الأسئلة(73/7)
كيفية العدل في النفقة بين الزوجات إذا كان لإحداهن أولاد
السؤال
إذا كان عند رجل أكثر من امرأة، وإحداهن عندها أطفال، والأخريات ليس عندهن أطفال، هل يقال: بأنه لا بد من أن يعطي لجميع النساء مبلغاً واحداً من المال، أم أن المرأة التي عندها أولاد تستحق أكثر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يعطي الزوجات قدر حاجتهن، ويعطي الأولاد قدر حاجتهم، الأولاد نفقتهم نفقة أقارب، والزوجات نفقتهن نفقة معاوضة، فيسوي بين الزوجات في النفقة التي تخصهن، وأما الأولاد فيعطي أم أولاده نفقة أولادها، والتي ليس لها أولاد لا تطالبه ولا تقول: أعطوني مثل فلانة.
يقول: ما أعطيتها شيئاً، إنما أعطيت أولادي.(73/8)
حكم التحاكم إلى المحاكم الأوروبية عند الخلاف الزوجي
السؤال
وهذه سائلة من بريطانيا تقول: إنه في حالة حصول خلاف بين الزوج والزوجة فإن المحاكم الأوروبية تحكم أن يلحق الأبناء بالأم، فهل يجوز التحاكم إلى المحاكم الأوروبية في حال حصول خلاف بين الزوجين؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
شرعاً لا يجوز، الأولاد يتبعون آباءهم، والنفقة على أبيهم لا على أمهم، ولكن إذا طلبت أن تحضن أولادها، وأبرأت الزوج من نفقتهم فلها ذلك.(73/9)
معايير قبول الزوج
السؤال
معايير قبول الزوج هي الرضا بالخلق والدين؟ فما هو الضابط الشرعي أو المقياس بالنسبة للدين؟ هل هو الصلاة فقط أو الاستقامة على دين الله عموماً؟
الجواب
لا شك أن المقياس هو الاستقامة، ليس مجرد الصلاة، فلا بد من الأعمال المفروضة، ولا بد من ترك المحرمات، ولا بد من ترك ما يحذر من الأعمال كالشركيات وما أشبهها.(73/10)
وجوب النفقة على جميع الأبناء إذا كان لهم أم
السؤال
إذا كان هناك أم لها عدد من الأبناء، وتوفي زوجها، فعلى من تجب نفقتها من الأبناء؛ علماً بأن جميع أبنائها كبار في السن، وقادرون على النفقة عليها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
توزع عليهم إذا تشاحوا، وإن تبرع أحدهم وقال: أنا أقوم بنفقة والدتي، فله أجر، وإذا تشاحوا قسمت النفقة على كل واحد منهم قسطه، إن كانوا ثلاثة تقاسموها أثلاثاً، أو كل واحد منهم ينفق عليها شهراً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.(73/11)
شرح أخصر المختصرات [74]
أوجب الله النفقة على الزوجة والولد، وأمر بالإحسان إليهما، وإذا اختلف الزوجان وبينهما طفل فافترقا فإن الشرع لم يترك الطفل معرضاً للضياع؛ بل أوجب حضانته ورعايته، وجعل لذلك قانوناً معروفاً في تقديم الأحق بالحضانة، حتى لا يضيع الطفل ويترك.(74/1)
بقية أحكام النفقة على الأقارب
قال رحمه الله تعالى: [وتسقط بمضي زمن ما لم يفرضها حاكم أو تستدن بإذنه، وإن امتنع من وجبت عليه رجع عليه مُنفقٌ بنية الرجُوع، وهي على كُل بقدر إرثه، وإن كان أبٌ انفرد بها.
وتجبُ عليه لرقيقه ولو آبقًا وناشزًا، ولا يُكلفُهُ مشقاً كثيرًا، ويُريحُهُ وقت قائلةٍ ونومٍ ولصلاة فرضٍ، وعليه علفُ بهائمه وسقيُها.
وإن عجز أُجبر على بيعٍ أو إجارةٍ، أو ذبح مأكُولٍ، وحرُم تحميلُها مُشقاً ولعنُها وحلبُها ما يضُر بولدها، وضربُ وجهٍ ووسمٍ فيه، ويجُوزُ في غيره لغرضٍ صحيحٍ.
فصل وتجبُ الحضانةُ لحفظ صغيرٍ ومجنُونٍ ومعتُوهٍ.
والأحق بها أُمٌ، ثُم أُمهاتُها القُربى فالقُربى، ثُم أبٌ، ثُم أُمهاتُهُ كذلك، ثُم جد، ثُم أُمهاتُهُ كذلك، ثُم أُختٌ لأبوين، ثُم لأم، ثُم لأبٍ، ثُم خالةٌ، ثُم عمةٌ، ثُم بنتُ أخٍ وأُختٍ، ثُم بنتُ عم وعمةٍ، ثُم بنتُ عم أبٍ وعمته على ما فُصل، ثُم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب، وشُرِط كونُهُ محرمًا لأنثى، ثُم لذي رحمٍ، ثُم لحاكمٍ.
ولا تثبت لمن فيه رق، ولا لكافرٍ على مُسلمٍ، ولا لفاسقٍ، ولا لمُزوجةٍ بأجنبي من محضُونٍ من حين عقدٍ.
وإن أراد أحدُ أبويه نقلة إلى بلدٍ آمنٍ، وطريقه مسافةُ قصرٍ فأكثر ليسكُنهُ، فأبٌ أحق، أو إلى قريبٍ للسكنى فأُم، ولحاجةٍ مع بُعدٍ أو لا فمُقيمٌ.
وإذا بلغ صبي سبع سنين عاقلاً خُير بين أبويه.
ولا يُقر محضُونٌ بيد من لا يصُونُهُ ويُصلحُهُ.
وتكُونُ بنتُ سبعٍ عند أبٍ، أو من يقُومُ مقامهُ إلى زفافٍ] .(74/2)
متى تسقط النفقة على الأقارب بمضي الزمان
النفقة: هي تأمين القوت والغذاء لمن تجب عليه نفقته، وقد عرفنا أن نفقة الأقارب إنما هي سد الحاجة والفاقة، وليست معاوضة؛ ولهذا تسقط بمضي الزمان، بمعنى أنه إذا لم ينفق في مدة مضت فليس للمنفق عليه مطالبته، مثال ذلك: إذا وجبت عليه النفقة لأبويه، ولم ينفق لغيبة أو لانشغال، ومضى عليهما شهر وهو لم ينفق عليهما، وقد أنفق عليهما بعيد أو سألا، ثم جاء ابنهما، فليس لهما مطالبته بنفقة ما مضى.
وكذلك لو غاب عن أولاده، وأنفقوا على أنفسهم، أو أنفق عليهم متبرع، فإذا جاء بعد شهر أو بعد شهرين فليس لهم مطالبته بنفقة ما مضى.
وكذلك نفقة الإخوة لأب أو لأبوين أو لأم، إذا ترك الإنفاق عليهم، إما لسوء معاملة، وإما لغيبة، ثم جاء بعد شهر أو شهرين، قد يقول أخوه: أعطني نفقة الشهرين الماضية، فإني اقترضت، أو سألت الناس، أو تكلفت واحترفت.
فليس له أن يطالبه بنفقة الشهر الماضي أو الأشهر الماضية؛ لأن النفقة إنما هي سد فاقة، وقد حصل.
وذكروا من ذلك نفقة المرأة الحامل إذا طلقها ثلاثاً؛ فإن النفقة تسقط بمضي زمان؛ لأن النفقة لأجل الحمل، فإذا قالت: تركت الإنفاق علي، والله يقول: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] وأنت تركت الإنفاق علي خمسة أشهر أو عشرة أشهر، أعطني نفقة الماضي.
لا تطالبه بذلك؛ لأنها نفقة قريب، وهي تسقط بمضي الزمان.
وكذلك نفقة بقية الأقارب تسقط بمضي الزمان.(74/3)
الرجوع على القريب في النفقة إذا أنفق الأجنبي بنية الرجوع
يقول هنا: (وإن امتنع من وجبت عليه رجع عليه مُنفقٌ بنية الرجُوع) .
صورة ذلك: إذا امتنع الوالد من النفقة على أولاده؛ إما لإعسار؛ وإما لغيبة؛ وإما لسخط على أولاده، وقال: لا أنفق عليكم، موتوا جوعاً.
ثم إن أحد الجيران أخذ ينفق عليهم ويحسب، أنفقت عليهم في شهرٍ كذا ألفاً، وفي الشهر الذي بعده ثمانمائة، وفي الشهر الذي بعده خمسمائة، ففي هذه الحال يطالبه، يقول: رأيتهم كادوا يموتون جوعاً، فرفقت بهم وأنفقت عليهم، وحسبت ما صرفته عليهم، صرفت عليهم كذا وكذا في خبز، وكذا وكذا في أرز، وكذا وكذا مثلاً في قهوة، وكذا وكذا في شاي، وكذا في كسوة، وكذا في لحم، الجميع ألف أو ألفان، فيطالبه، ويلزم الأب بأن يعطيه؛ لأنه أنفق بنية الرجوع، أي: ناوياً أن يرجع على والدهم.
وهكذا غير الوالد، لو أن إنساناً تجب نفقته على أخيه الشقيق، ثم إن الأخ الشقيق الذي هو غني تغيب لمدة شهر، وكان هناك جار له أخذ ينفق عليه ويحسب: أنفقت الأسبوع الأول مائة، الأسبوع الثاني مائتين، الأسبوع الثالث مائة وخمسين، أخذ يحسب عليه، ولما جاء الأخ الذي هو غني قال جاره: أنا أنفقت على أخيك، وهذه أرقام الحساب الذي أنفقته، فأعطني لأني نويت الرجوع.
فيلزم الأخ أن يعطيه؛ لأنه ناب عنه ناوياً الرجوع.
أما إذا نوى التبرع، قال: هذا ضعيف، وليس عنده أحد الآن، وأخوه قد تغيب عنه، أو أخوه حسده وغضب عليه وقطع النفقة عنه، من أين يأكل؟ ومن أين يشرب؟ فرحمه إنسان وتبرع وأنفق عليه وصرف عليه ألفاً أو ألفين، فهل له أن يطالب بها؟ ليس له ذلك؛ لأنه متبرع، نوى بالإنفاق عليه الأجر والرحمة به حتى لا يتضرر.(74/4)
كيفية توزيع النفقة على الأقارب
وإذا وجبت النفقة على اثنين أو على ثلاثة أو أربعة فإنها توزع عليهم إن كانت درجتهم سواء، يدفعونها شهرياً أو سنوياً، فمثلاً: إذا كان الوالد فقيراً، وله أولاد خمسة كلهم أغنياء، والنفقة التي يحتاجها الوالد شهرياً ألف، فإنه يوزعها عليهم: كل واحد عليه مائتان، يدفعونها لأبيهم شهرياً.
وإذا قال أحدهم: أنا أشتري بها لهم حاجات فله ذلك، كما إذا قال: أنا أشتري لهم بهذه المائتين قهوة، أو أشتري فاكهة، أو أشتري لحماً؛ لأنه مما يحتاجون إلى ذلك، فإن كان إرثهم متفاوتاً كابن وبنت، وكلهم أغنياء، والأب أو الأم فقير، فإنا نجعل على الابن ثلثي النفقة، وعلى البنت الثلث؛ لأن ميراثهم هكذا، وكذا إذا كانوا ورثة متفاوتين، فإذا كان إنسان فقيراً، وله أختان شقيقتان غنيتان، وله -أيضاً- أختان من الأم غنيتان، معلوم أن الأختين الشقيتين ترثان الثلثين، فعليهما الثلثان من النفقة، والأختان من الأم ترثان الثلث، فعليهما ثلث النفقة فتقدر النفقة، وتدفع هاتان الثلثين، وهاتان الثلث.
فإن كانت هذه الأخت لها أختان شقيقتان، وأخت من الأم، وأم، وكلهم أغنياء، قسمنا نفقة هذه الأخت الفقيرة، فنجد أن على أمها السدس، وأختها من الأم السدس، وأختها الشقيقة الثلث، وأختها الشقيقة الأخرى الثلث، فتقوم أثلاثاً: على الأم والأخت، للأم الثلث، وعلى كل واحدة من الأختين الشقيقتين الثلث.
فإذا كان هناك امرأة ولها أخت شقيقة، وأخت من الأب، وأخت من الأم، وأم، فإنا نوزعها عليهن فنقول: الشقيقة ترث النصف، فعليها نصف النفقة، والأخت من الأب ترث السدس، فعليها سدس النفقة، والأخت من الأم عليها سدس النفقة، والأم عليها سدس النفقة، أي: بقدر ميراثهن.
يقول: (وهي على كُل بقدر إرثه، وإن كان أبٌ انفرد بها) .
أي: لو كان هناك رجل فقير، وله أب غني، وأم غنية، وزوجة غنية، فنفقته كلها على الوالد؛ لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة:233] فإذا كان مأموراً بالإنفاق على زوجاته فكذلك على أولاده، فينفرد بالنفقة على أولاده، وهذا هو المعتاد: أن الوالد يجمع المال لينفقه على أولاده، فينفرد بنفقة الفقير منهم، ولو كان منهم أغنياء، فالولد الفقير يطلب النفقة من أبيه ولا يطلبها من أخيه، وإذا كان له أخ غني، وأب غني، فإن نفقته على الوالد، هذا هو المعتاد.(74/5)
نفقة الرقيق وما يلزم السيد فيها
انتهى ما يتعلق بالنفقة على الأقارب مع الاختصار، بقي ذكر النفقة على الرقيق الذي هو العبد المملوك، وقد ذكر المؤلف أنها تجب عليه لرقيقه؛ وذلك لأنه مملوك له؛ ولأنه يقول: أنفق علي واستخدمني، وإلا فبعني أو أعتقني.
تجب عليه النفقة للرقيق، ولو آبقاً وناشزاً، والنشوز يكون من الأمة، إذا كان له أمة يملكها، ولكنها إذا أراد جماعها امتنعت، اعتبرت ناشزاً، فهل ينفق عليها؟ نعم؛ لأنها ملكه، أما الزوجة إذا نشزت سقطت نفقتها؛ لأن نفقتها معاوضة، وأما الأمة فإن نفقتها لأجل الملك، فينفق عليها ولو كانت ناشزاً.
وينفق على العبد ولو أبق أي: هرب: لأنه لم يخرج عن ملكه، هذا بالنسبة للنفقة، وهي على المعتاد، ولكن يتأكد عليه أن يسويه بنفسه.
تذكرون حديث أبي ذر الذي في الصحيح، ذكر أنه عير عبداً بأمه فقال له: يا ابن السوداء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه! إنهم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) يعني: قوله (إخوانكم خولكم) الخول: الخدم، جعلهم الله تحت أيديكم مماليك، والمملوك لا يستطيع أن يخرج من سلطة سيده، فهو مستولٍ عليه، مملوكة عليه منافعه، فلذلك لا يستطيع أن يتخلص، فتجب نفقته على سيده كما أنه يستخدمه.
وإنما له أن يستخدمه فيما يطيقه.
يقول في هذا الحديث: (جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم) ، فلذلك امتثل أبو ذر ذلك، فرآه بعض الصحابة وعليه حلة، وعلى عبده حلة مثلها، فتعجبوا: كيف تساويه بنفسك؟ فأخبر بهذا الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) ، فكان يسكوه مثل كسوته.
كذلك أيضاً ورد في الحديث: (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه -أي: فليأكل- فإنه ولي حره وعلاجه، فإن لم يفعل فليناوله لقمة أو لقمتين) ، العادة أن الخادم هو الذي يصلح الطعام لسيده، فإذا جاء به وقد ولي حره وعلاجه، فإن من الإنصاف أن يجلسه، يقول: اجلس وكل معي، ولو كان ذلك الطعام خاصاً، ومعروف أنه قد يصطفي لنفسه طعاماً خاصاً من أشرف الأطعمة وأحسنها، وعادة أنهم يجعلون للمماليك طعاماً يناسبهم؛ وهو من أدنى الطعام، فأحلى الخبز وأفضله وأحسنه يكون للسيد، وما دونه يكون للعبد، كذلك مثلاً إذا كان هناك لحم، فاللحم الحسن والثمين يكون للسيد، واللحم الهزيل أو رديء اللحم أو ما فيه عصب أو نحوه يعطيه المملوك، يقول: وإن لم تجلسه معك فناوله لقمة أو لقمتين من هذا الطعام الشهي.
هذا بالنسبة إلى قوته وغذائه من الطعام والشراب والكسوة وما أشبه ذلك.
قال: (ولا يُكلفُهُ مشقاً كثيرًا) .
يعني: من الأعمال، فلا يكلفه عملاً يشق عليه، فإذا كان مثلاً يشتغل في حرث فلا يشغله مثلاً عشرين ساعة أو خمس عشرة ساعة، فإن ذلك يشق عليه، وكذلك إذا كان يشتغل في ماشية يرعى ويسقي ويحلب ويريح، فلا يكلفه أيضاً عملاً شاقاً، وهكذا إذا كان يشتغل في تجارة فلا يكلفه أكثر من طاقته، كأن يشغله خمس عشرة ساعة أو اثني عشرة ساعة في الدكان، أو إذا كان في حرفة أن يشتغل معه في صنعة كورشة أو مصنع أو نجارة أو ما أشبه ذلك، يشتغل معه بقدر ما يستطيع، وهو ما يكلفه مشقاً كثيراً، بل بقدر ما يستطيع الذي ليس فيه مشقة.
وذكر أيضاً أنه يريحه وقت القيلولة قبل الظهر مثلاً بساعة، عندما تشتد حرارة الشمس، هذا وقت القيلولة، وذلك إذا كان يشتغل في حرث أو في بناء، أو يشتغل مثلاً في مصنع، أو نحو ذلك، وكذلك وقت النوم في كل ليلة ثمان ساعات أو سبع ساعات مثلاً، هذا وقت النوم في الليل.
(ولصلاة فرض) يلزمه أن يرخص له أن يذهب إلى المسجد لأداء الفريضة ولأداء سننها.
وأما الجمعة فلا تجب عليه إذا كان المسجد بعيداً؛ لأنهم قديماً كانت المساجد التي تصلى فيها الجمع قليلة، وكانوا يأتون إليها من مسيرة ساعتين أو أكثر، فيفوت على السيد شيء كثير، لأنه يوم الجمعة قد يغيب نحو خمس ساعات لأداء صلاة الجمعة، أو عشر ساعات أحياناً، ففي هذه الحال تسقط عنه الجمعة، أما إذا كانت المساجد قريبة فليس له منعه.
كذلك أيضاً صلاة العيد، إذا كانت قريبة فليس له منعه، وإذا كانت بعيدة وذهابه إليها يغيبه عن عمله مثلاً خمس ساعات أو أربع ساعات، فهو معذور في أنه تسقط عنه الجمعة والعيد.
هذا ما يتعلق بنفقة الرقيق.(74/6)
نفقة البهائم
بعد ذلك بنفقة البهائم.
البهائم يراد بها الأنعام التي ملكها الله تعالى للإنسان، ولا شك أنها لا تشتكي ولا تتكلم، وإن كانت قد تثغو أو ترغو من باب الاشتكاء إذا أحست بألم أو ما أشبه ذلك، ولكن هي بهيمة، ملكها الله تعالى الإنسان، فعليه أن يحسن إليها إذا كان قادراً على النفقة عليها، وإلا باعها أو ذبحها إذا كانت مأكولة.
فنفقتها هي علفها، أي: إحضار ما تأكله حتى تشبع، فإن كانت ترعى أرسلها ترعى النبات من المرعى، ويرسل معها من يحفظها كالراعي، أو يرسلها وإذا جاء الليل أو شبعت رجعت إلى أهلها، أي: فقد يتركها بدون راع وهي ترجع بنفسها، ويحصل ذلك في الإبل كثيراً، وكذلك أيضاً البقر، فإنها ترتع ثم تجيء إلى أماكن أهلها، فحينئذ يكتفي بإرسالها لترعى بنفسها، فأما إذا لم يرسلها فإن عليه أن يؤمن لها علفها، وذلك في كل ما يملكه من الإبل والبقر والغنم والخيل والحُمُر.
وكذلك أيضاً الطيور كالدجاج والحمام، إذا كان في ملكه، فكل شيء من الطيور أو من البهائم فإنه إذا أمسكه وجب عليه أن ينفق عليه، فيعلفها ويسقيها حتى لا تموت جوعاً وهي في ملكه.
فإذا لم يجد فإن عليه أن يذبحها ويعطيها من يأكلها أو يأكلها هو، أي أنه إذا عجز عن النفقة فإنه يجبر على البيع، يقال: أنت عجزت عن النفقة على عبدك، أو على فرسك! ويلزمك أن تبيعه، فلا تتركها تلاقي الموت فإنها تحس بالألم كما أنك تحس بالألم، فكر في نفسك إذا جعت ألست تبيع ما تملك؟ فكذلك هذه الشاة أو هذه البقرة تحس بالجوع، فلا تتركها تلاقي الجوع وتكابده، بل بعها لمن هو قادر على الإنفاق عليها، أو أجرها، أجر الجمل لمن يركبه ويعطف عليه، أو أجر الثور لمن ينضح عليه كما كانوا ينضحون عليه قديماً، أعني: يسقون عليه النخل، أو كذلك أجر الشاة لمن يحلبها.
أو اذبحها حتى تريحها إذا كانت مأكولة، وكل لحمها أو تصدق به.
وتكلموا أيضاً بالنسبة إلى المملوك ذكراً وأنثى إذا طلب النكاح، لأنه آدمي يحس بالشهوة، ويتضرر ببقاء هذه الشهوة، كما أن الحر يشتاق إلى النكاح، ويتضرر بهذه الشهوة وحبسها إذا غلبت عليه قوة الشبق والغلمة فنقول: إذا طلب العبد الزواج فعليك أن تزوجه، فإما أن تشتري له أمَة تزوجه، وإما أن تزوجه أمة لغيرك، ولو كان أولادها يكونون لصاحبها، وإما أن تزوجه حرة، فيكون أولادها أحراراً، ولا تتركه يتألم من هذه الشهوة.
وإما أن تعتقه، وإما أن تبيعه، فإن بقاءه وهو عزب يتألم من الشهوة ضرر عليه.
كذلك الأمة إذا طلبت النكاح عليه أن يعفها، إما أن يطأها، وإما أن يزوجها بعبد، أو يزوجها بحر، أو يزوجها بمملوك له أو بمملوك لغيره، أو يعتقها أو يبيعها، فكذلك هذه البهائم يجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن كانت مأكولة.
تكلموا أيضاً على الحمل عليها، فقد كانت الإبل والحمر هي وسائل الحمل، ينقلون عليها الأحمال قبل وجود السيارات، فيقولون: إذا حملها حملاً فلا يجوز أن يحملها فوق طاقتها، فإن ذلك مما يضرها، إذا كانت حمولتها مائة كيلو جرام فلا يحمل عليها مائتي كيلو جرام؛ لأنه لا شك أن ذلك يضرها.
وكذلك أيضاً ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الدابة في وجهها؛ فإن ذلك يؤذيها، فلا يجوز ضربها في الوجه، وكذلك أيضاً: (مر على حمار وقد كُوي بين عينيه فقال: لعن الله من فعل هذا) ، وأما وسمها في خدها أو في عنقها، أو وسم الغنم في أذنها، أو وسم الإبل في وركها أو فخذها فلا بأس بذلك للعلامة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسم إبل الصدقة كعلامة لها، ويجوز في غيره لغرض صحيح يعني: في غير الوجه.
كذلك كانوا مرة في سفر، وامرأة راكبة على ناقة، فكأن الناقة استعصت عليها فلعنتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروها أن تضع عنها رحلها وتتركها؛ فإنها ناقة ملعونة) فتركتها، فكانت ناقة تمشي من أحسن الإبل، لم يتعرضوا لها، فإن صاحبتها لما لعنتها عوقبت بحرمانها منها.
إذا كانت بهيمة الأنعام لها أولاد فلا يجوز أن يحلبوا منها ما يضر بأولادها، فإن أولادها أقدم، ولد البقرة يستحق أن يرتضع حتى يشبع، وما زاد فلهم أن يحلبوه، وكذلك ولد النعجة أو ولد العنز أحق بلبن أمه، وإنما يحلبون ما يزيد، وهكذا ولد الناقة، فلا يجوز أن يأخذوا من لبنها ما يضر بأولادها.(74/7)
أحكام الحضانة
انتهينا مما يتعلق بالنفقة، وننتقل إلى الحضانة التي هي كفالة الأطفال، بمعنى تربيتهم وتنشئتهم وتنظفيهم وإصلاح أحوالهم.(74/8)
درجات الأمهات في الأحقية بالحضانة
ومعلوم أن الطفل إذا ولد لو ترك لهلك، فلا بد ممن يحضنه في حالة صغره لأنه يحتاج إلى من يحمله، وإلى من يؤكله، وإلى من يغسله، وإلى من ينومه، وإلى من ينظفه، من الذي ينظف ثيابه إذا اتسخت، وينظف جلده، وينظف بدنه إذا اتسخ بالأوساخ والأقذار والإفرازات النجسة ونحوها؟ وكذلك من يصلح فراشه، ويصلح مهاده، ويصلح حالته؟ لا بد من كفيل يكفله، فإذا كانت الأم موجودة فإنها هي التي تحضنه، وتصبر على المشقة التي تلاقيها في هذه الحضانة، فلذلك كانت الأم أولى بحضانة طفلها أو بحضانة أطفالها، وإذا طلبت الأجرة فالأجرة على الأب؛ لأنهم أولاده، كما أنه لو استأجر لهم مرضعاً دفع الأجرة، ولو استأجر لهم حاضنة دفع الأجرة، فكذلك إذا كانت الأم مثلاً مطلقة وحضنت أولادها، فنفقتهم على أبيهم، وكذلك أيضاً عليه أجرة حضانتها.
والصغير والمعتوه لا بد لهم ممن يتولى أمرهم؛ لأن المجنون لا يعرف مصلحة نفسه، فقد يقع في مهالك، وقد يتردى من شاهق أو نحو ذلك فيموت، وكذلك المعتوه الذي هو ناقص العقل، فلا بد من الحضانة لمثل هؤلاء.
ذكر أن الأمهات أحق بالحضانة؛ لأنهن أصبر على التعب والمشقة، فالأم التي ولدت الطفل هي أولى أن تتولى حضانته، حتى ولو كانت مطلقة، إذا كانت طلقت ومعها طفل عمره سنة أو أقل أو أكثر فلا بد من حضانتها له، فيكون معها.
