|
المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ)
الناشر: مكتبة القاهرة
الطبعة: بدون طبعة
عدد الأجزاء: 10
تاريخ النشر: 1388هـ - 1968م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَعَلَ الْقُطْبَ حَذْوَ ظَهْرِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى عَلَى عُلُوِّهَا، فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا بَابَ الْكَعْبَةِ إلَى الْمَقَامِ، وَمَتَى اسْتَدْبَرَ الْفَرْقَدَيْنِ أَوْ الْجَدْيَ، فِي حَالِ عُلُوِّ أَحَدِهِمَا وَنُزُولِ الْآخَرِ، عَلَى الِاعْتِدَالِ، كَانَ ذَلِكَ كَاسْتِدْبَارِ الْقُطْبِ.
وَإِنْ اسْتَدْبَرَهُ، فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ، فَإِذَا اسْتَدْبَرَ الشَّرْقِيَّ مِنْهَا، كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الْغَرْبِ قَلِيلًا، وَإِذَا اسْتَدْبَرَ الْغَرْبِيَّ كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الشَّرْقِ، وَإِنْ اسْتَدْبَرَ بَنَاتَ نَعْشٍ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُ أَكْثَرُ
فَصْلٌ: وَمَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا، وَهِيَ: السَّرَطَانُ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالزُّبَانَى، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ؛ وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَامِيَّةٌ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ أَوْ مَائِلَةً عَنْهُ إلَى الشَّمَالِ قَلِيلًا، أَوَّلُهَا السَّرَطَانُ، وَآخِرُهَا السِّمَاكُ. وَمِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَمَانِيَّةٌ، تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ مَا يَلِيهِ إلَى التَّيَامُنِ، أَوَّلُهَا الْغَفْرُ؛ وَآخِرُهَا بَطْنُ الْحُوتِ.
وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ الشَّامِيَّةِ رَقِيبٌ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ، إذَا طَلَعَ أَحَدُهُمَا غَابَ رَقِيبُهُ، وَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِمَنْزِلَةٍ مِنْهَا قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يَلِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] .
وَالشَّمْسُ تَنْزِلُ بِكُلِّ مَنْزِلٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَيَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَتْ بِهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلٍ كَامِلٍ مِنْ أَحْوَالِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ يَكُونُ مِنْهَا فِيمَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَنْزِلًا، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ مِنْهَا مَنْزِلَانِ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَنْزِلٌ، وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ اثْنَا عَشَرَ مَنْزِلًا، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، إلَّا أَنَّ أَوَائِلَ الشَّامِيَّةِ وَآخِرَ الْيَمَانِيَّةِ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ، بِحَيْثُ إذَا طَلَعَ جَعَلَ الطَّالِعَ مِنْهَا مُحَاذِيًا لِكَتِفِهِ الْأَيْسَرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ آخِرُ الشَّامِيَّةِ.
وَأَوَّلُ الْيَمَانِيَّةِ يَكُونُ مُقَارِبًا لِذَلِكَ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الشَّامِيَّةِ، وَهُوَ الذِّرَاعُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَانِبَيْهِ، يَمِيلُ مَطْلَعُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ - نَحْوُ الْعَقْرَبِ، وَالنَّعَائِمِ، وَالْبَلْدَةِ، وَالسُّعُودِ - تَمِيلُ مَطَالِعُهَا إلَى الْيَمِينِ، فَالْيَمَانِيُّ مِنْهَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَمَامِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَالشَّامِيُّ يَجْعَلُهُ خَلْفَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ قَرِيبًا مِنْهَا، وَالْغَارِبُ مِنْهَا يَجْعَلُهُ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ.
وَإِنْ عَرَفَ الْمُتَوَسِّطَ مِنْهَا بِأَنْ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُفُقِ السَّمَاءِ سَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا وَسَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا، اسْتَقْبَلَهُ، وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ نُجُومٌ تُقَارِبُهُ، وَتَسِيرُ بِسَيْرِهِ، مِنْ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، يَكْثُرُ عَدَدُهَا، حُكْمُهَا حُكْمُهُ،
(1/320)
وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، كَالنَّسْرَيْنِ والشعريين، وَالنَّظْمِ الْمُقَارِنِ لِلْهَقْعَةِ، وَالسِّمَاكِ الرَّامِحِ، وَالْفَكَّةِ، وَغَيْرِهَا، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَسُهَيْلٌ نَجْمٌ كَبِيرٌ مُضِيءٌ يَطْلُعُ مِنْ نَحْوِ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَسِيرُ حَتَّى يَصِيرَ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ يَتَجَاوَزُهَا، ثُمَّ يَغْرُبُ قَرِيبًا مِنْ مَهَبِّ الدَّبُورِ، وَالنَّاقَةُ أَنْجُمٌ عَلَى صُورَةِ النَّاقَةِ، تَطْلُعُ فِي الْمَجَرَّةِ مِنْ مَهَبِّ الصَّبَا، ثُمَّ تَغِيبُ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ.
(617) فَصْلٌ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَنَازِلِهَا، وَتَكُونُ فِي الشِّتَاءِ فِي حَالِ تَوَسُّطِهَا فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، وَفِي الصَّيْفِ مُحَاذِيَةً لِقِبْلَتِهِ.
(618) فَصْلٌ: وَالْقَمَرُ يَبْدُو أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ هِلَالًا فِي الْمَغْرِبِ، عَنْ يَمِينِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مَنْزِلًا، حَتَّى يَكُونَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، أَوْ مَائِلًا عَنْهَا قَلِيلًا، ثُمَّ يَطْلُعُ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بَدْرًا تَامًّا، وَلَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ يَكُونُ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقْتَ الْفَجْرِ، وَلَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ يَبْدُو عِنْدَ الْفَجْرِ كَالْهِلَالِ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهُ بِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِ.
(619) فَصْلٌ: وَالرِّيَاحُ كَثِيرَةٌ يُسْتَدَلُّ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ، تَهُبُّ مِنْ زَوَايَا السَّمَاءِ؛ الْجَنُوبُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْرِقِ، مُسْتَقْبِلَةً بَطْنَ كَتِفِ الْمُصَلِّي الْأَيْسَرِ، مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ إلَى يَمِينِهِ، وَالشَّمَالُ مُقَابِلَتُهَا، تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالشَّمَالِ؛ مَارَّةً إلَى مَهَبِّ الْجَنُوبِ.
وَالدَّبُورُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ، مُسْتَقْبِلَةً شَطْرَ وَجْهِ الْمُصَلِّي الْأَيْمَنَ، مَارَّةً إلَى الزَّاوِيَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا. وَالصَّبَا مُقَابِلَتُهَا، تَهُبُّ مِنْ ظَهْرِ الْمُصَلِّي. وَرُبَّمَا هَبَّتْ الرِّيَاحُ بَيْنَ الْحِيطَانِ وَالْجِبَالِ فَتَدُورُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا.
وَبَيْنَ كُلِّ رِيحَيْنِ رِيحٌ تُسَمَّى النَّكْبَاءَ، لِتَنَكُّبِهَا طَرِيقَ الرِّيَاحِ الْمَعْرُوفَةِ، وَتُعْرَفُ الرِّيَاحُ بِصِفَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا، فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ.
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْمِيَاهِ، وَقَالُوا: الْأَنْهَارُ الْكِبَارُ كُلُّهَا تَجْرِي عَنْ يَمْنَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَسْرَتِهِ، عَلَى انْحِرَافٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنَّهْرَوَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ إلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا بِالسَّوَاقِي وَالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا ضَابِطَ لَهَا، وَلَا بِنَهْرَيْنِ يَجْرِيَانِ مِنْ يَسْرَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَمِينِهِ، أَحَدُهُمَا الْعَاصِي بِالشَّامِ، وَالثَّانِي سَيْحُونُ بِالْمَشْرِقِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَنْضَبِطُ بِضَابِطٍ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَنْهَارِ الشَّامِ تَجْرِي عَلَى غَيْرِ السَّمْتِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَالْأُرْدُنُّ يَجْرِي نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا يَجْرِي نَحْوَ الْبَحْرِ، حَيْثُ كَانَ مِنْهَا حَتَّى يَصُبَّ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِمَا
(1/321)
ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الشَّامِ سِوَى الْعَاصِي، وَالْفُرَاتُ حَدُّ الشَّامِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ.
فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ بِأَدِلَّةٍ تَخْتَصُّ بِبَلْدَتِهِمْ؛ مِنْ جِبَالِهَا، وَأَنْهَارِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ جَبَلًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ فِي قِبْلَتِهِمْ، أَوْ عَلَى أَيْمَانِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ مَجْرَى نَهْرٍ بِعَيْنِهِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَجِدْ مُخْبِرًا، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى جِهَةٍ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا.
فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِغَيْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، تَحَرَّى فَصَلَّى، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَاكِمَ وَالْعَالِمَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ.
[فَصْلٌ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى]
(620) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُهَا، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، عَمِلَ بِالثَّانِي، وَلَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ عَمِلَ بِالثَّانِي فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ. وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الصَّلَاةِ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَالْآمِدِيُّ: لَا يَنْتَقِلُ، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِئَلَّا يَنْقُضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَيْهَا، كَسَائِرِ مَحَالِّ الْوِفَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ أَنْ لَوْ أَلْزَمْنَاهُ إعَادَةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ نَعْتَدَّ لَهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ اجْتِهَادُهُ وَظَنُّهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا. وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الصَّوَابِ، وَبَنَى كَأَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَبَنَوْا.
وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، وَلَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، كَرَجُلٍ كَانَ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ، فَرَأَى بَعْضَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَهُوَ فِي الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ، وَاحْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدَامَتُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَتْ لَهُ جِهَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا، فَبَطَلَتْ، لِتَعَذُّرِ إتْمَامِهَا.
[مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فِي الْقِبْلَة]
(621) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، لَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا، فَفَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّلَاةُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا
(1/322)
أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا، وَلَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَالْعَالِمَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الْحَادِثَةِ. وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا اجْتَهَدَ، فَأَرَادَ الْآخَرُ تَقْلِيدَهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَجْتَهِدَ، سَوَاءٌ اتَّسَعَ الْوَقْتُ، أَوْ كَانَ ضَيِّقًا يَخْشَى خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، كَالْحَاكِمِ، لَا يَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، أَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ. وَأَشَارَ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ، فِيمَنْ هُوَ فِي مَدِينَةٍ، فَتَحَرَّى، فَصَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي بَيْتٍ يُعِيدُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ، قَالَ: فَقَدْ جَعَلَ فَرْضَ الْمَحْبُوسِ السُّؤَالَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فِي الْمِصْرِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى الْقِبْلَةِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِضِيقِ الْوَقْتِ، مَعَ إمْكَانِهِ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
[فَصْلٌ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ]
(622) فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِصَاحِبِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ خَطَأَ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ، وَاعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ.
فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اقْتِدَاءَهُ بِهِ اخْتِلَافُ جِهَتِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُسْتَدِيرِينَ حَوْلَهَا، وَكَالْمُصَلِّينَ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُصَلِّي فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ، إذَا كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . مَعَ كَوْنِ أَحْمَدَ لَا يَرَى طَهَارَتَهَا، وَفَارَقَ مَا إذَا اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَثَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينًا حَدَثُ نَفْسِهِ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ وَهَاهُنَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، فَافْتَرَقَا.
فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ يَمِينًا، وَيَمِيلُ الْآخَرُ شِمَالًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامَ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ، وَقَدْ اتَّفَقَا فِيهَا.
[مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ وَمَعَهُمَا أَعْمَى]
(623) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتْبَعُ الْأَعْمَى أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَعَهُمَا أَعْمَى، قَلَّدَ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُهُمَا عِنْدَهُ وَأَصْدَقُهُمَا قَوْلًا، وَأَشَدُّهُمَا تَحَرِّيًا؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ إلَيْهِ أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْأَدِلَّةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَرْضُهُ أَيْضًا التَّقْلِيدُ، وَيُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قَلَّدَ الْمَفْضُولَ، فَظَاهِرُ
(1/323)
قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ، فَلَمْ يَسُغْ لَهُ ذَلِكَ، كَالْمُجْتَهِدِ إذَا تَرَكَ جِهَةَ اجْتِهَادِهِ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِدَلِيلٍ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ.
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَوَيَا، وَلَا عِبْرَةَ بِظَنِّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ مُصِيبٌ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ. فَأَمَّا إنْ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ، فَلَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَالْعَامِّيِّ مَعَ الْعُلَمَاءِ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ.
[فَصْلٌ الْمُقَلِّدُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ]
(624) فَصْلٌ: وَالْمُقَلِّدُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، إمَّا لِعَدَمِ بَصَرِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ، وَهُوَ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَالصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا مَنْ يُمْكِنُهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ، فَإِنْ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِالتَّقْلِيدِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْعَامِّيَّ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ. فَهُوَ كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ أَخَّرَ هَذَا التَّعَلُّمَ وَالصَّلَاةَ إلَى حَالٍ يَضِيقُ وَقْتُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ وَالِاجْتِهَادِ، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِالتَّقْلِيدِ، كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ، فَيَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ تَعَلُّمِهَا.
[فَصْلٌ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة بِهِ رَمَدٌ أَوْ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ رُؤْيَةَ الْأَدِلَّةِ]
(625) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ رَمَدٌ، أَوْ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ رُؤْيَةَ الْأَدِلَّةِ، فَهُوَ كَالْأَعْمَى، فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَكَان لَا يَرَى فِيهِ الْأَدِلَّةَ، وَلَا يَجِدُ مُخْبِرًا إلَّا مُجْتَهِدًا آخَرَ فِي مَكَان يَرَى الْعَلَامَاتِ فِيهِ، فَلَهُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَعْمَى.
[فَصْلٌ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ قَدْ أَخْطَأْت الْقِبْلَةَ]
(626) فَصْلٌ: وَإِذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: قَدْ أَخْطَأْتَ الْقِبْلَةَ، وَإِنَّمَا الْقِبْلَةُ هَكَذَا. وَكَانَ يُخْبِرُ عَنْ يَقِينٍ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ الشَّمْسَ، أَوْ الْكَوَاكِبَ، وَتَيَقَّنْتُ أَنَّك مُخْطِئٌ. فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ، وَيَسْتَدِيرُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَخْبَرَهُ أَنَّهَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ، فَالْأَعْمَى أَوْلَى. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخْبَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ أَوْثَقَ مِنْ الْأَوَّلِ، مَضَى عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِدَلِيلٍ يَقِينًا، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَقُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ. فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ خَاصَّةً، رَجَعَ إلَى قَوْلِهِ، كَالْبَصِيرِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ.
[فَصْلٌ إذَا شَرَعَ مُجْتَهِدٌ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ فَعَمِيَ فِيهَا]
فَصْلٌ: وَلَوْ شَرَعَ مُجْتَهِدٌ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ، فَعَمِيَ فِيهَا، بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ
(1/324)
عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَدَارَ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِخَطَئِهِ عَنْ يَقِينٍ، رَجَعَ إلَيْهِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ أَعْمَى، فَأَبْصَرَ فِي أَثْنَائِهَا، فَشَاهَدَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى صَوَابِ نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يَرَى الشَّمْسَ فِي قِبْلَتِهِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا. وَإِنْ بَانَ لَهُ خَطَؤُهُ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّاهُ إلَيْهَا، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ صَوَابُهُ وَلَا خَطَؤُهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَاجْتَهَدَ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الِاجْتِهَادُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِالتَّقْلِيدِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَصِيرًا فِي ابْتِدَائِهَا. وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، مَضَى فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الدَّلِيلُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ فِيهَا.
[مَسْأَلَة صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ]
(628) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ. وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ الَّذِي صَلَّى بِتَقْلِيدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ سِتَارَةٍ.
وَلَنَا، مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ، فَأَصَابَنَا غَيْمٌ، فَتَحَيَّرْنَا فَاخْتَلَفْنَا فِي الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِدَةٍ، وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِنَعْلَمَ أَمْكِنَتَنَا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالْإِعَادَةِ، وَقَالَ: قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد اللَّه الْعُمَرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ. وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُرْوَى مَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] . فَمَرَّ رَجُلٌ بِبَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ. فَمَالُوا كُلُّهُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْتَفِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتْرُكُ إنْكَارَهُ إلَّا وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ كَانَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، فَخَرَجَ عَنْ الْعَهْدِ، كَالْمُصِيبِ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، كَالْخَائِفِ يُصَلِّي إلَى غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ
(1/325)
شَرْطٌ عَجَزَ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ. وَأَمَّا الْمُصَلِّي قَبْلَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَلَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الشُّرُوطِ، إذَا عَجَزَ عَنْهَا، سَقَطَتْ، كَذَا هَاهُنَا، وَأَمَّا إذَا ظَنَّ وُجُودَهَا فَأَخْطَأَ، فَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَنَظِيرُهُ: إذَا اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْحَضَرِ، فَأَخْطَأَ.
(629) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مَسْتُورَةً بِغَيْمٍ أَوْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا عَنْهُ، بِدَلِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ اسْتَتَرَتْ عَنْهُمْ بِالْغَيْمِ، فَلَمْ يُعِيدُوا، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَعَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ.
[فَصْلٌ إنْ بَانَ لَهُ يَقِين الْخَطَأ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ]
(630) فَصْلٌ: وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهَا كَانَ صَحِيحًا، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ الْخَطَأُ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، قَدْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلَى جِهَةٍ، فَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ الْخَطَأُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، اسْتَدَارُوا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي بَانَ لَهُمْ الصَّوَابُ فِيهَا، كَبَنِي سَلَمَةَ، لَمَّا بَانَ لَهُمْ تَحَوُّلُ الْكَعْبَةِ. وَإِنْ بَانَ لِلْإِمَامِ وَحْدَهُ، أَوْ لِلْمَأْمُومِينَ دُونَهُ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ، اسْتَدَارَ مَنْ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ وَحْدَهُ، وَيَنْوِي بَعْضُهُمْ مُفَارَقَةَ بَعْضٍ، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ خَالَفَهُ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُقَلِّدٌ، تَبِعَ مَنْ قَلَّدَهُ وَانْحَرَفَ بِانْحِرَافِهِ. وَإِنْ قَلَّدَ الْجَمِيعَ، لَمْ يَنْحَرِفْ إلَّا بِانْحِرَافِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ بِدَلِيلٍ يَقِينِيٍّ، فَلَا يَنْحَرِفُ بِالشَّكِّ إلَّا مَنْ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْثَقِهِمْ، فَإِنَّهُ يَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِهِ.
[مَسْأَلَة إذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ أَوْ الْأَعْمَى فَأَخْطَأَ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة]
(631) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ، فَأَخْطَأَ، أَوْ الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ، أَعَادَا) . أَمَّا الْبَصِيرُ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، سَوَاءٌ إذَا صَلَّى بِدَلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ مَنْ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْقِبَلِ الْمَنْصُوبَةِ، وَيَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، كَالْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَأَخْطَأَ، لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ؛ لِتَفْرِيطِهِ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ، فَأَخْطَأَهُ، فَقَدْ غَرَّهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ خَبَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ.
فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا، لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: هُوَ كَالْمُسَافِرِ، يَتَحَرَّى فِي مَحْبِسِهِ، وَيُصَلِّي، مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ، فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ. وَأَمَّا الْأَعْمَى، فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ، فَإِنَّ الْأَعْمَى إذَا لَمَسَ الْمِحْرَابَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِحْرَابٌ، وَأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ.
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الشَّمَالِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ، جَازَ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَمَتَى أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْأَعْمَى فِي هَذَا. وَإِنْ كَانَ الْأَعْمَى، أَوْ الْمُقَلِّدُ مُسَافِرًا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْبِرُهُ، وَلَا مُجْتَهِدًا يُقَلِّدُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ يُعِيدُ،
(1/326)
سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَإِنْ أَصَابَ، كَانَ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ: إحْدَاهُمَا: يُعِيدُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِيَةُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِ مَا أَتَى بِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ، كَسَائِرِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلدَّلِيلِ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ، فِي الْغَيْمِ وَالْحَبْسِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ أَخْطَأَ أَعَادَ، وَإِنْ أَصَابَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ كَعَادِمِ بَصَرِهِ.
فَأَمَّا إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ، أَوْ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَلَمْ يَسْتَخْبِرْهُ وَلَمْ يُقَلِّدْ، أَوْ خَالَفَ الْمُخْبِرَ وَالْمُجْتَهِدَ، وَصَلَّى، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَأَصَابَ، أَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ سَوَاءٌ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِهَا.
[مَسْأَلَة لَا يَتَّبِعُ دَلَالَةَ مُشْرِكٍ بِحَالِ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَة]
(632) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتْبَعُ دَلَالَةَ مُشْرِكٍ بِحَالٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلَا رِوَايَتُهُ، وَلَا شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ أَمَانَةٍ) وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَأْتَمِنُوهُمْ بَعْدَ إذْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَلَا يَقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَأْثَمٌ بِكَذِبِهِ، فَتَحَرُّزُهُ مِنْ الْكَذِبِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ.
وَقَالَ التَّمِيمِيُّ؛ يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الْمُخْبِرِ، فَإِنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ، لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مَحَارِيبَ لَا يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَتَهُ وَفِسْقَهُ، قَبِلَ خَبَرَهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يُبْنَى عَلَى الْعَدَالَةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهَا، وَيَقْبَلُ خَبَرَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ، سَوَاءٌ كَانُوا رِجَالًا أَوْ نِسَاءً، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ، فَأَشْبَهَ الرِّوَايَةَ. وَيَقْبَلُ مِنْ الْوَاحِدِ كَذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/327)
آدَابُ الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ، إذَا أَقْبَلَ إلَى الصَّلَاةِ، أَنْ يُقْبِلَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إلَيْهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إذَا أَتَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ " فَاقْضُوا ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى أَنْ يُسْرِعَ شَيْئًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تُقَبَّحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خُطَاهُ، لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، فِي " مُسْنَدِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ، فَقَارَبَ فِي الْخُطَى، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ» .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(633) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَأَعْطِنِي نُورًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، وَابْنُ مَاجَهْ فِي " السُّنَنِ "، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَخَرَجْتُ
(1/328)
اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] » .
(634) فَصْلٌ: فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَقَالَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ» ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَشْتَغِلُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ يَسْكُتُ، وَلَا يَخُوضُ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا، وَلَا يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "
[فَصْلٌ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهَا بِنَافِلَةِ]
(635) فَصْلٌ: وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ خَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ رَكَعَهُمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَرْكَعُهُمَا إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، كَمَا لَوْ خَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ السُّنَّةُ، فَمَنْ أَدْلَى بِهَا فَقَدْ فَلَحَ، وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا فَقَدْ نَجَا.
قَالَ: وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» . وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَابْنُ بُحَيْنَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُنَّ
(1/329)
كُلَّهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " التَّمْهِيدِ ". قَالَ: وَكُلُّ هَذَا إنْكَارٌ مِنْهُ لِهَذَا الْفِعْلِ. فَأَمَّا إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي النَّافِلَةِ، وَلَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، أَتَمَّهَا، وَلَمْ يَقْطَعْهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يُتِمُّهَا؛ لِذَلِكَ.
وَالثَّانِيَةُ، يَقْطَعُهَا؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
[فَصْلٌ دُعَاء الِافْتِتَاح]
(636) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: قَبْلَ التَّكْبِيرِ يَقُولُ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. يَعْنِي لَيْسَ قَبْلَهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] .
(1/330)
[بَاب صِفَةِ الصَّلَاةِ]
ِ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ سَمِعْت أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ؛ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالُوا: فَاعْرِضْ.
قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، حَتَّى يَقِرَّ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا. ثُمَّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَعْتَدِلُ، فَلَا يُصَوِّبُ رَأْسَهُ وَلَا يُقْنِعُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَهْوِي إلَى الْأَرْضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ إذَا سَجَدَ، وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَرْفَعُ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَةِ كَبَّرَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ. قَالُوا: صَدَقْتَ، هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: «فَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى قَائِمًا حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ، وَلَا قَابِضَهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْأُخْرَى، فَإِذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» .
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْد قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ]
(637) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَى هَذَا أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُومُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَسَالِمٌ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، يَقُومُونَ فِي أَوَّلِ بَدْوَةٍ مِنْ الْإِقَامَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُومُ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. كَبَّرَ. وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ
(1/331)
يُكَبِّرُونَ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ.
وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بِلَالٍ: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ قَبْلَ فَرَاغِهِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا أَنْ يُكَبِّرَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ جُلُّ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ يَقُومُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَمَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ لِيَقُومُوا، فَيُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْقِيَامِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُعَدِّلُ الصُّفُوفَ بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ، فَرَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ: اسْتَوُوا وَاعْتَدِلُوا» . وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا» . وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ، فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ يُقِيمُ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مَا يَفُوتُ بِلَالًا " آمِينَ "، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَقُومُ الْمَأْمُومُونَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ. فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَقَمْنَا الصُّفُوفَ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ؛ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الصُّفُوفُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَإِنْ أُقِيمَتْ، وَالْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا قُرْبَهُ، لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: " قَدْ خَرَجْتُ "، وَخَرَجَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ قِيَامًا لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: " مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ؟ ".
(1/332)
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ]
(638) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: اسْتَوُوا. رَحِمَكُمْ اللَّهُ. وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: «صَلَّيْت إلَى جَنْبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمًا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي لِمَ صُنِعَ هَذَا الْعُودُ؟ قُلْت: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ أَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ: اعْتَدِلُوا، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ. ثُمَّ أَخَذَهُ بِيَسَارِهِ، وَقَالَ: اعْتَدِلُوا، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَة الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلِ اللَّهُ أَكْبَرُ]
(639) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَإِذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ ". عِنْدَ إمَامِنَا، وَمَالِكٍ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَطَاوُسٌ، وَأَيُّوبُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، يَقُولُونَ: افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ. وَعَلَى هَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ. لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَمْ تُغَيِّرْهُ عَنْ بِنْيَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَفَادَتْ التَّعْرِيفَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْعَقِدُ بِكُلِّ اسْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَظِيمٌ. أَوْ كَبِيرٌ، أَوْ جَلِيلٌ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَنَحْوِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، أَشْبَهَ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُطْبَةِ، حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَفْظُهَا. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
«وَقَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» . «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ» . لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عُدُولٌ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ دَلَالَةَ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِقَوْلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ خُطَبِهِ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَالتَّلَفُّظِ بِمَا شَاءَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَالصَّلَاةُ بِخِلَافِهِ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عُدُولٌ عَنْ الْمَنْصُوصِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ تُغَيَّرْ بِنْيَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ التَّنْكِيرِ إلَى التَّعْرِيفِ، وَكَانَ مُتَضَمِّنًا
(1/333)
لَإِضْمَارٍ أَوْ تَقْدِيرٍ. فَزَالَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " اللَّهُ أَكْبَرُ " التَّقْدِيرُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي الْمُتَعَارَفِ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إلَّا هَكَذَا، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِ " بِسْمِ اللَّهِ " دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ مِثْلًا لَهَا.
[فَصْلٌ التَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ]
(640) فَصْلٌ: وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَهَذَا قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، أَجْزَأَتْهُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِهِ.
[فَصْلٌ لَا يَصِحُّ التَّكْبِيرُ إلَّا مُرَتَّبًا]
(641) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ التَّكْبِيرُ إلَّا مُرَتَّبًا، فَإِنْ نَكَسَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا. وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُسْمِعَهُ نَفْسَهُ إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَارِضٌ مِنْ طَرَشٍ، أَوْ مَا يَمْنَعُهُ السَّمَاعَ، فَيَأْتِيَ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا أَوْ لَا عَارِضَ بِهِ سَمِعَهُ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَحَلُّهُ اللِّسَانُ، وَلَا يَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ، وَالصَّوْتُ مَا يَتَأَتَّى سَمَاعُهُ، وَأَقْرَبُ السَّامِعِينَ إلَيْهِ نَفْسُهُ، فَمَتَى لَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ]
(642) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمَأْمُومُونَ لِيُكَبِّرُوا، فَإِنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّكْبِيرُ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إسْمَاعُهُمْ، جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيَسْمَعَهُمْ، أَوْ لِيَسْمَعَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ؛ لِيُسْمِعَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ يُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ وَلَا يَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمَدِّ]
(643) فَصْلٌ: وَيُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ، وَلَا يَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمَدِّ، فَإِنْ فَعَلَ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ الْمَعْنَى، مِثْلُ أَنْ يَمُدَّ الْهَمْزَةَ الْأُولَى، فَيَقُولَ: آللَّهُ. فَيَجْعَلَهَا اسْتِفْهَامًا، أَوْ يَمُدَّ أَكْبَرَ. فَيَزِيدَ أَلِفًا، فَيَصِيرَ جَمْعَ كَبَرٍ،
(1/334)
وَهُوَ الطَّبْلُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ. وَنَحْوَهُ، لَمْ يُسْتَحَبَّ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَانْعَقَدَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى.
[فَصْلٌ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ]
فَصْلٌ: وَلَا يُجْزِئُهُ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . وَهَذَا قَدْ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوا. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ، لَزِمَهُ تَعَلُّمُ التَّكْبِيرِ بِهَا، فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ كَبَّرَ بِلُغَتِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ ". وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": لَا يُكَبِّرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَخْرَسِ، كَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَالذِّكْرُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ ذِكْرًا.
[فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ أَخْرَسِ أَوْ عَاجِزًا عَنْ التَّكْبِيرِ بِكُلِّ لِسَانٍ]
(645) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ أَوْ عَاجِزًا عَنْ التَّكْبِيرِ بِكُلِّ لِسَانٍ، سَقَطَ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَيْهِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ عَجَزَ عَنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ فِي مَوْضِعِهِ كَالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَرُورَةً يُوقَفُ التَّكْبِيرُ عَلَيْهَا، فَإِذَا سَقَطَ التَّكْبِيرُ سَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ، سَقَطَ عَنْهُ النُّهُوضُ إلَيْهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ عَبَثٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ، كَالْعَبَثِ بِسَائِرِ جَوَارِحِهِ.
[فَصْلٌ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا]
(646) فَصْلٌ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا. فَإِنْ انْحَنَى إلَى الرُّكُوعِ بِحَيْثُ يَصِيرُ رَاكِعًا قَبْلَ إنْهَاءِ التَّكْبِيرِ، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نَافِلَةً؛ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ فِيهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّكُوعِ غَيْرُ صِفَةِ الْقُعُودِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّكْبِيرَ قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا. وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَاعِدًا، كَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ وُجُودِ الرُّكُوعِ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَبَّرَ فِي الْفَرِيضَةِ، فِي حَالِ انْحِنَائِهِ إلَى الرُّكُوعِ، انْعَقَدَتْ نَفْلًا؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَ وُقُوعُهَا فَرْضًا، وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا نَفْلًا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا.
[فَصْلٌ لَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرَغَ إمَامُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ]
(647) فَصْلٌ: وَلَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرُغَ إمَامُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ مَعَهُ، كَمَا يَرْكَعُ مَعَهُ.
(1/335)
وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالرُّكُوعُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْكَعُ بَعْدَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالرُّكُوعِ مَعَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ. فَإِنْ كَبَّرَ قَبْلَ إمَامِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ تَكْبِيرُهُ، وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ.
[فَصْلٌ التَّكْبِيرُ مِنْ الصَّلَاةِ]
(648) فَصْلٌ: وَالتَّكْبِيرُ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. لَيْسَ هُوَ مِنْهَا؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَيْهَا، بِقَوْلِهِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» ، وَلَا يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ: «إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَمَا ذَكَرُوهُ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ تُضَافُ إلَيْهِ، كَيَدِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِهِ وَأَطْرَافِهِ.
[مَسْأَلَة وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ]
(649) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ، يَعْنِي بِالتَّكْبِيرَةِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ. وَإِنْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ، كَانَ تَأْكِيدًا. فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَكْتُوبَةً، لَزِمَتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا؛ ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا، أَوْ غَيْرَهُمَا، فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ شَيْئَيْنِ؛ الْفِعْلِ، وَالتَّعْيِينِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُغْنِي عَنْهَا؛ لِكَوْنِ الظُّهْرِ مَثَلًا لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا مِنْ الْمُكَلَّفِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَةَ قَدْ تَكُونُ نَفْلًا، كَظُهْرِ الصَّبِيِّ وَالْمُعَادَةِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْفِعْلِ، وَالتَّعْيِينِ، وَالْفَرْضِيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا كَلَامَ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ: " يَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ " أَيْ الْوَاجِبَةَ الْمُعَيَّنَةَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ، أَيْ أَنَّهَا الْمَكْتُوبَةُ الْحَاضِرَةُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الْمَفْرُوضَةَ انْصَرَفَتْ النِّيَّةُ إلَى الْحَاضِرَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْحُضُورُ لَا يَكْفِي عَنْ النِّيَّةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُغْنِ عَنْ نِيَّةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ، فَلَا تَتَعَيَّنُ إحْدَاهُنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ. فَأَمَّا الْفَائِتَةُ، فَإِنْ عَيَّنَهَا بِقَلْبِهِ أَنَّهَا ظُهْرُ الْيَوْمِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَلَا الْأَدَاءِ، بَلْ لَوْ نَوَاهَا أَدَاءً، فَبَانَ أَنَّ وَقْتَهَا قَدْ خَرَجَ وَقَعَتْ قَضَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، فَنَوَاهَا قَضَاءً، فَبَانَ أَنَّهَا فِي وَقْتِهَا، وَقَعَتْ أَدَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَالْأَسِيرِ إذَا تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا، يُرِيدُ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَوَافَقَهُ، أَوْ مَا بَعْدَهُ، أَجْزَأَهُ.
(1/336)
وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً، فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسِ، وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ. وَلَوْ نَوَى ظُهْرَ الْيَوْمِ فِي وَقْتِهَا، وَعَلَيْهِ فَائِتَةٌ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْهَا، وَيَتَخَرَّجُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ، فَنَوَى صَلَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ. وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، لَزِمَهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَدَّى الْفَائِتَةَ. وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَدْرِي أَظُهْرٌ هِيَ أَمْ عَصْرٌ، لَزِمَهُ صَلَاتَانِ، فَإِنْ صَلَّى وَاحِدَةً يَنْوِي أَنَّهَا الْفَائِتَةُ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ.
(650) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّافِلَةُ، فَتَنْقَسِمُ إلَى مُعَيَّنَةٍ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالتَّرَاوِيحِ، وَالْوِتْرِ، وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا، وَإِلَى مُطْلَقَةٍ، كَصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَيُجْزِئُهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ فِيهَا.
[فَصْلٌ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بُنَيَّة مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ إتْمَامِهَا وَقَطْعِهَا]
(651) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ إتْمَامِهَا وَقَطْعِهَا، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَزْمٌ جَازِمٌ، وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ. وَإِنْ تَلَبَّسَ بِهَا بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، ثُمَّ نَوَى قَطْعَهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا، بَطَلَتْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ صَحَّ دُخُولُهُ فِيهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالْحَجِّ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَ حُكْمَ النِّيَّةِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ، فَفَسَدَتْ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَطَعَهَا بِمَا حَدَثَ، فَفَسَدَتْ لِذَهَابِ شَرْطِهَا، وَفَارَقَتْ الْحَجَّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِمَحْظُورَاتِهِ، وَلَا بِمُفْسِدَاتِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا إنْ تَرَدَّدَ فِي قَطْعِهَا، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّيَّةِ شَرْطٌ مَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَكُونُ مُسْتَدِيمًا لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا
[فَصْلٌ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُون حَقِيقَتِهَا]
(652) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي قَطْعَهَا. وَلَوْ ذَهَلَ عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا
(1/337)
فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ حُصَاصٌ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا، اُذْكُرْ كَذَا، حَتَّى يَظَلَّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك لَمْ تَقْرَأْ. فَقَالَ: إنِّي جَهَّزْتُ جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ وَادِيَ الْقُرَى
[فَصْلٌ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ هَلْ نَوَى أَوْ لَا أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ]
(653) فَصْلٌ: فَإِنْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، هَلْ نَوَى أَوْ لَا؟ أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، اسْتَأْنَفَهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ؛ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى أَوْ كَبَّرَ قَبْلَ قَطْعِهَا، أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ، فَلَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مُبْطِلٌ لَهَا. وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا مَعَ الشَّكِّ، فَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ وَحُكْمِهَا، فَإِنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِهَا مَعَ الشَّكِّ لَا يُوجَدُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ، وَيَبْنِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ حُكْمَ النِّيَّةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ لَمْ يُحْدِثْ عَمَلًا، فَإِنَّهُ يَبْنِي، وَلَوْ زَالَ حُكْمُ النِّيَّةِ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا. وَإِنْ شَكَّ هَلْ نَوَى فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؟ أَتَمَّهَا نَفْلًا، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ نَوَى الْفَرْضَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ عَمَلًا. وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ إحْدَاثِ عَمَلٍ، خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
فَإِنْ شَكَّ، هَلْ أَحْرَمَ بِظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ؟ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ شَكَّ؛ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ، وَقَدْ زَالَ بِالشَّكِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتِمَّهَا نَفْلًا، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، فَبَانَ أَنَّهُ قَبْلَ وَقْتِهِ.
[فَصْلٌ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةِ ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى]
(654) فَصْلٌ: وَإِذَا أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، لِأَنَّهُ قَطَعَ نِيَّتَهَا، وَلَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا مِنْ أَوَّلِهَا. فَإِنْ نَقَلَهَا إلَى نَفْلٍ لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ ": يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُكْرَهُ، وَيَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ يَدْخُلُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ، وَصِحَّةُ نَقْلِهَا إذَا كَانَ لِغَرَضٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إنْ نَقَلَهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، مِثْلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهَا مُنْفَرِدًا، فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ، فَجَعَلَهَا نَفْلًا لِيُصَلِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ:
(1/338)
إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ النَّفَلَ مِنْ أَوَّلِهَا.
وَالثَّانِيَةُ، يَصِحّ؛ لِأَنَّهُ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ تَأْدِيَةُ فَرْضِهِ فِي الْجَمَاعَةِ مُضَاعَفَةً لِلثَّوَابِ، بِخِلَافِ مَنْ نَقَلَهَا لِغَيْرِ غَرَضٍ، فَإِنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا فَائِدَةٍ.
[مَسْأَلَة تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ]
(655) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَفْسَخْهَا أَجْزَأَهُ) قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ أَوْ فَسَخَ نِيَّتَهُ بِذَلِكَ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى هَذَا، وَفَسَّرَهُ بِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . فَقَوْلُهُ (مُخْلِصِينَ) حَالٌ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْحَالَ وَصْفُ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ، وَالْإِخْلَاصُ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْلُوَ الْعِبَادَةُ عَنْهَا، كَسَائِرِ شُرُوطِهَا.
وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَجَازَ تَقْدِيمُ نِيَّتِهَا عَلَيْهَا، كَالصَّوْمِ، وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْوِيًّا، وَلَا يُخْرِجُ الْفَاعِلَ عَنْ كَوْنِهِ مُخْلِصًا، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ إذَا دَفَعَهَا إلَى وَكِيلِهِ، كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ.
[مَسْأَلَة رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ]
(656) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، أَوْ إلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي رَفْعِهِمَا إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ أَوْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَإِنَّمَا خُيِّرَ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ؛ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْأُذُنَيْنِ. رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَيْلُ أَحْمَدَ إلَيَّ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إلَى أَيْنَ يَبْلُغُ بِالرَّفْعِ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَذْهَبُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إلَى حَذْوِ أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ رُوَاةَ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ وَأَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَّزَ الْآخَرَ لِأَنَّ صِحَّةَ رِوَايَتِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً.
(657) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ أَصَابِعَهُ وَقْتَ الرَّفْعِ، وَيَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/339)
كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يُفَرِّقَ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْشُرُ أَصَابِعَهُ لِلتَّكْبِيرِ» . وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَحَدِيثُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ مَدَّ أَصَابِعِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: هَذَا الضَّمُّ. وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. وَهَذَا النَّشْرُ. وَمَدَّ أَصَابِعَهُ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ. وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ. وَلِأَنَّ النَّشْرَ لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ كَنَشْرِ الثَّوْبِ، وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ.
(658) فَصْلٌ: وَيَبْتَدِئُ رَفْعَ يَدَيْهِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ مَعَ انْقِضَاءِ تَكْبِيرِهِ، وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا انْقَضَى التَّكْبِيرُ حَطَّ يَدَيْهِ، فَإِنْ نَسِيَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ، لَمْ يَرْفَعْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا.
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ بَاقٍ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ يَدَيْهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى رَفَعَهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَزِيَادَةٍ مَغْلُوبٍ عَلَيْهَا. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ.
(659) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ فِي ثَوْبِهِ، رَفَعَهُمَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّتَاءِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابَهُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ، تَتَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَفِي رِوَايَةٍ؛ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى صُدُورِهِمْ.
(660) فَصْلٌ: وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تَفْرِيقَ فِيهَا.
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إحْدَاهُمَا، تَرْفَعُ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَتَا تَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَلِأَنَّ مَنْ شُرِعَ فِي حَقِّهِ التَّكْبِيرُ شُرِعَ فِي حَقِّهِ الرَّفْعُ كَالرَّجُلِ، فَعَلَى هَذَا تَرْفَعُ قَلِيلًا. قَالَ أَحْمَدُ: رَفْعٌ دُونَ الرَّفْعِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُشْرَعُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَافِي، وَلَا يُشْرَعُ ذَلِكَ لَهَا، بَلْ تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ صَلَاتِهَا.
(1/340)
[مَسْأَلَة وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ]
(661) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِهِ الْيُسْرَى) أَمَّا وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، فَمِنْ سُنَّتِهَا فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ إرْسَالُ الْيَدَيْنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ. وَلَنَا: مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وَهُوَ وَاضِعٌ شِمَالَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَأَخَذَ يَمِينَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى شِمَالِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ. وَفِي (الْمُسْنَدِ) ، عَنْ غُطَيْفٍ، قَالَ: مَا نَسِيتُ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ أَنْسَ أَنِّي «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِعًا يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ» .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى كُوعِهِ، وَمَا يُقَارِبُهُ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي وَصْفِهِ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ.
[مَسْأَلَة وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاة]
(662) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَوْضِعِ وَضْعِهِمَا، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَضَعُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى» . وَعَنْهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَرْوِيٌّ،، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ
[مَسْأَلَة الِاسْتِفْتَاح مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ]
(663) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَاهُ، بَلْ يُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(1/341)
وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَفْتِحُ بِهِ فِي صَلَاتِهِ، يَجْهَرُ بِهِ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» . وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِالْفَاتِحَةِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» .
وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ أَنَسٌ الِاسْتِفْتَاحُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ، كَانَ حَسَنًا. أَوْ قَالَ " جَائِزًا "، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنَا عَبْدُك، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ أَسْكَتَ إسْكَاتَةً. حَسِبْته قَالَ: هُنَيْهَةً. بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ إسْكَاتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ، قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ أَنَسٌ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَمِلَ بِهِ السَّلَفُ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَفْتِحُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَوَى الْأَسْوَدُ، أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عُمَرَ، فَسَمِعَهُ كَبَّرَ، فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ.
فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ أَحْمَدُ، وَجَوَّزَ الِاسْتِفْتَاحَ بِغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ
(1/342)
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: بَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَتْرُوكٌ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَفْتِحُونَ بِأَوَّلِهِ.
(664) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالِافْتِتَاحِ. وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا جَهَرَ بِهِ عُمَرُ، لِيُعَلِّمَ النَّاسَ. وَإِذَا نَسِيَ الِاسْتِفْتَاحَ، أَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا حَتَّى شَرَعَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَكَذَلِكَ إنْ نَسِيَ التَّعَوُّذَ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ لِذَلِكَ.
[مَسْأَلَة الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]
(665) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (ثُمَّ يَسْتَعِيذُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ. وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَسْتَعِيذُ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَدْ مَضَى جَوَابُهُ.
وَصِفَةُ الِاسْتِعَاذَةِ: أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُولُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] وَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لَزِيَادَةٍ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْهُ: أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَهَذَا كُلُّهُ وَاسِعٌ، وَكَيْفَمَا اسْتَعَاذَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَيُسِرُّ الِاسْتِعَاذَةَ، وَلَا يَجْهَرُ بِهَا، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
[مَسْأَلَة قِرَاءَةَ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة]
(666) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ، وَتُجْزِئُ قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ، مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ»
(1/343)
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَقَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] . وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ وَسَائِرَ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَكَذَا فِي الصَّلَاةِ.
وَلَنَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَتْ مُعَيَّنَةً كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ» ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا، مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَتَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَاتِحَةَ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَنَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ كَانَ مُسِيئًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ السُّوَرِ.
[مَسْأَلَة قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاة]
(667) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . مَشْرُوعَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَقْرَؤُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ؟ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْغَضَ إلَيْهِ الْحَدَثُ فِي الْإِسْلَامِ - يَعْنِي مِنْهُ. فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا، فَلَا تَقُلْهَا، إذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَدَّهَا آيَةً، وَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] اثْنَيْنِ» . فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ. ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ.
وَرَوَى شُعْبَةُ، وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَفِي لَفْظٍ: فَكُلُّهُمْ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُسِرُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا أَيْضًا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ
(1/344)
وَلِأَنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يُسْتَفْتَحُ بِهَا سَائِرُ السُّوَرِ، فَاسْتِفْتَاحُ الْفَاتِحَةِ بِهَا أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَفَاتِحَتُهُ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: لَا يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا بَقِيَّةَ السُّوَرِ.
[مَسْأَلَة الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاة]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجْهَرُ بِهَا) يَعْنِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا غَيْرُ مَسْنُونٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَمَّارٍ. وَبِهِ يَقُولُ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، الْجَهْرُ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَاهُ عَلَيْكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّهُ صَلَّى وَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ: أَقْتَدِي بِصَلَاةِ
(1/345)
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَيَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، كَسَائِرِ آيَاتِهَا.
وَلَنَا، حَدِيثُ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ. وَعَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَذَكَرَ الْخَبَرَ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَالَ الْإِسْرَارِ، كَمَا سَمِعَ الِاسْتِفْتَاحَ وَالِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إسْرَارِهِ بِهِمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا، وَسَائِرُ أَخْبَارِ الْجَهْرِ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهَا هُمْ رُوَاةُ الْإِخْفَاءِ، وَإِسْنَادُ الْإِخْفَاءِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ الْجَهْرِ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ.
[فَصْلٌ الْبَسْمَلَة هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَة يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا]
(669) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ؛ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا؟ فَعَنْهُ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ. وَذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ، وَأَبُو حَفْصٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ تَرَكَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَرَأْتُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَإِنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَإِنَّهَا
(1/346)
السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا» . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهَا، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَا آيَةً مِنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ.
وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا، فَقِيلَ عَنْهُ: هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ كَانَتْ تَنْزِلُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ، فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ. وَعَنْهُ: إنَّمَا هِيَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إلَّا فِي سُورَةِ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قَالَ اللَّهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فَلَوْ كَانَتْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آيَةً لَعَدَّهَا، وَبَدَأَ بِهَا، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّنْصِيفُ، لِأَنَّ آيَاتِ الثَّنَاءِ تَكُونُ أَرْبَعًا وَنِصْفًا، وَآيَاتِ الدُّعَاءِ اثْنَتَيْنِ وَنِصْفًا. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ: «يَقُولُ عَبْدِي إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي» . قُلْنَا: ابْنُ سَمْعَانَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَى خِلَافِ رِوَايَتِهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سُورَةٌ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِقَارِئِهَا، أَلَا وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، بِدُونِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ الْآيِ تَجْرِي مَجْرَى
(1/347)
الْآيِ أَنْفُسِهَا، فِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ تَوَاتُرٌ.
فَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ رَأْيِهَا، وَلَا يُنْكَرُ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ. عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ، قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَاجَعْتُ فِيهِ نُوحًا فَوَقَفَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ كَانَ وَهْمًا مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بَيْنَ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ، فَلِلْفَصْلِ بَيْنَهَا، وَلِذَلِكَ أُفْرِدَتْ سَطْرًا عَلَى حِدَتِهَا.
[فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاة مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً غَيْرَ مُلِحُّونَ فِيهَا]
فَصْلٌ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً، غَيْرَ مَلْحُونٍ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَإِنْ تَرَكَ تَرْتِيبَهَا، أَوْ شَدَّةً مِنْهَا، أَوْ لَحَنَ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، مِثْلُ أَنْ يَكْسِرَ كَافَ (إيَّاكَ) ، أَوْ يَضُمَّ تَاءَ (أَنْعَمْتَ) ، أَوْ يَفْتَحَ أَلِفَ الْوَصْلِ فِي (اهْدِنَا) ، لَمْ يَعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ غَيْرِ هَذَا. ذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا فِي (الْمُجَرَّدِ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي (الْجَامِعِ) : لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ شَدَّةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، هِيَ صِفَةٌ لِلْحَرْفِ، وَيُسَمَّى تَارِكُهَا قَارِئًا.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمُشَدَّدَ أُقِيمَ مَقَامَ حَرْفَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ شَدَّةَ رَاءِ (الرَّحْمَنِ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ، وَشَدَّةَ لَامِ (الَّذِينَ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ أَيْضًا، فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا أَخَلَّ بِالْحَرْفِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَغَيَّرَ الْمَعْنَى، إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْمُدْغَمَ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ " الرَّحْمَنِ " مُظْهِرًا لِلَّامِ، فَهَذَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْإِدْغَامَ، وَهُوَ مَعْدُودٌ لَحْنًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى.
قَالَ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ إذَا لَيَّنَهَا، وَلَمْ يُحَقِّقْهَا عَلَى الْكَمَالِ، أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَرَادَ فِي (الْجَامِعِ) هَذَا الْمَعْنَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مُتَّفِقًا. وَلَا يُسْتَحَبُّ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْدِيدِ، بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ حَرْفٍ سَاكِنٍ؛ لِأَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُقِيمَتْ مَقَامَ حَرْفٍ سَاكِنٍ؛ فَإِذَا زَادَهَا عَلَى ذَلِكَ زَادَهَا عَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. وَفِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَلَاثُ شَدَّاتٍ، وَفِيمَا عَدَاهَا إحْدَى عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ
(1/348)
[فَصْلٌ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة]
(671) فَصْلٌ: وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ، يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا لَوْ كَانَ سَمِيعًا، كَمَا قُلْنَا فِي التَّكْبِيرِ، فَإِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّلَةً مُعْرَبَةً، يَقِفُ فِيهَا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ، وَيُمَكِّنُ حُرُوفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] . وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، «أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي (مُسْنَدِهِ) وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ وَالتَّلْحِينِ كَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَعَلَ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا. قَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ.
وَقَالَ: قَوْلُهُ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» قَالَ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: " أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً، مَنْ إذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ ". وَرُوِيَ: (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ)
[فَصْلٌ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة]
(672) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِذِكْرٍ؛ مِنْ دُعَاءٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، أَوْ سُكُوتٍ يَسِيرٍ، أَوْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، قَالَ: آمِينَ. وَلَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ: إذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ. وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ قِرَاءَتَهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مَأْمُورًا بِهِ، كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، فَيُنْصِتُ لَهُ، فَإِذَا سَكَتَ الْإِمَامُ أَتَمَّ قِرَاءَتَهَا، وَأَجْزَأَتْهُ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا، أَوْ نَوْمًا، أَوْ لِانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهَا غَلَطًا، لَمْ يَبْطُلْ، فَمَتَى ذَكَرَ أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ، أَبْطَلَهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِذَلِكَ. فَإِنْ نَوَى قَطْعَ قِرَاءَتِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَهَا، لَمْ تَنْقَطِعْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُخَالِفٌ لِنِيَّتِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ. وَكَذَا إنْ سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ سُكُوتًا يَسِيرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالنِّيَّةِ، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي (الْجَامِعِ) ، أَنَّهُ مَتَى سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ أَبْطَلَهَا، وَمَتَى عَدَلَ إلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ عَمْدًا، أَوْ دُعَاءٍ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا عَمْدًا، أَبْطَلَهَا. وَإِنْ كَانَ غَلَطًا، رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا. وَالْأَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ، مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِرَاءَةِ وُجُودُهَا، لَا نِيَّتُهَا، فَمَتَى قَرَأَهَا مُتَوَاصِلَةً تَوَاصُلًا قَرِيبًا صَحَّتْ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ غَلَطٍ.
(1/349)
[فَصْلٌ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ]
(673) فَصْلٌ: وَيَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَسَبِّحْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي بَقِيَّةِ الرَّكَعَاتِ، لَسُنَّ الْجَهْرُ بِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، كَالْأُولَيَيْنِ. وَعَنْ الْحَسَنِ: أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] .
وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي ثَلَاثٍ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُطَوِّلُ الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «. وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَعَنْهُ، وَعَنْ عُبَادَةَ، قَالَا: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» . رَوَاهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: (وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا) .
فَيَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: (مَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَلَمْ يُصَلِّ. إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ) رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ ". وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ كَذَّابًا. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَقَدْ خَالَفَهُ عُمَرُ، وَجَابِرٌ، وَالْإِسْرَارُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ بِدَلِيلِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
[فَصْلٌ لَا تُجَزِّئهُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاة]
(674) فَصْلٌ: وَلَا تُجْزِئُهُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا إبْدَالُ لَفْظِهَا بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ:
(1/350)
أَنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وَلَا يُنْذَرُ كُلُّ قَوْمٍ إلَّا بِلِسَانِهِمْ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] .
وقَوْله تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] . وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ؛ لَفْظَهُ، وَمَعْنَاهُ، فَإِذَا غُيِّرَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَلَا مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَوْ كَانَ تَفْسِيرُهُ مِثْلَهُ لَمَا عَجَزُوا عَنْهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَمَّا الْإِنْذَارُ، فَإِنَّهُ إذَا فَسَّرَهُ لَهُمْ كَانَ الْإِنْذَارُ بِالْمُفَسَّرِ دُونَ التَّفْسِيرِ. (675) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَعَرَفَ مِنْ الْفَاتِحَةِ آيَةً، كَرَّرَهَا سَبْعًا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَكَذَلِكَ إنْ أَحْسَنَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَرَّرَهُ بِقَدْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَقِيَّةِ الْآيِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِقِرَاءَتِهَا، فَيَعْدِلُ عَنْ تَكْرَارِهَا إلَى غَيْرِهَا، كَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُ بِهِ، وَيَعْدِلُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فِي " الْجَامِعِ ". وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ عَرَفَ بَعْضَ آيَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَكْرَارُهَا، وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ أَنْ يَقُولَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَغَيْرَهَا.
وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْرَارِهَا.
وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهَا، وَكَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، قَرَأَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إنْ قَدَرَ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَك قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ» وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَانَ أَوْلَى. وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِعَدَدِ آيَاتِهَا.
وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ حُرُوفِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي عَدَدُ الْحُرُوفِ دُونَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ، فَلَا يُعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ عَلَى قَدْرِ سَاعَاتِ الْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ مَقْصُودٌ؛ بِدَلِيلِ تَقْدِيرِ الْحَسَنَاتِ بِهِ، وَيُخَالِفُ الصَّوْمَ، إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ فِي السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا آيَةً، كَرَّرَهَا سَبْعًا. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَا أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ،
(1/351)
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ. فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ: هَذَا لِلَّهِ. فَمَا لِي؟ قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي» .
وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسِ الْأُوَلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا زَادَهُ عَلَيْهَا حِينَ طَلَبَ الزِّيَادَةَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ كَلِمَتَيْنِ، حَتَّى تَكُونَ مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ ذَلِكَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: عَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي.
وَالسُّؤَالُ كَالْمُعْتَادِ فِي الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُكَ هَذَا. وَتُفَارِقُ الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ. فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كُلَّهَا، قَالَ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا بِقَدْرِهَا، كَمَنْ يُحْسِنُ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَهَلِّلْهُ، وَكَبِّرْهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[مَسْأَلَة التَّأْمِينَ عِنْد فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاة]
(676) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: آمِينَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّأْمِينَ عِنْدَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لَا يَحْسُنْ التَّأْمِينُ لِلْإِمَامِ؛ لِمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: آمِينَ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
، وَقَدْ قَالَ بِلَالٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ) . وَحَدِيثُهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَعْرِيفُهُمْ مَوْضِعَ تَأْمِينِهِمْ، وَهُوَ عَقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) . لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَأْمِينِ الْإِمَامِ، لِيَكُونَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُوَافِقًا لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُصَرَّحًا بِهِ، كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فِي " مُسْنَدِهِ ". عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ. فَقُولُوا: آمِينَ. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ. وَالْإِمَامُ يَقُولُ: آمِينَ. فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: (إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ) .
يَعْنِي إذَا شَرَعَ فِي التَّأْمِينِ
(1/352)
(677) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِخْفَاؤُهَا فِيمَا يُخْفِي فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: يُسَنُّ إخْفَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. فَاسْتُحِبَّ إخْفَاؤُهُ كَالتَّشَهُّدِ.
وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آمِينَ. وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّأْمِينِ عِنْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ، فَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ لَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ، كَحَالَةِ الْإِخْفَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِآخِرِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ وَيُجْهَرُ بِهِ، وَدُعَاءُ التَّشَهُّدِ تَابِعٌ لَهُ. فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِخْفَاءِ، وَهَذَا تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَيَتْبَعُهَا فِي الْجَهْرِ.
فَصْلٌ: فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ؛ لِيُذَكِّرَ الْإِمَامَ، فَيَأْتِيَ بِهِ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلِيَّةٌ إذَا تَرَكَهَا الْإِمَامُ أَتَى بِهَا الْمَأْمُومُ، كَالِاسْتِعَاذَةِ، وَإِنْ أَخْفَاهَا الْإِمَامُ جَهَرَ بِهَا الْمَأْمُومُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ تَرَكَ التَّأْمِينَ نِسْيَانًا، أَوْ عَمْدًا، حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ، لَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا.
(679) فَصْلٌ: فِي " آمِينْ " لُغَتَانِ: قَصْرُ الْأَلِفِ، وَمَدُّهَا، مَعَ التَّخْفِيفِ فِيهِمَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ إذْ دَعْوَتُهُ ... أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
وَأَنْشَدُوا فِي الْمَمْدُودِ:
يَا رَبِّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا
وَمَعْنَى " آمِينَ " اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِي. قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ مَعْنَاهَا، فَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى قَاصِدِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] .
(680) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ عَقِيبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سَكْتَةً يَسْتَرِيحُ فِيهَا، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَنْ خَلْفَهُ الْفَاتِحَةَ، كَيْ لَا يُنَازِعُوهُ فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ، سَمُرَةَ، حَدَّثَ، أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكْتَتَيْنِ؛ سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ، وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ، فَكَتَبَا فِي ذَلِكَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ فِي كِتَابِهِ إلَيْهِمَا، أَنَّ سَمُرَةَ قَدْ حَفِظَ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ.
(1/353)
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنْ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ، إذَا قَالَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) . فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
[مَسْأَلَة قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلّ صَلَاةٍ]
(681) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً فِي ابْتِدَائِهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيَجْهَرُ بِهَا فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَيُسِرُّ فِيمَا يُسِرُّ بِهَا فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَوَى «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: فِي الظُّهْرِ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ. وَقَدْ اشْتَهَرَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَأَمَرَ بِهِ مُعَاذًا، فَقَالَ: اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَبِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَفْتَتِحَ السُّورَةَ بِقِرَاءَةِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: لَا يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا فِي بَقِيَّةِ السُّوَرِ. وَيُسِرُّ بِهَا فِي السُّورَةِ كَمَا يُسِرُّ بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَالْخِلَافُ هَاهُنَا كَالْخِلَافِ ثَمَّ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ
[فَصْلٌ يَقْرَأُ الْفَاتِحَة بِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ]
(682) فَصْلٌ: وَيَقْرَأُ بِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ. وَأَثْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. وَلَمْ يَكْرَهْ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَشْرِ، إلَّا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ، وَالتَّكَلُّفِ، وَزِيَادَةِ الْمَدِّ.
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ وَالتَّثْقِيلِ، نَحْوُ الْجُمُعَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّسْهِيلُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ قِرَاءَتَهُمَا فِي الصَّلَاةِ جَائِزَةٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إمَامٌ كَانَ يُصَلِّي بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا يَبْلُغُ بِهِ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ حَمْزَةَ.
(683) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ؛
(1/354)
لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتْ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، فَإِنْ قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَاتَّصَلَ إسْنَادُهَا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَتِهِمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَهِشَامَ ابْنَ حَكِيمٍ حِينَ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ» . وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَبْلَ جَمْعِ عُثْمَانَ الْمُصْحَفَ يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَاتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَيُصَلُّونَ بِهَا، لَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَلَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِمْ بِهِ
[فَصْلٌ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فِي الصَّلَاة]
(684) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَمَا تَيَسَّرَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُخْرُجْ، فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ، أَنَّهُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الزِّيَادَةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، آخِرَ آلِ عِمْرَانَ وَآخِرَ الْفُرْقَانِ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْفَرِيضَةِ مِنْ السُّورَةِ بَعْضَهَا، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَقْرَأُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى.
وَقَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يُكْرَهُ ذَلِكَ. نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِآخِرِ سُورَةٍ. وَقَالَ: سُورَةٌ أَعْجَبُ إلَيَّ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَكَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَرَابَةٌ يُصَلِّي بِهِ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ بِآخِرِ السُّورَةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ. فَقُلْت لَهُ: هَذَا يُصَلِّي بِك مُنْذُ كَمْ، قَالَ: دَعْنَا مِنْهُ، يَجِيءُ بِآخِرِ السُّوَرِ. وَكَرِهَهُ وَلَعَلَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَحَبَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ. وَكَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِرَاءَةُ السُّورَةِ أَوْ بَعْضِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا، فَأَعْجَبَهُ مُوَافَقَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمْ يُعْجِبْهُ مُخَالَفَتُهُ.
وَنُقِلَ عَنْهُ، فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ مِنْ أَوْسَطِ السُّوَرِ وَآخِرِهَا، فَقَالَ: أَمَّا آخِرُ السُّوَرِ فَأَرْجُو، وَأَمَّا أَوْسَطُهَا فَلَا وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، إلَى مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ. وَلَمْ يُنْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَوْسَطِهَا. وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَقْرَأُ آخِرَ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ فِي هَذَا رُخْصَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِ؟
(1/355)
وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى ذِكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ، وَقَرَأَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَرَّقَهَا مَرَّتَيْنِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ
[فَصْلٌ الْجَمْعِ بَيْن السُّوَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ]
(685) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ السُّوَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ عَرَفْت النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ. فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُثْمَانُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي أَكْثَرَ صَلَاتِهِ، وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ كَذَلِكَ. وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِذَلِكَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مُطْلَقٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَرْضَ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِالسُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ. وَإِنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةً، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» .
(686) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ بَعْدَ السُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِي النَّظْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا؟ قَالَ: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ سُورَةً، ثُمَّ يَقْرَأَ بَعْدَهَا أُخْرَى، هِيَ قَبْلَهَا فِي النَّظْمِ. فَإِنْ قَرَأَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ أَحْمَدُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَا بَأْسَ بِهِ، أَلَيْسَ يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ عَلَى هَذَا؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ إلَى أَسْفَلَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ قَرَأَ بِالْكَهْفِ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا، اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
[فَصْلٌ يَثْبُتُ قَائِمًا وَيَسْكُتُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ نَفَسُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.]
(687) فَصْلٌ: إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ، قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَثْبُتُ قَائِمًا، وَيَسْكُتُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ نَفَسُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ،
(1/356)
وَلَا يَصِلُ قِرَاءَتَهُ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ؛ سَكْتَةٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ» . وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ سَمُرَةَ. كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.
[مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَة كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ]
(688) مَسْأَلَةٌ: (فَإِذَا فَرَغَ كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ) أَمَّا الرُّكُوعُ فَوَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ، وَأَنْ يُكَبِّرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، مِنْهُمْ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جَابِرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَوَامُّ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَمْصَارِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ. وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْهَا لَعَلَّمَهُ إيَّاهُ. وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا. وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَيَقُولُ، أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَلِأَنَّهُ شُرُوعٌ فِي رُكْنٍ، فَشُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ، كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ، فَشُرِعَ فِيهِ ذِكْرٌ يَعْلَمُ بِهِ الْمَأْمُومُ انْتِقَالَهُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ، كَحَالَةِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ.
(689) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِهِ لِلْإِمَامِ لِيَسْمَعَ الْمَأْمُومُ، فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ جَمِيعًا، كَقَوْلِنَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْجَمِيعَ، اُسْتُحِبَّ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ رَفْعُ صَوْتِهِ؛ لِيُسْمِعَهُمْ، كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ فِي مَرَضِهِ قَاعِدًا، وَأَبُو بَكْرٍ إلَى جَنْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِأَبِي بَكْرٍ.
(1/357)
[مَسْأَلَة رَفَعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة]
(690) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَرَفْعِهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي يَرْفَعُهُمَا إلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، كَفِعْلِهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ رَفْعِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ انْتِهَائِهِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٌ، وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَالِمٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي الِافْتِتَاحِ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَلَا أُصَلِّي لَكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَصَلَّى، فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَسَنٌ رَوَى يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لَا يَعُودُ» . قَالُوا وَالْعَمَلُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ فَقِيهًا، مُلَازِمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَالِمًا بِأَحْوَالِهِ، وَبَاطِنِ أَمْرِهِ وَظَاهِرِهِ، فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَحَالِهِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لِرَجُلٍ رَوَى حَدِيثَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: لَعَلَّ وَائِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ. فَتَرَى أَنْ نَتْرُكَ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي لَعَلَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةٌ، وَنَأْخُذَ بِرِوَايَةِ هَذَا. أَوْ كَمَا قَالَ. وَلَنَا، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ - وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ -: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَقَدْ رَوَاهُ، فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَصَدَّقُوهُ، وَقَالُوا: هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَاهُ سِوَى هَذَيْنِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَأَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو أُسَيْدَ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو مُوسَى، وَجَابِرُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، فَصَارَ كَالْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ شَكٌّ مَعَ كَثْرَةِ رُوَاتِهِ، وَصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: رَأَيْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا كَبَّرُوا، وَإِذَا رَكَعُوا، وَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهَا الْمَرَاوِحُ. قَالَ أَحْمَدُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّفْعِ فَقَالَ: إي لَعَمْرِي. وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا، كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى مَنْ لَا يَرْفَعُ، حَصَبَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ. فَأَمَّا حَدِيثَاهُمْ فَضَعِيفَانِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَمْ يَثْبُتْ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ لَا يَعُودُ. فَلَمَّا قَدِمْت الْكُوفَةَ
(1/358)
سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهِ، فَيَقُولُ: لَا يَعُودُ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، وَغَيْرُهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَخَلَّطَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا كَانَ التَّرْجِيحُ لِأَحَادِيثِنَا أَوْلَى لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَصَحُّ إسْنَادًا، وَأَعْدَلُ رُوَاةً، فَالْحَقُّ إلَى قَوْلِهِمْ أَقْرَبُ. الثَّانِي: أَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً، فَظَنُّ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهِمْ أَقْوَى، وَالْغَلَطِ مِنْهُمْ أَبْعَدُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مُثْبِتُونَ، وَالْمُثْبِتُ يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ شَاهَدَهُ وَرَوَاهُ. فَقَوْلُهُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِزِيَادَةِ عِلْمِهِ. وَالنَّافِي لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْجَارِحِ عَلَى الْمُعَدِّلِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ فَصَّلُوا فِي رِوَايَتِهِمْ، وَنَصُّوا عَلَى الرَّفْعِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا،، وَالْمُخَالِفُ لَهُمْ عَمَّمَ بِرِوَايَتِهِ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ وَغَيْرَهُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ أَحَادِيثِنَا لِنَصِّهَا وَخُصُوصِهَا، عَلَى أَحَادِيثِهِمْ الْعَامَّةِ، الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا كَمَا يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُحْتَمَلِ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَحَادِيثَنَا عَمِلَ بِهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّتِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إمَامٌ. قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُ، لَكِنْ بِحَيْثُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمِيرَيْ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَائِرِ مَنْ مَعَهُمْ، كَلًّا، وَلَا يُسَاوِي وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يُرَجَّحُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؟ مَعَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ تُرِكَ قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُطَبِّقُ فِي الرُّكُوعِ، يَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِفِعْلِهِ، وَأُخِذَ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَتُرِكَتْ قِرَاءَتُهُ وَأُخِذَ بِقِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ، فَتُرِكَ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رُوَاةِ أَحَادِيثِنَا وَأَدْنَى مِنْهُمْ فَضْلًا، فَهَاهُنَا أَوْلَى.
[مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِلرَّاكِعِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ]
(691) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ، وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ، وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَلَا يَخْفِضُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّاكِعِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى التَّطْبِيقِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُصَلِّي إحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إذَا رَكَعَ. وَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ: «رَكَعْت، فَجَعَلْت يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ. فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: إنَّا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَذَكَرَ أَبُو حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْتُهُ إذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ. يَعْنِي عَصَرَهُ حَتَّى يَعْتَدِلَ، وَلَا يَبْقَى مُحْدَوْدِبًا، وَفِي لَفْظٍ:
(1/359)
ثُمَّ اعْتَدَلَ فَلَمْ يُصَوِّبْ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ،: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لَهُ إذَا رَكَعَ أَنْ يُلْقِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيَعْتَمِدَ عَلَى ضَبْعَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ، وَلَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَلَا يُنَكِّسَهُ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكَعَ لَوْ كَانَ قَدَحُ مَاءٍ عَلَى ظَهْرِهِ مَا تَحَرَّكَ. وَذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ ظَهْرِهِ.
وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ الِانْحِنَاءُ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ مَسُّ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ إلَّا بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ وَضْعُهُمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ كَانَتَا عَلِيلَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُهُمَا، انْحَنَى وَلَمْ يَضَعْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا عَلِيلَةً وَضَعَ الْأُخْرَى.
(692) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ ذَكَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَرَ يَدَيْهِ فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
[فَصْلٌ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوع]
(693) فَصْلٌ: وَيَجِبُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِي رُكُوعِهِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَمْكُثَ إذَا بَلَغَ حَدَّ الرُّكُوعِ قَلِيلًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الطُّمَأْنِينَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَلَمْ يَذْكُرْ الطُّمَأْنِينَةَ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ. قِيلَ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا وَقَالَ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِيهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الرُّكُوعَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، فَالْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فَصْلٌ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَوَّلًا أَوْ هَلْ أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ أَوْ لَا]
(694) فَصْلٌ: وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَوْ لَا، أَوْ هَلْ أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ أَوْ لَا؟ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَرْكَعَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَسْوَاسًا، فَلَا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ.
(1/360)
[مَسْأَلَة التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ]
(695) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا. وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَالِ، وَإِنْ قَالَ مَرَّةً أَجْزَأَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ شَيْءٌ مَحْدُودٌ، وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. وَذَلِكَ أَدْنَاهُ.» أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
وَرَوَى حُذَيْفَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا رَكَعَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَقُلْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجْزِئُ تَسْبِيحَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ أَدْنَاهُ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَذَلِكَ أَدْنَاهُ ".
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْبِيحُ التَّامُّ سَبْعٌ، وَالْوَسَطُ خَمْسٌ، وَأَدْنَاهُ ثَلَاثٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْكَامِلُ فِي التَّسْبِيحِ، إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا، مَا لَا يُخْرِجُهُ إلَى السَّهْوِ، وَفِي حَقِّ الْإِمَامِ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ؛ لِأَنَّ أَنَسًا رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي كَصَلَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَحَزَرُوا ذَلِكَ بِعَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْكَمَالُ أَنْ يُسَبِّحَ مِثْلَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ قَالَ: «قَدْ رَمَقْتُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.
(696) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ. فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، أَعْجَبُ إلَيْك، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؟ فَقَالَ: قَدْ جَاءَ هَذَا وَجَاءَ هَذَا، وَمَا أَدْفَعُ مِنْهُ شَيْئًا.
وَقَالَ أَيْضًا: إنْ قَالَ: " وَبِحَمْدِهِ ". فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ رَوَى فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) ، وَفِي سُجُودِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ) ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ: وَبِحَمْدِهِ.
وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَالَ
(1/361)
أَبُو دَاوُد: نَخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ مَحْفُوظَةً. وَقِيلَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. فَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ تَرَكَهَا لِضَعْفِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عِنْدَهُ.
[فَصْلٌ تَكْبِيرَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَتَسْبِيحَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]
(697) فَصْلٌ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ تَكْبِيرَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَتَسْبِيحَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَوْلَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَقَوْلَ: رَبِّي اغْفِرْ لِي - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ -، وَالتَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَاجِبٌ. وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَدَاوُد. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَسْقُطْ بِالسَّهْوِ، كَالْأَرْكَانِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ - وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ -، وَفَعَلَهُ. وَقَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ عَمِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ إلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَرْكَعُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرُ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» .
وَهَذَا نَصٌّ فِي وُجُوبِ التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ. فَكَانَ فِيهَا ذِكْرٌ وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ تَعْلِيمُهُ ذَلِكَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ كُلَّ الْوَاجِبَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ التَّشَهُّدَ وَلَا السَّلَامَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيمِهِ مَا رَآهُ أَسَاءَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْوُجُوبِ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ، بِدَلِيلِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ.
[فَصْلٌ الزِّيَادَةُ فِي التَّسْبِيحِ فِي الصَّلَاة]
(698) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ إمَامًا، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّطْوِيلُ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِي التَّسْبِيحِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّطْوِيلُ، وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثٍ؛ كَيْ لَا يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّطْوِيلِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ يَسِيرَةً، وَرَضُوا بِذَلِكَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّسْبِيحُ الْكَامِلُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَحْدَهُ
[فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]
(699) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا الرَّبَّ فِيهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي
(1/362)
الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَوْلُهُ (قَمِنٌ) مَعْنَاهُ: جَدِيرٌ وَحَرِيٌّ.
[فَصْلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ]
(700) فَصْلٌ: وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْقِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، أَوْ انْتَهَى إلَى قَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ الْإِمَامُ عَنْ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ.
فَهَذَا يُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ، وَيَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يَرْكَعُ وَالْإِمَامُ يَرْفَعُ لَمْ يَجْزِهِ؛ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَةِ مُنْتَصِبًا، فَإِنْ أَتَى بِهَا بَعْدَ أَنْ انْتَهَى فِي الِانْحِنَاءِ إلَى قَدْرِ الرُّكُوعِ أَوْ بِبَعْضِهَا، لَمْ يَجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، إلَّا فِي النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُهُ الْقِيَامُ، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةٍ أُخْرَى لِلرُّكُوعِ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ إلَيْهِ، فَالْأُولَى رُكْنٌ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَسْقُطُ هَاهُنَا، وَيُجْزِئُهُ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ. نَقَلَهَا أَبُو دَاوُد وَصَالِحٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْهِ تَكْبِيرَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمَا مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَتْ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ مِنْ جِنْسٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَأَحَدُهُمَا رُكْنٌ، فَسَقَطَ بِهِ الْآخَرُ، كَمَا لَوْ طَافَ الْحَاجُّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ نَوَى بِالتَّكْبِيرِ الْإِحْرَامَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِحْرَامَ وَالرُّكُوعَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فِي النِّيَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَطَسَ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، يَنْوِيهَا. وَقَالَ: وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ نُصُوصَ أَحْمَدَ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ، فِيمَنْ جَاءَ بِهِ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ: كَبَّرَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً.
قِيلَ لَهُ: يَنْوِي بِهَا الِافْتِتَاحَ؟ قَالَ: نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ؟ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الرُّكُوعِ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِافْتِتَاحِ، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ الرُّكُوعِ فِي فَسَادِهَا؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْزِئُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ إذَا نَوَاهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ نِيَّةِ الْوَاجِبَيْنِ، كَمَا لَوْ نَوَى بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَهُ وَلِلْوَدَاعِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ نَصِّ الْإِمَامِ وَمُخَالَفَتُهُ بِقِيَاسِ مَا نَصَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا لَا يُتْرَكُ نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِقِيَاسٍ، وَالْمُسْتَحَبُّ تَكْبِيرَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ يُكَبِّرُ مَرَّتَيْنِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: إنْ كَبَّرَ تَكْبِيرَتَيْنِ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ.
(1/363)
[فَصْلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكْنٍ غَيْرِ الرُّكُوعِ]
(701) فَصْلٌ:: وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكْنٍ غَيْرِ الرُّكُوعِ، لَمْ يُكَبِّرْ إلَّا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَيَنْحَطُّ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ، وَقَدْ فَاتَهُ مَحَلُّ التَّكْبِيرِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي السُّجُودِ أَوْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ كَبَّرَ فِي حَالِ قِيَامِهِ مَعَ الْإِمَامِ إلَى الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُومٌ لَهُ، فَيُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ، كَمَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِهَا، وَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ إلَى الْقَضَاءِ بِتَكْبِيرٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقُومُ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ، وَلَا إمَامَ لَهُ يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَامَ فِي الصَّلَاةِ إلَى رُكْنٍ مُعْتَدٍّ لَهُ بِهِ، فَيُكَبِّرُ، كَالْقَائِمِ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَكَمَا لَوْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ، فَإِنَّ مَا كَبَّرَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الرَّكْعَةِ، إذْ لَيْسَ فِي أَوَّلِ الرَّكْعَةِ سُجُودٌ وَلَا تَشَهُّدٌ، وَإِنَّمَا ابْتِدَاءُ الرَّكْعَةِ قِيَامُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ فِيهِ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ]
(702) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالِ مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا جِئْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ، وَلَا تُجْزِئُهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ
[مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ]
(703) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، كَرَفْعِهِ الْأَوَّلِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ وَاعْتَدَلَ قَائِمًا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عُضْوٍ إلَى مَوْضِعِهِ، وَيَطْمَئِنَّ، يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ قَائِلًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ رَفْعِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَفِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا بَعْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يَسْتَتِمَّ قَائِمًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ» . وَلِأَنَّهُ رَفْعٌ، فَلَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ، كَرَفْعِ الرُّكُوعِ وَالْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: يَبْتَدِئُهُ حِينَ يَبْتَدِئُ رَفْعَ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ قَالَ «فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . وَرَفَعَ يَدَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا
(1/364)
افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ، لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ، وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ أَخَذَ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ.
كَقَوْلِهِ: (إذَا كَبَّرَ) أَيْ أَخَذَ فِي التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ حِينَ الِانْتِقَالِ، فَشُرِعَ الرَّفْعُ مِنْهُ كَحَالِ الرُّكُوعِ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ رَفْعِ الْمَأْمُومِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِرَفْعِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ الْمَأْمُومَ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِ ذِكْرٌ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ، وَالرَّفْعُ إنَّمَا جُعِلَ هَيْئَةً لِلذِّكْرِ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَنْتَصِبُ قَائِمًا وَيَعْتَدِلُ، قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى قَائِمًا، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إلَى مَكَانِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(704) فَصْلٌ: وَهَذَا الرَّفْعُ وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَتَضَمَّنَ ذِكْرًا وَاجِبًا، كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ. قُلْنَا قَدْ أَمَرَ بِالْقِيَامِ، وَهَذَا قِيَامٌ، ثُمَّ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِبُ امْتِثَالُهُ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ " لَا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا " مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُمَا رُكْنَانِ، وَلَا ذِكْرَ فِيهِمَا وَاجِبٌ، عَلَى قَوْلِهِمْ.
[فَصْلٌ يُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيعِ]
(705) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيعِ لِلْإِمَامِ، كَمَا يُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ، فَيُشْرَعُ الْجَهْرُ بِهِ لِلْإِمَامِ، كَالتَّكْبِيرِ.
[مَسْأَلَة قَوْلُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فِي حَقَّ كُلِّ مُصَلٍّ]
(706) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُشْرَعَ قَوْلُ (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو بُرْدَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَقُولُهُ الْمُنْفَرِدُ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ
(1/365)
إِسْحَاقَ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَإِذَا قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) . قَالَ: (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هَذَا لِلْإِمَامِ جَمْعُهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ سِوَى الْإِمَامِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فِي حَقِّهِ. فَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ كَقَوْلِ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) . فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُشْرَعُ قَوْلُ هَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَلَا الْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَيُشْرَعُ فِيهِ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَمَا ذَكَرُوهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ ذِكْرَهُ فِي حَدِيثِهِمْ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَحَادِيثِنَا، وَرَاوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِهِ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى، فَحَدِيثُهُمْ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ نَتْرُكُ بِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَقُولُ كَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبُرَيْدَةَ: يَا بُرَيْدَةَ: إذَا رَفَعْتَ رَأْسَك فِي الرُّكُوعِ، فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ الرِّوَايَةُ بَيْنَ كَوْنِهِ إمَامًا وَمُنْفَرِدًا، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.
(707) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ". بِوَاوٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُثْبِتُ أَمْرَ الْوَاوِ، وَقَالَ: رَوَى فِيهِ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ، إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهَا الْوَاوَ، وَمَنْ قَالَ: " رَبَّنَا " قَالَ: " وَلَكَ الْحَمْدُ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ "،
(1/366)
كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ» ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ؛ فَاسْتُحِبَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ يُعْطَفُ عَلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ السُّنَّةَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْوَاوِ أَكْثَرُ حُرُوفًا، وَيَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ مُقَدَّرًا وَمُظْهَرًا، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: رَبَّنَا حَمِدْنَاكَ وَلَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ لِلْعَطْفِ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا تَعْطِفُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ مُقَدَّرًا، كَقَوْلِهِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ "، أَيْ وَبِحَمْدِك سُبْحَانَك، وَكَيْفَمَا قَالَ جَازَ، وَكَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ كُلًّا قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ.
[مَسْأَلَة لَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ قَوْلُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ]
(708) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا، لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) لَا أَعْلَمُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ قَوْلُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: يَقُولُ ذَلِكَ كَالْإِمَامِ؛ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ لِلْإِمَامِ فَيُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ " عَقِيبَ قَوْلِهِ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " بِغَيْرِ فَصْلٍ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَعَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، لِأَنَّ هَذَا صَحِيحٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْمُومِ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي إسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ عَامٌّ، وَتَقْدِيمُ الصَّحِيحِ الْخَاصِّ أَوْلَى، فَأَمَّا قَوْلُ: " مِلْءَ السَّمَاءِ " وَمَا بَعْدَهُ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ عَلَى أَمْرِهِمْ بِقَوْلِ: " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِمْ سِوَاهُ. وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، قَالَ: وَلَيْسَ يَسْقُطُ خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْهُ غَيْرُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ". وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سَائِرَ الْأَذْكَارِ.
[فَصْلٌ مَوْضِعُ قَوْلِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ]
فَصْلٌ: وَمَوْضِعُ قَوْلِ: " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ " فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، بَعْدَ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رَفْعِهِ يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ قَوْلُ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَفِي حَالِ رَفْعِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . يَقْتَضِي تَعْقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ قَوْلَ
(1/367)
الْمَأْمُومِ، وَالْمَأْمُومُ يَأْخُذُ فِي الرَّفْعِ عَقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ إذَا زَادَ عَلَى الذَّكَر الْمَأْثُور بَعْد الرَّفْع مِنْ الرُّكُوع]
(710) فَصْلٌ: إذَا زَادَ عَلَى قَوْلِ: " مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ "، فَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَالَ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَادَ: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطِيلُ الْقِيَامَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» ، وَقَالَ أَنَسٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَيْسَتْ حَالَةَ سُكُوتٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَانَ يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، لِكَوْنِهَا لَا تَسْتَغْرِقُ هَذَا الْقِيَامَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَفَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فَيَقُولَ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ؟ فَقَالَ: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ هَذَا، إلَى " مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ اتِّبَاعًا لِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
[فَصْلٌ إذَا قَالَ مَكَانَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ]
(711) فَصْلٌ: إذَا قَالَ مَكَانَ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ": " مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ ". لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَلَنَا أَنَّهُ عَكَسَ اللَّفْظَ الْمَشْرُوعَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي التَّكْبِيرِ: الْأَكْبَرُ اللَّهُ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَتَى بِالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. صِيغَةُ خَبَرٍ، تَصْلُحُ دُعَاءً، وَاللَّفْظَ الْآخَرَ صِيغَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
[فَصْلٌ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَعَطَسَ فَقَالَ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ]
(712) فَصْلٌ: إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، فَعَطَسَ، فَقَالَ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. يَنْوِي بِذَلِكَ لِمَا عَطَسَ وَلِلرَّفْعِ، فَرُوِيَ
(1/368)
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْهُ لِلرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا ذِكْرٌ لَا تُعْتَبَرُ لَهُ النِّيَّةُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَأَجْزَأْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ ذَاهِلًا وَقَلْبُهُ غَيْرُ حَاضِرٍ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْإِجْزَاءِ حَقِيقَةً.
[فَصْلٌ إذَا أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ فَاعْتَرَضَتْهُ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ الْقِيَامِ]
(713) فَصْلٌ: إذَا أَتَى بِقَدْرِ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرُّكُوعِ، فَاعْتَرَضَتْهُ عِلَّةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ الْقِيَامِ، سَقَطَ عَنْهُ الرَّفْعُ؛ لِتَعَذُّرِهِ، وَيَسْجُدُ عَنْ الرُّكُوعِ. فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ قَبْلَ سُجُودِهِ فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ لِإِمْكَانِهِ. فَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ سُجُودِهِ إلَى الْأَرْضِ، سَقَطَ الْقِيَامُ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ قَدْ صَحَّ وَأَجْزَأَ، فَسَقَطَ مَا قَبْلَهُ. فَإِنْ قَامَ مِنْ سُجُودِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ فَعَلَهُ جَهْلًا أَوْ نِسْيَانًا، لَمْ تَبْطُلْ، وَيَعُودُ إلَى جَلْسَةِ الْفَصْلِ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
[فَصْلٌ أَرَادَ الرُّكُوعَ فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ]
فَصْلٌ: فَإِنْ أَرَادَ الرُّكُوعَ، فَوَقَعَ إلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ فَيَرْكَعُ. وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ وَسَقَطَ قَبْلَ طُمَأْنِينَتِهِ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسْقِطُ فَرْضَهُ. وَإِنْ رَكَعَ وَاطْمَأَنَّ، ثُمَّ سَقَطَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مُنْتَصِبًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ قَدْ سَقَطَ، وَالِاعْتِدَالَ عَنْهُ قَدْ سَقَطَ بِقِيَامِهِ.
[فَصْلٌ إذَا رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَبِّحْ فِي رُكُوعِهِ]
(715) فَصْلٌ: إذَا رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَبِّحْ فِي رُكُوعِهِ، لَمْ يَعُدْ إلَى الرُّكُوعِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ سَقَطَ بِرَفْعِهِ، وَالرُّكُوعَ قَدْ وَقَعَ صَحِيحًا مُجْزِئًا، فَلَوْ عَادَ إلَيْهِ، زَادَ رُكُوعًا فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، كَمَا لَوْ زَادَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَهُ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ، كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ. وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. فَإِنْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ، لَمْ يُدْرِكْ الرَّكْعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رُكُوعَ الرَّكْعَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ رَاكِعًا.
[مَسْأَلَة يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ]
(716) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَمَّا السُّجُودُ فَوَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الرُّكُوعِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ رُكْنٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» . وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، وَيَنْحَطُّ إلَى السُّجُودِ مُكَبِّرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الْهَوِيَّ إلَى السُّجُودِ رُكْنٌ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرٍ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ انْحِطَاطِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ؛ وَالْكَلَامُ فِي التَّكْبِيرِ وَوُجُوبِهِ قَدْ مَضَى. وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يَدَيْهِ، فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَسُئِلَ عَنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقَالَ: فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي حُمَيْدٍ أَحَادِيثُ
(1/369)
صِحَاحٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ؛ وَلَمَّا وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَالْأَحَادِيثُ الْعَامَّةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمُفَصَّلَةِ، الَّتِي رَوَيْنَاهَا، فَلَا يَبْقَى فِيهَا اخْتِلَافٌ.
[مَسْأَلَة أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْد السُّجُود رُكْبَتَاهُ]
(717) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ، ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ) هَذَا الْمُسْتَحَبُّ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْبَعِيرِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَلَنَا، مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَأُمِرْنَا بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ مَا تَقَدَّمَهُ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْفَحْلِ» .
(718) فَصْلٌ: وَالسُّجُودُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَاجِبٌ، إلَّا الْأَنْفَ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهَذَا قَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: لَا يَجِبُ، السُّجُودُ عَلَى غَيْرِ الْجَبْهَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَجَدَ وَجْهِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ السَّاجِدَ عَلَى الْوَجْهِ يُسَمَّى سَاجِدًا، وَوَضْعُ غَيْرِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُسَمَّى بِهِ سَاجِدًا، فَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُسَمَّى بِهِ سَاجِدًا دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَوَجَبَ كَشْفُهَا كَالْجَبْهَةِ. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي الْمَرِيضِ يَرْفَعُ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أَخَلَّ بِالسُّجُودِ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ بِالسُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ الْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَالْجَبْهَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَفْعُهُ: «إنَّ الْيَدَيْنِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
وَسُجُودُ الْوَجْهِ لَا يَنْفِي سُجُودَ مَا عَدَاهُ، وَسُقُوطُ الْكَشْفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ السُّجُودِ، فَإِنَّا نَقُولُ كَذَلِكَ فِي الْجَبْهَةِ عَلَى رِوَايَةٍ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ،
(1/370)
وَهِيَ مَكْشُوفَةٌ عَادَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِالسُّجُودِ بِعُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، سَجَدَ عَلَى بَقِيَّتِهَا، وَقَرَّبَ الْعُضْوَ الْمَرِيضَ مِنْ الْأَرْضِ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ السُّجُودَ هُوَ الْهُبُوطُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَسْجُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَقَطَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ، لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَقَطَ عَنْهُ السُّجُودُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَرِيضِ يَرْفَعُ إلَى جَبْهَتِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ.
(719) فَصْلٌ: وَفِي الْأَنْفِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِشَارَتُهُ إلَى أَنْفِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُصِيبُ أَنْفُهُ مِنْ الْأَرْضِ مَا تُصِيبُ الْجَبْهَةُ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ مُتَّصِلًا، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَنْفَ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّ جَابِرًا قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعَرِ.» رَوَاهُ تَمَّامٌ، فِي " فَوَائِدِهِ "، وَغَيْرُهُ، وَإِذَا سَجَدَ بِأَعْلَى الْجَبْهَةِ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْأَنْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ، أَجْزَأَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ عُضْوٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ الْجَبْهَةَ أَشَارَ إلَى أَنْفِهِ، وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُهُ السُّجُودُ عَلَى بَعْضِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْإِجْمَاعَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ.
[فَصْلٌ إذَا سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ ذَيْلِهِ]
(720) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ قَالَ الْقَاضِي: إذَا سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ أَوْ كُمِّهِ
(1/371)
أَوْ ذَيْلِهِ، فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِي السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ. وَسَجَدَ شُرَيْحٌ عَلَى بُرْنُسِهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَجِبُ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ إلَّا الْجَبْهَةَ، فَإِنَّهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ؟ فَقَالَ: لَا يَسْجُدُ عَلَى كُورِهَا، وَلَكِنْ يَحْسُرُ الْعِمَامَةَ.
وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا. فَلَمْ يُشْكِنَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ سَجَدَ عَلَى مَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ، أَشْبَهَ مَا إذَا سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَنَا مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلْتَفٌّ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ، يَقِيهِ بَرْدَ الْحَصَى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَرَأَيْته وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى قَرْنِهِ إذَا سَجَدَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَرُوِيَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ. وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، فَجَازَ السُّجُودُ عَلَى حَائِلِهِ، كَالْقَدَمَيْنِ. فَأَمَّا حَدِيثُ خَبَّابٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ، أَوْ تَسْقِيفَ الْمَسْجِدِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُزِيلُ عَنْهُمْ ضَرَرَ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، أَمَّا الرُّخْصَةُ فِي السُّجُودِ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا طَلَبَهُ الْفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَائِمُ، وَلَا أَكْمَامٌ طِوَالٌ يَتَّقُونَ بِهَا الرَّمْضَاءَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الرُّخْصَةَ فِيهَا؟ وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ، فَلَمْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ؟ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي الْأَكُفِّ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَشْفُهُمَا.
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، إنَّهُ يَجِبُ. وَإِنْ سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ لَمْ يَصِحَّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، فَالسُّجُودُ يُؤَدِّي إلَى تَدَاخُلِ السُّجُودِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ ": لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا
(1/372)
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ الْجَبْهَةِ. هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ جَازَ، كَمَا لَوْ سَجَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ لَمْ يَجُزْ؛ لِئَلَّا يَتَدَاخَلَ مَحَلُّ السُّجُودِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَالْمُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَأْخُذَ بِالْعَزِيمَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي إلَّا فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ السُّجُودَ عَلَى كُورِ الْعِمَامَةِ، وَكَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ يَحْسُرُ عِمَامَتَهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: أَسْجُدُ عَلَى جَبِينِي أَحَبُّ إلَيَّ.
[مَسْأَلَة الِاعْتِدَالَ فِي السُّجُودِ]
(721) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ فِي سُجُودِهِ مُعْتَدِلًا) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَهْلُ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ الِاعْتِدَالَ فِي السُّجُودِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ» . وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَسْجُدْ أَحَدُكُمْ وَهُوَ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ كَالْكَلْبِ» .
وَهَذَا هُوَ الِافْتِرَاشُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يَضَعَ ذِرَاعَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ، وَقَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا.
[مَسْأَلَة يُجَافِي عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ]
(722) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُجَافِي عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنِهِ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ إذَا سَجَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فِي " رِسَالَتِهِ ": جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَجَدَ لَوْ مَرَّتْ بَهِيمَةٌ لَنَفِدَتْ» ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي رَفْعِ مَرْفِقَيْهِ وَعَضُدَيْهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ» ، وَلِأَبِي دَاوُد «. ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّعْبِيُّ: وَصَفَ لَنَا الْبَرَاءُ السُّجُودَ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ. وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ جَخَّ. وَالْجَخُّ: الْخَاوِي. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَيَثْنِيهِمَا إلَى الْقِبْلَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، لِيَكُونَ أَصَابِعُهُمَا إلَى الْقِبْلَةِ. وَيَسْجُدُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» . ذَكَرَ مِنْهَا أَطْرَافَ الْقَدَمَيْنِ، وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَجَدَ غَيْرَ
(1/373)
مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ» . مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَمِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: وَفَتَحَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ. وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: سَجَدَ، فَانْتَصَبَ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ.
(723) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، مَبْسُوطَتَيْنِ، مَضْمُومَتَيْ الْأَصَابِعِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ، وَيَضَعَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ قَالَ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَجَدَ وَيَدَاهُ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فَجَعَلَ كَفَّيْهِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ» ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَالْجَمِيعُ حَسَنٌ.
(724) فَصْلٌ: وَالْكَمَالُ فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يَضَعَ جَمِيعَ بَطْنِ كَفَّيْهِ، وَأَصَابِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَرْفَعَ مِرْفَقَيْهِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ بَاطِنِهِمَا، أَجْزَأَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ وَضَعَ مِنْ الْيَدَيْنِ بِقَدْرِ الْجَبْهَةِ، أَجْزَأَهُ.
وَإِنْ جَعَلَ ظُهُورَ كَفَّيْهِ إلَى الْأَرْضِ، وَسَجَدَ عَلَيْهِمَا، أَوْ سَجَدَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ، فَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَقَدْ سَجَدَ عَلَيْهِمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ عَلَى ظُهُورِ قَدَمَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ سَجَدَ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ إصَابَةِ بَعْضِ أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَيَكُونَ سَاجِدًا عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ الْأَحْسَنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ.
(725) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ قَالَ: وَإِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ.
(726) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ، فَمَاسَّتْ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. إلَّا أَنْ يَقْطَعَ نِيَّةَ السُّجُودِ، فَلَا يُجْزِئَهُ.
وَإِنْ انْقَلَبَ عَلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ انْقَلَبَ، فَمَاسَّتْ جَبْهَتُهُ الْأَرْضَ، لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ السُّجُودَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّهُ هَاهُنَا خَرَجَ عَنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِهَا، ثُمَّ كَانَ انْقِلَابُهُ الثَّانِي عَائِدًا إلَى الصَّلَاةِ، فَافْتَقَرَ إلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَسُنَّتِهَا، فَاكْتُفِيَ بِاسْتِدَامَةِ النِّيَّةِ.
[مَسْأَلَة يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فِي السُّجُود]
(727) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَإِنْ قَالَ مَرَّةً، أَجْزَأَهُ) الْحُكْمُ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ كَالْحُكْمِ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ، عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،
(1/374)
قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» . وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَقُلْ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ".
وَالْحُكْمُ فِي عَدَدِهِ وَتَطْوِيلِ السُّجُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرُّكُوعِ.
[فَصْلٌ الزِّيَادَةُ عَلَى سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فِي السُّجُود]
(728) فَصْلٌ: وَإِنْ زَادَ دُعَاءً مَأْثُورًا، أَوْ ذِكْرًا - مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ «. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا مُعَاذُ، إذَا وَضَعْتَ وَجْهَكَ سَاجِدًا فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى شُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» .
وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ - وَهُوَ سَاجِدٌ -: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجَلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ - فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ. وَقَدْ قَالَ: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى: " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " فِي الْفَرْضِ، وَفِي التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ؛ لِأَنَّهُ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سِوَى الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ، وَالْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفِ كَوْنَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا، وَلَوْ سَاغَ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَافِيًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ نَافِيًا لِلتَّسْبِيحِ؛ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ، وَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِيهِ.
[مَسْأَلَة إذَا قَضَى سُجُودَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا وَجَلَسَ وَاعْتَدَلَ]
(729) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا) يَعْنِي إذَا قَضَى سُجُودَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَجَلَسَ، وَاعْتَدَلَ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ. وَهَذَا الرَّفْعُ وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِثْلَ حَدِّ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَلْسَةُ فَصْلٍ بَيْنَ مُتَشَاكِلَيْنِ فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، كَجَلْسَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ.
(1/375)
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَلَّ بِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ - تَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- إذَا رَفَعَ مِنْ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ رَفْعٌ وَاجِبٌ، فَكَانَ الِاعْتِدَالُ عَنْهُ وَاجِبًا، كَالرَّفْعِ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُمْ أَنَّ جَلْسَةَ التَّشَهُّدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
[مَسْأَلَة يَجْلِسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُفْتَرِشًا]
(730) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ وَاعْتَدَلَ يَكُونُ جُلُوسُهُ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى) السُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مُفْتَرِشًا، وَهُوَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَيَبْسُطَهَا، وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُخْرِجَهَا مِنْ تَحْتِهِ، وَيَجْعَلَ بُطُونَ أَصَابِعِهِ عَلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا؛ لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهَا إلَى الْقِبْلَةَ.
قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اعْتَدَلَ حَتَّى رَجَعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ هَوَى سَاجِدًا. وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَوَتْهُ عَائِشَةُ: «وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَحَ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَيَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْنِيَهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: تَفَقَّدْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَيَسْتَقْبِلُ بِهَا الْقِبْلَةَ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنَّا نُعَلَّمُ إذَا جَلَسْنَا فِي الصَّلَاةِ، أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ مِنَّا قَدَمَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِ قَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَتْ إبْهَامُ أَحَدِنَا لَتَنْثَنِي فَيُدْخِلُ يَدَهُ حَتَّى يَعْدِلَهَا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَنْصِبَ الْقَدَمَ الْيُمْنَى، وَاسْتِقْبَالُهُ بِأَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا صَلَّى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى بِنَعْلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
[فَصْلٌ الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ]
(731) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ الْإِقْعَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ، وَيَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ. بِهَذَا وَصَفَهُ أَحْمَدُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْإِقْعَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ: جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ نَاصِبًا فَخِذَيْهِ، مِثْلُ إقْعَاءِ الْكَلْبِ وَالسَّبُعِ. وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْإِقْعَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَرِهَهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: لَا تَقْتَدُوا بِي، فَإِنِّي قَدْ كَبِرْتُ.
وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَعِيبُ مَنْ فَعَلَهُ. وَقَالَ: الْعَبَادِلَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْت الْعَبَادِلَةَ يَفْعَلُونَهُ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَمَسَّ أَلْيَتَاكَ قَدَمَيْك. وَقَالَ طَاوُسٌ: «قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ؟ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ. قَالَ: قُلْنَا إنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ، فَقَالَ: هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
(1/376)
وَلَنَا، مَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» . وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَك مِنْ السُّجُودِ فَلَا تُقْعِ كَمَا يُقْعِي الْكَلْبُ» . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي صِفَةِ جُلُوسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، وَيَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ، فَتَكُونُ أَوْلَى. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكِبَرِهِ، وَيَقُولُ: لَا تَقْتَدُوا بِي.
[مَسْأَلَة يَقُولَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي) الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي: يُكَرِّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ، وَالْكَمَالُ مِنْهُ مِثْلُ الْكَمَالِ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى حُذَيْفَةُ «، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي» . احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي؛ وَارْزُقْنِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَإِنْ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لَنَا. أَوْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، مَكَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. جَازَ
[مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ]
(733) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَخِرُّ سَاجِدًا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَجَدَ سَجْدَةً أُخْرَى عَلَى صِفَةِ الْأُولَى، سَوَاءً. وَهِيَ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
[فَصْلٌ شُرُوعُ الْمَأْمُومِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ الرَّفْعِ وَالْوَضْعِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ]
(734) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شُرُوعُ الْمَأْمُومِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ مِنْ الرَّفْعِ وَالْوَضْعِ، بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهُ، وَيُكْرَهُ فِعْلُهُ مَعَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ مَعَ أَفْعَالِ الْإِمَامِ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: «لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ» .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ: إذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا - إلَى قَوْلِهِ - فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَتِلْكَ بِتِلْكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ: «فَمَهْمَا
(1/377)
أَسْبِقْكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي بِهِ إذَا رَفَعْتُ» .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا. وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: " فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا "، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُمْ بَعْدَ رُكُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ بِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَيَكُونُ بَعْدَهُ، كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو. أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ. وَإِنْ وَافَقَ إمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَرَكَعَ وَسَجَدَ مَعَهُ، أَسَاءَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ.
(735) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ إمَامَهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ؛ وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَهُ، كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. فَإِنْ سَبَقَ إمَامَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ لِيَأْتِيَ بِذَلِكَ مُؤْتَمًّا بِإِمَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ رَأْسَهُ، وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ، فَلْيَسْجُدْ، وَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ بِرَأْسِهِ فَلْيَمْكُثْ قَدْرَ مَا رَفَعَ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى لَحِقَهُ الْإِمَامُ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبْقٌ يَسِيرٌ.
وَإِنْ سَبَقَ إمَامَهُ عَمْدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ: لَيْسَ لِمَنْ سَبَقَ الْإِمَامَ صَلَاةٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» . وَلَوْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ لَرَجَا لَهُ الثَّوَابَ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَنْ سَبَقَ الْإِمَامَ، فَقَالَ: لَا وَحْدَك صَلَّيْتَ، وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْتَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالرُّكْنِ مُؤْتَمًّا بِإِمَامِهِ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ السَّلَامِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الرُّكْنِ، فَصَحَّتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ ابْتِدَاءً.
[فَصْلٌ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ]
(736) فَصْلٌ: فَإِنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ إمَامِهِ. فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إنْ فَعَلَهُ عَمْدًا فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَكَعَ قَبْلَهُ حَسْبُ. وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. وَهَلْ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ
(1/378)
الرَّكْعَةِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. فَأَمَّا إنْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ فَرَكَعَ قَبْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ سَجَدَ عَمْدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَدِ بِإِمَامِهِ فِي أَكْثَرِ الرَّكْعَةِ. وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَلَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ لِعَدَمِ اقْتِدَائِهِ بِإِمَامِهِ فِيهَا.
[فَصْلٌ سَبَقَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ بِرّكُنَّ كَامِلٍ]
(737) فَصْلٌ: فَإِنْ سَبَقَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ بِرُكْنٍ كَامِلٍ؛ مِثْلُ أَنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قَبْلَ رُكُوعِ الْمَأْمُومِ، لِعُذْرٍ مِنْ نُعَاسٍ أَوْ زِحَامٍ أَوْ عَجَلَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا سُبِقَ بِهِ، وَيُدْرِكُ إمَامَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْإِمَامُ إذَا سَجَدَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ أَسْجُدَ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ سَجْدَةً وَاحِدَةً فَأَتَّبِعُهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَهَذَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ إمَامَهُ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ نَعَسَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ، وَأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ إمَامَهُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ رَكَعَ إمَامُهُ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ لَا يَشْعُرُ، وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: يَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ مَكَانَهَا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْإِمَامُ إذَا سَجَدَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ أَسْجُدَ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَاتَّبِعْهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَإِنْ كَانَ سَجْدَتَانِ فَلَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ بَطَلَتْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ.
وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ وَأَدْرَكَ إمَامَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا، فِيمَنْ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: يَنْتَظِرُ زَوَالَ الزِّحَامَ ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَتَّبِعُ الْإِمَامَ، مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا فَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ بِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ، حِينَ أَقَامَهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَسَجَدَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالصَّفُّ الثَّانِي قَائِمٌ، حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الثَّانِيَةِ، فَسَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تَبِعَهُ» . وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِلْعُذْرِ. فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَهُمْ الْمَسْبُوقُ فِي أَوَّلِ سُجُودِهِمْ سَجَدَ مَعَهُمْ، وَاعْتَدَّ بِهَا. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوعِ، وَأَدْرَكَهُمْ فِي السُّجُودِ حَتَّى يَسْتَوُوا قِيَامًا، فَلْيَتَّبِعْهُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَنَحْوِهِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ.
وَالْأَوْلَى فِي هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، مَا كَانَ عَلَى قِيَاسِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ؛ فَإِنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ بِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِائْتِمَامَ بِإِمَامِهِ عَمْدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الصَّلَاة]
(738) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَيَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ)
(1/379)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى سَجْدَتَهُ الثَّانِيَةَ نَهَضَ لَلْقِيَامَ مُكَبِّرًا، وَالْقِيَامُ رُكْنٌ، وَالتَّكْبِيرُ وَاجِبٌ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: هَلْ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ؟ فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا يَجْلِسُ.
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ: أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ. أَيْ لَا يَجْلِسُ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: تِلْكَ السُّنَّةُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجْلِسُ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْخَلَّالُ: رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى هَذَا.
يَعْنِي تَرَكَ قَوْلَهُ بِتَرْكِ الْجُلُوسِ؛ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ الْمُصَلِّي ضَعِيفًا جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى الْجُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا لَمْ يَجْلِسْ؛ لِغِنَاهُ عَنْهُ، وَحُمِلَ جُلُوسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوَسُّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِذَا قُلْنَا: يَجْلِسُ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا عَلَى صِفَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ، وَقَعَدَ، وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ نَهَضَ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَيْفِيَّةِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: رَوَى عَنْ أَحْمَدَ مَنْ لَا أُحْصِيهِ كَثْرَةً، أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَجْلِسُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، مُفْضِيًا بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ مُفْتَرِشًا لَمْ يَأْمَنْ السَّهْوَ، فَيَشُكَّ هَلْ جَلَسَ عَنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ؟ وَبِهَذَا يَأْمَنُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُلْصِقُ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ فِي جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، بَلْ يَجْلِسُ مُعَلَّقًا عَنْ الْأَرْضِ. وَعَلَى كِلْتَيْ الرِّوَايَتَيْنِ يَنْهَضُ إلَى الْقِيَامِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ، أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ أَوْ لَا يَجْلِسُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ فِي النُّهُوضِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، إنَّهُ لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا، ثُمَّ اعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي. وَلَنَا مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ
(1/380)
قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْأَثْرَمُ، وَفِي لَفْظٍ: «وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ» .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، إذَا نَهَضَ الرَّجُلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: بِذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الصَّلَاةِ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: يَرْوِيهِ خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ. قَالَ أَحْمَدُ: تَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ فَكَانَ أَفْضَلَ، كَالتَّجَافِي وَالِافْتِرَاشِ. وَحَدِيثُ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَشَقَّةِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ وَكِبَرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي قَدْ بَدَّنْتُ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ»
[مَسْأَلَة إذَا شَقَّ عَلَيْهِ النُّهُوضِ مِنْ السُّجُود]
(739) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَعْتَمِدَ بِالْأَرْضِ) يَعْنِي إذَا شَقَّ عَلَيْهِ النُّهُوضُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَلَا بَأْسَ بِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا. وَمَشَقَّةُ ذَلِكَ تَكُونُ لِكِبَرٍ، أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سِمَنٍ، وَنَحْوِهِ.
[فَصْلٌ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ رَأْسه مِنْ السُّجُودِ وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ اعْتِدَالِهِ]
(740) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ تَكْبِيرِهِ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السُّجُودِ، وَانْتِهَاؤُهُ عِنْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، لِيَكُونَ مُسْتَوْعِبًا بِالتَّكْبِيرِ جَمِيعَ الرُّكْنِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا بَقِيَّةُ التَّكْبِيرَاتِ، إلَّا مَنْ جَلَسَ جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي تَكْبِيرُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ جُلُوسِهِ، ثُمَّ يَنْهَضُ لِلْقِيَامِ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَنْهَضُ مُكَبِّرًا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ فِي رُكْنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَمْعِهِمَا فِيهِ.
[مَسْأَلَة يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى]
(741) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَفْعَلُ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى) يَعْنِي يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى مَا وُصِفَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ تَنْقُصُ النِّيَّةَ وَتَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِفْتَاحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرَادُ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْكُتْ» .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا، فِيمَا عَدَا الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ.
(1/381)
فَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَعَنْهُ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْقِرَاءَةُ فِيهَا كُلِّهَا كَالْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِذَلِكَ اعْتَبَرْنَا التَّرْتِيبَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ.
فَإِذَا أَتَى بِالِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِهَا كَفَى ذَلِكَ كَالِاسْتِفْتَاحِ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فِي الْأُولَى لِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَتَى بِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. نُصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا فَاتَ فِي أَوَّلِهَا فَاتَ مَحِلُّهُ. وَالِاسْتِعَاذَةُ لِلْقِرَاءَةِ، وَهُوَ يَسْتَفْتِحُهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ، لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَسْتَعِيذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَكْرِيرَ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ تَكْرِيرِ الْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْقِرَاءَةِ، فَتُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي صَلَاتَيْنِ.
[فَصْلٌ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى]
فَصْلٌ: وَالْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَخْتَصُّ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى. لَمْ يَسْتَعِذْ؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرُ صَلَاتِهِ فَإِذَا قَامَ لِلْقَضَاءِ اسْتَفْتَحَ وَاسْتَعَاذَ. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَعِيذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. اسْتَعَاذَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةِ كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْمَأْمُومُ الْقِرَاءَةَ اسْتَعَاذَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]
[مَسْأَلَة إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ]
(743) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ يَكُونُ كَجُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَهَذَا الْجُلُوسُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ مَشْرُوعَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ نَقَلَهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَالْأُمَّةُ تَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا أَوْ رُبَاعِيَّةً، فَهُمَا وَاجِبَانِ فِيهَا، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَالْأُخْرَى: لَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِالسَّهْوِ، فَأَشْبَهَا السُّنَنَ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَرَ بِهِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: " قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ". وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ حِينَ نَسِيَهُ.
وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.» وَإِنَّمَا سَقَطَ بِالسَّهْوِ إلَى بَدَلٍ، فَأَشْبَهَ جُبْرَانَاتِ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، بِخِلَافِ السُّنَنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ التَّشَهُّدَيْنِ، فَكَانَ وَاجِبًا كَالْآخَرِ. وَصِفَةُ الْجُلُوسِ لِهَذَا التَّشَهُّدِ كَصِفَةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ يَكُونُ مُفْتَرِشًا كَمَا وَصَفْنَا. وَسَوَاءٌ كَانَ آخِرَ صَلَاتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ مُتَوَرِّكًا
(1/382)
عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا مُتَوَرِّكًا» .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ آخِرَ صَلَاتِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ - يَعْنِي لِلتَّشَهُّدِ - فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ.» وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: قُلْت: لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «فَلَمَّا جَلَسَ - يَعْنِي لِلتَّشَهُّدِ - افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى» . وَهَذَانِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ حَسَنَانِ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهِمَا، وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِصِحَّتِهِمَا وَكَثْرَةِ رُوَاتِهِمَا، فَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ ذَكَرَ حَدِيثَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَدَّقُوهُ، وَهُمَا مُتَأَخِّرَانِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، فَتَكُونُ زِيَادَةً، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ وَاجِبٌ.
[مَسْأَلَة الْمُصَلِّي إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ]
(744) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَبْسُطُ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَيَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيُحَلِّقُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْوُسْطَى؛ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي إذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَضْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِ الْيُسْرَى، مَبْسُوطَةً مَضْمُومَةَ الْأَصَابِعِ، مُسْتَقْبِلًا بِجَمِيعِ أَطْرَافِ أَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ، وَيَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، يَقْبِضُ مِنْهَا الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ، وَيُحَلِّقُ الْإِبْهَامَ مَعَ الْوُسْطَى، وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَهِيَ الْإِصْبَعُ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ مَرْفِقَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ عَقَدَ مِنْ أَصَابِعِهِ الْخِنْصَرَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا، وَحَلَّقَ حَلْقَةً بِإِصْبَعِهِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامِ، وَرَفَعَ السَّبَّابَةَ مُشِيرًا بِهَا» .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يَجْمَعُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَيَعْقِدُ الْإِبْهَامَ كَعَقْدِ الْخَمْسِينَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّهُ يَبْسُطُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ؛ لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَشَهُّدِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ وَلَا يُحَرِّكُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَعَدَ - يَدْعُو - وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ.»
[مَسْأَلَة أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ]
(745) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَشَهَّدُ، فَيَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ
(1/383)
وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَهُوَ التَّشَهُّدُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» ) هَذَا التَّشَهُّدُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ "، وَسَائِرُهُ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَفْضَلُ التَّشَهُّدِ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَيَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ".
وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَفِيهِ: فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ. وَفِيهِ: فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو مُوسَى، وَعَائِشَةُ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِهِ وَتَقْدِيمُهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي إجْزَائِهِ فِي الصَّلَاةِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنِ، وَالْأَحْسَنُ تَشَهُّدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي عَلَّمَهُ أَصْحَابَهُ وَأَخَذُوا بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَانْفَرَدَ بِهِ، وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " كَرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ثُمَّ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ إسْنَادًا، وَأَكْثَرُ رُوَاةً، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى، ثُمَّ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهُمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/384)
عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا نَتَحَفَّظُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ» الْوَاوَ وَالْأَلِفَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
(746) فَصْلٌ: وَبِأَيِّ تَشَهُّدٍ تَشَهَّدَ مِمَّا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: تَشَهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَإِنْ تَشَهَّدَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَهُ الصَّحَابَةَ مُخْتَلِفًا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمِيعِ، كَالْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمُصْحَفُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَسْقَطَ لَفْظَةً هِيَ سَاقِطَةٌ فِي بَعْضِ التَّشَهُّدَاتِ الْمَرْوِيَّةِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: إذَا قَالَ: " وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ". وَلَمْ يَذْكُرْ " وَأَشْهَدُ " أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: لَوْ تَرَكَ وَاوًا أَوْ حَرْفًا أَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِقَوْلِ الْأَسْوَدِ: فَكُنَّا نَتَحَفَّظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا نَتَحَفَّظُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ الْأَسْوَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهِ وَحُرُوفِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَعَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يُرَخِّصُ فِي إبْدَالِ لَفَظَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالتَّشَهُّدُ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ إنْسَانًا كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 44] . فَيَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَأَمَّا مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ التَّشَهُّدَاتُ كُلُّهَا فَيَتَعَيَّنُ الْإِتْيَانُ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
(747) فَصْلٌ: وَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا التَّشَهُّدِ، وَلَا تَطْوِيلُهُ، وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي فِي أَوَّلِهِ، وَقَالَ زِدْت فِيهِ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَبَاحَ الدُّعَاءَ فِيهِ بِمَا بَدَا لَهُ.
وَقَالَ أَيُّوبُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَهِشَامٌ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي التَّسْمِيَةِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ قَالَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: بِسْمِ اللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَذَكَرَ التَّشَهُّدَ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَسَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ ". فَانْتَهَرَهُ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْلِسُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالرَّضْفُ: هِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ. يَعْنِي لِمَا يُخَفِّفُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَوِّلْهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّشَهُّدِ شَيْئًا.
(1/385)
وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا إذَا جَلَسْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ حَتَّى يَقُومَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي، فَإِذَا جَلَسَ فِي الْجَلْسَةِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ أَخَفَّ الْجُلُوسَ، ثُمَّ يَقُومُ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبِهِ. وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ التَّشَهُّدَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ.
(748) فَصْلٌ: وَإِذَا أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَجَلَسَ الْإِمَامُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، لَمْ يَزِدْ الْمَأْمُومُ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، بَلْ يُكَرِّرُهُ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، قَالَ: يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ، وَلَا يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَدْعُو بِشَيْءٍ مِمَّا يُدْعَى بِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّشَهُّدِ الَّذِي يُسَلِّمُ عَقِيبَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ.
[مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّد الْأَوَّل نَهَضَ قَائِمًا]
(749) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا كَنُهُوضِهِ مِنْ السُّجُودِ) يَعْنِي إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ نَهَضَ قَائِمًا عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي نُهُوضِهِ مِنْ السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَلَا يُقَدِّمُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عِنْدَ النُّهُوضِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكَرِهَهُ إِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ. وَرَخَّصَ فِيهِ مُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ لِلشَّيْخِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَرِهَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُمْكِنُ الشَّيْخَ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ، فَيَسْتَغْنِيَ عَنْهُ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، وَلَا وُجِدَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ.
(750) فَصْلٌ: ثُمَّ يُصَلِّي الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ كَالثَّانِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ: لَا يَقْرَأُ فِيهِمَا شَيْئًا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَجْهَرُ فِيهِمَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[مَسْأَلَة التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي]
(751) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ تَوَرَّكَ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ بَاطِنَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ) السُّنَّةُ عِنْدَ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا كَجُلُوسِهِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَأَبِي حُمَيْدٍ، فِي صِفَةِ جُلُوسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَنَا قَوْلُ أَبِي حُمَيْدٍ: حَتَّى «إذَا كَانَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَقْضِي فِيهَا صَلَاتَهُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ.» وَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَزِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَالْمَصِيرُ إلَيْهَا، وَاَلَّذِي
(1/386)
احْتَجُّوا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَأَبُو حُمَيْدٍ - رَاوِي حَدِيثِهِمْ - بَيَّنَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ افْتِرَاشَهُ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ تَوَرَّكَ فِي الثَّانِي، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ وَبَيَانِهِ.
فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَرُّكِ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ بَاطِنَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى تَحْتَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: «جَلَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَلْيَتَيْهِ، وَجَعَلَ بَطْنَ قَدَمِهِ عِنْدَ مَأْبِضِ الْيُمْنَى، وَنَصَبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى» .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ فِي صِفَتِهِ، قَالَ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَوَرَّكُ فِي الرَّابِعَةِ فِي التَّشَهُّدِ، فَيُدْخِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، يُخْرِجُهَا مِنْ تَحْتِ سَاقِهِ الْأَيْمَنِ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَهُ، وَيُنَحِّي عَجُزَهُ كُلَّهُ، وَيَسْتَقْبِلُ بِأَصَابِعِهِ الْيُمْنَى الْقِبْلَةَ، وَرُكْبَتُهُ الْيُمْنَى عَلَى الْأَرْضِ مُلْزَقَةٌ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّ أَبَا حُمَيْدٍ، قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إلَى الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَيُّهُمَا فُعِلَ فَحَسَنٌ.
[فَصْلٌ التَّشَهُّدُ وَالْجُلُوسُ]
(752) فَصْلٌ: وَهَذَا التَّشَهُّدُ وَالْجُلُوسُ لَهُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ عُمَرُ، وَابْنُهُ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَمْ يُوجِبْهُ مَالِكٌ، وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ الْجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ. وَتَعَلُّقًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْأَعْرَابِيَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.» وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَفَعَلَهُ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ، قَبْلَ أَنْ يُفْرَضُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ. وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. إلَى آخِرِهِ»
وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ فُرِضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَ تَعْلِيمَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ.
[مَسْأَلَة التَّوَرُّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلَّمُ فِيهِ]
(753) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُتَوَرَّكُ إلَّا فِي صَلَاةٍ فِيهَا تَشَهُّدَانِ فِي الْأَخِيرِ مِنْهُمَا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ جَمِيعَ جَلَسَاتِ الصَّلَاةِ لَا يُتَوَرَّكُ فِيهَا إلَّا فِي تَشَهُّدٍ ثَانٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلِّمُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَانِيًا، كَتَشَهُّدِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ تَشَهُّدٌ يُسَنُّ تَطْوِيلُهُ، فَسُنَّ فِيهِ التَّوَرُّكُ كَالثَّانِي. وَلَنَا، حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ
(1/387)
رِجْلَهُ الْيُمْنَى. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَلِّمُ فِيهِ وَمَا لَا يُسَلِّمُ.» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَانِ يَقْضِيَانِ عَلَى كُلِّ تَشَهُّدٍ بِالِافْتِرَاشِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَشَهُّدٍ ثَانٍ، فَلَا يَتَوَرَّكُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الثَّانِيَ، إنَّمَا تَوَرَّكَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَشَهُّدٌ وَاحِدٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى إنْ صَحَّ فَيُضَمُّ إلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَنُعَلِّلُ الْحُكْمَ بِهِمَا، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّلَ بِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَدِّيهِ لِتَعَدِّي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(754) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا تَقُولُ فِي تَشَهُّدِ سُجُودِ السَّهْوِ؟ فَقَالَ " يُتَوَرَّكُ فِيهِ أَيْضًا، هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ. يَعْنِي إذَا كَانَ مِنْ السُّجُودِ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَشَهُّدَهَا يُتَوَرَّكُ فِيهِ، وَهَذَا تَابِعٌ لَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُتَوَرَّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ لِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَشَهُّدٌ ثَانٍ فِي الصَّلَاةِ، وَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشَهُّدِ صُلْبِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، فَيَجْلِسُ الْإِمَامُ فِي الرَّابِعَةِ، أَيَتَوَرَّكُ مَعَهُ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ فِي هَذِهِ الْجَلْسَةِ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ تَوَرَّكَ.
قُلْت: فَإِذَا قَامَ يَقْضِي، يَجْلِسُ فِي الرَّابِعَةِ هُوَ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَرَّكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، يَتَوَرَّكُ، هَذَا لِأَنَّهَا هِيَ الرَّابِعَةُ لَهُ، نَعَمْ يَتَوَرَّكُ، وَيُطِيلُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ تَوَرَّكَ. عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ مَسْنُونٌ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَا يَتَوَرَّكَ إلَّا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ رِوَايَتَيْنِ.
[مَسْأَلَة الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَشَهَّدُ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَتَشَهَّدُ بِالتَّشَهُّدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. إنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ: مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ هَذَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هَذَا شُذُوذٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ قَوْلُ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا الشَّافِعِيَّ. وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: لَا يُجْزِئُهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ عَامِدًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِأَنَّنِي لَا أَجِدُ الدَّلَالَةَ مَوْجُودَةً فِي إيجَابِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ
(1/388)
ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ قَالَ: إذَا قُلْت هَذَا - أَوْ قَضَيْت هَذَا - فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك» . وَفِي لَفْظٍ: " وَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ عَقِيبَ التَّشَهُّدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّشَهُّدِ قَوْلًا، فَنَقَلَهُمْ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّشَهُّدِ وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوبُهُ؛ فَإِنَّ أَبَا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَتَهَيَّبُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَبَيَّنْتُ، فَإِذَا الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إلَى هَذَا؛ لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عُلِّمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَجِلَ هَذَا. ثُمَّ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ» . وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ شُرِطَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ، فَشُرِطَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَذَانِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(756) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: " كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ "، وَ " كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ " وَفِي رِوَايَةٍ: " كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ " وَ " كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ فِي الْعَالَمِينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ. لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ
(1/389)
بْنِ عُجْرَةَ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِيهَا. وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ أَتَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، جَازَ، كَقَوْلِنَا فِي التَّشَهُّدِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا أَخَلَّ بِلَفْظٍ سَاقِطٍ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَغْفَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبُ؛ لِقَوْلِهِ فِي خَبَرِ أَبِي زُرْعَةَ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ، مَنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى آلِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِي خَبَرِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِهَذَا حِينَ سَأَلُوهُ تَعْلِيمَهُمْ، وَلَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِهِ.
(757) فَصْلٌ: آلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] . يَعْنِي أَتْبَاعَهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: كُلُّ تَقِيٍّ» . أَخْرَجَهُ تَمَّامٌ فِي " فَوَائِدِهِ ". وَقِيلَ آلُهُ: أَهْلُهُ، الْهَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْهَمْزَةِ، كَمَا يُقَالُ: أَرَقْتُ الْمَاءَ وَهَرَقْتُهُ. فَلَوْ قَالَ: وَعَلَى أَهْلِ مُحَمَّدٍ، مَكَانَ آلِ مُحَمَّدٍ، أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَالَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ لَوْ صُغِّرَ، قِيلَ: أُهَيْلٌ: قَالَ. وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا أَهْلُ دِينِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَأَبُو حَفْصٍ: لَا يُجْزِئُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْأَثَرِ، وَتَغْيِيرِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْأَهْلَ إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَرَابَةِ، وَالْآلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَتْبَاعِ فِي الدِّينِ.
(758) فَصْلٌ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ التَّحِيَّاتِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: التَّحِيَّةُ الْعَظَمَةُ، وَالصَّلَوَاتُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسِ، وَالطَّيِّبَاتُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: التَّحِيَّاتُ الْمُلْكُ. وَأَنْشَدَ:
وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلَّا التَّحِيَّةَ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ. وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَا الْبَيْتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّحِيَّاتُ السَّلَامُ، وَالصَّلَوَاتُ الرَّحْمَةُ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ الْكَلَامِ.
(1/390)
(759) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ إخْفَاءُ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهِ، إذْ لَوْ جَهَرَ بِهِ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَتْ الْقِرَاءَةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مِنْ السُّنَّةِ إخْفَاءُ التَّشَهُّدِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ غَيْرُ الْقِرَاءَةِ لَا يُنْتَقَلُ بِهِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ، فَاسْتُحِبَّ إخْفَاؤُهُ، كَالتَّسْبِيحِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
فَصْلٌ (760) : وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ التَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي التَّكْبِيرِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ تَشَهَّدَ بِلِسَانِهِ، كَقَوْلِنَا فِي التَّكْبِيرِ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَشَهَّدَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَخْرَسِ. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَلَزِمَهُ كَالْقِرَاءَةِ.
فَإِنْ صَلَّى قَبْلَ تَعَلُّمِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِهِ، أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْهُ، وَأَجْزَأَهُ؛ لِلضَّرُورَةِ. وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ، سَقَطَ كُلُّهُ.
(761) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدِ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَأَتَى بِهِ مُنَكَّسًا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ، وَلَا إخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبِ فِيهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَقَدْ حَصَلَ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ رَتَّبَهُ. وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ فِي ذِكْرٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُرَتَّبًا، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْأَذَانِ.
[مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَوَّذ مِنْ أَرْبَعٍ بَعْد التَّشَهُّد]
(762) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ أَرْبَعٍ. فَيَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ أَرْبَعٍ» وَذَكَرَهُ.
[مَسْأَلَة الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ]
(763) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ دَعَا فِي تَشَهُّدِهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ فَلَا بَأْسَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ جَائِزٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ هَؤُلَاءِ
(1/391)
يَقُولُونَ: لَا يَدْعُو فِي الْمَكْتُوبَةِ إلَّا بِمَا فِي الْقُرْآنِ. فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُغْضَبِ، وَقَالَ: مَنْ يَقِفُ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ مَا قَالُوا، قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِمَا شَاءَ؟ قَالَ: بِمَا شَاءَ لَا أَدْرِي، وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا يَعْرِفُ وَبِمَا جَاءَ. فَقُلْت: عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، يَقُولُ: إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، وَذَكَرَ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ لِيَقُلْ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَك عِبَادُك الصَّالِحُونَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عِبَادُك الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِك وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ". رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَعَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَبْصَارِنَا وَأَسْمَاعِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِك، مُثْنِينَ عَلَيْك بِهَا، قَابِلِيهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ: مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُمْ التَّشَهُّدَ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ» . وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ. يَعْنِي أَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَالسَّلَفِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَدْعُو بِمَا جَاءَ وَبِمَا يَعْرِفُ.
وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ فِي سُجُودِهِ:
(1/392)
اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِك فَصُنْ وَجْهِي عَنْ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِك. وَقَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُهُ فِي سُجُودِهِ. وَقَالَ: سَمِعْت الثَّوْرِيَّ يَقُولُهُ فِي سُجُودِهِ.
(764) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ مَلَاذُّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا، بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ وَأَمَانِيَّهُمْ، مِثْلُ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي جَارِيَةً حَسْنَاءَ، وَدَارًا قَوْرَاءَ، وَطَعَامًا طَيِّبًا، وَبُسْتَانًا أَنِيقًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي التَّشَهُّدِ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ أَوْ مَا أَحَبَّ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ أَرْبَعٍ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ» . وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ يُخَاطَبُ بِمِثْلِهِ، أَشْبَهَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلَامِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَمَا أَشْبَهَهُ.
(765) فَصْلٌ: فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا لَيْسَ بِمَأْثُورٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ مَلَاذُّ الدُّنْيَا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا جَاءَ وَبِمَا يَعْرِفُ. وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ حَوَائِجِهِ؛ مِنْ حَوَائِجِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ "، وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ ". وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ ". وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. فَقَالَ: احْمَدِي اللَّهَ عَشْرًا، وَسَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِي مَا شِئْتِ. يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ
،
(1/393)
وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَدْعُونَ فِي صَلَاتِهِمْ بِمَا لَمْ يَتَعَلَّمُوهُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ: " مَا تَقُولُ فِي صَلَاتِك؟ " قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ. فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَّمَهُ إيَّاهُ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ» . لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ مَا يَدْعُونَ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ كُلَّ الدُّعَاءِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ بِالدَّلِيلِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ إذَا قَرَأَتْ: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ» . قَالَتْ: مُنَّ عَلَيْنَا، وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ.
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النِّفَاقِ. وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ الدُّعَاءَ الْمَأْثُورَ.
(766) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ لَإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فِي صَلَاتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِابْنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَا أَدْعُو لِقَوْمٍ مُنْذُ سِنِينَ فِي صَلَاتِي؛ أَبُوك أَحَدُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ «؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» . وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ". وَالْأُخْرَى لَا يَجُوزُ.
وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ؛ لِشَبَهِهِ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِمُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ.
(767) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي نَافِلَةً إذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَهَا، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ، وَلَا بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا فَتَعَوَّذَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ. وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَرِيضَةٍ، مَعَ كَثْرَةِ مَنْ وَصَفَ قِرَاءَتَهُ فِيهَا.
(1/394)
(768) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُرَتِّلَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّشَهُّدَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ يَثْقُلُ لِسَانُهُ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، قَدْرَ مَا يَرَى أَنَّ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالثَّقِيلَ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ. فَإِنْ خَالَفَ وَأَتَى بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ.
وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّطْوِيلُ كَثِيرًا، فَيَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ» . وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلَهُ الْإِطَالَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى حَالٍ يَخَافُ السَّهْوَ، فَتُكْرَهَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً أَوْجَزَ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أُبَادِرُ الْوَسْوَاسَ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا عَرَضَ فِي الصَّلَاةِ عَارِضٌ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، يَقْتَضِي خُرُوجَهُ، أَنْ يُخَفِّفَ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[مَسْأَلَة إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا]
(769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَيَّنُ السَّلَامُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، بَلْ إذَا خَرَجَ بِمَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ، إلَّا أَنَّ السَّلَامَ مَسْنُونٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ وَجَبَ لَأَمَرَهُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيُدِيمُ ذَلِكَ وَلَا يُخِلُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَلِأَنَّ الْحَدَثَ يُنَافِي الصَّلَاةَ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى.
[فَصْلٌ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ]
(770) فَصْلٌ: وَيُشْرَعُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ،
(1/395)
وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ: كَانَ مَسْجِدُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَكَانَ مَسْجِدُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ فِيهِ تَسْلِيمَةً. وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ.» وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» ، رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى قَدْ خَرَجَ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُشْرَعْ مَا بَعْدَهَا كَالثَّانِيَةِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ.» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَرْوِيهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يَرْوِي مَنَاكِيرَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَسَأَلَ الْأَثْرَمُ، أَحْمَدَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ هِشَامٌ: كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا. قِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ عَنْ هِشَامٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَسْلِيمًا. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَسْلِيمَةً. قَالَ: هَذَا أَجْوَدُ. فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ يُسْمِعُهُمْ التَّسْلِيمَةَ الْوَاحِدَةَ، وَمَنْ رَوَى: تَسْلِيمًا. فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ. عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَنَا تَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى أَحَادِيثِهِمْ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
وَيَجُوزُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِيُبَيِّنَ الْجَائِزَ وَالْمَسْنُونَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَإِحْلَالٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَحَلُّلَانِ كَالْحَجِّ.
[فَصْلٌ الْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ]
(771) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ صَلَاةَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، جَائِزَةٌ، وَقَالَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الثَّانِيَةَ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ: هِيَ أَصَحُّ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهَا وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا تَحَلُّلَانِ، فَكَانَا وَاجِبَيْنِ، كَتَحَلُّلَيْ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْأُولَى. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلَيْسَ نَصُّ أَحْمَدَ بِصَرِيحٍ بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ، إنَّمَا قَالَ: التَّسْلِيمَتَانِ أَصَحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ أَذْهَبُ إلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
(1/396)
وَالِاسْتِحْبَابِ، دُونَ الْإِيجَابِ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: أَعْجَبُ إلَيَّ التَّسْلِيمَتَانِ. وَلِأَنَّ عَائِشَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ. قَدْ رَوَوْا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوعُ وَالْمَسْنُونُ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ وَاحِدَةً، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْمَلُ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَا يُمْنَعُ حَمْلُ فِعْلِهِ لِهَذِهِ التَّسْلِيمَةِ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْوَاحِدَةَ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فِيهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ، فَتُجْزِئُهُ فِيهَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَاحِدَةٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالنَّافِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ» فَإِنَّهُ يَعْنِي فِي إصَابَةِ السُّنَّةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: أَنْ «يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.» وَكُلُّ هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَالنَّافِلَةِ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ، فَلَا خَوْفَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا - رِوَايَةً وَاحِدَةً - نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسَلِّمُوا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إلَّا تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فِي الصَّلَاة]
(772) فَصْلٌ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ كَذَلِكَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ. وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ، وَطُرُقَهُ أَصَحُّ فَإِنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَلَمْ يَزِدْ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. وَالتَّسْلِيمُ يَحْصُلُ بِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «كُنْت أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ
(1/397)
خَدِّهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ نَحْوَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.» رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ تَكْرِيرٌ لِلثَّنَاءِ، فَلَمْ يَجِبْ. كَقَوْلِهِ: وَبَرَكَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَلِأَنَّهُ سَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ، فَلَمْ يَجُزْ بِدُونِهَا، كَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ.
[فَصْلٌ نَكَّسَ السَّلَام فِي الصَّلَاة فَقَالَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ]
(773) فَصْلٌ: فَإِنْ نَكَّسَ السَّلَامَ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ. لَمْ يَجْزِهِ. قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ، وَلَيْسَ هُوَ بِقُرْآنٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ النَّظْمُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ مُرَتَّبًا، وَأَمَرَ بِهِ كَذَلِكَ. وَقَالَ لِأَبِي تَمِيمَةَ: «لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَامُ. فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُؤْتَى بِهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ مُنَكَّسًا، كَالتَّكْبِيرِ.
[فَصْلٌ قَالَ فِي الصَّلَاة سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مُنْكَرًا مُنَوَّنًا]
(774) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: مُنَكِّرًا مُنَوِّنًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّنْوِينَ قَامَ مَقَامَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ السَّلَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] . وَقَوْلِهِ: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] . وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر: 73] . وَلِأَنَّا أَجَزْنَا التَّشَهُّدَ بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَفِيهِمَا: سَلَامٌ عَلَيْك. بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَالتَّسْلِيمَتَانِ وَاحِدٌ. وَالْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ صِيغَةَ السَّلَامِ الْوَارِدِ، وَيُخِلُّ بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَيَتَغَيَّرُ الْمَعْنَى، فَلَمْ يُجْزِئْ، كَمَا لَوْ أَثْبَتَ اللَّامَ فِي التَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنَوِّنَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَا يُنَوِّنَهُ؛ لِأَنَّ حَذْفَ التَّنْوِينِ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ عَنْ يَمِينِهِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَعَنْ يَسَارِهِ فِي الثَّانِيَةِ]
(775) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ عَنْ يَمِينِهِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَعَنْ يَسَارِهِ فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ» . وَيَكُونُ الْتِفَاتُهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْفَى؛ لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ
(1/398)
الْأَيْمَنِ وَالْأَيْسَرِ.» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ قَائِلًا: وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ.» مَعْنَاهُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ، وَ " رَحْمَةُ اللَّهِ " يَكُونُ فِي حَالِ الْتِفَاتِهِ
[فَصْلٌ الْجَهْر بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى فِي الصَّلَاة]
فَصْلٌ: وَقَدْ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ أَخْفَى مِنْ الْأُولَى، يَعْنِي بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ. قَالَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ: سُئِلَ أَحْمَدُ: أَيُّ التَّسْلِيمَتَيْنِ أَرْفَعُ؟ قَالَ: الْأُولَى. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى أَرْفَعُ مِنْ الْأُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ وَحَمَلَ أَحْمَدُ حَدِيثَ عَائِشَةَ. أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِوَاحِدَةٍ، فَتُسْمَعُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْجَهْرَ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِالِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْجَهْرِ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، فَلَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِغَيْرِهَا. وَكَانَ ابْنُ حَامِدٍ يُخْفِي الْأُولَى وَيَجْهَرُ بِالثَّانِيَةِ، لِئَلَّا يَسْبِقَهُ الْمَأْمُومُونَ بِالسَّلَامِ
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ حَذْف السَّلَامِ]
(777) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ حَذْفُ السَّلَامِ، وَهُوَ أَلَّا يُمَدَّ بِطُولِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد،، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ» . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَمُدَّهُ مَدًّا. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهَذَا الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، وَالسَّلَامُ جَزْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ إخْفَاءُ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ إسْقَاطُ بَعْضِ الشَّيْءِ، وَالْجَزْمَ قَطْعٌ لَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعْنَاهُمَا، وَالْإِخْفَاءُ بِخِلَافِهِ، وَيَخْتَصُّ بِبَعْضِ السَّلَامِ دُونَ جُمْلَتِهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْأَثْرَمِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يُطَوِّلَ بِهِ صَوْتَهُ. وَطَوَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ.
