية لقوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فسمى الله الصلاة قرآناً والمراد من ذلك صلاة الفجر في الآية – كما ثبت في الصحيحين.
ولا شك أن الجمع بين الإكثار من الركوع والسجود مع طول القنوت أفضل لكن المسألة هنا في التفضيل بينها في التعارض.
وعليه: فإذا صلى في التراويح إحدى عشرة ركعة فأطال قيامها وأطال القراءة فيها. فهو أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر من ذلك وخفف قراءتها.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتسن صلاة الضحى)
لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد) ورواه مسلم من حديث أبي ذر نحوه، ورواه أحمد والنسائي من حديث أبي الدرداء ونحوه.
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على استحباب صلاة الضحى وهل يستحب ذلك على هيئة الدوام أم المستحب عدم المداومة بل يفعلها أحياناً؟
قولان لأهل العلم هما قولان في المذهب:
القول الأول، وهو المشهور: أنه لا يستحب أن يداوم عليها.(7/43)
القول الثاني، وهو اختيار طائفة من الحنابلة كالمجد ابن تيمية والقاضي وغيرهما قالوا: باستحباب المداومة عليهما.
استدل من لا يرى استحباب المداومة: بما ثبت من الأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها.
ممن ذلك ما ثبت في الصحيحين: أن ابن عمر سئل: (أتصلي الضحى؟ قال: لا، فقيل:فعمر؟ قال: لا، فقيل: أبو بكر؟ قال: لا، قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله) أي لا أظنه.
ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها) .
وثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى إلا أم هانئ) – الحديث وسيأتي تمامه –.
قالوا: فهذه الأحاديث تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ظاهراً يحافظ عليها، بل ظاهر هذه الأحاديث أنه لم يكن يصليها.
أما القائلون باستحباب المداومة فاستدلوا: بالأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها، فمن ذلك:
ما ثبت في مسلم – عن عائشة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) .
والجمع بينه وبين حديثها المتقدم: أن الحديث الأول فيه نفي الرؤية، أما هذا الحديث فهو رواية، فهي تروي عن غيرها ممن حدثها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى، ولم تنسب ذلك إلى رؤيتها، وإنما نسبت إلى رؤيتها نفي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهو فعلها فقد ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن عائشة: (كانت تصلي الضحى ثماني ركعات وتقول: لو نُشر أبواي ما تركتهما) فهذا فيه تمام محافظتها ومداومتها على صلاة الضحى.(7/44)
ومما يدل عليه أيضاً: ما ثبت في الحاكم بإسناد حسن من حديث علي ومن حديث جبير بن مطعم والحديثان إسنادها حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى) .
ومن حديث جابر في المستدرك بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى ست ركعات) .
وهذا الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى فإنها لا تدل على المحافظة، كيف وقد نفى ذلك من هو أعلم الناس به عليه الصلاة والسلام وهي عائشة، وقد نفاه من هو من أتبع الناس لسنته وهو ابن عمر فقد ظن ظناً غالباً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليها، فهو نفي منه للرؤية والسماع.
لكن هذه الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها فإنها لا تدل على أن أصل المحافظة غير مستحب، فقد ثبت عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) .
فهنا عائشة كأنها تستدل على استحباب المحافظة والمداومة على صلاة الضحى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – وإن لم يكن يحافظ عليها فإنه - كان يدع العمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. والأحاديث القولية المتقدمة تدل على استحباب ذلك مطلقاً.
فالأظهر استحباب المداومة عليها.
وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحافظ فعلاً، فإنه قد حث عليها قولاً في الأحاديث المتقدمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.(7/45)
ومما ثبت في فضل ركعتي الضحى إن سبقتا بذكر بعد صلاة الفجر – ثبت في ذلك ثواب عظيم – فقد روى الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) والحديث حسن لشواهده.
قال: (وأقلها ركعتان)
للحديث المتقدم: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) وقول أبي هريرة: (وركعتي الضحى) .
* وهنا مسألة في التطوع عامة وهي:
هل يجزئ في التطوع – سوى الوتر – أن يصليه ركعة أم لا يجزئه ذلك؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور عند الحنابلة: الإجزاء.
القول الثاني وهو اختيار الموفق: أنه لا يجزئ ذلك. وهو أصح القولين؛ لقول - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس من هديه صلاة التطوع واحدة وهديه - صلى الله عليه وسلم - – حاكم على العبادات وكل عمل ليس على هديه فهو مردود.
قال: (وأكثرها ثمان) .
لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلا أم هانئ، فإنها حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات قالت: لم يصل صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود) ، وقد صلاها في بيتها ضحى.
قالوا: هذا يدل على أن صلاة الضحى أكثرها ثماني ركعات هذا هو المشهور في المذهب.
- وعنه – رحمه الله – وهو اختيار طائفة من أصحابه: أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة.
واستدلوا: بما رواه الترمذي وضعفه – لجهالة فيه – من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الضحى اثنى عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) والحديث إسناده ضعيف عند الترمذي لكن له شاهدان:
1- الشاهد الأول: عند البزار من حديث أبي الدرداء.(7/46)
2 - والثاني: عند الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر.
قال الحافظ ابن حجر: " فإذا صح عليه حديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر قوي وصلح للاحتجاج ".
وهو كما قال فالحديث حسن بشواهده ويشهد له حديث أم حبيبة المتقدم فيمن صلى اثتني عشرة ركعة تطوعاً، وإن كانت السنن الرواتب هناك، فإن هنا كذلك فإن العمل مستوٍ، وهذا يقتضي في الغالب استواء الأخر لاسيما وقد ورد الحديث هنا مع تعدد شواهده.
فالأظهر حسن الحديث، وعليه فالمستحب له – كما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار طائفة من أصحابه أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، وذلك أكثر صلاة الضحى.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما في مسلم - يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله.
فلو زاد على اثنتي عشرة ركعة فلا بأس كما تقدم من قول ابن عمر: (ولا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء) .
وتقدم حديث جابر في أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات.
إذن: القدر المجزئ من صلاة الضحى ركعتان، فإن زاد على ذلك فهو حسن، وأكثر ذلك اثنتا عشرة ركعة فإن زاد على ذلك فلا بأس وهو مأجور على زيادته.
قال: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال]
وعبَّر بعضهم:" إلى الزوال ".
وإنما عبّر بـ" قبيل الزوال " ليبين أن الزوال ليس من وقتها.
والتعبير بقوله: (إلى الزوال) أولى؛ لأن الأصل فيما ورد في السنة من تحديد الوقت الثاني ألا يكون داخلاً في الوقت الأول كما تقدم في حديث المواقيت.
فهنا إذا قال: (إلى الزوال) فمعنى ذلك أنه ينتهي إلى الزوال وليس فيه أن الزوال داخل فيه كما نبَّه على ذلك صاحب الإنصاف.
وأما قوله: (إلى قبيل الزوال) فهذا للإيضاح، لكن ينبغي ألا يتوهم أن ذلك إلى وقت غير محدد؛ لأنه قد يفهم من ذلك أنه ينتهي بوقت قبيله أي بقليل وحينئذ يقع الإشكال في تحديد هذا الوقت الذي تحدد إليه الصلاة.(7/47)
فالمراد من قوله: (قبيل الزوال) وقتها الداخل في الصحة، أي الوقت الذي هو وقت أداء لها فليس هو وقت تحريم أو نهاية وإنما وقت النهاية هو الزوال.
وما ذكره المؤلف يدل عليه المعنى، فإنها صلاة ضحى وتشرع في الضحى، والضحى من خروج وقت النهي وهو – ارتفاع الشمس قيد رمح – إلى الزوال.فإذا صلى الضحى في أي وقت فيه أجزأت عنه.
إلا أن المستحب أن يؤخرها إلى [أن] يشتد الحر، لما ثبت في مسلم من حديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) .
والفصال: جمع فصل وهي ولد الناقة، فإذا اشتد الحر قامت من مواضعها لشدة الحر.
* ومن الصلوات المستحبة – ولم يذكرها المؤلف هنا –:
صلاة التوبة: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً استحب له أن يتوضأ فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عن ذنبه.
لما روى الأربعة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ: {والذين فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} ) فهذه صلاة التوبة وهي صلاة مستحبة.
ومن الصلوات المستحبة: صلاة الحاجة: وهي إذا ما احتاج إلى أمر من أمور دينه أو دنياه صلى ركعتين ودعا الله تعالى.(7/48)
ويدل عليه ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي والنسائي: أنه أعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه قد شق علي ذهاب بصري، فادع الله لي، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد أتوجه إلى الله بك اللهم شفِّعه فيَّ وشفعني في نفسي) [اقتضاء الصراط المستقيم: 2 / 784] وفي رواية لأحمد: (وشفعني فيه) وهذه اللفظة تدل على أن المراد من ذلك الدعاء، أي كما أني توجهت إليك بدعائه فكذلك شفعني في دعائه فهو وسيلتي إليك في الدعاء وأنا وسيلته إليك.
وهذا اللفظ وإن كان الظاهر أنه إنما يكون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن فيه أصل الصلاة ثم يدعو بما شاء.
أما ما رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان لأحدكم إلى الله حاجة – أو إلى أحد من بني آدم حاجة فليقل: (لا إله إلا الله إلى قوله: والفوز بالجنة والنجاة من النار) وهو دعاء طويل فالحديث إسناده ضعيف جداً لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيه راو متروك.
ومن الصلوات المستحبة: سنة القدوم من السفر:
فيستحب لمن قدم من السفر أن يصلي ركعتين في المسجد، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) .
ومن الصلوات المستحبة: ركعتا سنة القتل.
فقد ثبت في الصحيحين: (أن خبيب بن عدي لما أتى به ليقتل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار وقد أسر في أيديهم قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين، قال الراوي: فكان أول من سن الركعتين عند القتل) فيستحب ذلك لمن حكم عليه بقتل يكون فيه شهادة.
*ومن ذلك صلاة الوضوء:(7/49)
فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة فقال: ما عملت عملاً هو أرجى عندي إلا أني ما تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) .
ومن ذلك صلاة الاستخارة:
لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة) .
فلا يجزئ أن تكون الركعتان اللتان يصليها فريضة.
وظاهره أنه يجزئ وإن كانت نفلاً مقيداً إلا أن الأولى أن يفردها بركعتين لها.
وقد يقال – وهذا محل بحث – أن قوله: (فليركع ركعتين) إنشاء ركعتين لهذه الصلاة، بخلاف سنة الضحى أو الفجر فإنهما أصليتان سابقتان.
(ثم ليقل) ظاهره أن القول يكون بعد الصلاة.
واختار شيخ الإسلام أنه يدعو قبل أن ينصرف، لما دلت عليه السنة من ذلك من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل انصرافه وهو الأليق فإن العبد في حال مناجاة لله تعالى.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) وعلى ذلك يكون قوله: (ثم ليقل) أي قبيل السلام، ومعلوم أن الصلاة قبيل سلامها في حكم المنتهية، مما بقى إلا السلام منها، وهذا لا شك أنه تأويل لكن يرجحه المعنى من أن الأليق للعبد أن يدعو الله في حال مناجاته لله ولحديث: (ثم ليدع بما بدا له) .(7/50)
فإن دعا بعد السلام فلا بأس: (اللهم أني أستخيرك بعملك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر " وفي أبي داود " ويسميه بعينه " خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال: عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسميه بعينه – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: وسمى حاجته) والواو لا تفيد الترتيب، ورواية أبي داود في كل موضع قال: (ثم يسمي حاجته بعينها) فهذه صلاة الاستخارة.
وظاهر الأحاديث أنها مستحبة في كل أمر ديني أو دنيوي.
أما الدنيوي فلا إشكال فيه.
أما الديني فقد يقال: كيف يستخار الله في أمر قد أمر به، فإن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما تركه خير؟
فالجواب: أن الأمر الذي يأمر به الشارع أو ينهى عنه وإن كان فيه خير مطلقاً وليس محلاً للاستخارة لكن قد يعتريه ما يجعل العبد يتردد به، كأن يتردد بين عملين صالحين كعلم وجهاد، وبين أن حج هذه السنة أو يتنفل بعمل آخر فهذه أمور تحتاج إلى استخارة، فإذا ثبت مثل هذا شرع له أن يستخير لعموم قول الراوي: (في الأمور كلها) .
مسألة: في صلاة التسابيح:
روى صلاة التسابيح الترمذي وغيره في حديث ابن عباس وفيه أن صفتها أن يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) خمس عشرة مرة، ثم يركع فيقولها عشراً ثم يقول سمع الله لمن حمده فيقولها عشراً، ثم كذلك في السجدتين وبين السجدتين عشراً، ويفعل ذلك في الأربع ركعات كلها – يفعل ذلك في كل يوم أو في كل جمعة أو في كل شهر أو في العمر مرة) كما وردت الرواية.(7/51)
والحديث من حيث سنده مقبول، فالحديث حسن أو صحيح لكن النكارة في متنه، إذ مثل هذه الصلاة ليست كهيئة غيرها من الصلوات.
ولذا اختلف أهل العلم في تصحيحها، فصححتها طوائف كثيرة من المتأخرين كالعلائي وابن الصلاح وقبلهم الخطيب وابن مندة والآجري.
وضعفها الإمام أحمد والعقيلي وابن تيمية والنووي وغيرهم لنكارتها، فأنكرها الإمام أحمد ولم يستحبها. وصلاة التسابيح لم يستحبها إمام مطلقاً من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يستحبها إلا ابن المبارك لكن على غير الصفة الواردة في الخبر.
وهي صلاة محلها محل التوقف والتردد فالحديث فيه من ضعفه من الأئمة الكبار كالإمام أحمد ولم يستحبها إمام وهي صلاة تخالف الصلاة المشروعة مطلقاً فليست على هيئة غيرها من الصلوات ولذا فإن الأولى هو التوقف في فعلها حتى يثبت له ذلك بحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
حتى القائلون من أهل العلم كالنووي وغيره من العمل بالحديث الضعيف لم يقولوا بالعمل هنا لأن هذه الصفة لا شاهد لها من السنة، فالتوقف عن فعلها أولى.
أما الإمام أحمد فقد نص على أن الحديث فيها منكر أو أنها غير مشروعة.
وأما ابن تيمية فقد حكم على الحديث بأنه كذب ووضع وأدخله ابن الجوزي في الموضوعات وأنكر ذلك عليه الحافظ.
والحديث كما تقدم: أما في متنه فهو إلى الوضع أقرب وأما في سنده فالسند فيه حسن أو صحيح.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وسجود التلاوة صلاة) .
سجود التلاوة هي: السجدة المشروعة عند تلاوة آيات فيها ذكر السجود.
وسجود التلاوة صلاة فهو صلاة فيفرض فيه ما يفرض في الصلاة فيشترط فيه ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة وغيرها من الشروط لأنها صلاة.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا: بأنها صلاة ذات تحريم وتحليل وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) .(7/52)
قالوا: ويشرع في سجود التلاوة التكبير والتسليم فهي صلاة، لأن كل ما شرع فيه تحريم وتحليل فهو صلاة، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء.
2- وذهب طائفة من السلف وهو اختيار ابن جرير الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن سجود التلاوة ليس بصلاة وعليه فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من استقبال القبلة أو طهارة أو غير ذلك، فلو سجد محدثاً أو غير مستقبل القبلة فإن سجوده صحيح وإن كان يسن له ذلك.
واستدل: بأن الشارع إنما سماها سجدة فأثبت لها مطلق السجود ولم يثبت دليل شرعي يدل على أنها صلاة.
وأما ما ذكروه من ثبوت التحريم والتحليل فيها فليس بصحيح.
وسيأتي تقرير الأدلة على ذلك وأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجدة التلاوة تكبير ولا تشهد ولا تسليم.
فعلى ذلك هي مطلق سجود وليست بصلاة فلا يجب فيها ما يجب في الصلاة إلا ما دل الدليل عليه
وهذا القول هو الراجح.
وقد ثبت في البخاري في صحيحه تعليقاً صحيحاً وصله ابن أبي شيبة: (أن ابن عمر سجد على غير وضوء) .
فالراجح: أن سجدة التلاوة ومثلها سجدة الشكر ليستا بصلاة خلافاً للحنابلة ومن وافقهم في أنهما صلاة.
قال: (يسن للقارئ والمستمع دون السامع)
" يسن " أي السجود فهو سنة وليس بواجب – وهو مذهب الجمهور، ودليل سنيته ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم فلم يسجد عليه الصلاة والسلام) فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسجودها يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لسجدها.
ويدل عليه ما ثبت في البخاري عن عمر بن الخطاب: (أنه كان يقول على المنبر في المدينة: (يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه)
وفي الموطأ: (إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) .
وذهب بعض العلماء إلى أن السجود واجب.(7/53)
واستدلوا: بألفاظ الآيات التي هي السجدات فإن من هذه الآيات ما فيه أمر صريح كقوله تعالى: {فاسجدوا لله وعبدوا} . {فاسجد واقترب} أو فيه تأنيب لعدم السجود كقوله تعالى: {ألا يسجدوا لله} وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الباب.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه الآيات قد دلت على وجوب السجود مطلقاً وأنه يجب على المسلم أن يسجد لله عز وجل وأن يخضع له سبحانه بالسجود المطلق، وليس المراد هذه السجدة فإنها يسجدها من يقيم الصلاة ويسجد لله عز وجل السجدات الكثيرة، فالمراد مطلق السجود ومع ذلك فقد شرع استحباباً أن يسجد عندها.
ونظير هذا ما يذهب إليه كثير من العلماء من وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرون استحباب الصلاة عليه عند ذكره عليه الصلاة والسلام.
فالأمر في السجود ليس موجهاً إلى سجدة التلاوة المشروعية عند سماع هذه الآيات بل وموجه إلى مطلق السجود له سبحانه وإنما شرع للمسلم أن يسجد عند سماع هذه الآيات لبيان أنه خاضع لله وسامع لأمره بدليل ما تقدم من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه لم يسجد عندما قرئت عليه سورة النجم مع أن لفظها صريح في الوجوب في قوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} وكذلك قول عمر على المنبر وكان يقوله بمحضر المهاجرين والأنصار في المدينة، فلم يثبت منكر لقوله منهم.
فالراجح أن سجدة التلاوة سنة مستحبة.
(للقارئ والمستمع) فيسن للقارئ والمستمع السجود لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) [فتح الباري لابن حجر: 2 / 647، 652] .(7/54)
(دون السامع) فلا يسن له السجود لما ثبت في البخاري ووصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح: (أن عثمان قال: " إنما السجود على من استمع " والمستمع هنا هو من قصد الاستماع وأقبل إلى الآيات التي يقرؤها القارئ وقصد ذلك بالسماع.
أما المار والذي تقع في أذنه الآية والآيتان وفيها سجدة فلا يشرع له السجود.
قال: (وإن لم يسجد القارئ لم يسجد)
فإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع فلا يشرع له ذلك وظاهره مطلقاً سواء كانت السجدة في صلاة أو في غير الصلاة.
فإذا قرأ الإمام آية فيها سجدة فلا يشرع للمأموم أن يسجد إن لم يسجد إمامه.
أو كان خارج الصلاة فقرأ القارئ سجدة فلم يسجد فلا يشرع للمستمع السجود.
وهذا الإطلاق محل نظر.
وقد ذهب بعض الحنابلة فهو قول في مذهب أحمد، وفاقاً للشافعية: إلى أنه يسجد خارج الصلاة وإن لم يسجد القارئ بخلاف الصلاة فلا يشرع له ذلك لأن الصلاة ينهى المأموم فيها عن أن يسجد سجدتي السهو خلف إمامه فأولى من ذلك السجود المستحب لمتابعة الإمام، لحديث: (ولا تسجدوا حتى يسجد) .
أما خارج الصلاة فإذا لم يسجد القارئ فالأظهر أن المستمع يسجد؛ لأن السجود مشروع فكون القارئ أو الإمام لا يسجدها ليس هناك دليل يدل على منع المستمع من السجود، وإن كان قد يقال بأنه لا يتأكد له كتأكده عند سجود القارئ، لكن مع ذلك ليس هناك دليل يمنع، والأدلة عامة فيما لو سجد الإمام أو القارئ أو لم يسجد فهذا هو الراجح وهو قول في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية.(7/55)
وقد روى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله سعيد بن منصور أن ابن مسعود وقد قرأ عليه تميم بن حذْلَم – وهو غلام - فقال له: (اسجد فأنت أمامنا فيها) [الفتح لابن حجر: 2 / 647] فهذا يدل على أنه إمام لهم سابق لهم بالسجود فيسبقهم في السجود استحباباً، وهذا هو الأليق فإن هم مستمعون وهو قارئ فالأليق أن يكون شروعه في السجود قبل شروعهم لكن هذا الأثر لا يدل على أنه إن لم يسجد فإنهم لا يسجدون، والأدلة مبقية لهذا الحكم ولا دليل صارف عنه.
واعلم أن المشهور عند الحنابلة – كما تقدم – أنه إن لم يسجد القارئ فإن المستمع أو المأموم لا يسجد ومثل ذلك لو كان القارئ لا تصح إمامته، فالقاعدة عندهم أن القارئ هنا في حكم الإمام فلا يجوز أن يقتدي به في السجود إن كانت لا تصح إمامته فلو كان القارئ امرأة أو صبياً فلا يصح السجود معهما – - على قول في المذهب –.
والمشهور في المذهب إن إمامة الصبي تصح في النافلة.
ولا يصح أن يتقدم عليه ولا أن يكون المصلي عن يساره يعني أنه في حكم الإمام مطلقاً.
وهذا في الحقيقة قول لا دليل عليه والسنة واردة في باب سجود التلاوة، ومثل هذا مما تتوافر الدواعي لنقله فلما لم ينقل دل على عدم مشروعيته وهذا بناء على أنه صلاة وأن القارئ فيه إمام وهذا لا دليل عليه.
قال: (وهو أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان)
فسجدات التلاوة - في المشهور من المذهب – أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان، وفي المفصل منها ثلاث وهي في سورة الانشقاق، وسورة اقرأ وسورة النجم فهذه خمس سجدات، وتسع سجدات في بقية القرآن من سوى المفصل وسورة الحج، وهي سجدات معروفة مشار إليها في المصحف العثماني.
ودليل ذلك: ما روى أبو داود من حديث عمرو بن العاص قال: (أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة ثلاث منها في المفصل وسجدتان في الحج) .فهنا ذكر خمس عشرة سجدة وهذا بإضافة سجدة سورة (ص) .(7/56)
هذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة في بعض رواته لكن هذا الحديث له شواهد، فقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي الدرداء قال: (سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء) فهذا يشهد لبعض حديث عمرو بن العاص.
أما الشاهد لسجدات المفصل فهي شواهد صحيحه ثابتة فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق) .وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ بالنجم في مكة فسجد وسجد الناس معه) .
وأما شاهد السجدتين في الحج، فما رواه أبو داود في مراسيله من حديث خالد بن معدان وهو تابعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) والحديث مرسل لكنه يصح شاهداً.
وله شاهد من حديث عقبة في الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) .
وله شاهد موقوف من قول ابن عمر في الموطأ قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) وهو ثابت من فعله في موطأ مالك أنه سجد في الحج سجدتين.
وهو في مصنف ابن أبي شيبة من فعل علي بن أبي طالب وابن عباس.
أما سجدة (ص) فحديث عمرو بن العاص وشاهده يدل على مشروعيتها.
ويدل على مشروعيتها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: " (ص) ليست من عزائم السجود ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها) .
وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ يوماً [وهو] على المنبر (ص) [فلما بلغ السجدة] نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس -أى تهيؤوا - للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزَّنتم) فنزل فسجد وسجدوا) وإسناده صحيح.(7/57)
وفي البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس عن سجدة سورة (ص) فقرأ: {ومن ذريته داود} إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} قال ابن عباس: (فكان داود ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها النبي - صلى الله عليه وسلم -) [الفتح: 8 / 405] .
وفي أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) .
* وقد اختلف أهل العلم فيها على قولين:
الأول، وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية: أنه لا يشرع السجود فيها في الصلاة، أما خارج الصلاة فسجودها من باب سجود الشكر، أما سجودها في الصلاة فلا يشرع وتبطل الصلاة به عمداً، فإن كان غير متعمد ناسياً أو جاهلاً فإن الصلاة تصح به وتكون من باب السهو فيسجد.
فإن فعلها الإمام لم يجز للمأموم أن يتابعه – إن كان يرى أنها ليست سجدة – بل إما ينتظره أو يفارقه. والأولى كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه أن ينتظر حتى يأتي.
2- الثاني، وهو مذهب المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن السجود لسورة (ص) مشروع في الصلاة وخارجها وإن كانت ليست من عزائم السجود.
وبالنظر إلى الأدلة المتقدمة يظهر التجاذب بين هذين القولين، فقد قال ابن عباس: (هي ليست من عزائم السجود) أي ليست مما يتأكد سجوده، ولم ينف السجود فيها، وقوله: (من عزائم السجود) مطلقاً في الصلاة وخارجها ونفى أن تكون عزيمة ولم ينف أصل السجود فيها.
وأثره المتقدم من الاقتداء بالأنبياء في الاستدلال بالآية يدل على مشروعيته في الصلاة لأن الاقتداء بهم مشروع في الصلاة وفي غيرها، فالقول بأن المصلي لا يشرع له أن يسجدها مبناه: أنها سجدة شكر كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ونسجدها شكر) ، والشكر بالاتفاق لا يشرع السجود له في الصلاة.(7/58)
ومبنى من قال بمشروعيتها في الصلاة: أن سببها التلاوة فإنها سجدة مشروعة عند التلاوة لا مطلقاً كما في سجدة الشكر، بل عند التلاوة فهي مرتبطة بها، والتلاوة من الصلاة.
وهذا في الحقيقة قول قوي وقد قال تعالى: {فخر راكعاً وأناب} والركوع هنا هو السجود باتفاق المفسرين، فهذه الآية هي سبب السجدة، فهي وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها سجدة شكر وسماها ابن عباس سجدة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها عند قراءة هذه الآية فهذا يدل على أنها تشرع عند التلاوة أي مشروعة عند التلاوة.
وأما كونها سجدة شكر فهو معنى من معانيها فليس مستقلاً بالسببية بل هناك سبب التلاوة، فيقتدي به عند تلاوتها فيسجد، وهي سجدة للاقتداء وهي متصلة بالتلاوة والتلاوة من الصلاة فليست بخارجه عنها فحينئذ تكون مشروعة لا تؤثر في الصلاة – فالأدلة متجاذبة في هذه المسألة.
والأحوط للإمام ألا يسجد عندها فإن سجد عندها فالأظهر أنه لا بأس بذلك كما هو مذهب الأحناف والمالكية وهو قول في المذهب.
مسألة:
هل يشرع عند سجود التلاوة القيام، بمعنى إذا قرأ بالسجدة قام فسجد؟
المشهور في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه يشرع له أن يسجد عن قيام، وهو اختيار شيخ الإسلام ورواه البيهقي عن عائشة.
والوجه الثاني عند الشافعية واختاره النووي وغيره: أن ذلك لا يشرع وأن الأثر عن عائشة ضعيف لجهالة بعض رواته.
واستدل من ذهب إلى مشروعية ذلك بقوله تعالى: {ويخرون للأذقان سجداً} {خروا سجداً وبكياً} والخرور إنما يكون عن قيام ونحوه لا عن قعود.(7/59)
والأظهر أنه لا يشرع ذلك، نعم وإن وافق قياماً شرع له ذلك وكان فيه فضيلة الخرور، لكنه لا يشرع له أن يقوم فيسجد بدليل أن الصحابة رواة سجدة التلاوة لم يذكروها مع أنهم ذكروا ذلك في سجدة الشكر، مع كون سجدة الشكر الأحاديث فيها ثبتت كالأحاديث في سجدة التلاوة كثرة في المتون وكثرة في رواتها من الصحابة وكونها أصح وأبين، مع ذلك لم تذكر، وذكرت في سجدة الشكر.
فكونها لم تنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ما ذكر الله في القرآن إنما هو من باب الموافقة كأن يكون في صلاة ونحو ذلك.
ولا شك أن القيام أحد ثلاثة أنواع لا يخلو الإنسان منها إما اضطباع أو قيام أو قعود فهي حال كثيرة. وكذلك ليس هذا في كل ألفاظ السجود، بل في بعضها الحث على السجود من غير ذكر للخرور.
ومن فعل ذلك فلا ينكر عليه، لكنه لا يشرع.
مسألة: ما يقال في سجود التلاوة؟
يقال فيها ما يقال في عامة السجود بأن يقال (سبحان ربي الأعلى) وما ورد في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
وورد في الترمذي بإسناد حسن: (أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شجرة ساجدة تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " فأخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقولها في السجود) والشجرة هنا رمز لأمر آخر. هذا فيما يستحب أن يقال في سجدة التلاوة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع)
يكبر إذا سجد للتلاوة. هذا هو المشهور في المذهب وأنه يشرع له ذلك.(7/60)
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع عن ابن عمر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجود كبر وسجد وسجدنا معه)
والقول الثاني في المذهب: أنها لا تشرع.
واستدلوا: بأن ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح مع توافر الدواعي والهمم لنقله وهذا يدل على عدم ثبوته.
وأما الحديث فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف وقد خالفه عبيد الله بن عمر العمري المصغر وهو معه قراءة عن نافع عن عبد الله بن عمر من غير ذكر التكبير وهو اللفظ المتقدم عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) الحديث متفق عليه، فعلى ذلك ذكر لفظة التكبير منكر هذا هو القول الراجح.
وقوله: " إذا رفع " كذا ذكر المؤلف وغيره من متأخري الحنابلة وأما متقدموا أصحاب الإمام أحمد فلم يذكروا التكبير عند الرفع وليس له أصل في السنة.
والراجح أنه لا يشرع التكبير عند الرفع، فلا يشرع التكبير عند الخفض ولا عند الرفع.
هذا في غير الصلاة.
أما في الصلاة فيشرع له لعموم قول أبي هريرة: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفض ورفع) وهذا عام يدخل فيه من صلب الصلاة وما يطرأ على الصلاة من سجدات السهو وسجدات التلاوة، وكذلك لما فيه من مصلحة الصلاة في تمام اقتداء المأموم بإمامه.
قال: (ويجلس ويسلم)
هذا كذلك لا أصل له في السنة – حتى قال شيخ الإسلام في التسليم -: " بدعة "، وهو كما قال.
فإن الجلوس والتسليم لا أصل له في السنة، وقد تقدم أن الدواعي والهمم متواترة للنقل ومع ذلك لم ينقل فهذا يدل على أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل عمل ليس عليه هديه فهو رد.
قال: (ولا يتشهد)(7/61)
من غير تشهد لعدم ثبوته، وهو كما قال فإن التشهد لا أصل له في السنة.
هذه صفة سجود التلاوة وهي: أن يسجد سواء كان ذلك خروراً عن قيام أو كان ذلك عن جلوس من غير أن يكبر خافضاً ولا رافعاً ومن غير أن يتشهد ولا يسلم. ويستحب له أن يقول فيها بما ورد في عموم السجود وقد نص عليه الإمام أحمد لعمومات الأحاديث.
فمن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر لما نزل قول الله تعالى: ( {سبح اسم ربك الأعلى} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم) فقوله: " سجودكم " عام في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر.
ويستحب له أن يقول: ما رواه الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجود القرآن: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
والمستحب أن يقول ما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن: (اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً وجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود) .
قال: (ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر، وسجوده فيها)
فهذه المسألة ذات شقين:
الأول: أنه يكره له أن يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة وإن لم يسجد.
الثاني: أنه يكره له أن يقرأها فيسجد.
هذا هو المشهور في المذهب.
قالوا: يكره للإمام أن يقرأ في الصلاة السرية آية فيها سجدة، فإن لم يسجد عندها فيكره لأنه قد ترك سنة وإن سجد فإن في ذلك تشويشاً وخلطاً على المأمومين.
وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه لا يكره ذلك، وهذا هو الراجح.
وبيانه: أنه إذا قرأها فلم يسجد فقد قرأ آية من كتاب الله وترك سجوداً لا بأس له بتركه.(7/62)
فإن سجود التلاوة إنما يكره تركه مطلقاً، وأما أنه يسجد أحياناً ويدع أحياناً فقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فُقرأت عليه سورة النجم كما في البخاري ومسلم من حديث زيد بن ثابت، وقال عمر: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) .
والكراهية تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على أنه إن قرأ السجدة فتركها فقد فعل أمراً مكروهاً.
إلا أن يكون راغباً مطلقاً عن السجود فيقرأ الآيات كلها فلا يسجد مطلقاً للتلاوة فإن ذلك رغبة عن السنة.
أما إن سجد فلا يُقال هو مكروه مطلقاً، نعم ينبغي عليه أن يترك حيث كان فيه إرباك وتشويش على المأمومين.
أما إذا لم يقع من ذلك كأن يبين لهم قبل الصلاة أو أن تكون الصفوف قليلة بحيث يبين لهم أنه قد سجد سجوداً للتلاوة أو أن يسبح فيقول: سبحان الله، فيزول عنهم التشويش فإنه لا يكره فإنه لا كراهية في ذلك. إنما يُنهى عنه حيث كان ذريعة للتشويش وعلم أو ظن ظناً غالباً أنه يحدث لهم التشويش في ذلك فإنه قد يقال بالنهي عنه.
على أن المأموم إذا وقع في مثل ذلك فإنه لا حرج عليه ولا يؤثر في صلاته ومع ذلك فإنه ينبغي أن ينهى عنه حيث ثبت له أو ظن ظناً غالباً بثبوت التشويش على المأمومين.
أما إن لم يثبت له ذلك ودرأه بما استطاع من تسبيح أو تبيين قبل الصلاة أو كانت الصفوف قليلة يظن أنه لا يحدث لهم تشويش فإنه لا كراهية في ذلك.
وقد ورد في أبي داود: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر) لكن الحديث إسناده فيه جهالة.
قال: (ويلزم المأموم متابعته في غيرها)
هنا هذه الجملة متضمنة لمسألتين:
المسألة الأولى: أنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في سجود التلاوة حيث سجد فيما يشرع له السجود " في الجهرية ".
فإذا سجد الإمام عند آية في صلاة جهرية فيلزم المأموم أن يتابعه فيسجد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا سجد فاسجدوا) وهذا عام في كل سجود مشروع.(7/63)
فالسجود مستحب للإمام واجب على المأموم إن سجد إمامه.
أما كونه مستحب للإمام فللأدلة المتقدمة من استحباب سجود التلاوة.
وأما كونه واجباً على المأموم فلوجوب المتابعة كما يتابعه في سجود السهو، وفي الحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) .
المسألة الثانية: أنه إذا سجد فيما لا يشرع السجود فيه كما يكون في الصلاة السرية فلا يلزم المأموم متابعته. وهذا ضعيف.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه أن يتابعه أيضاً، فإذا سجد الإمام في صلاة سرية وقلنا بالكراهية كما هو المشهور في المذهب فالراجح في المذهب وهو أحد القولين وهو خلاف المشهور عند الحنابلة، أنه يلزمه السجود.
وهذا لعوم حديث: (وإذا سجد فاسجدوا) .
فالراجح أن المأموم يجب أن يتابع إمامه مطلقاً فتكون المسألة ذات شق واحد، وهو أنه يجب على المأموم أن يتابع إمامه إن سجد سواء كان سجود الإمام في صلاة جهرية أو سرية.
مسائل:
المسألة الأولى: ورد في مسلم ما يدل على فضل سجدة التلاوة قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان فبكى وقال: يا ويلاه أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)
المسألة الثانية: أن المسافر إن قرأ آية فيها سجدة فإنه يومئ أي الراكب المسافر كما يومئ في سجود النافلة.
المسألة الثالثة: أنه إن قرأ آية فيها سجدة فركع فإن الركوع لا يجزئه كما أن السجود الأول من الركعة لا يجزئه؛ لأن ظاهر الأدلة الشرعية أن هذا السجود مشروع للتلاوة فهي سنة مستقلة كما أن الرواتب مستقلات عن الفرائض، فلذلك السجدة مستحبة وهي مستقلة عن السجدات التي هي من صلب الصلاة، فالركوع لم يشرع لها بل شرع لها السجود.
فلا يجزئه الركوع لأن المشروع إنما هو السجود والركوع ولم يرد في السنة قيامه مقام سجود التلاوة.(7/64)
وأما السجدة الأولى فهي سجدة من صلب الصلاة والمشروع إنما هي سجدة مستقلة فشرع أن تكون مستقلة، فلا يجزئه أن ينوي السجدة الأولى سجدة عن التلاوة وعن الصلاة.
المسألة الرابعة: إن كانت السجدة في آخر السورة فإن قام فقرأ شيئاً من القرآن فهو حسن، فإن لم يقرأ فلا بأس بذلك. فيجب عليه أن ينصب قائماً لأن الركوع واجب عن قيام، فإن قرأ شيئاً من القرآن فهو حسن. وقد صح ذلك عن عمر كما عند الطبراني في الكبير: (أنه قرأ بالنجم فسجد ثم قام فقرأ سورة أخرى) وفي رواية: (أنها إذا زلزلت الأرض زلزالها) .
هذه مسائل من سجدة التلاوة يتمم بها المسائل التي ذكرها في الزاد.
قال: (ويستحب سجود الشكر)
فهو مستحب وقد دلت السنة على استحبابه.
فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بكرة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله)
وقد ثبت عند الحاكم وأحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال أتاني جبريل فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت، فسجدت لله شكراً) والحديث إسناده حسن.
وثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن فكتب إليه بإسلامهم فلما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجداً شكراً له على ذلك)
فهذه الأحاديث الثابتة تدل على مشروعية سجود الشكر.
والمستحب أن يكون عن قيام أي يقوم فيسجد، لما تقدم من قوله: (خر ساجداً لله) ، وفي رواية في المسند في حديث أبي بكرة قال: (قام ثم سجد) فدل على أنه قد أحدث قياماً فهذا يدل على مشروعيته.
قال: (عند تجدد النعم واندفاع النقم)(7/65)
سواء كانت عامة أو خاصة وسواء كانت دينية أو دنيوية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد سجد لخبر ديني وذلك لما أخبره جبريل وكذلك في خبر إسلام أهل اليمن.
فالأخبار الدينية والدنيوية داخلة في عموم قوله: (إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) وهو كذلك عام في الخير المختص والخير العام.
وإن كان الاستحباب ليس مطلقاً بل يفعله تارة ويدعه تارة كما تدل عليه السنة العملية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسجد لكل خبر.
فعلى ذلك يستحب أن يفعله وإن تركه أحياناً فإن ذلك حسن لموافقة فعله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا يشرع له تكبير عند الخفض ولا عند الرفع خلافاً للمشهور عند الحنابلة فإنهم عندهم أن عامة أحكام سجدات التلاوة يشرع في سجود الشكر، فسجود الشكر عندهم صلاة ويشرع له ما يشرع في سجود التلاوة.
والراجح خلاف ذلك كما تقدم ترجيح أن سجود التلاوة ليس بصلاة فكذلك سجود الشكر، ولا دليل من السنة يدل على استحباب تكبير عند الخفض ولا عند الرفع ولا تشهد ولا تسليم.
ويستحب له أن يقول ما يقوله في سجود الصلاة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوها في سجودكم)
قال: (ويبطل به صلاة غير جاهل وناس)
فإن صلى فسجد شكراً بطلت الصلاة لأنه فعل أجنبي عنها، وإن كان فعلاً مشروعاً.
بخلاف سجود التلاوة فإنه فيها فهو متصل بالتلاوة فكان مشروعاً، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في بعض الأحاديث. أما سجود الشكر فلا تعلق له بالصلاة بل هو أجنبي عنها هذا إن كان عمداً – أي يبطلها إن كان عمداً -.
أما إن كان عن جهل ونسيان فإنه لا يبطل الصلاة لكن يشرع منه مع النسيان السجود لما تقدم من الأفعال الأجنبية عندما يفعلها الجاهل أنها لا تبطل صلاته، والناسي عليه أن يسجد للسهو، والله أعلم.
مسألة:
إذا كرر آية فيها سجدة فهل يشرع له أن يكرر السجود أم لا؟
وجهان في المذهب:(7/66)
الوجه الأول: مشروعية ذلك.
الوجه الثاني: عدم مشروعيته.
والأظهر أنه يستحب ذلك إلا لحاجة كأن يكرر ليحفظ أو ليتدبر أو ليستنبط، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأوقات النهي خمسة)
أوقات النهي هي الأوقات التي لا تصح الصلاة فيها، فالصلاة فيها باطلة لا تنعقد ولا تقبل وإن كان المصلي جاهلاً لأن هذه الصلاة قد انعقدت في غير وقتها.
ودليل بطلانها الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن الصلاة فيها.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)
وفي مسلم من حديث عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن أو أن ندفن فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) .
قوله: " حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع " فإذا طلعت الشمس بازغة فهو وقت نهي حتى ترتفع قيد رمح أي: " بقدر الرمح في رأي العين "
" وحين يقوم قائم الظهيرة " أي حين تقف الشمس في السماء وذلك قبيل زوال الشمس وذلك زمن قصير لا يتسع للصلاة لكنه يتسع لتكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة فيه.
" وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " أي حين تميل فتأخذ في الغروب حتى يتم غروبها.
قال: (من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس)
هذا هو الوقت الأول.
" من طلوع الفجر الثاني " أي من الوقت الذي يؤذن فيه للفجر الأذان الثاني وهو الذي تصح فيه صلاة الفجر ويحرم الطعام فيه على الصائم - وذلك بظهور الفجر الصادق – إلى طلوع الشمس.
أما دخول النهي عن الصلاة فيما كان بعد صلاة الفجر، فقد تقدم حديث أبي سعيد: (لا صلاة بعد الفجر) وفي مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) .(7/67)
وأما دخول ما بين الأذان والإقامة في وقت النهي فلما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم والحديث صحيح بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) أي إلا سنة الفجر.
وقال الشافعية والمالكية: بل وقت النهي من بعد صلاة الفجر فلا يدخل فيه ما بين الأذان والإقامة.
لأن الحديث المتقدم فيه: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) وظاهر الحديث أن ما كان قبل الصلاة فلا ينهى عن الصلاة فيه – وهو مفهوم مخالفة له -.
ولما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عَبَسَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار) [صحيح مسلم بشرح النووي: 6 / 116]
والشاهد قوله: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن وقت النهي أوله صلاة الصبح.
والراجح: القول الأول للحديث الصحيح: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) .
وثبت في الصحيحين عن حفصة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين)
فهذان الحديثان دلالتهما دلالة منطوق، وأما ما ذكروه فإن غايتها النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وليس فيها إلا مفهوم المخالفة، ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة مفهوم المخالفة.
ولنا أن نقول: إن أوقات النهي ستة:
الأول: بين أذان الفجر وصلاتها وقد دل عليه حديث أبي داود المتقدم.(7/68)
والثاني: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وقد دل على حديث أبي سعيد المتقدم: (لا صلاة بعد الصبح) وفي رواية مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) .
قال: (ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح)
هذا هو الوقت الثاني من أوقات النهي، وقد دل عليه حديث عقبة المتقدم وفيه: (وحين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) وفي بعض الروايات: (قيس رمح) أي برأي العين.
قال: (وعند قيامها حتى تزول)
وهذا الوقت الثالث: إذا قام قائم الظهيرة، واستقل الظل بالرمح فكان ظل الشاخص محتسب ولم تزل الشمس بعد، وهذا لحظات يسيرة قد تقع التحريمة للصلاة فيها.
* وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً فيدخل في ذلك يوم الجمعة.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى استثناء يوم الجمعة من ذلك.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] مستثنياً من هذا الوقت: (إلا الجمعة) من حديث أبي قتادة لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
ومع ذلك فالراجح مذهب الشافعية لأدلة أخرى، فمن ذلك: ما ثبت في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] فيمن ذهب إلى الجمعة (فصلى ما كتب له) ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك شيئاً.
وهو ما كان يفعل في زمن عمر بمحضر المهاجرين والأنصار كما روى ذلك مالك في موطئه عن كعب القرظي قال: (كان الناس يصلون قبل الجمعة في زمن عمر حتى يقوم الخطيب) هذا من جهة الأثر.
وأما من جهة المعنى، فإن هذا الوقت كما تقدم، وقت يسير وملاحظته - في مثل يوم الجمعة في اجتماع الناس وقد يكونون في أماكن مظللة ونحو ذلك - فيه مشقة فعُفي عنه في يوم الجمعة للمشقة الحاصلة في تتبعه.
قال الحنابلة: لا ينهى عن الصلاة حتى يثبت له الوقت المنهي عنه، أما إذا كان شاكاً فلا بأس وحينئذٍ يندفع ما ذكرتموه من مشقة انتظار ذلك الوقت والنظر فيه.(7/69)
والجواب عن هذا أن يقال: إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فلو قلنا بالنهي عنه في يوم الجمعة فلا يجوز له أن يقدم على الصلاة حتى يتثبت من أنه ليس بوقت نهي، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فيجب فعله، ولا يتم ترك الحرام من وقوع الصلاة في ذلك الوقت المنهي عنه إلا بتتبع ذلك والنظر فيه، هذا هو محل المشقة.
فالراجح: مذهب الشافعية، وهو اختيار شيخ السلام وتلميذه ابن القيم من أنه يستثنى من ذلك يوم الجمعة فيصلي وإن ثبت له قائم الظهيرة.
قال: (من صلاة العصر إلى غروبها)
اتفق أهل العلم على أن ما بين أذان العصر وصلاتها أنه ليس من أوقات النهي، وأن وقت النهي مربوط بفعل صلاة العصر.
وعليه: فلو أن الصلاة قد شرع فيها من غيره وصليت لكنه لم يصلها فليس هذا بوقت نهي في حقه. ومثل ذلك من صلى العصر جمع تقديم فإنه يثبت النهي عليه لأنه قد صلى صلاة العصر لحديث: (لا صلاة بعد صلاة العصر) ، فمتى صلى العصر سواء كانت في وقتها أو جمعها جمع تقديم فما بعدها وقت نهي.
قال: (وإذا شرعت فيه حتى يتم)
أي إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغرب.
ودليل قوله عقبة فيما يحكيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) فهذا وقت النهي.
فهذه أوقات النهي التي لا يُصلى فيها.
ويُضاف إلى ذلك النهي عن الدفن في ثلاثة أوقات فيها وهي التي ذكرها عقبة بن عامر في الحديث المتقدم.
قال: (ويجوز قضاء الفرائض فيها)
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) متفق عليه.
فقوله: " إذا ذكرها " يدخل فيه التذكر في وقت النهي، فإنه يصليها فيه وكذلك من استيقظ في وقت نهي فإنه يدخل فيه، وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال: (وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف وإعادة جماعة)(7/70)
" في الأوقات الثلاثة ": ولا يعني ذلك أنه لا يفعلها في الوقتين اللذين هما تمام الخمسة، بل ذكره ذلك في الأوقات الثلاثة يدل من باب أولى على ثبوته في تمام الخمسة لأنهما آكد.
فالعلة مرتبطة في هذه الأوقات أكثر من ارتباطها في الأوقات الأخرى، وقد تقدم حديث عمرو بن عَبَسَة وفيه التعليل المتقدم ذكره.
وهي مرتبطة بهذه الأوقات الثلاثة، وقد خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي كما في حديث عقبة وأضاف إلى ذلك النهي عن الدفن فيها.
فمراد المؤلف هنا دفع قول قاله بعض الحنابلة في أن أوقات النهي الثلاثة لا تصح فيها هذه الصلوات، فهذا إشارة إلى خلاف عند فقهاء الحنابلة.
والمشهور عندهم ما ذكره المؤلف هنا، من أن أوقات النهي كلها يصح أن يصلي فيها ركعتي الطواف لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) وهذا عام في الأوقات كلها.
" وإعادة الجماعة ": لما ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح: من حديث يزيد بن الأسود قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف صلاة الفجر فلما انصرف رأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة)
فما بعد صلاة الفجر وقت نهي ومع ذلك أمر الرجلين أن يعيدا الصلاة جماعة، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بتفاصيلها في باب صلاة الجماعة.
قال: (ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب)
فيحرم أن يتطوع في غير ما تقدم ذكره.(7/71)
ويستثنى من ذلك في المشهور عند الحنابلة صلاة الجنازة فهي جائزة في وقت النهي، إلا أنهم استثنوا في المشهور عندهم أوقات النهي الثلاثة لحديث عقبة المتقدم، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة وعن الدفن، فذكر الدفن مع ذكر الصلاة إشارة إلى النهي عن صلاة الجنازة.
- وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يصليها حتى في أوقات النهي الثلاثة؛ ذلك لأن جوازها في وقتي النهي يدل على جوازها في أوقاته الثلاثة، والحديث ليس ظاهراً في ذلك، فإن فيه النهي عن الصلاة مطلقاً ونهي عن دفن الميت.
وما ذكره الحنابلة هنا قوي، لكن الذي يضعفه أن صلاة الجنازة من ذوات الأسباب وسيأتي ترجيح جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
فالحنابلة: استثنوا صلاة الطواف وإعادة الجماعة وصلاة الجنازة، كلها على سبيل الإطلاق سوى صلاة الجنازة فإنها تستثنى من ذلك أوقات النهي الثلاث.
" ويحرم التطوع بعدها " كصلاة الوضوء وتحية المسجد وصلاة الجنازة في المشهور من المذهب وصلاة الاستخارة فهذه تحرم في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما كان له سبب فإنه ينهى عنه، وهذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بحديث: (لا صلاة بعد العصر) (لا صلاة بعد الفجر) فهذا يدل على النهي مطلقاً فيدخل في ذلك الفرائض والنوافل إلا ما ورد استثناؤه من إعادة الجماعة وركعتي الطواف ومن صلاة الجنازة.
- وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه خلافاً للرواية المشهورة عنه، واختارها كثير من أصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب وهي ظاهر كلام الموفق في كتاب الكافي واختارها ابن تيمية وابن القيم وهي مذهب الشافعية: أن الصلوات التي لها سبب جائزة في أوقات النهي كتحية المسجد وسنة الوضوء وغيرها من التطوعات. والمنهي عنه التطوع المطلق الابتدائي الذي يفعله العبد من غير أن يكون له سبب.(7/72)
قالوا: لثبوت الأحاديث فيها فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا عام فمتى دخل المسجد في وقت نهي أو غيره فيصلي ركعتين.
فإن قيل: كذلك حديث: (لا صلاة بعد العصر) حديث عام.
فالجواب: الأول حديث عام محكم لا تخصيص له.
وأما الثاني فهو حديث عام مخصص، ولا شك أن العام المحكم أرجح من العام المخصص.
واستدلوا: بصلاة الكسوف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا رأيتموهما فصلوا) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ربط الصلاة بسبب يثبت في وقت النهي وغيره وهو رؤية خسوف الشمس أو كسوف القمر.
وأما سنة الوضوء فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال في قوله: (لم أتطهر طهوراً في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)
قالوا: والرابط بين هذه الصلوات التي ذكرناه والتي ذكرتموها أنتم - التي يجوز أن تصلي في وقت النهي - الربط بينهما أنها صلوات ذات أسباب والشارع لا يفرق بين المتماثلات فما كان مثيلاً لها من الصلوات ذات الأسباب كصلاة الاستخارة مما يخاف فوته، ونحو ذلك.
قالوا: ويدل على ذلك أن الصلاة ذات السبب ليس العبد متحرياً لها متقصداً لها بل قد فعلها لثبوت سنيتها بخلاف التنفل المطلق، إن العبد يفعله ابتداء من غير سبق سبب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) متفق عليه من حديث ابن عمر.
ويدل عليه حديث عمرو بن عبسة فإن ظاهره في التطوع المطلق في قوله: (ثم صل) والظاهر أن غالبه من باب التطوع المطلق.
وهذا هو الراجح.
ومن ذلك قضاء النوافل، فهو منهي عنه عند الحنابلة لكونه ليس مما تقدم ذكره.
والحديث يرد عليه، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة المتفق عليه شغل عن صلاة الظهر فصلاها بعد العصر، ولعموم حديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .(7/73)
وقد أقَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره فيمن صلى الركعتين بعد الفجر وهو وقت النهي.
فالراجح مذهب الشافعية من أن الصلوات لا ينهى عنها إلا ما كان لا سبب له، وهو التطوع المطلق.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صلاة الجماعة
صلاة الجماعة مشروعة، ومن أدلة مشروعيتها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
وفي البخاري: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .
وفي المسند وأبي داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما أكثر فهو أحب إلى الله) وهو حديث صحيح.
وهو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وما كان يتخلف عنها – كما قال ابن مسعود – إلا رجل معلوم النفاق.
قال المؤلف رحمه الله: (تلزم الرجال)
" تلزم ": أي تجب عيناً
" الرجال ": أي تجب على الرجال عيناً، فهي واجب عيني.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر السلف كما قال ذلك شيخ الإسلام وهو مذهب طوائف كثيرة من أهل الحديث، كابن حبان وابن خزيمة والإمام البخاري وغيرهم من أهل العلم.
وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية.
وذهب المالكية والأحناف إلى أنها سنة مؤكدة.
والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة وأكثر السلف على القول به وأدلة ذلك كثيرة.(7/74)
وفمن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدو الصلاة – في مسند أحمد: لا يشهدون الصلاة في الجميع، وفي أبي داود: يصلون في بيوتهم - فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً " أي عظماً ذا لحم " أو مرماتين حسنتين " المرماة: هي اللحم بين أظلاف الشاة أي أظافرها " لشهد العشاء) .
وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله إني لا أجد قائداً يقودني، فرخص له فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والأمر للوجوب.
وفي أبي داود بإسناد صحيح أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة) .
وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - من حديث مالك بن الحويرث - قال: (ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) فهذه الأحاديث تدل على فرضيتها على الأعيان.
واستدل من قال بسنيتها: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) .
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن صلاة الفذ فيها ثواب وأجر وفضيلة، فلو كانت محرمة لم يثبت فيها ذلك.
وهذا استدلال ضعيف، فإن ثبوت الفضل لا ينافي ثبوت الإثم فهي صلاة فيها فضل من جهة: لكونها صلاة مؤداة، لكنه آثم من جهة أخرى لكونه قد صلاها ناقصة نقصاً يجلب له الإثم وتوقعه بالتحريم.(7/75)
بل الأحاديث التي تقدم ذكرها منها ما يدل على أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب كما استدل على ذلك ابن القيم في حديث: (فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا الحديث ظاهر أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب.
والحديث الذي تقدم، وهو حديث أبي هريرة في رواية البخاري منه، فيها أن الثواب المذكور وهو أن يكون له سبع وعشرون درجة أو خمس وعشرون درجة كما في حديث أبي هريرة ظاهره أن ذلك إن صلاها في المسجد لا في الجماعة مطلقاً فقد قال: (ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة) فشرط في ذلك حضور الصلاة في المسجد.
والظاهر أن الثواب المضاعف في صلاة الجماعة ليس ثابتاً له على هذه الهيئة إلا إذا حضرها في المسجد.
فالراجح مذهب الحنابلة من أن صلاة الجماعة واجب عيني، وأن من صلى في بيته فهو مثاب على صلاته لكنه آثم لكونها لم تكن في جماعة.
وقد ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) .
لكن هذه الفريضة مخصوصة بالرجال دون النساء، لذا قال المؤلف " تلزم الرجال " أما النساء فلا تجب عليهن الصلاة جماعة باتفاق أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن) .(7/76)
بل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها بل في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كلما صلت فيما هو أستر من بيتها كلما كان أفضل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أحمد بإسناد جيد قال لأم حميد الساعدي، وقد قالت: (إني أحب الصلاة معك، فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، فصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك " والبيت هنا أستر من الحجرة فهي الغرفة التي تكون داخل الحجرة " وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك أفضل من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك أفضل من صلاتك في مسجدي) .
وفيه أن صلاة المرأة في بيتها بل فيما يكون من الغرف الداخلية في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أفضل من الصلاة في الحرم المكي.
فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد لكنها لا تمنع من ذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يخشى فتنة أو ضرر فينهى عن ذلك للفتنة والضرر من باب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
قال: (لا شرطاً)
أي ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة فلو صلى في بيته فصلاته صحيحة لكنه قد فوت على نفسه أجراً كثيراً وألحق نفسه إثماً عظيماً.
ودليل ذلك حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة المتقدمان: (صلاة الرجل جماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وحديث أبي هريرة: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
فهذان يدلان على ثبوت الفضل والأجر والثواب على صلاته في بيته فثبوت ذلك يدل على التصحيح، إذ إثبات الأجر فرع التصحيح فلا أجر إلا مع الصحة.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد واختيار جماهير أصحابه.
وذهب طائفة من أصحابه وهو رواية عنه وهو مذهب الظاهرية: إلى أن الجماعة شرط في صحة الصلاة وعليه فلو صلى فرداً بلا عذر فصلاته باطلة.(7/77)
واستدلوا بما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم والحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) .
والحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً إلى ابن عباس. وثبت موقوفاً إلى أبي موسى في سنن البيهقي بإسناد صحيح.
قالوا: فهذا الحديث فيه نفي الصلاة والأصل في النفي نفي الذات ثم نفي الصحة ثم نفي الكمال فلما امتنع نفي الذات لأن الصلاة قد توجد من بعض المكلفين بقي نفي الصحة مقدماً على نفي الكمال، أي لا صلاة صحيحة فهي صلاة باطلة.
والراجح: ليست بشرط بدليل إثبات الفضل في صلاة الفذ، فإن صلاة الفذ فيها فضل، فثبوت الفضل فيها يدل على صحتها ومن هنا وجب أن ينصرف إلى الاحتمال الثالث في تفسير الحديث المتقدم، وهو أن يكون المعنى لا صلاة كاملة فلا صلاة كاملة لمن سمع النداء فلم يجب.
إلا أن كان معذوراً فصلاته كاملة وله الأجر واف لحديث: (أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) رواه البخاري.
وهل يجب أن تصلى الجماعة في المسجد أم له أن يصليها في بيته؟
روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى، وهي الرواية المشهورة: أن له أن يصليها في بيته، فإذا صلى في البيت جماعة فلا إثم والصلاة صحيحة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) .
قالوا: فهذا يدل على أن أي بقعة صلى فيها العبد فصلاته مقبولة سواء كانت المساجد أو غيرها.
والرواية الثانية، وهي اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المساجد.
وهذا القول الراجح، لما تقدم من الأحاديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والنداء إنما يكون في الأصل في المساجد.(7/78)
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجميع) أي لا يشهدون الصلاة معه مع أنه يحتمل [أنهم] كانوا يصلون في بيوتهم جماعة، وكذلك حديث الأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة) .
وأما الجواب عما ذكروه فيقال: هو حديث عام وإنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم من أن الصلاة ليست مخصوصة بمواضع، بل هي عامة في المساجد وغيرها ولا يعني ذلك أنه مع سماع النداء لا يحضره ولا يجيبه فيصلي في بيته جماعة وغيره، لا يدل على هذا.
وقد تقدمت الأحاديث وهي تدل على وجوب الإجابة فهو حديث عام مخصص بها. فيكون للعبد أن يصلي في أي بقعة شاء إلا أن يسمع نداء فيجب عليه أن يجيب نداء الله في المساجد
فالراجح إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهي غير المشهور عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المسجد ولا يثبت الثواب المذكور إلا بذلك. والله أعلم.
قال: (وله فعلها في بيته)
هذا على المشهور في المذهب وقد تقدم ترجيح خلافه.
قال: (ويستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد)
الذين يكونون على مواضع المخافة وهي الثغور الإسلامية التي تكون في حدود المسلمين مع الكفار ويخشى أن يتطرق إليها العدو فينبغي لهم أن يصلوا في مسجد واحد لأنه أهيب للعدو وأجمع للكلمة وأسرع للرأي وأسهل للمشورة ونحو ذلك من المصالح.
قال: (والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)
مثلاً كأن يحتاج لأن يكون إماماً، لما فيه من مصلحة عمارة المسجد وإقامة الجماعة وإعانة المكلفين على القيام بالواجب عليهم، فهذه مصالح ترجح على ما سيذكره المؤلف بعد ذلك.
قال: (ثم ما كان أكثر جماعة)(7/79)
فإذا كثرت الجماعة في المسجد وكان أكثر من غيره، فالصلاة فيه أفضل لحديث (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (ثم المسجد العتيق)
لسبق الطاعة فيه.
والمشهور عند الحنابلة تقديمه على الأكثر جماعة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا، وهو قول لبعض الحنابلة.
وفضيلة المسجد العتيق تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على ذلك، فكونه عتيقاً لا يستفاد أنه أفضل من غيره لا سيما ما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تفضيله في قوله: (وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (وأبعد أولى من أقرب)
فالأبعد من المساجد أولى من الأقرب لما فيه من كثرة الخطا إلى المساجد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني سلمة وقد أرادوا أن يتركوا منازلهم وينزلوا قريباً من المسجد قال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) .
وما ذكروه من الأدلة صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر.
أما كونه يدل على فضيلة من كان يأتي إلى المساجد وبيته بعيد والآثار له تكتب وأنه أعظم الناس أجراً في الصلاة فنعم. وأما كونه يدل على ترك المسجد الأقرب إلى مسجد أبعد فإن الصحابة لم يكونوا يتكلفون ذلك، ولم يرد أن أحداً منهم ممن كان قريباً إلى المسجد تكلف البعد عنه لينال ذلك الثواب المذكور بل هذا الحديث فيه ترغيب من كان بعيداً عن المسجد أن يحضر إلى المساجد وأن يشهد الجماعة مع بعد منزله. ولا يدل على أنه يشرع تكلف ذلك وترك المساجد القريبة إلى مساجد بعيدة، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد جيد: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبَّع المساجد) .(7/80)
فالراجح: أن المستحب له مطلقاً أن يصلي في المسجد الذي يليه لا سيما إن كان هذا المسجد لا تقام الجماعة إلا بحضوره، هذا هو الأفضل له.
فإن وافق ذلك أن هذا المسجد أكثر جماعة أو أنه بعيد عن منزله فإنه له فضيلة أخرى زائدة على الفضيلة المتقدمة.
نعم، في مسألة الاختيار هذا حسن: كأن يختار – عندما يرتاد منزلاً – محلاً فيه مسجد كبير ويرتاده الناس أكثر من غيره فينزل بهذا أصلاً من غير أن ينتقل بمنزله.
وأما أن يتكلف ذلك فلا؛ لأن السنة دلت على فضيلة هذه الأشياء مع وجودها من غير أن يحدث من المكلف تتبع لها: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد)
إذن: المشهور عند الحنابلة: أن المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره وهذا راجح ثم ما كان أكثر جماعة، - والمشهور تفضيل المسجد العتيق على ما كان أكثر جماعة - ثم ما كان عتيقاً، والأبعد أولى من الأقرب، وتقدم أنه لا يشرع تتبع المساجد.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره)
يحرم على المصلي أن يؤم في مسجد من المساجد قبل إمامه الراتب المعين لهذا المسجد، إلا بإذنه أو عذره.
وأصل النهي ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والمسجد سلطانه إمامه الراتب.
قوله: (أو عذره) أي ثبت عذر للإمام منعه من إمامة الناس فإنه يجوز أن يصلي بالناس غيره، فإذا ثبت له عذر وخشي المصلون فوات الوقت جاز لهم أن يقدموا غيره.
ومثل ذلك لو ظن عدم حضوره ظناً غالباً فالحكم كذلك فيجوز أن يتقدم غيره.
ومثل ذلك إن ظن حضوره لكن علم أنه لا يكره ذلك فهو حقه وهذا يكون بمعنى الإذن.(7/81)
والأظهر أيضاً أنه متى ثبت الوقت المستحب المعتاد ولم يحضر الإمام جاز لهم أن يقدموا غيره لمصلحة المأمومين لئلا تلحقهم المشقة في انتظاره، ولمصلحة الصلاة في وقتها المستحب، يدل على ذلك ما ثبت في مسلم: (أن عبد الرحمن بن عوف صلى بالصحابة في غزوة تبوك وقد تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حضور الصلاة فلما صلى وراء عبد الرحمن وقضى ما فاته من الصلاة قال: أحسنتم أو قال: أصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها) .
وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ فقال: نعم، فصلى أبو بكر ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتأخر أبو بكر فأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثبات فتأخر وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -) – الحديث – وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا أبا بكر ما منعك أن تثبت) وفيه أنه قال: (وحانت الصلاة) فظاهره أن ذلك وقتها المستحب.
فالأظهر أن حق الإمام يزول بحضور الوقت المعتاد والمستحب لئلا يلحق المأمومين المشقة في انتظاره وهذا من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
تقدم أنه لا يجوز أن يصلي إلا بإذنه، فإن صلى بغير إذنه فهل تصح الصلاة أم لا؟
قولان في المذهب:
- أظهرهما الصحة مع التحريم.
أما دليل من أبطلها فللنهي والنهي يقتضي الفساد.
وأما دليل من صححها فلأنها صلاة قد ثبتت فيها شروطها وأركانها واجباتها الشرعية وهذا الأمر خارج عنها فلا يؤثر فيها بطلاناً – هذا هو القول الراجح.
قال: (ومن صلى ثم أقيم فرضٌ سن له أن يعيدها إلا المغرب)(7/82)
من صلى الفرض في جماعة أو منفرداً – هذا هو ظاهر إطلاقه وهو المذهب – ثم أقيم فرض من قبل مؤذن في مسجد - ولم يقيده المؤلف هنا بالمسجد، وقيده الشارح وغيره وهو قيد دل عليه الحديث – سن واستحب أن يعيد الصلاة إلا المغرب.
فالمسألة: أنه إذا صلى منفرداً أو في جماعة ثم أقيمت الصلاة في مسجد آخر سن له أن يعيد الصلاة إلا المغرب فلا يسن له أن يعيدها – هذا المشهور في المذهب – وهنا مسائل:
1- المسألة الأولى: أن ظاهر إطلاق المؤلف هنا أن من صلى منفرداً أو جماعة أنه يشرع له أن يعيد الصلاة التي أقيمت وهذا هو ظاهر إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) فقوله: (إذا صليتما في رحالكما) فيحتمل أن يكون ذلك جماعة ويحتمل أن يكون فراداً، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال – كما هي القاعدة الأصولية – كما أن هذا اللفظ ظاهره الإطلاق. وهذا هو المشهور في المذهب.
2-المسألة الثانية: أن يكون ذلك المسجد الذي أقيم الفرض فيه مسجد جماعة، لظاهر الخبر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثم أتيتما مسجد جماعة) وعليه فإنه إذا أقيمت الصلاة في غير مسجد جماعة فهذا الحديث لا يرد فيه.
المسألة الثالثة: عن قوله (سن) هذا هو المشهور في المذهب وأن ذلك سنة.
وعن الإمام أحمد: أنها تجب مع الإمام الراتب.
وعنه: أنها تجب مطلقاً – وهذا هو الأظهر – وأقربها إلى ظاهر الحديث، فإنه قد أمر بذلك، وأنكر ذلك على الصحابيين الذين حضرا معه وأمرهما بأن يصليا إذا حضرا في مسجد جماعة في قوله: (لا تفعلا) وهذا نهي وهو للتحريم، ثم قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) وهذا أمر وهو للوجوب. وهذا القول أظهر وهو رواية عن الإمام أحمد.(7/83)
ولا شك أن تركه للصلاة مع إقامتها في مسجد جماعة مظنة سوء الظن فيه فلئلا يتطرق إليه الظن السيء بأنه لا يصلي أو نحو ذلك شرع مثل هذا، وهذه علة مستنبطة لا مانع أن تكون العلة سواها، لكن الحديث ظاهر في الوجوب.
المسألة الرابعة: وهي أن هذه الصلاة التي صلاها في جماعة أو فرادى هي الفرض بالنسبة له، والجماعة الثانية نافلة. فالأولى فرض، والثانية نافلة.
يدل عليه حديث: (تكن لكما نافلة) ، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في أمراء السوء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) .
وفي قوله: (إلا المغرب) :
هذا المشهور في المذهب وهي الرواية الشهيرة عن الإمام أحمد: وأن المغرب لا يشرع فيها هذا الحكم؛ وذلك لأنه لا يشرع من الصلوات وتر إلا الوتر، وكونه يصلي مع الإمام ثلاث ركعات تكون له وتراً ولا يشرع له الوتر إلا في صلاة الوتر.
وعن الإمام أحمد: أنه يصليها مع الإمام ثم يشفعها رابعة لتكون صلاته شفعاً.
والقول الثالث، وهو وجه عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصليها وراء الإمام وتراً كما يصليها الإمام، لظاهر الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي معه وظاهر ذلك أنه يصليها كما يصليها الإمام بعدد ركعاتها.
ثم على القول بأن العلة هي مظنة إساءة الظن به فإن ذلك لا يزول إلا بأن يصليها وراء الإمام كما صلاها الإمام.
فالراجح: أنه يصليها وراء الإمام – وحينئذ – تكون مستثناة مما تقدم، فحينئذ لا يشرع الوتر بالتطوع سوى الوتر وإعادة الجماعة إن وافقت المغرب لأن الحديث صالح الاستثناء.
فالراجح في هذه المسألة بعمومها: أنه يجب على المصلي إذا صلى في جماعة أو منفرداً ثم أتى مسجد جماعة فيجب عليه أن يصلي معهم وتكون له نافلة وهو عام في الصلوات كلها حتى المغرب.(7/84)
قال: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجدي مكة والمدينة)
إذا صلى في مسجد إمامه الراتب، ثم حضر بعدهم جماعة فهل يشرع لهم أن يصلوا جماعة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة: وهو مشروعية ذلك.
القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء: وهو القول بكراهية ذلك، فيكره أن تعاد الجماعة في مسجد من المساجد التي فيها إمام راتب ويستثنى من ذلك عندهم المساجد المطروقة وهي التي تكون في الأسواق ويطرقها الناس فإن المنع من ذلك يشق، وهي في الغالب ليس لها إمام راتب، لكن مع ثبوت الإمام الراتب فالناس يحتاجون لمرورهم من عندها أن يصلوا جماعة مرة بعد مرة.
واستدلوا: بما رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي بكرة الثقفي قال: (جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فعاد إلى بيته فجمع أهله فصلى فيهم) .
قالوا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الصلاة في المسجد جماعة ورجع إلى أهله فصلى بهم، قالوا: فيدل ذلك على أنه لا يشرع له أن يصلي في المسجد جماعة.
واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتوا إلى المسجد وقد صلى فيه صلوا فرادى) قالوا: فهذا فعل الصحابة.
قالوا: ولأن هذا ذريعة إلى البغضاء والعدوان بين هؤلاء وبين إمامهم، ولأن ذلك يورث تهاوناً لحضور الجماعة الأولى.
وأما الحنابلة: فاستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – والحديث صحيح -: (ألا رجل يتصدق مع هذا فيصلي معه) قالوا فهذه جماعة.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وحديث أبي سعيد.(7/85)
ولفظ حديث ابن عمر: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قالوا: فهذه صلاة جماعة وتلك صلاة فردية وصلاة الجماعة أفضل وهذا الحديث عام في فضليتها مطلقاً.
قالوا: وروى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله البيهقي وأبو يعلى الموصلي بإسناد صحيح: أن أنس بن مالك: (أتى إلى مسجد قد صلى فيه فأذن وأقام ثم صلى جماعة) ، وفي البيهقي " في عشرين من فتيانه "، وهو أثر صحيح عن أنس بن مالك.
واستدل الجمهور أيضاً بأثر رواه الطبراني في الأوسط والكبير بإسناد جيد: (أن ابن مسعود أقبل ومعه الأسود وعلقمة إلى المسجد فاستقبلهم الناس وهم خارجون من المسجد فرجع إلى بيته وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله) أي فصلى بهم.
قالوا: وهذا يدل على أنه لا يشرع أن يصلي في المسجد جماعة، إذا لو كانت مشروعة لصلى ابن مسعود بمن معه في المسجد. ومع ذلك فقد ذكر الحنابلة ولم أره معزواً عندهم في قولهم هذا أنه قول ابن مسعود.
ولا يبعد هذا، فإن ما ذكره الجمهور من أثر ابن مسعود ليس صريحاً في هذه المسألة، فإن ابن مسعود أتى ومعه صاحباه وقد صلي في المسجد فرجع فصلى في بيته، ولا مانع أن يكون ابن مسعود امتنع عن الصلاة جماعة في المسجد خشية الفتنة، إما أن يكون هناك سلطان فيخشى الفتنة وأنه تقصد التأخر عن الصلاة فيه.
ويحتمل أنه يرى أن حينئذ لا فرق بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت، فصلى بهم جماعة ولم يقصد المسجد لأنه لا فرق بينهما، فليس صريحاً عن ابن مسعود، بخلاف أثر أنس بن مالك فإنه صريح في ذلك.
وأما ما ذكروه من حديث أبي بكرة، ففيه الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعنه، وفيه علة أخرى وهو أنه من رواية معاوية بن يحيى وهو مختلف فيه توثيقاً وتضعيفاً، وله مناكير وقد ذكر ابن عدي والذهبي هذا الحديث من مناكيره.(7/86)
على أن الحديث ليس صريحاً في هذه المسألة فغايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى بيته ولم يصل في المسجد، فيستفاد منه أنه إذا صلى في المسجد فلا فرق بين أن يصلي في المسجد جماعة أو في بيته جماعة.
وما ذكروه من أثر الحسن البصري في ابن أبي شيبة فالأثر ضعيف لأن فيه أبا هلال الراسبي وهو ضعيف.
ثم إنه قد ورد في رواية لابن أبي شيبة قال: (كانوا يكرهون أنه يجتمعوا مخافة السلطان) أي لئلا يظن أنهم يقصدوا عدم الصلاة خلفه.
وما ذهب إليه الحنابلة أرجح لصحة الأدلة.
إلا أن ما ذكره الجمهور مما يقع في الصلاة جماعة من إثارة الفتنة ونحو ذلك هذا – في الحقيقة – فيه قوة، لكنه لا يقوى على رد ما تقدم ومع ذلك فإن المخرج منه أن يقال: إن صلاة الجماعة الأولى صلاة واجبة لا يعذر المكلف بالتخلف عنها، فهى الجماعة الواجبة أصلاً لكن إن تخلف عنها بعذر جاز له أن يصلي جماعة.
أما إذا كان متقصداً التخلف فإنه يكون آثماً لتركه الواجب لكن الجماعة الأخرى تصح منه.
إذن: الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن إعادة الجماعة ليست بمكروهة بل هي مشروعة بل هي واجبة؛ لأن الصلاة في الجماعة واجب.
وقول المؤلف: (ولا يكره) لا يعني ذلك أنه مباح وإنما أراد دفع القول بالكراهية لكن يبقى الحكم على الوجوب كما تقدم.
وأما قوله: (غير مسجدي مكة والمدينة) :
هذا في المشهور من المذهب.
وعن الإمام أحمد أيضاً: والمسجد الأقصى؛ تعظيماً لهذه المساجد أن يتخلف عن جماعتها الأولى.
فكره الإمام أحمد أن يصلي في هذه المساجد الثلاثة الجماعة للمتخلفين، فلا يشرع لهم أن يصلوا جماعة في هذه المساجد إلا أن يكونوا معذورين كمن أتوا من سفر أو غيره.
وعن الإمام أحمد: أن هذه المساجد كغيرها من المساجد لا فرق، وهو القول الراجح.(7/87)
لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) قد قاله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وقضية العذر واردة في المسألتين كلتيهما، لكن مع البقاء على القول بمشروعية الجماعة.
أما كونه غير معذور فإن هذا يلحقه إثماً لتخلفه عن الجماعة الأولى لكن مع ذلك يحق أن يصلي جماعة.
فعلى ذلك: يشرع أن تعاد الجماعة في المساجد كلها لعذر أو غير عذر بل يجب ذلك لكن من كان غير معذور فإن الإثم يلحقه لتخلفه عن حضور الصلاة جماعة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها، إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها) .
فإذا أقيمت الصلاة أي شرع المؤذن في الإقامة، فلا صلاة مبتدأة المكتوبة.
فإذا سمع المقيم قد شرع في الإقامة فليس له أن يشرع بعد في صلاة مطلقاً، سواء كانت هذه الصلاة نفلاً مطلقاً أو كانت تنفلاً مقيداً من الرواتب أو غيرها سواء كان قد سمعه في بيته – والمراد وهو يحضر المساجد ويصلي فيها – أو كان ذلك في المسجد، فليس له أن يشرع، فإذا فعل ذلك فالصلاة باطلة.
ودليله: ما في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حديث أبي هريرة: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وثبت في الصحيحين عن ابن بحينة – وهذا لفظ مسلم – قال: (أقيمت الصلاة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي والمؤذن يقيم فقال: أتصلي الصبح أربعاً) فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بعد الإقامة، وعن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - قال: (دخل رجل المسجد والنبي في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا) رواه مسلم.(7/88)
وضابط الشروع في الإقامة أن يشرع فيها الإقامة بقول: (الله أكبر …) وقد ثبت التصريح بهذا في ابن حبان: (إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة) هذا هو تقرير المذهب، فليس لأحد إذا شرع المؤذن بالإقامة ليس له أن يبتدأ صلاة مطلقاً سواء كانت تنفلاً مطلقاً أو من الرواتب.
واستثنى بعض العلماء: ركعتي الفجر، واستدلوا برواية للبيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر) .
لكن هذه الزيادة لم تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسنادها لا يثبت وحديث عبد الله بن سرجس في مسلم يرد ذلك.
فكل الصلوات لا يجوز الشروع فيها بعد الإقامة.
أما إذا كان قد شرع في صلاة قبيل الإقامة ثم أقيمت الصلاة فما الحكم؟
قال: (فإن كان في نافلة أتمها) حفيفة، كما في مسلم من حديث سليك الغطفاني في حديث ركعتي التحية في يوم الجمعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (صل ركعتين وتجوز فيهما) فإن كان في نافلة أتمها خفيفة.
قالوا: ولا يزيد على ركعتين فإن كان شرع في ثالثة فله – للعذر – أن يسلم ثلاثاً وإن كانوا ينهون عن التطوع بثلاث لكنه للعذر، وله أن يتمها أربعاً، فيجوز له كلا الأمرين.
ودليل إتمام النافلة قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} وهذا عمل قد شرع فيه فلا يبطل.
وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من إتمام النافلة المشروع بها قبل الإقامة.
وذهب الظاهرية: أنها تبطل، وهو الذي يدل عليه الحديث المتقدم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فقد قال: (فلا صلاة) وهي نكرة سياق النفي فتفيد العموم أي لا صلاة مطلقاً سواء كانت الصلاة مشروعاً فيها أو كانت مبتدأة قبل ذلك، أي سواء كانت مبتدأة مع الإقامة أو أثناءها أو قبيل الإقامة.(7/89)
وأما قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} فإن هذا ليس إبطالاً من المكلف وإنما إبطال من الله عز وجل، فإن الله قد أبطلها بكونه قد أخبر على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا صلاة إذا أقيمت المكتوبة.
كما أن حديث ابن بحينة ظاهر في ذلك فإن لفظه (أقيمت الصلاة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي) والظاهر أنه كان يصلي قبل الإقامة.
وعموم الحديث المتقدم كاف في ذلك.
وأما جمهور العلماء فإنهم لا يبطلون الصلاة – على تفصيل مختلف فيه بينهم -.
(إلا أن يخشى فوات الجماعة) هذا استثناء فهو يتمها خفيفة وإن فاتته تكبيرة الإحرام، وإن فاتته ركعة أو ركعتين ما لم يخش فوات الجماعة لأن الصلاة نفل وحضور الجماعة واجب، فوجب عليه أن يقطع صلاته ليشهد ما وجب عليه من حضور الجماعة فالبقاء على النفل قد عارضه واجب وهو حضور الجماعة فكان عليه ألا يتمها إذا خشي فوات الجماعة.
ومذهب الظاهرية: أنه متى ما أقيمت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، وهذا فيه من المصالح ما فيه من تسوية الصفوف وشهود تكبيرة الإحرام ومتابعة الإمام ونحو ذلك من المصالح.
وهذا القول هو الأظهر فهذا تنفل تعارضه المصالح الشرعية من إقامة الصفوف وتسويتها فكان هو المشروع نظراً لمصلحة صلاة الإمام ومن معه.
قال: (ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة)
رجل أتى والإمام يصلي وهو في التشهد الثاني فقبل أن يسلم الإمام كبر المأموم فقال: (الله أكبر) فإنه يدرك الجماعة – - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وقوله: (فما أدركتم فصلوا) ظاهر ذلك مطلق الإدراك وإن أدرك قدر تكبيرة الإحرام.
وذهب المالكية: إلى أنه لا يدركها إلا بإدراك آخر ركوع فيها.(7/90)
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وهذا عام في إدراك الوقت وإدراك صلاة الإمام، ولذا ورد في مسلم لفظ: (من أدرك ركعة من صلاة الإمام فقد أدرك الصلاة) .
قالوا: وقد روى النسائي في سننه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) قالوا: ولا يحصل إدراك الجمعة – حتى عند الحنابلة - إلا بإدراك ركعة منها، قالوا: فكذلك غيرها من الصلوات والمعتبر عند الشارع هو الركعة كما تقدم في إدراك الوقت وأما إدراك أي جزء وإن كان بقدر تكبيرة الإحرام فإن هذا لا يعلق به الشارع فالتعليق به غير معتبر.
وهذا ما رحجه شيخ الإسلام وهو الراجح: وأن صلاة الإمام إنما تدرك بإدراك الركوع الأخير من صلاته.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا) فليس فيه أن من فعل ذلك فقد أدرك صلاة الإمام، وإنما فيه أنه يدخل مع إمامه فيصلي مما أدرك ويتم ما بقى وهو مشروع وسيأتي دليل مشروعيته.
ثم إن هذا الحديث عام، والحديث المتقدم يخصصه.
وليس معنى ذلك أن من أدرك الإمام قبل أن يسلم يثبت له فضل الجماعة، وهو الذي عليه السنة وأن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاته بل من أتى والإمام قد سلم من صلاته وقد توضأ وأحسن وضوءه وراح إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا فإنه يثاب كأجر المصلين مع الإمام.
فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً) .
وهذا مثال يتضح فيه الخلاف وفائدته:
لو أن رجلاً مسافراً دخل مسجداً - إمامه رجل مقيم - فأدركه في الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً لأنه قد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه.(7/91)
أما إذا أدركه بعد الركوع فهو في حكم المسافر ولم ترتبط صلاته بصلاة إمامه فيصلي ركعتين أي قصراً وله أجر الصلاة كاملاً.
والمستحب لمن أتى والإمام على حال أن يصنع كما يصنع الإمام – كما صرح بذلك الحنابلة.
وظاهر ذلك وإن رجا حضور جماعة.
يدل عليه ما ورد في الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) إسناده ضعيف لكن له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن.
قال الترمذي: " وعليه العمل عند أهل العلم " (انظر آخر هذا الدرس) .
قال: (وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة)
هذه مسألة في بيان أن الركعة تدرك بالركوع وهذا مذهب عامة أهل العلم.
ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة) والركوع معتبر في إدراك الصلاة.
وفي حديث أبي بكرة وفيه: أنه تعجل الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لذلك فائدة إلا إدراك الركعة، وسيأتي ذكر الحديث في موضعه إن شاء الله.