قد تسخط على زوجها لأنه طلقها، ثم ترمي إليه بالطفل ذكراً أو أنثى، وتقول: هذا ولدك، أنت الذي تتولاه، أنت الذي تغسل نجاسته، وأنت الذي ترضعه، وأنت الذي تنظفه، من باب السخط، ومعلوم أنها تحبه لأنه ولدها، ولكن من باب إظهار الشنآن والعداوة بينها وبين أبيه، ففي هذه الحال تسقط حضانتها، ويتولى الحضانة من يليها.
إذا كانت الأم تبرأت من الحضانة فتليها الجدة، واختلفوا أي الجدتين أولى: أم الأم أو أم الأب، وكأن الفقهاء يقدمون أم الأم، ويختار بعض العلماء أم الأب؛ لأنها أقرب نسباً؛ ولأن الجميع يدلين بالأمومة، فكل واحدة تقول: أنا أم، والأولى أيضاً إذا حصل تشاح أن ينظر أيهن أقدر، وأيهن أقوى، وأيهن أشد، فتقدم، سواء كانت أم الأم أو أم الأب، تقدم التي هي أكثر فراغاً وأحسن تربية، أو ما أشبه ذلك.
وتقدم القربى قبل البعدى، إذا كانت جدته أم الأم، وجدته أم أم الأم، فالقريبة أولى، وكذلك أم الأب وأم أم الأب أو أم الجد.
فإذا امتنعت الأم أو عدمت الجدات فالأب بعد ذلك أولى، والأب كيف يربيه؟ إذا كانت عنده زوجة فإنه يضعه عند زوجته لتربيه، أو يستأجر خادمة، وإذا كان عنده خادمة مملوكة فهي تقوم بتربية هذا الطفل، وإلا استأجر خادمة تقوم على كفالته وحضانته.
ذكروا بعد الأب أمهاته، والصحيح: أن أم الأم وأم الأب في درجة واحدة، يقدمان على الأب.
وذكر بعد ذلك الجد، ثم أمهاته، يعني: أنه إذا كان الجد موجوداً فالذي يتولى الحضانة هو الجد، يستأجر له، أو تحضن له مملوكته، ثم بعد الجد أمهاته، وأم الجد قد تكون بعيدة، وقد تكون كبيرة.
بعد الجد والأب تتنقل الحضانة للإخوة، وتقدم الأنثى، فالأخت الشقيقة أولى من الأخت لأم ومن الأخت لأب، وكان الفقهاء يقدمون كل من يدلي بالأم، فلذلك قالوا: إذا كان له أختان: أخت من الأم وأخت من الأب، وكلاهما تطلبه، فإنهم يقدمون الأخت من الأم، مع أنها من ذوي الأرحام، وليست من النسب، ولعل الأقرب تقديم الأخت من الأب؛ لأنها أشفق، ويمكن أن يقال: تقدم أشبهن أو أفرغهن، يعني: التي عندها فراغ تكون هي الأولى.
إذا لم يكن له أخوات انتقلت إلى إخوته، وقيل: تنتقل إلى إخوة أو أخوات الأب والأم، والخالة أخت الأم يختار كثير من العلماء تقديمها، ويستدلون بقصة ابنة حمزة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة في عمرة القضاء تبعتهم بنت حمزة بن عبد المطلب تقول: يا عم يا عم! لأنها قد تمت سبع سنين أو قاربتها، فأخذ بيدها علي وأركبها مع فاطمة، وقال: دونك بنت عمك.
فلما قدموا المدينة تنازعوا فيها أيهم يحضنها؟! فطلبها زيد بن حارثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهما أخوين، يعني: آخى بين حمزة وبين زيد، وقال: بنت أخي.
وطلبها علي وقال: بنت عمي.
وطلبها جعفر وقال: بنت عمي، وخالتها تحتي -خالتها التي هي أسماء بنت عميس - فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) هذا تقديم للخالة، مع أنه يوجد لها عمة التي هي صفية أم الزبير، وهي عمتها أخت حمزة، ومع ذلك قدم الخالة، فهذا هو السبب في قولهم: ثم خالة ثم عمة، ولعله ينظر أيهما أقوى، وأيهما أنصح، وأيهما أعرف بالتربية.
بعد ذلك -بعد ألا يوجد عمة ولا خالة- ينتقل إلى بنت الأخ، بنت أخيه الشقيق تكون أولى بالحضانة من بنت أخيها، ثم تنتقل إلى بنت الأخت، يعني: إذا لم يكن هناك بنت أخ حضنتها بنت أختها، ولو كانت من ذوي الأرحام.
ثم بعد ذلك تنتقل إلى بنت العم وبنت العمة، وبنت العمة أيضاً من ذوي الأرحام، ولكن لها قرابة، ثم بعد ذلك بنت عم الأب وبنت عمته مع بعدها، على ما فصل.
إذا لم يوجد هؤلاء كلهم فهي لباقي العصبة الأقرب فالأقرب، الإخوة مثلاً، ثم بنو الإخوة، والأعمام، وبنو الأعمام الأقرب فالأقرب.
هذه أحقية الحضانة.(74/9)
شروط الحضانة
ماذا يشترط؟ يشترط في الحاضن للأنثى: أن يكون محرماً لها، مثاله: إذا كان قد تزوج أمها، وماتت أمها، فإنه يكون أولى؛ لأنه محرم لها؛ لأنها ربيبته، فيكون له محرمية.
كذلك يشترط أن يكون الذي يتولى الحضانة.
كذلك يشترط: أن يكون حسن التربية، بعيداً عن الإفساد وأماكن الفساد، فإذا كان مثلاً مهملاً فلا حق له في التربية، وإذا كانت الأم أو الحاضنة من غيرها عاصية فلا حق لها في التربية، وكذلك إذا كان بيتها مليئاً بالملاهي، أو مليئاً بآلات الأغاني والصور الخليعة، والأفلام الفاتنة وما أشبهها، بحيث إن الطفل ذكراً أو أنثى إذا نشأ وتربى في هذا البيت فسد خلقه ودينه عاجلاً أو آجلاً، فليس له حق في هذه الحضانة؛ لأنها قد تكون سبباً لانحرافه وفساد أخلاقه، فلا يمكن من الحضانة إلا إذا عرف أنه صالح ومصلح.
وكذلك إذا كانت الأم متزوجة بأجنبي سقطت حضانتها.
روي أن رجلاً طلق امرأة ولها ابن، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنت أحق به ما لم تنكحي) يعني: ما لم تتزوجي، فما دمتِ لم تتزوجي فأنت أحق بولدك، وهذا إذا لم تتزوج بقريب، أما إذا تزوجت بقريب له كعمه -عم الطفل أخو أبيه- أو كذلك ابن عمه، أو ابن خاله أو نحوهم، فإن هذا القريب قد يوافق ويقول: أريد أن آخذ أجره حتى يبقى تحت كفالة أمه، وأنا الذي أنفق عليه؛ لكونه يتيماً فأحظى بكفالة اليتيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فإذا كان زوج الأم موافقاً على كفالته وحضانته فإنه يبقى.
كثير من النساء في هذه الأزمنة إذا طلقت وعندها ولد أو عندها أولاد صغار تترك الزواج، وتقول: أخشى أن يؤخذ أولادي، فأبوهم قد يهددها، ويقول: إذا تزوجتِ أخذتهم، فإنه يسقط حقك؛ فتترك الزواج، مع أنها قد تكون بحاجة إلى من يتزوجها وينفق عليها ويحضنها، فتترك الزواج وتبقى مدة تقول: أجلس على أولادي حتى أربيهم.
نحن نقول: إن الأب لا يجوز له أن يضارها، قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233] فلا يجوز أن يهددها، ويقول: إذا تزوجتِ أخذت ولدي أو أولادي.
معلوم شفقتها ورقة قلبها ومحبتها لأولادها، سيما إذا كانوا أطفالاً، فهي تتمنى أن يبقوا معها ولو أن تستدين، ولو أن تتكفف، ولو أن تطلب من الناس أن يتصدقوا ويعطوها ما تنفقه على أولادها، تصبر وتتحمل المئونة والمشقة حتى يبقى معها أولادها.
نقول: حرام على الوالد أن يفرق بينهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته) .
فيتركها تتزوج، ويأذن لها ويقول: لا حرج عليكِ، تزوجي، وأنا أترك أولادك.
فإذا تقدم إليها من يطلب زواجها شرطت عليه: أن أولادها يبقون معها، إما أن ينفق عليهم الزوج الجديد محتسباً، وإما أن ينفق عليهم أبوهم، بأن يرسل إليهم نفقتهم وهي عند ذلك الزوج الجديد، إلى أن تنتهي مدة الحضانة.
فنقول: تتزوج ويأتيها رزقها، وإذا تقدم إليها من يطلب زواجها تتزوج، وأولادها لا يضيعون إن شاء الله، وأبوهم حرام عليه أن يهددها عند زواجها بأخذ أولادها، بل يتركهم تحتها حتى تتم مدة الحضانة.
يقول: ثم بعد ذلك تنتقل إلى ذوي الأرحام، إذا لم يكن هناك عصبة، أو تبرءوا وامتنعوا من الحضانة فيحضن الخال، وكذلك ابن الخال ونحوهم، ثم بعد ذلك الحاكم، ومعلوم أنه ليس هو الحاكم الذي يتولى الحضانة، ولكن يستأجر لهذا الطفل، ويدفع الأجرة من بيت المال، وهناك في هذه الدولة وفي كثير من الدول أماكن حضانة لمن ليس له والد أو نحوه، يتولاها أناس يشفقون على هؤلاء الأطفال الذين ليس لهم أولياء.(74/10)
لا تثبت الحضانة للرقيق
يقول بعد ذلك: (ولا تثبت لمن فيه رق) .
يعني: أن الرقيق الذي هو المملوك لا حضانة له؛ وذلك لأنه مملوكة عليه منافعه، فسيده يستخدمه، فكيف مع ذلك يكون حاضناً ذكراً أم أنثى؟ لكن لو استئجر بإذن سيده، يعني: استؤجرت هذه الأمة على أنها تحضن هذا الطفل وأذن سيدها، والأجرة لسيدها فهو على مصلحة، فإذا كانت هذه الأمة مأمونة وموثوقة وعارفة بالحضانة واستؤجرت، أو سمح سيدها أ، تقوم بحضانة هذا الطفل، أو احتسب وقال: احضنيه وأنا أنفق عليه، حتى أحظى بأجر كفالة اليتيم جاز ذلك.(74/11)
لا حضانة لكافر على مسلم
قال: (ولا حضانة لكافر على مسلم) .
لماذا؟ لأنه إذا حضنه لقنه الكفر، ولو كان عمه أو ابن عمه، إذا قال: هذا ابن أخي، نقول: إن أباه مسلم، وأنت كافر، فلا حضانة لك، لأن الله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ، ويقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فلا ولاية ولا حضانة لكافر.
وهكذا الفاسق؛ لأنه يربيه به على الفسق، إذا كان هذا الولي أخاه أو عمه أو ابن عمه، ولكن كان لا يصلي أو يزني، أو مليئاً بأجهزة الأغاني وما أشبهها، أو الصور الخليعة ونحو ذلك، أو كثير السهر على المعازف وآلات اللهو وما أشبه ذلك، فإن الطفل إذا تربى في هذا المنزل استحسن ذلك ونشأ عليه، فيكون ذلك سبباً في فساد أخلاقه، فلا جرم لا حق لهذا الفاسق في هذه الحضانة.(74/12)
لا حضانة لمزوجة بأجنبي
صرح بما ذكرنا من زواج المرأة فقال: (ولا لمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد) .
قوله: (أجنبي من محضون) أي: أما إذا تزوجت بعمه أو ابن عمه أو بأحد إخوة أبيه، أو أقاربه، والتزم ذلك المتزوج أن تبقى حاضنة ولدها، فإنها تبقى، وتكون لها الحضانة، وأما إذا اختارت أن تتزوج بأجنبي بعيد، ليس له قرابة من هذا المحضون سقطت حضانتها، إلا إذا وافق على بقاء طفلها معها، وقال: أنا أحتسب الأجر، فتبقى حضانتها.
وليس للأب -والحال هذه- أن ينتزع الولد ويقول: سقطت حضانتك، أنت تزوجت بأجنبي، إذا لم يكن فيه محظور، فإذا كان ذلك الزوج عبداً صالحاً محباً للخير، مواظباً على الصلاة، وليس في بيته آلات لهو، فليس لأبي الطفل أن ينزعه وهو ابن سنتين أو ثلاث سنين ويحرم أمه منه، لا شك أن ذلك ضرر على الطفل وضرر على أمه.(74/13)
من تئول إليه حضانة الطفل إذا انتقل الأبوان أو أحدهما إلى بلد آخر
يقول بعد ذلك: (وإن أراد أحد أبويه نقله إلى بلد آمن) (أو نُقْلَةً) .
يعني: أراد أحد أبويه الانتقال إلى بلد آمن، وطريقه مسافة قصر فأكثر ليسكنه، فالأب أحق، مثال ذلك: إذا أراد الأبوان أن ينتقلا من هذا البلد، الأم مثلاً تنتقل إلى الجنوب -إلى الأفلاج مثلاً- والأب ينتقل إلى المجمعة أو إلى الزلفي شمالاً، والطريق من هنا ومن هنا ليس فيه مخافة، يكون الأب أحق بأن يصحبه، لماذا؟ لئلا يضيع نسبه، لأن نسبه يعرف بأبيه، فيكون أبوه أحق به؛ لأنه ينسب إليه يقال: ابن فلان، ولا يقال: ابن فلانة، فالأب أحق به، وإذا كان أحدهما سوف يبقى والطريق مخوفاً، فالذي يبقى هو أحق، فإذا كان الطريق مخوفاً فيه قطاع، إذا سلكه يمكن أن يأتي عليهم قطاع الطريق ويقتلوهم أو يقاتلوهم، والأم سوف تبقى والأب يريد أن يرحل، فليس له أن يستصحب الولد مخافة أن يقضى عليه وأن يقتل، الأم سوف تبقى فهي أحق.
وإذا كانت النقلة إلى مكان أقل من مسافة قصر فالأم أحق به، فإذا كان الأب يريد أن ينتقل إلى الخرج مثلاً، والأم تريد أن تنتقل إلى صلبوخ مثلاً أو إلى ضرماء، فهذه مسافة قريبة، فأيهما يكون الولد معه؟ الأم أحق إذا كانت النقلة للسكنى، الأب يريد أن يسكن مثلاً في الخرج، والأم تريد أن تسكن في ضرماء وكلاهما للسكنى فالأم أحق، أما إذا كان السفر لحاجة ثم يرجع والحاجة بعيدة فالأولى به المقيم، فلو ذهبت الأم للحج والأب مقيم فإن الأب أحق، وكذلك العكس لو حج أبوه وقال: أريده معي، وعمره سنتان أو ثلاث والأم مقيمة فإنها أولى به.(74/14)
متى يخير الولد بين أبويه
بعد ذلك يقول: (وإذا بلغ صبي سبع سنين عاقلاً خير بين أبويه) .
بشرط أن يكون عاقلاً، يعني: قد تم عقله وتمت إدراكاته وفهمه، ففي هذه الحال يخيّر بين أبويه: اختر أباك أو اختر أمك، والصحيح أنه إذا اختار أحدهما فإن نفقته على من اختار، إن اختار أمه فهي التي تنفق عليه، وإن اختار أباه فهو الذي ينفق عليه، فإذا تردد ولم يختر واحداً منهما، فالأم أولى، والأب قد يكون أولى به إذا كان في البلد.
قال بعض العلماء: يكون في النهار عند أبيه، وفي الليل عند أمه، الأب يربيه ويعلمه ويدرسه ويقرئه، وكذلك يؤدبه ويعلمه الآداب والأخلاق، كيف يدخل على الرجال وكيف يسلم، وكيف يرد السلام، وكيف يخدم أهله، وكيف يحترم من هو أكبر منه وأشباه ذلك، هذه التربية عادة تكون من الأب، وكذلك أيضاً يحتاج إلى تعليمه العلم بالدراسة ونحوها، والغالب أن الأب هو الذي يتولى ذلك.
ويصح أن يتنقل، إذا كان عند أمه مثلاً شهراً، ثم ضجر فذهب إلى أبيه وأقام عنده شهراً، هذا إذا كان في بلد، ثم له أيضاً أن يعود إلى أمه أو ما أشبه ذلك.(74/15)
لا يقر المحضون بيد من لا يحفظه ويصلحه
قال: (ولا يقر محضون بيد من لا يصونه ويصلحه) ؛ لأنه ذريعة إلى إفساده، فإذا كانت الأم تربيه وتعلمه وتلقنه التلقين الحسن، وتدخله المكتب لتعليمه أو مدارس التحفيظ أو نحو ذلك، وأما الأب فإنه منشغل بتجارته أو بحرفته أو بوظيفته وليس متفرغاً للتربية، فالأم أولى؛ لأن صلاحه عندها.
وكذلك العكس: إذا كانت الأم لا تعرف شيئاً من التربية، ولا تعرف شيئاً من التنشئة، وليس لها خبرة بالتعليم ولا بالعلم، أو ليس عندها من يرشدها يقول: علميه أو أدخليه المكتب، أو أدخليه دار التحفيظ أو ما أشبه ذلك، والأب يعرف ذلك، فالأب أولى.
وكذلك أيضاً ينظر في مكانها الذي تسكنه، فإذا كان أحد البيتين سالماً من الملاهي فإنه أولى، وإن كان كلاهما فيه ملاهٍ نظر أخفهما، فيكون الطفل فيه، وإذا كان كلا الأبوين منشغل كما في هذه الأزمنة، الأم مثلاً موظفة والأب موظف، نظر أيهما أفرغ أو أقدر على التربية فيكون عنده.
هذا إذا لم يختر وكانوا سواء، أما إذا اختار وفضل أباه أو فضل أمه فإنه يكون عند من اختاره، هذا بالنسبة للذكر.
أما بالنسبة للأنثى فالبنت إذا بلغت سبع سنين تكون عند أبيها، فإن فقد الأب فمن يقوم مقامه كأخيها أو جدها أبي الأب أو نحو ذلك، تبقى عنده إلى تزويجها وتسليمها لزوجها، لماذا؟ لأنها بعد تمام السبع دخلت مرحلة الكبر، يعني: قاربت أن تكون امرأة وأن تمتد إليها الأنظار، فلأجل ذلك تكون عند الأب؛ لأنه أتم وأكمل غيرة عليها، يعني: هذا في العادة والأغلب، فأما إذا وجد أن الأب ليس كذلك انتقلت إلى من تكون عنده ممن يصلحها ويصونها.(74/16)
الأسئلة(74/17)
الفرق بين الخادمة والأمة
السؤال
ما الفرق بين الخادمة التي يستأجرها الكثير من الناس في زماننا هذا وبين الأمة؟ إذ إن بعض الناس يظنون أنهما سواء؟
الجواب
الخادمة أجيرة يستأجرها، وليست مملوكة له، وإذا انتهت مدة الإجارة ذهبت إلى أهلها، فهي حرة تملك نفسها، وأولياؤها أهلها، وأما الأمة فإنها مملوكة يمكلها السيد بحيث إنها لا تملك نفسها، ولا تتصرف لنفسها، وليس لها ملك، لو أجرها تخدم عند أناس فالأجرة له، وهكذا، فليسا سواء.(74/18)
حكم تولية النصارى على تربية أبناء المسلمين
السؤال
نحن في بلادنا نعيش بين النصارى، وفي يوم من الأيام مات رجل وزوجته وتركا ابناً، فوكل أحد المحسنين نصرانية، واحتضنت الطفل، وكبر وأصبح رجلاً متمسكاً بالدين ومستقيماً، وحتى الآن ما زال يناديها بأمه، فما حكم هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز أن يولى النصارى على تربية المسلمين، وعلى تربية أطفال المسلمين؛ لأنهم يحاولون أن يربوهم على دينهم الذي هو النصرانية، وأن يبعدوهم عن الإسلام وعن مجتمعه، فعلى هذا نقول: إذا مات في بلد فيه نصارى فإن المسلمين يتولونه ولو لم يكونوا موكلين، يتولونه حتى لا يتولاه الكفار الذين يبعدونه عن الدين.
ويذكر أن في بعض البلاد التي فيها مسلمون ونصارى أن النصارى يأتون إلى أولاد المسلمين الفقراء ويقولون: نحن نكفيكم مئونتهم، فيأخذون مثلاً مائة أو ألفاً من الأطفال الذين في الرابعة والخامسة على أنهم يعلمونهم وينفقون عليهم، ثم يرسلونهم إلى أمريكا أو إلى بريطانيا أو إلى البلاد الكفرية، ثم بعد ذلك يربونهم على دين الكفر، يخرج أولئك الأطفال بعيداً عن آبائهم، نسوا آباءهم، ونسوا دينهم، ونسوا عقيدتهم، وهذا ما يقصده هؤلاء النصارى.(74/19)
حكم من رضع خمس رضعات من أربع زوجات لرجل واحد
السؤال
رجل له أربع نساء، ورضع منهم طفل خمس رضعات، من كل واحدة رضعة وإحداهن رضعتان، فهل هو محرم لهن أم لا، وكذلك من رضع من إحداهن فقط خمس رضعات هل يكون ابناً ومحرماً لباقي النساء وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يكون ابناً لزوجهن، لأنه رضع من زوجاته خمس رضعات، فيقول: أنت أبي من الرضاعة، وأولادك من الأربع إخواني؛ لأنهم أولاد أبي من الرضاع، وأما أولادهن من غير هذا الرجل فليسوا محارم، وإذا كانت هذه لها ولدان من غير الزوج فليسوا إخوة لهذا الرضيع، وهذه لها ولد من غير الزوج فليس أخاً لهذا الرضيع، وهذه لها ثلاثة، وهذه لها اثنان ونحو ذلك، فأولادهن من غير الزوج ليسوا إخوة لهذا الرضيع؛ لأنه لا يقول: أنت محرم لي لأنك زوجة أبي، وأولادك منه إخوة لي لأنهم أولاد أبي، وأولادك من غيره ليسوا إخوة لي.(74/20)
ضابط الفسق الذي تسقط به الحضانة
السؤال
ما هو ضابط الفسق الذي تسقط به الحضانة؟ فإنه قبل سنين كان الشخص تسقط عدالته ببعض المعاصي لغلبة الصلاح، فنرجو البيان وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الفاسق: هو العاصي الذي يفعل المعاصي، إما أن يفعل الكبائر، وإما أن يصر على الصغائر، وفي هذه الأزمنة ينظر في البيوت، فنقول مثلاً: الذي ملأ بيته بآلات اللهو هذا فاسق يفسد من تربى في بيته، الذي لا يصلي هذا فاسق، من كان تحت ولايته فإنه يكون مثله أو ما أشبه ذلك، الذي يسمع الأغاني أو يشرب الخمور أو يتعاطى المخدرات هذا يعتبر فاسقاً، فلا ولاية له ولا حضانة؛ لأن من تربى في حجره فسد عادة، وهكذا كل المعاصي، الضابط أنه الذي لا تقبل شهادته لأجل ما يخرم دينه.(74/21)
امرأة الأب من الرضاع تحرم على الابن وفروعه
السؤال
امرأة الأب من الرضاع هل تحرم على الابن من الرضاع وفروعه؟
الجواب
نعم، إذا كان مثلاً لهذا الزوج زوجتان أرضعته إحداهما خمس رضعات، أصبحت هذه أمه، ولها أولاد من هذا الزوج وأولاد من غيره، فأولادها جميعاً إخوتك من الرضاعة، ولزوجها أولاده من المرأة الأخرى، فأولاده من المرأة الأخرى أيضاً إخوتك من الرضاعة، والمرأة الأخرى لها أولاد من غيره فهذه المرأة الثانية محرم لك؛ لأنها زوجة أبيك من الرضاعة، ولكن بناتها من غيره أجنبيات.(74/22)
حكم استخدام الخدم الكافرين في تربية أبناء المسلمين
السؤال
هل يجوز استخدام الخدم الغير مسلمين لتربية المسلمين، مثل الخدم في المنازل إذا كانوا كفاراً؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز إذا خشي أنهم يربونهم تربية سيئة، معلوم أنه قد يكون هناك ضرورة كما في هذه الأزمنة، استخدام الخادمات من كثير من البلاد التي فيها كفار كالفلبين وسرلانكا وتايلاند ونحوها، فتأتي كافرات؛ لأن ولاة أمورهن وسلطتهم هناك للكفار، فهم يؤثرون الكافرة ويقدمونها، ويسهلون أمرها، فإذا قدمت عليك فإياك أن تكل إليها تربية الأولاد وتلقينهم وتعليمهم! بل إنما تكل إليها تنظيفهم وغسل ثيابهم وما أشبه ذلك.(74/23)
حكم من ولي مال يتيم وأخذ منه ديناً
السؤال
أنا ولي على أخي اليتيم، ودخل في ذمتي كثير من ماله، لأنني آخذ منه إذا احتجت وأسجله في ورقة بنية إرجاعه، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
يجوز ذلك إذا كان هذا المال مرصداً في الصندوق، فلا بأس أن تقترض منه، ومع ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من كان عنده مال يتيم فليتجر به؛ لئلا تأكله الزكاة) عليك أن تحاول أن تعطيه من يتجر به أو تتجر به أنت حتى يكون فيه ربح تنفق من هذا الربح وتخرج الزكاة منه.(74/24)
حكم تولية الحضانة لفاسق لا يوجد غيره
السؤال
إذا كانت الحضانة لفاسق وكان غنياً وليس له بعد الله إلا هذا الفاسق، فهل له ذلك؟
الجواب
نعم تلزمه النفقة عليه، وأما الحضانة التي هي التربية فإن وجدت امرأة من قرابته صالحة فهي أولى، وإذا لم يوجد إلا هذا الفاسق فلا بأس أنه يتربى عنده تحت حضانة زوجته أو ابنته، مع الحرص على تخفيف المنكر والمعصية بحسب القدرة.(74/25)
حكم وسم الدابة في خدها
السؤال
أشكل علي ذكركم أنه لا يجوز وسم الدابة بوجهها، ثم ذكرتم وسمها في خدها، فهل هذا جائز؟
الجواب
جائز، ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى حماراً قد كوي بين عينيه، فقال: (لعن الله من فعل هذا) ، وأما خد البعير يعني: قرب الأذن أو تحت الأذن أو خلف الأذن فيجوز وسمه لأجل العلامة، كما يجوز وسمه في الرقبة، وكذلك وسم الغنم في أذنها، هذا قد فعل في العهد النبوي.(74/26)
حكم وضع المجنون في دار الرعاية
السؤال
هل وضع المجنون في دار الرعاية يعد تهرباً من المسئولية، وهل فيه إثم؟
الجواب
إذا لم يكن له ولي أو أولياؤه عاجزون، وأدخل في دار الرعاية، فإنه لا إثم في ذلك، ودار الرعاية فيها أناس مأمونون حريصون على التربية الحسنة، وعلى مراعاة أولئك المجانين ونحوهم.(74/27)
حكم إجابة دعوة الكافر إلى بيته
السؤال
نحن نعيش في خارج بلاد الإسلام، وفي بعض الأوقات يدعو أبناء الجيران الكفار أبناءنا إلى منازلهم، فهل يحل أن يجيبوا دعوتهم أم لا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز، لكن إذا أمنت المفسدة فلا بأس، إذا كان أولئك الأبناء الذين يدعونهم جيرانهم قد عقلوا الإسلام وعرفوه، وأمنوا أن يكون هناك منكر أو أكل حرام، أو شرب خمر، أو ما أشبه ذلك، وكان هناك مصلحة كمبادلة منفعة أو نحو ذلك فهو جائز.(74/28)
حكم الزواج بزوجة العم
السؤال
ما حكم من تزوج بزوجة عمه بعد وفاته، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يجوز الزواج بزوجة أخيك، وزوجة أخيك أقرب من زوجة عمك، وتحل لك زوجة أخيك، عمك هو أخو أبيك، وخالك أخو أمك، فهم أبعد من أخيك الذي هو من أبويك.(74/29)
أكثر مدة الحيض
السؤال
ذكر ابن حزم الإجماع على أن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً، فهل هذا صحيح؟
الجواب
المشهور أن أكثره خمسة عشر يوماً، وأما ابن حزم فيمكن أنه رأى في بلاده من تحيض سبعة عشر، ولكن ذلك نادر.(74/30)
وجوب الزكاة على الذهب والفضة وما يماثلهما
السؤال
هل الذهب الأبيض عليه زكاة؟
الجواب
كل الحلي عليه زكاة، الذهب الأبيض، والذهب الأحمر، والفضة، وكذلك أيضاً إذا كانت هذه الجواهر من غير الذهب، يعني: كالعقيق واللؤلؤ، وما أشبه ذلك فإنها تزكى.(74/31)
شرح أخصر المختصرات [75]
من الجنايات الواردة في بني آدم القتل، وهو ثلاثة أنواع: قتل العمد، وشبه العمد، وقتل الخطأ.