[فَصْلٌ يَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ]
(778) فَصْلٌ: وَيَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نُطْقٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الصَّلَاةِ؛ فَاعْتُبِرَتْ لَهُ النِّيَّةُ، كَالتَّكْبِيرِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ شَمِلَتْ جَمِيعَ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَلِأَنَّهُ
(1/399)
لَوْ وَجَبَتْ النِّيَّةُ فِي السَّلَامِ لَوَجَبَ تَعْيِينُهَا، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ النِّيَّةُ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَقِيَاسُ الطَّرَفِ الْأَخِيرِ عَلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ اُعْتُبِرَتْ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، لِيَنْسَحِبَ حُكْمُهَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْأَخِيرِ، وَلِذَلِكَ فُرِّقَ الطَّرَفَانِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ مَعًا الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ نَوَى مَعَ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ إنْ كَانَ إمَامًا، أَوْ عَلَى الْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ إنْ كَانَ مَأْمُومًا، فَلَا بَأْسَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْوِي بِسَلَامِهِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَنَظَرَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، إذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا يُومِئْ بِيَدِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد. قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَنْوِيَ بِسَلَامِهِ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُصَلِّينً وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُسْلِمِ - مِنْ أَصْحَابِنَا -: يَنْوِي بِالْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَيَنْوِي بِالثَّانِيَةِ السَّلَامَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَالْمَأْمُومِينَ، إنْ كَانَ إمَامًا، وَالرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ وَالْحَفَظَةِ، إنْ كَانَ مَأْمُومًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ نَوَى فِي السَّلَامِ الرَّدَّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ مَعَ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى السَّلَامَ عَلَى آدَمِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي مَعَهُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: يُسَلِّمُ لِلصَّلَاةِ، وَيَنْوِي فِي سَلَامِهِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ. رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ: إذَا نَوَى بِتَسْلِيمِهِ الرَّدَّ عَلَى الْحَفَظَةِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ: أَيْضًا: يَنْوِي بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ نَوَى الْمَلَكَيْنِ، وَمَنْ خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَالْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ نَخْتَارُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءُ عَقِيبَ صَلَاتِهِ]
(779) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ عَقِيبَ صَلَاتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ، مِثْلُ مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ثَوْبَانُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا،
(1/400)
وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ، يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ؟ فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكُّمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا. فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. فَرَجَعْتُ إلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ» قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: يَقُولُ هَكَذَا وَلَا يَقْطَعُهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. فَإِنْ عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ.» وَعَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . مِنْ الصِّحَاحِ
، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ «رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ
[فَصْلٌ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَام رِجَالٌ وَنِسَاءٌ]
ٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَثْبُتَ هُوَ وَالرِّجَالُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُنَّ قَدْ انْصَرَفْنَ، وَيَقُمْنَ هُنَّ عَقِيبَ تَسْلِيمِهِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «إنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ إذَا سَلَّمَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ صَلَّى مِنْ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ الرِّجَالُ.» قَالَ الزُّهْرِيُّ فَنَرَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لِكَيْ يَبْعُدَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ النِّسَاءِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلِأَنَّ
(1/401)
الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا يُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نِسَاءٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إطَالَةُ الْجُلُوسِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: «رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْ قِبْلَتِهِ، لَا يَلْبَثُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الشَّكِّ، هَلْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ لَا؟ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ.» وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَجْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ انْحَرَفَ» .
وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ صَلَّى بِقَوْمٍ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَأَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ عَلَى رَضْفَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حِينَ يُسَلِّمُ وَلَا يَنْحَرِفُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَاحْصِبُوهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا سَلَّمَ يَلْتَفِتُ وَيَتَرَبَّعُ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَأَيْتُهُ إذَا كَانَ إمَامًا فَسَلَّمَ انْحَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَتَرَبَّعُ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ.» وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . وَعَنْ سَعْدٍ، قَالَ: «كُنْت أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعُ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ لَا يَجْلِسُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَّا قَدْرَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ» . يَعْنِي فِي مَقْعَدِهِ حَتَّى يَنْحَرِفَ، قَالَ: لَا أَدْرِي. وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ لَا يَثِبُوا قَبْلَ الْإِمَامِ، لِئَلَّا يَذْكُرَ سَهْوًا فَيَسْجُدَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي إمَامُكُمْ، فَلَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَلَا تَسْبِقُونِي. فَإِنْ خَالَفَ الْإِمَامُ السُّنَّةَ فِي إطَالَةِ الْجُلُوسِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ انْحَرَفَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ الْمَأْمُومُ وَيَدَعَهُ.
[فَصْلٌ الِانْصِرَاف مِنْ الصَّلَاة]
(781) فَصْلٌ: وَيَنْصَرِفُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صَلَاتِهِ، يَرَى حَقًّا عَلَيْهِ أَلَّا يَنْصَرِفَ إلَّا عَنْ يَمِينِهِ، «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ
(1/402)
يَنْصَرِفُ عَنْ شِقَّيْهِ.» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.
[فَصْلٌ لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ]
(782) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: كَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَحْمَدُ وَمَنْ صَلَّى وَرَاءُ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ مَكَانَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ حَدِيثَ عَلِيٍّ بِإِسْنَادِهِ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالنَّاسِ.»
[مَسْأَلَة يَثْبُتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ مَا يَثْبُتُ لِلرِّجَالِ]
(783) مَسْأَلَةٌ: قَالَ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَجْلِسُ مُتَرَبِّعَةً أَوْ تَسْدُلُ رِجْلَيْهَا فَتَجْعَلُهُمَا فِي جَانِبِ يَمِينِهَا. الْأَصْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ مَا يَثْبُتُ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَشْمَلُهَا، غَيْرَ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ فِي تَرْكِ التَّجَافِي، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، فَاسْتُحِبَّ لَهَا جَمْعُ نَفْسِهَا، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ حَالَ التَّجَافِي. وَكَذَلِكَ فِي الِافْتِرَاشِ، قَالَ أَحْمَدُ: وَالسَّدْلُ أَعْجَبُ إلَيَّ. وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ.
قَالَ عَلِيٌّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ فَلْتَحْتَفِزْ وَلْتَضُمَّ فَخِذَيْهَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ.
[مَسْأَلَة الْمَأْمُومُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَلَا يَقْرَأُ بِالْحَمْدِ وَلَا بِغَيْرِهَا]
(784) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالْمَأْمُومُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَلَا يَقْرَأُ بِالْحَمْدِ، وَلَا بِغَيْرِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ ، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ أَنْ يَقْرَءُوا فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، وَلَا تُسْتَحَبُّ عِنْدَ إمَامِنَا، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ قَالَ: يَقْرَأُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ. وَنَحْوُهُ عَنْ اللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ عَوْنٍ وَمَكْحُولٍ،
(1/403)
وَأَبِي ثَوْرٍ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ» . قَالَ الرَّاوِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهَا رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْ الْمَأْمُومِ، كَسَائِرِ أَرْكَانِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، كَالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَقَالَ أَحْمَدُ: فَالنَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالزُّهْرِيُّ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] .
وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَلِأَنَّهُ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الصَّلَاةَ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْخِرَقِيِّ، رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً، فَلَمَّا قَضَاهَا قَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ إذَا أَسْرَرْتُ بِقِرَاءَتِي فَاقْرَءُوا، وَإِذَا جَهَرْتُ بِقِرَاءَتِي فَلَا يَقْرَأَنَّ مَعِي أَحَدٌ» .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ، قَالَ أَحْمَدُ، مَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ. وَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ، وَهَذَا مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ وَهَذَا الثَّوْرِيُّ، فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهَذَا الْأَوْزَاعِيُّ، فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَهَذَا اللَّيْثُ،
(1/404)
فِي أَهْلِ مِصْرَ، مَا قَالُوا لِرَجُلٍ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، وَقَرَأَ إمَامُهُ، وَلَمْ يَقْرَأْ هُوَ: صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَلِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ، كَقِرَاءَةِ السُّورَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَسْبُوقِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمَسْبُوقِ، كَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ، الصَّحِيحُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَأْمُومِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ رَوَاهُ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، إلَّا أَنْ تَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ» وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ جَابِرٍ. وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ. مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: اقْرَأْ بِهَا فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، أَوْ فِي حَالِ إسْرَارِهِ.
فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا» ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ الْآخَرُ، لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ. كَذَلِكَ قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ. وَهُوَ أَدْنَى حَالًا مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ. فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْمَسْبُوقِ.
[فَصْلٌ الْمَأْمُومَ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ]
(785) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنَّهُ - يَعْنِي الْمَأْمُومَ - قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثُمَّ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: يَقْطَعُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَيُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» .
[فَصْلٌ هَلْ يَسْتَفْتِح الْمَأْمُوم وَيَسْتَعِيذ فِي الصَّلَاة]
(786) فَصْلٌ: وَهَلْ يَسْتَفْتِحُ الْمَأْمُومُ وَيَسْتَعِيذُ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي حَقِّهِ قِرَاءَةٌ مَسْنُونَةٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُسِرُّ فِيهَا الْإِمَامُ، أَوْ الَّتِي فِيهَا سَكَتَاتٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ، اسْتَفْتَحَ الْمَأْمُومُ وَاسْتَعَاذَ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ أَصْلًا، فَلَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ، وَإِنْ سَكَتَ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلِافْتِتَاحِ فَحَسْبُ، اسْتَفْتَحَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: سُئِلَ سُفْيَانُ أَيَسْتَعِيذُ الْإِنْسَانُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: إنَّمَا يَسْتَعِيذُ مَنْ يَقْرَأُ.
قَالَ أَحْمَدُ: صَدَقَ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ فِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذُ فِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ قَامَ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ
[مَسْأَلَة الِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَات الْإِمَامِ]
(787) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: الِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَفِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ يَقْرَءُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ
(1/405)
فِيمَا أَسَرَّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إذَا جَهَرَ فَلَا تَقْرَأْ، وَإِذَا خَافَتَ فَاقْرَأْ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنْ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ، إذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ الْإِمَامُ بِحَالٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا أَسْرَرْت بِقِرَاءَتِي فَاقْرَءُوا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ عُمُومَ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي الْقِرَاءَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، فَخَصَّصْنَاهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِحَالِ الْجَهْرِ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ حَالَةِ الْجَهْرِ بِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي غَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي الْإِمَامِ يَقْرَأُ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ: يَقْرَأُ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ؟ فَقَالَ: هَذَا إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَمِعُ؟ . وَيُسَنُّ لَهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي مَوَاضِعِهَا.
[مَسْأَلَة مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ]
(788) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَأْمُومِ فِيمَا جَهَرَ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَا فِيمَا أَسَرَّ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَبِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُد: يَجِبُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ فِي حَالِ الْجَهْرِ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ. وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ، شُعْبَةَ، عَنْ مُوسَى، مُطَوَّلًا. وَأَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْبَطِّيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْبُحْتُرِيِّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ،
قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ رَجُلٌ يُومِئُ إلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَأَ، فَأَبَى إلَّا أَنْ يَقْرَأَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا لَكَ تَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْهَانِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا كَانَ لَك إمَامٌ يَقْرَأُ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَك قِرَاءَةٌ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ جَابِرٍ: " إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ ". وَرَوَى الْخَلَّالُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَكْفِيك قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، خَافَتَ أَوْ جَهَرَ» وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ كَانَتْ
(1/406)
وَاجِبَةً عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ كَبَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا "
[فَصْلٌ إذَا قَرَأَ بَعْض الْفَاتِحَةِ فِي سَكْتَةِ الْإِمَام ثُمَّ قَرَأَ الْإِمَامُ]
(789) فَصْلٌ: وَإِذَا قَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ، ثُمَّ قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصَتَ لَهُ، وَقَطَعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ قَرَأَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ بِسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ سُكُوتٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِقِرَاءَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْطَلَهَا " لَمْ يَسْتَفِدْ فَائِدَةً، فَإِنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا قَرَأَهُ فِي الْأُولَى
[فَصْلٌ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَام وَنَغْمَته]
(790) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لِبُعْدٍ، قَرَأَ. نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ الْأَثْرَمُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَيَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ: إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَنَغْمَتَهُ قَرَأَ، فَإِذَا سَمِعَ فَلْيُنْصِتْ قِيلَ لَهُ: فَالْأَطْرَشُ؟ قَالَ لَا أَدْرِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّهِ الْقِرَاءَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْصَاتُ كَالْبَعِيدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَقْرَأَ كَيْ لَا يُخَلِّطَ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ سَمِعَ هَمْهَمَتَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: لَا يَقْرَأُ وَنُقِلَ عَنْهُ، أَنَّهُ يَقْرَأُ إذَا سَمِعَ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ
[مَسْأَلَة الْإِسْرَار بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ]
(791) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَيَجْهَرُ بِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي الصُّبْحِ كُلِّهَا. الْجَهْرُ فِي مَوَاضِعِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي مَوَاضِعِ الْإِسْرَارِ، لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ، فَإِنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، تَرَكَ السُّنَّةَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَسِيَ فَجَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ، بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَإِنْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا يَمْضِي فِي قِرَاءَتِهِ. وَالثَّانِيَةُ يَعُودُ فِي قِرَاءَتِهِ. عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ إنَّمَا لَمْ يَعُدْ إذَا جَهَرَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِزِيَادَةٍ. وَإِنْ خَافَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِصِفَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي الْقِرَاءَةِ، يُمْكِنْهُ أَنْ يَأْتِي بِهَا وَفَوَّتَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ سَمَاعَ الْقِرَاءَةِ
[فَصْلٌ الْجَهْرُ مَشْرُوعٌ لِلْإِمَامِ وَلَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ]
(792) فَصْلٌ: وَهَذَا الْجَهْرُ مَشْرُوعٌ لِلْإِمَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ، بَلْ قَدْ مُنِعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَامَ لِيَقْضِيَهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ
(1/407)
مِنْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ، فَقَامَ لِيَقْضِيَ، أَيَجْهَرُ أَوْ يُخَافِتُ؟ قَالَ: إنْ شَاءَ جَهَرَ، وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ.
ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ، قُلْت لَهُ: وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، إنْ شَاءَ جَهَرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ، فِيمَنْ فَاتَتْهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْإِنْصَاتِ إلَى أَحَدٍ، فَأَشْبَهَ الْإِمَامَ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَأْمُومَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ إسْمَاعَ الْمَأْمُومِينَ، وَيَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْهُمْ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: إنَّمَا الْجَهْرُ لِلْجَمَاعَةِ، فَقَدْ تَوَسَّطَ الْمُنْفَرِدُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَفَارَقَهُمَا فِي كَوْنِهِ لَا يَقْصِدُ إسْمَاعَ غَيْرِهِ، وَلَا الْإِنْصَاتَ لَهُ، فَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
[فَصْلٌ إنَّ قَضَى الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ]
(793) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ قَضَى الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ نَهَارٍ أَسَرَّ، سَوَاءٌ قَضَاهَا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَإِنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ صَلَاةَ جَهْرٍ فَقَضَاهَا فِي لَيْلٍ، جَهَرَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ لَيْلٍ فَعَلَهَا لَيْلًا، فَيَجْهَرُ فِيهَا كَالْمُؤَدَّاةِ وَإِنْ قَضَاهَا نَهَارًا، فَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ فَيَحْتَمِلُ الْإِسْرَارَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ عَجْمَاءُ، وَهَذِهِ صَلَاةُ نَهَارٍ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالْبَعْرِ» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ.
وَهَذِهِ قَدْ صَارَتْ صَلَاةَ نَهَارٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْعُولَةٌ بِالنَّهَارِ، فَأَشْبَهَ الْأَدَاءَ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى وَفْقِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لِشَبَهِ الصَّلَاةِ الْمَقْضِيَّةِ بِالْحَالَيْنِ.
[مَسْأَلَة قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَسْنُونَةٌ]
(794) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بِنَحْوِ الثَّلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْمَغْرِبِ، بِسُوَرِ آخِرِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " وَمَا أَشْبَهَهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَسْنُونَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بَيَّنَ الْخِرَقِيِّ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ إلَى التَّخْفِيفِ» . وَقَالَ قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَرَوَى النَّسَائِيّ، أَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا الرُّومَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: «قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِ الْمُؤْمِنُونَ. فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ عِيسَى أَصَابَتْهُ شَرْقَةٌ، فَرَكَعَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: «كَأَنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ»
(1/408)
فَأَمَّا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَعْنِي الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اجْتَمَعَ ثَلَاثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَقِيسَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ فِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَقَاسُوا قِرَاءَتَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الظُّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَاسُوا ذَلِكَ فِي الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ النِّصْفِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ.» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «حَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، قَدْرَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ قَدْرَ (الم تَنْزِيلُ) ، وَقَالَ: وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ: وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَفِي حَدِيثٍ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَشَبَهِهِمَا» .
فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَعَنْ الْبَرَاءِ، «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي السَّفَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ وَيَكْفِيك أَنْ تَقْرَأَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] » . وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى، أَنْ اقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَأَقْرَأْ فِي الظُّهْرِ بِأَوَاسِطِ الْمُفَصَّلِ، وَاقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ
[مَسْأَلَة مَا قَرَأَ بِهِ بَعْدَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ]
(795) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَهْمَا قَرَأَ بِهِ بَعْدَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَالتَّقْدِيرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا وَاسِعٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ. وَثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ» ، وَقَرَأَ فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ فِيهَا بِالْأَعْرَافِ رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ «أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» .
(1/409)
وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُطِيلُ تَارَةً وَيُقَصِّرُ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ؛ مَخَافَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»
[فَصْلٌ إطَالَة الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ]
(796) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِيَلْحَقَهُ الْقَاصِدُ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ الْأُولَيَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ الثَّلَاثِينَ آيَةً» وَلِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مُتَسَاوِيَتَانِ فَكَذَلِكَ الْأُولَيَانِ. وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصُّبْحِ، خَاصَّةً، وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَ: " فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ وَقْعُ قَدَمٍ» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، ثُمَّ لَوْ قَدَّرْنَا التَّعَارُضَ وَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ، وَيَتَضَمَّنُ زِيَادَةً، وَهِيَ ضَبْطُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْإِمَامِ يُطَوِّلُ فِي الثَّانِيَةِ، يَعْنِي أَكْثَرَ مِنْ الْأُولَى: يُقَالُ لَهُ فِي هَذَا تَعَلُّمٌ. وَقَالَ أَيْضًا، فِي الْإِمَامِ يُقَصِّرُ فِي الْأُولَى وَيُطَوِّلُ فِي الْآخِرَةِ: لَا يَنْبَغِي هَذَا، يُقَالُ لَهُ، وَيُؤْمَرُ.
[فَصْلٌ قِرَاءَة السُّورَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاة]
(797) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: لَا بَأْسَ بِالسُّورَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالْأَعْرَافِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْسِمُ الْبَقَرَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ» ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَقَرَأَ بِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ مَا كِدْتَ تَفْرُغُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَالَ: لَوْ طَلَعَتْ لَأَلِفَتْنَا غَيْرَ غَافِلِينَ.
وَقَدْ «قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ عِيسَى أَخَذَتْهُ شَرْقَةٌ فَرَكَعَ»
(1/410)
وَلَا بَأْسَ أَيْضًا بِقِرَاءَةِ بَعْضِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبْزَى قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ، فَقَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ حَتَّى إذَا بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] وَقَعَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ فَرَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةٍ مِنْ السُّورَةِ فَهِيَ بَعْضُ السُّورَةِ
[فَصْلٌ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِسُورَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى]
(798) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِسُورَةٍ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ؟ وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ مَعَهَا {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] أَيْضًا.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَرُفِعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ» .
[فَصْلٌ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيف فِي الصَّلَاةِ الْيَوْمَ سُورَةً وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا وَنَحْوَهُ]
(799) فَصْلٌ: قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي الصَّلَاةِ الْيَوْمَ سُورَةً. وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا وَنَحْوَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ. إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فِي الْفَرَائِضِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ يَنْتَهِي جُزْؤُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ
[فَصْلٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ]
(800) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ لَهُ: فِي الْفَرِيضَةِ؟ قَالَ: لَا، لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَحْفَظْ، فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كُرِهَ أَيْضًا. قَالَ وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْإِمَامَةِ فِي الْمُصْحَفِ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ. نَقَلَهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، وَصَالِحٌ، وَابْنُ مَنْصُورٍ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ فِي الْجَوَازِ سَوَاءٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَافِظًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ طَوِيلٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُد، فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَؤُمَّ النَّاسَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنْ يَؤُمَّنَا إلَّا مُحْتَلِمٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَالرَّبِيعِ، كَرَاهَةُ ذَلِكَ وَعَنْ سَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ قَالَا: تُرَدِّدُ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ
(1/411)
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ يَؤُمُّهَا عَبْدٌ لَهَا فِي الْمُصْحَفِ وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْمَصَاحِفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَعَنْ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ فِي التَّطَوُّعِ وَلِأَنَّ مَا جَازَ قِرَاءَتُهُ ظَاهِرًا جَازَ نَظِيرُهُ كَالْحَافِظِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ طَوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مُتَّصِلٌ وَاخْتَصَّتْ الْكَرَاهَةُ بِمَنْ يَحْفَظُ لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَكُرِهَ فِي الْفَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا وَأُبِيحَتْ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْقِيَامِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[مَسْأَلَة زِيَادَة الْقِرَاءَة عَلَى أُمّ الْكِتَاب فِي الرَّكْعَتَيْنِ غَيَّرَ الْأُولَيَيْنِ]
(801) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَلَا يَزِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُسَنُّ زِيَادَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى أُمِّ الْكِتَابِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ غَيْرِ الْأُولَيَيْنِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ. الشَّالَنْجِيُّ عَنْهُمْ بِإِسْنَادِهِ إلَّا حَدِيثَ جَابِرٍ فَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَمَرَّةً قَالَ كَذَلِكَ وَمَرَّةً قَالَ: يَقْرَأُ بِسُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. لِمَا رَوَى الصُّنَابِحِيُّ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَغْرِبَ، فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إنَّ ثِيَابِي تَكَادُ تَمَسُّ ثِيَابَهُ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْآيَةِ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] وَلَنَا: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا» وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ: أَنْ اقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ.
وَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الدُّعَاءَ، لَا الْقِرَاءَةَ. لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ وَلَوْ قُدِّرَ
(1/412)
أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْقِرَاءَةَ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ تَرْكَ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ هَذَا. فَأَمَّا إنْ دَعَا إنْسَانٌ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ قَالَهُ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ قِرَاءَةً مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَوْ دُعَاءً؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُكْرَهْ، كَالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ
[مَسْأَلَة سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاة]
(802) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ وَعَلَيْهِ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ عَنْ النَّظَرِ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَاجِبٌ، وَشَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: سَتْرُهَا وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ السَّهْوِ. احْتَجُّوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا بِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا، كَاجْتِنَابِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْإِيمَانِ وَالطَّهَارَةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ السَّتْرُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، بِالْإِجْمَاعِ عَلَى إفْسَادِ مَنْ تَرَكَ ثَوْبَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِتَارِ بِهِ، وَصَلَّى عُرْيَانًا، قَالَ: وَهَذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْكَلَامُ فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ، وَالصَّالِحُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهَا مِنْ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا الْفَرْجَانِ. قَالَ مُهَنَّا، سَأَلْت أَحْمَدَ مَا الْعَوْرَةُ؟ قَالَ: الْفَرْجُ وَالدُّبُرُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَدَاوُد لِمَا رَوَى أَنَسٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ، حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ فَخِذِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَقَالَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ)
، وَرَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لِلْحَدَثِ، فَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، كَالسَّاقِ.
(1/413)
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ؛ عَنْ جَرْهَدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَدْ كَشَفَ عَنْ فَخِذِهِ، فَقَالَ: غَطِّ فَخِذَك؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ: لَا تَكْشِفْ فَخِذَك، وَلَا تَنْظُرْ فَخِذَ حَيٍّ، وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْفَلُ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ؛ فَإِنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ مِنْ عَوْرَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَفِي لَفْظٍ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ، عَبْدَهُ، أَوْ أَجِيرَهُ، فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذِهِ نُصُوصٌ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا، وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْفَرْجَيْنِ عَوْرَةٌ غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ، وَالْمُغَلَّظَةُ هِيَ الْفَرْجَانِ.
وَهَذَا نَصٌّ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، لِتَنَاوُلِ النَّصِّ لَهُمَا جَمِيعًا. (803) فَصْلٌ: وَلَيْسَتْ سُرَّتُهُ وَرُكْبَتَاهُ مِنْ عَوْرَتِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ. وَهَذَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» . وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ؛ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ حَدٌّ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ. وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ أَبُو الْجَنُوبِ، لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ.
وَقَدْ قَبَّلَ أَبُو هُرَيْرَةَ سُرَّةَ الْحَسَنِ، وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ. (804) فَصْلٌ: وَالْوَاجِبُ السَّتْرُ بِمَا يَسْتُرُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَبِينُ لَوْنُ الْجِلْدِ مِنْ وَرَائِهِ، فَيُعْلَمُ بَيَاضُهُ أَوْ حُمْرَتُهُ، لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ لَوْنَهَا، وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ، جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ السَّاتِرُ صَفِيقًا.
[فَصْلٌ انْكَشَفَ مِنْ الْعَوْرَةِ يَسِيرٌ فِي الصَّلَاة]
(805) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْعَوْرَةِ يَسِيرٌ. لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبْطُلُ لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْعَوْرَةِ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالنَّظَرِ. وَلَنَا: مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ قَالَ: «انْطَلَقَ أَبِي وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَعَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ. فَكُنْت أَقْرَأَهُمْ فَقَدَّمُونِي، فَكُنْت أَؤُمُّهُمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَفْرَاءُ صَغِيرَةٌ، وَكُنْتُ إذَا سَجَدْتُ انْكَشَفَتْ عَنِّي،
(1/414)
فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرَوْا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحِي بِهِ.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد،، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: «فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ فِي بُرْدَةٍ مُوَصَّلَةٍ فِيهَا فَتْقٌ، فَكُنْتُ إذَا سَجَدْتُ فِيهَا خَرَجَتْ اسْتِي» .
وَهَذَا يَنْتَشِرُ وَلَمْ يُنْكَرْ، وَلَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ كَثِيرِهِ حَالَ الْعُذْرِ، فُرِّقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ، كَالْمَشْيِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْيَسِيرِ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَيَسِيرِ الدَّمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ حَدَّ الْكَثِيرِ مَا فَحُشَ فِي النَّظَرِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفْحُشُ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ، إلَّا أَنَّ الْمُغَلَّظَةَ يَفْحُشُ مِنْهَا مَا لَا يَفْحُشُ مِنْ غَيْرِهَا، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ أَوْ مِنْ الْمُخَفَّفَةِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِهَا، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، بَطَلَتْ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالْكَثِيرِ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالتَّحَكُّمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَسُوغُ.
[فَصْلٌ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ فِي الصَّلَاة فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ]
(806) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، فَسَتَرَهَا فِي الْحَالِ، مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ مِنْ الزَّمَانِ، أَشْبَهَ الْيَسِيرَ فِي الْقَدْرِ. وَقَالَ التَّمِيمِيُّ فِي " كِتَابِهِ ": إنْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ وَقْتًا وَاسْتَتَرَتْ وَقْتًا، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ. وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْيَسِيرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَفْحُشُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فِيهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ، كَالْكَثِيرِ مِنْ الْقَدْرِ.
[مَسْأَلَة كَانَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاة]
(807) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: إذَا كَانَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا مِنْ اللِّبَاسِ، إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ مَنْ لَمْ يُخَمِّرْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، فَأَشْبَهَا بَقِيَّةَ الْبَدَنِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ.
وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي لِحَافٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ فِي سَرَاوِيلَ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ» . وَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا يُفْسِدُهَا، كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَخَذَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ صَلَّى وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، وَثَوْبُهُ عَلَى إحْدَى عَاتِقَيْهِ، وَالْأُخْرَى مَكْشُوفَةٌ: يُكْرَهُ. قِيلَ لَهُ: يُؤْمَرُ أَنْ يُعِيدَ؟ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ إعَادَةً. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ
(1/415)
عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ؛ لِسَتْرِهِ بَعْضَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَاجْتُزِئَ بِسَتْرِ أَحْدِ الْعَاتِقَيْنِ عَنْ سَتْرِ الْآخَرِ، لِامْتِثَالِهِ لِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ كَشْفِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا سُتْرَةٌ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَالْإِخْلَالُ بِهَا يُفْسِدُهَا كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ.
[فَصْلٌ سَتْرُ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الصَّلَاة]
(808) فَصْلٌ: وَلَا يَجِبُ سَتْرُ الْمَنْكِبَيْنِ جَمِيعِهِمَا، بَلْ يُجْزِئُ سِتْرُ بَعْضِهِمَا، وَيُجْزِئُ سَتْرُهُمَا بِثَوْبٍ خَفِيفٍ يَصِفُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ سَتْرِهِمَا بِالْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . وَهَذَا يَقَعُ عَلَى مَا يَعُمُّ الْمَنْكِبَيْنِ، وَمَا لَا يَعُمُّهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ فِيمَنْ صَلَّى وَإِحْدَى مَنْكِبَيْهِ مَكْشُوفَةٌ، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ. فَإِنْ طَرَحَ عَلَى كِتْفِهِ حَبْلًا أَوْ خَيْطًا وَنَحْوَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْ اللِّبَاسِ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى لِبَاسًا. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّ عَلَى عَاتِقِهِ ذَنَبَ فَأْرَةٍ.» وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا أَلْقَى عَلَى عَاتِقِهِ عِقَالًا وَصَلَّى. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» . مِنْ الصِّحَاحِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِوَضْعِهِ عَلَى الْعَاتِقَيْنِ لِلسَّتْرِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِوَضْعِ خَيْطٍ وَلَا حَبْلٍ، وَلَا يُسَمَّى سُتْرَةً وَلَا لِبَاسًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ لَمْ يَصِحَّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ، إنْ صَحَّ عَنْهُمْ؛ فَلِعَدَمِ مَا سِوَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[فَصْلٌ مَا اُشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ اُشْتُرِطَ لِلنَّفْلِ]
(809) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَامٌّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ مَا اُشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ اُشْتُرِطَ لِلنَّفْلِ، كَالطَّهَارَةِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْتَزِرَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ. وَلِذَلِكَ يُسَامَحُ فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ» . قَالَ: هَذَا فِي التَّطَوُّعِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَرْضِ.
[مَسْأَلَة كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِي الصَّلَاة بَعْضُهُ عَلَى عَاتِقِهِ]
[الْفَصْلُ الْأُوَلُ فِيمَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ]
(810) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ عَلَى عَاتِقِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي اللِّبَاسِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ؛ الْفَصْلُ الْأُوَلُ: فِيمَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: فِي الْفَضِيلَةِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يُكْرَهُ. وَالرَّابِعُ: فِيمَا يَحْرُمُ.
(811) فَصْلٌ: أَمَّا الْأُوَلُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَبَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى عَاتِقِهِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ
(1/416)
«أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَصَلَّى جَابِرٌ فِي قَمِيصٍ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنِّي «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي قَمِيصٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْفَضِيلَةِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّي فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ]
(812) الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّهُ إذًا أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «إذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلْ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ» .
قَالَ التَّمِيمِيُّ: الثَّوْبُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُ، وَالثَّوْبَانِ أَحْسَنُ، وَالْأَرْبَعُ أَكْمَلُ؛ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ وَإِزَارٌ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى نَافِعًا يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَالَ: أَلَمْ تَكْتَسِ ثَوْبَيْنِ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: فَلَوْ أُرْسِلْت فِي الدَّارِ، أَكُنْتَ تَذْهَبُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْت لَا. قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ أَوْ النَّاسُ؟ قُلْت: بَلْ اللَّهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَذَلِكَ فِي الْإِمَامِ آكَدُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِينَ، وَتَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَالْقَمِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي السَّتْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْجَسَدِ إلَّا الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الْمِئْزَرُ أَوْ السَّرَاوِيلُ. وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْجَيْبِ بِحَيْثُ لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ رَأَى عَوْرَتَهُ، أَوْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَرَاهَا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ «سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» . قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ غَيْرَ مَزْرُورٍ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَزِرَّهُ.
قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ لِحْيَتُهُ تُغَطِّيهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعَ الْجَيْبِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ
(1/417)
يَسِيرًا فَجَائِزٌ. فَعَلَى هَذَا مَتَى ظَهَرَتْ عَوْرَتُهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لِكَوْنِ جَيْبِ الْقَمِيصِ ضَيِّقًا، أَوْ شَدَّ وَسَطَهُ بِمِئْزَرٍ أَوْ حَبْلٍ فَوْقَ الثَّوْبِ، أَوْ كَانَ ذَا لِحْيَةٍ تَسُدُّ الْجَيْبَ فَتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ، أَوْ شَدَّ إزَارَهُ، أَوْ أَلْقَى عَلَى جَيْبِهِ رِدَاءً أَوْ خِرْقَةً، فَاسْتَتَرَتْ عَوْرَتُهُ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاة]
(813) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، فِيمَا يُكْرَهُ؛ يُكْرَهُ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ: اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبٍ لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ.» وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ أَنْ يَضْطَبِعَ بِالثَّوْبِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَمَعْنَى، الِاضْطِبَاعِ: أَنْ يَضَعَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتِ عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَجْعَلَ طَرَفَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَيَبْقَى مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا، وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ فِي اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ: أَنْ يَضْطَبِعَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ وَلَا إزَارَ عَلَيْهِ. فَيَبْدُوَ مِنْهُ شِقُّهُ وَعَوْرَتُهُ، أَمَّا إنْ كَانَ عَلَيْهِ إزَارٌ فَتِلْكَ لِبْسَةُ الْمُحْرِمِ، فَلَوْ كَانَ لَا يُجْزِئُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثَوْبًا وَاحِدًا، يَأْخُذُ بِجَوَانِبِهِ عَنْ مَنْكِبِهِ، فَيُدْعَى تِلْكَ الصَّمَّاءَ.» وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ يُخْرِجَ يَدَيْهِ مِنْ قِبَلِ صَدْرِهِ، فَتَبْدُوَ عَوْرَتُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ، يُجَلِّلُ بِهِ جَسَدَهُ كُلَّهُ، وَلَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ. كَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهِ إلَى أَنَّهُ لَعَلَّهُ يُصِيبُهُ شَيْءٌ يُرِيدُ الِاحْتِرَاسَ مِنْهُ. فَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ.
وَتَفْسِيرُ الْفُقَهَاءِ، أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَيَبْدُوَ مِنْهُ فَرْجُهُ، وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ مَعَهُ. وَيُكْرَهُ السَّدْلُ. وَهُوَ أَنْ يُلْقِيَ طَرَفَ الرِّدَاءِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الْأُخْرَى، وَلَا يَضُمَّ الطَّرَفَيْنِ بِيَدَيْهِ. وَكَرِهَ السَّدْلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ الرُّخْصَةُ فِيهِ، وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يَسْدُلَانِ فَوْقَ قَمِيصِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ حَدِيثًا يَثْبُتُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ عَطَاءً يُصَلِّي سَادِلًا. وَيُكْرَهُ إسْبَالُ الْقَمِيصِ وَالْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَفْعِ الْإِزَارِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخُيَلَاءِ حَرُمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
(1/418)
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَسْبَلَ إزَارَهُ فِي صَلَاتِهِ خُيَلَاءَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ أَوْ فَمَهُ. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ.» وَهَلْ يُكْرَهُ التَّلَثُّمُ عَلَى الْأَنْفِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَهُ. وَالْأُخْرَى، لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفَمِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَتِهِ تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ تَغْطِيَةِ غَيْرِهِ.
وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ لِلرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَصْفَرُ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا رَوَيَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الرَّجُلَ عَنْ التَّزَعْفُرِ.» وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» . وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ، وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ» .
فَأَمَّا شَدُّ الْوَسَطِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ بِمِنْطَقَةٍ أَوْ مِئْزَرٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ شَدِّ قَبَاءٍ، فَلَا يُكْرَهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَأْتَزِرُ بِالْمِنْدِيلِ فَوْقَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَإِنْ كَانَ بِخَيْطٍ أَوْ حَبْلٍ مَعَ سُرَّتِهِ وَفَوْقَهَا فَهَلْ يُكْرَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، يُكْرَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَالَ: «لَا تَشْتَمِلُوا اشْتِمَالَ الْيَهُودِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ، أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ مُحْتَزِمٌ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ مُحْتَزِمٌ» . قَالَ: كَأَنَّهُ مَنْ شَدَّ الْوَسَطَ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ يُقَالُ، شُدَّ حَقْوَكَ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِعِقَالٍ " وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ مِثْلُهُ
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ. وَقَدْ اشْتَرَى عُمَرُ ثَوْبًا، فَرَأَى فِيهِ خَيْطًا أَحْمَرَ، فَرَدَّهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، ثُمَّ
(1/419)
رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ.» وَقَالَ الْبَرَاءُ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيٌّ أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ.»
وَوَجْهُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَوَاحِلِنَا أَكْسِيَةً فِيهَا خُيُوطُ عِهْنٍ حُمْرٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ. فَقُمْنَا سِرَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إبِلِنَا، فَأَخَذْنَا الْأَكْسِيَةَ، فَنَزَعْنَاهَا عَنْهَا» وَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ أَثْبَتُ وَأَبْيَنُ فِي الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى غَيْرِ الْحُمْرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعَصْفَرَةً، وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَحَدِيثُ رَافِعٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّ الْحُمْرَةَ لَوْنٌ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَلْوَانِ.
(814) فَصْلٌ: وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: «انْطَلَقْت مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «قُلْنَا لِأَنَسٍ: أَيُّ اللِّبَاسِ كَانَ أَحَبَّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ الْحِبَرَةُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ.» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» .
(815) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَهُوَ قِسْمَانِ؛ قِسْمٌ تَحْرِيمُهُ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِالرِّجَالِ. فَالْأَوَّلُ، مَا يَعُمُّ تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، النَّجِسُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ، وَقَدْ فَاتَتْ. وَالثَّانِي، الْمَغْصُوبُ، لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهِ. وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِيَةُ تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ الصَّلَاةَ،
(1/420)
وَلَا النَّهْيَ يَعُودُ إلَيْهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ غَسَلَ ثَوْبَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ مَغْصُوبَةٌ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَكَيْفَ يَتَقَرَّبُ بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، أَوْ يُؤْمَرُ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا إذَا صَلَّى فِي عِمَامَةٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى شَرْطِ الصَّلَاةِ، إذْ الْعِمَامَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا. وَإِنْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، فَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: يُصَلِّي فِي مَوَاضِعِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، فَالْمَنْعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ إذَا كَانَ غَصْبًا يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِهَا. فَلِذَلِكَ أَجَازَ فِعْلَهَا فِيهِ، كَمَا أَجَازَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى تَعْطِيلِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْحَرِيرُ، وَالْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ، وَالْمُمَوَّهُ بِهِ، فَهُوَ حَرَامٌ لُبْسُهُ، وَافْتِرَاشُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ؛ فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ اخْتِلَافًا، إلَّا لِعَارِضٍ، أَوْ عُذْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا إجْمَاعٌ.
فَإِنْ صَلَّى فِيهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْخِلَافِ وَالرِّوَايَتَيْنِ. وَالِافْتِرَاشُ كَاللُّبْسِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «نَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَأَنْ نَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ.»
[فَصْلٌ الْعَلَمُ الْحَرِيرُ فِي الثَّوْبِ فِي الصَّلَاة]
(816) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ الْعَلَمُ الْحَرِيرُ فِي الثَّوْبِ إذَا كَانَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَمَا دُونَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي التَّنْبِيهِ. يُبَاحُ وَإِنْ كَانَ مُذَهَّبًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّقَاعِ، وَلَبِنَةِ الْجَيْبِ، وَسُجُفِ الْفِرَاءِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ.
فَصْلٌ: فَإِنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ لِلْقَمْلِ أَوْ الْحَكَّةِ أَوْ الْمَرَضِ يَنْفَعُهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ جَازَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ
(1/421)
أَنَسًا رَوَى «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ: شَكَيَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ، وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ صَحَابِيٍّ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَغَيْرُ الْقَمْلِ الَّذِي يَنْفَعُ فِيهِ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي مَعْنَاهُ. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يُبَاحُ لُبْسُهُ لِلْمَرَضِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ خَاصَّةً لَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الرُّخْصَةِ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
فَأَمَّا لُبْسُهُ لِلْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، كَأَنْ كَانَ بِطَانَةً لِبَيْضَةٍ أَوْ دِرْعٍ وَنَحْوِهِ، أُبِيحَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ؛ كَدِرْعٍ مُمَوَّهٍ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ لُبْسِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُبَاحُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لُبْسِهِ لِلْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَالْخُيَلَاءُ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ غَيْرُ مَذْمُومٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ: " إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ".
وَالثَّانِي، يَحْرُمُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إبَاحَتُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ يَلْمَقُ مِنْ دِيبَاجٍ، بِطَانَتُهُ سُنْدُسٌ، مَحْشُوٌّ قَزًّا، كَانَ يَلْبَسُهُ فِي الْحَرْبِ.
[فَصْلٌ الْمَنْسُوجُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ فِي الصَّلَاة]
(817) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَنْسُوجُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَثَوْبٍ مَنْسُوجٍ مِنْ قُطْنٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، أَوْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ فَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا. لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ، فَهُوَ كَالْبَيْضَةِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَالْعَلَمِ مِنْ الْحَرِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ الْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْعَلَمُ، وَسَدَى الثَّوْبِ، فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَأَبُو دَاوُد قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ
(1/422)
أَهْلِ الْعِلْمِ. أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْحَرِيرُ الصَّافِي، الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ الْحَرِيرَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُطْنَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ.
فَإِنْ اسْتَوَيَا فَفِي تَحْرِيمِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّ النِّصْفَ كَثِيرٌ، فَأَمَّا الْجِبَابُ الْمَحْشُوَّةُ مِنْ إبْرَيْسَمٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْرُمُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِعَدَمِ الْخُيَلَاءِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا الْفُرُشُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْحَرِيرِ.
[فَصْلٌ الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَات فِي الصَّلَاة]
(818) فَصْلٌ: فَأَمَّا الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ لُبْسُهَا، وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَرَهُ مُحَرَّمًا أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ يُبَاحُ إذَا كَانَ مَفْرُوشًا، أَوْ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَلْبُوسًا.
[فَصْلٌ التَّصْلِيبُ فِي الثَّوْبِ]
(819) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ التَّصْلِيبُ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إلَّا قَضَبَهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد يَعْنِي قَطَعَهُ.
[فَصْلٌ لُبْسِ الْخَزِّ]
(820) فَصْلٌ: قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ لُبْسِ الْخَزِّ؟ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَيْسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، وَشُبَيْلِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا مَطَارِفَ الْخَزِّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو، وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا قَتَادَةَ، كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا جِبَابَ الْخَزِّ.
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَشُرَيْحٍ، أَنَّهُمْ لَبِسُوا بَرَانِسَ الْخَزِّ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: أَتَتْ مَرْوَانَ مَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ، فَكَسَاهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَسَا أَبَا هُرَيْرَةَ مِطْرَفًا مِنْ خَزٍّ أَغْبَرَ، فَكَانَ يَلْبَسُهُ اثْنَانِ بِسَعَتِهِ. وَهَذَا اشْتَهَرَ فَلَمْ يَظْهَرْ بِخِلَافِهِ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا أَبِي،
(1/423)
قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدٍ، قَالَ: «رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ؛ فَقَالَ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي مُوَطَّئِهِ، أَنَّ عَائِشَةَ كَسَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِطْرَفَ خَزٍّ كَانَتْ تَلْبَسُهُ.
[فَصْلٌ هَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ]
(821) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا بِالصَّوَابِ تَحْرِيمُهُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنْ الْغِلْمَانِ، وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي. وَقَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ سَفَرٍ، وَعَلَى صِبْيَانِهِ قُمُصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَمَزَّقَهَا عَلَى الصِّبْيَانِ، وَتَرَكَهَا عَلَى الْجَوَارِي، أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْت رَابِعَ أَرْبَعَةٍ، أَوْ خَامِسَ خَمْسَةٍ، مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ عَلَيْهِ قُمُصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ كَسَاك هَذَا؟ قَالَ: أُمِّي. فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَشَقَّهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، أَنَّهُ يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِلُبْسِهِمْ، كَمَا لَوْ أَلْبَسَهُ دَابَّةً، وَلِأَنَّهُمْ مَحَلٌّ لِلزِّينَةِ فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ. وَيَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَمْكِينِهِمْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَغَيْرِهِمَا، وَكَوْنُهُمْ مَحَلَّ الزِّينَةِ - مَعَ تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمْ - يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، لَا الْإِبَاحَةَ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاة]
(822) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ إيمَاءً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْعَادِمَ لِلسُّتْرَةِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُصَلِّي قَائِمًا، بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَجَالِسًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لَهُ كَالْقَادِرِ عَلَى السَّتْرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فِي قَوْمٍ انْكَسَرَتْ بِهِمْ مَرَاكِبُهُمْ، فَخَرَجُوا عُرَاةً، قَالَ: يُصَلُّونَ جُلُوسًا، يُومِئُونَ إيمَاءً بِرُءُوسِهِمْ. وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّ السَّتْرَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ بِدَلِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْقِيَامُ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْقِيَامَ يَخْتَصُّ الصَّلَاةَ، وَالسَّتْرَ يَجِبُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْكِ
(1/424)
أَحَدِهِمَا، فَتَرْكُ أَخَفِّهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ آكَدِهِمَا. وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَتَرَ أَتَى بِبَدَلٍ عَنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالسَّتْرُ لَا بَدَلَ لَهُ.
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ لَا تَتَضَمَّنُ تَرْكَ السُّتْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّتْرُ لَا يَحْصُلُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْضُهُ، فَلَا يَفِي بِتَرْكِ الْقِيَامِ. قُلْنَا: إذَا قُلْنَا الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ. فَقَدْ حَصَلَ السَّتْرُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَقَدْ حَصَلَ سَتْرُ آكَدِهَا وُجُوبًا فِي السَّتْرِ، وَأَفْحَشِهَا فِي النَّظَرِ، فَكَانَ سَتْرُهُ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَيْسَ عَلَى مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ إعَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عَجَزَ عَنْهُ فَسَقَطَ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ صَلَّى الْعُرْيَانُ قَائِمًا، وَرَكَعَ وَسَجَدَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَقُعُودًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي الْعُرَاةِ: يَقُومُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ، إنْ تَوَارَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَّوْا قِيَامًا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَيُومِئُونَ أَوْ يَسْجُدُونَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، السُّجُودُ لَا بُدَّ مِنْهُ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُومِئُ بِالسُّجُودِ فِي حَالٍ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْخَلْوَةِ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ قَالَ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْ الْأَثْرَمِ. قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: يَقُومُ وَسَطَهُمْ. أَيْ يَكُونُ وَسَطَهُمْ، لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْقِيَامِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَنْبَغِي لِمَنْ صَلَّى عُرْيَانًا أَنْ يَضُمَّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَيَسْتُرَ مَا أَمْكَنَ سَتْرُهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَتَرَبَّعُونَ أَوْ يَتَضَامُّونَ؟ قَالَ: لَا بَلْ يَتَضَامُّونَ. وَإِذَا قُلْنَا: يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ. فَإِنَّهُمْ يَتَضَامُّونَ أَيْضًا. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ مَوْضِعَ الْقِيَامِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
[فَصْلٌ إذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفَهُ عَلَيْهِ]
(823) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ جِلْدًا طَاهِرًا، أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفُهُ عَلَيْهِ، أَوْ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْبِطَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتُرَ بِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ بِطَاهِرٍ لَا يَضُرُّهُ فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى سَتْرِهَا بِثَوْبٍ، وَقَدْ «سَتَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْإِذْخِرِ» لَمَّا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً. فَإِنْ وَجَدَ طِينًا يَطْلِي بِهِ جَسَدَهُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِفُّ وَيَتَنَاثَرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً وَلَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ جَسَدَهُ وَمَا تَنَاثَرَ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَيَسْتَتِرُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةً، وَيَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ السَّتْرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَاءً لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَدِرًا، لِأَنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا، وَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ
(1/425)
مِنْ السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ حُفْرَةً لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْصَقُ بِجِلْدِهِ، فَهِيَ كَالْجِدَارِ. وَإِنْ وَجَدَ سُتْرَةً تَضُرُّ بِجِسْمِهِ كَبَارِيَّةِ الْقَصَبِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَدْخُلُ فِي جِسْمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِتَارُ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَنْعِ مِنْ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
[فَصْلٌ إذَا بُذِلَ لَهُ سُتْرَة فِي الصَّلَاة]
(824) فَصْلٌ: وَإِذَا بُذِلَ لَهُ سُتْرَةٌ لَزِمَهُ قَبُولُهَا إذَا كَانَتْ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ. وَإِنْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَّةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ فِي بَقَاءِ عَوْرَتِهِ مَكْشُوفَةً أَكْبَرُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمِنَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ. وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ ثَوْبًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ يُؤَجِّرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، وَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعِوَضِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ.
[فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ الْمُصَلَّيْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا]
(825) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا، قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي فِيهِ، وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْمُزَنِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُصَلِّي عُرْيَانًا، وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهَا سُتْرَةٌ نَجِسَةٌ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ، وَفِعْلِ وَاجِبٍ، فَاسْتَوَيَا.
وَلَنَا أَنَّ السَّتْرَ آكَدُ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ جَالِسًا، فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غَطِّ فَخِذَك» . وَهَذَا عَامٌّ، وَلِأَنَّ السُّتْرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهَا، وَالطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَكَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا إذَا انْفَرَدَ أَنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ قَدْ فَاتَتْ. وَقَدْ نَصَّ فِي مَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ عَجَزَ عَنْهُ، فَسَقَطَ كَالسُّتْرَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ السُّتْرَةَ آكَدُ، بِدَلِيلِ تَقْدِيمِهَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ قَدْ صَحَّتْ الصَّلَاةُ وَأَجْزَأَتْ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَهَاهُنَا أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ صَلَّى فِيهِ، وَلَا يُعِيدُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مَغْصُوبًا صَلَّى عُرْيَانًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ. كَذَا هَاهُنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/426)
[فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ أَوْ مَنْكِبَيْهِ فِي الصَّلَاة]
(826) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ أَوْ مَنْكِبَيْهِ، سَتَرَ عَوْرَتَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» . وَهَذَا الثَّوْبُ ضَيِّقٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: «لَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ، لِيَتَوَشَّحْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَأْتَزِرْ وَلْيَرْتَدِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ ثُمَّ لِيُصَلِّ» . وَلِأَنَّ السَّتْرَ لِلْعَوْرَةِ وَاجِبٌ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهِ مُتَأَكِّدٌ، وَسَتْرَ الْمَنْكِبَيْنِ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتَّخْفِيفِ مَا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الثَّوْبُ اللَّطِيفُ، لَا يَبْلُغُ أَنْ يَعْقِدَهُ، يَرَى أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ وَيُصَلِّيَ؟ قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لَطِيفًا صَلَّى قَاعِدًا، وَعَقَدَ مِنْ وَرَائِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ قَدْ سَتَرَ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى الْقِيَامِ، وَسَتَرَ مَا عَدَا الْفَرْجَيْنِ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي سَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ أَصَحُّ مِنْهُ فِي سَتْرِ الْفَرْجَيْنِ، وَأَنَّ الْقِيَامَ لَهُ بَدَلٌ، وَسَتْرَ الْمَنْكِبَيْنِ لَا بَدَلَ لَهُ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَأَكُّدِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامِ، وَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «سِرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ ذَهَبْت أُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ لِي، وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ، فَنَكَّسْتُهَا، ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَسْقُطَ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ. قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمُقُنِي وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، ثُمَّ فَطِنْتُ بِهِ، فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ اتَّزِرْ بِهَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا جَابِرُ. قُلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إذَا كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ» .
[فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة]
(827) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ سَتَرَ الْفَرْجَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَفْحَشُ، وَسَتْرَهُمَا آكَدُ، وَهُمَا مِنْ الْعَوْرَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا سَتَرَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوْلَاهُمَا بِالسَّتْرِ، فَقِيلَ: الدُّبُرُ؛ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ، لَا سِيَّمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقِيلَ: الْقُبُلُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَسْتُرُهُ، وَالدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالْأَلْيَتَيْنِ.
[مَسْأَلَة صَلَّى جَمَاعَةٌ عُرَاةٌ]
(828) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: فَإِنْ صَلَّى جَمَاعَةٌ عُرَاةً، كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ وَسَطًا، يُومِئُونَ إيمَاءً. وَيَكُونُ سُجُودُهُمْ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِمْ
(1/427)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْعُرَاةِ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّونَ فُرَادَى. قَالَ مَالِكٌ: وَيَتَبَاعَدُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَإِنْ كَانُوا فِي ظُلْمَةٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَيَتَقَدَّمُهُمْ إمَامُهُمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ كَقَوْلِهِمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْجَمَاعَةُ وَالِانْفِرَادُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي الْجَمَاعَةِ الْإِخْلَالَ بِسُنَّةِ الْمَوْقِفِ، وَفِي الِانْفِرَادِ الْإِخْلَالَ بِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَيَسْتَوِيَانِ، وَوَافَقَنَا فِي أَنَّ إمَامَهُمْ يَقُومُ وَسَطَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ لِلنِّسَاءِ الْعُرَاةِ؛ لِأَنَّ مَوْقِفَ إمَامَتِهِنَّ فِي وَسَطِهِنَّ، فَمَا حَصَلَ فِي حَقِّهِنَّ إخْلَالٌ بِفَضِيلَةِ الْمَوْقِفِ، وَوَافَقَنَا فِي الرِّجَالِ إذَا كَانَ مَعَهُمْ مُكْتَسٍ يَصْلُحُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُمْ كَالْمُسْتَتِرِينَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمِيعِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . عَامٌّ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَا تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهَا فِي الْمَوْقِفِ، كَمَا لَوْ كَانُوا فِي مَكَان ضَيِّقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُمْ إمَامُهُمْ. وَإِذَا شُرِعَتْ الْجَمَاعَةُ لِعُرَاةِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّ السَّتْرَ فِي حَقِّهِنَّ آكَدُ، وَالْجَمَاعَةَ فِي حَقِّهِنَّ أَخَفُّ، فَلِلرِّجَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَغَضُّ الْبَصَرِ يَحْصُلُ بِكَوْنِهِمْ صَفًّا وَاحِدًا، يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَكُونُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُ، وَأَغَضَّ لِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ سُنَّ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ الْقِيَامُ وَسَطَهُنَّ فِي كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّهُنَّ عَوْرَاتٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ نِسَاءٌ عُرَاةٌ تَنَحَّيْنَ عَنْهُمْ؛ لِئَلَّا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُصَلِّينَ جَمَاعَةً أَيْضًا كَالرِّجَالِ، إلَّا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّهِنَّ أَدْنَى مِنْهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، كَمَا لَوْ كَانُوا غَيْرَ عُرَاةٍ. فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، صَلَّى الرِّجَالُ، وَاسْتَدْبَرَهُمْ النِّسَاءُ، ثُمَّ صَلَّى النِّسَاءُ وَاسْتَدْبَرَهُنَّ الرِّجَالُ؛ لِئَلَّا يَرَى بَعْضُهُمْ عَوْرَاتِ بَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ لَا يَسَعُهُمْ صَفٌّ وَاحِدٌ، وَالنِّسَاءُ وَقَفُوا صُفُوفًا، وَغَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ.
[مَسْأَلَة الْعُرَاةِ إذَا صَلُّوا قُعُودًا]
(829) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْعُرَاةِ إذَا صَلَّوْا قُعُودًا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ سَقَطَ عَنْهُمْ لِحِفْظِ عَوْرَاتِهِمْ، فَيَسْقُطُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ ظُهُورَهَا بِالسُّجُودِ أَكْثَرُ وَأَفْحَشُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ؛ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ فِيمَا يَسْقُطُ فِيهِ الْقِيَامُ، وَهُوَ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْقِيَامِ أَيْضًا؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعُرَاةِ: يَقُومُ إمَامُهُمْ فِي وَسَطِهِمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ تَوَارَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ؛ فَصَلَّوْا قِيَامًا، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ.
قِيلَ: فَيُومِئُونَ أَمْ يَسْجُدُونَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، السُّجُودُ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لَا يَسْقُطْ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ الْقِيَامُ فِي الْخَلْوَةِ، إلَّا أَنَّ الْخَلَّالَ قَالَ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْ الْأَثْرَمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَقُومُ فِي وَسَطِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) . لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقِيَامَ عَلَى رِجْلٍ.
[فَصْلٌ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُرَاةِ وَاحِدٌ لَهُ ثَوْبٌ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ]
(830) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُرَاةِ وَاحِدٌ لَهُ ثَوْبٌ، لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى السُّتْرَةِ. فَإِنْ أَعَارَهُ وَصَلَّى عُرْيَانًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيرَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ فِيهِ لِغَيْرِهِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِقَوْلِ
(1/428)
اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، وَوُجِدَ مَنْ بِهِ ضَرُورَةٌ، لَزِمَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ، فَإِذَا بَذَلَهُ لَهُمْ صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَمْ تَجُزْ لَهُمْ الصَّلَاةُ عُرَاةً؛ لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى السَّتْرِ، إلَّا أَنْ يَخَافُوا ضِيقَ الْوَقْتِ، فَيُصَلِّيَ فِيهِ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ عُرَاةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عُرْيَانًا. وَيَنْتَظِرُ الثَّوْبَ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ. وَلَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْوَقْتَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ فِي مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ، لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ الصَّلَاةُ فِيهِ قِيَامًا صَلَّى وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، إلَّا أَنْ يَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ فَيُصَلُّونَ قُعُودًا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا. وَالْقِيَامُ آكَدُ مِنْ السُّتْرَةِ عِنْدَهُ. وَعَلَى رِوَايَةٍ لَنَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَقْيَسُ عِنْدِي، فَإِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الشَّرْطِ مَعَ إمْكَانِهِ أَوْلَى مَعَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَدَّ مَا لَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، أَوْ سُتْرَةٌ يَخَافُ فَوَاتَ الْوَقْتِ إنْ تَشَاغَلَ بِالْمَخْشِيِّ إلَيْهَا، وَالِاسْتِتَارِ بِهَا. فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَدَّمًا عَلَى السَّتْرِ. فَإِنْ امْتَنَعَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْ إعَارَتِهِمْ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ.
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَؤُمَّهُمْ صَاحِبُ الثَّوْبِ، وَيَقِفَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا وَهُمْ قُرَّاءٌ، صَلَّى الْبَاقُونَ جَمَاعَةً عَلَى مَا أَسْلَفْنَا. قَالَ الْقَاضِي: يُصَلِّي هُوَ مُنْفَرِدًا، وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ إعَارَةَ ثَوْبِهِ، وَمَعَهُمْ نِسَاءٌ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ آكَدُ فِي السَّتْرِ. وَإِذَا صَلَّيْنَ فِيهِ أَخَذَهُ. فَإِذَا تَضَايَقَ الْوَقْتُ، وَفِيهِمْ قَارِئٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ؛ لِيَكُونَ إمَامَهُمْ. وَإِنْ أَعَادَهُ لِغَيْرِ الْقَارِئِ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ صَاحِبِ الثَّوْبِ. فَإِنْ اسْتَوَوْا، وَلَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ أَحَقُّ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَوُوا فَالْأَوْلَى بِهِ مَنْ تُسْتَحَبُّ الْبِدَايَةُ بِإِعَارَتِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
[مَسْأَلَة كَانَ فِي الطِّينِ وَالْمَطَر وَلَمْ يُمَكِّنهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْض إلَّا بِالتَّلَوُّثِ]
(831) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَوْمَأَ إيمَاءً وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الطِّينِ وَالْمَطَرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّلَوُّثِ بِالطِّينِ وَالْبَلَلِ بِالْمَاءِ، فَلَهُ الصَّلَاةُ عَلَى دَابَّتِهِ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا أَوْمَأَ بِالسُّجُودِ أَيْضًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ. رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى دَابَّتِهِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ. وَفَعَلَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَمَرَ بِهِ طَاوُسٌ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْدُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَالْقِيَامَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَطَرِ، كَبَقِيَّةِ أَرْكَانِهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ، يُومِئُونَ إيمَاءً، يَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ.» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الرَّمَّاحِ الْبَلْخِيّ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيَّ، فَقَالَ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ وَالْمَرَضِ. وَعَنْ مَالِكٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ
(1/429)
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ.» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَنَا، مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ. وَفِعْلُ أَنَسٍ قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ صَلَّى أَنَسٌ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى سَرَابِيطَ. فِي يَوْمِ مَطَرٍ الْمَكْتُوبَةَ عَلَى الدَّابَّةِ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ، فَأَثَّرَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ كَالسَّفَرِ يُؤَثِّرُ فِي الْقَصْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الطِّينَ كَانَ يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَلْوِيثِ الثِّيَابِ.
[فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَة]
(832) فَصْلٌ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ بِالنُّزُولِ فِي الْمَرَضِ أَشَدُّ مِنْهَا بِالنُّزُولِ فِي الْمَطَرِ، فَإِذَا أَثَّرَ الْمَطَرُ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَالْمَرَضُ أَوْلَى.
وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ لَهَا أَحْمَدُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُنْزِلُ مَرْضَاهُ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى السُّجُودِ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ كَغَيْرِ الْمَرَضِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطَرِ، أَنَّ النُّزُولَ فِي الْمَطَرِ يُبَلِّلُ ثِيَابَهُ وَيُلَوِّثُهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْمَشَقَّةِ، وَنُزُولَ الْمَرِيضِ يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ أَسْكَنُ لَهُ وَأَمْكَنُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى الظَّهْرِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْمَشَقَّةِ، فَالْمَشَقَّةُ عَلَى الْمَرِيضِ فِي نَفْسِ جِهَةِ النُّزُولِ، لَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَشَقَّةُ عَلَى الْمَمْطُورِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، لَا فِي النُّزُولِ. وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ، فَإِنْ خَافَ الْمَرِيضُ مِنْ النُّزُولِ ضَرَرًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، كَالِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْ الرُّكُوبِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِ هَذَا، صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
[فَصْلٌ صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَة لِمَرَضِ أَوْ مَطَرٍ]
(833) فَصْلٌ: وَمَتَى صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَطَرٍ، فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا وَلَا نَافِلَةً، إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [سُورَةُ الْبَقَرَةِ] عَامٌّ، خَرَجَ مِنْهُ حَالُ الْخَوْفِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، مُحَافَظَةً عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى الِاسْتِقْبَالُ لِعُمُومِ الْآيَةِ.
[مَسْأَلَة إذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا أَعَادَتْ الصَّلَاةَ]
(834) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا، أَعَادَتْ الصَّلَاةَ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ كَشْفُ وَجْهِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا كَشْفُ مَا عَدَا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَفِي الْكَفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ فَأَجْمَعَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا إذَا صَلَّتْ، وَعَلَى أَنَّهَا إذَا صَلَّتْ وَجَمِيعُ رَأْسِهَا مَكْشُوفٌ أَنَّ عَلَيْهَا الْإِعَادَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَدَمَانِ لَيْسَا مِنْ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ غَالِبًا، فَهُمَا
(1/430)
كَالْوَجْهِ، وَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعَرِهَا أَوْ رُبُعِ فَخِذِهَا أَوْ رُبُعِ بَطْنِهَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: جَمِيعُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ: الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ لُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ.» وَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ عَوْرَةً لَمَا حَرُمَ سَتْرُهُمَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَشْفِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْكَفَّيْنِ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَكِنْ رُخِّصَ لَهَا فِي كَشْفِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا؛ لِمَا فِي تَغْطِيَتِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَأُبِيحَ النَّظَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْخِطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفُرُهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْقَدَمَيْنِ مَا رَوَتْ «أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: وَقَفَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَوَقَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ ذَيْلَهُ خُيَلَاءَ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا. فَقَالَتْ: إذَنْ تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ. قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَجِبُ كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ؛ فَلَمْ يَجِبْ كَشْفُهُ فِي الصَّلَاةِ، كَالسَّاقَيْنِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْدِيرِ الْبُطْلَانِ بِزِيَادَةٍ عَلَى رُبُعِ الْعُضْوِ فَتَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَأَمَّا الْكَفَّانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَجِبُ سَتْرُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ: يَجِبُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» . وَهَذَا عَامٌّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. قَدْ رَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ خِلَافَهُ، قَالَ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] . قَالَ: الثِّيَابُ. وَلَا يَجِبُ كَشْفُ الْكَفَّيْنِ فِي الْإِحْرَامِ، إنَّمَا يَحْرُمُ أَنْ تَلْبَسَ فِيهِمَا شَيْئًا مَصْنُوعًا عَلَى قَدْرِهِمَا كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ، وَاَلَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ.
(1/431)
[فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ]
(835) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ - وَهُوَ الْقَمِيصُ، لَكِنَّهُ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا -، وَخِمَارٍ - يُغَطِّي رَأْسَهَا وَعُنُقَهَا -، وَجِلْبَابٍ - وَهُوَ الْمِلْحَفَةُ، تَلْتَحِفُ بِهِ مِنْ فَوْقِ الدِّرْعِ -؛ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَائِشَةَ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ اتَّفَقَ عَامَّتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَسْتَرُ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ، فَإِنَّهَا تُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً؛ لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، فَتَبِينَ عَجِيزَتُهَا، وَمَوَاضِعُ عَوْرَاتِهَا الْمُغَلَّظَةِ.
[فَصْلٌ يُجَزِّئهَا مِنْ اللِّبَاسِ السَّتْرُ الْوَاجِبُ]
(836) فَصْلٌ: وَيُجْزِئُهَا مِنْ اللِّبَاسِ السِّتْرُ الْوَاجِبُ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِحَدِيثِ «أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، لَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا كَانَتَا تُصَلِّيَانِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، لَيْسَ عَلَيْهِمَا إزَارٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ اتَّفَقَ عَامَّتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ. وَلِأَنَّهَا سَتَرَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ، فَأَجْزَأَتْهَا صَلَاتُهَا كَالرَّجُلِ.
[فَصْلٌ فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ غَيْر الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ الصَّلَاة]
(837) فَصْلٌ: فَإِنْ انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا قَوْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " إذَا انْكَشَفَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ شَيْءٌ سِوَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا أَعَادَتْ " يَقْتَضِي بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِانْكِشَافِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ، يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْكَثِيرِ، لِمَا قَرَّرْنَا فِي عَوْرَةِ الرَّجُلِ أَنَّهُ يُعْفَى فِيهَا عَنْ الْيَسِيرِ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ الْيَسِيرِ، فَعُفِيَ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى يَسِيرِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ.
[فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تُصَلِّي]
(838) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تُصَلِّي لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِمُبَاشَرَةِ الْمُصَلَّى بِجَبْهَتِهَا وَأَنْفِهَا، وَيَجْرِي مَجْرَى تَغْطِيَةِ الْفَمِ لِلرَّجُلِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ.
[فَصْلٌ صَلَاةُ الْأَمَةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ]
(839) فَصْلٌ: قَالَ: وَصَلَاةُ الْأَمَةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْخِمَارَ إذَا تَزَوَّجَتْ، أَوْ اتَّخَذَهَا الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَبَّ لَهَا عَطَاءٌ أَنْ تُقَنِّعَ إذَا صَلَّتْ، وَلَمْ يُوجِبْهُ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ أَمَةً لِآلِ أَنَسٍ رَآهَا مُتَقَنِّعَةً، وَقَالَ: اكْشِفِي رَأْسَكِ،
(1/432)
وَلَا تَشَبَّهِي بِالْحَرَائِرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا يُنْكَرُ، حَتَّى أَنْكَرَ عُمَرُ مُخَالَفَتَهُ كَانَ يَنْهَى الْإِمَاءَ عَنْ التَّقَنُّعِ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَا يَدَعُ أَمَةً تُقَنِّعُ فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا الْقِنَاعُ لِلْحَرَائِرِ.
(840) فَصْلٌ: لَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْهُ سِوَى كَشْفِ الرَّأْسِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَلَّتْ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَلَا بَأْسَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ عَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَقَدْ لَوَّحَ إلَيْهِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: إنْ انْكَشَفَ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَالصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ انْكَشَفَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: عَوْرَةُ الْأَمَةِ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ.
وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُقَلِّبَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ مِنْ فَوْقِ الثَّوْبِ، وَيَكْشِفَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ. وَلِأَنَّ هَذَا يَظْهَرُ عَادَةً عِنْدَ الْخِدْمَةِ، وَالتَّقْلِيبِ لِلشِّرَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً كَالرَّأْسِ، وَمَا سِوَاهُ لَا يَظْهَرُ عَادَةً وَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى كَشْفِهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَظْهَرُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلَا لَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً، فَيَنْظُرَ إلَى مَا فَوْقَ الرُّكْبَةِ أَوْ دُونَ السُّرَّةِ، لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا عَاقَبْتُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ؛» فَإِنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى رُكْبَتِهِ مِنْ الْعَوْرَةِ. يُرِيدُ الْأَمَةَ. فَإِنَّ الْأَجِيرَ وَالْعَبْدَ لَا يُنْظَرُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُ مُزَوَّجًا وَغَيْرَ مُزَوَّجٍ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُهُ عَوْرَةً لَمْ يَكُنْ صَدْرُهُ عَوْرَةً، كَالرَّجُلِ.
[فَصْلٌ صَلَاة الْمُكَاتَبَة وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا مَكْشُوفَة الرَّأْس]
(841) فَصْلٌ: وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهَا بِصِفَةٍ كَالْأَمَةِ الْقِنِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُنَّ إمَاءٌ يَجُوزُ بَيْعُهُنَّ وَعِتْقُهُنَّ. فَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهَا، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ؛ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ. وَالثَّانِي كَالْأَمَةِ، لِعَدَمِ الْحُرِّيَّةِ الْكَامِلَةِ؛ وَلِذَلِكَ ضُمِنَتْ بِالْقِيمَةِ.