فالركعة تدرك بالركوع. والمجزئ من ذلك أن يركع ركوعاً مجزئاً بحيث يصل إلى الركوع المجزئ ووافق إمامه فيه ولو كان هو في الهوي والإمام في الرفع فإذا هوى راكعاً فأمكنه أن يضع راحتيه على ركبته والإمام في مثل هذا الموضع من وضع الراحتين على الركبتين، فوافقه في ذلك وإن كان الإمام في الرفع وهو في الهوي فإنه يدرك بذلك الركعة لإدراك ركوعها.
(وأجزأته التحريمة)
فعندما يدخل والإمام راكع فيكبر تكبيرة الإحرام وهي ركن، ولا تصح إلا وهو قائم في الفريضة أما النافلة فلا يشترط وهو قائم.
ولكن: هل يجزئه تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع؟
قال عامة أهل العلم وحكاه الموفق عن ابن عمر وزيد بن ثابت قال: ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف،: أن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الركوع.(7/92)
والنظر يدل عليه أيضاً: فإنه قد اجتمع واجبان من جنس واحد في محل واحد فأجزأ أحدهما عن الآخر مع حصول المعنى المقصود من الآخر كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى اليوم الثالث عشر فإنه يجزئه عن طواف الوداع لأن المقصود حصل لطواف الإفاضة وكذلك هنا فإن المعنى الذي شرعت له تكبيرة الركوع قد حصل حينئذ وهو الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع.
وظاهر كلام المؤلف أنه تجزئه مطلقاً.
لكن استثنى الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: استثنى ما لو نواهما جميعاً.
وليتبين ذلك هنا صور:
الصورة الأولى: أن يكبر للإحرام بنية الإحرام فإنها تجزئه عن تكبيرة الركوع.
الصورة الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع ولا ينويها تكبيرة الافتتاح، فإنه لا يجزئه اتفاقاً.
الصورة الثالثة: أن يكبر للافتتاح وينويها للركوع فيجمع بينهما بالنية. فما الحكم؟
قال الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: أن ذلك لا يجزئه.
وأنكر ذلك الموفق وذكر أن المنصوص عن الإمام أحمد خلاف ذلك وهو مذهب جماهير العلماء وأنه يجزئه.
أما دليل من قال إنه لا يجزئه فقال: إنه شرَّك بينهما فأثَّر هذا التشريك.
وأما دليل من قال: إنه يجزئه فقال: هذه النية وهي نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فقد نوى الافتتاح ونوى الركوع ونية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فلم تؤثر فيها، فكونه نوى الركوع، هذا لا يؤثر مطلقاً في نية الافتتاح فقد نواها فأي دليل يبطلها.
وأما كونه شرَّك لو بينها، فقد شرك بينهما على وجه لا يؤثر ولا ينافي وهذا هو الراجح.
الصورة الرابعة: أن يكبر للافتتاح ويكبر للركوع، وقد استحبه الحنابلة وهو كذلك ظاهر كلام الإمام أحمد؛ وذلك لأنه ليس بين أهل العلم خلاف في جواز هذه الصورة وهذا ظاهر، فإنه – حينئذ – ثبت منه تكبيرة الإحرام التي هي ركن وكذلك تكبيرة الركوع.
كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة فطافه ثم طاف طواف الوداع كان ذلك أفضل في حقه.(7/93)
فالمستحب له أن يكبر للإحرام ويكبر للركوع.
وأما المجزئ فهو أن يكبر للإحرام بنية الافتتاح فقط على المشهور في مذهب المتأخرين من الحنابلة.
والقول الثاني: أنه ولو نوى أنها عن تكبيرة الإحرام والركوع معاً. وهو القول الراجح كما تقدم.
* صرح الحنابلة باستحباب الدخول مع الإمام على أي حال، وهو - أي هذا الاستحباب – غير ظاهر فيما إذا كان يدرك صلاة الإمام في واجب فهو واجب. أما إذا أتى وهو في التشهد الأخير فهو لا يدرك الجماعة فهو مستحب لأنه قد يصلي مع جماعة فيصيب أجر الجماعة.
وأما إذا كان يدرك الركوع فالظاهر أنه يجب عليه أن يدخل كما هو ظاهر الحديث، ولما تقدم من وجوب إدراك الجماعة الأولى ولا يتم إدراك الجماعة إلا بهذا.
* في مسألة: ما إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي نافلة فظاهر الحديث أنه يقطعها مطلقاً وإن كان في التشهد الأخير، لكن هذا في الحقيقة مشكل والقول بإخراجه قوي من باب أنه لا معنى مقصود من منعه من إتمام صلاته، فغايته أن يكون جالساً فيقوم فيسوي نفسه مع الصفوف وهذا هو الظاهر عندي، والله أعلم، لأنه لا معنى من إدخالها في العموم المتقدم.
* واعلم أن المسائل المختلف فيها، فالصحيح أنه يكون فيها الإنكار كما هو قول في مذهب الإمام أحمد وهو الراجح خلافاً للقول الثاني في المذهب.
وذلك لأن من مسائل الإنكار ما يكون مخالفاً لنصوص شرعية، نعم هناك مسائل غايتها الاجتهاد المحض والأذهان تختلف فيها اختلافاً قوياً فمثل هذه يقوى ترك الإنكار فيها أما المسائل التي يكون الحديث فيها ظاهر، فظاهر الحديث الإنكار.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا قراءة على مأموم)
أي يتحمل الإمام عن المأموم قراءة الفاتحة، فعلى ذلك لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم.
1- وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء.
واستدلوا: بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} .(7/94)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا قرأ فأنصتوا) رواه مسلم من حديث أبي موسى.
وبما رواه الأربعة عن أبي هريرة بإسناد صحيح قال: (انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاة جهر فيها فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ فقال رجل: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإني أقول ما لي أنازع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر به حين سمعوا ذلك) .
وبما رواه أحمد وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)
2- وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الآجرى من أصحابه، واستظهرها صاحب الفروع وهي اختيار البخاري ومذهب أهل الظاهر: إلى أن قراءة الفاتحة على المأموم فرض في الصلاة.
واستدلوا: بحديث عبادة بن الصامت المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) .
قالوا: فالحديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم وقد تقدم أن أهل العلم قد اتفقوا على فرضية الفاتحة على الإمام والمنفرد فهذا الحديث عام في المأموم كما هو عام في المنفرد والإمام.
قالوا: وقد ورد التصريح بفرضيتها في حق المأموم برواية رواها أبو داود والترمذي من حديث عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) فهذا الحديث نص في دخول قراءة المأموم الفاتحة في عموم الحديث (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم الكتاب) والحديث في أبي داود والترمذي فيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه صرح بالتحديث عند البيهقي والدارقطني وابن حبان وقد تابعه زيد بن أرقم في سنن أبي داود فلم يتفرد بها، وزيد بن أرقم ثقة.
والحديث أيضاً له شاهدان:(7/95)
شاهد في مسند أحمد من حديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد حسن.
وشاهد آخر عند ابن حبان من حديث أنس بإسناد حسن.
فالحديث حسن بطريقه الأول، وصحيح بطريقه الثاني، وهو صحيح أيضاً بشاهديه.
فالحديث لا مطعن فيه مطلقاً وقد صححه البخاري والبيهقي وصححه ابن القيم وحسنه الترمذي والدارقطني وغيرهم، وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه.
قالوا: ويقوى ذلك أنه مذهب الراوي، فإن عبادة ثبت في سنن أبي داود أن كان يقرأ بالفاتحة خلف الإمام. فهذا مذهبه وهو راوي الحديث المتقدم.
واستدلوا: بأنه قول عمر - رضي الله عنه - فقد صح في كتاب جزء القراءة للبخاري، والدارقطني بإسناد صحيح: أن شريك بن يزيد: (سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: وإن جهرت وإن جهرت) .
واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) فقيل لأبي هريرة: (إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث.
فهذا الحديث فيه أنه قول أبي هريرة، وفيه أيضاً استدلال أبي هريرة على فرضيتها على المأموم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - – فيما يرويه عن الله عز وجل: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) فقد سماها صلاة فلم تكن لتسقط بحال.
وهذه أدلة ظاهرة في فرضها. فالراجح مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
وأما الإجابة على ما استدل به الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام:
أما الآية الكريمة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فهي آية عامة في الصلاة وفي غيرها.(7/96)
وعلى القول بأنها في الصلاة كما هو مذهب عامة المفسرين فإنها عامة في قراءة الفاتحة وغيرها، وحديث عبادة خاص فالحديث يخصصها.
أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه اللفظة قد قال البيهقي (أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة) وذلك لتفرد سليمان التيمي عن قتادة بها، وعامة أصحاب قتادة – كهمام وهشام الدستوائي وحماد بن سملة وغيرهم - لم يذكروا هذه اللفظة في حديثه، وممن أعلها البخاري وأبو داود وأبو حاتم وغيرهم. وعلى القول بتصحيحها فالجواب عنها: أنها عامة وحديث عبادة خاص.
وأما حديث أبي هريرة الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أقول ما لي أنازع القرآن) فكذلك حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص بالعموم.
وفي حديث عبادة التصريح بالتخصيص، ففي رواية لأبي داود عن عبادة: (مالي أنازع القرآن فلا تقرؤوا بشيء إلا بأم القرآن) .
وأما قوله: (فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -) فإنه ليس من قول أبي هريرة فيكون له حكم الرفع، بل هو من قول الزهري كما بين ذلك أبو داود في روايته، ونص على ذلك الإمام البخاري وأبو داود وأن هذه اللفظة من قول الزهري.
ومما يقوي ما تقدم من التخصيص بحديث عبادة أن هذا هو مذهب أبي هريرة راوي هذا الحديث، فقد تقدم أنه قال: (اقرأ بها في نفسك) فهذا قوله.
وأما حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) فالحديث لا يصح، بل اتفق الحفاظ على تضعيفه، قال البخاري: (لا يثبت هذا الحديث عند أهل العلم من أهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم لإرساله وانقطاعه) .
فتبين من ذلك القول بفرضيتها كما هو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد.
فما استدلوا به إما حديث ضعيف وإما حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص به العموم، على أنه سيأتي بيان لما يكون مخرجاً للإنصات والاستماع لقراءة الإمام في مسألة السكتة بعد قراءة الفاتحة من الإمام.(7/97)
فعلى القول بها وهو الراجح لا يكون هناك إشكال فإن الإمام يسكت فيقرأ المأموم فاتحة الكتاب وحينئذ يستمع للفاتحة ويقرأ هو فاتحة الكتاب.
قال: (ويستحب في إسرار إمامه وسكوته)
أي يستحب للمأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب في إسرار إمامه وسكوته ويستحب ذلك ولا يجب وهما قولان في المذهب.
فالقول الأول: أنه يستحب للمأموم إذا سكت الإمام أو كان في سرية أن يقرأ بفاتحة الكتاب.
فعليه: لا يجب أن يقرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة السرية وإنما ذلك مستحب، وكذلك لا يجب عليه إذا كان الإمام يسكت بعد قراءة الفاتحة.
واستدلوا: بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) وتقدم ضعف الحديث.
والقول الثاني في المذهب: أنها تجب في سكوت الإمام وإسراره فيجب عليه أن يقرأ في الصلوات السرية بفاتحة الكتاب.
واستدلوا: بأن الأحاديث المتقدمة إنما هي فيما إذا جهر الإمام لقوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وحديث: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه تخصص حديث عبادة فيما إذا جهر الإمام، أما إذا أسر الإمام فلا.
وهذا القول أصح على القول بأن القراءة لا تجب على المأموم وإلا فقد تقدم وجوبها على المأموم مطلقاً لكن المسألة المتقدمة على المشهور في المذهب من عدم وجوب قراءتها على المأموم.
مسألة:
هل يستحب للإمام أن يسكت بعد فاتحة الكتاب ليقرأ المأموم أم لا؟
قولان لأهل العلم هما:
فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومذهب الأوزعي: أن ذلك مستحب.
وذهب الأحناف والمالكية وهو اختيار المجد ابن تيمية، وشيخ الإسلام: إلى أنها لا تستحب
أما أهل القول الأول فاستدلوا:
بما رواه أبو داود وهو ثابت في المسند وسنن ابن ماجه من حديث سمرة قال: (حفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتين إذا كبر وإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وفي رواية: (وإذا فرغ من القراءة) .(7/98)
فهذا فيه أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، سكتة إذا كبر للافتتاح وهي السكتة التي يقفها الإمام والمأموم لقراءة دعاء الاستفتاح، ويدل عليها حديث أبي هريرة المتقدم في سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التكبير.
والسكتة الثانية: إذا قرأ " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " والحديث صححه ابن حبان وقواه ابن القيم وابن حجر وحسنه الترمذي وهو كما قالوا والحديث أعل بعلتين:
الأولى: أن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة.
الثانية: أنه فيه تدليس الحسن البصري وهو قد عنعن.
أما العلة الأولى: فالجواب عنها: أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحسن سمع مطلقاً من سمرة ومن ذلك حديث العقيقة الثابت في البخاري، وحديثه المثلة الثابت في سنن النسائي وهو قول البخاري وابن المديني وغيرهم، وهما متعاصران والسماع ممكن جداً لا مانع منه فبينهما معاصرة، وسمرة قد سكن البصرة.
وأما العلة الثانية: وهي تدليس الحسن، فالجواب: أن تدليس الحسن محتمل عند الأئمة، وقد ورد في البخاري ومسلم وغيرها أحاديث مصححة عند أهل العلم فيها تدليس الحسن لذا ذكره ابن حجر في رسالته في المدلسين، وذكره في الطبقة الثانية وهو من احتمل الأئمة تدليسهم.
فعلى ذلك الصحيح أن الحديث صحيح لا علة فيه وله شواهد من الأثر والمعنى.(7/99)
فمن شواهده الأثرية ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن: (أن عمر بن عبد العزيز كان له وقفتان: وقفة إذا كبر، ووقفة إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقد ثبت أن عمر بن عبد العزيز كان من أشبه الناس صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك مشهوراً عند السلف، ففي البيهقي بإسناد صحيح أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف – من كبار فقهاء التابعين – سئل عن القراءة خلف الإمام، وقيل له: (إنا نكون وراء الإمام والإمام يقرأ فقال: اغتنمها في سكتة الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
وأما النظر فهو أن الله قد أمر بالإنصات والاستماع للقرآن وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة للمأموم كما تقدم فكان حينئذ الجمع بينهما أن يشرع مثل هذا.
ومن هنا قال شيخ الإسلام أن الأمر بقراءة الفاتحة مع الاستماع عبث تنزه عنه الشريعة "؛ وذلك لأنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالإنصات ثم يأمر بقراءة الفاتحة.
وعلى التسليم بما ذكره شيخ الإسلام فإن المخرج منه ما ذكرناه.
وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث وقواه ثم قال: (وقيل إن هذه السكتة لقراءة المأموم فاتحة الكتاب قال: وعلى هذا ينبغي أن تكون بقدر الفاتحة) .
فعلى ذلك الراجح: أنه يستحب للإمام أن يسكت سكتة بقدر الفاتحة ليتمكن المأمومون من قراءتها
قال: (وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش)
ويعني يستحب للمأموم أن يقرأ بالفاتحة إذا لم يسمع قراءة إمامه كأن يصلي رجل وراء إمامه ولا يسمع قراءة الإمام فإنه يستحب له أن يقرأ بالفاتحة.
وعلى القول بالوجوب – كما هو أحد القولين في المذهب – فإنه يجب عليه ذلك.
فإذا كان صوت الإمام لا يتضح، بل يصل المأموم ما يسمى بالهمهمة فهل يستحب له أن يقرأ أم لا؟
المشهور في المذهب أنه لا يستحب له ذلك.(7/100)
الثاني في المذهب: وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وهو الراجح: أنه يستحب له؛ لئلا يخرج عن كونه قارئاً أو مستمعاً – وهذا على القول بأنها لا تجب على المأموم – ومتى قلنا بوجوبها فهي واجبة مطلقاً وهذا الترجيح على المذهب وعلى القول في المسألة السابقة بالوجوب فإنه يجب لئلا يخرج المأموم عن كونه قارئاً أو منصتاً، وهنا الإنصات ممتنع لأن القراءة لا تتضح له.
وأما إذا كان لا يسمع قراءة الإمام لطرش: (وهو ما دون الصمم) :
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقرأ.
والقول الثاني في المذهب: أنه يستحب له أن يقرأ ما لم يكن في ذلك تشويشاً على جاره في الصلاة وهذا القول الراجح. وعلى القول بالوجوب تجب.
قال: (ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه)
رجل جاء والإمام يقرأ فكبر فهل يستحب له أن يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؟
قال: هنا يستحب وأولى من ذلك في سكوت الإمام أي في صلاة سرية ونحو ذلك.
أما حال سكوته فإنه يستحب – كما تقدم – لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمأموم يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
لكن هنا إذا كان الإمام يجهر فهل يستحب أن يستفتح ويستعيذ أم لا؟
قال: يستحب له وهو المشهور في المذهب.
قالوا: لأن قراءة الإمام لا تغني عن استعاذته واستفتاحه تحملاً، فالإمام إنما يحمل عنه القراءة والإمام قد أسر بالاستفتاح والاستعاذة فلم يجهر بهما فلم يتحمل ذلك عن المأموم فكان مستحباً له.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب ذلك، وهذا القول أصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول أكثر العلماء وأنه لا يستحب أن يستفتح، لقوله تعالى: {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} .
وإنما استثنينا الفاتحة للدليل المتقدم.
أما الاستفتاح فلم يرد دليل يدل على استثنائه، فلا يشرع له أن يستفتح، بل يسمع وينصت.(7/101)
وأما الاستعاذة، فالأظهر استحبابها على القول بفرضية الفاتحة؛ لأنها تبع للقراءة، وعلى القول بوجوب الاستعاذة، فتجب.
مسألة:
هل ما يقضيه المسبوق هو أول صلاته أو آخرها؟
رجل دخل مع الإمام، فأدرك ركعتين من الصلاة، فهل ما يدركه هو أو صلاته أو آخرها؟
إن قلنا: إنه أول الصلاة، فيستحب له أن يستفتح ويستعيذ ويقرأ السورتين.
وإن قلنا: إنه آخر صلاته، فلا يستحب له أن يستفتح.
قولان لأهل العلم، عما روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى، وهي المشهورة عند الحنابلة: أن ما أدركه هو آخر صلاته؛ نظراً لصلاة الإمام، وما يقضيه هو أولها.
واستدلوا: برواية النسائي: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) .
قالوا: والقضاء إنما يكون للفائتة، فدل على أن ما يصليه قضاء، فيشرع فيها قراءة سورة مع الفاتحة ونحو ذلك.
الرواية الثانية، وهو أصح: أن ما أدركه هو أول الصلاة، وما يقضيه هو آخرها.
للرواية الصحيحة المتفق عليها في هذا الحديث: (وما فاتكم فأتموا) ، ولفظ الإتمام إنما يكون في آخر الشيء.
وأما لفظة (فاقضوا) ، فإن القضاء في عرف الشارع ليس بمعنى القضاء في عرف الفقهاء – وهو ما يكون للفوائت -، بل القضاء في عرف الشارع هو الأداء والإتمام نفسه، كقول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ، أي إذا أديتموها، وغير ذلك من الأدلة الشرعية.
فالقضاء هو الإتمام.
ويدل عليه النظر الصحيح، فإن النظر يدل على أن المصلي تكون صلاته بحسب نفسه، وهو إنما قد صلى أولها، فكانت أولاً، وبقي عليه أن يتمها، وأما الإمام فإنما يتابع فيما لا يؤثر في صلاة المأموم، أما أن يؤدي ذلك إلى تعطيل صفة صلاة المأموم عن صفتها الشرعية فلا.
فالراجح أن ما يصليه المأموم إتمام؛ لحديث: (وما فاتكم فأتموا) .
وأما لفظة (فاقضوا) فهي بمعنى الإتمام، على أن لفظة الإتمام أصح منها؛ لثبوتها في الصحيحين.(7/102)
والقضاء يأتي في عرف الشارع بمعنى الأداء، كما يأتي بمعنى الشيء الفائت، والحديث المتقدم يبين أن المراد به الأداء.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت)
هذه مسائل في متابعة الإمام في الصلاة.
اعلم أن للمأموم مع الإمام أربع أحوال:
الحال الأولى: المتابعة.
الحال الثانية: المسابقة.
الحال الثالثة: التخلف.
الحال الرابعة: المقارنة.
أما الحالة الأولى: وهي المتابعة التي أمر الشارع بها، فقد ثبت في سنن أبي داود والحديث أصله في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) .
والمتابعة أن يفعل المأموم ما فرض عليه من أفعال الصلاة عقيب إمامه وأثره كما يدل عليه: (فإذا كبر فكبروا) فإن الفاء للتعقيب فتفيد الترتيب مع التعقيب فلا يفعل الركن قبل إمامه متراخياً ولا معه ولا بعده (1) بل يكون عقيب فعل إمامه له.
أما الحالة الثانية: فهي المسابقة: وهي ما ذكرها المؤلف هنا وهي: أن يفعل الركن قبله ويشرع فيه قبله وهي حرام باتفاق العلماء؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – من حديث أبي هريرة -: (أما يخشى أحدكم – أو قال: ألا يخشى أحدكم – إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار) والشك فيه من شعبة وقد رواه الطاليسي في مسنده من وجه آخر بغير شك (أن يجعل الله رأسه رأس حمار) .
والمسابقة لها صورتان:
__________
(1) لعل الصواب: فلا يفعل الركن قبل إمامه ولا معه ولا بعده متراخياً.(7/103)
الصورة الأولى: أن يسبقه إلى الركن فينتظره ويأتي بالركن معه، كأن يسبقه إلى الركوع فينتظر حتى يركع الإمام فيرفع رأسه معه.
الصورة الثانية: أن يفعل الركن قبله، ومثله لو سبقه بركعتين أو أكثر، كأن يرفع من الركوع قبل إمامه، أو يرفع ويسجد.
قال المؤلف: (من ركع أو سجد قبل إمامه) هذه الصورة الأولى فيما إذا سبقه إلى الركن فركع قبل أن يركع إمامه أو سجد أو رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل إمامه قال: (فعليه) ، إذن الصلاة تصح (أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت) .
فيجب عليه إذا سجد أو ركع قبل الإمام ونحو ذلك أن يعود إلى الإمام ثم يأتي بالركن بعده، فمن ركع قبل إمامه فيجب عليه أن يعود فيركع بعد إمامه. .
(فإن لم يفعل ذلك عمداً بطلت صلاته) :
هذا القول الأول وهو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب – بعكسه – قالوا: الصلاة تصح، فإذا أتى بالركن بعد الإمام فالصلاة تبطل؛ لأن في الصلاة زيادة فإذا سبق الإمام إلى الركوع فلا يجوز له أن يرجع إلى الإمام فيأتي به بعده، لأن هذا الفعل يتضمن زيادة في الصلاة فوجب عليه أن ينتظره فيأتي بالركن معه.
والقول الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب أهل الظاهر: أن الصلاة تبطل، والمراد أن يتعمد السبق لأنه فعل في الصلاة فعلاً من جنسها لا يشرع فيها على وجه التعمد.
فإنه إذا سبق الإمام فقد أتى بالركن على صفة غير مشروعة وما كان في الصلاة من شيء أتى به على صفة غير مشروعة فإنه يبطل الصلاة.
وهذا القول أرجح، وأن الصلاة تبطل بذلك لثبوت النهي عنه ولأنه فعل في الصلاة على وجه غير مشروع يبطلها عمده وقد تقدم أن تعمد الركوع مبطل للصلاة فهنا قد [فعل] فعلاً في الصلاة غير مشروع فيها على وجه التعمد فبطلت به الصلاة.
قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت)(7/104)
هذه الصورة الثانية: وهي ما إذا سبقه بركن ففعله قبل إمامه، فتبطل الصلاة بذلك إن كان عامداً، ويستدل لهذا بأنه فعل الركن على هيئة غير مشروعة وكل عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو رد، فهو فعل غير مشروع وعلى وجه الزيادة وقد حصل ذلك على وجه التعمد فأبطل الصلاة.
قال: (وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط)
تقدم أن في مسابقة الإمام صورتين.
الصورة الأولى: فيما إذا سبقه إلى الركن لكنه لم يرفع منه حتى ركع إمامه فأتى به مع الإمام، فقد تقدم أنه إن فعل ذلك عمداً فالصلاة تبطل على الراجح. فإن فعله ساهياً أو جاهلاً فإن الصلاة صحيحة باتفاق العلماء للعذر، وقد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
الصورة الثانية: إذا سبقه إلى ركن أو ركنين فإن فعل ذلك عمداً بطلت الصلاة، فإن فعله جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط؛ لأنه قد فعل الركن على هيئة غير مشروعة فكما لو لم يفعله فكان مردوداً أو كان في حكم من لم يفعله، فهو وإن كان جاهلاً أو ناسياً لكنه وضع في غير موضعه فكان كأنه قد ترك هذا الركن فتكون الركعة باطلة.
ومحل ذلك حيث لم يأت به مع الإمام.
صورة إتيانه به مع الإمام: سبقه إلى ركن فرفع منه ناسياً فعلم أن إمامه لم يركع فركع مع الإمام فلا يضره ذلك وتصح ركعته، فيكون قد زاد في الصلاة زيادة على وجه السهو أو الجهل فلم يضره ذلك.
إذاً إن كان منه نسيان أو جهل فسبق الإمام بركن أو ركنين فلا يخلو من حالتين:
أن يأتي به معه فإنه حينئذ لا يضره ذلك ويعتد بركعته.
ألا يفعله مع الإمام بل فات فلا يعتد بركعته.
قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي ويصلي تلك الركعة قضاء)
هنا: فيما إذا سبقه بركنين فقد رفع وسجد قبل رفعه، فهي كالمسألة السابقة تماماً فلا فرق بين أن يسبقه بركن أو ركنين، فتبطل بها الصلاة عمداً.(7/105)
وإن كان جاهلاً أو ناسياً فإنه يصلي تلك الركعة قضاء إن لم يأت بها مع الإمام أما إذا أتى بها مع الإمام فإنها لا تضر.
أما الحالة الثالثة: فهي التخلف وهي مثل المسابقة عند الفقهاء، والتخلف: هو أن يفعل الركن بعد إمامه متراخياً، وله صورتان:
أن يكون ذلك بأن يدرك الإمام في الركن كأن يدرك الإمام في آخر ركوعه، فهنا الصلاة صحيحة باتفاق العلماء، لكنه ترك ما يشرع له من المتابعة بل الظاهر أنه ترك ما وجب عليه من المتابعة.
أن يتخلف عنه بركن أو ركنين، كأن يركع الإمام ثم يرفع أو يسجد كذلك والمأموم قائم فهي كحكم السابقة المتقدمة.
فيقال: إن تخلف عنه بركن أو ركنين عامداً بطلت صلاته، وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل الصلاة، لكن الركعة تبطل لأنها قد اختلت بفعل ركن أو ركنين منها على وجه غير مشروع فكما لو لم يفعلهما فكان في حكم التارك لركن أو ركنين.
أما الحالة الرابعة: فهي المقارنة: وهي أن يفعل الركن مع الإمام بأن يركع أو يسجد أو يكبر للإحرام معه ونحو ذلك فهي مكروهة عند أهل العلم.
إلا أن التكبير معه تكبيرة الإحرام فإن الصلاة لا تصح، ومثل ذلك ما إذا سبقه – عندهم – بتكبيرة الإحرام؛ لأنه عقد صلاته قبيل تمام انعقاد صلاة الإمام فتكون متعلقة بعدم فلا تصح، لأنها قد سبقت انعقاد صلاة إمامه، وإن قارنه فإن صلاة الإمام لم يتم انعقادها بعد فتكون باطلة – وهذا مذهب جمهور العلماء.
أما المقارنة بغير تكبيرة الإحرام كأن يسلم معه ونحوه فهي مكروهة عندهم والصلاة صحيحة.(7/106)
- وذهب بعض العلماء من الحنابلة: إلى أن الصلاة تبطل أيضاً مع التعمد، وهو قول قوي، لأن الشارع قد أمره بفعل الركن بعد إمامه وعقيبه كما في الحديث المتقدم: (فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر) ففيه أمر المصلي أن يكون ركوعه وسجوده عقيب فعل إمامه وذلك متضمن للنهي عن أن يكون ذلك مع إمامه، وحيث فعل ذلك فيكون مخالفاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - تاركاً لهديه فتبطل به الصلاة ويكون الركن واقعاً غير مشروع. وهذا هو الأظهر وأنه إن فعل ذلك متعمداً فتبطل الصلاة، أما ناسياً أو جاهلاً فتصبح الصلاة للعذر.
فالصحيح أنه مبطل لها؛ لأن الشارع أمر بالمتابعة وأوجبها، والمقارنة ترك للمتابعة فهي ترك لما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكل أمر على غير هديه وسنته مما يفعل تعبداً فهو مردود على صاحبه فكان ذلك باطلاً غير صحيح. هذا الأظهر.
فإن قيل: ما هو أصل الحنابلة في أنه يعود إلى إمامه؟
فالجواب: ما رواه البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن مسعود قال: (لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود فمن رفع قبل إمامه فليسجد ثم ليمكث قدر ما سبقه به) ولا يعلم له مخالف.
لكن هذا الأثر ليس ظاهراً في أن ذلك في ما كان على وجه التعمد بل يحتمل أن يكون ذلك على وجه السهو والجهل.
فعلى ذلك: يبقى القول بأن من سها أو جهل فإنه يعود إلى إمامه فيأتي بالركن بعده؛ لأن ما فعله فقد فعله في غير موضعه ولا أثر له لأنه في غير موضعه.
* عندما يكون الإمام قد أسرع في فعل شيء من الأركان كالفاتحة فهل يتمه المأموم ثم يتابعه أم يدع الركن الذي هو فيه متابعاً لإمامه؟
الظاهر أنه يفارقه لكن ليس مطلقاً بل نوع مفارقة بقدرها لضرورة تعذر، فإذا جازت المفارقة لعذر عن الصلاة كلها، فأولى من ذلك – أن يجوز للعذر – المفارقة في بعض أركانها. هذا ما استظهره شيخنا.
مسألة:(7/107)
أتى والإمام قائم ومعه وقت لا يكفي لقراءة كل الفاتحة، فما الحكم؟
الأظهر أنه يقرأ الفاتحة بقدر ما يتمكن من ذلك وحينئذ يتحمل عنه الإمام ما بقى فإذا كان الإمام يتحمل الفاتحة كلها فأولى من ذلك بعضها.
مسألة:
ما هو المعتبر في متابعة الإمام؟
في الأصل أن المتابعة مربوطة بالتكبير كما في الحديث السابق. لكن الأصل في قضية المتابعة أن تكون في فعل الأفعال، فلو تراخى الإمام في التكبير فالعبرة هي في الفعل، فمتى فعل الإمام الركن فعله المأموم وإن تأخر في تكبيره لأننا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربطنا بالفعل عقيبه، فلو تأخر في التكبير فلم يفعل إلا بعد تكبيرة أدى ذلك إلى أن يكون فعلنا ليس عقيب فعله فتكون مخالفة من الإمام أدت إلى مخالفة السنة فلا عبرة بتكبيره.
أما هل يتابع الإمام عند بداية انحطاطه أم إذا وقع ساجداً تبدأ بفعل حركات السجود؟
روى البخاري عن البراء قال: (كنا إذا صلينا وراءه - صلى الله عليه وسلم - لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً) .
لكن ليس هذا مطلقاً بل حيث كان يعلم أنه يدرك الإمام أما إذا علم أنه لا يدركه إذا فعل ذلك فيعفى عن ذلك؛ لإدراك الركن وهو مقدم على فعل ما يستحب من أن يكون شروعه بعد وقوع الإمام ساجداً.
إذاً: إذا استقر الإمام راكعاً أو ساجداً شرع المأموم في الحركات المؤدية للركوع أو السجود إلا أن يخشى فواتاً فيرجح خلاف ذلك لإدراك الركن.
مسألة:
كبر إمام وكبر المأمومون خلفه ثم شك في تكبيره فكبر مرة أخرى، فما الحكم في المأمومين؟
فالأظهر أن تكبيرهم صحيح فلا يعيدوه لأن تكبيرهم وقع صحيحاً فلا دليل على إبطاله كما لو كبروا مع إمام فتبين محدثاً فاستخلف فكبر ذلك المستخلف، فالتكبير حينئذ يكون صحيحاً منعقداً لا شيء فيه.
الحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله: (ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام) .
تدل عليه السنة قولاً وفعلاً.(7/108)
أما قولاً: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف) - وفي البخاري: (والكبير) وفي مسلم: (وذا الحاجة) - وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) .
وثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطول بنا، قال: فما رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - في موعظته أشد غضباً منه يومئذ فقال: (إن منكم منفرين فأيكم صلى للناس فليخفف فإنما يصلي وراءه الضعيف والكبير وذو الحاجة) ، وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل: (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً) وفيه: (فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة) ، وثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمان بن أبي العاص: (أنت إمامهم واقتد بأضعفهم) أي اقتد بصلاتك طولاً وقصراً بأضعف القوم وهم ذوو المرض والكبار وذوو الحاجات.
وأما فعلاً: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (ما كان أحد أخف صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في تمام) فهذه الأحاديث تدل على استحباب التخفيف للإمام.
وضابطه عند الحنابلة: أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وغيره من أجزاء الصلاة، فهذا ضابطه في المشهور من المذهب وذلك بأن يسبح الله في ركوعه وسجوده ثلاثاً وهكذا.
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن المستحب له أن يصلي كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قال شيخ الإسلام: (وينبغي أن يفعل غالباً ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل غالباً ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص للمصلحة) .(7/109)
ومما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقصه للمصلحة ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لا دخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به) فهنا كان يخفف للمصلحة.
كما أنه كان يطيل لها كما أنه كان يقرأ بالأعراف والأنفال في صلاة المغرب ونحو ذلك، فيفعل ذلك الإمام لبيان ذلك واستحبابه ولئلا يعتقد أن قراءة القصار من السنة المداومة عليها.
وليس ذلك – أي التخفيف - تبعاً لشهوة المأمومين كما قرره ابن القيم رحمه الله، بل ذلك التخفيف بالنظر إلى فعله، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأمر الناس بالتخفيف ويخالفه، لذا قال ابن عمر – كما في النسائي بإسناد صحيح قال -: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويقرأ بالصافات) ليبين ابن عمر أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف لا يخالفه قراءته بالصافات.
فعلى ذلك الظاهر مذهب شيخ الإسلام وتلميذه: من أن المستحب للإمام أن يقرأ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وكذلك السجود والتسبيح وغيرها، وذلك هو التخفيف المشروع.
قال: (وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية)
يسمى له تطويل الركعة الأولى أكثر من الركعة الثانية كما تقدم في حديث أبي قتادة المتفق عليه وفيه أنه قال: (وكان يطول الركعة الأولى) ، فالسنة تطويل الركعة الأولى وتقصير الركعة الثانية.
والظاهر أنه لا أثر للتفاوت اليسير بين الركعة الأولى والركعة الثانية وإن كان ذلك من نصيب الثانية، وهذا هو الذي ذلك دلت عليه السنة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بسبح والغاشية، والغاشية أطول من سبح وهذا تفاوت يسير.
ومن ذلك أن الفلق أقصر من سورة الناس بشيء يسير وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالفلق في الأولى وبالناس في الثانية.(7/110)
وظاهر المذهب مطلقاً في قصار السور وغيرها، كما أطلق ذلك في الفروع، والأظهر اختصاصه بالقصار.
قال: (ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، لكن إن شق على أحد من المأمومين فلا يسن له ذلك.
واستدلوا: بما رواه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم) .
والقول الثاني: مذهب الأحناف والمالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يستحب له ذلك.
واستدلوا: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)
قالوا: وكونه ينتظر الداخل فذلك مدعاة إلى الإسراع من الداخل وفيه تشويش على الإمام والمأموم في انتظار الداخل، وفيه مشقة في الغالب على بعض المأمومين.
وأما الحديث الذي استدلوا به: فالحديث ضعيف فإن فيه راو مجهول.
وهذا القول هو الأظهر؛ لظهور أدلته، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها)
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر – بإسناد لا بأس به – (وبيوتهن خير لهن) ، ونحوه من حديث أبي هريرة في المسند وسنن أبي داود بإسناد صحيح: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات وغير متزينات.
وقد ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) فنهى عن مس الطيب والزينة وتخرج تفلة.
إذن: لا تمنع المرأة ويكره منعها.(7/111)
ولعل الصارف لهذا الحديث عن التحريم الذي هو ظاهر قوله: (لا تمنعوا) - فالصارف فيما يظهر: - أن المصلحة الدينية غير ثابتة، بل المصلحة الدينية تثبت لهن في صلاتهن في البيوت لقوله: (وبيوتهن خير لهن) فلو كان المصلحة دينية لهن لكان النهي للتحريم، لكن لما قال: (وبيوتهن خير لهن) كانت المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن كان المنع ليس محرماً بل مكروهاً، وإن كان ظاهر كلام الموفق ابن قدامة التحريم.
لكن الأظهر ما ذهب إليه الجمهور من كراهية ذلك؛ لأن المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن.
قال: (وبيتها خير لها)
وقد تقدم الحديث الثابت في مسند أحمد من حديث أبي حميد الساعدي.
وتقدم أنه يمنعها إن خشي ضرراً أو فتنة، قالت عائشة كما في مسلم: (لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء " أي من الطيب والزينة في الذهاب إلى المسجد " لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل) فإذا ثبتت الفتنة أو الضرر فإنها تنهى سداً للذريعة.
ومثل ذلك أنها تنهى أن تذهب منفردة كما ذكر ذلك الحنابلة؛ لأن انفرادها مظنة الفتنة.
أما إذا كانت غير منفردة أو في طرق ممتلئة بالذاهبين والآيبين فإنها ليست في حكم المنفردة، فرجع ذلك إلى أمن الطريق بإن كان آمناً لكثرة الذاهب والآيب ولا يخشى عليها فتنة. أما إذا كان انفرادها مظنة للفتنة فإنها تمنع.
إذن: المشهور في المذهب أنها تمنع إن كانت منفردة وظاهر ذلك مطلقاً.
والأظهر: ألا تمنع مطلقاً بل تمنع إن كانت منفردة وظنت الفتنة كأن تكون الطرق غير آمنة، فإن كانت الطرق آمنة فإنها لا تمنع.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الأولى بالإمامة)
قال هنا: (الأولى) وفيه أن ما يذكره من الأحكام من تقديم الأقرأ فالأفقه في الإمامة أن ذلك سبيله سبيل الأولية لا سبيل الوجوب والفرضية، وهذا باتفاق العلماء.(7/112)
فإن خولف ذلك فلا بأس لكن الأولى ذلك. يدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) .
فهذا يدل على أنه إن صلى أحدهم ممن يحسن القراءة أجزأ ذلك وصح، لكن أولاهم بذلك وأحقهم به هو الأقرأ.
قال: (الأقرأ العالم فقه صلاته)
الأقرأ هو الأولى بالإمامة للحديث المتقدم: (وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) ، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلماً " أي إسلاماً " وفي رواية " سناً " ولا يؤُمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) .
ففي هذا الحديث تقديم الأقرأ لكن بالشرط المتفق عليه بين أهل العلم – وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (العالم فقه صلاته) أي الذي يعلم من الصلاة ما يحسنها بتمام شروطها وأركانها وواجباتها، فإن كان جاهلاً بأحكام الصلاة التي لا تصح ولا تقوم إلا بها فلا يقدم وإن كان هو الأقرأ.
وقول: (الأقرأ) قال في الشرح: (جودة) وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور، وأن الأقرأ هو الأجود قراءة أي الذي يحسن القراءة فيخرجها من مخارجها الصحيحة وغير ذلك من شروط القراءة الشرعية الصحيحة.
والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي وهو خلاف المشهور في مذهبيهما: أن المراد الأكثر قراءة.
لحديث عمرو بن سلمة في البخاري قال: (جاء أبي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئتكم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فقال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) .
فهذا يدل على أن الأكثر قرآنا يقدم على الأجود الأقل حفظاً.(7/113)
والمسألة فيها تفصيل، وهو أن يقال: الأكثر يقدم إن كان مجوداً وتلاوته صحيحة، وإن كان غيره أرجح منه، أما إن كان غير مجيد للتلاوة وله لحن فإمامته مكروهة، كما اتفق العلماء على ذلك – والمقصود اللحن غير المحيل للمعنى – فحينئذ يقدم عليه الأجود وإن كان أكثر منه حفظاً.
إذن: الراجح هو التفصيل في هذا، أن يقال: إن الأكثر يقدم لكن ليس مطلقاً بل حيث كان مجوداً لتلاوته وإن لم يكن أجود من غيره لكن تلاوته صحيحة ليس فيها لحن وإن كان غيره أتقن تلاوة.
لكن إن كان في قراءته لحن فإنه يكون مرجوحاً على من كان أقل منه قراءة.
فالراجح التفصيل، ودليل ذلك قوله: (ليؤمكم أكثركم قرآناً) ولم يعلقه بالجودة مع اختلاف الناس فيها فإنه يحتمل أن يكون هناك من هو أقل منه قراءة وهو أجود، مع العلم أنه في العهد الذي كان فيه مثل عمرو بن سلمة حيث كانت اللغة العربية هي اللغة الدارجة عندهم لا يقال لوجود اللحن في القراءة – لقوله: (ليؤمكم أكثركم قرآناً) فكلهم مجيدون للتلاوة لأن القرآن نزل بلغتهم فحينئذ يكون التفاضل بالرجوع إلى الأكثر قرآناً.
قال: (ثم الأفقه)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) أي بالفقه وهذا باتفاق العلماء بل جمهور العلماء على أن الأفقه يقدم على الأقرأ – خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يقدم عليه الأقرأ.
واستدل الجمهور: بأن أبا بكر كان يؤم الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان منهم أبي بن كعب وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأقرؤهم لكتاب الله أبي) فكان أقرأ من أبي بكر ومع ذلك فقد قدم عليه أبا بكر في الإمامة.
والجواب على ذلك أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قدم أبا بكر توطئة لخلافته، لذا استدل الصحابة على أخصية أبي بكر بالخلافة بتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الإمامة.(7/114)
وجواب آخر أن يقال: معلوم أن أبا بكر كان شبيه النائب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمر معه وعمر في مصالح المسلمين، فكان كنائب السلطان ونائب السلطان أحق بالنيابة من غيره عند غياب السلطان فالراجح ما نص عليه الحديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) .
ويقدم الأفقه على الفقيه فيما إذا كان كلاهما فقيه.
ويقدم الأفقه في أحكام الصلاة على غيره ممن هو أفقه في أبواب أخرى كالجنايات والبيوع، لأن قوته في الفقه في أبواب الصلاة متعلقة بالصلاة وهو سبب في أدائها على أتم ما يكون وأكمل.
قال: (ثم الأسن)
يعني الأكبر سناً، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) وسيأتي بيان الحق في هذه المسألة.
قال: (ثم الأشرف)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قدموا قريشاً ولا تقدموها) رواه أحمد. والأشرف المراد به القرشي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإمامة في قريش) وشيخ الإسلام لا يرى التقديم بالنسب، قال في الإنصاف: "ولم يقدم تقي الدين بالنسب " وذكره – أي صاحب الإنصاف – عن أحمد وصوَّبه. وهو ظاهر، لأن الحديث الوارد في إمامة قريش إنما هذا في الإمامة العظمى.
فإن قيل: ألا تقاس الإمامة الصغرى على الكبرى؟
فالجواب: أولاً إن هذا القياس المذكور يقتضي أن يقدموا على الأقرأ كما قدموا على الأفضل والأصلح ممن هو ليس من قريش.
ثم أيضاً: إنما كانت الإمامة في قريش لأنهم رأس العرب وبهم تجتمع الأمة وتقوى شوكتها وتتآلف، ويبعد أن تتآلف على غيرهم فلذلك وضعهم الله في هذا الموضع وليس هذا في الصلاة فهي محل للعبادة الدينية أما هناك فلأنها تقوم بها مصالح الدنيا والدين.
قال: (ثم الأقدم هجرة)
وهذا هو المشهور في المذاهب(7/115)
وظاهر كلام الإمام أحمد واختار ذلك طائفة من أصحابه: أن الأقدم هجرة يقدم على الأسن والأشرف.
فيكون الترتيب: الأقرأ فالأفقه فالأقدم هجرة أو سلماً أي إسلاماً.
ودليل ذلك الحديث المتقدم فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، وفي رواية: سناً) ، فهنا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقدم هجرة على الأقدم سناً.
فإن قيل: فما الجواب على حديث مالك بن الحويرث؟
فالجواب: أنهم كانوا متقاربين في العلم والهجرة، فلذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمرهم أن يتقدم أكبرهم، ففي أبي داود قال: (وكنا متقاربين في العلم) وكانت هجرتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت واحد.
وهذا القول الراجح، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه.
فالأقدم هجرة يقدم ثم بعد ذلك الأقدم سلماً، وهو يرجح على الأسن؛ لأن الأقدم سلماً أكبر سناً في الإسلام ولا شك أن من كان إسلامه سابق لغيره فهو أرجح في الأصل من غيره، إلا أن يكون هناك مرجح آخر من علم أو فقه أو غير ذلك. ثم بعد ذلك الأسن.
فعلى الراجح يكون الترتيب: الأقرأ ثم الأفقه ثم الأقدم هجرة ثم الأقدم سلماً ثم الأسن.
قال: (ثم الأتقى)
لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا شك أنه عندما تستوي التي تقدم ذكرها من المرجحات وهي (القراءة والعلم والهجرة والسلم والسن) فإن الأتقى له مزية على غيره.
وقال بعض الحنابلة: الأتقى يقدم على الأشرف.
وهو أصح، ولكن مع ذلك تقدم ترجيح كلام شيخ الإسلام: من أن النسب ليس له محل في هذه المسألة أصلاً.
قال: (ثم من قرع)
أي في القرعة، فتوضع القرعة بينهم لدخول المسألة في القاعدة الشرعية وهي إذا استوى الناس بالاستحقاق لشيء ما ولم يكن ثمت طريق للجمع بينهم فإنه يسلك باب القرعة.(7/116)
وقبل ذلك من يختاره الجيران فهو مرجح. ومن كان أعمر للمسجد وبقاؤه أصلح لإمامة لمسجد، فهذا مرجح.
وقد يكون الأشرف يقدم ولكن هذا من باب الترجيح وليس أصلاً.
فالقول بأن الأشرف حيث استوت سابقٌ للقرعة قول قوي؛ لأنه يعتبر مرجحاً، ويكون على قول من قدم الأتقى على الأشرف فيكون من باب المرجحات.
قال: (وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان)
وقال: (ساكن البيت) ولم يقل (ورب البيت) ؛ لأنه قد يكون مستأجراً وإذا قيل (رب البيت) ، ظن أن ذلك للمالك فقط، لذا قالوا بتقديم المستأجر على المؤجر وتقديم المستعير على المعير؛لأنه أحق – حينئذ – بالبيت.
وذلك للحديث المتقدم: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بأذنه) ، وفي رواية لأبي داود: (ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بأذنه) ، وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم) .
فلا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في مسجده إلا بأذنه، فهذا أحق بالإمامة وإن كان الزائر أقرأ أو أفقه أو نحو ذلك إلا أن يأذن إمام المسجد أو ساكن البيت.
(إلا من ذي سلطان) : فصاحب السلطان له الأحقية؛ لأن له عموم الولاية ومثل ذلك نوابه من الأمراء وغيرهم فلهم أن يتقدموا في أي مسجد أو أي بيت شاؤوا؛ لأنه لهم الولاية العامة.
قال: (وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختون، ومن له ثياب أولى من ضدهم)
فالحر أولى من العبد، والحاضر أولى من البدوي، والمقيم أولى من المسافر، والبصير أولى من الأعمى، والمختون أولى من الأقلف، ومن له ثياب يستتر بها كمال الستر أولى ممن له ثياب يستر بها عورته فحسب. ولم أر دليلاً يدل على ما ذكره الحنابلة هنا.(7/117)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم) يدخل في ذلك العبد والحاضر والمسافر والبدوي وغيرهم – وإن كان من هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف ما يكون مرجحاً.
فلا شك في ترجيح إمامه المقيم على إمامة المسافر مع التساوي، ولا شك بتقديم المختون المطبق للسنة على الأقلف الغير مطبق لها، فيقدم؛ لأنه أطوع لله عز وجل وأكثر تطبيقاً للسنة.
أما أن يكون هذا أولى مطلقاً فليس بصحيح.
فإذن: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله مطلقاً، أما في مسائل الترجيح فإنه يرجح مثل من تقدم كالمقيم وغيره.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تصح خلف فاسق ككافر)
أي لا تصح الصلاة خلف الفاسق كما أنها لا تصح خلف الكافر، فالصلاة خلف الكافر فقد اتفق أهل العلم على بطلانها.
وهنا يقيس الفاسق في الإمامة على الكافر بجامع أن كلا منهما لا يقبل خبره لمعنى في دينه، فهذا للكفر وهذا للفسق.
وفي ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
فالمشهور من المذهب: أن الصلاة خلف الفاسق باطلة لا تصح.
وهل المقصود بالفاسق من ظهر فسقه أم من خفي؟
قولان للحنابلة:
الأول: أن المقصود من ظهر فسقه.
الثاني: أنه وإن خفي فسقه فحكمه كذلك.
واستثنوا من ذلك صلاة العيد والجمعة، فقالوا: تصح خلف الفاسق؛ لأن صلاة الجمعة والعيد تكون في الأصل وراء إمام واحد فهذا هو أصل مشروعيتها ففي إبطالها وراء الفاسق تفويت لها.
وعليه فإذا كانت الجمعة تصلى مع أكثر من إمام وكذلك في العيد فيجب أن يتحرى الإمام العدل.
فرأوا بطلان الصلاة خلف الفاسق لكن إن رأى أن المصلحة في الصلاة وراءه ودرء المفسدة بذلك صلى وأعاد صلاته.
وله أن يصلي معه بنية المفارقة فيقتدي به في الظاهر وينوي في الباطن مخالفته.(7/118)
وإن كان مجهول الحال لم تثبت عدالته ولم يثبت فسقه فيصح الاقتداء.
والمستحب عدم ذلك وذلك - أي صحة الصلاة خلفه –؛ لأن الأصل في المسلمين العدالة.
وكذلك عندهم الحكم في المبتدع فالفسق يدخل فيه الفسق في الاعتقاد والفسق في العمل.
أما الفسق في الاعتقاد فهو أن يفعل بدعة لا تكفره، وأما الفسق بالعمل فهو أن يفعل كبيرة أو يصر علي صغيرة.
فإذن: الصلاة خلف الفاسق باطلة سواء كان فسقه في الاعتقاد أو الفعل، هذا هو تقرير مذهب الحنابلة.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الصلاة صحيحة، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة:
ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)
وما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أئمة الجور: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) فصححها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبما رواه أبو داود في سننه من حديث مكحول عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) وفي إسناده انقطاع، ومع ذلك فهو أصح مما استدل به أهل القول الأول وله شواهد تدل عليه.
وبما رواه الدارقطني بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا خلف كل من قال لا إله إلا الله وعلى كل من قال لا إله إلا الله)
قالوا: وعليه عمل السلف الصالح، فقد كانوا يصلون وراء أئمة الجور مع ثبوت فسقهم، كما صح ذلك عن أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وعن ابن عمر في البخاري، وعن الحسن والحسين في البيهقي وابن أبي شيبة حتى حكاه بعضهم إجماعاً للصحابة، والمراد في صلاتهم خلف من كان فسقهم فسق عمل.(7/119)
كما ثبت في البخاري أن عثمان أتاه عبيد الله بن عدي بن الخِيَار (1) فقال له - وهو محصور –: " إنك إمام عامة وقد نزل بنا ما ترى وإنه يصلي بنا إمام فتنة فقال عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإن أحسنوا فأحسن معهم وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم)
وقال الحسن البصري كما في البخاري: (صل وعليه بدعته) .
فهذا القول هو الذي تعضده الأدلة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعال الصحابة.
لكن اتفق أهل العلم على كراهية الصلاة خلف الفاسق المبتدع وأنهم لا يولونه الإمامة، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة أو فوات مصلحة أو يحتاج إلى الصلاة خلفه فحينئذ يصلى خلفه والصلاة صحيحة، لكن إن أمكنه أن يصلي مع غيره فهو المشروع في حقه.
وأما الكافر فقد اتفق أهل العلم على عدم صحة الصلاة خلفه سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو صاحب بدعة مكفرة أخرجته من الإسلام كالرافضة والجهمية على قول طوائف كثيرة من السلف.
وأما الصلاة خلف من جهلت عقيدته، فقد ذكر شيخ الإسلام اتفاق العلماء على صحة الصلاة خلفه وأنه لا يشرع امتحانه أو سؤاله.
وهو كما قال شيخ الإسلام لأن الأصل في المسلمين حسن الاعتقاد لكن يستثنى من ذلك، حيث كان مظنة سوء الاعتقاد كأن يأتي من بلاد تشتهر فيها البدعة فإنه يسأل عن الاعتقاد؛ لأنه مظنة العقيدة التي تعتقدها أهل بلده.
أما إذا كان من بلد أصحابها أهل سنة وعقيدة فلا يشرع سؤاله ولا امتحانه بل يصلى خلفه وإن جهل اعتقاده.
__________
(1) هو عبيد الله بن عديّ بن الخِيَار، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، قتل أبوه ببدر، وكان هو في الفتح مميِّزاً، فعدَّ في الصحابة لذلك، وعَدَّه العجلي وغيره من ثقات التابعين، مات في آخر خلافة الوليد بن عبد الملك / خ م د س.التقريب.(7/120)
وحكى شيخ الإسلام أيضاً: أن من أنكر صحة الصلاة خلف المخالف في المذهب فإنه قد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف وأنه ضال مبتدع، وذلك مع صحة اعتقاده في الإمام، لأن الصحابة كان بينهم خلاف في مسائل كثيرة – من الفروع مما يسوغ فيه الخلاف في مسائل الطهارة والصلاة ونحو ذلك - ومع ذلك كان بعضهم يصلي وراء بعض من غير نكير لذلك فمخالفتهم مخالفة للسنة، كأن يصلي خلف من لا يعتقد نقض الوضوء بأكل لحم الجزور وهو يعتقد ذلك.
قال: (ولا خلف امرأة)
باتفاق العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)
لكن هل تستثنى النافلة؟
في رواية عن الإمام أحمد: استثناؤها.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار أكثر أصحابه وهي من مفردات المذهب: أن الصلاة خلف المرأة في التراويح صحيحة جائزة.
وقيده بعضهم: بأن تكون ذات محرم.
وقيده بعضهم بأن تكون عجوزاً – أي كبيرة في السن –.
إلا فإطلاق بعضهم أنها تصلي مطلقاً - هذا في الحقيقة - من الغرائب.
لكن قالوا: تصلي خلفهم ولا تصلي أمامهم.
وهل يقتدون بها بمطلق الصلاة أم بالقراءة فقط؟
قولان:
الأول: أنهم يقتدون بها في مطلق الصلاة.
الثاني: أنهم يقتدون بها في القراءة فحسب، فتسمعهم القراءة ثم يركعون ويسجدون مع إمام آخر.
ودليلهم: ما رواه أبو داود في سننه: عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها وكانت قد جمعت القرآن فجعل لها مؤذناً وأمرها أن تؤم أهل بيتها) والحديث إسناده ضعيف لجهالة في عين بعض رواته.
ولو صح فالحديث عام في الفريضة والنافلة وقد ذهب إليه بعض العلماء وأن الصلاة صحيحة خلفها فرضاً ونفلاً، لكن هذا ضعيف باتفاق العلماء –في الحديث -: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)
قال: (ولا خنثي للرجال)
لاحتمال أن يكون امرأة، وهو من التبس في أمره خلقةً فلم يثبت بعد أذكر هو أم أنثى، وهذا هو الخنثى المشكل.(7/121)
فإن تبين أنه ذكر صحت، وإن تبين أنه أنثى لم تصح وذلك إذا ظهر. أما قبل الظهور فلا تصح الصلاة خلفه لاحتمال أن يكون امرأة وهذه من المسائل النادرة.
قال: (ولا صبي لبالغ)
الصبي: هو ابن سبع أو ست أو خمس سنين ممن ثبت تمييزه.
فالصبي لا يجوز أن يؤم البالغين في الفرض، أما في النفل فتصح.
هذا هو المشهور في المذهب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: والصبي يصلي بنية النفل، والبالغ يصلي بنية الفرض وهذا اختلاف في النية بينهما، وقد قال: (فلا تختلفوا عليه) وهذا بناء على أنه لا تصح الصلاة خلف المخالف بالنية – وسيأتي الراجح – إن شاء الله.
وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن صلاة الصبي صحيحة بالبالغين فرضاً ونفلاً، لحديث عمرو بن سلمة وفيه: (فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين) رواه البخاري.
فهذا فعل الصحابة، وهو عموم الأدلة الشرعية: (يؤمكم أكثركم قرآناً)
وأما ما ذكروه من اختلاف النية فإن هذا الحديث لا يفسر به على الصحيح.
بل تفسر بالاختلاف في الأفعال الظاهرة كما دل عليه الحديث في قوله: (ولا تركعوا حتى يركع)
وأما المخالفة في النية فإنه لا أثر لها على الصحيح وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فالراجح أن الصلاة خلف الصبي فرضاً ونفلاً صحيحة لحديث عمرو بن سلمة الذي رواه البخاري وغيره.
وأما النفل فاتفق العلماء على صحتها من الحنابلة وغيرهم؛ لأن النفل له نفل ولهم نفل فالنية غير مختلفة.
قال: (ولا أخرس ولو بمثله)
الأخرس: هو الذي لا ينطق.
فلا تصح إمامته لأنه ترك ركناً من أركانها وهو الفاتحة بغير بدل.
ثم إن الإمامة قوامها القراءة والتكبير والتسميع وهذا لا يكون منه، وهو باتفاق العلماء.
لكن إن كان بمثله؟
فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح.
وقياس المذهب وهو اختيار بعض الحنابلة: صحة ذلك.(7/122)
لكن يجب أن يقيد هذا – مع ترجيحه – بألاَّ يوجد إمام غير أخرس فيصح أن يقتدي به.
قال: (ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام)
فالمذهب أنه لا يجوز أن يولى الإمامة من كان عاجزاً عن القيام أو القعود أو الركوع أو السجود.
وقيَّدوه " إلا بمثله "، لذا ذكرنا أن قياس المذهب صحة الصلاة بمثله في الأخرس.
فلا تصح إمامة العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود إلا بمثله.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى صحة إمامته لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) وهو وإن ترك الركوع والسجود أو القيام أو القعود أو نحو ذلك من الأركان التي لا تتأثر بها الإمامة إنما تركه على سبيل العذر فهو معذور في ذلك ومن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ولا دليل شرعي يمنع من ذلك.
وكونه عاجزاً عن فعلها هو معذور في ذلك فلا مانع من إمامته.
وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية. ومن صحت صلاته، صحت إمامته.
قال: (إلا إمام الحي المرجو زوال علته)
يستثنى من ذلك - أن في صحته أن يصلي قاعداً – مثلاً - إمام الحي الراتب إن أصيب بعلة يرجى زوالها.
وهنا قيدان اثنان:
القيد الأول: أن يكون إمام الحي.
القيد الثاني: أن يكون مرجو زوال علته.
واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمَّ على ذلك، ففي الصحيحين عن عائشة في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر يصلي قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر)(7/123)
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: قال لا يشترط ذلك لعدم الدليل عليه، ولأن الأحاديث عامة في ذلك: (وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) فلا يقيد بالإمام الراتب ولا بمرجو زوال العلة؛ ولأنه معذور في نفسه، صحيحة صلاته، وقد ترك ركناً لا يؤثر بالمأمومين تركه – أي من حيث الائتمام –، فلم يكن ذلك مؤثراً في اقتدائهم، فصحت الصلاة خلفه.
وهذا القول أظهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما صلى بهم لا يظهر لنا أنه كان مرجو زوال العلة فقد كان ذلك في مرض موته، وقد خشي الصحابة عليه الموت كما هو مشهور في قصة مرضه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُسلَّم – أنه كان مرجو زوال العلة.
قال: (ويصلون وراءه جلوساً ندباً)
إن صلى جالساً فإنهم يصلون وراءه جلوساً، بخلاف ما إذا ترك الركوع أو السجود فإنهم يسجدون.
أما إن صلى جالساً فيصلون وراءه جلوساً لحديث: (فإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)
وثبت في مسلم عن عائشة قالت: (اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه بعض أصحابه يعودونه فصلى بهم جالساً وصلوا قياماً فالتفت إليهم وأشار أن اجلسوا) .
وفي مسلم نحوه من حديث جابر وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود)
" ندباً ": فلا يجب ذلك، فلو صلوا قياماً صحت صلاتهم ولم يتركوا بذلك واجباً من واجبات الصلاة.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة: بل ذلك فرض عليهم أي الجلوس.
واستدل أهل القول الأول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاتهم لما صلوا خلفه قياماً.
أما دليل أهل القول الثاني: فهو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قوله: (إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود) وهو تشبه بهم والتشبه بهم محرم.(7/124)
فعلى ذلك يجب عليهم أن يصلوا قعوداً وعليه: إن صلوا قياماً بطلت صلاتهم.
وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاتهم؛ لأنهم فعلوا ذلك جهلاً، فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نظائر كثيرة وقواعد الشريعة تدل عليه. وهذا القول الراجح.
قال: (فإن ابتدأ لهم قائماً ثم اعتلَّ فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً)
هذا استثناء:
وهو أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً فشرعوا في الصلاة في حال القيام ثم اعتلَّ الإمام فجلس فإنهم يتمون صلاتهم قياماً كما شرعوا فيها قياماً.
إذن المسألة السابقة: حيث كان الإمام مبتدئاً جالساً فكبَّر بهم تكبيرة الإحرام جالساً. أما إن شرع بهم قائماً ثم جلس فإنهم يتمون الصلاة قياماً.
واستدلوا: بحديث أبي بكر المتقدم فإن فيه أن أبا بكر صلى بالناس قائماً فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلس عن يسار أبي بكر فكان المأمومون مع إمامهم الأول قد شرعوا في الصلاة قائمين ثم اعتلَّ الإمام حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم وبه علته المقتضية للجلوس، فأتموا صلاتهم قائمين.
1- هذا المشهور في المذهب من الجمع بين حديث أبي بكر وحديث: (إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين)
فالجمع: أن يقال: إن صلى جالساً من أول صلاته فإنهم يصلون خلفه جلوساً أجمعين.
أما إن اعتل أثناء الصلاة فجلس، أتموا صلاتهم قائمين لحديث أبي بكر، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث وهو اختيار ابن المنذر وابن خزيمة.
2- وقال جمهور العلماء: يصلون خلفه قياماً مطلقاً سواء ابتدأ الصلاة جالساً أو اعتلَّ أثناءها، لحديث أبي بكر.
قالوا: وحديث أبي بكر في مرضه فهو حديث ناسخ للأحاديث المتقدمة فهو الحديث المتأخر.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لأن الجمع أولى من النسخ.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (وتصح خلف من به سلس البول بمثله)(7/125)
فتصح الصلاة خلف من به سلس بول وهكذا كل من به حدث متجدد كأن تصلي المستحاضة بغير المستحاضة، وهكذا في كل من ثبت به الحدث المتجدد، فتصح الصلاة خلف من به سلسل البول بمثله.
ومفهومه أنها لا تصح إن كان يصلي بمن ليس فيه سلس بول.
- هذا هو المشهور في المذهب، وأن إمامة من به سلس بول لا تصح إلا أن يؤم مثله.
ودليله ما تقدم: لكونه عاجز عن شرط، وقد تقدم العجز عن الركن وهنا عجز عن الشرط وهو الطهارة.
- وقال بعض الحنابلة: تصح؛ لأنه وإن كان عاجزاً عن الطهارة فهو عجز بعذر به وصلاته صحيحة ولا ينقص ذلك من صلاته شيئاً، فلا وجه – حينئذ- لإبطال صلاته. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، فإنه قد صلى صلاة صحيحة وقد ترك شرطاً من شروطها معذوراً فيه لكونه عاجز عنه.
قال: (ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك)
فإذا علم الإمام أنه محدث أو متنجس فالصلاة باطلة أي صلاة المأمومين، أما الإمام فصلاته باطلة بالإجماع، لكن الخلاف في صلاة المأمومين خلفه:
فالمذهب أن صلاتهم باطلة لا تصح، فيما إذا صلى وهو محدث أو متنجس يعلم ذلك فصلاته باطلة إجماعاً، وصلاة المأمومين كذلك باطلة أيضاً.
وظاهره سواء علم المأموم طهارته أو نجاسته أو لم يعلم ذلك فالحكم إنما هو بعلم الإمام، هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى القول بأن الصلاة صحيحة، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
قالوا: المأموم ليس منه تفريط ولا خطأ بل قد عمل ما يجب عليه من الاقتداء، وكون الإمام يكون محدثاً أو غير ذلك هذا تفريط من الإمام وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)(7/126)
وهذا هو القول الراجح، لأن هذا المأموم صلى خلفه صلاة صحيحة واقتدى به والخطأ إنما هو من جهة الإمام والتفريط إنما هو من جهته ولا ينسب إلى المأموم تفريط ولا خطأ فكانت صلاته صحيحة.
وعلى القول الراجح – وهو قول الشافعية -: إذا علم أثناء الصلاة بحدث إمامه أو نجاسة ثوبه أو بدنه فيجب عليه أن ينفرد بالصلاة فيصلي خلفه منفرداً أو بجماعة، فإن ائتم به ولو لحظة عالماً بطلت صلاته؛ لأنه عقد صلاته بمن لا تصح إمامته فكانت الصلاة باطلة.
قال: (فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده)
فإن جهل الإمام فالضمير الظاهر " هو " يعود على الإمام، فإن جهل الإمام والمأموم حتى انقضت صحت للمأموم وحده.
أما كون صلاة الإمام تبطل فللإجماع المتقدم، وأن من صلى محدثاً بطلت صلاته وإن كان جاهلاً أو ناسياً. وأما من صلى بنجاسة فقد تقدم ترجيح أن من صلى بنجاسة جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
فهنا: إذا جهل الإمام بالحدث أو النجس على المذهب، وجهل المأموم بالحدث أو النجس – على المذهب – حتى انقضت الصلاة، صحت للمأموم وحده لأنه معذور بالجهل، هذا على خلاف القياس عند الحنابلة.
لذا ذهب طائفة منهم إلى أن الصلاة تبطل أيضاً ولو كان الإمام جاهلاً، وهو القياس عندهم وإنما خالفوه هنا لثبوت الأثر عندهم عن عمر وعثمان وعلي كما روى ذلك الأثرم وابن المنذر.
إذن: المشهور من المذهب – لآثار ذكروها عن عمر وعثمان وعلي عند الأثرم وليس كتابه بين أيدينا فننظر في سنده، وذكره ابن المنذر، تركوا القياس لذلك وإلا فالقياس - أن الصلاة باطلة، وهو رواية عن الإمام أحمد أي البطلان.
وقوله: " حتى انقضت " يدل على أنهم لو علموا أثناء الصلاة لبطلت.(7/127)
بمعنى: صلى الإمام جاهل بالحدث والمأموم كذلك جاهل بحدث الإمام فعلموا جميعاً أو علم أحدهم أثناء الصلاة بطلت ووجب على من علم الاستئناف، فهذا أي قوله " حتى انقضت " قيد مقيد، فهو يدل على أن الإمام أو المأموم لو ثبت من أحدهما أو جميعاً العلم بالحدث أثناء الصلاة وجب استئناف الصلاة، أي تبطل الصلاة من الجميع، هذا هو المشهور في المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنها لا تبطل بل يبني المأموم، فإذا قطع الإمام صلاته أثناء الصلاة فتذكر حدثاً فقطعها، فإن المأموم يتم صلاته سواء أتموها جماعة أو فراداً، هذا هو الراجح؛ لأن صلاة المأمومين قد ثبتت صحتها وانقطع الإمام عن الصلاة لعذر فكان لهم أن يتموها منفردين أو جماعة ولا دليل على بطلان هذه الصلاة والمأموم لم يحدث منه خطأ ولا تفريط.
وهي أولى من المسألة السابقة إذا تمت صلاتهم أو لا فرق بينهما، فكما أنهم لو أتموا الصلاة صحت فكذلك إذا علم الحدث أثناءها.
أما على القول المرجح وهو مذهب الشافعية: فإن هذه المسائل كلها ظاهرة الرجحان، فسواء كان التذكر أثناء الصلاة أو بعدها فعلى مذهب الشافعية الذي تقدم ترجيحه أن صلاة المأموم صحيحة، بل لو كان الإمام يعلم ذلك حتى أتم الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، وهذا أولى من جهل الإمام.
* القاعدة – على الراجح –: أن الإمام إذا صلى جاهلاً أو ناسياً أو عالماً متعمداً فصلاة المأمومين صحيحة مطلقاً إلا أن يثبت العلم فتبطل صلاة من علم؛ لأن علمه يزيل عذره فيكون – حينئذ – مخطئاً مفرطاً.
ومذهب الحنابلة: أنه إذا علم أحد المأمومين ثبت الحكم للجميع فبطلت. وهو ضعيف ظاهر الضعف.
لذا ذهب الموفق وهو مذهب القاضي إلى أن الحكم على من علم فحسب، فمن علم الحدث في الإمام فيجب عليه أن ينفرد عن إمامه.
قال: (ولا إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها ما لا يدغم أو يبدل حرفاً أو يَلْحَن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله)(7/128)
أي لا تصح إمامة الأمي.
والأمي هو من لا يحسن الفاتحة أي لا يحفظها.
أو " يدغم فيها ما لا يدغم " فحينئذ يذهب حرف من حروف الفاتحة.
أو " يبدل حرفاً بحرف " كالألْثَغ (1) وهو الذي يبدل حرفاً من الحروف الهجائية بحرف آخر كالراء غيناً أو نحو ذلك.
أو " يلحن فيها لحناً يحيل المعنى " كأن يقول " إياكِ " أو " أنعمتَ (2) " أو " أهدنا " من الهدية.
" إلا بمثله " فتصح إمامته.
فتقرير المذهب: أن الأمي لا يصح أن يؤم غيره إلا من كان مثله.
وقوله " إلا بمثله " مطلق وظاهره وإن كان للمأموم الذي لا يحسن الفاتحة إمام آخر يمكنه أن يأتم به وهو قارئ.
هذا ظاهر إطلاقه.
وذهب بعض الحنابلة: أن ذلك لا يجوز، بل إنما يجوز ذلك للضرورة أي عند عدم الإمام القارئ. وهذا القول الراجح.
هذا ما اتفق أهل العلم من عدم صحة إمامته إلا بمثله.
- وذهب بعض أهل العلم إلى أن إمامة الأمي صحيحة مطلقاً، وهو رواية عن الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك وقول قديم للإمام الشافعي واختاره طائفة من أصحابه كالمزني وأبي ثور وابن المنذر.
وذلك لأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة وهو الفاتحة فكان كالعاجز عن القيام، ومحل هذا حيث كان عاجزاً كما ذكروا كالألثغ، أما إذا كان يمكنه التعلم ويقدر على إصلاح الفاتحة فإنه لا يجوز الائتمام به ولا تصح إمامته.
وهذا قياس قوي ظاهر.
ومع ذلك فالأحوط مذهب الجمهور، وقلت: الأحوط، لأن الترجيح غير بيّن ظاهر في هذه المسألة فالتجاذب بين الدليلين قوي.
والفارق بين ما ذكروه من الأصل والفرع فارق يترتب الحكم عليه حيث قلنا: هو مؤثر أو غير مؤثر.
فالفارق: أن العاجز عن القيام والقعود ونحو ذلك عجزه عن القيام والقعود لا يؤثر في صلاة المأموم.
__________
(1) المعجم الوسيط: 2 / 815.
(2) لعلها: أنعمتُ(7/129)
بخلاف العاجز عن قراءة الفاتحة فإن الصلاة قرآن كما قال تعالى {وقرآن الفجر} ويرفع صوته ليسمع المأموم لاسيما على القول بأن الإمام يتحمل عن المأموم فاتحة الكتاب، فإن هذا يكون قولاً ظاهراً جداً.
أما على القول الراجح وهو أن الإمام لا يتحمل عن المأموم الفاتحة فيكون ذلك أضعف.
فهنا قراءة الإمام مؤثرة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فلتأثير القراءة في الإمامة قدم الأقرأ على غيره، حتى يقدم على من هو أفقه ومن هو أسن ومن هو أقدم هجرة وغيره، فالقراءة لها أثر في الصلاة ومع ذلك فكما تقدم القول بصحة إمامته قول قوي وهو رواية عن الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك، والقول القديم للشافعي وهو اختيار طائفة كابن المنذر وغيره، وهو قول قوي لكن الأحوط العمل بما ذهب إليه الجمهور.
قال: (وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته)
أي إن قدر على إصلاح هذا اللحن الذي يحيل المعنى أو قدر على أن يحسن الفاتحة فيحفظها لم تصح صلاة نفسه فضلاً عن أن تصح إمامته فصلاته باطلة، وهذا محل الخلاف في المسألة السابقة، فصحة إمامته وعدمها إنما هو حيث كان عاجزاً عن إحسان الفاتحة أو إزالة الخطأ الواقع منه فيها.
أما إذا كان قادراً على ذلك فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا قادراً عليه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال: (وتكره إمامة اللحَّان)
أي لحناً لا يحيل المعنى، أي المكثر من اللحن في الفاتحة وغيرها فإمامته مكروهة، والمراد بذلك اللحن غير المحيل للمعنى.
ويمكن أن يدخل فيه اللحن المحيل للمعنى في غير الفاتحة لأنه لا يبطل الصلاة.
قال: (والفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف)
" الفأفاء " الذي يكرر الفاء عجزاً.
" والتمتام " الذي يكرر التاء عجزاً.
" ومن لا يفصح ببعض الحروف " كالذي لا يفصح بالقاف أو الضاد.(7/130)
وهنا في مسألة " الضاد والظاء " كما في الفاتحة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين ".
ففي الفاتحة الضاد " ض " فإذا قرأها ظاءً فهل تصح الفاتحة أم لا؟
ظاهر قوله " أو يبدل حرفاً بحرف " أنها لا تصح، لأنه إذا قال " ولا الظالين " فإنه قرأ بالظاء التي هي أخت الطاء.
هذا هو ظاهر قوله، وهو قول لبعض الحنابلة.
والمشهور عندهم: أن الصلاة تصح؛ وذلك لقرب المخرج فيهما، فيتجوز عنهما.
وقد قال ابن كثير: " والصحيح عند أهل العلم أن الصلاة تصح لقرب مخرجهما " فكان ذلك سبباً في التساهل والتجاوز وهذا هو القول الظاهر الذي لا يسع الناس إلا القول به وهذا هو المشهور في المذهب.
إذن: إبدال الحرفين أحدهما بالآخر يتساهل فيه لقرب مخرجهما.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن)
أي ويكره أن يؤم أجنبيةً لا رجل معها سواء كانت أجنبية واحدة أو أكثر من ذلك.
لما ثبت في الصحيحين من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخلو رجل بامرأة وليس ثمَّ ذو محرم، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)
قالوا: فهذا الحديث يدل على الكراهية.
والصحيح في هذه المسألة أن المسألة دائرة بين التحريم والكراهية والإباحة:
وأما التحريم: فهو إذا كانت الخلوة محرمة، فإن الإمامة محرمة مع الخلوة، وذلك للحديث المتقدم فإن ظاهره التحريم، والإمامة – حينئذٍ – من الخلوة، فكانت محرمة. وهذا إذا كان في امرأة أو امرأتين فإن مثل هذه الخلوة - حيث كانت مظنة الفتنة والشر فإنها - محرمة.
وأما الكراهية: فهو إن لم يكن كذلك بأن كان داعي الفتنة موجود لكنه أضعف فإنها تكون مكروهة.
وأما الإباحة فهي مما سوى ذلك.(7/131)
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤم النساء ومنهن من يأتي وليس لها محرم ولم يشترط في حضورهن للمساجد المحرم، فدل على الجواز مع أمن الفتنة، ولا كراهية في الإمامة حينئذٍ.
وقوله: " لا رجل معهن " ظاهره مطلق رجل، وهو ضعيف، بل المؤثر في هذه المسألة أن يكون هناك محرم أو رجال تزول بعددهم مظنة الفتنة فحينئذٍ لا كراهية ولا تحريم.
فإذا كان هناك محرم فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأم سليم في بيتها ومعه أنس - رضي الله عنه - كما في الصحيحين.
قال: (أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق)
أي: أو أمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحق.
أما إذا كان يكرهه بغير حق فإن هذا لا يؤثر.
مثال كراهيته بحق: أن يكرهه لضعف في دينه أو لضعف في إقامة الفريضة أو نحو ذلك مما يورث كراهيته وهو حق.
ومثل ذلك: إذا كرهه لدنيا كأن يكون بينهما شحناء لدنيا، أو شحناء من جنس الشحناء التي تقع بين أهل المذاهب والأهواء فإن الإمامة – حينئذٍ – تكره لأن المقصود من الإمامة الاجتماع والائتلاف وهذا ينافي ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي بإسناد حسن: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون) .
وإنما يستثنى من ذلك أن تكون الكراهية بغير حق كأن يكره لدينه أو فعله السنة فإن الإمامة لا تكره.
لكن استحب القاضي من الحنابلة: استحب له ألا يؤمهم صيانة لنفسه وإلا فإنها لا تكره.
وذلك لأن هذا أقام بما يشرع أو يفرض عليه، ومنعه أو كراهية إمامته يؤدي إلى مفاسد كثيرة من ترك السنة وهجرها وإماتتها، ولا يشاء لفاسق أو نحوه أن يحكم بمنع إمامة أحد من أهل الصلاح إلا فعل.
قال: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما](7/132)
فتصح إمامة ولد الزنا ولا تكره، والأولى أن يقال: " ولا تكره "، خلافاً للجمهور الذين قالوا: بكراهيتها؛ قياساً على العبد؛ لأن الإمامة فضيلة، فيمنع منها. لكن هذا ضعيف.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو من مفرداتهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا عام، وقال تعالى: {ولا تزور وازرة وزر أخرى} ، وقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
ثم إنه لا يقاس على العبد؛ لوجود فوارق بينهما، فهو حر له حريته من بيع وشراء وليس ثمة تمليك عليه.
ثم إن العبد لا تكره إمامته على الصحيح، لكن الأولى أن يكون حراً.
فولد الزنا متى سلم دينه وكان تقياً، فقد قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا يلحقه من معرة والديه شيء، فقد قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} .
" والجندي إذا سلم دينهما ": الجندي هو العسكري، وليس المقصود نوعاً من الجنود، بل عامة من يعمل عند السلطة، من أعوان السلطان والقائمون بشؤون السلطة من شتى أنواع العسكر، فتصح إمامته ولا تكره إذا سلم دينه.
لأن ذلك مظنة الظلم، فإن أعوان السلطان مظنة الظلم، فكان الشرط هذا معتبراً وهو أن يكون سالم الدين ومع ذلك فقد قال الإمام أحمد: " أحب إلى أن يصلي خلف غيره " وذلك لأنه مظنة الظلم.
ونحن في هذا العصر أعمال العسكر ليست بمرتبة واحدة فأشبهت أعمالاً كثيرة كان يقوم بها في الزمن وغيره.
لكن إن كان الجندي من أعوان الظلمة فيمنع من إمامته لأنه ظالم إن أقام بالظلم، وأما إن كان عمله لا ظلم فيه فإنه لا يمنع من إمامته لذا قال: " إذا سلم دينه " لأنه عدل ولا دليل على منعه من الإمامة.
قال: (ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه)(7/133)
كأن تصلي الظهر وراء من يصلي الظهر لكن الإمام بنية الأداء وأنت بنية القضاء، أو هو بنية القضاء وأنت بنية الأداء فصلاة الظهر واحدة لكن الفارق بينهما أن أحدهما بنية الأداء والآخر بنية القضاء فهنا قال: يصح الاقتداء والائتمام؛ لأن الفرض واحد، فليس ثمت اختلاف على الإمام ولا يؤثر في ذلك نية الأداء والقضاء، لأن نية الأداء والقضاء لا تؤثر مع اتفاق الفرض.
قال: (لا مفترض بمتنفل)
إذا صلى من نوى الفريضة بمن يتنفل، فالإمام بنية النفل والمأموم بنية الفرض، فلا يصح اقتداء المفترض بالمتنفل.
وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: وكونه ينوي الفرض والإمام النفل هذا اختلاف على الإمام بالنية.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختيار طائفة من أصحاب أحمد كالموفق ابن قدامة وهو اختبار ابن تيمية: أن ائتمام المفترض بالمتنفل صحيح.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيح من حديث معاذ: (أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيؤم قومه – في مسجد بني سلمة) ، وفي البيهقي والدارقطني ومصنف عبد الرزاق والطحاوي بإسناد صحيح قال: (هي له تطوع ولهم فريضة)
وثبت في أبي داود من حديث أبي بكرة في صلاة الخوف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين) فهنا صلى الصلاة مرتين الأولى فريضة، والثانية له نافلة، والثانية كانت بمفترضين.
قالوا: أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) فإن المراد منه الاختلاف الظاهر بدليل سياق الحديث أي ليس له أن يركع قبل ركوعه أو يسجد قبل سجوده أو أن يكون قائماً والإمام جالس وهكذا فهذا هو الاختلاف الظاهر المنهي عنه.(7/134)
قالوا: ويدل عليه اتفاقنا نحن وأنتم على صحة ائتمام المتنفل بالمفترض وهي عكس المسألة السابقة، لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) وهذا اختلاف عليه في النية ومع ذلك صحت الصلاة. وهذا هو القول الراجح.
قال: (ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما)
تقدم أن من صلى الظهر وراء من صلى الظهر ولكن هذا بنية الأداء والآخر بنية القضاء فالصلاة صحيحة.
أما هنا فقد اختلفت الصلاة فهذا يصلي الظهر وهذا يصلي العصر فما الحكم؟
قال: " ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما " من الصلوات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) وهذا اختلاف عليه فإنه يصلي ظهراً والمأموم يصلي عصراً.
والجواب عليه كما تقدم.
- وذهب إلى صحة ذلك الشافعية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: وأن المفترض بنية صلاة تخالف صلاة الإمام أنه لا بأس بذلك.
ويدل عليه حديث معاذ فإذا صحت من المفترض خلف المتنفل ومن المتنفل خلف المفترض، فإن هذا يدل على أن النية جائز أن تخالف نية الإمام وأن ذلك لا يؤثر في الصلاة وإنما المنهي عنه الخلاف الظاهر.
وعليه: فإذا كانت صلاة الإمام ثنائية، وصلاته رباعية، فإذا سلم الإمام قام فأتم لنفسه كما يقتدي المقيم بالمسافر فإذا سلم قام فأتم صلاته.
والعكس كذلك: فإذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم، فكان الإمام يصلي العشاء والمأموم يصلي المغرب فإنه إذا قام الإمام للرابعة جلس ثم سلم.