وكل له حكمه، وتقتل الجماعة بالواحد، ويقتل المكره إذا أكره على القتل هو ومن أكرهه أو أمره.(75/1)
أحكام الجنايات
قال رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات.
القتل: عمدٌ, وشبه عمدٍ, وخطأٌ.
فالعمد يختصّ القود به، وهو أن يقصد من يعلمه آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظّنّ موته به، كجرحه بما له نفوذٌ في البدن، وضربه بحجرٍ كبيرٍ.
وشبه العمد أن يقصد جنايةً لا تقتل غالبًا.
ولم يجرحه بها، كضرب سوط أو عصا.
والخطأ أن يفعل ما له فعله كرمي صيدٍ ونحوه، فيصيب آدميًّا.
وعمد صبيٍّ ومجنونٍ خطأٌ، ويقتل عددٌ بواحدٍ، ومع عفوٍ يجب ديةٌ واحدةٌ.
ومن أكره مكلفاً على قتل معين أو على أن يكره عليه ففعل فعلى كل القود أو الدية، وإن أمر به غير مكلف أو من يجهل تحريمه، أو سلطان ظلماً من جهل ظلمه فيه لزم الآمر] .
كتاب الجنايات هو القسم الرابع والأخير من أقسام الفقه؛ حيث إن الفقهاء قسموه إلى أربعة أقسام، فبدؤوا بقسم العبادات لأنه حق الله على عباده، ثم بعد ذلك بقسم المعاملات؛ لأن الإنسان بحاجة إلى تحصيل الحلال من المال لقوته وغذائه، ثم بقسم عقد النكاح وما يستلزمه؛ لأنه بعد تحصيله للقوت والغذاء يشتاق إلى النكاح، ثم بعد ذلك بقسم الجنايات؛ لأن الغالب أن من تمت عليه النعمة يتعدى ضرره إلى غيره بالقتل، أو بما دون القتل من الجنايات.
والجناية: هي التعدي، يقال: جنى على غيره أي: تعدى بقتل، أو نهب، أو جرح، أو قدح، أو غير ذلك.
ولا شك أنه من المحرمات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ، فالله تعالى جعل المؤمنين إخوة، وحرم الاعتداء من بعضهم على بعض، وأمر المسلم بأن يذب عن عرض أخيه المسلم، وأمره بأن ينصره بقوله: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
فقيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم) ، فإذا كنت مأموراً أن تنصره فإنك منهي عن أن تضره.
وأشد الضرر الاعتداء على بدنه بقتل أو جرح أو بقطع طرف أو غير ذلك، وهو أعظم الاعتداء، ولذلك ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يعني: أول ما يقضى بينهم من الاعتداءات في الدماء، أي: في القتل أو الجراح أو نحو ذلك.
فإن من أعظم الاعتداءات أن يعتدي على مسلم بإراقة دمه.(75/2)
تحريم القتل في القرآن
جاء في القرآن تحريم القتل في مواضع، كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] يعني: إذا كانت مستحقة القتل.
وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} [الإسراء:33] أي: لا يزيد ويقتل أكثر من القاتل، بل لا يقتل إلا نفساً واحدة.(75/3)
حكم توبة القاتل
كون القتل ظلماً ذنباً كبيراً اختلف في توبة القاتل: فروي عن ابن عباس أنه قال: ليس له توبة؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] ، وعيد شديد لمن يقتل مؤمناً متعمداً، ولا يدخل النسخ في هذا؛ لأنه من الأخبار، والنسخ إنما يدخل في الأوامر لا في الأخبار، فلذلك قال: إنه لا توبة له، ولابد أن يعذب ويخلد في النار تحقيقاً لهذه الآية.
القول الثاني: له توبة، والدليل أنه ذكر الله تعالى كبائر الذنوب في قوله في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68-70] ، فأخبر بأنه يقبل توبتهم، وإذاكان الله تعالى يقبل توبة المشرك فالقاتل من باب الأولى؛ لأن القتل دون الشرك، فهذا دليل من يقول: إنها تقبل توبته.(75/4)
الجواب على آية النساء المخلدة للقاتل في النار
ذكر ابن القيم أن القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله؛ لأن القاتل تعدى حرمات الله، وهذا الحق يسقط بالتوبة الصادقة.
الثاني: حق للأولياء؛ لأن القاتل قتل أباهم أو قتل ابنهم أو قتل موليهم، وهذا الحق يسقط بالعفو، أو يسقط بالقصاص، أو يسقط بأخذ الدية.
الحق الثالث: هو حق المقتول الذي قطع عليه حياته، يعني: أماته واعتدى عليه، فله حق على ذلك القاتل، فإذا كان القاتل قد تاب توبة نصوحاً فإن الله تعالى يتحمل حقه ويعطيه من فضله ويعفو عن ذلك القاتل.
وقد استدل أيضاً بقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:53-54] ، فأمرهم بأن ينيبوا، أي: يتوبون ولو كانت ذنوبهم كثيرة، وأخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، يعني: لمن تاب.
وإذا كان كذلك فكيف الجواب عن آية النساء التي أخبر تعالى فيها بأن من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً؟! قال بعض العلماء: هذا في حق المستحل الذي يقتل مستحلاً ويعتقد أنه حلال؛ فإن من استحل ما حرم الله فقد كفر، إذا استحل شيئاً قد حرمه الله معلوم تحريمه بالضرورة فإنه يعتبر ضالاً أو كافراً، كذلك أيضاً قال بعضهم: إن هذا الوعيد معلق، يعني: كأن الجزاء ليس دائماً.
يقول ابن جرير: المختار أن قوله: (فجزاؤه) معلق بشرط.
يعني: إن جازاه.
فجزاؤه جهنم إن جازاه، وإلا فإن الله تعالى قد يعفو ويصفح، ولا يجازيه بهذا الجزاء الكبير، سيما إذا ندم وتاب، وقالوا: إنه يمدح بالعفو عن الذنب ونحوه، ولا يمدح بترك الخير، يقول الشاعر العربي: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالوعد: هو الوعد بالخير.
والإيعاد: هو التوعد بالشر.
يقول: إذا توعدته أخلفت وعيدي، وإذا وعدته فلا أخلف وعدي.
وعلى كل حال فإن هذا دليل على عظم الذنب الذي هو إراقة دم مسلم بغير حق، أما إذا كان بحق فإنه جائز؛ لأن في القرآن: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] .(75/5)
متى يحل دم المرء المسلم؟
ولإباحة قتله ثلاث حالات، هي المذكورة في حديث ابن مسعود المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فهذا دليل على أن الذي يفعل واحدا ًمن هذا يحل دمه.
فالثيب الزاني هو الذي زنى وهو محصن، فهذا يقتل حداً ولا يكفر بقتله، ولهذا يصلى عليه ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، والنفس بالنفس أي: قتل القاتل؛ فإنه من جملة ما أمر الله به، بل قد جاء ما يدل على وجوبه عند طلب أولياء القتيل، واستدل بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] (كتب) يعني: فرض عليكم.
ولكن هذا فيما إذا طلب الأولياء القصاص، ولهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] أي أن من طلب القتل طلب قصاص فله، فإذا عفا فأجره على الله.
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ظن بعض الأعراب أن حرمتها قد زالت، فقتل بعضهم بالثأر الجاهلي، فقتلت هذيل رجلاً بثأر قديم، وقالوا: زالت حرمة مكة.
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب وأخبر بحرمة مكة، ثم قال: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يدى، فإن أراد الثانية فخذوا على يديه) ، فإذا قتل له قتيل فلا يقتل إلا القاتل، أو يأخذ الدية إذا لم يعف مطلقاً، فإذا قال: أريد ما نحن عليه في الجاهلية إذ بعض القبائل التي لها عز ومكانة لا يقتلون بالمقتول واحداً منهم، بل يقتلون أكثر من واحد، وكم قتل المهلهل بأخيه كليب حتى كاد أن يفني بكر بن وائل، ولما أرسل بعض بني بكر ابناً له إلى المهلهل وقال: اقتله وتنتهي هذه الحرب قام وقتله وقال: هذا بشسع نعل كليب.
يعني أنه ليس فداء لـ كليب، وإنما هو بشسع نعل كليب، فغضب أبوه وأنشأ قصيدة طويلة، وهي التي يقول فيها: قربا مربط النعامة مني إن قتل الرجال بالشسع غالي قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن عيالي يقول فيها: (قربا مربط النعامة مني) في خمسين بيتاً، وحميت الحرب بينهم حتى أنهكت كلاً من القبيلتين بكر وتغلب، والواقع أنهم يجتمعون في وائل، فبكر هو ابن وائل وتغلب أيضاً ابن وائل، فقتل خلقاً كثيراً في أخيه كليب، فجاء الإسلام وقرر أنه لا يقتل إلا واحد، فالنفس بالنفس في هذه الآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، وكذلك في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس) أي: لا زيادة، فلا يقتل اثنان في واحد، ولا يقتل غير القاتل ولو كان القاتل، وضيعاً فلا يقولون: نقتل به شريفاً، قتيلنا من الأشراف فلا نقتل إلا من له مكانة.
فالله تعالى جعلهم على حد سواء لا فضل لهذا على هذا، (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) هكذا جاء الحديث.
فالنفس بالنفس، فلا يقتل إلا من قتله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه) يعني: المرتد؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) (التارك لدينه المفارق للجماعة) ، فأما بقية المسلمين فلا يجوز استحلال دم امرئ مسلم بغير حق، ففي الحديث: (لا يحل إراقة قدر محجمة دم إلا بحقه) .
ذكروا أن القصاص واجب عند اليهود، والعفو إلى دية أو نحوه واجب عند النصارى، وجاء في هذه الشريعة أنه ليس بواجب ولكن مخير، إن شاء قتل، وإن شاء عفا مطلقاً، وإن شاء عفا إلى الدية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] يعني: عفي له إلى الدية: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] والعفو مطلقاً أفضل كما سيأتي.
والحاصل أن هذا القصاص يتعلق بالاعتداء الذي هو في النفس أو فيما دون النفس، وجاء الإسلام بشرعيته، ثم إن الدول التي تحكم بالقوانين أبطلت هذا الحكم، يقول قائلهم: إذا قتل منا واحد نقص شعبنا، فكيف نقتل الثاني فإنه ينقص شعبنا أكثر؟! ولكن ما علموا أن ترك قتله سبب لكثرة القتل، كان العرب يقولون: (القتل أنفى للقتل) أي: قتل القاتل أقل لوقوع القتل، فجاء في القرآن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] ، فالقصاص سبب للحياة كيف؟ الذي يريد أن يقتل أو يهم بالقتل يأتيه التفكير ويقول: إذا قتلته قتلت، فما فائدتي من هذا القتل كوني أني أقتله؟ هذا لا يفيدني، ولو أني شفيت غيظي في هذه اللحظة فسوف يقتلونني غداً أو بعد غد.
فيقلع ويترك القتل، فيكون خوفه من القتل سبب تركه للقتل، فهذا معنى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] ، وقول العرب: (القتل أنفى للقتل) يعني: أقل للقتل.
فالدول التي لا تحكم بهذا القصاص يكثر فيها القتل، يقتل إنسان واحداً وعدداً ويقول: لا ضرر علي، سوف يدخلونني في السجن مدة طويلة أو قصيرة ثم بعد ذلك يخلى سبيلي.
فيقدم على القتل، وكثر القتل في كثير من الدول، وصار قتل الرجل كأنه قتل نعجة، لا يحصل عليه تبعات، مع ما ورد من الإثم الكبير في قتل مسلم بغير حق، أو قتل أية نفس عدواناً، بذلك نعرف أن الشريعة ما جاءت إلا بالأحكام الشرعية التي تناسب المقام، والتي فيها الخير والمصلحة.(75/6)
أقسام القتل
يقول: [القتل عمد، وشبه عمد، وخطأ] يعني: ثلاثة أقسام.
وذهب بعض العلماء إلى أنه قسمان؛ لأن الله تعالى ما ذكر إلا قسمين في سورة النساء: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، ثم قال في الآية التي بعدها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] لم يذكر إلا قتل خطأ وقتل عمد، فلا يكون هناك شبه عمد، لكن جاء دليله من السنة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن القتل شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه الدية مغلظة) ، فجعله لا قصاص فيه، ولكن تغلظ فيه الدية، وأثبت أنه قسيم للعمد والخطأ، وأنه واسطة بينهما، فلا يلحق بالعمد فيكون فيه القصاص، ولا يلحق بالخطأ الذي يكون فيه الدية المخففة، بل يكون فيه الدية المغلظة.
وذكر بعد ذلك العمد، وأن العمد هو الذي يختص القود به، والقود هو القصاص، أي: قتل القاتل.
ولماذا سمي قوداً؟ لأنه يقاد إلى المقتل، يربطون في رقبته حبلاً ثم يقودونه إلى المكان الذي يقتل فيه إذا استعصى، فسموه قوداً، ثم أطلقوا الفعل عليه فقالوا: استقاد فلان من فلان.
حتى أطلقوه أيضاً على القصاص في الجراح وفي الأطراف، وسمو الجميع قوداً (أقدني) أي: اقتص لي.
فيختص القود به.(75/7)
قتل العمد
تعريفه: [أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فقتله بما يغلب على الظن موته به كجرحه بما له نفوذ في البدن، وضربه بحجر كبير] .
أولاً: أن يتحقق كونه آدمياً، أما إذا ظن أنه حيوان كصيد مثلاً أو هدف أو نحو ذلك ورماه لأجل أن يجرب إصابته ولم يتعمد فهذا خطأ، إذا قتله بهذه الصفة فإنه قتل خطأ.
ثانياً: أن يعرف أنه معصوم، فإذا ظنه حربياً كيهودي أو شيوعي مباح دمه ففي هذه الحال إذا رماه وقتله فلا قصاص، يقول: ما ظننت أنه مسلم معصوم، ظننته أنه من المحاربين الذين يحاربوننا ويقتلون المسلمين فرميته لأريح الناس من شره.
وتبين بعد ذلك أنه من المسلمين، وأنه معصوم الدم والمال، فمثل هذا لا قصاص فيه، ولكن يسمى قتل خطأ، فعليه الدية والكفارة.
وإذا ضربه بما يغلب على الظن أنه يموت به فإنه يسمى عمداً، بخلاف ما إذا ضربه بيده، أو ضربه بعصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير ما تعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه العمد لا قصاص فيه، أما إذا كان يغلب على الظن أنه يموت به كما لو رماه بالرصاص فهذا يعلم عادة أنه يموت به، وكذلك إذا شدخ رأسه بحجر، كاليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فهذا يعلم أنه يموت به، أو رماه بذلك الحجر الكبير فضربه على خده أو نحو ذلك، أو ضربه في بطنه فقطّع أمعاءه، وكذلك لو طعنه بحربة أو بسكين في بطنه، أو طعنه على قلبه أو على كبده ونفذت السكين أو السيف أو شيء له نفوذ، أي: دخول في البدن، حتى ولو طعنه بمخيط؛ لأنه قد يصل إلى القلب أو إلى الكبد أو إلى الأمعاء أو نحو ذلك، فيصعب علاجه.
وكذلك أيضاً لو ألقاه في بحر أو في بئر وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يخرج، أو ألقاه في نار تشتعل، ألقاه فيها مكتوفاً -مثلاً- ويعلم أنه لا يستطيع أن يتخلص وأنها تحرقه، أو خنقه، أي: كتم نفسه إلى أن مات بالكتم، أو عمل له عملاً شيطانياً كسحر أو نحوه، أو جعل سماً في طعامه يقصد بذلك قتله، والأنواع كثيرة، إذا تعمد قتله بسبب يقتل غالباً مثل هذه الأسباب اعتبر متعمداً.
وحل قتله قصاصاً، هذا هو القتل العمد.(75/8)
قتل شبه العمد
تعريف شبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ولم يجرحه بها، كأن يضربه بسوط أو بعصا صغيرة لا يقتل مثلها.
جاء في قصة الهذليتين أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، ثم إن إحداهما رمت الأخرى بحجر، وفي رواية: بعمود فسطاط، فقتلتها وما في بطنها، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمة، وقرر بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وورثها زوجها وولدها، وفي القصة أن والد القاتلة قال: (كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل) ، فالحاصل أن هذه المرأة ضربتها بعمود فسطاط، أي: عمود صغير يرفع به طرف الخيمة، ثم لما رمت هذه ما ظنت أنها تموت، وفي بعض الروايات أنها رمتها بحجر، ولعلها رمتها مرة بحجر صغير فأخطأها، أو ضرب مثلاً غير مقتل، فالحاصل أن هذا اعتبر قتل خطأ.
وشبه العمد الذي لا قصاص فيه تعريفه: أن يتعمد الضرب ولا يريد القتل، يتعمد ضربه أي: يتعمد أن يضربه بما لا يقتل غالباً.
يتعمد الضرب ولا يريد القتل، وليس له نية في أن يقتله، ولكن وقع أنه مات بهذه الضربة، سواءٌ مات بالحال أو مات بعد حين، فمثلاً ضربه بعصا، والعصا لا تقتل غالباً، ولكن تسمم أثرها وتأثر به فمات ذلك المظلوم، فهذا كله شبه عمد.
أما إذا جرح كأن ضربه بحجر فشق جلده ولو كان الحجر صغيراً، ولما شق جلده خرج منه دم وتأثر مثلاً وتسمم الجرح ومات بسببه فهذا عمد.(75/9)
قتل الخطأ
أما الخطأ فهو أن يفعل ما له فعله، كأن يرمي صيداً ونحوه فيصيب آدمياً، ويدخل فيه التسبب، فإذا حفر حفرة في الطريق وسقط فيها إنسان ومات فإنه متسبب، فالحافر إذا لم يجعل عليها حاجزاً يمنع أن يسقط فيها فجاء إنسان غافل أو ضرير فسقط فيها، وكذلك لو ضيق الطريق بحجارة أخذت جزءاً من الطريق فجاء إنسان فاصطدم به، سواءٌ أكان يمشي أم يقود سيارة ولم يعلم هذا المكان، ولم يعلم بهذه الحجارة اعتبر الواضع متسبباً، فيكون قتل خطأ، وهكذا لو ربط دابة بطريق، أو أوقف سيارة بطريق ضيق فجاء من اصطدم فيها، وكذلك لو أخذ جزءاً من الطريق، كالذين يجعلون عتبات مدخلهم في الطريق تأخذ من الطريق متراً مثلاً أو نحوه، من اصطدم فيها اعتبر أهل ذلك المكان متسببين، فيكون ذلك قتل خطأ.
وهكذا لو أن إنساناً وضع سماً لكلب أو لسبع فأكله إنسان لم يعلم به، فهذا الذي وضعه يعتبر متسبباً؛ لأن عليه أن يحفظه، ولا يدعه في متناول أحد من الناس صغيراً أو كبيراً.
وهكذا أيضاً خطأ الأطباء، فالطبيب الذي ليس حاذقاً في الطب إذا أجرى عملية ومات ذلك الذي أجرى له اعتبر متسبباً فعليه الدية، وهكذا الذي يعطي دواءً وهو ليس من أهل المعرفة، أعطى إنساناً دواء، وكان ذلك الدواء لا يناسبه، فأكله فتضرر ومات بسببه، اعتبر أيضاً متسبباً، وورد في بعض الأحاديث: (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن) ، وذلك لأنه تجرأ والناس أحسنوا به الظن، وجلس للناس وقال: أنا أعالج.
فجاؤوا إليه وقالوا: نحن بنا مرض كذا وكذا.
فإذا أعطاه دواء وهو ليس مناسباً له فهو ليس من أهل المعرفة، فصدق عليه أنه متسبب في الموت، وأمثلة الخطأ كثيرة تقاس على مثل هذا.
ومن الخطأ أيضاً عمد الصبي أو المجنون، الصبي الذي دون التمييز لو أخذ سكيناً وجاء إلى إنسان نائم وطعنه فلا قصاص عليه، ولكن الدية على العاقلة الأقارب، وذلك لأنه لم يكن متسبباً عن عقل، وكذلك أيضاً لو قاد سيارة واصطدم بإنسان اعتبر أيضاً خطأ، والدية على عاقلته، ونعرف أيضاً أن أخطاء السيارات كلها تعتبر من الخطأ، فالذي يقود سيارته ثم يصطدم بإنسان أو يصطدم بسيارة أخرى، أو يحدث منه انقلاب فكل هذا من الخطأ لا من العمد.
والمجنون الذي ليس معه عاقل يحبسه ويمنعه عن الاعتداء، فهذا المجنون لو أنه قتل إنساناً فلا قصاص عليه؛ لأنه ليس معه عاقل، ومعلوم أن أولياءه عليهم أن يحفظوه ويأخذوا على يده ويمنعوه من الاعتداء حتى لا يتعدى على مسلم؛ لأنه ليس معه معرفة بآثار هذه الأمور وعواقبها.(75/10)
قتل الجماعة بواحد
يقول: [ويقتل عدد بواحد] .
إذا اجتمع عدد وتساعدوا على قتل واحد فإن القصاص عليهم جميعاً، فإذا كانوا كلهم عزموا واتفقوا على قتله، أو كان فعل كل واحد منهم يصلح أن يكون قاتلاً فإنهم يقتلون كلهم، فلو اجتمع أربعة على قتل إنسان، فأحدهم قال: أنا أمسك يديه.
والآخر قال: أنا أمسك رجليه.
والآخر قال: أنا أمسك أذنيه.
والآخر خنقه مثلاً أو برك على صدره، أو طعنه، وكانوا أربعة يُقتلون إذا اتفقوا على قتله.
وردت قصة أن غلاماً كان عند امرأة كأنه ابن زوجها، ثم إن زوجها غاب، واتفقت مع خمسة أو سبعة على أن يأتوها لفعل الفاحشة، فلما جاؤوا إليها قالوا: نخشى من هذا الولد -ولد زوجها- أن يدل علينا.
فاتفقوا على غمه إلى أن مات، ثم ألقوه في بئر، ولما فقدته أخذت تبكي وتنادي وتدعو من يدلها عليه، ثم بعد ذلك وجد الذباب يخرج من تلك البئر، فأخرج وإذا فيه أثر الغم والقتل، فاتهم واحد من هؤلاء فقبض عليه، وكأنه رؤيت عليه علامة، فدل على الباقين فاعترفوا، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يقتلوا كلهم، واشتهر عنه أنه قال: (لو تمالأ على قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به) سبعة قتلوا بواحد، والقصة في مصنف عبد الرزاق، ويذكر الفقهاء في كتبهم قول عمر: (لو تمالأ على قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به) .
وسبب ذلك أنهم تساعدوا على قتله، وكل منهم مريد قتله، ولو أسقطنا القتل عنهم لتجرأ كثير من الناس، فإذا أراد أحد أن يقتل أحداً تساعد مع آخر وقال: هلم فلنقتله الاثنان حتى لا يكون علينا قصاص، هلم فلنجتمع ثلاثة أو أربعة حتى لا يكون علينا قصاص.
فتبطل حقوق المسلمين، وتهدر كثير من دماء المسلمين، فلا جرم أن يقتل العدد بالواحد إذا كان كل منهم عازما ًعلى قتله، أو فعل به فعلاً يصلح أن يكون قتلاً ويصدق عليه أنه قتله، فيقتلون به ولو كانوا كثيراً، ولو قيل: لا يقتل إلا واحد لقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] فحينئذٍ نقتل واحداً ونترك ثلاثة أو سبعة، مع أن كلهم قتله! وهذا الواحد الذي قتلناه مشترك مع غيره، فلذلك يتحتم قتل الجميع ولو كثروا.
أما إذا عفا الأولياء عنهم ففي هذه الحال إذا طلبوا الدية ليس لهم إلا دية واحدة؛ لأن القتيل واحد فلا تتعدد الدية، لكن يجوز لهم أن يقتلوا بعضهم ويتركوا بعضهم، فلو قالوا: نقتل منهم ثلاثة ونصفح عن ثلاثة أو عن أربعة جاز ذلك، أو قالوا: هذا سوف نقتله، وهذا يشتري نفسه وينقذها بمائة ألف، أو بألف ألف، أو بألفي ألف يجوز ذلك، فيجوز أن يقتلوا واحداً دون الآخر.(75/11)
مسألة الإكراه على قتل الغير
يقول: [ومن أكره مكلفاً على قتل معين أو على أن يكره عليه ففعل فعلى الكل القود أو الدية] هذا إذا كان قادراً، إذا قال: اقتل زيداً وإلا قتلتك.