[فَصْلٌ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كَالرَّجُلِ فِي الصَّلَاة]
(842) فَصْلٌ: وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ مُحْتَمَلٌ، فَلَا تُوجِبُ عَلَيْهِ حُكْمًا بأَمْرٍ
(1/433)
مُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ اللَّذَانِ فِي قُبُلِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فَرْجٌ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ تَغْطِيَتُهُ يَقِينًا إلَّا بِتَغْطِيَتِهِمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ سَتْرُ مَا قَرُبَ مِنْ الْفَرْجَيْنِ، ضَرُورَةَ سَتْرِهِمَا.
[فَصْلٌ إذَا تَلَبَّسَتْ الْأَمَةُ بِالصَّلَاةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَعَتَقَتْ فِي أَثْنَائِهَا]
(843) فَصْلٌ: إذَا تَلَبَّسَتْ الْأَمَةُ بِالصَّلَاةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، فَعَتَقَتْ فِي أَثْنَائِهَا، فَهِيَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ السُّتْرَةَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، إنْ أَمْكَنَهَا أَوْ أَمْكَنَهُ السُّتْرَةُ، مِنْ غَيْرِ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، سَتَرَ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ، كَأَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا عَلِمُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَبَنَوْا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ السَّتْرُ إلَّا بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، أَوْ زَمَنٍ طَوِيلٍ، بَطَلَتْ الصَّلَاةُ، إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُضِيُّ فِيهَا لِكَوْنِ السُّتْرَةِ شَرْطًا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَوُجِدَتْ الْقُدْرَةُ، وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ كَثِيرًا، لِأَنَّهُ يُنَافِيهَا فَيُبْطِلُهَا.
وَالْمَرْجِعُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ إلَى الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِالْخُطْوَةِ وَالْخُطْوَتَيْنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَنْ وَجَدَتْ مَنْ يُنَاوِلُهَا السُّتْرَةَ فَانْتَظَرَتْ، احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهَا. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ انْتِظَارٌ وَاحِدٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ: طَالَ عَلَيْهَا وَهِيَ بَادِيَةُ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّتْرِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَظِرَةً. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ حَتَّى أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا صَلَّتْ عَارِيَّةً جَهْلًا بِوُجُوبِ السَّتْرِ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَتْ الْعِتْقَ وَجَهِلَتْ الْحُكْمَ. وَإِنْ عَتَقَتْ وَلَمْ تَجِدْ مَا تَسْتَتِرُ بِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ الِاسْتِتَارِ.
[مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فِي الصَّلَاةِ]
(844) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فِي الصَّلَاةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ كَالْأَمَةِ فِي صَلَاتِهَا وَسُتْرَتِهَا، صَرَّحَ بِهَا الْخِرَقِيِّ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ كُرِهَ لَهَا ذَلِكَ وَأَجْزَأَهَا.
وَمِمَّنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا تَغْطِيَةَ رَأْسِهَا النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَدْ نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ كَيْفَ تُصَلِّي أُمُّ الْوَلَدِ؟ قَالَ: تُغَطِّي شَعَرَهَا وَقَدَمَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَهِيَ تُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي الْحُرَّةُ. فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَيَكُونَ كَمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَلَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ فِيهَا، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّةَ، وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ حُرِّيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، فَغَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَمَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِمَاءِ، إلَّا فِي أَنَّهَا لَا يُنْقَلُ الْمِلْكُ فِيهَا، فَهِيَ كَالْمَوْقُوفَةِ، وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لِلْحُرِّيَّةِ لَا يُوجِبُ السَّتْرَ، كَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهَا السَّتْرُ، وَيُكْرَهُ لَهَا كَشْفُ الرَّأْسِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّبَهِ بِالْحَرَائِرِ.
[مَسْأَلَة ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى]
(845) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى، أَتَمَّهَا، وَقَضَى الْمَذْكُورَةَ، وَأَعَادَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إذَا كَانَ الْوَقْتُ مُبْقًى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد
(1/434)
فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ سَنَةٍ: يُصَلِّيهَا، وَيُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِمَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْفَرِيضَةِ فَائِتَةٌ، فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ، كَالصِّيَامِ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ، فَقَضَاهُنَّ مُرَتَّبَاتٍ. وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي جُمُعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْأَحْزَابِ صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنِّي صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتَهَا. فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَعَادَ الْمَغْرِبَ.»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدْ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدْ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، فِي مُسْنِدِهِ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُؤَقَّتَتَانِ، فَوَجَبَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا. كَالْمَجْمُوعَتَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَشُقُّ، وَيُفْضِي إلَى الدُّخُولِ فِي التَّكْرَارِ، فَسَقَطَ، كَالتَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ صِيَامِ رَمَضَانَ. وَلَنَا أَنَّهَا صَلَوَاتٌ وَاجِبَاتٌ، تُفْعَلُ فِي وَقْتٍ يَتَّسِعُ لَهَا، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالْخَمْسِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى التَّكْرَارِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ، كَتَرْتِيبِ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُمُعَةَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، كَتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَاضِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ، ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، فِي الْمَأْمُومِ.
وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَأْمُومِ، وَنَقَلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ فِي الْمُنْفَرِدِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ فِي الْمُنْفَرِدِ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ، فِي الْإِمَامِ: يَنْصَرِفُ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمَأْمُومُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَنْقُلُهَا غَيْرُ حَرْبٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي الْمَأْمُومِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ، وَفِي الْمُنْفَرِدِ، أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، فَيَكُونَ فِي الْجَمِيعِ أَدَاءً رِوَايَتَانِ
(1/435)
إحْدَاهُمَا يُتِمُّهَا.
وَقَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ لَا غَيْرُ. وَلَنَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، كَتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ. وَلَنَا عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ أَيْضًا، قَالَ: يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَهَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَكَرَ فِيهَا فَائِتَةً، فَلَمْ تَفْسُدْ كَمَا لَوْ كَانَ مَأْمُومًا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَمْضِي فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ كَلَامُ أَحْمَدَ، إذَا كَانَ وَرَاءَ الْإِمَامِ، أَنَّهُ يَمْضِي مَعَ الْإِمَامِ، وَيُعِيدُهُمَا جَمِيعًا ".
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، قَالَ: وَاَلَّذِي أَقُولُ، أَنَّهُ يَمْضِي، لِأَنَّهُ يَشْنُعُ أَنْ يَقْطَعَ مَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، فَإِنْ مَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ، انْبَنَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا قُلْنَا: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِيرُ نَفْلًا فَلَا يَلْزَمُ ائْتِمَامُهُ. قَالَ مُهَنَّا: قُلْت لِأَحْمَدَ: إنِّي كُنْتُ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ، فَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ، ثُمَّ أَعَدْتُ الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ؟ قَالَ: أَصَبْتَ. فَقُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أَخْرُجَ حِينَ ذَكَرْتُهَا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَكَيْفَ أَصَبْتُ؟ قَالَ: كُلٌّ جَائِزٌ.
[فَصْلٌ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى]
(846) فَصْلٌ: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى صَلَّى نَاسِيًا لِلْفَائِتَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ: مَتَى ذَكَرَ الْفَائِتَةَ وَقَدْ سَلَّمَ، أَجْزَأَتْهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ التَّرْتِيبُ مَعَ النِّسْيَانِ. وَلَعَلَّ مَنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ أَبِي جُمُعَةَ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَجْمُوعَتَيْنِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّ الْمَنْسِيَّةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَمَارَةٌ، فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا النِّسْيَانُ، كَالصِّيَامِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُمُعَةَ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمَجْمُوعَتَانِ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْذَرْ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا أَمَارَةً، وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ ذِكْرُ الْفَائِتَةِ أَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ لَهَا ذِكْرٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/436)
[مَسْأَلَة خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَة]
(847) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ خَشِيَ خُرُوجَ الْوَقْتِ اعْتَقَدَ وَهُوَ فِيهَا أَنْ لَا يُعِيدَهَا، وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ) يَعْنِي إذَا خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ، قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، وَإِعَادَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، سَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ حَسْبُ. وَقَوْلُهُ " اعْتَقَدَ أَنْ لَا يُعِيدَهَا ". يَعْنِي لَا يُغَيِّرُ نِيَّتَهُ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُعِيدُهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا، لَكِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا قَدْرٌ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، وَيُقَدِّمُ الْحَاضِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ. اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمَالِكٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْحَاضِرَةُ جُمُعَةً أَوْ غَيْرَهَا. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ مَا نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَلَطًا فِي النَّقْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا قَدِيمًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ نَسِيَ صَلَاةً وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ: يَبْدَأُ بِالْجُمُعَةِ، هَذِهِ يُخَافُ فَوْتُهَا. فَقِيلَ لَهُ: كُنْتُ أَحْفَظُ عَنْك أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ أَنَّهُ يُعِيدُ هَذِهِ وَهَذِهِ. فَقَالَ: كُنْت أَقُولُ هَذَا.
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ كَانَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ يَتَّسِعُ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَجَبَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّسِعُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ فِي مَنْ يَقْضِي صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ، فَتَحْضُرُ صَلَاةٌ، أَيُؤَخِّرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِذَا صَلَّاهَا يُعِيدُهَا؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ يُصَلِّيهَا فِي الْجَمَاعَةِ إذَا حَضَرَتْ، إذَا كَانَ لَا يَطْمَعُ أَنْ يَقْضِيَ الْفَوَائِتَ كُلَّهَا إلَى آخِرِ وَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي حَضَرَتْ، فَإِنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ قَضَى الْفَوَائِتَ، مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا صَلَّى مَرَّةً. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ. وَعَلَّلَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَتَّسِعُ لِقَضَاءِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَفِعْلِ الْحَاضِرَةِ، فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ وَالشُّرُوعُ فِي أَدَاءِ الْحَاضِرَةِ، كَذَا هَاهُنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَ الْجَمَاعَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ مَشْرُوطًا لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ جَمِيعِهَا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ رِوَايَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى تَقْدِيمِ التَّرْتِيبِ بِكُلِّ حَالٍ، فَحُجَّتُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا» . وَهَذَا عَامٌّ فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ مُسْتَحَقٌّ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ فَيُسْتَحَقُّ مَعَ ضِيقِهِ، كَتَرْتِيبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْحَاضِرَةَ صَلَاةٌ ضَاقَ وَقْتُهَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ. وَلِأَنَّ الْحَاضِرَةَ آكَدُ مِنْ الْفَائِتَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا، وَيُكَفَّرُ عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَالْفَائِتَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَخَّرَهَا شَيْئًا، وَأَمَرَهُمْ
(1/437)
فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ» ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مُؤَقَّتٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ فَائِتَةٍ عَلَى حَاضِرَةٍ يُخَافُ فَوَاتُهَا كَالصِّيَامِ.
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا» مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا ذُكِرَتْ فَوَائِتُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ إلَّا الْأُولَى، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَا إذَا اجْتَمَعَتْ حَاضِرَةٌ - يُخَافُ فَوْتُهَا - وَفَائِتَةٌ، لِتَأَكُّدِ الْحَاضِرَةِ بِمَا بَيَّنَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ» . قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ. قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ» فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا اللَّفْظَ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَلَا سَمِعْت بِهَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَبْدَأُ فَيَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ حَتَّى إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَاضِرَةِ، صَلَّاهَا، ثُمَّ عَادَ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا.
فَإِنْ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ فِي صَلَاةِ الْحَاضِرَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ فَأَدْرَكَتْهُ الظُّهْرُ، وَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَوَاتِ: يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَيَحْسُبُهَا مِنْ الْفَوَائِتِ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَصْرٌ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. فِي مَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، وَخَشِيَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ، رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ، التَّرْتِيبُ وَالْجَمَاعَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا، فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا.
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْحَاضِرَةِ عَلَى الْفَوَائِتِ إذَا كَثُرَتْ، فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْحَاضِرَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مَتَى حَضَرَتْ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةُ، لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِهِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ الْفَائِتَةَ خَلْفَ مَنْ يُؤَدِّي الظُّهْرَ ابْتَنَى ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ ائْتِمَامِ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ. وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، سَنَذْكُرُهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ سِنِينَ: يُعِيدُهَا، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّاهَا، وَيَجْعَلُهَا مِنْ الْفَوَائِتِ الَّتِي يُعِيدُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَقَالَ: لَا يُصَلِّي مَكْتُوبَةً إلَّا فِي آخِرِ وَقْتِهَا حَتَّى يَقْضِيَ الَّتِي عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ.
[فَصْلٌ تَرَكَ ظُهْرًا وَعَصْرًا مِنْ يَوْمَيْنِ لَا يَدْرِي أَيّهمَا أَوَّلًا]
(848) فَصْلٌ: إذَا تَرَكَ ظُهْرًا وَعَصْرًا مِنْ يَوْمَيْنِ، لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلًا. فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ يُجْزِئُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيَّهُمَا نَسِيَ أَوَّلًا، فَيَقْضِيَهَا، ثُمَّ يَقْضِيَ الْأُخْرَى. نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى أَكْثَرِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي. يَعْنِي أَنَّهُ يَتَحَرَّى أَيَّهُمَا نَسِيَ أَوَّلًا فَيَقْضِيهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْأُخْرَى. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مِمَّا تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهُ، بِدَلِيلِ مَا إذَا تَضَايَقَ الْوَقْتُ أَوْ نَسِيَ الْفَائِتَةَ، فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ بِغَيْرِ تَحَرٍّ.
نَقَلَهَا مُهَنَّا؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ فِيمَا فِيهِ أَمَارَةٌ، وَهَذَا لَا أَمَارَةَ فِيهِ يَرْجِعُ إلَيْهَا، فَرَجَعَ فِيهِ إلَى تَرْتِيبِ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ، ثُمَّ الْعَصْرِ، ثُمَّ الظُّهْرِ
(1/438)
أَوْ الْعَصْرِ ثُمَّ الظُّهْرِ ثُمَّ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ الْعَصْرَ، وَيَوْمٍ الظُّهْرَ، صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا قَالَ: يُعِيدُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
[فَصْلٌ تَرْكِ التَّرْتِيبِ بِالْجَهْلِ بِوُجُوبِهِ]
(849) فَصْلٌ: وَلَا يُعْذَرُ فِي تَرْكِ التَّرْتِيبِ بِالْجَهْلِ بِوُجُوبِهِ، وَقَالَ زُفَرُ: يُعْذَرُ بِذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْمَجْمُوعَتَيْنِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ لَا يُسْقِطُ أَحْكَامَهَا كَالْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.
[فَصْلٌ إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ يَتَشَاغَلُ بِالْقَضَاءِ]
(850) فَصْلٌ: إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ يَتَشَاغَلُ بِالْقَضَاءِ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ، أَمَّا فِي بَدَنِهِ فَأَنْ يَضْعُفَ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ، وَأَمَّا فِي الْمَالِ فَأَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ عَنْ مَعَاشِهِ، أَوْ يُسْتَضَرُّ بِذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فِي الرَّجُلِ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ: يُعِيدُ حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِمَا قَدْ ضَيَّعَ. وَيَقْتَصِرُ عَلَى قَضَاءِ الْفَرَائِضِ، وَلَا يُصَلِّي بَيْنَهَا نَوَافِلَ، وَلَا سُنَنَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَهُمَا سُنَّةً، وَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَةَ أَهَمُّ، فَالِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى، إلَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ يَسِيرَةً، فَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ سُنَنِهَا الرَّوَاتِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ، فَقَضَى سُنَّتَهَا قَبْلَهَا.
فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ، لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، أَعَادَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ هَاهُنَا إلَّا بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَزِمَهُ.
[فَصْلٌ نَامَ فِي مَنْزِل فِي السَّفَر فَاسْتَيْقَظَ بَعْد خُرُوج وَقْت الصَّلَاة]
(851) فَصْلٌ: وَإِذَا نَامَ فِي مَنْزِلٍ فِي السَّفَرِ، فَاسْتَيْقَظَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَالْمُسْتَحَبُّ. لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، فَيُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «عَرَّسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَ فِيهِ الشَّيْطَانُ. قَالَ فَفَعَلْنَا. ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ» . وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ.
فَإِنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَلَاةٍ أُخْرَى، كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ، لَا يَتَطَوَّعُ بِهِ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، فَإِنْ فَعَلَ صَحَّ تَطَوُّعُهُ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي يَنْسَى فَرِيضَةً فَلَا يَذْكُرُهَا إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يُتَمِّمُهَا، فَحُكِمَ لَهُ بِصِحَّتِهَا.
(1/439)
فَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، فَلَا يُكْرَهُ قَضَاؤُهَا قَبْلَ الْفَرَائِضِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ.
(852) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ لِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ إنْ تَشَاغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ، وَيُؤَخِّرُ الرَّكْعَتَيْنِ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ: أَبُو الْحَارِثِ، نَقَلَ عَنْهُ، إذَا انْتَبَهَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَخَافَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ بَدَأَ بِالْفَرِيضَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَدِمَتْ الْحَاضِرَةُ عَلَى الْفَائِتَةِ، مَعَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ مُرَاعَاةً لِوَقْتِ الْحَاضِرَةِ، فَتَقْدِيمُهَا عَلَى السُّنَّةِ أَوْلَى. وَهَكَذَا إنْ اسْتَيْقَظَ لَا يَدْرِي أَطَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَوْ لَا، بَدَأَ بِالْفَرِيضَةِ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ، وَإِمْكَانُ الْإِتْيَانِ بِالْفَرِيضَةِ فِيهِ.
[فَصْلٌ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَة]
(853) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَاتَهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، حِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، أَوْ ذِكْرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَّسَ بِنَا مِنْ السَّحَرِ، فَمَا اسْتَيْقَظْنَا إلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ؛ قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ دَهِشِينَ مُسْرِعِينَ؛ لِمَا فَاتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْكَبُوا. فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلْنَا، وَقَضَى الْقَوْمُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، وَتَوَضَّئُوا، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَصَلَّيْنَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا؟ قَالَ: لَا، لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ. رَوَاهُ»
الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
[فَصْلٌ أَسْلَمَ فِي دَار الْحَرْب فَتَرَكَ صَلَوَات أَوْ صِيَامًا لَا يَعْلَم وُجُوبه]
فَصْلٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَتَرَكَ صَلَوَاتٍ، أَوْ صِيَامًا لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهُ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، فَلَزِمَتْهُ مَعَ الْجَهْلِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
[مَسْأَلَة يُؤَدِّب الْغُلَام عَلَى الطَّهَارَة وَالصَّلَاة إذَا تَمُتْ لَهُ عَشْر سِنِينَ]
(855) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُؤَدَّبُ الْغُلَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إذَا تَمَّتْ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ.) مَعْنَى التَّأْدِيبِ، الضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالتَّعْنِيفُ، قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَأْمُرَهُ بِهَا، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ.
(1/440)
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَفْظُ حَدِيثِ غَيْرِهِ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» .
وَهَذَا الْأَمْرُ وَالتَّأْدِيبُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، كَيْ يَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تُشْرَعُ. إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ: مَا عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ، وَلِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي ابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ: إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ يُعِيدُ.
وَلَعَلَّ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَرَ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» . وَلِأَنَّهُ صَبِيٌّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالصَّغِيرِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ ضَعِيفُ الْعَقْلِ وَالْبِنْيَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ يَضْبِطُ الْحَدَّ الَّذِي تَتَكَامَلُ فِيهِ بِنْيَتُهُ وَعَقْلُهُ، فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ تَزَايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ، فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَالْبُلُوغُ ضَابِطٌ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِبُ بِهِ الْحُدُودُ، وَتُؤْخَذُ بِهِ الْجِزْيَةُ مِنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَلَغَهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَكْثَرُ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوا لَمَا اُخْتُصَّ بِابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّأْدِيبُ هَاهُنَا لِلتَّمْرِينِ وَالتَّعْوِيدِ، كَالضَّرْبِ عَلَى تَعَلُّمِ الْخَطِّ وَالْقُرْآنِ وَالصِّنَاعَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
[فَصْلٌ يَعْتَبِر لِصَلَاةِ الصَّبِيّ مِنْ الشُّرُوط مَا يَعْتَبِر فِي صَلَاة الْبَالِغ]
(856) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ لِصَلَاةِ الصَّبِيِّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةِ الْبَالِغِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ غَيْرِ الْحَائِضِ بِغَيْرِ الْخِمَارِ.
[مَسْأَلَة سُجُودُ الْقُرْآن أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَجْدَة]
(857) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَسُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِي الْمُفَصَّلِ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ. وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ،، وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً مِنْهَا سَجْدَةُ (ص) . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» . وَقَالَ مَالِكٌ، فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: عَزَائِمُ السُّجُودِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمَالِكٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ
أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: «سَجَدْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى عَشْرَةَ لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] . فَسَجَدَ، فَقُلْت: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ قَالَ: سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» .
رَوَاهُ
(1/441)
الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] /وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إلَّا سَجَدَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد.
وَأَبُو هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ. ثُمَّ إنَّ تَرْكَ السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالسُّجُودَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ أَبُو دَاوُد إسْنَادُهُ وَاهٍ. ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُ غَيْرِ الْمُفَصَّلِ إحْدَى عَشْرَةَ فَيَكُونَ مَعَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.
(858) فَصْلٌ: فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَيْسَتْ " ص " مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ مِنْ الْعَزَائِمِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَعُثْمَانَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ فِيهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا. وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ فِيهَا. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ، فَسَجَدَ، وَسَجَدُوا» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِي ص، وَقَالَ: سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ " ص " مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا، فَيَكُونُ سُجُودًا لِلشُّكْرِ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(859) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فِي الْحَجِّ مِنْهَا سَجْدَتَانِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزِرٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
(1/442)
وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ الْأَخِيرَةُ سَجْدَةً؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَلَمْ تَكُنْ سَجْدَةً، كَقَوْلِهِ {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] . وَلَنَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا.» وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ تَارِكًا إحْدَاهُمَا لَتَرَكْتُ الْأُولَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى إخْبَارٌ، وَالثَّانِيَةَ أَمْرٌ، وَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ أَوْلَى. وَذِكْرُ الرُّكُوعِ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ السُّجُودِ، كَمَا ذُكِرَ الْبُكَاءُ فِي قَوْلِهِ {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وَقَوْلِهِ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] .
[فَصْلٌ مَوَاضِعُ السُّجُود فِي الْقُرْآن]
(860) فَصْلٌ: وَمَوَاضِعُ السُّجُودِ: آخِرُ الْأَعْرَافِ: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] ، وَفِي الرَّعْدِ {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وَفِي النَّحْلِ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَفِي بَنِي إسْرَائِيلَ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] . وَفِي مَرْيَمَ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَفِي الْحَجِّ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وَقَوْلُهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . وَفِي الْفُرْقَانِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] . وَفِي النَّمْلِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] . وَفِي الم السَّجْدَةِ: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] . وَفِي حم تَنْزِيلٌ: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] . وَآخِرُ النَّجْمِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] . وَفِي الِانْشِقَاقِ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] . وَآخِرُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] .
وَقَالَ مَالِكٌ: السُّجُودُ فِي حم عِنْدَ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هُنَاكَ فِيهَا. وَلَنَا، أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي الثَّانِيَةِ، فَكَانَ السُّجُودُ بَعْدَهَا، كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَذَكَرَ السُّجُودَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، كَذَا هَاهُنَا.
(1/443)
[مَسْأَلَة لَا يَسْجُد لِلتِّلَاوَةِ إلَّا وَهُوَ طَاهِر]
(861) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَسْجُدُ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلسُّجُودِ مَا يُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ، تُومِئُ بِرَأْسِهَا. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ فِي مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» . فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ السُّجُودُ. وَلِأَنَّهُ صَلَاةٌ فَيُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ، كَذَاتِ الرُّكُوعِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ كَسُجُودِ السَّهْوِ.
(862) فَصْلٌ: وَإِذَا سَمِعَ السَّجْدَةَ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ وَلَا التَّيَمُّمُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَتَيَمَّمُ، وَيَسْجُدُ. وَعَنْهُ: يَتَوَضَّأُ، وَيَسْجُدُ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَنَا أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ، فَإِذَا فَاتَ لَمْ يَسْجُدْ كَمَا لَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْجُدْ، فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ بَعْدَهَا.
[مَسْأَلَة يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ إذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ]
(863) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ إذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ.» قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يُعْجِبُهُ هَذَا الْحَدِيثُ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: يُعْجِبُهُ لِأَنَّهُ كَبَّرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُنْفَرِدٌ، فَشُرِعَ لَهُ التَّكْبِيرُ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ كَسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَبَّرَ فِيهِ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ التَّكْبِيرَ لِلرَّفْعِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُشْرَعُ فِي ابْتِدَاءِ السُّجُودِ أَكْثَرُ مِنْ تَكْبِيرَةٍ. قَالَ: يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ وَاحِدَةً، وَلِلسُّجُودِ أُخْرَى. وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَظَاهِرُهُ أَنْ يُكَبِّرَ وَاحِدَةً، وَقِيَاسُهُ عَلَى سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. .
[فَصْلٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ تَكْبِيرَة سُجُودِ التِّلَاوَة]
(864) فَصْلٌ: وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ السُّجُودِ إنْ سَجَدَ. فِي غَيْرِ صَلَاةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَةُ افْتِتَاحٍ، وَإِنْ كَانَ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الرَّفْعُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا،
(1/444)
فَكَذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَا يَرْفَعُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الرَّفْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَفْعَلُهُ فِي السُّجُودِ. يَعْنِي رَفْعَ يَدَيْهِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: «قُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَكَانَ يُكَبِّرُ إذَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ.» قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
[فَصْلٌ يَقُول فِي سُجُوده لِلتِّلَاوَةِ مَا يَقُول فِي سُجُود الصَّلَاة]
(865) فَصْلٌ: وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُد. فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَمَهْمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فَحَسَنٌ.
[مَسْأَلَة التَّسْلِيمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَة]
(866) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسَلِّمُ إذَا رَفَعَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّسْلِيمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَرَأَى أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَرُوِيَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَحْمَدُ، أَمَّا التَّسْلِيمُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى سَلَامٍ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى تَشَهُّدٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلِأَنَّهُ لَا رُكُوعَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَشَهُّدٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَيُجْزِئُهُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً. قَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. قَالَ إِسْحَاقُ: يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَقَطْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: إنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى؛ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا اثْنَتَانِ.
(1/445)
[مَسْأَلَة لَا يَسْجُد فِي الْأَوْقَات الَّتِي لَا يَجُوز أَنْ يُصَلِّي فِيهَا تَطَوُّعًا]
(867) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَسْجُدُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا تَطَوُّعًا.) قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَمَّنْ قَرَأَ سُجُودَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، أَيَسْجُدُ؟ قَالَ: لَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْجُدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ؛
وَرَخَّصَ فِيهِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، قَالَ: كُنْت أَقُصُّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَسْجُدُ، فَنَهَانِي ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ أَنْتَهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «إنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ يَسْجُدُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ: أَنَّ قَاصًّا كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَسْجُدُ، فَنَهَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
[مَسْأَلَة سُجُودَ التِّلَاوَة سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة]
(868) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ سَجَدَ فَحَسَنٌ، وَمَنْ تَرَكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وَلَا يُذَمُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ. وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يُفْعَلُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ وَاجِبًا كَسُجُودِ الصَّلَاةِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: «قَرَأْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إذَا جَاءَتْ السَّجْدَةُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ. وَفِي لَفْظٍ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ. فَقَرَأَهَا، وَلَمْ يَسْجُدْ، وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا
وَهَذَا بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلَا نُقِلَ خِلَافُهُ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ لِتَرْكِ السُّجُودِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ فَضْلَهُ، وَلَا مَشْرُوعِيَّتَهُ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبٍ.
[فَصْلٌ يُسَنُّ السُّجُودُ لِلتَّالِيَّ وَالْمُسْتَمِعِ]
(869) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ السُّجُودُ لِلتَّالِي وَالْمُسْتَمِعِ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ
(1/446)
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى لَا يَجِدَ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ» . فَأَمَّا السَّامِعُ غَيْرُ الْقَاصِدِ لِلسَّمَاعِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِمْرَانَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ السُّجُودُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَنَافِعٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ سَامِعٌ لِلسَّجْدَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ السُّجُودُ كَالْمُسْتَمِعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُؤَكِّدُ عَلَيْهِ السُّجُودَ، وَإِنْ سَجَدَ فَحَسَنٌ
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ مَرَّ بِقَاصٍّ، فَقَرَأَ الْقَاصُّ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ عُثْمَانُ مَعَهُ، فَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانُ: مَا جَلَسْنَا لَهَا. وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا عَدَوْنَا لَهَا. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ نَعْلَمُهُ إلَّا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ سَمِعَ عَنْ قَصْدٍ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ جَمْعًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ؛ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ السَّامِعِ عَلَى الْمُسْتَمِعِ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْأَجْرِ ".
[فَصْلٌ يَشْتَرِط لِسُجُودِ الْمُسْتَمِع أَنْ يَكُون التَّالِي مِمَّنْ يُصْلَح أَنْ يَكُون لَهُ إمَامًا]
(870) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الْمُسْتَمِعِ أَنْ يَكُونَ التَّالِي مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إمَامًا. فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، فَلَا يَسْجُدُ السَّامِعُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ لَا يَسْجُدُ إذَا سَمِعَ الْمَرْأَةَ قَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ إمَامُك. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَجْدَةً، ثُمَّ نَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّكَ كُنْتَ إمَامَنَا، وَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، فِي " مُسْنَدِهِ "، وَالْجُوزَجَانِيُّ، فِي " الْمُتَرْجَمِ "، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ التَّالِي أُمِّيًّا لَمْ يَسْجُدْ الْمُسْتَمِعُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْجُدُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَوْجُودٌ، وَهُوَ سَبَبُ السُّجُودِ. وَلَنَا، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَلِأَنَّهُ إمَامٌ لَهُ فَلَمْ يَسْجُدْ بِدُونِ إمَامِهِ كَمَا لَوْ كَانَا فِي صَلَاةٍ وَإِنْ قَرَأَ الْأُمِّيُّ سَجْدَةً فَعَلَى الْقَارِئِ الْمُسْتَمِعِ السُّجُودُ مَعَهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فِي السُّجُودِ فَإِنْ كَانَ التَّالِي فِي صَلَاةٍ، وَالْمُسْتَمِعُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، سَجَدَ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ إنْ كَانَتْ فَرْضًا، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِصَلَاتِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَا يَسْجُدُ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْجُدُ عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ، لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ لِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْ إذَا فَرَغَ، فَلَأَنْ لَا يَسْجُدَ بِحُكْمِ سَمَاعِهِ أَوْلَى، وَهَكَذَا الْحَكَمُ إنْ كَانَ التَّالِي فِي غَيْرِ صَلَاةٍ وَالْمُسْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ.
(1/447)
[فَصْلٌ لَا يَقُوم الرُّكُوعُ مَقَامَ سُجُودِ التِّلَاوَة]
(871) فَصْلٌ: وَلَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَ السُّجُودِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُومُ مَقَامَهُ اسْتِحْبَابًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وَلَنَا، أَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ الرُّكُوعُ، كَسُجُودِ الصَّلَاةِ، وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا السُّجُودُ، لِأَنَّهُ قَالَ: (وَخَرَّ) وَلَا يُقَالُ لِلرَّاكِعِ: خَرَّ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - السُّجُودُ لَا الرُّكُوعُ، إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ، عَلَى أَنَّ سَجْدَةَ " ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ دَاوُد رَكَعَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ دَاوُد إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةً، لَا لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ
[فَصْلٌ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ]
(872) فَصْلٌ: وَإِنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ؛ وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنْ شِئْتَ رَكَعْتَ وَإِنْ شِئْتَ سَجَدْتَ، وَبِهِ قَالَ. الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَمَسْرُوقٍ،. قَالَ مَسْرُوقٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ سُورَةً وَآخِرُهَا سَجْدَةٌ، فَلْيَرْكَعْ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَسْجُدْ؛ فَإِنَّ الرَّكْعَةَ مَعَ السَّجْدَةِ، وَإِنْ سَجَدَ فَلْيَقْرَأْ إذَا قَامَ سُورَةً، ثُمَّ لِيَرْكَعْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى.
[فَصْلٌ إذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَة فِي السَّفَر جَازَ أَنْ يُومِئ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهه]
فَصْلٌ:: وَإِذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، جَازَ أَنْ يُومِئَ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ. فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عُمَرَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ» . وَلِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَهِيَ تُفْعَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا سَجَدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْقِيَاسِ.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: يُومِئُ. وَفَعَلَهُ عَلْقَمَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ فِي صَلَاةِ الْمَاشِي فِي التَّطَوُّعِ، أَنَّهُ يُومِئُ فِيهَا بِالسُّجُودِ، وَلَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ بِالْأَرْضِ، وَيَكُونُ هَاهُنَا مِثْلَهُ.
[فَصْلٌ يَكْرَه أَنْ يَنْتَزِع الْآيَات الَّتِي فِيهَا السُّجُود فَيَقْرَأهَا وَيَسْجُد فِيهَا]
(874) فَصْلٌ: يُكْرَهُ اخْتِصَارُ السُّجُودِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَزِعَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السُّجُودُ فَيَقْرَأَهَا وَيَسْجُدَ فِيهَا. وَكَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ النُّعْمَانُ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ.
(1/448)
وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْ السَّلَفِ فِعْلُهُ، بَلْ كَرَاهَتُهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ قِرَاءَة السَّجْدَة فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا]
(875) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ قِرَاءَةُ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا، وَإِنْ قَرَأَ لَمْ يَسْجُدْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إيهَامًا عَلَى الْمَأْمُومِ. وَلَمْ يَكْرَهْهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ سَجَدَ فِي الظُّهْرِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ، فَرَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ فِيهِ إيهَامًا عَلَى الْمَأْمُومِ. وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى.
وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابُنَا: الْمَأْمُومُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اتِّبَاعِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَالْأَوْلَى اتِّبَاعُهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» . وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَسْمَعُ، أَوْ أُطْرُوشًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، لَسَجَدَ بِسُجُودِ إمَامِهِ، كَذَا هَاهُنَا.
[فَصْلٌ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْد تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَم]
(876) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ، وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي أَيَّامِهِ الْفُتُوحُ، وَاسْتَسْقَى فَسُقِيَ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ سَجَدَ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَمْ يُخِلَّ بِهِ.
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يُسَرُّ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ قَالَ: «كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يُسَرُّ بِهِ، أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا؛ شُكْرًا لِلَّهِ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَسَجَدَ الصِّدِّيقُ حِينَ فَتَحَ الْيَمَامَةَ وَعَلِيٌّ حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَثَبَتَ ظُهُورُهُ وَانْتِشَارُهُ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ، وَتَرْكُهُ تَارَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ يُفْعَلُ تَارَةً، وَيُتْرَكُ أُخْرَى. وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الشُّكْرِ مَا يُشْتَرَطُ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ لَا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ]
(877) فَصْلٌ: وَلَا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. لِأَنَّ سَبَبَ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْهَا. فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ. فَأَمَّا سَجْدَةُ " ص " إذَا سَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَقُلْنَا: لَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ،
(1/449)
فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا مِنْ الصَّلَاةِ، وَتَتَعَلَّقُ بِالتِّلَاوَةِ، فَهِيَ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَالْعَشَاءُ بَدَأَ بِالْعَشَاءِ]
(878) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَالْعَشَاءُ بَدَأَ بِالْعَشَاءِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَالْمُسْتَحَبُّ. أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ. قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ، وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَلَ عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ» وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْضُرَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ وَيَخَافَ فَوْتَهَا فِي الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يَخَافَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُرِّبَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ
وَقَوْلُهُ: وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ. يَعْنِي الْجَمَاعَةَ. وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا. وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَعَامًا خَفِيفًا. وَقَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ، وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا نَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، فَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ أَنَّ صَلَاتَهُ تُجْزِئُهُ. كَذَلِكَ إذَا صَلَّى حَاقِنًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْعَنْبَرِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ، وَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَعَ ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعِيدَ إذَا شَغَلَهُ ذَلِكَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ لَوْ شُغِلَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ، كَذَلِكَ إذَا شَغَلَهُ الْبَوْلُ.
[مَسْأَلَة إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْخَلَاءِ]
(879) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْخَلَاءِ، بَدَأَ بِالْخَلَاءِ) يَعْنِي إذَا كَانَ حَاقِنًا كُرِهَتْ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، سَوَاءٌ خَافَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَمْ يَخَفْ. لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرَوَى ثَوْبَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلَا يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاقِنٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ وَبِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ خُشُوعِهَا. وَحُضُورِ قَلْبِهِ فِيهَا، فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَلَ،
(1/450)
صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا وَقَالَ، ابْنُ أَبِي مُوسَى: إنْ كَانَ بِهِ مِنْ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ مَا يُزْعِجُهُ وَيَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، أَعَادَ، فِي الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ. لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ. اللَّذَيْنِ رَوَيْنَاهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، فَهَذَانِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي يُعْذَرُ بِهَا فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: «وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ» . عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَوْلُهُ: " لَا صَلَاةَ " عَامٌّ أَيْضًا.
(880) فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا الْمَرِيضُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ. قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ. لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَرِيضٌ فَيَقُولُ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» .
(881) فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا الْخَائِفُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعُذْرُ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ» وَالْخَوْفُ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَالِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْأَهْلِ. فَالْأَوَّلُ، أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا، يَأْخُذُهُ أَوْ عَدُوًّا، أَوْ لِصًّا، أَوْ سَبُعًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ سَيْلًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ. أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلَازِمُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُوفِيهِ، فَإِنْ حَبَسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ إيفَاؤُهُ. وَكَذَلِكَ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَدُّ قَذْفٍ، فَخَافَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ إيفَاؤُهُ وَهَكَذَا إنْ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ، حَتَّى يُصَالِحَ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا الْمُصَالَحَةُ وَلَا الْعَفْوُ.
وَحَدُّ الْعَفْوِ أَنْ يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُ، فَلَيْسَ يُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو إسْقَاطَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا بِالْمَطَرِ. الَّذِي يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَالْوَحْلِ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ؛ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إذَا قُلْت: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ
(1/451)
أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ، ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ. صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَنَحْوَهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ: فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ وَرَوَى أَبُو الْمَلِيحِ أَنَّهُ «شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ لَمْ يَبْتَلَّ أَسْفَلُ نِعَالِهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَيُعْذَرُ أَيْضًا مَنْ يُرِيدُ سَفَرًا، وَيَخَافُ فَوَاتَ رُفْقَتِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ؛ بِخُرُوجِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ وَاللُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهِمَا، أَوْ يَخَافُ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ خُبْزٌ فِي التَّنُّورِ، أَوْ طَبِيخٌ عَلَى النَّارِ يَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إنْ تَرَكَ مُلَازَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونُ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ إنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ.
فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ؛ النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَضِيعُوا، أَوْ يَكُونُ وَلَدُهُ ضَائِعًا فَيَرْجُو وُجُودَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَوْ يَكُونُ لَهُ قَرِيبٌ يَخَافُ إنْ تَشَاغَلَ بِهِمَا مَاتَ فَلَمْ يَشْهَدْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ.
[فَصْلٌ يُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ النُّعَاسَ حَتَّى يَفُوتَاهُ فَيْصَلِي وَحْدَهُ وَيَنْصَرِفُ]
فَصْلٌ: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ النُّعَاسَ حَتَّى يَفُوتَاهُ فَيْصَلِي وَحْدَهُ وَيَنْصَرِفُ
(1/452)
[باب ما يبطل الصلاة إذا تركه عامدا أو ساهيا]
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي. قَالَ: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ زَادَ مُسْلِمٌ «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ.» (883)
[مَسْأَلَةٌ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ]
(885) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، أَوْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ - وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ -، أَوْ الرُّكُوعَ، أَوْ الِاعْتِدَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَوْ السُّجُودَ، أَوْ الِاعْتِدَالَ بَعْدَ السُّجُودِ، أَوْ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ، أَوْ السَّلَامَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الصَّلَاةِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: وَاجِبٍ، وَمَسْنُونٍ، فَالْوَاجِبُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَسْقُطُ فِي الْعَمْدِ وَلَا فِي السَّهْوِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَالْقِيَامُ، وَالرُّكُوعُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالسُّجُودُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَالِاعْتِدَالُ عَنْهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ؛ وَالتَّشَهُّدُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالسَّلَامُ، وَتَرْتِيبُ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَهَذِهِ تُسَمَّى أَرْكَانًا لِلصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ. وَفِي وُجُوبِ بَعْضِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَمْ تُصَلِّ وَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا بِدُونِهَا. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ بِالسَّهْوِ، لَسَقَطَتْ عَنْ الْأَعْرَابِيِّ لِكَوْنِهِ جَاهِلًا بِهَا. وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي.
(2/3)
فَأَمَّا بُطْلَانُ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا سَهْوًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَتَى بِهِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ. ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَنَى عَلَيْهَا، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَقَوْلِنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَصْلُ الطَّوِيلُ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي نَسِيَ فِيهَا وَاَلَّذِي قُلْنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَيُرْجَعُ إلَى الْعُرْفِ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بِالتَّحَكُّمِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَتَى تَرَكَ رُكْنًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى سَلَّمَ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ مِنْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الصَّلَاةِ، سَجَدَهَا مَتَى ذَكَرَهَا، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ، سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ فِي الْمُصَلِّي يَنْسَى سَجْدَةً أَوْ رَكْعَةً، يُصَلِّيهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي رَجُلٍ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَذَكَرَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ سَجَدَهَا. وَلَنَا، عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ مَعَ قُرْبِ الْفَصْلِ، أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ الْفَصْلُ، أَتَى بِمَا تَرَكَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَإِذَا تَرَكَ رُكْنًا وَاحِدًا، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ رَكْعَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِتَطَاوُلِ الْفَصْلِ، أَنَّهُ أَخَلَّ بِالْمُوَالَاةِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ فِي يَوْمٍ ثَانٍ.
(884) فَصْلٌ: وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَأْتِي بِالرُّكْنِ وَمَا بَعْدَهُ لَا غَيْرُ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ: إذَا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، قَضَى رَكْعَةً، لَا يَعْتَدُّ بِالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِسَجْدَتَيْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَيْهَا، وَأَخَذَ فِي عَمَلٍ بَعْدَ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ، قَضَى رَكْعَةً، ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ.
(2/4)
وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ شَأْنِ الصَّلَاةِ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكٌ زَعَمُوا. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ وَسَأَلَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ: " أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ رَكْعَةٍ كَالْحُكْمِ فِي تَرْكِ الرَّكْعَةِ بِكَمَالِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(885) فَصْلٌ: وَتَخْتَصُّ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مِنْ بَيْنِ الْأَرْكَانِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ بِتَرْكِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» . وَلَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِهَا.
وَيَخْتَصُّ الْقِيَامُ بِسُقُوطِهِ فِي النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ، فَسَقَطَ فِي النَّافِلَةِ، مُبَالَغَةً فِي تَكْثِيرِهَا، كَمَا سَقَطَ التَّوَجُّهُ فِيهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، مُبَالَغَةً فِي تَكْثِيرِهَا. وَتَخْتَصُّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بِسُقُوطِهَا عَنْ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ إمَامِهِ لَهُ قِرَاءَةٌ. وَيَخْتَصُّ السَّلَامُ بِأَنَّهُ إذَا نَسِيَهُ أَتَى بِهِ خَاصَّةً.
[مَسْأَلَة سُجُود السَّهْو]
(886) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرِ - غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ -، أَوْ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ، أَوْ التَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ، أَوْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَوْ قَوْلِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، أَوْ رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي، أَوْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، أَوْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ عَامِدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ سَاهِيًا أَتَى بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَفِي وُجُوبِهَا رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْأُخْرَى، لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ مِنْهَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمَّهُ إلَى الْأَرْكَانِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِهَا فِيمَا مَضَى، وَذَكَرْنَا حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّهُ لَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَرْفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(2/5)
وَحُكْمُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ - إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا - أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَامَ إلَى ثَالِثَةٍ وَتَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى إذَا جَلَسَ لِلتَّسْلِيمِ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَلَوْلَا أَنَّ التَّشَهُّدَ سَقَطَ بِالسَّهْوِ لَرَجَعَ إلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا سَجَدَ جَبْرًا لِنِسْيَانِهِ، وَغَيْرُ التَّشَهُّدِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَمُشَبَّهٌ بِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادَةِ وَاجِبَاتٌ يَتَخَيَّرُ إذَا تَرَكَهَا، وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِدُونِهَا، كَالْحَجِّ فِي وَاجِبَاتِهِ وَأَرْكَانِهِ.
(887) فَصْلٌ: وَضَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَلَامِهِ، وَالتَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِوَاجِبَتَيْنِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي عَدَدِ الْوَاجِبَاتِ.
وَيَخْتَصُّ «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» بِالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْمُنْفَرِدِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَخْتَصُّ قَوْلُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَشْرُوعِ فِي الصَّلَاةِ: الْمَسْنُونُ وَهُوَ مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ؛ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالرُّكُوعُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَحَطُّهَا تَحْتَ السُّرَّةِ، وَالنَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ وَالتَّعَوُّذُ، وَقِرَاءَةُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وَقَوْلُ " آمِينَ "، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ فِي مَوَاضِعِهِمَا، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، وَمَدُّ الظَّهْرِ وَالِانْحِنَاءُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَمَا زَادَ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِمَا، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ، وَقَوْلُ (مِلْءَ السَّمَاءِ بَعْدَ التَّحْمِيدِ، وَالْبِدَايَةُ بِوَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَرَفْعُهُمَا فِي الْقِيَامِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فِي السُّجُودِ، وَوَضْعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ أَوْ حَذْوَ أُذُنَيْهِ، وَفَتْحُ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ فِيهِ، وَفِي الْجُلُوسِ، وَالِافْتِرَاشُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالتَّوَرُّكُ فِي الثَّانِي، وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْفَخِذِ الْيُمْنَى مَقْبُوضَةً مُحَلَّقَةً، وَالْإِشَارَةُ بِالسَّبَّابَةِ، وَوَضْعُ الْيَدِ الْأُخْرَى عَلَى الْفَخِذِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً، وَالِالْتِفَاتُ عَلَى الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَالسُّجُودُ عَلَى أَنْفِهِ، وَجَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ، وَنِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَلَامِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِنَّ. وَحُكْمُ هَذِهِ السُّنَنِ جَمِيعِهَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَفِي السُّجُودِ لَهَا عِنْدَ السَّهْوِ عَنْهَا تَفْصِيلٌ، نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
[فَصْلٌ شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ]
(888) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ؛ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَالسُّتْرَةُ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ،
(2/6)
وَدُخُولُ الْوَقْتِ، وَالنِّيَّةُ. فَمَتَى أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ. وَتَخْتَصُّ النِّيَّةُ بِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ عَدَمِهَا بِحَالٍ لَا فِي حَقِّ مَعْذُورٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَيَخْتَصُّ الْوَقْتُ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ. وَكُلُّ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ وَقْتٌ فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ وَقْتِهِ، إلَّا الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، تُفْعَلُ فِي وَقْتِ الْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ، إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا. وَبَقِيَّةُ الشُّرُوطِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، عَلَى تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوَاضِعِهِ، فِيمَا مَضَى.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبّ لِلْمُصَلَّيْ أَنْ يَنْظُر إلَى مَوْضِع سُجُوده]
فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَجْعَلَ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَجْعَلَ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَحُكِيَ عَنْ شَرِيكٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي رُكُوعِهِ إلَى قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إلَى أَنْفِهِ، وَفِي حَالِ التَّشَهُّدِ إلَى حِجْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ، فِي الْأَفْرَادِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَجْعَلُ بَصَرِي فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: مَوْضِعَ سُجُودِكَ. قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ذَلِكَ لَشَدِيدٌ، إنَّ ذَلِكَ لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: فَفِي الْمَكْتُوبَةِ إذًا» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّجَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَيُرَاوِحَ بَيْنَهُمَا إذَا طَالَ جُلُوسُهُ، يَعْتَمِدُ عَلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَعَلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَلَا يُكْثِرُ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: رَأَى عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا يُصَلِّي صَافًّا بَيْنَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: لَوْ رَاوَحَ هَذَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ كَانَ أَفْضَلَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَلَوْ رَاوَحَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُفَرِّجُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَرَأَيْته يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَالْحَسَنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِنْدَ طُولِ الْقِيَامِ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يُقِلَّ فِيهِ التَّحْرِيكَ، وَأَنْ يَعْتَدِلَ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْسَانًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَإِنَّهُ يَطُولُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوَكُّؤِ عَلَى هَذِهِ مَرَّةً وَعَلَى هَذِهِ مَرَّةً.
[فَصْلٌ تَرَكَ شَيِّئْ مِنْ سُنَن الصَّلَاة]
(890) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ.» مِنْ الصِّحَاحِ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَفِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، قَالَ: «ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ.» قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إلَى الشِّعْبِ يَحْرُسُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ
(2/7)
ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ
وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِالْتِفَاتِ إلَّا أَنْ يَسْتَدِيرَ بِجُمْلَتِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَوْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الِالْتِفَاتَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ يَسِيرًا.
وَيُكْرَهُ رَفْعُ الْبَصَرِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَنَسًا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يُلْهِيهِ، أَوْ يَنْظُرَ فِي كِتَابٍ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ. فَقَالَ: شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّي وَيَدُهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُتَخَصِّرًا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ صُبَيْحٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: «صَلَّيْت إلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى خَاصِرَتَيَّ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَذَا الصَّلْبُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مَعْقُوصٌ أَوْ مَكْتُوفٌ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي، وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَك وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: إنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.»
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ شَعَرَهُ وَثِيَابَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا أَكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُكْرَهُ التَّشْبِيكُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ.» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ يَدَيْهِ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
(2/8)
وَيُكْرَهُ فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ» .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدِهِ فِي الْجُلُوسِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ.»
وَيُكْرَهُ مَسْحُ الْحَصَا؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَا» . وَعَنْ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلَاةِ: إنْ كُنْت فَاعِلًا فَمَرَّةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد.
وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ كُلُّهُ، وَمَا يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ وَيَذْهَبُ بِخُشُوعِهَا، وَقَدْ رُوِيَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَرَاهَةِ هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا، وَمِمَّنْ كَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ، وَنُقِلَ كَرَاهَةُ بَعْضِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُلْصِقَ إحْدَى قَدَمَيْهِ بِالْأُخْرَى فِي حَالِ قِيَامِهِ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي فِي الْمَسْجِدِ، فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، قَدْ صَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَأَلْزَقَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَقَالَ أَبِي: لَقَدْ أَدْرَكْت فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ هَذَا قَطُّ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُفَرِّجُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ، وَلَا يَمَسُّ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، لَا يُقَارِبُ وَلَا يُبَاعِدُ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ وَقَالَ: هُوَ فِعْلُ الْيَهُودِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْثِرَ الرَّجُلُ مَسْحَ جَبْهَتِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يُكْثِرَ الرَّجُلُ مَسْحَ جَبْهَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا. وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ مِنْ الْجَفَاءِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا تَمْسَحْ جَبْهَتَكَ. وَلَا تَنْفُخْ، وَلَا تُحَرِّكْ الْحَصَا. وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
(2/9)
وَكَرِهَ أَحْمَدُ التَّرَوُّحَ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا مِنْ الْغَمِّ الشَّدِيدِ. وَبِذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَمَالِكٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ.
وَكُرِهَ التَّمَيُّلُ فِي الصَّلَاةِ. لِمَا رَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَكِّنْ أَطْرَافَهُ. وَلَا يَتَمَيَّلْ مِثْلَ الْيَهُودِ» . وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِعْلًا، كَالْعَبَثِ، وَفَرْقَعَةِ الْأَصَابِعِ، إذَا كَثُرَ مُتَوَالِيًا، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
[فَصْلٌ عَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ]
(891) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِعَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ. وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَدِّ الْآيِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، وَإِسْحَاقَ. وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ خُشُوعِ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَلَنَا: أَنَّهُ إجْمَاعٌ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْتَشِرُ وَلَا يَخْفَى، فَيَكُونُ، إجْمَاعًا. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ عَدَّ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَمَّنْ ذَكَرْنَاهُمْ عَدُّ الْآيِ قَالَ أَحْمَدُ أَمَّا عَدُّ الْآيِ فَقَدْ سَمِعْنَا، وَأَمَّا عَدُّ التَّسْبِيحِ فَمَا سَمِعْنَا. وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى بِعَدِّ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ بَأْسًا. وَكَرِهَ أَنْ يَحْسُبَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا سِوَاهُ.
وَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ لِأَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ الدِّيرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ.
وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، رِيشَةً حَسِبَهَا عَقْرَبًا، فَضَرَبَهَا بِنَعْلِهِ.
فَأَمَّا الْقَمْلُ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى التَّغَافُلُ عَنْهُ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَالْبَرَاغِيثَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَكَانَ عُمَرُ يَقْتُلُ الْقَمْلَ فِي الصَّلَاةِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَإِذَا تَثَاءَبَ فِي الصَّلَاةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَكْظِمَ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» مِنْ الصِّحَاحِ. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
(2/10)
وَإِذَا بَدَرَهُ الْبُصَاقُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ بَصَقَ فِي ثَوْبِهِ وَيَحُكُّ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ يَبْصُقُ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا. وَوَصَفَ الْقَاسِمُ: فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا
وَلَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ، فَمَشَى، فَفَتَحَ لِي، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مُصَلَّاهُ» وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي بِحَاجَةٍ فَأَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يُشِيرُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إلَيَّ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ إنَّك سَلَّمْتَ عَلَيَّ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي» وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَوَالَى وَيَكْثُرَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/11)
[بَابُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ] [مَسْأَلَةٌ سَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يُحْفَظُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَةُ أَشْيَاءَ؛ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَسَجَدَ، وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ وَفِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْخَمْسَةُ يَعْنِي حَدِيثَيْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ بُحَيْنَةَ (892) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَمَنْ سَلَّمَ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ، أَتَى بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ.
كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ وَنَقْضِ وُضُوئِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ، ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَامَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ لِيَنْهَضَ إلَى الْإِتْيَانِ بِمَا بَقِيَ عَنْ جُلُوسٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِيَامَ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ قَاصِدًا لَهَا، فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ نَسِيَ رَكْعَةً فَمَا زَادَ اخْتِلَافًا وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ أَنَا نَسِيتُ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ قَالَ لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تُقْصَرْ، فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ. قَالَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ سَلَّمَ» ؟ قَالَ: فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ قَالَ: قُلْت فَالتَّشَهُّدُ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي التَّشَهُّدِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَرَوَى مُسْلِمٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ «سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ الْعَصْرِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ فَقَامَ رَجُلٌ بَسِيطُ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَخَرَجَ مُغْضَبًا فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذُو الْيَدَيْنِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،
(2/12)
(893) فَصْلٌ: فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، أَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ ذَكَرَ قَرِيبًا مِثْلَ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ، وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ يَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَبْنِي، مَا لَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهُ وَلَنَا، أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ، كَمَا لَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ. وَيُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ وَعَنْهُ يُعْتَبَرُ قَدْرُ رَكْعَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ مُضِيِّ الصَّلَاةِ الَّتِي نَسِيَ فِيهَا. وَالصَّحِيحُ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْمُقَارَبَةِ لِمِثْلِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ (894) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى نَظَرْت فَإِنْ كَانَ مَا عَمِلَ فِي الثَّانِيَةِ قَلِيلًا، وَلَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، عَادَ إلَى الْأُولَى فَأَتَمَّهَا. وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ الْأُولَى.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْمُبْهِجِ: يَجْعَلُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ تَمَامًا لِلْأُولَى، فَيَبْنِي إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَيَكُونُ وُجُودُ السَّلَامِ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ سَهْوٌ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا شَرَعَ فِيهِ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا وَقَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَشَرَعَ فِي تَطَوُّعٍ يُبْطِلُ الْمَكْتُوبَةَ قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَبْتَدِئَهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ فِي التَّطَوُّعِ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ؛ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ سَهْوًا، فَلَمْ تَبْطُلْ، كَمَا لَوْ زَادَ خَامِسَةً. وَأَمَّا بِنَاءُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْأُولَى وَلَمْ يَنْوِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَنِيَّةُ غَيْرِهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ نِيَّتِهَا، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ
[مَسْأَلَة كَانَ إمَامًا فَشَكَّ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى]
(895) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ كَانَ إمَامًا فَشَكَّ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ تَحَرَّى، فَبَنَى عَلَى أَكْثَرِ وَهْمِهِ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ " عَلَى أَكْثَرِ وَهْمِهِ " أَيْ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَلَّاهُ وَهَذَا فِي الْإِمَامِ خَاصَّةً، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ. كَالْمُنْفَرِدِ سَوَاءً، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(2/13)
«إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامَ الْأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالِاثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهُمَا وَاحِدَةً، حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُسَلِّمْ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِمَا شَكَّ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَوْ لَا، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي الْإِرْشَادِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى فِي الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَالْإِمَامِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ مَنْ قَالَ: بَيْنَ التَّحَرِّي وَالْيَقِينِ فَرْقٌ. أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَيَقُولُ إذَا لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ، جَعَلَهَا اثْنَتَيْنِ. قَالَ: فَهَذَا عَمِلَ عَلَى الْيَقِينِ، فَبَنَى عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يَتَحَرَّى يَكُونُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا، فَيَدْخُلُ قَلْبَهُ شَكٌّ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى اثْنَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مَا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا، وَقَدْ دَخَلَ قَلْبَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا يَتَحَرَّى أَصْوَبَ ذَلِكَ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
فَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّهُ إنَّمَا يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ وَمَتَى كَانَ لَهُ غَالِبُ ظَنٍّ، عَمِلَ عَلَيْهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَقَالَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، إنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ مَا أَصَابَهُ، أَعَادَ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ» وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ: " بَعْدَ التَّسْلِيمِ ". وَفِي لَفْظٍ: " فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ " وَفِي لَفْظٍ: (فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ لِلصَّوَابِ) . وَفِي لَفْظٍ " فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ ". رَوَاهُ كُلَّهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، قَالَ: (إذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَشَكَكْتَ فِي ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَأَكْثَرُ ظَنِّكَ عَلَى أَرْبَعٍ تَشَهَّدْتَ، ثُمَّ سَجَدْتَ سَجْدَتَيْنِ وَأَنْتَ جَالِسٌ) .
فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ لَهُ رَأْيٌ وَظَنٌّ يَعْمَلُ بِظَنِّهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَعَمَلًا بِهِمَا فَيَكُونُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الظَّنَّ دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَاخْتَارَ الْخِرَقِيِّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فَجَعَلَ الْإِمَامَ يَبْنِي عَلَى الظَّنِّ، وَالْمُنْفَرِدَ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَذْهَبِ نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ فِي حَقِّ
(2/14)
الْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ وَيُذَكِّرُهُ إذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ، فَلْيَعْمَلْ بِالْأَظْهَرِ عِنْدَهُ، فَإِنْ أَصَابَ أَقَرَّهُ الْمَأْمُومُونَ، فَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ صَوَابُ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، فَيَجْعَلُ لَهُ الصَّوَابَ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ، إذْ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُهُ، فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، لِيَحْصُلَ لَهُ إتْمَامُ صَلَاتِهِ، وَلَا يَكُونَ مَغْرُورًا بِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ» .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْإِمَامِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهَا. فَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى مَنْ لَا ظَنَّ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ لَهُ ظَنُّ.
فَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ فَصَلَّى، جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبْطِلْهَا، كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (لَا غِرَارَ) . يَعْنِي لَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ فِي شَكٍّ مِنْ تَمَامِهَا، وَمَنْ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ لَمْ يَبْقَ فِي شَكٍّ مِنْ تَمَامِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ فَوَافَقَهُ الْمَأْمُومُونَ، أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ غَلَطَهُ، فَلَا شَكَّ عِنْدَهُ.
(896) فَصْلٌ: وَمَتَى اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَأَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، لِمُعَارَضَتِهِ الظَّنَّ الْغَالِبَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ.
[فَصْلٌ سَهَا الْإِمَامُ فَأَتَى بِفِعْلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ]
(897) فَصْلٌ: وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فَأَتَى بِفِعْلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ تَنْبِيهُهُ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا سَبَّحُوا بِهِ، وَإِنْ كَانُوا نِسَاءً صَفَّقْنَ بِبُطُونِ أَكُفِّهِنَّ عَلَى ظُهُورِ الْأُخْرَى، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَنْبِيهَ الْآدَمِيِّ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِشَارَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابُ آدَمِيٍّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو غَطَفَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْقَهُ أَوْ تُفْهَمُ فَقَدْ قَطَعَ الصَّلَاةَ» .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَابَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ،
(2/15)
وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: قُلْت لِبِلَالٍ:: «كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ» وَعَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: «مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ إشَارَةً. وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إشَارَةً بِإِصْبَعِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ مَالِكٍ فَفِي حَقِّ الرِّجَالِ، فَإِنَّ حَدِيثَنَا يُفَسِّرُهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَزِيَادَةَ بَيَانٍ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ فَضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
(898) فَصْلٌ: إذَا سَبَّحَ بِهِ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلَافُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، كَالْحَاكِمِ إذَا نَسِيَ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ، فَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ.
وَلَنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، لَمَّا سَأَلَهُمَا: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ» . مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَكِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ، لِيُذَكِّرُوا الْإِمَامَ، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ، إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» . يَعْنِي بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَكَذَا نَقُولُ فِي الْحَاكِمِ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهِ، وَخَطَإِ الْمَأْمُومِينَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ، كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ. وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ خَطَأَهُمْ فَلَا يَتَّبِعُهُمْ فِي الْخَطَأِ. وَكَذَا نَقُولُ فِي الشَّاهِدَيْنِ: مَتَى عَلِمَ الْحَاكِمُ كَذِبَهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَاهِدَا زُورٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الزُّورِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الشَّهَادَةِ لِيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الشُّهُودِ، وَرُدَّتْ شَهَادَةُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُمْ، فَمَعَ يَقِينِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا سَبَّحَ بِهِ الْمَأْمُومُونَ فَلَمْ يَرْجِعْ، فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَيْسَ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ، فَإِنْ اتَّبَعُوهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوْ جَاهِلِينَ بِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ عَمْدًا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
(2/16)
إحْدَاهَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ انْتِظَارُهُ، إنْ كَانَ نِسْيَانُهُ فِي زِيَادَةٍ يَأْتِي بِهَا، وَإِنْ فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ.
وَالثَّانِيَةُ: يُتَابِعُونَهُ فِي الْقِيَامِ، اسْتِحْسَانًا. وَالثَّالِثَةُ: لَا يُتَابِعُونَهُ، وَلَا يُسَلِّمُونَ قَبْلَهُ، لَكِنْ يَنْتَظِرُونَهُ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ فِي تَرْكِ مُتَابَعَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْخَطَأِ. الْحَالُ الثَّانِي: إنْ تَابَعُوهُ جَهْلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَابَعُوهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَفِي الْخَامِسَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّك صَلَّيْتَ رَكَعَاتٍ ثَلَاثًا. قَالَ أَكَذَاكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَرَجَعَ فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ صَلَّى بِنَا عَلْقَمَةُ الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا شِبْلٍ، قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. قَالَ: كَلًّا، مَا فَعَلْتُ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: وَكُنْتُ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْت: بَلَى قَدْ صَلَّيْت خَمْسًا. قَالَ لِي: يَا أَعْوَرُ، وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا؟ قُلْت: نَعَمْ. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. فَلَمْ يَأْمُرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ لَمْ تَبْطُلْ بِمُتَابَعَتِهِمْ. وَمَتَى عَمِلَ الْإِمَامُ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، فَسَبَّحَ بِهِ الْمَأْمُومُونَ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ، عَنْ رَجُلٍ جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَقَامَ، مَتَى يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فَقَالَ: قَبْلَ السَّلَامِ. (899) فَصْلٌ: فَإِنْ سَبَّحَ بِالْإِمَامِ وَاحِدٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِهِ، إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَلَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لَا بِتَسْبِيحِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ، فَإِنْ سَبَّحَ فُسَّاقٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَإِنْ افْتَرَقَ الْمَأْمُومُونَ طَائِفَتَيْنِ، وَافَقَهُ قَوْمٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، سَقَطَ قَوْلُهُمْ؛ لِتَعَارُضِهِمْ، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا. وَمَتَى لَمْ يَرْجِعْ، وَكَانَ الْمَأْمُومُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ خَطَأِ الْإِمَامِ، لَمْ يُتَابِعْهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَهُ هَاهُنَا، لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ، صَحِيحَةٌ، لَمْ تَفْسُدْ بِزِيَادَةٍ، فَيَنْتَظِرُهُ كَمَا يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
[مَسْأَلَة سُجُود السَّهْوِ قَبْل السَّلَامِ أُمّ بَعْده]
(900) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ السَّهْوِ فَسُجُودُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، مِثْلُ الْمُنْفَرِدِ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ، أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، أَوْ جَهَرَ
(2/17)
فِي مَوْضِعِ تَخَافُتٍ، أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهْرٍ، أَوْ صَلَّى خَمْسًا، أَوْ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، إلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ وَرَدَ النَّصُّ بِسُجُودِهِمَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَهُمَا إذَا سَلَّمَ مِنْ نَقْصٍ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ تَحَرَّى الْإِمَامُ، فَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَمَا عَدَاهُمَا يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ. نَصَّ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: أَنَا أَقُولُ، كُلُّ سَهْوٍ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَسَائِرُ السُّجُودِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ، هُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَيَقْضِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.
ثُمَّ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي غَيْرِهَا قَبْلَ السَّلَامِ. قُلْت: اشْرَحْ الثَّلَاثَةَ مَوَاضِعَ الَّتِي بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ: سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، هَذَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ. وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، هَذَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَوْضِعِ التَّحَرِّي سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَنْ سَهَا فَصَلَّى خَمْسًا، هَلْ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ يَسْجُدُ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَبِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ. وَلِأَنَّهُ تَمَامُ الصَّلَاةِ وَجَبْرٌ لِنَقْصِهَا، فَكَانَ قَبْلَ سَلَامِهَا كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَمَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ شَكَكْتَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِك مِنْ نُقْصَانٍ، مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاسْتَقْبِلْ أَكْثَرَ ظَنِّكَ، وَاجْعَلْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ فَاجْعَلْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: سُجُودُ السَّهْوِ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلَهُ فِعْلُهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ. يُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّحَرِّي. وَرَوَى ثَوْبَانُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:
(2/18)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَجَمْعٌ بَيْنَهَا، مِنْ غَيْرِ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِمُعَارِضٍ مِثْلِهِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي سُجُودِهِ، بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ قَبْلَهُ، فِي صُورَةٍ، مَا يَنْفِي سُجُودَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَذِكْرُ نَسْخِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ رَاوِيَيْهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ هِجْرَتُهُمَا مُتَأَخِّرَةٌ.
وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ لَا يَقْتَضِي نَسْخًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِوُقُوعِ السَّهْوِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِيمَا سُجُودُهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ رَاوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ضَعْفٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ جَعْفَرٍ فِيهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
[فَصْلٌ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى]
(901) فَصْلٌ فِي تَفْصِيلِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُهُ (مِثْلُ الْمُنْفَرِدِ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ) . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ صَلَّاهُ مِنْ الرَّكَعَاتِ، فَيُتِمُّ عَلَيْهِ، وَيُلْغِي مَا شَكَّ فِيهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالْوَاحِدَةِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وَإِذَا شَكَّ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ، فَلْيَجْعَلْهُمَا ثِنْتَيْنِ، وَإِذَا شَكَّ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ لِيُتِمَّ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ. ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ هَكَذَا
وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خِلَافُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَهْمُ مِثْلَ الْوَسْوَاسِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إذَا كَثُرَ السَّهْوُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْوَسْوَاسِ، لَهَا عَنْهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْمُنْفَرِدِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْحُكْمُ فِي الْإِمَامِ إذَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، أَنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ كَالْمُنْفَرِدِ. وَإِذَا تَحَرَّى الْمُنْفَرِدُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ
[فَصْلٌ قَامَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَام]
(902) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ ". أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا يُسْجَدُ لَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ،
(2/19)
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ يَقْعُدَانِ فِي الشَّيْءِ يُقَامُ فِيهِ، وَيَقُومَانِ فِي الشَّيْءِ يُقْعَدُ فِيهِ، فَلَا يَسْجُدَانِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَقَالَ: «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ سَهْوٌ فَسَجَدَ لَهُ كَغَيْرِهِ، مَعَ مَا نَذْكُرُهُ فِي تَفْصِيلِ الْمَسَائِلِ.
فَأَمَّا الْقِيَامُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، فَفِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: إحْدَاهَا، أَنْ يَتْرُكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَيَقُومَ،، وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ (903) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، ذِكْرُهُ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، فَيَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى التَّشَهُّدِ. وَمِمَّنْ قَالَ يَجْلِسُ عَلْقَمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ فَارَقَتْ أَلْيَتَاهُ الْأَرْضَ مَضَى. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: إذَا تَجَافَتْ رُكْبَتَاهُ عَنْ الْأَرْضِ مَضَى.
وَلَنَا، مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، فَلَا يَجْلِسْ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ ذَكَرَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ. فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقْ أَلْيَتَاهُ الْأَرْضَ.