الراجح في هذه المسألة كلها ما ذهب إليه الشافعية من الائتمام مع اختلاف النية واتفاق الفعل الظاهر جائز، وقد ثبت له في السنة نظائر كثيرة تقدم ذكر بعضها، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقف المأمومون خلف الإمام)(7/135)
اتفاقاً وقد تواترت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
قال: (ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه)
فيصح أن يكون المأمومون عن يمين الإمام أو عن يمينه ويساره اتفاقاً.
لما ثبت في مسلم عن ابن مسعود: (أنه صلى هو والأسود بن يزيد وعلقمة – وهما صاحباه – فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره) فهذا يدل على جواز ذلك، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول. لذا اتفق أهل العلم على استحباب أن يقوموا وراءه.
قال: (لا قدامه)
فلا يصح أن يصلي قدام الإمام.
والاعتبار بمؤخرة القدم لا بمقدمتها كما تقدم في الكلام على إقامة الصفوف. فإذا صلى قدامه فإن الصلاة تبطل، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
قالوا: لأن هذا فعل غير مشروع في الائتمام، وما لم يكن مشروعاً مما يتصل بالديانة فهو مردود، فعليه: العبادة لا تصح لأنه وقف منها وقوفاً غير مشروع في باب الائتمام فبطلت صلاته كما لو وقف خلفه فإنها تبطل،وسيأتي تقريره.
فكما أن الوقوف خلف الإمام منفرداً غير مشروع تبطل به الصلاة، فكذلك قدامه بل أولى، لأن من وقف خلف الإمام أمكنه أن يأتمَّ به وهو في معنى الائتمام به ومع ذلك تبطل الصلاة مع تفرده وكونه فذاً فأولى من ذلك تقدمه.
قال: (ولا عن يساره فقط)
أي ولا يصح أن يصلي عن يساره فقط فتبطل.
قالوا: لأنه وقف وقوفاً في الصلاة غير مشروع فبطلت به الصلاة.
هذا مذهب الحنابلة.
وذهب الجمهور وهو اختيار الموفق وصوبه في الإنصاف واستظهره في الفروع: أن الصلاة لا تبطل بل هي صحيحة.(7/136)
قالوا: لأن الائتمام يمكن والحالة هذه ولا يناقض الائتمام أن يساويه بل إنما يناقضه أن يتقدم عليه، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس – كما في الصحيحين – من يساره إلى يمينه هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، وهذا القول قول قوي؛ لأن الأصل صحة الصلاة، وقوفه عن يسار الإمام نعم هو يخالف السنة لكن إبطال الصلاة به لم يظهر الدليل الدال عليه.
ومما استدلوا به أيضاً: أن ابن عباس لما وقف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا جابر جبار لم يبطل الصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأمرهم بإعادتها مع أنه أمر المسيء صلاته لما أساءها جهلاً أمره أن يعيدها.
إلا أن الحنابلة تجاوزوا عن الوقوف الذي لا تتم به الركعة كما سيأتي الكلام عليه عند الصلاة فذاً خلف الصفوف.
ومع ذلك فالراجح مذهب الجمهور من أن الصلاة تصح إن وقف عن يسار إمامه لكنه تارك للسنة، لكن هذا الترك لا يناقض الائتمام، فإن من الائتمام ما يكون فيه المأموم محاذياً للإمام – وقد تقدم اتفاق أهل العلم على أنهم إن صلوا عن يمينه ويساره فالصلاة تصح – فثبت أن اليسار موقف للصلاة وإن لم يكن موقفاً هنا، لكنه ثبت كونه موقفاً، فمثل هذا يخفف في حكمه.
فالراجح: أنه إن وقف قدامه فالصلاة باطلة، لكن إن كان عن يساره فالصلاة لا تبطل.(7/137)
واستثنى شيخ الإسلام وهو قول في مذهب أحمد وهو قول إسحاق بن إبراهيم قالوا: إن فعل ذلك لعذر صحت الصلاة، كأن يكون المسجد ممتلأً بالمصلين بحيث أنه لا يمكن أن يصلوا كلهم خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فاحتاجوا إلى التقدم عن يمينه أو يساره شيئاً، فإن ذلك جائز لأن المصافة على الصورة المتقدمة واجبة، والواجبات تسقط عند العجز عنها، قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وفي الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فهذا اتقى الله ما استطاع وصلى كما أمر، عاجزاً عن واجب وهو التخلف عن الإمام في المصافة أو الوقوف عن يمينه أو عن يساره، فـ[إن] عجز [عن] ذلك [و] وقف قدامه فإن الصلاة تصح للعذر، والقاعدة: أن العجز عن الواجب يسقطه.
قال: (ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة)
أي ولا تصح صلاة الفذ خلف الإمام أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة.
فلا يصح للمصلي أن يصلي فذاً خلف الصف أو خلف الإمام، ومراده " خلفه " إن كان المأموم واحداً ومثل ذلك: لو كان وراء الإمام صف أو صفوف فوقف وراء الصف منفرداً فإن الصلاة تبطل. ودليل ذلك:
ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي بإسناد صحيح، والحديث صححه ابن حبان وهو كما قال، من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة)
وفي ابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)
ففي الحديث الأول أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد صلاته، وفي الحديث الثاني أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه لا صلاة صحيحة لمنفرد خلف الصف.(7/138)
وقال جمهور العلماء: تصح الصلاة؛ لما ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة – وسيأتي سياقه – أنه ركع دون الصف فدخل في الصف، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة فقال: (زادك الله حرصاً ولا تعد)
ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاته وقد صلى مِنْ صلاته خلف الصف، لكن هذا الاستدلال يخالف الأدلة الصريحة التي تقدم ذكرها.
ولحديث أبي بكرة استثنى الحنابلة: من صلى خلف الصف وحده دون الركعة أي لم يرفع من الركوع وهو منفرداً خلف الصف.
وفيما من ذكروه فيما يظهر نظر وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة خلف الصف، وأمر من صلى خلف الصف أن يعيد، وفرق بين من وقف في الصف فكبر، وبين من كبر دون الصف وهو يعلم أن له موضعاً فيه فتقدم إليه، فهذا فاعل لما لا يتم الواجب إلا به فهو يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف، وأما الآخر فإنه قائم وليس بمتقدم إلى الصف ففرق بين المسألتين.
والذي يظهر لي أنه متى صلى خلف الصف بطلت صلاته لعموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وإذا كبر وقام وركع فإن هذا من الصلاة فتكون الصلاة باطلة.
إلا أنّ ما يقع ولابد من وقوعه، معفو عنه حيث أن تكبيرة الإحرام تقع ولابد من بعض المأمومين متقدمة على بعضهم فمثل هذا لا يؤثر اتفاقاً.
بخلاف ما إذا قام في [خلف] الصف فإنه يظن بقاء نفسه في هذا الموقع وهو غير متأكد من إتيان أحد من الناس إليه.
نعم إذا ثبت له إقبال أحد من المصلين فهذا يكون بمنزلة من ركع ودب حتى دخل في الصف، أما حيث لم يظن ذلك فالأظهر هو بطلان صلاته والله أعلم.
وظاهر قول الحنابلة: أن الصلاة تبطل مطلقاً سواء كان معذوراً أو غير معذور.
فلو أن رجلاً دخل المسجد فنظر فلم يجد فرجة في الصف يمكنه أن يقف فيها فصلى خلف الصف وحده فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ لأنه قد صلى خلف الصف فيدخل في عموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .(7/139)
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه إن كان معذوراً في ذلك بحيث أنه نظر فلم يجد فرجة بين الصفوف، ولم يمكنه أن يرص المصلين فيجد فرجة فإنه يصلي خلف الصف وصلاته صحيحة.
وهو القول الراجح؛ للقاعدة السابقة المأخوذة من قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهي: أن الواجبات تسقط عند العجز عنها.
" إلا أن يكون امرأة " فإن المرأة موقفها أن تكون خلف الصفوف باتفاق أهل العلم كما ثبت ذلك في حديث أنس في الصحيحين قال: (فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا) فالمرأة تصف خلف الصف.
لكن قوله " إلا أن يكون امرأة " يوهم مسألة تخالف المذهب:
فيما إذا صلت المرأة خلف صفوف النساء منفردة وكان يمكنها أن تصلي معهن، فالمذهب قالوا: كذلك يبطل صلاتها قياساً على الرجل والنساء شقائق الرجال.
فمراد المؤلف هنا: المرأة تكون خلف الإمام أو تكون خلف صفوف الرجال، أما إذا كانت منفردة خلف صف النساء فإن الصلاة تبطل إن كانت غير معذورة قياساً على الرجل.
قال: (وإمامة النساء تقف في صفهن)
لما ثبت عن أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن) رواه البيهقي. ونحوه عن أم سلمة أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن.
قالوا: ندباً واستحباباً، فإن وقفت أمامهن كما يقف الرجال فالصلاة صحيحة، وذلك لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجل يصلي أمام المصلين فالمرأة كذلك.
وتلك الآثار تدل على أن هذا هو المستحب للنساء، أما إن صلت المرأة إمامة متقدمة فإن الصلاة تصح لأن النساء شقائق الرجال.
قال: (ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم)
فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء.
" كجنائزهم ": فكذلك الجنائز في القبر وعند صلاة الإمام يقدم الرجال ثم الصبيان ثم النساء، فعند الصلاة يوضع الرجال مما يلي الإمام ثم الصبيان ثم النساء.(7/140)
وفي القبر: فعندما يُراد دفنهم في قبر واحد فيوضع الرجل في اللحد ثم يوجه إلى القبلة، وبعده الصبي ثم المرأة، وسيأتي الكلام على هذا في صلاة الجنازة.
أما هنا: فذكر المؤلف أنه يستحب أن يلي الإمام: الرجال ثم الصبيان ثم النساء، وهذا باتفاق العلماء، لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
وروى الترمذي بإسناد فيه شهر بن حوشب وهو مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب أن أبا مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: (لأحدثنكم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقام الصلاة ثم صف الرجال ثم صفَّ الغلمان ثم صلى بهم) هذا باتفاق العلماء ودليله حديث مسلم.
وأقربهم إلى الإمام أكملهم وأفضلهم.
* فإن تقدم إلى موضعه المفضول فهل للفاضل أن يؤخره عن موضعه أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الشافعية قالوا: ليس له أن يؤخره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما في مسلم – نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وقال الإمام أحمد: أنه يجوز له ذلك، لأنه في مكان ليس له، بخلاف من جلس في مجلس فلا يجوز أن يقام منه. واستدل بحديث: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد جيد: من حديث قيس بن عبَّاد أنه صلى مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى أبيّ بن كعب فنحاه وقام محله فلما انصرف من صلاته قال: يا بني لا يسوؤك الله فإني لم آتك الذي لم آتيتك بجهل وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كونوا في الصف الذي يليني) فهذا يدل على جواز ذلك؛ لأنه هو الأحق به.(7/141)
قال الإمام أحمد: " يليه الشيوخ وأهل القرآن ثم الذين يلونهم "، فعلى ذلك: يصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء،، وليس المراد أن يصف الصبيان في صف بمفردهم وإن كان في الصف المقدم الذي فيه الرجال مواضع يمكن للصبيان أن يصفوا فيها، بل المراد أنه إذا تمت صفوفهم صلى الصبيان خلفهم.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو من علم حدثه أحدُهما أو صبي في فرض ففذّ)
أي من لم يقف معه في مكانه الذي صف فيه خلف الإمام إلا امرأة أو كافر أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض فهذه أربع مسائل فيمن تكون صلاته صلاة فذ:
الأولى: إذا كان مصافاً لكافر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن الكافر لا تصح صلاته فلم تصح مصافته فيكون فذا فتبطل صلاته إلا من عذر.
الثانية: مصافة المرأة فيكون فذاً – حينئذٍ –، وهو مذهب الحنابلة خلافاً لجمهور العلماء.
قالوا: لأن هذا الموضع الذي تقف فيه المرأة مع الرجل في الصف غير معتد به فكان كعدمه، وهو قول ظاهر.
الثالثة: إذا علم حدثه أحدهما: أي إذا علم أحد المتصافين حدث الآخر أو علم المحدث حدث نفسه وإن جهل ذلك المصاف فيكون فذا.
وهذه شبهة بمسألة سابقة، فيقال هنا كما قيل هناك من التفصيل، والتفصيل أن يقال: إنْ علم المصلي حدث من صافه فإنه كالفذ، وأما إن لم يعلم فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه غير مفرط وإن كان الآخر قد علم حدث نفسه، فكون الشخص يعلم حدث نفسه لا يؤثر في غيره، لكن المؤثر أن يكون الآخر قد علم بالحدث، فحينئذٍ تكون صلاته كصلاة الفذ.
الرابعة: " أو صبي في فرض " فمصافة الصبي في الفريضة تصير المصاف له كالمصلي خلف الصف فذاً.
قالوا: لأن صلاته نفل، وهذا يصلي مفترض فلم يجز أن يصاف المفترض المتنفل.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو القول الراجح: إن مصافة الصبي صحيحة كإمامته.(7/142)
وهذه المسألة تبنى على الإمامة، فحيث قلنا إن إمامة الصبي في الفرض صحيحة، قلنا بصحة مصافته، وإن قلنا أنها باطلة قلنا ببطلان مصافته. وقد تقدم ترجيح صحة إمامته في الفريضة فكذلك صحة مصافته في الفريضة.
ويدل على صحتها: حديث أنس المتقدم وإن كان في النافلة لكن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً: في قوله في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم قال: (قمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
ولأن إمامته صحيحة فأولى من ذلك أن تصح مصافته ولما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا رجل يتجر على هذا فيصلي معه) فإنه يصلي معه ويصافه – أي المتجر – وهو متنفل، وأما الآخر فهو مفترض، فصاف المتنفل المفترض ولم يؤثر ذلك في مصافته شيئاً.
فعلى ذلك: الراجح أن الصبي تصح مصافته كما هو قول لبعض الحنابلة.
قال: (ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام)
إذا أتى من يريد الصلاة فوجد فرجة في الصف فإنه يدخلها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وصل صفاً وصله الله) وقوله: (ولا تذروا فرجات للشيطان) وقد تقدم تخريجها.
" وإلا عن يمين الإمام " فإن لم يجد فرجة في الصف فإنه يقف عن يمين الإمام.
- هذا هو المذهب.
لأنه موقف للمنفرد مع الإمام، وتصح أيضاً باتفاق العلماء في الجماعة أن يصلي بعضهم عن يمين الإمام وبعضهم عن يساره فثبت موقفاً أصلاً فجاز أن يقف هنا عن يمينه.
- وقال بعض الحنابلة: بل يصلي فذاً، وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا القول هو الراجح.
وإن كان القول بجواز وقوفه عن يمين الإمام جائزاً لأنه موقف في الصلاة، ولأن أبا بكر صلى عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس أن يصلي عن يمينه إلا أن الأولى أن يصلي وراء الصف فذاً كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار طائفة من الحنابلة.
قال: (فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه)(7/143)
فإذا لم يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من يقوم معه بنحنحة أو تسبيح أو نحو ذلك من غير جر، بل ينبه لغيره – هذا هو المشهور في المذهب.
- وذهب بعض الحنابلة وهو الراجح: أنه يصلي فذاً من غير أن ينبه لأن في تنبيهه شيء من التشويش على المنبَّه، وفيه ترك فرجة في الصف قد لا يوصل فكان الأولى أن يترك المصلي في موضعه ويصلي خلف الصف معذوراً وتصح صلاته.
وهل له أن يجرَّ أم لا؟
قال جمهور العلماء: ليس له أن يجرَّه، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو المشهور في المذهب وأن ذلك مكروه.
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق: أن ذلك لا يكره، لحديث الطبراني من حديث وابصة بن معبد وفيه: (ألا دخلت معهم أو اجتررت أحداً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه راو متروك.
وقال ابن عقيل من الحنابلة بتحريم ذلك، وهو قوي لما يترتب على ذلك من تشويش على المأموم، ومن نقل له من محل فاضل إلى مفضول، ومن حركة في الصلاة بلا حاجة، ومِنْ تَرْك فرجة في الصف قد أمر الشارع بسدها، فكان هذا القول فيه قوة، وإن كان المقطوع به هو الكراهية، لكن القول بالتحريم قول قوي.
قال: (فإن صلى فذاً ركعة لم تصح)
تقدم الكلام على هذا، في أن من صلى خلف الصف فذاً ركعة لم تصح صلاته.
وظاهر قوله: " ركعة " ركوعها وقيامها وسجدتيها. فإذا صلى معه أحد قبل أن يتم الركعة أو دخل هو في الصف صحت صلاته– هذا ظاهر كلامه.
قال: (وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت)
" وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف " بمعنى: رأى الناس راكعين، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم دب راكعاً فدخل في الصف، فهل تصح صلاته أم لا؟(7/144)
1- قال جمهور العلماء: تصح صلاته ويجزئه ذلك، واستدلوا بحديث أبي بكرة في البخاري: أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (زادك الله حرصاً ولا تعد)
وفي أبي داود من حديثه: (فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف)
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة)
ورواه البيهقي عن أبي بكر بإسناد ضعيف.
ورواه عن زيد بن ثابت وابن مسعود وهما من كبار فقهاء الصحابة بإسنادين صحيحين. وهو قول جمهور العلماء.
2- وعن الإمام أحمد: أن الصلاة تبطل للعالم، أما إن كان جاهلاً فصلاته تصح لقوله: (زادك الله حرصاً ولا تعد) لكن هذا معارض لما دلت عليه قواعد الشريعة من أن الجاهل يكون معذوراً بالفعل عن الإثم، لكن يؤمر بالإعادة كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسيء صلاته بأن يعيد الصلاة ولحديث عبد الله بن الزبير: (فإن ذلك السنة)
إنما نفسر قوله: " زادك الله حرصاً ولا تعد " بالنهي عن الإسراع، ومن ذلك الركوع دون الصف، فإنه إسراع وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فهذا الفعل مكروه، لكنه ليس بمبطل للصلاة ولا محرم هذا القول الراجح – وهو المشهور في المذهب.
" أو وقف معه آخر " بأن يكون دخل معه آخر وهو يدب إلى الصف فوقف قبل سجود الإمام.
وظاهره أنه لو سجد الإمام السجدة الأولى وهو لم يدخل في الصف أنه لا يدرك بذلك الركعة، ويكون كذلك قد صلى خلف الصف فذاً فبطلت صلاته.
وقال في المغني وهو أظهر: قبل تمام الركعة.(7/145)
وهو أظهر، فلا يقال قبل سجود الإمام وإنما يقال – على الأظهر – " قبل تمام الركعة " لما تقدم – وقد تقدم قوله – " فإن صلى ركعة فذاً ركعة لم تصح " فكذلك هنا قبل تمام الركعة.
وعليه: فإن دخل في الصف والإمام ساجد في السجود الثاني أجزأه ذلك.
وإن كان ظاهر الأحاديث كحديث ابن الزبير مطلق ذلك، وأنه بتكبيرة الإحرام والركوع يكون بذلك أدرك الصلاة، وإن لم يدرك الإمام إلا بعد تمام الركعة.
لكن جمهور العلماء قد اتفقوا على أنه إذا أدركه بعد تمام الركعة فإن الصلاة تبطل ويكون قد صلاها فذاً خلف الصف.
إذن: إذا دخل في الصف قبل تمام الركعة أو وقف معه أحد قبل تمام الركعة فإن الصلاة تصح منه، وإن أدركه بعد تمام الركعة فإنه يكون بحكم من صلى خلف الصف وحده، وقد تقدم بطلان صلاته كما هو مذهب الحنابلة، والله أعلم.
استدراك:
هنا قيد لم يذكره المؤلف – وهو معتبر عند الحنابلة – وهو أن يكون ذلك بقيد خشية فوات الركعة.
فإن ركع قبل الصف وكان قد خشي الركعة أجزأه، وإن لم يخش فوات الركعة لم يجزئه.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجزئه ذلك مطلقاً وإن لم يخش فوات الركعة، ما دام أنه يسعى إلى الدخول في الصف.
قالوا: لأن التفريق في مثل هذه المسألة بين خشية فوات الركعة وعدمه تفريقٌ غير مؤثر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)
فعليه يجوز مطلقاً مع الكراهية، أي سواء خشي فوات الركعة أم لا.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره ولا من ورائه إذا سمع التكبير، وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين)
هنا مسائل:
الأولى: في حكم صلاة المأموم مع إمامه في المسجد:
فهنا قال: " يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره " إذن يصح اقتدائه وإن لم ير الإمام ولا من وراء الإمام بشرطٍ وهوا أن يسمع التكبير.(7/146)
كأن يصلي بعض المأمومين في سطح المسجد أو ساحته أو منارته أو في حجرة منه ولم يروا الإمام ولا المأمومين فإن الصلاة تصح بشرط وهو مكان الاقتداء. فإذا أمكن الاقتداء صحت الصلاة بإجماع العلماء.
ومثل ذلك: صلاة النساء اللاتي يصلين في غرفة في المسجد مع إمكان الاقتداء بسماع تكبيرة الإمام وقراءته ولو لم يرين الإمام أو المأمومين.
وهل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟
قالوا: لا يشترط اتصال الصفوف، وهذا باتفاق أهل العلم حتى حكاه المجد بن تيمية إجماعاً ولم أر فيه خلافاً.
وهذا يقع في المساجد الكبيرة عندما يصلي بعض الناس متأخراً في مؤخرة المسجد صفاً، والناس يصلون وبينهم وبين هذا الصف مسافات كبيرة، فإن الصلاة تصح باتفاق أهل العلم.
ولكن هذا الفعل يكره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين بأن يتراصوا في الصفوف كما تراص الملائكة، وهذا خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ظاهر ذلك التحريم، لكن الصلاة [تصح] باتفاق أهل العلم مع ثبوتهم في المسجد، والمراد إن لم يقف فذاً – على الراجح -.
الثانية: عند قوله: " وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين "
أي الحكم كذلك إذا صلى المأموم خارج المسجد لكن بشرط أن يرى الإمام أو المأمومين.
فلو صلى رجل في بيت بجوار المسجد مرتفع على المسجد يرى الإمام أو يرى المأمومين كما يقع هذا في المسجد الحرام فإن الصلاة تصح لما ذكر المؤلف هنا – هذا هو المشهور في المذهب.
- وقال بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية: لا تشترط الرؤية أيضاً بل الشرط هو إمكان الاقتداء، فإذا كان يسمع التكبير صحت ولو لم يره – وهذا القول أصح من هذا القيد المتقدم – إلا أن في المسألة من أصلها نظراً كما سيأتي.
والراجح الثاني: لأن المقصود من الرؤية الاقتداء، وسماع التكبير يحصل به المقصود من الاقتداء فلم تشترط الرؤية.(7/147)
* لكن النظر هو هل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟
1- قال الحنابلة في المشهور عندهم: لا يشترط ذلك كما هو ظاهر قول المؤلف هنا.
وعليه فلو صلى في بيته وسمع القراءة والتكبير فله الاقتداء في مذهب المالكية ومن تقدم ذكره، وفي مذهب الحنابلة إذا كان يرى الإمام وبعض المأمومين.
2- وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: يشترط اتصال الصفوف وهذا هو الراجح، وذلك لأن الإمام والمأموم إذا كانا في المسجد فهما في موضع الجماعة، فتجاوزنا عن اشتراط الاتصال لكونهما في محل الجماعة.
أما والحالة هذه - فبعض المأمومين خارج المسجد -، فاشترط الاتصال ليكون حكم الخارج عن المسجد حكم الداخل فيه لوجود الاتصال بينهما وللعذر، فهذا هو القول الراجح، ولولا الإجماع المتقدم المذكور في المسألة السابقة لقلنا باشتراط اتصال الصفوف في المسجد لأنه هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل عمل ليس على هديه فهو رد.
فعلى ذلك هنا مسألتان:
الأولى: إذا اقتدى المأموم بالإمام في المسجد فهنا لا تشترط الرؤية للإمام ولا لبعض المأمومين، وإنما الشرط هو إمكان الاقتداء، ولا يشترط أيضاً – بإجماع العلماء – اتصال الصفوف، لكنه يجب على الراجح كما تقدم.
الثانية: إذا كان المأموم خارج المسجد فالصحيح: أنه يشترط أن يتصل صفه بالصفوف التي في المسجد، وهو اختيار الموفق. ولا يشترط – حينئذٍ – لا الرؤية بل الشرط هو إمكان الاقتداء برؤية أو سماع أو غيره فلا فرق بين الرؤية ولا السماع.
مسألة:
إن كان بين المأمومين خارج المسجد وداخله – طريق أو نهر أو نحو ذلك – فهل يصح الاقتداء مع إمكانه " أي مع السماع أو الرؤية أم لا؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور في المذهب: أن الاقتداء لا يصح لثبوت هذا الفاصل بينهما، فهو كالجدار ونحوه لأنه ليس محلاً للصلاة، فكان كالحجاب الذي يمنع الرؤية.(7/148)
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق ابن قدامة وهو مذهب الجمهور: يصح الاقتداء لإمكانه، وكون هذا الفاصل بينهما – الذي هو ليس محلاً للصلاة – كونه موجوداً مع كونه لا يمنع الاقتداء، هذا لا يؤثر، فلا يمنع من الاقتداء، وكونه ليس محلاً للصلاة هذا لا يؤثر في الاقتداء.
فكون الموضع لا يصلى فيه لا يعني أنه لا يجوز أن يكون فاصلاً بين الإمام وبين المأمومين، فهذه مسألة الصلاة، وهذه مسألة الاقتداء. وهذا هو القول الراجح.
فلو فصل بين المأمومين بعضهم عن بعض نهر أو طريق – كأن يصلي الناس في محل بينهم وبين المسجد الجامع طريق، وهذا الطرق لا يمكن أن يشغل بالمصلين لكونه طريقاً لمرور الناس فلا تتم المصلحة إلا بتركه مفتوحاً، فلو قدر مثل هذا فالراجح صحة الاقتداء مع إمكانه.
استدراك:
تقدم وجوب اتصال الصفوف فما هو ضابط ذلك؟
للحنابلة ثلاثة أقوال فيه:
منهم من قال: أن يكون بين كل صف وصف ثلاثة أذرع، وهذا هو الذي يكفي للمصلي في ركوعه وسجوده.
وقال بعضهم: ألا يكون بينهما ما يصح أن يكون صفاً، وذلك ما يقارب ستة أذرع أو خمسة.
وقال الموفق ابن قدامه: ألا يكون بينهما بعدٌ لم يجر العرف به.
والقول الثاني: لا دليل عليه، فكونه يكون بينهما خمسة أذرع أو أربعة أذرع هذا يخالف الشرع.
وأما الثالث: وهو كونه راجعاً إلى العرف، هذه المسألة لا ضابط لها، فهذه مسألة شرعية قد حددها الشارع فلا ينبغي الرجوع فيها إلى العرف.
فكان أولاها بالصواب القول الأول: وأنه ثلاثة أذرع، لكن يخفف فيما لو كان نحوه كأربعة أذرع أو نحوها وإن كان خلاف السنة لكن مثله لا يؤثر، كما أن الصفوف تصح مع عدم وجود المراصة في الأكعب والمناكب ويتجاوز عن الشيء اليسير فيها، فكذلك هنا.
فالتحديد ينبغي أن يكون بثلاثة أذرع ونحوها وهو قول طائفة من الحنابلة.
والحمد لله رب العالمين(7/149)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتصح خلف إمام عال عنهم، ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر)
هذه مسائل في صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين.
الأولى قوله: (تصح) .
الثانية قوله: (وتكره) .
الثالثة قوله: (إذا كان العلو ذراعاً فأكثر) وظاهره أنه إذا كان أقل من ذراع أن الصلاة لا تكره.
فهذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى – وهي أصل المسألة – كراهية ذلك وأن صلاة الإمام في موضع عال أنها مكروهة.
ودليله ما رواه أبو داود والحديث صحيح بشواهده: (أن حذيفة صلى في المدائن على دكان " موضع شاخص مرتفع " فأخذ أبو مسعود بقميصه فلما فرغ من صلاته قال أبو مسعود: (ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟) وفي رواية بن حبان: (أليس قد نهى عن ذلك؟ فقال: بلى قد ذكرت حين مددتني) أي حين أخذت قميصي فجبذته) فهذا الأثر فيه كراهة ذلك.
وقوله: (كانوا ينهون عن ذلك) يحتمل أن يكون المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويحتمل أن يكون المراد أصحابه على وجهه يحتج به فيكون إجماعاً لاحتجاج أبي مسعود وإقرار حذيفة - رضي الله عنهم -– وهو مذهب جمهور العلماء، وأن صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين أنها تكره.
2- والثانية: قوله: (وتصح) هذا المشهور في المذهب وهو الراجح خلافاً للقول الثاني فيه.
والأول هو الراجح وأنها صحيحة وإن صلى الإمام في موضع عال؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة، ولأن أبا مسعود وحذيفة لم يثبت عن الأول منهما الأمر بالإعادة ولا عن الثاني الإعادة، فدل ذلك على صحة الصلاة.
ومعلوم أن ما يقع من الصلاة جهلاً يؤمر المكلف بإعادة الصلاة حيث كان مبطلاً لها.
3- الثالثة: وهي كراهيته بقيد أن يكون ذراعاً فأكثر.
قاعدة الاستثناء عند المذهب: أن يكون العلو يسيراً.(7/150)
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد إلى المنبر، فلما فرغ من صلاته قال: (أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) .
قالوا: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان رقيه على الدرجة الأولى وذلك نحو ذراع قالوا: فهذا العلو اليسير لا يكره.
- وقال بعض الحنابلة: بل يكون ذلك إلى قامة المأموم أي إلى ارتفاعهم، لأن ذلك يحوجهم إلى رفع البصر المنهي عنه للإقتداء بالإمام، فالمأموم يحتاج أحياناً إلى النظر إلى الإمام للإقتداء به.
وما ذكروه - أهل القول الأول والقول الثاني – فيه نظر، والأظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رقي على المنبر كما يرقى عليه إذا خطب، وذلك أن يكون رقيه ثلاث درجات كما كان يفعل ذلك في خطبته.
لكن الحديث يحمل على الراجح – كما حملها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهي غير مشهورة وهو مذهب الشافعية يحمل - على استثناء ذلك للتعليم.
فيكون لا بأس به للتعليم، ومثل ذلك عامة المواضع التي يحتاج الإمام فيها أن يكون مرتفعاً كأن يضيق المسجد وتكون مقدمته ضيقة فلا بأس بذلك.
فالمشهور عند الشافعية حمل هذا الحديث على جواز الارتفاع من الإمام عن المأمومين بلا كراهية حيث كان للتعليم ونحوه، وهو الراجح وهو رواية عن أحمد.
أما ما ذكره الحنابلة من أن ذلك علواً يسيراً وهو نحو ذراع فإن ذلك فيه نظر، وكون ذلك للإقتداء موضع نظر فإن الاقتداء يتم بسماع التكبير ونحوه.
فعلى ذلك الأظهر مذهب الشافعية من كراهية العلو للإمام مطلقاً إلا أن يحتاج فعل ذلك للتعليم.
أما الحنابلة فمذهبهم أنه يكره مطلقاً للتعليم وغيره، لكن استثنوا من ذلك ما إذا كان دون الذراع أي الارتفاع اليسير، والأظهر الأول.
قال: (كإمامته في الطاق)(7/151)
الطاق هو المحراب أي يكره كذلك كما يكره له أن يؤم في المحراب - وهو مشهور معروف –.
- وهذا هو المشهور في المذهب من كراهية صلاة الإمام في المحراب.
قالوا: لأنه يستتر عن بعض المأمومين فيفوت بعض الاقتداء. وعليه: سجوده فيه لا بأس به؛ لأنه لا يفوت ذلك شيئاً من الاقتداء، وكذلك إذا كان المأمومون قليلين بحيث يقتدون به وإن صلى في المحراب فإنه لا يكره ذلك.
وهل يشرع وضع المحراب في المسجد؟
المشهور عند الحنابلة: أن ذلك مباح؛ لأنه يستدل به على معرفة القبلة.
وعن الإمام أحمد: استحبابه، واختاره بعض أصحابه؛ ليستدل به على معرفة القبلة.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: تدل على الكراهية، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف، وهي الراجحة وهي كراهية ذلك. وهي قول الحسن البصري فقد قال: (الطاق في المسجد أحدثه الناس) وكرهه.
وحكى للإمام أحمد الكراهية عن علي وابن مسعود وابن عمر وأبي ذر - أى كراهية الصلاة في المحراب -.
وهو بدعة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه كما ذكر ذلك السيوطي، وإنما كان ذلك في المائة الثانية، وكما يدل على ذلك قول الحسن المتقدم.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح اليهود والنصارى)
والمذابح هي المحاريب لكونها يذبح فيها، أي تذبح فيها القرابين، فهي المحاريب كما ورد هذا في لسان العرب وغيره من كتب اللغة.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – من حديث ابن عمر -: (اتقوا هذا المذابح يعني المحارب) فسر ذلك ابن الأثير بأن المراد من ذلك صدور المجالس.(7/152)
وفسره السيوطي في كتابه بالمحاريب، وهو الأظهر عندي؛ لثبوت ذلك عن ابن مسعود، فقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بإسناد صحيح إلى إبراهيم عن ابن مسعود وروايته عنه صحيحة، قال: (اتقوا هذه المحاريب) فالأظهر أن هذا الحديث يحمل على المحاريب.
قال ابن مسعود – وقد كره الصلاة في الطاق – كما عند البزار: (إنما كانت للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب) ، وهذا الوجه الثاني في النهي عنها أنها تشبه بأهل الكتاب وأنها ليست من سنن المسلمين، وإنما استحبها من استحبها من أهل العلم للاستدلال بها على القبلة، لكن هذا قد وجد مقتضاه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحاجة إلى الاستدلال إلى القبلة فلم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان – كما في الطبراني – بإسناد جيد: (كان قد أتخذ لقوم مسجداً فنصب في قبلته خشبة) . فنصب الخشبة - ونحوها مما يصح سترة - يكفي في معرفة القبلة فحينئذ يكون اتخاذها بدعة كما تقدم في كراهية ذلك، فإنه لا يكره ما كان مشروعاً، فدل على أن ذلك بدعة.
وكونه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه الراشدين بل أحدث في المائة الثانية، وكما نص على ذلك الحسن، ووجود مقتضاه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عدم فعله والاستغناء به عن غيره يدل على عدم مشروعيته.
قال: (وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة)
أي يكره للإمام أن يتطوع في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة كضيق مسجد، كما أن الصلاة في المحراب إذا احتيج إليها لكثرة المصلين فإنه يصلي فيه للحاجة فهنا كذلك. فيكره له أن يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره من حديث المغيرة: والحديث صحيح لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصلي الإمام في موضعه الذي صلى فيه حتى يتحول) فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم -.(7/153)
وأما المأموم فقالوا: الأولى له ترك موضعه والصلاة في موضع غيره من غير كراهية.
واستدلوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أن يعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السُبحة) والحديث ضعيف فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو مجهول، فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت عن ابن عمر ما يخالف ذلك فقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن ابن عمر كان يصلي التطوع في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة) ، وثبت ذلك عن محمد بن القاسم، وهو من الفقهاء السبعة، وعن سالم بن عبد الله بن عمر، ثبت عنهم فعل ذلك، وليس في السنة ما يدل على كراهية هذا الفعل. فإن صلى في موضعه فلا بأس وإن تنحى فصلى في موضع آخر فلا بأس أيضاً.
قال: (وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة)
أي يكره للإمام أن يطل القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، وعليه: فإن القعود اليسير لا بأس به.
- وعن الإمام أحمد: كراهيته أيضاً – أي القليل – وهو أظهر.
قال: (فإن كان ثمَّ نساء لبث قليلا لينصرفن)
تقدم البحث في هذا في مسألة سابقة في الكلام على الذكر في صفة الصلاة.
قال: (ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف)
أي يكره وقوف المأمومين المصطفين وراء إمامهم، يكره وقوفهم بين السواري إذا كانت السواري تقطع الصفوف، وكما تقدم فإن الكراهية تزول عند الحاجة، فإذا ازدحم المصلون فاحتاجوا إلى أن يصلوا بين السواري فإنه تزول حينئذ الكراهية.
لأن القاعدة: أن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل.
واستدلوا: على الكراهية بما رواه الخمسة بإسناد صحيح عن أنس قال: (كنا نتقي هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني الصلاة بين السواري) .
فإذن: يكره ذلك لأنه يقطع الصفوف لكن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل – كما تقدم -.
والحمد لله رب العالمين.
فصل(7/154)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض)
هذا الفصل في الأعذار التي يجوز فيها ترك الجمعة والجماعة.
(مريض) المريض: هو الذي يشق عليه حضور الجماعة فلا يجب عليه حضورها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عباس في سنن أبي داود، وقد تقدم الحديث: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) والمرض عذر، وقد عذر الله به عن الصيام ونحوه من الأحكام، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرض صلى في بيته، وقال كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
ومثل ذلك: لو خشي المرض كانتشار وباء أو تعرض لريح شديدة أو نحو ذلك وهو يخشى المرض بها.
ومثل ذلك: تباطؤ المرض وتأخره، فكله من هذا الباب فيعذر في ترك الجمعة والجماعة – وهذا باتفاق العلماء أي أنه معذور في حضور الجمعة والجماعة حيث كان يشق عليه ذلك.
قال: (ومدافع أحد الأخبثين ومن بحضرة طعام محتاج إليه)
تقدم هذا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) في مكروهات الصلاة.
قال: (وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رُفقة)
الخوف عذر لترك الجمعة والجماعة، وهو ثلاثة أنواع: 1- خوف على النفس.
2- وخوف على المال. 3- وخوف على الأهل والولد.
فالخوف على النفس من سلطان أو سبع أو سيل أو غير ذلك.
والخوف على المال بتفويته، من سرقة أو فساد مال أو نحو ذلك. كأن يصلح رجل مالاً له فخشي إن ذهب فسد فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
وكذلك لو أن رجلاً له دواب يخشى ضياعها فيجوز له ترك الجماعة.
والخوف على الأهل والولد: كأن يكون رجل معه أهله وولده في مدينة غير آمنة فخشي إن وقف عند المسجد ضاع أهله أو ولده فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.(7/155)
(وخائف من ضياع ماله أو فواته) الفرق بين الضياع والفوات أن الضياع مع حصوله، وأما الفوات فقد لا يكون مع حصوله.
فمثلاً: رجل يظن أنه يجد عبده الآبق في وقت صلاة الظهر فيجوز له أن يدعها جماعة لحصول ماله.
أو يظن أنه يجد بهيمة أو دوابه في وقت من أوقات الصلاة ويخشى إن فات هذا الوقت أن يضيع هذا المال أو يفوت عليه فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.
(أو موت قريبه) سواء كان بمرضه أو لا.
قالوا: لأنه إن كان يمرضه فهذا لحاجة هذا الحي إليه، وإن كان لا يمرضه فلأن المشقة التي يجدها في نفسه من فوات توديعه قبل موته أعظم في نفسه مما أمر الشارع بترك الجمعة والجماعة له من طعام ونحوه، فنفسه تتوق إلى رؤية ميته وتوديعه قبل موته، وهذا أكثر مشقة من الطعام الذي أمر الشارع بترك الجماعة له.
(أو على نفسه من ضرر أو سلطان)
كأن تكون هناك عقوبة من سلطان ما على حضور الجمعة والجماعة، فيجوز تركها لثبوت العذر عليه.
وكل هذه دليلها قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}
(أو ملازمة غريم ولا شيء معه) مثال: رجل يقول: أنا إذا ذهبت إلى الجمعة أو الجماعة لازمني غريمي ولا مال معي وأخشى أن يحبسني بماله وأنا عاجز عن السداد، فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
فإن كان مماطلاً فليس له ترك الجمعة والجماعة ولا عذر له.
ومثله قالوا: لو كان عليه قود أي قصاص وهو يرجو العفو، ويعلم إنه إن حبس ثبت القود وهو يرجو العفو فيجوز له أن يترك الجمعة والجماعة.
ولا يجوز له أن يتركها لقصاص أو حد أو نحو ذلك لأنه حق فلا يترك به حق، فلا يكون معذوراً بذلك.
(أو من فوات رفقة) كرفقة في سفر مباح فيجوز له ترك الجمعة والجماعة لثبوت الحرج في ذلك.
قال: (أو غلبة نعاس)(7/156)
كأن يصاب رجل بسهر فيغلبه النعاس فيؤذن الفجر وهو مصاب بالسهر الشديد وقد غلبه النعاس، فخشي إن انتظر الإمام أن يشق عليه، فحينئذ يجوز له أن يصلي قبل إقامة الصلاة؛ لأنه معذور بغلبة النعاس الذي هو أشق من تطويل الإمام، وقد تقدم في قصة معاذ المتفق عليها أن تطويل الإمام عذر في ترك الجمعة والجماعة والصلاة منفرداً.
قال: (أو أذى بمطر أو وَحَل) .
الوَحَل: بفتح الحاء وهي اللغة الفصيحة، وأما بتسكينها (الوَحْل) فهي لغة ضعيفة.
فإذا كان هناك أذى بمطر أو وحل فله أن يترك الجمعة والجماعة.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه: (أمر مؤذنه في يوم مطير إذا قال: (أشهد ألا أله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) قال له: (لا تقل حي على الصلاة) وقل: (صلوا في بيوتكم) فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: " أتعجبون من ذا، فإنه قد فعله من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض) والدَحْض هو الطين الزلق.
فهذا يدل على أن اليوم المطير أو الليلة المطيرة التي يكون فيها دحض ووحل يجوز أن يترك الجمعة والجماعة.
بل ولو كان المطر يبل الثياب حيث كان به أذى فيجوز فيه ترك الجمعة والجماعة، وقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي المليح عن أبيه: (أنه شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية في يوم مطير لم يبتل أسفل نعالهم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلون في رحالهم) .
فهذا يدل على أنه متى كان مطر يثبت به الأذى أو شيء من الحرج أو كان هناك طين أو دحض فإن ترك الجمعة والجماعة جائز لرفع الحرج عن الأمة.
قال: (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة)
أي لفظة (مظلمة) فلم يذكرها بعض الحنابلة، والظاهر هو تركها؛ لأن الحديث الوارد في هذه المسألة المستدل به ليس فيه ذكر أنها مظلمة، وكذلك لفظة (شديدة) ليست شرطاً عندهم.(7/157)
قال في الإقناع: (ولو لم تكن شديدة خلافاً لظاهر المقنع)
ودليل الجواز: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يأمر مؤذنه في الليلة الباردة أو المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) .
قوله: (الليلة الباردة) قالوا: هذا دليل على أن الليلة إذا كانت باردة فيها ريح بارد وإن لم يكن ذلك شديداً كما تقدم فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة.
إذن: إذا كانت هناك ليلة باردة، بقيد أن يكون فيها ريح فإنه يجوز له ترك الجمعة والجماعة.
- وقال الشافعية: إذا كان البرد شديداً تركت الجمعة والجماعة ليلاً أو نهاراً.
والظاهر أن مرادهم بالبرد الشديد ما يقع به الحرج، وذلك فيما لم يكن مألوفاً عند الناس كما قيده صاحب حاشية المربع، ولم أرها لغيره لكنه قيد معتبر، فإن المألوف ليس في ذلك حرج عند أهل البلدة الذين ألفوا هذا النوع من البرد بخلاف من لم يألفوه أو كان برداً شديداً خارجاً عما ألفوه.
قال الشافعية: وكذلك الريح الشديدة في الليل فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة.
والظاهر أيضاً: أنه لا فرق بين ليل أو نهار حيث كانت شديدة يلحق بها الحرج.
والقاعدة: في مثل هذه المسائل: أنه متى ثبت الحرج في برد أو ريح شديد سواء كان ذلك في ليل أو نهار فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة – على الراجح -.
أما المشهور في المذهب فإنهم يقيدونه بالبرد الذي يكون بريح في ليل، والظاهر عدم اعتبار كون ذلك في ليل أو نهار، لأن الحرج الحاصل بالليل قد حصل مثله بالنهار فلا فرق – حينئذ –.
ولا يقيَّد باجتماع الريح والبرد الشديد لحصول الحرج بأحدهما، فإذا وجد أحدهما جاز حينئذ الجمع.
- وقال بعض الحنابلة: إذا كان حراً مزعجاً شديداً يفوت معه الخشوع فكذلك، وهو قياس ظاهر لفوات الخشوع كما ذكر.(7/158)
إذن: القاعدة في هذه المسائل كلها: أنه متى ثبت العذر من مرض أو خوف، أو ثبت الحرج من غلبة نعاس أو من مطر أو من ليلة باردة أو من ريح شديدة مما يثبت الحرج بمثله فإنه يجوز الجمع، وقد قال ابن عباس – كما تقدم –: (إني كرهت أن أحرجكم) أي أن أوقعكم في الحرج، فدل ذلك على أن المعتبر في مثل هذه المسائل هو الحرج، لوجوب الجمعة والجماعة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأعمى – الذي له قائد لا يلائمه: (لا أجد لك رخصة) ، فدل على وجوب حضورها، وأنه ليس بأي حرج بل بالحرج الذي يلحق المكلف منه شيء من المشقة.
لذا إذا كان للأعمى قائد لا يلائمه الملائمة التامة فيجب عليه الحضور وتحمل ذلك، بخلاف الأعمى الذي ليس له قائد أصلاً فإنه معذور عن حضور الجمعة والجماعة؛ لأن الواجبات تسقط عند العذر، وتسقط عند الحرج؛ لأن الله عز وجل قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} ومن الدين الجماعة والجمعة.
مسألة:
الخوف المعتبر هو ما يكون مظنة لذلك كمظنة السرقة ونحوها، أما مجرد الخوف فلا يجيز ترك الجمعة والجماعة.
مسألة:
إذا كان العمل تفوت فيه الجماعة فما حكمه؟
فيه تفصيل: فإن كان طارئاً فلا بأس.
لكن إن كان أصلياً فيه فإنه يتقدم إلى وظيفة يعلم أنه يصلي فيها الجماعة، والأولى له ألا يعمل فيها إذا كانت تفوته فيها الجماعة؛ لأنها أدت إلى محرم وهو ترك صلاة الجماعة.
لكن يستثني من ذلك: ما كان فيه مصلحه عامة كالشرط ومن في الثغور ونحوهم؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال) فقد همَّ بترك الصلاة والذهاب لإنكار المنكر.
مسألة: حكم دخول المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً؟
الأظهر أن النهي للتحريم كما هو رواية عن الإمام أحمد.
وهل يعذر بترك الجماعة أم لا؟(7/159)
الظاهر أنه يمنع من ذلك عند قرب وقت الصلاة؛ لأن أكلها سبب لمنعه من حضور الجماعة، وما كان سبباً إلى ترك واجب فإنه يمنع منه.
* وهل يخرج من المسجد أم لا؟ (1)
قولان لأهل العلم:
الظاهر منهما أنه يخرج إلا أن يترتب على ذلك مفسدة كما ذكر ذلك بعض الحنابلة.
* وهل يقاس عليهما الدخان؟
يقاس عليهما الدخان وغيره مما له رائحة كريهة يتأذى منها الملائكة.
والظاهر كذلك: أن النهي عن حضور الجماعة ليس خاصاً بما إذا كانت في المسجد، بل هو عام فيما إذا كانت في المسجد أو لم تكن، لأن الجماعات لها حكم المساجد في حضور الملائكة.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صلاة أهل الأعذار
أهل الأعذار من مريض ومسافر وخائف وغيرهم من أهل الأعذار.
وقد شرع في ذكر صلاة أحد المعذورين وهو المريض.
فقال المؤلف رحمه الله: (تلزم المريض قائماً)
لما ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل قائماً فإن لم تسطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) فإن أمكنه القيام استناداً إلى حائط أو عمود أو إلى أحد جنبه، وجب عليه ذلك لثبوت القيام، وقد تقدم البحث في هذا في الكلام على أركان الصلاة ومنها القيام.
فإذاً: يجب عليه القيام سواء كان قائماً بنفسه أو معتمداً على غيره من حائط أو جدار أو عمود أو نحو ذلك.
قال: (فإن لم يستطع فقاعداً)
فالمريض الذي لا يستطيع الصلاة قائماً فإنه يصلي قاعداً وكذلك إذا كان يخشى المرض أو زيادته بصلاته قائماً فإنه يصلي قاعداً مع قدرته على الصلاة قائماً؛ لأنه وإن قدر على أن يصلي قائماً لكن ذلك يترتب عليه خشية الضرر، إما تباطؤ البرء وإما بزيادة المرض وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
فإذن: إن لم يستطع القيام فإنه يصلي قاعداً.
__________
(1) وقد ثبت في الصحيحين إخراج من أكل الثوم والبصل من المسجد من حديث عمر.(7/160)
قالوا: ويندب له أن يكون متربعاً لما ثبت في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي متربعاً) وهذا في حال القيام، وفي الأصح أيضاً في حال الركوع.
وأما في حال الجلوس والسجود فإنه يثني رجليه كما يثنيهما في جلوسه في الصلاة؛ لأن هذا هو الأصل في السجود والجلسة بين السجدتين، والجلوس للتشهد.
أما التربع فإنه في القيام خاصة.
* وأما الركوع ففيه قولان للحنابلة:
الأول: أنه يثني رجليه كما يثنيهما في حال الجلوس والسجود أي يفترش.
والثاني: أنه يتربع للركوع، وهذا أصح؛ لأن هيئة الراكع في قدميه كهيئة القائم فكان أولى بأن يلحق به بخلاف الساجد والجالس فإن هيئة رجليه ليست كهيئة رجلي الراكع.
فالأرجح وهو اختيار الموفق من الحنابلة أنه في الركوع يكون متربعاً.
وإنما قلنا بندبه؛ لأنه ليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعله لا يدل على الوجوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً) وأطلق فيدخل في ذلك التربيع وغيره.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك واجب.
والأصح أنه مستحب كما تقدم.
قال: (فإن عجز فعلى جنبه)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تستطع فعلى جنب) وأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقيد الاضطجاع على جنبه الأيمن أو جنبه الأيسر، فسواء اضطجع على جنبه الأيمن أو الأيسر فلا بأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين أحدهما ولا دليل على التعيين.
ويكون مستقبلاً القبلة، فيضع وجهه وسائر بدنه تجاه القبلة، هذا هو مذهب جمهور العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تسطع فعلى جنب) وقد أوجب الشارع استقبال القبلة، فكان واجباً عليه أن يضطجع على جنبه متجهاً ببدنه إلى القبلة.
قال: (فإن صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة صح)(7/161)
فيصح ذلك وإن قدر على أن يضطجع على جنبه، وذكر الموفق والمجد ابن تيميه أن في رواية للنسائي: (وإلا فمستلقياً) ولم أر هذه اللفظة لا في السنن الكبرى ولا الصغرى، وكذلك قال محققا المغنى: إنهما لم يجداها.
وقال صاحب الفروع لما حكى ذلك عن المجد قال: " كذا قال "، ففي ثبوت هذه اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر.
ثم إن الحديث لو صح فإنما هو بعد قوله: (على جنب) أي فعلى جنب فإن لم يستطع فإنه يصلي مستلقياً.
قالوا: ولأنه إذا فعل ذلك فقد أثبت نوع استقبال للقبلة، فإن فيه نوع استقبال للقبلة بوجهه فيصح بذلك.
والقول الثاني في المذهب – وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن ذلك لا يصح، قال الموفق: (والدليل يقتضي ألا يصح، لأن ذلك خلاف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -) وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن الإمام أحمد وهو القول الصحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن لم تستطع فعلى جنب) .
وكونه يثبت فيه نوع استقبال هذا لا يدل على صحته بدليل أن القاعد لا تصح صلاته قاعداً وإن كان مستقبلاً القبلة مع قدرته على القيام.
ولأن كونه يصلي على جنب أتم في استقباله، فإن سائر بدنه الذي يستقبل به القبلة يكون في حال الاضطجاع على جنب قد استقبل به القبلة.
فالصحيح أن ذلك لا يجزئه وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن أحمد وهو اختيار الموفق ابن قدامة.
لكن إن عجز أن يصلي على جنب فإنه يصلي مستلقياً ولا نزاع في صحة ذلك لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذا فيه نوع استقبال.
قال: (ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع)(7/162)
مع العجز أن يصلي راكعاً وساجداً، فإنه يومئ بالركوع والسجود، لما روى البزار والبيهقي والحديث صحيح عن جابر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ بالركوع والسجود واجعل سجودك أخفض من ركوعك) وكل هذا - لا شك - مع الاستطاعة، فإنه إذا سقط أصل السجود فأولى من ذلك أن يسقط كون السجود أخفض من الركوع.
قال: (فأن عجز أومأ بعينه)
وهذا مذهب جمهور العلماء، فيومئ بعينه في حال الركوع والسجود والقيام وغير ذلك من أفعال الصلاة قياساً على الإيماء بالرأس.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد ضعفها الخلال من أصحابه: أن ذلك يسقط الصلاة عنه؛ لأنه قد عجز عن أفعالها حيث أمر، فهو عاجز عن فعل ما يجب عليه، فحينئذ تسقط عنه الصلاة.
وقال شيخ الإسلام – في الإيماء –: " هو عبث " وذلك لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ليس فيه شيء من أفعال الصلاة، فإن الإيماء بالركوع والسجود جزء من الركوع والسجود، فإنه يشرع بالسجود والركوع بالإيماء بالرأس فإنه فعل الصلاة بخلاف الإيماء بالعينين.
وذهب بعض الحنابلة – كما قال صاحب الفروع -: " وظاهر كلام جماعة – أي من الحنابلة – أنه لا يلزمه الإيماء بطرفه وهو متجه لعدم ثبوته ".
فهذا قول ثابت هو ظاهر كلام طائفة من الحنابلة أنه لا يومئ لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه ليس فيه فعل شيء من
أفعال الصلاة.(7/163)
لكن الصلاة تثبت عليه فلا يلزمه الإيماء لكنه يكتفي بالنية في قلبه – وهذا أظهر؛ لفرضية الصلاة ولأن النية من أفعلها، ولأن من عجز عن أفعالها فإن منهم من يمكنه القراءة، والقراءة هي الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الاستلقاء – وهو فعل لا يعجز عنه أحد – ينوب عن القيام فكان نائباً عن ركن من أركانها، وحيث عجز عن الإيماء فإن الصلاة تبقى وتثبت عليه لكنه لا يومئ بعينه لعدم ثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لا فائدة فيه لكنه يفعل ما يستطيع من النية والقراءة والاستلقاء على ظهره أو صلاته على جنب واستقبال القبلة بقدر استطاعته لأن الله - عز وجل - قال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} . وهذا القول أظهر وأحوط.
قال: (فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر)
إن قدر على القيام بعد أن كان عاجزاً عنه أثناء الصلاة فإنه ينتقل إليه لزوال عذره، لكن إن شرع في الفاتحة فإنه لا يتمها في ارتفاعه (1) ؛ لأنه يجب أن يقرأ حال القيام.
وإذا عجز عن القيام بعد أن كان قادراً عليه في أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى القعود، و – حينئذ – إن استمر في قراءة الفاتحة في انحطاطه فإنها تجزئ عنه؛ لأن قراءته في حال الانحطاط أولى من قراءته في حال الجلوس، بخلاف المسألة الأولى فإنه يجب أن يقرأها في حال القيام.
وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وذلك لثبوت العذر فيها وفي مسألة العذر الذي تقدم في ترك الجماعة نحو هذا. فإذا حصل له العذر الذي يثبت به ترك الجماعة لتطويل إمام فحصل له أثناء الصلاة، فإن له أن يتمها خفيفة، وله أن يقطعها.
__________
(1) المقصود حال نهوضه قبل أن يستتم قائماً. انظر حاشية الروض المربع: 2 / 372.(7/164)
وإن كان التمثيل في مسألة التطويل يوجب عليه أن يتمها خفيفة. بخلاف ما إذا كان يخشى فوات مال أو نحو ذلك فإن له أن يتمها خفيفة، وله إن خشي وقوع الضرر أن يقطعها.
فإذا وقع عليه عذر في أثناء الصلاة، فله أن يتمها خفيفة إن أمكنه ذلك ولم يشق عليه، وإلا قطعها.
قال: (وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وبسجود قاعداً)
فإذا كان يمكنه أن يصلي قائماً أو قاعداً، لكنه يعجز عن الركوع وعن السجود، ففرض عليه أن يصلي قائماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً) ، لكنه يومئ في حال القيام عن الركوع؛ لأن الركوع يكون عن قيام، ولأن القيام جزء من الركوع فإن حالة القدمين في حال الركوع تكون في حالة القيام.
والسجود كذلك، فإذا أراد أن يسجد فيسجد عن قعود مع قدرته على ذلك؛ لأن القعود جزء من السجود ولأن السجود إنما ينشأ عن قعود.
قال: (ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم)
إذا قال طبيب مسلم ثقة لمريض أصيب في عينيه إذا سجدت فإن ذلك يؤثر في عينيك ويبطئ في المرض فيك فوضع له حمية أن يصلي مستلقياً على ظهره، فهل يفعل ذلك؟
الجواب: نعم يفعل ذلك فيصلي مستلقياً وإن كان قادراً على أن يصلي قائماً أو قاعداً إذا ذكر له أن في الصلاة مستلقياً سبب لإسراع برئه أو ثبوت البرء.
وذلك لأن في ترك ذلك حرج، وقد جاءت الشريعة بنفي الحرج في قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
والأظهر أنه لا يقيد الطبيب بكونه مسلماً، وإنما يقيد بالثقة الذي يرجى صوابه، لأن العلة في ذلك هي الحرج الواقع في القلب من منع ذلك، وكذلك رجاء الانتفاع بالشفاء، وهذا لا يثبت بكونه مسلماً فقط بل إذا كان ثقة، فالأظهر أنه لا يقيد بكونه مسلماً بل من كان ثقة في قوله ورجي صوابه، والنفع بقوله مثبت.
قال: (ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادر على القيام)(7/165)
إذا كان قادراً على أن يصلي قائماً وهو في السفينة أو في سيارة أو نحو ذلك – ففرض عليه القيام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً) .
وثبت في البزار والحاكم وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن الصلاة في السفينة فقال: (صل قائماً إلا أن تخشى الغرق) لكن إن كان يشق عليه القيام مشقة شديدة كأن يكون فيها حركة واضطراب فلا يمكنه أن يصلي قائماً إلا مع مشقة شديدة فحينئذ لا حرج في أن يصلي قاعداً لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
ومثل ذلك: إذا كان في السفينة ولا يمكنه الخروج منها إلا بعد فوات الوقت، فلا يمكنه أن ينزل فيصلي قائماً إلا بعد خروج الوقت – ومثل ذلك السيارة – فحينئذ يصلي قاعداً للعذر لأنه عاجز عن ركن القيام في الوقت.
وهل يجب عليه أن يستقبل القبلة في صلاته كلها فيدور مع القبلة كما دارت؟
هذا هو المشهور في المذهب، وأن السفينة إذا اتجهت عن القبلة فإنه يتحرك إلى جهة القبلة. وهذا قول ظاهر إلا أن يشق عليه.
لذا ذهب بعض الحنابلة إلى أن ذلك لا يلزمه كالنفل.
والأظهر هو التوسط بين القولين: وأن ذلك واجب عليه مع الاستطاعة بلا مشقة، أما إن كان في استدارته مشقة فإنه يسقط ذلك عنه للحرج والمشقة.
قال: (ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحَل)
وقد تقدم الوحَل: وهو الطين سواء كان زلقاً أو لم يكن كذلك مما يتأذى منه.
فإذا كان على راحلته وخشي فوات الوقت والأرض فيها طين وحرج عليه أن يصلي في الطين حيث أن الوحل فيها، فإنه يصلي على راحلته ويومئ بالركوع والسجود.
لما روى أحمد والترمذي عن يعلى بن أمية قال: (انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مضيق والسماء من فوقهم والبلة أسفل منهم فأمر المؤذن أن يؤذن، فصلى وهو على راحلته يومئ بالركوع والسجود) والحديث في إسناده جهالة وضعفه الترمذي لكن قال: (العمل عليه عند أهل العلم) .(7/166)
وذكره الإمام أحمد عن أنس بن مالك ولا يعلم له مخالف وقواعد الشريعة تقتضي ذلك لرفع الحرج – كما تقدم – في قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والمشقة تجلب التيسير – ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم – لكن مع القدرة على النزول لا يجزئه ذلك.
قال: (لا للمرض)
فالمريض لا يجزئه أن يصلي على راحلته.
وقال بعض الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجزئه ذلك. وهذا القول ظاهر، لكن بشرط ألا يكون في نزوله فعل أركان لا يمكن فعلها في حال صلاته على الراحلة.
فإذا كان المريض مثلاً: يومئ بالركوع والسجود على النافلة ويمكنه أن يسجد على الأرض ويركع ويقوم فيجب عليه أن ينزل للقيام والركوع والسجود وفعل غيرهما من الأركان، لكن هذا الشرط ألا يشق عليه مشقة ظاهرة، فإنه يصلي على راحلته وإن ترك شيئاً من الأركان المتقدمة.
إذن: الظاهر: أنه إن كانت أفعاله كأفعاله على الأرض فإنه لا فرق بين أن يصلي على الراحلة أو على الأرض، لكن إن كان قادراً على فعل شيء من الأركان في حال النزول فيجب أن ينزل إلا أن يُلحقه ذلك مشقة ظاهرة فإن المشقة تجلب التيسير.
والحمد لله رب العالمين.
فصل في صلاة المسافر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر رباعية ركعتين، إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
هذه الجملة فيها مسائل:
المسألة الأولى: مشروعية صلاة السفر وأنها مشروعة قد دل على ذلك الكتاب في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} ، وبسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله وقوله، وبإجماع أهل العلم على مشروعية قصر الصلاة للمسافر.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه المشروعية للاستحباب أم للفرضية؟(7/167)
أ – مذهب جمهور العلماء: إلى أن ذلك للاستحباب، وهو المشهور في مذهب الحنابلة، فهي مستحبة وفعلها قصراً أفضل من فعلها تماماً، وإن أتم جاز ذلك وصح من غير كراهية.
ب – وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن الإتمام مكروه.
فهذا هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
استدل جمهور أهل العلم على استحبابها بما يلي:
قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فنفى الله الجناح، ونفي الجناح يدل على الإباحة.
وهذا الاستدلال ضعيف، بل نفي الجناح لا يدل على نفي الإيجاب بل يدل على نفي الإثم والتحريم أي لا أثم ولا تحريم.
أما مسألة نفي الإيجاب فلا تدل عليها هذه الآية بدليل أن الله تعالى قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} والطواف بين الصفا والمروة - وهو باتفاقهم - فرض وركن أو واجب.
ولو قالوا بظاهرها هو الإباحة المطلقة فضلاً عن أن يكون ذلك للاستحباب فهذه الآية ليس فيها نفي الإيجاب ولا إثبات الاستحباب بل فيها الإخبار أنه لا تحريم في ذلك ولا حرج ولا جناح.
وبما ثبت في النسائي ورواه أبو داود والطيالسي وقال الدارقطني إسناده حسن: أن عائشة قالت: (اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فصام وأفطرت وقصر وأتممت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) لما ذكرت ذلك له ".
قال الدارقطني: إسناده حسن (لكن قال في كتاب العلل وهو أقوى في التضعيف والحكم على الأحاديث: (الراجح أنه مرسل) أو نحو ذلك وهو كما قال، وأنكر هذا الحديث شيخ الإسلام فإنه لا يعقل أن عائشة تخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتخالف هديه بكونها تصوم وهو مفطر وتتم وهو يقصر فالحديث لا يثبت، وإن كان قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر وتقول: (إنه لا يشق علي) رواه البيهقي لكن كما قال عروة: (تأولت كما تأول عثمان) .(7/168)
فتأولت أن القصر إنما شرع للمشقة، فرأت أنه لا مشقة فيه عليها فكانت لا تقصر، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون تأولاً منها.
أما الرواية عنها بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) فلا يثبت ذلك، فالحديث مرسل وقد أنكره شيخ الإسلام.
وأما ما رواه الدارقطني من حديثها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يتم ويقصر، ويصوم ويفطر) فالحديث إسناده ضعيف. فهذه أدلة جمهور العلماء.
وذهب طائفة من أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو مذهب الأحناف: إلى أنه فرض في السفر، وهو مذهب ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والثوري وحماد بن أبي سليمان.
فقد قال ابن عباس – كما في سنن سعيد بن منصور -: (من صلى في السفر أربعاً فكمن صلى في الحضر ركعتين) وهذا منه إبطال للصلاة، فإن من أتم في السفر تبطل صلاته كما لو قصر في الإقامة، ولما سئل – - رضي الله عنه - – عن قصر الصلاة فقال: (ليس تقصيرها ولكن إتمامها وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) رواه عبد الرزاق.
ودليل هؤلاء:
ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) فقولها " وأقرت " يدل على أنها أقرت على الفريضة لكن يشكل عليه ما تقدم من مذهب عائشة، وهذا هو لفظها.
لكن يقال: إن هذا من باب الرواية، وأما ما تقدم فهو من باب الرأي ولا يعارض رأي الراوي بروايته، بل تبقى الرواية على وجهها.
واستدلوا – وهو أصرح في الاستدلال – بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: (فرضت الصلاة على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة)
فقال: " فرضت " والفرضية لفظ صريح في الإيجاب.
وبما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -) .(7/169)
وما ذكروه أصح، فإن الأدلة ظاهرة في إيجاب ذلك ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح القصر [لعلها: الإتمام] ، بل كان يتم [لعلها: يقصر] حتى ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود لما قيل له: (أن عثمان قد أتم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر بمنى ركعتين، ومع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) لكن مع ذلك فقد صلى أربعاً وقد قال: (الخلاف شر) . فالراجح فرضية القصر.
2 - والمسألة الثانية: عند قوله: (من سافر سفراً مباحاً) :
- هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء، وأن ذلك إنما يشرع للمسافر سفراً مباحاً. ويدخل في ذلك السفر لنزهة أو نحوها، فإنه سفر مباح ويخرج من ذلك السفر المحرم، فمن سافر لتجارة محرمة أو فعل محرم، وكذلك المكروه من تكاثر ونحو ذلك فإنه لا يقصر بل يتم.
واستدلوا بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} قالوا: والباغي هنا هو الخارج على السلطان، والعادي هو العادي على المسلمين، فمن كان كذلك فلا يباح له الميتة بل تحظر عليه، قالوا: وكذلك غيرها من الرخص.
وقالوا: إن في مشروعية القصر له إعانة له على السفر المحرم أو المكروه، وهذا يناقض مقصود الشارع من التحريم أو الكراهية.
- وذهب الأحناف وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن تيمية: إلى أن هذه الرخصة تشمل المسافر العاصي في سفره كما تشمل المطيع، فضلاً عمن بينهما ممن سفره سفر مكروه أو مباح.
واستدلوا: بعمومات النصوص: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} وغيرها، فهذه ثابتة للمسافر مطلقاً سواء كان في سفره عاصياً أو مطيعاً.(7/170)
قالوا: وأما الآية فإن التفسير الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وهو أن المراد بقوله: {غير باغ} في كونه يأكل الميتة مع إمكان الاستغناء عنها، و {لا عاد} في كونه يتجاوز ضرورته. وهذا التفسير أصح فيها لتعلقه بفعل المحرم نفسه، ولأن قوله: {فمن اضطر} عام في كل مسلم عاصياً كان أو مطيعاً وللعمومات المتقدم ذكرها.
* ثم أن كان خارجاً عادياً على المسلمين خارجاً عن إمامهم مؤذياً لهم، فإنه له حكم خاص لإهدار دمه، فكونه - على التسليم بالتفسير الأول، كونه - لا يرخص له بأكل الميتة ونحوها من الرخص التي فيها بقاء حياته؛ هذا لأنه حياته مهدرة بخلاف من سافر سفر معصية أو نحو ذلك فإن حياته ليست بمهدرة.
والراجح التفسير الثاني كما تقدم.
وهذا القول – أي الثاني – هو الراجح؛ لعمومات النصوص.
وأما كونه فيه إعانة: فإن هذا أمر مشروع ولا دخل له في كونه له إعانة على المعصية، فهي حسرة له هكذا في السفر، أما كونه عاصياً أو مطيعاً فإنه لا يعان على معصية أو ما يكره له، وأما هذا فهو حكم شرعي لا تعلق له بما تقدم بل قد يكون في ذلك إعانة له على فعل ما فرض عليه من إقامة الصلاة.
إذن الراجح مذهب الأحناف والظاهرية واختيار شيخ الإسلام.
المسألة الثالثة عند قوله: (أربعة برد) :
هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
1- فذهب جمهور العلماء إلى هذا القول وأنه أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، فالأربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون المجموع ثمانية وأربعين ميلاً وهي تزيد على 80 كيلو متراً وهذا – كما ذكروا – تقريب لا تحديد.
واستدلوا: بما رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: (يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة إلا في أربعة برد من مكة إلى عسفان) والحديث لا يثبت بل هو ضعيف، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس.(7/171)
لكن ثبت هذا من فعل ابن عباس وابن عمر – كما ثبت في البخاري معلقاً – ووصله البيهقي: (أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ستة عشر فرسخاً) والأثر صحيح.
فإذا سافر أربعة برد سواء كان ذلك يومان قاصدان كما كان في القديم أو أقل بساعة أو ساعتين فلا عبرة بالزمن في السفر بل العبرة بالمسافة.
وما ذكروه من أثر ابن عباس وابن عمر: قد ثبتت آثار تخالف هذا الأثر فلا يقال: إنهما لا يعلم لهما مخالف من الصحابة، فقد صح عن ابن عمر نفسه آثار تخالف ذلك، فمن ذلك:
في مصنف ابن أبي شيبة – أنه قال: (لو خرجت ميلاً لقصرت) وفيه: (إنه كان يقصر في ثلاثة أميال) ، وفي مصنف عبد الرزاق: (أنه كان يقصر في ثلاثين ميلاً) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة: (أنه كان أدنى ما يقصر فيه خيبر يخرج لأرض له) وكان بين خيبر والمدينة نحو تسعين ميلاً، فالرواية مختلفة عن ابن عمر.
وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه: (أنه استأذن حذيفة – وكان في المدائن – أن يذهب إلى أهله فأذن له وشرط عليه ألا يقصر ولا يفطر، وكان بين المدائن والكوفة نيف وستون ميلاً) والأربعة برد 48 ميلاً، فهذا أثر يخالف.
كما أن السنة خالفت ذلك صراحة فقد ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسافر امرأة يوماً وليلة) الحديث، قال البخاري: (سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة سفراً) واليوم والليلة إنما يكون فيهما بردان أي 8 فراسخ، فإن الأربعة برد يومان تامان، واليوم والليل يكونان بردين.
وثبت في أبي داود ما هو أقل [من] ذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسافر امرأة بريداً) فدل على أن السفر بريد.
وقد ثبت أن أهل مكة كانوا يقصرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى، وكان بين منى ومكة نحو بريد.(7/172)
لذا أنكر الموفق رحمه الله تعالى: هذا القول من جمهور العلماء وأنه يخالف السنة وظاهر القرآن، وأنه لا دليل عليه من نص ولا إجماع ولا قياس، وهو كما قال.
وذهب شيخ الإسلام وهو اختيار ابن القيم: إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، فما تعارف الناس أنه سفر فهو سفر، لكن هذا القول لم يتبين لي أنه قول منضبط ينضبط لسائر الناس في معرفة أن هذا سفر وهذا ليس بسفر والناس مضطريون في أعرافهم كما هو ظاهر.
وذهب الظاهرية إلى أن مرجع ذلك إلى اللغة، فإن الله عز وجل قد خاطب العرب في كتابه بالسفر، والسفر عندهم هو البروز عن دار الإقامة، فالسفر في اللغة هو الكشف والبروز، فالسفر من دار الإقامة هو البروز عنها فليس هناك إلا داران دار حضر ودار سفر.
فدار الحضر هي دار الإقامة، وأما خارجها فهو سفر، فمن برز عن دار الإقامة قصر.
قال ابن حزم: ميلاً؛ لأثر ابن عمر المتقدم.
وقال داود من الظاهرية: ثلاثة أميال؛ لأثر ابن عمر المتقدم الذي رواه ابن أبي شيبة، وهذا القول تدل عليه السنة.
فقد ثبت في مسلم أن أنس: سئل عن قصر الصلاة؟ فقال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة) وهنا شك من الراوي في قوله: (ثلاثة أميال أو فراسخ) وهو من شعبة.
واليقين أنه ثلاثة فراسخ وهو نحو تسعة أميال أي 16 كيلو متراً، ومع ذلك فليس هذا تحديداً وإنما فيه أخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين.
ويحتمل أن يكون ذلك ثلاثة أميال وهو أوفق للغة العرب لأن الثلاثة أميال غالباً ما تخرج عن حيِّز المدينة.(7/173)
واستثنى الظاهرية من ذلك ما يتصل بالمدينة من بساتينها ونحو ذلك؛ لأن الصحابة كانوا يخرجون إلى البقيع وإلى أحد وقباء وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنهم القصر وكل هذا متصل بدار الحاضرة، والسفر ليس من هذا القبيل وإنما هو البروز عن دار الإقامة وما اتصل بها، وهذا القول هو أظهر هذه الأقوال الثلاثة.
المسألة الرابعة: (قصر رباعية ركعتين)
خص ذلك بالرباعية، فيخرج من ذلك الثنائية وهي الفجر والثلاثية وهي المغرب، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر.
ويدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث عائشة المتقدم في فرضية صلاة السفر وفيه: (إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة) .
المسألة الخامسة: قوله: (إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
فإذا خرج من الحاضرة وما اتصل بها من عمران ونحو ذلك فإنه حينئذ يقصر، فبمجرد ما يخرج من الحاضرة كمطار الطائرات عندنا ونحو ذلك فإنه يقصر الصلاة في ذهابه وإيابه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فقيده الله بالضرب بالأرض، وهو يثبت بمجرد الخروج من الحاضرة أو خيام القوم.
وكذلك لا ينتهي من الضرب في الأرض حتى يدخلها.
وثبت هذا عن علي بن أبي طالب ولا يعلم له مخالف فقد ثبت عنه كما في البخاري معلقاً: أنه خرج فقصر الصلاة وهو يرى البيوت حتى رجع فقيل له: هذه الكوفة فقال: (لا حتى ندخلها) .(7/174)
ومن هنا تبين لنا: أن حديث أنس بن مالك المتقدم: لا يحمل على أن المراد من ذلك أثناء خروجه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف قوله ما ثبتت الشريعة بمثله من قول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف، وهو مذهب الجمهور، وهم يشرعون القصر بمجرد الخروج ولا يقيدونه بثلاثة أميال ولا بثلاثة فراسخ، والحديث المتقدم عن أنس قد قيده بثلاثة أميال أو فراسخ.
ثم إنه قد سئل عن قصر الصلاة فدل على أن المراد من ذلك المسافة التي يقصر فيها.
إذن: متى ما فارق قريته أو مدينته أو خيام قومه فإنه يقصر الصلاة حتى يرجع، ويستمر في القصر حتى يدخلها – وهو مذهب جمهور العلماء وهو ثابت عن علي ولا يعلم له مخالف.
فإن قيل: قد قال تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقيده الله بالخوف وقد أمن الناس؟
فالجواب: أنه ثبت في مسلم عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر عن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس فقال: " أني عجبت مما عجبت منه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقة الله تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ".
ويمكن أن يستدل بهذا على الإيجاب لقوله: " فاقبلوا " وظاهر الأمر الوجوب.
والحمد لله رب العالمين.
هنا ثلاث مسائل تتفرع عن المسألة السابقة وهي أن مسافة القصر أربعة بُرد:
المسألة الأولى: أن من شك في المسافة هل هي أربعة برد أم لا؟
فلا يقصر حتى يتيقن ذلك لأن الأصل – في المشهور من المذهب – عدم السفر، فإذا ثبت هذا فإنه لا يقصر حتى يتيقن أن البلدة التي يسافر إليها بعدها مسافة قصر.
وقد تقدم أن الراجح أنه متى ثبت كونه مسافراً فإنه يثبت بذلك القصر.
وما ذكره الحنابلة ينبني على القول الراجح، فإذا أراد أن يذهب إلى محل ولم يثبت له كونه سفراً فإنه لا يقصر، إن شك في هذا الموضع هل هو موضع سفر أم لا.(7/175)
المسألة الثانية: أن من سافر ليترخيص في فطر أو قصر أو نحو ذلك:
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقصر. ولم أر دليلاً على هذه المسألة أي دليلاً صحيحاً.
لذا ذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الأحناف: إلى أنه يثبت له رخص السفر، لأنه مسافر فيدخل في عموم الأدلة الشرعية وإن كان ينهى عن ذلك لكنه يثبت كونه مسافراً متعلق به أحكام السفر من قصر أو فطر أو نحو ذلك.
فالراجح أن من سافر ليترخص أنه يثبت له أحكام السفر وإن كان ينهى عن ذلك.
والترخص أقوى ما يقال فيه: أنه معصية وقد تقدم أن من سافر سفر معصية فإن أحكام السفر تثبت له لعمومات الأدلة الشرعية.
المسألة الثالثة: فهي فيمن كان تائهاً في طريقه لم يثبت قصداً له:
فإنه لا يقصر في المشهور من المذهب، لأنه منتهى قصده لم يثبت كونه سفراً ولا يقصر حتى يثبت له أن منتهى قصده سفر.
يعني: أن من خرج ولم يقصد موضعاً يكون خروجه إليه سفراً ثم تاه فإنه لا يترخص بأحكام المسافرين، لأنه لا يعد مسافراً، وهذا إذا كان الموضع الذي قصده في الأصل ليس بسفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أحرم حضراً ثم سافر أو سفراً ثم أقام ... أتم)
كأن يكون رجل في سفر فكبر تكبيرة الإحرام في حال كونه مسافراً فوصلت السفينة إلى بلدته – أي بلدة الإقامة – فإنه يتم صلاته.
والعكس كذلك: فلو أن رجلاً أحرم في حال الإقامة، كأن تكون السفينة في بلدته فخرجت ثم سافر أثناء الصلاة فإنه يتم صلاته كذلك.
وحكي في هاتين المسألتين الإجماع على أنه يتم.
أما المسألة الثانية: فظاهر أنه يتم لأنه قد عقد الصلاة في حال الإقامة فوجب إتمامها كذلك.
وأما المسألة الأولى: وهي فيما إذا أحرم مسافراً ثم أقام، قالوا فكذلك وقد حكي الإجماع على ذلك.
والدليل على ذلك – وهو دليل للمسألة الثانية كذلك قالوا: أنها صلاة اجتمع فيها الحضر والسفر فوجب أن يصلي على هيئة الحضر.(7/176)
وهذا الدليل ظاهر في المسألة الثانية؛ لأنها قد انعقدت على أنها صلاة حضر، وأما في المسألة الأولى: فالترجيح بتقديم صلاة الحضر على صلاة السفر غير ظاهر، لأنه قد عقدها وهو مسافر فانعقدت على وجه السفر، فلم يلزمه إتمامها، ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً.
فإن كان الإجماع المتقدم صحيح ثابت فلا خلاف فيه، وإن لم يثبت الإجماع فهذا القول قوي أي أنه يصليها صلاة سفر لأنه قد عقدها مسافراً فانعقدت على وجه السفر وكونه يصل إلى دار الإقامة فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قال: (أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها)
أو ذكر صلاة سفر في حضر: كأن يتذكر مسافر أنه لم يصلي صلاة الظهر في الحضر. فإنه يصليها تماماً وهذا بالإجماع، لأن القضاء يحكى الأداء والواجب في القضاء أن يكون على هيئة الأداء، فقد لزمت في ذمته تماماً غير قصر وبقيت متعلقة بذمته وخرج ومنها على هذه الصورة فكان الواجب عليه أن يصليها تماماً.
أما إن سافر بعد دخول الوقت وقبل خروجه فإنه يصليها صلاة سفر، عند جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر إجماعاً.
ولكن عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يصليها صلاة حضر، لأنه قد وجبت عليه الصلاة حيث أذن، وقد أذن في الحضر فوجبت كذلك، لكن هذا القول ضعيف، لأن الصلاة واجب موسع فكل وقتها تجب فيه، والنظر هنا إلى حال الأداء فقد أداها في حال السفر فكانت صلاة سفر هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور وحكاه ابن المنذر إجماعاً كما تقدم.
(أو عكسها) : إذا ذكر في الحضر صلاة سفر:
كأن تكون عليه فائتة في السفر لم يذكرها إلا في الحضر فهنا قال: يجب عليه أن يصليها تماماً - هذا هو المشهور في المذهب -.
قالوا: لأن القصر رخصة فزال بزوال سببه، وليس هو السفر.(7/177)
- وذهب الأحناف وهو قول لبعض الحنابلة: إلى أنه يصليها قصراً، وهو القول الراجح؛ لأن الصلاة قد وجبت عليه بخروج وقتها فتعلقت في ذمته على وجه القضاء، والقضاء يحكي الأداء، فلو أنه صلاها في السفر أداء لكانت قصراً لا تماماً، والقضاء يحكي الأداء.
فالراجح أنه يقصر؛ لأن هذه الصلاة تعلقت في ذمته على أنها قصر والقضاء يحكي الأداء، فالذي فاته إنما هو ركعتان لا أربع فلم يفته من الصلاة أربع ركعات وإنما فاته ركعتان والقضاء إنما يكون للشيء الفائت.
قال: (أو ائتم بمقيم)
يعني مسافر ائتم بمقيم سواء كان هذا الائتمام من أول الصلاة أو في أثنائها.
أما كونه من أول الصلاة: فصورته: رجل مسافر فكبر خلف مقيم وأدرك معه تكبيرة الإحرام.
وأما في أثنائها: كأن يكبر خلف إمام مسافر ثم يطرأ على المسافر عذر يقتضي الاستخلاف فيستخلف مقيماً.
فهاتان الصورتان كلاهما لمسألة واحدة وهي صلاة المسافر خلف المقيم فيجب أن يصلي تماماً لصلاة الإمام، وهذا باتفاق أهل العلم (والمراد: هنا المذاهب الأربعة) .
ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: أن ابن عباس - رضي الله عنه - قيل له: (إنا إذا صلينا في رحالنا – أي في حال السفر – صلينا ركعتين، وإذا صلينا معكم صلينا أربعاً؟ وكان ابن عباس من المكيين وكان يصلي تماماً " فقال: (سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) .
وهو ثابت من فعل ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البيهقي بإسناد صحيح ولا يعلم لابن عمر مخالف، وهو كذلك السنة كما تقدم.
إلا أن الإمام مالك – وهو الراجح في هذه المسألة – يستثنى ما إذا فاته الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يصلي قصراً وقد تقدم الكلام على ذلك.(7/178)
وخالف إسحاق رحمه الله تعالى – المشهور عند أهل العلم – فقال: إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه له أن يصلي قصراً؛ لأن الإقتداء لا يزيل هذا الحكم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر فإنه يتم صلاته بالإجماع، فكذلك هنا.
وهذا قياس يخالف النص ولعله لم تبلغه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال: (أو بمن يشك فيه)
هذه المسألة تنبني على هل تشترط النية في القصر أم لا؟
يعني: هل يشترط لمن أراد أن يصلي في السفر أن ينوي القصر أم لا؟
المشهور من المذهب – كما سيأتي –: أن ذلك فرض.