فهذا الذي قال: (اقتل) عنده قدرة وتمكن، يقول زيد: أنا مظلوم.
فيقول هذا: أنا مكره على قتلك، إن لم أقتلك قتلوني.
فكيف تقتل إنساناً تعرف أنه مظلوم لأجل أن تحيي نفسك؟! ليس لك ذلك، ففي هذه الحال القاتل المباشر والآمر الذي أكره كلاهما قاتلان، فعليهما القود، وإذا طلبت الدية فعليهما دية واحدة يقتسمانها بينهما.
كذلك لو قال: مر فلاناً يقتل زيداً، وإن لم تأمره فإني سوف أقتلك.
فيكون عندنا الآن ثلاثة: هذا الظالم، وهذا المأمور الأول، والمأمور الثاني، والآمر سلطان أو أمير أو قوي عنده قوة يعرف المأمورون أنه إذا لم يقتلوه قتلوا، ففي هذه الحال يقتل الجميع، يقتل الآمر الأول والآمر الثاني والمأمور؛ لأن كلاً منهم فدى نفسه، قال: أفدي نفسي ولو كنت أعلم أنه مظلوم.
وقد يقول قائل: إني إذا لم أقتله قتله غيري، ثم قتلت أنا، فزيد هذا المظلوم لا بد أنه سوف يقتل، وقد أمروني أنا وإذا لم أمتثل قتلت، وإذا لم أقتله قتلوه فأرسلوا من يقتله، فكونه لا يقتل إلا واحد وهو زيد أولى من أن يقتلونني ويقتلونه مرة أخرى.
هذا قد يكون عذراً لبعض الناس أنه يقول: إني سوف أقتل ثم يقتل زيد، فلا نجمع بين قتلين.
والجواب أن نقول: ليس لك أن تقدم على قتله وأنت تعرف أنه مظلوم، إذا أقدمت عليه فإنك قاتل، بل عليك أن تتنصل، ولو قُتِلت فإنك مظلوم أيضاً وتكون شهيداً، وكذا إذا لم تقتل ولكن تضررت، بأن سلب مالك، أو أدخلت السجن، أو فصلت من عمل، أو شردت ونفيت، فتحتسب ذلك ولا تقدم على قتل مسلم وأنت تعرف أنه مظلوم ولا قصاص عليه ولا سبب.
يقول: [وإن أمر به غير مكلف أو من يجهل تحريمه، أو سلطان ظلماً من جهل ظلمه فيه لزم الآمر] .
إذا كان الإنسان العاقل أمر غير مكلف أن يقتل، أمر صبياً وأعطاه سلاحاً، أو أمر المجنون وأعطاه سلاحاً وقال: اقتل هذا الإنسان فالقصاص على الآمر؛ لأن هذا غير مكلف، مرفوع عنه القلم، كذلك إذا كان المأمور جاهلاً بالحكم لا يدري هل القتل حرام أو حلال، أو لا يدري هل هذا المقتول مستحق أو غير مستحق، ويظن أن هذا الآمر لا يأمر إلا بقتل من يستحق القتل، فهو يقول: أمرني فلان وهو رئيس، وما أظنه يكون ظالماً، أعتقد أنه لا يأمر إلا بحق، فامتثلت أمره اعتماداً على أنه رئيس وأنه ذو سلطة وأنه مأمون، فمكنني وأمرني بقتله، وأنا أجهل أن هذا معصوم، ولا أدري أن قتله محرم.
وهكذا إذا كان السلطان ظالماً أمر جاهلاً ظلمه، فالمأمور يقول: ما كنت أظن أن هذا السلطان ظالم، أظن أنه عادل، فإذا كان عادلاً فلا يأمر إلا بما هو جائز، فالقصاص في هذه الحال على الآمر؛ لأن غير المكلف مرفوع عنه القلم، والذي يجهل تحريم القتل أو تحريم قتل هذا المسلم معذور بجهله، والسلطان الظالم إذا أمر من لا يدري أنه ظالم فإنه معذور.(75/12)
شرح أخصر المختصرات [76]
القصاص من محاسن الشريعة، وفيه فوائد ومصالح عديدة، فقد قال الله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، وقد ذكر الفقهاء شروطه وشروط استيفائه وكيفيته.(76/1)
شروط القصاص
قال المصنف رحمه الله: [فصل: وللقصاص أربعة شروطٍ: تكليف قاتلٍ، وعصمة مقتولٍ، ومكافأته لقاتلٍ بدينٍ وحرّيّةٍ، وعدم الولادة.
ولاستيفائه ثلاثةٌ: تكليف مستحقٍّ له، واتّفاقهم عليه، وأن يؤمن في استيفائه تعدّيه إلى غير جانٍ.
ويحبس لقدوم غائبٍ وبلوغٍ وإفاقةٍ.
ويجب استيفاؤه بحضرة سلطانٍ أو نائبه، وبآلة ماضيةٍ، وفي النّفس بضرب العنق بسيفٍ] .
ذكر المصنف شروط القصاص، أي: القصاص في النفس، وكذلك القصاص فيما دون النفس، وهذه الشروط هي: الشرط الأول: تكليف القاتل.
الشرط الثاني: عصمة المقتول.
الشرط الثالث: المكافأة، مكافأته لقاتل ديناً وحرية.
الشرط الرابع: عدم الولادة، هذه شروط وجوب القصاص.(76/2)
التكليف
إذا كان القاتل غير مكلف فلا قصاص، كما تقدم أن المجنون والصبي لا يقتص منهما لفقد التكليف.
والمكلف هو الحر البالغ العاقل.(76/3)
عصمة المقتول
الشرط الثاني: أن يكون المقتول معصوماً، فإذا كان المقتول حربياً فلا قصاص، وذلك لأن الحربي مباح الدم، وهكذا أيضاً لو قتل قاتلاً، فلو أن زيداً قتل من هذه القبيلة رجلاً، وقبل أن يترافعوا جاء رجل من نفس القبيلة وقتل زيداً فزيد هذا ليس بمعصوم، وذلك لأنه يعتبر قاتلاً، وفي الحديث: (النفس بالنفس) ، وهكذا أيضاً لو كان زانياً محصناً وجاء إنسان وقتله، وقال: قتلته لأنه زنى.
وكان اعترف بأنه زنى وهو محصن، فهذا ليس بمعصوم فلا يقتل قاتله.(76/4)
المكافأة
الشرط الثالث: المكافأة، أي: المساواة بين القاتل والمقتول في الحرية والدين، فإذا لم يكونا متساويين ولا متكافئين فلا قصاص، مثال عدم المكافأة في الدين: الذمي الذي ليس بمسلم، ثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) حتى ولو كان ذلك الكافر معاهداً دخل بلاد المسلمين بعهد، وحتى لو كان ذلك الكافر من أهل الذمة ويدفع الجزية، فلا قصاص بقتله لعدم المساواة في الدين، فهو ليس كفؤاً للمسلم، ولكن فيه الدية، والدليل قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) يعني: معاهدين {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] .
وهكذا المكافأة بالحرية، فإذا كان القاتل حراً والمقتول عبداً فلا قصاص؛ لأن العبد تدفع قيمته، فيطالب سيده بقيمته، ويدفع ثمنه، ولا شك أنه يترتب على قتله إثم؛ لأنه قد يكون له أولياء أحراراً، فقد يكون أبوه حراً أو أمه، أو له إخوة أو أولاد أحرار، وهذا القاتل فجعهم بولدهم، فيقول والده: هذا قتل ولدي.
وتقول أمه: إنه قتل ولدي، وهذا يقول: إنه قتل أبي.
وهذا يقول: إنه قتل أخي.
لكن يقال لهم: إنكم لم تفقدوا شيئاً؛ لأنه ليس بحر، فلا يقدر على أن ينفق عليكم، ولا أن ينفعكم، إنما الذي فقده هو سيده، فتدفع قيمته للسيد.(76/5)
عدم الولادة
الشرط الرابع: عدم الولادة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل والد بولده) ، وذلك لأن الولد فرع للوالد، فلا يقتص منه ولو كان القتل عمداً، ولكن عليه الدية مغلظة، وقد وقع في عهد عمر رضي الله عنه قصة رجل من بني مدلج اسمه قتادة، كانت له أمة مملوكة فتسراها، فولدت له ولدين، فنشأ هذان الولدان مع أبيهما وظهرت فيهم الشهامة، فصارا يرعيان الغنم لأبيهما ويحفظانها، وقتادة هذا كانت له امرأة، فكانت تكره تلك الأمة، فتقول له: أرسلها ترعى الغنم.
فيقول أولادها: لا نسمح لأمنا أن ترعى ونحن موجودان، بل نقوم بالرعاية كما هي ونكفي أمنا.
فتحير الأب، فالأولاد منعوا أمهم، والزوجة تلزم زوجها أن يرسلها ترعى ليكون ذلك إذلالاً لها، فغضب على ولديه لقولهما: لا تذهب أمنا.
ونحن نقوم بالرعي مقامها، فقتل واحداً منهما، ولما قتله وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إليه وهو في برية، وقال: لولا أن الوالد لا يقتل بولده لقتلتك، ولكن ادفع مائة من الإبل لأخيه لأنه حر.
فلم يقتله، وذلك لأنه أبوه، فدل على أن الوالد لا يقتل بولده.(76/6)
شروط استيفاء القصاص
شروط الاستيفاء ثلاثة، يبوبون عليها بـ (باب استيفاء القصاص) ، وهي: الشرط الأول: تكليف المستحق.
الشرط الثاني: اتفاقهم.
الشرط الثالث: أن يؤمن في استيفائه تعديه إلى غير جان.
هذه شروطه.
والتكليف هو البلوغ والعقل، فإذا كان للميت المقتول ورثة قاصرون فلا يستوفى القصاص حتى يكلفوا، أي: حتى يبلغوا ويعقلوا، وذلك أنهم ربما يطلبون الدية إذا كلفوا، فلا يقتص من القاتل حتى يكون الورثة مكلفين، والمستحقون له أولاد المقتول أو ورثته.
الشرط الثاني: أن يتفقوا على طلب القصاص.
فلو كان أولاده عشرة وله زوجتان مثلاً، فطلبت إحدى الزوجتين الدية، أو طلبت الدية إحدى البنات مع أنها لا تستحق إلا شيئاً يسيراً فإنه لا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ، بل يدفع القاتل الدية، وفي هذه الأزمنة يحدث الصلح على الدم، فهناك -مثلاً- قتيل له أولاد بلغوا، وله أبوان، وله زوجة أجنبية ليست من القبيلة، فأهل القاتل ذهبوا إلى الزوجة وقالوا: لا فائدة لك في القصاص، اطلبي الدية حتى يسقط القصاص، ونحن نعطيك مائة ألف أو مائة وخمسين ألفاً، مع أن نصيبها من الدية إنما هو خمسة آلاف أو نحوها، فلما طلبت الدية سقط القصاص، مع أن أولاد الميت وأبويه يريدون القصاص، فإذا طلب الدية واحد من الورثة ولو كانوا عشرين فليس للبقية مخالفته، فيلزمون بأخذ الدية ولو كانت الدية قليلة.
الشرط الثالث: أمن الحيف.
أي: أمن التعدي في استيفائه، مثاله: إذا كان القاتل امرأة حاملاً، فهل تقتل وهي حامل؟ الحمل ليس له ذنب، فيجب أن يتركوها إلى أن تضع، وبعد ذلك تقتل؛ حتى لا يتعدى القصاص إلى غير الجاني، وذلك لأن تعديه يعتبر ظلماً.
وإذا ولدت ولم يوجد لولدها من يحضنه فإنها تترك إلى أن تفطمه -مثلاً- ثم يقام عليها الحد.(76/7)
الحكم إذا كان للمقتول ولد لم يبلغ الحلم
قد يكون للقتيل طفل رضيع ابن سنة أو نصف سنة، فإذا رفع الأمر إلى المحاكم قالوا: لا قصاص حتى يبلغ هذا الطفل، فربما يطلب الدية.
فيتوقف القصاص، ثم في هذه الحال ماذا يفعل بهذا القاتل؟ يسجن حتى يبلغ الصغير، أو يقدم الغائب، أو يفيق المجنون، ولو طالت المدة، ومعلوم أنه إذا كان الطفل له نصف سنة فسوف يحبس هذا القاتل خمس عشر سنة إلا أشهراً، ولا شك أن حبسه إهانة له، وذلك لأنه تعدى على مسلم، فيحبس ولا يمكن من الخروج.
وأجاز بعض العلماء إخراجه بكفيل، ولكن الكفالة لا تكون إلا بالحقوق المالية لا في الحقوق البدنية، وذلك لأنه قد يهرب ولا يدرى أين هو، فإذا بلغ الصغير أحضر الكفيل، فهل نقتلك يا كفيل؟ أنت لست القاتل، فلا يقال: أحضر إلينا القاتل وإلا قتلناك؟ لا يجوز أن يقتل الكفيل وهو ليس المعتدي، فلذلك لا تجوز الكفالة إلا لمن عليه حق مالي، كمن عليه دين وأخرج بالكفالة وهرب ذلك المدين، فإنه يحضر الكفيل ويغرم الدين، فأما كفالة من عليه حق بدني فلا يجوز.
إذاً يبقى هذا القاتل في السجن، وإن كان أحد الأولياء غائباً يسجن إلى أن يحضر ذلك الغائب ولو طالت المدة، فإن كان ولد المقتول صغيراً يسجن إلى أن يبلغ الصغير، وإن كان مجنوناً يسجن إلى أن يفيق ذلك المجنون، إلا إذا قرر الأطباء أنه لا شفاء له، وأنه يغلب على الظن أن يبقى على جنونه، ففي هذه الحال يعدل إلى الدية نظراً لحق هذا المجنون، لكن إذا قال أحد إخوته الأصحاء: نحن نعطيه نصيبه من الدية التي ستؤخذ من هذا القاتل، فقد يكون نصيبه منها عشرة آلاف أو عشرين ألفاً نحن نضمنها له، ونريد أن ننتقم من هذا القاتل، نريد أن نقتله، فلا يبقى ونحن ننظر إليه فلهم ذلك.(76/8)
حضور السلطان أو نائبه عند القصاص
الاستيفاء يكون بحضرة السلطان أو نائبه، ويمكن لولي القتيل أن يقتله هو، فيعطى سيفاً مثلاً أو بندقاً ويقال: هذا قاتل أبيك أو أخيك اقتله إذا كان يحسن ذلك، ولكن لابد أن يكون السلطان كالقاضي أو وكيله حاضراً استيفاء القصاص حتى لا يستوفى على غير صفة مألوفة.(76/9)
آلة القصاص وكيفيته
يقول: [وبآلة ماضية] .
القصاص يكون بآلة ماضية، أي: آلة حادة.
فإذا كانت سيفاً فيكون سيفاً حاداً، وإذا كان خنجراً يؤمر بأن يقطع رأسه ويكون أيضاً حاداً وإذا كانت بندقاً ليرميه يكون معروفاً بالإصابة.
وأكثر العلماء على أن القصاص لا يكون إلا بالسيف بضرب العنق، وقد ورد حديث في السنن: (لا قود إلا بالسيف) أي: لا قصاص إلا بالسيف.
هكذا جاء الحديث، والحديث فيه مقال، ولكن كأنهم يقولون: نختار العمل به ولو كان ضعيفاً؛ لأنه أرفق بالقاتل، ولأنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، فيكون القتل بالشيء الذي يريح القاتل بحيث لا يتعذب، فلا يجوز تعذيبه.
ولو قال الولي: إن هذا مثَّل بأخي أو بابني فطعنه عشرين طعنة، فأنا أريد أن أطعنه هنا وهنا وهنا حتى أشفي غيظي؛ لأنه طعن أخي أو ابني فهل يمكن؟ الحديث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، فلا يمكّن من ذلك على المختار، وذهب بعض العلماء إلى أنه يمكن، وأنه يقتل بمثل ما قتل به، واستدلوا بآيات من القرآن في سورة البقرة: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، والمثلية تقتضي المساواة، وفي آخر سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ، والمثلية تكون بالمساواة، وفي سورة الشورى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، ونحو ذلك من الآيات، فإنها دالة على أن من أراد أن يعاقب فله أن يأخذ الثأر من ذلك المعتدي عليه وأن يفعل به كما فعل.
ومن الأدلة أيضاً قصة تلك الجارية من الأنصار التي وجدت قد رض رأسها بين حجرين، وعثروا عليها وفيها رمق وبقية حياة، فسألوها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان؟ حتى سموا يهودياً، فأشارت برأسها أن: نعم.
فأحضر ذلك اليهودي وضيق عليه فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فوضع رأسه على حجر وشدخ بالحجر الثاني كما قتل الجارية، وفي هذا أيضاً دليل على أن الذكر يقتل بالأنثى، فهذا دليل من يقول: إنه يقتل بمثل ما قتل به.
ويجيبون عن الحديث: (لا قود إلا بالسيف) بأنه ضعيف، وأما حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فالمراد: إذا كان القتال قتالاً مباحاً، كقتال المشركين، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى المسلمين عن التمثيل، ويقول: (لا تغدروا ولا تمثلوا) أي: لا تمثلوا بالقتلى.
والتمثيل هو أنهم إذا قتلوا قتيلاً قطعوا أنفه، وفقئوا عينه، وشرموا شدقه، وبقروا بطنه، وأخرجوا قلبه، يمثلون به بعد أن يقتل، ولا فائدة في هذا التمثيل، فنهى عن التمثيل، فهذا معنى: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .
ثم هؤلاء الذين قالوا: يقتل بمثل ما قتل به اختلفوا إذا قتله بفعل محرم، فكيف يقتل؟ فقيل: يحرص على المماثلة.
وممن قال ذلك واختاره ابن حزم صاحب (المحلى) ، فيقول مثلاً: لو قتله بفعل اللواط الذي هو محرم، مثل بعض الفسقة قد يغصب صبياً ثم يلوط به فيموت تحته بهذا الفعل، فكيف يقتل هذا اللوطي؟ اختار ابن حزم أنه يدخل في دبره وتد أو خشبة حتى يموت بذلك حرصاً على المماثلة، هكذا قال، وإذا قتله بسقيه خمراً فجرعه خمراً إلى أن مات -والخمر محرم- قال: يسقى ماءً إلى أن يمتلئ بطنه وتتشقق أمعاؤه، فيموت بذلك كما مات صاحبه بالخمر.
وهذه تقديرات، ولكن الأولى العمل بالقول الأول الذي هو إحسان القتل؛ لعموم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) .
والله أعلم.(76/10)
الأسئلة(76/11)
دية العبد
السؤال
ما هي دية العبد؟
الجواب
ديته قيمته، بمعنى أنه سلعة يباع ويشترى، فتقدر قيمته وتدفع لسيده.(76/12)
حكم حوادث القتل بالسيارات
السؤال
ما حكم القتل بسبب حوادث السيارات؟
الجواب
حوادث السيارات كلها تلحق بالخطأ، ليس فيها قصاص، ولكن فيها الدية، فإذا حصل منه تهور وسرعة جنونية ومخاطرات كالذين يخاطرون أو يفحطون هؤلاء لا شك أنهم متسببون، فتغلظ عليهم الدية، وكأنه شبه عمد.(76/13)
حكم من قتل دفاعاً عن نفسه
السؤال
ما الحكم في الدفاع عن النفس، مثل الذي يقتل رجلاً مسلماً لأنه اعتدى عليه وكان يريد إيذاءه، فدافع عن نفسه فقتله؟ وماذا عليه؟
الجواب
هذا لا حرج عليه، ولا قصاص عليه إذا قتله دفاعاً عن نفسه، ويسمى قتل الصائل الذي يصول على إنسان، وتقدم في الغصب أن من صال على مال إنسان أو على محارمه فله أن يدفعه بالتي هي أحسن.(76/14)
حكم عدم التنازل عن القصاص إلا بأموال طائلة جداً
السؤال
في قبيلتنا أمر، وهو أن أولياء القتيل لا يتنازلون عن القصاص إلا بأربعة أو خمسة ملايين ريال، فتقوم قراباتهم بجمع المال من القبيلة، فهل يحق لهم المطالبة بهذه الأموال الطائلة؟
الجواب
يحق لهم ذلك؛ لأن أهل الميت مات ميتهم، فيستحقون قتل قاتله، وأهل القاتل يشترون ولدهم، فيقولون: نشتريه.
فيقولون: إن لم تدفعوا هذا قتلناه، فاختاروا إما أن تدفعوا أربعة ملايين أو نقتله، فإننا نستحق قتله.(76/15)
من سقط من عمارة على سيارة فمات
السؤال
لو سقط رجل من عمارة على سيارة في المواقف فهل على صاحب السيارة الدية؟
الجواب
الصحيح أنه ليس عليه دية إذا كان إيقافها في الأماكن المعتادة من غير تضييق، ذلك لأن هذا خاطر حيث صعد على سطح هذه العمارة، وقد لا تكون محجاة، فخاطر بفعله هذا، وورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن ينام الرجل على سطح ليس عليه حجار، يعني: ليس على أطرافه حواجز.(76/16)
حكم من له خزان ماء فسقط فيه طفل ومات
السؤال
يقول: أحد الجيران بنى بيته ولم يجعل له أبواباً، وفيه خزان مليء بالماء، فأتى أطفال من الشارع إلى هذا البيت، فسقط طفل عمره خمس سنوات في الخزان فمات، فهل على صاحب البيت شيء؟
الجواب
نرى أن على صاحب الخزان الدية حيث تركه مكشوفاً وترك الأبواب مفتوحة، والأطفال لابد أنهم يخرجون ويذهبون، والطفل الذي في الرابعة أو في الخامسة ليس معه ما يحبسه، ولا يدري أن هذا الماء يقتل، فهذا صاحب الخزان فرط فعليه الدية.(76/17)
من قتل شخصين وطلب أولياء أحدهما الدية والآخرون القصاص
السؤال
لو أن شخصاً قتل رجلين، وأهل الرجل الأول طلبوا الدية، وأهل الرجل الثاني طلبوا القصاص، فما الحكم؟
الجواب
يجوز ذلك، لكن القاتل واحداً، فيقول: أنا ليس عندي إلا نفسي، فاقتلوني أو اعفوا عني.
فإذا قال أولياء القتيل الأول: نحن نعدل إلى الدية.
وقال الآخرون: نحن نريد القصاص فقد يقول: من أين لي الدية إذا قتلت؟ ففي هذه الحال يجتمعون بطلب القصاص وتسقط الدية.(76/18)
الشفاعة في إسقاط القصاص
السؤال
يقول: هل الشفاعة في إسقاط القصاص مندوب إليها ويؤجر المسلم عليها؟ وهل يليق طلب الشفاعة لأصحاب الاعتداء على المحارم أو ترويج المخدارت قبل أن يصل الأمر للقاضي؟
الجواب
نرى أنه إذا كان مظلوماً أو معتدى عليه فإن الشفاعة فيه مندوبة، فكثيراً ما نسمع أن هذا الرجل دخل في بيت فلان ليفجر بأهله، ثم إن صاحب البيت وجده فلم يجد بداً من أن يقتله؛ لأن هذا الظالم معه سلاح، فيقول صاحب البيت: لو لم أقتله لقتلني، فأنا قتلته دفاعاً، وقتلته لكف اعتدائه.
ولكن القاضي لا يقبل منه، ويقول: هلم بشهود.
فيقول: ما معي شهود.
وأهل القتيل يقولون: إنه خدعه وأدخله بيته وقتله لعداوة بينهما أو نحو ذلك.
فلا يكون هناك بينات، ففي هذه الحال إذا عرف أن هذا القتيل من أهل الظلم، وأنه كثيراً ما يتسور وكثيراً ما يدخل البيوت، وليس له دين يحجزه فتجوز الشفاعة في ذلك القاتل؛ لأنه قتله لكف شره.(76/19)
قتل من لا يصلي
السؤال
من قتل شخصاً لا يشهد الصلاة مع الجماعة هل عليه قصاص؟
الجواب
للقاضي أن يأمر بالقصاص، وذلك لأن أولياءه قد يقولون: أنه يصلي وحده.
أو: إنه معذور يصلي في البيت، أو في مقر عمله، أو ما أشبه ذلك.
أما إذا عرف أنه لا يصلي أصلاً، وأنه دعي إلى الصلاة فقال: لا أصلي ولو قتلتموني، وثبت عند القاضي أنه معاند في ترك الصلاة فنرى -والحال هذه- أنه يحكم بكفره وبقتله.(76/20)
من أمره السلطان بالقتل ظلماً
السؤال
لماذا يقتل المكره على القتل إن قتل ولا يقتل الرجل الذي أمره السلطان بالقتل ظلماً؟
الجواب
ذلك لأن هذا المكره كأنه فدى نفسه، وإذا فدى نفسه فإنه يقتل، وأما إذا كان السلطان ظالماً وأنت لا تدري أنه ظالم، وأمرك بقتل إنسان، ففي هذه الحال أنت معذور.(76/21)
الفرق بين القتل حداً وقصاصاً وتعزيراً
السؤال
نسمع كثيراً عن القتل حداً، والقتل قصاصاً، والقتل تعزيراً، فما هو الفرق بينها؟
الجواب
القتل حداً مثل رجم الزاني، فيعتبر حداً من حدود الله، والقتل ردة مثل قتل الكافر الذي ارتد لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) والقتل قصاصاً مثل قتل القاتل، والقتل تعزيراً يختص بالحاكم وولي الأمر إذا رأى أن هذا كثير الفساد فقتله لكف شره تعزيراً.(76/22)
ضمان الطبيب في قتله للمريض خطأ
السؤال
جاء في (الزاد) أن الطبيب إذا تعدت يده موضع العلاج فإنه يضمن ولو كان خطأ، فهل إذا مات المريض في هذه الحالة يعد فعل الطبيب قتل خطأ؟
الجواب
يعد خطأ، والطبيب لا يجوز له أن يتطبب إلا وهو عالم، ولكن قد يخطئ ولو كان عارفاً بالطب، وإذا أخطأ بأن شدد في الجرح، أو أخطأ في وصف الدواء أو ما أشبه ذلك فإنه متسبب، فيكون عليه الدية ولا قصاص.(76/23)
قتل المسلم للكافر الحربي مع ترتب مفسدة
السؤال
إذا قتل مسلم حربياً فإن الحربيين يثأرون بقتل المسلم القاتل أو بقتل غيره من المسلمين، بل بقتل جماعة من المسلمين عموماً، وهذا ما يحصل في هذه الأيام، فما حكم هذا القتل المفضي إلى زيادة المفسدة على إخوانه المسلمين؟
الجواب
يحصل هذا في بعض البلاد التي تحكمها دولة كافرة فيها سكان مسلمون، كما في (فلسطين) و (سرلانكا) وغيرها، يحكمها ويستولي عليها الكفار، فإذا قال ذلك المسلم: أنا سوف أقتل هذا الكافر لأنه كافر.