(904) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذِكْرُهُ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا، وَقَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَجْلِسَ، وَإِنْ جَلَسَ جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ. النَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَسْتَفْتِحْ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: إنْ ذَكَرَ سَاعَةَ يَقُومُ جَلَسَ. وَلَنَا، حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، وَمَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي رُكْنٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ (905) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ، وَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عُمَرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ. يَرْجِعُ مَا لَمْ يَرْكَعْ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ الْجُلُوسُ، فَسُبِّحَ بِهِ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، حَتَّى إذَا جَلَسَ
(2/20)
يُسَلِّمُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذَا. وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ مَقْصُودٍ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الرُّكُوعِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنُ بُحَيْنَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
[فَصْلٌ إذَا عِلْم الْمَأْمُومُونَ بِتَرْكِهِ التَّشَهُّد الْأَوَّل قَبْلَ قِيَامهمْ وَبَعْدَ قِيَام إمَامهمْ]
(906) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ بِتَرْكِهِ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، قَبْلَ قِيَامِهِمْ، وَبَعْدَ قِيَامِ إمَامِهِمْ، تَابَعُوهُ فِي الْقِيَامِ، وَلَمْ يَجْلِسُوا لِلتَّشَهُّدِ. حَكَاهُ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَقَامَ، قَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، نَهَضُوا فِي الثَّانِيَةِ عَنْ الْجُلُوسِ، فَسَبَّحُوا بِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى مَنْ سَبَّحَ بِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ بِالْقِيَامِ، فَقَامُوا. قَالُوا وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ.
قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ، أَخْبَرَنَا: الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عُلَاثَةَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ مُضَرَ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: أُوهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَعْدَةِ، فَسَبَّحُوا بِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ هَكَذَا. أَيْ قُومُوا. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ الْآجُرِّيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُكُمْ تَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ لِكَيْمَا أَجْلِسَ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ السُّنَّةَ، إنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي صَنَعْتُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ بُحَيْنَةَ فَأَمَّا إنْ سَبَّحُوا بِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ، تَشَهَّدُوا، لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا تَعَيَّنَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ فِي تَرْكِهِ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى التَّشَهُّدِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُتَابَعَتُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ.
فَأَمَّا الْإِمَامُ، فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا عَمْدًا، أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ نَاسِيًا، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا. وَمَتَى عَلِمَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ، نَهَضَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْجُلُوسَ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ التَّشَهُّدَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ، وَبَعْدَ قِيَامِ الْمَأْمُومِينَ، وَشُرُوعِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَرَجَعَ، لَزِمَهُمْ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ إلَى وَاجِبٍ، فَلَزِمَهُمْ مُتَابَعَتُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيَامِهِمْ قَبْلَهُ
(2/21)
[فَصْلٌ نَسِيَ التَّشَهُّدَ دُونَ الْجُلُوسِ لَهُ]
(907) فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ دُونَ الْجُلُوسِ لَهُ، فَحُكْمُهُ فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ حُكْمُ مَا لَوْ نَسِيَهُ مَعَ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ هُوَ الْمَقْصُودُ. فَأَمَّا إنْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ، كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقَوْلِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَوْلِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَحِلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الذِّكْرِ رُكْنٌ قَدْ وَقَعَ مُجْزِئًا صَحِيحًا. فَلَوْ رَجَعَ إلَيْهِ لَكَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَكْرَارًا لِرُكْنٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِالذِّكْرِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ زَائِدٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ، وَلَكِنَّهُ يَمْضِي وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِهِ، قِيَاسًا عَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: قَامَ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَجْلِسْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَهَذَا قَدْ تَرَكَ رُكْنَيْنِ؛ جَلْسَةَ الْفَصْلِ، وَالسَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ. فَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَذْكُرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِذَا رَجَعَ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ جَلْسَةَ الْفَصْلِ، ثُمَّ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ قَدْ حَصَلَ بِالْقِيَامِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْجَلْسَةَ وَاجِبَةٌ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهَا الْقِيَامُ كَمَا لَوْ عَمَدَ ذَلِكَ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ جَلَسَ لِلْفَصْلِ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَسْجُدْ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجُلُوسُ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ؛ لِيَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ عَنْ جُلُوسٍ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْجَلْسَةِ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِسَهْوٍ بَعْدَهَا كَالسَّجْدَةِ الْأُولَى، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَجَدَ عَقِيبَ الْجُلُوسِ. فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَجَلَسَ جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، لَمْ يَجْزِهِ عَنْ جَلْسَةِ الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ، فَلَا تَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ، ثُمَّ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي تَرْكِ رُكْنٍ غَيْرِ السُّجُودِ مِثْلِ الرُّكُوعِ، أَوْ الِاعْتِدَالِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَتَى ذَكَرَهُ، قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى، فَيَأْتِي بِهِ، ثُمَّ بِمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ.
الْحَالُ الثَّانِي: تَرَكَ رُكْنًا؛ إمَّا سَجْدَةً، أَوْ رُكُوعًا، سَاهِيًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، بَطَلَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ الرُّكْنَ مِنْهَا، وَصَارَتْ الَّتِي شَرَعَ فِي قِرَاءَتِهَا مَكَانَهَا. نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ قَالَ، الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ لِيُصَلِّيَ أُخْرَى، فَذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا سَجَدَ لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ أَوَّلُ مَا قَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ عَمَلَهُ لِلْأُخْرَى، فَإِنَّهُ، يَنْحَطُّ وَيَسْجُدُ، وَيَعْتَدُّ بِهَا. وَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ عَمَلَهُ لِلْأُخْرَى، أَلْغَى الْأُولَى، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُولَى. قُلْت: يَسْتَفْتِحُ أَوْ يُجْزِئُ الِاسْتِفْتَاحُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا يَسْتَفْتِحُ، وَيُجْزِئُهُ الْأَوَّلُ. قُلْت: فَنَسِيَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا يَعْتَدُّ بِتَيْنِكَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ ثَابِتٌ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ذَكَرَ الرُّكْنَ الْمَتْرُوكَ قَبْلَ السُّجُودِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى السَّجْدَةِ الْأُولَى. وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ سُجُودِهِ فِي الثَّانِيَةِ
(2/22)
وَقَعَتَا عَنْ الْأُولَى، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَدْ صَحَّ فِعْلُهَا، وَمَا فَعَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ - سَهْوًا - لَا يُبْطِلُ الْأُولَى، كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَرَّبَهُ، وَقَالَ: هُوَ أَشْبَهُ. يَعْنِي مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ الْقَوْلَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَذَكَرَهَا قَبْلَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، أَلْغَى الْأُولَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ نَسِيَ سَجْدَةً، ثُمَّ ذَكَرَهَا، سَجَدَهَا فِي الصَّلَاةِ مَتَى مَا ذَكَرَهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَرْجِعُ إلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ ذِكْرِهَا، فَيَمْضِي فِيهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، فِي مَنْ نَسِيَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي التَّشَهُّدِ: سَجَدَ فِي الْحَالِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَزْحُومَ فِي الْجُمُعَةِ، إذَا زَالَ الزِّحَامُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُ وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَكُونُ السُّجُودُ مِنْ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، كَذَا هَاهُنَا
[فَصْلٌ مَضَى الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِع يَلْزَمهُ الرُّجُوع أَوْ رَجَعَ فِي مَوْضِع يَلْزَمهُ الْمُضِيّ]
(908) فَصْلٌ: فَإِنْ مَضَى فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، أَوْ رَجَعَ فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ، لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ مَضَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَتْرُوكِ، لَكِنْ إذَا مَضَى فِي مَوْضِعٍ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، فَسَدَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ رُكْنَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَإِنْ رَجَعَ فِي مَوْضِعِ الْمُضِيِّ لَمْ يَعْتَدَّ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي تَرَكَهُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا فَسَدَتْ بِشُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَعُدْ إلَى الصِّحَّةِ بِحَالٍ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: قَامَ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَتَى مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ إلَى زِيَادَةٍ غَيْرِ مُعْتَدٍّ لَهُ بِهَا فَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ السُّجُودِ. وَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى خَمْسًا. وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ
[فَصْلٌ جَلَسَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ قِيَام]
(909) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: " أَوْ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ " فَهَذَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَجْلِسَ عَقِيبَ الْأُولَى أَوْ الثَّالِثَةِ، يَظُنُّ أَنَّهُ مَوْضِعُ التَّشَهُّدِ أَوْ جَلْسَةِ الْفَصْلِ فَمَتَى مَا ذَكَرَ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَامَ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا مَا لَوْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَبْطَلَهَا، فَلَزِمَهُ السُّجُودُ إذَا كَانَ سَهْوًا، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ
[فَصْلٌ الزِّيَادَاتُ فِي الصَّلَاة عَلَى ضَرْبَيْنِ زِيَادَةُ أَفْعَالِ وَزِيَادَةُ أَقْوَال]
(910) فَصْلٌ: وَالزِّيَادَاتُ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ زِيَادَةِ أَفْعَالٍ، وَزِيَادَةِ أَقْوَالٍ: فَزِيَادَاتُ الْأَفْعَالِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا، زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُومَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ يَجْلِسَ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، أَوْ يَزِيدَ
(2/23)
رَكْعَةً أَوْ رُكْنًا، فَهَذَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ، وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالثَّانِي، مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَالْمَشْيِ وَالْحَكِّ وَالتَّرَوُّحِ، فَهَذَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَثِيرِهِ، وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَلَا يَسْجُدُ لَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي، زِيَادَاتُ الْأَقْوَالِ، وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا، مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، كَالسَّلَامِ وَكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا أَتَى بِهِ سَهْوًا فَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، سَجَدَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا، فَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ أَوْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَأْتِيَ بِذِكْرٍ مَشْرُوعٍ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، كَالْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالتَّشَهُّدِ فِي الْقِيَامِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ أَوْ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إذَا فَعَلَهُ سَهْوًا، فَهَلْ يُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، لَا يُشْرَعُ لَهُ سُجُودٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِعَمْدِهِ، فَلَمْ يُشْرَعْ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ، كَتَرْكِ سُنَنِ الْأَفْعَالِ.
وَالثَّانِيَةُ، يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا قُلْنَا: يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ. فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَجَبْرِ سَائِرِ السُّنَنِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا السَّهْوُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ السُّجُودُ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ السُّجُودِ.
النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا بِذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ " آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " وَقَوْلِهِ فِي التَّكْبِيرِ " اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا " وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ»
[فَصْلٌ جَلَسَ فِي غَيْر مَوْضِع التَّشَهُّد قَدْرَ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَة]
(911) فَصْلٌ: وَإِذَا جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشَهُّدِ قَدْرَ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ، سَوَاءٌ
(2/24)
قُلْنَا: جَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، مَسْنُونَةٌ أَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِجُلُوسِهِ، إنَّمَا أَرَادَ غَيْرَهَا فَكَانَ سَهْوًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَوْ تَعَمَّدَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، كَالْعَمَلِ الْيَسِيرِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ
[فَصْلٌ جَهَرَ الْمُصَلَّيْ فِي مَوْضِعِ تُخَافِت أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهَرَ]
(912) فَصْلٌ: قَوْلُهُ أَوْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ تَخَافُتٍ، أَوْ خَافَتَ فِي مَوْضِعِ جَهْرٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاتَ - فِي مَوْضِعِهِمَا - مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَهَلْ يُشْرَعُ لَهُ السُّجُودُ مِنْ أَجْلِهِ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُشْرَعُ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَسَالِمٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَاكِمُ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ.
وَجَهَرَ أَنَسٌ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ الْيَدَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ يُشْرَعُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلِأَنَّهُ أَخَلَّ بِسُنَّةٍ قَوْلِيَّةٍ، فَشُرِعَ السُّجُودُ لَهَا، كَتَرْكِ الْقُنُوتِ وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْقُنُوتِ، وَبِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُنَّةٌ وَيَسْجُدُ تَارِكُهُ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذَا كَانَ السُّجُودُ مُسْتَحَبًّا غَيْرَ وَاجِبٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ سَهَا، فَجَهَرَ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ، فَهَلْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؟ قَالَ: أَمَّا عَلَيْهِ فَلَا أَقُولُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إنْ شَاءَ سَجَدَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ نَغْمَةٌ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ: وَأَنَسٌ جَهَرَ فَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: إنَّمَا السَّهْوُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ السُّجُودُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي إنْ سَجَدَ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ جَبْرٌ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَسَائِرِ السُّنَنِ
[فَصْلٌ صَلَّى خَمْسًا فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّة]
(913) فَصْلٌ: قَوْلُهُ أَوْ صَلَّى خَمْسًا يَعْنِي فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، أَوْ إلَى الرَّابِعَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَوْ إلَى الثَّالِثَةِ فِي الصُّبْحِ، لَزِمَهُ الرُّجُوعُ مَتَى مَا ذَكَرَ، فَيَجْلِسُ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا صَلَاتُهُ، سَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَإِنْ كَانَ تَشَهَّدَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ، تَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، عَقِيبَ ذِكْرِهِ، وَتَشَهَّدَ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ السُّجُودِ وَكَانَ جَلَسَ عَقِيبَ الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَيُضِيفُ
(2/25)
إلَى الزِّيَادَةِ أُخْرَى، لِتَكُونَ نَافِلَةً.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ بَطَلَ فَرْضُهُ، وَصَارَتْ صَلَاتُهُ نَافِلَةً وَلَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَنَحْوَهُ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، فِي مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا: يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى، فَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ تَطَوُّعًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي مَنْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ «فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَلَنَا: مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَإِنَّك قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا فَانْفَتَلَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ» . وَفِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ «فَإِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُ كُلَّهُ مُسْلِمٌ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْلِسْ عَقِيبَ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَلِأَنَّهُ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَامَ عَنْ ثَالِثَةٍ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهَذَا، وَلَمْ يُضِفْ إلَى الْخَامِسَةِ أُخْرَى. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّهُ جَعَلَ الزَّائِدَةَ نَافِلَةً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا بِجُلُوسٍ، وَجَعَلَ السَّجْدَتَيْنِ يَشْفَعَانِهَا، وَلَمْ يَضُمَّ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافٌ لِمَا قَالُوهُ، فَقَدْ خَالَفُوا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُنَا يُوَافِقُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
[مَسْأَلَة نَسِيَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ سَهْوِ]
(914) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ نَسِيَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ سَهْوٍ وَسَلَّمَ، كَبَّرَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَتَشَهَّدَ، وَسَلَّمَ، مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ تَكَلَّمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ) . الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: (915) الْفَصْلُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ: إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ، لَمْ يَبْنِ، وَلَمْ يَسْجُدْ. وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، سَقَطَ عَنْهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحْدَثَ.
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَكَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ الْمَأْمُومُونَ، ثُمَّ
(2/26)
سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ لِقَوْلِهِ فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْكَلَامِ وَالِانْصِرَافِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَالسُّجُودُ أَوْلَى (916) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْجُدُ فِيهَا، فَفِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، يَسْجُدُ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يَسْجُدْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يُرْجَعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعَ إلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَالسُّجُودُ أَوْلَى، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْجُدُ وَإِنْ خَرَجَ وَتَبَاعَدَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جُبْرَانٌ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ كَجُبْرَانِ الْحَجِّ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إنْ كَانَ لِزِيَادَةٍ وَإِنْ كَانَ لِنَقْصٍ أَتَى بِهِ مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّهُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ، كَرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ مِنْ نَقْصٍ وَإِنَّمَا ضَبَطْنَاهُ بِالْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الصَّلَاةِ وَمَوْضِعُهَا، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُدَّةُ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ. (917) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَتَى سَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ سَلَّمَ عَقِبَهُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ تَشَهَّدَ، وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ مَحِلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ فَنَسِيَهُ إلَى مَا بَعْدَهُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ وَقَالَ أَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِمَا تَسْلِيمٌ بِغَيْرِ تَشَهُّدٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: التَّسْلِيمُ فِيهِمَا ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَفِي ثُبُوتِ التَّشَهُّدِ نَظَرٌ وَعَنْ عَطَاءٍ: إنْ شَاءَ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ.
وَلَنَا، عَلَى التَّكْبِيرِ قَوْلُ ابْنِ بُحَيْنَةَ: «فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، كَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ.» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ.
وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فِي حَدِيثِهِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ فِيهِ «سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمَ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يُسَلِّمُ لَهُ، فَكَانَ مَعَهُ تَشَهُّدٌ، كَسُجُودِ
(2/27)
صُلْبِ الصَّلَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ التَّشَهُّدُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ، وَهُمَا أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُفْرَدٌ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ تَشَهُّدٌ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ
[فَصْلٌ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ]
(918) فَصْلٌ: وَإِذَا نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ، لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ. وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي السُّجُودِ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ. وَلَنَا، أَنَّهُ جَابِرٌ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِتَرْكِهِ، كَالْأَذَانِ (919) فَصْلٌ: وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ مَا يَقُولُ فِي سُجُودِ صُلْبِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ سُجُودٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سُجُودَ صُلْبِ الصَّلَاةِ
[فَصْلٌ نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى]
(920) فَصْلٌ: وَإِنْ نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، سَجَدَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، إنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَسْجُدْ وَإِلَّا سَجَدَ.
[فَصْلٌ سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِبِ]
(921) فَصْلٌ: وَسُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَلَعَلَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي شُرِعَ السُّجُودُ لِجَبْرِهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَكُونُ جَبْرُهَا غَيْرَ وَاجِبٍ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ» . وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَفَعَلَهُ، وَقَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلُهُ " نَافِلَةً " يَعْنِي أَنَّ لَهُ ثَوَابًا فِيهِ كَمَا أَنَّهُ سَمَّى الرَّكْعَةَ أَيْضًا نَافِلَةً وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّاهِي بِلَا خِلَافٍ.
فَأَمَّا الْمَشْرُوعُ لِمَا لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ فَغَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا يَجِبُ السُّجُودُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَنَقِيسُ عَلَى زِيَادَةِ خَامِسَةٍ سَائِرَ زِيَادَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ تَرْكَ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ نُقْصَانٍ زِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ الْمُبْطِلَةِ عَمْدًا
(2/28)
(922) فَصْلٌ: فَإِنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَمْدًا؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا.
وَإِنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ بَعْدَ السَّلَامِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِلْعِبَادَةِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَحِلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ قَبْلَهُ، فَنَسِيَهُ، فَصَارَ بَعْدَ السَّلَامِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، فَنَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ فِي مَنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ فِي سَهْوٍ خَفِيفٍ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ كَانَ فِيمَا سَهَا فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: هَاهْ. وَلَمْ يُجِبْ، فَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُعِيدَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي السَّهْوِ، فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى
[مَسْأَلَة نَسِيَ أَرْبَع سَجَدَات مِنْ أَرْبَع رَكَعَات وَذَكَر وَهُوَ فِي التَّشَهُّد]
(923) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِنْ نَسِيَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَذَكَرَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ، سَجَدَ سَجْدَةً تَصِحُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ: كَانَ هَذَا يَلْعَبُ، يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، بَطَلَتْ، فَلَمَّا شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هَاهُنَا قَبْلَ ذِكْرِ سَجْدَةِ الْأُولَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، وَلَمَّا شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ ذِكْرِ سَجْدَةِ الثَّانِيَةِ، بَطَلَتْ الثَّانِيَةُ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، تَبْطُلُ بِالشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّابِعَةُ، وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا إلَّا سَجْدَةً فَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ حِينَ ذَكَرَ وَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ بَطَلَتْ بِشُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَيَبْتَدِئُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَاعِبًا بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى إلْغَاءِ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ بَيْنَ التَّحْرِيمَةِ وَالرَّكْعَةِ الْمُعْتَدِّ بِهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَاغِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ لَهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ سَهْوًا قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى، كَانَ عَمَلُهُ فِيهَا لَاغِيًا، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا، انْضَمَّتْ سَجْدَتُهَا إلَى سَجْدَةِ الْأُولَى، فَكَمَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهَكَذَا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا رَكْعَةٌ.
وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَشْبَهُ بِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ الرَّأْيِ - قَالَ الْأَثْرَمُ: فَقُلْت لَهُ، فَإِنَّهُ إذًا فِعْلٌ لَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ، لَا عَنْ الْأُولَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ أَقُولُ إنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْجُدَ لِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ الصَّحِيحَ، وَأَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَسَّنَهُ، وَإِنَّمَا اعْتَذَرَ عَنْ الْمَصِيرِ إلَيْهِ، لِكَوْنِهِ إنَّمَا نَوَى بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَعْلَهَا عَنْ الْأُولَى، كَمَا لَوْ سَجَدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَحْسِبُ أَنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ يَحْسِبُ أَنَّهُ فِي الْأُولَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/29)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَسْجُدُ فِي الْحَالِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، فِيمَنْ نَسِيَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْهَا: يَسْجُدُ فِي الْحَالِ ثَمَانِيَ سَجَدَاتٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِيهَا، فَلَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ نَاسِيًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى سَلَّمَ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ رَكْعَةٍ تَنْقُصُ سَجْدَةً فَإِذَا سَلَّمَ بَطَلَتْ أَيْضًا. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ
[فَصْلٌ تَرَكَ الْمُصَلَّيْ رُكْنًا ثُمَّ ذَكَرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهُ]
(924) فَصْلٌ: وَإِذَا تَرَكَ رُكْنًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهُ، بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ سَجْدَةً لَا يَعْلَمُ أَمِنْ الرَّكْعَةِ. الرَّابِعَةِ أَمْ مِنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا جَعَلَهَا مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ حَسِبَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ لَا يَعْلَمُ أَمِنْ الرَّكْعَتَيْنِ أَمْ مِنْ رَكْعَةٍ، جَعَلَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيَلْزَمَهُ رَكْعَتَانِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ هُوَ فِيهَا لَا يَعْلَمُ أَرُكُوعٌ هُوَ أَمْ سُجُودٌ، جَعَلَهُ رُكُوعًا؛ لِيَلْزَمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَبِمَا بَعْدَهُ.
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، يَأْتِي بِمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْهَا وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا، فَيَكُونَ مَغْرُورًا بِهَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إلَّا عَلَى يَقِينٍ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهَا قَدْ تَمَّتْ، وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْأُولَى فَذَكَرَهَا فِي التَّشَهُّدِ، أَتَى بِرَكْعَةٍ وَأَجْزَأَتْهُ وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ غَيْرَهَا، فَنَسِيَ أَنْ يَرْكَعَ فِي الثَّانِيَةِ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرَّابِعَةِ، قَالَ: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِاَلَّتِي لَمْ يَرْكَعْ فِيهَا، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلْوَهْمِ
[فَصْلٌ شَكَّ فِي تَرَكَ رُكْن مِنْ أَرْكَان الصَّلَاة وَهُوَ فِيهَا هَلْ أَخْلُ بِهِ أَوْ لَا]
(925) فَصْلٌ: وَإِنْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِيهَا - هَلْ أَخَلَّ بِهِ أَوْ لَا؟ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ، إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَإِنْ شَكَّ فِي زِيَادَةٍ تُوجِبُ السُّجُودَ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ بِالشَّكِّ فِيهَا. وَإِنْ شَكَّ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ يُوجِبُ تَرْكُهُ سُجُودَ السَّهْوِ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَلَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ فِي رُكْنٍ ذُكِرَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ احْتِمَالِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ
[فَصْلٌ سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرِ مِنْ جِنْس]
(926) فَصْلٌ: إذَا سَهَا سَهْوَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ، كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِلْجَمِيعِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ
(2/30)
السَّهْوُ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَكَذَلِكَ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، يَسْجُدُ سُجُودَيْنِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودَانِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ. وَالْآخَرُ بَعْدَهُ، سَجَدَهُمَا فِي مَحِلَّيْهِمَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهَذَانِ سَهْوَانِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ يَقْتَضِي سُجُودًا، وَإِنَّمَا تَدَاخَلَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِاتِّفَاقِهِمَا، وَهَذَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَهَذَا يَتَنَاوَلُ السَّهْوَ فِي مَوْضِعَيْنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَا فَسَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ بَعْدَ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ لَهُمَا سُجُودًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ السُّجُودَ أُخِّرَ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، لِيَجْمَعَ السَّهْوَ كُلَّهُ وَإِلَّا فَعَلَهُ عَقِيبَ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْجَبْرِ فَجَبَرَ نَقْصَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ السَّهْوِ مَرَّاتٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا انْجَبَرَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ آخَرَ فَنَقُولُ: سَهْوَانِ. فَأَجْزَأَ عَنْهُمَا سُجُودٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ.
وَقَوْلُهُ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ لِكُلِّ سَهْوٍ فِي صَلَاةٍ، وَالسَّهْوُ وَإِنْ كَثُرَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ السَّهْوِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِكُلِّ صَلَاةٍ فِيهَا سَهْوٌ سَجْدَتَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» بَعْدَ السَّلَامِ " هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ السَّلَامِ سُجُودَانِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَعْنَى الْجِنْسَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا. قَبْلَ السَّلَامِ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَحِلَّيْهِمَا مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَلِكَ سَبَبَاهُمَا وَأَحْكَامُهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْجِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَقْصٍ، وَالْآخَرُ مِنْ زِيَادَةٍ وَالْأَوْلَى مَا قُلْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا إذَا اجْتَمَعَا، سَجَدَ لَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَآكَدُ، وَلِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ قَدْ وَجَبَ لِوُجُوبِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ آخَرُ، وَإِذَا سَجَدَ لَهُ، سَقَطَ الثَّانِي؛ لِإِغْنَاءِ الْأَوَّلِ عَنْهُ، وَقِيَامِهِ مَقَامَهُ
[فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ]
(927) فَصْلٌ: وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ نَوَى مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ، وَقُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَسَهَا فِيمَا انْفَرَدَ فِيهِ، وَسَهَا إمَامُهُ فِيمَا تَابَعَهُ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَنْتَهِي قَبْلَ صَلَاةِ إمَامِهِ فَعَلَى قَوْلِنَا هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَ مَحِلُّهُمَا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْجِنْسَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، يَحْتَمِلُ كَوْنَهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ صَلَّى مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَةً وَدَخَلَ مَعَ مُسَافِرٍ، فَنَوَى مُتَابَعَتَهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ إمَامُهُ قَامَ لِيُتِمَّ مَا عَلَيْهِ، فَقَدْ حَصَلَ مَأْمُومًا
(2/31)
فِي وَسَطِ صَلَاتِهِ، مُنْفَرِدًا فِي طَرَفَيْهَا فَإِذَا سَهَا فِي الْوَسَطِ وَالطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا، فَعَلَى قَوْلِنَا إنْ كَانَ مَحِلُّ سُجُودِهِمَا وَاحِدًا فَهِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحِلُّ السُّجُودِ فَهِيَ جِنْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هِيَ جِنْسَانِ. هَلْ يُجْزِئُهُ لَهَا سَجْدَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْجُدَ سِتَّ سَجَدَاتٍ، لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ
[مَسْأَلَة لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ سُجُودُ سَهْو]
(928) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ سُجُودُ سَهْوٍ، إلَّا أَنْ يَسْهُوَ إمَامُهُ، فَيَسْجُدَ مَعَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا سَهَا دُونَ إمَامِهِ، فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحُكِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَامَ عَنْ قُعُودِ إمَامِهِ فَسَجَدَ. وَلَنَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ تَكَلَّمَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودٍ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ فَإِنْ سَهَا إمَامُهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ» . وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ إذَا سَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْهُ وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَهَا مَعَهُ، أَوْ انْفَرَدَ الْإِمَامُ بِالسَّهْوِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ أَنَّهُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ بَعْدَهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا فَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ فِيهِ، فَعَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِسْحَاقُ: يَقْضِي ثُمَّ يَسْجُدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ، كَقَوْلِنَا، وَبَعْدَهُ، كَقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ خَارِجٌ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَتَّبِعْ الْإِمَامَ فِيهِ، كَصَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «فَإِنْ سَهَا إمَامُهُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ» وَلِأَنَّ السُّجُودَ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَغَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَفَارَقَ صَلَاةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ، غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ فِيهَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَتَى قَضَى فَفِي إعَادَةِ السُّجُودِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُعِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ السَّهْوِ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ السُّجُودِ مَعَ الْإِمَامِ كَانَ مُتَابِعًا لَهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا لَزِمَهُ، كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.
وَالثَّانِيَةُ، لَا يَلْزَمَهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ سُجُودَ إمَامِهِ قَدْ كَمَلَتْ بِهِ الصَّلَاةُ فِي حَقِّهِ، وَحَصَلَ بِهِ الْجُبْرَانُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى سُجُودٍ ثَانٍ، كَالْمَأْمُومِ إذَا سَهَا وَحْدَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ
(2/32)
السُّجُودَ، سَجَدَ الْمَسْبُوقُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْإِمَامِ مَا يَكْمُلُ بِهِ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ.
وَإِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ فِيمَا تَفَرَّدَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، سَجَدَ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُنْفَرِدًا، فَلَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْإِمَامُ وَهَكَذَا لَوْ سَهَا، فَسَلَّمَ مَعَ إمَامِهِ، قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، كَالْمُنْفَرِدِ، سَوَاءً
[فَصْلٌ غَيْر الْمَسْبُوق إذَا سَهَا إمَامه فَلَمْ يَسْجُد فَهَلْ يَسْجُد الْمَأْمُوم]
(929) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْبُوقِ إذَا سَهَا إمَامُهُ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَهَلْ يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَسْجُدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ نَقَصَتْ بِسَهْوِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَنْجَبِرْ بِسُجُودِهِ، فَيَلْزَمُ الْمَأْمُومَ جَبْرُهَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَسْجُدُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْقَاسِمِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ إنَّمَا يَسْجُدُ تَبَعًا، فَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ لَمْ يُوجَدْ الْمُقْتَضِي لِسُجُودِ الْمَأْمُومِ.
وَهَذَا إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ لِعُذْرٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا، وَكَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَرَى أَنَّ السُّجُودَ وَاجِبٌ، فَهُوَ كَتَارِكِهِ سَهْوًا. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا فَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا السَّلَامُ
[فَصْلٌ قَامَ الْمَأْمُومُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَسَجَدَ إمَامُهُ بَعْدَ السَّلَام]
(930) فَصْلٌ: إذَا قَامَ الْمَأْمُومُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَسَجَدَ إمَامُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَائِمِ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؛ إنْ سَجَدَ إمَامُهُ قَبْلَ انْتِصَابِهِ قَائِمًا لَزِمَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ انْتَصَبَ قَائِمًا وَلَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ رَجَعَ جَازَ وَإِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَامَ لِيَقْضِيَ، إذَا عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ سَهْوٍ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَمِلَ فِي قِيَامِهِ، وَابْتَدَأَ فِي الْقِرَاءَةِ، مَضَى، ثُمَّ سَجَدَ. قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا؟ قَالَ: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَعْمَلْ. قِيلَ لَهُ: قَدْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا؟ فَقَالَ: إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، وَأَخَذَ فِي عَمَلِ الْقَضَاءِ، سَجَدَ بَعْدَمَا يَقْضِي. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَامَ عَنْ وَاجِبٍ إلَى رُكْنٍ أَشْبَهَ الْقِيَامَ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ فِيهِ رِوَايَاتٍ ثَلَاثًا. وَهَذَا أَوْلَى، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ.
(2/33)
[فَصْلٌ لَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ لِذَلِكَ]
(931) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ لِذَلِكَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، فِي مَنْ أَدْرَكَ وِتْرًا مِنْ صَلَاةِ إمَامِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشَهُّدِ وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَاقْضُوا» وَلَمْ يَأْمُرْ بِسُجُودٍ وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ، وَقَدْ فَاتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَضَاهَا وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ سُجُودٌ وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَشَهُّدِهِ، وَلِأَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ لِلسَّهْوِ، هَاهُنَا وَلِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ يَسْجُدْ لِفِعْلِهَا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.
[فَصْلٌ لَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِشَيْءِ فَعَلَّه أَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا]
(932) فَصْلٌ: وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْجُدُ لِتَرْكِ التَّشَهُّدِ وَالْقُنُوتِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ الْجَبْرُ بِسَهْوِهِ تَعَلَّقَ بِعَمْدِهِ، كَجُبْرَانَاتِ الْحَجِّ. وَلَنَا، أَنَّ السُّجُودَ يُضَافُ إلَى السَّهْوِ، فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِهِ فِي السَّهْوِ، فَقَالَ «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْجِبَارِ السَّهْوِ بِهِ انْجِبَارُ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي السَّهْوِ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي الْعَمْدِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِزِيَادَةِ رُكْنٍ أَوْ رَكْعَةٍ، أَوْ قِيَامٍ فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أَوْ جُلُوسٍ فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ، وَلَا يُشْرَعُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا تَكَادُ صَلَاةٌ تَخْلُو مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
[فَصْلٌ حُكْمُ النَّافِلَةِ حُكْمُ الْفَرْضِ فِي سُجُودِ السَّهْو]
(933) فَصْلٌ: وَحُكْمُ النَّافِلَةِ حُكْمُ الْفَرْضِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ قَالَ: لَا يُشْرَعُ فِي النَّافِلَةِ. وَهَذَا يُخَالِفُ عُمُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ.» وَقَالَ «إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَيَسْجُدُ لِسَهْوِهَا كَالْفَرِيضَةِ، وَلَوْ قَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِيَامِ إلَى ثَالِثَةٍ فِي الْفَجْرِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْعِرَاقِ كَقَوْلِهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ كَقَوْلِهِ، وَفِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: إنْ ذَكَرَ قَبْلَ رُكُوعِهِ فِي الثَّالِثَةِ جَلَسَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ رُكُوعِهِ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا. وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى» وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ شُرِعَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ حُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا صَلَاةُ النَّهَارِ فَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا
(2/34)
[فَصْلٌ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَة]
(934) فَصْلٌ: وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لِأَنَّهَا لَا سُجُودَ فِي صُلْبِهَا، فَفِي جَبْرِهَا أَوْلَى وَلَا فِي سُجُودِ تِلَاوَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شُرِعَ لَكَانَ الْجَبْرُ زَائِدًا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا فِي سُجُودِ سَهْوٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ هُوَ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ، وَلَوْ سَهَا بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ لَمْ يَسْجُدْ لِذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةٌ الْكَلَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطَلُ الصَّلَاةَ]
(935) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) أَمَّا الْكَلَامُ عَمْدًا، وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَالِمًا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا لِأَمْرٍ يُوجِبُ الْكَلَامَ، فَتَبْطُلَ الصَّلَاةُ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ يُرِيدُ صَلَاحَ صَلَاتِهِ، أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِمُسْلِمٍ: وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا. قَالَ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ»
فَأَمَّا الْكَلَامُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ. فَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " لَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزِيدَ بْنِ أَرْقَمَ، وَلَا يَثْبُتْ حُكْمُ النَّسْخِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ حُكْمُ نَسْخِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ، فَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ بِخِلَافِ النَّاسِي، فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ، وَبِخِلَافِ الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ
(2/35)
قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْت: يَرْحَمُك اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْت وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»
أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُخَرَّجَ هَذَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي كَلَامِ النَّاسِي، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ مِثْلُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، وَذَلِكَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْسَى أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ؛ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يَأْمُرْ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ بِالْإِعَادَةِ إذْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا، وَمَا عُذِرَ فِيهِ بِالْجَهْلِ عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ. وَالثَّانِيَةُ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ أَحَادِيثِ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُسَامَحْ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ، كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَظُنَّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ، فَيَتَكَلَّمَ، فَهَذَا إنْ كَانَ سَلَامًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَعَلُوهُ، وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَلِأَنَّ جِنْسَهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَامًا، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: يَا غُلَامُ اسْقِنِي مَاءً. فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى مَنْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فِي صَلَاتِهِ يَظُنُّ أَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ، إنْ كَانَ كَلَامُهُ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ الصَّلَاةُ، بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ كَمَا كَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَا الْيَدَيْنِ. وَإِذَا قَالَ: يَا غُلَامُ اسْقِنِي مَاءً. أَوْ
(2/36)
شِبْهَهُ أَعَادَ وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، الزُّبَيْرُ، وَابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ خِلَافَهُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ تَفْسُدُ بِكُلِّ حَالٍ. قَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: أَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ الْيَوْمَ وَأَجَابَهُ أَحَدٌ أَعَادَ الصَّلَاةَ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ. وَقَالَ: عَلَى هَذَا اسْتَقَرَّتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ تَوَقُّفِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِي مَنْعِ الْكَلَامِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِالْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ النِّسْيَانِ فَأَشْبَهَ الْمُتَكَلِّمَ جَاهِلًا، وَلِذَلِكَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ؛ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَتُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنْ كَانَ إمَامًا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ غَيْرُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَتَكَلَّمَ مَغْلُوبًا عَلَى الْكَلَامِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَخْرُجَ الْحُرُوفُ مِنْ فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، مِثْلُ أَنْ يَتَثَاءَبَ، فَيَقُولَ: هَاهْ، أَوْ يَتَنَفَّسَ، فَيَقُولَ: آهْ. أَوْ يَسْعُلَ، فَيَنْطِقَ فِي السَّعْلَةِ بِحَرْفَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا أَوْ يَغْلَطَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيَعْدِلَ إلَى كَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، أَوْ يَجِيئَهُ الْبُكَاءُ فَيَبْكِيَ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ فَيَجِيئُهُ الْبُكَاءُ فَيَبْكِي، فَقَالَ: إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَقَالَ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَبْكِي، حَتَّى يُسْمَعَ لَهُ نَشِيجٌ. وَقَالَ مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ أَحْمَدَ فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ هَاهْ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَنْ تَثَاءَبَ، فَقَالَ آهْ آهْ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِ أَحْمَدَ خِلَافَهُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَنَامَ فَيَتَكَلَّمَ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ. وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ أَوْ أَقَرَّ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْكَلَامِ فَيَحْتَمِلَ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى كَلَامِ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَفْوِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَقَالَ الْقَاضِي؛ هَذَا أَوْلَى بِالْعَفْوِ، وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالٍ لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ نَاسِيًا ضَمِنَهُ وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ هَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ.
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى النَّاسِي لِوَجْهَيْنِ:
(2/37)
أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَكْثُرُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ فَزَادَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ نَسِيَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاجِبٍ، مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ ضَرِيرٍ الْوُقُوعَ فِي هَلَكَةٍ، أَوْ يَرَى حَيَّةً وَنَحْوَهَا تَقْصِدُ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا أَوْ يَرَى نَارًا يَخَافُ أَنْ تَشْتَعِلَ فِي شَيْءٍ وَنَحْوَ هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ التَّنْبِيهُ بِالتَّسْبِيحِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَذَا.
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ الْمُكْرَهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: إنَّمَا كَلَّمَ الْقَوْمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَلَّمَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجِيبُوهُ. فَعَلَّلَ صِحَّةَ صَلَاتِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَوَجْهُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ هَاهُنَا، أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ كَلَامَ الْمُجِيبِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَكَلَّمَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ وَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(936) فَصْلٌ: وَكُلُّ كَلَامٍ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْيَسِيرِ مِنْهُ، فَإِنْ كَثُرَ، وَطَالَ، أَفْسَدَ الصَّلَاةَ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي، فِي الْمُجَرَّدِ كَلَامُ النَّاسِي إذَا طَالَ يُعِيدُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ اسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَنَا: أَنَّ دَلَالَةَ أَحَادِيثِ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ عَامَّةٌ تُرِكَتْ فِي الْيَسِيرِ بِمَا وَرَدَ فِيهِ الْأَخْبَارِ، فَتَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ
[مَسْأَلَة الْإِمَامَ إذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاة]
(937) مَسْأَلَةٌ: قَالَ إلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً؛ فَإِنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَمَنْ ذَكَرَ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَلْيَأْتِ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَنْ نَقْصٍ مِنْ صَلَاتِهِ يَظُنُّ أَنَّهَا قَدْ تَمَّتْ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ
(2/38)
مِثْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَكَلَّمُوا، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ - لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إمَامًا، فَتَكَلَّمَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ -، وَصَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا تَفْسُدُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا مُجِيبَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجَابَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا بِذِي الْيَدَيْنِ، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ سَائِلًا عَنْ نَقْصِ الصَّلَاةِ، فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي زَمَانِنَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَاخْتُصَّ هَذَا بِالْكَلَامِ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي شَأْنِهَا، فَاخْتُصَّتْ إبَاحَةُ الْكَلَامِ بِوُرُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، دُونَ غَيْرِهِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ، وَلَا ظَنَّ التَّمَامَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ؛ إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ، وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْإِمَامِ وَقَدْ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ: إنَّهَا الْعَصْرُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَطَرَّقَهُ حَالٌ يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِيهَا، وَهُوَ مَا لَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ فَذَكَرَهَا فِي الثَّانِيَةِ، فَقَدْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُبْدِلَهَا بِرَكْعَةٍ هِيَ فِي ظَنِّ الْمَأْمُومِينَ خَامِسَةٌ لَيْسَ لَهُمْ مُوَافَقَتُهُ فِيهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى إعْلَامِهِمْ بِغَيْرِ الْكَلَامِ وَقَدْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ، فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ الْكَلَامُ.
وَلَمْ أَعْلَمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَا عَنْ الْإِمَامِ نَصًّا فِي الْكَلَامِ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي سَلَّمَ فِيهَا مُعْتَقِدًا تَمَامَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقِيَاسُ الْكَلَامِ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ عَالِمًا بِهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالُ نِسْيَانٍ، غَيْرُ مُمْكِنٍ التَّحَرُّزُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا، وَهِيَ أَيْضًا حَالٌ يَتَطَرَّقُ الْجَهْلُ إلَى صَاحِبِهَا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ مَا يُفَارِقُهَا فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا، وَلَا نَصَّ فِيهَا، وَإِذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ وَالْإِجْمَاعُ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
[فَصْلٌ الْكَلَامُ الْمُبْطِلُ لِلصَّلَاةِ مَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ]
فَصْلٌ: وَالْكَلَامُ الْمُبْطِلُ مَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ بِالْحَرْفَيْنِ تَكُونُ كَلِمَةٌ كَقَوْلِهِ: أَبٌ وَأَخٌ وَدَمٌ. وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ، وَلَا تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ مِنْ أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لَا. فَسَدَتْ صَلَاتَهُ، لِأَنَّهَا حَرْفَانِ لَامٌ وَأَلِفٌ. وَإِنْ ضَحِكَ فَبَانَ حَرْفَانِ. فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ وَإِنْ قَهْقَهَ وَلَمْ يَكُنْ حَرْفَانِ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ،
(2/39)
وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الضَّحِكَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّبَسُّمَ لَا يُفْسِدُهَا، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ
[فَصْلٌ النَّفْخُ فِي الصَّلَاة]
(939) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَإِلَّا فَلَا يُفْسِدُهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ النَّفْخُ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ " مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَلَا أَقُولُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، لَيْسَ هُوَ كَلَامًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَإِسْحَاقَ.
قَالَ الْقَاضِي: الْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ أَحْمَدُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا انْتَظَمَ حَرْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَلَامًا وَلَا يَكُونُ كَلَامًا بِأَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ يَنْتَظِمْ مِنْهُ حَرْفَانِ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ سُمِعَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يَنْتَظِمْ مِنْهُ حَرْفَانِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ نَفَخَ فِي سُجُودِهِ، فَقَالَ: أُفْ أُفْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ أَرَادَ مَا لَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَفْخٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ إظْهَارُهُ أَبْطَلَهَا إسْرَارُهُ، وَمَا لَا فَلَا، كَالْكَلَامِ
[فَصْلٌ النَّحْنَحَةُ إنَّ بَانَ مِنْهَا حَرْفَانِ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهَا]
(940) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّحْنَحَةُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ بَانَ مِنْهَا حَرْفَانِ، بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهَا كَالنَّفْخِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: كُنْت آتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ، لِأَعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي. وَقَالَ مُهَنَّا: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَنَحْنَحُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْتَظِمُ حَرْفَيْنِ. وَظَاهِرُ حَالِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّحْنَحَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَتْ لِي سَاعَةٌ فِي
(2/40)
السَّحَرِ أَدْخُلُ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ تَنَحْنَحَ، فَكَانَ ذَلِكَ إذْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ أَذِنَ لِي» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي كَرَاهَةِ تَنْبِيهِ الْمُصَلِّي بِالنَّحْنَحَةِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: لَا تَنَحْنُحَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِكُمْ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ، وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» وَرَوَى عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَحْنَحُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ
[فَصْلٌ الْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ فِي الصَّلَاة]
(941) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ الَّذِي يَنْتَظِمُ مِنْهُ حَرْفَانِ فَمَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُؤَثِّرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، فِي الرَّجُلِ يَتَأَوَّهُ فِي الصَّلَاةِ: إنْ تَأَوَّهَ مِنْ النَّارِ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا تَأَوَّهَ، أَوْ أَنَّ، أَوْ بَكَى لِخَوْفِ اللَّهِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.
قَالَ الْقَاضِي: التَّأَوُّهُ ذِكْرٌ، مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وَالذِّكْرُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةُ، وَمَدَحَ الْبَاكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109] وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْت نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ.
وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّأَوُّهِ شَيْئًا، وَلَا فِي الْأَنِينِ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا أَنَّهُ مَتَى فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي الْبُكَاءِ الَّذِي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ: إنَّهُ مَا كَانَ عَنْ غَلَبَةٍ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَالنُّصُوصُ الْعَامَّةُ تَمْنَعُ مِنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ مَا يَخُصُّهُمَا وَيُخْرِجُهُمَا مِنْ الْعُمُومِ، وَالْمَدْحُ عَلَى التَّأَوُّهِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي هِيَ صَدَقَةٌ
[فَصْلٌ أَتَى بِذَكَرِ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ فِي الصَّلَاة]
(942) فَصْلٌ: إذَا أَتَى بِذِكْرٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ. فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَسْهُوَ إمَامُهُ فَيُسَبِّحَ بِهِ لِيُذَكِّرَهُ أَوْ يَتْرُكَ إمَامُهُ ذِكْرًا فَيَرْفَعَ الْمَأْمُومُ صَوْتَهُ لِيُذَكِّرَهُ أَوْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يَنُوبَهُ شَيْءٌ، فَيُسَبِّحَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، أَوْ يَخْشَى عَلَى إنْسَانٍ الْوُقُوعَ فِي شَيْءٍ فَيُسَبِّحَ بِهِ لِيُوقِظَهُ، أَوْ يَخْشَى أَنْ يُتْلِفَ شَيْئًا، فَيُسَبِّحَ
(2/41)
بِهِ لِيَتْرُكَهُ.
فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَفْهَمْ غَيْرَ إمَامِهِ بِالتَّسْبِيحِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ إلَّا الْتَفَتَ وَفِي لَفْظٍ إذَا نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ وَلْتُصَفِّقْ النِّسَاءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَنُوبُ الْمُصَلِّيَ وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَلِيٍّ «كُنْت إذَا اسْتَأْذَنْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ سَبَّحَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ أَذِنَ» وَلِأَنَّهُ نَبَّهَ بِالتَّسْبِيحِ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَبَّهَ الْإِمَامَ، وَلَوْ كَانَ تَنْبِيهُ غَيْرِ الْإِمَامِ كَلَامًا مُبْطِلًا لَكَانَ تَنْبِيهُ الْإِمَامِ كَذَلِكَ.
(943) فَصْلٌ: وَفِي مَعْنَى هَذَا النَّوْعِ، إذَا فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا ارْتَجَّ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ إذَا غَلِطَ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مَعْقِلٍ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ. وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ؛ لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَفْتَحُ عَلَى الْإِمَامِ» وَلَنَا: مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً، فَقَرَأَ فِيهَا، فَلُبِسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ أَصْلَيْتَ مَعَنَا؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا مَنَعَك؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَرَدَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمْ يَفْتَحُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَمَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَكُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ؟ قَالُوا: لَا» فَرَأَى الْقَوْمُ أَنَّهُ إنَّمَا تَفَقَّدَهُ لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَرَوَى مُسَوَّرُ بْنُ يَزِيدَ الْمَالِكِيُّ قَالَ: «شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَكَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، آيَةَ كَذَا وَكَذَا تَرَكْتَهَا. قَالَ: فَهَلَّا ذَكَّرْتَنِيهَا؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَلِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِإِمَامِهِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ التَّسْبِيحَ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ كَذَّابًا، وَقَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: إذَا اسْتَطْعَمَك الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ. يَعْنِي إذَا تَعَايَى فَارْدُدْ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: لَا تَفْتَحْ عَلَى الْإِمَامِ. وَمَا بَأْسٌ بِهِ، أَلَيْسَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ الْحَارِثِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
(2/42)
[فَصْلٌ إذَا أَرْتَجّ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَة]
(944) فَصْلٌ: وَإِذَا ارْتَجَّ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْفَاتِحَةِ لَزِمَ مَنْ وَرَاءَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً لَزِمَهُمْ تَنْبِيهُهُ بِالتَّسْبِيحِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مِنْ أَجْلِهِ، كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ رُكْنٍ يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ، كَالرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةُ فَكَانَ بِالِاسْتِخْلَافِ أَوْلَى.
وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَأْتِي بِمَا يُحْسِنُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَسَقَطَ كَالْقِيَامِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنْ كَانَ أُمِّيًّا عَاجِزًا عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَارِئًا نَوَى مُفَارَقَتَهُ، وَأَتَمَّ وَحْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِقِرَاءَتِهَا فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِ ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْأُمِّيِّ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَوْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِدُونِهَا، وَهَذَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلَ عَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ وَيُصَلِّيَ، وَلَا قِيَاسُهُ عَلَى أَرْكَانِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ الصَّلَاةِ لَا يُزِيلُ عَجْزَهُ عَنْهَا، وَلَا يَأْمَنُ عَوْدَ مِثْلِ ذَلِكَ لِعَجْزٍ بِخِلَافِ هَذَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْبِيهِ آدَمِيٍّ، إلَّا أَنَّهُ لِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَعْطِسُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ، أَوْ تَلْسَعَهُ عَقْرَبٌ فَيَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ. أَوْ يَسْمَعَ، أَوْ يَرَى مَا يَغُمُّهُ فَيَقُولَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] أَوْ يَرَى عَجَبًا فَيَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَهَذَا لَا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُبْطِلُهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، فِي مَنْ عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، فِي مَنْ قِيلَ لَهُ وَهُوَ يُصَلِّي: وُلِدَ لَك غُلَامٌ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ لَهُ: احْتَرَقَ دُكَّانُك قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ ذَهَبَ كِيسُك: فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ قِيلَ: لَهُ مَاتَ أَبُوك. فَقَالَ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] فَلَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ حِينَ أَجَابَ الْخَارِجِيَّ.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ: وُلِدَ لَك غُلَامٌ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَوْ ذَكَرَ مُصِيبَةً، فَقَالَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . قَالَ يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ. وَلَنَا مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: «عَطَسَ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا، وَبَعْدَمَا يَرْضَى مِنْ أَمْرِ
(2/43)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ الْقَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، مَا تَنَاهَتْ دُونَ الْعَرْشِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَنَادَاهُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . قَالَ: فَأَنْصَتَ لَهُ حَتَّى فَهِمَ، ثُمَّ أَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ابْتِدَاءً لَا يُبْطِلُهَا إذَا أَتَى بِهِ عَقِيبَ سَبَبٍ، كَالتَّسْبِيحِ لِتَنْبِيهِ إمَامِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ - لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - يَعْنِي: الْعَاطِسُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ - بِالْحَمْدِ، وَإِنْ رَفَعَ فَلَا بَأْسَ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي الْإِمَامِ يَقُولُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". فَيَقُولُ مَنْ خَلْفَهُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " يَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ، قَالَ: يَقُولُونَ، وَلَكِنْ يُخْفُونَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ ذَلِكَ، كَمَا كَرِهَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يَمْنَعُ الْإِنْصَاتَ، فَجَرَى مَجْرَى التَّأْمِينِ. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِهَذَا؟ قَالَ: أَكْرَهُهُ. قِيلَ: فَيَنْهَاهُمْ الْإِمَامُ؟ قَالَ: لَا يَنْهَاهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا لَمْ يَنْهَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَهْرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا.
(945) فَصْلٌ: قِيلَ لِأَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] هَلْ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ". قَالَ: إنْ شَاءَ قَالَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَا يَجْهَرُ بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] . فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى،. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] . فَقَالَ: سُبْحَانَكَ، وَبَلَى. وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ، فَكَانَ إذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] . قَالَ: سُبْحَانَكَ فَبَكَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، فَجَازَ التَّسْبِيحُ فِي مَوْضِعِهِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ يَقْصِدُ بِهِ تَنْبِيهَ آدَمِيٍّ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] . يُرِيدُ الْإِذْنَ، أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] . أَوْ {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَلَّمَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ قِيلَ لَهُ: مَاتَ أَبُوكَ. فَقَالَ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، حِينَ قَالَ لِلْخَارِجِيِّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] .
(2/44)
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ يُصَلِّي. فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] . فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] .
وَلِأَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّنْبِيهَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ قَصَدَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّنْبِيهِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ التَّنْبِيهَ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا، وَإِنْ قَصَدَهُمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَعْنَى.
وَالثَّانِي: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ آدَمِيًّا، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ التِّلَاوَةَ. فَأَمَّا إنْ أَتَى مَا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إبْرَاهِيمُ. يَا إبْرَاهِيمُ. أَوْ لِعِيسَى: يَا عِيسَى. وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ خُذْ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ.
[فَصْلٌ يَكْرَه أَنْ يُفْتَح مِنْ هُوَ فِي الصَّلَاة عَلَى مِنْ هُوَ فِي صَلَاة أُخْرَى]
(946) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَفْتَحَ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ جَالِسٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْرَأُ، فَإِذَا أَخْطَأَ، فَتَحَ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي. فَقَالَ: كَيْفَ يَفْتَحُ إذَا أَخْطَأَ هَذَا، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ قُرْآنٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ قِرَاءَتَهُ دُونَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بِغَيْرِهِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَ الْمَقَامِ يُصَلِّي، وَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ خَلْفَهُ يُلَقِّنُهُ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[فَصْلٌ إذَا سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي]
(947) فَصْلٌ: إذَا سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إنَّ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا، جَازَتْ صَلَاتُهُ.
وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، فَرَجَعْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَوَجْهُهُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي كُنْت أُصَلِّي» . وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ «، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ
(2/45)
عَلَيْنَا؟ قَالَ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ كَلَامُ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَبَضَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذِرَاعِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ.
رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَدَاوُد؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: «فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَأَخَذَنِي مَا قُدِّمَ وَمَا حَدَثَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ. وَقَدْ رَوَى صُهَيْبٌ، قَالَ: «مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَكَلَّمْتُهُ فَرَدَّ إشَارَةً» .
قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ قَالَ: فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقُلْت لِبِلَالٍ: كَيْفَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ يَعْقُوبُ: هَكَذَا: وَبَسَطَ - يَعْنِي كَفَّهُ - وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ، وَظُهْرَهُ إلَى فَوْقُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى.
[فَصْلٌ دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ]
(948) فَصْلٌ: وَإِذَا دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى مُصَلٍّ. وَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ الْمُصَلِّي فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى تَجْوِيزِهِ احْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَلَّمَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ إشَارَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
[فَصْلٌ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الْفَرِيضَةِ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ]
(949) فَصْلٌ: إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الْفَرِيضَةِ عَامِدًا، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، رِوَايَةً، وَاحِدَةً. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ عَامِدًا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ
(2/46)
الَّذِي لَا يَفْسُدُ بِالْأَفْعَالِ، فَالصَّلَاةُ أَوْلَى. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ أَبْطَلَهُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الْفَرْضَ أَبْطَلَ التَّطَوُّعَ، كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا شَرِبَا فِي التَّطَوُّعِ.
وَعَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَأَمَّا إنْ أَكْثَرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنْ الْأَعْمَالِ يُفْسِدُ إذَا كَثُرَ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ أَوْلَى. وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ نَاسِيًا لَمْ تَفْسُدْ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُبْطِلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ.
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَلِأَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ حَالَ الْعَمْدِ. وَيُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَيُشْرَعُ لِذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّ مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ إذَا عُفِيَ عَنْهُ لِأَجْلِ السَّهْوِ شُرِعَ لَهُ السُّجُودُ، كَالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، وَمَتَى كَثُرَ ذَلِكَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَعْفُوَّ عَنْ يَسِيرِهَا إذَا كَثُرَتْ أَبْطَلَتْ، فَهَذَا أَوْلَى.
[فَصْلٌ إذَا تَرَكَ فِي فِيهِ مَا يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ فَذَابَ مِنْهُ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ]
ُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ. وَإِنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، أَوْ فِي فِيهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ يَسِيرٌ يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، فَابْتَلَعَهُ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَإِنْ تَرَكَ فِي فِيهِ لُقْمَةً وَلَمْ يَبْتَلِعْهَا، كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ خُشُوعِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَلَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ شَيْئًا فِي يَدِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/47)
[بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] [مَسْأَلَة إذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهُ طَاهِرَةً وَمَوْضِعُ صَلَاته طَاهِرًا]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهُ طَاهِرَةً، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهِ طَاهِرًا، أَعَادَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى ثَوْبٍ جَنَابَةٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ فِي ثَوْبٍ إعَادَةٌ، وَرَأَى طَاوُسٌ دَمًا كَثِيرًا فِي ثَوْبِهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبَالِهِ. وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ الرَّجُلِ يَرَى فِي ثَوْبِهِ الْأَذَى وَقَدْ صَلَّى؟ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثِّيَابِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ. وَعَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ؟ قَالَ: اُقْرُصِيهِ، وَصَلِّي فِيهِ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: «سَمِعْت امْرَأَةً تَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تَصْنَعُ إحْدَانَا بِثَوْبِهَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ، أَتُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: تَنْظُرُ فِيهِ، فَإِنْ رَأَتْ دَمًا فَلْتَقْرُصْهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ ".
وَلِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَكَانَتْ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، كَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ.
(2/48)
[فَصْلٌ طَهَارَةُ مَوْضِعِ الصَّلَاة]
(952) فَصْلٌ: وَطَهَارَةُ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ شَرْطٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَقَعُ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ وَتُلَاقِيهِ ثِيَابُهُ الَّتِي عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَرَفُ عِمَامَةٍ، وَطَرَفُهَا الْآخَرُ يَسْقُطُ عَلَى نَجَاسَةٍ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ احْتِمَالًا فِيمَا تَقَعُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ خَاصَّةً، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُهَا بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى إلَى جَانِبِهِ إنْسَانٌ نَجِسُ الثَّوْبِ، فَالْتَصَقَ ثَوْبُهُ بِهِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ تَابِعَةٌ لَهُ، فَهِيَ كَأَعْضَاءِ سُجُودِهِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَوْبُهُ يَمَسُّ شَيْئًا نَجِسًا، كَثَوْبِ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ، أَوْ حَائِطٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِبَدَنِهِ وَلَا سُتْرَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَفْسُدَ؛ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ مُلَاقِيَةٌ لِنَجَاسَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُحَاذِيَةً لِجِسْمِهِ فِي حَالِ سُجُودِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَصِقُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا أَعْضَائِهِ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ النَّجَاسَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَتْ عَنْ مُحَاذَاتِهِ.
[فَصْلٌ صَلَّى ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَة فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ]
(953) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى، ثُمَّ رَأَى عَلَيْهِ نَجَاسَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَا يَعْلَمُ؛ هَلْ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ جَهِلَهَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَالثَّانِيَةُ: يُعِيدُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مُشْتَرَطَةٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِجَهْلِهَا، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: يُعِيدُ مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ، وَلَا يُعِيدُ بَعْدَهُ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟ . قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَوْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَتُفَارِقُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا، وَتَخْتَصُّ الْبَدَنَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ ثُمَّ نَسِيَهَا، وَصَلَّى، فَقَالَ الْقَاضِي: حَكَى أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ. وَذَكَرَ هُوَ فِي مَسْأَلَةِ
(2/49)
النِّسْيَانِ، أَنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى التَّفْرِيطِ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ بِهَا. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُعِيدُ إذَا كَانَ قَدْ تَوَانَى، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَالصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا عُذِرَ فِيهِ بِالْجَهْلِ عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ، بَلْ النِّسْيَانُ أَوْلَى؛ لِوُرُودِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ فِيهِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا. يُعْذَرُ. فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ. ثُمَّ إنْ طَرَحَ النَّجَاسَةَ مِنْ غَيْرِ زَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، أَلْقَاهَا، وَبَنَى، كَمَا خَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعْلَيْهِ حِينَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا. وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدَ هَذَيْنِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا اسْتِصْحَابُ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، أَوْ يَعْمَلُ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا كَثِيرًا، فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَصَارَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ السُّتْرَةَ بَعِيدَةً مِنْهُ. (954) فَصْلٌ: وَإِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ، أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَالِ، لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا، كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
[فَصْلٌ صَلَّى عَلَى مِنْدِيل طَرَفُهُ نَجِسِ]
(955) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى عَلَى مِنْدِيلٍ، طَرَفُهُ نَجِسٌ أَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ، وَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ طَاهِرٌ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ النَّجِسُ بِحَرَكَتِهِ، أَوْ لَمْ يَتَحَرَّكْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا بِمُصَلٍّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ مُصَلَّاهُ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضٍ طَاهِرَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَرْضٍ نَجِسَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا كَانَ النَّجِسُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَبْلُ أَوْ الْمَنْدِيلُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، بِحَيْثُ يَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا، فَهُوَ كَحَامِلِهَا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ وَسَطِهِ حَبْلٌ مَشْدُودٌ فِي نَجَاسَةٍ، أَوْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ، أَوْ سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ تَنْجَرُّ مَعَهُ إذَا مَشَى، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لَهَا، فَهُوَ كَحَامِلِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُهُ جَرُّهَا، أَوْ الْحَيَوَانُ كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَرِّهِ إذَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَتْبِعٍ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَ الشَّدُّ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِمَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِتْبَاعِ مَا هُوَ مُلَاقٍ لِلنَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَمْسَكَ سَفِينَةً عَظِيمَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، أَوْ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ.
[فَصْلٌ إذَا حَمَلَ فِي الصَّلَاةِ حَيَوَانًا طَاهِرًا أَوْ صَبِيًّا]
(956) فَصْلٌ: وَإِذَا حَمَلَ فِي الصَّلَاةِ حَيَوَانًا طَاهِرًا أَوْ صَبِيًّا، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ
(2/50)
أُمَامَةَ ابْنَةَ أَبِي الْعَاصِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَكِبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَلِأَنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي مَعِدَتِهِ، فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ فِي مَعِدَةِ الْمُصَلِّي، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ مَسْدُودَةً، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا، فَهِيَ كَالْحَيَوَانِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ.
[مَسْأَلَة الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَة أَوَالْحَشّ أَوْ الْحِمَام أَوْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِل]
(957) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ أَوْ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ؛ أَعَادَ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَرُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ فِيهَا بِحَالٍ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُصَلَّى فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا يُصَلَّى فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَفِي لَفْظٍ «فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا
، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ، فَصَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ، كَالصَّحْرَاءِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَهَذَا خَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنُصَلِّي فِي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَهَذَا خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا رَوَوْهُ، وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، رَوَاهُنَّ الْأَثْرَمُ.
فَأَمَّا الْحُشُّ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِيهِ بِالتَّنْبِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ النَّجَاسَةِ، فَالْحُشُّ مُعَدٌّ لِلنَّجَاسَةِ وَمَقْصُودٌ لَهَا، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَالِمًا بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِصَلَاتِهِ فِيهَا، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ، فَلَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ، كَالصَّلَاةِ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ.
وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ.
(2/51)
(958) فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَزْبَلَةَ، وَالْمَجْزَرَةَ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ، وَظَهْرَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالْمَوْضِعَ الْمَغْصُوبَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَقْبَرَةُ، وَالْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْحَمَّامُ، وَعَطَنُ الْإِبِلِ، وَمَحَجَّةُ الطَّرِيقِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِن. وَذَكَرَهَا، وَقَالَ: وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ الْكَعْبَةِ» . وَقَالَ: الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ سَوَاءً.
وَلِأَنَّ الْمَوَاضِعَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَاتِ، فَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا، كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِالنَّوْمِ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. (959) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: الْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَعَبُّدٌ، لَا لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ كُلَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَلَا فَرْقَ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَمَا تَقَلَّبَتْ أَتْرِبَتُهَا أَوْ لَمْ تَتَقَلَّبْ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ قَبْرٌ أَوْ قَبْرَانِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا. لِأَنَّهَا لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْمَقْبَرَةِ. وَإِنْ نُقِلَتْ الْقُبُورُ مِنْهَا، جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ مَكَانِ الْغَسْلِ وَصَبِّ الْمَاءِ، وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَسْلَخِ - الَّذِي يُنْزَعُ فِيهِ الثِّيَابُ - وَالْأَتُّونِ وَكُلِّ مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الْحَمَّامِ؛ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ. وَأَمَّا الْمَعَاطِنُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هِيَ الَّتِي تُقِيمُ فِيهَا الْإِبِلُ وَتَأْوِي إلَيْهَا.
وَقِيلَ: هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا إذَا وَرَدَتْ. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُقَابِلَةَ مَرَاحِ الْغَنَمِ. وَالْحُشُّ: الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ بَابِهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالْكَلَامِ، فَمَنْعُ الصَّلَاةِ فِيهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِكَوْنِهَا مَظَانَّ لِلنَّجَاسَاتِ، فَهَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ بُنِيَ لَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهَا مَظَانُّ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْبَرَةَ تُنْبَشُ وَيَظْهَرُ التُّرَابُ الَّذِي فِيهِ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَدِمَاؤُهُمْ وَلُحُومُهُمْ، وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ يُبَالُ فِيهَا، فَإِنَّ الْبَعِيرَ الْبَارِكَ كَالْجِدَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِهِ وَيَبُولَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَنَاخَ بَعِيرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إلَيْهِ.
وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي حَيَوَانٍ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ رَبْضِهِ لَا يَسْتُرُ، وَفِي حَالِ قِيَامِهِ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَسْتُرُ. وَالْحَمَّامُ مَوْضِعُ الْأَوْسَاخِ وَالْبَوْلِ، فَنُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِذَلِكَ. وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ
(2/52)
خَفِيَتْ الْحِكْمَةُ فِيهَا، وَمَتَى أَمْكَنَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ تَعَيَّنَ تَعْلِيلُهُ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ قَهْرِ التَّعَبُّدِ وَمَرَارَةِ التَّحَكُّمِ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى الْحُشِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، بِالتَّنْبِيهِ مِنْ وُجُودِ مَعْنَى الْمَنْطُوقِ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مَظِنَّةٌ مِنْهَا، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَنْعِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْلَخِ مِنْ الْحَمَّامِ، وَلَا فِي وَسَطِهِ، لِعَدَمِ الْمَظِنَّةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (960) فَصْلٌ: وَزَادَ أَصْحَابُنَا الْمَجْزَرَةَ، وَالْمَزْبَلَةَ، وَمَحَجَّةَ الطَّرِيقِ، وَظَهْرَ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي خَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ.
وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْخِرَقِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَوَّزَ الصَّلَاةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا» وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَقْبَرَةَ، وَالْحَمَّامَ، وَمَعَاطِنَ الْإِبِلِ، بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ خَاصَّةٍ، فَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِهِ يَرْوِيهِمَا الْعُمَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِمَا مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِمَا، فَلَا يُتْرَكُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِحَدِيثِهِمَا. وَهَذَا أَصَحُّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، فِيمَا عَلِمْتُ، عَمِلُوا بِخَبَرِ عُمَرَ وَابْنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ.
وَمَعْنَى مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ: الْجَادَّةُ الْمَسْلُوكَةُ الَّتِي تَسْلُكُهَا السَّابِلَةُ. وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ: يَعْنِي الَّتِي تَقْرَعُهَا الْأَقْدَامُ، فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِثْلُ الْأَسْوَاقِ وَالْمَشَارِعِ وَالْجَادَّةِ لِلسَّفَرِ. وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيمَا عَلَا مِنْهَا يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَلَمْ يَكْثُرْ قَرْعُ الْأَقْدَامِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَقِلُّ سَالِكُوهَا، كَطُرُقِ الْأَبْيَاتِ الْيَسِيرَةِ.
وَالْمَجْزَرَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَذْبَحُ الْقَصَّابُونَ فِيهِ الْبَهَائِمَ، وَشِبْهَهُمْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ مُعَدًّا. وَالْمَزْبَلَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الزِّبْلُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا طَاهِرًا وَنَجِسًا، وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ فِيهَا سَالِكًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلَا فِي الْمَعَاطِنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إبِلٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَبِيتُ فِيهَا الْإِبِلُ فِي مَسِيرِهَا، أَوْ تُنَاخُ فِيهَا لِعَلْفِهَا أَوْ وِرْدِهَا، فَلَا يُمْنَعُ الصَّلَاةُ فِيهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْإِبِلِ يُصَلَّى فِيهِ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، الَّتِي تَأْوِي إلَيْهَا الْإِبِلُ. (961) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ فَعَلَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْحُشِّ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ قَبْرٌ، وَلَا حُشٌّ وَلَا حَمَّامٌ، فَإِنْ كَانَ يُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ؛ لِمَوْضِعِ النَّهْيِ، وَبِهِ أَقُولُ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ
(2/53)
صَلَّى إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحُشِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا إلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَبِي مَرْثَدٍ، ثُمَّ قَالَ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: رَآنِي عُمَرُ، وَأَنَا أُصَلِّي إلَى قَبْرٍ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيَّ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا الْمَقْبَرَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مَنْ هِيَ فِي قِبْلَتِهِ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ إنْ كَانَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى امْتَنَعَ تَعْدِيَتُهُ وَدُخُولُ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهَا، وَهُوَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسْجِدًا، وَالتَّشَبُّهُ بِمَنْ يُعَظِّمُهَا وَيُصَلِّي إلَيْهَا، فَلَا يَتَعَدَّاهَا الْحُكْمُ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وَقَالَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَى الْقُبُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَيَصِحُّ إلَى غَيْرِهَا لِبَقَائِهَا فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهَا عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (962) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ عَطَنِ الْإِبِلِ أَوْ غَيْرِهَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَدَخَلَ سَطْحَهَا، حَنِثَ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ.
وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ تَعَبُّدِيًّا فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ عُلِّلَ فَإِنَّمَا تَعَلَّلَ بِكَوْنِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا يُتَخَيَّلُ هَذَا فِي سَطْحِهَا. فَأَمَّا إنْ بَنَى عَلَى طَرِيقٍ سَابَاطًا أَوْ أُخْرِجَ عَلَيْهِ خُرُوجًا، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّرِيقِ، لِمَا ذَكَرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى قَوْلِنَا، إنْ كَانَ السَّابَاطُ مُبَاحًا لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، أَوْ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ حَدَثَ الطَّرِيقُ بَعْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، فَيَكُونُ الْمُصَلِّي فِيهِ كَالْمُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ السَّابَاطُ عَلَى نَهْرٍ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، فَهُوَ كَالسَّابَاطِ عَلَى الطَّرِيقِ،
(2/54)
فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا.
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ تَابِعًا لِلْقَرَارِ، لَجَازَتْ الصَّلَاةُ هَاهُنَا، لِكَوْنِ الْقَرَارِ غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ لَوْ جَمَدَ مَاؤُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، صَحَّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرَهُ لَصَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَا حَاذَى مَيْمَنَةَ الطَّرِيقِ وَمَيْسَرَتَهَا، وَمَا لَا تَقْرَعُهُ الْأَقْدَامُ مِنْهَا، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ السَّطْحُ جَارِيًا عَلَى مَوْضِعِ النَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ سَابِقًا، وَجُعِلَ تَحْتَهُ طَرِيقٌ أَوْ عَطَنٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّهْيِ. أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةٍ فَحَدَثَتْ الْمَقْبَرَةُ حَوْلَهُ، لَمْ تَمْتَنِعْ الصَّلَاةُ فِيهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْمَقْبَرَة بَيْنَ الْقُبُور]
(963) فَصْلٌ: وَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْنَ الْقُبُورِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ: أَنَّ أَنَسًا مَرَّ عَلَى مَقْبَرَةٍ، وَهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا مَسْجِدًا، فَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ فِي وَسَطِ الْقُبُورِ.
[فَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا]
(964) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا. وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلَاةِ النَّفْلِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ، كَخَارِجِهَا. وَلَنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا، وَالنَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ، بِدَلِيلِ صَلَاتِهَا قَاعِدًا، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. (965) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.
إلَّا أَنَّهُ إنْ صَلَّى تِلْقَاءَ الْبَابِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُتَّصِلٌ بِهَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ آجُرٌّ مُعَبَّأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ، أَوْ خَشْبٌ غَيْرُ مَسْمُورٍ فِيهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ مَسْمُورًا وَالْآجُرُّ مَبْنِيًّا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لَهَا. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ مَوْضِعِهَا وَهَوَائِهَا، دُونَ حِيطَانِهَا، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْهَدَمْت الْكَعْبَةُ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَتِهَا، صَحَّتْ صَلَاتُهُ إلَى هَوَائِهَا، كَذَا هَاهُنَا.
[فَصْلٌ الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوب]
(966) فَصْلٌ: وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ رِوَايَتَانِ:
(2/55)
إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا، يُمْكِنُهُ إنْقَاذُهُ، فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إطْفَائِهِ، فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَلَ غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إيفَاؤُهُ وَصَلَّى.
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلَاةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْلِ، وَاجْتِنَابَهُ، وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، مُمْتَثِلًا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ، فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، هُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
فَأَمَّا مَنْ رَأَى الْحَرِيقَ فَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْ الصَّلَاةِ، إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ، وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، وَبِالصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا آكَدُ مِنْ الْآخَرِ، أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ غَصْبِهِ لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ بِأَخْذِهَا، أَوْ دَعْوَاهُ مِلْكِيَّتَهَا، وَبَيْنَ غَصْبِهِ مَنَافِعَهَا، بِأَنْ يَدَّعِيَ إجَارَتَهَا ظَالِمًا، أَوْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِيَسْكُنَهَا مُدَّةً أَوْ يُخْرِجَ رَوْشَنًا أَوْ سَابَاطًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لَهُ، أَوْ يَغْصِبَ رَاحِلَةً وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَوْ سَفِينَةً وَيُصَلِّيَ فِيهَا، أَوْ لَوْحًا فَيَجْعَلَهُ فِي سَفِينَةٍ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الدَّارِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. (967) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُصَلَّى الْجُمُعَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْغَصْبِ.
يَعْنِي لَوْ كَانَ الْجَامِعُ أَوْ مَوْضِعٌ مِنْهُ مَغْصُوبًا صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ، تَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّاهَا الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتْ خَلْفَ الْخَوَارِجِ وَالْمُبْتَدِعَةِ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ فِي الطُّرُقِ وَرِحَابِ الْمَسْجِدِ، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجِنَازَةِ.
[فَصْلٌ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ الْخَسْف]
(968) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ الْخَسْفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2/56)
[فَصْلٌ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَة]
(969) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ، رَخَّصَ فِيهَا الْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الْكَنَائِسَ؛ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ. وَلَنَا «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَفِيهَا صُوَرٌ» ، ثُمَّ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ»
[فَصْلٌ حُكْم الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَة إذَا بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْء طَاهِر]
(970) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ نَجِسَةً، فَطَيَّنَهَا بِطَاهِرٍ، أَوْ بَسَطَ عَلَيْهَا شَيْئًا طَاهِرًا، صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مَدْفِنُ النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْمَقْبَرَةَ. وَلَنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَوْضِعِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَلَا نُسَلِّمُ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفِنًا لِلنَّجَاسَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؛ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ تَطْيِينُ الْمَسْجِدِ بِطِينِ نَجِسِ]
(971) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ تَطْيِينُ الْمَسْجِدِ بِطِينٍ نَجِسٍ، أَوْ تَطْبِيقُهُ بِطَوَابِقَ نَجِسَةٍ، أَوْ بِنَاؤُهُ بِلَبِنٍ نَجِسٍ، أَوْ آجُرٍّ نَجِسٍ، فَإِنْ فُعِلَ، وَبَاشَرَ الْمُصَلِّي أَرْضَهُ النَّجِسَةَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا الْآجُرُّ الْمَعْجُونُ بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُطَهِّرُهُ، فَإِنْ غُسِلَ طَهُرَ ظَاهِرُهُ؛ لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، وَبَقِيَ أَثَرُهَا، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، كَالْأَرْضِ النَّجِسَةِ وَيَبْقَى بَاطِنُهَا نَجِسًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الْغَسْلِ فَهُوَ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ طَاهِرٍ مَفْرُوشٍ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبِسَاطِ الَّذِي بَاطِنُهُ نَجِسٌ وَظَاهِرُهُ طَاهِرٌ. وَمَتَى انْكَسَرَ مِنْ الْآجُرِّ النَّجِسِ قِطْعَةٌ، فَظَهَرَ بَعْضُ بَاطِنِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ، لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ الصَّلَاة عَلَى الْحَصِير وَالْبَسْط مِنْ الصُّوف وَالشَّعْر وَالْوَبَر]
(972) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ وَالْبُسُطِ مِنْ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ وَالْوَبَرِ، وَالثِّيَابِ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ. وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عَبْقَرِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى طُنْفُسَةٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَابِرٌ
(2/57)
عَلَى حَصِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ عَلَى الْمَنْسُوجِ. وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَاسْتَحَبَّ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي بِسَاطِ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ: إذَا كَانَ سُجُودُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ أَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِ بَأْسًا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَصِيرٍ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَأَنَسٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَرَوَى عَنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ» . وَفِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى مُلْتَفًّا بِكِسَاءٍ، يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ إذَا سَجَدَ» . وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالْكَتَّانِ وَالْخُوصِ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، إذَا أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ، وَالنَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا، أَوْ عَلَيْهِ بِسَاطٌ طَاهِرٌ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حِمَارٍ. وَفَعَلَهُ أَنَسٌ وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَهِيَ خَشَبٌ عَلَى بَكَرَاتٍ، إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَحَلٌّ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَعْضَاؤُهُ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا.
[مَسْأَلَة صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَة]
(973) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، وَإِنْ قَلَّتْ، أَعَادَ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا، إلَّا فِيمَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْبَوْلِ مِثْلِ رُءُوسِ الْإِبَرِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُتَحَرَّى فِيهَا بِالْمَسْحِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا لَمْ يَكْفِ فِيهَا الْمَسْحُ كَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَالدَّمِ.
وَلَنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَشُقُّ إزَالَتُهَا، فَوَجَبَتْ إزَالَتُهَا كَالْكَثِيرِ، وَأَمَّا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ بَثْرَةٍ أَوْ حَكَّةٍ أَوْ دُمَّلٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ وَفِيهِ وَغَيْرِهِمَا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْ يَسِيرِهِ أَكْثَرَ مِنْ كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْوُضُوءِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ، وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
(2/58)
يَنْصَرِفُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ. فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدْ كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ، فِيهِ تَحِيضُ وَفِيهِ تُصِيبُهَا الْجَنَابَةُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا. وَفِي لَفْظٍ: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ، فِيهِ تَحِيضُ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا، ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهَّرُ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا، وَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَمَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ، فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ، فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا، مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَانْصِرَافُهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لَا يُنَافِي مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، فَقَدْ يَتَوَرَّعُ الْإِنْسَانُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرَى جَوَازَهُ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ.
(975) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إلَّا إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَثِيرِ؟ فَقَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ، قَالَ: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، أَنَّهُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك. قَالَ الْخَلَّالُ: وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، فِي مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ: فَاحِشٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدَّمِ» .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَرُجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَمَا رَوَوْهُ لَا يَصِحُّ،
(2/59)
فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيَّ، قَالَ: هُوَ مَوْضُوعٌ. وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً. (976) فَصْلٌ: وَالْقَيْحُ، وَالصَّدِيدُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ الدَّمِ، بِمَنْزِلَتِهِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: هُوَ أَسْهَلُ مِنْ الدَّمِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَاهُ كَالدَّمِ.
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ، فِي الصَّدِيدِ: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَقَالَ أُمَيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، رَأَيْت طَاوُسًا كَأَنَّ إزَارَهُ نُطِعَ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِرِجْلَيْهِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ السَّرَّاجُ: رَأَيْت حَاشِيَةَ إزَارِ مُجَاهِدٍ قَدْ ثَبَتَتْ مِنْ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ مِنْ قُرُوحٍ كَانَتْ بِسَاقَيْهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ، فِي الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحُبُونُ: يُصَلِّي، وَلَا يَغْسِلُهُ، فَإِذَا بَرِئَ غَسَلَهُ. وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كِنَانَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْحُشُ مِنْهُ إلَّا أَكْثُرُ مِنْ الدَّمِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ الدَّمِ إلَى حَالٍ مُسْتَقْذَرَةٍ.
(977) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، بِحَيْثُ إذَا جُمِعَ بَلَغَ هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ صَفِيقٍ، قَدْ نَفَذَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَاتَّصَلَ ظَاهِرُهُ بِبَاطِنِهِ، فَهُوَ نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلَا، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الدَّمُ، فَهُمَا نَجَاسَتَانِ، إذَا بَلَغَا - لَوْ جُمِعَا - قَدْرًا لَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي جَانِبَيْ الثَّوْبِ (978) . فَصْلٌ: وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَعَنْ سَائِرِ دِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ. فَأَمَّا دَمُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ؛ لِأَنَّ رُطُوبَاتِهِ الطَّاهِرَةَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَدَمُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَصَابَ جِسْمَ الْكَلْبِ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ، كَالْمَاءِ إذَا أَصَابَهُ. وَهَكَذَا كُلُّ دَمٍ أَصَابَ نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِذَلِكَ.
(979) فَصْلٌ: وَدَمُ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، كَالْبَقِّ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالذُّبَابِ، وَنَحْوِهِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ
(2/60)
وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجُسَ الْمَاءُ الْيَسِيرُ إذَا مَاتَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا مَكَثَ فِي الْمَاءِ لَا يَسْلَمُ مِنْ خُرُوجِ فَضْلَةٍ مِنْهُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ مَسْفُوحٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ إذَا كَثُرَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: اغْسِلْ مَا اسْتَطَعْتَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ: إذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُغْسَلَ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ. لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْبَرَاغِيثِ دَمًا إنَّمَا هُوَ بَوْلُهَا فِي الظَّاهِرِ، وَبَوْلُ هَذِهِ الْحَشَرَاتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: دَمُ السَّمَكِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى سَفْحِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا، لَوَقَفَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَى إرَاقَتِهِ بِالذَّبْحِ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ اسْتَحَالَ فَصَارَ مَاءً. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ مَسْفُوحٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] .
(980) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ الدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَذْيِ أَنَّهُ قَالَ: يُغْسَلُ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ قَالَ: سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ الْمَذْيِ يَخْرُجُ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْحَةِ، فَمَا عَلِمْت مِنْهُ فَاغْسِلْهُ، وَمَا غَلَبَك مِنْهُ فَدَعْهُ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّبَابِ كَثِيرًا، فَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ، كَالدَّمِ.
وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ إذَا قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْوَدْيِ مِثْلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَخْرَجِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَعَرَقِهِمَا، إذَا كَانَ يَسِيرًا. وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا مِمَّنْ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ، إلَّا إنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا خَفَّ مِنْهُ أَسْهَلَ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا، وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَحَمَّادُ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَا بَأْسَ بِبَوْلِ الْخَفَافِيشِ. وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَسَاجِدِ يَكْثُرُ، فَلَوْ لَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لَمْ يُقَرَّ فِي الْمَسَاجِدِ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ
(2/61)
مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، خُولِفَ فِي الدَّمِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.
[فَصْلٌ النَّجَاسَات الْمُغَلَّظَة]
(981) فَصْلٌ: وَقَدْ عُفِيَ عَنْ النَّجَاسَاتِ الْمُغَلَّظَةِ لِأَجْلِ مَحَلِّهَا، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ أَحَدُهَا، مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ، فَعُفِيَ فِيهِ عَنْ أَثَرِ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَهَارَتِهِ، فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْمَسْلَمَةِ، إلَى طَهَارَتِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَجْمِرُ يَعْرَقُ فِي سَرَاوِيلِهِ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَجَّسَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، فِي الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ: إنَّهُمَا لَا يَطْهُرَانِ» . مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا يَطْهُرُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، فَيُزِيلُهَا كَالْمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ: لَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ، بَلْ هُوَ نَجِسٌ، فَلَوْ قَعَدَ الْمُسْتَجْمِرُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ نَجَّسَهُ، وَلَوْ عَرِقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ كُلَّهَا، فَالْبَاقِي مِنْهَا نَجِسٌ، لِأَنَّهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَحَلِّ وَحْدَهُ.
الثَّانِي: أَسْفَلُ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ، إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَدَلَكَهَا بِالْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالْأَرْضِ، وَتُبَاحُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى، فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ.
قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّعْلَ لَا تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ تُصِيبُهَا، فَلَوْ لَمْ يُجْزِئْ دَلْكُهَا لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ، يَجِبُ غَسْلُهُ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ؛ فَإِنَّ الدَّلْكَ لَا يُزِيلُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ. وَالثَّالِثَةُ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِتَغَلُّظِ نَجَاسَتِهِمَا وَفُحْشِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ وَاجِبٌ.
(2/62)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَعْلَيْهِ، إنَّ فِيهِمَا قَذَرًا. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ دَلْكُهُمَا، وَلَمْ يَزُلْ الْقَذَرُ مِنْهُمَا.
قُلْنَا: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَلَكَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَدْلُكْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْقَذَرِ فِيهِمَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ دَلْكَهُمَا يُطَهِّرُهُمَا فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعْفَى عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُجْزِئُ دَلْكُهُمَا بَعْدَ جَفَافِ نَجَاسَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ وَإِنْ دَلَكَهُمَا قَبْلَ جَفَافِهِمَا لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رُطُوبَةَ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةٌ فَلَا يُعْفَى عَنْهَا.
وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ رَطْبٍ وَجَافٍّ. وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ اُجْتُزِئَ فِيهِ بِالْمَسْحِ، فَجَازَ فِي حَالِ رُطُوبَةِ الْمَمْسُوحِ كَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْمَحَلِّ مَعْفُوٌّ عَنْهَا إذَا جَفَّتْ قَبْلَ الدَّلْكِ، فَيُعْفَى عَنْهَا إذَا جَفَّتْ بِهِ كَالِاسْتِجْمَارِ. الثَّالِثُ: إذَا جَبَرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَجُبِرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ، وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ بَاطِنَةٌ يَتَضَرَّرُ بِإِزَالَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ دِمَاءَ الْعُرُوقِ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَلْعُهُ، مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ. وَإِنْ سَقَطَ سِنٌّ مِنْ أَسْنَانِهِ فَأَعَادَهَا بِحَرَارَتِهَا، فَثَبَتَتْ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُهُ، وَالْآدَمِيُّ بِجُمْلَتِهِ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الْعِظَامِ النَّجِسَةِ؛ لِأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ. وَإِنَّمَا حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ لِحُرْمَتِهَا، وَحُرْمَتُهَا آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَعْضِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ مَا دُونَهَا.
(982) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ نَجَاسَةٌ، فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِهَا، كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ، عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهَا بِالْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ. وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ، عُفِيَ عَنْهُ، كَيَسِيرِ غَيْرِهِ.
[مَسْأَلَة إذَا خَفِيَ عَلَى الْمُصَلَّيْ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْب]
(983) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (: وَإِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْبِ اسْتَظْهَرَ، حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْغَسْلَ قَدْ أَتَى عَلَى النَّجَاسَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا خَفِيَتْ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ، وَأَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ زَوَالَهَا، وَلَا يَتَيَقَّنُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَ كُلَّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ أَصَابَتْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ جِهَتَهَا مِنْ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ. وَإِنْ عَلِمَهَا فِي إحْدَى جِهَتَيْهِ غَسَلَ تِلْكَ الْجِهَةَ كُلَّهَا. وَإِنْ رَآهَا فِي بَدَنِهِ، أَوْ ثَوْبٍ - هُوَ لَابِسُهُ -، غَسَلَ كُلَّ مَا يُدْرِكُهُ بَصَرُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
(2/63)
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إذَا خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ نَضَحَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَتَحَرَّى مَكَانَ النَّجَاسَةِ فَيَغْسِلُهُ.
وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: «يُجْزِئُكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ.» فَأَمَرَهُ بِالتَّحَرِّي وَالنَّضْحِ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لِلْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ. فَلَمْ تُبَحْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَّا بِتَيَقُّنِ زَوَالِهِ كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، وَالنَّضْحُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْمَذْيِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُعَدَّى، لِأَنَّ أَحْكَامَ النَّجَاسَةِ تَخْتَلِفُ.
وَقَوْلُهُ: حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ ". مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَصَابَ نَاحِيَةً مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ، فَيُجْزِئُهُ نَضْحُ الْمَكَانِ أَوْ غَسْلُهُ.
[فَصْلٌ إنَّ خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي فَضَاءٍ وَاسِع صَلَّى حَيْثُ شَاءَ]
(984) فَصْلٌ: وَإِنْ خَفِيَتْ النَّجَاسَةُ فِي فَضَاءٍ وَاسِعٍ، صَلَّى حَيْثُ شَاءَ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ، فَلَوْ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ أَفْضَى إلَى أَنْ لَا يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَوْضِعًا صَغِيرًا، كَبَيْتٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ غَسْلُهُ، فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ.
[مَسْأَلَة مَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَان أَوَ الْبَهِيمَة الَّتِي لَا يُؤْكَل لَحْمهَا مِنْ بَوْل أَوَغَيْره]
(985) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَا خَرَجَ مِنْ الْإِنْسَانِ، أَوْ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ) يَعْنِي مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالدَّمِ، وَغَيْرِهِ. فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِي نَجَاسَتِهِ خِلَافًا، إلَّا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً، نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الَّذِي مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ إنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ «أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ» .
وَأَمَّا الْوَدْيُ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ خَاثِرٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَوْلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَجَارٍ مَجْرَاهُ. وَأَمَّا الْمَذْيُ، فَهُوَ مَاءٌ لَزِجٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عَقِيبَ الشَّهْوَةِ، عَلَى طَرَفِ الذَّكَرِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ. قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْهَبُ فِي الْمَذْيِ إلَى أَنَّهُ يَغْسِلَ مَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ فِيمَا مَضَى وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنِيِّ. قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ أَشَدُّ أَوْ الْمَنِيُّ، قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، لَيْسَا مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، إنَّمَا هُمَا مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ هَذَا، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَذْيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُمَا جَمِيعًا الشَّهْوَةُ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، أَشْبَهَ الْمَنِيَّ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، لَيْسَ بَدْءًا لِخَلْقِ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ،
(2/64)
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ: هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ النَّضْحُ، أَوْ يَجِبُ غَسْلُهُ؟ قَالَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: الْمَذْيُ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ، مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَرْوِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُخَالِفُهُ.
وَهُوَ مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، قَالَ: «كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يُجْزِئُكَ مِنْهُ الْوُضُوءُ. قُلْت: فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ وُجُوبُ غَسْلِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، كَيْفَ الْعَمَلُ فِيهِ؟ قَالَ: الْغَسْلُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْمَذْيِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَلِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ غَسْلُهَا كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا أَحْكُمُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَرُبَّمَا تَهَيَّبْتُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ.
[فَصْلٌ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَة]
فَصْلٌ: وَفِي رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَرْجِ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، أَشْبَهَ الْمَذْيَ. وَالثَّانِي: طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ جِمَاعٍ، فَإِنَّهُ مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ، وَهُوَ يُلَاقِي رُطُوبَةَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّنَا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، لَحَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا، فَيَتَنَجَّسُ بِرُطُوبَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَالِ الْجِمَاعِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ، وَهُوَ نَجِسٌ. وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ إذَا اشْتَدَّتْ خَرَجَ الْمَنِيُّ دُونَ الْمَذْيِ، كَحَالِ الِاحْتِلَامِ.
[فَصْلٌ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِر]
(987) فَصْلٌ: وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِرٌ. وَهَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ أَبْوَالَ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَشُرِبَ لَبَنُهُ نَجِسًا. وَرَخَّصَ فِي أَبْوَالِ الْغَنَمِ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الصَّلَاةِ
(2/65)
فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، إلَّا الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا. وَرَخَّصَ فِي ذَرْقِ الطَّائِرِ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ ذَلِكَ نَجِسٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ» . وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ، فَكَانَ نَجِسًا كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ. وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْعُرَنِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ» ، وَالنَّجِسُ لَا يُبَاحُ شُرْبُهُ، وَلَوْ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ لَأَمَرَهُمْ بِغَسْلِ أَثَرِهِ إذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ إجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْت إلَى هَاهُنَا؟ فَقَالَ: هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَكَانَ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ، وَذَرْقِ الطَّائِرِ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتْ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا، فَيَتَنَجَّسُ بَعْضُهَا، وَيَخْتَلِطُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ، فَيَصِيرُ حُكْمُ الْجَمِيعِ حُكْمَ النَّجِسِ.
[فَصْلٌ الْخَارِج مِنْ غَيْر السَّبِيلَيْنِ]
(988) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَالْحَيَوَانَاتُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْآدَمِيُّ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ نَوْعَانِ، طَاهِرٌ وَهُوَ رِيقُهُ وَدَمْعُهُ وَعَرَقُهُ وَمُخَاطُهُ، وَنُخَامَتُهُ، فَإِنَّهُ جَاءَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، أَنَّهُ مَا تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْلَا طَهَارَتُهَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ، فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا» . وَوَصَفَ الْقَاسِمُ: فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّأْسِ وَالْبَلْغَمِ الْخَارِجِ مِنْ الصَّدْرِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْبَلْغَمُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ، أَشْبَهَ الْقَيْءَ.
(2/66)
وَلَنَا، أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ النُّخَامَةِ، أَشْبَهَ الْآخَرَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا نَجُسَ بِهِ الْفَمُ، وَنَقَضَ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ " إنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ فِي الْمَعِدَةِ " غَيْرُ مُسَلَّمٍ، إنَّمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ الْأَبْخِرَةِ، فَهُوَ كَالنَّازِلِ مِنْ الرَّأْسِ، وَكَالْمُخَاطِ؛ وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْمُخَاطَ. النَّوْعُ الثَّانِي: نَجِسٌ، وَهُوَ الدَّمُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعِدَةِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ، فَهَذَا نَجِسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا أُكِلَ لَحْمُهُ، فَالْخَارِجُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا، نَجِسٌ، وَهُوَ الدَّمُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ. الثَّانِي، طَاهِرٌ، وَهُوَ الرِّيقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ وَاللَّبَنُ. فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. الثَّالِثُ: الْقَيْءُ، وَنَحْوُهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُسْتَحِيلٌ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنِيُّهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا. الثَّانِي، مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا. فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ، عَلَى مَا فُصِّلَ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، مَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهُ فِي الْخِلْقَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْآدَمِيِّ؛ مَا حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ مِنْهُ نَجِسٌ. وَمَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ مِنْ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ مِنْهُ طَاهِرٌ، إلَّا مَنِيَّهُ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مَنِيَّ الْآدَمِيِّ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ فَشَرُفَ بِتَطْهِيرِهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ هَاهُنَا. النَّوْعُ الثَّانِي، مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، فَهُوَ طَاهِرٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَفَضَلَاتِهِ.
[مَسْأَلَة بَوْلُ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَام]
(989) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، فَإِنَّهُ يُرَشُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْكَلَامِ طَهَارَةَ بَوْلِ الْغُلَامِ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ بَوْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ الطَّعَامَ يُجْزِئُ فِيهِ الرَّشُّ، وَهُوَ أَنْ يَنْضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى يَغْمُرَهُ، وَلَا يَحْتَاجَ إلَى رَشٍّ وَعَصْرٍ،، وَبَوْلَ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ وَإِنْ لَمْ تَطْعَمْ. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ
(2/67)
وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: رَأَيْت لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ. (1) وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُغْسَلُ بَوْلُ الْغُلَامِ كَمَا يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بَوْلٌ نَجِسٌ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ النَّجِسَةِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّجَاسَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا.
وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مُحْصِنٍ «، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ، لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: «كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَقُلْت: الْبَسْ ثَوْبًا آخَرَ، وَأَعْطِنِي إزَارَك حَتَّى أَغْسِلَهُ. فَقَالَ: إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيَنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الذَّكَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَوْلُ الْغُلَامِ يُنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا الطَّعَامَ، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَ بَوْلُهُمَا. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاتِّبَاعُهَا أَوْلَى، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ. (990) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إذَا طَعِمَ الطَّعَامَ، وَأَرَادَهُ، وَاشْتَهَاهُ، غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إذَا أُطْعِمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ سَاعَةَ يُولَدُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَنَّكَ بِالتَّمْرِ. وَلَكِنْ إذَا كَانَ يَأْكُلُ وَيُرِيدُ الْأَكْلَ، فَعَلَى هَذَا مَا يُسْقَاهُ الصَّبِيُّ أَوْ يَلْعَقُهُ لِلتَّدَاوِي لَا يُعَدُّ طَعَامًا يُوجِبُ الْغَسْلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ، هُوَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ بَوْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة الْمَنِيُّ طَاهِر]
(991) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَنِيُّ طَاهِرٌ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ كَالدَّمِ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَنِيِّ، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ كَالدَّمِ، أَيْ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ. وَعَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ. وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ، وَلَا تَغْسِلْهُ إنْ شِئْت. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا صَلَّى فِيهِ لَمْ يُعِدْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ،
(2/68)
وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: غَسْلُ الِاحْتِلَامِ أَمْرٌ وَاجِبٌ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ نَجِسٌ، وَيُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: ثُمَّ أَرَى فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِي: غَسْلُ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ أَحْوَطُ وَأَثْبَتُ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَرْكُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ: إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ. وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ» . وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مُعْتَادٌ مِنْ السَّبِيلِ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ.
وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْسَحْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ، وَلَا تَغْسِلْهُ، إنَّمَا هُوَ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا جَفَّ، فَلَمْ يَكُنْ نَجِسًا كَالْمُخَاطِ، وَلِأَنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، فَكَانَ طَاهِرًا كَالطِّينِ، وَيُفَارِقُ الْبَوْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. (992) فَصْلٌ: فَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْمَنِيِّ فَرَكَ الثَّوْبُ كُلُّهُ، إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ اُسْتُحِبَّ فَرْكُهُ.
وَإِنْ صَلَّى فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْكٍ، أَجْزَأَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ بِالطَّهَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْضَحُ الثَّوْبَ كُلَّهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ كُلُّهُ. وَلَنَا، أَنَّ فَرْكَهُ يُجْزِئُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ، وَأَمَّا النَّضْحُ فَلَا يُفِيدُ، فَإِنَّهُ لَا يُطَهِّرُهُ إذَا عُلِمَ مَكَانُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا خَفِيَ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالطَّهَارَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، كَحَالِ الْعِلْمِ بِهِ.
فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّمَا يُفْرَكُ مَنِيُّ الرَّجُلِ، أَمَّا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ فَلَا يُفْرَكُ؛ لِأَنَّ الَّذِي لِلرَّجُلِ ثَخِينٌ، وَاَلَّذِي لِلْمَرْأَةِ رَقِيقٌ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ الْفَرْكَ يُرَادُ لِلتَّخْفِيفِ وَالرَّقِيقُ لَا يَبْقَى لَهُ جِسْمٌ بَعْدَ جَفَافِهِ يَزُولُ بِالْفَرْكِ، فَلَا يُفِيدُ فِيهِ شَيْئًا، فَعَلَى هَذَا إنْ قُلْنَا بِنَجَاسَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، كَالْبَوْلِ. وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ، اُسْتُحِبَّ غَسْلُهُ، كَمَا يُسْتَحَبُّ فَرْكُ مَنِيِّ الرَّجُلِ.
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنِيٌّ، وَهُوَ بَدْءٌ لِخَلْقِ آدَمِيٍّ، خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ. (994) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْعَلَقَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهَا رِوَايَتَانِ، كَالْمَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ. وَالصَّحِيحُ نَجَاسَتُهَا؛
(2/69)
لِأَنَّهَا دَمٌ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِيهَا طَهَارَةٌ، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْمَنِيِّ مُمْتَنِعٌ، لِكَوْنِهَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ، فَأَشْبَهَتْ دَمَ الْحَيْضِ (995) . فَصْلٌ: وَمَنْ أَمْنَى وَعَلَى فَرْجِهِ نَجَاسَةٌ نَجُسَ مَنِيُّهُ؛ لِإِصَابَتِهِ النَّجَاسَةَ، وَلَمْ يُعْفَ عَنْ يَسِيرِهِ لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَنِيِّ مِنْ الْجِمَاعِ أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْمَذْيِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا. فَإِنَّ مَنِيَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِفَرْكِهِ، وَالطَّهَارَةُ لِغَيْرِهِ إنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ طَهَارَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة الْبَوْلَةُ عَلَى الْأَرْضِ يُطَهِّرُهَا دَلْوٌ مِنْ مَاءِ]
(996) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْبَوْلَةُ عَلَى الْأَرْضِ يُطَهِّرُهَا دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا تَنَجَّسَتْ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا. فَطَهُورُهَا أَنْ يَغْمُرَهَا بِالْمَاءِ، بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا. فَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْمَاءُ، فَيَكُونَ الْمُنْفَصِلُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ.
وَلَنَا. مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» . وَفِي لَفْظٍ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ: " إنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ". أَوْ كَمَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْمُنْفَصِلَ طَاهِرٌ لَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِزِيَادَةِ تَنْجِيسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فَصَارَ فِي مَوَاضِعَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْهِيرَ الْمَسْجِدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سَمْعَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَحُفِرَ. قُلْنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي خَبَرٍ مُتَّصِلٍ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَعْقِلٍ مُرْسَلٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: ابْنُ مَعْقِلٍ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَحَدِيثُ سَمْعَانَ مُنْكَرٌ. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ: مَا أَعْرِفُ سَمْعَانَ. وَلِأَنَّ الْبَلَّةَ الْبَاقِيَةَ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ غَسْلِهِ طَاهِرَةٌ، وَهِيَ بَعْضُ الْمُنْفَصِلِ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ. قُلْنَا: بَعْدَ طَهَارَتِهَا، لِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْهَا لَنَجُسَ بِهَا حَالَ مُلَاقَاتِهِ لَهَا، وَلَوْ نَجُسَ بِهَا لَمَا طَهُرَ الْمَحَلُّ، وَلَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمُنْفَصِلِ إذَا نَشَفَتْ النَّجَاسَةُ، وَذَهَبَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَثَرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهَا بَاقِيَةً، طَهُرَ الْمَحَلُّ، وَنَجُسَ الْمُنْفَصِلُ.
(2/70)
وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ أَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِبَقَاءِ أَجْزَائِهَا بَقَاءَ رُطُوبَتِهَا، فَهُوَ خِلَافُ الْخَبَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صُبَّ عَلَيْهِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنْهُ. وَإِنْ أَرَادَ بَقَاءَ الْبَوْلِ مُتَنَقِّعًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّطُوبَةِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْبَوْلِ وَكَثِيرَهُ فِي التَّنْجِيسِ سَوَاءٌ. وَالرُّطُوبَةُ أَجْزَاءٌ تَنْجُسُ كَمَا تَنْجُسُ الْمُتَنَقِّعُ، فَلَا فَرْقَ إذًا.
[فَصْلٌ أَصَابَ الْأَرْض مَاء الْمَطَر أَوْ السُّيُول فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا]
(997) فَصْلٌ: وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوْ السُّيُولِ، فَغَمَرَهَا، وَجَرَى عَلَيْهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ صُبَّ عَلَيْهَا؛ لَأَنْ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْبَوْلِ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ فَتُمْطِرُ عَلَيْهِ السَّمَاءُ: إذَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ ذَنُوبًا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْبَوْلِ، فَقَدْ طَهُرَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يَخْتَلِطُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ: مَاءُ الْمَطَرِ عِنْدِي لَا يُخَالِطُ شَيْئًا إلَّا طَهَّرَهُ، إلَّا الْعَذِرَةَ. فَإِنَّهَا تُقْطَعُ. وَسُئِلَ عَنْ مَاءِ الْمَطَرِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْمَطَرِ. وَقَالَ: كُلّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ نَظِيفٌ، دَاسَتْهُ الدَّوَابُّ أَوْ لَمْ تَدُسْهُ.
وَقَالَ فِي الْمِيزَابِ: إذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ النَّظِيفِ فَلَا بَأْسَ بِمَا قَطَرَ عَلَيْك مِنْ الْمَطَرِ. إذَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَذَرٌ. قِيلَ لَهُ: فَأَسْأَلُ عَنْهُ؟ قَالَ: لَا تَسْأَلْ، وَمَا دَعَاك إلَى أَنْ تَسْأَلَ وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ مَخْرَجٍ، أَوْ مَوْضِعَ قَذَرٍ. فَلَا تَغْسِلْهُ. وَاحْتُجَّ فِي طَهَارَةِ طِينِ الْمَطَرِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ. وَاحْتُجَّ بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ الْمَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ، لَمَّا غَلَبَ الْمَاءُ الْقَذِرُ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَاضَ طِينَ الْمَطَرِ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَالْحَسَنُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ. لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. (998) فَصْلٌ: وَلَا تُطَهَّرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إلَّا بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إزَالَتُهَا، كَالثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ. "
(2/71)
(999) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، كَالرَّمِيمِ، وَالرَّوْثِ، وَالدَّمِ إذَا جَفَّ، فَاخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ، لَمْ تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تَنْقَلِبُ، وَلَا تَطْهُرُ إلَّا بِإِزَالَةِ أَجْزَاءِ الْمَكَانِ، بِحَيْثُ يُتَيَقَّنُ زَوَالُ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ. وَلَوْ بَادَرَ الْبَوْلَ وَهُوَ رَطْبٌ، فَقَلَعَ التُّرَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُهُ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ كَانَ رَطْبًا وَقَدْ زَالَ.
وَإِنْ جَفَّ فَأَزَالَ مَا وَجَدَ عَلَيْهِ الْأَثَرَ، لَمْ يَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ إنَّمَا يَبِينُ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ، لَكِنْ إنْ قَلَعَ مَا تَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ، فَالْبَاقِي طَاهِرٌ. فَصْلٌ: وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ النَّجِسَةُ بِشَمْسٍ وَلَا رِيحٍ وَلَا جَفَافٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْهُرُ إذَا ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: جُفُوفُ الْأَرْضِ طَهُورُهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» .
وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ، فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ، كَالثِّيَابِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَوْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ، ثُمَّ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ إقْبَالُهَا وَإِدْبَارُهَا فِيهِ بَعْدَ بَوْلِهَا. (1001) فَصْلٌ: وَلَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَلَوْ أُحْرِقَ السِّرْجِينُ النَّجِسُ فَصَارَ رَمَادًا، أَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلَّاحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، لَمْ تَطْهُرْ. لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ تَحْصُلْ بِالِاسْتِحَالَةِ. فَلَمْ تَطْهُرْ بِهَا، كَالدَّمِ إذَا صَارَ قَيْحًا أَوْ صَدِيدًا، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا.
(2/72)
[فَصْلٌ الْمُنْفَصِل مِنْ غَسَّالَة النَّجَاسَة يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَة أَقْسَام]
(1002) فَصْلٌ: وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ، يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْفَصِلَ مُتَغَيِّرًا بِهَا، فَهُوَ نَجِسٌ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِالنَّجَاسَةِ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ نَجِسٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً لَمْ يُطَهِّرْهَا، فَكَانَ نَجِسًا، كَالْمُتَغَيِّرِ، وَكَالْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسٌ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي غُسِلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَحَلِّ نَجِسًا، وَعَصْرُهُ لَا يَجْعَلُهُ طَاهِرًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْفَصِلَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُتَّصِلِ، وَالْمُتَّصِلُ طَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلُ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَزَالَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَالْمُنْفَصِلِ مِنْ الْأَرْضِ.
وَالثَّانِي، هُوَ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَاقَى نَجَاسَةً، فَنَجُسَ بِهَا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ، فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، يَكُونُ طَهُورًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهُورِيَّتُهُ، وَلِأَنَّ الْحَادِثَ فِيهِ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، فَلَمْ تَزُلْ طَهُورِيَّتُهُ، كَمَا لَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا.
وَالثَّانِي، أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، لِأَنَّهُ أَزَالَ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ مَا رُفِعَ بِهِ الْحَدَثُ. (1003) فَصْلٌ: إذَا جُمِعَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ وَبَعْدَهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَالْجَمِيعُ نَجِسٌ، تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَاءَ الْغَسْلَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ الْمَحَلَّ. وَلَنَا، أَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمَاءُ النَّجِسُ وَالطَّاهِرُ وَهُوَ يَسِيرٌ، فَكَانَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ مَعَ مَاءٍ غَيْرِ الَّذِي غَسَلَ الْمَحَلَّ.
[مَسْأَلَة إذَا نَسِيَ فَصَلَّى بِهِمْ جُنُبًا]
(1004) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا نَسِيَ فَصَلَّى بِهِمْ جُنُبًا، أَعَادَ وَحْدَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا، أَوْ جُنُبًا، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مُحْدِثًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلِمَ.
(2/73)
وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ. فَقَالَ: كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا. رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ. وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ
، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي خِلَافِهِ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ، أَعَادَ صَلَاتَهُ، وَتَمَّتْ لِلْقَوْمِ صَلَاتُهُمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، فِي " جُزْءٍ ". وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مِمَّا يَخْفَى، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَأْمُومِ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ الْإِمَامِ، فَكَانَ مَعْذُورًا فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ حَدَثُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْزِئًا بِالصَّلَاةِ فَاعِلًا لِمَا لَا يَحِلُّ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَقِيَاسُ الْمَعْذُورِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ، وَالْحُكْمُ فِي النَّجَاسَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَدَثِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأُخْرَى، وَلِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا فِي خَفَائِهَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، بَلْ حُكْمُ النَّجَاسَةِ أَخَفُّ، وَخَفَاؤُهَا أَكْثَرُ، إلَّا أَنَّ فِي النَّجَاسَةِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ تَصِحُّ أَيْضًا، إذَا نَسِيَهَا.
[فَصْلٌ إذَا عَلِمَ بِحَدَثِ نَفْسه فِي الصَّلَاة أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ]
(1005) فَصْلٌ: إذَا عَلِمَ بِحَدَثِ نَفْسِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ، لَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ. نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، بَعْضَ الصَّلَاةِ، فَذَكَرَ؟ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْتَدِئُوا الصَّلَاةَ. قُلْت لَهُ: يَقُولُ لَهُمْ اسْتَأْنِفُوا الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَنْصَرِفُ وَيَتَكَلَّمُ، وَيَبْتَدِئُونَ هُمْ الصَّلَاةَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْنُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ، أَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُونَ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ صَحِيحٌ، فَكَانَ لَهُمْ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ. وَلَنَا، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مَعَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِيمَا إذَا اسْتَمَرَّ الْجَهْلُ مِنْهُمَا لِلْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ حَالَ اسْتِمْرَارِ الْجَهْلِ يَشُقُّ، لِتَفَرُّقِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمُوا فِي الصَّلَاةِ. وَإِنْ عَلِمَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ دُونَ بَعْضٍ، فَالْمَنْصُوصُ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمِيعِ تَفْسُدُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ الْبُطْلَانُ بِمَنْ عَلِمَ دُونَ مَنْ جَهِلَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُبْطِلٌ اخْتَصَّ بِهِ، فَاخْتَصَّ بِالْبُطْلَانِ، كَحَدَثِ نَفْسِهِ.
(2/74)
(1006) فَصْلٌ: إذَا اخْتَلَّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، كَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى غَالِبًا، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ. وَكَذَا إنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَرْكِ رُكْنٍ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي مَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ، يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ، وَكَذَلِكَ فِي مَنْ تَرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ. (1007) فَصْلٌ: وَإِنْ فَسَدَتْ لِفِعْلٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ، أَفْسَدَ صَلَاةَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الضَّحِكِ أَنَّهُ يُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَفْسَدَ صَلَاةَ الْإِمَامِ، فَأَفْسَدَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ كَتَرْكِ الشَّرْطِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الشَّرْطِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُ قِرَاءَةً، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّك خَفَضْتَ مِنْ صَوْتِك: قَالَ: وَمَا سَمِعْتُمْ؟ قَالُوا: مَا سَمِعْنَا لَك قِرَاءَةً. قَالَ: فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي، شَغَلَتْنِي عِيرٌ جَهَّزْتُهَا إلَى الشَّامِ. ثُمَّ قَالَ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ. ثُمَّ أَقَامَ، فَأَعَادَ وَأَعَادَ النَّاسُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَلَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُهَا، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى تَرْكِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ آكَدُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْمُبْطِلِ.
[فَصْلٌ إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَث]
(1008) فَصْلٌ: إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعَلْقَمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ، وَجَبُنْتُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فُقِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، فَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَقَوْلُهُمَا عِنْدَهُ حُجَّةٌ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: جَبُنْتُ عَنْهُ. إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَتَوَقُّفُهُ مَرَّةً لَا يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، كَمَا فَعَلَ
(2/75)
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَقَدَّمَ الْمَأْمُومُونَ مِنْهُمْ رَجُلًا فَأَتَمَّ بِهِمْ، جَازَ. وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا جَازَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي إمَامٍ يَنُوبُهُ الدَّمُ أَوْ رَعَفَ أَوْ يَجِدُ مَذْيًا يَنْصَرِفُ، وَلْيَقُلْ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ فُرَادَى إذَا كَانَ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ تَوَقُّفَ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لَا فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ لَا تَفْسُدُ بِضَحِكِ الْإِمَامِ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَإِنْ قَدَّمَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَهُمْ إمَامًا فَصَلَّى بِهِمْ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ كُلِّهِمْ. وَلَنَا، أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا. فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا، كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ رَجُلًا، وَصَلَّى الْبَاقُونَ وُحْدَانًا، جَازَ.
(1009) فَصْلٌ: فَأَمَّا الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ، فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا. قَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَبْنِي. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ» . وَعَنْهُ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، إنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ابْتَدَأَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا بَنَى لِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَةِ السَّبِيلِ أَغْلَظُ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا وَرَدَ بِالْبِنَاءِ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي بِهِمْ، فَانْصَرَفَ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ: إنِّي قُمْتُ بِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ جُنُبًا وَلَمْ أَغْتَسِلْ، فَانْصَرَفْتُ فَاغْتَسَلْتُ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْكُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنِي، أَوْ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ رِزٌّ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَغْتَسِلْ، أَوْ لِيَتَوَضَّأْ، وَلْيَسْتَقْبِلْ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ نَجَاسَةً يَحْتَاجُ فِي إزَالَتِهَا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ السُّتْرَةَ إلَّا بَعِيدَةً مِنْهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ، أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ.
(1010) فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَخْلَفَ مَنْ سُبِقَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ، وَيَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَأَكْثَرِ مَنْ وَافَقَهُمَا فِي الِاسْتِخْلَافِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
(2/76)
أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَبْتَدِئَ قَالَ مَالِكٌ: وَيُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْمَأْمُومِينَ لِلْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ إذَا فَرَغَ الْمَأْمُومُونَ قَبْلَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ، وَقَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ وَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُتِمَّ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُ الْمَأْمُومِينَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَانْتِظَارُهُمْ لَهُ أَوْلَى. وَإِنْ سَلَّمُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوهُ جَازَ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَسْتَخْلِفُ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَالْأَوْلَى انْتِظَارُهُ. وَإِنْ سَلَّمُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى خَلِيفَةٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا السَّلَامُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِخْلَافِ فِيهِ. وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَنَى جَلَسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ، وَصَارَ تَابِعًا لِلْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ ابْتَدَأَ جَلَسَ الْمَأْمُومُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسِهِمْ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الِاسْتِخْلَافُ فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ إذَا اسْتَخْلَفَ مِنْ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى]
(1011) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ احْتَمَلَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَإِلَّا سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ مَنْ خَلْفَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ. يَتَصَنَّعُ، فَإِنْ سَبَّحُوا بِهِ جَلَسَ، وَعَلِمَ أَنَّهَا الرَّابِعَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بَقَاءَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ وَيُقَدِّمُ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ الرَّجُلُ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّي لِنَفْسِهِ صَلَاةً تَامَّةً فَإِنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ قَعَدُوا وَانْتَظَرُوهُ. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى مُتَقَارِبَةٌ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ، أَنَّهُ إنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ لِذَلِكَ، كَغَيْرِ الْمُسْتَخْلَفِ. وَلَنَا، عَلَى أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ أَنَّهُ شَكٌّ مِمَّنْ لَا ظَنَّ لَهُ، فَوَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، كَسَائِرِ الْمُصَلَّيْنَ.
[فَصْلٌ مِنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَاف فَقَدْ أَجَازَ نَقُلْ الْجَمَاعَة إلَى جَمَاعَة أُخْرَى]
(1012) فَصْلٌ: وَمَنْ أَجَازَ الِاسْتِخْلَافَ، فَقَدْ أَجَازَ نَقْلَ الْجَمَاعَةِ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى، لِلْعُذْرِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ. وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ. وَفَعَلَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى، جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَسَارٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ قَائِمٌ، يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ.» وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَهَذَا يُقَوِّي جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ جَمَاعَةٍ إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى حَالَ الْعُذْرِ. فَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَنَوَى الْآخَرُ إمَامَتَهُ، أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ الِاسْتِخْلَافَ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ.
(2/77)
وَلَوْ تَخَلَّفَ إمَامُ الْحَيِّ مِنْ الصَّلَاةِ لِغَيْبَةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ، وَصَلَّى غَيْرُهُ، وَحَضَرَ إمَامُ الْحَيِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ، وَتَقَدَّمَ إمَامُ الْحَيِّ، فَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْفَضْلِ.
[فَصْلٌ إذَا وُجِدَ الْمُبْطِلُ فِي الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَام]
(1013) فَصْلٌ: إذَا وُجِدَ الْمُبْطِلُ فِي الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَوْ ضَحِكَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْطِلَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الصَّلَاةُ سِوَاهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ الْإِمَامِ مَعَهُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ؛ لِأَنَّ ارْتِبَاطَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْمَأْمُومِ كَارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ، فَمَا فَسَدَ ثَمَّ فَسَدَ هَاهُنَا، وَمَا صَحَّ ثَمَّ صَحَّ هَاهُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ رَجُلَيْنِ أُمّ أَحَدهمَا صَاحِبه فَشَمَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا رِيحًا]
(1014) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رَجُلَيْنِ أَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَشَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيحًا، أَوْ سَمِعَ صَوْتًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ وَكُلٌّ يَقُولُ لَيْسَ مِنِّي: يَتَوَضَّآنِ جَمِيعًا، وَيُصَلِّيَانِ؛ إنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ صَارَ فَذًّا، وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِفَسَادِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِفَسَادِ صَلَاةِ صَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ صَارَ فَذًّا. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُورَةِ، يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادَ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِفَسَادِ صَلَاتِهِمَا إذَا أَتَمَّا الصَّلَاةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُحْدِثِ، وَالْإِمَامَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَؤُمُّ مُحْدِثًا.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَتَوَضَّآنِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُمَا جَمَاعَةً. إذْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ أَوْ يَؤُمَّهُ مَعَ اعْتِقَادِ حَدَثِهِ، وَلَعَلَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا، أَمَّا إذَا صَلَّيَا مُنْفَرِدَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ يَقِينَ الطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحَدَثَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. (1015) فَصْلٌ: وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ عَنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ، وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ وَبَقِيَّةُ
(2/78)
الْمَأْمُومِينَ: يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ. وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إثْبَاتٌ يُقَدَّمُ عَلَى النَّفْيِ، لِاحْتِمَالِ عِلْمِهِمَا بِهِ، مَعَ خَفَائِهِ عَنْهُ وَعَنْ بَقِيَّةِ الْمَأْمُومِينَ. وَقَوْلُهُ: " يُعِيدُونَ ". لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ مَتَى عَلِمَ بَعْضُهُمْ بِحَدَثِ إمَامِهِمْ، لَزِمَتْ الْجَمِيعَ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَخْتَصُّ الْإِعَادَةُ مَنْ عَلِمَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/79)
[بَابُ السَّاعَات الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا]
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي لَفْظٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ. قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، حَتَّى تَرْتَفِعَ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ.
[مَسْأَلَة قَضَاء الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةَ فِي جَمِيع أَوْقَات النَّهْي وَغَيْرِهَا]
(1016) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَيَقْضِي الْفَوَائِتَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُقْضَى الْفَوَائِتُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ يُصَلِّيهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، أَخَّرَهَا حَتَّى ابْيَضَّتْ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ، فَلَمْ تَجُزْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالنَّوَافِلِ،
(2/80)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَامَ فِي دَالِيَةٍ، فَاسْتَيْقَظَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَانْتَظَرَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى. وَعَنْ كَعْبٍ - أَحْسِبُهُ ابْنَ عُجْرَةَ - أَنَّهُ نَامَ حَتَّى طَلَعَ قَرْنُ الشَّمْسِ فَأَجْلَسَهُ، فَلَمَّا أَنْ تَعَالَتْ الشَّمْسُ قَالَ لَهُ: صَلِّ الْآنَ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَخَبَرُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالْقَضَاءِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَبِعَصْرِ يَوْمِهِ، فَنَقِيسُ مَحَلَّ النِّزَاعِ عَلَى الْمَخْصُوصِ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ.
[فَصْلٌ طَلَعْت الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْح]
(1017) فَصْلٌ: وَلَوْ طَلَعْت الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَتَمَّهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ غَيْرِهِ.
[فَصْلٌ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْي]
(1018) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ فِعْلُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى صَوْمِ الْوَاجِبِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَلَنَا أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاجِبَةٌ، فَأَشْبَهَتْ الْفَوَائِتَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ وَافَقَنَا فِيهِ فِيمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ.
[مَسْأَلَة يَرْكَعُ لِلطَّوَافِ]
(1019) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ) يَعْنِي فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَمِمَّنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَفَعَلَهُ عُرْوَةُ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ.
(2/81)
وَلَنَا، مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَابِعَةٌ لَهُ، فَإِذَا أُبِيحَ الْمَتْبُوعُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ التَّبَعُ، وَحَدِيثُهُمْ مَخْصُوصٌ بِالْفَوَائِتِ، وَحَدِيثُنَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى.
[مَسْأَلَةَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةَ فِي أَوْقَات النَّهْي]
(1020) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ) أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَمِيلَ لِلْغُرُوبِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَا يَجُوزُ. ذَكَرَهَا الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؟ قَالَ: أَمَّا حِينَ تَطْلُعُ فَمَا يُعْجِبُنِي. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُبَاحُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَأُبِيحَتْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، كَالْفَرَائِضِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» . وَذِكْرُهُ لِلصَّلَاةِ مَقْرُونًا بِالدَّفْنِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّ مُدَّتَهُمَا تَطُولُ، فَالِانْتِظَارُ يُخَافُ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مُدَّتُهَا تَقْصُرُ، وَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا آكَدُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِيهَا آكَدُ، وَزَمَنُهَا أَقْصَرُ، فَلَا يُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْ الدَّفْنِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ الْمَقْرُونَةُ بِالدَّفْنِ تَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَتَمْنَعُهَا الْقَرِينَةُ مِنْ الْخُرُوجِ بِالتَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ الْوَقْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانَ صَلَّاهَا]
(1021) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُصَلِّي إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ كَانَ صَلَّاهَا) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا، أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، بِشَرْطِ أَنْ تُقَامَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. فَإِنْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ خَارِجُ الْمَسْجِدِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي لِجَوَازِ الْإِعَادَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، أَنْ يَكُونَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ. وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ إمَامِ الْحَيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ
(2/82)
الْمُصَلِّي جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، أَيُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. إنَّمَا هِيَ نَافِلَةٌ فَلَا يَدْخُلُ، فَإِنْ دَخَلَ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَالْمَغْرِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَغْرِبِ يَشْفَعُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ صَلَّى وَحْدَهُ أَعَادَ الْمَغْرِبَ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يُعِدْهَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْإِعَادَةِ قَالَ فِيهِ: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعَادُ الْفَجْرُ وَلَا الْعَصْرُ وَلَا الْمَغْرِبُ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِيهِ، وَلَا تُعَادُ الْمَغْرِبُ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَكُونُ بِوِتْرٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ: تُعَادُ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا إلَّا الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: تُعَادُ كُلُّهَا إلَّا الْمَغْرِبَ، لِئَلَّا يَتَطَوَّعَ بِوِتْرٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: إلَّا الصُّبْحَ وَحْدَهَا.
وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّتَهُ فَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: لَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ؛ فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْأَثْرَمُ.
وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بُسْرِ بْنِ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُذِّنَ لِلصَّلَاةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ . فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ صَلَّيْت فِي أَهْلِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «إنَّ خَلِيلِي - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَانِي أَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِذَا أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْت، فَلَا أُصَلِّي» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِعُمُومِهَا تَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ صَرِيحٌ فِي إعَادَةِ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرُ مِثْلُهَا، وَالْأَحَادِيثُ بِإِطْلَاقِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الْغَدَاةَ فِي الْمِرْبَدِ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْمَسْجِدِ
(2/83)
الْجَامِعِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّيْنَا مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَعَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ، وَكَانَ قَدْ صَلَّاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ.
[فَصْلٌ إذَا أَعَادَ الْمَغْرِبَ شَفَعَهَا بِرَابِعَةِ]
(1022) فَصْلٌ: إذَا أَعَادَ الْمَغْرِبَ شَفَعَهَا بِرَابِعَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرَوَى صِلَةُ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمَغْرِبَ، قَالَ: ذَهَبْت أَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ، فَأَجْلَسَنِي، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِتَكُونَ شَفْعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ نَافِلَةٌ، وَلَا يُشْرَعُ التَّنَفُّلُ بِوِتْرٍ غَيْرِ الْوِتْرِ، فَكَانَ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ أَوْلَى مِنْ نُقْصَانِهَا؛ لِئَلَّا يُفَارِقَ إمَامَهُ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ.
[فَصْلٌ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِد]
(1023) فَصْلٌ: إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الدُّخُولُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَإِنْ دَخَلَ وَصَلَّى مَعَهُمْ فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي مُوسَى. وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ إذَا النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى صَلَّى النَّاسُ، وَقَالَ: إنِّي صَلَّيْت فِي الْبَيْتِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ.
[فَصْلٌ إذَا أَعَادَ الصَّلَاةَ]
(1024) فَصْلٌ: إذَا أَعَادَ الصَّلَاةَ فَالْأُولَى فَرْضُهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، الَّتِي صَلَّى مَعَهُمْ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا جِئْت إلَى الصَّلَاةِ فَوَجَدْت النَّاسَ فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً، وَهَذِهِ مَكْتُوبَةً» . وَلَنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً» .
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» . وَلِأَنَّ الْأُولَى قَدْ وَقَعَتْ فَرِيضَةً، وَأَسْقَطَتْ الْفَرْضَ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ ثَانِيًا؛ وَإِذَا بَرِئَتْ الذِّمَّةُ بِالْأُولَى اسْتَحَالَ كَوْنُ الثَّانِيَةِ فَرِيضَةً، وَجَعْلُ الْأُولَى نَافِلَةً. قَالَ حَمَّادٌ، قَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا نَوَى الرَّجُلُ صَلَاةً وَكَتَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهَا، فَمَا صَلَّى بَعْدَهَا فَهُوَ تَطَوُّعٌ. وَحَدِيثُهُمْ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ،
(2/84)
فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ سَوَاءً. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْوِي الثَّانِيَةَ فَرْضًا، لَكِنْ يَنْوِيهَا ظُهْرًا مُعَادَةً، وَإِنْ نَوَاهَا نَافِلَةً صَحَّ.
(1025) فَصْلٌ: وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا تَجِبُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى: إنَّهَا تَجِبُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا. وَلَنَا، أَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَالنَّافِلَةُ لَا تَجِبُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمَعْنَاهُ وَاجِبَتَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ.
فَعَلَى هَذَا إنْ قَصَدَ الْإِعَادَةَ فَلَمْ يُدْرِكْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ الْآمِدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتِمَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَهَا أَرْبَعًا. وَنَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» .
[مَسْأَلَةَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا]
(1026) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فِي كُلِّ وَقْتٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ فَذَهَبَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلَى أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَحَالَ قِيَامِ الشَّمْسِ حَتَّى تَزُولَ، وَعَدَّهَا أَصْحَابُهُ خَمْسَةَ أَوْقَاتٍ؛ مِنْ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتٌ، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى ارْتِفَاعِهَا وَقْتٌ، وَحَالَ قِيَامِهَا وَقْتٌ، وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى شُرُوعِ الشَّمْسِ فِي الْغُرُوبِ وَقْتٌ، وَإِلَى تَكَامُلِ الْغُرُوبِ وَقْتٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَقْتَ الْخَامِسَ مِنْ حِينِ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ؛ لِأَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ. فَجَعَلَ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا وَقْتَانِ آخَرَانِ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةً. وَمَنْ جَعَلَ الْخَامِسَ وَقْتَ الْغُرُوبِ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّهُ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» . وَفِي حَدِيثٍ: «وَلَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا» . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الْمَذْكُورَةُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ؛ بِدَلِيلِ تَخْصِيصِهَا بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِهِ وَحَدِيثِ
(2/85)
ابْنِ عُمَرَ.
وَقَوْلُهُ: «لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا أَنْ تُصَلُّوا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِمَ عُمَرُ إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَالتَّخْصِيصُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَا يُعَارِضُ الْعُمُومَ الْمُوَافِقَ لَهُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْحُكْمِ فِيمَا خَصَّهُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي رَدِّ خَبَرِ عُمَرَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنَّهُ مُثْبِتٌ لِرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَقُولُ بِرَأْيِهَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهَا، ثُمَّ هِيَ قَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا، فَرَوَى ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ، وَيَنْهَى عَنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَكَيْفَ يُقْبَلُ رَدُّهَا لِمَا قَدْ أَقَرَّتْ بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالصُّنَابِحِيُّ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، كَنَحْوِ رِوَايَةِ عُمَرَ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا بِمُجَرَّدِ رَأْيٍ مُخْتَلِفٍ مُتَنَاقِضٍ.
(1027) فَصْلٌ: وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ أُبِيحَ لَهُ التَّنَفُّلُ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ. وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَفُّلُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ سِوَاهُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَأَمَّا النَّهْيُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ. يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا كَالْعَصْرِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا صَلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدِيثَ عُمَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ، كَذَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَصَلِّ مَا شِئْت، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَكْتُوبَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَقْصِرْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَتَرْتَفِعَ قَدْرَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» . وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَصْرِ عُلِّقَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ وَقْتِهَا، فَكَذَلِكَ الْفَجْرُ، وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ بَعْدَ صَلَاةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا، كَبَعْدِ الْعَصْرِ. وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ؛ لِمَا رَوَى «يَسَارٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَالَ: يَا يَسَارُ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ، لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي لَفْظٍ:
(2/86)
«لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَانِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي لَفْظٍ: «إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» ، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ، رَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ: هَذَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» . وَهَذَا يُبَيِّنُ مُرَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَا يُعَارِضُهُ تَخْصِيصُ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ خِطَابٍ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ، فَيَكُونُ أَوْلَى. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ فِيهِ، وَهُوَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: «حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» .
[مَسْأَلَةَ لَا يَبْتَدِئُ فِي أَوْقَات النَّهْي عَنْ الصَّلَاة بِتَطَوُّعِ]
(1028) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَبْتَدِئُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةً يَتَطَوَّعُ بِهَا) . لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ غَيْرَ ذَاتِ سَبَبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَابْنِهِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَعَائِشَةَ، وَفَعَلَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعُمَرُ، وَابْنُ مَيْمُونٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَشُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ.
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفْعَلُهُ وَلَا نَعِيبُ فَاعِلَهُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ» . وَقَوْلُهَا: وَهِمَ عُمَرُ، إنَّمَا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبُهَا» . رَوَاهُمَا
(2/87)
مُسْلِمٌ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» . وَلَنَا، الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا خَاصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ؛ فَقَدْ رَوَى عَنْهَا ذَكْوَانُ مَوْلَاهَا، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ رَأَيْته يُصَلِّيهِمَا، وَقَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَهُ لِسَبَبٍ، وَهُوَ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُمَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَنَهْيِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهُ.
(1029) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّطَوُّعُ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي الْوِتْرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: أَيُوتِرُ الرَّجُلُ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: إنَّ أَكْثَرَ وِتْرِنَا لَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: لَنِعْمَ سَاعَةُ الْوِتْرِ هَذِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى أَبِي مُوسَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُوتِرْ حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ؟ قَالَ: لَا وِتْرَ لَهُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، الْوِتْرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى عَلَى مَا حَكَيْنَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الصَّحِيحَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إنَّمَا فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَرْكَ الْوِتْرِ حَتَّى يُصْبِحَ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ،
(2/88)
وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ " مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَمْ يَثْبُتْ النَّهْيُ فِيهِ صَرِيحًا، فَكَانَ حُكْمُهُ خَفِيفًا.
[فَصْلٌ قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَهَا]
(1030) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَهَا فَجَائِزٌ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ اخْتَارَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا مِنْ الضُّحَى، وَقَالَ: إنْ صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالشَّافِعِيُّ: يَقْضِيهِمَا بَعْدَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ، قَالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ؟ . قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَكُنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَسُكُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهَذِهِ فِي مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ، فَأَشْبَهَتْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَجُوزُ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْضِيهِمَا مِنْ الضُّحَى، وَحَدِيثُ قَيْسٍ مُرْسَلٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ قَيْسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْت رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. قَالَ: فَلَا إذًا» .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ النَّهْيَ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا كَانَ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ الضُّحَى أَحْسَنَ؛ لِنَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَا نُخَالِفُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ فَعَلَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَوَازِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ قَضَاء السنن الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ]
(1031) فَصْلٌ: وَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَضَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ بَعْدَهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالِاقْتِدَاءُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَيَّنٌ. وَلِأَنَّ النَّهْيِ بَعْدَ الْعَصْرِ خَفِيفٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي خِلَافِهِ مِنْ الرُّخْصَةِ، وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا لِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا عَلَى الدَّوَامِ، وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمَنَعَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ خَاصٌّ، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ أَنَّهَا لَا تُقْضَى؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهُمَا. فَقُلْت لَهُ: أَنَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: لَا» . رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِ، فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ حَدِيثِهِ.
(2/89)
[فَصْلٌ قَضَاءُ السُّنَنِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْي]
(1032) فَصْلٌ: فَأَمَّا قَضَاءُ السُّنَنِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَفِعْلُ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْكُسُوفِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا» . وَهَذَا خَاصٌّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى النَّهْيِ الْعَامِّ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ سَبَبٍ، فَأَشْبَهَتْ مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ.
وَلَنَا، أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَمْرَ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ. قُلْنَا: وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي الْوَقْتِ، وَالنَّهْيُ خَاصٌّ فِيهِ، فَيُقَدَّمُ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ فِيهِ أَخَفُّ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا عَلَى قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ، وَلَا عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُخَافُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا عَلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُمَا تَابِعَتَانِ لِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ النَّهْيُ، مَعَ أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ لِلطَّوَافِ فِيهَا، وَلَا يُعِيدَ فِيهَا جَمَاعَةً. وَإِذَا مُنِعَتْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْمُتَأَكِّدَةُ فِيهَا فَغَيْرُهَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1033) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمْنَعُ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، إلَّا بِمَكَّةَ يَقُولُ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّلَاةَ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا، كَالْحَيْضِ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، فَيَخْتَصُّ بِهِمَا، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.
(1034) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى
(2/90)
عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَقَالَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ: أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت أَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَامُوا فَصَلَّوْا أَرْبَعًا. وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ قَطْعُ النَّوَافِلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهْهُ إذَا عَلِمْت انْتِصَافَ النَّهَارِ، وَإِذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا أَعْلَمُهُ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ، فَإِنِّي أَرَاهُ وَاسِعًا. وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ حِينَ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ. وَلَنَا، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ.
وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: فِيهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَحَدِيثُ الصُّنَابِحِيِّ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا» . وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ. وَلِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ، كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، فِي إسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ أَبَا الْخَلِيلِ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْجُمُعَةَ. قُلْنَا: إذَا عَلِمَ وَقْتَ النَّهْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ شَكَّ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَعْلَمَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[مَسْأَلَةَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى]
(1035) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى) يَعْنِي يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَالتَّطَوُّعُ قِسْمَانِ؛ تَطَوُّعُ لَيْلٍ، وَتَطَوُّعُ نَهَارٍ، فَأَمَّا تَطَوُّعُ اللَّيْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَثْنَى مَثْنَى. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شِئْت رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا، وَإِنْ شِئْت ثَمَانِيًا. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَسْلِيمَةٌ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
[مَسْأَلَةٌ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ]
(1036) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ) الْأَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ: أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى. لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ
(2/91)
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ السَّهْوِ، وَأَشْبَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَتَطَوُّعَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي تَطَوُّعَاتِهِ رَكْعَتَانِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى لِذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ فَلَا بَأْسَ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: صَلَاةُ النَّهَارِ أَخْتَارُ أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَازَ. وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ. وَلَنَا عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مَثْنَى، مَا تَقَدَّمَ، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ يَرْوِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَتَّبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَرْبَعِ لَا عَلَى تَفْضِيلِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَارِقِيِّ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِزِيَادَةِ لَفْظَةِ " النَّهَارِ " مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ، مَعَ جَوَازِ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1037) فَصْلٌ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَلَا يُزَادُ فِي اللَّيْلِ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَلَا فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَةٍ وَلَا بِثَلَاثٍ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْ صَلَّى سِتًّا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كُرِهَ وَصَحَّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي صِحَّةِ التَّطَوُّعِ بِرَكْعَةٍ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ خَرَجَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّمَا صَلَّيْت رَكْعَةً. قَالَ: هُوَ تَطَوُّعٌ، فَمَنْ شَاءَ زَادَ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا خِلَافُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ، وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ، إمَّا مِنْ نَصِّهِ، أَوْ مَعْنَى نَصِّهِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ التَّطَوُّعَاتُ قِسْمَانِ]
فَصْلٌ: وَالتَّطَوُّعَاتُ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ، وَنَذْكُرُهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فِي مَوَاضِعِهَا.
(2/92)
وَالثَّانِي، مَا يُفْعَلُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهِيَ قِسْمَانِ؛ سُنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَنَافِلَةٌ مُطْلَقَةٌ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ مِنْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ
؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، قَالَ: «سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ رَكَعَاتٍ؛ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ، كَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ. وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . تَرْغِيبٌ فِيهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيهِ، وَلَمْ يَحْفَظْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْهَا مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ.