وقال بعض الحنابلة: لا يشترط ذلك، وهو مذهب الجمهور.
ولم يثبت عن الإمام أحمد نص يخالف هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن الاشتراط لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة نبيه ولا أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فلا يشترط له أن ينوي القصر كما لا يشترط له – في الحضر – أن ينوي الإتمام، لأن التمام هو صلاة الحاضرين، فكذلك في القصر لا يشترط له أن ينوي القصر؛ لأن القصر هو صلاة المسافرين، فلا دليل على اشتراط نية القصر.
فالأصل في السفر هو القصر كما أن الأصل في الحضر هو الإتمام، وكما أنه لا يشترط نية الإتمام في حال الحضر فكذلك لا يشترط نية القصر في حال السفر، فإن صلاة السفر ركعتان كما تقدم في الأدلة الصحيحة، وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنابلة فقالوا: أنه إذا أطلق فكبر ولم ينو فإنها تصرف إلى الأصل وهو التمام.
وهذا ليس بصحيح، فإن التمام أصل في صلاة الحاضرين وليس بأصل في صلاة المسافرين، لما تقدم من الأدلة كما في حديث عمر: (صلاة السفر ركعتان)
فالأصل في صلاة السفر القصر فلم تشترط النية، بل لو نوى الإتمام ثم رأى القصر فإنه يقصر ولا يؤثر فيه هذه النية، فالنية ليست بمؤثرة؛ لأن هذه هي السنة فصلاة السفر ركعتان.
وهذا لا يشكل على فرضيتها فيما تقدم ترجيحه.(7/179)
وكذلك لا يشكل – في الحقيقة – على القول بمشروعيتها؛ لأنها قد شرعت ركعتان فلم تشترط فيها النية.
فهذه المسألة مبنية على ذلك.
فإذا ائتم بمن يشك فيه فلا يدري هل هو مسافر أم مقيم؟
فإنه يجب عليه الإتمام في المشهور من المذهب.
لكن استثنوا من ذلك: إذا كانت هناك غلبة ظن كأن يكون المسجد في طريق المسافرين أو أن يظهر على الإمام هيئة السفر أو نحو ذلك.
أو أن ينوي أنه أتم، أتم، وإن قصر، قصر، فيعلِّق صلاته بصلاة الإمام فيجوز.
لكن الصحيح في هذه المسائل كلها، أنه إذا صلى وراء إمام ولا يدري أهو مسافر أم مقيم، فإنه يصلي خلفه فإن أتم، أتم خلف. وأن قصر، قصر؛ لأن النية ليست بشرط.
قال: (أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها)
هذه مسألة غريبة.
صورتها: رجل أحرم بصلاة - يلزمه - في السفر يلزمه إتمامها، كأن يصلي خلف مقيم، فبطلت صلاته كأن يتذكر أنه محدث أو نحو ذلك ثم أراد أن يصلي وحده فهل يصلي قصراً أو تماماً؟
قال هنا: (أتم) فيجب عليه الإتمام، لكن هذا قول غريب؛ لأن وجوب إتمامها في الصلاة الأولى وهي الفاسدة الباطلة كان ذلك لتعلقها بصلاة الإمام فوجب إتمامها لكونه قد اقتدى بمقيم. وأما في الصلاة الأخرى فلا تعلق لها بشيء يوجب الإتمام. وهذا قول ضعيف.
- وقد ذهب الأحناف إلى خلاف هذا القول، والراجح ما ذهبوا إليه.
قال: (أو لم ينو القصر عند إحرامها)
تقدم هذا: وأن المشهور في المذهب وجوب نية القصر.
فلو أن رجلاً كبر في السفر وغاب عن ذهنه أنه مسافر فلم ينو القصر فيجب عليه الإتمام. وهذا ضعيف وهو مبني على اشتراط نية القصر، وهو قول ضعيف.
قال: (أو شك في نيته)
أي في الركعة الثانية شك هل نوى القصر أم لا؟(7/180)
فيجب عليه أن يتم قالوا: ولو تذكر بعد ذلك، فمثلاً يبقى حائراً لحظات ثم تذكر أنه نوى القصر، فلو بقى لحظة حائراً فإنه يلزمه أن يصلي تماماً؛ لأنه قد بقى زمناً شاكاً في نيته، فوجب الإتمام؛ لأن من شك في نية فيجب عليه الإتمام، فتذكره بعد ذلك لا يغير من الحكم شيئاً بل يلزمه الإتمام.
وكل هذه الأقوال تنبني على شرطية نية القصر، وهو قول ضعيف، والقول الراجح هو عدم اشتراط ذلك كما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء.
مسألة:
رجل مسافر فدخل مسجداً في الطريق ووجد رجلاً يصلي فدخل معه وأدرك معه ركعة واحدة ولا يدري هل هو قد أتم صلاته فيتمها أم قصرها، فما الحكم؟
إن غلب على ظنه أحدهما فإنه يبني عليه وإلا فإنه يصلي قصراً، لأننا إنما فرضنا وشرعنا الإتمام له حيث ثبت له أن هذا مقيم، والأصل له أن يصلي مسافراً حتى يثبت له أن هذا الإمام مقيم؛ ولأنه إنما شرع ذلك في الأصل.
وإن كانت المسألة قد ثبت فيها بعض الأحكام تبعاً، إنما شرع ذلك لئلا يخالف الإمام، والمخالفة إنما تكون إذا سلم قبل سلام إمامه، وإن كان قد ثبت له في هذه المسألة تبعاً أنه وإن أدرك من الصلاة شيئاً وهو يعلم أنه مقيم أنه يتم، فهذا قد ثبت تبعاً للمسألة السابقة؛ ولاتباع صورة صلاة الإمام تماماً، لكن هنا لم يثبت له ذلك فيبقى على الأصل من كونه يشرع له أو يفرض أن يصلي قصراً.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أو نوى إقامته أكثر من أربعة أيام)
هذا في سياق من يجب عليه الإتمام، فإن هذه المسألة عطف على ما قبلها من المسائل.
فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أي صلاة إحدى وعشرين صلاة فإنه يتم، وإذا نوى أكثر من ذلك أتم الصلاة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة – في رواية لمسلم " إلى الحج " – فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة) .(7/181)
قالوا: والثابت عنه في سياق حجته أنه دخل مكة في صبيحة اليوم الرابع وأنه خرج منها إلى منى في ضحى اليوم الثامن فهذه أربعة أيام.
قالوا: فعلى ذلك يقصر إن أقام أربعة أيام فإن زاد أتم.
قال المالكية والشافعية: إذا قام ثلاثة أيام فأقل قصر فإن أقام أكثر من ثلاثة أيام فإنه يتم.
واستدلوا: بهذا الحديث أيضاً ولم يحسبوا يومي الدخول والخروج لما في حسبهما من المشقة، فإن الاعتبار إنما يكون باليوم التام في حق المسافر، وأما بعض اليوم فإن فيه مشقة.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث: العلاء الحضرمي - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً: أي ثلاثة أيام) .
قالوا: فهذا الحديث فيه أن الثلاثة أيام هي الإقامة.
- وذهب إسحاق بن راهويه: إلى أنها تسعة عشر يوماً.
واستدل: بما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) قال ابن عباس: (فنحن إذا أقمنا تسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا) .
والمقصود من كونه يتم من أول مكثه وإقامته.
ورد جمهور الفقهاء على هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعزم الإقامة بل كان عليه الصلاة والسلام ينوي الخروج غداً أو بعد حتى خرجت هذه المدة فكانت اتفاقاً، ونحن وأنتم نقول: إن من مكث في بلدة ما ولم يعزم إقامة فإنه يقصر أبداً – كما سيأتي -.
ورُدَّ هذا: بأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه أقام تسعة عشر يوماً بنية، ويؤيده القرائن:(7/182)
() إن ذلك كان في فتح مكة كما في رواية لأبي داود: (وذلك في عام الفتح) فأقام فيها تلك المدة، ويبعد أن يكتفي بمدة أقل منها إذ مكة كانت محل أهل الشرك، وكان العرب يقتدون بهم في سلمهم وكفرهم حتى لما آمنوا وأسلموا، دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي مكة التي كان فيها صناديد الكفار فيبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى إقامة يوم أو يومين أو ثلاثة.
() والقرينة الأخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يبعد أن يضعف في التقدير هذا الضعف من تسعة عشر يوماً إلى أربعة أو ثلاثة أيام فيقدر ثلاثة أيام أو أربعة، فتصل المدة إلى تسعة عشر يوماً.
- وذهب أهل الظاهر: إلى أنها عشرين يوماً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) لكن الحديث قد اختلف فيه علي: (يحيى بن أبي كثير) فرواه معمر عن يحيى موصولاً، ورواه الثقات عنه مرسلاً وهو الراجح كما رجح ذلك الدارقطني وغيره فهو مرسل، والمرسل ضعيف.
واعلم أن جمهور الفقهاء إنما حددوا مدة للإقامة والسفر – كما نبه على ذلك غير واحد – بناءً على أن الأصل في الإقامة هي ترك النقلة، فمتى ترك التنقل فأقام فهو مقيم وليس بمسافر، وإنما السفر هو التنقل.
قالوا: ولو لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر في حال مكثه لقلنا إنه في حال المكث لا يقصر كما هو مذهب الحسن البصري وهو مروي عن عائشة أو نحوه.
لكنه قصر عليه الصلاة والسلام فرأينا أن أكثر مدة لقصره هي كذا. فالقائلون أنها أربعة أيام قالوا: هي أكثر مدة قصر فيها وتأولوا الأحاديث الأخر – وكذلك الباقين.
لكن هذا المنطلق فيه ضعف فيما يظهر. ومحل ضعفه أن يقال: إن ما ذكرتموه من أن السفر ينقطع بالإقامة والمكث وترك النقلة قد عارضه الأحاديث الثابتة وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر يوماً أو يومين أو ثلاثة باتفاقنا.(7/183)
يقصر في حال كونه ماكثاً تاركاً للنقلة، يدل على أن ترك النقلة ليست منافياً للسفر، فإنه وإن ترك النقلة فيبقى مسافراً بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قصر وهو تارك للنقلة.
فدل على أن مجرد المكث وترك النقلة أثناء السفر لا ينافي السفر، ولا يخرج المسافر عن السفر إلى الإقامة بل يبقى مسافراً، وإن ترك التنقل ومكث ما لم ينو إقامة يثبت بها حكم الإقامة.
- ولذا ذهب شيخ الإسلام وهو مذهب طائفة من أهل العلم إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، وذلك لأن الشرع لم يثبت فيه تحديد لهذه المسألة واللغة أيضاً.
بخلاف المسألة السابقة فإنا نرى أن اللغة قد حددت السفر بأنه من حيث الانتقال من بلدة إلى أخرى.
أما كونه من حيث المدة يكون مسافراً أو مقيماً فليس للغة بحث في هذا، فيبقى العرف - كما هو اختيار شيخ الإسلام - ولو بقى شهوراً. هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه، وهو مروي عن مسروق من التابعين، وهو قول قوى، وهو أظهر الأقوال السابقة لأن اللغة العربية والشرع لم يثبت فيهما تحديد للمدة التي يثبت بها كون الإنسان مسافراً أو مقيماً فوجب الرجوع إلى العرف كما هو مقرر في أصول الفقه.
وقد ثبت في سنن البيهقي يإسناد صحيح وأن ابن عمر: (أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) .
ولا يصح أن يقال: أنه لم يعزم تلك المدة، فإن مثل هذه المدة قد حبسه بها الثلج، فيستبعد أن يكون قد ظن أن يذهب بيومين أو ثلاثة أو أربعة فذلك في الغالب في أول الشتاء، لكونه قد استمر هذه المدة وهي ستة أشهر. فيبعد أن يظن ذهابه في مدة يسيره.(7/184)
ثم إنه – - رضي الله عنه - – لما سئل عن القصر في ذي المجاز – كما في المسند بإسناد حسن – وهو سوق يجتمع فيه ويباع فيه ويمكث فيه عشرين يوماً أو خمسة عشر يوماً؟ فقال: " يقصر الصلاة به " وقال: " إني كنت بأذربيجان فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يصلي ركعتين ركعتين ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فهنا استدل بفعل أصحابه بأذربيجان وأنهم قد مكثوا شهرين أو أربعة أشهر – كما في مسند أحمد، وفي الرواية المتقدمة (ستة أشهر) ، فاستدل بهذا على القصر عشرين أو خمسة عشر يوماً، فدل على أنه لم يكن ينو المكث المدة التي تقدم ذكرها عند جمهور الفقهاء.
ويدل على أنه استنبط ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفيه أنه رأى ذلك سفراً، وأن إقامته بأذربيجان شهرين أو أربعة كما في رواية أحمد، وفي رواية البيهقي " ستة أشهر ": أن ذلك سفر، وإن مكثهم بذي المجاز عشرين أو خمسة عشر يوماً سفر وأن في القصر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقوله يخالف قول ابن عباس،
ومأخذ ابن عباس تقدم لكم وما فيه من النظر، فهو مخالف بقول ابن عمر، وهذا القول أظهر وأن مرجع ذلك إلى العرف والله أعلم.
قال: (أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم)
ملاح في السفينة أو سائق أجرة – كما في هذه الأزمنة - أو في الأزمنة القديمة: الساعي أو البريد ونحو ذلك.
فمن كان معه أهله وهو ملاح ولا ينوى الإقامة ببلد فيلزمه أن يتم – وقد تقدم التنبيه على هذه المسألة –.
قالوا: هو وإن كان مسافراً لكن سفره دائم لا ينقطع فلم يترخص برخص السفر؛ لأن سفره دائم لا ينقطع.
وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن أحمد واختارها الموفق: إلى أنه يثبت له القصر وغيره من رخص السفر.(7/185)
وكونه ذا سفر لا ينقطع لا يعني ذلك ألا يكون له حكم المسافرين؛ لدخوله في عمومات النصوص، بل هو أشق – كما قال ذلك الموفق -.
فالراجح: أن من كان سفره دائم لا ينقطع كسائق سفينة ونحوه أنه يقصر لكونه مسافر، ولأن ما كان منه لا يعتبر إقامة بل سفراً، وكون سفره الغالب فيه أنه لا ينقطع هذا لا يؤثر في الحكم، فإنه مسافر داخل في عموم المسافرين بل هو أشق منهم فكان أحق بالرخصة المتقدمة.
* ومن كان له أهل أو مال في بلد من البلاد وإن لم يتخذها دار إقامة:
- فالمشهور عند الحنابلة: أنه يتم فيها سواء كان له أهل فقط أو مال فقط، فمن كان له بستان في بلدة أو ماشية فإنه يتم.
واستدلوا: بما رواه أحمد من حديث عثمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم) .
وبما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: (فإذا قدمت إلى بلد لك فيها أهل أو ماشية فأتم) رواه الشافعي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
- ذهب الشافعية وهو مذهب ابن المنذر: إلى أن من كان كذلك فإنه يقصر؛ لأنه في حكم المسافرين ما لم ينو الإقامة، فما دام لم ينو الإقامة ولم يتأهل فيها تأهلاً تاماً فإنه مسافر وإن كان له فيها أهل أو مال.
قالوا: وأما الحديث الذي ذكرتموه، فإسناده ضعيف منقطع.
وأما أثر ابن عباس: فإنه مخالف، فإن الصحابة كان لهم أموال في مكة وكانوا يقصرون فيها وأنكروا على عثمان القصر [لعلها: الإتمام] ، وتقدم أثر ابن عمر في قصره في خيبر وكان له أرض فيها.
فهي آثار تخالف ما روى عن ابن عباس، فهو رأي له قد خولف فيه فلم يحتج به.
فالراجح مذهب أهل القول الثاني: أن من كان له أهل أو مال في بلدة فذهب إليها ولم ينو إقامة فإنه يقصر لأنه مسافر.(7/186)
أما إذا تأهل فيها تأهلاً تاماً فأقام فيها الإقامة التي ينتفي بها حكم السفر فإنه يكون في حكم المقيمين ولا مانع أن يكون له بلدتان فأكثر متى ما ثبتت الإقامة.
فإذا كان له في هذه البلدة أشهر يمكث فيها وفي البلدة الأخرى بقية السنة فإنه يعتبر مقيماً في البلدتين؛ لأنه قد تأهل تأهلاً تاماً واتخذ كلاً منهما سكنى له فكان له حكم المقيمين لا المسافرين.
قال: (وإن كان له طريقان فسلك أبعد هما)
وكان أقصرهما لا يثبت به حكم السفر، فسلك أبعد هما فإنه يثبت له حكم المسافرين، وإن كان لو سلك أقصرهما لم يثبت له ذلك.
قالوا: لأن سلوكه الأبعد فيه ترك لما كان سلوكه أولى، ولا يكون ذلك إلا لأن سلوك ذلك مظنة خوف أو مشقة، فهذا طريق شاق أو فيه مخاوف فتركه وسلك الطريق الآخر غيره، فكان الطريق الأبعد هو الطريق الأصلي لهذه البلدة لأنه آمن وسالم من المتاعب.
- وقال بعض الحنابلة: يستثنى من ذلك ما ذكرتموه فيما إذا كان ذلك مظنة الخوف أو المشقة.
أما إذا لم يكن ذلك فلا. وهذا أظهر؛ لأنا إذا قلنا بخلاف ذلك فإنه يقتضي أن يكون اثنان قد أتيا من بلد واحدة وأحدهما له حكم السفر والآخر لا، مع أن [من] له حكم السفر قد اتخذ طريقاً خلاف الأولى، فمثل هذا ضعيف في النظر.
أما إذا كان الطريق الآخر فيه مخاوف ومشاق فإنه يكون الطريق الأصلي للبلدة هو هذا الطريق الآمن السالم من المتاعب.
فحينئذ يثبت في سلوكه السفر وإن كان غيره أقرب منه لمشقة سلوكه وللمخاوف فيه.
فالراجح: أنه إذا كان هناك معنى لسلوك الأبعد لكون الأقرب فيه مخاوف أو مشاق فسلك الأبعد فإنه يقصر الصلاة.
قال: (أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر)
رجل مسافر فذكر أنه ترك صلاة في سفر آخر فإنه يصليها قصراً؛ لأنه قد فعلها في السفر وقد وجبت في السفر فلا معنى لقضائها تماماً.
ثم إن القاعدة السابقة " القضاء يحكي الأداء " تفيد هذا.(7/187)
لكن المذهب لا يقول بهذه القاعدة في المسألة السابقة فلم يستدل به على هذه المسألة لعدم التناقض.
أما على الراجح فإنه يستدل بها.
أما دليلهم هم فإنهم قالوا: إنها وجبت عليه فعلها في حال السفر فكانت صلاة سفر.
قال: (وإن حبس ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة، قصر أبداً)
رجل حبس ظلماً أو حبسه مطر أو ثلج ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة من الحوائج بلا نية إقامة، وظن أن إقامته أنها يكفيها أربعة أيام احتمالاً، فيحتمل أنها تنتهي في أربعة أيام وقد تزيد فإنه يقصر.
إذن: إذا أقام لقضاء حاجة فله حالان:
1- الأولى: أن يعلم أنه لا يقضي حاجته إلا بعد أربعة أيام فيحتاج للمكث في هذه البلدة أكثر من أربعة أيام، أو يظن أنه يحتاج أربعة أيام وإن كان ربما قضاها قبل ذلك، فإنه حينئذ يجب عليه الإتمام.
2- الثاني: أن يظن أنها تحتاج أربعة أيام، أو يعلم ذلك فإنه يقصر، ولو أقام أبداً. وهذا مذهب جماهير العلماء وحكاه الترمذي وابن المنذر إجماعاً.
إلا أن الأصح عند الشافعية خلاف ذلك، وحدوده في الأصح عندهم بثمانية عشر يوماً، وهو خلاف مذهب عامة أهل العلم.
والراجح مذهب جماهير العلماء؛ لأنه لم ينو إقامة فلا يكون في حكم المقيمين.
واستدلوا: بأثر ابن عمر، لكن تقدم أنه لا يستدل به عليها.
لكن دليلها ما تقدم وأنه مسافر وليس مقيم؛ لأنه لم ينو إقامة فلم يكن مقيماً، فلو بقى ما بقى فإنه في حكم المسافر، وحكاه ابن المنذر والترمذي إجماعاً.
فإن ثبت أن الشافعي خالف في هذه المسألة، فإن الإجماع منقوض.
ومع أن المسألة تحتاج إلى بحث عن كلام الشافعي لكني استبعد ذلك على الشافعي مع أن ابن المنذر من أعلم الناس بمذهبه ومع ذلك حكى الإجماع في هذه المسألة.
فالظن أن هذا مذهبٌ لأصحابه، وذلك لا ينقض الإجماع.
والحمد لله رب العالمين.
فصل(7/188)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما في سفر قصر) .
هذا فصل في الكلام في الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وهما الظهران، والمغرب والعشاء وهما العشاءان من باب التغليب.
وقد أجمع العلماء على أن الجمع لا يشرع بين غيرهما من الصلوات، فلا جمع بين عصر ومغرب، ولا عشاء وصبح، ولا صبح وظهر، فهذا بالإجماع لا يصح فيه الجمع.
فيجوز الجمع في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً، فتقديماً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء في وقت المغرب، وتأخيراً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، أو المغرب والعشاء في وقت العشاء.
(في سفر قصر) : فيجوز الجمع بين الصلوات في السفر الذي يصح فيه القصر وقد تقدم الكلام عليه.
دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب) قال في البلوغ: " وفي رواية الحاكم في الأربعين بالإسناد الصحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) ".
وروى الإسماعيلي نحوه – كما في الفتح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا كان في سفر فارتحل بعد أن زالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) فهذا الحديث يدل على ثبوت الجمع في السفر.
وثبت في مسلم عن معاذ بن جبل قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) .
وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وصححه من حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت العصر، وإذا ارتحل بعد أن زاغت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت الظهر، وهكذا المغرب والعشاء) .(7/189)
فهذه أحاديث تدل على ثبوت الجمع في السفر، وهي حجة على من أنكر ذلك من الأحناف في تخصيصهم الجمع بعرفة ومزدلفة.
قالوا: لأن الأحاديث في المواقيت متواترة فلا تخصص بذلك.
لكن صحتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبوتها يخصص به المتواتر كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
بل الأحاديث متواترة في أصل الجمع في السفر أو مستفيضة في ذلك، وحينئذ قوله: (يجوز) ، ظاهره أن ذلك مباح وليس بمستحب.
وهو المشهور في المذهب قالوا: وتركه أفضل.
وعن الإمام أحمد: أن الجمع في السفر أفضل، وهذا القول أرجح في موضع، والأول أرجح في موضع آخر.
أما كون الثاني أرجح، فهو في موضع الارتحال حيث جد به السير.
فالمستحب له الجمع لثبوت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ومداومته على هذا الفعل تدل على أنه هو المستحب.
وأما إذا كان نازلاً فإن المشهور من فعله – - صلى الله عليه وسلم - – أنه كان يصلي الصلاة في وقتها كما صح ذلك في حجته في صلاته في منى، فإنه كان نازلاً في منى وكان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع ولم يصح عنه أنه جمع في نزوله إلا ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح – وهو دليل الجواز – عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أخر الصلاة في غزوة تبوك يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً) .
لكن الذي كان يداوم عليه – - صلى الله عليه وسلم - – هو الجمع حيث جد به السير، فإن نزل فإنه كان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع إلا في أحوال نادرة كما تقدم في حديث معاذ الدال على جواز الجمع في حال النزول.
قال: (والمريض يلحقه بتركه مشقة)(7/190)
فالمريض يجوز له الجمع إن كان في صلاته الصلوات في وقتها مشقة عليه، لأن الشريعة قد أتت بنفي الحرج، وقد قال ابن عباس – كما في الصحيحين – (جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر) وفي مسلم (بالمدينة من غير خوف ولا مطر فسئل عن ذلك فقال: أراد ألا يحرج أمته) .
فدل أنه حيث وقع الحرج فإنه يجوز له أن يجمع.
وقد وردت السنة بالجمع للمستاحضة كما ثبت هذا في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي، قال الإمام أحمد: " ومثل ذلك المرضع التي يشق عليها أن تغسل ثوبها لكل صلاة " أي من نجاسة الطفل فيجوز لها الجمع للحرج، وهذا واضح في مثل الشتاء حيث يشق ذلك عليها.
ومثل ذلك: حيث خاف على نفسه أو أهله أو ماله – كما تقدم – في العذر في ترك صلاة الجماعة.
وهذا هو المشهور في المذهب – أي الجمع للمريض – ونص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
قال: (وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو وحل)
فإذا كان المطر يبل الثياب وحينئذ تحصل المشقة، فلا تحصل المشقة في المطر القليل أو الطل الذي لا يثبت بمثله أذى.
أما الذي يبل الثياب وهو الذي يثبت بمثله الأذى فإنه يجوز الجمع فيه بين العشاءين.
واستدلوا: بما في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم) ، وثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عمر بن عبد العزيز: (أنه كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر) ، وأن سعيد بن المسيب وعروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معه ولا ينكرون ذلك قالوا: فكان ذلك إجماعاً.
وظاهر قوله: (بين العشاءين) أنه لا يجمع بين الظهر والعصر في المطر – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.(7/191)
قالوا: لعددم وروده كما ورد هذا في المغرب والعشاء؛ ولأنه لا يقاس مطر النهار على مطر الليل، لأن المطر في الليل يكون في الظلمة فتكون المشقة أعظم، كما أنه مظنة للبرد ونحوها فكانت المشقة فيه أظهر فلا يقاس هذا على هذا لوجود الفارق.
- وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب الشافعية: إلى جواز الجمع – في المطر – بين الظهر والعصر.
قالوا: لقول ابن عباس: (من غير خوف ولا مطر) فدل على أن المطر عذر يجمع له، وقال: (أراد ألا يحرج أمته) فالعلة والمناط إنما هو الحرج، والحرج ثابت بالمطر في النهار كما هو ثابت بالمطر في الليل.
وكون المطر في الليل أشق من المطر في النهار لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في المطر في النهار، والحكم إنما علق بالمشقة فمتى ثبتت المشقة فإنه يثبت الحكم، وإن كان هناك ما هو أشق، فكون مطر الليل أشق للظلمة ونحوها لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في النهار فالحكم إنما يعلق لوجود الحرج والمشقة فمتى ثبت ذلك جاز.
وقد تقدم أثر ابن عباس في حديث (ألا صلوا في رحالكم) في البرد الشديد فلا فرق فيه بين الليل والنهار. فالراجح مذهب الشافعية وهو اختيار أبي الخطاب.
ومثل ذلك: الوحل لذا قال هنا: (ووَحل) والوحل أشق من المطر الذي يبل الثياب فكانت الرخصة فيه أولى، وقد تقدم في أثر ابن عباس في قوله: (وكرهت أن أخرجكم في الطين والدحض) .
فهذا يدل على أن متى ثبت ذلك فهذا عذر في الجمعة في حضورها جماعة ومثلها سائر الصلوات، وكذلك في الجمع لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس: (لئلا يحرج أمته) والخروج في حال الوحل والطين الزلق فيه حرج ومشقة.
قال: (وريح شديدة باردة)
كذلك إذا كانت الريح شديدة باردة يقع الحرج في أن يصلي الناس الصلوات في وقتها فيجوز الجمع – هذا هو المشهور في المذهب –.(7/192)
والأدلة ظاهرة فيه لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس – كما تقدم -: (لئلا يحرج أمته) وهذا من جنس العذر في المطر والدحض ونحو ذلك.
والظاهر كما تقدم – أن يقيَّد هذا بألا يكون مما ألفته تلك البلاد، لأن الجمع فيما يكون مألوفاً يؤدي ذلك إلى التفريط في حضور الجماعات – في صلاة الصلوات في وقتها –.
فالمراد ما يقع به الحرج وذلك إنما يكون متى لم يؤلف، وأما من وقع عليه الحرج فلا بأس أن يصلي في بيته لوقوع الحرج عليه.
إذن: الريح الباردة الشديدة التي لم تجر العادة لأهل تلك البلدة بمثلها وخروجهم مع وجودها يُلحقهم حرجاً ومشقة، يجوز لهم أن يجمعوا بين الصلوات فيها.
قال: (ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقُهُ تحت ساباط)
الساباط: هو ما كان يوضع في الدور في السابق – على السقف، فيوضع على الدور بحيث تكون الطرق مظللة ويكون مظللاً عن المطر نحوه.
فلو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط فيجوز له الجمع.
قالوا: لأن الرخص العامة كالسفر وبيع السلم تثبت وإن انتفت المشقة أو الحرج عن شخص ما، فإن الحكم يثبت له حيث ثبت له غيره.
وهذا ظاهر في الشريعة فقد أباحت القصر في السفر، والأصل في ذلك المشقة ولو انتفت المشقة عن بعض المسافرين فإن الحكم يبقى حقاً لهم، ومثله بيع السلم فإنه إنما استثنى من البيع المحرم – لحاجة الناس إليه – ودخل في ذلك الأغنياء وغيرهم ممن ليس لهم حاجة إلى تعاطي هذه الصورة من البيع.
فمتى كانت الرخصة عامة فإن حكمها يثبت مطلقاً حتى للشخص الذي لا تقع فيه العلة التي هي باعث الحكم الشرعي، وهذا ظاهر.
قال بعض الحنابلة: لا يثبت له هذا الحكم؛ لأن الحكم علق بالمشقة والمشقة منتفية عنه فليس له أن يترخص بذلك.(7/193)
والأظهر القول الأول؛ لما تقدم من أن الرخص العامة إذا ثبتت في حق عموم المكلفين فإنها تشمل كل مكلف وإن كان في شخصه قد انتفت منه العلة التي من أجلها شرع الحكم، كما في السلم والسفر ونحوه، وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم.
قال: (والأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير)
فالأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير، وهو اختيار شيخ الإسلام.
وهو ظاهر فإن الجمع إنما شرع لنفي الحرج، وفي كونه يفعل الأرفق به تمام لرفع الحرج.
وكوننا نحدد له شيئاً من الاثنين فإن في ذلك ما ينافي تمام توسع الأمر ورفع الحرج فيه، فكان الأولى أن يقال: افعل الأرفق بك؛ لأن الحكم شرع لرفع الحرج عنه، فمتى كان الحرج رفعه أتم وأظهر فإن هذا الأفضل في حقه.
وهذا ما دلت عليه السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس استمر حتى يأتي وقت الصلاة الثانية ثم ينزل فيصلي الظهر والعصر تأخيراً) ؛ لأن للمكلف أن ينزل في الصلاة الأخرى، كما إنه إذا أراد أن يسافر وقد زاغت الشمس فإن الأرفق فيه أن يصلي الصلاتين ثم يرتحل وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل.
مسألة:
اختار شيخ الإسلام وهو مذهب ابن سيرين وابن المنذر: أن الجمع جائز مطلقاً عند الحاجة إليه من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة. فمتى احتاج إليه ولو كان ذلك لمصلحة دينية كاجتماع ناس لخطبة أو لأمر ما جاز ذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة.(7/194)
ودليله حديث ابن عباس: فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر) وقال ابن عباس: (أراد ألا يحرج أمته) وهكذا كان فعله - رضي الله عنه - – فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: (خطبنا ابن عباس بالبصرة بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقيل: الصلاة الصلاة فقال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء) قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فسألت أبا هريرة فصدَّق مقالته.
وقد فعل هذا ابن عباس لمصلحة اجتماع الناس وتفرقهم وكان يخشى أن يتفرقوا عن سماع الحق الذي يريد أن يبينه، وهي مصلحة شرعية، ولعلها فيما كان يدور في الأمة من الخلاف بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فإن قيل: فلعله جمع صوري؟
فالجواب: هذا ضعيف من أوجه:
منها: أن عبد الله بن شقيق لا يمكن أن يخفى عليه جواز الجمع الصور والمراد به: أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يجلس حتى إذا دخل وقت الأخرى قام فصلاها، هذا جاز بإجماع المسلمين وهو واضح لعامة الناس فضلاً عن علمائهم فيبعد أن يحيك هذا في صدر مثل عبد الله بن شقيق وهو من علماء المسلمين فدل على أنه ليس المراد من ذلك الجمع الصوري.
وكذلك ابن عباس: ما كان يحتاج تبيين ذلك والناس يعلمون أنه يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة – أي المغرب – وإن بدت النجوم ما لم يغب الشفق.
ويدل عليه ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح: " أنه ذكر أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الأولى " أي الظهر " والعصر ثمان سجدات " أي ركعات " ليس بينهما شيء " أي ليس بينهما انتظار، فليس جمعاً صوري.
فإن قيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مريضاً كما قال ذلك بعض أهل العلم والمرض عذر، فإنه نفى الخوف والمطر والسفر فبقى المرض؟(7/195)
فالجواب: أن هذا ضعيف؛ لأن المرض عذر للشخص نفسه، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، والعذر حيث كان كذلك إنما يكون مختصاً بالشخص نفسه.
إذن: ما ذهب إليه أهل هذا القول راجح لكن لا يتساهل بهذه المسألة، فقد ثبت عند سفيان الثوري في جامعه وقد ذكره شيخ الإسلام – والأثر صحيح – عن عمر قال: (الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر) ورواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح مرفوعاً بل هو موقوف على عمر.
قال: (فإن جمع في وقت الأولى اشتراط نية الجمع عند إحرامها ولا يفرِّق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما، وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى)
هذه شروط ثلاثة لمن أراد أن يجمع جمع تقديم:
نية الجمع عند إحرامها – أي الأولى –.
الموالاة.
أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى والثانية وسلام الأولى.
فالشرط الأول: (اشتراط نية الجمع عند إحرامها) :
فيجب إذا كبر للأولى أن ينوي الجمع، فلو لم يفعل، كأن ينزل المطر مثلاً وهو يصلي المغرب فلا يصح الجمع؛ لأنه يشترط أن يكون قد نوى الجمع عند افتتاح الأولى وهو لم ينوه.
وذهب الحنابلة في الوجه الثاني عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن نية الجمع ليست بشرط، وأن هذا القول لا دليل عليه – كما قال شيخ الإسلام – ومثل هذا ينبغي أن يشتهر عنه حيث كان شرطاً، وترك البيان عند الحاجة إليه لا يجوز وهو ممتنع في الشريعة، فيمتنع أن تكون النية للجمع شرطاً ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته فلا ينقل ذلك عنه لا بإسناد صحيح ولا حسن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه.
وهذا القول هو الراجح – وأن نية الجمع ليست بشرط لأنه لا دليل على ذلك – فهذا الشرط غير صحيح.
الثاني: (ولا يفرق بينهما)(7/196)
فالموالاة واجبة قالوا: لأن لفظ الجمع يقتضي الموالاة وعدم المفارقة، والاتصال، فوجب أن تكون الصلاتان متصلتين ببعضهما وهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلواته التي جمع فيها.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك ليس بشرط، وهو اختيار شيخ الإسلام،وهو القول الراجح.
لأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الموالاة لا يقتضي الإيجاب.
وأما كونهما يثبت فيهما الجمع، فإن الجمع لا يقتضي إلا الجمع بينهما في الوقت نفسه، فالمراد من قولنا: جمع أن كليهما صليا في وقت إحداهما، وهذا هو الجمع المقصود من صلاة الصلاتين في وقت إحداهما.
وأما كونهما يتصلان أو يفترقان فإن هذا لا يقتضيه لفظ الجمع.
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الاستحباب ولا معنى يقتضي إيجاب ذلك. وهذا القول الراجح وأنه ليس بشرط.
وعلى المذهب: إذا حدث بينهما فارق: فإما أن يكون يسيراً عرفاً أو كثيراً عرفاً.
فإن كان يسيراً عرفاً لم يضر، ومثّل له بإقامة ووضوء خفيف. وإن كان كثيراً ضر، ومثّل له بصلاة راتبة بينهما.
فإذن: الفارق مرجعه إلى العرف فإن كان كثيراً فإنه يضر ولا يصح الجمع، بل ينتظر ويصلي الصلاة في وقتها.
أما الشرط الثالث فقال: (وأن يكون العذر موجوداً) العذر كالمطر ونحوه (عند افتتاحهما) أي الأولى والثانية (وسلام الأولى) :
ونازع في قوله: (وسلام الأولى) ابن عقيل من الحنابلة وقال: " هذا لا أثر له "، وهذا هو الظاهر.
فإنه لا أثر له فكون المطر يستمر نازلاً عند افتتاح الأولى فهذا لنية الجمع كما تقدم، وعند افتتاح الثانية فهذا لإثبات العذر في إجازة الجمع.
أما قضية سلام الأولى فإن هذا غير مؤثر وهو كما قال.(7/197)
ويقول: كذلك افتتاح الأولى، فإنه إنما اشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى لاشتراط نية الجمع، وتقدم أن نية الجمع ليست بشرط وعليه فلا يشترط ذلك، فلو لم ينزل المطر إلا بعد سلامهم من المغرب – مثلاً – فإنه يجوز لهم الجمع خلافاً للمشهور من المذهب، لأن اشتراط العذر في الصلاة الأولى هذا لا أثر له، فالصلاة الأولى إنما صليت في وقتها والعذر إنما هو للصلاة الثانية لتضم إلى الصلاة الأولى لوجود العذر، ولا أثر للصلاة الأولى مطلقاً لا في افتتاحها ولا سلامها.
قال: (وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى)
هذه شروط جمع التأخير.
قال: (اشتراط نية الجمع في وقت الأولى) هذا شرط صحيح ظاهر؛ لأنه إن لم ينو الجمع في وقت الأولى، فإن ذلك يكون من باب القضاء.
رجل في سفر فدخل عليه وقت صلاة الظهر حتى خرج وقتها ولم ينو الجمع فدخل وقت الثانية فإن هذا لا يكون من باب الجمع لأن هذا التأخير منه لغير نية الجمع وحينئذ يكون ذلك من باب القضاء لا الأداء، فإنه مفرط في إخراج الصلاة عن وقتها من غير أن ينوي الجمع تأخيراً شرعياً؛ لأن الواجب عليه أن يصلي الصلاة في وقتها، وحيث صلاها خارج وقتها فهذا من باب القضاء وليس له عذر في أن يؤخرها عن وقتها إلا إذا كان ناوياً الجمع، فإن نوى جاز له ذلك.
قال: (إن لم يضق عن فعلها)
لأنه إذا أخرها ولم ينو الجمع حتى ضاق وقتها عنها فإنه قد فعل أمراً محرماً، وقد تقدم البحث في هذه المسألة.
قال: (واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية)
هذا هو الشرط الثاني: وهو استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.(7/198)
فمثلاً: أذن الظهر وهو في سفر، وأرد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر في وقت العصر لكنه قدم إلى البلد وقد بقي وقت لأذان العصر، فما زالت في وقت الظهر، فلا يجوز أن ينتظر فيؤخر صلاة الظهر فيؤخرها مع العصر؛ ذلك لأن العذر قد زال بزوال المقتضي، وزوال السبب يمنع من الجمع.
وكذلك من زال مرضه: فمثلاً مريض أراد أن يؤخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء فزال مرضه أثناء وقت المغرب فإنه لا يجوز له الجمع لزوال عذره، وهو السبب المقتضي للجمع.
إذن: عندنا شرطان في جواز جمع التأخير:
أن ينوي الجمع في أثناء وقت الأولى.
ألا يزول العذر إلا وقد خرج وقت الأولى.
وقد قال عمر: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) .
قال في الأنصاف: " بلا نزاع بين أهل العلم "، فلا نزاع في هذه المسألة.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
في الكلام على صلاة الخوف حكماً وصفة ومسائل.
والمراد بصلاة الخوف: هي الصلاة المكتوبة عند الخوف وليس المراد بها أنها يشرع عند الخوف كصلاة الاستسقاء تشرع عند طلب السقيا. وإنما المراد الصلاة المكتوبة كيف تصلي عند الخوف.
واعلم أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الثابت في القرآن في باب صلاة الخوف إنما كان في الخوف من الكفار عند القتال وقاس عليه أهل العلم: كل خوف جائز كالخوف من ظالم أو سبع أو سيل أو نحو ذلك.
ولو كان الخوف في قتال ليس مع الكفار كقتال أهل بدعة أو بغي ونحو ذلك فإن هذا حيث ثبت الخوف فيه تشرع عنده صلاة الخوف.(7/199)
أما إن كان القتال قتالاً محرماً فإنه لا يرخص له، وحكاه النووي إجماعاً، كالخارج على إمام أو المعتدي على المسلمين أو نحو ذلك وهو ظاهر، وليس كالمسألة السابقة، فإن هنا إعانة ظاهرة، فإن كونه يصلي الصلاة على راحلته كصلاة الخائف – كما سيأتي تفصيله على مراتبها - فإن في ذلك إعانة له على هربه أو تقوية له، وفي هذا ما ينافي مقصود الشارع من إضعافه فلم يرخص له في ذلك.
إذن: القياس يكون حيث ثبت الخوف في أمر مشروع كالقتال في سبيل الله أو في أمر مباح كالهرب من سيل أو سبع أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (صلاة الخوف صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات كلها جائزة)
فهي ثابتة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها.
وهو أيضاً – أي أصل صلاة الخوف – ثابت في القرآن في قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآية فإنها في صلاة الخوف وكذلك قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} فهي أيضاً في صلاة الخوف.
وليس هذا مختصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لمن زعم ذلك في قوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ….} لأن ما كان ثابتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت لأمته إلا أن يدل دليل على التخصيص.
ولفعل الصحابة بعده كما صح ذلك عن طائفة منهم، وهو مذهب عامة العلماء.
وقد صحت صلاة الخوف بصفات عدة، ذكر الإمام أحمد أنها ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أوجه أو سبعة أوجه كلها ثابتة جائزة، قال الإمام أحمد: (فمن ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره " وسيأتي ذكره وصفة الصلاة فيه.(7/200)
ومقتضى كلام الإمام أحمد – كما قال ذلك الموفق وصاحب الفروع – خلافاً للمشهور عند الحنابلة – مقتضى كلامه: صحة صلاة الخوف ركعة؛ لأنها من الأوجه الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في قول ابن عباس ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وصلاة الخوف ركعة) رواه مسلم.
وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا) .
وهذا في الحضر والسفر، ومقتضى كلام الإمام أحمد جواز [ذلك] حضراً وسفراً سواء كان ذلك من الإمام والمأمومين، أو من المأمومين فقط، وهو قول ابن عباس وإسحاق وطائفة من التابعين لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما عامة أهل العلم فإنهم لم يجيزوا ذلك ورأوا أن صلاة الخوف تبع لصلاة الحضر وصلاة السفر، فصلاة الخوف تصلى في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.
وهذا ظاهرٌ إلا ما استثنى في حديث ابن عباس المتقدم.
إذن: جماهير العلماء يرون أن الخوف لا أثر له في عدد الركعات لكن الخوف قد أثَّر في هيئتها، فأصبحت في هيئة يُؤمن على المسلم فيها، فهي هيئة مأمونة.
وقولهم أصح، وأما حديث ابن عباس فيحمل على شدة الخوف حيث كان الخوف شديداً يقتضي أن تتأثر الركعات فحينئذ يجوز ذلك.
فالأظهر: أنه لا يجوز التصرف بركعاتها حضراً ولا سفراً وأما التصرف في الهيئات فهو الوارد إلا أن يكون الخوف شديداً - لا يبلغ أن يصلي راكباً أو قائماً كما سيأتي – لكنه يحتاج المسلم فيه إلى أن يختصر الركعات فيصليها ركعة كأن تقام قبل التقاء الصفوف ويكون في صلاتها أربع ركعات أو ركعتين أو ثلاثاً فيه مشقة فحينئذ يصلونها ركعة.
ومما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} و" أل " هنا في الظاهر أنها العهدية أي إذا أقمت لهم الصلاة المعهودة وهي المكتوبة فحينئذ هي على ركعاتها المشهورة حضراً وسفراً.(7/201)
* واعلم أن أولى هذه الصفات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل هو ما اختاره الإمام أحمد؛ لأن هذه الصفة هي التي وافقها القرآن وهي الصفة التي تفعل في كل حال سواء كان العدو في تجاه القبلة أو ميمنتها وميسرتها أو معاكساً لها.
وصفتها:
أن يقسم الجيش طائفتين، ولا يشترط في هاتين الطائفتين التساوي لكن يشترط أن تكون كل طائفة فيها تثبت بها الكفاية في الوقوف أمام العدو لو حدث منه ميل إلى المسلمين، فيصلي بهم ركعة ثم يثبت قائماً فيتموا لأنفسهم ثم ينصرفون، فيقفوا وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم يثبت جالساً فيتموا لأنفسهم ثم يسلم بهم، فيكون لهؤلاء ميزة التسليمة وللآخرين ميزة التكبيرة.
ودليل ذلك: ما ثبت من حديث صالح بن خوات: عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع – وفي مسلم – عن سهل بن أبي حثمة.
لذا قال الإمام أحمد – كما تقدم – (وأما حديث سهل فأنا أختاره) –.
وهو عند البيهقي (عن صالح بن خوات عن أبيه) ولا مانع أن يكون رواه عن أبيه ورواه عن سهل بن أبي حثمة – عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: (أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة ثم جلس فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم) وهو أنكى للعدو وأحفظ للمسلمين، فإنها تفعل حيث كان العدو في أي جهة.
ومن الصفات: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر:
وصفتها: (أن تقوم طائفة مع الإمام وطائفة تبقى وجاه العدو، فيصلي بالطائفة التي قامت معه ركعة، ثم ينصرفون عن الإمام إلى مواقعهم ويتمون لأنفسهم لكنهم ينتظرون الآخرين في الإتمام ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم) .(7/202)
هذه صفة أخرى لكنها حيث كان الخوف أخف من الوضع المتقدم لأنهم يبقون يتمون جميعاً لكن معلوم أن الإتمام حيث كان منهم جميعاً لابد فيه من مفارقة، فهذا قائم وهذا جالس وهذا ساجد فيكون هناك نظر للعدو – وإن كانت هذه الصفة إنما تبقى أن يفعل حيث كان العدو وجاه القبلة وإلا فقد تحدث – حينئذ – غرة من الكفار لذا لا ينبغي أن يفعل إلا حيث كان العدو أمامهم وحيث كان الخوف أخف مما يحتاج فيه إلى الصورة المتقدمة.
وهناك صفة ثالثة: ثبتت في الصحيحين من حديث جابر، وصفتها: أن يصلي الإمام ويصلي الناس معه جميعاً ويقسمهم إلى صفين، فيركع ويركعون معه ويرفع ويرفعون معه ويسجد ويسجد الصف الأول معه فقط، ويبقى الصف الثاني قائماً، فإذا قام إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني ثم يقومون ويتأخر الصف الأول ويتقدم مَنْ في الصف الثاني ويفعلون كما فعلوا في الركعة الأولى، وهذا حيث كان العدو تجاه القبلة.
وهناك صفة أخرى: وهي ما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة ركعة وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا كما في حديث حذيفة وتقدم أن هذا حيث كان الخوف شديداً.
وهناك صفة أخرى ثبتت في النسائي من حديث جابر – وفي أبي داود من حديث أبي بكرة وهي صفة ظاهرة، وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم) .
وهذا لا إشكال فيه. ومن هنا يجوز لهم أن يقسموا أنفسهم إلى جماعات، فتصلي هذه الجماعة الآن والجماعة الأخرى في وقت آخر، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما تقدم لفضيلة إمامته – عليه الصلاة والسلام – وإلا فلو قسموا أنفسهم قسمين فصلت الطائفة الأولى ثم صلت بعدهم الطائفة الأخرى فذلك لا بأس به.
ولنقف عند الصفة المختارة التي اختارها الإمام أحمد رحمه الله.
مسائل:(7/203)
المسألة الأولى: إذا كان في الإقامة فأراد أن يصلي أربعاً أو في السفر وأراد أن يصلي المغرب فحينئذ هل يكون انتظار الإمام عند القيام أم عند التشهد.
قولان لأهل العلم في الأولى: وعليه: فإن أي الصفتين فعل فلا بأس.
فسواء قام وانتظرهم قائماً أم جلس فلا بأس لكن أيهما الأولى؟
الأظهر أن الأولى أن ينتظرهم وهو جالس؛ لأن الانتظار إنما فعل في حال القيام في الصورة المتقدمة للاحتياج إليه – حينئذ –، وإلا فإن فيه مشقة على الإمام في التطويل في القيام في انتظاره هؤلاء حتى يسلموا ثم هؤلاء حتى يأتوا.
وأما الجلوس فإنه لا مشقة عليه ما في انتظارهم فيه، وفيه مصلحة أخرى: وهي أن تدرك الطائفة الثانية أول شروعه في الركعة الثالثة.
المسألة الثانية: في الانتظار حيث كانت الصلاة ركعتين فقد تقدم أنه ينتظر في حال قيامه، فينتظر الطائفة الأولى حتى تسلم وتأتي الطائفة الأخرى، وفي حال جلوسه ينتظر الطائفة الثانية حتى تتم صلاتها فيسلم بها.
فهل يشرع بالتشهد ويشرع بالقراءة في حال انتظاره أو ينتظرهم حتى يأتوا فيشرع؟
قولان لأهل العلم:
أظهرهما أنه يشرع بمجرد قيامه؛ لأن هذا هو الأصل فيما يشرع، ولأن خلاف ذلك يتضمن سكوتاً وهو ليس بمشروع في الصلاة، فحينئذ بمجرد قيامه يشرع بالفاتحة لكنه يطيل القراءة حتى تأتي الطائفة الأخرى فيدركون معه الفاتحة.
لكن إن ركع قبل أن يقرؤوا الفاتحة فذلك جائز لكنه خلاف السنة.
قال: (ويستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدافع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه)
من غير أن يكون ذلك يثقله كدرع ونحوه.
واستدلوا بقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم}
قالوا: هذا يدل على مشروعية حمل السلاح أثناء الصلاة؛ ولأنه لا يؤمن أن يأتي الكفار على حين غرة من المسلمين فيتمكنون منهم.(7/204)
وما ذكروه من الدليل ظاهر في مشروعية ذلك لكنه واضح في الوجوب كما هو مذهب الشافعية والظاهرية ومال إليه الموفق: وأنه يجب ذلك لظاهر الآية الكريمة ولأن الله قال: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فنفى الحرج - نفاه - حيث كان المرض والأذى، فدل ذلك على ثبوت الجناح حيث لم يكن أذى ولا مطراً أو عذراً يقتضي ذلك.
وهذه الآية ظاهرة في وجوب ذلك كما هو اختيار الموفق ومذهب الشافعية والظاهرية وهذا القول هو الراجح.
والمعنى يقتضي ذلك أيضاً وهو حفظ المسلمين من إغارة العدو على حين إقبالهم على صلاتهم ولا سلاح معهم يتمكنون به الدفاع عن أنفسهم.
أما إذا كان الخوف شديداً لا يتمكن به المسلم أن يصلي على الصور المتقدمة فإنه يصلي على حاله راكباً وماشياً ومستقبل القبلة وغير مستقبلها وهو يقاتل العدو ويضرب بسيفه، فإنه يصلي على حاله حيث حضرت الصلاة.
ودليله قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال ابن عمر – كما في الصحيحين: (فإن كان خوف هو أشد من ذلك فرجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) وهذا من تخفيف الله لهذه الأمة.
وهنا مسائل – على هذه الصورة:
الأولى: وهي داخلة في هذه المسألة والمسائل قبلها – أنه إذا صلى صلاة الخوف على هذه الصورة وغيرها من الصور من غير خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل؛ لأن هذه الصلاة على هيئة لا تصح في حال الأمن لما فيها من مفارقة الإمام بلا عذر وترك متابعته، والصلاة مع العمل أو ترك استقبال القبلة سوى ما تقدم من صلاته ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة أخرى فإن هذه الصلاة صحيحة أمناً وخوفاً.
إذن: إذا صلى صلاة الخوف المفارقة لصلاة الأمن فصلاها ولا خوف أو لا خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل.
الثانية:(7/205)
فإن ظن شيئاً كأن يرى شيئاً فيظن أنهم الكفار قدموا عليهم وكأن تأتيهم مدد من المسلمين فيظنوهم الكفار – فيصلون صلاة الخوف بناء على أن هذا شيء يقتضي صلاة الخوف فتبين لهم أنه ليس بعدو فهل يعيدون الصلاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الحنابلة قالوا: يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة؛ لأنهم تركوا واجباً من واجباتها وهو ما تقدم مما يترك في صلاة الخوف.
قال الشافعية - وهو أرجح –: بل لا يعيدونها؛ لأنهم صلوا الصلاة مع ظنهم القوي الغالب المؤثر في الحكم، أن الصلاة تجوز لهم – حينئذ –، فقبلت الصلاة منهم وصحت، فإذا تبين لهم سوى ذلك فإنه لا يؤثر، فإنهم قد أدوا الصلاة مع وجود السبب المقتضي لذلك.
الثالثة: إذا تغير الأمر من أمن إلى خوف، أو من خوف إلى أمن أثناء الصلاة فما الحكم؟
يجب على كل منهما أن ينتقل إلى الصلاة الأصلية لزوال السبب المقتضي لخلافها.
فمثلاً: رجل يصلي راكباً وهو يقاتل العدو غير مستقبل القبلة فزال الخوف وانتصر المسلمون – وهو يصلي – فيجب عليه أن ينزل فيتم صلاته مستقبلاً القبلة.
والعكس كذلك: فلو كان يصلي صلاة الآمنين فحدث أمر يخيف كأن يكون المسلمون يصلون صلاة الآمنين فأتاهم الكفار على حين غرة فإنهم يتمون صلاتهم رجلاً وركباناً.
إذن: إذا حدث السبب المجيز لصلاة الخوف فإنهم يتمون كصلاة الخوف.
الرابعة: هل يلحق في كونه يصلي راكباً أو راجلاً – هل يلحق بذلك إذا خاف فوات طلبه، كأن يكون يلحق عدواً له من الكفار مثلاً، فخشي أن يمكث على الأرض فصلى أن يفوته هذا العدو وعلم أنه إذا لحقه وصلى راكباً أو راجلاً فإنه يدركه، فهل يجوز له أن يصلي كذلك؟(7/206)
قال الحنابلة: يجوز ذلك. واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعثه إلى قتل خالد بن سفيان الهذلي فأدركه وعلم أنه إذا مكث للصلاة أنه يفوته فصلى ماشياً يومئ بصلاته حتى أدركه فقتله) وهو وجه عن الشافعية.
والوجه الثاني – عند الشافعية – وهو الأصح عندهم: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأنه محصل لا خائف، والصلاة إنما شرعت عند الخوف، وهذا في الحقيقة ليس بخائف لكنه محصل لأمر.
قالوا: والجواب - لم أره لهم لكن هذا مقتضى قولهم، الجواب - على الحديث المتقدم فهو ضعيف؛ لأن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس.
والراجح مذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور: وأنه لا يجوز ذلك لضعف الحديث الوارد، ولأنه محصل لا خائف والصلاة إنما شرعت عند الخوف.
لكن يستثنى من ذلك – كما استثنى الشافعية – ما إن ترك متابعته أن يعود إليه العدو فيدركه ويكون منقطعاً عن أصحابه فيخشى على نفسه فيكون حينئذ بحكم الخائفين.
الخامسة: قال الحنابلة: إذا كان ذاهباً إلى عرفة وخشي أنه إن وقف وصلى أن يفوته الوقوف فيها، بحيث أنه لا يمكنه أن يدرك إلا الشيء اليسير من ليلتها، فخشي أن يفوته الوقوف بعرفة، فيجوز له أن يصلي صلاة الخائف، وهو هنا محصل كما تقدم فهي مقيسة على المسألة السابقة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو وجه عند الشافعية.
والوجه الثاني، وهو المصحح عندهم: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه محصل لا خائف، والصلاة فرض على الهيئة المشروعة لا يستثنى من ذلك إلا ما ورد في النصوص، ومثل هذا لم يرد في النصوص الشرعية.
وهذا أظهر وأنه لا يجوز ذلك؛ لأنه لا دليل على الاستثناء.
أما مسألة الجمع فنعم لكنه غير وارد في صلاة الفجر، فليست المسألة جمعاً ليقبل بذلك.
والحمد لله رب العالمين.(7/207)
باب: صلاة الجمعة
الجمعة: الميم حكي كسرها، وكذلك بالضم وبالفتح وبالسكون، ففيها أربع أوجه، ولغة الحجاز ضمها وهي التي نزل بها القرآن.
وسمي يوم الجمعة بذلك: لأن القيامة تقوم فيه وهو يوم الجمع، وثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في يوم الجمعة -: (وفيه تقوم الساعة)
والناس – أيضاً – فهم يجتمعون فيه لأداء الصلاة المكتوبة فيجتمعون في مسجد واحد في المقر الكبير فسمي بذلك، وسمي جمعة أيضاً لأنه هو اليوم الذي جمع الله فيه خلق آدم، كما ثبت هذا في مسند أحمد وصححه ابن خزيمة بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان: (يوم الجمعة يوم جمع فيه أبوك أو أبوكم)
فهو يوم الجمعة لأن الجمع للخلق في الآخرة يكون فيه، والجمع للمسلمين في الدنيا يكون فيه، ولأن الله جمع فيه خلق أبي البشر آدم صلى الله عليه وسلم.
وصلاة الجمعة مستقلة عن صلاة الظهر، والظهر بدل عنها، ودليل ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح وتقدم –من حديث عمر– وفيه: (وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر)
وعند الإمام أحمد: أنها ظهر مقصورة وهو ضعيف بدليل أن الإمام لا يجوز فيها باتفاقهم، بخلاف الصلوات المقصورة في السفر فإنها لو أتمت لصحت خلافاً لأبي حنيفة.
فإذن الصحيح أنها مستقلة والظهر بدل عنها.
قال: (تلزم)
فهي فرض عين وهذا بالإجماع فحضورها فرض عين على من سيأتي ذكره.
يدل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر وهو للوجوب وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في مسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) وقال في النسائي بإسناد صحيح: (رواح الجمعة واجب على كل محتلم)(8/1)
وقال – كما في سنن أبي داود والحديث صحيح -: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا لمملوك أو امرأة وصبي ومريض) وقد تقدم الخلاف في صلاة الجماعة، أما الجمعة فإنها فرض بإجماع أهل العلم.
قال: (كل ذكر حر مكلف مسلم)
" كل ذكر ": فلا تلزم الأنثى.
" حر": فلا تلزم المملوك.
" مكلف ": فلا تلزم الصبي والمجنون.
" مسلم ": فلا تلزم الكافر ولا تصح منه.
أما الكافر فهذا ظاهر، وأما من تقدم ذكره: فللحديث المتقدم: (إلا مملوك وامرأة وصبي ومريض) ، فلا تجب الجمعة على الصبي غير المكلف ومثله المجنون لأنه غير مكلف فهو أولى، ولا تصح من المجنون فهو أولى من الصبي لأنها تصح منه، والمرأة لا تجب عليها الجمعة كما أنها لا تجب عليها الجماعة، والمملوك لا يجب عليه أن يحضر الجمعة.
إذن: هي واجبة على المسلم الذكر الحر المكلف للحديث المتقدم، وهذا باتفاق أهل العلم.
واتفقوا على أنهم لو صلوها لصحت، فلو أن امرأة أو مملوكاً أو مريضاً أو صبياً شهدوا الجمعة فصلوها ركعتين صحت، على أنهم لو صلوها في بيوتهم لصلوها أربعاً، وهذا باتفاق أو إجماع العلماء.
قال: (مستوطن ببناء)
لابد للوجوب عليه من أن يكون مستوطناً ببناء معتاد، سواء كان هذا البناء بلبن أو حجر أو قصب أو خوص أو نحو ذلك، فإن كان مستوطناً بخيام وهو لا يرتحل شتاءً ولا صيفاً فإنها عند جمهور العلماء لا تصح منه ولا يجزئ عنه، ولا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة بل يصلوها ظهراً أو يشهدوا الجمعة فيما حولهم من المساجد التي في القرى التي تصح الجمعة منهم إذا حضروها، وأما إن يقيموها في محلهم وإن كانوا لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فلا تجوز.(8/2)
- وقال الشافعي في أحد قوليه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال في الفروع: " وهو متوجه ": إن إقامة الجمعة لهم صحيحة جائزة، وهذا هو الظاهر؛ إذ المناط إنما هو الاستيطان، فما داموا مستوطنين بهذا الموضع لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فإنه لا فرق بينهم وبين أصحاب البناء من حجر أو غيره، وهذا هو الراجح.
أما أصحاب الخيام الذين يرتحلون شتاءً وصيفاً فإنه لا خلاف بين أهل العلم أنه لا يجزؤهم أن يصلوا الجمعة.
وإقامة الجمعة في القرى مع عدم ثبوت المصر الجامع هو مذهب جمهور العلماء.
ودليلهم: ما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أول جمعة جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في قرية بالبحرين (1)) فهي قرية ومع ذلك صحت فيها الجمعة.
وقال عمر – كما في مصنف أبن أبي شيبة -: (جمعوا حيث شئتم) فتقام في القرى والأمصار.
وقال الأحناف: لا تقام إلا في الأمصار.
واستدلوا: بقول علي كما في مصنف عبد الرزاق: (لا جمعة إلا في مصر جامع)
والجواب عنه: أنه يخالف ما ثبت عن عمر رضي الله عنه كما تقدم بل ما أقر عن جماعة الصحابة في إقامة الجمعة في القرية التي تقدم ذكرها، وكان ذلك إما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإما في عهد أبي بكر وعمر ومع ذلك لم تنكر.
ثم إنه لا فرق بين المصر والقرية في إقامة الجمعة، ويحمل كلام علي رضي الله عنه جمعاً بينه وبين كلام عمر رضي الله عنه أنه لا جمعة كاملة إلا في مصر جامع.
ولو كان مراده " لا جمعة صحيحة " فإن أثر عمر يخالفه وأثر ابن عباس يخالفه، والنظر مع ما رواه ابن عباس ووافقه عمر رضي الله عنه إذ لا فرق بين المصر الجامع وبين القرية بخلاف الخيام التي لا يستوطن أهلها بمكان فإن المعنى يفارقها ففرق بينها وبين المصر الجامع.
قال: (بناء اسمه واحد ولو تفرق)
__________
(1) المقصود به الأحساء والمسجد يعرف بمسجد جُواني.(8/3)
يعنى يجوز وإن كان متفرقاً - بيتاً هنا وبيتاً هناك - ما دام أن اسمه واحد وقد كانت المدينة متفرقة البيوت، وكانت بريداً في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ وكان أهلها متفرقون فيها ومع ذلك يجمعها اسم واحد ولم يقم في أي دار من دورهم جمعة على أنها قرية مختصة.
فالجمعة كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكل محلة من محلاتهم ودار من دورهم يثبت له اسم المدينة – وهذا هو الثابت في العرف واللغة – فكون البيوت متفرقة مع اتحاد الموضع هذا لا يؤثر، ومعلوم أن هذا من طبيعة العرب في بنائهم للبيوت وهو التفرق ومع ذلك يطلقون على محلاتهم اسماً واحداً فلها حكم واحد.
قال: (ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ)
هنا: المصلي الذي توفرت فيه الشروط المتقدمة له حالتان:
الأولى: أن يكون في هذا المصر وفي هذه القرية فحينئذ يجب عليه أن يجيب النداء ويشهد الجمعة وإن كان بينه وبينها أكثر من فرسخ. فلو كان بينه وبينها فرسخان أو أكثر فيجب أن يحضرها لأن الجمعة قد أقيمت له، والجمعة – كما سيأتي – إنما تقام في مسجد واحد لأهل البلد كلهم.
فأهل المصر الواحد يجب عليهم جميعاً أن يحضروا الجمعة وإن كان بعضهم في أطرافها يبعد أكثر من فرسخ ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
فالمدينة كانت بريداً في بريد ومن كان في أقصاها ويبعد عن المسجد فرسخان أو ثلاثة، فيجب ... لأنه لا جمعة إلا ….
الثانية: أن تكون خارج المصر أو القرية كالبيوت النائية التي لا تتصل بالقرى وليس عندهم جمعة يقيمونها وكالخيام النائية فهل يجب عليهم حضور الجمعة أم لا؟ وإن قلنا بوجوبها فما هو المسافة المحددة لوجوب ذلك؟
أ – ذهب الأحناف: إلى أنه لا يجب عليه ذلك بل تجب على من كان في المصر.
ب – قال الشافعية: يجب على من سمع النداء وإن كان أكثر من فرسخ.(8/4)
جـ – وقال الحنابلة والمالكية: يجب عليه إذا كان فرسخاً فأقل وما كان قريباً من الفرسخ كأن يكون فرسخاً وشيئاً قليلاً فإن الحكم فيه واحد فالمسألة تقريبية لا تحديدية أي فمن كان فرسخاً ونحو الفرسخ فأقل فيجب عليه حضور الجمعة.
أما الأحناف: فدليلهم أن الجمعة قد أقيمت في أهل المصر فلا يجب على غيرهم حضورها.
وهم محجوجون بما سيأتي ذكره من الأدلة.
وأما دليل الشافعية: فهو قوله صلى الله عليه وسلم: للأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) وهذا الحديث عام فيمن كان من أهل القرية نفسها ومن كان قريباً منها وهو يسمع النداء.
قالوا: وأصرح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في سنن أبي داود – قال: (الجمعة على من سمع النداء) لكن الحديث الراجح وقفه - كما رجح ذلك البيهقي – فهو موقوف على ابن عمرو.
لكن الحديث الأول الثابت في مسلم فيه غُنية عنه مع أنه موقوف على صحابي.
وأما المالكية والحنابلة: فقالوا: إن جعلنا لهذا الضابط مع ورود السنة فيه، إن جعلنا له ضابطاً هو ليس بضابط فيضبط لأن هذا يختلف باختلاف صوت المؤذن خفة ورفعاً.
ويختلف باختلاف صدور الأصوات شدة وخفة. ويختلف أيضاً بحسب الريح كذلك، فإن الريح إذا أتت بخلاف الصوت خفضته بل لا يكاد يسمع، وإذا كانت الريح معه نشرته، وهكذا فإن هذا باختلاف الريح شدة وخفة وباختلاف الأصوات شدة وخفة وصحيحاً، وتختلف باختلاف المؤذن وعلوه ورفعه لصوته.(8/5)
قالوا: ونظرنا فوجدنا أن المؤذن إذا أذن في موضع عال على السنة، وكان رفيع الصوت صيتاً – كما وردت به السنة – وكان الصوت هادئاً والريح ساكنة فإن أذانه يصل إلى فرسخ وهو ثلاثة أميال أي نحو 5 كيلو مترات، وهذا ظاهر، فإذا جعلنا هذا ضابطاً فهذا يكون منضبطاً ظاهراً، وحينئذٍ يكون كما لو كان المؤذن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما لو كان في الأحوال العادية الطبيعية من سكون الريح ومن كون الأصوات هادئة.
ولأن خلاف هذا يؤول إلى إيجاب الجمعة على قوم وعدم إيجابها على قوم هم مما يكون لهم أولى منهم، فإن الصوت إذا ذهب به الريح إلى جهة أدى ذلك إيجابه على هذه الجهة دون غيرهم ممن هم أقرب منهم. وكذلك باختلاف سمع الناس وباختلاف صوت المؤذن.
فإذا: أذن مؤذن حيث وصل الأذان إليهم فوجبت فإذا أذن في جمعة أخرى مؤذن خفيف الصوت لم تجب ذلك عليهم، فحينئذٍ لا يكون ذلك منضبطاً.
فالراجح ما ذهب إليه أهل هذا القول: من أن الحساب يكون بفرسخ – وهذا لا شك حيث لم يكن فيه مشقة – إذ المشقة متى ثبتت فإنه لو كان قريباً من المسجد فلا يجب على الحضور.
وهذا في العادة ليس فيه مشقة إذا كان ست كيلو مترات أو نحو ذلك فإن هذا أحياناً يكون ممن في أطراف المدينة يبعد أكثر من ذلك، والمدينة كانت بريداً في بريد يعني أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، فكان بعض الناس يبعد عن المسجد النبوي وهو من أهل المدينة فرسخان أو أكثر أو نحو ذلك فهذا إذاً لا مشقة فيه.
- وذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن من آواه بيته ومنزله قبل الليل فإنه يجب عليه أن يحضرها.
فإذا ذهب صباحاً وعلم أنه يعود قبل الليل فيجب عليه حضورها.
واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي: (الجمعة على من آواه الليل) لكن الحديث لا يثبت وإسناده ضعيف جداً.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تجب على مسافر سفر قصر)(8/6)
تقدم البحث عن سفر القصر وهو السفر الذي يثبت به سفر القصر.
وقوله: " سفر قصر " بناءً على أن السفر قسمان:
سفر طويل: وهو سفر قصر.
وسفر قصير: وهو السفر الذي لا يثبت به القصر.
فما كان دون أربعة برد فهو السفر القصير، وما كان أربعة برد فما فوق فهو السفر الطويل، وتقدم أن هذه القسمة لا تصح ولا دليل عليها من الشرع ولا اللغة ولا العرف.
والمقصود هنا: أنه على اختلاف أهل العلم، فمتى قلنا: إن السفر سفر قصر تقصر فيه الصلاة، وأن هذا مسافر سفراً تقصر بمثله الصلاة فإنه لا تجب عليه الجمعة.
فإذن: المسافر لا تجب عليه الجمعة.
ويريدون بالمسافر: من ليس بمستوطن ولا مقيم، والمستوطن من اتخذ البلدة أو القرية أو المصر ونحو ذلك اتخذه وطناً.
وأما المقيم فهو من لم يتخذه وطناً لكنه نوى إقامة تمنعه من القصر، والذي لا تجب عليه الجمعة هو المسافر وهو: من نوى إقامة أربعة أيام فأقل.
إذن: المقيم والمستوطن تجب عليهم صلاة الجمعة.
وأما المسافر الذي يحق له أن يقصر الصلاة يجوز له أن يدع الجمعة فلا يحضرها ويصليها حينئذٍ ظهراً.
- والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون هذا في جماعة من المسافرين ليس تحضرهم جمعة كأن يكونوا في الطريق فيدركهم الوقت أو يكون في بلدة فينزل فيقيم فيها إقامة يثبت فيها القصر، ففي كلا الصورتين لا يجب عليه حضور الجمعة ومن هنا عبر المؤلف بقوله: " ولا تجب على مسافر " لتدخل هذه الصورة الثانية بظهور.
لأن الأولى غير جائزة ولا مجزئة فلوا صلوا جمعة لبطلت والواجب عليهم أن يصلوا ظهراً.
والنبي صلى الله عليه وسلم – وهذا باتفاق العلماء – لم يكن يصلي في سفره جمعة لا في حجته ولا في غزواته وعمرته.(8/7)
ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى عرفة فصلى بها الظهر ثم أقام فصلى العصر) وكان ذلك يوم جمعة، ودل عليه فعل الخلفاء الراشدين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عامة فإنهم كانوا لا يقيمون الجمعة في السفر.
وروى الدارقطني مرفوعاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسافر جمعة) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وكلا الإسنادين ضعيف، لكن كلاً منهما يشهد للآخر وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه يشهد لذلك.
واحتمل شيخ الإسلام: أن المسافر الذي يكون في مكان ينادى فيه لصلاة الجمعة تلزمه للمقيمين، وقال في الفروع: " وهو متوجه " وقاله بعض الحنابلة وحكي رواية عن الإمام أحمد.
فهذا قول ثاني في الصورة الثانية، أما المسألة الأولى فلا خلاف فيها كما تقدم.
أما المسألة الثانية: فالجمهور على أنه لا يجب عليه حضورها.
- وقال ابن تيمية محتملاً: إنه تلزمه تبعاً للمقيمين، وحكي ذلك رواية عن أحمد وهو وجه عند الحنابلة وهو قول متوجه كما قال ذلك صاحب الفروع.
ودليل توجهه عمومات النصوص الشرعية التي تأمر بإجابة النداء عند سماعه، ومن ذلك - في خصوص الجمعة – قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا عام في كل من سمعه من أهل المصر أو القرية سواء كان مسافراً أو مقيماً، وهذا القول أظهر في صلاة الجمعة وفي غيرها من الصلوات فيجب عليه أن يجيب منادي الله عز وجل، لعمومات النصوص الشرعية.
قال: (ولا عبد ولا امرأة)
تقدم الدليل على هذا وهو باتفاق أهل العلم لحديث: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة – وذكر منهم – المرأة والمملوك)
قال: (ومن حضرها منهم أجزأته)(8/8)
اتفاقاً: فمن حضرها من هؤلاء الأربعة – المريض أو المسافر أو المرأة أو العبد - أجزأت عنه بإجماع العلماء وقد تقدم ذكر هذا.
قال: (ولم تنعقد به)
أي لم تنعقد بالعبد والمرأة والمسافر، وسيأتي استثناء المريض.
فإذا قلنا إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين كما هو المشهور في المذهب – وسيأتي الكلام فيه – فهل يدخل في هذا العدد المرأة والمملوك والمسافر فتنعقد بهم أم لا؟
قال: (ولم تنعقد بهم)
أما المرأة فهذا باتفاق أهل العلم ولا خلاف بينهم في ذلك، لأنها ليست في الأصل محلاً للاجتماع لها، فالمرأة بإجماع أهل العلم واتفاقهم لا تنعقد بها الجمعة.
وأما المملوك والمسافر:
فهذا مذهب الجمهور: وهو أنها لا تنعقد بهم.
وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: بل تنعقد بهم، وهذا القول هو الراجح، لأنهم رجال مكلفون حضروها فانعقدت بهم، وقد صحت منهم، وهم أهل للاجتماع وإنما خفف عنهم هذا الحكم لمعنى يقتضي ذلك.
فأما في المسافر فلعل ذلك لمشقة ذلك عليه أو لرفع الحرج عنه، وأما المملوك فلرفع الحرج عن سيده أو نحو ذلك، فإذا حضروها فإنها تنعقد بهم ولا دليل يدل على عدم انعقادها بهم.
قال: (ولم يصح أن يؤم فيها)
أما المرأة فظاهر، وقد تقدم البحث في هذا.
وأما المسافر والمملوك:
فكذلك عندهم.
وقال الجمهور " الشافعية - والمالكية: المسافر فقط – والأحناف ": بل المسافر والمملوك يصح أن يؤم فيها.
ومذهب المالكية أنه يصح في المسافر دون المملوك.
والصحيح صحة ذلك خلافاً للمشهور في المذهب، وأن المسافر والمملوك يصح أن يؤموا فيها، وما ذكروه علة فهو ضعيف.
فقد ذكروا أن المسافر والمملوك تبع لأهل البلدة في انعقاد الجمعة فلا يصح أن يكون التابع متبوعاً.(8/9)
لكن هذا ضعيف ظاهر الضعف؛ لأن هؤلاء قد صحت صلاتهم ولا دليل شرعي يبطل إمامتهم بل الأدلة الشرعية تدل على أنهم أولى من غيرهم بالإمامة إذا توفرت بهم الشروط على وجه التمام والكمال، وهذا هو الصحيح.
فإذن: المسألة على الراجح: المرأة لا تنعقد بها ولا تؤم، والمريض تنعقد به ويؤم – هذا بالاتفاق وسيأتي – والمسافر والمملوك – على الراجح – تنعقد بهم ويؤموا أيضاً.
إذن: كل من حضرها من الذكور المكلفين سواء كانوا مسافرين أو مقيمين أحراراً أو مماليك تنعقد بهم الجمعة وتصح إمامتهم – هذا الراجح – وهو مذهب الأحناف في هذه الصور كلها، ووافقهم في بعض الصور طائفة من أهل العلم كما تقدم.
لذا قال هنا في استثناء المريض:
قال: (ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه بحضوره)
فالمريض إذا حضر المسجد وجبت عليه الجمعة، لأنها إنما سقطت عنه في الأصل لمشقة حضورها فإذا حضر فإنها تكون واجبة.
ولكن هذا في الحقيقة ليس على إطلاقه إذ قد يكون المرض يمنعه من إطالة البقاء فقد يشق عليه البقاء فيرى مشقة ذلك على نفسه فيجوز له أن يرجع إلى بيته، لكن المقصود من ذلك أنه متى حضر إلى المسجد فإنه حينئذٍ تكون واجبة عليه إلا أن تطرأ مشقة أخرى تقتضي إسقاطها عنه.
إذن: المريض باتفاق أهل العلم إذا حضر الجمعة فالجمعة واجبة عليه – وحينئذٍ – تنعقد به ويصح أن يكون إماماً فيها؛ وذلك لأنها إنما أُسقطت عنه لمشقة ذلك عليه فإذا حضرها فقد زالت المشقة المسقطة للحكم فكانت الجمعة واجبة عليه منعقدة به وكان إماماً فيها إذ لا معنى يقتضي خلاف ذلك وإنما سقطت عنه في الأصل لكونه مريضاً فإذا أتاها جاز أن يكون إماماً وانعقدت به.
قال: (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح)(8/10)
رجل صلى في بيته أربع ركعات ظهراً ممن عليه حضور الجمعة فيستثنى – حينئذٍ – المرأة والمريض والمسافر والمملوك؛ لأنه ليس عليهم حضور الجمعة – وسيأتي في المتن استثناؤه – فإذا صلى قبل صلاة الإمام أو معه ما لم يفرغ الإمام فإنها لا تصح. بل عليه [أن] ينظر فإذا تيقن أن الإمام قد سلم فحينئذٍ يصليها، وهذا باتفاق أهل العلم.
ودليل ذلك: أن هذا المكلف مخاطب بحضور الجمعة لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} والظهر بدل عنها، وهو الآن مخاطب بالأصل ويمكنه أن يأتيه وليس ثمت عذر يقتضي إسقاط الجمعة عنه، وقد صلى البدل في غير موضعه فكان باطلاً، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر؛ لأنه مخاطب فإنه مخاطب بحضور الجمعة في الأصل والظهر إنما هو بدل عن الجمعة لمن كان معذوراً أو فاتته الجمعة أما هذا فليس بمعذور ولم تفته الجمعة فكان الواجب عليه ألا يصليها إلا بعد صلاة الإمام.
وظاهر كلامهم: أنه لابد وأن ينتظر حتى يفرغ الإمام من صلاته، فإذا فرغ من صلاته وسلم فإنه يشرع في الصلاة، هذا هو ظاهر كلامهم في غير هذا المتن كما في المغني.
- وذهب بعض الحنابلة: إلى أن ذلك ليس بشرط بل متى ما علم أنه لو ذهب إلى المسجد فإنه لا يدركها فإنه يجوز أن يصليها ظهراً، لأنها في حكم الفائتة عنه فلا يمكن أن يدركها، فحينئذٍ لا يكون مخاطباً بالحضور لأن المخاطب بالحضور إنما هو القادر على حضورها وهذا ليس بقادر على حضورها لكنه آثم بتأخيره وعدم ذهابه في وقت يدرك به الجمعة، وهذا أظهر، لأنه متى ضاق عنه الوقت للذهاب لإدراكها فإنه في حكم من فاتته فيكون ليس مخاطباً بحضورها بل مخاطب بالقضاء وبالصلاة بدلها، والصلاة بدلها إنما هي الظهر.(8/11)
- وخالف في ذلك الأحناف في أصل هذه المسألة وقالوا: لو صلى الظهر لصحت وإن كان يمكنه أن يحضر الجمعة، فلو صلاها من غير المعذورين قبل الجمعة لصحت.
قالوا: لأن الأصل إنما هي الظهر والجمعة بدل عنها، وهذا ضعيف في غاية الضعف لأن الجمعة أصل في يومها بدليل أنه باتفاق الجمهور والأحناف أنه يجب عليه أن يصليها جمعة في ذلك اليوم، ومعلوم أنه لا يمكن أن يقال بالبدل مع إمكان إيجاب أصله.
إذن: الراجح مذهب الجمهور وأنه لا يجوز له ذلك ولا تصح منه إذا أقيمت صلاة الجمعة وأمكنه إدراكها، وقد تقدم أن إطلاقهم – كما في المغني - شامل حتى يفرغ الإمام من الصلاة. - وحينئذٍ- فلو أن قرية من القرى يمكنهم أن يقيموا الجمعة فلم يقيموها فصلوها ظهراً في وقت الجمعة لم تصح منهم لأن الفرض عليهم هو الجمعة.
لكن يستثنى هنا مسألة - في كون الرجل يصلي قبل الإمام الظهر – إذا تأخر الإمام تأخراً منكراً يشق على المأمومين فقام بعضهم فصلى منفرداً ظهراً فإن ذلك يجوز له ويعذر بذلك كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد، وقد صرح به المجد بن تيمية.
قال: (وتصح ممن لا تجب عليه)
فالذي لا تجب عليه الجمعة وهم المسافر والمريض والمرأة والمملوك إذا صلوا في بيوتهم فيجوز لهم أن يصلوا قبل صلاة الإمام؛ لأن العلة المتقدم ذكرها ليست فيهم فإنهم غير مخاطبين بالجمعة، فالخطاب الشرعي ليس بموجه إليهم لأنهم غير مكلفين بحضورها، وحينئذٍ الواجب عليهم بدلها وهو الظهر.
فلو أن مسافراً أو امرأة في بيتها صلوا الظهر بعد زوال الشمس قبل أن تُصلى الجمعة جاز ذلك، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: (والأفضل حتى يصلي الإمام)
الأفضل له أي هذا المعذور في بيته الأفضل له حتى يصلي الإمام.
قالوا: خروجاً من الخلاف.
وهو خلاف أبي بكر عبد العزيز من كبار الحنابلة فإنه قد ذهب إلى أنه يجب عليهم أن ينتظروا فلا يصلوا حتى يصلي الإمام.(8/12)
قال: لأنهم لا يتيقنون زوال العذر وحينئذ فتستثنى المرأة من هذا القول.
فمثلاً: المسافر لا يتيقن زوال العذر فقد ينوي الإقامة والمريض قد يشفى والمملوك قد يعتق ونحو ذلك.
وأجيب عن هذا: بأن الأصل غير ذلك فإن الأصل هو بقاء العذر لا زواله، كما أن الرجل إذا كان مسافراً وتيمم في أول الوقت فإن ذلك يجوز له مع أنه لا يتيقن زوال العذر لكن الأصل عدمه واستمراره.
والخروج من الخلاف فيه نظر، والصحيح أن الخلاف لا يترتب عليه حكم، إلا أن يقوى الخلاف فتكون المسألة من المشتبهات أما مطلق الخلاف فإنه لا يترتب عليه حكم شرعي.
قال: (ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال)
إذا زالت الشمس فلا يجوز لمن وجبت عليه الجمعة – سوى من استثنى كالمريض – فإذا زالت الشمس وإن لم يؤذن فلا يجوز له أن يسافر.
قالوا: لأن الوجوب يستقر في أول وقتها، فأول وقت الجمعة الواجب هو زوال الشمس مع أن أول وقتها الجائز مختلف فيه وسيأتي، فتستقر في ذمته، فلا يجوز له السفر؛ لأن الزوال قد دخل فاستقرت الصلاة في ذمته.
والصحيح أن الصلاة لا تستقر في الذمة إلا بالأذان وأنه إذا أذن ونودي فقد استقرت، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فربط الله ذلك بالنداء فالراجح أن ذلك إنما هو بالنداء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر لأنه مخاطب بحضورها مكلف بذلك موجهاً إليه الخطاب الشرعي بذلك فلا يحل له أن يسافر والحالة هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر.