فأقدم على قتله وعلمت الدولة، فإنها لا تقتصر على قتل واحد، فتقتل أهل البيت كلهم، ففي هذه الحال تدرأ هذه الأمور إلى أن يجعل الله للمسلمين فرجاً.(76/24)
أقسام الكفار
السؤال
إذا دخل الحربي بلاد المسلمين بعقد دخول من ولي أمر المسلمين هل يثبت له حكم المعاهد وينتفي عنه وصف الحربي؟
الجواب
يكون مستأمناً؛ لأن الكفار أربعة أقسام: الأول: الحربي الذي هو في بلاده محارب، وهو حلال الدم والمال.
الثاني: المستأمن الذي هو حربي، ولكن دخل في أمان، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] ، فلا يجوز قتله.
الثالث: المعاهد الذي بين دولته وبين المسلمين عهد كسائر الدول الآن، كأمريكا وفرنسا ونحوهم.
والرابع: الذمي الذي يدفع الجزية.(76/25)
حكم من قتل رجلاً اقتحم بيته
السؤال
إذا دخل علي رجل في بيتي فقتلته هل علي إثم؟
الجواب
لا شك أنك مأمور أن تدفع عن نفسك ولو بقتله، ولكن إذا كنت لا تقدر عليه فالأولى أن تهرب حتى لا تقتل به بعد ذلك، أو تحرص على أن تنجي نفسك، أو تهدده رجاء أنه يهرب.(76/26)
الفرق بين الجهل بالحكم والجهل بما يترتب على الحكم
السؤال
هل هناك فرق بين الجهل بالحكم والجهل بما يترتب على الحكم، كما لو كان لا يعلم أن القتل حرام، ولكنه لو علم أنه سيقتل لم يقدم على القتل؟
الجواب
نرى أنه لا فرق، فكونه يقول: أنا أعلم أن القتل حرام، ولكن ما علمت أنني إذا قتلته قتلت.
فإذا كنت تعلم أنه حرام فأقدمت على قتله فنقتلك قصاصاً ولو كنت لا تدري أن القاتل يقتل؛ لأنك متعمد لقتله.(76/27)
استئذان المرضع زوجها في إرضاع غير ولده
السؤال
ينتشر عند العامة القول بأن من أرضعت طفلاً بدون علم زوجها فإنها زانية، ولا يترتب على هذا الرضاع أحكامه، فما رأيكم في هذا؟ وهل يجب على الزوجة استئذان زوجها في إرضاع وليد غيره؟
الجواب
ليس كذلك، فإذا رأت طفلاً بحاجة إلى أن ترضعه فلا حاجة إلى أن تستأذن زوجها، سيما إذا كان هناك ضرورة، ولا يقال: إنها زانية.
ولا يقال: إن عليها الاستئذان.(76/28)
جواز قتل الكافر الحربي في الجهاد
السؤال
الحربي لا قصاص على قاتله، وفي عصرنا هذا لو قتل أحد المسلمين كافراً فهل على قاتله قصاص، ولماذا؟
الجواب
لا شك أنه إذا قتل في دار الحرب فلا قصاص، بل فيه أجر، فالذين يقتلون الشيوعيين في الشيشان معلوم أنهم يقتلون حربيين، فلا قصاص عليهم، ولهم أجر، وكذلك الذين يقاتلون في كشمير ويقتلون الهندوس، والهندوس كفار وحربيون أيضاً، ولهم أجر في قتلهم، فإذا كان هناك حرب قائمة بين المسلمين والكفار فمعلوم أن المسلمين يقتلون من قدروا عليه، والكفار يقتلون من قدروا عليه، والله ينصر من يشاء، فإذا جاء مسلمون من سائر بلاد الهند أو باكستان ودخلوا في حدود كشمير فلهم أن يقتلوا من رأوه من المحاربين الذين يحاربون المسلمين، سواء من الهندوس أو من البوذيين أو من السيخ أو من غيرهم.(76/29)
حكم من قتل قاتل قريبه بغير إذن الحاكم
السؤال
لو أن أحد الأولياء قتل القاتل أثناء فترة الانتظار قبل القصاص خشية أن يتنازل أحد الأولياء، فهل يقتل هذا الولي أم لا؟
الجواب
الصحيح أنه لا قصاص عليه، وذلك لأنه قتل من هو قاتل، وإذا قتله فيتكفل بدية الصغار الذين إذا بلغوا قد يطلبونه بها، ويقول: إذا طلبوا الدية فإني سأدفعها أنا.
فله ذلك.(76/30)
اشتراك الجماعة في قتل واحد
السؤال
ثلاثة أشخاص اعتدوا على شخص، وقتله واحد منهم، فهل يقتص من الثلاثة أم من القاتل فقط؟
الجواب
إذا كان الثلاثة كلهم متساعدون، فهذا ممسك وهذا ضارب فعليهم القصاص، وإذا كان اثنان ابتعدا عندما بدأ في القتل وتوقفا وأقدم واحد فقتل فالقصاص عليه.(76/31)
حكم الصيد بالرمي بالبنادق
السؤال
ما الحكم إذا أطلق شخص النار على حيوان فسقط جزء منه وهرب ذلك الحيوان مثل الضب مثلاً، فبعض الإخوة يطلقون النار على الضب ويدخل في بيته، فهل على من أطلق النار إثم أم لا؟
الجواب
نرى أنهم يحرصون على إمساك ذلك الحيوان إن كان مأكولاً ويذبحونه، فإن لم يقدروا عليه إلا برميه فلهم رميه، ولكن إذا كان أمامهم بشر ويخافون أنهم إذا رموا أصابوا أحداً من البشر فلا يرمونه، بل يتركونه إلى أن يموت، أو إلى أن يتوقف.
ولا شك أنهم إذا لم يتمكنوا من إمساك هذا الحيوان كالضب أو الظبي مثلاً إذا صعد في جبل أو دخل في جحر ولم يقدروا على إمساكه وإلا بالرمي فليس عليهم إثم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/32)
شرح أخصر المختصرات [77]
للقود أحكام شرعية كثيرة، وهو نوعان: قود في النفس، وقود فيما دون النفس كالأطراف والجروح، ولا يجب القود إلا بشروط، وإلا وجبت الدية، وهي أنواع، وقد بينها العلماء بأدلتها.(77/1)
أحكام الجنايات
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب بعمدٍ القود أو الدّية, فيخيّر وليٌّ, والعفو مجّانًا أفضل.
ومتى اختار الدّية أو عفا مطلقًا أو هلك جان تعيّنت الدّية، ومن وكل ثم عفا ولم يعلم وكيل حتى اقتص فلا شيء عليهما، وإن وجب لقن قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه له، وإن مات فلسيده، والقود فيما دون النفس كالقود فيها، وهو نوعان: أحدهما في الطّرف, فيؤخذ كلٌّ من عين وأنف وأذن وسنّ ونحوهما بمثله بشرط مماثلة, وأمن من حيف، واستواء في صحّة وكمال.
الثّاني: في الجروح, بشرط انتهائها إلى عظم كموضحة وجرح عضد وساق ونحوهما.
وتضمن سراية جناية لا قود, ولا يقتصّ عن طرف وجرح, ولا يطلب لهما ديةٌ قبل البرء.
فصل: ودية العمد على الجاني, وغيرها على عاقلته، ومن قيّد حرًّا مكلّفًا أو غلّه أو غصب صغيرًا فتلف بحيّة أو صاعقة فالدّية, لا إن مات بمرض أو فجأةً.
وإن أدّب امرأته بنشوز، أو معلّمٌ صبيّه, أو سلطانٌ رعيّته بلا إسراف فلا ضمان بتلف من ذلك، وإن أمر مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمن، ولو ماتت حامل أو حملها من ريح طعام ونحوه ضمن ربه إن علم ذلك عادة.
فصل: ودية الحر المسلم مائة بعير، أو ألف مثقال ذهباً، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، فيخير من عليه دية بينها، ويجب في عمد وشبهه من إبل ربع بنت مخاض وربع بنت لبون وربع حقه وربع جذعة، وفي خطأ أخماساً، ثمانون من المذكورة وعشرون ابن المخاض، ومن بقر نصف مسنات ونصف أتبعة، ومن غنم نصف ثنايا ونصف أجذعة، وتعتبر السلامة لا القيمة، ودية أنثى نصف دية رجل من أهل ديتها، وجراحها تساوي جراحه فيما دون ثلث ديته، ودية كتابي حر نصف دية مسلم، ومجوسي ووثني ثمانمائة درهم، ودية رقيق قيمته، وجرحه إن كان مقدراً من الحر فهو مقدر منه منسوباً إلى قيمته، وإلا فما نقصه بعد برء، ودية جنين حرّ غرّةٌ موروثةٌ عنه قيمتها عشر دية أمّه , وقنّ عشر عشر قيمتها، وتقدر حرة أمة، وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً واختير المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده خير بين فدائه بأرش جناية، أو تسليمه لوليها] .
تكلم المؤلف أولاً على ما يجب بقتل العمد، ثم بعد ذلك على من تجب عليه الدية، ثم بعد ذلك على مقادير الدية.
يقول: [ويجب بعمدٍ القود أو الدية، فيخير ولي] .
قد ذكرنا قصة الهذلي الذي قتل بمكة في سنة ثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل وإما أن يدى) إما أن يقتل القاتل وإما أن يطلب الدية.(77/2)
تعريف الدية والقود
الدية أصلها: (ودية) ؛ لأنها من (وداه) أي: فداه.
وتسمى الدية عقلاً، وذلك لأنهم يأتون بالإبل فيعقلونها في فناء ولي القتيل.
وأما القود فهو القصاص، ولماذا سمي قوداً؟ لأن القاتل يقاد إلى المقتل بنسعة، أي بحبل.
وفي الحديث أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل الأنصاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (تحلفون على رجل منهم فيقاد بنسعته) يعني: بحبله الذي يربط في عنقه، ويقاد إلى المقتل.
فيخيّر الولي فيقال: لك الخيار: إما أن تقتل هذا القاتل، وإما أن تطلب الدية.
وإذا اختار الصلح على أكثر من الدية فله ذلك، فإذا قال ولي القتيل: أنا أطلب كذا وكذا.
أكثر من الدية فله ذلك، ولو عشر ديات، فبعضهم يطلب ثلاثة ملايين ريال سعودي أو أربعة أو خمسة، فيدفعها أهل القاتل كأنهم يشترون القاتل؛ حيث إن الولي يقول: أنا سوف أقتله إلا إن دفعتم هذا المبلغ، ولا أعفو عنه إلا بهذا المبلغ.
ففي هذه الحالة إذا فدوه فإن ذلك جائز، كأنه يشتري نفسه، أو أن أولياءه يشترونه ويخلصونه من القتل، فيخير الولي ويقال: لك أن تقتل، ولك أن تطلب الدية.
وقد تقدم أنه إذا كان في أولياء القتيل صغير فإنه ينتظر إلى أن يبلغ، فإذا بلغ فإن طلب الدية فليس للأولياء إلا الدية، ولو كان أكثرهم يريدون القصاص، وأما إذا اتفقوا كلهم على طلب القود فلهم ذلك، وهكذا أيضاً إذا طلبوا أكثر من الدية.(77/3)
العفو عن القصاص والدية أفضل من أخذها
يقول: [والعفو مجاناً أفضل] .
قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، والعفو مجاناً أن يقول: لا أريد دية ولا أريد قصاصاً، وأترك ذلك لله تعالى وأتصدق على هذا القاتل، وأحرره وأعتقه من القتل.
فَيَمُنَّ عليه، فيكون في ذلك قد أحسن إليه حيث خلصه أو منّ عليه.(77/4)
تعين الدية
قال: [ومن اختار الدية أو عفا مطلقاً أو هلك جانٍ تعينت الدية] .
العفو مطلقاً إذا قال: قد عفوت ولم يقل: عن كذا وكذا، فينصرف العفو إلى أكبر المطالب وهو القصاص، وإذا قال: عفوت عن القصاص لا تسقط الدية؛ لأن عفوه يكون عن القصاص الذي هو المطلب الأكبر، وعليه يدل القرآن في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] يعني: عفي لذلك القاتل من أخيه الذي هو ولي المقتول {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] ، ومعنى ذلك أن الولي أو الأولياء إذا قالوا: قد عفونا سقط القصاص وبقيت الدية، فهذا المعفو عنه عليه أن يحرص على الأداء، فيؤدي الدية بالمعروف، يقول تعالى في هذه الآية: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] ، والاتباع من الأولياء، والأداء من القاتل أو من أولياء القاتل، والمعنى: إذا عفا أولياء القتيل عن القصاص فإن عليهم أن يتبعوا ذلك القاتل بالمعروف، فلا يشددون عليه، ولا يزيدون عليه زيادة تجحف بماله أو تعجزه وتعجز أسرته، وإذا قسّطوا الدية فلا يطلبوها قبل حلولها، وما أشبه ذلك.
قال تعالى: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] يعني: أيها القاتل أو أسرته! أدوا إلى ولي القتيل الدية بإحسان بدون مماطلة.
فالآية في العفو عن القصاص وبقاء الدية، فهذا معنى إذا عفا مطلقاً، فإذا قال: أريد الدية، أو قال: عفوت انصرف العفو إلى القصاص وبقيت الدية.
قوله: [أو هلك جان] أي: إن هلك القاتل تعينت الدية.(77/5)
التوكيل في القصاص
يقول: [ومن وكل ثم عفا ولم يعلم وكيل حتى اقتص فلا شيء عليهما] .
صورة ذلك إذا قال: وكلتك -يا زيد- أن تقتل هذا القاتل الذي قتل ابني أو قتل أخي.
فالوكيل طلب من القاضي تمكينه، فمكنه القاضي وقتل، وكان القتل يوم الجمعة مثلاً، والولي ذهب إلى جهة أخرى وأشهدهم وقال: إني قد عفوت.
وكان العفو يوم الخميس، ولم يعلم الوكيل بذلك العفو حتى استقاد وقتل القاتل، ففي هذه الحال هل يطالب الوكيل ويقال: إنك تسرعت؟ لا يطالب بذلك؛ لأن معه وكالة شرعية، ويقول: إنه قد وكلني، وإني نفذت الأمر بموجب الوكالة، فكيف أكون متسرعاً؟ لأنه ما منعني ولم يحدد لي وقتاً، ولو قال: لا تقتله إلا في يوم الأحد لتأنيت، ولكنه أطلق وقال: اقتله.
فأنا ذهبت إلى القاضي ومكنني من قتله يوم الجمعة، فنفذت فيه الحكم الذي حكم به القاضي، وهو أن عليه القصاص.
فلا شيء على الوكيل.
وكذلك الولي الذي هو الموكل لا شيء عليه، وذلك لأنه عفا ويظن أن العفو سيدرك القاتل فلم يدركه.(77/6)
القود للعبد المملوك
قال المؤلف: [وإن وجب لقن قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه له، وإن مات فلسيده] .
القن هو العبد المملوك، والمعنى: لو أن هذا العبد اعتدى عليه إنسان فقطع إصبعه، فهل لسيده أن يسقط القصاص؟ العبد يغضب ويقول: هذا الذي قطع إصبعي، أو فقأ عيني، أو قلع سني، أو جرحني موضحة ولا تطيب نفسي حتى آخذ منه بالثأر.
فقال سيده: أنت مملوكي، وأنت عبدي، وأنا أملك الإسقاط، فأريد أن أسقط عنه؛ لأنه صديق لي أو نحو ذلك.
والعبد يأبى ويمتنع ويقول: أنا الذي تألمت، وأنا الذي أحسست بفقد هذا العضو ولو كان أنملة، فلا تطيب نفسي إلا أن آخذ بالثأر وأقتص لنفسي.
وكذلك لو كان القتيل ابناً لهذا العبد، كرجل عنده عبد مملوك، والعبد له ابن مملوك أيضاً، فعند ذلك الرجل رجل وابنه كلاهما مملوكان، فاعتدى إنسان على الولد وقتله، ففي هذه الحال عرفنا أنه ليس فيه القصاص، وإنما فيه الدية أو القيمة، فإن كان هذا العبد له ابن حر ليس بمملوك وقتله إنسان، وليس له ولي إلا هذا العبد، فالعبد يقول: ابني حر ليس بمملوك، فاعتدي عليه، وفجعوني بابني وقتلوا ابني وتركوني وحيداً، كيف أهدأ؟! كيف أستقر؟! لا أستقر حتى أقتل ذلك القاتل الذي اعتدى على ابني، فهل لسيده أن يمنعه؟ الابن ليس مملوكاً للسيد، ولكنه ولد لذلك العبد، فليس عليه رق، ففي هذه الحال الطلب يكون للعبد، فله أن يطالب بالقصاص بأن يقتل ذلك القاتل أو يقطع منه العضو الذي قطع، فلو كان ما قتله ولكنه قطع يده أو جدع أنفه أو قطع أذنه أو قلع أسنانه فإن عليه الدية أو القصاص، فأبوه يقول: أريد أن أقتص منه، فأقلع أسنانه كما قلع أسنان ابني، حتى ولو كنت أنا عبداً، فلي أن أقطع يده أو أقطع أذنه أو أفقأ عينه؛ فله ذلك.(77/7)
قذف المملوك
وكذلك تعزير قذف، فالعبد إذا قُذف فالذي قذفه عليه التعزير، وليس عليه الحد، بخلاف الحر، فإنه إذا قُذف فإن على من قذفه الحد ثمانين جلدة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ، فهذا يقول: إنه قذفني ورماني بأني زنيت، وهو كاذب، فأريد إقامة الحد عليه نقول: ليس لك حد ولكن لك التعزير، فطالب بأن يعزر، فيجلد عشرين جلدة أو خمسين، أو يحبس، أو ما أشبه ذلك، فالحق للعبد في مطالبته أو في إسقاطه، فلو أسقطه وقال سيده: لا أرضى، أريد مالاً فليس له إلزام العبد، ولو قال: أنت -يا عبدي- قطع هذا إصبعك، وهذا القطع نقص في قيمتك ونقص في عملك، فلا تتسامح عن هذا الذي قطع إصبعك هل يلزمه سيده أن لا يسمح؟ لا يلزم، فلو قال العبد: أنا سمحت عن إصبعي، أو عن يدي، أو عن عيني، أو عن أسناني لا يلزمه سيده بأخذ عوض، حتى ولو نقصت قيمته، لكن لو مات العبد قبل أن يسقط وقبل أن يطالب وقبل أن يأخذ أرشاً وقبل أن يقتص فالسيد يقوم مقامه، فيأتي إلى ذلك الجاني ويقول: أنت قطعت يد عبدي ونقصت قيمته قدر النصف.
أو: جدعت أنفه، والأنف فيه الدية كاملة، فأعطني الدية.
أو: عفوت عنك عن بعضها.
فإذا مات فإن المطالبة تكون للسيد.(77/8)
القود فيما دون النفس
يقول: [والقود فيما دون النفس كالقود فيها] .
القود هو القصاص، فإذا عرفنا الشروط التي في استيفاء القصاص في النفس فتلك الشروط هاهنا معتبرة، فمنها أن يكون المستحق مكلفاً، فإذا قطع أحد يد صبي أو إصبعه، والصبي عمره خمس سنين أو عشر سنين، ففي هذه الحال إذا طلب القصاص بعد ما يكلف تقطع يد الجاني؛ لأنه تعدى على ذلك المجني عليه ولو كان صغيراً، ولكن متى؟ إذا بلغ وأصر على طلب القصاص.
وكذلك يشترط ما اشترط هناك من عدم الحيف وعدم التعدي، فلابد إذا كان القصاص في اليد ألا يقتص مع خوف الحيف، أو خوف التسمم، بل يتركونها إلى زمن معتدل يؤمن فيه أن يتسمم الجرح أو ما أشبه ذلك.(77/9)
القود في الأطراف
القصاص فيما دون النفس نوعان: أحدهما الأطراف، والثاني: الجراح.
فالأطراف فيها القصاص، قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ، فهذه فيها قصاص، وتسمى الأطراف، فمن قطع إصبعاً وكان القاطع فيه إصبع تماثلها وطلب المقطوع القصاص فإنه يقتص له، وكذلك من قطع الكف، وكذلك من قطع اليد من الذارع أو من العضد، وكذلك من قطع من الرجل إصبعاً قطعت إصبعه، ومن قطع القدم كلها قطعت قدمه إذا طلب المجني عليه ذلك، وكذلك من قطعها من الركبة قطعت رجله من الركبة إذا طلب الجاني ذلك، أو قطعها من الفخذ فكذلك أيضاً، وهكذا إذا فقأ عيناً صحيحة فقئت عينه التي تماثلها، أما إذا لم تكن مماثلة لها فلا، وكذلك لو جدع أنفه فله أن يطلب القصاص في الأنف، وكذلك الأذن إذا استوعبت قطعاً، وكذلك إذا كسر السن أو قلعه فإن القصاص فيه؛ وأشباه ذلك من أجزاء البدن، فمن قطع شفة قطعت مماثلتها، وكذلك من قطع جفناً أو قطع حاجباً قطع منه ما يماثله، وهكذا أيضاً من قطع عضواً مماثلاً، كمن قطع ذكراً، أو قطع الأنثيين -الخصيتين-، أو قطع الإلية أو نحو ذلك، فكل هذه فيها القصاص.
وتشترط المماثلة، فلا يؤخذ إصبع اليمنى بإصبع اليسرى لو كان المجني عليه قطعت إصبعه اليسرى، وكذلك أيضاً لا يؤخذ الإبهام بالسبابة، فلا يقول: هو قطع سبابتي وأنا لا أرضى إلا أن أقطع إبهامه.
فهذا ليس بمماثلة، وليس قصاصاً، فالقصاص لابد فيه من المماثلة، فهذا شرط المماثلة.
ولو كان الجاني أعور العين، كأن كانت عينه اليمنى غائرة، ثم جنى على إنسان ففقأ عينه اليمنى، فهل على المجني عليه أن يقول: آخذ عينه اليسرى؟ ليس له ذلك لعدم المماثلة، وهاهنا يرجع إلى الدية، وكذلك لو كان الجاني مقطوع اليد اليمنى، قد قطعت يده اليمنى من قديم، واعتدى عليك وقطع يدك اليمنى، فهل تقول: أقطع يده اليسرى؟ فليس له إلا يد واحدة، فلا تقل آخذ اليد باليد.
ليس لك ذلك، ولكن هاهنا تعدل إلى الدية لعدم المماثلة، فلابد من المماثلة، وكذلك لو قطع شفته العليا فقال: أقطع شفته السفلى لأنها أقوى منفعة.
ليس له ذلك، وهكذا لو قطع رجله اليسرى فقال: أقطع رجله اليمنى.
ليس له ذلك، بل لابد من المماثلة.
وكذلك أيضاً الأمن من الحيف، والحيف هو الجور، فإذا قطع اليد من نصف الذراع ففي هذه الحال لا يمكن القصاص، ولكن يمكن قطعها من المفصل، لأنا إذا مكناه من قطع نصف الذراع فقد يكسر الذارع كله، وقد يأخذ زيادة على ما أخذ منه، فيكون بذلك حيف، فلابد من أمن الحيف -الذي هو الجور- حتى لا يأخذ زائداً عما يستحقه.
ومن الحيف أيضاً الخوف من التسمم، فإذا قال -مثلاً-: إذا قطعت يد الجاني -مثلاً- أو رجله في الشتاء خيف أن يتسمم، وأن الجرح يتآكل وتحصل الوفاة.
ففي هذه الحال ينتظر إلى أن يؤمن عليه من الحيف أو من التعدي أو نحو ذلك.
وهناك شروط أخرى، مثل الاستواء في الصحة والكمال، فإذا قال: أنا ما فقأت إلا عيناً فيها بياض، وعيني سليمة ليس فيها بياض.
أو: عينه التي فقئت ناقصة البصر لا يبصر بها إلى قليلاً، فكيف تفقئون عيني التي هي عين سليمة؟ في هذه الحال يعدل إلى الدية، وذلك لعدم المساواة، وكذلك أيضاً لو أن إنساناً صحيح اليدين قطع يد إنسان مشلولة، أو فيها عيب، ناقصة الأصابع أو مختلة أو نحو ذلك، فهذا المجني عليه يقول: أريد أن أقطع يده.
يقال: يدك ناقصة منفعتها، وأما يده فإنها كاملة، فكيف تأخذ يداً كاملة ليد ناقصة فيها عيب؟! لابد من الاستواء في الصحة وفي الكمال.(77/10)
القود في الجراح
النوع الثاني من القصاص: الجراح فيما دون النفس، ويراد بها الشجاج، واصطلحوا على أن الضربة المدمية في الرأس أو في الوجه يسمونها شجة، وإذا كانت في الذراع أو في العضد أو في الكتف أو في الظهر أو في الفخذ لا تسمى شجة، بل يقال: جرح.
ففي الجروح قصاص، بشرط انتهائها إلى عظم كالموضحة، وجرح العضد وجرح الساق ونحوهما إذا انتهى إلى عظم ففيه القصاص، وأما إذا جرحه برأسه ولم يصل الجرح إلى عظم الرأس فقال المجني عليه: مكنوني أضربه كما ضربني وأجرحه كما جرحني فلا يمكن، وذلك مخافة الحيف، فربما إذا ضرب أن تصل الضربة إلى العظم، أو تزيد شجة هذا على شجة هذا، فيخاف من الحيف، والقصاص مماثلة ليس فيها جور.
والموضحة هي التي تنتهي إلى عظم، ضربة في الرأس تصل إلى العظم ولا تكسره، ولكن تقرع في العظم، وديتها خمس من الإبل، فلو قال المجني عليه: أنا ما أريد إبلاً ولا غنماً ولا مالاً، ولكن أريد أن أشفي غيظي، أريد أن أجرحه كما جرحني يمكّن، ولكن كيف يقتص؟ هل يقتص بالضرب.
ويقول: إنه ضربني بحجر خرق الدم واللحم ووصل إلى العظم فأضربه بحجر مثله؟ لا يمكن من ذلك، ولكن يمكن من القصاص بسكين أو نحوها يحزه إلى أن يصل إلى العظم، فيحرك طرف السكين إلى أن يصل إلى العظم ويتوقف؛ لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .
وكذلك جرح العظم والساق، فلو طعنه في عضده، أو ضربه بحجر محدد أو سكين، فوصلت الضربة إلى عظم العضد أو عظم الساق أو عظم الظهر وقرعت في العظم فقال المجني عليه: لا أقنع إلا بالقصاص يمكّن، فيعطى سكيناً ويقال: اضرب وحز في العضد إلى أن تصل إلى العظم ولا تزد.