[فَصْلٌ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ]
(1039) فَصْلٌ: وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَسْرَعَ مِنْهُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي لَفْظٍ: أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ، حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ،
(2/93)
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَمَقْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْهُمَا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ]
(1040) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَجِعَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَفْعَلُونَهُ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَنَافِعٌ لَا يَفْعَلُونَهُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَلْيَضْطَجِعْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ: «عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ»
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
[فَصْلٌ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ]
(1041) فَصْلٌ: وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؛ لِمَا رَوَى «ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
[فِعْلُ السُّنَنِ فِي الْبَيْتِ]
وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ السُّنَنِ فِي الْبَيْتِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي بَيْتِهِ» ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: مَا رَأَيْت أَحْمَدَ رَكَعَهُمَا، يَعْنِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ، إنَّمَا كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ أَيْنَ يُصَلَّيَانِ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ آكَدُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ: «صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» . قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُ الرَّجُلِ بَعِيدًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ بَنِي
(2/94)
عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، فَرَآهُمْ يَتَطَوَّعُونَ بَعْدَهَا. فَقَالَ: هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «أَتَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ فِي مَسْجِدِنَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَثْرَمُ، وَلَفْظُهُ، قَالَ: «صَلُّوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» .
[فَصْلٌ كُلُّ سُنَّةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِهَا]
(1042) فَصْلٌ: كُلُّ سُنَّةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَوَقْتُهَا مِنْ دُخُولِ وَقْتِهَا إلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَكُلُّ سُنَّةٍ بَعْدَهَا، فَوَقْتُهَا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا، فَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِ هَذِهِ السُّنَنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعِ، إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَوْقَاتَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَعْضَهَا، وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُقْضَى إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى، إلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا أَعْرِفُ وِتْرًا بَعْدَ الْفَجْرِ. وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ تُقْضَى إلَى وَقْتِ الضُّحَى. قَالَ مَالِكٌ: تُقْضَى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَلَا تُقْضَى بَعْدَ ذَلِكَ
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَلَا وِتْرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَلَا وِتْرَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّوَافِلِ يُحَافِظُ عَلَيْهِ، إذَا فَاتَ قَضَى.
النَّوْعُ الثَّانِي: تَطَوُّعَاتٌ مَعَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
وَعَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الْعَصْرِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ، عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ
(2/95)
عُمَرَ بْنِ أَبِي خَثْعَمٌ.
وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ جِدًّا. وَعَلَى أَرْبَعٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ «شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ قَطُّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[فَصْل اُخْتُلِفَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْأَذَانِ]
(1043) فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، مِنْهَا رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْأَذَانِ؛ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ وَلَيْسَتَا سُنَّةً. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ؟ قَالَ: مَا فَعَلْته قَطُّ إلَّا مَرَّةً، حِينَ سَمِعْت الْحَدِيثَ، وَقَالَ: فِيهِمَا أَحَادِيثُ جِيَادٌ، أَوْ قَالَ: صِحَاحٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ. إلَّا أَنَّهُ قَالَ: " لِمَنْ شَاءَ ". فَمَنْ شَاءَ صَلَّى. وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ يُنْكِرُهُ النَّاسُ. وَضَحِكَ كَالْمُتَعَجِّبِ، وَقَالَ: هَذَا عِنْدَهُمْ عَظِيمٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِمَا مَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ: فَقُلْت لَهُ، أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ، مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَالَ عُقْبَةُ: كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُزَنِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ شَاءَ. خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا، الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُمَا، وَإِنْ فَعَلَهُمَا إنْسَانٌ جَازَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ، فَمَا تَرَى فِيهِمَا؟ فَقَالَ: أَرْجُو إنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ أَنْ لَا يُضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ وَهُوَ جَالِسٌ، كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ. قُلْت: تَفْعَلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَفْعَلُهُ. وَعَدَّهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِسُنَّةٍ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ وَصَفَ تَهَجُّدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَعَائِشَةَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُمَا عُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَالْقَاسِمُ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَرْكِهِمَا.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ، مَا رَوَى سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ
(2/96)
تِسْعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» . وَقَالَ «أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ أَيْضًا، وَأَوْصَى بِهِمَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَكَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيُّ، وَفَعَلَهُمَا الْحَسَنُ، فَهَذَا وَجْهُ جَوَازِهِمَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ سِوَى ذَلِكَ، مِنْهَا صَلَاةُ الضُّحَى، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْت: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ» . وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
فَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَكْثَرُهَا ثَمَانٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَوَقْتُهَا إذَا عَلَتْ الشَّمْسُ وَاشْتَدَّ حَرُّهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا، «قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى قَطُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: «قُلْت لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: «مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أُمُّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، مَا رَأَيْته قَطُّ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ. وَقَالَ
(2/97)
أَبُو الْخَطَّابِ: تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى بِهَا أَصْحَابَهُ. وَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ النَّهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ. وَلِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
[فَصْلٌ صَلَاةُ التَّسْبِيحِ]
(1044) فَصْلٌ: فَأَمَّا صَلَاةُ التَّسْبِيحِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي. قِيلَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ. وَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا عَمَّاهُ، أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أَحْبُوكَ، أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَك، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَقَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، وَخَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ عَشْرَ خِصَالٍ؛ أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ الْقُرْآنِ، قُلْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكُوعِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا. ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلَمْ يُثْبِتْ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِنْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فَلَا بَأْسَ؛ فَإِنَّ النَّوَافِلَ وَالْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا.
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ]
(1045) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعِيشَتِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
(2/98)
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ]
(1046) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ الْحَاجَةِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إلَّا غَفَرْتَهُ، وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْتَهُ، وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إلَّا قَضَيْتَهَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّوْبَةِ]
(1047) فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ التَّوْبَةِ: عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا غَفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] إلَى آخِرِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[فَصْلٌ يُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ جُلُوسِهِ]
(1048) فَصْلٌ: وَيُسَنُّ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ جُلُوسِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَلَسَ قَبْلَ الصَّلَاةِ سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ: يَا سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِمِثْلِ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى الْفَجْرَ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ الْعَصْرِ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ - قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا - يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ - مِقْدَارَهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ هَاهُنَا قَامَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ
(2/99)
بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَتِلْكَ سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تَطَوُّعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهَارِ، وَقَلَّ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا.»
[فَصْل النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ]
(1049) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ فَتُشْرَعُ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ مَفْرُوضًا؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] الْآيَةَ.
[فَصْلٌ أَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِر]
(1050) فَصْلٌ: وَأَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَصَلِّ مَا شِئْتَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ دَاوُد، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صِفَةِ تَهَجُّدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ - فَوَصَفَ تَهَجُّدَهُ حَتَّى قَالَ: ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ نَامَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ وَثَبَ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضَّأَ. وَقَالَتْ: مَا أَلْفَى عِنْدِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّحَرُ الْأَعْلَى فِي بَيْتِي إلَّا نَائِمًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: «فَمَا يَجِيءُ السَّحَرُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ وِتْرِهِ» ، وَلِأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ يَنْزِلُ فِيهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا أَغْفَى - يَعْنِي بَعْدَ التَّهَجُّدِ - فَإِنَّهُ لَا يَبِينُ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّهَرِ، وَإِذَا لَمْ يُغْفِ يَبِينُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: «سَأَلْت عَائِشَةَ: أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: كَانَ إذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ، فَصَلَّى.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2/100)
(1051) فَصْلٌ: وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِبَاهِهِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ؛ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَفِيهِ: أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهَا.
قَالَتْ: «كَانَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ كَبَّرَ عَشْرًا، وَحَمَدَ عَشْرًا، وَسَبَّحَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ عَشْرًا، وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمُقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (1052) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَوَّكَ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَيْقَظَ، فَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ،
(2/101)
فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ]
(1053) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَالَتْ عَائِشَةُ، مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ.
وَلَعَلَّهَا لَمْ تَعُدَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفِي لَيْلَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُتَهَجِّدُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَهَجُّدِهِ]
(1054) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُتَهَجِّدُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَهَجُّدِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا، فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يُسْتَضَرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ. «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: سَأَلْت عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: كُلَّ ذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ طَوْرًا، وَيَخْفِضُ طَوْرًا» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ
(2/102)
يُصَلِّي، يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ، قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ قَالَ: إنِّي أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ارْفَعْ قَلِيلًا. وَقَالَ لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَك. قَالَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. قَالَ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
[فَصْلٌ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَفَاتَهُ]
(1055) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَفَاتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ: وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إلَّا رَمَضَانَ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
[فَصْل التَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء]
(1056) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ التَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يُصَلُّونَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
[فَصْلٌ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ تَخْفِيفُهُ أَوْ تَطْوِيلُهُ فَالْأَفْضَلُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ]
فَصْلٌ: وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْفِيفُهُ أَوْ تَطْوِيلُهُ، فَالْأَفْضَلُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَفْضَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَفِّفُهُ وَيُطَوِّلُهُ» ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ؛ فَرُوِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، «لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ عَبْدٍ سَجَدَ سَجْدَةً إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» .
(2/103)
وَالثَّانِيَةُ، التَّطْوِيلُ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
«وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ وَكَانَ يُطِيلُهُ، عَلَى مَا قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، وَلَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ» . وَالثَّالِثَةُ، هُمَا سَوَاءٌ؛ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْل التَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ]
(1058) فَصْلٌ: وَالتَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: «إذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ. وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ السِّرِّ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَانِيَةٌ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا]
(1059) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا فَاتَتْ يَقْضِيهَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ رَكَعَاتٌ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا نَشِطَ، طَوَّلَهَا، وَإِذَا لَمْ يَنْشَطْ خَفَّفَهَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الَّذِي يُدَاوِمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا» . وَقَالَتْ: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَكَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ التَّطَوُّع جَمَاعَةً وَفُرَادَى]
(1060) فَصْلٌ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً، وَبِابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً، وَأَمَّهُمْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ثَلَاثًا» ، وَسَنَذْكُرُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ جِيَادٌ.
(2/104)
[مَسْأَلَةَ يُبَاحُ أَنْ يَتَطَوَّعَ جَالِسًا]
(1061) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُبَاحُ أَنْ يَتَطَوَّعَ جَالِسًا) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ» . وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُولُ الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ، كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَسَامَحَ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ.
[مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا]
(1062) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَكُونُ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَطَوِّعِ جَالِسًا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِنَا. وَعَنْهُ يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: يَجْلِسُ كَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ سَقَطَ، فَسَقَطَتْ هَيْئَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَبُونَ فِي التَّطَوُّعِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ. وَلَنَا، أَنَّ الْقِيَامَ يُخَالِفُ الْقُعُودَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُخَالِفَ هَيْئَتُهُ فِي بَدَلِهِ هَيْئَةَ غَيْرِهِ، كَمُخَالَفَةِ الْقِيَامِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَلَيْسَ إذَا سَقَطَ الْقِيَامُ لِمَشَقَّتِهِ يَلْزَمُ سُقُوطُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، لَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْإِيمَاءِ بِهِمَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْجُلُوسِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، إذْ لَمْ يَرِدْ بِإِيجَابِهِ دَلِيلٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَحْمَدُ: يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ صَلَّى مُتَرَبِّعًا، فَلَمَّا رَكَعَ ثَنَى رِجْلَهُ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، أَنَّهُ لَا يَثْنِي رِجْلَيْهِ إلَّا فِي السُّجُودِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى هَيْئَةِ الْقِيَامِ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ هَيْئَةَ الرَّاكِعِ فِي رِجْلَيْهِ هَيْئَةُ الْقَائِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي النَّظَرِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى فِعْلِ أَنَسٍ، وَأَخَذَ بِهِ.
(2/105)
(1063) فَصْلٌ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إنْ شَاءَ مِنْ قِيَامٍ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ قُعُودٍ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ» .
«قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ، حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: وَالْعَمَلُ عَلَى كِلَا الْحَدِيثَيْنِ.
(1064) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرِيضُ إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ صَلَّى قَاعِدًا)
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] » . وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: «سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسٍ، فَخُدِشَ أَوْ جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ. فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قُعُودًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّهُ يَخْشَى زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِهِ، أَوْ تَبَاطُؤَ بُرْئِهِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ لِدُنْيَاهُ، فَلْيُصَلِّ جَالِسًا. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَتَكْلِيفُ الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَرَجٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لَكِنْ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ سَقَطَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ. وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَكُونُ جُلُوسُهُ عَلَى صِفَةِ جُلُوسِ الْمُتَطَوِّعِ، جَالِسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
[فَصْلٌ إنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصَى أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ]
(1065) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصًى، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
(2/106)
[فَصْل إنَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الرَّاكِعِ]
(1066) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الرَّاكِعِ كَالْأَحْدَبِ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي بَيْتٍ قَصِيرِ السَّقْفِ، لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ خَائِفٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَدَبٍ أَوْ كِبَرٍ، لَزِمَهُ قِيَامُ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، احْتَمَلَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ، قِيَاسًا عَلَى الْأَحْدَبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَالَ فِي الَّذِي فِي السَّفِينَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا، لِقِصَرِ سَمَاءِ السَّفِينَةِ: يُصَلِّي قَاعِدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ مَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» وَهَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ.
[فَصْل قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ]
(1067) فَصْلٌ: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَيُصَلِّي قَائِمًا، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُومِئُ بِالسُّجُودِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْقِيَامُ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ، فَسَقَطَ فِيهَا الْقِيَامُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا» . وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَالْقِرَاءَةِ، وَالْعَجْزُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لَا يَسْقُطُ فِيهَا الرُّكُوعُ. وَالثَّانِي، أَنَّ النَّافِلَةَ لَا يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ، فَمَا سَقَطَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِسُقُوطِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
[فَصْلٌ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهُ قَائِمًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ]
(1068) فَصْلٌ: وَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهُ قَائِمًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ لِتَطْوِيلِهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِيَامُ وَيُصَلِّيَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ آكَدُ لِكَوْنِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَالْجَمَاعَةُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْقِيَامِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، مَعَ إمَامِ الْحَيِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ، مُرَاعَاةً لِلْجَمَاعَةِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَضَاعَفُ بِالْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَاعُفِهِ بِالْقِيَامِ، بِدَلِيلِ أَنَّ «صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ» . وَ «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . وَهَذَا أَحْسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
[مَسْأَلَة عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا]
(1069) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُطِقْ جَالِسًا فَنَائِمًا) يَعْنِي مُضْطَجِعًا، سَمَّاهُ نَائِمًا لِأَنَّهُ فِي هَيْئَةِ النَّائِمِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(2/107)
قَالَ: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا. فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا، وَوَجْهُهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِيَكُونَ إيمَاؤُهُ إلَيْهَا، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ كَانَ وَجْهُهُ فِي الْإِيمَاءِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا. وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ إذَا كَانَ عَلَى جَنْبِهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ، وَلِذَلِكَ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ قَصْدَ التَّوْجِيهِ إلَى الْقِبْلَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ وَجْهَهُ فِي الْإِيمَاءِ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قُلْنَا: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ مِنْ الصَّحِيحِ لَا يَكُونَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ بِوَجْهِهِ، وَلَا فِي حَالِ السُّجُودِ، إنَّمَا يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيهِمَا أَيْضًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ صَلَّى عَلَى الْأَيْسَرِ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَيِّنْ جَنْبًا بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ عَلَى أَيِّ الْجَنْبَيْنِ كَانَ.
وَإِنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ، مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِقْبَالٍ، وَلِهَذَا يُوَجَّهُ الْمَيِّتُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: (فَعَلَى جَنْبٍ. وَلِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى الِاسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، وَلِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ مَعَ إمْكَانِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا؛ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاة عَلَى جَنْبِهِ، فَسَقَطَ، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ.
[فَصْلٌ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيع مَعَهُ الصَّلَاةَ مُسْتَلْقِيًا]
(1070) فَصْلٌ: إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ مَرَضٌ. فَقَالَ ثِقَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ: إنْ صَلَّيْت مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ. فَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَكَرِهَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبُو وَائِلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَوْ صَبَرْت عَلَيَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَمْ تُصَلِّ إلَّا مُسْتَلْقِيًا دَاوَيْتُ عَيْنَكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَبْرَأَ. فَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلٌّ قَالَ لَهُ: إنْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمَا الَّذِي تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟ فَتَرَكَ مُعَالَجَةَ عَيْنِهِ.
وَلَنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ، لَكِنْ
(2/108)
كَانَتْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِيهِ، أَوْ خَوْفُ ضَرَرٍ، وَأَيُّهُمَا قُدِّرَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ هَاهُنَا، وَلِأَنَّا أَبَحْنَا لَهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ - حِفْظًا لِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ -، وَتَرْكَ الصَّوْمِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ وَالرَّمَدِ، وَدَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، خَوْفًا مِنْ ضَرَرِ الطِّينِ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، وَجَازَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ وَثِيَابِهِ مِنْ الْبَلَلِ وَالتَّلَوُّثِ بِالطِّينِ، وَجَازَ تَرْكُ الْقِيَامِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِ الْحَيِّ إذَا صَلَّى جَالِسًا، وَالصَّلَاةُ عَلَى جَنْبِهِ وَمُسْتَلْقِيًا فِي حَالِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَلَا يَنْقُصُ الضَّرَرُ بِفَوَاتِ الْبَصَرِ عَنْ الضَّرَرِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - إنْ صَحَّ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُخْبِرَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ يَقِينٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَرْجُو. أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا، أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْلٌ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]
(1071) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا، كَمَا يُومِئُ بِهِمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ وَحْدَهُ رَكَعَ، وَأَوْمَأَ بِالسُّجُودِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْنِيَ ظَهْرَهُ حَنَى رَقَبَتَهُ، وَإِنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ، فَمَتَى أَرَادَ الرُّكُوعَ زَادَ فِي انْحِنَائِهِ قَلِيلًا، وَيُقَرِّبُ وَجْهَهُ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ عَلَى صُدْغِهِ لَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ. وَإِنْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ وِسَادَةً، أَوْ شَيْئًا عَالِيًا، أَوْ سَجَدَ عَلَى رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ، جَازَ، إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَنْكِيسُ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْتَارُ السُّجُودَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ. وَقَالَ: هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْإِيمَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ. وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَسَجَدَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى الْمِرْفَقَةِ. وَكَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّجُودَ عَلَى عُودٍ، وَقَالَ: يُومِئُ إيمَاءً. وَوَجْهُ الْجَوَازِ؛ أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الِانْحِطَاطِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ، فَأَمَّا إنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُجْزِئُهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يُومِئُ، وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ، فَلَا بَأْسَ، يُومِئُ، أَوْ يَرْفَعُ الْمِرْفَقَةَ فَيَسْجُدُ عَلَيْهَا. قِيلَ لَهُ: الْمِرْوَحَةُ؟ قَالَ: لَا. أَمَّا الْمِرْوَحَةُ فَلَا.
وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَاءُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَإِنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْحِطَاطُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ وَضْعِ رَأْسِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ أَوْمَأَ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى مَا هُوَ حَامِلٌ لَهُ، فَلَمْ يَجْزِهِ، كَمَا لَوْ سَجَدَ عَلَى يَدَيْهِ.
[فَصْلٌ لَمْ يَقْدِرْ الْمُصَلَّيْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ]
(1072) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ، وَنَوَى بِقَلْبِهِ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهُ مَا دَامَ عَقْلُهُ
(2/109)
ثَابِتًا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ: الصَّلَاةَ. فَقَالَ: قَدْ كَفَانِي، إنَّمَا الْعَمَلُ فِي الصِّحَّةِ
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ عَجَزَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَلَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ، كَالْقَادِرِ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَاءِ، أَشْبَهَ الْأَصْلَ.
[فَصْلٌ إذَا صَلَّى جَالِسًا فَسَجَدَ سَجْدَةً وَأَوْمَأَ بِالثَّانِيَةِ]
(1073) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى جَالِسًا، فَسَجَدَ سَجْدَةً، وَأَوْمَأَ بِالثَّانِيَةِ، مَعَ إمْكَانِ السُّجُودِ، جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ عَلِمَ قَبْلَ سَلَامِهِ، سَجَدَ سَجْدَةً تُتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَأَتَى بِرَكْعَةٍ، كَمَا لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ نِسْيَانًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ تَتِمُّ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى بِسَجْدَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا؛ فَإِنَّهُ مَتَى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْأُولَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ.
[فَصْلٌ قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاء الصَّلَاةِ عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ]
(1074) فَصْلٌ: وَمَتَى قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ، مِنْ قِيَامٍ، أَوْ قُعُودٍ، أَوْ رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، أَوْ إيمَاءٍ، انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا، فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ صَحِيحًا، فَيَبْنِي عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
[مَسْأَلَةَ الْوِتْرُ رَكْعَةٌ]
(1075) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْوِتْرُ رَكْعَةٌ) نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَقَالَ: إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو مُوسَى، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَائِشَةُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُعَاذٌ الْقَارِئُ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْوِتْرُ رَكْعَةٌ، كَانَ ذَلِكَ وِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ
(2/110)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . وَقَالَتْ: عَائِشَةُ: «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ. (1076) فَصْلٌ: قَوْلُهُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: جَمِيعُ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَمَا يُصَلَّى قَبْلَهُ لَيْسَ مِنْ الْوِتْرِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّمَا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ قَبْلَهَا صَلَاةُ عَشْرِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ وَيُسَلِّمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إنَّا نَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ إلَى رَكْعَةٍ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا بَأْسَ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ؛ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: الْوِتْرُ ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: ثَلَاثٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَخَمْسٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَسَبْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ خَمْسٍ، وَتِسْعٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَبْعٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ، أَوْ خَمْسٌ، أَوْ سَبْعٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، يُوتِرُ بِمَا شَاءَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعٍ، وَرَوَتْ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ، وَرَوَتْ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: «قُلْت لِعَائِشَةَ: بِكَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ؟ قَالَتْ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ، وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[مَسْأَلَةَ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي الْوِتْرِ]
(1077) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (يَقْنُتُ فِيهَا) يَعْنِي أَنَّ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي الْوِتْرِ، فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. هَذَا الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ
(2/111)
لَيْلَةً، وَلَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقْنُتُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَعَنْهُ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ بِحَالٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ إنِّي قَنَتُّ، هُوَ دُعَاءٌ وَخَيْرٌ.
وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ، فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . وَكَانَ لِلدَّوَامِ، وَفِعْلُ أُبَيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ. وَلَا يُنْكَرُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، وَلِأَنَّهُ وِتْرٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ الْقُنُوتُ، كَالنِّصْفِ الْآخِرِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُشْرَعُ فِي الْوِتْرِ، فَيُشْرَعُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.
[فَصْلٌ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ]
(1078) فَصْلٌ: وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ قَنَتَ قَبْلَهُ، فَلَا بَأْسَ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ؛ لِمَا رَوَى حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: كُنَّا نَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَالْبَرَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» . وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: أَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهِ أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَحَدِيثُ أُبَيٍّ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ أَيْضًا، وَقِيلَ ذِكْرُ الْقُنُوتِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدُّعَاء فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ]
(1079) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ مَا رَوَى «الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِي مَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِي مَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِي مَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ
(2/112)
مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْرِفُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا.
وَيَقُولُ مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُ فِي وِتْرِهِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَنَشْكُرُكَ، وَلَا نَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ» . وَهَاتَانِ سُورَتَانِ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْت فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ. اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ ".
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَتَبَهُمَا أُبَيٌّ فِي مُصْحَفِهِ. يَعْنِي إلَى قَوْلِهِ: " بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ ". قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: " نَحْفِدُ " نُبَادِرُ. وَأَصْلُ الْحَفْدِ: مُدَارَكَةُ الْخَطْوِ وَالْإِسْرَاعُ. " وَالْجِدُّ " بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ الْحَقُّ لَا اللَّعِبُ، " مُلْحِقٌ " بِكَسْرِ الْحَاءِ لَاحِقٌ. وَهَكَذَا يُرْوَى هَذَا الْحَرْفُ، يُقَالُ: لَحِقْتُ الْقَوْمَ وَأَلْحَقْتُهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَنْ فَتَحَ الْحَاءَ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يُلْحِقُهُ إيَّاهُ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ هِيَ الْأُولَى. وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَأَلْت ثَعْلَبًا عَنْ مُلْحِقٍ وَمُلْحَقٍ؟ فَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُهُمَا مَعًا.
[فَصْلٌ إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ]
(1080) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ، أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَالَهُ إِسْحَاقُ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَإِنْ دَعَوْا مَعَهُ فَلَا بَأْسَ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إذَا لَمْ أَسْمَعْ قُنُوتَ الْإِمَامِ أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي حَالِ الْقُنُوتِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الْقُنُوتِ إلَى صَدْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَعَوْت اللَّهَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفَّيْكَ، وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقُنُوتِ فَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
(2/113)
إحْدَاهُمَا، لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ مَسْحُ وَجْهِهِ فِيهِ، كَسَائِرِ دُعَائِهَا.
الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَرَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ.
[فَصْلٌ لَا يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَات سِوَى الْوِتْرِ]
(1081) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، سِوَى الْوِتْرِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَنَسًا قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "، وَكَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا، يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ. وَعَنْ «أَبِي مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ، إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَوَّلُ مَنْ قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ عَلِيٌّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُحَارِبًا يَدْعُو عَلَى أَعْدَائِهِ. وَرَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قَنَتَ عَلِيٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، إلَّا إذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى قُنُوتًا. وَقُنُوتُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوْقَاتِ النَّوَازِلِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُنُوتَهُ كَانَ فِي وَقْتِ نَازِلَةٍ.
(2/114)
(1082) فَصْلٌ: فَإِنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْنُتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، قَنَتَ الْإِمَامُ وَأَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ: مِثْلُ مَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ. يَعْنِي بَابَكَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ؟ فَقَالَ: لَوْ قَنَتَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً، ثُمَّ يَتْرُكُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَنَتَ عَلَى الْخَرْمِيَّةِ أَوْ قَنَتَ عَلَى الدَّوَامِ. وَالْخُرَّمِيَّةُ: هُمْ أَصْحَابُ بَابَكَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ؛ وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَنَّ عَلِيًّا قَنَتَ، وَقَالَ: إنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا وَلَا يَقْنُتُ آحَادُ النَّاسِ.
وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ نَحْوًا مِمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَلَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنْ الْفَرَائِضِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ: كُلُّ شَيْءٍ يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَجْرِ. وَلَا يَقْنُتُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْوِتْرِ وَالْغَدَاةِ إذَا كَانَ مُسْتَنْصِرًا يَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا جَهْرٍ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ. وَقِيلَ: يَقْنُتُ، فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ كُلِّهَا، قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ
[مَسْأَلَةَ يَفْصِلَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ بِمَا قَبْلَهَا]
(1083) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا) الَّذِي يَخْتَارُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَفْصِلَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ بِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ: إنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ فِيهِنَّ، لَمْ يُضَيَّقْ عَلَيْهِ عِنْدِي. وَقَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُسَلِّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُعَاذٍ الْقَارِئِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
(2/115)
لَا يَفْصِلُ بِسَلَامٍ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ فَصَلَ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ فَحَسَنٌ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ قَوْلُ عَائِشَةَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ» وَقَوْلُهَا «كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَرَوَتْ أَيْضًا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ يُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ، ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِتْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْصِلْ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ وَهَذَا نَصٌّ.
فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ قَالَتْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا إذَا أَوْتَرَ بِخَمْسٍ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي الثَّلَاثَ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ تَابَعَهُ لِئَلَّا يُخَالِفَ إمَامَهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي مَنْ يُوتِرُ فَيُسَلِّمُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ، فَيَكْرَهُونَهُ.
يَعْنِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَالَ: فَلَوْ صَارَ إلَى مَا يُرِيدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ، لَا تَضُرُّ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهُمْ فِيهِ (1084) فَصْلٌ: يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَبِتِسْعٍ وَبِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ وَبِثَلَاثٍ وَبِوَاحِدَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، سَلَّمَ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَأَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ وَإِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَإِنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، جَلَسَ عَقِيبَ السَّادِسَةِ، فَتَشَهَّدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ السَّابِعَةِ، فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا عَقِيبَ الثَّامِنَةِ فَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِالتَّاسِعَةِ، وَيُسَلِّمُ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي: فِي السَّبْعِ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ أَيْضًا، كَالْخَمْسِ.
فَأَمَّا الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَالثَّلَاثُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا وَأَمَّا الْخَمْسُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لَا يَنْصَرِفُ إلَّا فِي آخِرِهَا وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ
(2/116)
بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا فِي آخِرِهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثُمَّ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُنَّ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى سَبْعًا أَوْ خَمْسًا، أَوْتَرَ بِهِنَّ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ: أَدْرَكْت النَّاسَ قَبْلَ الْحَرَّةِ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِخَمْسٍ، يُسَلِّمُونَ بَيْنَ كُلِّ اثْنَتَيْنِ، وَيُوتِرُونَ بِوَاحِدَةٍ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ جَمِيعًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَمَّا التِّسْعُ وَالسَّبْعُ فَرَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: «قُلْت يَعْنِي لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي سَبْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صُنْعِهِ فِي الْأَوَّلِ. قَالَ: فَانْطَلَقْت إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْته بِحَدِيثِهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد،
وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ الْحَدِيثُ. وَفِيهِ: أَوْتَرَ بِسَبْعٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ وَفِيهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَيُسَلِّمُ بِتَسْلِيمَةٍ شَدِيدَةٍ يَكَادُ يُوقِظُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ شِدَّةِ تَسْلِيمِهِ.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّبْعَ يَجْلِسُ فِيهَا عَقِيبَ السَّادِسَةِ وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّى سَبْعًا، أَوْ خَمْسًا أَوْتَرَ بِهِنَّ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِسَبْعٍ، أَوْ خَمْسٍ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ وَلَا كَلَامٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِيهِ شَكٌّ فِي السَّبْعِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ عَقِيبَ السَّادِسَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ
[فَصْلٌ الْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ]
(1085) فَصْلٌ: الْوِتْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ وَاجِبٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا خِفْت الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» وَأَمَرَ بِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ،
(2/117)
وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْوِتْرُ حَقٌّ؛ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ مِنْ (الْمُسْنَدِ) أَيْضًا
وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، الْوِتْرُ الْوِتْرُ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ، سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. قَالَ: فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِخَتْمٍ، وَلَا كَصَلَوَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْتَرَ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ "
وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ لَا، إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إنْ صَدَقَ» وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَالسُّنَنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قَبْلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَأَحَادِيثُهُمْ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهَا،
ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَأْكِيدُهُ وَفَضِيلَتُهُ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَذَلِكَ حَقٌّ، وَزِيَادَةُ الصَّلَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَالتَّوَعُّدُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ، كَقَوْلِهِ: «مَنْ أَكَلَ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا»
[فَصْل تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا]
(1086) فَصْلٌ: وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ.
(2/118)
وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِهِ؛ لِمَا قَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَمْرِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ كَلَامُهُ مَخْرَجَ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَحْدَهَا، جَازَ لَهُ وَهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْوِتْرُ، فَإِنْ شَاءَ قَضَى الْوِتْرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ، وَلَيْسَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَقَالَ الْقَاضِي: رَكْعَتَا الْفَجْرِ آكَدُ مِنْ الْوِتْرِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِعَدَدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَأَشْبَهَا الْمَكْتُوبَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوِتْرُ آكَدُ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، وَفِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، لَكِنْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ تَلِيهِ فِي التَّأْكِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ وَقْتُ الْوِتْرُ]
(1087) فَصْلٌ: وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، لَمْ يَصِحَّ. وِتْرُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّاهُ قَبْلَ الْعِشَاءِ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْهُ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ. فَقَالَا: يُعِيدُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوِتْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ.» وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ» .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «زَادَنِي رَبِّي صَلَاةً، وَهِيَ الْوِتْرُ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَلِأَنَّهُ صَلَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى نَهَارًا. وَإِنْ أَخَّرَ الْوِتْرَ حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ، فَاتَ وَقْتُهُ وَصَلَّاهُ قَضَاءً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْوِتْرُ مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُهُ، لِحَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَقْتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . وَقَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» وَقَالَ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» وَقَالَ «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ» . أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ.
[فَصْلٌ الْأَفْضَلُ التَّهَجُّد فِي آخِرِ اللَّيْلِ]
(1088) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ، فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» وَذَلِكَ أَفْضَلُ وَهَذَا صَرِيحٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ آخِرَ اللَّيْلِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ
(2/119)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ» . وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الْوِتْرَ بَعْدَ تَهَجُّدِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا ذَرٍّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ. وَقَالَ مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ، رَوَاهَا مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَتَى تُوتِرُ؟ قَالَ: أُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ. وَقَالَ لِعُمَرَ: مَتَى تُوتِرُ؟ قَالَ: آخِرَ اللَّيْلِ. فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخَذَ هَذَا بِالْحَزْمِ وَأَخَذَ هَذَا بِالْقُوَّةِ» وَأَيَّ وَقْتٍ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ، بَعْدَ الْعِشَاءِ أَجْزَأَهُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ أُوتِرُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ قَامَ لِلتَّهَجُّدِ]
(1089) فَصْلٌ: وَمَنْ أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ لِلتَّهَجُّدِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى، وَلَا يَنْقُضَ وِتْرَهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَمَّارٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ لَا يَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: وَلَا تَرَى نَقْضَ الْوِتْرِ؟ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَأَرْجُو، لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ. وَمَرْوِيٌّ. عَنْ عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَسَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ يُصَلِّي رَكْعَةً تَشْفَعُ الْوِتْرَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ. وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . وَلَنَا: مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ، قَالَ: «زَارَنَا طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمْسَى عِنْدَنَا وَأَفْطَرَ، ثُمَّ قَامَ بِنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، حَتَّى إذَا بَقِيَ الْوِتْرُ قَدَّمَ رَجُلًا، فَقَالَ: أَوْتِرْ بِأَصْحَابِكَ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَامُ عَلَى فِرَاشِي، فَإِنْ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَفْعَلُهُ.
[فَصْلٌ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ وَأَحَبَّ مُتَابَعَتَهُ فِي الْوِتْرِ وَأَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ]
(1090) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، وَأَحَبَّ مُتَابَعَتَهُ فِي الْوِتْرِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ مَعَهُ، وَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى يَشْفَعُ بِهَا صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إنْ شَاءَ أَقَامَ
(2/120)
عَلَى وِتْرٍ وَشَفَعَ إذَا قَامَ. وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مَثْنَى، قَالَ: وَيَشْفَعُ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ أَوْتَرَ، يُصَلِّي بَعْدَهَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْوِتْرُ بَعْدَ ضِجْعَةٍ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكَعَات الْوِتْرِ الثَّلَاثِ]
(1091) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكَعَاتِ الْوِتْرِ الثَّلَاثِ، فِي الْأُولَى بِ {سَبِّحْ} ، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْوِتْرِ. وَقَالَ فِي الشَّفْعِ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ، يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ؟ قَالَ: وَلِمَ لَا يَقْرَأُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " بِسَبِّحْ "، وَفِي الثَّانِيَةِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ "، وَفِي الثَّالِثَةِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَلَنَا: مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ " بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا لَا يَثْبُتُ؛ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ زِيَادَةَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ.
[فَصْل الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ]
(1092) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، كَانَ قَبْلَهَا صَلَاةٌ مُتَقَدِّمَةٌ» . قِيلَ لَهُ: أَوْتَرَ فِي السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ. قِيلَ لَهُ: يَكُونُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَبَيْنَ الْمَثْنَى سَاعَةٌ؟ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَعَهُ. ثُمَّ احْتَجَّ فَقَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ» . فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ تَنَفَّلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ثُمَّ تَعَشَّى، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ يُعْجِبُكَ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُوتِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَسُئِلَ عَمَّنْ صَلَّى مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَامَ وَلَمْ يُوتِرْ؟ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ.
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَصْبَحَ وَلَمْ يُوتِرْ؟ قَالَ: لَا يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ. قِيلَ: يُوتِرُ بِثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، إلَّا أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الشَّمْسِ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا لَحِقَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةَ الْوِتْرِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ أَجْزَأَتْهُ الرَّكْعَةُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُسَلِّمُ فِي الثِّنْتَيْنِ تَبِعَهُ، وَيَقْضِي مِثْلَ مَا صَلَّى، فَإِذَا فَرَغَ قَامَ يَقْضِي وَلَا يَقْنُتُ. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ ابْتَدَأَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَجَعَلَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وِتْرًا؟ فَقَالَ: لَا، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قَدْ قَلَبَ نِيَّتَهُ. قِيلَ لَهُ: أَيَبْتَدِئُ الْوِتْرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقُنُوتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
(2/121)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَنَتَ، ثُمَّ كَبَّرَ حِينَ يَرْكَعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
[فَصْل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ وِتْرِهِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثًا]
(1093) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ وِتْرِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ. ثَلَاثًا، وَيَمُدَّ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ؛ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الْوِتْرِ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ» . أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ ".
[مَسْأَلَةَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرُونَ رَكْعَةً]
(1094) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرُونَ رَكْعَةً) . (يَعْنِي) (صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ) وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْغَبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ، وَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: قَدْ رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ قَالَ: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ. فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: قُلْت: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ. ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا النَّاسُ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِهِمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصَابُوا، وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَنُسِبَتْ التَّرَاوِيحُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّيهَا
(2/122)
بِهِمْ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِي، قَالَ: خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ. فَقَالَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
(1095) فَصْلٌ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيهَا عِشْرُونَ رَكْعَةً. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ. وَزَعَمَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ، وَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً، يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ.
وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي. فَإِذَا كَانَتْ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ أُبَيٌّ، فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: أَبَقَ أُبَيٌّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً. وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ صَالِحٌ، فَإِنَّ صَالِحًا ضَعِيفٌ، ثُمَّ لَا نَدْرِي مَنْ النَّاسُ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ
؟ فَلَعَلَّهُ قَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ فَعَلُوهُ لَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَصْرِهِ، أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا فَعَلَ هَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مُسَاوَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَطُوفُونَ سَبْعًا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ، فَجَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَكَانَ كُلِّ سَبْعٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ.
[فَصْلٌ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ]
(1096) فَصْلٌ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فِعْلُهَا فِي الْجَمَاعَةِ، قَالَ، فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِهِ، فَصَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ، خِفْت أَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِالْخُلَفَاءِ» وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ،
(2/123)
وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ جَابِرٌ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلُّونَهَا فِي جَمَاعَةٍ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كُلُّ مَنْ اخْتَارَ التَّفَرُّدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَأَمَّا التَّفَرُّدُ الَّذِي يَقْطَعُ مَعَهُ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: قِيَامُ رَمَضَانَ لِمَنْ قَوِيَ فِي الْبَيْتِ أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: «احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ قَالَ ثُمَّ: جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا، فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَجَمْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ وَأَهْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَوْلُهُ لَهُ: «إنَّ الْقَوْمَ إذَا صَلَّوْا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ» . وَهَذَا خَاصٌّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَهُمْ مُعَلَّلٌ بِخَشْيَةِ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِيَامَ بِهِمْ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ أَيْضًا، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهُ النَّاسُ فَرْضًا، وَقَدْ أُمِنَ هَذَا أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلِيٌّ لَمْ يَقُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ؟ قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ. وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: مَرَّ عَلِيٌّ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَفِيهَا الْقَنَادِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فَقَالَ نَوَّرَ اللَّهُ عَلَى عُمَرَ قَبْرَهُ، كَمَا نَوَّرَ عَلَيْنَا مَسَاجِدَنَا. رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ.
[فَصْلٌ يَقْرَأُ بِالْقَوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّاسِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ]
(1097) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَقْرَأُ بِالْقَوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْقِصَارِ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُسْتَحَبُّ النُّقْصَانُ عَنْ خَتْمِهِ فِي الشَّهْرِ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ كَرَاهِيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ. وَالتَّقْدِيرُ بِحَالِ النَّاسِ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ لَوْ اتَّفَقَ جَمَاعَةٌ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ وَيَخْتَارُونَهُ، كَانَ أَفْضَلَ. كَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: «قُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ. يَعْنِي السُّحُورَ.» وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ:
(2/124)
كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا يَسْتَعْجِلُونَ خَدَمَهُمْ بِالطَّعَامِ، مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ.
[فَصْلٌ يُصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُ]
(1098) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ، وَيُوتِرَ مَعَهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ» . قَالَ: وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيُوتِرُ مَعَهُمْ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ يَؤُمُّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُمْ التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا وَالْوِتْرَ. قَالَ: وَيَنْتَظِرُنِي بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَقُومَ ثُمَّ يَقُومَ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ»
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قَوْمٍ صَلَّوْا فِي رَمَضَانَ خَمْسَ تَرَاوِيحَ، لَمْ يَتَرَوَّحُوا بَيْنَهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ. قَالَ: وَسُئِلَ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحِهِ رَكْعَتَيْنِ، يُصَلِّي إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ. وَقَالَ هِيَ تَطَوُّعٌ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: تُؤَخِّرُ الْقِيَامَ يَعْنِي فِي التَّرَاوِيحِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: لَا، سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إلَيَّ.
[فَصْل التَّطَوُّعَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ]
(1099) فَصْلٌ: وَكَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّطَوُّعَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ، وَقَالَ: فِيهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ عُبَادَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. فَذُكِرَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ رُخْصَةٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ، إنَّمَا فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَطَوَّعُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ أَبْصَرَ قَوْمًا يُصَلُّونَ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ أَتُصَلِّي وَإِمَامُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَغِبَ عَنَّا. وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُرَى أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِي صَلَاةٍ.
[فَصْلٌ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّرَاوِيح]
(1100) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّعْقِيبُ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ نَافِلَةً أُخْرَى جَمَاعَةً، أَوْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى. فَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: مَا يَرْجِعُونَ إلَّا لِخَيْرٍ يَرْجُونَهُ، أَوْ لِشَرٍّ يَحْذَرُونَهُ. وَكَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا. وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ، إلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، أَوْ إلَى آخِرِهِ، لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَ النَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَلَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ.
[فَصْلٌ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةَ]
(1101) فَصْلٌ: فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: أَخْتِمُ الْقُرْآنَ، أَجْعَلُهُ فِي الْوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَاءً بَيْنَ اثْنَيْنِ. قُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ.؟ قَالَ إذَا
(2/125)
فَرَغْتَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ، وَادْعُ بِنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَطِلْ الْقِيَامَ. قُلْت: بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: بِمَا شِئْت. قَالَ: فَفَعَلْت بِمَا أَمَرَنِي، وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي خَتْمِ الْقُرْآنِ: إذَا فَرَغْت مِنْ قِرَاءَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاءِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. قُلْت: إلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْت أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَفْعَلُهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ.
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ: وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَبِمَكَّةَ. وَيَرْوِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.
[فَصْلٌ فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الشَّكِّ]
(1102) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الشَّكِّ؛ فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي وَقْتِ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَصَلَّى، وَصَلَّاهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ» فَجَعَلَ الْقِيَامَ مَعَ الصِّيَامِ. وَذَهَبَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ إلَى تَرْكِ الْقِيَامِ، وَقَالَ: الْمُعَوَّلُ فِي الصِّيَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إلَى الصَّوْمِ احْتِيَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَالصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
[فَصْلٌ إذَا قَرَأَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هَلْ يَقْرَأُ مِنْ الْبَقَرَةِ شَيْئًا]
(1103) فَصْلٌ: قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ إذَا قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] يَقْرَأُ مِنْ الْبَقَرَةِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا فَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَصِلَ خَتْمَتَهُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ يَصِيرُ إلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَذَكَرْت لِأَحْمَدَ قَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَاخْتِمْ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَاخْتِمْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، قَالَ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَفِي أَوَّلِ النَّهَارِ، يَقُولُونَ: إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ خَتْمَةَ النَّهَارِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُمَا، وَخَتْمَةَ اللَّيْلِ فِي رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ أَوْ بَعْدَهُمَا، يَسْتَقْبِلُ بِخَتْمِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ لِحُضُورِ الدُّعَاءِ]
(1104) فَصْلٌ:: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ؛ لِحُضُورِ الدُّعَاءِ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ أَنَسٌ إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ
(2/126)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاسْتَحْسَنَ أَبُو بَكْرٍ التَّكْبِيرَ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ» ، رَوَاهُ الْقَاضِي، فِي " الْجَامِعِ " بِإِسْنَادِهِ.
[فَصْلٌ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَدَعُ الْآيَاتِ مِنْ السُّورَةِ تَرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا]
(1105) فَصْلٌ: وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَدَعُ الْآيَاتِ مِنْ السُّورَةِ، تَرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الْإِمَامُ مِنْ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِتَتِمَّ الْخَتْمَةُ، وَيَكْمُلَ الثَّوَابُ.
[فَصْلٌ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ وَالْإِنْسَانُ مُضْطَجِعٌ]
(1106) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَجِعٌ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجَامِعِ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: كُنْت أَقْرَأُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا قَرَأْت السَّجْدَةَ قُلْت لَهُ: أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ نَعَمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إنِّي لَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى سَرِيرِي. رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ، فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَائِشَةَ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ]
(1107) فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، لِيَكُونَ لَهُ خَتْمَةٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي النَّهَارِ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبُعًا، لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا. وَقَالَ حَنْبَلٌ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْتِمُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ. قَالَ إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ حَتَّى أُتِمَّهُ»
قَالَ أَوْسٌ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؛ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ خَتْمَةَ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: فِي شَهْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ ثُمَّ قَالَ: فِي خَمْسَ عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ: فِي عَشْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي سَبْعٍ» . لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سَبْعٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا سَمِعْتُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ فِي أَرْبَعِينَ.
وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَوَاسِعٌ لَهُ.
(2/127)
(1108) فَصْلٌ: وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ؛ لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ: اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِدُ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مَعَ الْعَجَلَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] . وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا قَالَتْ: وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ» ، وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَهَذُّهُ كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَنَثْرٌ كَنَثْرِ الدَّقَلِ.
[فَصْلٌ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ]
(1109) فَصْلٌ: كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ، وَقَالَ: هِيَ بِدْعَةٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ، يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً» وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ، وَالْأَلْحَانُ تُغَيِّرُهُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا، وَيَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا تَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْجِيعُ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ. قَالَ: فَقَرَأَ ابْنُ الْمُغَفَّلِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ» قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ. . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَقَالَ: " أأ أ ". وَرَوَى أَبُو
(2/128)
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» ، يَجْهَرُ بِهِ. يَعْنِي لِيُسْتَمَعَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ " فَقَالَ: ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَغَيْرُهُمَا: مَعْنَاهُ يَسْتَغْنِي بِالْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَعْنَاهُ يُحْسِنُ قِرَاءَتَهُ، وَيَتَرَنَّمُ بِهِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حُزْنُهُ فَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ مِثْلُ صَوْتِ أَبِي مُوسَى.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَحْسِينَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَتَطْرِيبَهُ، مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، مَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ لَفْظِهِ، وَزِيَادَةِ حُرُوفِهِ، فَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ أَسْمَعْ قِرَاءَةً أَحْسَنَ مِنْ قِرَاءَتِهِ. فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَمَعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ قَالَ هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا» . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مُوسَى: إنِّي مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ، فَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا» . مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/129)
[بَابُ الْإِمَامَةِ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ]
ِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَمْ يُوجِبْهَا مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى اللَّذَيْنِ قَالَا: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ لَكَانَتْ شَرْطًا لَهَا كَالْجُمُعَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] . الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَرَخَّصَ فِيهَا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَلَمْ يُجِزْ الْإِخْلَالَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِهَا، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبِ لِيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا؛ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ لَمَا هَمَّ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِذَا لَمْ يُرَخَّصْ لِلْأَعْمَى الَّذِي لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَهُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ، أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ بَلَدٍ، لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ»
(2/130)
} . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَحَدِيثُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ الِاشْتِرَاطُ، كَوَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَالْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ. (1110) فَصْلٌ: وَلَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا فِي اشْتِرَاطِهَا، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بِدَلِيلِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ احْتَجُّوا بِهِمَا وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَتَخَلَّفَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ.
[فَصْلٌ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا]
(1111) فَصْلٌ: وَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . وَأَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ مَرَّةً، وَابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّةً، وَابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّةً.
وَلَوْ أَمَّ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ أَمَّ صَبِيًّا جَازَ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ. وَإِنْ أَمَّهُ فِي الْفَرْضِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا؛ لِنَقْصِ حَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا بِالْمُفْتَرِضِ، كَالْبَالِغِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ الَّذِي فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ: «مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» .
[فَصْلٌ فِعْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ]
(1112) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ، وَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» . وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ
(2/131)
طَيِّبَةً وَطَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلَيْنِ: «إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْجَمَاعَةَ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً» . وَقَوْلُهُ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ " لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْجَمَاعَةَ؛ وَعَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهَا، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْكَمَالَ وَالْفَضِيلَةَ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ
[فَصْلٌ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ]
(1113) فَصْلٌ: وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ؛ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ "، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْجَمَاعَةِ فَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَكْثَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ أَوْ غَيْرِ جِوَارِهِ مَسْجِدٌ لَا تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ فِيهِ إلَّا بِحُضُورِهِ فَفِعْلُهَا فِيهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَعْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَيُحَصِّلُهَا لِمَنْ يُصَلِّي فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ، وَكَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَهُ كَسْرُ قَلْبِ إمَامِهِ أَوْ جَمَاعَتِهِ، فَجَبْرُ قُلُوبِهِمْ أَوْلَى.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَلْ الْأَفْضَلُ قَصْدُ الْأَبْعَدِ أَوْ الْأَقْرَبِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَصْدُ الْأَبْعَدِ؛ لِتَكْثُرَ خُطَاهُ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ فَتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ. وَالثَّانِيَةُ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ لَهُ جِوَارًا، فَكَانَ أَحَقَّ بِصَلَاتِهِ كَمَا أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِهَدِيَّةِ جَارِهِ وَمَعْرُوفِهِ مِنْ الْبَعِيدِ. وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا، فَالْأَفْضَلُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَعْلَى لِلْكَلِمَةِ، وَأَوْقَعَ لِلْهَيْبَةِ، وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ عَدُوِّهِمْ سَمِعَهُ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّشَاوُرَ فِي أَمْرٍ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ جَاءَ عَيْنُ
(2/132)
الْكُفَّارِ رَآهُمْ فَأَخْبَرَ بِكَثْرَتِهِمْ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ لَسَمَّرْت أَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الثُّغُورِ أَوْ نَحْوِ هَذَا لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ.
[فَصْلٌ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ]
(1114) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ سَالِمٌ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَاللَّيْثُ، وَالْبَتِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُعَادُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فِي غَيْرِ مَمَرِّ النَّاسِ. فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، صَلَّى مُنْفَرِدًا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَسْجِدٌ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فَكُرِهَ فِيهِ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ، كَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ، وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّكُمْ يَتَّجِرُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَصَلَّى مَعَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، فَقَالَ: " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ ". وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَالَ فَلَمَّا صَلَّيَا، قَالَ: " وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ ". وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ. (1115) فَصْلٌ: فَأَمَّا إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا. وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، لِئَلَّا يَتَوَانَى النَّاسُ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِيهَا إذَا أَمْكَنَتْهُمْ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعَ غَيْرِهِ.
وَظَاهِرُ خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ تَحْصُلُ فِيهَا، كَحُصُولِهَا فِي غَيْرِهَا.
[مَسْأَلَةٌ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى]
(1116) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا خِلَافَ فِي التَّقْدِيمِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ عَلَى غَيْرِهِمَا. وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا يُقَدَّمُ عَلَى صَاحِبِهِ؟ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تَقْدِيمُ الْقَارِئِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ،
(2/133)
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَؤُمُّهُمْ أَفْقَهُهُمْ إذَا كَانَ يَقْرَأُ مَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ فِيهِ إلَّا بِالْفِقْهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْحُكْمِ.
وَلَنَا مَا رَوَى أَوْسُ بْنُ ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا.» أَوْ قَالَ: " سِلْمًا ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ.» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَكَانَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» . وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهَا أَوْلَى، كَالْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ الْعَاجِزِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَفْقَهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ تَعَلَّمُوا مَعَهُ أَحْكَامَهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا لَا نُجَاوِزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ أَمْرَهَا، وَنَهْيَهَا، وَأَحْكَامَهَا.
قُلْنَا: اللَّفْظُ عَامُّ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا يُخَصُّ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ، عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» . فَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْقَارِئَ لِزِيَادَةِ عِلْمٍ لَمَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ التَّسَاوِي فِيهِ إلَى الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ عَلَى قَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَلَزِمَ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقِرَاءَةِ التَّسَاوِي فِيهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» . فَقَدْ فَضَّلَ بِالْفِقْهِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقِرَاءَةِ، وَفَضَّلَ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ هُوَ مَفْضُولٌ بِالْقَضَاءِ وَالْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ " أَهُوَ خِلَافُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ - عِنْدِي - " يُصَلِّي بِالنَّاسِ " لِلْخِلَافَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَأَ مِنْهُ، فَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِالصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِخْلَافَهُ.
(2/134)
(1117) فَصْلٌ: وَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَارِئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا.» وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي قَدْرِ مَا يَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ حِفْظًا، وَالْآخَرُ أَقَلَّ لَحْنًا وَأَجْوَدَ قِرَاءَةً، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي قِرَاءَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (1118) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَفْقَهُهُمْ) وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» وَلِأَنَّ الْفِقْهَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْإِتْيَانِ بِوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا، وَجَبْرِهَا إنْ عَرَضَ مَا يُحْوِجُ إلَيْهِ فِيهَا، فَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ قَارِئَانِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَأُ، وَالْآخَرُ أَفْقَهُ، قُدِّمَ الْأَقْرَأُ. نَصَّ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْأَفْقَهُ أَوْلَى؛ لِتَمَيُّزِهِ بِمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ فَقِيهَانِ، أَحَدُهُمَا أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالْآخَرُ أَعْرَفُ بِمَا سِوَاهَا، فَالْأَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ أَوْلَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ يُؤَثِّرُ فِي تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ.
(1119) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَسَنُّهُمْ) . يَعْنِي: أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، يُقَدَّمُ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ أَقْدَمُهُمَا هِجْرَةً، ثُمَّ أَسَنُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ، وَهُوَ مُرَتَّبٌ هَكَذَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تُوجَدُ أَكْثَرُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ. وَمَعْنَى تُقَدَّمُ الْهِجْرَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ هِجْرَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ إلَيْهَا لِسَبْقِهِ إلَى الطَّاعَةِ. فَإِذَا اسْتَوَيَا فِيهَا، إمَّا لِهِجْرَتِهِمَا مَعًا، أَوْ عَدَمِهَا مِنْهُمَا، فَأَسَنُّهُمْ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَالِكِ
(2/135)
بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْأَسَنَّ أَحَقُّ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّقْدِيمِ. وَكَذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، لَمَّا تَكَلَّمَ فِي أَخِيهِ: كَبِّرْ كَبِّرْ» . أَيْ دَعْ الْأَكْبَرَ يَتَكَلَّمُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ أَحَقُّهُمْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ أَشْرَفُهُمْ، ثُمَّ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، ثُمَّ أَسَنُّهُمْ. وَالصَّحِيحُ، الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْدِيمِ السَّابِقِ بِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ الْأَسَنِّ؛ لِتَصْرِيحِهِ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا هِجْرَةٌ وَلَا تَفَاضُلُهُمَا فِي شَرَفٍ، وَيُرَجَّحُ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ كَالتَّرْجِيحِ بِتَقْدِيمِ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَشْرَفُ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَإِذَا قُدِّمَ بِتَقَدُّمِهَا فَتَقَدُّمُهُ أَوْلَى. فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ قُدِّمَ أَشْرَفُهُمْ، أَيْ أَعْلَاهُمْ نَسَبًا، وَأَفْضَلُهُمْ فِي نَفْسِهِ، وَأَعْلَاهُمْ قَدْرًا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» .
(1120) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، قُدِّمَ أَتْقَاهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ فِي الدِّينِ، وَأَفْضَلُ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ: " إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ ". ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " رِسَالَتِهِ "، وَيُحْمَلُ تَقْدِيمُ هَذَا عَلَى الْأَشْرَفِ، لِأَنَّ شَرَفَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي هَذَا كُلِّهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَذَانِ، فَالْإِمَامَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
(2/136)
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَقُومُ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَتَعَاهُدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الْجِيرَانُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، قُدِّمَ بِذَلِكَ. وَلَا يُقَدَّمُ بِحُسْنِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَقْدِيمُ اسْتِحْبَابٍ، لَا تَقْدِيمُ اشْتِرَاطٍ، وَلَا إيجَابٍ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَلَوْ قُدِّمَ الْمَفْضُولُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا أَمْرُ أَدَبٍ وَاسْتِحْبَابٍ.
[مَسْأَلَةٌ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَةٍ أَوْ يَسْكَرُ]
(1121) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَةٍ، أَوْ يَسْكَرُ، أَعَادَ) . الْإِعْلَانُ الْإِظْهَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِسْرَارِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَنْ ائْتَمَّ بِمَنْ يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا، وَيَدْعُو إلَيْهَا، أَوْ يُنَاظِرُ عَلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ بِدْعَتَهُ، فَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لَهَا. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا تَعْرِفُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، آمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَهَكَذَا أَهْلُ الْبِدَعِ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: لَا، إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْكُتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، إذَا كَانَ دَاعِيَةً إلَى هَوَاهُ.
وَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ الْمُرْجِئِ إذَا كَانَ دَاعِيَةً. وَتَخْصِيصُهُ الدَّاعِيَةَ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِعَادَةِ، دُونَ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُعْلِنُ بِالْبِدْعَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمُعْلِنِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا تَقْلِيدًا. وَلَنَا، أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعْلَانِ هُوَ الْإِظْهَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ وَالْإِسْرَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4] وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} [إبراهيم: 38] وَلِأَنَّ الْمُظْهِرَ لِبِدْعَتِهِ لَا عُذْرَ لِلْمُصَلِّي خَلْفَهُ - لِظُهُورِ حَالِهِ -، وَالْمُخْفِيَ لَهَا مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَعْذُورٌ، وَهَذَا لَهُ أَثَرٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ خَلْفَ الْمُحْدِثِ وَالنَّجِسِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُمَا؛ لِخَفَاءِ ذَلِكَ وَمِنْهُمَا وَوَجَبَتْ عَلَى الْمُصَلِّي خَلْفَ الْكَافِرِ وَالْأُمِّيِّ، لِظُهُورِ حَالِهِمَا غَالِبًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ بِحَالٍ. قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يُصَلِّي خَلْفَ مُرْجِئٍ وَلَا رَافِضِيٍّ، وَلَا فَاسِقٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَهُمْ فَيُصَلِّيَ، ثُمَّ يُعِيدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، قَالَ أَحْمَدُ: مَتَى مَا صَلَّيْت خَلْفَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَأَعِدْ. قُلْت: وَتَعْرِفُهُ. قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ مُعْلِنٍ بِبِدْعَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَمَنْ لَمْ يُعْلِنْهَا فَفِي الْإِعَادَةِ خَلْفَهُ رِوَايَتَانِ. وَأَبَاحَ الْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ،
(2/137)
فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَغَيْرِهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَ الْخَشَبِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ. فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلَاءِ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا؟ فَقَالَ: مَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيك الْمُسْلِمِ، وَأَخْذِ مَالِهِ. قُلْت: لَا. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ كَاَلَّذِي يُكَذِّبُ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِبِدْعَتِهِ، لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ، وَمَنْ لَا نُكَفِّرُهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَلَنَا: مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ، أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ، وَحَدِيثُهُمْ نَقُولُ بِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَتُعَادُ، وَهُوَ مُطْلَقٌ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُحَصِّلُ الْوَفَاءَ بِدَلَالَتِهِمْ، وَقِيَاسِهِمْ مَنْقُوضٌ بِالْخُنْثَى وَالْأُمِّيِّ. وَيُرْوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ، قُلْت: أُصَلِّي خَلْفَ الْقَدَرِيِّ؟ قَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا أَنَا لَوْ صَلَّيْت خَلْفَهُ لَأَعَدْت صَلَاتِي. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " أَوْ يَسْكَرُ ". فَإِنَّهُ يَعْنِي مَنْ يَشْرَبُ مَا يُسْكِرُهُ مِنْ أَيِّ شَرَابٍ كَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ لِفِسْقِهِ. وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، فِيمَا يُرَى مِنْ سَائِرِ الْفُسَّاقِ، لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلْت أَحْمَدَ وَقِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ يَسْكَرُ؟ قَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَهُ أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ رَجُلٍ، ثُمَّ عَلِمْت أَنَّهُ يَسْكَرُ، أُعِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعِدْ. قَالَ: أَيَّتُهُمَا صَلَاتِي؟ قَالَ: الَّتِي صَلَّيْتَ وَحْدَك. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ. قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا سَكْرَانَ، أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأُصَلِّي وَحْدِي؟ قَالَ أَيْنَ أَنْتَ؟ فِي الْبَادِيَةِ؟ الْمَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ. قَالَ: أَنَا فِي حَانُوتِي. قَالَ: تَخَطَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ.
فَأَمَّا مَنْ يَشْرَبُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَا لَا يُسْكِرُهُ، مُعْتَقِدًا حِلَّهُ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَقَالَ: يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ عَلَى التَّأْوِيلِ، نَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ الْحَدِيثَ، وَلَا نُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يَسْكَرُ. وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِمَفْهُومِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِتَخْصِيصِهِ مَنْ سَكِرَ بِالْإِعَادَةِ خَلْفَهُ. وَفِي مَعْنَى شَارِبِ مَا يُسْكِرُ كُلُّ فَاسِقٍ، فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ فَاجِرٍ وَلَا فَاسِقٍ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، سُئِلَ عَنْ إمَامٍ، قَالَ: أُصَلِّي بِكُمْ رَمَضَانَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ هَذَا؟ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُصَلُّوا خَلْفَ مَنْ لَا يُؤَدِّي
(2/138)
الزَّكَاةَ، وَقَالَ لَا تُصَلِّ خَلْفَ مَنْ يُشَارِطُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ، ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَالْحُسَيْنُ وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ مَرْوَانَ. وَاَلَّذِينَ كَانُوا فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ وَابْنِهِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمَا. وَصَلَّوْا وَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا، وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ.
فَصَارَ هَذَا إجْمَاعًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَالَ: قُلْت. فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ نَافِلَةً، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنْ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إنِّي قَدْ صَلَّيْت، فَلَا أُصَلِّي» . وَفِي لَفْظٍ: " فَإِنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ ". وَهَذَا فِعْلٌ يَقْتَضِي فِسْقَهُمْ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» عَامٌّ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّهُ رَجُلٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ، فَصَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ كَالْعَدْلِ.
وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُؤَمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانِهِ أَوْ سَيْفِهِ» . وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَتَضَمَّنُ حَمْلَ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُهُ لَهَا، وَلَا يُؤْمَنُ تَرْكُ بَعْضِ شَرَائِطِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ ثَمَّ أَمَارَةٌ وَلَا غَلَبَةُ ظَنٍّ يُؤَمِّنَانِ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ أَجَبْنَا عَنْهُ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ خَافُوا الضَّرَرَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ، فَصَلَّيَا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا إنْ صَلَّيَا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ بِهِمَا. وَرَوَيْنَاهُ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ. قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ فُلَانٍ مَا كَانَ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا، فَإِنَّا لَا نُصَلِّي خَلْفَك. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا نَافِلَةً، وَالنِّزَاعُ فِي الْفَرْضِ. (1122) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ.
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَشْهَدُهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ
(2/139)
الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ فِي عَصْرِهِ. وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُحَمَّدَ بْنَ النَّضْرِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ لِي جِيرَانًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ. قَالَ حَسْبُكَ، مَا تَقُولُ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: رَجُلُ سَوْءٍ. قَالَ: فَإِنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: يُكَفَّرُ. قَالَ: فَإِنْ رَدَّ عَلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؟ ثَمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: رَدُّوا عَلَيْهِ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَإِنَّهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ سَيَلُونَهَا. وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ؛ وَتَلِيهَا الْأَئِمَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَتَرْكُهَا خَلْفَهُمْ يُفْضِي إلَى تَرْكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تُعَادُ خَلْفَ مَنْ يُعَادُ خَلْفَهُ غَيْرُهَا.
قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَيَنْبَغِي شُهُودُهَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَلِّي مِنْهُمْ أَعَادَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَهَذَا يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعَادُ خَلْفَ فَاسِقٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ أُمِرَ بِهَا، فَلَمْ تَجِبْ إعَادَتُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (1123) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهَا عَدْلًا، وَالْمُوَلِّي لَهُ غَيْرَ مَرْضِيِّ الْحَالِ لِبِدْعَتِهِ أَوْ فِسْقِهِ، لَمْ يُعِدْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا كَانَ الَّذِي وَضَعَهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ. قَالَ: لَسْت أَقُولُ بِهَذَا. وَلِأَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا تَرْتَبِطُ بِصَلَاةِ إمَامِهِ، فَلَا يَضُرُّ وُجُودُ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ، كَالْحَدَثِ أَوْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا. وَعَنْهُ: تُعَادُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (1124) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِسْقَ إمَامِهِ، وَلَا بِدْعَتَهُ، حَتَّى صَلَّى مَعَهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، فَأَشْبَهَ الْمُحْدِثَ وَالنَّجِسَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخْفِي بِدْعَتَهُ وَفُسُوقَهُ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ ذَلِكَ، وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ خَلْفَهُ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِوُجُوبِ إعَادَتِهَا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعِلْمُ وَعَدَمُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ أُمِّيًّا، وَالْحَدَثُ وَالنَّجَاسَةُ يُشْتَرَطُ خَفَاؤُهُمَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَاسِقِ فِسْقُ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْإِعَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ خَلْفَ مَنْ يُعْلِنُ بِبِدْعَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الْخَفَاءِ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ.
(1125) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ بِهِ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَةُ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشُكُّ فِي إسْلَامِهِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مُسْلِمٌ.
(2/140)
[فَصْلٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْفُرُوعِ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ]
(1126) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فِي الْفُرُوعِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ بَعْضُهُمْ يَأْتَمُّ بِبَعْضٍ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ لِإِصَابَتِهِ، أَوْ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ مَحْطُوطٌ عَنْهُ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ، وَعَلَيْهِ جُلُودُ الثَّعَالِبِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ يَلْبَسُهُ وَهُوَ يَتَأَوَّلُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . يُصَلَّى خَلْفَهُ.
قِيلَ لَهُ، أَفَتَرَاهُ أَنْتَ جَائِزًا؟ قَالَ: لَا، نَحْنُ لَا نَرَاهُ جَائِزًا وَلَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ يَتَأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ لَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ؟ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ، فَلَا نُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٍ وَمَنْ سَهَّلَ فِي الدَّمِ؟ أَيْ: بَلَى. وَرَأَيْت لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةً مُفْرَدَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ كَالْمُصِيبِ فِي حَطِّ الْمَأْثَمِ عَنْهُ، وَحُصُولِ الثَّوَابِ، وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ لِنَفْسِهِ، فَجَائِزٌ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ائْتِمَامُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ، كَمَا لَوْ خَالَفَهُ فِي الْقِبْلَةِ حَالَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا.
(1127) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ مَا يَعْتَقِدُهُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ أَوْ وَاجِبًا فِيهَا، فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يُخَالِفُهُ فِي اعْتِقَادِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ، كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، كَالْمُتَزَوِّجِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِمَّنْ يَرَى فَسَادَهُ، وَشَارِبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَهَذَا إنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْفُسَّاقِ، فَإِنْ لَمْ يَدُمْ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ. وَمَتَى كَانَ الْفَاعِلُ كَذَلِكَ عَامِّيًّا قَلَّدَ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعَامِّيِّ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ وَتَقْلِيدُهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]
[فَصْلٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَجْنُونٍ]
(1128) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَجْنُونٍ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ لِنَفْسِهِ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً، وَيُفِيقُ أُخْرَى،
(2/141)
فَصَلَّى وَرَاءَهُ حَالَ إفَاقَتِهِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَيُكْرَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ احْتَلَمَ حَالَ جُنُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَلِئَلَّا يُعَرِّضَ الصَّلَاةَ لِلْإِبْطَالِ فِي أَثْنَائِهَا، لِوُجُودِ الْجُنُونِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، فَلَا تَفْسُدُ بِالِاحْتِمَالِ.
[فَصْلٌ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ]
(1129) فَصْلٌ: وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْإِمَامُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَعَادَ وَإِنْ نَوَى الصَّلَاةَ وَحْدَهُ، وَوَافَقَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا عَلَى الْكَمَالِ، فَلَا تَفْسُدُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَهُ فِي الْأَفْعَالِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُوَافَقَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعِيدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، وَيَكُونُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، وَيُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَصْنَعُ؟
قَالَ: إنْ خَرَجَ كَانَ فِي ذَلِكَ شُنْعَةٌ، وَلَكِنْ يُصَلِّي مَعَهُ، وَيُعِيدُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ، وَيَكُونَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِنَفْسِهِ وَيَرْكَعُ لِنَفْسِهِ، وَيَسْجُدُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُبَالِي أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ مَعَ سُجُودِهِ، وَتَكْبِيرُهُ مَعَ تَكْبِيرِهِ.