وقال هنا: " بعد الزوال " وتقدم أن الظاهر أن الحكم مرتبط بالأذان لا بالزوال.(8/13)
أما إذا سافر قبل زوال الشمس أو قبل الأذان فيجوز له ذلك، لقول عمر رضي الله عنه – كما ثبت ذلك عنه في مصنف عبد الرزاق – بإسناد صحيح أنه قال: (أن الجمعة لا تحبس مسافراً إلا أن يحين الرواح) أي إلا حين يجب الرواح وإنما يجب الرواح عند الأذان.
وأما ما رواه أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث عبد الله بن رواحة في سرية يوم الجمعة فمكث بعض أصحابه فشهد الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يلحق بأصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم) والحديث إسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس. فالحجة هو قول عمر ولأنه غير مكلف بحضورها حينئذٍ فجاز له أن يسافر.
إذن: - على الراجح – إن سافر وقد أذن فقد فعل أمراً محرماً إلا أن يكون في طريقه جمعة يغلب على ظنه أن يدركها فإن هذه مسألة أخرى، كأن تكون الخطبة فيها طول فيعلم أنه يحضر الصلاة في مسجد قريب من المدينة في قرية قريبة وتيقن من ذلك فلا بأس. أما سوى ذلك فلا يجوز له.
والسفر قبل زوال الشمس جائز لكن قال الحنابلة بالكراهية.
وقال بعض الحنابلة: لا يكره، وهو أظهر؛ فإن الكراهية حكم شرعي ولا دليل عليه.
فإذن السفر قبل زوال الشمس يوم الجمعة جائز وليس فيه أي كراهية لعدم الدليل الدال على الكراهية.
مسألة:
ذكر الحنابلة أن من فاتته الجمعة فإنه يتصدق بدينار أو نصفه؛ لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك الجمعة بغير عذر فعليه دينار أو نصف دينار) ، والحديث ضعيف لا يثبت فلا يحتج به، وقد ذكره صاحب الفروع: وحكى الإجماع على عدم وجوب ذلك، والاستحباب فيه نظر؛ لأن الحديث ضعيف فلا يستدل به على مسألة إيجاب ولا استحباب.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشترط لصحتها شروط ليس فيها إذن الإمام)(8/14)
فلصحة الجمعة شروط يذكرها المؤلف، وليس فيها إذن الإمام.
فالمسألة: هل يشترط لإقامة الجمعة في قرية أو مصر أو في خيام على القول بصحتها قد استوطن أصحابها فيها لا يرتحلون عنها صيفاً ولا شتاءً هل يشترط في إقامتها إذن الإمام أم لا؟
قولان لأهل العلم:
1- المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: وأن إذن الإمام ليس بشرط، وهو الذي يترجح في هذه المسألة.
واستدلوا: بقول عثمان رضي الله عنه: في الأثر المتقدم في صلاة إمام الفتنة فيهم وفيه أنه قال: (إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم) والصلاة تشمل المكتوبة كلها، ومن ذلك الجمعة.
وقال الإمام أحمد: " وقعت الفتنة في الشام تسع سنين فكانوا يجمعون " أي من غير إذن الإمام.
قالوا: ولأن الجمعة فرض كما في حديث: (الجمعة حق واجب على كل محتلم في جماعة) وغيره من الأحاديث وفعل هذه الفريضة لا يشترط فيها إذن الإمام.
- وقال الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يشترط فيها إذن الإمام.
واستدلوا: بأن الجمعة إنما يقيمها في كل الأعصار الإسلامية الأئمة، قالوا: فهذا إجماع يدل على أنها لا تشرع إقامتها إلا بإذنهم.
وفي هذا نظر – كما قرر ذلك الموفق في المغني – من وجهين:
الأول: أن يقال: إن الإجماع هنا لا يسلم، فإن كونهم يقيمونها – أي الأئمة – لا يعنى ذلك أنهم مجمعون على أنهم لو لم يقيموها فإنها باطلة، بل فيه أن الأئمة يقيمونها، ففيه الإجماع على صحة الصلاة التي يقيمها الأئمة، وأن المشروع فيها في الأصل إقامة الأئمة، وليس فيه المنع من أن تقام بغير إذنهم.
إن هذا لا يسلم فإنها كانت تقام في قرى كثيرة في العصور الإسلامية بغير إذن الإمام، وادعاء وقوع ذلك بإذنه فيه عسر أي أن ذلك كله كان يقع بإذنه فيه عسر.(8/15)
فما ذهب إليه أهل القول الأول هو الراجح وهو صحة الجمعة وإن لم يأذن الإمام، وسيأتي البحث في هذه المسألة إن شاء الله في مسألة تعدد الجمعات، وهل هذا الإذن غير معتبر من الإمام مطلقاً أو حيث كانت الجمعات متعددة.
فالراجح في أصل هذه المسألة أن إقامة الجمعة لا يشترط فيها إذن الإمام.
قال: (أحدها: الوقت)
فهو شرط للجمعة إجماعاً لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} والجمعة صلاة فدخلت في الصلوات المؤقتة، فالجمعة لها أول وآخر بإجماع أهل العلم، فلا تصح قبله ولا تصح بعده، وفرض أن تصلى فيه، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض جزئيات هذه المسألة.
قال: (أوله أول وقت صلاة العيد وآخره آخر وقت صلاة الظهر)
أما كون آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر وهو وجوب أذان العصر فهذا بالإجماع.
* وإنما اختلفوا في أول وقتها:
فالمشهور عند الحنابلة: أن أوله أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وقد نص عليه الإمام أحمد.
والثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن أول وقتها في الساعة السادسة أي قبل زوال الشمس بنحو ساعة، وهو اختيار الموفق وأبي بكر عبد العزيز، وظاهر كلام الخرقي.
الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور واختارها الآجري من أصحاب أحمد: أنها لا تصح إلا بعد زوال الشمس.
أما أدلة الجمهور:
فهو القياس على صلاة الظهر، فإن الجمعة وإن كانت أصلاً في يوم الجمعة فهي بدل عن الظهر فيه، وإن كان الظهر في يوم الجمعة بدلاً عنها من جهة أخرى.
فالأصل الظهر لكن الشارع جعل الأصل في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فكانت الظهر بدلاً عنها، فالأصل إنما هو في سائر الأيام هو صلاة الظهر، لكن الشارع استثنى من ذلك يوم الجمعة فجعل الجمعة أصلاً فيه، والظهر بدلاً عنها، وكون الظهر بدلاً عن الجمعة يدل على ارتباط بعضها ببعض.
قالوا: فحينئذٍ وقتها هو وقت صلاة الظهر.(8/16)
قالوا: وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه من حديث سلمة بن الأكوع – كما في الصحيحين – قال: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به) ، وفي مسلم: (كان يصلي إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء) وثبت من حديث أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس) أي حين تزول.
أما دليل من قال: إنها في الساعة السادسة: فهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن راح في الساعة الخامسة فكمن قرب بيضة فإذا خرج الإمام ... .) الحديث.
فرتب النبي صلى الله عليه وسلم خروج الإمام بعد انتهاء الساعة الخامسة أي قبل الجزء الأخير - السادس - من الوقت الذي بين أول الرواح إلى الجمعة المستحب وبين زوال الشمس.
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإمام يجوز أن يخرج بعد انتهاء الساعة الخامسة، وزوال الشمس يكون بعد انتهاء الساعة السادسة، وهم كانوا يقسمون النهار إلى اثني عشرة ساعة، فما بين الفجر إلى زوال الشمس ست ساعات، وما بين زوالها إلى غروبها ست ساعات، وإن كان مقدار الساعة يختلف صيفاً وشتاءً طولاً وقصراً.
ولما ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس "
ولما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) قالوا: والقيلولة والغداء إنما يكون قبل زوال الشمس.
قالوا: والذي منعنا من أن نطلق فنقول كما قال أهل القول الثالث وهو قول الجمهور: أن الأصل هو قياس الجمعة على الظهر كما تقدم ولم نستثن إلا ما وردت به النصوص الشرعية، وهو ما كان قبيل الزوال في الساعة السادسة.
أما القول الثالث، وهو نص الإمام أحمد وهو المشهور عند الحنابلة: أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد.(8/17)
واستدلوا: بالأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني.
قالوا: هذه الأحاديث التي استدللتم بها تدل على أن وقت الجمعة ليس كوقت الظهر، فكون الشارع يثبت فرقاً بينهما فلا يصح – حينئذٍ – القياس؛ لأنه قياس مع الفارق، فهذه أحاديث صحيحة تدل على أنه كان يصلي قبل زوال الشمس فدل على أن الجمعة لا تقاس بالظهر، لأن الظهر لا تصح إلا إذا زالت الشمس.
قالوا: والمعنى يقتضي ذلك، فعندنا قياس هو أظهر من هذا القياس وهو قياس الجمعة على العيد، فإن الشارع قد فرَّق بين وقت الجمعة ووقت الظهر كما تقدم من كون النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قد صلى الجمعة قبل الزوال فدل على أن القياس ضعيف.
أما قياسنا على العيد فهو أظهر، فإن الجمعة عيد الأسبوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم – في أبي داود -: (اجتمع في يومكم هذا عيدان) أي عيد السنة وعيد الجمعة، فكان القياس في هذا أظهر، فهي عيد الأسبوع، وأما كون الشارع لا يصليها كصلاة العيد فلمصلحة حضور الناس واجتماعهم لها.
وقد أجزأت صلاة العيد عن الجمعة فدل على أنها في حكمها، فكونه يجزئ عنها دل على أنها في حكمها.
إذن: الراجح مذهب الحنابلة: وأن الجمعة لو أقيمت كما يقام العيد أي بعد ارتفاع الشمس قيد رمح فإنها تصح.
لكن قالوا: الأفضل أن يكون ذلك إذا زالت الشمس خروجاً من الخلاف.
ولا شك أن الخروج من الخلاف في هذه المسألة قوي؛ لأنه أحوط كما أنه أفضل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غالب أمره، إما أن يصلي إذا زالت الشمس أو قبيل الزوال، وإن كانت الأحاديث في كونه يصليها بعد الزوال أكثر من التي فيها أنه صلاها قبيل الزوال، وكذلك هو أفضل لما فيه من مصلحة اجتماع الناس.
فهو الأحوط ومع ذلك لو فعل لصحت جمعته.
وظاهر قولهم أن هذا في الجمعة كلها بخطبتيها وصلاتها؛ لأن الخطبتين – عندهم – عن ركعتين.(8/18)
فلو خطب الناس قبل الوقت – وإن صلى الجمعة بعد دخول الوقت – فإنها لا تصح، فالواجب أن يدخل في الوقت خطبتاها؛ لأنهما منها وسيأتي الكلام عن هذا - ونحوه - عند الكلام على شروط الخطبة.
وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن ابن سيدان قال: (شهدت مع أبي بكر خطبته وصلاته فكان ينصرف قبل أن ينتصف النهار، ثم شهدت عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدت عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار)
لكن الأثر ضعيف فإن ابن سيدان قال فيه البخاري: " لا يتابع على حديثه " وهذا قد استدل به الحنابلة، ولكن في الأحاديث المتقدمة غُنية عن هذا الأثر الضعيف.
قال: (فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً وإلا فجمعة)
خرج وقت الجمعة قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنهم يصلون ظهراً، لأن الوقت لا يدرك بأقل من تكبيرة الإحرام.
أما إذا أدركوا تكبيرة الإحرام فجمعة لذا قال: " وإلا فجمعة " وهذا على القول المرجوح الذي تقدم، وتقدم أن الراجح خلافه وأن الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، خلافاً للمشهور من المذهب، لحديث: (ومن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فالصلاة لا تدرك إلا بركعة. فإذا أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الجمعة.
فمثلاً: رجل خطب الناس ثم نزل فكبر للصلاة فأذن المؤذن للعصر وقد أتم ركعة فحينئذٍ يصلي ركعة أخرى جمعة. أما إذا أذن المؤذن وهو لا زال في الركعة الأولى فإنه يصليها ظهراً.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها)
هذا الشرط الثاني من شروط انعقاد الجمعة وصحتها، وهو أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها.
وتقدم من هم أهل وجوبها وهم: كل ذكر حر مكلف مسلم غير مسافر ويستثنى من الحر المملوك والمسافر، ومن المسلم المرأة فإن الجمعة لا تنعقد بها.(8/19)
ولا يستثنى من ذلك المريض لأنه من أهل وجوبها وقد تقدم البحث في أهل وجوبها، وتبيَّن الراجح وعليه، فإن المملوك تنعقد به والمسافر تنعقد به فهم من أهل وجوبها لأنها تنعقد بهم على الراجح.
أما على المذهب: فيستثنى من ذلك المسافر والمرأة، والمملوك والصبي فهؤلاء ليس من أهل وجوبها، أما المريض فإنه من أهل وجوبها، وإنما عذر لمشقة ذلك عليه، فإذا حضر فقد زال عذره.
فيشترط أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد حسن: أن كعب بن مالك كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زراره فسئل عن ذلك فقال: (لأنه أول من جمَّع بنا في هَزْم - المطمئن من الأرض - النَّبيت - موضع حول المدينة - من حرَّة بني بياضة - الحرة هي المكان الذي يكون فيه الحجارة السوداء - في نقيع - وهو ما ينتقع به ماء المطر ونحوه - يقال له: نقيع الخَضَمات - وهو موضع حول المدينة إلى قبل منها - فقيل له: كم كنتم يومئذ؟ فقال: أربعون " (1)
وبما رواه الدارقطني عن جابر قال: (مضت السنة في أربعين فما فوق جمعة) .
هذا دليل الحنابلة والشافعية في هذه المسألة.
وقال أبو حنيفة: يشترط لها أربعة.
واستدل: بما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربع) .
وذهب شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: إلى أن الشرط أن يحضرها ثلاثة، لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) .
وقال الظاهرية وهو مذهب النخعي والطبري صاحب التفسير: يشترط لها اثنان.
وقيل غير ذلك حتى ذكر الحافظ ابن حجر أن الأقوال فيها تصل إلى خمسة عشر قولاً.
أما دليل الحنابلة والشافعية:
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب الجمعة في القرى، رقم 1068. [1 / 644] .(8/20)
أما قول جابر فهو ضعيف؛ لأن فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو متروك فهو ضعيف جداً.
وأما حديث كعب بن مالك في تجميع أسعد بن زراره بهم، فهو وإن كان حديثاً حسناً، فإن هذا قد وقع اتفاقاً، وليس فيه أنهم لو كانوا أقل من ذلك كأن يكون ثلاثين أو عشرة – أنه لم يجمع بهم إنما فيه جواز التجميع بأربعين وإقامتها بأربعين.
ويرد هذا القول بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً) فنزل قوله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} ، فقد بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، قال الحنابلة ومن ذهب إلى قولهم: لا مانع من أن يكونوا قد رجعوا وقد سمعوا من الخطبة ما يجزئ وأقاموا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه دعوى تحتاج إلى دليل فقد أخبرنا الله عن انفضاضهم ولم يخبرنا عن رجوعهم وتعليق الحكم برجوعهم يحتاج إلى دليل يدل على ذلك. فعلى ذلك هذا القول ضعيف كما تقدم.
وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فكذلك، فإن الحديث فيه راو متروك، وقد ورد من طرق في أسانيده رجال ضعاف جداً فلا يرتقي إلى درجة الحسن.
وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة وهو قولهم: أن الجمعة تصح بثلاثة، واستدلوا بالحديث المتقدم: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم)
والجواب عنه: أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وليؤمكما أكبركما) فصحت الجماعة باثنين فالجماعة اثنان فما فوق، فكوننا نفرق بين الاثنين والثلاثة هذا تفريق لا دليل عليه، فإذا جوزنا الثلاثة فكذلك الاثنين.
لذا ذهب أهل القول الأخير وهم الظاهرية وهو مذهب الطبري: إلى أنها تجزئ باثنين.
واستدلوا:(8/21)
بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) الحديث، فقد قال: " في جماعة " وقد دلت السنة على أن اثنين فما فوق جماعة - كما تقدم هذا في باب صلاة الجماعة – ويدل عليه حديث: (وليؤمكما أكبركما) فهذا القول هو أرجح الأقوال.
- وقال المالكية، وهو قول قوي: إن العدد المشروط هو ما تتقرَّى به القرية أي: إذا كان هناك عدد يصبح به هذه المحل المستوطن به قرية فإنهم يجوز لهم أن يجمعوا، ويرجع ذلك إلى العرف، فالبيت مثلاً أو البيتان في عرف الناس ليس بقرية فلا يجوز لهم أن يجمعوا. قالوا: ويستثنى من ذلك الثلاثة والأربعة وما في معناها فإنهم لا يجوز لهم أن يجمعوا.
وهذا القول مع قوته لكونه ضابطاً يرجع إلى العرف، لكن ما ذهب إليه أهل القول الأخير وأنها تصح باثنين أظهر مع هذا الشرط ولابد. فإن ما ذكره المالكية إنما هو شرط في الموضع الذي تقام فيه الجمعة، فإذا كان هناك موضع فيه بيوتات يصح أن يطلق عليها قرية في عرف الناس فإنهم يقيمون جمعة وإن لم يحضرها إلا اثنان أو ثلاثة منهم.
فأرجح الأقوال وهو مذهب الظاهرية وقول الطبري والنخعي: أنها تصح باثنين فأكثر لكن بشرط أن يكون الموضع – وهو ما ذهب إليه المالكية وينبغي أن يكون شرطاً عند هؤلاء لأنه قد تقدم أن المسافر لا يقيم جمعة وأهل البادية غير المستوطنين فيها، الذين يرتحلون صيفاً وشتاءً لا يقيمون الجمعة، فإذا كان هناك - في قرية، في عرف الناس، فصلوا الجمعة صحت منهم وإن لم يشهدها إلا جماعة منهم والجماعة اثنان فصاعداً كما تقدم.(8/22)
وهذا الحضور شرط في الخطبة والصلاة، ولابد أن يحضر هذا العدد قدر الإجزاء من الخطبة – وسيأتي –، لذا لو أن الإمام خطب في عشرين فلما أقيمت الصلاة تموا أربعين فليس لهم أن يقيموا الجمعة إلا وأن يعيدوا الخطبة؛ لأنها وقعت غير مجزئة للجمعة؛ لأن الشرط فيها أن يحضرها أربعون كالصلاة. فإن حضر فيها قدر الإجزاء أي سمع ما تصح وما يجزئ خطبة فإن ذلك يجزئ.
قال: (الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين)
تقدم هذا الشرط وأن الاستيطان شرط فلا يقيمها مسافر ولا من كان في بادية ينتقل عن موضعه شتاءً وصيفاً وإنما من كان مستوطناً قد اتخذ الموضع وطناً له فإنه يقيم الجمعة بالعدد المذكور المتقدم.
قال: (وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء)
أي يصح لهم أن يقيموا الجمعة في المصر أو القرية بل لهم أن يقيموها في موضع فسيح عن البلدة.
فلو كانت البلدة ليس فيها موضع يتسع للناس فصلوا الجمعة في الصحراء – كما يكون ذلك في العيد والاستسقاء – فإنه لا بأس بذلك.
ودليله: حديث كعب بن مالك المتقدم وفيه: أنهم أقاموا الجمعة في حرة بني بياضة، وهي على ميل من المدينة -. ولكن هذا الإطلاق يقع في النفس منه شيء، وهو أن يقال: إنها حينئذ تكون مضاهية لما يشرع له الخروج إلى الصحراء وإن وقع ذلك مجزئاً، فإن القول بمثل هذا لا ينبغي إلا أن يحتاج إليه كأن يكون الموضع في الحاضرة في الاجتماع فيه عسر ويسبب ازدحاماً أو نحو ذلك.
أما أن يخرجوا مع عدم الحاجة فإن ذلك خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرَّق بين الجمعة وغيرها كالعيد والاستسقاء، فكان يصلي العيد والاستسقاء في الصحراء، ويصلى الجمعة في البلدة، فالذي يظهر أن ذلك خلاف السنة لكن مع ذلك تقع مجزئة، إلا أن يحتاجوا إلى ذلك فلا بأس.
قال: (فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً)
هنا مسألتان:(8/23)
المسألة الأولى: ظاهر قول المؤلف هنا: أنهم لو نقصوا عن الأربعين فأصبحوا – مثلاً – تسعاً وثلاثين أو ثمانياً وثلاثين فإن الجمعة لا تنعقد ولا تصح منهم، وحينئذٍ فإنهم يستأنفون ظهراً.
وظاهر قوله هنا: سواء أدركوا ركعة أو لم يدركوها.
فمثلاً: لما انتهوا من الركعة الأولى حدث عذر لبعض المصلين فانصرف - فأصبحوا تسعاً وثلاثين – فإنهم تبطل جمعتهم.
- والقول الثاني، وهو مذهب الإمام مالك أنها لا تبطل، ومثل هذا في الحقيقة هو القوي، لأن إبطالها بخروج رجل واحد، هذا محل مشقة على المصلين، فكان الأولى ما ذهب إليه الإمام مالك فيما إذا أدركوا ركعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، وهؤلاء قد أدركوا ركعة من الجمعة، وهو قول لبعض الحنابلة وهو الراجح.
المسألة الثانية: فهي أنه إذا دخل مع الإمام فلم تصح له الجمعة فإنه يجب عليه أن يستأنفها، فبطلان الجمعة يوجب استئنافها لا إتمامها.
فمثلاً: كبروا ثم ثبت أنهم ليسوا بأربعين أو حدث عذر كما تقدم، فإن الواجب أن يستأنفوها ظهراً، فيقطع الإمام صلاته ويكبر مرة أخرى بنية الظهر.
فإذا بطلت أثناء صلاتهم الجمعة بنقص العدد المذكور، فالواجب عليهم أن يستأنفوها ظهراً، ولا يتموها ظهراً بل يستأنفونها من جديد.
قالوا: لأن الجمعة صلاة مستقلة فليست بظهر، وقد دخل فيها بنية الجمعة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
وقال بعض الحنابلة: يتموها ظهراً بلا استئناف.
واستدل: بأنها ظهر مقصورة.
وتقدم أن هذا ضعيف، وأن الجمعة صلاة مستقلة على الصحيح، فيشترط فيها أن ينويها جمعة.
ويتضح هذا في مسألة ذكرها المؤلف بعد ذلك وهي قول:
قال: (من أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)(8/24)
فمن أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة فإنه يتمها جمعة. فمثلاً: رجل أدرك مع الإمام الركوع، فإنه يدرك الجمعة فيضيف لها ركعة أخرى. لما ثبت في النسائي من حديث أبي هريرة، بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة) ولا يكون إدراك الركعة إلا بإدراك ركوعها. أما إن لم يكن ذلك بأن يدرك أقل منها فإنه يصليها ظهراً لذا.
قال: (وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً)
فإذا أدرك من الصلاة أقل من ركعة، كأن يأتي والإمام رفع رأسه من الركوع أو في التشهد فإنه يصليها ظهراً، لما ثبت عن ابن مسعود – في مصنف ابن أبي شيبة ومعجم الطبراني في الكبير – أنه قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعاً) والأثر صحيح، وإجماع أهل العلم عليه. وهو ثابت من فعل الزبير بن العوام في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف فكان ذلك إجماعاً.
لكن هنا: شرط المؤلف شرطاً:
قال: (إذا كان نوى الظهر)
أي إذا دخل بنية الظهر، فمثلاً: دخل رجل والإمام قد رفع من الركوع فقد فاتته الجمعة فحينئذٍ يكبر بنية الظهر فيتم الصلاة ظهراً، فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقوم فيتم أربعاً.
وهناك شرط آخر ذكره الحنابلة: وهو أن يكون ذلك في وقت الظهر.
وعليه: فلو كان ذلك قبل زوال الشمس فلا يتمها ظهراً بل نفلاً؛ لأن الواجب في الظهر أن تصلى في وقتها ووقتها بعد زوال الشمس.
فإذا أتى والإمام في التشهد في صلاة الجمعة فعليه أن ينوي إذا دخل معه أنها ظهر، ويشترط كذلك أن يكون في ذلك في الوقت الذي تصح به الظهر أي بعد الزوال وليس في الوقت الذي تصح فيه الجمعة.(8/25)
فإذا دخل بغير نية الظهر فإنه يبطلها ويستأنفها ظهراً، فلو كبر مع الإمام بنية الجمعة فتبين أن الإمام قد ركع الركوع الثاني وقد فاتته الركعتان فحينئذٍ يستأنفها ظهراً، لأنه قد نواها جمعة، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى والجمعة صلاة مستقلة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويشترط تقدم خطبتين)
أي ويشترط في صحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين، فمن شروط صلاة الجمعة أن تتقدمها خطبتان؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باتفاق العلماء، وأن الخطبة شرط في الجمعة.
ودليل ذلك: أن الله أمر بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر من الله يوجب السعي إلى ذكره، وذكره يوم الجمعة في الخطبة وصلاتها، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس) ، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الله) .
فهذه الأحاديث التي فيها فعله الراتب الذي قد داوم عليه - عليه الصلاة والسلام - هو بيان لمجمل قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} فكانت الخطبتان يوم الجمعة قبل صلاتها فرضاً من فروضها، فلا تصح الجمعة إلا بذلك – كما هو مذهب جماهير العلماء -.
قال: (ومن شروط صحتها (1) حمدُ الله تعالى)
أي من شروط الخطبة، فالخطبة لها شروط لا تصح إلا بها.
فهذه أركان الخطبة التي لا تصح الخطبة إلا بها، وهذه الأركان أو الشروط التي يذكرها المؤلف في الخطبتين كلتيهما الأولى والثانية.
وقال الحنابلة – في المشهور عندهم -: أن الخطبتين تقومان مقام الركعتين من صلاة الظهر، وهذا على أن الظهر هي الأصل وهي تمام، وأن الجمعة بالنسبة إليها ظهر مقصورة في يوم الجمعة، وهذا خلاف الراجح.
__________
(1) في نسخة: صحتهما.(8/26)
والراجح ما تقدم وأن الجمعة تمام وليست بظهر مقصورة، وقد تقدم قول عمر: (والجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي بإسناد صحيح.
" حمد الله تعالى ": فحمد الله ركن في الخطبة.
واستدلوا: بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) والحديث الصواب أنه مرسل كما رجح ذلك الدارقطني وغيره.
لكن ذلك ثابت من فعله – صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم من حديث جابر قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله ويثني عليه ثم يقول إثر ذلك وقد علا صوته …) الحديث وفيه: (أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هدي محمد " وتصح: خير الهَديْ هدي محمد " وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " وفي رواية: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)
وقال شيخ الإسلام: بأن الواجب إنما هو التشهد بأن يتشهد فيقول: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله " وهو اختيار ابن القيم.
واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم، - رواه الترمذي وأبو داود والحديث حسن -: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) (1) أي كاليد المقطوعة، فقال بوجوب ذلك وإن لم يكن ذلك شرطاً عنده في صحتها.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح، وهو وجوب التشهد فيها فهو واجب للحديث المتقدم، لكن ذلك ليس شرطاً في صحتها، والحمد فيها مستحب لحديث جابر المتقدم.
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)
قالوا: لأن كل موضع ورد فيه ذكر الله فإنه يشرع فيه الذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة عليه كالأذان، ففيه شهادة أنه لا إله إلا الله، وفيه شهادة أن محمداً رسول الله.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأدب: باب في الخطبة، برقم 4841، [5 / 173] .(8/27)
لكن يرد هذا: بعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح لنا أنه كان يصلي على نفسه في خطبته، وإن كان ذلك مشهوراً عند أصحابه كما ذكر ذلك ابن القيم.
ولكن ما ذكره شيخ الإسلام وجيه: أي في فرضية التشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أي في قوله: " وأشهد أن محمداً رسول الله " أي وجوب الشهادة بأنه رسول الله.
ولا شك أن شهادة أن محمداً رسول الله أولى من الصلاة عليه، فإن الشهادة لا يصح الإيمان إلا بها. بخلاف الصلاة عليه فإن غاية أمرها الوجوب كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم.
لكن الراجح: أن الواجب أن يصلي عليه ولو مرة وأن ما سوى ذلك مستحب.
فلا شك أن الإخبار بأنه رسول الله وإعلان ذلك على الملأ ذلك أبلغ من مجرد الصلاة عليه.
ولكن مع ذلك على القول بعدم وجوبها، فإن الصلاة عليه أمر مستحب لشهرته عن الصحابة.
قال: (وقراءة آية)
فقراءة الآية شرط في صحة الخطبة، لما تقدم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ القرآن ويذكر الله) رواه مسلم.
لكن هذا الحديث لا يدل على فرضية ذلك، نعم هو أفضل المواعظ وأعلاها قدراً وأولاها بالاتعاظ والعبرة لكن ذلك لا يدل على فرضيته، فتصح الخطبة ولو لم تقرأ فيها آية، هذا هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ الموفق.
وإن كان الأولى في الخطبة والأفضل أن تشتمل على آيات قرآنية لأن الآيات القرآنية هي أعظم المواعظ وفيها أعظم التأثير والاعتبار.
قال: (والوصية بتقوى الله عز وجل)
وليس مراده هنا: تخصيص هذا اللفظ بأن يقول: اتقوا الله أو نحو ذلك.
لكن المقصود من ذلك أن يعظهم بأن يحثهم على طاعة الله ورسوله وترك معصيتهما خوفاً من الله. لذا عبَّر بعضهم: بلفظ: " الموعظة " محل قوله " الوصية بتقوى الله ".(8/28)
ولا شك أن الموعظة هي الشرط الأساسي في الخطبة فهي المقصود الأعظم منها – وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم– كما في مسلم -: (يقرأ القرآن ويذكر الناس)
وروى أحمد عن علي أو الزبير بن العوام – والشك في الرواية – قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبنا ويذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه) .
فكانت خطبته تذكيراً للناس بالله عز وجل، وهذا هو الذي يناسب يوم الجمعة، وهو اليوم الذي خلق فيه آدم وفيه يبعث الناس وفيه الصعقة والنفخة كما صحت بذلك الأحاديث، ولذا شرع أن يقرأ في صبيحته " بالسجدة " و " هل أتى على الإنسان "؛ لما فيهما من التذكير العظيم والاعتبار والموعظة.
فإذن: روح الخطبة الموعظة والتذكير، فكانت خطبته موعظة للناس وتعليماً لهم وتفقيهاً في قواعد الإسلام وشرائعه.
لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم – في خطبته -: كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم " أي: كان في غاية ما يكون من التأثير والتأثر في خطبه كالتأثير الخارج من منذر الجيش الذي يقول لهم: " صبحكم أو مساكم ".
وهي شرط في الخطبتين كلتيهما، فكل خطبة يجب أن تشتمل على التذكير بالله وبأوامره وبشرعه وبقواعد الإسلام فإن الخطبة إنما شرعت لذلك.
- وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام مالك: الشرط فيها ذكر الله فقط، فإذا ذكر الله ولو قال: " سبحان الله " ونحو ذلك صحت.
لكن هذا ضعيف، لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يبين مجمل القرآن ويوضحه فإن الله قد أمر بذكره وذكره ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خطبتين مشتملتين على التذكير والمواعظ.
فإذن: الخطبة المجزئة هي الخطبة المشتملة على المواعظ والتعليم والتفقيه في الخطبتين كلتيهما، ولا يشترط فيهما على الصحيح الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قراءة آية من القرآن وإن كان المستحب هو ذلك – أي الصلاة وقراءة القرآن - ولا يشترط فيهما الحمد والثناء وإن كان مستحباً.(8/29)
ويجب فيهما على الراجح – وإن لم يكن شرطاً – أن يشهد لله بالألوهية ولنبيه بالرسالة يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ".
قال: (وحضور العدد المشترط)
تقدم أن المذهب: اشترط عدد أربعين في الجمعة وقد تقدم وصفهم.
فذلك الشرط المذكور شرط في الخطبة أيضاً؛ لأن الخطبة من الجمعة، فالجمعة خطبة وصلاة، فالشرط شرط فيهما جميعاً.
وقد تقدم أن الراجح أن القرية إذا أقيمت فيها الجمعة فإنه لا يشترط فيها عدد بل لمّا صحت به الجماعة فإن الجمعة تصح منه على القول الراجح، وقد تقدم.
ومن شروط صحة الخطبة: الوقت، فلا تصح قبل دخول الوقت وإن كانت الصلاة بعد دخوله.
وقد تقدم أن المذهب أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، فلا يصح أن يخطب قبل ذلك وإن صلى بعده، فكما أن الوقت شرط في الصلاة فهو شرط في الخطبة كذلك؛ لأن الجمعة تشمل الخطبة والصلاة جميعاً، فما كان شرطاً في الصلاة فهو شرط في الخطبة، وهذا باتفاق أهل العلم.
ومن شروطها: الموالاة بين أجزائها.
فإذا قطعها بقاطع طويل عرفاً فإنها تبطل، لأن الخطبة لا تسمى خطبة إلا إذا اتصل بعضها ببعض.
وهل تبطل بالكلام اليسير المحرم؟
قال الحنابلة: تبطل.
وقال بعض الحنابلة: لا تبطل كالأذان، وقد تقدم أن الأذان لا يبطله الكلام اليسير المحرم، فكذلك الخطبة ثم إن الخطبة قد توفرت فيها شرائطها وأركانها، وكونها يقع فيها النهي هو يعود إلى ذاتها ولا إلى شرط فيها فلم يبطلها. ومثال اشتمالها على الكلام المحرم، كأن يتكلم ببدعة ونحوه.
ومن شروطها – في المشهور في المذهب – أن تكون باللغة العربية مع القدرة على ذلك، أما مع غير القدرة والعجز فإنها تصح بغير العربية، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .(8/30)
أما مع القدرة على التكلم بالعربية فهي شرط، فلا تصح الخطبة إن كان هناك من يمكن أن يتكلم باللغة العربية.
وظاهر كلامهم مطلقاً وإن كان من يحضرها من العجم: لذا قال بعض الحنابلة، بل تصح، وهذا أرجح، وأن الخطبة بغير العربية تصح إن كان الحاضرون لها لا يفهمون إلا بذلك، لأنه لا يحصل المقصود من الخطبة إلا أن يكون الفهم فيها، ولا يكون الفهم إلا إذا كانت باللغة التي يتخاطب بها المستمعون.
فحينئذٍ: الراجح وهو قول للحنابلة خلافاً للمشهور عندهم أن الخطبة بغير اللغة العربية تصح، وإن كان الخطيب قادراً على أن يتكلم باللغة العربية إذا كان من يسمعها من غير العرب.
ثم إن الخطبة ليست قرآناً أو ذكراً من الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم الموقوفة عليه، لا تصح إلا بهذا الذكر بلفظه أو آية قرآنية التي لا يجوز أن يترجم إلى لغة أخرى.
فالخطبة المقصود منها الوعظ من غير أن يتوقف بلفظ محدد، فحينئذ لا معنى لاشتراط أن تكون بلغة عربية، فإذا خطب بلغة أعجمية لعجم لصحت بل هو أولى لأن التفاهم لا يحصل إلا بذلك وهو مقصود الخطبة.
قال: (ولا يشترط لها الطهارة)
فلا يشترط للخطبة الطهارة فلو خطب الخطيب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر فإن الخطبة تصح، وإن كان المستحب له أن يخطب طاهراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة.
لكنه إن خطب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر، فالخطبة صحيحة وهو المشهور في المذهب وأحد قولي الشافعي.
والرواية الأخرى عن أحمد وهي أحد قولي الشافعي: أن الخطبة تشترط لها الطهارة.
ولا دليل على ذلك فهي كالأذان، وإنما الطهارة شرط في الصلاة.(8/31)
لكن عن الإمام أحمد - وقال الموفق: وهو الأشبه بأصول المذهب -: أن تكون الطهارة من الجنابة شرط في صحتها، لأن قراءة آية في الخطبة فرض، ولا تصح ولا يجزئ أن يقرأها وهو جنب، وهذا القول بناءً على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن وعلى القول بأن الآية فرض أن تقرأ في الخطبة.
والصحيح: في هاتين المسألتين كلتيهما أنه لا يجب أن يقرأ آية في الخطبة وأن قراءة القرآن للجنب جائزة كما تقدم ترجيحه في باب الغسل.
إذن: الصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: وأن الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر ليس بشرط في الخطبة، وإن كان المستحب له ألا يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة.
قال: (ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة)
هذا المشهور في المذهب، وأنه لا يشترط أن يتولى الصلاة من تولى الخطبة، فلو خطب خطيب وصلى آخر فلا بأس؛ لأن الواجب هو إقامة الخطبة والصلاة من غير شرط أن يكون ذلك من إمام واحد، وإن كان المستحب والأولى أن يتولاهما إمام واحد كما كان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر الخلفاء الراشدين.
لكن لو خطب خطيب وتولى الصلاة آخر فإنه لا بأس بذلك لأنه لا دليل على اشتراط أن يتولاهما واحد، لأنهما كالصلاتين المختلفتين، فكما لو جمعت الصلاتان فصلى أحدهما إمام والأخرى إمام آخر فلا بأس بذلك.
قال: (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال)
" أن يخطب على منبر " إجماعاً؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مشهور عنه ومن ذلك ما ثبت في البخاري عن عمر قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة على المنبر يقول: " من جاء إلى الجمعة فليغتسل) .
" أو موضع عال " فلا بأس أن يخطب على موضع عال وإن كان الأولى له أن يخطب على منبر، فإن لم يجد المنبر فإنه يخطب على موضع عال لحصول المقصود به.(8/32)
وعليه: فلو خطب على الأرض فلا بأس وخطبته صحيحة لأنه قال: " ومن سننهما " وهذا بالإجماع، فالمنبر سنة فيها، والموضع العالي يجزئ فيها، وإن خطب على الأرض فإن ذلك لا بأس وإن كان خلافاً للسنة.
قال: (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم)
يستحب له إذا ارتقى على المنبر أن يستقبل المأمومين بوجهه ويسلم عليهم، لما ثبت في ابن ماجه وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد على المنبر سلم) وله شاهد عند الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، فعلى ذلك الحديث حسن.
ولو قال: " السلام عليكم " أجزأه، فإن السلام يصدق على قوله: " السلام عليكم "، والمستحب زيادة: " وبركاته ".
قال: (ثم يجلس إلى فراغ الأذان)
فإذا سلم جلس إلى فراغ الأذان، لقول ابن عمر كما في سنن أبي داود قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[يخطب خطبتين، كان] يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ قال الراوي: " أراه قال "المؤذن " أي حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم - وهي الجلسة بين الخطبتين-[ثم يقوم فيخطب] ) (1) ، وثبت في البخاري من حديث السائب بن يزيد قال: (كان النداء يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر) .
قال: (ويجلس بين الخطبتين)
لحديث ابن عمر المتقدم، وهي مستحبة وليست بواجبة فلو لم يجلس فلا بأس، لكن الغرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين، فإذا انتهى من الخطبة الأولى استحب له أن يجلس، فإن لم يجلس ففرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين؛ لأن الواجب فيها خطبتان ولا يتم الواجب إلا بأن يفصل بينهما بسكوت.
قال: (ويخطب قائماً)
__________
(1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الجلوس إذا صعد المنبر [1 / 657] .(8/33)
هذا هو المستحب، فخطب جالساً فلا بأس لكن المستحب هو القيام، لحديث ابن عمر المتقدم، وفيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يخطب خطبتين وهو قائم) فهذا هو المستحب؛ لأنه فعل والفعل لا يدل على الوجوب، وهو فعل الخلفاء الراشدين.
وأول من جلس على المنبر – وهو محمول على العذر – هو معاوية رضي الله عنه، فقد ثبت في سنن سعيد بن منصور أن أول من جلس في الخطبة معاوية رضي الله عنه، وذلك لعله لعذر فيه، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدين فلم يصح عن أحد منهم خلاف السنة.
قال: (ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا)
لما ثبت في سنن أبي داود عن الحكم بن حَزْن الكُلَفي قال: (وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه قلنا: يا رسول الله، زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر والشَّانُ إذ ذاك دونٌ] فأقمنا [بها] أياماً فشهدنا [فيها الجمعة] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام متوكئاً على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى [عليه] كلمات خفيفات مباركات) (1) ، ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب على قوس أو عصا.
وأما السيف فلم يصح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال ذلك ابن القيم، لأن الاتكاء على القوس لا يراد منه إظهار شيء سوى استعانة الخطيب به، فالاتكاء ليس المقصود منه إظهار قوة الإسلام أو نحو ذلك وأن الإسلام قام بالسيف – كما قال ذلك الحنابلة –، فإن ذلك ليس بصحيح إذ لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اتكأ على سيف مطلقاً.
__________
(1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس [1 / 658] .(8/34)
ولأن الإسلام قد قام بالدعوة والبيان، وإنما احتيج إلى السيف عند امتناع من امتنع عن قبوله، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكأ على عصا كما تقدم، فالمقصود هو ذات الاتكاء، وما يستعين الخطيب من ذلك تقوية نفسه أو نحو ذلك، وليس المقصود إظهار شيء مما ذكره بعض الحنابلة كما رد على ذلك ابن القيم أو غيره.
قال: (ويقصد تلقاء وجهه)
فالمستحب للخطيب في خطبته أن يقصد تلقاء وجهه، فلا يأخذ يميناً وشمالاً أي لا يلتفت أثناء الخطبة إلى ميمنة المسجد أو ميسرته، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن هذا أسمع لكلامه فإنه إذا أخذ تلقاء وجهه استوى أهل المسجد في سماع كلامه، بخلاف ما إذا أخذ يمنة فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميسرة المسجد، وهكذا إذا أخذ ذات اليسار فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميمنة المسجد، فكان المستحب أن يكون تلقاء وجهه ليكون ذلك أسمع لكلامه وليكون أعدل بينهم.
قال الموفق: " وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم "، ولم أر ما يدل عليه نصاً، وإن كان اتفاق أهل العلم على ذلك والمصلحة تقتضي أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
- والمستحب للمأمومين أن يقبلوا بوجوههم على الإمام حتى من كان في ميمنة المسجد أو ميسرته، وقد وردت في ذلك حديث وآثار.
أما الحديث فهو ما رواه ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم) لكن الحديث ضعيف مرسل.
وقد قال الترمذي: " ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، لكن ذلك ثابت عن أصحابه، قال البخاري: " واستقبل ابن عمر وأنس الإمام وهو يخطب " ولا يعلم لهما مخالف.
لذا قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يستحبون أن يستقبل الناس الإمام بوجوههم " وليس المقصود بالنظر بالأعين، وإنما المقصود أن يعطيه وجهه، فيستقبل الخطيب بوجهه.(8/35)
قال: (ويقصر الخطبة)
هذا هو المستحب، لما ثبت في مسلم عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّةٌ من فقهه)
فقصر الخطبة وطول الصلاة مئنَّة الفقه، فالمستحب قصر الخطبة وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، أما فعله فقد تقدم في قول الصحابي: (فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات مباركات) ، وأما قوله فهذا الحديث.
فالمستحب للخطيب أن يقصر خطبته، ويورد على السامعين جوامع الكلم، والألفاظ المشتملة على المعاني الكبيرة، ويقصر ذلك لئلا يضجرهم ويوقع الملل في نفوسهم ولئلا ينسي الكلام بعضه بعضاً، والعلم إنما يلقى شيئاً فشيئاً كما قال ابن عباس في قوله: " كونوا ربانيين، قال: الذين يعلمون صغار المسائل قبل كبارها " فالخطباء الربانيون هم الذين يعلمون الناس الشيء اليسير حتى يتدرجون معهم إلى الشيء الكبير ويعلمونهم الأساس والأصل قبل أن يعلمونهم الفرع.
قال: (ويدعو للمسلمين)
فيستحب له أن يدعو للمسلمين، قال في الإنصاف: " بلا نزاع " واستدلوا: بمثل استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة فهذا يدل على جواز الدعاء فيها، ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية الدعاء واستحبابه.
ولما ثبت في مسلم عن عمار بن رؤيبة (1) : أنه رأى بشر بن مروان وهو يخطب رافعاً يديه فقال: (قبَّح الله هاتين اليدين ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد على أن يشير بأصبعه) وأشار بأصبعه السباحة " وفي رواية لأحمد: " يدعو على المنبر "، وهذا هو الشاهد.
وأما رفع اليدين فإنه بدعة كما صرح بذلك المجد ابن تيمية وقد قال شيخ الإسلام: " ويكره للخطيب أن يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة والمشروع له أن يشير بإصبعه السبابة ".
__________
(1) في التقريب: عمارة بن رُوَيْبة.(8/36)
فإذن: يكره للخطيب وغيره من المستمعين أن يرفعوا أيديهم أثناء خطبة الإمام إذا دعا والمستجيب أن يشيروا بأصابعهم.
فإن دعا لولي أمر المسلمين: فاستحسن ذلك الإمام أحمد وعدد من أهل العلم، ولا شك أن صلاح الإمام صلاح للمسلمين عامة؛ لكونه أولى بتخصيص الدعاء من عامة المسلمين، لما في إجابة الدعوة من الله فيه من المصلحة له ولغيره من المسلمين ممن هم رعية له وتحت ولايته.
وأنكر ذلك بعض أهل العلم وقال: هو محدث كعطاء بن أبي رباح.
لكن الأظهر هو جوازه، لكن لا يكون ذلك على سبيل المداومة فلا يتخذ ذلك سنة في كل خطبة، وإنما يفعل ذلك أحياناً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه لم يثبت عن أحد منهم المداومة على ذلك واتخاذه سنة.
أما فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فإن الخطبة موضع إجابة بدليل استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة.
وفيها اجتماع المسلمين فيرجى أن تجاب الدعوة، فإذا خصص بذلك إمام المسلمين والطائفة المجاهدة، أو نحو ذلك فلا بأس، وأما اتخاذ ذلك سنة فإنه في الحقيقة ليس بسنة، كما أنكر ذلك وأدخله في البدع صاحب الاعتصام وأن الاستمرار في الدعاء للمرابطين والمجاهدين أن ذلك بدعة – وهو كما قال – فغنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستمرار في الدعاء للمجاهدين والمرابطين ونحو ذلك.
أما إذا احتاج المسلمون إلى ذلك فإنه يفعل لكن لا يكون على سبيل الدوام، ومثل ذلك الدعاء لولي أمر المسلمين فلا بأس به لكن لا يكون ذلك على سبيل الدوام، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الجمعة ركعتان)
وهذا بإجماع العلماء، وقد تقدم من الأحاديث ما يدل على ذلك كقول ابن عباس: (فرض الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ركعتان) رواه مسلم.
وفي النسائي قال عمر: (والجمعة ركعتان … تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(8/37)
فلا تصح بأربع، وإنما اختلفوا هل هي ظهر مقصورة أم صلاة مستقلة تامة، وقد تقدم أن الراجح أنها صلاة مستقلة تامة.
قال: (يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين)
كما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة " ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، ويقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة وبالمنافقين)
واختلف الحنابلة: هل المستحب أن يداوم عليها أم لا؟
أى قراءة السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة:
فالمشهور عندهم: كراهية ذلك؛ لئلا يظن وجوبها ولئلا يعتقد فضيلة السجدة وأنها إنما شرعت للسجدة فيها، ولذا نص شيخ الإسلام على كراهية تحري آيات أو سور فيها سجدة وقراءتها في صلاة الفجر يوم الجمعة، لأن هذا عن عقيدة أن المستحب هو اختيار سورة فيها سجدة وليس المراد ذلك، وإنما لما فيها من المعاني الشرعية المناسبة لذلك اليوم الذي هو يوم النفخة والصعقة ويوم البعث، وما تضمنه تلك السورة من المعاني المناسبة لذلك.
والقول الثاني – وهو الراجح –: أن المستحب له أن يداوم على ذلك، وقد ورد في الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليها، والحديث المتقدم شاهد له، فإن لفظة " كان " في الأصل تدل على المداومة ما لم يرد ما ينافي ذلك، وهنا كذلك.
أما ما ذكروه من أن ذلك يؤدي إلى اعتقاد وجوب قراءتها فإن هذا يدفع بتركها أحياناً مع كونه مداوماً عليها إلا الشيء اليسير، ولعل هذا مراد أهل القول الأول.
ثم إن هذه المظنة قد تندفع حيث تبينت السنة، فإذا كان أهل البلدة أو أهل المسجد يعلمون أنها سنة وليست بواجب، وأن السجدة ليست هي المقصودة، بل المعاني التي فيها، فإنهم يستحب لهم أن يداوموا عليها مطلقاً، لأن هذا المظنة مدفوعة عنهم.(8/38)
إذن: المستحب أن يداوم على ذلك، لكن إن خشي اعتقاد الوجوب فإنه يتركها أحياناً لئلا يعتقد ذلك.
أما تحري آية أو سورة من القرآن فيها سجدة محلها، فإن هذا ليس من السنة بل هو من البدعة، لأن هذا تابع عن اعتقاد أن هذه السورة إنما خصت لما فيها من السجدة، وليس الأمر كذلك، فهي إنما خصت لما فيها من المعاني التي هي مناسبة ليوم الجمعة الذي هو اليوم الذي يبعث فيه العباد وفيه النفخة والصعقة وفيه خلق الله آدم وهذه السورة متضمنة لهذه المعاني كلها.
ويستحب أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية، لما ثبت في مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وبهل أتاك حديث الغاشية)
وهاتان السورتان فيهما من المعاني المتقدمة ما هو ظاهر وواضح، فإنه يستحب: أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية أو الجمعة والمنافقون.
فسبح والغاشية: فيهما ما هو ظاهر من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال، وفيهما ما فيهما من الكلام عن الذكرى والتذكير، وأنه إنما يستحب إلى التذكير من هو متصف بالتقوى بخلاف الآخر فهو أشقى، ومعلوم أن الجمعة فيها من التذكير والوعظ والدعوة إلى الله ما يوجب التنبيه لذلك.
وأما سورة الجمعة والمنافقون:
أما سورة الجمعة: فإن فيها بيان حكم الجمعة ووجوب السعي إليها ووجوب العلم والقيام به.
وأما سورة المنافقون: ففيها من التحذير من النفاق، ومعلوم أن اجتماع الناس الكثير مظنة وجود المنافقين. فلهذه اختيرت هذه السور لمناسبتها لهذا الموقف العظيم.
قال: (وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة)
هذه مسألة كبيرة والناس يقعون – كما هو معلوم – في مخالفتها وهي: أنه لا يجوز أن يقام في المدينة – وإن كبرت – أو القرية أن يقام فيها جمعتان، وهذا قد اتفقت عليه المذاهب الأربعة وأنه يحرم ذلك وليس بمشروع بل هو بالإجماع ليس بمشروع.(8/39)
قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه كان يقام في المدينة جماعات كثيرة كما كان في مسجد قباء ومسجد بني سلمة وغيرهما فإنها كانت تقام فيها الجماعة، وأما الجمعة فلم تكن تقام في غير مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أن إقامتها إنما تشرع في مسجد واحد، فلا يقام في أكثر من مسجد؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعل خلفائه الراشدين وهكذا كان الأمر في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، فلم تكن تقم في البلدة إلا جمعة واحدة.
وكانت المدينة بريداً - × - في بريد، أي ما يقارب 18كم × 18كم، كانوا جميعاً يحضرون جمعته، ولم تقم في المدينة سواها.
واستثنى الحنابلة الحاجة، فإذا كان هناك حاجة إلى إقامة جمعة أخرى فإنه لا بأس بذلك، لأن الشريعة قد أتت برفع الحرج.
فإذا كانت المدينة كبيرة كما يكون هذا في العواصم ويشق على الناس أن يأتوا من أقطارها المتباعدة، أو يكون المسجد لا يسعهم فتزدحم شوارعه ونحو ذلك فإن هذا حرج يقتضي إباحتها وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح.
- وقال الجمهور: لا يجوز ذلك مطلقاً حتى للحاجة فلا تقام إلا في مسجد واحد.
وعليه: فإن الناس يصلون ظهراً.
فمثلاً: إذا ازدحم المسجد أو كان في الحضور مشقة فإنهم يصلون في مساجدهم ظهراً ولا يقيمون جمعة أخرى؛ لأنه لم يقم في مدينته - صلى الله عليه وسلم – مع كونها متباعدة الأطراف إلا جمعة واحدة.
وأجاب عنهم الحنابلة: بأن الحاجة لم تثبت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأن المدينة وإن كان في أطرافها تباعد لكنها سهلة السُبل فلم يكن هناك ازدحام شديد وكان المسجد يسعهم. ثم لو أثبتنا الحاجة لهم فإنهم إنما لم يقيموها لكونهم يؤثرون جمعته ولا يرغبون بخطبة بغير خطبته صلى الله عليه وسلم مع سهولة حضورها وإن كان يلحقهم شيء من الحرج، بخلاف الصلوات المتكررة فإنهم يشق عليهم أن يرتادوا مسجده مع تباعد محالهم، وهذا جواب ظاهر.(8/40)
فما ذهب إليه الحنابلة – وهو اختيار شيخ الإسلام – ظاهر وهو استثناء الحاجة، كأن تكون المدينة كبيرة متباعدة الأطراف أو أن يكون المسجد لا يسعهم، أو أن يكون هناك عداوات تقتضي إقامة الجمعة أكثر من موضع لئلا تقع الفتنة بين الناس.
ومثل ذلك صلاة العيد عندهم فإنها لا يجوز أن تقام إلا في مصلى واحد إلا أن يحتاج الناس إلى مصليات أخر، فإنها تقام فيها بقدر الحاجة إلى ذلك.
قال: (فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه فالثانية باطلة وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا)
فإن فعلوا: فأقيمت جمعة أخرى ولا حاجة لذلك ففي مسألة الصحة والبطلان تفصيل وهو:
أنه إذا تميزت أحد هذه الجمعات بميزة كأن تكون هي جمعة الإمام أي التي يصلي فيها الأمير أو الحاكم أو تميزت بأن لها إذن الإمام، وأما غيرها من الجمعات فلا إذن له، أو تميزت بأنها في وسط البلد كما يكون هذا في الجوامع الكبيرة، فإذا تميزت جمعة بأحد هذه الميزات فإنها هي الصحيحة وما سواها فجمعة باطلة، وعليهم حينئذٍ أن يعيدوا صلاتهم ظهراً.
" فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه ": يعني كلاهما مأذون فيه أو كلاهما ليس بمأذون فيه، أو كان كلاهما له ميزة يتميز بها عن الآخر فالثانية باطلة، فالسابقة هي الصحيحة؛ لأن لها السبق ولأنها صليت حيث شرع ذلك ولا مزاحم لها فكانت هي الجمعة الصحيحة.
أما الجمعة الأخرى فإنها باطلة لأنها مسبوقة بجمعة مجزئة فتكون باطلة.
واعتبار ذلك في المشهور من المذهب بتكبيرة الإحرام، فإذا كبر تكبيرة الإحرام إحدى الطائفتين قبل الأولى فصلاتهم هي الصحيحة، ومن كبرت بعدها فصلاتها هي الباطلة.
وقال بعض الحنابلة: بل بالشروع في الخطبة، فإذا شرع أحد المسجدين بالخطبة قبل الآخر وإن شرع بعده بتكبيرة الإحرام فإن جمعته هي الصحيحة.(8/41)
وهذا القول أرجح، لأن الجمعة شاملة للخطبة والصلاة فوقعت شيء منها صحيحاً مجزئاً فلا يصح بعد ذلك إبطاله.
" وإن وقعتا معاً " سواء قلنا إن ذلك بتكبيرة الإحرام أو بالشروع في الخطبة فإنهما تبطلان جميعاً، لأنه لا ميزة لإحداهما على الأخرى، لأنه لابد وأن نبطل إحداهما، وتصحيح إحداهما دون الأخرى تحكم لا دليل عليه فوجب أن يبطلا جميعاً.
وقبل ذلك أيضاً: إذا جهلت الأولى، فمثلاً: صلت طائفة في طرف البلد وصلت طائفة أخرى في طرفه الآخر ولا يعلم أيهما السابق، ولابد أن تكون إحداهما باطلة، والحكم لأحداهما بالصحة دون الأخرى تحكم.
ويحتمل في كل واحدة فيهما أن تكون مسبوقة – فحينئذٍ كان الحكم بإبطالهما جميعاً.
وما ذكره المؤلف هنا من التصحيح والبطلان هو مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية والأحناف.
- وعن الإمام أحمد، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار الشوكاني كما في السيل الجرار، قالوا: إن الجمعة الأخرى تصح.
قالوا: لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدل على المشروعية، ولا بدل على اشتراط ذلك، نعم الصلاة في أكثر من مسجد مع عدم الحاجة لا يشرع ذلك، أما أن يكون ذلك شرط في صحتها فلا، وهذا القول – فيما يظهر عندي – فيه نظر.(8/42)
ذلك لأن الجمعة شاملة للاجتماع لها وإقامة الخطبة ونحو ذلك وحيث إنها وقعت على غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك اجتماع غير مشروع، وحيث كان اجتماعاً غير مشروع فهو اجتماع محدث، وكل محدث فهو بدعة وضلالة ورد على أصحابه كما في الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فالنهي هنا المتضمن للتبديع، لأن السنة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقام الجمعة في مسجد واحد، وهذا يقتضي أن تكون الجمعة الأخرى غير مشروعة، وهذا شامل للاجتماع إليها وإقامة الخطبة فيها، فحينئذٍ يكون النهي قد عاد إلى ذات الجمعة، فكان حينئذ الاجتماع على هذا الصورة غير مقبول وحينئذٍ يكون العمل مردوداً على أصحابه.
فإذن: أصح المذاهب ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم: وهو أن يقال: إن أقيمت جمعة أخرى في بلدة فيها جمعة ولم تكن حاجة لإقامتها فإنها باطلة ويجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست)
هذا في السنة يوم الجعة:
وما ذكره المؤلف في السنة البعدية، فقال: " وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست " وهو ما نص عليه الإمام أحمد فقال: " إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ستاً ".
أما الصلاة ركعتين فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: " حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلى أن قال: (وركعتين بعد الجمعة في بيته)
وأما الأربع: فما ثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً)
وأما الست: فدليله ثبوت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا صلى بمكة الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً، وإذا صلى بالمدينة أتى أهله فصلى ركعتين، وكان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) .(8/43)
وهو ثابت عن علي بن أبي طالب، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (كان عبد الله: أي ابن مسعود " يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً ثم جاء علي فأمرنا أن نصلي بعدها ركعتين ثم أربع) .
وقال شيخ الإسلام: إن صلى في بيته صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد صلى أربعاً، وفيه قوة، وذلك لأن حديث أبي هريرة المتقدم: (من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً) مطلق، وأما حديث ابن عمر ففيه: (أنه كان يصلي في بيته ركعتين) ولا شك أن صلاة السر أفضل من صلاة الجهر، فضوعفت في صلاة الجهر، فكانت في المسجد أربعاً أو ستاً، وأما الصلاة في البيت فكانت ركعتين، هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
وأما السنة القبلية:
فقد تقدم عن ابن مسعود أنه كان يأمر الناس أن يصلوا قبلها أربعاً.
وروى ابن المنذر عن ابن عمر: (أنه كان يصلي قبلها اثنتي عشر ركعة) ، وعن ابن عباس: (أنه كان يصلي قبلها ثماني ركعات) ، وثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي مالك القرظي قال (أدركت عمر وعثمان " وهو العصر الذي كان فيه الصحابة في المدينة متكاثرون من المهاجرين والأنصار " فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة وإذا تكلم تركنا الكلام) وفيه أنهم كانوا يصلون حتى يخرج الإمام.
فالسلف لهم في الصلاة قبل الجمعة طريقتان:
الأولى: أن بعضهم يصلي ما كتب له، أربعاً أو ستاً أو غيرها ثم يجلس يقرأ القرآن ويذكر الله حتى يخرج الإمام.
الثاني: أن منهم من كان يصلي حتى يخرج الإمام كما في أثر أبي مالك القرظي، وقد ثبت في مسلم حديث وفيه: (ثم صلى ما كتب له)
إذن: ليس للجمعة سنة قبلية مؤقتة، وإنما يصلي المسلم ما كتب له.
فذهب بعض علماء الحنابلة إلى أنها مقيسة على صلاة الظهر فيستحب أن يصلي فيها ركعتين، وقد تقدم أن راتبة الطهر عندهم ركعتان.(8/44)
وهذا القياس قياس مع الفارق لثبوت الفوارق الكثيرة المتقدمة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، على أن النبي صلى الله عليه وسلم صح (1) عنه ذلك، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الجمعة إلا أنه كان يصلي بعدها ركعتين في بيته وأمر أن يصلى بعدها أربعاً.
بخلاف الظهر فإنه ثبتت سنته بصلاة أربع قبلها، وأما الجمعة فقال: (ثم صلى ما كتب له) فهذا القياس يخالف ظاهر السنة.
واستدلوا: بما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسليك الغطفاني: (أصليت ركعتين قبل أن تجيء) وهذه قد أخطأ بها بعض الرواة كما قرر هذا شيخ الإسلام والحافظ أبو الحجاج المزي، فقرروا أن هذا اللفظ خطأ، وأن الصواب: (أصليت ركعتين قبل أن تجلس) وهما تحية المسجد وليست ركعتي الجمعة القبلية.
مسألة:
ولم يذكر المؤلف – هنا – مسألة ذكرها صاحب المقنع وهي:
فيما إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصليت العيد فهل يجزئ عن الجمعة أم يجب على المسلمين أن يصلوا الجمعة؟
لم يتعرض لها المؤلف هنا، وذكرها صاحب المقنع – وهذا الكتاب اختصار له، فالأولى ذكرها فيه -.
- والمسألة عند الحنابلة: أن العيد إذا صليت في يوم الجمعة فإنها تجزئ عن الجمعة ويجب على الناس أن يصلوا الظهر فلا يسقط عنهم الظهر.
ويستثنى من ذلك الإمام فتجب عليه الجمعة – هذا عند الحنابلة – خلافاً لجمهور الفقهاء.
واستدل الحنابلة: بأحاديث ثبتت بمجموعها هذه السنة.
__________
(1) لعلها: لم يصح.(8/45)
فقد روى الخمسة إلا الترمذي عن زيد بن أرقم قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة وقال: من شاء أن يصلي فليصل) ، لكن الراوي عن زيد: إياس بن أبي أرملة، قال فيه ابن خزيمة: " لا أعلم فيه جرحاً ولا تعديلاً "، لكن يشهد له ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه ذلك عن الجمعة وإنا مجمعون) ، ويشهد له ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (صلى بنا عبد الله بن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدانا، وكان ابن عباس في الطائف فلما جاء سألناه فقال: أصاب السنة) ، وفي النسائي بإسناد صحيح: أن ذلك بلغ عبد الله بن الزبير فقال: (رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) .
فهذه الأحاديث حجة على جمهور الفقهاء، فهي أحاديث بعض أسانيدها صحيح وبعضه حسن، وبعضه قابل للتحسين وبمجموعها ثابتة لا شك في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذن: إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة، فإن العيد يجزئ عن الجمعة لهذه الأحاديث، والمعنى يقتضي ذلك، فإن يوم العيد يوم سرور وفرح فلم يناسب أن يجتمع فيه موعظتان أو خطبتان، فرخص في إحداهما وأقيمت الأخرى.
قال الحنابلة: ويستثنى من ذلك الإمام فيجب عليه أن يصلي الجمعة.
وذهب بعض الحنابلة، كالمجد بن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الإمام كذلك، فلو لم يقمها الإمام فلم تصح (1) في البلدة جمعة فلا بأس، ودليله: أثر ابن الزبير المتقدم فإنه لم يخرج إليهم وصلوا وحدانا وقال ابن عباس: (أصاب السنة) ، وقال ابن الزبير: (رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) فظاهره أن عمر لم يخرج إلى الناس فيقيم فيهم الجمعة.
__________
(1) لعلها: تُقم.(8/46)
إذن الراجح: أن الإمام لا يجب عليه أن يقيم الجمعة، هذه الألفاظ في بعضها ما يدل على أن الواجب عليهم أن يصلوا ظهراً، وهو قول عطاء: (فصلينا وحدانا) ولم ينكر ذلك عليهم ابن عباس ولا ابن الزبير.
واختار الشوكاني سقوط الظهر أيضاً، لكن هذا ضعيف، ولا دليل على إسقاطها وهي الأصل فإذا سقطت الجمعة للمعاني المتقدمة بقيت الظهر واجباً إقامتها.
وهل يجزئ الجمعة عن العيد؟
فمثلاً: لو صلوا الجمعة في أول النهار، فهل تجزئ عن العيد.
أو صليت بعد الزوال وتركت العيد واكتفوا بالجمعة، فهل يجزئ ذلك؟
المشهور في المذهب: أن الجمعة تجزئ عن العيد، والمعنى يقتضي ذلك، وهو المعنى المتقدم بل أولى، فإذا كانت العيد قد أجزأت عن الجمعة، فأولى من ذلك أن يجزئ الجمعة عن العيد.
واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة: أنها إنما تجزئهم إذا صلوا في أول النهار، لكن هذا تفريق لا دليل عليه، لأن العيد تصح عندهم بعد زوال الشمس، فلو أخرها الناس في يوم العيد إلى أن زالت الشمس فهي وإن خالفت السنة فهي عند أهل العلم صحيحة، وإذا أجزأت العيد عن الجمعة، فأولى أن تجزئ الجمعة– لأنها فرض - عن العيد - وهي مختلف في وجوبها -، سواء كان ذلك في أول النهار أو بعد الزوال.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن أن يغتسل لها وتقدم)
أي: يسن له أن يغتسل يوم الجمعة قبل رواحه إليها، وقد تقدم البحث في هذا وبيان فضيلته وأنه سنة كما هو مذهب جمهور العلماء في حكم الاغتسال في باب الغسل.
وأن هذا على وجه الاستحباب إلا إذا كانت هناك روائح كريهة يُتأذى منها فهو واجب كما هو اختيار شيخ الإسلام، وتقدمت الأدلة على ذلك. لذا قال المؤلف هنا: (وتقدم) .
قال: (ويتنظف ويتطيب)(8/47)
أي يستحب له أن يتنظف ويتطيب، فقد ثبت في البخاري عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر - أي يتنظف من استطاع من التنظيف من تقليم أظفار وحلق عانة وغير ذلك من إزالة الأوساخ التي يكون بها التنظيف - ويدهن من دهنه - أي يذهب شعث رأسه بالدهن - أو يمس من طيب بيته - وفي أبي داود من حديث ابن عمرو: أو يمس من طيب امرأته، وفي مسلم من حديث أبي سعيد: ولو من طيب المرأة (1) - ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) ففيه فضيلة التنظف والتطيب.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيباً أن وجد) ، وفي رواية مسلم: (ولو من طيب امرأته) ، وفيه أيضاً فضيلة الاستياك فيه.
* ويستحب تطييب المسجد، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن نعيم المجمر قال: (كان عمر يجمر المسجد يوم الجمعة إذا انتصف النهار) .
قال: (ويلبس أحسن ثيابه)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 132] ، كتاب الجمعة.(8/48)
كما في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو وفيه: (ويلبس من أحسن ثيابه) ، وفي أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) (1) أي سوى الثياب التي يمتهن بها ويعمل فيها. وفي الصحيحين: (أن عمر رأى حلة سيراء – أي من حرير – عند باب المسجد فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة) والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على التزين يوم الجمعة.
قال: (ويبكِّر إليها ماشياً)
فيستحب له أن يبكِّر فيذهب إليها مبكراً، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة، ثم راح - في موطأ مالك: " في الساعة الأولى " - فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ، وفي مسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤا يستمعون الذكر، ومَثَل المهجِّر كمثل من يهدي بدنة ثم من يهدي البقرة ثم من يهدي الكبش ثم من يهدي الدجاجة، ثم من يهدي البيضة) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب اللبس للجمعة. [1 / 650] .(8/49)
وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وغسَّل يوم الجمعة - وفي أبي داود: من غسل رأسه - واغتسل، وبكر وابتكر " الابتكار هو أدراك الشيء في أوله، أي أدرك الجمعة في أولها ولم يفته من الخطبة شيء - ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) الحديث إسناده صحيح وحسنه الترمذي في سننه.
وقوله " بكر وابتكر " أي بكر في الذهاب، وابتكر في الوصول.
* وقد اختلف أهل العلم في وقت التهجير أو الرواح إليها على قولين:
1- فقال الإمام مالك: وقت التبكير من زوال الشمس، وقد تقدم أن مذهب مالك أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس إلى أن يجلس الإمام، فتكون الساعات ساعات لطيفة جداً هي شبيهة باللحظات تكون خلال هذا الوقت البسيط، فيكون الوقت من زوال الشمس إلى جلوس الخطيب.
واستدل: بلفظة (راح وهجر) فقال: الرواح يكون إذا زالت الشمس كما أن الغدو يكون قبل زوالها. قال: والتهجير هو الذهاب إذا انتصف النهار واشتد الحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المهجر كمثل من يهدي بدنة) .
2- وقال جمهور العلماء: بل يكون ذلك من أول النهار وهو طلوع الفجر الصادق، فالساعة الأول هي التي يكون فيها أذان الفجر وما بين الأذان والإقامة وصلاة الفجر وما يكفيه للتهيؤ والرواح فهذه الساعة الأولى وبعدها الساعات الباقية.
واستدلوا: بالحديث المتقدم، فإنه قال: (ومن راح في الساعة الأولى) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت في النسائي وأبي داود من حديث جابر بإسناد صحيح قال: (الجمعة اثنتا عشرة ساعة) الحديث وسيأتي تمامه.
وهكذا سائر الأيام وهو التوقيت الثابت الذي لا يختلف صيفاً ولا شتاءً، فقبل زوال الشمس ست ساعات وبعد زوالها ست ساعات يختلف طولاً وقصراً صيفاً وشتاءً.(8/50)
فمثلاً إذا أذن الفجر في الساعة الخامسة، وكان زوال الشمس في الساعة الثانية عشرة فهذه سبع ساعات، فتكون كل ساعة من الساعات الثانية ساعة وعشرة دقائق وهكذا.
واستدلوا: بالحديث المتقدم، وهو حديث ظاهر على ما ذكروه.
ويبقى الجواب على ما ذكره الإمام مالك، قالوا الجواب عليه: أن ما ذكره من جعل الساعات ما بين زوال الشمس وجلوس الإمام لا يعقل أن يعلق الشرع فيه هذا التفضيل الكثير ما بين البدنة والبيضة في وقت لا يتجاوز أربع دقائق أو خمس دقائق، فهذا التعريف غير مؤثر.
أما ما ذكره من الرواح والتهجير:
فأما الرواح: فهو في لغة الحجاز هو الذهاب مطلقاً سواء كان ذلك قبل الزوال أو بعده، وقد ذكر الأزهري في تهذيبه ذكر على ذلك شواهد.
قالوا: وإنما يراد به الذهاب بعد زوال الشمس إذا قوبل بالغدو، فإذا قيل: غدا أو راح، فيراد بالرواح ما بعد زوال الشمس، أما إذا أطلق فيقال: راح في أول النهار وراح في آخره، وهنا الحديث قد أطلق.
وأما التهجير فالمراد به في لغة الحجاز ومن حولها من قيس - المراد بها عندهم -: التبكير في أول الوقت، فالتبكير لأول الوقت يسمى تهجيراً.
قال الخليل بن أحمد: " التهجير هو التبكير إلى الشيء في أول وقته "، فالتهجير هو أدراك الشيء في أوله في لغة الحجاز ومن حولها من قيس.
فالتهجير ليس مختصاً بوقت الهاجرة أي عند اشتداد الحر وهو منتصف النهار، بل يطلق على التبكير إلى الشيء فإنه يسمى تهجيراً.
إذن الراجح: ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الرواح يكون من أول النهار.
وتقدم أنه عندهم: يكون من طلوع الفجر الصادق.(8/51)
وقال بعض العلماء من المالكية والشافعية واختيار بعض الحنابلة: يكون من طلوع الشمس، وهذا القول فيه قوة، وذلك لاستبعاد إمكان الرواح قبل طلوع الشمس، فإن الساعة الأولى قد تذهب للاستعداد لصلاة الفجر والذهاب إليها، ولا سيما مع المحافظة على الذكر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إلا أنه يمكن أن تكون صلاة الفجر في المسجد الجامع – ومن هنا الاحتياط لمن أراد إصابة الثواب أن يكون حسابه من طلوع الفجر الصادق.
وقد أنكر الأئمة على الإمام مالك قوله عدم مشروعية الرواح إليها إلا بعد الزوال. فإنه يرى أن الرواح إليها لا يشرع قبل زوال الشمس، فأنكر عليه الأئمة كأحمد وغيره، بل قد أنكر عليه بعض أصحابه كابن حبيب المالكي والسنة حجة عليه كما تقدم.
قال: (ويدنو من الإمام)
تقدم هذا في حديث أبي داود: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) وفي ذلك مصلحة سماع الخطبة وتمام ذلك، وفضيلة القرب من الإمام ثابتة للصلوات مطلقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) .
قال: (ويقرأ سورة الكهف في يومها)
يستحب أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، ويكون ذلك من طلوع الفجر الصادق إلى أذان المغرب، فهذا كله وقت لقراءتها، فليس ذلك مختصاً قبل الصلاة بل هو مطلق في اليوم كله لإطلاق ذلك في الأثر الوارد في الباب.
والأثر الوارد فيه: ما ثبت في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري موقوفاً قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) ، وهذا الأثر ليس للعقل فيه محل فيكون له حكم الرفع، فهو مرفوع حكماً.(8/52)
وقد روي مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري نحو الأثر لكن الحديث فيه: نعيم بن حماد وله مناكير برواية الحاكم في مستدركه، ورواه ابن مردويه في تفسيره – كما في الترغيب والترهيب لكن في سنده سعيد بن أبي مريم وهو مجهول الحال.
قال ابن القيم: " وهو الأشبه " ا. هـ أي الوقف.
إذن: هذه السنة التي أقر بها أهل العلم أصلها هذا الأثر الصحيح عن أبي سعيد.
وفي قوله: (وقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة) هذا عام في اليوم كله فيكون ذلك من أوله إلى آخره.
قال: (ويكثر الدعاء)
ليصيب ساعة الإجابة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – وقد ذكر يوم الجمعة قال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) أي يقلل زمنها، ويدل على أن المراد تقليل زمنها وأنه زمن يسير، قوله في رواية مسلم: (وهي ساعة خفيفة) فهي ساعة خفيفة تكون في يوم الجمعة من دعا الله فيها بشيء من أمر الدنيا أو الآخرة أعطاه الله عز وجل إياه.
ويحتمل أن يكون مراده: " يقللها " أي يزهد هذا الفعل اليسير من الدعاء الذي ينال به العبد الثواب والأجر الكبير، والتفسير الأول أولى، لما تقدم ولأن الضمير في " يقللها " يعود إلى الساعة نفسها ولو كان المراد به ما تقدم، لقال: " يقلله " أي يقلل هذا العمل، وإن كان يحتمل أن يكون الضمير يعود إلى الدعوة، أي يقلل هذه الدعوة التي ينال بها هذا الثواب والأجر. والاحتمال الأول أولى – كما تقدم –.
واختلف أهل العلم اختلافاً كثيراً في وقت هذه الساعة حتى ذكر الحافظ أن فيها أكثر من أربعين قولاً، وإن كان بعض هذه الأقوال يدخل بعضه في بعض فبعضه أعم أو أطلق من بعض.
وأصح هذه الأقوال قولان – كما قال ابن القيم -:(8/53)
1- القول الأول: أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، فيكون الدعاء أثناء الخطبة من ساعة الإجابة وبين الخطبتين من ساعة الإجابة، وأثناء الصلاة من ساعة الإجابة، فهو ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة.
واستدلوا بحديث مرفوع رواه مسلم في صحيحه رواه مخرمة عن أبيه (1) عن أبي بردة (2) عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن ساعة الإجابة يوم الجمعة: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة) ، لكن هذا الحديث وإن كان ثابتاً في مسلم فهو مما انتقد عليه – رحمه الله – فقد انتقده الدارقطني وضعف هذا الحديث، وبيَّن أنه من قول أبي بردة التابعي، فيكون مقطوعاً، وليس بمرفوع ولا موقوف.
واستدل بأن بكير رواه عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعاً وبكير مدني ثقة، فرواه عنه كوفي وهو أبو بردة مرفوعاً، ورواه الثقات الكوفيون عن أبي بردة رووه مقطوعاً من قول أبي بردة كمعاوية بن قرة (3) وواصل الأحدب، وأبي إسحاق السبيعي فهؤلاء ثقات يحصل بمجموعهم ترجيح روايتهم على رواية بكير على أنهم كوفيون فهم أعلم بحديث الكوفيين من بكير وهو من أهل الحجاز.
فعلى ذلك: ما ذكره الدارقطني من تضعيف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الصواب أنه مقطوع على أبي بردة – راجح ظاهر -.
2- القول الثاني: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر واستدلوا بأدلة منها:
__________
(1) هو بُكَيْر.
(2) هو أبو بردة بن موسى الأشعري، صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 140]
(3) لم يذكره المزي من الذين رووا عن أبي بردة.(8/54)
ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة اثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر) ، وثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح: أن عبد الله بن سلام كان من علماء أهل الكتاب وأسلم – قال: (إنا نجد في كتاب الله – يعني التوراة – في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى الله حاجته) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو بعض ساعة فقال: صدقت أو بعض ساعة، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام قال: أي ساعة هي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي آخر ساعة من ساعات النهار) .
وهنا إشكال وهو أن يقال: إن ما بعد العصر ليس بوقت صلاة وقد قال: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي) فاستشكل ذلك عبد الله فقال: (إنها ليست ساعة صلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة) .
وهو مذهب جمهور الصحابة، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فما افترقوا إلا وقد اجتمعوا على أنها آخر ساعة بعد العصر) فهذا هو مذهب جمهور الصحابة، وهو نص الإمام أحمد ومذهب جمهور التابعين.
إذن: هي ساعة خفيفة تكون بعد العصر من يوم الجمعة وهذا في آخر النهار.
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)
أي يستحب له في يوم الجمعة أن يكثر الصلاة عليه، بل ذلك مستحب في يوم الجمعة وليلته، فقد ثبت في البيهقي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلته) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فرجة)(8/55)
أي ينهى الذاهب إلى الجمعة أن يتخطى رقاب الناس، لما ثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جابر: (أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت وآنيت) أي أبطات المجيء.
وروى الترمذي بإسناد ضعيف فيه رشدين بن سعد وهو ضعيف – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تخطى الرقاب يوم الجمعة فقد اتخذ جسراً إلى جهنم) لكن الحديث إسناده ضعيف.
والمشهور عند الحنابلة – وهو مذهب الجمهور أن النهي للكراهية.
وذهب ابن المنذر وهو اختيار شيخ الإسلام ومذهب طائفة من الحنابلة: إلى أن التخطي محرم. واستدلوا بالحديث المتقدم فإن فيه الأمر في قوله (اجلس) وظاهر الأمر الوجوب، وفيه قوله " فقد آذيت " وأذية المسلم محرمة، فيستدل بهذا الحديث على تحريم التخطي من وجهين:
1- الأمر بالجلوس. 2- والأذية في قوله " فقد آذيت ".
وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في أبي داود وابن خزيمة بإسناد حسن: (ومن لغى أو تخطى رقاب الناس كانت جمعته ظهراً) أي لم يصب ثواب الجمعة وإن كان قد أصاب الصلاة صحيحة، فيثاب ثواب الظهر لا الجمعة. واستثنى المؤلف فقال: (إلا أن يكون إماماً) فالإمام يجوز له ذلك إذا لم يكن له طريق يسلكه فاحتاج إلى تخطي رقاب الناس للرقي على منبره فلا بأس للحاجة.
(أو إلى فرجة) : أي يجوز للقادم إلى المسجد إن رأى فرجة في صف يحتاج إلى الوصول إليها إلى أن يتخطى رقاب الناس فيجوز له التخطي حتى يصل إلى هذه الفرجة.
قالوا: لأنهم بتركهم الفرجة لم يصح له حرمة في مسألة تخطي الرقاب، فهم الذين فتحوا هذا الباب على أنفسهم، فإنهم قد تركوا فرجة لا يشرع لهم تركها فلم يكن له حرمة من هذا الباب.(8/56)
وعن الإمام أحمد: أنه ليس له ذلك مطلقاً وإن كانت هناك فرجة، وبيَّن الموفَّق أن هذه الرواية لا تحمل على هذا المذكور وهو أنه ينهى مطلقاً، قال: بل يحمل على ما إذا كان هناك في الصف سعة يمكنه مع ازدحام أهل الصف بعضهم ببعض أن يكون له فرجة يدخل فيها، فحينئذ يكره ذلك.
أي يكون في الصف سعة يسيرة لا تسع المصلي، ويمكنه أن يأتي إليها ويتراص الناس فيكون له فرجة، فقال الإمام أحمد في رواية عنه: إنه يكره له التخطي – وحمله الموفق على ذلك – وهذا لا شك أنه أولى، فحمل روايات الإمام أحمد أو غيره من الأئمة على مواضع مختلفة أولى من حملها على موضع واحد يختلف فيه.
فحينئذ: الظاهر أن يقال: أن مذهب الإمام أحمد: أنه إذا كانت هناك فرجة تسعه من غير أن يحتاج إلى الناس لتوسعة هذا الموضع ليصلي فيه، فإذا كان الوضع كذلك فإنه يتخطى رقاب الناس إليها، وأما إن لم يكن له فرجة إلا مثل ما يصلي فإنه ليس له أن يتخطى الرقاب، ومن أمامه من المصلين ليس منهم تفريط فإن المصلي عندما يجلس في الموضع قد يحتاج أن يكون الموضع متسعاً له لسماع الخطبة، فإذا أتى أحد من المصلين وسع له وإن كان يحتاج إليه فلم يكن فيه تفريط في هذا.
إذن: عن الإمام أحمد روايتان:
الأولى: أنه لا يكره أن يتخطى الرقاب إلى فرجة.
الثانية: أنه يكره ذلك، وحملها الموفق على الوفاق لا على الخلاف فقال: المراد من ذلك إذا كانت هناك سعة لا يمكنه أن يصلي فيها إلا بأن يزدحم الناس فإنه لا يتخطى الرقاب لكن، هذه الرواية – وهي مذهب الشافعية -: استثنوا فيها تخطي الواحد والاثنين فقالوا: إذا كان هناك موضع يمكنه أن يصلي فيه وهو يحتاج إلى توسيع وتراخي المصلين بعضهم ببعض، فإذا كان يمكنه أن يصل إليه بتخطي رقبة اثنين أو واحد فلا بأس بذلك لأن هذا شيء يسير معفى عنه.(8/57)
والظاهر أنه النهي مطلق، وأنه لا يعفى عن الواحد والاثنين إلا أن يكون فرجة أو تكون هناك توسعة محتاج إليها. وصورة السعة المحتاج إليها:أن يأتي والمسجد ممتلئ بأهله وليس له موضع يصلي فيه إلا في موضع مشقة كأن يكون في برد أو حر أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يتخطى الرقاب ليصلي إلى صف يزدحم أهله فيكون له فيه فرجة – هذا إذا احتاج إلى ذلك كأن يزدحم المسجد بأهله، أو يكون هناك مواضع لكنه يشق عليه أن يصلي فيها إما لحر شديد أو برد شديد أو نحو ذلك.