ولو قال: إنه ضربني بحجر فأضربه بحجر لا يمكّن؛ لأنه قد يكسر العضد، فقد يضربه ضربة شديدة فيأخذ أكثر مما يستحق.(77/11)
ضمان السراية في القصاص
يقول: [وتضمن سرية جناية لا قود] .
السراية جناية تضمن، والجناية ظلم، فسرايتها تضمن، وأما القود فإنه بحق فلا تضمن سرايته، فمثلاً لو أن إنساناً قطع يد رجل، فالذي قطعت يده قال: هذا جنى علي وقطع يدي، أريد القود.
فمكن من القود فقطعت يد الجاني، ثم قدر أن الجاني تسمم جرحه ومات بسبب هذا القصاص هل تدفع ديته؟ لا تدفع؛ لأن قطع يده بحق قصاصاً، ولو كان الأمر بالعكس فالمجني عليه تسممت يده ثم مات، والمجني عليه حر مسلم، ومات بسبب هذه الجناية فعلى الجاني الدية، ولو قال الجاني: كيف أدفع ديته وهو قد قطع يدي قصاصاً وقد أخذ بالثأر وأخذ حقه كاملاً؟ ف
الجواب
إنه مات بسبب جنايتك، فأنت السبب، فعليك تتمة الدية، وليس هناك قصاص في النفس، ولكن عليه تتمة الدية، فعليه نصف الدية لأنه قد قطع يده، وديته فيها نصف الدية، فعليه نصف الدية الأخرى أو على عاقلته.
وعرفنا الفرق بين الجناية والقود، والسراية: هي تآكل الجرح إلى أن يحصل أكثر مما حصل، فلو أن الجاني قطع إصبعاً كالخنصر أو الإبهام، والمجني عليه قال: أقطع إصبعه مثلما قطع إصبعي.
فاقتص منه، وبعد ذلك جرح الجناية تسمم، ولما تسمم تآكلت اليد فقطعت اليد كلها بسبب تآكلها، فيقول الجاني: أنتم أخذتم حقكم، أنتم قطعتم إصبعي مثل ما قطعت إصبعه! فيقال: بقي أيضاً عليك آثار هذه السراية، فجنايتك تآكلت، فعليك بقية ثمن اليد، فادفع بقية ثمن اليد.
ولو قال المجني عليه: إن يدي تآكلت وقطعت بسبب جنايته، وأنا ما قطعت منه إلا إصبعاً، فأريد أن أقطع اليد كلها كما أن يدي قطعت فليس له إلا الدية على المشهور، وذلك لأن قطع يده بالتآكل قطع لحماية نفسه، وليس الجاني هو الذي قطعها، أما لو كان الأمر بالعكس، فالمجني عليه قطعت إصبعه وسلمت يده، والجاني قطعت إصبعه قصاصاً، ولما قطعت تآكل الجرح فمات.
ففي الأثر: (الحق قَتَلَه) ، ما مات إلا بسبب مباح، فالله تعالى مكن أهل القتيل وأباح لهم أن يقتلوا أو يقتصوا، وهاهنا قد اقتصوا الذي لهم، وكون هذه القود حصل منه الموت ليس بسبب المجني عليه، وإنما هو بسبب القصاص، فالحق قتله، سواءٌ أكان هذا في النفس أم فيما دون النفس، فهذا هو الفرق.(77/12)
وجوب انتظار البرء قبل القصاص أو الدية في الجراح
يقول: [ولا يقتص عن طرف وجرح، ولا يطلب لهما دية قبل البرء] .
أي: قبل تمام البرء.
روي أن رجلاً طعن رجلاً في ركبته بقرن تيس أو نحوه، ولما طعنه في ركبته وصل إلى عظم الركبة أو تحتها، فجاء ذلك المجني عليه وقال: يا رسول الله! أقدني -أي: مكني أن أقتاد منه فأطعنه بقرن كما طعنني- فقال: (اصبر حتى تبرأ، فصبر أياماً ثم جاء وقال: أقدني.
فردد عليه وهو يأكل: اصبر حتى تبرأ، ولكنه استعجل، فمكنه وضرب ذلك بالقرن في ركبته إلى أن وصل إلى العظم) ، فالجاني برئ جرحه بسهولة، والمجني عليه تسمم فعابت رجله وعرج وصار فيه عرج، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عرجت يا رسول الله.
فقال: (قد نصحتك) يعني: نهيتك عن الاقتياد حتى تبرأ ولكن امتنعت.
فأخذوا أنه لا يقتص إلا بعد البرء مخافة التسمم، أو مخافة التآكل، أو مخافة حدوث عيب أو ما أشبه ذلك.
فلو كان الجرح -مثلاً- في سن قلعه الجاني، والسن مكانه قد يتأثر، فالمجني عليه قال: أريد قلع سنه كما قلع سني نقول له: انتظر حتى يبرأ أثر قلع السن.
ولكنه ما صبر وقال: أريد أن أقلع سنه، فمكنه الشرع وقلع سن الجاني، ثم إن المجني عليه تآكل مكان سنه فاحتيج إلى قلع الأسنان السفلى كلها، فإنا نقول للمجني عليه: أنت استعجلت، فلو تركت الأمر حتى تبرأ ويعلم ما تتأثر به أسنانك لكان أولى لك.
ففي هذه الحال هو الذي استعجل ولا شيء له، فلذلك قالوا: لا يطلب لهما دية إلا بعد البرء.
وقوله: [لهما] الضمير يرجع على الطرف والجرح، فالطرف مثل اليد والعين، والجرح مثل الموضحة التي هي الجرح في العضد والساق، أو الموضحة في الرأس أو في الوجه، فلا يطلب لهما دية قبل البرء، ولا يقتص لهما قبل البرء مخافة أن يتأثر ذلك الجرح ويحصل الضرر عليه.(77/13)
من يتحمل الدية؟
قال: [فصل: ودية العمد على الجاني، وغيرها على عاقلته] .
عرفنا أن القتل ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد وخطأ، فدية العمد على الجاني يتحملها، وأما الخطأ وشبه العمد فعلى العاقلة، وهم قرابة ذلك القاتل، فتحمل الدية عنه، وذلك لأنه غير متعمد وليس بآثم، وإنما حصل هذا عن غير قصد، فمن حقه على أقاربه تحمل هذه الدية، فغير العمد على عاقلته، وذكر المؤلف بعد ذلك صوراً لوجوب الدية.(77/14)
التسبب في القتل
قال: [ومن قيد حراً مكلفاً] يعني: ربط رجليه وربط يديه وأصبح متحسراً لا يقدر على التخلص، فجاءته حية فنهشته فمات، أو جاءه أسد فافترسه، أو حيوان غيره جاءه فافترسه أو أصابه، أو نزلت عليه صاعقة، فهذا الجاني اعتدى على حر مسلم وقيده وأوثقه، ولا شك أنه أخطأ، وعليه الدية، فقد يقول: كيف أدفع الدية والذي قتله غيري؟! الذي قتله هذا السبع أو هذه الصاعقة أو هذه الحية، ما أنا الذي قتلته!
الجواب
أنت الذي تسببت حيث قيدته فلم يقدر على أن يهرب من السبع، ولا أن يتخلص من الحية، ولا أن يهرب من مكان الصاعقة، فعليك ديته؛ لأنك ربطته بهذا الرباط الذي قيده حتى لم يستطع التخلص، فالدية على هذا المقيِّد.
والمكلف هو البالغ العاقل، قال: [حراً مكلفاً] ، وإذا كان مملوكاً فعليه قيمته لسيده.
قال: [أو غله] الغلُّ هو أن تربط الأيدي في الرقبة، قال تعالى: {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] ، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] يعني: ربطت في أعناقهم.
فإذا ربط يديه وعلقهما في رقبته سواء من الخلف أو من الأمام فقد تحسر، فلا يستطيع أن يحرك يديه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه حية أو نحوها.
وكذلك إذا غصب صغيراً في الخامسة أو السادسة من عمره، أي: أخذه من أهله وأخفاه، ففي هذه الحال أيضاً يكون عليه الدية إذا لدغته حية أو أكله سبع أو مات بالبرد أو بالشمس أو نحو ذلك، فإن هذا الغاصب الذي اعتدى عليه يدفع الدية، أما إذا مات بمرض أو مات فجأة ففي هذه الحال يقال: لا دية عليه؛ لأنه مات بالمرض، ويقول: كان قبل أن أوثقه مريضاً بمرض كذا وكذا، وموته بسبب مرضه ليس بسببي.
وكذلك موت فجأة، لكن قد يقال: إن موته فجأة بسبب الحسرة، بمعنى أنك لما أوثقته وتحسر اشتدت عليه هذه الآلام وهذه الأمراض النفسية، فأدت إلى موته موت حسرة أو موت فجأة، فأنت السبب، فعليه دية.(77/15)
تأديب الزوجة أو الأطفال لا ضمان فيه إن كان بلا إسراف
يقول: [وإن أدب امرأته لنشوز] .
المرأة إذا نشزت جاز لزوجها ضربها؛ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] .
فأولاً: يعظها، وثانياً: يهجرها في المضاجع، وثالثاً: يضربها ضرباً غير مبرح، فلو قدر أنه ضربها وذلك الضرب نتج عنه موت، أو نتج عنه تعطل عضو من الأعضاء فلا ضمان عليه؛ لأنه ضرب مأذون فيه، ويقول: أنا ما ضربتها إلا ضرباً معتاداً، وحصل أنها ماتت، أو حصل أن تعيبت يدها، أو ذهب بصرها أو سمعها، أو جرح جلدها أو نحو ذلك، فأنا ضربتها ضرباً مأذوناً فيه غير مبرح، فلا ضمان.
قال: [أو معلم صبيَّه] .
معلم الصبيان العادة أنه مباح له الضرب، ويعلم بذلك آباؤهم، فهم يقولون: أدبهم واضربهم الضرب الذي يرتدعون به.
فقدر أنه صفع أحدهم في خده فذهب سمعه، أو انفجرت الأذن وانشقت الطبلة، فهو مباح له أن يضربه، فلا ضمان عليه، أو أراد ضربه بعصا فانحرف الطفل فوقعت الضربة على عينه فانفقأت لا ضمان على ذلك المعلم؛ لأنه مأذون له فيه، وهذا إذا كان الضرب بلا إسراف ولا شدة.
قال: [أو سلطان رعيته] .
السلطان له أن يؤدب الرعية، فقد يظهر من بعض الرعية شيء من العصيان وشيء من المخالفة وشيء من الأضرار، سواءٌ أكانت تلك الأضرار على نفس السلطان أم على بعض الرعية، فإن هؤلاء يسببون ضعف الأمن واشتداد الخوف ونحو ذلك، فإن ظفر بواحد منهم، وأمر الجلاد فجلده فقال: اجلده وشدد عليه فقدر أنه مات تحت الجلد ففي هذه الحال لا ضمان؛ لأن هذا ضرب مأذون فيه، ويشترط ألا يكون هناك إسراف، وقد فسر المفسرون قول الله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فقالوا: ضرباً غير مبرح.
أي: ليس بشديد، وإنما هو ضرب تأديب لا ضرب قتل.(77/16)
أمر المكلف بأمر هلك به
يقول: [ومن أمر مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمن] .
لأن هذا المكلف عاقل وعارف، وتعاطى هذا الشيء الذي فيه خطر، فإذا أمرته وقلت له: انزل في هذه البئر للحفر أو أخرج منها هذا الدلو الذي سقط فيها، أو هذه الميتة التي سقطت فيها انزل فأخرجها.
ثم إنه ربط نفسه بحبل أو تمسك بحبل لينزل فيها، وقدر أنه تفلت أو انقطع الحبل وسقط فيها ومات لا ضمان على الآمر؛ لأن هذا مختار قد رضي بذلك، فلا ضمان عليه.
وكذلك لو قال: أريد أن تصعد هذه النخلة لصرم التمر منها فصعد باختياره والنخلة طويلة، ولما وصل إلى أعلاها قدر أنه سقط ومات، فهل يضمن صاحب النخلة أو الذي أمره بالصعود؟ لا يضمن؛ لأن هذا هو الذي خاطر بنفسه.(77/17)
الموت من ريح طعام ونحوه
يقول: [ولو ماتت حامل أو حملها من ريح طعام أو نحوه ضمنه ربه إن علم ذلك عادة] .
هذا قد يكون قليلاً، كون الحامل تموت بسبب ريح طعام يمكن أن الحمل قد يتأثر ببعض الروائح فيموت في الرحم، فإذا قدر عادة أنه يموت الجنين في الرحم بسبب ريح طعام كريهة، كما لو اشترى شيئاً من اللحوم ولكنها أنتنت، ولما شمها إنسان رجل أو امرأة فمن آثار هذه الرائحة حصل عليه ضرر أو مرض أو موت بسبب الرائحة الشديدة الكريهة، فصاحب هذا الطعام أو صاحب هذا اللحم فرط وتسبب، فيضمنه إذا كان العادة في ذلك أنه يؤثر، فأما إذا كانت العادة أن الروائح ولو كانت كريهة لا تؤثر ولا يحصل على الذي يشمها موت ولا ضرر فإنه لا يكون هناك ضمان.(77/18)
مقادير الديات(77/19)
دية الحر المسلم
هذا الفصل يتعلق بالدية، أي: مقادير الدية.
قال: [فصل: دية الحر المسلم مائة بعير] .
اشترطوا أن يكون حراً، فالعبد ديته ثمنه، والكافر إذا كان معاهداً أو ذمياً ديته نصف دية المسلم.
يقول: [دية الحر المسلم مائة بعير] كلمة (بعير) اسم للواحد من الإبل يدخل فيه الذكر والأنثى، فيقال للناقة: بعير.
ويقال للجمل: بعير.
سواءٌ أكان صغيراً أم كبيراً، وإذا أرادوا التمييز قالوا: ناقة وجمل.
فالجمل الذكر والناقة الأنثى، وأما كلمة (بعير) فإنها تصلح للذكور والإناث.
قال: [أو ألف مثقال ذهباً] يعني: ألف دينار من الذهب، والدينار هو أربعة أسباع الجنية المعروف عندنا.
قال: [أو اثنا عشر ألف درهم] ، والدراهم قطع من الفضة، والمائتان مقدارها من الريال الفضي السعودي ستة وخمسون، وهو النصاب كما هو معروف، فنصاب الفضة ستة وخمسون من الريالات السعودية، ومن الدراهم القديمة مائتان، فمقدار الدية اثنا عشر ألف درهم فضة.
قال: [أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة] أصول الدية خمسة، فمن الإبل مائة بعير، ومن البقر مائتان، ومن الغنم ألفان، ومن الذهب ألف مثقال، ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم، واختلف العلماء هل هذه الخمسة كلها أصول أو الأصل واحد والبقية قيم؟ والراجح أن الأصل هو الإبل وأن البقية قيم؛ وذلك لأن العرب كانوا يدفعون الدية مائة من الإبل، واستقر الأمر على ذلك في العهد النبوي، فكانت الدية مائة من الإبل، ولما قتل اليهود عبد الله بن سهل ولم يجدوا من يدفع الدية دفع الدية رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة، وكان ذلك معروفاً عندهم، وفي قصة القرشي الذي قتله رجل من العرب لما كان راعياً عنده، فقالت قريش: إما أن يحلف منكم خمسون أنكم ما قتلتموه أو تدفعوا لنا مائة من الإبل.
فاستعدوا للحلف، وكانت امرأة من قريش ولدها من هذه القبيلة، فقالت: اسمحوا لولدي أن لا يحلف.
وفدى نفسه فجاء ببعيرين، وقال: إنكم طلبت مائة من الإبل أو خمسين رجلاً يحلفون، ونصيب كل واحد بعيران، فهذان بعيران عني خذوهما.
فأخذوهما، والبقية حلفوا وهم تسعة وأربعون، يقول ابن عباس: فما تم الحول وفي التسعة والأربعين عين تطرف.
يعني: ماتوا بسبب أنهم حلفوا وهم كاذبون.
فالحاصل أن الدية من الإبل هي الأصل، فعلى هذا إذا ارتفع سعر الإبل رفعت الدية، وإذا رخصت الإبل نقص من قدرها، فتقدر بالإبل، ولا تقدر بالبقر ولا بالغنم، والدية الآن في هذه البلاد مائة ألف ريال من النقود؛ لأنهم قدروا أن كل بعير يساوي ألفاً، فجعلوها مائة ألف ريال، وكانت في أول الأمر في أول عهد الملك عبد العزيز ثمانمائة ريال فرنسي، ثم رأوا أنها قليلة مع رخص الإبل في ذلك الوقت، فزيدت إلى ألف، ثم زيدت إلى عشرة آلاف، ثم زيدت إلى ستة عشر ألفاً، ثم زيدت إلى أربعة وعشرين، ثم إلى أربعين، ولما ارتفع سعر الإبل رأى العلماء أنها لا تنقص عن مائة ألف، ومعروف الآن أن الغنم تقاس بالإبل، فهناك الآن من الغنم واحدة تباع بخمسمائة وبأربعمائة وبثلاثمائة، وهناك كثير من الإبل تباع الواحدة بألف أو بثمانمائة أو بألف وخمسمائة، فلو قيل -مثلاً-: ألفان من الغنم فالألفان قد تساوي خمسمائة من الإبل أو ألفاً من الإبل إذا كانت قيمة البعير ألف ريال وقيمة الشاتين ألف ريال، فصارت تساوي ألفاً من الإبل، فعرف بذلك أن الإبل هي الأصل، وإذا ارتفع سعرها ارتفع سعر الدية، وإذا انخفض نقص من الدية.
يقول: [ويجب في عمد وشبهه من الإبل ربع بنت مخاض وربع بنت لبون وربع حقة وربع جذعة] .
هكذا جاء في بعض الأحاديث في دية العمد مغلظة ودية شبه العمد مغلظة تكون أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وهي التي تم لها سنة، وخمس وعشرون بنت لبون، وهي التي تم لها سنتان، سميت بذلك لأن أمها ذات لبن، قد ولدت بعدها، وخمس وعشرون حقة، وهي ما تم لها ثلاث سنين، وخمس وعشرون جذعة، وهي التي تم لها أربع سنين، وكذلك أيضاً شبه العمد يكون أرباعاً، وأما دية الخطأ فإنها تكون أخماساً: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابن مخاض من الذكور، هذه دية الخطأ، وهي التي تكون مخففة، والعلماء الآن جعلوا الزيادة في دية العمد وشبهه الربع، فقالوا: دية الخطأ مائة من الإبل، ودية العمد مائة وخمس وعشرون من الإبل، فتكون مائة وخمسة وعشرين ألف ريال لتكون أخماساً.
وإذا اختار أن يدفع الدية من البقر دفع نصفاً مسنات ونصفاً أتبعة، أي: نصف البقر، فيدفع مائة بقرة مسنة، والمسنة هي التي لها سنتان، ومائة تبيع أو تبيعة، والتبيع هو الذي له سنة، وأما من الغنم إذا اختار أن يدفع من الغنم فيدفع ألفي شاة، فنصف منها ثنايا ونصف أجذعة، والغنم يدخل فيه الضأن والمعز، فيدفع من الضأن نصفاً ومن المعز نصفاً، ويكون ربع المعز ثنايا، والثنية هي التي لها سنة، ويدفع الربع الثاني من الجذع، وهي التي لها نصف سنة، وكأنهم أطلقوا وهم يريدون أن تكون من الضأن؛ لأن الجذع من الضأن يضحى به، والجذع هو الذي له ستة أشهر، فكأنهم يقولون: تكون الألفان من الغنم كلها ضأناً، نصفها ثنية تم لها سنة، ونصفها جذعة تم لها نصف سنة.
وتعتبر السلامة ولا تعبر القيمة، فلا يدفع من الإبل ولا من الغنم ولا من البقر المعيب، بل تكون سالمة من العيوب التي لا تجزئ معها في الأضحية، ومعلوم أنه لا يضحى بالعوراء ولا بالعرجاء ولا بالمريضة، ولا بالحتماء التي ذهبت ثنايها من أصلها، ولا بالجرداء التي نشف ضرعها، ولا بالهزيلة التي لا مخ فيها، فكذلك لا تدفع التي فيها هذه العيوب في الدية.
ولا تعتبر القيمة، فلو كان بعضها رخيصاً وبعضها غالياً فيلزم أهل الدية أن يأخذوها ولو تفاوتت قيمتها، فهذه دية الرجل الحر المسلم.(77/20)
دية المرأة المسلمة الحرة
دية الأنثى نصف دية الرجل من أهل دينها، فالمسلمة نصف دية المسلم، والذمية نصف دية ذمي، والمجوسية نصف دية مجوسي، وأما جراح المرأة فإنها تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية، وإذا بلغت ثلث الدية أو أكثر فهي على النصف، وذكروا أن ربيعة بن عبد الرحمن سأل سعيد بن المسيب: كم دية الإصبع من المرأة؟ قال: عشر من الإبل.
قال: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل.
قال: فكم في ثلاثة أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل.
قال: فكم في أربعة أصابع؟ قال: عشرون من الإبل.
فقال: لما عظمت مصيبتها نقص قدرها؟! فقال سعيد: هكذا جاء الشرع، فإن دية المرأة على النصف من دية الرجل.
فدية المرأة خمسون من الإبل، فلو أعطيناها في أربعة أصابع أربعين لكانت مقاربة لديتها الكاملة، فلذلك لا يكون لها إلا نصف الدية، كما لو قطعت يدها، فيد الرجل فيها خمسون من الإبل أو خمسون ألف ريال، ويد المرأة فيها خمسة وعشرون ألف ريال نصف ما في دية يد الرجل، فدية المرأة على النصف من دية الرجل، إلا أن الجراح مثل الرجل حتى تصل إلى ثلث الدية.(77/21)
دية الكتابي الحر
الكتابي الحر الذي له ذمة وله عهد ويؤدي الجزية خاضعاً للمسلمين ديته نصف دية المسلم، فدية الحر من أهل الكتاب الذميين نصف الحر من المسلمين خمسون من الإبل، وهي خمسون ألفاً بالريال، ودية المرأة من أهل الذمة -أي: من اليهود والنصارى الذين لهم ذمة- خمسة وعشرون ألف ريال نصف دية الرجل.(77/22)
دية المجوسي
المجوسي الذي لا دين له، وكذلك الوثني دية الواحد منهما ثمانمائة درهم، ودية المرأة أربعمائة درهم، وانظر الفرق! فالفرق كبير، فدية الكتابي ستة آلاف درهم، والمرأة إذا كانت كتابية ديتها ثلاثة آلاف درهم، وأما الوثني إذا كان له عهد أو المجوسي فديته أقل من الألف، ثمانمائة فقط، أي أنه أقل من المرأة، فالمرأة من أهل الكتاب ديتها ثلاثة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة، فدية المجوسي والوثني أقل من نصف سدس دية الرجل الحر المسلم، تقريباً ثلثا نصف السدس من دية الرجل الحر المسلم، أو تكون مثلاً ثلثي سدس دية الحر الكتابي.(77/23)
دية الرقيق وأرشه
قال: [ودية رقيق قيمته] .
الرقيق المملوك ليس له دية إنما له ثمن؛ لأنه سلعة يباع ويشترى، فإذا جني عليه أو قتل فديته قيمته، فينظر كم يساوي لما كان حياً؟ يساوي ألفاً، أو يساوي عشرة آلاف، أو يساوي خمسين ألفاً، فتدفع ديته بالقيمة التي يساويها، سواءٌ أكانت مثل دية الحر أم أكثر أم أقل؛ لأنه فَّوته على سيده، ولأنه مال متقوم.
قال: [وجرحه إن كان مقدراً من الحر فهو مقدر منه منسوباً إلى قيمته، وإلا فما نقصه بعد برء] .
يقولون: كل ما كان مقدراً من الحر يكون مقدراً من العبد بالنسبة، فإذا قطعت يد العبد ففيها نصف قيمته، كما أن يد الحر فيها نصف ديته، وإذا فقئت عين العبد ففيها نصف قيمته ولو لم ينقص إلا قليلاً؛ لأن هذا مقدر من الحر، فإذا قدرنا هذا العبد بعشرين ألفاً، ولما فقئت عينه صار يساوي ثمانية عشر ألفاً فما نقصت العين إلا ألفين، ولكن العين فيها نصف الدية من الحر، فعلى ذلك الجاني نصف قيمة العبد، أي: عشرة آلاف.
هذا معنى قوله: [وجرحه إن كان مقدراً من الحر فهو مقدر منه منسوباً إلى قيمته، وإلا فما نقصه بعد برء] ، فينظر في ذلك إلى الجرح، وينظر كم أنقصه، فيقال -مثلاً-: إنه شجه في وجهه، وجرحه في وجهه، والجرح الذي لا يصل إلى العظم ليس بمقدر، فقدروا قيمة العبد قبل أن يجرح بعشرين ألفاً، وقدروا قيمته لما كان فيه هذا الجرح، فهذا الجرح أنقصه ألفاً، فيقال: ادفع -أيها الجاني- ألفاً، وليس لك يا -سيد- إلا هذا المقدار، ويكون ذلك بعدما يبرأ الجرح.(77/24)
دية الجنين الحر
قال: [ودية جنين حر غرة موروثة عنه] .
الجنين هو الحمل، والغرة هي العبد أو الأمة، هكذا في قصة الهذليتين لما قتلت امرأة لرجل من هذيل ضرتها، ضربتها بحجر فماتت هي وحملها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في حملها بغرة عبد أو أمة، وقضى بديتها على عاقلة القاتلة، فقال ذلك المجني عليه: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هذا من إخوان الكهنة) من أجل سجعه الذي سجع، وألزمه بأن يدفع دية الجنين، مع أنه مات قبل أن يخرج إلى الدنيا، فما أكل ولا شرب ولا استهل صارخاً، قال: فمثل ذلك يطل.
يعني: يهدر من الدية.
فهذه الغرة تورث عنه، فيقدر أنه حي، وأنها أخذت قيمة له، فيرثها من يرثه، وإذا جنى رجل على امرأة فضرب بطنها فأسقطت جنيناً قد تبين فيه خلق الإنسان ألزمنا ذلك الجاني بهذه الغرة، وتكون موروثة بين أبيه وأمه كميراث، وقيمتها عشر دية أمه، ودية المرأة عندنا خمسون ألفاً، فعشرها خمسة آلاف ريال، فالآن يحكمون في دية الجنين على الجاني في الإسقاط بخمسة آلاف، فإذا اعتدى إنسان على امرأة وضربها حتى أسقطت فإن عليه عشر ديتها، أي: خمسة آلاف ريال سعودي.(77/25)
دية الجنين القن
إذا كان الحمل قناً، كما إذا وجدت أمة مملوكة، ولما كانت حاملاً ضربها رجل أو ضربتها امرأة وأسقطت وأجهضت فما دية ذلك الإجهاض؟ ديته عشر قيمة الأمة، فنقدر كم تساوي هذه الأمة، فنقول: تساوي عشرة آلاف.