قُلْت: فَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِنَفْسِهِ أَيُعِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَكَيْفَ يُعِيدُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْأَوْلَى، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» . قَالَ: إنَّمَا ذَاكَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَنَوَى الْفَرْضَ، أَمَّا إذَا صَلَّى مَعَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا. فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَلَكِنَّ تَعْلِيلَهُ إفْسَادَهَا بِكَوْنِهِ نَوَى أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا إذَا نَوَى الِاعْتِدَادَ بِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِينَ لَا يَرْضَوْنَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ جَمَاعَةً، فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَوَافَقُوا الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ إمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى جَائِزَةٌ]
(1130) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى جَائِزَةٌ) . هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ غُلَامًا لَهَا كَانَ يَؤُمُّهَا. وَصَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَأَبُو ذَرٍّ وَرَاءَ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، وَهُوَ عَبْدٌ. وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ: الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَةَ الْعَبْدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَؤُمُّهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَارِئًا وَهُمْ أُمِّيُّونَ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: «إنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ، وَأَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَ
(2/142)
الْقَوْمَ وَقَدْ صَلَّوْا، كُنْتَ أَحْرَزْتَ صَلَاتَك، وَإِلَّا كَانَتْ لَك نَافِلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَعَلَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ، قَالَ: تَزَوَّجْت وَأَنَا عَبْدٌ، فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُونِي، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَهُمْ فِي بَيْتِي، فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ. وَرَاءَك؟ فَالْتَفَتَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا عَبْدٌ، فَصَلَّيْت بِهِمْ. رَوَاهُ صَالِحٌ فِي " مَسَائِلِهِ " بِإِسْنَادِهِ، وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ، وَلَمْ يُنْكَرْ وَلَا عُرِفَ مُخَالِفٌ لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الرِّقَّ حَقٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ لِلرِّجَالِ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ كَالْحُرِّ.
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ أَؤُمُّهُمْ وَهُمْ يَعْدِلُونَنِي إلَى الْقِبْلَةِ. وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ وَهُوَ أَعْمَى، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ وَجَابِرٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. . وَعَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «غَزَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، كُلَّ ذَلِكَ يُقَدِّمُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ. وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ حَاسَّةٍ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشُرُوطِهَا، فَأَشْبَهَ فَقْدَ الشَّمِّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ إمَامًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِعِلْمِهِ، وَيَتَوَقَّى النَّجَاسَاتِ بِبَصَرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى أَخْشَعُ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ فِي الصَّلَاةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يُلْهِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ فَضِيلَةِ الْبَصِيرِ عَلَيْهِ، فَيَتَسَاوَيَانِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَضِيلَةً لَكَانَ مُسْتَحَبًّا، لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ بِتَغْمِيضِهِ مَا يُحَصِّلُهُ الْأَعْمَى، وَلِأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ مَعَ إمْكَانِ النَّظَرِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الْمَكْرُوهَ مَعَ إمْكَانِهِ اخْتِيَارًا، وَالْأَعْمَى يَتْرُكُهُ اضْطِرَارًا فَكَانَ أَدْنَى حَالًا، وَأَقَلَّ فَضِيلَةً.
[فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَخْرَسِ]
(1131) فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْأَخْرَسِ بِمِثْلِهِ، وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ رُكْنًا، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، تَرْكًا مَأْيُوسًا مِنْ زَوَالِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
[فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَصَمِّ]
(1132) فَصْلٌ: وَتَصِحُّ إمَامَةُ الْأَصَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا شُرُوطِهَا، فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى؛ فَإِنْ
(2/143)
كَانَ أَصَمَّ أَعْمَى صَحَّتْ إمَامَتُهُ لِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَهَا لَا يُمْكِنُ تَنْبِيهُهُ بِتَسْبِيحٍ وَلَا إشَارَةٍ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ احْتِمَالُ عَارِضٍ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، كَالْمَجْنُونِ حَالَ إفَاقَتِهِ.
[فَصْلٌ إمَامَةُ أَقْطَعِ الْيَدَيْنِ]
(1133) فَصْلٌ: فَأَمَّا أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ شَيْئًا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: تَصِحُّ إمَامَتُهُ. اخْتَارَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ لَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ. فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ إمَامَتِهِ، كَأَقْطَعِ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ وَالْأَنْفِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تَصِحُّ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالسُّجُودِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، أَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَى جَبْهَتِهِ. وَحُكْمُ أَقْطَعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ كَالْحُكْمِ فِي قَطْعِهِمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا أَقْطَعُ الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ قِيَامِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ إمَامَتُهُ كَالزَّمِنِ. وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَيُمْكِنُهُ الْقِيَامُ، صَحَّتْ إمَامَتُهُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا تَصِحَّ إمَامَتُهُ؛ لِإِخْلَالِهِ بِالسُّجُودِ عَلَى عُضْوٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى الْبَاقِي مِنْ رِجْلِهِ أَوْ حَائِلِهَا.
[مَسْأَلَةٌ أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا]
(1134) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ) (أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا) (أَعَادَ الْقَارِئُ وَحْدَهُ) .
الْأُمِّيُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ يُخِلُّ بِحَرْفٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَهَا، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَيَصِحُّ لِمِثْلِهِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ الْخِرَقِيِّ الْقَارِئَ بِالْإِعَادَةِ فِيمَا إذَا أَمَّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَعَ جَمَاعَةٍ أُمِّيِّينَ حَتَّى إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَارِئِ بَقِيَ خَلْفَ الْإِمَامِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُمِّيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانَا خَلْفَ الْإِمَامِ أَعَادَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ صَارَ فَذًّا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا قَصَدَ بَيَانَ مَنْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالِائْتِمَامِ بِالْأُمِّيِّ، وَهَذَا يَخُصُّ الْقَارِئَ دُونَ الْأُمِّيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ؛ لِكَوْنِهِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ كَوْنِهِمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ مَعَهُمْ أُمِّيٌّ آخَرُ، وَإِنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِكَوْنِهِ فَذًّا، فَمَا فَسَدَتْ لِائْتِمَامِهِ بِمِثْلِهِ، إنَّمَا فَسَدَتْ لِمَعْنًى آخَرَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقِيلَ عَنْهُ: يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ دُونَ صَلَاةِ الْجَهْرِ. وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ، فَجَازَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَالْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ مَعَهُ الْقَارِئُ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ عَنْهُ، لِكَوْنِ الْإِمَامِ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ، فَعَجَزَ عَنْهَا، فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ.
وَلَنَا عَلَى الْأَوَّلِ، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِعَاجِزٍ عَنْ رُكْنٍ سِوَى الْقِيَامِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَلَمْ تَصِحَّ، كَالْمُؤْتَمِّ بِالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ، وَهَذَا عَاجِزٌ عَنْ التَّحَمُّلِ لِلْقِرَاءَةِ
(2/144)
الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالْأَخْرَسِ وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّحَمُّلِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ. وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَنَّهُ أَمَّ مَنْ لَا يَصِحُّ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ أَمَّتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَنِسَاءً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَلْزَمُ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْقَارِئِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ نَفْسِهِ، فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى.
وَإِنْ أَمَّ الْأُمِّيُّ قَارِئًا وَاحِدًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ نَوَى الْإِمَامَةَ وَقَدْ صَارَ فَذًّا. (1135) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى الْقَارِئُ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ يَتَخَرَّمْ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، وَإِنْ كَانَ يُسِرُّ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَارِئِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ لَجَهَرَ.
وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَإِسْرَارُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نِسْيَانًا، أَوْ لِجَهْلِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَكْثَرَ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالِاحْتِمَالِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَرَأْتُ فِي الْإِسْرَارِ. صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ. وَيُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَلَوْ أَسَرَّ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْت قَرَأْت الْفَاتِحَةَ. لَزِمَهُ وَمَنْ وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: أَمَّا سَمِعْتُمُونِي قَرَأْتُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَا قَرَأْتُ فِي نَفْسِي. فَأَعَادَ بِهِمْ الصَّلَاةَ.
(1136) فَصْلٌ: وَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؛ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، أَوْ أَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ، كَالْأَلْثَغِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا، وَالْأَرَتِّ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، أَوْ يَلْحَنُ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى، كَاَلَّذِي يَكْسِرُ الْكَافَ مِنْ إيَّاكَ، أَوْ يَضُمُّ التَّاءَ مِنْ أَنْعَمْتَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِهِ، فَهُوَ كَالْأُمِّيِّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ. وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا أُمِّيَّانِ، فَجَازَ لِأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ، كَاَللَّذَيْنِ لَا يُحْسِنَانِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إصْلَاحِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ. (1137) فَصْلٌ: إذَا كَانَ رَجُلَانِ لَا يُحْسِنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْفَاتِحَةَ، وَأَحَدُهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْآخَرُ لَا يُحْسِنُ
(2/145)
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَهُمَا أُمِّيَّانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِائْتِمَامُ بِالْآخَرِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَؤُمَّ الَّذِي يُحْسِنُ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَأُ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا فِي الْجَهْلِ أَوْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِيهِ.
(1138) فَصْلٌ: تُكْرَهُ إمَامَةُ اللَّحَّان، الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِمَنْ لَا يَلْحَنُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، لَمْ يُمْنَعْ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، وَلَا الِائْتِمَامِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَتَعَمَّدَهُ، فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُمَا.
(1139) فَصْلٌ: وَمَنْ لَا يُفْصِحُ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، كَالضَّادِ وَالْقَافِ، فَقَالَ الْقَاضِي: تُكْرَهُ إمَامَتُهُ، وَتَصِحُّ، أَعْجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا، وَقِيلَ فِي مَنْ قَرَأَ {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بِالظَّاءِ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ الْمَعْنَى يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا: إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَلْثَغِ. وَتُكْرَهُ إمَامَةُ التَّمْتَامِ - وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ التَّاءَ -، وَالْفَأْفَاءِ، وَهُوَ مَنْ يُكَرِّرُ الْفَاءَ. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِالْحُرُوفِ عَلَى الْكَمَالِ، وَيَزِيدَانِ زِيَادَةً هُمَا مَغْلُوبَانِ عَلَيْهَا، فَعُفِيَ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُمَا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.
[مَسْأَلَةٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ مُشْرِكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ.]
(1140) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى خَلْفَ مُشْرِكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أَعَادَ الصَّلَاةَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ عَلِمَ بِكُفْرِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْ صَلَّى وَرَاءَهُ الْإِعَادَةُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَجْنُونٍ، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَدَثَ نَفْسِهِ، وَالْكَافِرُ يَعْلَمُ حَالَ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهَا الرَّجُلُ بِحَالٍ، فِي فَرْضٍ وَلَا نَافِلَةٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهَا. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيّ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونَ وَرَاءَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا» ، وَلِأَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ، فَلَمْ
(2/146)
يَجُزْ أَنْ تَؤُمَّهُمْ، كَالْمَجْنُونِ. وَحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّمَا أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا، كَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرَائِضِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا، وَالْأَذَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي الْفَرَائِضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُمْ فِي الْفَرَائِضِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالتَّرَاوِيحِ وَاشْتِرَاطَ تَأَخُّرِهَا تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ الْأُصُولَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِأُمِّ وَرَقَةَ، لَكَانَ خَاصًّا بِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِغَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، فَتَخْتَصُّ بِالْإِمَامَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَلَا يَؤُمُّ خُنْثَى مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً وَالْمَأْمُومُ رَجُلًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّهُ امْرَأَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا. قَالَ الْقَاضِي: رَأَيْت لِأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ أَنَّ الْخُنْثَى لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَ مَعَ الرِّجَالِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ قَامَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ أَوْ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَالَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً.
وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ مَأْمُومًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَامَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا. (1141) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ نِسَاءً أَجَانِبَ، لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ، وَأَنْ يَؤُمَّ النِّسَاءَ مَعَ الرِّجَالِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءً، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَسًا وَأُمَّهُ فِي بَيْتِهِمْ.
(1142) فَصْلٌ: إذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ، أَوْ كَوْنِهِ خُنْثَى، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، مَا لَمْ يَبِنْ كُفْرُهُ، وَكَوْنُهُ خُنْثَى مُشْكِلًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُصَلِّينَ الْإِسْلَامُ، سِيَّمَا إذَا كَانَ إمَامًا، وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ مِنْ كَوْنِهِ خُنْثَى، سِيَّمَا مَنْ يَؤُمُّ الرِّجَالَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ خُنْثَى مُشْكِلًا، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُسْلِمُ تَارَةً وَيَرْتَدُّ أُخْرَى، لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ عَلَى أَيِّ دِينٍ هُوَ، فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ إسْلَامَهُ، وَشَكَّ فِي رِدَّتِهِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَإِنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ، وَشَكَّ فِي إسْلَامِهِ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.
فَإِنْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ، فَصَلَّى خَلْفَهُ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: مَا كُنْت أَسْلَمْت أَوْ ارْتَدَدْت. لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ صَحِيحَةً حُكْمًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ هَذَا فِي إبْطَالِهَا؛
(2/147)
لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَإِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ عَلِمَ رِدَّتَهُ، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: قَدْ كُنْتُ أَسْلَمْتُ. قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. فَصْلٌ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا فِي الْمَسْجِدِ، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ صَلَّى فُرَادَى فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّهَا.» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِتَارَ بِالصَّلَاةِ، وَإِخْفَاءَ دِينِهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي حَقِّهِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» . وَقَالَ: «بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ.» فَجَعَلَ الصَّلَاةَ حَدًّا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَمَنْ صَلَّى فَقَدْ دَخَلَ فِي حَدِّ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي الْمَمْلُوكِ: «فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوكَ» .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إسْلَامٌ كَالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَالصِّيَامُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ مَنْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. (1144) فَصْلٌ: فَأَمَّا صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ، فَأَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ، وَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، كَانَ حَالَ شُرُوعِهِ فِيهَا غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَلَا مُتَطَهِّرٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ.
[مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسَاءِ]
(1145) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ صَلَّتْ امْرَأَةٌ بِالنِّسَاءِ قَامَتْ مَعَهُنَّ فِي الصَّفِّ وَسَطًا) . اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ، هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً؟ فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَؤُمُّ النِّسَاءَ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَكَرِهَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِنْ فَعَلَتْ
(2/148)
أَجْزَأَهُنَّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ: لَهُنَّ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: لَا تَؤُمُّ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَؤُمَّ أَحَدًا، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهَا الْأَذَانُ، وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْجَمَاعَةِ، فَكُرِهَ لَهَا مَا يُرَادُ الْأَذَانُ لَهُ.
وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ وَلِأَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ، فَأَشْبَهْنَ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُنَّ الْأَذَانُ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وَلَسْنَ مِنْ أَهْلِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِهِنَّ قَامَتْ فِي وَسَطِهِنَّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ مَنْ رَأَى لَهَا أَنْ تَؤُمَّهُنَّ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّسَتُّرُ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّجَافِي، وَكَوْنُهَا فِي وَسَطِ الصَّفِّ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ بِهِنَّ مِنْ جَانِبَيْهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ كَالْعُرْيَانِ، فَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ مَوْقِفَهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَهُ.
(1146) فَصْلٌ: وَتَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ رِجَالٌ لَا تَجْهَرُ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَلَا بَأْسَ.
فَصْلٌ: وَيُبَاحُ لَهُنًّ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ. يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ لَهَا وَأَفْضَلُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[فَصْلٌ إذَا أَمَّتْ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً]
(1148) فَصْلٌ: إذَا أَمَّتْ الْمَرْأَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً، قَامَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ يَمِينِهَا، كَالْمَأْمُومِ مَعَ الرِّجَالِ، وَإِنْ صَلَّتْ خَلْفَ رَجُلٍ قَامَتْ خَلْفَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ قَامَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا، كَمَا رَوَى «أَنَسٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ، وَكَانُوا فِي تَطَوُّعٍ،
(2/149)
قَامَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. كَمَا رَوَى أَنَسٌ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ، قَالَ: فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ وَقَفَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ وَقَفَا وَرَاءَهُ فَرَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ أَحْمَدَ تَوَقَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي. فَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ. فَقَالَ: ذَاكَ فِي التَّطَوُّعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الْفَرَائِضِ فَلَمْ يُصَافَّهُمْ كَالْمَرْأَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرَّجُلَ فِي النَّفْلِ فَصَحَّ فِي الْفَرْضِ، كَالْمُتَنَفِّلِ يَقِفُ مَعَ الْمُفْتَرِضِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ مُصَافَّتِهِ صِحَّةُ إمَامَتِهِ، بِدَلِيلِ الْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْمُفْتَرِضِ مَعَ الْمُتَنَفِّلِ، وَيُفَارِقُ الْمَرْأَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الرِّجَالَ فِي التَّطَوُّعِ وَيَؤُمَّهُمْ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي ثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ امْرَأَةٌ: يَقُومُونَ مُتَوَاتِرِينَ، بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَنَسٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ، إلَّا الْحَسَنَ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَقَوْلُ الْحَسَنِ يُفْضِي إلَى وُقُوفِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ فَذًّا، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ وَابِصَةَ وَعَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ. وَإِنْ اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فَصَفَّ الرِّجَالَ، ثُمَّ صَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (1149) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرِّجَالِ كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْوُقُوفِ إلَى جَانِبِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ. وَلَنَا، أَنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَنْهِيٌّ قُلْنَا: هِيَ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهَا، فَصَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى.
[مَسْأَلَةٌ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ]
(1150) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ذَا سُلْطَانٍ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا أُقِيمَتْ فِي بَيْتٍ، فَصَاحِبُهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ، إذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ إمَامَتُهُمْ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُمْ وَرَاءَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَحُذَيْفَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ
(2/150)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «وَلَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ ذُو سُلْطَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَسًا فِي بُيُوتِهِمَا.
(1151) فَصْلٌ: وَإِمَامُ الْمَسْجِدِ الرَّاتِبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالسُّلْطَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا لَهُ، وَعِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى لِابْنِ عُمَرَ، فَصَلَّى مَعَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، فَأَبَى، وَقَالَ: صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ. وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ» .
(1152) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ لِرَجُلٍ فِي الْإِمَامَةِ، جَازَ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَذِنَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّقَدُّمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إلَّا بِإِذْنِهِ ". وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَقٌّ لَهُ فَلَهُ نَقْلُهَا إلَى مَنْ شَاءَ، قَالَ أَحْمَدُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي الْكُلِّ، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ.
(1153) فَصْلٌ: وَإِنْ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَلَدًا لَهُ فِيهِ خَلِيفَةٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ خَلِيفَتِهِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى خَلِيفَتِهِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ اجْتَمَعَ الْعَبْدُ وَسَيِّدُهُ فِي بَيْتِ الْعَبْدِ فَالسَّيِّدُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَيِّدُهُ مَعَهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اجْتَمَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو ذَرٍّ فِي بَيْتِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ وَهُوَ عَبْدٌ، تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَرَاءَك. فَالْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَتَأَخَّرَ، وَقَدَّمُوا أَبَا سَعِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمْ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى وَالْمَنْفَعَةِ.
(1154) فَصْلٌ: وَالْمُقِيمُ أَوْلَى مِنْ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إمَامًا حَصَلَتْ لَهُ الصَّلَاةُ كُلُّهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ أَمَّهُ الْمُسَافِرُ احْتَاجَ إلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا. وَإِنْ ائْتَمَّ بِالْمُسَافِرِ جَازَ، وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ. فَإِنْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِينَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَفْلٌ
(2/151)
أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى إتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فَرْضًا.
[مَسْأَلَةٌ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ مَنْ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ]
(1155) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ مَنْ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ، إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، كَاَلَّذِي عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى دِكَّةٍ عَالِيَةٍ، أَوْ رَفٍّ فِيهِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَفَعَلَهُ سَالِمٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ يُعِيدُ الْجُمُعَةَ إذَا صَلَّى فَوْقَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَعْلُ الْإِمَامُ، فَصَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَلَا يُعْتَبَرُ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ إذَا كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَقْصَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ وَالْمُشَاهَدَةَ، أَنَّهُ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلْجَمَاعَةِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِيهِ فَقَدْ حَصَلَ فِي مَحَلِّ الْجَمَاعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، صَحَّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْإِمَامِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، كَثِيرًا كَانَ الْعُلُوُّ أَوْ قَلِيلًا، بِشَرْطِ كَوْنِ الصُّفُوفِ مُتَّصِلَةً وَيُشَاهِدُ مَنْ وَرَاءَ الْإِمَامِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُومُ فِي رَحْبَةِ الْجَامِعِ، أَوْ دَارٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ وَالْإِمَامُ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ، أَوْ كَانَا فِي صَحْرَاءَ، أَوْ فِي سَفِينَتَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ بِهِ، كَالْفَصْلِ الْيَسِيرِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَعْنَى اتِّصَالِ الصُّفُوفِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إمْكَانَ الِاقْتِدَاءِ.
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّ الِاتِّصَالَ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ مِائَةِ ذِرَاعٍ. وَالتَّحْدِيدَاتُ بَابُهَا التَّوْقِيفُ، وَالْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا نَصًّا نَرْجِعُ إلَيْهِ وَلَا إجْمَاعًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، كَالتَّفَرُّقِ وَالْإِحْرَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1156) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ. وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْغَالِبِ. وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ قَالَ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ
(2/152)
عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ إذَا قَطَعَ الصَّفَّ: لَا يَضُرُّ. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ، كَالْأَعْمَى، وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تُرَادُ لِلْعِلْمِ بِحَالِ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ، فَجَرَى مَجْرَى الرُّؤْيَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَحَلُّ الْجَمَاعَةِ، وَفِي مَظِنَّةِ الْقُرْبِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ.
وَلَنَا، أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ أَوْ الْمَانِعَ قَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ لَا يُشَاهِدُ أَنْ يَسْمَعَ التَّكْبِيرَ، لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، لَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ.
فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ اعْتَبَرْنَا الْمُشَاهَدَةَ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ مُشَاهَدَةُ مَنْ وَرَاءُ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ شَاهَدَهُ مِنْ بَابٍ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ شَاهَدَهُ طَرَفَ الصَّفِّ الَّذِي وَرَاءَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُشَاهَدَةُ تَحْصُلُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي حَالِ قِيَامِهِ. (1158) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، أَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ الِاتِّصَالَ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي مَنْعِ ذَلِكَ، وَلَا إجْمَاعَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ أَوْ سَمَاعَ الصَّوْتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا يَمْنَعُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصِحُّ فِي النَّهْرِ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي السَّفِينَةِ، وَإِذَا كَانَ جَامِدًا، ثُمَّ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّلَاةِ إنَّمَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهِ، أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ، لَا يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةَ جِنَازَةٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ صَلَّى أَنَسٌ فِي مَوْتِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَبَيْنَهُمَا طَرِيقٌ.
(2/153)
[مَسْأَلَةٌ ارْتِفَاعُ الْإِمَامِ عَنْ الْمَأْمُومِ]
(1159) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِ) . الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمْ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ.
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْتَارُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يُعَلِّمُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ، فَيَقْتَدُونَ بِهِ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَيْهِ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَانَ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ عَمَّارٌ فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ، وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارٌ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ، فَلَا يَقُومَنَّ فِي مَكَان أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» ؟ قَالَ عَمَّارٌ: فَلِذَلِكَ اتَّبَعْتُك حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ. وَعَنْ هَمَّامٍ، أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ، فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى، فَذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ يَؤُمُّ بِقَوْمٍ عَلَى مَكَان، فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ، فَنَهَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ لِلْإِمَامِ: اسْتَوِ مَعَ أَصْحَابِك.
وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ، فَيَنْظُرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، فَإِذَا كَانَ أَعْلَى مِنْهُ احْتَاجَ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَبِيرٍ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونَ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا وَنَهَى عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ لَهُ وَنَهْيُهُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُهُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ وَجُلُوسَهُ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. (1160) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْعُلُوِّ الْيَسِيرِ؛ لِحَدِيثِ سَهْلٍ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا
(2/154)
يَخُصُّ الْكَثِيرَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْيَسِيرُ مِثْلَ دَرَجَةِ الْمِنْبَرِ وَنَحْوِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1161) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَبْطُلُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ عَمَّارًا أَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ وَلَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً، لَاسْتَأْنَفَهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهَا، فَسَبَبُهُ أَوْلَى. (1162) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ هُوَ مُسَاوٍ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، وَمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ اخْتَصَّتْ الْكَرَاهَةُ بِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وُجِدَ فِيهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ النَّهْيُ الْإِمَامَ؛ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ الْقِيَامِ فِي مَكَان أَعْلَى مِنْ مَقَامِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ عِنْدَ مَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ.
[مَسْأَلَةٌ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَوْ قَامَ بِجَنْبِ الْإِمَامِ عَنْ يَسَارِهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ]
(1163) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، أَوْ قَامَ بِجَنْبِ الْإِمَامِ عَنْ يَسَارِهِ، أَعَادَ الصَّلَاةَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالْحَكَمِ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ. وَلَنَا، مَا رَوَى وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ وَابِصَةَ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَّتَ الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَفِي لَفْظٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ صَلَّى وَرَاءُ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ. قَالَ: يُعِيدُ» . رَوَاهُ تَمَّامٌ فِي " الْفَوَائِدِ ". وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ، أَنَّهُ «صَلَّى بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْصَرَفَ وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَك، وَلَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ.» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا أَيْضًا - حَسَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَوْقِفَ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَمَامَ الْإِمَامِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَاهُ فَقَالَ: " لَا تُعِدْ ".
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَوْقِفًا لِلْمَرْأَةِ كَوْنُهُ مَوْقِفًا لِلرَّجُلِ، بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي كَرَاهِيَةِ الْوُقُوفِ وَاسْتِحْبَابِهِ. وَأَمَّا إذَا وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَحَدٌ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى
(2/155)
بَيْنَ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ وَسَطَ الصَّفِّ مَوْقِفٌ لِلْإِمَامِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْعُرَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ أَحَدٌ فَصَلَاةُ مَنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَاسِدَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ لِلْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، خَالَفَ السُّنَّةَ.
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مَأْمُومٌ وَاحِدٌ جَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَارَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا، لَاسْتَأْنَفَ التَّحْرِيمَةَ، كَأَمَامِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَوْقِفٌ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ آخَرُ، فَكَانَ مَوْقِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آخَرُ كَالْيَمِينِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ جَانِبَيْ الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ.
وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَجِئْت، فَقُمْت فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَجِئْت، فَوَقَفْت عَنْ يَسَارِهِ، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِابْتِدَاءِ التَّحْرِيمَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَا يُؤَثِّرُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُحْرِمُ قَبْلَ الْمَأْمُومِينَ، وَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِمَا قَبْلَ إحْرَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُونَ يُحْرِمُ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْبَاقِينَ فَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ الْعَفْوُ عَنْ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَوْقِفٌ إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ آخَرُ. قُلْنَا: كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَوْقِفًا فِي أُخْرَى، كَمَا خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنَّهُ مَوْقِفٌ لِاثْنَيْنِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقِفًا لِوَاحِدٍ، فَإِنْ مَنَعُوا هَذَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّصِّ.
(1164) فَصْلٌ: فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ إمَامِهِ وَخَلْفَ الْإِمَامِ صَفٌّ، احْتَمَلَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ وَلِأَنَّ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ بِهِ، فَصَحَّ الْوُقُوفُ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْقِفٍ إذَا لَمْ يَكُنْ صَفٌّ،
(2/156)
فَلَمْ يَكُنْ مَوْقِفًا مَعَ الصَّفِّ كَأَمَامِ الْإِمَامِ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ آخَرُ، لِأَنَّهُ مَعَهُ فِي الصَّفِّ، فَكَانَ صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ كَانَ وَقَفَ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ. (1165) فَصْلٌ: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنْ وَقَفُوا قُدَّامَهُ، لَمْ تَصِحَّ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: تَصِحُّ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَنْ خَلْفَهُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ". وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْقُولِ. فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَيُفَارِقُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ.
(1166) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا ذَكَرًا، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ رَجُلًا كَانَ، أَوْ غُلَامًا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «سِرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً تَقَدَّمَ الْإِمَامُ، وَوَقَفَ الْمَأْمُومَانِ خَلْفَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنْ يَقِفُوا جَمِيعًا صَفًّا. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْرَجَ جَبَّارًا وَجَابِرًا، فَجَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، وَلَمَّا صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمِ جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَجَبَّارٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُمَا إلَى خَلْفِهِ، وَلَا يَنْقُلُهُمَا إلَّا إلَى الْأَكْمَلِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَأْمُومَيْنِ صَبِيًّا، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تَطَوُّعًا، جَعَلَهُمَا خَلْفَهُ، لِخَبَرِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا، جَعَلَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْغُلَامَ عَنْ يَسَارِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنْ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا عَنْ يَمِينِهِ جَازَ، وَإِنْ وَقَفَهُمَا خَلْفَهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُ، فَلَمْ يُصَافَّهُ كَالْمَرْأَةِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَنَفِّلِ، وَالْمُتَنَفِّلُ يَصِحُّ أَنْ يُصَافَّ الْمُفْتَرِضَ، كَذَا هَاهُنَا. (1167) فَصْلٌ: وَإِنْ أَمَّ امْرَأَةً وَقَفَتْ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . وَلِأَنَّ
(2/157)
أُمَّ أَنَسٍ وَقَفَتْ خَلْفَهُمَا وَحْدَهَا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلَانِ وَقَفَا خَلْفَهُ، وَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غُلَامًا فِي تَطَوُّعٍ، وَقَفَ الرَّجُلُ وَالْغُلَامُ وَرَاءَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً، فَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. وَتَقِفُ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا.
وَإِنْ وَقَفَتْ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ وَقَفَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُ، فَلَا تَكُونُ مَعَهُ صَفًّا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تَصِحُّ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ مَعَهُ مُفْتَرِضٌ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ مَعَهُ رَجُلٌ، وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَصِحُّ إمَامَتُهُ، بِدَلِيلِ الْقَارِئِ. مَعَ الْأُمِّيِّ، وَالْفَاسِقِ وَالْمُتَنَفِّلِ مَعَ الْمُفْتَرِضِ (1168) فَصْلٌ: إذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا، فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، أَدَارَهُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَحْرِيمَتُهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ.
وَإِنْ كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ، أَوْ تَقَدَّمَ إلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ فَكَبَّرَ أَحَدُهُمَا وَتَوَسْوَسَ الْآخَرُ، ثُمَّ كَبَّرَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، أَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ فَأَحَسَّ بِآخَرَ، فَتَأَخَّرَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ الثَّانِي، ثُمَّ أَحْرَمَ مَعَهُ أَوْ أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَاءَ آخَرُ، فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فِي الرَّجُلَيْنِ يَقُومَانِ خَلْفَ الْإِمَامِ، لَيْسَ خَلْفَهُ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ كَبَّرَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ خَافَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ، ذَاكَ فِي الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَأَمَّا هَذَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
وَلَوْ أَحْرَمَ رَجُلٌ خَلْفَ الصَّفِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الصَّفِّ رَجُلٌ فَوَقَفَ مَعَهُ، صَحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (1169) فَصْلٌ: وَإِنْ كَبَّرَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَكَبَّرَ عَنْ يَسَارِهِ، أَخْرَجَهُمَا الْإِمَامُ إلَى وَرَائِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَابِرٍ وَجَبَّارٍ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ ضَيِّقٌ. وَإِنْ تَقَدَّمَ، جَازَ، وَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ عَنْ الْيَمِينِ وَخَرَجَا، جَازَ. وَإِنْ دَخَلَ الثَّالِثُ، وَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ، كَبَّرَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا يَتَأَخَّرَانِ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً.
(1170) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ اثْنَانِ وَرَاءُ الْإِمَامِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا لِعُذْرٍ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، دَخَلَ الْآخَرُ فِي الصَّفِّ، أَوْ نَبَّهَ
(2/158)
رَجُلًا فَخَرَجَ مَعَهُ، أَوْ دَخَلَ فَوَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَوَى الِانْفِرَادَ، وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ حَدَثَ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَبَقَ إمَامَهُ الْحَدَثُ.
[فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمَأْمُومُ فَوَجَدَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً]
(1171) فَصْلٌ: إذَا دَخَلَ الْمَأْمُومُ، فَوَجَدَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً، دَخَلَ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْذِبَ رَجُلًا، فَيَقُومَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ نَبَّهَ رَجُلًا فَخَرَجَ فَوَقَفَ مَعَهُ. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، قَالَا: يَجْذِبُ رَجُلًا فَيَقُومُ مَعَهُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَاخْتَارَ هُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَجَازَ، كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَالَ الزِّحَامِ وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ لَهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانِكُمْ» . يُرِيدُ ذَلِكَ. فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ.
[فَصْلٌ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَيَتَقَدَّمُهُمَا]
(1172) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي الْإِمَامُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَيَتَقَدَّمُهُمَا. وَقَالَ: إذَا أَمَّ بِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ طَاهِرٍ، ائْتَمَّ الطَّاهِرُ مَعَهُ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا عَلِمَ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ، فَخَرَجَ، ائْتَمَّ الْآخَرُ إنْ كَانَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ يَمِينِهِ صَارَ عَنْ يَمِينِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ خَلْفَهُ، وَعَلِمَ الْمُحْدِثُ، فَإِنَّمَا الصَّلَاةُ لَمْ تَصِحَّ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُحْدِثُ بِحَدَثِهِ حَتَّى تَمَّتْ الصَّلَاةُ، صَحَّتْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامًا صَحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَأَنْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ أَوْلَى.
[فَصْلٌ وَقَفَ مَعَهُ كَافِرٌ أَوْ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ]
فَصْلٌ: (1173) وَمَنْ وَقَفَ مَعَهُ كَافِرٌ، أَوْ مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ تَصِحَّ مُصَافَّتُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ فَاسِقٌ، أَوْ مُتَنَفِّلٌ، صَارَ صَفًّا؛ لِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ صَلَاتُهُمَا صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ قَارِئٌ مَعَ أُمِّيٍّ، أَوْ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ مَعَ صَحِيحٍ، أَوْ مُتَيَمِّمٌ مَعَ مُتَوَضِّئٍ، كَانَا صَفًّا؛ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ، لَمْ يَكُنْ صَفًّا مَعَهُ، إلَّا مَنْ أَجَازَ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً.
(2/159)
(1174) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَحْدَهُ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقِفَهُ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ وَقَفَ فِي مَوْقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا بِوُقُوفِهَا مَعَ الْإِمَامِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِوُقُوفِهَا مَعَ الرِّجَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ، وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَالْخُنْثَى عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِ الرَّجُلِ، وَلَا يَقِفَا خَلْفَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، إلَّا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ مُصَافَّةَ الْمَرْأَةِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ رَجُلٌ آخَرُ، وَقَفَ الثَّلَاثَةُ خَلْفَهُ صَفًّا؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخُنْثَى خُنْثَى آخَرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَقِفُ الْخُنْثَيَانِ صَفًّا خَلْفَ الرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَا مَعَ الرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ رَجُلًا، فَلَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ، وَقَفْنَ خَلْفَ الْخَنَاثَى. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إذَا اجْتَمَعَ رِجَالٌ وَصِبْيَانٌ وَخَنَاثَى وَنِسَاءٌ، تَقَدَّمَ الرِّجَالُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ. وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَفَّ الرِّجَالَ، وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَلَاتُهُ» . قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: لَا أَحْسِبُهُ إلَّا قَالَ: " صَلَاةُ أُمَّتِي ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
[فَصْلٌ الْأَحَقّ بِالْوُقُوفِ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَمَنْ يَلِي الْإِمَامَ]
فَصْلٌ (1175) : السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أُولُو الْفَضْلِ وَالسِّنِّ، وَيَلِي الْإِمَامَ أَكْمَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ: يَلِي الْإِمَامَ الشُّيُوخُ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ، وَتُؤَخَّرُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ، وَلَا يَلُونَ الْإِمَامَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؛ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ: «تَقَدَّمُوا فَأَتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَحْمَدُ، فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: أَتَيْت الْمَدِينَةَ لِلِقَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَخَرَجَ عُمَرُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْت فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَعَرَفَهُمْ غَيْرِي، فَنَحَّانِي، وَقَامَ فِي مَكَانِي، فَمَا عَقَلْت صَلَاتِي، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَا يَسُؤْكَ اللَّهُ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الَّذِي
(2/160)
أَتَيْتُ بِجَهَالَةٍ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَنَا: «كُونُوا فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيَنِي» . وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَعَرَفْتُهُمْ غَيْرَك. وَكَانَ الرَّجُلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ.
[فَصْلٌ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ]
فَصْلٌ: (1176) وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ]
(1177) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَاقِ الْقِبْلَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا، وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَفَعَلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَلَنَا: أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ فَكُرِهَ، كَمَا لَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا.
(1178) فَصْلٌ: وَلَا يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ السَّوَارِي، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِينَ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ صُفُوفَهُمْ. وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي
(2/161)
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفَّ، فَإِنْ كَانَ الصَّفُّ صَغِيرًا قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا.
[مَسْأَلَةٌ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ جَالِسًا صَلَّى مَنْ وَرَاءَهُ جُلُوسًا]
(1179) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ جَالِسًا صَلَّى مَنْ وَرَاءَهُ جُلُوسًا) . الْمُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا مَرِضَ، وَعَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إمَامَتِهِ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ كَامِلَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ.
قُلْنَا: صَلَّى قَاعِدًا لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ، وَاسْتَخْلَفَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِأَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدًا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ غَيْرِهِ قَائِمًا. فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا جَازَ، وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَائِهِ جُلُوسًا، فَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَجَابِرٌ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ: لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ خَلْفَ الْقَاعِدِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَادِرِ عَلَيْهِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قِيَامًا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَأَجْلَسَاهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُهُ، كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ، أَنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ»
وَرَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ، أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى جَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَمِلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ
(2/162)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، كُلُّهَا بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ. وَلِأَنَّهَا حَالَةُ قُعُودِ الْإِمَامِ، فَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مُتَابَعَتُهُ، كَحَالِ التَّشَهُّدِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَمُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ فَعَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْآخَرِينَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا صَلَّوْا قِيَامًا. فَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا، وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، وَمَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجَبَ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا. وَقَالَ أَنَسٌ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ صَلَاةٌ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ» . قَالَ مَالِكٌ: الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى حَدِيثِ رَبِيعَةَ هَذَا، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ لَكَانَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ صَفًّا. (1180) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّوْا وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا، وَاَلَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا. لَمْ يَقْتَدُوا بِالْإِمَامِ، إنَّمَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّوْا جُلُوسًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَلَا تَقُومُوا وَالْإِمَامُ جَالِسٌ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا. فَقَعَدْنَا» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَلِأَنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَ إمَامِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ تَارِكَ الْقِيَامِ فِي حَالِ قِيَامِ إمَامِهِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلْقِيَامِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ أَشْبَهَ الْمَرِيضَ إذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْقُعُودِ، دُونَ الْعَالِمِ بِذَلِكَ، كَقَوْلِنَا فِي الَّذِي رَكَعَ دُونَ
(2/163)
الصَّفِّ. فَأَمَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَقَعَدَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ.
فَصْلٌ: وَلَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ إمَامَ الْحَيِّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: ذَلِكَ لِإِمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى تَقْدِيمِ عَاجِزٍ عَنْ الْقِيَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ. فَلَا يَتَحَمَّلُ إسْقَاطَ رُكْنٍ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يُرْجَى زَوَالُهُ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الزَّمِنِ، وَمَنْ لَا يُرْجَى قُدْرَتُهُ عَلَى الْقِيَامِ إمَامًا رَاتِبًا، يُفْضِي إلَى تَرْكِهِمْ الْقِيَامَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ.
[مَسْأَلَةٌ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ]
(1182) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، ائْتَمُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا.) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهِمْ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَالِسًا، أَتَمُّوا قِيَامًا، وَلَمْ يَجْلِسُوا.
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنْ بَدَأَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَزِمَهُ فِي جَمِيعِهَا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَالتَّنَازُعِ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا، وَإِنْ حَدَثَ مُبِيحُ الْقَصْرِ فِي أَثْنَائِهَا. (1183) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَخْلَفَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِنَا، ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ فَحَضَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي بَكْرٍ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: ذَلِكَ خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، فَإِنَّ انْتِقَالَ الْإِمَامِ مَأْمُومًا، وَانْتِقَالَ الْمَأْمُومِينَ مِنْ إمَامٍ إلَى آخَرَ، لَا يَجُوزُ إلَّا لِعُذْرٍ يُحْوِجُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ مَا يُحْوِجُ إلَى هَذَا، أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ لَهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَعِظَمِ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: مَنْ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ، وَيَقْعُدُ إلَى جَنْبِ الْإِمَامِ، يَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ الْإِمَامُ، وَيُصَلِّي لِلنَّاسِ قِيَامًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ.
وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَ هَذَا لَأَحَدٍ إلَّا لِلْخَلِيفَةِ؛
(2/164)
وَذَلِكَ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْخِلَافَةِ تَفْضُلُ رُتْبَةَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لِلْخَلِيفَةِ؛ لِأَنَّ خَلِيفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ مَقَامَهُ
[فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ]
(1184) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ فَمِثْلُهُ أَوْلَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا رَاتِبًا، وَلَا مَرْجُوًّا زَوَالُ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إمَامَتِهِ لَهُمْ تَرْكُ رُكْنٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ إمَامَتِهِ لِلْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ لِتَارِكِ رُكْنٍ مِنْ الْأَفْعَالِ إمَامَةُ أَحَدٍ]
(1185) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ لِتَارِكِ رُكْنٍ مِنْ الْأَفْعَالِ إمَامَةُ أَحَدٍ، كَالْمُضْطَجِعِ، وَالْعَاجِزِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ أَجَازَهُ الْمَرَضُ، فَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الِائْتِمَامِ، كَالْقَاعِدِ بِالْقِيَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَخَلَّ بِرُكْنٍ لَا يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ الِائْتِمَامُ بِهِ، كَالْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، وَحُكْمُ الْقِيَامِ حَقٌّ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ فِي النَّافِلَةِ، وَعَنْ الْمُقْتَدِينَ بِالْعَاجِزِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُصَلِّينَ خَلْفَ الْجَالِسِ بِالْجُلُوسِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْمُضْطَجِعِ لَا يَضْطَجِعُ. فَأَمَّا إنْ أَمَّ مِثْلَهُ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْمَطَرِ بِالْإِيمَاءِ، وَالْعُرَاةُ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً بِالْإِيمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالَ الْمُسَايَفَةِ.
[فَصْلٌ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ]
(1186) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ، بِالْمُتَيَمِّمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ مُتَيَمِّمًا، وَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصْحَابَهُ مُتَيَمِّمًا، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرُوهُ. وَلِأَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً صَحِيحَةً، فَأَشْبَهَ الْمُتَوَضِّئَ. وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الصَّحِيحِ بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَلَا غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِهَا: لِأَنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ مَعَ خُرُوجِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ فَتَيَمَّمَ لَهَا، جَازَ لِلطَّاهِرِ الِائْتِمَامُ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَمِّمِ لِلْحَدَثِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ، لَمْ يَصِحَّ الِائْتِمَامُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ. وَلَا يَجُوزُ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ وَلَا الْمُتَيَمِّمِ
(2/165)
بِعَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَاللَّابِسِ بِالْعَارِي، وَلَا الْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ. وَيَصِحُّ ائْتِمَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرَاةَ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا.
[فَصْلٌ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ]
(1187) فَصْلٌ: وَفِي صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا تَصِحُّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَحَنْبَلٍ. وَاخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، أَشْبَهَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ.
وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ. نَقَلَهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ جَاءَ فَنَسِيَ، فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِقَوْمٍ تِلْكَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَمَّا أَنْ صَلَّى رَكْعَةً، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ.
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَأَبِي رَجَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيِّ، وَهِيَ أَصَحُّ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ.
وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا تَقَعُ نَافِلَةً، وَقَدْ أَمَّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا رَجَاءٍ لِنُصَلِّيَ مَعَهُ الْأُولَى، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ صَلَّى، فَقُلْنَا: جِئْنَاك لِنُصَلِّيَ مَعَك. فَقَالَ: قَدْ صَلَّيْنَا وَلَكِنْ لَا أُخَيِّبُكُمْ، فَأَقَامَ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ اتَّفَقَتَا فِي الْأَفْعَالِ، فَجَازَ ائْتِمَامُ الْمُصَلِّي فِي إحْدَاهُمَا بِالْمُصَلِّي فِي الْأُخْرَى، كَالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ.
فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَالْمُرَادُ بِهِ، لَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . وَلِهَذَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ مَعَ اخْتِلَافِ نِيَّتِهِمَا،، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْجُمُعَةِ يُدْرِكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، يَنْوِي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ.
فَصْلٌ: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ وَرَاءَ الْمُفْتَرِضِ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْإِمَامِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهَا.
(2/166)
(1189) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَفِيهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ: نَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ جَوَازَهُ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْهُ. وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَمَا تَرَى إنْ صَلَّى فِي رَمَضَانَ خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي بِهِمْ التَّرَاوِيحَ؟ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَا يُعْجِبُنَا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ قَوْمٍ التَّرَاوِيحَ، وَيَأْتَمَّ بِهَا لِلْعَتَمَةِ. وَهَذِهِ فَرْعٌ عَلَى ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا. (1190) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي الْأَفْعَالِ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، أَوْ الْجُمُعَةِ، خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي غَيْرَهُمَا، وَصَلَاةِ غَيْرِهِمَا وَرَاءَ مَنْ يُصَلِّيهِمَا، لَمْ تَصِحَّ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى مُخَالَفَةِ إمَامِهِ فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. (1191) فَصْلٌ: وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ شَكَّ، هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ لَا؟ أَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ صَلَّاهَا، هَلْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا أَوْ قَبْلَهُ؟ لَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا، وَلَهُ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ مُفْتَرِضًا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَوُجُوبُ فِعْلِهَا، فَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا مُفْتَرِضًا، كَمَا لَوْ شَكَّ، هَلْ صَلَّى أَمْ لَا؟ وَلَوْ فَاتَتْ الْمَأْمُومَ رَكْعَةٌ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يُعْتَدُّ لِلْمَأْمُومِ بِالْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهَا سَهْوٌ وَغَلَطٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةٌ لَهُ، وَفَرْضٌ لِلْمَأْمُومِ. فَيُخَرَّجُ فِيهَا الرِّوَايَتَانِ. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَتَوَقَّفَ فِيهَا. وَالْأَوْلَى، أَنْ يُحْتَسَبَ لَهُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِهَا لَلَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَمْسًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْخَامِسَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ، وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ نَفْلًا، فَالصَّحِيحُ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ غَلَطٌ.
قُلْنَا: لَا يُخْرِجُهُ الْغَلَطُ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَفْلًا مُثَابًا فِيهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ» . وَإِنْ صَلَّى بِقَوْمٍ الظُّهْرَ يَظُنُّهَا الْعَصْرَ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي مَنَعَ فِيهَا ائْتِمَامَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. فَإِنْ ذَكَرَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَتَمَّهَا عَصْرًا، كَانَتْ لَهُ نَافِلَةً، وَإِنْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى الظُّهْرِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مُتَقَدِّمًا. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يُتِمُّهَا وَالْفَرْضُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.
[فَصْلٌ ائْتِمَامُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ]
(1192) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ
(2/167)
قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى إمَامَةِ الْمُتَنَفِّلِ لِلْمُفْتَرِضِ؛ وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَهَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمِهِ: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ. قَالَ: فَكُنْت أَؤُمُّهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.
وَلِأَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّهُمْ كَالْبَالِغِ. وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ حَالُ كَمَالٍ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ كَالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الصَّبِيِّ الْإِخْلَالُ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ حَالَ الْإِسْرَارِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ يُضَعِّفُ أَمْرَ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ مَرَّةً: دَعْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَيِّنٍ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ هَذَا، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ بُلُوغَ الْأَمْرِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ بِالْبَادِيَةِ فِي حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ بَعِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَقَوَّى هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَكُنْت إذَا سَجَدْت خَرَجَتْ اسْتِي. وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ.
(1193) فَصْلٌ: فَأَمَّا إمَامَتُهُ فِي النَّفْلِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا تَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَرْضِ. وَالثَّانِيَةُ، تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ يَؤُمُّ مُتَنَفِّلِينَ، وَلِأَنَّ النَّافِلَةَ يَدْخُلُهَا التَّخْفِيفُ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِهِ فِيهَا إذَا كَانَ مَأْمُومًا.
[فَصْلٌ يَؤُمّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ]
(1194) فَصْلٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاةٌ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا هُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ يَأْتِي الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ: أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(2/168)
وَقَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: إنَّكَ لَخَرُوطٌ. قَالَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَرِهَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَلَا بَأْسَ، حَتَّى يَكْرَهَهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسُنَّةٍ فَكَرِهَهُ الْقَوْمُ لِذَلِكَ، لَمْ تُكْرَهْ إمَامَتُهُ. قَالَ مَنْصُورٌ: أَمَا إنَّا سَأَلْنَا أَمْرَ الْإِمَامَةِ، فَقِيلَ لَنَا: إنَّمَا عَنَى بِهَذَا الظَّلَمَةَ فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ السُّنَّةَ فَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ.
[فَصْلٌ إمَامَةُ الْأَعْرَابِيِّ]
(1195) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْأَعْرَابِيِّ إذَا كَانَ يَصْلُحُ لَهَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَزٍ إمَامَتَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَؤُمُّهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، أَشْبَهَ الْمُهَاجِرَ، وَالْمُهَاجِرُ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِالْهِجْرَةِ، فَمَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَالْحَضَرِيُّ أَوْلَى مِنْ الْبَدَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إمَامَتِهِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ جَفَاؤُهُمْ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُدُودِ اللَّهِ.
[فَصْلٌ إمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا]
فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا إذَا سَلِمَ دِينُهُ. قَالَ عَطَاءٌ: لَهُ أَنْ يَؤُمَّ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا رَاتِبًا. وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ إمَامَتَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَوْضِعُ فَضِيلَةٍ، فَكُرِهَ تَقْدِيمُهُ فِيهَا كَالْعَبْدِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَقَالَ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَالْعَبْدُ لَا تُكْرَهُ إمَامَتُهُ، وَإِنَّمَا الْحُرُّ أَوْلَى مِنْهُ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي أَحْكَامِهِ، لَا يَلِي النِّكَاحَ وَلَا الْمَالَ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، بِخِلَافِ هَذَا. (1197) فَصْلٌ: وَلَا تُكْرَهُ إمَامَةُ الْجُنْدِيِّ وَالْخَصِيِّ إذَا سَلِمَ دِينُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ.
(2/169)
[فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَالَهُمَا]
(1198) فَصْلٌ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ حَالَهُمَا، فَيَنْوِي الْإِمَامُ أَنَّهُ إمَامٌ، وَالْمَأْمُومُ أَنَّهُ مَأْمُومٌ، فَإِنْ صَلَّى رَجُلَانِ يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ، فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ. نُصَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَأَمَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ رَأَى رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ، فَنَوَى الِائْتِمَامَ بِالْمَأْمُومِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهُ. وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ، حَتَّى يُعَيِّنَ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ شَرْطٌ.
وَإِنْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِهِمَا مَعًا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ، وَلِأَنَّهُ نَوَى الِائْتِمَامَ بِاثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَلَوْ نَوَى الِائْتِمَامَ بِإِمَامَيْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُمَا مَعًا.
[فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ فَنَوَى إمَامَتَهُ]
(1199) فَصْلٌ: وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ، فَنَوَى إمَامَتَهُ، صَحَّ فِي النَّفْلِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْت لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ فَتَوَضَّأْتُ مِنْ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدَيْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ إلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَحَدًا كَإِمَامِ الْمَسْجِدِ يُحْرِمُ وَحْدَهُ وَيَنْتَظِرُ مَنْ يَأْتِي فَيُصَلِّي مَعَهُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ وَحْدَهُ، ثُمَّ جَاءَ جَابِرٌ وَجُبَارَةُ فَأَحْرَمَا مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمَا، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَلَاةً مَفْرُوضَةً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمَأْمُومٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: فِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ. مَعَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُقَوِّيهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي النَّفْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَالْأَصْلُ مُسَاوَاةُ الْفَرْضِ لِلنَّفْلِ فِي النِّيَّةِ، وَقَوَّى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ وَجُبَارَةَ فِي الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى نَقْلِ النِّيَّةِ إلَى الْإِمَامَةِ فَصَحَّ كَحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَبَيَانُ الْحَاجَةِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ إذَا جَاءَ قَوْمٌ فَأَحْرَمُوا وَرَاءَهُ، فَإِنْ قَطَعَ الصَّلَاةَ وَأَخْبَرَ بِحَالِهِ قَبُحَ، وَكَانَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ كَانَ أَقْبَحَ وَأَشَقَّ.
وَلِأَنَّ الِانْفِرَادَ أَحَدُ حَالَتَيْ عَدَمِ الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ
(2/170)
مِنْهَا إلَى الْإِمَامَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَأْمُومًا، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِحَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ.
[فَصْلٌ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ نَوَى جَعْلَ نَفْسِهِ مَأْمُومًا]
(1200) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ نَوَى جَعْلَ نَفْسِهِ مَأْمُومًا، بِأَنْ يَحْضُرَ جَمَاعَةً، فَيَنْوِيَ الدُّخُولَ مَعَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، هُوَ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، أَوْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى جَعْلِهِ مَأْمُومًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْإِمَامِ، وَفَارَقَ نَقْلَهُ إلَى الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، يَنْوِي الظُّهْرَ، ثُمَّ جَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ: سَلَّمَ مِنْ هَذِهِ، وَتَصِيرُ لَهُ تَطَوُّعًا، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْقَوْمِ، وَاحْتَسَبَ بِهِ. قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ.
[فَصْلٌ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ]
(1201) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ نَوَى مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ، وَإِتْمَامَهَا مُنْفَرِدًا لِعُذْرٍ، جَازَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَصَلَّى مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَتَأَخَّرَ رَجُلٌ فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: نَافَقْت يَا فُلَانُ. قَالَ: مَا نَافَقْت، وَلَكِنْ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُخْبِرُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ مَرَّتَيْنِ اقْرَأْ سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا، قَالَ: وَسُورَةَ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ، وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يَخْرُجُ لِأَجْلِهَا، مِثْلُ الْمَشَقَّةِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ، أَوْ الْمَرَضِ، أَوْ خَشْيَةِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ، أَوْ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ مَالٍ أَوْ تَلَفِهِ، أَوْ فَوْتِ رُفْقَتِهِ، أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ الصَّفِّ لَا يَجِدُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ إمَامِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمُنْفَرِدُ كَوْنَهُ مَأْمُومًا لَصَحَّ فِي رِوَايَةٍ، فَنِيَّةُ الِانْفِرَادِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهُوَ الْمَسْبُوقُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ، وَغَيْرُهُ لَا يَصِيرُ مَأْمُومًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِحَالِ.
(2/171)
[فَصْلٌ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ صَارَ إمَامًا أَوْ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامِ آخَر]
(1202) فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا، ثُمَّ صَارَ إمَامًا، أَوْ نَقَلَ نَفْسَهُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ آخَرَ، جَازَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا. وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يُدْرِكَ اثْنَانِ بَعْضَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إمَامُ صَاحِبِهِ، أَوْ مَأْمُومٌ لَهُ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ الِائْتِمَامَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إذَا اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مَنْ يُصَلِّي، ثُمَّ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، فَتَقَدَّمَ فَصَارَ إمَامًا، وَبَنَى عَلَى صَلَاةِ خَلِيفَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، قَدْ ذَكَرْنَاهَا.
[مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ]
(1203) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرَةَ: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» قِيلَ لَهُ: لَا تَعُدْ. وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ النَّهْيِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ، وَنَصَّ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ، لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» .
وَالثَّانِي، أَنْ يَدِبَّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ آخَرُ فَيَقِفَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ. وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي رُكُوعِ الرَّجُلِ دُونَ الصَّفِّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَفَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَجَوَّزَهُ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الصَّفِّ.
الْحَالُ الثَّالِثُ، إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَوَقَفَ مَعَهُ قَبْلَ إتْمَامِ الرَّكْعَةِ، فَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " وَنَصُّ أَحْمَدَ ". فَمَتَى كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ عَلِمَ، لَمْ تَصِحَّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَمْ يُفَرِّقْ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَفَعَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ، فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ
(2/172)
، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، قَالَ: «أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» .
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْعَوْدِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الصَّلَاةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَعُودُ النَّهْيُ إلَى الْمَذْكُورِ، وَالْمَذْكُورُ الرُّكُوعُ دُونَ الصَّفِّ، وَلَمْ يَنْسُبهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّهَاوُنِ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إلَى الْحِرْصِ، وَدَعَا لَهُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ، فَكَيْفَ يَنْهَاهُ عَنْ التَّهَاوُنِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى ضِدِّهِ؟
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ فِي الصَّفِّ مَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ، عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا يَرْكَعْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مَقَامَهُ مِنْ الصَّفِّ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ثُمَّ دَخَلَ، وَبَيْنَ مِنْ دَخَلَ فِيهِ رَاكِعًا، وَكَذَلِكَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا. (1204) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ هَذَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا خَشِيَ الْفَوَاتَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْزِ مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِ حَالَ الْعُذْرِ، كَالرَّكْعَةِ كُلِّهَا.
وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِكَوْنِهِ يَفُوتُهُ فِي الصَّفِّ مَا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ فِي الْمَعْذُورِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، فَفِي غَيْرِهِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
[فَصْل أَحَسَّ الْإِمَام بِدَاخِلِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ]
(1205) فَصْلٌ: إذَا أَحَسَّ بِدَاخِلٍ، وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ، يُرِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ، وَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً، كُرِهَ انْتِظَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ يَسِيرَةً، وَكَانَ انْتِظَارُهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، كُرِهَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الدَّاخِلِ، فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ لِنَفْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ لِكَوْنِهِ يَسِيرًا، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: يَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَظِرُهُ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَا يُشْرَعُ، كَالرِّيَاءِ. وَلَنَا، أَنَّهُ انْتِظَارٌ يَنْفَعُ وَلَا يَشُقُّ، فَشُرِعَ، كَتَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ وَتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى حَتَّى لَا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَمٍ.
وَأَطَالَ السُّجُودَ حِينَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَقَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ» . وَقَالَ: «إنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا
(2/173)
فِي الصَّلَاةِ فَأُخَفِّفُهَا كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» . وَقَالَ: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ» . وَشُرِعَ الِانْتِظَارُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِتُدْرِكَهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، وَلِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ، فَقَالَ جَابِرٌ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ» وَبِهَذَا كُلِّهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّشْرِيكِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَالِانْتِظَارُ جَائِزٌ، غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ مَنْ كَانَ ذَا حُرْمَةٍ، كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ
[مَسْأَلَة سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ]
(1206) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ) . وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ إلَى سُتْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ بَيْتٍ صَلَّى إلَى الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَاءٍ صَلَّى إلَى شَيْءٍ شَاخِصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ نَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةً أَوْ عَصًا، أَوْ عَرَضَ الْبَعِيرَ فَصَلَّى إلَيْهِ، أَوْ جَعَلَ رَحْلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ: يُصَلِّي الرَّاحِلُ إلَى سُتْرَةٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، وَيُعْرَضُ الْبَعِيرُ فَيُصَلِّي إلَيْهِ» ، وَرَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكِّزَتْ لَهُ الْعَنَزَةُ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، لَا يُمْنَعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ.
قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكْت مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُنْتَهَى إلَى قَوْلِهِمْ؛ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَغَيْرُهُمْ، يَقُولُونَ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِنَصْبِ سُتْرَةٍ أُخْرَى.
وَفِي حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(2/174)
يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ أَهْلِ الصَّفِّ، فَنَزَلْت، فَأَرْسَلْت الْأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْت فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ. أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ شَيْءٌ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّهَا مُرُورُ شَيْءٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ فِي بَعْضِ الصَّفِّ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ مَرَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَسُتْرَتِهِ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَصَلَاتَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «هَبَطْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - يَعْنِي فَصَلَّى إلَى جُدُرٍ - فَاِتَّخَذَهَا قِبْلَةً، وَنَحْنُ خَلْفَهُ، فَجَاءَتْ بَهْمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا زَالَ يَدْرَؤُهَا حَتَّى لَصِقَ بَطْنُهُ بِالْجُدُرِ، فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
فَلَوْلَا أَنَّ سُتْرَتَهُ سُتْرَةٌ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مُرُورِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ فَرْقٌ.
[فَصْلٌ قَدْرُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلَّيْ]
(1207) فَصْلٌ: وَقَدْرُ السُّتْرَةِ فِي طُولِهَا ذِرَاعٌ أَوْ نَحْوُهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ آخِرَةِ الرَّحْلِ كَمْ مِقْدَارُهَا؟ قَالَ: ذِرَاعٌ. كَذَا قَالَ عَطَاءٌ: ذِرَاعٌ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا قَدْرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لَا التَّحْدِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَهَا بِآخِرَةِ الرَّحْلِ، وَآخِرَةُ الرَّحْلِ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَتَارَةً تَكُونُ ذِرَاعًا، وَتَارَةً تَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ، فَمَا قَارَبَ الذِّرَاعَ أَجْزَأَ الِاسْتِتَارُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا قَدْرُهَا فِي الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ فَلَا حَدَّ لَهُ نَعْلَمُهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَقِيقَةً كَالسَّهْمِ وَالْحَرْبَةِ، وَغَلِيظَةً كَالْحَائِطِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْعَنَزَةِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنَّا نَسْتَتِرُ بِالسَّهْمِ وَالْحَجَرِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَبْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَتِرُوا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِئْهُ السَّهْمُ وَالسَّوْطُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَمَا كَانَ أَعْرَضَ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ " وَلَوْ بِسَهْمٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْنُوَ مِنْ سُتْرَتِهِ]
(1208) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْنُوَ مِنْ سُتْرَتِهِ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أَبِي
(2/175)
سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مَمَرُّ الشَّاةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ» . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ " أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا مُتَنَائِيًا عَنْ السُّتْرَةِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُصَلِّي، اُدْنُ مِنْ سُتْرَتِكَ. فَجَعَلَ مَالِكٌ يَتَقَدَّمُ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] . وَلِأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ السُّتْرَةِ أَصُونُ لِصَلَاتِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي، كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ؟ قَالَ يَدْنُو مِنْ الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» .
قَالَ الْمَيْمُونِي: فَقَدْ رَأَيْتُك عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ. قَالَ: بِالسَّهْوِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. قَالَ عَطَاءٌ: أَقَلُّ مَا يَكْفِيك ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ» . وَكَلَّمَا دَنَا فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى.
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الْمُصَلِّي بِبَعِيرِ أَوْ حَيَوَانٍ]
(1209) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِبَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَسْتَتِرُ بِدَابَّةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى بَعِيرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ، وَيُصَلِّي إلَيْهَا. قَالَ: قُلْت: فَإِذَا ذَهَبَ الرِّكَابُ؟ قَالَ: يَعْرِضُ الرَّحْلَ، وَيُصَلِّي إلَى آخِرَتِهِ، فَإِنْ اسْتَتَرَ بِإِنْسَانٍ فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ مِنْ السُّتْرَةِ»
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا يُصَلِّي، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، وَبَسَطَ يَدَيْهِ هَكَذَا. وَقَالَ: صَلِّ، وَلَا تُعَجِّلْ. وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَلِّنِي ظَهْرَكَ. رَوَاهُمَا النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ.
(2/176)
[فَصْلٌ لَمْ يَجِدْ الْمُصَلَّيْ سُتْرَةً]
(1210) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً خَطَّ خَطًّا، وَصَلَّى إلَيْهِ، وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ السُّتْرَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْخَطَّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْخَطِّ بِالْعِرَاقِ، وَقَالَ بِمِصْرَ: لَا يَخُطُّ الْمُصَلِّي خَطًّا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُنَّةٌ تُتَّبَعُ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ.
(1211) فَصْلٌ: وَصِفَةُ الْخَطِّ مِثْلُ الْهِلَالِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَطِّ فَقَالَ: هَكَذَا عَرْضًا مِثْلَ الْهِلَالِ. قَالَ: وَسَمِعْت مُسَدِّدًا، قَالَ: قَالَ ابْنُ دَاوُد: الْخَطُّ بِالطُّولِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: قَالُوا: طُولًا، وَقَالُوا: عَرْضًا. وَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ هَذَا. وَدَوَّرَ بِإِصْبَعِهِ مِثْلَ الْقَنْطَرَةِ.
وَكَيْفَ مَا خَطَّهُ أَجْزَأَهُ، فَقَدْ نَقَلَ حَنْبَلٌ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ مُعْتَرِضًا، وَإِنْ شَاءَ طُولًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي الْخَطِّ، فَكَيْفَ مَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْخَطِّ، فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (1212) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَصَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ نَصْبُهَا. فَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَهُ عَصًا، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَرْزِهَا، فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيُلْقِيهَا طُولًا أَمْ عَرْضًا؟ قَالَ: لَا، بَلْ عَرْضًا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَكَرِهَهُ النَّخَعِيُّ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَطِّ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ الْخَطِّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ.
[فَصْلٌ إذَا صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فِي مَعْنَاهُمَا]
(1213) فَصْلٌ: وَإِذَا صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فِي مَعْنَاهُمَا، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ إلَى عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ، إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمَدًا. أَيْ لَا يَسْتَقْبِلُهُ فَيَجْعَلُهُ وَسَطًا» . وَمَعْنَى الصَّمَدِ: الْقَصْدُ.
(2/177)
[فَصْلٌ الصَّلَاةُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ وَالنَّائِمِ]
(1214) فَصْلٌ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ، لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِحَدِيثِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً، وَلَا يُكْرَهُ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا فِي التَّطَوُّعِ، وَالْفَرِيضَةُ أَشَدُّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَخَرَجَ التَّطَوُّعُ مِنْ عُمُومِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، بَقِيَ الْفَرْضُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ ضَعِيفٌ. قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ إلَّا فِي صَلَاةِ الرَّاكِبِ.
وَتَقْدِيمُ قِيَاسِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ الضَّعِيفِ.
[فَصْلٌ الصَّلَاة مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ]
(1215) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي حِذَاءَ وَسَطِ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلَّ انْسِلَالًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ شِبْهُ السُّجُودِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى نَارٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ التَّنُّورُ فِي قِبْلَتِهِ لَا يُصَلِّي إلَيْهِ.
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ يَكُونُ فِي الْقِبْلَةِ: أَكْرَهُهُ. وَأَكْرَهُ كُلَّ شَيْءٍ. حَتَّى كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا شَيْئًا فِي الْقِبْلَةِ حَتَّى الْمُصْحَفَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّارَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالصَّلَاةُ إلَيْهَا تُشْبِهُ الصَّلَاةَ لَهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُصَلِّ إلَى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ فِي وَجْهِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّورَةَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ لَنَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَجَعَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَانِي. أَوْ قَالَتْ: كَرِهَ ذَلِكَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، بِإِسْنَادِهِ. وَلِأَنَّ التَّصَاوِيرَ تَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا، وَتُذْهِلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ مُعَلَّقٌ، مُصْحَفٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا بِالْأَرْضِ. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَدَعُ شَيْئًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ إلَّا نَزَعَهُ، لَا سَيْفًا وَلَا مُصْحَفًا. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يُكْتَبُ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، وَرُبَّمَا اشْتَغَلَ بِقِرَاءَتِهِ عَنْ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَزْوِيقُهَا، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: «اذْهَبُوا بِهَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي. وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: «أَمِيطِي عَنَّا
(2/178)
قِرَامَك، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْخُشُوعِ، يَشْغَلُهُ ذَلِكَ، فَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى.
[فَصْل الصَّلَاة وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ تُصَلِّي]
(1216) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ؛ تُصَلِّي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» . فَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُكْرَهُ؛ لِخَبَرِ عَائِشَةَ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ كَانَتْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَافِرٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَجَسٌ.
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ]
(1217) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ، قِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يُصَلِّي بِمَكَّةَ، وَلَا يَسْتَتِرُ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى ثَمَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ سُتْرَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا، كَأَنَّ مَكَّةَ مَخْصُوصَةٌ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْمُطَّلَبِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حِيَالَ الْحِجْرِ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمُطَّلَبِ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ، جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ الرُّكْنَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ السَّقِيفَةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْهِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ يُصَلِّي، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَمُرُّ الْمَرْأَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَنْتَظِرهَا حَتَّى تَمُرَّ، ثُمَّ يَضَعُ جَبْهَتَهُ فِي مَوْضِعِ قَدَمِهَا. رَوَاهُ حَنْبَلٌ، فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ ".
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ، قُلْت لِطَاوُسٍ: الرَّجُلُ يُصَلِّي - يَعْنِي بِمَكَّةَ - فَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: أُوَلًا يَرَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَإِذَا هُوَ يَرَى أَنَّ لِهَذَا الْبَلَدِ حَالًا لَيْسَ
(2/179)
لِغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ، وَيَزْدَحِمُونَ فِيهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَكَّةَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ وَيَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَوْ مَنَعَ الْمُصَلِّي مَنْ يَجْتَازُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَحُكْمُ الْحَرَمِ كُلِّهِ حُكْمُ مَكَّةَ فِي هَذَا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنَى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَحِلُّ الْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ، فَجَرَى مَجْرَى مَكَّةَ فِي مَا ذَكَرْنَاهُ. فَصْلٌ: وَلَوْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْن يَدَيْهِ شَيْءٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي بَادِيَتِهِمْ فَصَلَّى إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ. وَلِأَنَّ السُّتْرَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَا خَطٌّ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ: أَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يُجَزِّئهُ.
[مَسْأَلَةٌ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلْيَرْدُدْهُ]
(1219) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلْيَرْدُدْهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَمْ يَمُرّ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو جَهْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمِ: «لَأَنْ يَقِفَ أَحَدُكُمْ مِائَةَ عَامٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي» . وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي شَيْطَانًا، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْن نِمْرَانِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا بِتَبُوك مُقْعَدًا، فَقَالَ: «مَرَرْت بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ فَمَا مَشَيْت عَلَيْهَا بَعْدُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «قَطَعَ صَلَاتَنَا، قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ» .
وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، فَلَهُ مَنَعَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَالِم. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا
(2/180)