قال: (وحرم أن يقيم غيره ويجلس مكانه)
وذلك لما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا) ؛ وذلك لأنه بسبقه إليه كان أحق به، فلا يجوز أن ينزع هذا الحق منه وقد سبقه إليه غيره. واستثنى من ذلك فقال:
(إلا من قدم من صاحباً له أو غلاماً له في موضع بحفظه له)
فمثلاً: جلس الابن في موضع مسبق لأبيه، أو سبق أحد من الناس لأحد من أهل الفضل فإذا أتى قام له، قالوا: فيجوز ذلك لأنه قام باختياره، والنهي المتقدم إنما هو نهي أن يقيم غيره من موضع فيقوم من غير رضى.
وهذا إنما ينبني على المشهور في المذهب من جواز وضع فراش ونحوه مما تحجز به المواضع، وسيأتي بيان أن هذا لا يجوز وحينئذ: تكون هذه المسألة كذلك، فلا يجوز له أن يقدم صاحباً له أو غير ذلك، فإن الجالس في الموضع إنما يجلس فيه ليستمع وليكون هذا المحل له، أما إذا ذهب بهذا الغرض فإنه – حينئذ – غير ما قاصد الجلوس بنفسه فلا يجوز له ذلك ويكون بالحجز بالفرش ونحوها.
فعليه لا يجوز ذلك، لأن هذا حجز لهذا الموضع بغير حق.(8/58)
قالوا: وكذلك يجوز لأحد من الناس أن يقوم أو يقام له من مجلس، قالوا: فلا بأس بذلك ويجوز له أن يجلس فيه. قالوا: لأنه قام باختياره، والنهي إنما هو أن يقام. قالوا: لكن يكره لأنه إيثار في القرب فهو في مكان فاضل فآثر به غيره، وهذا نوع زهد عن العمل الصالح فتكون مكروها.
واحتمل الموفق: أنه لا كراهية في ذلك؛ لأنه من باب تقديم الفاضل، وتقديم الفاضل إلى القربة وإيثاره بالقربة لا بأس به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) .
وما ذكره الموفق ظاهر: إن كان المقوم له من أهل الفضل.
ويدل على ذلك: أن عائشة آثرت عمر بن الخطاب في موضعها من بيتها، وقد وضعت لها وموضعاً تقبر فيه، فاستأذنها عمر أن يقبر عند صاحبيه فأذنت له وآثرته في هذه القربة رضي الله عنهما، فهذا من باب الإيثار لمن كان أحق بالشيء وأولى به. قالوا: وأهل الفضل أولى بالدنو من الإمام والقرب منه فكان الإيثار لهم جائزاً.
وأما إطلاق ذلك فلا، فإن فيه إيثاراً بالقربة.
قال: (وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة)
فإذا حضرت الصلاة فيجوز أن يرفع هذا المصلى، هذا أحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وأنه من وضع فراشاً أو نحوه فلا يجوز رفعه إلا أن تحضر الصلاة. قالوا: لأنه قد سبق بوضع هذا الفراش أو غيره إلى هذا الموضع، ولما يترتب على رفعه من الخصومة أو العداوة والبغضاء.
والوجه الثاني: قالوا: بل له رفعه، وقالوا: لأن تركه ذريعة إلى تخطي الرقاب فيتأخر صاحب هذا الموضع الذي حجزه بهذا الشيء ويتعدى أو يتجاوز رقاب الناس.(8/59)
قالوا: ولأن السبق إنما هو بالأبدان ولا بغيرها من الفراش ونحو ذلك فهذا الموضع موضع مباح من سبق إليه فهو أحق به، والسبق المشروع إنما يكون بالبدن، فإذا ذهب إلى المسجد وتكلف الذهاب في أول الوقت وفوت على نفسه شيئاً من مصالحه أو مراداته أو نحو ذلك وتقدم واشتغل بالعبادة، فكان هذا الموضع على هذه الصفة هو أحق به من غيره.
أما إن لم يكن الأمر كذلك بل قدم إليه شيئاً أو حجزه فإنه ليس أحق به – وهذا القول هو الراجح -.
وشدد شيخ الإسلام فأصاب بهذه المسألة وأنكرها وبيَّن أن ذلك منه اغتصاب لهذا الموضع وأن ذلك محرم؛ لأن هذا الموضع لمن سبق إليه وكونه يحوطه بشيء أو يحجزه هذا أمر محرم لأنه [لا] يملك هذا الموضع واغتصبه بغير حق والحق أن يسبق إليه ببدنه وإنما سبق إليه بغير بدنه، ومثل ذلك المسألة السابقة فيمن قدم أحداً من الناس لا يقصد هذا الموضع بل يقصد حجزه فالحكم كذلك.
إذن لا يجوز حجز المواضع ومن وضع فراشاً فلغيره رفعه بل يجب كما قال شيخ الإسلام رفعه لأنه من باب إنكار المنكر إلا أن يترتب مفسدة أعظم من ذلك فإنه يترك.
قال: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به)
كأن يقوم ليتوضأ أو يأتي بحاجة له قريبة، فإذا رجع فهو أحق بهذا الموضع فله أن يقيم غيره من الناس لأنه أحق به.
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) وقال – كما في الترمذي وصححه وهو كما قال -: (الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه) والمراد بالحاجة التي لا تعتبر قاطعة - في العرف – الجلوس، فهي حاجة قريبة كوضوء ونحوه.
قال: (ومن دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما)(8/60)
وهي تحية المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم – لما دخل رجل المسجد وهو يخطب الناس قال: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين) ، وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فلا يجلس حتى يركع ركعتين وليتجوز فيهما) أي ليخففهما.
إذن: يشرع – والراجح كما تقدم: يجب - على الداخل إلى المسجد أن يصلي تحية المسجد وإن كان الإمام يخطب، وإن كان الإمام يخطب فليتجوز فيهما.
قال: (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب)
لا يجوز لأحد من الناس أن يتكلم والإمام يخطب لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذ قلت لصاحبك: انصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) ، وقال - كما في مسند أحمد بإسناد فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف -: (الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً، ومن قال له أنصت فليست له جمعة) لكن الحديث ضعيف، لكنه ثابت بهذا اللفظ عن ابن عمر – كما روى ذلك حماد بن سلمة بإسناد قوي – كما قال ذلك الحافظ في الفتح.
وأما كونه ليست له جمعة فقد دلت عليه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في المسند من حديث علي – وهو شاهد: (ومن لغا فليست له جمعة) ، وقال في حديث آخر – رواه أبو داود وابن خزيمة: (ومن لغا أو تخطى الرقاب كانت جمعته ظهراً) .
إذن: يجب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، والإنصات هو ترك الكلام والسكوت، بخلاف الاستماع فإنه هو الإصغاء إليه.
فالإصغاء إليه مستحب مشروع، وأما الإنصات وهو ترك الكلام فهو فرض وواجب.(8/61)
أما دليل فرضية الإنصات فقد تقدم. وأما دليل استحباب الاستماع فهو ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر، رجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة ولم يؤذ أحداً فهي له كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله يقول: {ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ) .
والشاهد قوله: (ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فدل على أن من لم يستمع إلى الخطبة واشتغل بدعاء أو صلاة أو نحو ذلك ولم يؤذ أحداً برفع صوته فإن الجمعة تصح منه لكنه تارك للمستحب.
وأما الكلام فهو مضاد للإنصات قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} " استمعوا " أي أصغوا إليه بآذانكم " وأنصتوا " أي كونوا ساكتين غير متكلمين غير مشتغلين مما يمنع الاستماع.
قال: (إلا له أو لمن يكلمه)
أي يجوز للخطيب أن يخاطب الناس بما هو خارج عن خطبته لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لسليك الغطفاني، وقد دخل يوم الجمعة وهو يخطب قال: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين) فقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم غيره من المصلين.
ومثل ذلك: الكلام مع الخطيب، فإنه لا يؤثر ولا ينافي الإنصات المتقدم، كما ثبت في الصحيحين عن أنس: (أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله وهو قائم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُبل فادع الله يغثنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رفع يديه: (اللهم أغثنا ثلاثاً) وقد تقدم ما دار بين عثمان وعمر لما تأخر عن الجمعة، فكلام الخطيب والكلام معه لا يفسد الجمعة.
قال: (ويجوز قبل الخطبة وبعدها)
فقبل الخطبة يجوز الكلام، كأن يتكلم الناس وهو صاعد على المنبر لا بأس بذلك.(8/62)
ودليل ذلك: ما تقدم من أثر أبي مالك القرظي وفيه: (وإذا تكلم تركنا الكلام) .
وكذلك بعد الخطبة وهذا باتفاق أهل العلم، ولأن الأحاديث الواردة قد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " والإمام يخطب ".
ومثل ذلك جلوسه بين الخطبتين فيجوز لأحد أن يكلم غيره أثناء ذلك، لأن النهي إنما ورد في حال كونه يخطب، وأما بين الخطبتين فلا بأس بذلك.
وهنا مسائل لم يذكرها المؤلف:
الأولى: النهي عن العبث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في مسلم: (من مس الحصى فقد لغا) ، وقد تقدم أن من لغا كانت جمعته ظهراً.
الثانية: النهي عن الحبوة وهي أن يجلس على أليتيه ناصباً ساقيه وقد وضع على ذلك خيطاً أو يديه.
وقد ورد ما يدل على كراهيتها وهو ما ثبت في الترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب) .
فإذاً: قبل الخطبة وبعدها وبين الخطبتين لا بأس بالاحتباء أما أثناء الخطبة فإنه ينهى عن ذلك.
وإلى ذلك ذهب ابن المنذر واختاره المجد ابن تيمية والموفق ابن قدامة.
وأما المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور: أنه لا بأس بالاحتباء، واستدلوا: بما رواه أبو داود عن يعلى بن شداد قال: (شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فإذا جُل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب) لكن الحديث فيه سليمان بن الزبرقان (1) وهو ضعيف.
قالوا: وثبت الأثر عن ابن عمر: (أنه كان يحتبي والإمام يخطب) والسند إليه صحيح، لكن هذا الأثر مخالف بالسنة الصحيحة المتقدمة في كراهية الاحتباء.
فإذن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب مكروهة.
__________
(1) هو سليمان بن عبد الله بن الزبْرقان، ويقال ابن عبد الرحمن بن فيروز، لين الحديث من السابعة / ق. ا. هـ من التقريب.(8/63)
الثالثة – وهي داخلة في الكلام –: هل يجوز له أن ينبه من يخشى عليه هلكة كضرير متعرض لحريق أو نحو ذلك – والإمام يخطب؟
الجواب: يجب عليه ذلك لوجوبه في الصلاة مع أنه مفسد لها، فهو مفسد للصلاة غير مفسد للجمعة، فإذا وجب مع كونه مفسداً للصلاة فيجب من باب أولى مع كونه غير مفسد للجمعة.
الرابعة: وهل يجب تشميت العاطس ورد السلام؟
روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى: أنه يجوز قياساً على المسألة السابقة. قالوا: فكما أنه يجب عليه أن يتكلم بالكلام الواجب من إنقاذ ضرير ونحوه فكذلك يجب عليه تشميت العاطس ورد السلام؛ لأن تشميت العاطس واجب وكذلك رد السلام.
الرواية الثانية وهي مذهب جمهور أهل العلم: أنه ينهى عن ذلك.
قالوا: وعندنا قياس أصح من قياسكم، وهو أنه يقاس على النهي عن إنكار المنكر المتصل بالخطبة الذي يفوت إنكاره بتركه، وهو ما إذا تكلم أحد من الناس أثناء الخطبة فإنه ينهى عن أن يقول له أنصت، وهذا من باب إنكار المنكر وهو واجب فكذلك تشميت العاطس ورد السلام. وأما ما ذكرتموه من القياس على المسألة السابقة فبينهما ما هو من الفرق ظاهر فإن هذا واجب هو من الكماليات وإن كان واجباً في الشريعة. أما ذاك فإنه به تحفظ النفوس فلو ضاعت الخطبة على أن ينقذ مسلم لكان ذلك واجباً.
أما تشميت العاطس ورد السلام فإنه من المعلوم أنه يترك، فالرجل وهو يبول لا يجب عليه تشميت العاطس ولا يرد السلام كما تقدم في حديث أبي داود: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) .
الراجح: أنه لا يشرع له أن يشمت عاطساً ولا أن يرد سلاماً.
وهل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مع الإمام؟
الجواب: نعم وهو نص الإمام أحمد.(8/64)
وفرق بينه وبين المسألة السابقة، فإنه إن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطاب للرب، وأما تشميت العاطس ورد السلام فهو خطاب للآدمي، ولأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الخطيب لا تؤثر لا في الإنصات الواجب ولا في الاستماع المستحب، وقد تقدم حديث: (ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أولى من ذلك لأنها لا تقتضي انشغالاً عن سماع الخطبة أو الإنصات إليها.
ومثل ذلك: التأمين على دعوة الإمام فهو كلام لله عز وجل، ولا يشغله عن الإنصات ولا عن الاستماع المستحب فكان لا بأس به.
الخامسة: أن من تكلم يوم الجمعة، فلا بأس أن يشار إليه باليد ونحوها ليسكت. وذلك لما ثبت في حديث معاوية بن الحكم في إشارة الصحابة له عندما تكلم، وإذا ثبت هذا في الصلاة فأولى منه أن يثبت في الخطبة، ولأنه لا يؤثر فيها، ولا في ترك الإنصات الواجب ولا في ترك الاستماع المستحب.
وبهذا ننتهي من الكلام على أحكام الجمعة.
والحمد لله رب العالمين. انتهى باب صلاة الجمعة.
باب صلاة العيدين
العيدان: مثنى عيد، من العود وهو التكرار، فكونه يعود ويتكرر في أوقاته السنوية المعلومة سمى عيداً لذلك.
وعيدا المسلمين: عيد الفطر وعيد الأضحى.
قال المؤلف رحمه الله: (وهي فرض كفاية)
وهي: أي صلاة العيدين صلاة عيد الأضحى وصلاة عيد الفطر فرض كفاية، فإذا قام بها بعض المسلمين ممن يظهر بهم هذه الشعيرة فإنه يسقط الإثم عن الباقين مع أنها مستحبة لكل مكلف ومباحة للنساء.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.(8/65)
وذهب الشافعية والمالكية: إلى أنها سنة مؤكدة، ودليلهم على سنيتها هو مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ومواظبة الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم عليها، فلذلك هي مشروعة مؤكدة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها منذ شرعت فكانت مؤكدة بذلك.
وأما الحنابلة فدليلهم على فرضيتها فرض كفاية، لأنها شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة والقاعدة في الشعيرة الظاهرة كالأذان وغيره أنها واجبة كالجمعة، فهذه أشياء ظاهرة واجبة على المكلفين لكنها ليست واجبة على الأعيان بل على الكفاية عندهم لأن دليلهم فحسب هو أنها شعيرة ظاهرة والشعائر الظاهرة متى قام بها من يكفي في إظهارها وإبرازها، فإن الحكم يسقط عن الباقين فيبقى في حقهم على الاستحباب.
وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام: إلى أنها فرض على كل مكلف من الذكور البالغين دون الإناث.
واستدلوا على فرضيتها بما ثبت في الصحيحين أن أم عطية حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور في العيدين ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. قالت: قلت يا رسول الله: إن إحدانا لا يكون لها جلباباً؟ فقال: لتلبسها أختها من جلبابها) وهذا الدليل – في الحقيقة – لو استدل به الأحناف، فإنه إنما يصح دليلاً على الذكور والإناث جميعاً.
ولعل دليلهم قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} فإن هذه الآية قد فسرت عند طائفة من المفسرين بأن المراد بها صلاة العيد وهذا في صلاة عيد الأضحى، ومثله الفطر.
لكن الصحيح أن هذه الآية: آية فيها أمر من الله بالصلاة أي بإقامتها، وبالنحر أي بأن يكون الذبح لله سواء بالأضاحي أو غيرها، بدليل أن هذه الآية مكية، وأن صلاة العيد لم تشرع إلا في المدينة.(8/66)
لكن ما ذكره الأحناف من الدليل المتقدم يصح أن يستدل به على ما ذهب إليه طائفة من العلماء: من أن صلاة العيد فرض على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر العواتق والحيض وذوات الخدور – في العيدين – أن يشهد الخير ودعوة المسلمين، وبالغ في ذلك حتى أمر من ليس لها جلباب أن تلبسها أختها من جلبابها، وظاهر أمره الإيجاب.
ويؤيده ما ثبت في مسند أحمد بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واجب على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) .
ويشهد لهذا الحديث أثر موقوف ثابت عن أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) .
وإلى ذلك ذهب طائفة من العلماء، وهو مذهب ابن حزم والصنعاني والشوكاني، واحتمل هذا القول شيخ الإسلام فقال: " وقد يقال بوجوبها على النساء وغيرهم " (1) ، وهذه الأدلة ظاهرة فيما ذكره شيخ الإسلام من هذا القول المحتمل.
فالراجح ما ذهب إليه طائفة من السلف وذهب إليه من تقدم ذكرهم واحتمله شيخ الإسلام فهو أظهرها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بذلك، وإذا ثبت هذا في حكم النساء فهو في حكم الرجال أولى.
قال: (إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام)
إذا ترك أهل بلد صلاة العيد فلم يقيموها في بلدتهم وهجروا هذه الشعيرة فإنهم يقاتلون، لدخولهم في القاعدة المتقدم ذكرها من أن القرية أو المدينة التي تخالف شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، فإنها تقاتل، كمن ترك الأذان ونحوه، وقد تقدم الكلام على هذا في باب الأذان.
فإذن يقاتلهم الإمام لاجتماعهم على ترك هذه الشعيرة، والجهاد قد أقيم لإقامة الدين أو بعضه، فكما يقاتل من ترك الدين فكذلك يقاتل من أصر على ترك شيء من شعائره الظاهرة.
__________
(1) قال في مجموع الفتاوى [24 / 183] : " والقول بوجوبه على الأعيان أقوى من القول بأنه فرض على الكفاية ".(8/67)
قال: (ووقتها كصلاة الضحى وآخره الزوال)
باتفاق أهل العلم، وأن وقتها كوقت صلاة الضحى ويكون ذلك من طلوع الشمس بارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس – هذا وقت صلاة العيد -.
ودليل هذا: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن عبد الله بن بُسْر – صاحب النبي صلى الله عليه وسلم – خرج مع الناس في يوم فطر أو أضحى [فأنكر] إبطاء الإمام فقال: (إن كنا- يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم – قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح) (1) ، وعند الطبراني وصححه ابن حجر: (وذلك حين تسبيح الضحى) أي حين صلاة الضحى.
ومما يدل على أنها ينتهي وقتها بزوال الشمس ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار قال: (جاء ركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس – أي هلال شوال – فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم) (2) عند الطحاوي: (وذلك بعد زوال الشمس) أي كان إتيانهم وقد زالت الشمس، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد بل أخرها إلى الغد.
إذن وقتها بالاتفاق من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح حتى زوال الشمس.
قال: (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد)
بعده: أي بعد الزوال، ودليله الحديث المتقدم وفيه: (وإذا أصبحوا أن يغدو إلى مصلاهم) .
__________
(1) سنن أبي داود [1 / 675] .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا لم يخرج الإمام للعيد.. (255) قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن جعفر بن أبي وحشية عن أبي عُمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ركباً جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم ".(8/68)
ومثل ذلك لو علموا قبيل الزوال بحيث لا يمكنهم الاجتماع وعلموا أنهم لو اجتمعوا فإن الصلاة لا يمكن أداؤها إلا وقد زالت الشمس – فإنهم يؤمرون بالخروج من الغد.
قال: (وتسن في صحراء)
أي يستحب أن تصلي صلاة العيد في الصحراء، فلا يصلي في المساجد لا الجامعة ولا غيرها.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى) (1)
واستثنى الحنابلة من ذلك: مكة، فقالوا يستحب لهم أن يصلوا في المسجد المكي.
قال الشافعي: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد إلى المصلى بالمدينة وكذلك من بعده وهكذا في سائر البلدان إلا مكة فلم يبلغنا أن أحداً من السلف ممن صلى بهم خرج بهم إلى المصلى.
قيل: لعظمة المكان.
وفي هذا نظر، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب الخروج إلى المصلى بغير منبر (956) : " حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن أبي سرْح عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان ... ".
وأخرجه مسلم (889) في كتاب صلاة العيدين وفيه: " عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة.. " وليس فيه ذكر المصلى إلا في آخر الحديث في قصته رضي الله عنه مع مروان. صحيح مسلم بشرح النووي [2 (6 / 177) ] .(8/69)
والذي يظهر لي: أن ذلك لضيق أطرافها، وضيق ممراتها بالجبال بحيث أنه يشق عليهم الخروج إلى مكان يسعهم كما يكون هذا في المدينة ونحوها، وذلك لفضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد خرج عنه وصلى في الصحراء، ولأن المقصد هو إظهار هذه الشعيرة للناس فكان المستحب أن يكون في الصحراء سواء في مكة وفي غيرها، وإنما استثنيت مكة لضيق أطرافها فإن ممراتها ضيقة بالجبال فلما كان كذلك كان المستحب – حينئذ – أن يصلي في المسجد، والله اعلم.
قال: (وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر)
المستحب في صلاة الأضحى أن يبكر بها، فإذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح صليت الأضحى.
وأما الفطر فبالعكس تؤخر شيئاً ما.
واستدلوا بتعليل، فقالوا: صلاة عيد الأضحى يعجل بها ويبكر ليتسع الوقت للأضاحي.
وبالعكس في صلاة عيد الفطر فأخرت ليتسع الوقت للناس لأداء صدقة الفطر، فإن المستحب في صدقة الفطر أن تخرج قبل صلاة العيد.
وهذه المسألة ورد فيها حديث رواه الشافعي ورواه عنه البيهقي وفيه إبراهيم بن يحيى وهو متروك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب إلى عمرو بن حزم أن عجل صلاة الأضحى وأخر صلاة الفطر) لكن الحديث في إسناده متروك، ومع ذلك فإن المسألة لا خلاف بين أهل العلم فيها.
قال الموفق: " ولا أعلم فيها خلافاً " (1) .
وفي التعليل بأن الأضحى تقدم لأجل الأضاحي، نظر.
ولو قيل إنما يستحب تعجيلها لاستحباب تعجيل الصلاة والمبادرة بها، فيكون هذا التعليل لصلاة الأضحى.
وأما صلاة الفطر فهو ما ذكروه سابقاً.
إذن: ما ذكره أهل العلم ظاهر، أما صلاة الأضحى فتعجل في أول وقتها لاستحباب الصلاة في أول وقتها فإن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها كما تقدم في الكلام في المواقيت، وإنما تؤخر صلاة الفطر ليتسع ذلك للمسلمين فيؤدوا صدقة فطرهم.
__________
(1) قال الموفق في المغنى [3 / 267] : " ولا أعلم فيه خلافاً ".(8/70)
قال: (وأكله قبلها)
يستحب له أن يأكل قبلها أي قبل صلاة عيد الفطر، وقد ثبت ذلك في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أراد أن يغدو إلى صلاة الفطر يأكل تمراً) (1) وعن رواية معلقة للبخاري: (يأكلهن وتراً) ووصلها الإمام أحمد بإسناد صحيح.
فإن أكل طعاماً آخر فإن ذلك يجزئ عنه لإدراك هذه السنة، لكن المستحب له أن يأكل تمراً.
وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن وصححه ابن حبان عن بريد بن الحصيب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) (2)
فيستحب للمسلم قبل أن يغدو إلى صلاة عيد الفطر أن يأكل شيئاً والمستحب أن يكون تمراً، والمستحب أن يكون وتراً.
وأما في يوم الأضحى فيستحب له أن يطعم بعد الصلاة؛ ليكون ذلك من أضحيته لذا قال:
قال: (وعكسه في الأضحى إن ضحى)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج من كتاب العيدين (953) : " حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا عُبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " وقال مُرَجّا بن رجاء: حدثني عبيد الله قال حدثني أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويأكلهن وتراً ".
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج قال: " حدثنا الحسن بن الصَّبّاح البزار البغدادي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن ثواب بن عُتبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي " قال: وفي الباب عن علي وأنس. قال أبو عيسى: حديث بريدة بن حصيب الأسلمي حديث غريب. وقال محمد: لا أعرف لثواب بن عتبة غير هذا الحديث ".(8/71)
وهذا قيد، فإن لم يضحِّ فإنه لا يترتب عليه شيء من السنة سواء أكل قبل الصلاة أو بعدها، فإنما استحب له ذلك ليكون طعامه من أضحيته.
قال: (وتكره في الجامع بلا عذر)
أي يكره للناس أن يصلوا في المساجد بلا عذر، فإن كان عذر من مطر أو برد شديد لا يتحملون أو يشق عليهم فإنهم يصلون في المساجد، لقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} .
وروى أبو داود بإسناد ضعيف عن أبي هريرة: (أنهم أصابهم يوم عيد مطر فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) (1) لكن الحديث وإن كان ضعيفاً فإن الآية مقررة لذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب يصلي بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر (1160) : حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد ح وحدثنا الربيع بن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا رجل من الفرويين وسماه الربيع في حديثه عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة سمع أبا يحيى عبيد الله التيمي يحدث عن أبي هريرة أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد "، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 686] .(8/72)
فإن لم يكن هناك عذر فالصلاة في المساجد مكروهة بل هي من البدع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر هذه الشعيرة في المصليات، واتخاذ المساجد لها خلاف السنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي ... . وإياكم ومحدثات الأمور) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607) قال رحمه الله تعالى: " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات والأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ".
وأخرجه الترمذي في كتاب العلم (2676) قال رحمه الله: " حدثنا علي بن حُجر حدثنا بقية بن الوليد عن بَحِير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا.
حدثنا بذلك الحسن بن علي الخلاّل وغير واحد قالوا: حدثنا أبو عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
والعرباض بن سارية يكنى أبا نجيح.
وقد روى هذا الحديث عن حُجر بن حُجْر عن عرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ".(8/73)
فهذه محدثة في الدين وكل محدثة بدعة.
وصلاة العيد كصلاة الجمعة لا تشرع إلا في موضع واحد فيجتمع الناس عامة في موضع واحد.
لكن إن كان في ذلك مشقة عليهم فإن لهم أن يزيدوا من المصليات ما يدفع عنهم الحاجة بقدرها كما تقدم في صلاة الجمعة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً)
أي يسن أن يبكر المأموم لصلاة العيد وذلك لفضيلة الدنو من الإمام.
(ماشياً) : لما روى الترمذي بإسناد ضعيف لكن له شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن، ولذا حسنه الترمذي عن علي قال: (من السنة أن يخرج إلى العيدين ماشياً) (1) فالمستحب أن يغدو إليها ماشياً سواء كان إماماً أو مأموماً.
قال: (بعد الصبح)
أي بعد صلاتها، وهنا قيده الحنابلة بأن يكون ذلك بعد الصلاة، وإن كان ظاهر لفظه هنا (بعد الصبح) أي بعد أذانه، ولكنه مقيد عندهم بأن يكون ذلك بعد صلاة الصبح لا قبلها، فلا يستحب أن يذهب قبل صلاة الصبح بل بعدها.
وقد ثبت في الدارقطني بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان يخرج إلى العيدين من المسجد - أي إذا صلى الصبح - فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) وسيأتي الكلام على التكبير إن شاء الله تعالى.
وظاهر قول المؤلف أن المستحب له أن يغدو قبل طلوع الشمس، ولم أر دليلاً يدل على ذلك، وحكى الموفق عن ابن عمر أنه كان يخرج إليها إذا طلعت الشمس، فإن كان ثابتاً عنه فهذا هو المستحب.
__________
(1) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في المشي يوم العيد من كتاب الجمعة (530) ، قال: " حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال: " من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم.. ".(8/74)
فإذن: يستحب للمسلم أن يغدو إليها بحيث يدرك خطبتها وصلاتها، وأما أن يستحب له ذلك بعد صلاة الصبح فإنه يحتاج إلى دليل.
وأما ما ثبت عن ابن عمر فليس فيه أنه بعد الصلاة مباشرة بل كان يغدو إليها من المسجد ويحتمل أن يكون هذا بعد ذكره وطلوع الشمس فيكون خروجه من المسجد إلى المصلى.
قال: (وتأخر إمام إلى وقت الصلاة)
فالإمام لا يستحب له أن يبكر كما يبكر المأمومون، بل المستحب له أن يتأخر فيكون ذهابه إلى المصلى بحيث يكون الوقت المستحب لإقامته للصلاة.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة) (1) أي يذهب فيقيمها.
قال: (على أحسن هيئة) .
فيسن أن يكون الخروج على أحسن هيئة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر المتقدم في رواية عنه: أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابتع هذه فالبسها للعيد والوفد) (2) ؛ ولأن الجمعة عيد وهذا عيد فكان المستحب لهما جميعاً التزين باللباس والطيب.
وثبت عن ابن عمر من فعله بإسناد جيد عند البيهقي: (أنه كان يلبس في العيد أحسن ثيابه)
قال الإمام مالك: " سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد " أي في عيد الفطر وعيد الأضحى وفي الجمعة.
قال: (إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه)
__________
(1) راجع صْ 51 الحاشية (19)
(2) أخرجه البخاري في أول كتاب العيدين (948) : " حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شُعيب عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هذه لباس من لا خلاق له) ... ". وأخرجه مسلم (2068) .(8/75)
لأن هذه الثياب فيها أثر العبادة والنسك فاستحب له أن يغدو إلى المسجد بها.
واستثنى بعض الحنابلة الإمام الأعظم، ومثله إمام الصلاة؛ لأنه منظور إليه، فاستُحب ألا يغدو بثياب اعتكافه بل يلبس أحسن ثيابه ويتطيب.
- وقال بعض الحنابلة: بل المعتكف كغيره في اللباس من الزينة والطيب، وهو قول القاضي من الحنابلة – وهو القول الراجح – فإنه لا دليل يدل على استحباب ذلك.
والأصل هو استحباب التزين والتطيب في العيد وهذا عام للمعتكف وغيره.
قال: (ومن شرطها: استيطان وعدد الجمعة لا إذن إمام)
أي من شرط العيد:
" استيطان " كما تقدم توضيحه في الكلام على صلاة الجمعة.
" وعدد الجمعة " ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه كان يقيم العيد في السفر بل كان لا يقيمها في السفر ولا خلفاؤه من بعده، فدل ذلك على أن العيد يشترط فيها الاستيطان وعدد الجمعة كما يشترط ذلك في الجمعة.
ولأن الجمعة عيد فاشترط في العيد ما اشترط في الجمعة، وقد تقدم أن العيد يجزئ عن الجمعة فكان القياس ظاهراً حينئذ، فإن الجمعة عيد وتجزئ عن العيد وكذلك العيد يجزئ عنها، فكان القياس بينهما ظاهر وواضح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في سفره ولا خلفاؤه الراشدون من بعده.
وقد تقدم البحث في مسألة العدد في باب الجمعة فكذلك العيد.
" لا إذن إمام " فلا يشترط أن يأذن الإمام، قياساً على الجمعة فهذه فريضة الله على عباده – وقد تقدم أنها عند الحنابلة فرض كفاية وأن الراجح أنها فرض عين. فهي فرض من فرائض الله فلم يكن للإمام أن يتطرق بعدم الإذن فكان حكم الله فوق حكمه، فلا يرجع إلى إذن الإمام أو عدمه.
قال: (ويسن أن يرجع من طريق آخر)(8/76)
يستحب له أن يكون ذهابه من طريق وإيابه من طريق آخر، وذلك لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق) (1) .
وقد ذكر أهل العلم لذلك عللاً كثيرة منها إظهار شعيرة الله بالذهاب والإياب لأداء هذه الفريضة.
ومنها إغاظة المنافقين.
ومنها السلام على أهل الطريقين، وغير ذلك.
ولا مانع من صحة بعض ما ذكروه من العلل كما أنه لا مانع أن تكون هناك عللاً أخرى، وكما أنه لا مانع أن تكون هذه العلل بمجموعها علة لهذه السنة، فإن السنة النبوية مشتملة على الحكم الكثيرة.
قال: (ويصليها ركعتين قبل الخطبة)
فصلاة العيد قبل الخطبة، فيبدأ بالصلاة ثم يخطب الناس.
فإن من أهم (2) بالخطبة قبل الصلاة لم يعتد بالخطبة وإن كانت الصلاة صحيحة بالاتفاق؛ لأن الخطبة سنة كما سيأتي تقريره فليست شرطاً في صلاة العيد بخلاف الخطبة يوم الجمعة فهي شرط فيها، لكن هذه الخطبة مردودة لأنها لم تقع حيث وضعها الله عز وجل.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يصلون قبل الخطبة) (3)
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد من كتاب العيدين (986) .
(2) لعلها: ابتدأ
(3) أخرجه البخاري في باب الخطبة بعد العيد من كتاب العيدين (963) : " حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة " وأخرجه أيضاً في باب المشي والركوب إلى العيد.. (957) ، وأخرجه مسلم (888) .
وأخرجه البخاري (962) قال: " حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: " شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة ". وأخرجه مسلم (884) .(8/77)
قال: (يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً وفي الثانية قبل القراءة خمساً)
يستحب له أن يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً مع الركعة الثانية.
والسبع الأولى مع تكبيرة الإحرام، والخمس الأخرى دون تكبيرة الانتقال.
ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود، وصححه أحمد والبخاري وابن المديني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التكبير يوم الفطر سبع في الأولى، وفي الآخرة خمس) (1) .
وثبت بيانه في أثر ثابت عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه: (كان يكبر في العيدين سبعاً في الأولى فيهن تكبيرة الافتتاح ويكبر في الآخرة ستاً مع تكبيرة الانتقال) .
وفي قوله: " قبل التعوذ والقراءة "؛ فللرواية المتقدمة وفي آخرها (ويقرأ بعدهما كلتيهما) (2) أي بعد هذا التكبير في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية تكون القراءة.
قال: (يرفع يديه مع كل تكبيرة)
واستدلوا: بعموم الأدلة، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث وفيه: (وكان يرفعهما عند كل ركعة وتكبيرة قبل الركوع حتى تنقضي صلاته) ، فهذا الحديث عام في كل تكبيرة قبل الركوع وأنه يستحب له أن يرفع يديه فيها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب التكبير في العيدين (1151) قال: " حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما) . وأخرجه عن عائشة (1149) : أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً ".
(2) بلفظ: " والقراءة بعدهما كلتيهما " كما تقدم في الحاشية (31) .(8/78)
وثبت نحوه في أبي داود من حديث وائل بن حجر بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه مع التكبير) (1) وهذا عام، لذا قال الإمام أحمد – عند هذا الأثر – قال: (أرى أنه يدخل فيه هذا كله) أي يدخل فيه تكبيرات العيد وتكبيرة صلاة الجنازة لعموم هذا الأثر.
ورووا عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه في تكبيرات العيد والجنائز، رواه الأثرم كما في كتاب المغنى وغيره ولم أقف على سنده.
وقال الموفق: " ولا يعلم له - أي لابن عمر - مخالف من الصحابة "، وهو مذهب الجمهور.
وخالف في ذلك بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام مالك، فرأوا أن ذلك لا يشرع لعدم ثبوته نصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. والراجح ما تقدم؛ لعمومات الأدلة.
قال: (ويقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً) .
أي يقول ذلك بين التكبيرات في الصلاة، فإذا كبر تكبيرة الإحرام واستفتح قال: " الله أكبر " ثم قال هذا الذكر ثم كبر وهكذا … حتى ينتهي من التكبير، ومثله الركعة الثانية.
قال: (وأن أحب قال غير ذلك)
لعدم التنصيص عليه، فإنما ذكره لأنه يحصل به ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقد روى المحاملي بإسناد جيد: " أن عبد الله بن مسعود كان بين كل تكبيرتين يحمد الله ويثني عليه "، ورواه الأثرم وزاد: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم) . واحتج به الإمام أحمد.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة تحت: أبواب تفريع استفتاح الصلاة (725) : " حدثنا مسدد حدثنا يزيد يعني ابن زريع حدثنا المسعودي حدثني عبد الجبار بن وائل حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبيرة "، قال المحقق في الحاشية: " في النسخة الهندية: " مع التكبير ".(8/79)
فقد ثبت لنا أن ابن مسعود كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين من تكبيرات العيد، وما ذكره المؤلف رأى أنه يحصل به ذلك، فلو قال غيره مما يكون فيه حمد وثناء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما لو قال: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد " فإنه يحصل به الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم يقرأ جهراً في الأولى بعد الفاتحة بسبح وبالغاشية في الثانية)
لما تقدم من حديث النعمان بن بشير الثابت في مسلم (1) ، ويستحب له أن يقرأ أحياناً ما ثبت في مسلم من حديث أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الفطر والأضحى بـ " (ق) واقتربت " (2) .
فالمستحب له أن يقرأ هاتين تارة، وأن يقرأ بسبح والغاشية تارة أخرى.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله: (فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة)
تقدم ما ذكره المؤلف من المسائل في خطبة الجمعة، فما ثبت فيها فهو ثابت في خطبة العيد، ومن ذلك أن خطبة العيد خطبتان، كما ذكر ذلك أهل العلم من الحنابلة والشافعية وأهل الظاهر وغيرهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (878) قال: " حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق جميعاً عن جرير قال يحيى: أخبرنا جرير عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين ".
(2) أخرج مسلم في كتاب العيدين باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (891) .(8/80)
ووردت أحاديث تدل على ذلك، منها أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما رواه ابن ماجه في سننه عن جابر قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام) (1) والحديث فيه أبو بحر وإسماعيل بن مسلم وهي ضعيفان فالحديث إسناده ضعيف جداً.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (يكبر الإمام إذا صعد المنبر يوم العيد قبل الخطبة الأولى تسع تكبيرات وقبل الثانية سبع تكبيرات) لكن الحديث مرسل، ومع ذلك فإن عمل أهل العلم على ذلك، ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة فتكون المسألة إجماعاً، ويمكن أن يستدل على هذه المسألة: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (شهدت صلاة الفطر مع نبي الله وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب فنزل - أي كان يخطب – نبي الله (أي مما ارتقاه سواء كان ذلك منبراً أو شيئاً عالياً) كأني أنظر إليه يجلس الرجال يشير بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات ….} الآية فقال: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتصدقن) (2)
__________
(1) ضعيف ابن ماجه للألباني رحمه الله تعالى ص94.
(2) أخرجه البخاري في باب موعظة الإمام النساء يوم العيد من كتاب العيدين (979) قال: " قال بن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الفطر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر عثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه حين يُجلِّس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال، فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية ثم قال حين فرغ منها: (أنتن على ذلك) قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها: نعم، لا يدْرِي حسنٌ من هي، قال: (فتصدقن) فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكُنَّ فداء أبي وأمي " فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. قال عبد الرزاق: الفَتَخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية ". وأخرجه البخاري أيضاً في كتاب التفسير، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك (4895) . وأخرجه مسلم في أول كتاب العيدين (884) .(8/81)
والشاهد فيه قوله: (كأني أنظر إليه يجلس الرجال) لما انتهى من الخطبة الأولى وذهب إلى النساء يخطبهن، فدل على أنها خطبة أخرى، وإن كان السنة أن تكون هذه الخطبة الثانية موجهة إلى النساء، ولكن مع ذلك هي خطبة أخرى يجلس لها الرجال أي يستحب للرجال أن يجلسوا لها فتكون هي الخطبة الثانية.
* وهل يستحب له إذا قام على المنبر أن يجلس أم يشرع في خطبته من غير جلوس؟
قولان لأهل العلم من الحنابلة وغيرهم:
الأول: أنه يستحب له الجلوس كجلوسه يوم الجمعة؛ وذلك ليتراد إليه نفسه ويستريح.
2- الثاني: أنه لا يستحب له ذلك، لأن هذا الجلوس الذي شرع يوم الجمعة إنما هو للأذان بين يديه، فللأذان واستماعه كان المستحب أن يجلس ولا فائدة من القيام حينئذ.
وأما العيد فلا يستحب له أذان ولا إقامة كما تقدم في الأذان فكان المستحب له أن يشرع في خطبته من غير جلوس.
وهذا أولى؛ فإن ظاهر الأحاديث الواردة في سنته في الخطبة ليس فيها ذكر الجلوس، بل فيها أنه كان يقوم فيخطب، لكن إن جلس محتاجاً إلى ذلك ليستريح ويتراد إليه نفسه فلا بأس بذلك للحاجة.
قال: (يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع)
هذا هو المستحب عند جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم.
قالوا: يستحب أن يفتتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متواليات لا يفصل بينها بفاصل من ذكر ولا غيره ويفتتح الثانية بسبع تكبيرات.
واستدلوا بالأثر المتقدم الذي رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأخرجه سعيد بن منصور وغيره.(8/82)
لكن الحديث – كما تقدم – ضعيف مرسل، ولذا اختار شيخ الإسلام وتلميذه إلى أنه يفتتحها بالحمد؛ لأن الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبه كلها الافتتاح بالحمد له، وأما الافتتاح بالتكبير فلم يثبت عنه، وما روي عنه لا يصح ولا يثبت، فكان المستحب له الافتتاح بالحمد له، ولما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه والصواب أنه مرسل: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) (1) ، وروى ابن ماجه في سننه – بإسناد ضعيف – من حديث سعد المؤذن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يكثر من التكبير بين أضعاف خطبة العيد) (2) .
قال: (يحثهم في الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يُخرجون، ويرغبهم في الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها)
الوارد عنه – عليه الصلاة والسلام – في خطبة العيد في الفطر والأضحى – هو التذكير والوعظ والأمر بالتقوى والحث على طاعة الله عز وجل.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4840) وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (1894) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ".
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1287) : " حدثنا هشام بن عمّار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد المؤذن حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبّر بين أضغاف – كذا في الطبعة التي بين يدي - الخطبة يُكثر في خطبة العيدين ".(8/83)
كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (شهدت يوم العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم) (1) .
وأما ما ذكره المؤلف من كون الخطيب يستحب له أن يذكرهم بمسائل الفطر في عيد الفطر، فإن في هذا نظراً؛ لعدم ثبوته أولاً – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - –.
وثانياً: فوات محله، فإن صدقة الفطر تشرع بل لا تجزئ إلا أن يكون قبل صلاة العيد، فإذا صلى الناس العيد فقد فات وقتها فلم يكن للتنبيه على مسائلها فائدة، بل كان الاشتغال بوعظ الناس وتذكيرهم وأمرهم بالتقوى وحثهم على الطاعة ونهيهم عن المعصية ونحو ذلك أولى من بيان ذلك.
- أما الأضحى فإنه قد صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد قال في خطبة كما في الصحيحين من حديث البراء، قال - صلى الله عليه وسلم -: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) (2) . وفي المسند وابن ماجه: (فاستقبلهم وهم جلوس وقال: تصدقوا) (3) فقد أمر الرجال بالصدقة.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب المشي والركوب إلى العيد.. (961) مختصراً دون آخره. وأخرجه مسلم في كتاب العيدين (885) .
(2) أخرجه البخاري في أول كتاب الأضاحي (5545) و (954) بلفظ قريب منه، وأخرجه مسلم (1962) .
(3) أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1288) قال: " حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله أخبرني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول: (تصدقوا، تصدقوا) فأكثر من يتصدق النساء.. "(8/84)
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن شيء من أحكام الأضاحي في خطبة في عيد الأضحى ولا شك أن الفائدة واضحة في هذا، فإن الأضاحي إنما تشرع بعد الصلاة فيكون في بيان أحكامها فائدة للمصلين وتعليم لهم.
إذن: ما ذكره المؤلف هنا وهو مذهب الحنابلة وغيرهم أن الكلام في خطبة عيد الفطر يكون عن إخراج الفطرة، في هذا نظراً لفوات وقته وعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الكلام عن الأضاحي في خطبة عيد الأضحى فإن محل ذلك لم يفت، والمصلحة مقتضية الكلام على هذا ولثبوته أولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (والتكبيرات الزوائد والذكر بينها والخطبتان سنة)
التكبيرات الزوائد: وهي ستة تكبيرات زوائد في الأولى وخمساً في الثانية، فهذه التكبيرات سنة والذكر بينها المروي عن ابن مسعود من ذكر الله وحمده والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم – كذلك سنة –، ولا خلاف بين العلماء في أن ذلك سنة، فلو صلى الإمام ولم يكبر التكبيرات الزوائد فإنه قد ترك سنة ولا يؤثر ذلك في صلاته باتفاق العلماء.
(والخطبتان سنة) فإن الصلاة تصح ولو لم يخطب، ولا يجب على الناس من الذكور والإناث أن يستمعوا إلى الخطبة.
يدل على ذلك ما ثبت في أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن السائب قال: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس [للخطبة] فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب) (1) والحديث إسناده صحيح، وقد اتفق العلماء على القول به.
قال: (ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها)
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب الجلوس للخطبة من كتاب الصلاة (1155) ، وأخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة من كتاب إقامة الصلاة (1290) .(8/85)
أي يكره لمن أتى للعيد أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) (1) .
*وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة.
قال الإمام أحمد: " الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا يصلون قبلها ولا بعدها ".
وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك والحسن البصري: (أنهما كانا يصليان قبل خروج الإمام) .
وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن عجرة أنه قال في الصلاة قبل العيد: (بدعة وترك سنة) .
فالصحابة ومن بعدهم قد اختلفوا في هذه المسألة.
والمشهور في المذهب – خلافاً للشافعية –: أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها.
والصحيح في هذه المسألة: أنه إن صلى بعدها فحسن – وهو مستحب -، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت ذلك في ابن ماجه بإسناد حسن كما قال الحافظ وهو كما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين) (2) .
فإن قيل: قد نفى ذلك ابن عباس في حديثه المتقدم؟
فالجواب: أن المثبت مقدم على النافي، فالمثبت معه علم زائد موجب للإثبات، وأما النافي فليس معه إلا العدم.
وأما قبل صلاة العيد فالصحيح أنه لا بأس له أن يصلي إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح؛ لأنه لا دليل يمنع من ذلك فيكون ذلك من التطوع المطلق كما يكون ذلك في صلاة الجمعة في سنتها القبلية، لأن هذا وقت جواز للصلاة ولا دليل يدل على المنع.
__________
(1) أخرجه مسلم في باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى (884) بلفظ قريب منه، وأخرجه البخاري في باب القُرْط للنساء من كتاب اللباس (5883) .
(2) أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها من كتاب إقامة الصلاة (1293) من حديث أبي سعيد الخدري.(8/86)
وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي – كما في حديث ابن عباس –، فإنه كذلك لم يكن يصلي يوم الجمعة قبلها، فيكون ذلك هو المشروع للخطيب، فالخطيب لا يشرع له أن يصلي قبل الجمعة وقبل العيد، وأما الناس فإن ذلك من التطوع المطلق أن يصلي ما كتب له.
وقال بعض الحنابلة: يصلي تحية المسجد.
وهذا ظاهر فيما إذا كانت صلاة العيد قد أقيمت في مسجد فإن هذا ظاهر، بل القول بوجوبه واضح لوجوب تحية المسجد سواء كان ذلك في وقت نهي أو لا.
وأما المصلى فظاهر كلام هذا القائل من الحنابلة: أنه كذلك، وهو قول قوي من إلحاق المصلى بالمسجد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء الحيض: (ويعتزل الحيض المصلى) (1) ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المصلى حكم المسجد من وجوب اعتزال الحيض له، فكان كذلك في حكمه ذلك الوقت في تحية المسجد.
فالأظهر: أنه إذا أتى صلى ركعتين تحية المسجد، وإذا تأخر الإمام حتى ارتفعت الشمس صلى ما كتب له من الصلوات من باب التطوع المطلق، وعليه فيكون حكم العيد كحكم الجمعة، وهذا ما يدل عليه القياس فإن الجمعة عيد.
ويدل على ثبوت هذا القياس ثبوت صلاة الركعتين عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كما كان يصليها بعد الجمعة في بيته.
فعلى ذلك التنفل يوم العيد: أما قبل صلاة العيد فإنه من التنفل المطلق إلا أنه يشرع له أن يصلي تحية المسجد.
وأما بعد العيد فيستحب له أن يصلي ركعتين في بيته.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها)
" لمن فاتته " أي صلاة العيد.
فيسن القضاء لصلاة العيد ويسن أن يكون ذلك على هيئتها وصفتها، فهنا مسألتان:
__________
(1) متفق عليه، راجع صْ 49.(8/87)
المسألة الأولى: مشروعية قضاء صلاة العيد، وذكر المؤلف هنا أن ذلك سنة وهذا بناءً على أن صلاة العيد فرض على الكفاية فتكون على أفراد المكلفين على الاستحباب، وما كان مستحباً فإن قضائه مستحب. وعلى القول بأنها فرض عين – كما تقدم ترجيحه – فيجب قضاؤها؛ لأن فعلها واجب فقضاؤها واجب أيضاً وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) (1) .
ويترتب الخلاف على ما تقدم في قضاء الصلاة هل يقضي المعذور وغيره، أم القضاء فقط للمعذور؟
وتقدم أن الراجح أن القضاء للمعذورين فقط، وأن غير المعذورين لا قضاء عليهم كما هو اختيار شيخ الإسلام.
المسألة الثانية: فهي داخلة تحت القاعدة المشهورة: وهي أن القضاء يحكي الأداء، فمن فاتته صلاة العيد قضاها على هيئتها وصفتها ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً كهيئتها للقاعدة المشهورة: القضاء يحكي الأداء، والأدلة الشرعية تدل على هذه القاعدة.
فقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها) الضمير يعود إلى الصلاة المتروكة نفسها فكان قضاؤها يحكي أداءها.
وقال ابن مسعود: يقضيها أربعاً، وهو قول لبعض الحنابلة.
وقال بعضهم: إن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين.
وأثر ابن مسعود رضي الله عنه ثابت عنه في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من فاتته صلاة العيد فليصل أربعاً) .
وأثره مخالف بأثر رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس: (أنه قضاها على هيئتها وصفتها) فيخالف الأثران والقياس مع قول أنس.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب من نسي صلاة.. من كتاب مواقيت الصلاة (597) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها..) ، وأخرجه مسلم (684) في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.(8/88)
فإن القياس والنظر يقتضي أن يصلي هذه الصلاة التي هي من باب القضاء على هيئتها في الأداء.
وأما أثر ابن مسعود فإن هذا فيما يظهر من باب إلحاق العيد بالجمعة فإن الجمعة عيد، وإذا تركت صليت أربعاً فكذلك العيد.
لكن القياس هنا: ضعيف للفارق بين هاتين المسألتين في أن لصلاة الجمعة بدلاً وهو صلاة الظهر، وهو بدل في يومها فإذا فاتت رجع إلى المبدل، وأما صلاة العيد فليس لها بدل أصلي في سائر الأيام وإن كان غير أصلي في ذلك اليوم.
إذن: ما ذهب إليه جمهور العلماء أصح وأن صلاة العيد إن تركت صليت على هيئتها وصفتها بتكبيراتها الزوائد ونحو ذلك مما تقدم.
(ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيد)
يريد الفقهاء بالتكبير المطلق، التكبير في غير أدبار الصلوات المكتوبة.
وإنما التكبير المقيد هو التكبير المرتبط بأدبار الصلوات، وأما المطلق فهو ما يكبره الشخص في سوقه وممشاه ومجلسه وفي بيته ونحوه.
فيسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين، ليلة عيد الفطر وليلة عيد الأضحى.
أما ليلة عيد الأضحى فستأتي الآثار الدالة على ذلك، وأما عيد الفطر فدليله قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} أي لتكملوا عدة رمضان، ولتكبرون على ما هداكم من صيامه وقيامه ولعلكم تشكرون، فهذه الآية فيها أن التكبير يكون عند تمام عدة الشهر ويكون ذلك من رؤية الهلال، فيكبر من رؤية الهلال أو من ثبوت دخول الشهر الآخر بتمام عدة رمضان، فيكبر الله عند ثبوت رؤية الهلال وليلته تلك وصبيحته حتى يغدو إلى المسجد، وقد تقدم أثر ابن عمر: (أنه كان إذا غدا يوم فطر أو أضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) .
وروى نحوه ابن أبي شيبة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلا أن فيه: (إلى أن يقضي الصلاة) ، ومعلوم أن الإمام يكبر في صلاته.(8/89)
وله شاهد عند البيهقي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ثابتاً على وجه الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه الوقف عن ابن عمر رضي الله عنه – وهذا مذهب الجمهور –.
- وقال المالكية: لا يستحب له إلا عند غدوه بعد طلوع الشمس على خلاف بينهم إذا غدا قبل طلوع الشمس هل يكبر أم لا؟
لكن المقصود: أنهم لا يرون التكبير إلا في يوم العيد.
واستدلوا بأثر ابن عمر المتقدم.
والظاهر أن الآية عامة فيدخل فيها أثر ابن عمر والتكبير الوارد في الصلاة وفي أضعاف الخطبة، فإن ذلك كله من التكبير الداخل في قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}
إذن: المشهور عند الحنابلة: أنه يكبر مع رؤية الهلال وأثناء ليلته تلك وصبيحتها ومن غدوه إلى الصلاة داخلة في ذلك، وما يكون في الخطبة داخل ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه التكبير في الغدو، وشرع التكبير في الصلاة، وكما تقدم عند عامة أهل العلم من التكبير أثناء الخطبة والآية أيضاً تشمل التكبير في ليلته.
قال: (وفي فطر آكد)
للآية، فإن الله أمر بالتكبير فيه فقال: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ….} حتى ذهب بعض الظاهرية إلى وجوب التكبير، وهو قول قوي من أنه يجب عليه التكبير سواء كان ذلك في تكبيره في الصلاة، المقصود أنه يكبر الله عند تمام عدة رمضان.
قال: (وفي كل عشر ذي الحجة)
لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معلومات} والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة.
كما أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وثبت في البخاري معلقاً: (أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق في أيام عشر ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما) (1) فهذا الكلام على التكبير المطلق.
__________
(1) ذكره البخاري في باب فضل العمل في أيام التشريق من كتاب العيدين قبل حديث (969) .(8/90)
قال: (والمقيد عقب كل فريضة في جماعة من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق)
إذن: يسن التكبير المقيد.
أما المحرم فيسن له من صلاة الظهر يوم النحر، وأما غير المحرم فيسن له من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر صلاة من أيام التشريق وهي صلاة العصر، ويكبر بعد العصر ما لم تغب الشمس.
ودليل ذلك: الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: " الإجماع " أي إجماع الصحابة، عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، أما أثر عمر فلم أقف عليه.
وأما أثر علي فهو ثابت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر بعد صلاة الصبح من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويكبر بعد العصر) .
ونحوه عن ابن عباس عند البيهقي. ونحوه عن ابن مسعود عند الحاكم وهي أسانيد صحاح إليهم.
وقال ابن تيمية: " هو إجماع من أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أ. هـ
أما المحرم فإنه يكبر بعد صلاة الظهر من يوم النحر؛ لأنه منشغل قبل ذلك بالتلبية، فإذا صلى الظهر وقد رمى جمرة العقبة ضحى فإنه بعد صلاة الظهر يكون التكبير المقيد.
وعليه: فإن رمى - كما يكون هذا للضعفة، إن رمى - قبل الفجر عل قول فيكون قد انتهى من التلبية فإنها تنتهي برمي جمرة العقبة، وحينئذ يكبر بعد صلاة الفجر.
فإذن: قالوا بعد صلاة الظهر؛ لأنه هو الوقت الغالب في انتهاء الناس من رمي الجمار فيكبرون لانتهائهم من التلبية وحينئذ يكون انشغالهم بالتكبير.
ولكن مع ذلك فالأظهر أنه لا بأس أن يكبر ولا ينكر عليه، بدليل ما ثبت في البخاري وغيره عن أنس قال في غدوهم والنبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفة: (يلبي الملبي فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) .
فإذن: إن كبر يوم عرفة فلا بأس.(8/91)
ثم إن التكبير في الحقيقة لا يمنع من التلبية، فإن التلبية مشروعة على الإطلاق، وكونه يكبر بعد الصلوات المكتوبة هذا لا يشغله عن التلبية المشروعة، فإن التلبية ليست مشروعة في كل لحظة من لحظاته.
وهنا قال: " في جماعة ": فإذا صلى الصلاة المكتوبة في جماعة كبر، فإن صلاها منفرداً لم يكبر.
فالتكبير يشرع عقب الصلاة المكتوبة، لأن الصحابة كانوا يكبرون بعد صلاة الفجر، فكان التكبير مختصاً بالصلوات المكتوبة.
قالوا: ويكون ذلك في جماعة – خلافاً لمذهب مالك – فإن صلى المكتوبة منفرداً فإنه لا يكبر.
واستدلوا: بأثر رواه ابن المنذر واحتج به أحمد ولم أقف على سنده: أن ابن مسعود قال: (إنما التكبير على من كان في جماعة) ، قالوا: ولا يعلم له مخالف من الصحابة.
وهذا قوي في النظر، من باب أن التكبير إنما يشرع الجهر به وإظهاره وذلك إنما يكون بعد الصلوات التي يجتمع عليها الناس فيجتهدون في رفع أصواتهم وتظهر هذه الشعيرة من شعائر الله من التكبير.
وأيام التشريق يستحب فيها التكبير المطلق، فقد ثبت في البخاري معلقاً: " أن عمر كان يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد تكبيره فيكبرون، ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى "، " وكان ابن عمر يكبر تلك الأيام خلف الصلوات وعلى مجلسه في فسطاطه وممشاه، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز أيام التشريق) (1) ، وهي الأيام المعدودات التي قال الله فيها: {واذكروا الله في أيام معدودات} .
قال: (وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد)
إن نسى التكبير المقيد وهو ما زال دبر الصلاة المكتوبة، فإنه يقضيه؛ لأن السنة لم يفت محلها.
__________
(1) ذكره البخاري في باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة من كتاب العيدين قبل حديث (970)(8/92)
(ما لم يحدث أو يخرج من المسجد) : أما الخروج من المسجد فنعم، فإنه قاطع عرفاً، فإذا خرج من المسجد فإنه يكبر من باب التكبير المطلق، وأما التكبير المقيد فقد فاته لأن السنة قد فات محلها.
وأما الحدث، فاختار الموفق: أنه لا يؤثر في ذلك؛ لأن التكبير ليس من شرطه الطهارة.
وقال الحنابلة: الذكر تبع للصلاة فكان الحدث قاطعاً، والصحيح خلاف ذلك كما هو اختيار الموفق.
قال: (ولا يسن عقب صلاة عيد)
أي لا يسن له أن يكبر التكبير المقيد بعد صلاة العيد.
- أما عيد الفطر فهذا واضح؛ لأن التكبير المقيد بعد الصلوات المكتوبة لا يشرع في يوم الفطر بل في يوم النحر وفي يوم عرفة وأيام التشريق.
أما عيد الفطر فالتكبير فيه تكبير مطلق فلا يكون بعد الصلوات المكتوبة.
- وأما عيد النحر فكذلك، فإذا صلى صلاة عيد الأضحى فلا يكبر بعدها.
قالوا: لأن الوارد عن الصحابة إنما هو التكبير خلف الصلوات المفروضة، وصلاة العيد ليست من الصلوات المفروضة فلا يكبر بعدها.
- وقال بعض الحنابلة، كما هو اختيار الموفق: أنه يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ قال: لأن صلاة العيد صلاة مفروضة فهي مفروضة على الكفاية – كما تقدم في مذهب الحنابلة – فيسن لها التكبير كغيرها من الصلوات المفروضة.
قال: بل هي أولى؛ لأن صلاة العيد مختصة بذلك اليوم، والتكبير مختص بالعيد فكانت أحق من غيرها بالتكبير لاختصاصها بيوم العيد – وما ذكره أظهر –.
فالمستحب له أن يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ لأنها صلاة مفروضة كسائر الصلوات المفروضة.
قال: (وصفته شفعاً: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)
" شفعاً " أي لا يثلث.
وهكذا ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يقول في تكبيره: (الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) .(8/93)
واختار الشافعية أنه يثلث، فيقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) لثبوت ذلك عن ابن عباس كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح.
وكلا الصفتين ثابتتان عن هذين الصحابيين فأي منهما فعل فهو حسن.
قالوا: وتجوز التهنئة يوم العيد، وقد ثبت ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الإمام أحمد وذكره ابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي عن أبي أمامة وغيره من الصحابة أنهم كانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنك) ، قال الإمام أحمد: وإسناده جيد.
وإن هنأ بما يتعارف عليه الناس من الألفاظ فلا بأس، فإن هذه من مسائل العادات ولا حرج في مثل ذلك.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى باب العيدين
باب صلاة الكسوف
صلاة الكسوف من الصلوات المشروعة بإجماع أهل العلم.
والكسوف والخسوف: يطلقان على الشمس والقمر إذا ذهب نورهما واسود، فيقال في الشمس أو القمر: انكسفت أو انخسفت، فإذا ذهب ضوؤهما أو شيء منه يقال ذلك، وإن كان الغالب أن يطلق الكسوف على الشمس، والخسوف على القمر، ولكن مع ذلك فإن الخسوف يطلق على الشمس كما صحت بذلك الأدلة كما ثبت في قول عائشة: (انخسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال المؤلف رحمه الله: (تسن)
أي يسن صلاة الكسوف، وهذا مذهب جماهير أهل العلم حتى حكاه النووي وابن الوزير إجماعاً – أي أنها سنة مؤكدة -.
- وذهب طائفة من العلماء إلى وجوبها، وقد صرح به أبو عوانة صاحب المستخرج على صحيح مسلم فقال: (باب: وجوب صلاة الكسوف) ومال إليه الشوكاني والصنعاني.(8/94)
قال الشوكاني: " والظاهر الوجوب إلا أن يصح الإجماع وإلا فلا صارف) أي ما ورد من الأوامر من النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بإقامة الصلاة يوم تكسف الشمس أو القمر أوامر ظاهرها الوجوب لا صارف لها إلا أن يصح الإجماع المذكور، ومعلوم ما في حكاية الإجماع من التعسر.
فعلى ذلك القول بوجوبها قول قوي، فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – من حديث المغيرة قال: (انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس: انكسفت الشمس بموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف) ، وفي رواية للبخاري: (حتى يتجلى) .
فظاهر الأمر هو الوجوب فيتوجه ويقوي القول بوجوب ذلك إلا أن يثبت الإجماع، وفي إثباته – كما تقدم - عسر، فإن عامة ما مع من يذكر الإجماع عدم معرفة الخلاف بين العلماء، ومعلوم أن التفريق بالتلفظ بالسنية والإيجاب قليل عند السلف الصالح، فإنهم يقولون بالسنية ويريدون بذلك – كما هو مشهور من أقوالهم – الإيجاب.
وأما التفريق فهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين، والمقصود من ذلك أن حكاية الإجماع المتقدم فيها شيء من الصعوبة، فالقول بالإيجاب قول قوي وهو الذي يقتضيه المعنى، فإن هذه حال شديدة حيث كسفت الشمس أو خسف القمر وهما ما هما من نعم الله اللذان يقوم بهما مصالح العباد في حياتهم الدنيوية، فلا شك أن عليهم أن يلجؤوا إلى الله بالدعاء والصلاة وغير ذلك لرفع ما فيهم، وقد يكون ذلك من باب العقوبة فناسب أن يقبلوا إلى الله ويلجؤوا إليه ويسألوه كشف ورفع ما هم فيه مما قد يكون عقوبة من الله عز وجل.
قال: (جماعة وفرادى)
يسن صلاة الكسوف للمنفرد في بيته، وللجماعة في المسجد.(8/95)
أما كونها تشرع جماعة في المسجد فهذا ظاهر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (انكسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد وصف الناس وراءه) وفيه أن صلاة الكسوف تشرع في المساجد لا في المصليات.
وأما إقامتها فرادى فلإطلاقات الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (فادعوا الله وصلوا) ، وقوله: (وصلوا) لفظ مطلق يشمل الأمر بالصلاة على هيئة الجماعة أو على هيئة الانفراد.
قالوا: لكن الأفضل أن يصلي جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
والأظهر على القول بوجوب صلاة الكسوف أن يقال بوجوب صلاتها جماعة وإن صحت فرادى، لأنها من الواجبات فأشبهت صلاة الفريضة، فكما أن الفريضة يجب أن تقام في الجماعة فكذلك صلاة الكسوف يجب أن تقام في الجماعة.
كما أنه يشرع حضور النساء لها، فقد ثبت حضور عائشة وأسماء بنت أبي بكر، لها كما ثبت في الصحيحين، فقد صليتا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (إذا كسف أحد النيرين)
الشمس أو القمر.
فإن قيل: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى في كسوف الشمس فما هو الدليل الدال على صلاتها عند خسوف القمر؟
فالجواب: أنه قد ثبت في نص قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا) أي رأيتم إنكسافهما.
قال: (ركعتين)
لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات " أي ركوعات " في ركعتين وأربع سجدات) .
فصلاة الكسوف ركعتان بأربع ركوعات وأربع سجودات.
قال: (يقرأ في الأولى جهراً) .
لحديث عائشة المتقدم وفيه: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاة الكسوف) فهذا يدل على أن المستحب هو الجهر.(8/96)
فإن قيل: فما الجواب عن قول ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال – رضي الله عنه -: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر لصرح رضي الله عنه بقراءته ولما قال: (نحواً من قراءة سورة البقرة) ؟
فالجواب على ذلك: أن قول ابن عباس لا يعارض بحديث عائشة، فإن غاية قوله هو نفي الجهر وأن كان ليس صريحاً في ذلك فغايته عدم سماعه لجهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة قد أثبتت جهره، والمثبت مقدم على النافي ويحتمل أن ابن عباس لبعده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك. ومعلوم أنه لم يكن من كبار الصحابة بل قد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ناهز الاحتلام، فلعل هذه الصلاة في سنه العاشرة أو الحادية عشر فربما كان في أواخر الناس فلم يكن يتبين قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما عائشة فقد صرحت بإثبات الجهر.
فعلى ذلك يستحب الجهر سواء كانت الصلاة لكسوف الشمس أو لخسوف القمر فإن الحديث المتقدم حديث عائشة في صلاة كسوف الشمس وهي في النهار فإذا كان ذلك في النهار الذي الأصل فيه أن تكون القراءة سرية فأولى من ذلك صلاة كسوف القمر الذي يكون ليلاً.
قال: (يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورة طويلة)
كما تقدم عن ابن عباس نحواً من سورة البقرة، وهذا على الاستحباب.
قال: (ثم يركع ركوعاً طويلاً ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى، ثم يركع فيطيل وهو دون الأول، ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد ويسلِّم)(8/97)
دل على هذه الصفة ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " ثم رفع ثم سجد " ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم ركع - هنا حذف أي ثم قام قياماً فإنه لابد بعد الركوع من قيام ليثبت الركوع الثاني فإنه لا يمكن أن يكون الركوع الثاني إلا بعد قيام - ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) .
وقد ذكر المؤلف هنا: أنه يسمع ويحمد بعد رفعه من كل ركوع وهو ثابت في حديث عائشة في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعد ركوعه الأول والثاني من كل ركعة قال: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) .
وذكر المؤلف – هنا – أن سجوده سجود طويل وهذا وإن لم يثبت في حديث ابن عباس فهو ثابت في حديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (ثم سجد سجوداً طويلاً) .
وثبت في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: (ثم سجد فلم يكد يرفع) (1) ، وهذا هو الذي تقتضيه سنته - صلى الله عليه وسلم – من كون قيامه فركوعه فرفعه من الركوع فسجوده فجلوسه بين السجدتين فانصرافه قريباً من السواء – كما في الصحيحين من حديث البراء، فناسب أن يكون سجوده طويلاً كطول قيامه أي بالمناسبة، فليس المقصود أنه يكون كقيامه بالقدر، لكن المراد بالمناسبة: فكما أنه أطال القيام على خلاف العادة فإنه يطيل السجود على خلاف العادة، لكن يكون ذلك بالتناسب والاعتدال.
__________
(1) سنن أبي داود [1 / 704](8/98)
إذن: يطيل السجود أيضاً السجدتين الأولى والثانية إلا أن سجدته الثانية تكون أخف من السجدة الأولى، وسجدتاه في الركعة الثانية تكون أخف من سجدتيه في الركعة الأولى.
فهذه صفة صلاة الكسوف الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك صفات أخر وردت في السنة سيأتي الكلام عليها في الدرس القادم.
قال: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة) .
لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فادع الله وصلوا حتى تنكشف) فظاهره أن الانكشاف غاية لهذه الصلاة وأن المستحب له إذا انكشفت أو تجلت أن يخفف الصلاة فيتمها خفيفة.
فإن انصرف من صلاته ولم يتجلى الشمس أو القمر بعد فيستحب له أن يكثر من الدعاء والذكر والصدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره) وتقدم في الحديث المتفق عليه: (فادعوا الله وصلوا) ، وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بالصلاة والصدقة) ، وفي أبي داود وذكره البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بالعتاق) أي أن تعتق الرقاب.
فإذن: إذا انتهوا من الصلاة ولم تتجلى الشمس بعد أو لم يزل الخسوف فإنهم ينشغلون بالدعاء والذكر وقراءة القرآن وغير ذلك مما تقدم من الصدقة وعتق الرقاب مما هو سبب لإطفاء غضب الرب وإزالة ما وقع من الكسوف أو الخسوف.
* وهل له أن يشتغل بالصلاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
1 - فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم: أن صلاة الكسوف لا تعاد فإذا انصرفوا ولم تتجلى الشمس فليس لهم أن يعيدوها.
2- قال بعض الحنابلة: بل لهم ذلك.
وهذا فيما يظهر لي – قوي – فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة فيشمل أن يصلي هاتين الركعتين أو غيرها من الركعات فقد أمر بالصلاة حتى يتجلى.(8/99)
وقد انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلته المتقدمة وقد انجلت الشمس فلا يصح أن يكون هذا دليلاً على منع الاستمرار بالصلاة والإكثار منها.
وهنا قد أمر في هذا الحديث بالصلاة والدعاء حتى تتجلى أو تنكشف.
والأظهر أنه لا مانع من أن يصلي وإن شاء أن يدعو ويذكر الله ويشتغل بالصدقة ونحو ذلك فهذا أيضاً حسن.
وهل يقضي صلاة الكسوف؟
قال أهل العلم: لا يقضي، ذلك لأنها عبادة قد فات محلها، فمحلها ما دامت الشمس خاسفة أو القمر، فإذا زال هذا الخسوف فإن محلها قد فات فلا تشرع كصلاة الاستسقاء وكتحية المسجد وغيرها من العبادات التي تشرع على حال فإذا ذهبت هذه الحال لم تشرع هذه الصلاة.
* وينادي لها بـ " الصلاة جامعة "؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة) ولا يشرع لها أذان ولا إقامة.
مسألة:
بماذا تدرك الركعة الأولى من صلاة الكسوف، بالركوع الأول أما بالركوع الثاني؟
الظاهر أنها تدرك بالركوع الثاني، لأنه هو الركوع الأصلي، فإن الركوع الأصلي في الصلاة ما يَعْقبه الرفع الذي فيه التحميد الذي يتبعه السجود.
بخلاف الركوع الأول فهو طارئ فهو مسبوق بقراءة وملحوق بقراءة، فهو ركوع طارئ في هذه الصلاة فإذا أدرك الركوع الثاني فإنه يدرك بذلك الركعة.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف ... لم يصل)
إذا غابت الشمس وهي كاسفة، أو طلعت الشمس والقمر خاسف فإنه لا يصلي الكسوف.
ومثل ذلك: لو شرعوا في الصلاة وقد خسف القمر وطلعت الشمس أو كسفت الشمس وغابت فمثل ذلك فيكون في حكم الانجلاء فحينئذ يتموها خفيفة.(8/100)
وذلك لأن وقت الانتفاع بهما – أي بالشمس والقمر – هو الليل للقمر والنهار للشمس، فإذا خرج النهار تصاب الشمس ومثل ذلك طلوع الشمس قليل فإنه حينئذ يذهب وقت الانتفاع بهما – هكذا علل الفقهاء –.
ويستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يتجلى) وقوله: (حتى تنكشف) وغياب الشمس وكذلك القمر هو في حكم الانجلاء لأنه لا يمكن أن يكون الانجلاء غاية وقد غابت الشمس فحينئذ لا يكون للصلاة مدى أو نهاية إلا نهاية طويلة قد لا تتضح إلا بعد ساعات طويلة وهذا متعذر لا يعلق الشرع بمثله.
قالوا - والقول هنا لفقهاء الحنابلة ومن وافقهم -: وكذلك إذا طلع الفجر والقمر خاسف فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف، وإن كانوا قد شرعوا فيها فإنهم يتمونها خفيفة.
قالوا: لأن طلوع الفجر ينهى فيه عن الصلاة النافلة فهو وقت نهي – كما هو المشهور في المذهب –.
وعند جمهور العلماء: وقت النهي يبدأ من بعد الصلاة، والراجح كما تقدم أنه يدخل بطلوع الفجر.
ولكن مع ذلك فإن الصحيح ما ذهب إليه الشافعية، فقد قالوا: إن الصلوات ذات الأسباب تصلي في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم هنا: (فإذا رأيتموهما فادع الله وصلوا) وتقدم البحث هناك في حكم الصلاة في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف فإنها من ذوات الأسباب فتصلي في أوقات النهي.
إذن الحنابلة ومثل ذلك من ذهب إلى مذهبهم: أن صلاة الكسوف لا تصلى في وقت النهي، قالوا: فإذا طلع الفجر – وهذا القول للحنابلة – أو صليت الفجر – وهو قول الجمهور – فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف؛ لأن الوقت وقت نهي وإن كان الانتفاع موجود، فإن الانتفاع يبقى بالفجر وإن طلع الفجر فإنه يضيء في ذلك الوقت، لكن الأمر لمتعلق آخر وهو وقت النهي.(8/101)
إذن المشهور عند الحنابلة أن صلاة الكسوف لا تصلى في أوقات النهي وحينئذ فيدعون الله ويذكرونه ويتصدقون ويكبرون فلا يصلون وإنما يشتغلون بالذكر والدعاء والصدقة والعتق ونحو ذلك من الأعمال التي تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها ومشروعيتها في يوم كسوف الشمس أو ليلة خسوف القمر، والراجح ما تقدم.
قال: (أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل)
إذا كانت هناك آية من الآيات العظام كنزول صواعق أو كثرة خسف أو سقوط شيء من الكواكب على هيئة ظاهرة مخوفة فهل يشرع لهم أن يصلوا؟
قالوا: لا يشرع لهم أن يصلوا باستثناء الزلزلة، لثبوت الأثر عن ابن عباس فيها، فقد صح في البيهقي عنه: (أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات، صح عنه ذلك في البيهقي بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ " صلى بهم " أي صلى بهم جماعة وذلك في البصرة، وقد صلى ركعتين وقال: (هكذا صلاة الآيات) .
وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يشرع مطلقاً لا في الزلزلة ولا في غيرها؛ قالوا: لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين أن صلوا في آية من الآيات لا في زلزلة ولا في غيرها.
وقال الأحناف: بل يصلي في كل آية، فكل آية من الآيات التي تشابه كسوف الشمس أو خسوف القمر، ومثل ذلك نزول الصواعق والزلازل ونحو ذلك من الآيات العظام التي يخوف الله بها عباده، قالوا: فإنه يصلي.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده) .
قالوا: ومثل ذلك في الزلزلة ونحوها من الآيات فإن فيها تخويفاً من الله عز وجل، والأصل أن يتعدى الحكم، فما دام المعنى الموجود في خسوف الشمس والقمر موجوداً في الزلزلة والصواعق ونحوها من الآيات العظام المخوفة فإن الحكم يثبت – وهذا قياس ظاهر –.(8/102)
قالوا: ولأن ابن عباس قال: (هكذا صلاة الآيات) وهذا عام، فكما أن الحنابلة استدلوا به على الزلزلة فينبغي أن يستدلوا به على عموم الآيات. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ظاهر.
ثم إنا لا نقطع بحدوث آيات عظام كالزلازل ونحوها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين فلم يبلغنا وقوع مثل هذه الآيات العظام، وثبت لنا هذا القول من ابن عباس ومن صلاته ولم يعلم له مخالف.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخوف الله بهما عباده) ، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن هذه الصلاة المتقدم ذكرها لا تختص بخسوف القمر أو الشمس وإنما يتعدى ذلك إلى سائر الآيات كالزلازل والصواعق ونحوها من الآيات العظام التي فيها تخويف من الله لعباده، والله أعلم.
وإن صلاها كما ذكر ابن عباس، أو كصفة صلاة الكسوف فلا بأس.
قال: (وإن أتى في [كل] ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز)
تقدم حديث ابن عباس المتفق عليه وحديث عائشة وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان، وهنا قال المؤلف " أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز " له ذلك.
ومثل ذلك لو صلاها على هيئة التطوع فصلاها ركعتين كل ركعة فيها ركوع واحد.
واستدلوا بأحاديث وردت بهذه الصفات.
فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم – من حديث جابر -: (صلى في الخسوف ست ركعات في أربع سجدات) أي في كل ركعة ثلاث ركوعات.
وفي مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ثماني ركعات في أربع سجدات) .
وفي أبي داود من حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عشر ركعات في أربع سجدات
وفي أبي داود من حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاها ركعتين كهيئة التطوع) .(8/103)
قالوا: فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك وأنه يجوز له أن يصلي على خلاف الصفة المتقدمة، بل له أن يصلي في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس أو يكتفي بركوع واحد.
- وذهب إسحاق بن راهويه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه واستحسنه ابن المنذر وغيره من أهل العلم، قالوا: بل المشروع له أن يصلي في كل ركعة ركوعين ولم يصححوا الأحاديث التي تقدم ذكرها، ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف في عصره إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم فصلى بالناس ركعتين وفي كل ركعة ركوعان، وهذا القول هو القول الراجح.
أما ما ذكروه من الأحاديث فإنها أحاديث ضعيفة.
أما ما رواه مسلم من حديث ابن عباس وجابر، فإن أحاديث مسلم لا شك أن أهل العلم قد اتفقوا على تصحيحها، لكن يستثنى من ذلك اليسير الذي خالفه فيها الأئمة الكبار كأحمد والبخاري وغيرهم، وحذاق أهل العلم ممن كان لهم بصيرة في هذا العلم، فكان لهم مخالفة في أحاديث من أحاديث مسلم، وفي أحاديث أقل منها في صحيح البخاري، والواجب على طالب العلم أن يصحح كل ما ثبت في صحيح مسلم إلا تلك الأحاديث التي انتقدها الأئمة النقاد أو بعضهم، فله مجال بتصحيحها أو القول بتضعيفها فلا تكون من الأحاديث التي تلقت بالقبول واتفق الحفاظ على تصحيحها، ومن ذلك هذان الحديثان " حديث ابن عباس وحديث جابر "
فقد قال شيخ الإسلام: " وأما حذاق الأئمة فقد رأوا أنه غلط " يعني رواية ابن عباس ورواية جابر " ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة يوم مات إبراهيم.
وقال ابن القيم: " وكبار الأئمة لا يصححونه " يعني بذلك حديث ابن عباس ومثله في الحكم حديث جابر.(8/104)
وحديث ابن عباس من رواية: حبيب بن أبي ثابت عن طاووس عن ابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت مدلس، لكن تدليسه في صحيح مسلم محمول على السماع عند الأئمة إلا مثل هذا الحديث الذي قد اختلف فيه فإنه يصح أن يعلل بهذا التدليس بخلاف غيره من الأحاديث التي لم ينتقدها الحفاظ فإنها محمولة على السماع.
وأما حديث جابر فهو من رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء عن جابر، وعبد الملك بن سليمان وإن كانت أحاديثه كلها صحيحة في مسلم لكن في حفظه شيء من الضعف وإذا خولف تبين أنه قد أخطأ في هذا الحديث، وهنا كذلك فقد روى هذا الحديث هشام الدستوائى عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: (أربع ركعات في ركعتين) ورواية هشام هي الموافقة للأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث ابن عباس المتفق عليه المتقدم وغيره كحديث عائشة.
وحديث ابن عباس المتقدم، المحفوظ أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما صلى أربع ركعات) كما في الحديث المتفق عليه.
بل قد ورد هذا من أكثر من طريق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى أربع ركعات في ركعتين) .
فعلى ذلك هذان الحديثان في مسلم معللان عند أهل العلم، والصواب مع من عللهما.
أما حديث أبي بن كعب في أبي داود: فإن فيه أبا جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث.
وأما حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو في سنن أبي داود التي فيها أنه كان يصلي الخسوف كهيئة التطوع.
فحديث النعمان بن بشير مضطرب سنداً ومتناً، وحديث عبد الرحمن بن سمره فيه جهالة، وحديث عبد الله بن عمرو إسناده صحيح لكنه مخالف للمحفوظ عن ابن عمرو رضي الله عنه، فإن الثابت عنه من غير ما طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل إلا أربع ركعات.
فعلى ذلك يترجح لنا القول الثاني من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه في صلاة الكسوف إلا صلاة أربع ركوعات في ركعتين.(8/105)
مسألة: هل يشرع بعد صلاة الكسوف الخطبة؟
لم يذكرها المؤلف هنا، وذلك لأن المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور: أن الخطبة لا تشرع.
وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه كالقاضي وابن حامد وغيرهما: أن الخطبة مشروعة وأنه يشرع له أن يخطب فيها خطبتين كالجمعة.
والقول الثالث، وهو قول لبعض الحنابلة: أنه يشرع له أن يخطب لكن خطبة واحدة.
والقول الأخير هو أصحها، وذلك لصحة الأحاديث الواردة أولاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقد تقدم حديث ابن عباس وفيه: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) متفق عليه، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم من ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) .
وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث أسماء وفيه: (أما بعد فإني قد رأيت في مقامي هذا ما لم أكن قد رأيته، حتى الجنة والنار، وأنه قد أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال، يؤتى الرجل فيقال له: ما علمك بهذا الرجل، فأما المؤمن أو الموقن (1) - والشك من الراوي عن أسماء – فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له: نم صالحاً قد علمنا أن كنت لموقناً، وأما المنافق أو المرتاب – والشك من الراوي – فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) ، فهذا الحديث شيء من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الكسوف: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. الفتح لابن حجر [2 / 631] .(8/106)
فإذن هذه حجة ظاهرة في أنه قد خطب عليه الصلاة والسلام.
وأجاب عنه الحنابلة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خطب ليعلمهم حكم صلاة الكسوف ونحو ذلك.
لكن هذا الجواب ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب في عيد الأضحى في الأضاحي ولم يقل بعدم مشروعيتها لكلامه في الأضاحي، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكّر الناس ووعظهم – كما تقدم في الخطب السابقة عنه، ثم إن الحاجة إلى بيان حكمها يحتاج إليها مطلقاً من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.
فإذن الصحيح هو مشروعيتها، لكن الأحاديث المتقدمة لا تدل على ما ذهب إليه الشافعية من أنه يشرع لها خطبتان وإنما ظاهرها أنها خطبة واحدة، وهذا ما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو القول الراجح. وهذه الخطبة ليست شرطاً في صحة الصلاة، كما أن حضورها سنة كما تقدم في الكلام على خطبة العيد؛ وذلك لأن ليس فيها إلا مجرد فعله – عليه الصلاة والسلام – ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب.