فهذا الجنين فيه ألف، أي: عشر القيمة.
[وتقدر الحرة أمة] .
إذا قدر -مثلاً- أنه ليس هناك إلا حرة ولم يكن لها قيمة فتقدر هذه الحرة بأنها أمة حتى ينظر في قيمة الجنين.(77/26)
جناية الرقيق
يقول: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً واختير المال أو أتلف مالاً بغير إذن سيده خير سيده بين فدائه بأرش جناية أو تسليمه لوليها] .
الرقيق المملوك قد يجني، فلو أن هذا العبد المملوك تعدى على إنسان وجرحه في رأسه، أو فقأ عينه، أو قطع يده، أو قلع أسنانه، فجنايته قد تكون خطأً وقد تكون عمداً، فالجناية تتعلق برقبته، فالمجني عليه الذي فقئت عينه يقول: هذا الذي جنى علي أنت سيده، وأنا لي حق فيه.
فإذا قال ذلك المجني عليه الذي فقئت عينه: أريد القصاص، أريد أن أفقأ عين هذا العبد كما فقأ عيني.
له ذلك؛ لعموم قوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] ، أما إذا قال: لا حاجة لي بفقء عينه أو بقطع أنفه، ولكن أريد المال، فهذا قد اعتدى على عيني، أو قطع شفتي، أو قلع أسناني، أو قطع إصبعي، وأنا بحاجة إلى المال.
فاختار المال فأنت -يا سيد- لك الخيار، إما أن تدفعه إليهم وتقول: خذوه عبداً لكم بهذه الجناية، أو تدفع هذه الدية وتسلمها إلى أولياء المجني عليه، وذلك لأن هذه الجناية تعلقت برقبته.
وهكذا لو أتلف مالاً بغير إذن سيده، فلو أنه -مثلاً- حطم سيارة، أو عقر جملاً، أو قطع شجرة، أو هدم جداراً بغير إذن سيده فأصحاب هذه السيارة أو هذا المال قالوا: يا سيد! هذا عبدك هو الذي كسر سيارتنا، فأعطنا قيمتها.
فنظرنا وإذا السيارة لا يصلحها إلا عشرون ألفاً، والعبد قيمته ثلاثة آلاف، فيقول: لا أعطيكم أي شيء، ولكن خذوا العبد لكم، هذا العبد هو الذي جنى عليكم، لا أدفع لكم أكثر من قيمته.
فلهم أن يأخذوه ملكاً، أما إذا كانت قيمة إصلاح السيارة خمسة آلاف والعبد قيمته عشرة آلاف فقال: أنا أفديه فله ذلك، فيدفع الخمسة الآلاف فداء له، ويبقى العبد مملوكاً له، والله أعلم.(77/27)
الأسئلة(77/28)
حكم من بلغ ولم يصم جاهلاً بوجوب الصوم
السؤال
بلغت سن الثانية عشرة من عمري، وظهرت علي علامات البلوغ من الاحتلام ونبوت شعر العانة وغير ذلك، وبقيت إلى بلغ عمري أربع عشرة سنة ولا أعلم أحكام ذلك حتى حضرت الدروس العلمية، ولم أصم في تلك السنتين، فماذا علي؟
الجواب
بالنسبة لصلاة يعفى عنها، وأما بالنسبة للصيام فلابد من القضاء، فإن الصلاة كثيرة، فهي صلاة سنتين، ولو كلف بقضائها لشق عليه، ولكن يكثر من النوافل، وأما الصيام فصيام شهرين، فيصومها ولو متفرقة أيامهما، ويكفر بأن يطعم عن كل يوم مسكيناً عن التأخير.(77/29)
تعين الدية بموت الجاني
السؤال
إذا اختار أولياء الدم القصاص ثم مات الجاني هل تتعين الدية؟
الجواب
مذكور في المتن أنه إذا مات الجاني تعينت الدية، حتى ولو كانوا قد قالوا: لا نريد إلا القصاص.
لكن فات الأوان.(77/30)
سراية الجناية في القصاص
السؤال
إذا قرر الطبيب الجنائي عدم سراية الجناية في حال القصاص، ثم وقع أن سرت الجناية، فعلى من الضمان؟
الجواب
الصحيح أنه إذا أسقط حقه وقال: أريد القصاص فقيل له: اصبر حتى يبرأ جرحك فتعجل وقال: أريد أن أقتص فاقتص، ثم سرت الجناية فقد سقط حقه قياساً على ما ذكر في قصة الرجل الذي طعن بقرن في ركبته، وأما إذا ظهر البرء ثم اقتص وسرت الجناية فإن الجاني يضمن.(77/31)
حكم المعلم لو ضرب التلميذ فكسر أنفه
السؤال
نهى النبي صلى الله لعيه وسلم عن الضرب في الوجه، فلو ضرب المؤدب تلميذه في وجهه من غير إسراف فانكسر أنف الولد، فهل يضمن لأنه فعل ما ليس مأذوناً له شرعاً؟
الجواب
الصحيح أنه إذا ضربه في الوجه فقد عصى، قال النبي صلى الله لعيه وسلم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) ، والمؤدب لا يضرب في الوجه؛ لأن في الوجه الحواس، فيه العينان، وفيه الأنف، وفيه الشفتان، وفيه الفم، فلا يضرب في الوجه، ولأن آثار الضرب في الوجه تكون شيناً، فإذا تعمد وضرب في الوجه فإنه يضمن، وأما إذا لم يتعمد بأن أومأ بيده والطفل هو الذي تحرك حتى قابل تلك الضربة بوجهه ففي هذه الحال لا يضمن.(77/32)
حكم اللقطة في محطة القطار
السؤال
يقول: وجدت مبلغاً من المال في محطة القطار، فهل أسلمه لجهة خاصة كالشرطة مثلاً، وماذا أفعل بهذا المبلغ؟
الجواب
عليك أن تعرفه إذا كان كثيراً بأن تعلن عنه، ولا تذكر أوصافه، فإذا جاءك من يصفه ادفعه إليه، وإذا أيست من أنه سوف يعرف، أو عجزت عن التعريف والإنشاد له فيستحب أن تتصدق به.(77/33)
حكم قتل السيد عبده
السؤال
ماذا لو قتل السيد عبده، فممن تكون المطالبة والمنازلة للدية وغير ذلك؟
الجواب
على السيد أو على ورثته، إلا إذا أعتقه فإنها تتعلق برقبته.(77/34)
إذا طلبت زوجة المقتول الدية وأولياؤه يريدون القصاص
السؤال
إذا اتفق الورثة كلهم بما فيهم الأب والأم والإخوة على قتل الجاني، وطلبت الزوجة الدية هل يؤخذ بقولها، علماً أن الزوجة قد تكون من قبيلة القاتل فتقف مع أهلها، وهذا مما يسبب فتناً كثيرة؟
الجواب
صحيح أن هذا يقع كثيراً، ولذلك ذهب بعض العلماء المتقدمين إلى أن الزوجة إذا كانت أجنبية فلا يعتبر طلبها للدية، وإذا طلبت أعطيت بقدر الدية، هكذا قالوا، وذلك لأن القصاص حق للأولياء، وهي أجنبية لا يهمها قتل ذلك الجاني أو لم يقتل، إنما تريد المال، وقد ذكرنا بعض القصص، فأولياء القاتل ذهبوا إلى المرأة الأجنبية، وكان حظها من الدية -مثلاً- اثني عشر ألفاً وخمسمائة، فأعطوها مائة ألف أو خمسين ألفاً، وقالوا: اطلبي الدية.
فلما طلبت الدية سقط القصاص، وتضرر وتألم أولياء القتيل.(77/35)
الحكومة فيما لا يمكن القصاص فيه من الأطراف
السؤال
إذا قطعت يده من وسط الذراع، واختار أن تقطع يد الجاني من أصل الكف هل له أرش زائد؟
الجواب
نعم.
فاليد تطلق على اليد كلها إلى المنكب، وهذا لما قطعت يده من نصف الذراع قلنا له: لا تقطع إلا الكف، لأنه مفصل، فقطع الكف من الجاني وقال: أنا قد قطع نصف ذراعي.
فهذا النصف الذي قطع فيه حكومة، فيعطيه الحاكم قيمة نصف الذراع.(77/36)
معنى السراية
السؤال
ما معنى كلمة: (السراية) ؟
الجواب
السراية: هي تأثر الجرح إلى أن يحصل منه إما موت وإما تآكل.
فيقال -مثلاً-: قطع الإصبع فتسمم الكف، فسرى ذلك التأثر والتسمم فأبطل حركة الأربعة الأصابع فقطعت، فسرى من إصبع إلى أربعة أصابع، وقد يسري أيضاً إلى النفس، فالسراية هي تعدي أثر الجرح أو أثر الجناية أو أثر القود.(77/37)
القود من الجاني إن كان مصاباً بمرض السكر
السؤال
إذا كان الجاني مصاباً بمرض السكر هل يسقط عنه القصاص مماثلة؟
الجواب
الظاهر أنه لا يسقط إلا بإسقاط المجني عليه؛ لأنه يريد حقه من القصاص، والسكر يمكن أن يعالج حتى لا يتأثر.(77/38)
حكم من يريد إنقاذ رجل فاختنق بسببه ومات
السؤال
رجل سقط في حفرة، ثم جاء أناس لإنقاذه فربطوه بحبل، ولما أخذوا يسحبونه ليخرجوه من الحفرة خنق بهذا الحبل فمات، فهل يضمنونه؟
الجواب
الظاهر أنهم يضمنون إذا جعلوا الحبل في عنقه فمات، وأما إذا ربطوا الحبل بيديه أو ربطوه بفخذيه أو في صدره فالغالب أنه لا يموت بذلك، فلا يضمنون.(77/39)
حكم تزويج الأب لولده
السؤال
ذكر أن على السيد تزويج عبده إذا طلب ذلك، وتزويجه عليه واجب، فما حكم تزويج الرجل ولده الحر؟
الجواب
يلزمه إذا كان قادراً، ولكن الحر يقدر أن يتكسب، فيقول: يا ولدي! أنا عاجز، وليس عندي مال أكفيك، ولكن تَكَسَّب واشتغل واحترف حتى تجمع مالاً لتزوج نفسك.
وأما العبد فإنه مملوك لا يقدر أن يتكسب لنفسه، فهو يقول لسيده: إما أن تزوجني، وإما أن تعتقني، وإما أن تبيعني، ولا تتركني عزباً؛ لأني لا أقدر أن أتكسب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/40)
شرح أخصر المختصرات [78]
جاءت هذه الشريعة بالعدل، ومما يبين ذلك القصاص والديات في النفوس والأطراف، وهي في ذلك حكيمة رحيمة، ومما يبين ذلك مشروعية تعاون العاقلة مع الجاني خطأً دون الجاني عمداً.(78/1)
دية الأطراف
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ومن أتلف ما في الإنسان منه واحد كأنف ففيه دية نفسه، أو اثنان أو أكثر فكذلك، وفي أحد ذلك نسبته منها، وفي الظفر بعيران، وتجب كاملةً في كل حاسة، وكذا كلام وعقل ومنفعة أكل ومشي ونكاح، ومن وطء زوجة يوطأ مثلها لمثله فخرق ما بين مخرج بول ومني، أو ما بين السبيلين فهدر، وإلا فجائفة إن استمسك بول، وإلا فالدية.
وفي كل من شعر رأس وحاجبين وأهداب عينين ولحية الدية، وحاجب نصفها وهدب ربعها، وشارب حكومة، وما عاد سقط ما فيه.
وفي عين الأعور دية كاملة، وإن قلعها صحيح أقيد بشرطه، وعليه أيضاً نصف الدية.
وإن قلع ما يماثل صحيحته من صحيح عمداً فدية كاملة، وإلا قطع كغيره.
وفي الموضحة خمس من الإبل، والهاشمة عشر، والمنقلة خمسة عشر، والمأمومة ثلث الدية كالجائفة والدامغة، وفي الخارصة والبازلة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق حكومة.
فصل: وعاقلة جانٍ ذكور عصبته نسباً وولاءً، ولا عقل على فقير وغير مكلف ومخالف دين جانٍ، ولا تحمل عمداً ولا عبداً، ولا صلحاً ولا اعترافاً، ولا ما دون ثلث الدية.
ومن قتل نفساً محرمةً غير عمد، أو شارك فيه فعليه الكفارة، وهي ككفارة ظهار إلا أنه لا إطعام فيها، ويكفر عبد بالصوم.
والقسامة أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.
وإذا أتمت شروطها بدئ بأيمان ذكور عصبته الوارثين، فيحلفون خمسين يميناً كل بقدر إرثه ويجبر كسر، فإن نكلوا، أو كان الكل نساءً حلفها مدعًى عليه وبرئ] .(78/2)
دية ما في الإنسان منه واحد
إذا قتل الجاني نفساً فالدية -كما تقدم- مائة من الإبل، وتصح أن تكون الدية من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من الفضة، والأطراف فيها دية، وذلك لأن ذهابها خلل على الإنسان، وهذه الأطراف والحواس التي في الإنسان ما كان منها واحداً ففيه الدية كاملة، سواءٌ أكانت منفعته كثيرة أم قليلة، والذي في الإنسان منه واحد ثلاثة: الأنف، فإذا قطعت الأنف من أصله ففيه الدية، واللسان، فإذا قطع من أصله بحيث تعطل الكلام ففيه الدية كاملة، والذكر، فإذا قطع من أصله ففيه الدية كاملة.
أما إذا قطع بعض ذلك ففيه نسبته، فإذا قطع نصف اللسان أو نصف الذكر أو مقدم الأنف فإن فيه نصف الدية أو بقدر ما قطع منه، وذلك لأن هذه فيها منافع، ومنافعها ظاهرة وإن كانت تتفاوت، فالأنف منفعته في الجمال، نصبه الله تعالى في مقدم وجه الإنسان زيادة في الجمال، فإذا قطع فإن فيه القصاص، قال الله تعال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] ، فجعل في الأنف قصاصاً.
وأما اللسان فلا شك أن منفعته عظيمة، وأجل منفعته النطق، وأكثر الحروف إنما هي من حركة اللسان، ومن منفعته أيضاً الذوق، فإنك إذا وضعت على لسانك حامضاً أو حالياً أو مراً فبه تعرف الطعم، فالطعوم غالباً إنما تميزها بلسانك، ولو وضعتها في يدك لم تعرف هل هذا الشيء مالح أو حامض أو حالٍ أو مر حتى تضعه في لسانك، فاللسان فيه هذه الفائدة التي هي الذوق، وكذلك أيضاً اللسان يحرك الأكل في الفم، فهو يجمع الأكل ويفرقه، فله فوائد عظيمة ولو أنه شيء خفي لا يبرز وينطبق عليه الفم، ففائدته عظيمة، فلذلك فيه الدية.
والذكر أيضاً فيه فائدة الاستمتاع ونحوه، فهذه ثلاثة أشياء ليس بالبدن منها إلا واحد من كل واحد، لكن قالوا: إن الأنف يحتوي على هذه الثلاثة الأطراف: المنخران والحاجز بينهما، فلو أن إنساناً قطع أحد المنخرين وترك المنخر الآخر وترك الحاجز فعليه ثلث الدية، فإذا قطع المنخرين وترك الحاجز فعليه الثلثان، وإذا قطع الحاجز وترك المنخرين فعليه الثلث، فالأنف يكتمل على هذا الحاجز وعلى طرفي الأنف اللذين هما طرفا المنخرين، ففي كل جزء ثلث الدية، وفي الجميع الدية كاملة إذا قطع الأنف بحاجزه ومنخريه.(78/3)
دية ما في الإنسان منه اثنان
وأما الذي في الإنسان منه اثنان فالعينان، جعلهما الله تعالى اثنتين لحكمة، فإن إحداهما قد تمرض أو قد تذهب فيبصر بالأخرى، فيكون البصر كاملاً، فإذا فقأ إحدى عينيه ففيها نصف الدية، وإن فقأ العينين ففيهما الدية كاملة، وكذلك الأذنان، وقد تقول: الإذن ليست هي التي يسمع بها، ولكن الذي يسمع به هو الصماخ الداخل في الرأس! ولكن هذه الأذن الظاهرة تتلقى الصوت، ولذلك جعلها الله تعالى متوجهة نحو الصوت، فيقرع الصوت فيها ويدخل في الصماخ فيحصل السماع، مع أنها لو قطعت قد يبقى السماع يدخل في الأصمخة، ولكن لها فائدة في زيادة السمع، ومع ذلك هي زينة ظاهرة، ولهذا النساء يعلقن فيها شيئاً من الحلي وهو ما يسمى بالقرط، فإذا قطعت الأذنان ففيهما الدية كاملة، وفي الواحدة نصف الدية.
ومما في الإنسان اثنان الشفتان، ففي الواحدة نصف الدية وفي الثنتين كامل الدية، هذا قول الجمهور، وقال بعضهم: إن الشفة السفلى أكثر فائدة.
فجعل بعضهم فيها ثلثي الدية، وذلك لأنها تلقف الطعام وتلقف الشراب، ومع ذلك فمنفعتهما لا تتم إلا باجتماعهما، وفيهما مخرج بعض الحروف كالباء والميم، وكذلك بانضمامهما عند الكلام ينطق بالواو، ففيهما إعانة على الكلام، ومصلحتها ظاهرة، ففيهما الدية.
وهكذا اليدان فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، والرجلان فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، والثديان من المرأة فيهما الدية، وفي أحدهما نصف الدية، وفي الرجل ثندؤتان مكان الثديين، فإذا قطعتا ففيهما الدية، كذلك أيضاً في الإنسان الإليتان، ومنفعتهما ظاهرة، يجلس عليهما، ويرتفق بهما، ففيهما الدية، وكذلك في الرجل الأنثيان -الخصيتان- فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وأشباه ذلك.(78/4)
دية الأعضاء الباطنة
اختلف في الأعظاء الباطنة هل فيها الدية؟ فالأولون ما تصوروا ذلك، ولكن في هذه الأزمنة قد يتصور، ذكر لنا بعض الإخوان أن قوماً خطفوا طفلة عمرها سبع سنين، وذهبوا بها إلى إحدى المستشفيات وقالوا: هذه ابنتنا.
وأحدهم قد مرضت كليتاه، فيه فشل كلوي، فشقوا بطن هذه الطفلة وأخرجوا منها كلية وجعلوها في ذلك المريض، وفقدها أهلها ولم يدروا أين هي، وبعد خمسة أيام أو ستة أيام جيء بها وألقيت عند باب أهلها، ولا تدري ماذا فعل بها، فذهبوا إلى أحد المستشفيات وكشفوا عليها فقالوا: إنها قد أخذت منها كليتها! فنقول: الكليتان فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، والرئتان فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية إذا أخذت، وكذلك لو أخذ الطحال أو القلب أو الكبد وإن كان قد لا يعيش، ولكن قد يجعلون فيه شيئاً من عضو حيوان يعيش به مدة، فعلى هذا نقول: إن هذه أيضاً معتبر فيها القصاص، ومعتبرة فيها الدية، فمن اعتدى على أحد وقهره حتى أخذ منه كلية أو نحو ذلك فإن فيها القصاص أو فيها نصف الدية إذا أخذ إحدى الكليتين، ولو أن العلماء الأولين لم يذكروا ذلك؛ لأنهم ما تصوروا هذه العمليات الجديدة.
يقول: [أو اثنان] يعني: أو كان في البدن منه اثنان ففيهما الدية، [أو أكثر] إذا كان في الإنسان أكثر من اثنين كالثلاثة -وهي المنخران والحاجز بينهما- فالثلاثة فيها الدية، والأربعة في الإنسان مثل الأجفان فهي أربعة، ففي كل عين جفنان، ففي أحدها ربع الدية، إذا قطع أحد الأجفان الأربعة ففيه ربع الدية، وإن قطع الأربعة كلها فعليه الدية كاملة؛ لأن في الإنسان هذه الأربعة.(78/5)
دية الأصابع
هناك ما في الإنسان منه عشرة كأصابع اليدين، فإذا قطع الأصابع العشرة فعليه الدية، وإذا قطع أصابع يد الخمسة فعليه نصف الدية، وإذا قطع واحداً فعليه عشر الدية، أي: عشر من الإبل، والأصابع متساوية، هكذا كان الصحابة يحكمون، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (في الإصبع عشر من الإبل) ، وكان بعضهم يفوتون بينها بقدر منفعتها، وذلك أن الإبهام منفعته أكثر من منفعة الخنصر؛ لأنه قد يقوم مقام الأربعة الأصابع كلها، فإذا قطع صعب عليه أن يمسك شيئاً بإصبعيه، أما إذا كان موجوداً فإنه يحمل شيئاً بإصبعيه ويمسك الأشياء الدقيقة مثل الإبرة أو المسمار الدقيق بهذين الإصبعين، ولا يقدر أن يمسكه بالسبابة والتي تليها، فعرف أن الإبهام منفعته كبيرة وليست كمنفعة بقية الأصابع، ومع ذلك جاء الشرع بالتسوية، وأن كل إصبع فيه عشر الدية.
وهكذا أصابع الرجلين منفعتهما التمكن من المشي، يعتمد عليهما ويرتفع عليهما إذا أراد أن يرتفع، ففيهما أيضاً منفعة، فإذا قطعت أصابع الرجلين ففيها الدية، وإذا قطع واحد منها -ولو الخنصر- ففيه عشر الدية، وذلك لأنه يصدق عليه أنه إصبع، أما إذا قطع بعض الإصبع ففيه نسبته، ومعلوم أن الأصابع الأربعة كل واحد فيه ثلاث أنامل، ففي كل أنملة ثلث عشر الدية، وفي أنملتين ثلثا عشر الدية، والإبهام ليس فيه إلا أنملتان، ففي الأنملة خمس من الإبل، وفي الأنملتين عشر، سواء إبهام اليد أو إبهام الرجل، ليس فيه إلا أنملتان، ففي كل واحدة نصف عشر الدية، فهذه الأعضاء التي تتعدد في الإنسان.(78/6)
دية الأسنان
هناك الأسنان، ومجموع الأسنان إذا كملت اثنان وثلاثون سناً، ستة عشر من فوق، وستة عشر من تحت، وهناك نوع من الناس يقال له: الكوسج.
تنقص أسنانه، ولا يكون فيه إلا ثمانية وعشرون سناً.
وهذه الأسنان منفعتها ظاهرة، وهي تقطيع الأكل ومضغه حتى يصلح ليبتلع، فمنفعتها ظاهرة، فإذا قلعت الأسنان كلها ففيها الدية، وإن قلع الفك الأعلى فنصف الدية، وكذا الفك الأسفل، أما الواحد منها فورد أن في كل سن خمساً من الإبل، وهي اثنان وثلاثون، فإذا كان في كل واحد خمس فإنه إذا قطع سن أخذ خمساً، فإن قلع ثانياً فيه خمس، فيكون المجموع مائة وستون من الإبل، فهذه دية اثنين وثلاثين، ولكن الغالب أنها لا تقلع إلا مفرقة، والله تعالى ذكر فيها القصاص في قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ، وجاء في الحديث أن امرأة من الأنصار يقال لها: الربيع أخت أنس بن النضر كسرت سن جارية من الأنصار، فأراد أهل تلك الجارية القصاص، فرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله لعيه وسلم فحكم بالقصاص، فلم يرض أخوها وقال: أتكسر ثنية الربيع؟! فقال صلى الله لعيه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص) ، فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع.
فرضي القوم بالأرش، أي: بالدية.
وقوله: (كتاب الله القصاص) دليل على أن السن تكسر بالسن، أو تقلع بها إذا قلعت.
فعرفنا ما في الإنسان منه اثنان، أو أكثر من اثنين إلى عشرة إلى اثنين وثلاثين وهي الأسنان، وفي أحد ذلك نسبته من الدية، فإذا كانت عشرة ففي الواحد عشر الدية، وإذا كانت ثلاثة كالمنخرين والحاجز ففي كل واحد ثلث الدية، وإذا كانت أربعة -وهي الأجفان- ففي كل واحد ربع الدية.(78/7)
دية الأظفار
قال: [وفي الظفر بعيران] يعني: إذا لم ينبت.
إذا قلع الظفر وبقيت الأنملة -سواء ظفر الإبهام أو ظفر خنصر أو غيرهما- لم يعد ينبت ظفرها فديته بعيران، ولا شك أن منفعة هذه الأظافر ظاهرة، يحك بها جلده، ويقبض بها الشيء الدقيق كشوكة في جسده أو نحو ذلك، ففيها منفعة.
والسنة تقليمها؛ لأنها إذا طالت تشوه الخلقة، ولكن لابد أن يبقى من رؤوسها ما ينتفع به، فلأجل ذلك فيها منفعة، فإذا قلع الظفر وعرف أنه لا يعود ولا ينبت مرة أخرى ففيه بعيران.
فالإصبع فيها عشرة، والظفر فيه بعيران، وأنملة الإبهام فيها خمس من الإبل، والأنملة من السبابة فيها ثلاثة أبعرة وثلث، ثلث العشر، وظفرها فيه بعيران.(78/8)
تعدد الدية
يقول: [تجب كاملة في كل حاسة] .
أي: كما أنها تجب في الأطراف فإنها أيضاً تجب في المنافع، وذلك لأن منفعتها عظيمة، فإذا أذهب حاسة من الحواس فعليه الدية كاملة، وقد يذهب منه حاستين أو أكثر فتتعدد الدية، ذكر أن رجلاً في عهد عمر رضي الله عنه ضرب رجلاً ضرباً شديداً حتى ذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فبقيت العينان لا يبصر بهما، ولا يسمع ولو كانت الأذنان موجودتين، ولو كانت العينان مفتوحتين، وذهب عقله، وذهب نكاحه فلم يعد يستطيع أن ينكح، فقضى له عمر بأربع ديات، ولما حدث بذلك الحسن البصري قال بعض الحاضرين: ما أسعده وما أكثر ما أخذ! فقال الحسن رحمه الله: لا والله! بل ما أشقاه وما أتعسه! ماذا يستفيد من حياته لا سمع ولا بصر ولا عقل ولا نكاح؟ ماذا يستفيد من هذه الحياة؟ حياته بؤس عليه، ولو مات لكان أريح له، فعرف بذلك أن هذه المنافع منافع كاملة، ففي كل واحدة الدية كاملة ولو كانت الآلة باقية، فقد يذهب ماء العينين وتبقى العين مفتوحة ولا يبصر، فإذا ضربه إنسان ضرباً شديداً في رأسه فذهب ماء عينيه.