مسألة: إذا اجتمع صلاة كسوف وشيء آخر كصلاة عيد أو مكتوبة أو نحو ذلك؟
إذا خشي فوات إحداهما فإنها تقدم على ما لم يخش فواته.
مثلاً: إذا لم يعلم بثبوت العيد إلا في الضحى الكبير وخشي إن اشتغلوا بصلاة الكسوف أن تفوتهم صلاة العيد وظنوا تأخر الكسوف، فحينئذ يشتغلون بصلاة العيد لخشية فواتها.
مثال آخر: إن كسفت الشمس وحضرت صلاة مكتوبة فخشوا إن اشتغلوا بالصلاة المكتوبة أن يفوت الكسوف مع أن وقت هذه الصلاة موسع، فحينئذ: يشتغلون بصلاة الكسوف.
أما إذا خشي فوات الجميع فإنهم يقدمون أوجبهما، وإن لم نقل بوجوب صلاة الكسوف فإنه يقال: يقدم أوكدهما.
والحمد لله رب العالمين
ا
انتهى باب صلاة الكسوف
باب: صلاة الاستسقاء
الاستسقاء هو طلب السقي أي بنزول المطر ونحوه.
فصلاة الاستسقاء هي الصلاة المشروعة لطلب السقي من الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها)(8/107)
" قحط المطر " أي احتبس، والجدب هو ضد الخصب.
فالجدب هو أن تمحل الأرض فلا تنبت، أو تنبت الشيء اليسير الذي لا تقوم به حاجة العباد.
وقحط المطر هو احتباسه.
ومثل ذلك: إن غاض شيء من الأنهار أو شيء من العيون أو نحوها التي تقوم بحاجة الناس من الماء الذي به حياتهم.
" صلوها " أي صلوا صلاة الاستسقاء.
ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى فتوجه إلى القبلة يدعو ثم حول رداءه وصلى ركعتين) ولذلك غيره من الأحاديث.
قال: (صلوها جماعة وفرادى)
أي لهم أن يصلوها فرادى في البيوت، ولهم أن يصلوها جماعة، والأفضل عند جمهور العلماء أن يصلوها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما صلاها جماعة.
إذن: المستحب والمشروع له أن يصليها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صلوا فرادى فلا بأس.
قال: (وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد)
أي صفة صلاة الاستسقاء أي هيئتها وكيفيتها، وموضعها الذي تصلي فيه، كصلاة العيد.(8/108)
أما موضعها فهو المصلى، فالمستحب أن تصلى صلاة الاستسقاء في المصلى، ويدل على ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد جيد عن عائشة قالت: (شكي الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه مخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر رسول الله وحمد الله ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم وإن الله أمركم أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم،ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم حول إلى الناس وجهه ونزل فصلى ركعتين، فأنشاء الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت) .
وأما كون هيئتها كهيئة صلاة العيد أي بالتكبير سبعاً في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وخمساً في الثانية دون تكبيرة الانتقال، وأن يجهر فيها بالقراءة وأن يقرأ بسبح والغاشية ونحوها مما ورد في صلاة العيد، فيدل عليه: ما ثبت عند الخمسة ورواه الترمذي وصححه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحديث حسن عن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه)
والشاهد قوله: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) أي كهيئة صلاة العيد من التكبير والجهر في القراءة وغيرها. وأما الجهر بالقراءة فقد ثبت في حديث عبد الله زيد بن عاصم – المتقدم – فقد قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي ….. وتمامه " فصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) .(8/109)
فإذن تصلى صلاة الاستسقاء كما تصلى صلاة العيد، بالتكبيرات السبع مع تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وبالتكبيرات الخمس في الركعة الثانية دون تكبيرة الانتقال، وبما ورد عن ابن مسعود مما يقال بين التكبيرات ويجهر فيهما بالقراءة ويقرأ بما ورد في صلاة العيد.
قال: (وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم)
وذلك لأن المعاصي والمظالم سبب للقحط وزوال النعم، ويدفع هذا النقم بضد سببها وهو فعل الطاعات وتقوى الله عز وجل لذا قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} .
فإذن يحثهم الإمام على تقوى الله وعلى الخروج من المظالم وعلى الاشتغال بطاعة الله فإن هذا هو السبب الأعظم في دفع ما هم فيه مما هو مظنة العقوبة.
قال: (وترك التشاحن) .
فإن التشاحن له أثر في ذلك، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من الثلاثة الذين لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً – كما ورد في ابن ماجه وغيره: (أخوان مُتصارمان) (1) فالدعاء والصلاة لا يرتفعان مع التشاحن فكان على الإمام أن يحثهم على ترك التشاحن فإنه سبب عظيم لوقوع النقم.
وقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) رفعة هذه النعمة من الإخبار بليلة القدر رفعت بسبب شيء من التلاحي الذي وقع بين بعض المسلمين.
قال: (ويأمرهم بالصيام والصدقة)
والصيام سبب لإجابة الدعوة، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعوت الصائم أنها لا ترد.
__________
(1) ضعيف الجامع ص383.(8/110)
والصدقة أيضاً سبب لإطفاء غضب الرب، فالصدقة تطفئ غضب الرب كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما ثبت في ابن ماجه: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) فدل على أن الصدقة تركها سبب لمنع القطر، فكان المستحب له أن يحثهم على الصيام والصدقة.
قال: (ويعدهم يوماً يخرجون فيه)
ليتهيئوا لهذا اليوم وقد تقدم قول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ووعد الناس يوماً يخرجون فيه) ولم أر دليلاً يدل على تحديد يوم من الأيام وأنه يستحب أن يكون ذلك في يوم اثنين أو خميس أو نحو ذلك، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ليوم من الأيام في تحديد الاستسقاء.
قال: (ويتنظف)
أي الإمام والمصلي.
يتنظف بإزالة الأوساخ وبالغسل، أما إزالة الأوساخ فهو ظاهر لما في ذلك من الأذى.
وأما كونه يستحب له أن يغتسل فلا دليل عليه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعل أصحابه كما بين ذلك ابن قيم الجوزية.
فاستحباب الحنابلة للاغتسال له لا دليل عليه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتقدم -: (متواضعاً متبذلاً " أي غير متزين في الهيئة " متخشعاً " أي مظهراً للخشوع " مترسلاً " أي على رسله في مشيه عليه السلام، ففيه استحباب ترك الزينة والغسل فيها، ألا أن يكون الأذى لا يزول إلا باغتسال فإنه ولا شك يستحب الاغتسال لإزالة الأذى الذي يؤذي المؤمنين عند اجتماعهم.
قال: (ولا يتطيب)
اتفاقاً، لقوله: (متبذلاً) فلا يستحب التطيب بل يخرج غير متزين ولا متطيب.
قال: (ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً)
كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام.
قال: (ومعه أهل الدين والصلاح)(8/111)
فإن المؤمنين يتوسلون إلى الله بدعائهم، فقد ثبت في البخاري عن عمر أنه قال: (اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا) ، فيستحب للإمام أن يدعو أهل الصلاح والخير والمشهورين بالتقوى والعبادة والعلم ونحو ذلك - يدعوهم - لحضورها فإنا نتوسل إلى الله بدعائهم وتأمينهم لإنزال القطر.
قال: (والشيوخ والصبيان المميزون)
فإنه إنما يطلق الصبي على المميز، ويخرج من ذلك الطفل فإنه ليس محلاً للعبادة، بخلاف الصبي المميز فإنه محل للعبادة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فيدعى الشيوخ من أهل السن، ويدعى الصبيان المميزون الذين تصح عبادتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) .
قال: (وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا)
إذن: لا يستحب أن تدعى إليها أهل الذمة، فهم أعداء الله وأعداء دينه وهم قد كفروا بنعمة الله عز وجل، فقمن ألا يستجاب لهم في دعوتهم مع المؤمنين، بل يخشى أن يقع ضد ذلك، فلم يكن مستحباً دعوتهم إلى حضور استسقاء المؤمنين، لكن إن خرجوا منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا.
إذن: يخرجون لكن يخرجون منفردين أي هم بجهة والمؤمنون بجهة أخرى، وعللوا ذلك: بأنهم قد تقع العقوبة عليهم من الله كما وقعت على من قبلهم فيما وقع على قوم عاد في استسقائهم فذكر الله أنهم رأوا سحابة فظنوها مطراً فإذا فيها عذاب الله عز وجل: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} ، وقد قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} .
إذن: استحب الفقهاء أن يكون خروج أهل الذمة من اليهود والنصارى إن خرجوا أن يكون خروجهم على هيئة الانفراد عن المؤمنين.(8/112)
وعللوا ذلك: بأنهم مظنة العقوبة من الله عز وجل فيخشى أن تقع العقوبة عليهم وعلى المسلمين عامة كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وكما قص الله علينا في قوم عاد ما قص من نزول العذاب عليهم وقد حسبوه سحاباً ينزل عليهم به المطر.
وألا يكون ذلك بيوم يختصون به، بل يكون خروجهم بنفس اليوم الذي يخرج به المؤمنون، فيكون اليوم واحداً للجميع.
قالوا: لئلا يوافق ذلك اليوم نزول مطر فتقع الفتنة عليهم وعلى بعض الأغرار من المؤمنين فيقولون مطرنا بسببهم.
فإذن: لا يمنع أهل الذمة من الخروج إن خرجوا، ولا يدعون له، لكن إن خرجوا فيكون خروجهم – أولاً – على هيئة الانفراد عن المؤمنين، وألا يختصوا بيوم خاص بهم بل يكون هو اليوم الذي خرج به المسلمون.
مسألة: وقت صلاة الاستسقاء ابتداءً كوقت صلاة العيد لذا قالت عائشة: (فخرج حين بدا حاجب الشمس) فوقتها وقت صلاة العيد في الأفضلية ولا تصلى في وقت النهي للسعة، فإن وقتها متسع بخلاف صلاة الكسوف، فيصلى في وقت صلاة العيد وهذا على الأفضلية عند جمهور أهل العلم.
لكن لو صلاها في وقت آخر كبعد الزوال لم يمنع من ذلك، وهذا عند جمهور أهل العلم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد)
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: أن خطبة الاستسقاء بعد الصلاة، فيصلي ثم يخطب.
المسألة الثانية: أنها خطبة واحدة.
أما المسألة الأولى: فهذا هو مذهب الجمهور وهو المشهور في المذهب من أن الخطبة تكون بعد الصلاة.
واستدلوا: بما رواه البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: (استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا) ، وبالقياس على صلاة العيد، فإنها أشبهتها بالصفة فالقياس يقتضي أن تكون الصلاة قبل الخطبة.(8/113)
- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهي سوى الرواية المشهورة عنه المتقدمة، وهو مذهب الليث بن سعد وابن المنذر: أن الخطبة قبل الصلاة، فيخطب ثم يصلي.
واستدلوا: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين) ، فكانت خطبته وهي الدعاء قبل صلاته.
وبحديث أبي داود المتقدم من حديث عائشة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أتى المصلى قعد على المنبر فخطب الناس) الحديث. وتقدم: وفيه (ثم نزل فصلى ركعتين) .
قالوا: فهذان حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت الحديث فإنه لا يصح القياس بل القياس مع النص فاسد، وأما حديث أبي هريرة فإن فيه النعمان بن راشد وهو ضعيف فعلى ذلك الحديث ضعيف.
فعليه: الصحيح أن الخطبة قبل الصلاة كما هو رواية عن الإمام أحمد.
أما المسألة الثانية: فهي أن الخطبة إنما تكون واحدة – وهذا خلافاً لمذهب مالك والشافعي وأن المشروع أن تكون خطبتين إذ لا دليل على ما ذهبوا إليه – فإن الأحاديث التي تقدم ذكرها التي فيها خطبته، ليس فيها أنه خطب خطبتين. وقياسهم على الجمعة أو على العيد قياس مع ثبوت الحديث المخالف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتفت إلى هذا القياس مع ثبوت ما هو ظاهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما خطب خطبة واحدة – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المشروع أن تكون خطبة واحدة.
قال: (يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد) .
فيفتتحها بالتكبير تسعاً، كخطبة العيد.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن رجب من الحنابلة: أن التكبير لا يشرع أن يفتتح به في خطبة الاستسقاء بل تفتح بالحمد كسائر خطبه صلى الله عليه وسلم.(8/114)
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول، وأنها تسن أن تفتح بالحمد وبالتكبير. لحديث عائشة المتقدم قالت: (فكبر رسول الله وحمد الله) ، لكن ليس فيه أن التكبير تسع بل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مفتتحاً خطبته، فالمستحب له هو التكبير والحمد من غير أن يحدد ذلك بعدد معين بل يقال بمطلق التكبير.
قال: (ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به)
فيكثر فيها الاستغفار، ويكثر قراءة الآيات التي فيها ذكر الاستغفار كقوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} ونحوها من الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار، وقد ثبت في الصحيحين: أن عبد الله بن يزيد – وكان من صغار الصحابة وكان والياً على الكوفة – (خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم – وهما صحابيين فقام بهم على الأرض على غير منبر فاستغفر الله ثم صلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة) فقوله: " استغفر " وهو صحابي ويقر من صحابيين من الصحابة يدل على مشروعية الاستغفار في الخطبة.
قال: (ويرفع يديه في خطبته)
وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه) ، وقد تقدم حديث عائشة في أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه) .
فإذن: يستحب له أن يرفع يديه في خطبة الاستسقاء، وليس هذا مختصاً بالإمام بل للإمام وغيره من المصلين، ففي صحيح البخاري من حديث أنس: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم) .
قال: (ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم)
استحباباً، فيستحب أن يدعو في خطبته بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ومنه اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ….الخ)(8/115)
فقد ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتته بواكي " أي يسألنه أن يتوسل إلى الله عز وجل وأن يستسقى الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً " أي تزول به الشدة " مريئاً " هو السهل النافع للباطن " مريعاً " المريع هو المخصب الذي يخصب الأرض فتنتفع به الأرض، وضبطت " مُريعاً " من الربيع " نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل) .
وثبت عنه كما روى ذلك أبو عوانة في صحيحه – فيما ذكره الحافظ في البلوغ – من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقال: (اللهم جللنا " أي عممنا " سحاباً كثيفاً قصيفاً " القصيف هو ذو الرعد " دلوقاً " أي متدفقاً بشدة " ضحوكاً " أي كثير المطر " تمطرنا منه رُذاذاً " الرذاذ هو دون الطش " قِطْقِطاً " وهو ما دون الرذاذ " سَحْلاً يا ذا الجلال والإكرام) .
وثبت عنه أيضاً في سنن أبي داود بإسناد حسن أنه قال – في استسقائه عليه السلام: (اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت) رواه أبو داود بإسناد جيد.
فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً، ويزيد ما شاء من الدعاء المباح المناسب للمقام من طلب السقيا من الله عز وجل.
* واعلم أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في الاستسقاء يدل على أنه لم يكن يخطب خطبة يعظ فيها الناس ويذكرهم وإنما كان – عليه الصلاة والسلام – يشتغل في خطبته بدعاء الله عز وجل وإخبارهم أن الله يجيب الدعوة – كما تقدم في حديث عائشة - ولم يكن – عليه الصلاة والسلام – يعظهم ولا يذكرهم ولا يعلمهم شيئاً من الأحكام، ولذا قال ابن عباس – في حديثه المتقدم -: (لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير) .(8/116)
فإذن هي خطبة ليست كخطبة الجمعة ولا العيد ولا نحوهما مما تكون فيها المواعظ والتذكير، بل هي خطبة يشتغل بها الإمام بدعاء الله ويؤمّن الناس من خلفه.
ويستحب له أن يقلب رداءه وهو رافع يديه، فقد تقدم حديث عائشة في رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بالدعاء ودعوته العامة التي أمّن الناس عليها قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) - أي لما دعا الدعاء الذي رفع به الصوت – حول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وقلب رداءه وهو رافع يديه.
فيستحب للإمام والمصلين أن يقلبوا أرديتهم.
وقد ثبت هذا في الحديث المتفق عليه المتقدم من حديث عبد الله بن زيد ابن عاصم المازني وفيه: (وحول رداءه) . وصفة قلب الرداء: أن يجعل أيمن الرداء الواقع على الكتف الأيمن يجعله على الكتف الأيسر، ويجعل أيسره وهو الواقع على الكتف الأيسر في الطبيعة يجعله على الكتف الأيمن ويجعل ظاهره في موضع باطنه، وباطنه في موضع ظاهره.
يدل عليه: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح قال: (فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) .
وأما كونه جعله ظهراً لبطن، فقد ثبت هذا في مسند أحمد بإسناد صحيح وفيه: (فجعله ظهراً لبطن) .
- وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه يستحب له أن يأخذه من أسفل أي يأخذه من أسفل الرداء ويرفعه إلى الأعلى، فيكون الأعلى في موضع الأسفل والأسفل في موضع الأعلى.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استسقى وعليه خميصة [له] سوداء، فأراد أن [يأخذ] بأسفلها فيجعله أعلاها [فلما] ثقلت عليه قلبها على عاتقه) (1) أي حول العاتق الأيمن إلى العاتق الأيسر وهذا الحديث: إنما هو ظن من الراوي بدليل أن الصحابة قد حولوا أرديتهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولم يفعلوا ما همّ به، ففي مسند أحمد: (وحول الناس أرديتهم) .
__________
(1) سنن أبي داود [1 / 688] .(8/117)
فإذن: هذا مجرد ظن من الراوي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقلب الجهة السفلى فيجعلها في الجهة العليا، فظن الراوي أن ذلك ثقل عليه وإنما تحول عنه وعليه الصلاة والسلام إلى طريقة أخرى فأخذ الجهة اليمنى فوضعها في الجهة اليسرى، واليسرى وجعلها في الجهة اليمنى فكان ظهراً لبطن.
إذن هذه الصفة هي الصفة المستحبة في قلب الرداء، وإنما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فيما يظهر، والله أعلم - تفاؤلاً بتحول القحط وبتغير الأرض مما هي عليه من الجدب إلى الخصب. قال جعفر الباقر - رحمه الله وهو من أتباع التابعين أو من أتباعهم قال -: (وحول النبي صلى الله عليه وسلم رداءه ليتحول القحط) رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وهو كما قال رحمه الله فهي مظنة قوية وأنه إنما فعل ذلك تفاؤلاً أن تتحول الأرض من جدبها إلى الخصب ومن انقطاع المطر فيها إلى هطوله، ولا مانع أن تكون لها حكم أخرى مما يخفى علينا.
قال: (وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيد من فعله)
قوله: " وإن سقوا " فإن لم يسقوا فإنهم يستسقون ثانية وثالثة ورابعة ويلحون على الله بالدعاء حتى يستجيب الله لهم، فيكررون الاستسقاء مرة بعد مرة وينوعون الاستسقاء ما بين دعاء مطلق ودعاء في الجمعة ونحو ذلك حتى يستجيب الله لهم.
* إن سقوا قبل خروجهم وتهيئهم – وهذه الصورة الثانية – فنزل المطر الذي تزول به الشدة قبل خروجهم وتهيئتهم، فإنه لا يشرع لهم أن يخرجوا إلى الصلاة وأدائها؛ وذلك لذهاب المقصود من خروجهم فإن المقصود هو طلب السقيا وقد حصل ذلك فزال السبب المقتضي للاستسقاء.
وأما – وهي الصورة الثالثة - إن سقوا بعد تهيئهم وقبل خروجهم، فإنه – في المشهور من المذهب – يستحب لهم أن يخرجوا فيصلوا.(8/118)
- وقال المرفق ابن قدامة: بل لا يستحب لهم ذلك وإن تيهؤا؛ لأنه – كذلك – قد زال المقصود من هذه الصلاة ولم يخرجوا إليها، وهذا هو القول الراجح؛ فإن تهيؤهم ليس بمؤثر ما دام أن المقصود قد زال، فإن المقصود هو الاستسقاء فخروجهم إنما هو لقصد الاستسقاء فما دام أن ما قصدوه قد حصل من خروج واستسقاء فإنه لا يشرع لهم ذلك لزوال المقصود.
وأما – وهي الصورة الرابعة – إن خرجوا إلى المصلى فنزل الغيث، فهنا يستحب لهم أن يصلوا، قالوا: لخروجهم فلا ينبغي أن يعودوا من غير صلاة، فيكون ذلك شكراً لله وسؤلاً للمزيد.
قال صاحب الإنصاف: " بلا خلاف أعلمه ".
فالمسألة إن كان فيها إجماع فكما تقدم، وأما إن لم يكن فيها إجماع فالأمر واسع إن شاء الله – وفي الحقيقة – نزول الغيث أثناء الاستسقاء قد لا يتبين للمصلين هل يكون نزوله على هيئة كافية لما خرجوا من أجله، فيكون استسقاؤهم لمظنة كون المطر قليلاً غير كاف ولسؤال الله المزيد.
إذن: إن خرجوا ونزل المطر فيشرع لهم أن يصلوا طلباً لثبوت المطر، ولأنه لا يقطع أن يكون هذا المطر الذي قد خرجوا لطلبه من الله وتهيؤوا تهيؤاً تاماً حتى خرجوا إلي المصليات لا يقطع أن يكون هذا المطر كافياً أو أن يستمر على هيئة كافية لهم فحينئذ يستحب لهم الاستسقاء، قال صاحب الإنصاف: " بلا خلاف أعلمه ".
مسألة:
إذا وقع القحط في بلد فهل يستحب لغيرها من البلدان أن يستسقوا لهم؟
المشهور في المذهب: أنه لا مانع من ذلك، وقيل بالاستحباب.
وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك ولا يشرع.(8/119)
وهذا القول – فيما يظهر لي – أظهر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استسقى هذا الاستسقاء العام الذي يخرج به الناس إلى المصليات ويستغيثون بالله عز وجل – إنما فعله حيث وقع الجدب في المدينة واحتاج الناس إلى المطر. وأما كون المسلم يعين أخاه المسلم بدعوته فإن ذلك بمطلق الدعاء فيستحب له أن يدعو له في صلاته وفي سائر أوقات الإجابة ونحو ذلك – من غير أن يكون هذا على الهيئة المشروعة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأظهرها حيث كان الجدب بالمدينة.
فينبغي أن يكون ذلك مختصاً حيث وقع الجدب بأهل البلد أنفسهم، أما إن وقع في غيرهم فإنهم يسألون الله لغيرهم سؤالاً مطلقاً من غير أن يكون مختصاً بهذه الطريقة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة: متى يعيد رداءه ويرجعه كما كان، بعد قلبه؟
الظاهر أنه يرجعه على هيئته بعد خلعه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ولم يرد أنه قد أرجعه فيبقى على هذا. لكن بعض الألبسة لا يصلح قلبها كالفراء فحينئذ يكتفي بقلب عمامته، وإنما يقلب ما كان ظاهره قريباً من باطنه، وإنما يقلب الأشياء الظاهرة أما الباطنة فلا.
وأنواع الاستسقاء:
الأول: في خطبة الجمعة كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس وغيره: (أتى رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) ثلاثاً) .
الثاني: في الصلاة كما تقدم.
الدعاء بلا صلاة، كما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتى إليه نساء بواكي فقال: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً) الحديث.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وينادى لها: الصلاةُ جامعة)
ويصح " الصلاةَ جامعة "، فينادى لصلاة الاستسقاء كما ينادى لصلاة الكسوف بقول: " الصلاة جامعة " – هذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بالقياس على صلاة الكسوف.(8/120)
وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن ذلك لا يشرع؛ ذلك لأن قياس الاستسقاء على صلاة العيد أولى، وقد ثبت عن جابر في مسلم: قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد بلا أذان ولا إقامة ولا شيء) .
ثم إن مقتضى ذلك وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح حديث عنه بأن نادى لها بقول: " الصلاة جامعة ".
فعلى ذلك: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع له أن ينادى " الصلاة جامعة " لأن هذا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضيه ذلك، ولأن قياسها على صلاة العيد أولى فإنها تشبهها بتكبيراتها ونحو ذلك.
قال: (وليس من شروطها إذن الإمام)
لما تقدم في صلاة العيد، فلا يشترط أن يأذن الإمام للناس بذلك لأنها نافلة وبها يندفع عن الناس الضر، وهو طلب رزق من الله عز وجل، فلم يكن شرطها إذن الإمام.
وينبغي أن يتدبر - في هذه المسألة –، فليس مراد الحنابلة هنا من أنه لا يشترط لها إذن الإمام، أنها تفعل ولو منع أو خشيت الفتنة بإقامتها، وإنما مرادهم أنهم لو أقاموها من غير أن يستأذنوه فإنها صحيحة، وليس مرادهم أنها تقام مع منعه أو مع خشية الفتنة فإنه يترتب مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة والشريعة قد أتت بدرء المفاسد وجلب المصالح.
كما تقدم في صلاة الجمعة فيه أنه لا يشترط إذن الإمام أي لا يشترط أن يصرح بالإذن، أما إن صرح بالمنع أو خشيت الفتنة بإقامتها فإنها لا تقام.
قال: (ويسن أن يقف في أول المطر)
فيصيب المطر بدنه، وذلك لما ثبت في مسلم وأنس قال: (أصابنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مطر فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر وقال: إنه حديث عهد بربه) فهو حديث خلق وإيجاد.
قال: (وإخراج رحله وثيابه ليصبهما المطر)
الرحل هو السرج أي ما يكون على الدابة مما يضعه الراكب عليها.(8/121)
قالوا: فيستحب له أن يخرج سرجه وثيابه ليصيبهما من المطر، وقد ورد ذلك عن ابن عباس أنه: (كان يأمر جاريته أن تخرج سرجه وثيابه ويقرأ قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً مباركاً} ) .
وهذا الأثر إسناده لا بأس به، رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الشافعي من غير سند، واستدل به الحنابلة على هذه المسألة.
فيستحب له أن يبدي شيئاً من ثيابه أو أثاثه أو متاعه أو شيئاً من بدنه ليصيبه المطر.
ويستحب له أن يقول: (اللهم صيباً نافعاً) ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيباً نافعاً) .
وإذا سمع الرعد أن يقول ما ثبت عن ابن الزبير في موطأ مالك وغيره بإسناد صحيح: (سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) .
والدعاء مرجو عند نزول المطر فهو من مظان الإجابة، وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق يرتقي بها هذا المتن إلى درجة الحسن إن شاء الله، وأن نزول الغيث من الأحوال التي يرجى فيها إجابة الدعوة.
قال: (وإذا زادت الأمطار وخيف منها)
فإذا زادت مياه الأمطار أو مياه العيون أو الأنهار فخشي أن تطغي على شيء من البيوت، فيستحب أن يدعوا الله برفع ذلك مع بقاء المنفعة الثابتة في الماء على الوجه الذي تتم به حاجة العباد.
قال: (سن أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)
ويقول هذا في المطر.
" الظراب " هي الروابي الصغار.
" الآكام " هي الجبال الصغار وهي ما نسميها نحن بـ " الخزوم "، ويكون عليها الحجر وهي مع ذلك تنبت العشب.
" وبطون الأودية " وهي الأماكن المنخفضة في الأودية.
" ومنابت الشجر " أي أصولها.(8/122)
فقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – في حديث أنس في دعوته عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر قال الراوي: (فأمطرت فلم نر الشمس ستاً " أي أسبوعاً " فجاء رجل من الجمعة القابلة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاع السبل وهلاك الأموال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) (1) متفق عليه.
قال: (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، الآية)
هذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس ذلك شرطاً فيه، وإنما هو من الدعاء المباح الذي وافق هذه المناسبة، فلا بأس أن يدعوا الله ويسبحوه مما لم يثبت في السنة بخصوصية – أي في هذا الموضع – ومن ذلك: {ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به …}
إذن: الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس، وأما ما ذكره المؤلف فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا بأس بالدعاء به أو بغيره من الأدعية المباحة المناسبة للمقام.
والحمد لله رب العالمين.
تم – بحمد الله تعالى – شرح كتاب الصلاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به، ويليه كتاب الجنائز.
الدرس الثالث والأربعون بعد المئة
(يوم الجمعة: 14 / 7 / 1415 هـ)
كتاب الجنائز
الجنائز: جمع جِنازة – بالكسرة – في الأفصح، وتصح بالفتح " جَنازة ".
وهي: من جَنزَ الشيءُ إذا ستر.
ويسمى بالجنازة: الميت؛ لأنه مستور بكفنه.
وكذلك: النعش وعليه الميت.
أما النعش أو السرير من دون الميت فإنه لا يسمى جنازة بل يسمى نعشاً أو سريراً أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن عيادة المريض)
يستحب للمسلم أن يعود المريض.
__________
(1) الفتح لابن حجر [2 / 589] ، كتاب الاستسقاء: باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة.(8/123)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على فضيلة ذلك:
فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع قيل: وما خرفة الجنة يا رسول الله؟ قال: جَنَاها) (1)
ورواه الإمام أحمد في المسند من حديث علي بإسناد صحيح وفيه: (فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) (2)
وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإجابة السلام) (3)
ورواه مسلم بلفظ: (حق المسلم على المسلم ست) وزاد النصيحة: (وإذا استنصحك فانصحه)
وهنا: صريح كلام المؤلف أن عيادة المريض سنة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب (13) فضل عيادة المريض (2568) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (975) قال رحمه الله تعالى: " حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن نافع، قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن بن علي فقال له علي: أعائدا جئت أم زائرا؟ فقال أبو موسى: بل جئت عائدا، فقال علي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من عاد مريضا بَكَراً شيّعه سبعون ألف ملك، كلهم يستغفر له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة،وإن عاده مساء شيّعه سبعون ألف ملك كلهم يستغفر له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة) ، وانظر (976) ، (1166) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (2) الأمر باتباع الجنائز (1240) بلفظ: " أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) ، أخرجه مسلم (2162) .(8/124)
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها فرض كفاية، وقال: " إن ظاهر النصوص تدل على وجوبها ".
لكن ذكر النووي الإجماع على نفي الوجوب، وتعقبه ابن حجر بأن الوجوب المنفي إنما هو الوجوب على الأعيان، وأما وجوب الكفاية فليس بمنفي، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه: " باب: وجوب عيادة المريض ".
وهذا القول هو الراجح، وأن عيادة المريض واجبة لكن ليس على الأعيان بل على الكفاية.
فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم) ظاهره أن ذلك على الأعيان؟
فالجواب: قد وجد الصارف، فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر قال: (كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى رجل من الأنصار فسلم ثم أدبر الأنصاري فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يعوده منكم؟) (1)
فهنا: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من حضر من أصحابه كل واحد منهم بعينه بالذهاب إلى عيادة سعد دليل على أنها ليست فرضاً على الأعيان.
فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام من أن عيادة المريض فرض كفاية، فإذا مرض المسلم وجب على من علم حاله من المسلمين ممن تقوم بهم كفاية جبره وتعزيته في مصابه من المرض وتقوية قلبه أن يعودوه.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 226] ، كتاب الجنائز، باب (7) في عيادة المريض (925) . لم أجده في باب عيادة المريض من صحيح البخاري.(8/125)
والعيادة عامة في كل مرض، أما ما رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تعاد: الضرس " أي وجع الضرس " والرمد والدُمَّلُ) (1) ، فهو من قول يحيى بن أبي كثير وهو من أتباع التابعين، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه في مسند أحمد ما قاله زيد بن أرقم قال: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان في عيني) (2) والرمد وجع عين.
فالصحيح أن كل مرض يعاد.
والصحيح – أيضاً – أنه متى علم بمرضه عاده من غير أن يتربص ثلاثة أيام وإن كان في مبدأ المرض.
__________
(1) قال في ضعيف الجامع ص 379 برقم (2566) : " موضوع " وقال في السلسلة الضعيفة رقم (150) ما نصه: " موضوع، أخرجه الطبراني في الأوسط (70 / 1 من زوائده) والعقيلي (421) وابن عدي (319 / 2) من طريق مسلمة بن علي الخشني حدثني الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي حعفر عن أبي هريرة مرفوعا.. ثم قال: " ومما يدل على وضعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعود صاحب الرمد، قال أنس: عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن أرقم من رمد كان به، أخرجه الحاكم (1 / 342) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا ".
(2) أخرجه أبو داود بلفظ: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني " في كتاب الجنائز، باب (9) في العيادة من الرمد (3102) ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند الكوفيين، حديث زيد بن أرقم، آخر حديث فيه (19563) بلفظ: " عن زيد بن أرقم قال: أصابني رمدٌ فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - … ".(8/126)
أما ما رواه ابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن العيادة إلا بعد ثلاث) (1) فالحديث إسناده ضعيف جداً.
وليس ثمة وقت محدد لعيادة المريض، إلا أنه ينبغي أن تكون في الوقت الذي لا يضجره ولا يحرجه أما غير ذلك فلا بأس فهي ترجع إلى عادة الناس.
قال: (وتذكيره التوبة والوصية)
أي يستحب أن يذكر بالتوبة.
وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتى غلاماً يهودياً يعوده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم، فأسلم ثم مات) (2)
فيستحب لمن عاد مريضاً إن كان كافراً أن يدعوه إلى الإسلام وإن كان فاسقاً أن يدعوه إلى التوبة، ولا يعلم فلعل هذا المرض يكون به موته، فاستحب أن يتدارك بالدعوة والإصلاح بحثه على التوبة.
كما أنه يحث على الوصية أي بأن يكتب وصيته، وذلك لأن المرض مظنة الموت، وإذا كان المسلم مأمور بكتب وصيته قبل أن يقع به المرض فأولى من ذلك أن يحث عليها في أثناء مرضه.
فقد قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين - من حديث ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت إلا ووصيته مكتوبة عنده) (3) .
فيستحب للمسلم – وقيل بوجوب ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الوصايا - فيشرع له أن يكتب وصيته في الحقوق التي له والتي عليه.
قال: (وإذا نُزل به، سُنَّ تعاهد بَلِّ حلقه بماء أو شراب وتَنْدِيَةُ شفتيه بقُطْنَةٍ)
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (1) ما جاء في عيادة المريض (1437) عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث ". وأورد ابن الجوزي هذا في كتاب الموضوعات من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب (11) عيادة المشرك (5657) . وانظر (1356) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب (1) الوصايا (2738) ، وأخرجه مسلم (1627) .(8/127)
" وإذا نزل به " أي نزل به ملك الموت، فأخذ بالاحتضار، فإنه يسن تعاهده ببل حلقه بماء أو شراب وتندى شفتيه بقطنة، وذلك ليهون عليه ذلك شدة النزع الواقع فيه.
فيستحب أن يبل حلقه: إما أن يكون بشرب جرعة ماء أو بأن يقطر الماء في حلقه أو بأن يبل الشفتين ليسهل عليه ما هو فيه من النزع والشدة.
وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده - عند احتضاره - ركوة فيها ماء، فكان يضع يده فيها فيمسح بها على وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) (1)
" بقطنة ": ونحوها، فليس المقصود القطنة بالخصوص.
قال: (وتلقينه لا إله إلا الله)
أي ويسن أن يلقن " لا إله إلا الله "
وينبغي أن يكون الملقن ممن يكون للميت له قبول وبينهما مودة مما هو مظنة لقبول كلامه لئلا يتضجر من قول هذا القائل فيمتنع من قولها فهو في شدة، فيكرر عنده قول " لا إله إلا الله " ويكرر ذلك حتى يقولها المحتضر.
وكرهوا أن يقول له: " قل لا إله إلا الله "؛ لئلا يتضجر من ذلك ويمتنع، وإنما يكون ذلك على سبيل الإشارة فيكررها عنده حتى يقولها.
ودليل استحباب التلقين، ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) (2) .
وأما دليل كراهية الأمر بذلك فهو خشية التضجر والامتناع مما هو واقع فيه من الشدة.
لكن إن لم يخش عليه ذلك وعلم منه أنه لا يكره ذلك وإن كان في سكرات الموت فإنه لا حرج في أن يقال له: قل " لا إله إلا الله ".
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (42) سكرات الموت (6510) ، وانظر (890) ، وأخرجه مسلم (2443) .
(2) أخرجه مسلم في بداية كتاب الجنائز، باب (1) تقلين الموتى لا إله إلا الله (916) .(8/128)
فقد ثبت عند أبي يعلى والبزار بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه: (أتى رجلاً من الأنصار " وفي رواية: من بني النجار " – وهم مشهورون بحسن إسلامهم – فقال له: قل لا إله إلا الله) (1) .
قال: (ولم يزد على ثلاث إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق)
أي لا ينبغي له أن يزيد على ثلاث مرات لئلا يتضجر الميت فإنه يلقنه بحيث لا يتضجر.
" إلا أن يتكلم بعده " فإذا تلقن الميت – والمراد بالميت هنا المحتضر، وهو من باب المجاز لأن أمره سيؤول إلى الموت وهذا معروف في لغة العرب -.
فإذا تلقن الميت فقال: " لا إله إلا الله "، فإنه يسكت عنه فلا يلقن إلا أن يتكلم بشيء آخر كأن يوصي وغير ذلك فإنه يستحب أن يعاد تلقينه ليكون آخر كلامه " لا إله إلا الله ".
فقد ثبت ذلك في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) (2)
قال: (ويقرأ عنده يس)
ويستحب له أن تقرأ عنده سورة يس.
__________
(1) قال الألباني في أحكام الجنائز صْ 20 ما نصه: " حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلا الله، فقال: أخال أم عم؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم " أخرجه الإمام أحمد (3 / 152، 154، 268) بإسناد صحيح على شرط مسلم ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (20) في التلقين (3116) .(8/129)
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث معقل بن يسار: (اقرؤوا على موتاكم يس) (1) .
والمراد اقرؤوا عليهم في حال الاحتضار - أما بعد الموت فهو بدعة -؛ وذلك لما فيها من ذكر الجنة ونحو ذلك وما يكون فيها من الرجاء فيعظم رجاؤه.
قالوا: وهي سبب لسهولة خروج الروح منه.
لكن الحديث الوارد في ذلك ضعيف، فقد ضعفه الدارقطني وغيره وقال: " لا يصح في هذا الباب شيء " (2) وهو كما قال، فإن الحديث ضعيف لجهالة في بعض رواته ولاضطراب في سنده.
لذا الراجح هو عدم القول باستحباب ذلك.
فإن قرأها فلا بأس أو قرأ غيرها من الآيات أو السور التي فيها الرجاء ونحو ذلك من غير اعتقاد سنية ذلك فلا بأس.
وقالوا: ويستحب أن يقرأ عليه فاتحة الكتاب.
وهذا أيضاً لا دليل عليه.
وإنما يستحب عند المحتضر أن يذكر له محاسن عمله أي الأعمال الصالحة وأن يذكر له فضل الله ورحمته وأن يفتح له باب الرجاء لئلا يموت إلا وهو يحسن الظن بربه، فقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم -: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (24) القراءة عند الميت (3121) قال: " حدثنا محمد بن العلاء وحمد بن مكي المروزي، المعنى، قالا: حدثنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، وليس بالنهدي، عن أبيه، عن معقل بن يسار قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا يس على موتاكم) هذا لفظ ابن العلاء ". وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة كما قال المزي، وابن ماجه في الجنائز (1448) باب فيما يقال عند المريض، وقال المنذري: " وأبو عثمان وأبوه ليسا بالمشهورين ". سنن أبي داود [3 / 489] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب (19) الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877) .(8/130)
قال إبراهيم النخعي – كما روى ذلك ابن أبي الدنيا بإسناده – قال: " كانوا – أي السلف – يستحبون أن يذكر للميت محاسن عمله حتى يحسن الظن بربه " (1) .
وهذا أمر ظاهر فيستحب أن يذكر بما يقتضي موته مع كونه محسناً الظن بربه عز وجل، فإن المقام مقام رجاء لا مقام خوف.
قال: (ويوجهه إلى القبلة)
أي: يستحب أن يوجهه إلى القبلة.
ودليل ذلك: ما رواه الحاكم أن البراء بن معرور رضي الله عنه: أوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يوجه وهو يحتضر إلى القبلة، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أصاب الفطرة، وأمر برد ثلثه إلى أهله) (2)
والحديث: فيه نُعيم بن حماد وله مناكير، لكن له شاهد عند البيهقي من حديث كعب بن مالك (3) فالأثر حسن إن شاء الله فيستحب أن يوجه إلى القبلة.
فيضطجع على شقه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، وإن شق عليه أن يضطجع على شقه الأيمن فإنه يستلقي ويجعل رجليه إلى القبلة ويرفع وجهه ويوجه إلى القبلة، وهذا في الغالب أسهل على الميت.
قال: (فإن مات سن تغميضه)
فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شُقَّ بصره فأغمضه وقال: (إن الروح إذا قبضت اتَّبعه البصر) (4)
وكره الإمام أحمد أن يغمضه جُنُب أو حائض، ولم أر دليلاً يدل على ذلك.
ولا شك أن الأولى أن يكون من يغمضه من أهل الخير والصلاح كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتولى القيام بأمره من كان كذلك.
__________
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 539] ، كتاب الجنائز، باب (22) ما يستحب من توجيهه نحو القبلة (6604) ، (6605) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (4) في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر (920) بلفظ: (إن الروح إذا قبض تَبِعَهُ البصر) .(8/131)
قالوا: ويقول: - أثناء الإغماض – بسم الله على ملة رسول الله، ولا دليل يدل على ذلك، وإنما فيه أثر مقطوع على تابعي رواه البيهقي بإسناده الصحيح عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يقول: عند التغميض: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) (1)
فإذن: لا يستحب قول ذلك عند تغميضه، خلافاً للمشهور في المذهب لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أثر التابعي فإن قول التابعي ليس بحجة.
قال: (وشد لحييه)
أي أن يشد اللحيان، فيغطى الفم لئلا يدخله شيء من الأذى أو الهوام ونحو ذلك.
قال: (وتليين مفاصله)
ليكون ذلك أسهل عند تغسيله، فيرد الذراع على العضد ثم العضد على الجنب، ويرد الساق على الفخذ، والفخذ على الجنب (2) أي تحرك المفاصل.
قال: (وخلع ثيابه وستره بثوبٍ)
لأن الثياب على الميت في الغالب تحدث شيئاً من الفساد في بدنه بسبب حرارة الثوب على البدن.
فتخلع الثياب ويطرح عليه غطاء ونحو ذلك لئلا تحدث هذه الثياب على بدنه شيئاً من الإفساد، لا سيما مع تأخر الاشتغال بتغسيله.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حين توفي: سُجَّي ببرد حِبَرة) (3) .
قال: (ووضع حديدة على بطنه)
لئلا يقع في بطنه شيء من الانتفاخ أو نحو ذلك: لا سيما مع تأخر الاشتغال بدفنه أو الاشتغال بتكفينه وتغسيله.
وقد روي ذلك عن أنس بن مالك كما رواه البيهقي (4) .
قال: (ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه)
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (23) ما يستحب من إغماض عينيه إذا مات (6609) .
(2) كذا في الأصل، وفي الروض المربع: إلى بطنه، حاشية الروض المربع: 3 / 20.
(3) أخرجه البخاري (5814) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (14) تسجية الميت (942) .
(4) أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (24) ما يستحب من وضع شيء على بطنه ثم وضعه على سرير أو غيره لئلا يسرع انتفاخه (6610) .(8/132)
أي أثناء الغسل يكون على هذه الصورة.
فإذا كان مستلقياً أو مضطجعاً على شقه الأيمن فإن جانبه الأعلى – جانب الرأس – يكون مرتفعاً، ويكون الانخفاض إلى جهة الرجلين لئلا يخرج شيء من الماء أو نحو ذلك من فمه، وليكون ذلك أسهل لانصباب الماء عن بدنه.
قال: (وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة)
أي يستحب أن يسرع في تجهيزه والاشتغال بتغسيله وتكفينه ونحو ذلك.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (1)
فيستحب الإسراع بالجنازة غسلاً وتكفيناً ودفناً.
" إن مات غير فجأة ":
فيستثنى من استحباب التعجيل إن كان موته فجأة؛ لأن من مات موت فجأة يخشى ألا أن يكون موته متيقناً فيترك حتى يتيقن ذلك بأسباب التيقن.
فإذا تيقن من موته فحينئذ يشتغل بتغسيله وتكفينه، فمن مات فجأة أو ببعض الأمراض التي تقع أحياناً التوهم في ثبوت موته بها، فما ينبغي التعجيل بذلك حتى يثبت الموت.
قال: (وإنفاذ وصيته)
أي ويستحب الإسراع في إنفاذ وصيته، فهي معطوفة على " تجهيزه ".
أي يسن أن تنفذ الوصية ويتعجل فيها، وذلك لأن في إنفاذ الوصية التي يوصي بها – كأن يوصي بثلث ماله أو ربعه – فيها تعجيل للأجر وإيصال للحق إلى أهله.
فيستحب الإسراع في إنفاذ وصيته لتعجيل الثواب له أولاً ولإيصال الحق إلى أهله ثانياً.
قال: (ويجب في قضاء دينه)
أما قضاء الدين فيجب الإسراع به.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة (1315) ، ومسلم (944) .(8/133)
فإذا ترك مالاً وعليه دين فيجب أن يسارع في إخراج دينه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي بإسناد جيد: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) (1)
فنفس المؤمن معلقة محبوسة عن نيل ما أعد لها من الثواب حتى يقضى عنها الدين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم بإسناد صحيح: قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (هل هنا أحد من بني فلان) فلم يجبه أحد ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه من مات منكم محبوس عن الجنة بالذي كان عليه فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) (2)
وقال صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) (3) رواه مسلم.
فالواجب أن يسرع في قضاء دينه ليصل إليه ثواب الله عز وجل ويمتنع عنه هذا الحبس عن فضل الله وجنته، وكذلك لما فيه من تبرئة ذمته.
ولا بأس أن يكشف وجه الميت فيقبل، فقد صح ذلك عن أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: أنه كشف وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله) (4) .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والأربعون بعد المئة
(يوم السبت: 15 / 7 / 1415 هـ)
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية)
__________
(1) أخرجه الترمذي في آخر كتاب الجنائز، باب (76) ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال نفس المؤمن.. (1078) (1079) . قال الترمذي عن الحديث (1079) : هذا حديث حسن، وهو أصح من الأول ".
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب (32) من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1886) بنفس اللفظ.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (3) الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه (1241) (1242) .(8/134)
فالغسل والتكفين والصلاة والدفن للميت فرض على الكفاية، فإذا قام به طائفة من المؤمنين سقط الإثم عن الباقين.
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (1) .
والشاهد قوله: " اغسلوه، وكفنوه " فهذه أوامر ظاهرها الوجوب وهي موجهة إلى الجماعة فكان فرضاً على الجماعة أو فرضاً على الكفاية.
فالغسل والتكفين فرض للحديث المتقدم، وكذلك فقد أجمع أهل العلم على فرضية الصلاة عليه والدفن له.
قال: (وأولى الناس بغسله وصيه)
فإذا وصى الميت أن يغسله فلان أو أوصت امرأة أن تغسلها فلانة أو زوجها، أو والدها، فإن أولى الناس بالغسل هو الوصي، وإن كان أجنبياً ما دام مسلماً عدلاً فإن هذه الوصية تجعل هذا الموصى هو الأولى بالغسل.
ودليل ذلك ما ثبت عند الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن: (أن فاطمة أوصت أن يغسلها زوجها " أي علي " وأسماء " وهي بنت عميس " فغسلاها) (2) .
ولا شك أن هذا من باب إنفاذ وصيته وفعل ما يحبه، فإنه إنما أوصى بذلك لكونه يحب ذلك فكان هنا – حيث أن الغسيل له – أولى من أن يقوم بالغسل غير وصيه.
قال: (ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته)
" ثم الأب " لما فيه من الرأفة والرحمة به مما يجعله يقوم بالتغسيل على أفضل ما يكون منه.
" ثم الجد "؛ لأن الجد بمنزلة الأب، فهو أب.
" ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ": كالابن والأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم العم الشقيق ثم العم لأب وهكذا من عصباته كما يكون في الميراث.
قال: (ثم ذوو أرحامه)
__________
(1) أخرجه البخاري [1 / 319، …] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] .
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 556] كتاب الجنائز، باب (40) الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، (6661) .(8/135)
كالجد لأم والخال ونحو ذلك، وسيأتي بيان ترتيبهم في الكلام على مسألتهم في المواريث والفرائض.
قال: (وأنثى وصيتها ثم القربى فالقربى من نسائها)
أي يتولاها وصيتها ثم القربى من النساء، أي الأم، فالبنت، فبنت البنت، فالأخت الشقيقة، فالأخت لأب، فالأخت لأم، والعمة والخالة بمنزلة واحدة، وهكذا.
فليس كالترتيب المتقدم في الميراث بل يقدم الأقرب فالأقرب لصفة القرابة والمحرمية، فعلى ذلك تكون العمة والخالة بمنزلة واحدة، وبنت الأخت وبنت الأخ بمنزلة واحدة، فإذا حصل تشاح بينهما فإنه يقرع بينهما.
هذا هو المشهور في المذهب: وأن حكم الرجال في هذه المسألة ليس كحكم النساء، فالرجال يقدم العم على الخال لأنه عصبة، وأما النساء فلا، بل تقدم القربى فالقربى، فالخالة تقدم على بنت العم.
وقال الشافعية بما قال به الحنابلة لكن قالوا: يقدم من (1) يتساوى قربهن إلى المرأة، كالعمة والخالة: تقدم من كانت في محل العصوبة، فتقدم كما لو كانت ذكراً.
فمثلاً في العمة والخالة، تقدم العمة لأنها بمنزلة العم، والعم في الميراث مقدم على الخال، وهذا أقوى لأنه مرجح فهو أقوى من القرعة بينهن.
وظاهر ما ذكره الحنابلة هنا والشافعية: أن الزوج والزوجة لا يقدمان على غيرهما إلا مع الوصية، بل الأجنبية تقدم على الزوج.
وهذا هو المشهور عندهم.
وذهب بعض الشافعية وهو الوجه الثاني عندهم وقال به بعض الحنابلة: إلى أن الزوج أو الزوجة يقدمان بعد الوصي – وهذا القول أظهر –، وأن الزوج أولى بغسل زوجته من غيره، والزوجة أولى بغسل زوجها من غيرها من النساء – القريبات إليه – إلا ما تقدم من تقديم الوصي فإن الوصي مقدم لرغبة الميت فيه.
__________
(1) في الأصل: فمن.(8/136)
وذليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لو مت قبلي لغسلتك ثم كفنتك ثم صليت عليك ثم دفنتك) (1)
وقالت عائشة – كما في سنن أبي داود - بإسناد حسن: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) (2)
وقد صح في الموطأ بإسناد صحيح: (أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر رضي الله عنه) (3) ؛ ولأنه لا يؤمن من اطلاع الغاسل على شيء من العورة فكان من أبيح له الاطلاع إليها في حال الحياة بسبب الزوجية أولى من غيره.
فالصحيح ما ذهب إليه أهل هذا القول: فأولى الناس الوصي ثم الزوج أو الزوجة ثم بعد ذلك يكون الأقرب فالأقرب من العصبات ثم ذوو الأرحام، سواء كان الميت ذكر أو أنثى ما دام – أن - المغسل مسلماً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها (1465) . قال البوصيري: " هذا إسناد رجاله ثقات،رواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرا ". قال ابن حجر: قوله: " لغسلتك " باللام تحريف، والذي في الكتب المذكورة (فغسلتك) بالفاء، وهو الصواب، والفرق بينهما أن الأولى شرطية، والثانية للتمنى " ا. هـ تلخيص الحبير 2 / 107، من حاشية المغني [3 / 462] .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته.. (1464) . قال البوصيري: " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسا ورواه بالعنعنة في هذا الإسناد، فقد رواه ابن الجارود وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من طريق ابن إسحاق مصرحا بالتحديث.. ". سنن ابن ماجه طبعة بيت الأفكار. المغني [3 / 461] .
(3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في بداية كتاب الجنائز، باب غسل الميت (521) .(8/137)
واشترط الحنابلة العدالة، وهو قول ظاهر؛ فإنه قد يطلع على الميت ما يكون فيه فضيحة فاحتيج إلى أن يكون المغسل عدلاً ليستر على الميت فيما يطلع عليه من عورة أو نحو ذلك.
قال: (ولكل من الزوجين غسل صاحبه)
وهو مذهب جماهير العلماء بل حكي إجماعاً.
والأحاديث المتقدمة تدل عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو مت قبلي لغسلتك) (1) وقول عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) (2) .
وفعل أسماء بنت عميس في غسل أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر الصحابة من المهاجرين والأنصار في المدينة فلم ينكروه فكان ذلك إجماعاً.
فغسل الزوج للزوجة أو الزوجة للزوج جائز عند جماهير العلماء بل هو إجماع إلا ما حكي عن الإمام أحمد في رواية عنه، والمشهور من مذهبه جواز ذلك.
قال: (وكذا سيد مع سُريته)
فالسيد يجوز أن يغسل سُريته.
والمراد بالسُرية هي الأمة التي يطؤها سيدها.
فنخرج حينئذٍ: الأمة المتزوجة التي قد زوجها سيدها أو الأمة المعتدة من نكاح فإنه لا يحل له أن يطلع إلى عورتها لأنها في عصمة غيره.
بخلاف السُرية فإنه يجوز أن يغسلها وهي بمنزلة الزوجة.
* وفي المقنع: " وهي معه " ولم يذكره المؤلف هنا، وينبغي ذكر ذلك وهذا هو المشهور في المذهب – أي هي تغسله أيضاً – فالسُرية تغسل سيدها، لأنها تطلع على عورته فهي بمنزلة زوجته فإذا مات جاز أن تغسله.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية: لا يجوز ذلك.
وذلك لأنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، فهي مملوكة لغيره بموته فتنتقل إلى غيره ملكاً – وحينئذٍ – فلا يجوز لها أن تطلع على عورته فقد خرجت بموته مباشرة من ملكه إلى ملك غيره.
__________
(1) تقدم.(8/138)
وهذا القول أظهر؛ فإنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، بخلافها إذا ماتت عند سيدها فإن الملك كان في الحياة ثابتاً وقد زال الانتفاع منها فتعلقت بقية أحكام التمليك فيها، لأنها إذا ماتت لم تبق محلاً للانتفاع، بخلاف موت سيدها فهي ما زالت محلاً للانتفاع وقد مات مالكها وبموته انتقلت ملكيتها إلى غيره كما لو باعها أو وهبها.
فالصحيح أنه لا يجوز لها أن تغسل سيدها لخروجها من ملك سيدها.
قال: (ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط)
يجوز للمرأة وللرجل أن يغسل من له دون سبع سنين سواء كان ذكراً أو أنثى.
فيجوز للرجل الأجنبي أن يغسل جارية دون سبع سنين، وكذلك يجوز للمرأة الأجنبية أن تغسل الغلام دون سبع سنين.
هذا هو المشهور في مذهب أحمد ومذهب مالك.
وقيَّده الشافعي بقيد أصح فقال: حيث لا يشتهى، فلا يقيد بسبع سنين أو ست وإنما يقيَّد بنفي الشهوة، فإذا كان صبياً لا تشتهيه المرأة أو جارية لا يشتهيها الرجل وليست محلاً للشهوة فلا بأس بغسلهما؛ لأن مثليهما لا عورة له فإن الصبي الذي له ست أو خمس أو سبع ونحوها ممن لا يشتهى ليست له عورة فحينئذٍ يجوز أن تطلع المرأة على عورته ويجوز أن يطلع الرجل على عورة الجارية عند غسلها حيث عدمت الشهوة.
قال: (وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يممت كخنثى مشكل)
هنا مسائل:
المسألة الأصلية: أن الخنثى المشكل وهو من لم تثبت ذكوريته ولا أنوثيته لا يجوز أن يغسل لا من النساء ولا من الرجال بل ييمم.
أما كون النساء لا يغسلنه فلأنه يحتمل أن يكون رجلاً، وأما كون الرجال لا يغسلونه فلاحتمال كونه امرأة.
ومثل ذلك الرجل يموت بين النساء وليس ثمة رجل يغسله من الرجال وليس ثمة زوجة أو أمة – على القول بها – فإنه حينئذ ييمم.
ومثل ذلك المرأة إذا ماتت بين الرجال فإنها تيمم، كما هو مذهب جمهور الفقهاء.(8/139)
وقد روى الطبراني في الكبير، كما في المجمع بإسناد فيه عبد الخالق بن يزيد بن واقد وهو ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الرجل يموت بين النساء وفي المرأة تموت بين الرجال وليس معهما محرم قال: (يُيَمَّمان) (1)
وله شاهد مرسل من مراسيل مكحول رواه البيهقي (2) .
فإن مات رجل بين نساء أو امرأة بين رجال فإنهما لا يغسلان بل ييممان، لأن في تغسيل الرجال للمرأة أو النساء للرجل إطلاع على العورة التي لا يجوز للمغسل أن يطلع عليها فكان الانتقال إلى حكم التيمم.
- وقال بعض الشافعية – فهو وجه عندهم – وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: بل يغسلان بصب الماء على الثياب من غير أن يقع شيء من الاطلاع على العورة.
بل يصب الماء صباً على ثوبه أو على قميصه أو على حرمه من غير أن يمس ومن غير أن يطلع على عورة الميت سواء كان ذكراً أو أنثى.
وهذا القول – في إطلاقه ضعف –؛ لأن مثل هذا التغسيل قد لا يزيد الميت إلا اتساخاً.
فإن غسله وعليه ثيابه قد لا يزيده إلا اتساخاً فينافي المقصود من تغسيله وتهيئته للدفن.
لكن إن كان في ذلك التغسيل إنقاء كأن يكون مغُسلاً فمات فيعلم أن الماء يصل إليه بالصب من غير أن يظهر شيء من عورته، وأن هذا الغسل ينقيه ولا يحدث له منه وسخ. فحينئذٍ ينبغي القول بمشروعية الغسل لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (3)
__________
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 559] كتاب الجنائز، باب (44) المرأة تموت مع الرجال ليس معهم امرأة (6669) .(8/140)
ولما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما مات قال الصحابة رضي الله عنهم: (والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجرد موتانا فلما اختلفوا أُلقي عليهم النوم فكلمهم مكلم من ناحية البيت أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم) (1)
فهذا يدل على أنه متى حصل إنقاء في الغسل وعجز عن الغسل التام فوجد مانع يمنع الغسل التام سواء كان هذا المانع شرعي كما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك فإنه حينئذٍ يجوز أن يغسل بصب الماء عليه، وهذا لا شك أولى من التيمم.
إذن: الراجح أن يقال في هذه المسألة تفصيل:
فإن كان الغسل يحصل به الإنقاء، فإنه يغسل ولو كان ذلك بصب الماء على قميصه.
وأما إن كان لا يحصل به الإنقاء، فإنه ييمم.
وظاهر قول المؤلف وإن كانت النسوة من محارمه، وإن كان الرجال من محارمها، وهو مذهب الحنابلة.
فإذا مات الرجل بين النساء وإن كانت النساء من محارمه أو تموت المرأة ومعها أبوها أو أخوها ورجال أجانب – فإنهم – حينئذٍ – لا يغسلونها بل ييممونها.
فالمشهور في المذهب أن الرجال المحارم لا يجوز أن يغسلوا المرأة وإن كانت من محارمهم، وأن النساء المحارم لا يغسلن الرجل المحرم لهن، وهذا القول ضعيف.
والصحيح ما ذهب إليه المالكية والشافعية: من جواز فعل ذلك لكن مع ستر العورة، فيستران العورة، ثم يقومان بالغسل، وإذا احتاج إلى الاطلاع على العورة لتمام الغسل فإن ذلك يكون معفواً عنه؛ لأن ذلك من باب الحاجة كما يجوز أن يطلع الطبيب ونحوه على شيء من عورة المرأة أو الرجل للحاجة إلى ذلك، فكذلك هنا وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (32) في ستر الميت عند غسله (3141) .(8/141)
فالراجح: أن الرجل المحرم والمرأة المحرم يجوز لهما أن يقوما بغسل المحرم من غير جنسهما، فالمرأة تغسل الرجل من محارمها، والرجل يغسل المرأة من محارمه إن عدم الجنس الموافق له، أما إن لم يعدم فذلك لا يجوز. فإذا وجدت المرأة وإن كانت أجنبية فهي التي تقوم بالغسل دون الرجل، أما إذا عدم فإنه يقوم به الرجل لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولأنه أولى بالاطلاع على شيء من عورتها من الطبيب عند الحاجة، فإن الطبيب أجنبي وعند الحاجة يجوز.
وهو أولى من ذلك؛ لأنه محرم لها وهي أيضاً محرمة له ولا شك أن اطلاع المحرم على شيء من العورة يبعد أن يكون لشهوة.
قال: (ويحرم أن يغسل مسلم كافراً)
لا يجوز للمسلم إن مات كافر أن يغسله.
قالوا: لأن التغسيل تطهير له وهو لا يتطهر بذلك.
- وقال الشافعية: بل يغسله، وهذا أظهر؛ لأنه يحتاج إلى التغسيل، والتغسيل له إحسان له، والله - عز وجل - لم ينه عن الإحسان إلى الكفار بل يحسن إليهم كما يحسن إلى المسلمين إلا أن يكون حربياً فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يحسن إليه بشيء؛ لأن الله نهانا عن الإحسان إليهم.
فإذا كان كافراً غير حربي فالأظهر جواز تغسيله لأن ذلك من باب الإحسان إليه والإحسان إلى الكفار معتبر كما دلت عليه الآية الكريمة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} (1)
وقد روى ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر علياً أن يغسل أباه أبا طالب لما مات) (2) لكن الحديث مرسل من مراسيل الشعبي فإسناده ضعيف.
قال: (أو يدفنه بل يوارى لعدم من يواريه)
أما الدفن فإنه لا يدفن كما يدفن المسلمون بل يرمى في حفرة يوارى فيها.(8/142)
فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمَّك الشيخ الضال " ويريد بذلك أبا طالب " قد مات فقال: اذهب فواره) (1) أي اذهب فوار عليه تراباً.
وهذا الحديث إسناده صحيح وفيه أنه لا يدفن وإنما يوارى لئلا يقع الضرر بجيفته.
إذن: الكافر إذا مات لا يغسل في المشهور من المذهب والراجح خلاف ذلك.
وأما الدفن فإنه لا يدفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمواراة أبي طالب مع كونه أولى بالدفن من غيره من الكفار لنصرته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر بإلقاء صناديد قريش الذين قتلوا في بدر أمر بإلقائهم في قليب بدر - كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الخامس والأربعون بعد المئة
(يوم الأحد: 16 / 7 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته]
هنا يبين المؤلف صفة الغسل المجزئة والمستحبة.
" وإذا أخذ في غسله ستر عورته ": فيجب أن يستر عورته ولا يجوز له أن ينظر إليها ولا أن يمسها، وقد تقدم البحث في العورة.
فيستر العورة، قال الموفق: " لا نعلم فيه خلافاً " (2) ؛ ولأنه يمكنه أن يطهره من غير نظر إلى عورته أو مس لها، فلم يكن في ذلك حاجة إلى كشف عورته، فكانت باقية على حكمها في الأصل من النهي عن مسها والنظر إليها، وهذا باتفاق العلماء.
قال: [وجرده]
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (70) الرجل يموت له قرابة مشرك (3214) . بلفظ: (اذهب فوار أباك..) . وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [3 / 547] .
(2) المغني [3 / 369] .(8/143)
أي جرده سوى عورته، فيجرده من ثيابه سوى عورته، ودليله ما تقدم مما رواه أحمد وأبو داود من قول الصحابة: " لا ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرد موتانا أو لا " (1) ، فدل على أنهم كانوا يجردون موتاهم سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولأن ذلك أمكن من تغسيله وأتم.
فيجرد من ثيابه سواء كان ذكراً أو أنثى سوى العورة كما تقدم.
قال: [وستره عن العيون]
فيكون في محل مغطى في حجرة أو نحو ذلك؛ لئلا يظهر منه ما يكره فيطلع عليه أحد من الناس.
فإذا كان في محل مكشوف فربما ظهر شيء منه، إما من عورته أو شيء مما هو مستور منه، فيظهر ما يكره ظهوره.
ومن هنا استحب أهل العلم أن يكون المغسل أميناً صالحاً ثقة، يستر على الميت ما قد يظهر منه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة) (2) .
قال: [ويكره لغير معين في غسله حضوره]
يكره لمن ليس له إعانة في الغسل أن يحضر الغسل.
أما إن كان محتاجاً إلى إعانته بصب الماء أو تقليب الميت أو نحو ذلك (3) .
أما إن لم يكن محتاجاً إليه، فلا يجوز أن يحضر هذا المعين؛ لأن حضوره قد يوافق ظهور شيء مما هو مستور على الميت مما يكره أن يطلع عليه.
ولأن الغاسل قد يطلع على شيء من عورة الميت مما قد يقع موافقة، لكن للحاجة إلى ذلك تجوز (4) عنه.
أما أن يكون أحد من الناس يحضر ذلك، فيقع نظره على شيء من عورة الميت مما قد يقع على سبيل الموافقة أو نحو ذلك فإنه لا حاجة إلى مثل ذلك، فلا يكون ظهور ذلك كظهوره عند من يحتاج إلى غسله إما تأصلاً أو إعانة.
قال: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويعصر بطنه برفق]
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (16713) (23572) .
(3) كذا في الأصل، أي فلا يكره.
(4) في الأصل: يجووز عنه.(8/144)
" يعصر بطنه برفق ": ليخرج من جوفه ما هو متهيئ للخروج من البول أو الغائط أو نحو ذلك؛ لئلا يخرج بعد تغسيله فيتنجس الميت.
فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه من غير أن يجلسه؛ لأن في إجلاس الميت مشقة على الميت، فيخشى أن يحدث ذلك انفصالاً في بعض أعضاء بدنه أو نحو ذلك.
أما مجرد رفع ظهره قليلاً قريباً إلى الجلوس ثم يحرك بطنه حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج؛ لئلا يكون خروجه بعد الانتهاء من غسله، فيحتاج حينئذ إلى إعادة صب الماء عليه، فيكون في ذلك مشقة.
قال: [ويكثر صب الماء حينئذ]
أي حين هذا الفعل من عصر البطن وتحريكه، يكثر صب الماء على المحل الذي يخرج منه الخارج ليزيله بسرعة، فيصب الماء على السبيلين أثناء خروج شيء منهما.
واستحسنوا أن يكون هناك بخور أو نحو ذلك أثناء ذلك؛ لئلا يخرج شيء مما يتأذى به من رائحته.
قال: [ثم يلف على يده خرقة فينجيه]
فيلف على يده خرقة ويغسل السبيلين، ولكن لا يكون ذلك بالمس باليد مباشرة، بل يكون ذلك بخرقة؛ لأن هذا الفعل يحصل به الإنقاء والتطهر المقصود، فلا يجوز حينئذ أن يكون ذلك عن مس، فإنه بقدر الاستطاعة ينبغي حفظ العورة مساً ونظراً، وحيث أنه يمكنه أن يزيل الخارج من السبيلين بخرقة من غير أن يمس، فلا يجوز المس؛ لأن المس لا يحتاج إليه حينئذ، فيبقى على التحريم.
فإن زال بالصب ونحو ذلك، فلا بأس.
قال: [ولا يحل مس عورة من له سبع سنين]
فمن كان له سبع سنين فأكثر، فإنه لا يجوز أن يمس عورته، وقد تقدم هذا؛ ولأن الإنقاء ما دام يحصل بغير مس للعورة، بأن يكون بخرقة، فإنه لا يجوز أن يرتقى إلى المس مع إمكان ما هو دونه.
قال: [ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة]
فالمستحب في سائر البدن، كالفخذين والظهر ونحو ذلك ألا يمس شيئاً من ذلك إلا بخرقة.
لفعل الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانوا يصبون الماء ويدلكونه والقميص من دون أيديهم.(8/145)
فإذا حصل الإنقاء بذلك فعل، وإن لم يحصل الإنقاء إلا بمسه، فإنه يفعل ذلك، فيمس بدنه، ولا يحرم هنا المس بخلاف مس العورة، فإنه لا يجوز إلا للضرورة إلى ذلك.
قال: [ثم يوضيه ندباً]
بعد أن ينتهي من إزالة الخارج وتنظيف السبيلين وإخراج ما في بطنه من أذى، يشرع حينئذ فيوضئه، وتوضيئه للاستحباب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - في حديث أم عطية المتفق عليه -: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) (1) .
فيستحب أن يكون الابتداء - بعد الاستنجاء وإزالة القذر - بالتوضئة.
قال: [ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه]
فيستثنى من ذلك المضمضة والاستنشاق؛ لأن في دخول الماء في الفم والأنف إدخال لهذا الماء إلى الجوف، فحينئذ قد يكون سبباً لتحريك القذر في جوفه، فيكون ذلك سبباً لإخراج القذر وقد انتهى من إزالته، فيكون فيه مشقة؛ لإكثار الصب عليه وإكثار غسله ونحو ذلك.
فإذا وضع الماء في فيه أو أنفه، فدخل جوفه، أثار النجاسة الموجودة في جوفه، فأدى ذلك إلى خروجها أثناء الغسل، فكان في ذلك مشقة على الميت بإكثار صب الماء على بدنه، ولا شك أن ذلك يؤثر سرعة الفساد إلى بدنه بسبب كثرة صب الماء، مع ما في ذلك من مشقة على الغاسل.
قال: [ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء]
هكذا الطريقة في محل المضمضة والاستنشاق.
يأخذ خرقة فيبلها بالماء فينظف بها أسنان الميت وشفتيه ونحو ذلك.
ويدخل خرقة أخرى فينظف بها أنفه من الداخل. هذا محل المضمضة والاستنشاق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، وفي أبواب أخرى، ومسلم في باب غسل اميت، من كتاب الجنائز، وبقية أهل السنن الأربعة، المغني [3 / 375] .(8/146)
وقال الشافعية: بل يمضمضه وينشقه (1) ؛ للحديث المتقدم، فإنه قال: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، والفم والأنف من مواضع الوضوء.
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول؛ لما تقدم، فإن في مضمضته واستنشاقه ما يؤثر بإثارة الخارج، فيكون في ذلك مشقة في كثرة صب الماء عليه.
قال: [ثم ينوي غسله]
فإذا غسل مواضع الوضوء منه وأدخل الخرقة في فمه وأنفه، فإنه ينوي بعد ذلك غسله، ويشرع في الغسل.
هكذا قال المؤلف هنا.
لكن العبارة في المقنع قبل ذكر الوضوء، وهذا هو الظاهر؛ لأن الوضوء من الغسل المستحب، فالغسل المستحب يكون أوله الوضوء، ثم يغسل بقية وسائر البدن.
فكان المستحب – على ما ذكر الموفق في أصل الكتاب، الذي هذا المؤلف اختصار له -.
لكن إن لم ينو إلا بعد الوضوء، فذلك جائز فإن الواجب حينئذ – أي بعد أن يوضئه ويريد أن يشرع في تغسيله -.
لكن النية استحباباً تكون قبل الوضوء؛ ليدخل الوضوء في الغسل، فهو مستحب للغسل.
وتجب ذلك – أي النية – بعد التوضئة وقبل الغسل، فإن النية فرض على الغاسل؛ لأن الغسل عبادة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (اغسلوه بماء وسدر) (2) ، وقال: (اغسلنها ثلاثاً) (3) الحديث.
فالغسل فرض كفاية، فكانت النية فيه فرضاً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (4) . فإذا غسله بلا نية لم يجزئ ذلك.
__________
(1) من الاستنشاق.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، وباب الحنوط للميت،وباب كيف يكفن الميت، وفي أبواب أخرى من كتاب جزاء الصيد، ومسلم في باب ما يفعل المحرم إذا مات من كتاب الحج، المغني [3 / 376] .
(3) متفق عليه، وقد تقدم.
(4) متفق عليه، وقد تقدم في الطهارة.(8/147)
وعن الإمام أحمد، وهو قول بعض الحنابلة: أنه لا يشترط ذلك؛ قالوا: هو بمنزلة إزالة الخارج من السبيلين؛ لأن المقصود هو تنظيف الميت وتطهيره، فلم تجب له النية.
وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بتغسيله، وهو أمر مطلق شامل لنية النظافة وغيرها.
والعلة تعبدية، بل المراد تطهيره وإن كان نظيف البدن، بدليل أن من مات غريقاً أو نحو ذلك فأخرج فإنه يغسل وإن كان موته في ماء وهو في نظافة، فإنه يغسل تعبداً لله بالغسل، فليس ذلك كإزالة النجاسة التي يقصد إزالتها فحسب، بل المقصود هو الغسل.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان طيباً عند موته ومع ذلك غسل تعبداً لله في ذلك.
فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الغسل تشترط له النية، فإن عدمت فإن الغسل لا يجزئ ويجب أن يعاد الغسل بنية.
والنية مستحبة قبل إيضائه، وبعد إيضائه وقبل غسله هي فرض، لتشمل الغسل المجزئ.
قال: [ويسمي]
كما تقدم في الأغسال المشروعة وفي الوضوء المشروع، أنه يشرع فيه التسمية، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد كما تقدم البحث فيه.
قال: [ويَغْسِل برغوة السدر رأسه ولحيته فقط]
يؤتى بالماء فيوضع فيه سدر ثم يحرك حتى تظهر الرغوة، فإذا ظهرت، أخذت وغسل بها رأسه ولحيته.
وما تبقى من الثُغْل، وهو بقية السدر الباقي بعد خروج هذه الرغوة يغسل بها سائر البدن. هذا هو المشهور في المذهب، ويكون ذلك في كل غسلة من الغسلات.
وإنما خصوا الرغوة بالشعر واللحية؛ لأن غسل الشعر واللحية بالثغل يبقي شيئا منه في الرأس لا يزال إلا بإكثار الصب على الرأس، بخلاف الرغوة فإنها تذهب مع الشعر.
أما إذا كانت على البدن – أي الثغل – فإنها تذهب مع صب الماء اليسير.(8/148)
ولفظ المقنع – وهو أظهر – إطلاق ذلك وأنه يغسل سائر البدن بالرغوة. لكن إذا كانت الرغوة قليلة فإنه يكتفى بها - كما هو المشهور في المذهب – على الشعر واللحية، وأما سائر البدن، فإنه يغسل بالماء المتبقي من الثغل أو الكدر أو نحوه من السدر، أما إذا كانت الرغوة تكفي البدن كله، فإنها تغسل بها البدن، كما هو قول الموفق في أصل هذا الكتاب، وهو أظهر.
لكن إن كانت الرغوة قليلة، فالشعر واللحية أحق بها؛ لأن سقوط الثغل والكدر في الشعر يصعب إزالته.
وظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه ذكر السدر أنه يوضع في كل غسلة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أم عطية، قالت: " دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته، فقال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً – وفي رواية: أو سبعاً – أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور) (1) .
وظاهر ذلك أن كل هذه الغسلات يكون فيها الماء والسدر، وهو نص الإمام أحمد.
وسئل على إشكال يطرأ على ذلك، وهو أن الغسلة الأخيرة – حينئذ – يبقى على البدن شيء من ورق السدر أو من دقيق السدر الذي يكون في الماء الذي وضع فيه السدر، فقال رحمه الله: " هو نقي "، وقال عطاء: " هو طهور "، وهو كما قالا. فإنه ليس من الشرط أن يزال هذا الثغل أو هذا الكدر الذي يكون مع الماء من السدر، فإنه لو بقي فلا أثر له، بل هو طهور نقي.
لكن إن صب عليه الماء لإزالته، فلا بأس.
قال: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم كله ثلاثاً]
أي يشرع في صب الماء، فيصب على الجهة اليمنى ثم الجهة اليسرى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) .
__________
(1) تقدم.(8/149)
فهذا الحديث يدل على أن المستحب أن يُبدأ بالميامن، فيبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، ثم يصب الماء عليه كله، ويكون ذلك ثلاث مرات. وهذا هو المستحب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اغسلنها ثلاثاً) .
فإن اكتفى بغسله مرة واحدة أجزأ ذلك، وهو خلاف ما يستحب، فالمستحب أن يغسل الميت ثلاثاً.
لكن إن غسله مرة أجزأ ذلك؛ لإطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (اغسلوه بماء وسدر) ، فهذا يدل على أن المجزئ هو تعميم البدن بالغسل، لكن المستحب أن يغسله ثلاثاً فأكثر على حسب المصلحة.
قال: [ثم (1) يمر في كل مرة يده عل بطنه]
يعني: يحرك بطنه في كل مرة من مرات التغسيل حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج.
قال: [فإن لم ينق بثلاث، زيد حتى ينقي ولو جاوز السبع]
إذا لم ينق الثلاث، فإنه يزيد رابعة فخامسة، فإن لم ينق، زاد سادسة فسابعة فأكثر من ذلك حتى ينقي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) .
وقوله: (إن رأيتن ذلك) أي على حسب المصلحة، لا على حسب التشهي.
وظاهر كلام المؤلف – وهو مذهب الحنابلة – أن ذلك مربوط بخروج الخارج.
بمعنى: أنه لو كان البدن نقياً بثلاث غسلات، لكن خرج شيء من السبيلين، فإنه يعيد الغسل كاملاً مرة رابعة فخامسة، وهكذا.
وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يوضئه حينئذ؛ لأن التكرار المتقدم إنما هو حيث كانت المصلحة في تكراره على البدن كله.
أما هنا فإن المصلحة في صب الماء على السبيلين فحسب. قالوا: فحينئذ يوضئه.
وما ذهبوا إليه – مع أنه أقوى من القول الأول -، لكن الأظهر ألا يقال بتوضئته، بل وإنما يقال بمجرد صب الماء على السبيلين فيزال الخارج.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي نسخة للزاد بدون " ثم ".(8/150)
وذلك لأن حكم الميت ليس كحكم الحي، فهم إنما قاسوا الميت على الحي، فإن الحي إذا اغتسل من الجنابة ثم خرج منه شيء فإنه يتوضأ عن هذا الخارج؛ لأن هذا الخارج ناقض للحدث (1) الأصغر دون الأكبر، ولا يعيد الغسل كاملاً؛ لأن الغسل قد بنيت حكمه بالاغتسال، وخرج من الحدث الأكبر بالاغتسال، لكن خروج هذا الحدث الأصغر يوجب عليه الوضوء.
وإلحاق الميت بالحي فيه نظر، فإن هذا الغسل إنما هو من باب التعبد وليس بمعنى اغتسال الحي الذي يكون متهيئاً للصلاة ونحوها مما يشترط له الوضوء.
فالأظهر: أنه إذا غسله ثلاثاً فأنقى بدنه، فخرج منه شيء من السبيلين، فإنه يكتفي حينئذ بغسل الموضع الذي خرجت منه النجاسة من غير أن يعيد الغسل مرة أخرى، خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
وقال الجمهور: يعيد إيضاءه، وهذا وإن كان على الغاسل أهون من إعادة الغسل، لكن الأولى فيه أن يكتفى بغسل المحل الذي خرج منه الخارج.
قال: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً]
فالغسلة الأخيرة يضيف إليها الكافور، وهو نافع للميت، فإنه يشد البدن ويصلب الجسد ويطرد الهوام، ويبرد البدن أيضا، مما يؤدي إلى تأخر الفساد إليه.
ودليله ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور) (2) .
والكافور طيب، فإذا لم يوجد الكافور ووجد ما يقوم مقامه مما فيه هذه الفوائد المتقدمة، فإنه يضاف إلى الغسلة الأخيرة شيء من الطيب لحصول شيء من فوائده، فإن الكافور رائحته طيبة.
قال: [والماء الحار والأشنان والخِلال يستعمل إذا احتيج إليه]
" الخلال ": أن يدخل عوداً أو نحوه بين أسنانه لإخراج شيء من الوسخ بين الأسنان.
فالماء الحار قد يعجل بفساد البدن، ومثله الأشنان.
والخلال قد يحدث شيئاً في لثة الميت ويخرج الدم ونحو ذلك.
فهذه الأشياء لا تستعمل إلا إذا احتيج إليه.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: للطهارة.(8/151)
فإذا كان هناك أذى بين أسنانه فلم يتمكن من إخراجه إلا بالخلال، فإنه يفعل ذلك.
وإن كان عليه وسخ شديد لا يمكن أن يزال إلا بالأشنان ونحوه وبصب الماء الحار ونحو ذلك، فإنه يفعل.
قال: [ويقص شاربه ويقلم أظافره]
هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب إسحاق وسعيد بن المسيب وابن جبير والحسن البصري، قالوا: يستحب تقليم الأظافر وقص الشارب.
وهل يستحب نتف الإبطين؟
المشهور في المذهب كذلك.
وهل تحلق العانة؟
وجهان في مذهب الحنابلة:
الأول: أنه يستحب ذلك بشرط أن يكون ذلك بمزيل من غير أن ينظر إلى عورته.
الثاني: أنه لا يستحب ذلك.
وقال جمهور العلماء: بل لا يستحب شيء من ذلك كله، بل يبقى الميت على هيئته.
وقال بعض الحنابلة: يستحب ذلك إن كان فاحشاً كثيراً.
وهذا – فيما يظهر لي – أظهرها؛ وذلك لأن هذا الشيء الكثير الفاحش من التطهر والتنظف إزالته.
بخلاف مجرد طول في الشارب والإبطين والأظافر، فإن مثل هذا قد لا يحتاج إلى إزالته إلا بعد أن يمر عليه الوقت المحدد، وهو أربعون يوماً.
ولأنه إذا كان طوله ليس بفاحش، فلا يكون مستنكراً إلا مع مرور المدة المتقدمة التي وقّتها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يصح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أنهم كانوا يفعلون ذلك، فكان المستحب إبقاء ذلك كله إلا أن يكون فيه فحش، فإنه يزال من باب التنظف والتطهر، والله أعلم.
* استحب الحنابلة – أيضاً – أن تخضب اليدان ونحوها بالحناء.
وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك إلا أن يكون ممن اعتاده في الحياة، وهذا حسن.
أما الأول، فهو ضعيف؛ لعدم الدليل عليه، أما من اعتاده في الحياة فلا بأس بذلك.
قال: [ولا يسرح شعره]
قالوا: لعدم وروده.(8/152)
وقال الشافعية: بل يستحسن ذلك، فيسرح شعره وظفره، فيستحسن كما يفعل ذلك بشعر المرأة، فلا فرق في هذا بين المرأة والرجل، لاسيما إذا كان شعر الرجل طويلاً، فإنه يحتاج إلى جمع وتسريح ونحو ذلك.
وقد ثبت هذا في شعر المرأة كما سيأتي من حديث أم عطية، قالوا: فكذلك الرجل.
وقال بعض الحنابلة: يستحب أن يكون ذلك بمشط ذي أسنان متباعدة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تساقط شعره.
والأمر – فيما يظهر لي – واسع، فإن فعل هذا، فهو حسن.
قال: [ثم ينشف بثوب]
إذا انتهى من تغسيله، فإنه ينشف بثوب؛ لئلا يبتل الكفن بالماء، فكان المستحب ذلك؛ لئلا يبتل الكفن بالماء.
قال: [ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءها]
لقول أم عطية في غسلها لابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وظفرناها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها) .
وهذا كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما في رواية ابن حبان – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اظفرن شعرها ثلاثة قرون) .
ولا بأس أن يكون ذلك مع المشط، فقد ثبت في رواية مسلم: (ومشطناها ثلاثة قرون) .
فيكون تسريح ومشط، وتظفر ثلاثة قرون، هذا هو المستحب كما فعل بابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر منه عليه الصلاة والسلام.
قال: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حر]
إذاً: قبل السبع كل ما خرج منه شيء، فإنه يغسل، أي يعاد الغسل كاملاً، وهو كما تقدم قول ضعيف.
أما إذا وصل إلى السبع، فلا يعاد؛ لذا قال: " وإن خرج منه شيء بعد سبع، حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حُر - أي خالص صلب – يمنع من خروج الخارج، أو نحوه مما يمنع من خروج الخارج عن الميت.
قال: [ثم يغسل المحل ويوضأ]
ولم يقل: إنه يغسل بدنه – كما في المسألة السابقة –، بل يكتفى حينئذ بغسل المحل وبالوضوء.(8/153)
فالمشهور في المذهب: أنه إذا خرج منه شيء بعد الثالثة، أعيدت رابعة فخامسة، حتى تكون سبعاً، فإذا خرج شيء بعد السابعة، فلا يعاد التغسيل، بل يكتفى بغسل المحل مع الوضوء.
والراجح – ما تقدم -، وأن الإنقاء إذا حصل بثلاث، فخرج شيء من الخارج، فإنا نكتفي بغسل المحل والوضوء، كما هو مذهب الجمهور، بل الأصح ألا يوضأ، ويكتفى بغسل المحل، كما تقدم ذلك.
قال: [وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل]
كذلك إذا كفن وانتهى من تغسيله، فخرج منه شيء، فإنه لا يعاد الغسل، بل يكتفى بإزالة هذا الخارج وتنظيفه.
وهل يوضأ أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: ما تقدم، أنه يوضأ.
الثاني، وهو رواية عن أحمد: أنه لا يوضأ، وهو أرجح؛ لأن الوضوء فيه مشقة، وللفارق – كما تقدم – بين الحي والميت، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والأربعون بعد المئة
(يوم الاثنين: 17 /7 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومُحْرِمٌ ميت كحي)
أي أن أحكام الميت المحرم الذي يموت في إحرام حج أو عمرة هو حكم الميت من غير المحرم، وقد تقدم صفة غسل الميت فلا فرق في تلك الصفة بين الميت المحرم في حج أو عمرة أو غيره إلا ما يذكره المؤلف.
قال: (يغسل بماء وسدر ولا يقرب طيباً)
فلا يمس طيباً، ومن ذلك الكافور فقد تقدم أنه يستحب أن يجعل في الغسلة الثالثة للميت. أما المحرم فلا يجعل فيه كافور ولا غيره من الأطياب.
قال: (ولا يلبس ذكره مخيطاً)
فالذكر لا يلبس مخيطاً، بل يكفن في ثوبيه غير المخيطين، فلا يلبس قمص ونحو ذلك، بل يكون عليه ثوبا الإحرام اللذين أحرم بهما.
قال: (ولا يغطى رأسه)
فلا يوضع على رأسه شيء بل يبقى مكشوفاً.
قال: (ولا وجه أنثى)(8/154)
فيبقى وجه الأنثى مكشوفاً، لأن إحرام المرأة في وجهها كما هو مقرر في مذهب الحنابلة وسيأتي البحث في هذه المسألة في بابها في كتاب الحج، هذا حكم المحرم الميت.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (1)
قال: (ولا يغسل شهيد معركة)
الشهيد: وهو شهيد المعركة لا يغسل، بل يدفن بدمه وثوبه على وجه الخصوص.
ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري عن جابر قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم) (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح: (زملوهم بدمائهم فإنه ليس كَلْم يُكلم به في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك) (3)
فالحكمة من تركه بدمه من غير تغسيل، أنه يأتي يوم القيامة وهو يدمى وهذا الدم منه لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وهذا لبقاء الأثر لهذه الطاعة العظيمة، وهي طاعة الجهاد في سبيل الله، فهذا الحكم خاص في شهيد المعركة.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1343) ، وانظر (1346) (1347) (1353) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الجهاد، باب (27) من كُلِمَ في سبيل الله عز وجل (3148) ، والإمام أحمد في المسند في مسند الأنصار، في بداية حديث عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير رقم (24057) .(8/155)
ويلحق به الشهيد في سبيل الله بأيدي من خرج على إمام عادل، فإن من كان في فريق الإمام العادل، وخروج الخارجون عليه وإن كانوا مسلمين فمن قتل منهم فله هذا الحكم لا يغسل، لأنه قد قتل في سبيل الله كما أن شهيد المعركة – مع الكفار – قد قتل في سبيل الله، وروى البيهقي في سننه أن عماراً دفن بدمه ولم يصل عليه علي رضي الله عنه (1) ، وكان مع أولى الطائفتين بالحق.
فشهيد المعركة سواء كان مقتولاً من جهة الكفار، أو كان مقتولاً من جهة المسلمين في حرب كان هو مع الصف الذي هو على الحق – فله هذا الحكم – من ترك تغسيله.
وأما الشهيد غير ذلك كالشهيد بالغرق أو الطاعون أو المبطون والنفساء ونحو ذلك مما ثبت بالأدلة الشرعية أنه شهادة فإن هذا يغسل ويصلى عليه باتفاق العلماء.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على امرأة نفساء، والنفساء التي تقتلها طفلها من الشهداء، كما صح ذلك في الحديث.
قال: (ومقتول ظلماً)
__________
(1) كذا في الأصل، والذي في السنن الكبرى للبيهقي [4 / 27] رقم (6825) : " أن عليا صلى على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، فجعل عمارا مما يليه، وهاشما أمامه، فلما أدخله القبر جعل عمار أمامه وهاشما مما يليه " قال ابن التركماني: " قال البيهقي في باب زرع أرض غير بغير إذنه: ضعيف عند أهل العلم بالحديث. وأشعث هو ابن سوار ضعفه البيهقي في باب من قال للمبتوتة النفقة، وقال الحاكم: الشعبي لم يسمع من علي، ثم لو ثبت أن عليا صلى عليهما فالشهيد يصلى عليه عند أهل الكوفة وأهل الشام وغيرهم كما تقدم، ولهذا قال صاحب الاستيعاب: دفن علي عمارا في ثيابه ولم يغسله، ويروي أهل الكوفة أنه صلى عليه، وهو مذهبهم في أن الشهداء لا يغسلون ولكنهم يصلى عليهم ".(8/156)
فمن قتل ظلماً فإنه لا يغسل، لأن المقتول في سبيل الله قد قتل ظلماً وبغير حق - وهذا كذلك – أي المقتول ظلماً لمال أو عرض أو غير ذلك له هذا الحكم.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن من قتل ظلماً فإنه يغسل ويصلى عليه.
وهذا هو القول الراجح الصحيح، فإن عمر رضي الله عنه قد قتل ظلماً وعثمان وعلي وغيرهم، وكانوا يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء، ومع ذلك لم يثبت هذا الحكم فيهم، وإنما ثبت في شهيد المعركة.
بل لو قتل المسلم في أيدي الكفار لكن ذلك عن طريق الاغتيال، ونحوه مما لا يكون فيه قتال ظاهر، فإنه ليس له هذا الحكم.
فعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو شهيد كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد: (اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) (1) فالصديق أبو بكر والشهيدان عمر وعثمان.
ومع ذلك فإنه – أي عمر – قد كفن كما ورد ذلك في البيهقي وغيره وهو مشهور عنه، وكذلك علي كما في البيهقي وغيره (2) ، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.
فعلى ذلك القتيل الذي يقع قتله في غير الصف يبقى على الحكم الأصلي من التغسيل والتكفين.
قال: (إلا أن يكون جنباً)
أي شهيد المعركة لا يغسل إلا أن يكون جنباً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذا خليلا (3675) . وفي باب (6) مناقب عمر بن الخطاب (3686) ، وانظر (3697) .
(2) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] رقم (6820) (6819) فيه قصة عمر رضي الله عنه وفيهما: أنه غسل وكفن وصلي عليه، وأما أثر علي فرقمه (6821) لكن بلفظ: " أن الحسن صلى على علي رضي الله عنهما ". قال ابن التركماني: " يريد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإن البيهقي حكى عنه في الخلافيات أنه من قتل بالمصر ظلما بالمحدد لم يغسل عنده "، حاشية السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] .(8/157)
ودليل ذلك: ما رواه الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما قتل حنظلة بن عبد الله بن الراهب قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت: " إنه خرج لما سمع الهيعة - الصوت الفزع وهو منادي الجهاد - وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا غسلته الملائكة) (1)
قالوا: فهذا دليل على أن الجنب يغسل، فإن الملائكة قد غسلت حنظلة بن الراهب رضي الله عنه.
- وقال المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: لا يغسل، وهو القول الراجح.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما تقدم من أن حنظلة غسلته الملائكة، والملائكة غير مكلفين بغسل الميت، وإنما المكلف هم من علم بحاله من بني آدم، وأما الملائكة فله حكم آخر، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه أن يغسلوه لكونه جنباً وإنما اكتفى بالخبر أن الملائكة قد غسلته، فهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر بتغسيله.
والأحاديث المتقدمة التي فيها أن الشهيد لا يغسل أحاديث عامة ممن مات جنباً أو طاهراً.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 22] كتاب الجنائز، باب (82) الجنب يستشهد في المعركة (6814) قال: " حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين بن يعقوب الحافظ، أنبأ محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده في قصة أحد: وقتل شداد بن الأسود الذي كان يقال له ابن شعوب حنظلة بن أبي عامر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته) فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لذلك غسلته الملائكة) . وانظر (6815) (6816) .(8/158)
وكذلك في المرأة تقتل في سبيل الله حائضاً أو طاهراً فإنها لا تغسل – خلافاً للمشهور في المذهب – وأنها إذا ماتت حائضاً فكالجنب يجب غسلها لحديث حنظلة.
والصحيح ما تقدم: وأن من قتل في سبيل الله سواء كان جنباً أو كانت المرأة حائضاً فإنهم لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد وهذا عام في كل شهيد في سبيل الله.
وأما الخبر بتغسيل الملائكة فهذا خبر عمن لم يتوجه إليه الخطاب وهم الملائكة، ولم يوجه – النبي صلى الله عليه وسلم – الخطاب إلا (1) الآدميين من أوليائه أن يغسلوه.
قال: (ويدفن بدمه في ثيابه)
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (زملوه في ثيابه) (2) فيكفن في ثيابه التي قتل فيها.
قال: (بعد نزع السلاح والجلود عنه)
لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم) (3) ، لكن الحديث فيه عطاء بن السائب وقد اختلط فالحديث إسناده ضعيف.
ولكن القائلين به من الحنابلة لم يقولوا به على وجه الإيجاب، وإنما قالوا به على وجه الاستحباب والأولوية.
أي: يستحب أن ينزع عنه الجلد كأن يكون عليه خفان من جلد أو جبة من جلد فإنها تنزع عنه. وكذلك ما يكون عليه من السلاح من درع ونحوه فإنه ينزع عنه والحديث كما تقدم ضعيف.
- وقال المالكية: بل يدفن في ثيابه كلها، وهذا أظهر، لكن السلاح ينبغي استثناؤه للانتفاع به، أو لا فائدة من دفنه مع الميت بل الفائدة في إبقائه لينتفع به، فالسلاح ونحوه مما ينتفع به ينزع عن الميت.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إلى.
(2) تقدم صْ 119.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب 31 في الشهيد يغسل رقم (3134) ، وأخرجه كذلك ابن ماجه في الجنائز حديث 1515، باب الصلاة على الشهداء ودفنهم. سنن أبي داود [3 / 498] .(8/159)
وأما ثيابه سواء كان من جلد أو فرو أو نحو ذلك فإنها تبقى عليه – إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة لنزعها منه – كأن تكون للمسلمين حاجة في هذه الثياب لتكفين الموتى بها وعليه مزيد ثياب فإنه يكفن بها غيره.
إذن: المستحب أن يدفن في ثيابه فلا يجدد له كفن.
فإن كفن في غيرها فلا بأس، فقد ثبت في مسند أحمد أن صفية رضي الله عنها: (أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه بأحدهما وكفن بالآخر رجلاً آخر) (1) فإذن: إذا أحب الولي أو غيره أن يكفنه في ثوب آخر فلا بأس بذلك، لكن المستحب أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها.
قال: (وإن سلبها كفن بغيرها)
إن سلب الثياب في القتال، فوقعت سلباً للكفار فإنه يكفن بثياب أخر.
فما تقدم من الكلام فيما إذا كان عليه ثياب، أما إذا لم يكن عليه ثياب، أو كانت عليه ثياب غير كافية فإنه يكفن بثياب أخرى.
قال: (ولا يصلى عليه)
فشهيد المعركة لا يصلى عليه، لحديث جابر المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يغسل شهداء أحد ولم يصل عليهم) (2) ونحوه من حديث أنس في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على شهداء أحد) (3) فهذه الأحاديث تدل على أنه لا تشرع الصلاة على شهيد المعركة.
هذا هو مذهب جمهور العلماء.
وذهب الأحناف: إلى مشروعية ذلك.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج إلى أهل أحد فصلى عليهم كصلاته على الميت) (4)
__________
(1) انظر كتاب الجنائز صْ 79.
(2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 119.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد رقم (1344) ، ومسلم (2296) .(8/160)
في البخاري: (بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات) (1) أي كان ذلك قبيل وفاته بعد نحو ثمان سنوات من وقعة أحد، وهذا من باب التجوز فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي بعد سبع سنوات وأشهر من غزوة أحد.
واستدلوا: بما رواه الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة فكبر عليه تسع تكبيرات ثم صلى على الشهداء وكل ذلك وهو يصلي على حمزة " (2) يعني في كل واحد من الشهداء يصلي على حمزة ".
قالوا: والحديث حسن.
أما الحديث الثاني وهو ما رواه الطحاوي، فإنه حديث منكر، وقد ضعفه الشافعي وأعله ابن القيم وغيرهم.
فإن المحفوظ عنه في الصحيحين وغيرهما أنه لم يصل على شهداء أحد، ولم يكن هذا ليخفى على جابر وأبوه من شهداء أحد، وكذلك لم يكن ليخفى على أنس وله في أحد شهداء.
أما الحديث المتفق عليه: فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه دعا لهم كدعائه للميت، وهذا يكون فيه الجمع بين ترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عليهم أولاً، ويكون فعله الثاني مجرد الدعاء لهم، لكن قال: (كصلاته على الميت) لبيان أن هذا الدعاء مخصوص فهو كالدعاء الذي يقع في الصلاة على الميت.
ثم لو قلنا: أنه صلى عليهم صلاة كالصلاة المعروفة، فإنه ينبغي أن يقال: بكونه خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يقولون بذلك.
فالظاهر ما تقدم أنه دعاء كالدعاء في صلاة الميت، أو أن يكون ذلك خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة على الميت إنما تشرع عند موته، وأما أن يكون ذلك بعد ثمان سنوات فلا.
فالأظهر مذهب الجمهور وأن شهداء المعركة لا يصلى عليهم لترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
ثم لو قلنا بالحديث الذي ذكره الأحناف فيحسن أن يقال بما هو رواية عن الإمام أحمد: أن الصلاة على الشهيد تركها أولى فإن صلى فلا بأس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب (17) غزوة أحد رقم (4042) .(8/161)
قال: (وإن سقط عن دابته أو وجد ميتاً ولا أثر به … غسل وصلي عليه)
تقدم أن شهيد المعركة لا يغسل ولا يصلى عليه، وهنا استثناء فإذا سقط عن دابته بغير فعل من الكفار أو وجد ميتاً ولا أثر به فليس هناك جرح يدل على أن هذا الموت كان بسبب الكفار، فإنه يغسل ويصلى عليه.
- هذا هو مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنابلة.
قالوا: لأن الأصل هو تغسيل الميت إلا ما ورد استثناؤه وهو شهيد المعركة وهذا لم يكن قتيلاً في المعركة وإنما حدث الموت له أثناء المعركة.
- وقال الشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة: أنه له حكم الشهداء – حينئذٍ –؛ فإنه قد مات وهو يقاتل في سبيل الله ولا يبعد أن يكون السبب هو ذات القتال، وإن لم يكن ذلك ظاهراً، فإن ذلك وإن لم يظهر لنا لكن الاحتمال فيه قوي، فمظنة سقوطه وموته أن يكون ذلك من الكفار، ولذا فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه.
ولأنه – في الحقيقة – في حكم الشهداء فكان ينبغي أن يلحق بهم، والله أعلم.
* وهنا مسألة قريبة من هذه المسائل: وهي فيمن أصابه سيفه أو أصابته رمية من جهة المسلمين، فكان في ذلك حتفه، فما الحكم؟
قال الحنابلة في المشهور عندهم وهو مذهب الجمهور: إنه يغسل ويصلى عليه.
وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق والقاضي من الحنابلة: له حكم الشهداء.
واستدلوا:
بما ثبت في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً " وهو عامر بن الأكوع " فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه: " في شهادته في سبيل الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مات جاهداً مجاهداً) (1) فكان له حكم الشهداء.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب (32) الجهاد والسير، باب (43) غزوة خيبر (1802) .(8/162)
وكان له حكمهم من حيث العموم فإنه لم ينقل لنا أنه خص بحكم سوى حكمهم من ترك تغسيلهم، فكان له حكم شهداء خيبر ممن قتل في سبيل الله تعالى، وهذا القول أظهر.
فالراجح أنه في هذه المسألة لا يغسل ولا يصلى عليه فله حكم الشهداء، لأنه مظنة الموت في المسائل الأخيرة بسبب الكفار والقتال مظنة قوية حيث وجد ميتاً أثناء ذلك.
أما لو علم أن موته ليس بسبب القتال فإن له الحكم الأصلي من كونه يغسل ويصلى عليه.
قال: (أو حمل فأَكَل أو طال بقاؤه عرفاً غسل وصلي عليه)
أي من حمل فأكل أو شرب أو تكلم أو [فعل] (1) فعلاً من الأفعال التي يفعلها الحي، أو طال بقاؤه عرفاً.
إذن: إن تكلم أو أكل أو شرب أو نحو ذلك من الأفعال التي تقع من الحي وإن لم يطل بقاؤه عرفاً فإنه يغسل ويصلى عليه.
فإن لم يفعل هذه الأفعال وطال بقاؤه عرفاً، فكذلك يغسل ويصلى عليه.
فالمسألة إذن: من هو الشهيد الذي يترتب عليه الحكم من ترك الصلاة والغسل؟
المشهور في المذهب: أن هذا الحكم خاص فيمن أصيب في المعركة ولم يطل بقاؤه عرفاً بشرط ألا يفعل شيئاً من أفعال الحي من شرب أو كلام ونحو ذلك.
وقال الموفق والمجد ابن تيمية من الحنابلة: بل إن طال بقاؤه عرفاً فهو الذي يخرج من هذا الحكم.
أما مجرد كونه يشرب أو أنه يتكلم أو تأخذه إغفاءة فإن هذا ليس بمؤثر في الحكم ما دام لم يطل الزمن عرفاً إلا أن يأكل فإن الأكل إنما هو من شأن الأحياء.
فعندهم أن من أكل وإن لم يطل بقاؤه عرفاً، فإنه ينتفي عنه الحكم، فيغسل ويصلى عليه.
3- وقال الشافعية، وهو قول في مذهب الإمام أحمد: لا يثبت هذا الحكم إلا فيمن كان موته قبل انقضاء الحرب. أما لو بقي بعد انقضاء الحرب فحمل إلى جهة المسلمين فإنه يغسل ويصلى عليه.
الترجيح:
__________
(1) ليست في الأصل.(8/163)
أما ما ذهب إليه الشافعية فإنه ينبغي أن يستثنى منه: ما لو بقي به رمق وهو في أثناء المعركة ثم حدث له الموت وقد علم انتصار هؤلاء على هؤلاء فقد انقضت المعركة، لكن بقي به من رمق ثم كان موته، فإن مثل هذا ينبغي أن يكون له الحكم من ترك التغسيل والصلاة عليه.
وقد روى مالك في موطئه بإسناد منقطع: أن سعد بن الربيع وكان من شهداء أحد كان هكذا (1) ، فإنه قد بقي به رمق بعد انتهاء المعركة ثم مات وكان من شهداء أحد، والسند وإن كان منقطعاً لكن هذه القصة مشهورة في كتب السير.
ثم إنه ليس هناك فارق مؤثر بين أن يموت في أثناء المعركة وأن يبقى به رمق وهو في موضعه ثم يموت بعد انتهائها، في الحقيقة لا فرق بين هاتين الصورتين.
والقول بما ذهب إليه الحنابلة قول فيه قوة - وليس المقصود على إطلاقه بل على إخراج ما ذكروه من الشرب والكلام.
فإن مثل هذه غير مؤثرة في الحقيقة، فإن مثل هذه الأمور تقع ممن يحتضر، فيقع منه الشرب والكلام والتوصية ونحو ذلك، فمثل هذه الأمور ليست بمؤثرة بخلاف الأكل فإنه لا يقع إلا من الأحياء.
فالقول: بأنه متى طال الزمن عرفاً خرج من حكم الشهداء هذا قول قوي؛ لأن الأصل هو بقاء الحكم لما كان أثراً منه، والأثر في موته إنما هو هذه المعركة، وقد بقي زمناً يسيراً في العرف فلم يطل ذلك عرفاً، فكان باقياً في حكم ذلك الأثر الذي أثر به.
أما إذا طال الزمن عرفاً فإنه يخرج من هذا الحكم، فإن سعد بن معاذ قد أصيب بسهم في أكحله في غزوة الخندق - كما ثبت في الصحيحين (2) – ولم يكن له حكم الشهداء بل غسل وصلي عليه.
__________
(1) الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد رقم (1004) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (77) الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم (463) ، وفي كتاب المغازي، باب (30) مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب (4122) ، ومسلم (1769) .(8/164)
وهذا وإن لم ينقل لنا فإنه في حكم المنقول إذ الهمم متوفرة لنقله والدواعي قائمة لنقله، فلو كان له حكم الشهداء لنقل ذلك، بل بقي مسكوتاً على طريقة غسله وتكفينه فكان ذلك إبقاءً على الأصل من كونه يغسل ويكفن؛ لأنه قد طال الفصل عرفاً.
إذن: ينبغي أن يقال: من جرح جرحاً شديداً أثناء القتال فمات فيه أو قبل انقضاء الحرب أو بعد زمن يسير من انقضائها وكان السبب هو هذا الجرح الذي أصابه فله حكم الشهداء.
أما إذا طال الفصل عرفاً، كأن يذهب إلى بلاده ويبقى ممرضاً حتى يأتيه الموت فإنه لا يكون له حكم الشهداء كما هو مشهور عند المسلمين كما في قصة سعد بن معاذ وغيره.
قال: (والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غُسل وصلي عليه)
السقط: من سقط من رحم أمه قبل أن يأتي أوانه.
فهذا الساقط لأربعة أشهر وعند تمامها تنفخ الروح في الجنين في بطن أمه فيكون له حكم الأحياء فإذا سقط بعد أربعة أشهر فإنه يصلى عليه.
وعليه فالجنين الذي يسقط من أمه قبل أربعة أشهر لا يصلى عليه؛ لأنه ليس من الأحياء فلم تثبت له الحياة بعد بل إنما هو قطعة لحم، بل يكون ذلك لمن نفخت فيه الروح ولا يكون ذلك إلا بعد أربعة أشهر كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب (6) ذكر الملائكة (3208) بلفظ: " قال عبد الله: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن..) .
، وأخرجه أيضا في أبواب أخرى، ومسلم (2643) .(8/165)
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) (1) رواه الخمسة وإسناده صحيح.
- وذهب جمهور الفقهاء: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه إلا إذا خرج حياً باستهلاله صارخاً فثبت حياً ثم مات بعد ذلك، فلو سقط وهو ابن ثمانية أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل بل يوارى، وأما إن خرج حياً فثبتت له الحياة باستهلاله صارخاً فإنه يثبت له هذا الحكم.
واستدل الجمهور: بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي في الطفل: (لا يغسل ولا يصلى عليه حتى يستهل صارخاً) (2) فالحديث إسناده ضعيف فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.
- فالصحيح مذهب الحنابلة.
قال: (ومن تعذر غسله يُمم)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه) (1507) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب (7) الجنائز، باب (43) ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل (1032) قال: " حدثنا أبو عمار الحُسين بن حُريث، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) قال أبو عيسى: هذا حديث قد اضطرب الناس فيه، فرواه بعضهم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا، وروى أشعث بن سوار وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر موقوفا، وروى محمد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر موقوفا، وكأنّ هذا أصح من الحديث المرفوع ".(8/166)
إن تعذر غسله كحريق ومن أصيب بمرض في جلده لا يمكن تغسيله فإنه ييمم؛ لأن التيمم يقوم مقام الأغسال الشرعية ومن ذلك غسل الميت، فكما أنه يقوم مقام غسل الجنابة، فكذلك يقوم مقام غسل الميت لأن كليهما تطهير فكلاهما يفعل من باب التعبد والتطهير.
- وعن الإمام أحمد: أنه لا ييمم، لأن المقصود من غُسل الميت تنظيفه والتيمم لا يستفاد منه تنظيفاً.
والقول الأول هو الراجح؛ لأن غسل الميت لا يقصد منه التنظيف فحسب بل يقصد منه التعبد لله عز وجل بتطهير الميت هذا التطهير الشرعي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل ولم يكن محتاجاً إلى التنظيف.
وقد تقدم أثران أنه لا بأس بتحسينهما بمجموعهما في مسألة متشابهة لهذه المسألة - وهي إذا مات رجل بين نسوة أو عكسه فإنهما ييممان – وهي أصل في مشروعية التيمم في غسل الأموات.
قال: (وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً)
الغاسل وهو الأمين العدل يجب عليه إذا رأى من الميت ما يكون فيه شيء من العيب أو الفضيحة أن يستر ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة) (1) رواه أحمد بإسناد صحيح.
وروى الحاكم بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر له [الله] أربعين مرة - وعند الطبراني: أربعين كبيرة - ومن حفر له [فأجنّه] أجري عليه كأجر (2) مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه كساه الله عز وجل من سندس وإستبرق الجنة) (3) والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا فالحديث إسناده صحيح.
إذن: الواجب عليه أن يستر ما رآه، هذا إن كان الميت من أهل السنة.
__________
(1) تقدم.
(2) في الأصل: أجري له أجر مسكن.. "
(3) أحكام الجنائز وبدعها، للألباني رحمه الله تعالى ص69.(8/167)
وأما إن كان من أهل البدعة ورأى أن في بيان أمره ما يجعل الناس يبتعدون عما هو عليه من البدعة والضلالة فإنه يسن ذلك لمصلحة المسلمين (1) .
كما أنه إذا رأى ممن هو معروف بالبدعة - إذا رأى منه - ما هو من بشارات الخير، فلا يخبر بذلك؛ لئلا يغتر المسلمون من الإغرار به.
وأما من كان من أهل السنة فإنه إن رئي منه خير أُظهر ليكون ذلك سبباً للاقتداء به، وإن رأى منه شراً فإنه يخفي ستراً عليه.
والحمد لله رب العالمين
الدرس السابع والأربعون بعد المئة
(يوم الثلاثاء: 18 / 7 / 1415 هـ)
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب تكفينه في ماله مقدَّماً على دينٍ وغيره)
التكفين واجب، وهو من فروض الكفاية، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (وكفنوه في ثوبيه) (2) وهذا أمر والأمر للوجوب.
وهنا قال: (مقدماً على دين وغيره) وإرث ووصية وغير ذلك.
فأول ما يقدم من تركة الميت ما يكون في تجهيزه وتكفينه وأجرة غاسله ونحو ذلك، ومن ذلك الكفن، فإنه يقدم على الدين والإرث والوصية ونحو ذلك.
ولو كان الدين برهن فكذلك يقدم عليه الكفن، فلو كان له دين وقد رهنه واحتيج إلى هذا المال المرهون في تغسيله وتكفينه فإنه يقدم؛ لأن تكفينه يقوم مقام كسوته في الحياة، ومعلوم أن الكسوة في الحياة مقدمة على حق الدائن وغيره، فإن من كان عليه دين وكان له شيء يحتاج إليه في كسوة وغيرها فإنه يقدم على حق الدائن.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بتكفين المحرم في ثوبيه وأمر بتكفين الشهداء في ثيابهم لم يستفصل ولم يستثن إن كان عليهم دين، ولا شك أن الدين في مثل هذا العدد الكثير لا يخلو.
__________
(1) قال أحمد: " لا أشهد الجهمية ولا الرافضة.. " المغني [3 / 506] .
(2) تقدم.(8/168)
فعلى ذلك أول ما يقدم من التركة ما يكون في شأن ما يحتاج إليه الميت من تغسيل وتكفين ونحو ذلك. لكن الطيب والحنوط ليس بواجب بل هو مستحب فعلى ذلك يقدم عليه غيره إلا إن رضي بذلك صاحب الحق.
قال: (فإن لم يكن مال فعلى من تلزمه نفقته)
فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته في الحياة.
فالوالد مثلاً ينفق على ولده فيجب أن يتكفل الوالد بتكفين ولده وما يحتاج من تجهيزه.
قال: (إلا الزوج فإنه لا يلزمه كفن امرأته)
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب الأحناف.
قالوا: لأنه لما ماتت زوجته قد امتنع الانتفاع بها فلم يجب الإنفاق عليها كالبائن والناشز.
وقال الشافعية في الأشهر عندهم وهو قول في مذهب الإمام مالك وقول في مذهب الإمام أحمد وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن تجهيز المرأة واجب على زوجها – وهذا القول أرجح –؛ وذلك لأن إنفاق الزوج على زوجته واجب ما دامت زوجة له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: (لو مت لغسلتك ثم كفنتك) (1) الحديث، فدل هذا على بقاء معنى الزوجية.
ولأن من وجبت عليه النفقة في الحياة فيجب عليه الكفن والتجهيز بعد الممات، كما يجب على السيد تجاه رقيقه وهذا بالاتفاق، ولأن النشوز فعل من الزوجة اقتضى أن تؤدب بمنعها من النفقة، وأما البينونة فهو انفصال تام بحيث أن المرأة قد انتقلت إلى نفقة غيره إما بزواج أو بأن ترجع إلى من ينفق عليها سابقاً، أما هنا فإن معنى الزوجية باق بدليل جواز تغسيلها باتفاق العلماء وبالأحاديث السابقة.
فعلى ذلك الأرجح – وهو الأشهر في مذهب الشافعية -: أن الزوج يلزمه الإنفاق على زوجته في تكفينها وتجهيزها.
ثم بعد ذلك – أي بعد من تلزمه النفقة في الحياة - يكون ذلك إلى بيت المال؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين وهذا من المسلمين وهو محتاج إلى ذلك.
__________
(1) رواه ابن ماجه، وقد تقدم.(8/169)
فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يقم بيت المال بهذا، فيجب على من علم حاله من المسلمين أن يقوم بتجهيزه ويتعين ذلك.
قال ابن تيميه: " ومن علم حاله وعلم أنه ليس هناك من يقوم به فإن ذلك يتعين عليه ".
ومثل ذلك لو بلغ طائفة من الناس موته وعلم أنه ليس هناك من ينفق عليه فيجب عليهم بمجموعهم أن يقوموا بالنفقة عليه في تجهيزه وتكفينه فإن قام بعضهم فإنه يسقط الإثم عن باقيهم.
قال: (ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض)
لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحولية "، ضبطت " سُحولية " وهي نسبة إلى بلدة في اليمن تصنع فيها هذه اللفائف " من كرسف - من قطن - ليس فيها قميص ولا عمامة) (1) ، وفي مسند أحمد: (جدد يمانية) (2) .
فهذا هو المستحب أن تكون بيضاً جدداً وأن تكون من قطن.
ومما يدل على استحباب كونها بيضاً ما ثبت في سنن الأربعة إلا النسائي وهو ثابت في مسند أحمد وصححه الترمذي وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) (3) وفي النسائي من حديث سمرة: (فإنها أطيب وأطهر) (4) .
قال: (تُجمّر)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (25) الكفن ولا عمامة (1273) ، باب (24) الكفن بغير قميص (1271) (1272) ، ومسلم (941) .
(2) أخرجه أحمد في مسنده (25381) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب (14) في الأمر بالكحل (3878) ، والترمذي في الجنائز (994) باب ما يستحب من الأكفان، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه في اللباس، باب البياض من الثياب (3566) .
(4) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (38) أي الكفن خير (1896) عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم ".(8/170)
أي تبخر، فتبخر هذه اللفائف بالبخور، ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً) (1) ، وثبت في الموطأ بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (أجمروا ثيابي إذا مت ثم حنطوني ولا تذروا على كفني حِناطاً " أي طيباً " ولا تتبعوني بنار) (2) والشاهد قولها: " أجمروا ثيابي إذا مت) .
ويستحسن أن يرش عليها ماء ورد أو نحوه من المياه التي تسبب علوق البخور بالثوب.
قال: (ثم تبسط بعضها فوق بعض)
أي توضع ثلاث طبقات على الأرض.
قال: (ويجعل الحنوط فيما بينها)
الحنوط: أخلاط من طيب ولا يسمى حنوطاً إلا إذا أعد للميت، والذي يدل على استحباب الحنوط قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – فيمن وقصته ناقته فمات: (ولا تحنطوه) (3) فدل على أن المتقرر عندهم هو تحنيط الميت أي تطييبه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب) ولقول أسماء: (ثم حنطوني) (4) فالحنوط مستحب.
(فيما بينها) أي توضع الحنوط فيما بين هذه اللفائف.
قال: (ثم يوضع عليها مستلقياً)
أي يوضع عليها الميت مستلقياً على ظهره.
قال: (ويجعل منه في قطن بين أليتيه ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع أليته ومثانته)
أي يجعل من الحنوط في قطن بين أليته ليسد الخارج وليطيب هذا المحل الذي خرج منه الخارج الخبث.
(ويشد فوقها خرقة) : أي يشد فوق الأليتين خرقة مشقوقة الطرف أي في كل طرف من الخرقة شقان حتى تكون كالتبان وهو السروال القصير، ويربط كل طرف بالآخر من الخلف مستوي من الإمام، وطرف الخلف فيربط على الفخذ الأيمن وهكذا على الفخذ الأيسر.
" المثانة " هي مخرج البول.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (14594) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ بنفس اللفظ، في كتاب الجنائز، باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار (530) .
(3) تقدم.(8/171)
قال: (ويجعل الباقي على منافذ وجهه)
أي يجعل الباقي من هذا القطن الذي جعل فيه الحنوط.
فيجعل على منافذ وجهه يعنى في منخريه وفي عينيه وفمه لتمنع دخول الهوام فيها ولتسترها من الأذى.
قال: (ومواضع سجوده)
يعني الركبتين وأطراف القدمين والجبهة واليدين، نطيب هذه (1) المواضع تشريفاً لها، وكذلك المغابن وهي مواضع ثني اليدين كطي الركبتين والإبطين.
قال: (وإن طيب كله فحسن) .
وهذه اجتهادات لا بأس فهي من تطييب الميت ووضع الطيب في المواضع التي يستحسن أن يوضع فيها الطيب، فالمقصود إنما هو تطييبه.
فإن طيبه بما ذكر المؤلف فحسن، وإن طيبه بطريقة أخرى نافعة فكذلك، وإن طيبه كله فهذا أيضاً حسن إن شاء الله.
قال: (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر من فوقه ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك)
فإذا وضع بين اللفائف مستلقياً على ظهره، يرد طرف اللفافة اليمنى على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوقه. ثم الثانية والثالثة كذلك.
ودليل هذا ما ثبت في مسند أحمد من حديث عائشة المتقدم وفيه: (ثم أدرج فيها أدراجاً) وهذا هو الإدراج، والإدراج هو الطي.
فالصفة: أن يوضع الميت وسط اللفائف ثم يرد الشق الأيمن من العليا ثم الشق الأيسر ويكون فوقه الشق الأيمن ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك.
قال: (ويجعل أكثر الفاضل على (2) رأسه) .
__________
(1) في الأصل: هذا.
(2) وفي نسخة: عند رأسه(8/172)
ما يفضل من اللفائف علواً وسفلاً يكون أكثره من جهة الرأس تشريفاً له. وقد قال خباب بن الأرت كما في الصحيحين: (قتل مصعب بن عمير فلم نجد ما نكفنه فيه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تغطى رأسه وأن يجعل على رجليه من الإذخر) (1) فهذا يدل على تقديم الرأس على الرجلين.
قال: (ثم يعقدها وتحل في القبر)
فإذا انتهى من التكفين وجعل الفاضل من جهة الرأس فإنه يعقدها يعني بحبل، فيعقد من الأعلى بحبل ومن الأسفل بحبل أيضاً؛ وذلك لئلا تنشر هذه اللفائف أثناء حمل الميت فالمقصود من هذه اللفائف إنما هو لئلا تنشر أثناء حملة، لذا قال: (وتحل في القبر) فتنتهي الفائدة من عقدها إذا وضع في قبره فحينئذ تفك هذه الحبال.
قال: (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز)
إذا لم يكفن على الطريقة السابقة بل كفن في قميص، وهو الثوب المعروف عندنا، فإذا لبس قميصاً، ولبس إزاراً ثم غطى بخرقة أديرت على بدنه فلا بأس بذلك.
وقد ثبت في موطأ مالك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (الميت يقمَّص ويؤزر ويلف في الثوب الثاني (2) فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه) .
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (لما توفى عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله] أعطني قميصك أكفنه فيه [وصل عليه واستغفر له] ، فأعطاه قميصه) (3) فلا بأس بذلك لكن الأفضل ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار وخمار وقميص ولفافتين)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (27) إذا لم يجد كفنا (1276) ، ومسلم (940) .
(2) لعلها: الثالث، كما في الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي ص110. كتاب الجنائز رقم (525) قبل باب المشي أمام الجنازة.
(3) الزيادات من فتح الباري: 3 / 165.(8/173)
المرأة المستحب أن تكفن في خمسة أثواب.
إزار – وتقوم مقامه السروال –.
وخمار يغطى به الوجه والرأس.
وقميص وهو الثوب المعروف.
ولفافتين.
وذلك لما روى أحمد وأبو داود من حديث ليلى الثقفية: (أنها كانت فيمن غسَّل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فكان أول ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم – يعني لتكفينها – الحِقاء وهو الإزار - ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم بعد ثوب) (1) أي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهن لابنته وهي تغسل – الكفن فكان أول ما أعطاهن الحقاء وهو الإزار، ثم الدرع وهو القميص ثم الخمار ثم الملحفة وهي مثل العباءة ثم ثوب آخر، والملحفة في الحقيقة تقوم مقام اللفافة فحينئذ قال المؤلف " لفافتين "، لكن الحديث فيه: نوح بن حكيم الثقفي وهو مجهول.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (36) في كفن المرأة (3157) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة بن مسعود، يقال له داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ليلى بنت قانِفٍ الثقفية قالت: كنت فيمن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحِقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أُدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند الباب معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا "، وانظر حاشية الروض المربع: 3 / 75.(8/174)
لكن ذكر الحافظ في الفتح أن الجوزقي – هو إمام نيسابوري – له مستخرج على صحيح مسلم وكان إماماً حافظاً متقناً توفي سنة 388 هـ: أنه روى بسنده عن أم عطية أنها قالت في تكفين بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - – ولعلها أم كلثوم أو غيرها على اختلاف بين العلماء – قالت: (فكفناها بخمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي) قال الحافظ: " وهذه زيادة صحيحة الإسناد " (1) .
فهذا يشهد لما ورد في أبي داود من رواية نوح بن حكيم وهو مجهول، لكن هذا السند يشهد لروايته وهو كما قال الحافظ " سند صحيح ".
ويشهد لها المعنى، فإن الأولى في المرأة أن تكون في تكفينها أكثر من الرجل لأنها أولى بالستر منه، بدليل أنها تحتاج إلى الستر في الحياة والتغطية أكثر من الرجل، فكذلك في الممات، ولهذا ذهب جماهير العلماء إلى هذا فاستحبوا أن تكفن المرأة في خمسة أثواب.
ويخفف في الجارية والصبي.
فالصبي – كما ذكر فقهاء الحنابلة وغيرهم -: يكفي أن يكفن في ثوب واحد، وأما الجارية فإنه يكفي أن تلبس قميصاً وتوضع عليها لفافتين، وذلك للتخفيف في عورتهما، فهنا محل للتخفيف فلم يتشدد فيهما كما يتشدد في الرجل والمرأة.
قال: (والواجب ثوب يستر جميعه)
فالواجب: أن يغطى بثوب يستر جميعه؛ لأن هذه هي حقيقة التكفين.
فكونه مُجْزءاً؛ لأن حقيقة التكفين التي أمر بها الشارع تثبت به.
وأما ما ورد من الفعل المتقدم فهو مجرد فعل والفعل لا يدل على الوجوب فهو يدل على الاستحباب.
فإذن: القدر المجزئ من التكفين أن تدار عليه لفافة تغطي بدنه.
أما المستحب فهو ما تقدم في حق المرأة والرجل والصبي والجارية.
فإن كان هناك ثوب لا يستر بدنه كله، فإنه يقدم ستر العورة ثم يدفن على تلك الحال ويغطى سائر بدنه بشيء من الأعشاب الطيبة كالإذخر ونحوه.
__________
(1) فتح الباري [3 / 159] طبعة دار الريان للتراث.(8/175)
وإن كان يستر فيه عورته ومنه فضل فإنه يكون من نصيب الرأس وتكون القدمان مكشوفتين ويوضع عليهما شيء من الإذخر ونحوه لما تقدم في حديث خباب رضي الله عنه (1) .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثامن والأربعون بعد المئة
(يوم الجمعة: 21 / 7 / 1415هـ)
فصل
في حكم الصلاة على الميت وصفتها، وما في ذلك من المسائل.
الصلاة على الميت فرض كفاية – كما تقدم في درس سابق –.
والمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: أنه إذا صلى عليه مكلف واحد ذكراً كان أو أنثى فإن هذا الواجب الكفائي يسقط بذلك، لأن الواجب الكفائي متى قام به من يفعله فإنه يسقط الإثم عن الباقين.
وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا ثلاثة، وهو قول في مذهب الإمام الشافعي.
وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا جماعة، واثنان فما فوق جماعة.
وما ذكره الحنابلة – من أنه إن صلى عليه مكلف فإنه يكفي – قوي، لكن هذا القول يتردد في قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) (2) كما ثبت ذلك في الصحيحين في قصة المدين، ومثل هذا الأمر موجه إلى جماعة فكان الواجب أن يصلى عليه جماعة ولم يقل: ليصل عليه أحد منكم فدل ذلك على أنه واجب على جماعة منهم، فإذا صلى عليه من يثبت أنه جماعة فإنه يسقط الإثم عن الباقين – والله أعلم –.
__________
(1) تقدم أنه في الصحيحين.
(2) أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع في كتاب الحوالات باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وفي كتاب الكفالة، باب (3) من تكفل عن ميت دينا.. (2295) ، ومن حديث أبي هريرة في كتاب الكفالة، باب (5) الدين (2298) ، ومسلم (1619)(8/176)
ويستحب أن يقسم المصلون عليه ثلاث صفوف إن كان المصلون عليه فيهم قلة. لما روى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب) (1) لكن الحديث فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن.
لكن للتقسيم إلى ثلاثة صفوف شاهد عند الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكنه يشهد لما قبله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ومعه سبعة فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً واثنين صفاً) (2) من حديث أبي أمامة.
أما إن كانوا كثرة فإنه لا يقسمهم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نعى النجاشي فخرج بهم إلى المصلى) (3) الحديث وفيه قال جابر: (فصففنا صفين) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (40) ماجاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت (1028) . قال الترمذي: " وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة وميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو عيسى: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن، هكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا، ورواية هؤلاء أصح عندنا ".
(3) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (55) الصفوف على الجنازة، (1318) ، وانظر (1242) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (951) .
(4) هذه الزيادة في صحيح مسلم من حديث جابر في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (952) ، وهو في البخاري (1317) ، باب (54) من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام بلفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث "، وفي رواية له (1320) : " كنت في الصف الثاني ".(8/177)
وقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم من حديث ابن عباس: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) (1) ، وهو ثابت في مسلم من حديث عائشة إلا أنها قالت: (مائة) (2) .
والعدد لا مفهوم له، فمن صلى عليه طائفة من المسلمين يبلغون أربعين أو أكثر من ذلك أو مئة فصلوا عليه ودعوا الله له إلا شفعهم الله فيه.
ويأمرهم بتسوية الصفوف لأنها صلاة كغيرها من الصلوات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (السنة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسْطها)
هذه السنة: أن يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.
أما كونه يقوم عند وسط المرأة فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسْطها) (3) .
وأما كونه يقوم عند صدر الرجل فذكروا أثراً عن ابن عباس يبين ذلك – من غير أن يعزوه، ومن غير ذكر سند يمكن أن ينظر فيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (19) من صلى عليه أربعون شفعوا فيه (948) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (18) من صلى عليه مئة شفعوا فيه (947) .
(3) أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (63) الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، وكذلك برقم (1332) و (332) ، ومسلم (964) .(8/178)
ومع ذلك فلو ثبت فإنه مخالف بما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي عن أنس: (أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند وسطها فقيل له: أهكذا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم عند الرجل كما قمت ويقوم عند المرأة كما قمت؟ فقال: نعم) (1) .
وهذا القول: رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة – وهو القول الراجح –، فالمستحب أن يقوم عند رأس الرجل وعند وسط المرأة.
والمستحب له أن يقوم عند وسطها مطلقاً سواء كان بدنها مغطى بنعش أو لم يكن ذلك.
ودليل ذلك: ما ورد في رواية لأبي داود الطيالسي في حديث أنس المتقدم – أنه صلى على امرأة فقام عند وسطها – في رواية لأبي داود الطيالسي: (وعليها نعش أخضر) (2) .
أما ما في أبي داود: من أن ذلك – أي صلاة عند وسطها " قبل أن تكون النعوش " فإن هذا قول من بعض الرواة، وأنس قد خالفه في فعله ونسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمستحب مطلقاً أن يقوم عند وسطها وإن كانت مغطاة بنعش لا يبدي شيئاً منها، فليس المقصود من ذلك تغطية بدنها، بل لو كان عليها نعش فإنه يستحب ذلك.
فإن كانت هناك جنائز كثيرة فإنه يساوي بين الرجال والنساء فتكون رؤوسهم سواء.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (57) أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه (3194) وهو حديث طويل، وأخرجه الترمذي في الجنائز (1034) باب أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، وابن ماجه في الجنائز حديث 1494، باب أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 535] .
(2) أخرجه أبو داود في سننه في الباب المتقدم.(8/179)
ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي عن نافع أن ابن عمر: (صلى على تسع جنائز فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة وصفهم صفاً واحداً) (1) ، وعند عبد الرزاق: (وجعل رؤوسهم واحدة) (2) . وفيه سنة أخرى وهي أن الرجال يكونون فيما يلي الإمام، والنساء فيما يلي القبلة، وإن كانوا غلماناً.
ويدل على ذلك تمام الأثر، وتمامه: (ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي ومعها غلام لها يقال له: زيد، فجعل الغلام مما يلي الإمام وفي الناس ابن عمرو وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، قال رجل: فنظرت إليهم وقلت: ما هذا؟ فقالوا: هي السنة) (3) .
قال: (ويكبر أربعاً)
لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر بهم أربعاً) (4) وسيأتي ما ورد عنه من التكبيرات الأخر.
قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة)
أي ولا يستفتح فلا يشرع له الاستفتاح، وهذا هو مذهب أكثر العلماء خلافاً للأحناف – لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن صلاة الجنازة ينبغي فيها التخفيف.
فلا يسن له أن يستفتح بل يستعيذ ويبسمل ثم يشرع بالفاتحة.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (75) اجتماع جنائز الرجال والنساء (1978) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجنائز، باب أين توضع المرأة من الرجل (6348) بلفظ: عن ابن عمر أنه كان يساوي بين رؤوسهم إذا صلى على الرجال والنساء ". المصنف [3 / 467] .
(3) أخرجه النسائي، وتقدم قريباً.
(4) تقدم أنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح البخاري حديث (1318) (1332) ، ومن حديث جابر رضي الله عنه (1334) بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً "، ومسلم (951) (952) .(8/180)
ودليل مشروعيتها ما ثبت في البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة) (1) ، وفي النسائي: (لتعلموا أنها سنة وحق) (2) وفي النسائي – أيضاً: (أنه قرأ بفاتحة الكتاب وسورة) (3) .
وينبغي – كما قال النووي – أن تكون هذه السورة خفيفة؛ لأن المقام يقتضي التخفيف من التعجل بالميت بدفنه، فإن قرأ سورة فهو حسن لثبوت ذلك عن ابن عباس ورفعه ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اكتفى بالفاتحة فكذلك.
قال: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد)
وقد ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف قال: (من السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم يكبر ثلاثاً ثم يسلم في الآخرة) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (66) قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (1335) بلفظ " ليعلموا أنها سنة ".
(2) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (77) الدعاء (1988) .
(3) نفس الباب السابق، حديث (1987) .
(4) آخر حديثين في الباب السابق (1989) (1990) ، أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى: ص154(8/181)
وفي رواية للحاكم والبيهقي – بعد أن ذكر التكبيرة الأولى - قال: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث) (1)
فدل على أن المشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بعد التكبيرة الثانية.
(كالتشهد) : لأن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد …) (2) وتقدم الحديث في صفة الصلاة.
فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كصفة صلاته في تشهده.
وإن صلى عليه على كيفية أخرى، كأن يقول اللهم صل على النبي، أجزأه ذلك.
__________
(1) سنن البيهقي [4 / 64] ، كتاب الجنائز، باب القراءة في صلاة الجنازة (6959) قال: " وأخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797) (63357) ، ومسلم (406) .(8/182)
والذي يظهر لي أن الأولى أن يقتصر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بما يتوسع له به الدعاء للميت فلا يطيل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام مقام الدعاء للميت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت في أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (1) أي لا تشوبوه بغيره، فاجعلوا الدعاء له.
قال: (ويدعو في الثالثة)
إذا كبر الثالثة دعا.
والذي يظهر لي – ما تقدم - وأنه لا يكتفي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية بل يدعو للميت، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، فقد قال أبو أمامة فيما تقدم قال: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث) .
ولذا قال النووي: " لا أعلم لتخصيص الفقهاء الدعاء في التكبيرة الثالثة دليلاً " (2) .
وظاهر حديث أبي أمامة المتقدم أنه بعد التكبيرة الثانية يكون للميت نصيب من الدعاء وبعد الثالثة كذلك، وبعد الرابعة كذلك.
قال: (فيقول …)
فيدعو بما ورد استحباباً، فإن دعا بأي دعاء من الدعاء المباح للميت فلا بأس باتفاق أهل العلم، لكن الأفضل له أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه على عليهما)
ولفظة " السنة " ولفظة " وأنت على كل شيء قدير " زادهما الموفق رحمه الله تعالى.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (60) الدعاء للميت (3199) ، وابن ماجه في الجنائز حديث (1497) ، باب الدعاء في الصلاة على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 538] .(8/183)
وأما لفظة " إنك تعلم منقلبنا ومثوانا " فلم أقف على شيء يدل عليها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها من الدعاء المباح.
لكن الذي يظهر لي: إنا وإن قلنا بأن الدعاء بما شاء مباح لكن الذي ينبغي له إذا دعا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتفي به؛ لئلا يقع في القلب أن في دعائه قصوراً، بل دعوته دعوة جامعة مانعة، فإذا دعا بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأتي به بلفظه ثم يزيد بعد ذلك ما شاء من الدعاء المباح.
والوارد عنه فيما رواه الأربعة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة " (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده) (1) .
قال: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدْخله " وهو القبر " واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار وافسح له في قبره ونوِّر له فيه)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الباب المتقدم (3201) ، والترمذي في الجنائز حديث 1024، باب ما يقول في الصلاة على الميت،، والنسائي في الجنائز حديث 1988 باب الدعاء، وقال الترمذي: " حديث أبي إبراهيم حديث حسن صحيح ".سنن أبي داود [3 / 539] .(8/184)
الوارد من ذلك ما ثبت في مسلم من حديث عوف بن مالك قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسّع مدْخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً من زوجه) ولا يقال مثل هذا اللفظ للأنثى (اللهم أدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار) (1) .
وأما ما ذكره المؤلف سوى الوارد فهو من الدعاء المباح كما تقدم.
قال: (وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرَطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثَقِّل به موازينهما وأعظم به أجورها وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (26) الدعاء للميت في الصلاة (963) بلفظ: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج البرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار – قال: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت "، وفي رواية عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار " قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت ".(8/185)
هذا من الدعاء المباح، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السقط: (ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) (1) يعني في الصلاة عليه يشتغل بالدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة.
وثبت عن أبي هريرة – بإسناد حسن – أنه صلى على طفل فقال: (اللهم اجعله سلفاً وفرطاً وأجراً) (2) .
فالمقصود: أنه يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة ويدعو للطفل بنحو ما تقدم من كونه بكفالة إبراهيم ونحو ذلك من الدعاء المباح المناسب للمقام فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الدعاء للميت فقال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (3)
قال: (ويقف بعد الرابعة قليلاً ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه)
وتقدم – وقال المجد ابن تيمية بجواز ذلك – تقدم أن المستحب له بعد التكبيرة الرابعة أن يدعو للميت كما في حديث أبي أمامة: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث) (4) فالتكبيرات الثلاث كلها دعاء للميت، فإذا كبر الرابعة دعا قليلاً للميت ثم سلم.
(ثم يسلم واحدة عن يمينه) :
- هذا هو المستحب وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المستحب أن يسلم واحدة عن يمينه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه) (1507) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] . وقد تقدم صْ 127.
(3) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم قريباً.
(4) تقدم.(8/186)
ودليل ذلك: ما رواه الدارقطني بإسناد حسن ورواه الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة) (1) .
وهو مذهب أكثر الصحابة بل لا يعلم – لمن سيأتي ذكرهم – مخالف من الصحابة، قال الحاكم: " وبه صحت الرواية عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة، وأنهم كلهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة " (2) ووافقه الذهبي.
وروى غالب هذه الآثار مسندة البيهقي في سننه (3) – وهو آثار لا يعلم لها مخالف صريح من الصحابة.
- وقال الشافعية: يستحب أن يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره.
واستدلوا بما روى البيهقي في سننه بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: (ثلاث خلال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس: إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة) (4) وهذا الأثر محتمل، فيحتمل أن يكون مراده أنه يجهر بالسلام فيجهر بالتسليم كما يجهر بالتسليم في الصلاة.
ويحتمل أن يكون المراد أصل السلام أي أنه كان يسلم وأن الناس قد تركوا السلام في صلاة الجنازة.
أو أن المراد: أنه كان يقول: السلام عليكم ورحمة الله.
ويحتمل أن يكون يسلم عن يمينه وشماله.
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه في أول باب التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة من كتاب الجنائز (1793) . والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم، سنن الدارقطني [2 / 220] .
(3) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 70] .
(4) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 71] كتاب الجنائز، باب (123) من قال يسلم عن يمينه وعن شماله (6989) .(8/187)
وظاهر هذا اللفظ دخول هذه الاحتمالات كلها فيكون قد جهر بسلامه، وقد سلم بالألفاظ الواردة في الصلاة، وأن يكون ذلك عن يمينه وعن شماله، لكن هذه أضعفها؛ لأنها مخالفة لما ورد في الحديث المتقدم وهو حديث الدارقطني، ولكونها مخالفة لما ورد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحاً.
ومع ذلك فيحسن القول بجواز هذه الصورة وأنه إن سلم تسليمتين عن يمينه وشماله فلا بأس، وإن كان الأولى له أن يسلم واحد [اً] عن يمينه.
وهل يستحب له أن يجهر بالتسليم أم يخافت؟
أثر ابن مسعود المتقدم يدل على أن المستحب له أن يجهر فإنه قال: " مثل التسليم في الصلاة " والتسليم في الصلاة يجهر به، وهو ثابت عن ابن عمر – في البيهقي – بإسناد صحيح: (أنه كان إذا سلم على الجنازة يسمع سلامه من يليه) (1) .
وقد ورد في الحاكم في حديث أبي أمامة المتقدم قال: (ويسلم سراً) ، وهو ثابت عن ابن عباس بإسناد حسن: (أنه كان إذا سلم على الجنازة سلم خُفية) (2) .
فهذه الآثار تدل على أنه لا بأس بالجهر ولا بأس بالمخافتة، فيلتفت عن يمينه ويسر بالسلام، فسواء جهر أو أسر فلا بأس بذلك.
ولا يستحب له أن يجهر بفاتحة الكتاب، وفي أثر أبي أمامة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب مخافتة) (3) فلا يستحب الجهر بها إلا للتعليم.
قال: (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)
حكم رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز؟
أجمع أهل العلم على استحباب رفع اليدين في التكبيرة الأولى، كما حكاه ابن المنذر وغيره.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (125) من قال يسلم حتى يسمع من يليه (6992) .
(2) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (124) من قال يسلم تسليما خفيا (6990) .
(3) تقدم.(8/188)
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في ذلك لكنه لا يثبت، فلا يصح عنه حديث في هذا الباب لكن الإجماع ثابت.
وأما في سائر التكبيرات سوى التكبيرة الأولى:
فمذهب الجمهور: استحباب ذلك.
ومذهب الأحناف: عدم استحبابه، واستدلوا بعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما دليل الجمهور فقالوا: هذا تكبير عن قيام، والتكبير عن القيام في الصلاة يستحب أن ترفع فيه الأيدي، كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الكلام على صفة صلاة العيد.
وقد ورد هذا صريحاً عن ابن عمر، فقد ثبت عنه فيما رواه البيهقي بإسناد صحيح: (أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنائز كلها) (1) ، فهذا فعل صاحب لا يعلم له مخالف، وظاهر السنة يوافقه كما تقدم في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها عند ذكر تكبيرات العيد الزوائد.
إذن يستحب له أن يرفع يديه مع كل تكبيرة.
فعلى ذلك صفة صلاة الجنازة – في المشهور في المذهب –: يكبر رافعاً يديه، ويقرأ فاتحة الكتاب سراً ثم يكبر ثانية رافعاً يديه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ثالثة رافعاً يديه ثم يدعو للميت بما تقدم سواء كان بدعاء من عنده من الدعاء المباح أو كان ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع يديه مكبراً الرابعة ولا يدعو ولا يسبح ولا يستغفر بل يسكت ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 73] كتاب الجنائز، باب (126) يرفع يديه في كل تكبيرة (6993) .(8/189)
وأما صفتها على الطريقة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكبر رافعاً يديه ويقرأ بفاتحة الكتاب وإن شاء سورة قصيرة وتقرأ مخافتة، ثم يكبر الثانية والثالثة والرابعة في كل ذلك يرفع يديه ويشتغل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه التكبيرات الثلاث، والأولى أن تكون بعد التكبيرة الثانية ويخلص الدعاء للميت، وإذا كبر للرابعة دعا للميت ثم سلم عن يمينه، وإن سلم عن يمينه ويساره فذلك حسن أيضاً، والله أعلم.
مسألة:
الأولى بأن يصلي على الميت وصيه إن كان عدلاً صالحاً للإمامة قال الإمام أحمد: " وأوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وأوصى عمر أن يصلى عليه صهيب، وأوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأوصى أبو بكرة أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي " (1) رضي الله عنهم أجمعين، وذكر بعض أهل العلم غير ذلك وهذه قضايا اشتهرت وانتشرت ولم يعلم لها مخالف، ومع ذلك فهي الأحب إلى الميت.
ثم ثانياً: إمام الناس، فإمام المسجد هو أولى الناس بعده؛ لعموم حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) (2) وهذا عام في صلاة الجنازة وغيرها، وقال عمرو بن سلمة – وتقدم حديثه، وفي أبي داود: (وكنت أؤمهم في الجنائز) (3) .
وقال الحسن: " أدركت الناس وأخصهم بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم " (4) ، وفي الحاكم بإسناد حسن: " أن الحسين قدَّم سعيد بن العاص -وكان أمير المدينة – للصلاة على الحسن بن علي وقال: (قدمتك ولولا أنها سنة ما قدمتك) " (5) .
ثم أولياء الميت على حسب ترتيبهم المتقدم في غُسله.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس التاسع والأربعون بعد المئة
__________
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة (673) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (61) من أحق بالإمامة (587) .
(4) ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (57) سنة الصلاة على الجنائز.(8/190)
(يوم السبت: 22 / 7 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها قيام)
هنا يذكر المؤلف رحمه الله تعالى واجبات صلاة الجنازة وأركانها فقال: " قيام "
فالقيام ركن فيها كما هو ركن في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) (1) وقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، فالواجب أن يصليها قائماً؛ لأنها فريضة، فهي من فروض الكفاية والواجب في الصلاة التي يصليها فريضة أن يصليها قائماً.
لكن إن كانت نافلة فإن له أن يصليها قاعداً، والسنة أن يصليها قائماً، فلو تكررت الصلاة على الجنازة فصلى عليها مراراً فالصلاة الأولى فرض والصلوات الأخر نافلة فيجوز له في الصلوات الأخر أن يصلي قاعداً مع أن السنة القيام.
فإذن: يجب القيام مع كونها فرضاً – أي فرض كفاية – وذلك إنما يكون في الصلاة الأولى، أما إذا تكررت فصلى أحد من المصلين قعوداً فلا بأس بذلك.
قال: (والتكبيرات)
أي يجب أن يصلي بأربع تكبيرات؛ لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد كبر أربع تكبيرات فأكثر، ولم يصح عنه أن كبر على الجنائز ثلاثاً.
وروى ابن حزم في كتابه بسنده وقال: - هو سند صحيح – وهو كما قال: (أن ابن عباس كبر على الجنائز ثلاثاً) (2) ، والسنة أن يكبر أربعاً ولا يشرع له أن يكبر ثلاثاً لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب (19) إذا لم يطق قاعدا صلى علىجنب (1117) .
(2) المحلى لابن حزم [5 / 127] .(8/191)
قالوا: وإذا كبر أربعاً أجزأه ذلك، أما إذا كبر ثلاثاً فإن كان عمداً بطلت صلاته وإن كان سهواً كبر رابعة كما صح ذلك عن أنس في البخاري (1) .
إذن: الواجب أن يكبر أربعاً ولا يجزئه أقل من ذلك.
ولكن هل يشرع أن يكبر أكثر من أربع؟
1- المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يشرع ذلك.
وهل يتابعه المأموم إن كبر أم لا؟
المشهور في المذهب أنه إن كبر خامسة تابعه، وإن كبر أكثر من خمس لم يتابعه.
وعن الإمام أحمد: أنه يتابعه إلى سبع، وهو اختيار طائفة من أصحابه، وهذا القول أرجح.
ودليل ذلك: أن الراجح خلاف ما ذهب إليه الحنابلة، فالراجح هو أن التكبير فوق الأربع مشروع؛ لما ثبت في مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا فيكبر أربعاً فصلى على جنازة فكبر خمساً فسئل عن ذلك فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها) (2)
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (65) التكبير على الجنازة أربعاً بلفظ: " وقال حميد: صلى بنا أنس رضي الله عنه فكبر ثلاثا، ثم سلم،فقيل له: فاستقبل القبلة، ثم كبر الرابعة ثم سلم ".
(2) أخرجه مسلم في آخر باب (23) الصلاة على القبر (957) من كتاب الجنائز.(8/192)
وثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح: (أن علي بن أبي طالب صلى على سهل بن أبي حنيف فكبر ستاً وقال: إنه بدري) (1) ، وثبت عند الطحاوي بإسناد صحيح – أنه أي علي -: (صلى على أبي قتادة فكبر سبعاً وكان بدرياً) (2) .
وكان من طريقته – أي علي – ما ثبت في الطحاوي بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعلى سائر الناس أربعاً) (3) .
فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً وخمساً، وأن علياً كبر ستاً وسبعاً ولم يثبت له مخالف من الصحابة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أكثر من سبع.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 59] كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها (6942) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل: أن عليا رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا، ثم التفت إلينا، فقال: إنه من أهل بدر ". ولم أجده في الدارقطني بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الجنائز، باب (4) التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة (1799) قال: " حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، حدثنا حفص، عن عبد الملك بن سَلْع، عن عبْدِ خَيْر، عن علي: أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب محمد خمسا، وعلى سائر الناس أربعاً ".
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع.. (6943) .
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 60] (6944) .(8/193)
إلا ما روى الطحاوي بإسناد حسن: (أن عبد الله بن الزبير قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فكبر عليه تسعاً) (1) لكن الحديث تقدم أنه منكر – كما أنكره الشافعي وابن القيم وغيرهما فالحديث منكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على حمزة بل دفنه كسائر الشهداء كما في المتفق عليه.
وهناك أثر ثابت عن ابن مسعود رواه ابن حزم بإسناد صحيح أنه قال: (كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد) (2) لما ذكر له أن أهل الشام من أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمساً.
والذي يقتضيه هذا الأثر أنه لو زاد على السبع فإنه لا بأس بذلك ونحن ليس عندنا في الزيادة على الخمس إلا أثر علي وهذا أثر عن ابن مسعود فيه أن التكبير للجنائز ليس له وقت ولا عدد فلو كبر تسعاً أو عشراً فلا بأس لكن المستحب له أن يكبر أربعاً أو خمساً وإن زاد على ذلك فلا يتجاوز السبع فإن ذلك هو صريح فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخمس، وفعل أصحابه كعلي إلى السبع، لكن إن زاد على ذلك فلا حرج لقول ابن مسعود: (لا وقت ولا عدد) والله أعلم.
فعلى ذلك: السنة أن يكبر على الجنازة أربعاً، ويستحب له أحياناً أن يكبر خمساً فإن زاد ستاً أو سبعاً فلا بأس به.
قال: (والفاتحة)
الفاتحة ركن في صلاة الجنازة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (3) وصلاة الجنازة صلاة فهذا دليل ركنيتها.
وقد ثبت في البخاري ما تقدم عن ابن عباس أنه كان: يقرأ بفاتحة الكتاب ويقول: (ليعلموا أنها سنة) (4) وتقدم غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ الفاتحة.
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)
__________
(2) المحلى لابن حزم [5 / 126] ، وأخرجه البيهقي بمعناه في سننه [4 / 60] كتاب الجنائز، باب (115) من ذهب في ذلك مذهب التخيير.. (6945) .
(3) متفق عليه، وقد تقدم.
(4) رواه البخاري وقد تقدم.(8/194)
تقدم ثبوتها في صلاة الجنازة، وهنا قال: هي واجب فيها، ولم أر دليلاً صريحاً يدل على إيجابها.
والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فعل، والفعل لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
ولذا قال المجد بن تيمية – في هذه المسألة كقول أهل العلم في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " فإذا قلنا بوجوبها في الصلاة قلنا بوجوبها في الصلاة على الجنازة، وإن قلنا باستحبابها قلنا باستحبابها في الصلاة على الجنازة " (1) .
وقد تقدم ترجيح قول جمهور العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأنها ليست بواجبة فكذلك هنا، فهي ليست بواجبة بل سنة، وليس فيه إلا مجرد الفعل، والفعل لا يدل على الوجوب وهو مذهب طائفة من فقهاء الحنابلة.
فالراجح: أنه لا يجب عليه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بل يستحب.
قال: (ودعوة للميت)
لا شك أنها ركن فهي مقصد الصلاة على الميت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (2) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلص الصلاة – أي الدعاء – على الجنائز في التكبيرات الثلاث كلها.
فالدعاء للميت فرض في الصلاة على الجنازة بل هو المقصود منها، وإنما شرعت الصلاة للدعاء للميت.
قال: (والسلام)
__________
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم.(8/195)
والسلام كما هو ركن في الصلاة فهو ركن في صلاة الجنازة فإنها من باب الصلاة، وفي الحديث: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (1) وصلاة الجنازة صلاة.
قال: (ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته) .
فإذا سلم الإمام كبر ما فاته وقضاه.
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (2)
وهل هذا على وجه الإيجاب أو الاستحباب؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك على وجه الاستحباب، فلو فاته شيء فسلم مع الإمام فلا بأس ويجزئه ذلك.
واستدلوا: بما رواه ابن أبي شيبة أن ابن عمر: (وكان لا يقضي ما فاته من التكبير) (3) فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، فالحديث ضعيف.
والمشهور عند جمهور الفقهاء أنه يجب ذلك، ولا يجزئه إلا أن يكبرها؛ للحديث المتقدم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) .
والصحيح مذهب الجمهور وأنه يجب عليه أن يقضي التكبيرات الفوائت لعموم الحديث.
فإذن يشرع أن يأتي بما فاته اتفاقاً، لكن هل يجب ذلك؟
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (21) لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار (636) . ومسلم (602) .(8/196)
قولان والصحيح الوجوب.
قال: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على قبره)
ففيه مشروعية الصلاة على القبر، ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (فقيل: ماتت فقال: أفلا كنتم آذنتموني فكأنهم صغروا أمرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها) (1) .
وهنا قال المؤلف: (إلى شهر) .
وهذا عند الحنابلة ليس للتحديد وإنما للتقريب يعني شهر وما يقاربه.
فإذا دفن الميت فمر على دفنه شهر ونحوه فإنه لا يصلى عليه.
واستدلوا: بما رواه الترمذي من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما توفيت أم سعد بن عبادة وهو غائب صلى عليها وكان ذلك لشهر) (2)
قالوا: فهذا يدل على أن أمد ذلك ومنتهاه إلى الشهر وما قاربه.
وقال ابن عقيل من الحنابلة: بل يصلي عليه أبداً، وهو اختيار ابن القيم حيث قال: " ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً " (3) .
والأثر المتقدم الذي رواه سعيد بن المسيب ليس فيه أنه لو كان ذلك بعد شهرين أو ستة لا يصلى عليها، بل فيه جواز الصلاة عليها لشهر وليس مانعاً أن نصلي عليها بعد شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (72) كنس المسجد.. (458) بلفظ " عن أبي هريرة: أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء كان يقم المسجد … " ورقم (1337) ، ومسلم (956) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (47) ما جاء في الصلاة على القبر (1038) .(8/197)
ويشهد له ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على أهل أحد صلاته على الميت كالمودع للأحياء الأموات) (1) – كما رواه البخاري – على ظاهره في أن المقصود الصلاة على الميت كالصلاة على الجنازة وكان ذلك بعد ثماني سنوات ولا مانع من ذلك فإن المقصود من الصلاة هو الدعاء للميت، فسواء كان ذلك بعد شهر أو سنة أوسنتين أو أكثر من ذلك.
لكن بشرط:
1 - أن يكون ممن هو أهل للصلاة أثناء موته.
2- وأن يكون غير مفرط في ترك الصلاة عليه.
فمثلاً: رجل قدم من سفر فعلم بموت فلان ولم يكن مفرطاً لأنه كان مسافراً فله أن يصلي على قبره.
وكونه أهل للصلاة: بأن يكون مكلفاً، أو مميزاً تصح الصلاة منه.
وإلا فإنه لم يرد عن التابعين أو أتباعهم أنهم صلوا على أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فيدل ذلك على أنه ليس مطلقاً بل هو حيث كان أهلاً للصلاة ولم يقع منه تفريط كما تقدم.
قال: (وعلى غائب بالنية إلى شهر)
والمراد بالغائب أن يكون في بلد أخرى، وليس المراد من كان في طرف البلد مما يتمكن أن يصلى عليه صلاة الغائب (2) .
فيشرع صلاة الغائب مطلقاً سواء صلي عليه في بلده أم لم يصل عليه كما هو المشهور في المذهب.
واستدلوا بحديث أبي هريرة المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعاً) (3) .
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الخطابي وابن عبد القوي من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يشرع ذلك إلا إذا لم يصل عليه في بلده.
فإذا لم يصل عليه في بلده شرع أن يصلى عليه في غير بلده ممن بلغه خبره من المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1344) ، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته (2296) .
(2) كذا في الأصل.
(3) متفق عليه، وقد تقدم.(8/198)
وهذا القول هو الراجح، وذلك أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل غائب، فقد مات أناس كثير من أصحابه خارج المدينة فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أحد منهم.
والنجاشي لم يكن يظهر إسلامه، ولم يكن في بلده من يمكنه أن يصلي عليه فمات فلم يصل عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
* وهل تشرع الصلاة على من مات ولم تبق جثته كأن يموت غريقاً في بحر لا يمكن أن يحضر جثته أو أن يموت مفترساً مأكولاً أو محترقاً لا يبقى منه شيء، فهل يشرع أن يصلى عليه كما يصلى على الغائب؟
المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يصلى عليه.
وقال طائفة من الحنابلة: بل يصلى عليه.
وهذا القول هو الراجح؛ قياساً على الصلاة على الغائب فإن هذا الميت الغائب صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه لم يصل عليه، وهذا كذلك فإنه لا يمكن أن تحضر جثته فيصلى عليه فهو في حكم الغائب فكان المشروع أن يصلى عليه.
قال: (ولا يصلي الإمام على الغال)
من غَلَّ شيئاً من الغنيمة فأخذها، فإنه لا يصلي عليه الإمام زجراً للناس عن هذه المعصية.(8/199)
واستدلوا بما روى النسائي عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني قال: (توفي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم قال: فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد غل في سبيل الله، قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين) (1) .
والأثر فيه أبو عمرة تابعي مجهول، وهو الراوي عن زيد بن خالد، لكن الحديث احتج به الإمام أحمد وغيره.
والنظر يقتضي أنه ليس بمنكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته ترك الصلاة على بعض العصاة الذين في ترك الصلاة عليهم زجراً لغيرهم عن فعل هذه المعصية كما سيأتي.
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين – كما تقدم في المتفق عليه – وقال: (صلوا على صاحبكم) (2) وذلك قبل أن تفتح الفتوح ويكثر المال في بيت المال، فلما كثر ذلك في عهده صلى على المدينين وقضى عنهم ديونهم.
قال: (ولا على قاتل نفسه) .
وثبت في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص " وهو نصل السهم " فلم يصل عليه) (3) .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على من غل (1959) قال: " أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عَمْرَة عن زيد بن خالد قال: مات رجل بخيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا على صاحبكم إنه غل في سبيل الله) ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خَرزاً من خرَز يهود ما يساوي درهمين ".
(2) تقدم.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (37) ترك الصلاة على القاتل نفسه (978) .(8/200)
وفي النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا أصلي عليه) (1) فلم يمنعهم من الصلاة عليه فإن قاتل نفسه مسلم وليس بكافر، فيصلي عليه طائفة من المسلمين، أما الأئمة في الدين ومن يقتدى بهم من أهل العلم والتقوى فإنهم يتركون الصلاة عليه زجراً له.
ومثل ذلك سائر المعاصي الظاهرة التي يحتاج إلى زجر الناس عنها بترك الصلاة عليهم أمواتاً، فليس مختصاً بقاتل النفس والغال، بل إذا ظهرت معصية وحدث فيها فساد عظيم فرجى أهل التقوى وأهل العلم أنهم إذا تركوا الصلاة عليهم أن يكون زجراً لغيرهم عن المعصية فإن ذلك يفعل كما كان من سنته.
ومن ذلك ترك الصلاة على المبتدعة كما هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب السلف الصالح وذلك لزجر الناس عن فعلهم.
لكن كما قال شيخ الإسلام: من صلى عليهم وهو يرجو لهم الرحمة وليس في امتناعه عن الصلاة عليهم مصلحة فذلك حسن.
قال: (ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد)
والسنة أن يصلي عليه في موضع خاص بالجنائز، كما ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد) (2) .
وتقدم حديث أبي هريرة في نعي النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي وفيه: (فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم) (3) .
فالمستحب أن يصلي عليها في مصلى خاص بالجنائز.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (68) ترك الصلاة على من قتل نفسه (1964) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (61) الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1329) ، و (4556) (7332) .
(3) متفق عليه، وقد تقدم.(8/201)
لكن إن صلى عليها في المسجد مع أمن تلويث المسجد بها فلا بأس بذلك، ودليله: لما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد) (1) .
أما ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على الميت في المسجد فلا شيء له) (2) ، فالحديث من حديث صالح مولى التوأمة ويروى عنه عبد الله بن أبي ذئب.
وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث بتفرد صالح مولى التوأمه وصالح هذا مختلط الحديث، لكن عبد الله بن أبي ذئب قد روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حسن جيد، كما حسنه ابن القيم.
لكن الحديث – حينئذ – يكون منكراً؛ لأنه يكون مخالفاً لما ثبت في مسلم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء.
ومثل صالح لا يخالف حديثه ما ثبت في مسلم وغيره.
لكن ذهب بعض العلماء إلى أن الصحيح فيه – كما قرر ذلك ابن عبد البر وابن القيم، الصحيح فيه -: (فلا شيء عليه) (3) كما ثبت ذلك في نسخة صحيحة لسنن أبي داود.
فعلى أن هذا اللفظ هو الصحيح لا نحتاج إلى تضعيف الحديث بتفرد صالح.
وأما إذا قلنا إنه على لفظه، فإن هذا لا يقبل منه مع مخالفته لما ثبت في مسلم.
* في مسألة الصلاة على القبر:
قال بعض أهل العلم: هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (34) الصلاة على الجنازة في المسجد (973) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب (54) الصلاة على الجنازة في المسجد (3191) بلفظ (من صلى على جنازة في المسدد فلا شيء عليه) ، قال في الحاشية: " وأخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث 1517 باب الصلاة على الجنائز في المسجد ولفظه: (فليس له شيء) .
(3) كما في النسخة التي بين يدي [3 / 531] .(8/202)
واستدلوا: بما ثبت في مسلم في حديث المرأة التي كانت تقم المسجد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) (1) .
قالوا: فهذا يدل على أن الصلاة على القبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحديث قد أعله بعض أهل العلم المتقدمين، ولكن الصحيح أن سنده صحيح وليس بمعل.
والجواب عنه أن يقال: إن هذا التخصيص إنما هو في الأثر لا في الفعل، فأثر صلاته في الأموات سواء كانوا في قبورهم أو قبل ذلك – أن تكون صلاته عليهم رحمة لهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في النسائي – لما صلى على جنازة رجل: (إن صلاتي عليه رحمة) (2) وقد صلى عليه قبل أن يدفن.
فمن خاصية صلاته على الأموات قبل دفنهم أو وهم في قبورهم – أن يكون ذلك رحمة لهم وإنارة لهم في قبورهم.
وأما أن يكون الحكم – وهو الفعل – خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، كما أنه خلاف الأصل.
فالحديث ليس فيه إلا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مختصة بأن تكون نوراً لأهل القبور، وليس فيه أن هذا الفعل خاص بالنبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
حكم الصلاة على الجنازة بين القبور – (انظر الكلام على هذه المسألة في الدرس الحادي والخمسين بعد المائة الذي سيأتي) -:
لا يجوز ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لما روى الضياء في المختارة والطبراني في الأوسط أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور) (3) وإسناده حسن.
والمشهور في المذهب: جواز ذلك وتخصيص النهي بالصلوات ذوات الركوع والسجود.
لكن الصحيح النهي مطلقاً؛ للحديث الصحيح المتقدم وأحاديث الضياء أصح من أحاديث الحاكم – كما ذكر شيخ الإسلام – وقد اشترط فيها الصحة.
مسألة:
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (23) الصلاة على القبر (956) .(8/203)
الأظهر أنه بعد التكبيرات فوق الأربع يشتغل بالدعاء؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بين هذه التكبيرات الأربع الثابتة عنه، والمقصود من الصلاة هو الدعاء للميت بل كان يدعو حتى بعد التكبيرة الرابعة، فالذي ينبغي أن يدعو بين هذه التكبيرات.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخمسون بعد المئة
(يوم الأحد: 23 / 7 / 1415هـ)
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يسن التربيع في حمله)
التربيع في حمل الجنازة: أن يأتي المتبع للجنازة فيحملها من مقدمة الجنازة من جانبها الأيسر واضعاً له على عاتقه الأيمن ثم ينتقل منه إلى جهته اليسرى المؤخرة فيضعها على عاتقه الأيمن ثم ينتقل إلى الجهة اليمنى من الجنازة فيضع مقدمتها الأيمن على عاتقه الأيسر ثم مؤخرها على عاتقه الأيسر – فهكذا يكون التربيع.
وذلك بالنظر إلى الميت فإنه وإن كان الأيسر بالنسبة إلى السرير المحمول إليه الميت فإنه هو الأيمن بالنسبة إلى الميت فبدأ بالجهة اليمنى من الميت.
ودليل ذلك: ما روى أحمد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن مسعود عن ابن مسعود قال: (من اتبع الجنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإن ذلك السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع) (1) ، وأبو عبيده لم يسمع من أبيه فعلى ذلك الإسناد فيه انقطاع.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (15) ما جاء في شهود الجنائز (1478) . قال البوصيري: " هذا إسناد موقوف، رجاله ثقات، حكمه الرفع، إلا أنه منقطع، فإن أبا عبيدة، واسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته، لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله أبو حاتم وأبو زرعة وعمرو بن مرة وغيرهم، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن منصور بإسناده ومتنه ".(8/204)
لكن يشهد له ما ثبت عن أبي الدرداء في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من تمام أجر الجنازة أن يتبعها من أهلها وأن يحمل بأركانها الأربعة وأن يحثو في القبر) (1) ، وهذا له حكم الرفع فإنه متعلق بالأجر فكان هذا القول من هذا الصحابي له حكم الرفع.
وثبت عن ابن عمر – كما في مصنف ابن أبي شيبة: (أنه حمل جنازة في أركانها الأربعة فبدأ بالميامن) .
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس أن يتحول من جهة الجنازة اليسرى المؤخرة إلى جهتها اليمنى المؤخرة ثم ينتقل إلى اليمنى المقدمة فيبدأ برأسه وينتهي برأسه؛ لأن ذلك أسهل.
وهذا أولى لما فيه من اليسر ولأنه أبعد عن اختلاط الناس بعضهم ببعض.
فهذا أولى ويحصل به ما حصل من السنة من البداءة باليمنى – كما يحصل في الأول.
هكذا يكون التربيع وهو الأفضل عند الحنابلة.
- واستحب الشافعية أن يحمله بين العمودين. وقال المؤلف هنا:
(ويباح بين العمودين)
أي أن يضع رأسه بين العمودين ويجعل الجنازة على كاهله وقد صح ذلك عن سعد بن أبي وقاص، فقد ثبت في سنن البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (رأيت سعد بن أبي وقاص مع جنازة عبد الرحمن بن عوف قائماً بين العمودين واضعاً الجنازة على كاهله) (2) .
وذكر ابن المنذر ذلك عن عثمان وسعد بن مالك " وهو سعد بن أبي وقاص " وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير.
- وعن الإمام أحمد: أنهما سواء.
والذي يظهر أن الأفضل أن يحمل بجوانبها كلها وهو التربيع؛ وذلك لأن ما تقدم أقوى؛ لأن فيه ما تقدم في الحديث الثابت عن ابن مسعود وفيه أن ذلك من السنة، ويشهد له الأثر الوارد عن أبي الدرداء وله حكم الرفع، ففي ذلك رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثر موقوف عن سعد فكان الأول أولى.
__________
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (90) من حمل الجنازة فوضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين (6835) .(8/205)