فأصبح لا يبصر فعليه الدية، وهكذا لو ضربه برأسه ضرباً أذهب سمعه بأن أصم أذنيه أو تشققت الطبلات في داخل الأذن والأصمخة فإنه يكون عليه الدية، وهكذا حاسة الشم الذي هو إدراك الروائح، هذه أيضاً منفعتها عظيمة، فإذا ضربه ففقد حاسة الشم فعليه الدية، وذلك لأن فيها منفعة، يعرف الرائحة الطيبة والرائحة المنتنة فيتجنب ما يضره، فإذا فقدها تضرر.
وهكذا منفعة الكلام، فلو أنه ضربه فتعطل الكلام، فاللسان باقٍ والشفتان باقيتان، ولكن لا يستطيع أن يتكلم، ولا يستطيع أن ينطق ولو بحرف، فهذه أيضاً منفعة كبيرة، فمنفعة الكلام فيها أيضاً الدية.
وكذلك منفعة النكاح إذا فقدها فيها الدية، وما ذاك إلا لأنه أذهب عنه منفعة مقصودة في هذه الحياة.
ذكروا أنه لو أتلف منفعة الطعم -الذوق- ففيها الدية، وهي منفعة كبيرة، فلو تعطل فمه فلا يميز بين الحلو والحامض والمر، والأطعمة كلها لا يميزها، ولا يعرف أي طعم هذا فهذه أيضاً منفعة عظيمة زالت ففيها الدية، والحواس ذكروا أنها خمس: حاسة السمع، وحاسة البصر، وحاسة الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس، وهي التي يقولون: إنها تدرك بها الحقائق، فالإنسان يدرك الموجودات بهذه الحواس الخمس، فإذا ذهبت واحدة منها ففيها دية، فحاسة اللمس فيها الدية إذا صارت يداه لا يحس فيهما بشيء، إذا وضع يده على شيء لا يدري هل هو بارد أو حار، ولا يدري هل مس تراباً أو حجراً أو زجاجاً أو لحماً أو نحو ذلك، فهذه أيضاًَ حاسة مقصودة.
وألحقوا بذلك ما لو تغير مظهر الإنسان، إذا كان الإنسان -مثلاً- وجهه أبيض أو أحمر فانقلب أسود من آثار هذا الضرب، فهذا الجاني أفقده لونه، فيكون عليه دية لأنه غيّر لون بشرته.
يقول: [وكذا كلام] يعني: إذا لم يقدر على الكلام، [وعقل] إذا فقد العقل، [ومنفعة أكل] يعني: تعطل الأكل، بحيث إنه -مثلاً- صار لا يأكل إلا بمغذٍ، أو يدخل الأكل من بطنه فتعطل الأكل، [ومنفعة مشي] إذا ضربه فأقعد، أو صار معاقاً لا يمشي على رجليه.
ولو كانت الرجلان موجودتين، [ونكاح] بحيث لا يستطيع أن يجامع، بطلت منفعة النكاح، فهذه كل واحدة منها فيها دية.(78/9)
إفساد فرج المرأة بوطء مباح
يقول: [ومن وطئ زوجة يوطأ مثلها لمثله فخرق ما بين مخرج بول ومني، أو ما بين السبيلين فهدر، وإلا فجائفة] .
إذا تزوج بنتا ومثلها يوطأ، أي: قد بلغت مبلغ النساء وقاربت، ولكن لعبالة ذكره فتق ما بين مخرج البول والمني أو مخرج البول والحيض فهذا هدر؛ لأنه مباح له، ولأنه ما تزوجها إلا ليطأها، والبول يخرج من المرأة من ثقب في أعلى الفرج شبية بالإحليل الذي يخرج منه البول للرجل، وأما الحيض فإنه يخرج من فتحة الفرج التي هي مسلك الذكر، فإذا فتق ما بين مخرج الحيض والبول فهذا هدر، وكذلك لو فتق ما بين السبيلين -أي: ما بين الفرج والدبر- فهو هدر أيضاً إذا كانت يوطأ مثلها لمثله.
وأما إذا كان لا يوطأ مثلها لصغرها أو لكبره هو ولعبالة ذكره، وتزوجها وزفها أهلها إليه فوطئها، لكن لا يوطأ مثلها لصغرها أو لأنها لا تتحمل، فإذا حصل هذا الضرر ففيها جائفة، والجائفة هي الطعنة التي تصل إلى الجوف أياً كانت، إذا طعنه -مثلاً- في بطنه طعنة وصلت إلى أمعائه فهذه جائفة، وديتها ثلث الدية، أي: ثلاث وثلاثون وثلث من الإبل، أو نحوها، فتعتبر هذه الجائفة، وإذا فتقها وصار البول لا يستمسك فإن فيها الدية، وكذلك لو أن إنساناً ضرب رجلاً في أسفل بطنه -أي: فوق المثانة- فانفجرت المثانة وصار البول لا يستمسك، فهذا الذي اعتدى عليه دية كاملة؛ لأنه أفسد منفعة عظيمة.
وكذلك لو ضربه في أسفل ظهره فلم يستمسك الغائط، وبقي لا يقدر على أن يمسك الغائط فعليه أيضاً دية كاملة، وذلك لعظم هذه المنفعة التي فوتها، وهذا إذا عرف أنه لا يمكن علاجه، وأنه يبقى هكذا بقية حياته.(78/10)
دية الشعر
يقول بعد ذلك: [وفي كل من شعر رأس وحاجبين وأهداب عينين ولحية الدية كاملة] .
هذه الشعور أنبتها الله تعالى زينة، فإذا أذهبها فعليه الدية كاملة، وأسهلها شعر الحاجبين، فلو أن إنساناً سلخ الحاجب بالموسى فقطع الحاجب ومنابته، وبقي مكانه ليس فيه شعر فقد أذهب هذه المنفعة، والحاجب أولاً جمال، وثانياً فيه حماية للعين وما يتساقط من الغبار أو من الشعر حتى لا تتأذى العينان، فإذا أزال هذا الشعر ولم يعد فعليه الدية كاملة، وكذلك أهداب العينين، فلو أنه سلخ رأس الحاجب ولم يعد ينبت الهدب فعليه الدية كاملة، في كل جفن إذا سلخ هدبه ربع الدية، وفي عين واحدة إذا سلخ منها الجفنين ولم يعد ينبت نصف الدية، وفي العين الأخرى أيضاً نصف الدية، وهذه الأهداب منفعتها عظيمة، ولهذا توجد حتى في بهيمة الأنعام، فجعل الله تعالى في مشافر العينين منها هذه الأهداب حماية للعين مما يسقط فيها؛ لأن العين جوهر لطيف تحتاج إلى حماية وإلى حرص، وجعل الله الحاجبين لحفظ العينين من الأتربة والغبار ونحو ذلك، ولو أزيل هذا الشعر لنقصت، ولصارت عرضة لما يقع فيها من شعر وغبار وتراب وما أشبه ذلك.
وكذلك شعر اللحية، فاللحية زينة للرجل، خص الله تعالى بها الرجل وميزه بها عن المرأة، فهذه اللحية زينة وجمال، فلو أن إنساناً سلخ جلدتها أو كواها حتى صارت لا تنبت فعليه الدية كاملة، إذا أذهب جمالها وأذهب زينتها فعليه الدية، حتى ولو كانت خفيفة لم ينبت منها إلا شعرات في أسفل الذقن فسلخت وأزيل مكانها ولم تعد تنبت فعليه الدية، وإذا أذهب بعضها فعليه الدية بالنسبة، واللحية اسم للشعر النابت على اللحيين وعلى الذقن، واللحيان هما منبت الأسنان السفلى، فلو أنه سلخ الخد الأيمن أو كواه وتعطل نباته فلا شك أنه يكون قد شوه المنظر، فعليه ثلث الدية، وإذا سلخ الخدين فعليه ثلثا دية، وإذا سلخ اللحية كلها أو كواها فعليه الدية كاملة.
وبذلك يعرف فضل الإسلام، حيث إن الإسلام حافظ على منافع الإنسان وعلى أعضائه، وجعل في كل منها دية حتى لا يتعدى أحد على أحد، مع أننا في هذه الأزمنة ابتلينا بمن يعادي اللحية ويستهين بأمرها ويواظب دائماً على إزالتها، فلو علم أنها شرف، وأنها زينة وجمال، وأن الشرع جعل فيها الدية كاملة لعرف قدرها.
وكذلك شعر الرأس هو أيضاً جمال، أنبته الله تعالى زينة، فهو يقي من حر الشمس أو نحوه، فإذا سلخ الرأس أو كواه ولم يعد ينبت فإن فيه الدية، فهذه أربعة شعور: شعر الرأس، وشعر الحاجبين، وشعر الأهداب، وشعر اللحية، كل واحد منها فيه الدية كاملة.
قال: [وفي بعضها النسبة] ، ففي حاجب واحد نصف الدية، وفي هدب جفن واحد ربع الدية، وكذلك إذا سلخ أو كوى نصف الرأس ففيه نصف الدية، فإن كوى ثلثه فثلث الدية، وهكذا.
أما الشارب فلم يجعلوا فيه دية، وإنما جعلوا فيه حكومة، وذلك لأنه مأمور بقصه ومأمور بحفه، والحكومة أن يقدر كأنه فيه الشارب كم قيمته لو كان مملوكاً وكم قيمته إذا سلخ شاربه ولم يعد ينبت، فينظر الفرق، فتكون فيه تلك النسبة.
قال: [وما عاد سقط ما فيه] .
لو أنه -مثلاً- كوى الحاجبين ودفعت الدية، وبعد ذلك عولج الحاجب فنبت سقط ما فيه، وإنما يكون عليه عقوبة تلك الجناية التي هي كيه أو سلخه أو ما أشبه ذلك.(78/11)
دية عين الأعور
قال: [وفي عين الأعور دية كاملة] .
الأعور الذي ليس له إلا عين واحدة، فهذه العين يكتب بها ويمشي بها ويقرأ بها ويرى بها البعيد، قد انحصر بصره في هذه العين، فجاءه إنسان ففقأ هذه العين فأذهب بصره، فيقول: أنت أذهبت بصري، أنا بعد إصابة هذه العين صرت أعمى، وقبلها كنت بصيراً كما أنك تبصر! فإذا قال ذلك المعتدي: أنا ما فقأت إلا عيناً واحدة نقول: إنك أذهبت البصر، فعليك دية كاملة.
ولو أن إنساناً له عينان فقأ عين الأعور، ولما فقأها قال ذلك الأعور: أنا أريد القصاص وأريد الدية.
ففي هذه الحال تقلع عين الصحيح المماثلة لها، وعليه مع ذلك نصف الدية؛ لأنه أذهب بصره، فإذا كانت عين الأعور هي العين اليمنى وفقأها إنسان له عينان فقال الأعور: أريد القصاص تفقأ عين الصحيح اليمنى، ومع ذلك يدفع نصف الدية؛ لأن العين التي فقأها فيها الدية كاملة؛ لأنها قائمة مقام عينين.(78/12)
حكم الأعور إن فقع عين آخر
يقول: [وإن قلع ما يماثل صحيحته من صحيح عمداً فدية كاملة، وإلا قطع كغيره] .
صورة ذلك: الأعور اعتدى على إنسان بصير، فالأعور عينه اليمنى صحيحة، فاعتدى على إنسان وفقأ عينه اليمنى عمداً، ففي هذه الحال الصحيح يقول: أريد أن أفقأ عينه اليمنى لأنه فقأ عيني اليمنى.
فيقال: إذا فقأت عينه اليمنى صار أعمى، فما له إلا هذه العين، ولكن هو يفدي نفسه بدية كاملة، وذلك لأنك إذا فقأت عينه أذهبت بصره، فيكون لذلك الصحيح دية كاملة، مع أنه ما فقأ منه إلا عيناً؛ لأنه يريد القصاص ويقول: أريد أن أفقأ عينه كما فقأ عيني.
فنقول له: إنه ليس له إلا عين واحدة، وأنت قد بقي لك عين، فإن فقأت عينه فإنك تدفع له نصف الدية، وإلا فهو يدفع لك الدية كاملة فداءً لعينه.
أما بقية الحواس فإن فيها نصف الدية أو فيها القصاص، فإذا كان إنسان ليس له إلا أذن واحدة، ثم إنه قطع أذن إنسان صحيح نقول: ليس فيها إلا نصف الدية، أو فيها القصاص.
وكذلك إنسان ليس له إلا أذن جاءه رجل وقطعها، وأصبح ليس له أذنان، فماذا يجب عليه؟ إما القصاص بأذن واحدة وإما نصف الدية، وكذلك إنسان مقطوعة إحدى يديه، ثم إنه جاءه إنسان فقطع اليد الأخرى، فليس عليه إلا نصف الدية، أو القصاص بأن يقطع اليد التي تماثل يده، فالمعتدي يقول: أنا قطعت يده اليسرى اقطعوا يدي اليسرى، فإذا قال ذلك الأشل: بل أقطع يديك لأنك حسرتني، فأنا الآن ليس لي يدان.
يقول: لست أنا الذي قطعت الأولى، قطعها غيري، ويمكن أنك اقتصصت، ويمكن أنك أخذت دية، ويمكن أنك سارق قطعت يدك، فأنا ما قطعت منك إلا يداً واحدة، فاقطعوا يدي التي تماثلها.(78/13)
أحكام الشجاج
انتهى المؤلف مما يتعلق بالأطراف، وبقيت أحكام الشجاج، والشجاج هي الضربات التي في الرأس أو في الوجه، فالضربة في الرأس أو في الوجه تسمى شجاً، والضربة التي في العنق أو في العضد أو في الصدر أو في البطن تسمى جرحاً.(78/14)
ما فيه حكومة
ذكروا أن الشجاج عشر، منها خمس ليس فيها إلا حكومة، ومنها خمس فيها شيء مقدر.
فالخمس التي فيها حكومة أولها: الحارصة.
وذكرها هنا بلفظ (الخارصة) ، والصواب: الحارصة، وهي التي تحرص الجلد ولا تشقه، فهذه ليس فيها إلا حكومة.
الثانية: البازلة.
وهي التي تشق الجلد ولا تدمي، لا يخرج دم من جلده إلا أنه انشق الجلد.
الثالثة: الباضعة التي تشق الجلد وتدميه.
وتسمى أيضاً: الدامية، وهي التي يخرج منها دم.
الرابعة: المتلاحمة التي تغور في اللحم ولا تصل إلى العظم، فهي متلاحمة.
الخامسة: السمحاق التي تقرب من العظم، ولا يبقى بينه وبين العظم إلا قشرة رقيقة تسمى السمحاق.
فهذه خمس -حارصة، وبازلة، وباضعة، ومتلاحمة، وسمحاق- ليس فيها إلا الحكومة، بأن يقال: لو كان هذا الإنسان عبداً مملوكاً فكم تنقصه هذه الشجة؟ فإذا قالوا: تنقصه.
ربعه عشره.
نصف عشره فإن فيها تلك النسبة من دية الإنسان الحر ذكراً أم أنثى.(78/15)
ما فيه دية
أما الخمس التي فيها دية فهي الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، فهذه فيها مقدر.
والموضحة: هي التي تصل إلى العظم حتى يتضح العظم، فتقرع في العظم، فهذه فيها خمس من الإبل.
والهاشمة: هي التي تهشم العظم ولا تكسره، وعلامة ذلك أن المقدرين للشجاج يأخذون رأس المخيط ثم ينظر فيه، فإذا كان رأس المخيط لا يتوقف فهي موضحة، فإذا كان يتوقف في بعض دل على أنها كسرت العظم، ففيها عشر من الإبل، وتسمى الهاشمة.
الثالثة: المنقلة، وفيها خمس عشرة من الإبل، وهي التي تخرق العظم، بحيث إن الميل يدخل في ذلك الخرق، فقد تمايزت العظام وانتقلت من هنا ومن هنا من شدة الضربة.
الرابعة: المأمومة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، فهذه فيها ثلث الدية، ثلاثٌ وثلاثون من الإبل.
الخامسة: الدامغة، وهي التي تخرق جلدة الدماغ، فإذا وصلت إلى أم الدماغ ولم تخرق فهي مأمومة، وإذا وصلت إليها وشقت الجلد فإنها تسمى دامغة، فهذه فيها ثلث الدية مثل المأمومة.
أما الجائفة فهي التي تصل إلى الجوف من أي مكان، فإذا طعنه -مثلاً- في صدره ووصلت الطعنة إلى الجوف فهي جائفة، أو طعنه في بطنه بسكين ووصلت إلى الأمعاء فهي جائفة، وإن رماه -مثلاً- بسهم فدخل من الأمام وخرج من الخلف فهي جائفتان: جائفة من قدّامه وجائفة من خلفه، حتى ولو لم تشق الأمعاء، فيصدق عليه أنه خرق جوفه من أمامه ومن الخلف.(78/16)
العقل والعاقلة
تقدمت دية أعضاء الإنسان، وعرفنا ما يجب فيها، وإذا كانت عمداً فقد تقدم أن المتعمد لا يستحق أن يساعد، بل تكون عليه كلها، وإذا كان القتل أو نحوه خطأ أو شبه عمد فتتحمله العاقلة.
يقول المؤلف: [وعاقلة جانٍ ذكور عصبته نسباً وولاء] .
الذكور فقط من العصبة، إخوانه وبنو إخوته، وأعمامه وبنو عمه، وأعمام أبيه وبنوهم وبنو بنيهم، وأعمام جده وبنوهم وبنو بنيهم، وذكر بعضهم أن العاقلة إلى الجد الخامس أو السادس، ويسمون عاقلة لأنهم يدفعون الدية، والدية تسمى عقلاً، ولماذا سميت بهذا؟ لأنهم يأتون بالإبل بعقلها، والعقال هو الحبل الذي تربط به يد البعير أو رجله إذا برك.
عقل وانعقل أي: ربط حتى لا يثور، فهؤلاء هم عاقلة الرجل من النسب كالقرابة، وكذا ولاء العتاقة، إذا كان له عبيد قد أعتقهم أو أعتقهم جده وكانوا من الأسرة أو القبيلة صدق عليهم الولاء وأنهم عاقلة، فيحملون معه دية الخطأ وشبه العمد، وتقسم على قدر عددهم، وتقسط على ثلاث سنين لئلا تجحف بهم، ففي كل سنة ثلثها، فإذا كان مجموع العاقلة ثلاثين رجلاً قسمت الثلاثين على كل واحد ثلاث من الإبل أو ثلاثة آلاف، في كل سنة يدفع ألفاً، أو يدفع واحدة من الإبل، حتى تدفع الدية كاملة، والجاني لا يكلف، وذلك لأنه غير متعمد، فلا يدفع معهم، وبعض العلماء قال: يدفع كواحد، فإذا كانوا ثلاثين فكل واحد يدفع ألفاً في كل سنة، ففي كل سنة يدفعون ثلاثة وثلاثين ألفاً، فهو واحد منهم.
وبعض العلماء يقولون: عليه أن يدفع ربع الدية إذا كان القتل شبه عمد، ويفعل ذلك بعض القبائل؛ لأنهم يرون أن بعض الذين تركبهم الدية يكون معهم شيء من التساهل، سيما حوادث السيارات بسبب السرعة الشديدة، أو أنه يتهور فيسابق غيره ويفعل ما يسمى بالتفحيط أو ما أشبهه، فهؤلاء يستحقون أن لا يساعدوا، أو أن يحملوا بعض الدية أو أكثرها، أو لا تحمل عنهم، وهكذا أيضاً إذا كان يقود السيارة وهو سكران، فلا يستحق أن يحمل عنه؛ لأنه متهور ومخاطر، فالدية تكون في ماله، ولو لبث في سجنه إلا أن يفديه أبوه، أما عاقلته فيرى بعض القضاة أنهم لا يحملون؛ لأنهم يساعدونه على هذه المخاطرة، فيتجرأ دائماً ويقول: إذا حصل حادث فأنا سالم ولا أدفع شيئاً، ويدفع عني أقاربي.
وعلى كل حال فإن دفع العاقلة من باب التعاون مع الأقارب فيدفعونها بحكم الحاكم، ويقدرها عليهم على قدر عددهم.(78/17)
حكم العقل على الفقير وغير المكلف
قال: [ولا عقل على فقير] إذا كان أحدهم فقيراً تحل له الصدقة والزكاة يقول: أنا من أين أدفع؟ ليس معي شيء أدفعه فتسقط عنه ويحملها البقية، وكذلك غير المكلف لا عقل عليه، فمن كان دون سن التكليف لا يدفع ولو كان له مال، فقد يموت إنسان وله أطفال، ويخلف أموالاً كثيرة، فيكون نصيب هذا الطفل -مثلاً- مليون ريال، ونصيب هذا مليونين، ونصيب هذا كذا، فهل نقول: نأخذ من أموالهم ولو كانوا يتامى؟ الصحيح أنه لا يؤخذ من أموالهم، وذلك لفقد سن التكليف، وكذلك المجنون، فبعض المجانين وناقصي العقول عندهم أموال طائلة ورثوها أو نحو ذلك، فلا يدفع ولا يحمل؛ لأنه أهل أن يتصدق عليه، وكذلك المخالف في الدين، إذا كان مخالفاً لدين الجاني فلا يدفع، فإذا كان الجاني أقاربه أو نصفهم نصارى فلا يكلفون أن يدفعوا؛ لأنهم لا يتوارثون، فكذلك لا يعقلون، وهكذا بالعكس، فلو كان الجاني نصرانياً وعاقلته مسلمون فلا يدفعون له؛ لأنهم لا يتوارثون.
وأما إذا كانت المخالفة بالنحلة، كأن يكون هذا من أهل السنة وهذا من الرافضة فهل يدفعون عنه إذا تشيع وصار رافضياً ثم جنى وصار عليه حادث، فتحمل دية أو ديتين أو ديات؟ في هذه الحال الصحيح أنهم لا يحملون عنه، وذلك لأنهم ليسوا على دينه، فمذهب أهل السنة مباعد ومباين لمذهب الرافضة.(78/18)
عدم العقل في العمد
يقول المؤلف: [ولا تحمل العاقلة عمداً] .
إذا كان القتل عمداً لا يستحق أن يخفف عنه، بل يتحمله هو في ماله، ولو أن يسجن، والواقع في هذه الأزمنة أنه يتحمل كثيراً من ذلك أقاربه ويدفعون عنه، ويقولون: إنا نشتري ولدنا حتى لا يقتل قصاصاً.
فإذا وجب القصاص عليه قال أولياء القاتل: نحن نشتريه بمليون.
فيمتنع، فيقولون: بمليونين.
وربما وصلوا إلى خمسة أو ستة ملايين، فهل لهم أن يساعدوه؟ نرى أنهم لا يساعدونه؛ لأن هذا متهور متعمد، ولأنه ربما يعود فيقتل ثانية وثالثة ورابعة، بحجة أني أنتقم لنفسي من هذا الذي يعيبني أو يسخر بي، والدية ولو كانت كثيرة يحملها المسلمون عني.
فلا يستحق أن يساعد، لكن قبيلته يقولون: هذا ابننا وليس له إلا نحن.
فيدفعون تلك الدية الطائلة عدة ملايين.(78/19)
عدم العقل في جناية العبد
قال: [ولا تحمل عمداً، ولا عبداً] لأن العبد متقوم مثل السلعة، فإذا قتلت مملوكاً عبداً فليس هناك قصاص، ولكن عليك قيمته، فيقدر كم يساوي فتدفع القيمة، يدفعها الجاني ولا تساعده القبيلة، ولا تدفع العاقلة.(78/20)
عدم العقل في الصلح
قال: [ولا صلحاً] لو أن إنساناً قال لقبيلته: إني قتلت من هؤلاء قتيلاً، وقد اصطلحت معهم على خمسمائة ألف، فادفعوها فإنهم يقولون: لا ندفعها، فما ندفع إلا القضية التي يحكم فيها القاضي، فأما إذا اصطلحتم فقد تكون حيلة، فقد يكون قتله خطأ ثم يقول لأوليائه: أنا أقول: إنه عمد حتى اصطلح مع قبيلتي، أو أقول: إنه خطأ، وإن علي الدية كلها، ولكن اصطلح معكم على ثلث الدية أو ثلثيها أو ثلاثة أرباعها صلحاً وليس حكماً شرعياً.
ففي هذه الحال العاقلة لا تحمل الصلح؛ لأنه قد يكون حيلة، فيقول: أحتال حتى آخذ من أسرتي وقبيلتي.(78/21)
عدم العقل للاعتراف ولا فيما دون ثلث الدية
قال: [لا اعترافاً] .
لو جاء إلى قبيلته واعترف وقال: أنا قتلت رجلاً خطأ يقال له: هل هناك أحد يشهد عليك؟ وهل أحد طالبك؟ كيف تعترف من نفسك وتقول: إنك قتلته؟ فقد تكون هذه حيلة، فلا تدفعها.
قال: [ولا ما دون ثلث الدية] يعني: فربع الدية لا تدفعه، بل يتحمله نفس الجاني.(78/22)
كفارة قتل الخطأ وشبه العمد
قال رحمه الله: [ومن قتل نفساً محرمة غير عمد] يعني: خطأ أو شبه عمد [أو شارك فيه] أي: في قتله خطأ أو شبه عمد [فعليه الكفارة، وهي ككفارة الظهار إلا أنه لا إطعام فيها] ، قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] إلى قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] ، فهذه كفارة قتل الخطأ.
يقول: [إلا أنه لا إطعام فيها] ، وذلك لأن الله ما ذكر في آية النساء إلا العتق، فمن لم يجد فالصيام، ولم يقل: فمن لم يستطع فإطعام.
فما ذكر الإطعام، فيقال للقاتل خطأ: عليك كفارة توبة من الله، ولا تبرأ ذمتك إلا بهذه الكفارة.
فإذا قال: أنا لا أستطيع الصيام، أنا كبير.
أو: أنا مريض.
أو: أنا مشغول.
أو: أنا عامل نقول: يبقى الصيام في ذمتك، فلك أن تتحرى أيام الشتاء الخفيفة فتصوم فيها شهرين متتابعين إذا لم تقدر على العتق أو لم يوجد العتق كما في هذه الأزمنة، أما العبد المملوك فإنه يكفر بالصيام؛ لأنه ليس له مال، فيصوم شهرين متتابعين.(78/23)
القسامة
عرف المؤلف القسامة بقوله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] .
هذه القسامة التي يحلفون فيها خمسين يميناً، لها شروط: أولاً: أن يوجد قتيل مسلم أو ذمي.
الثاني: أن لا يعرف قاتله.
الثالث: أن يتهم به قبيلة أو يتهم به أهل قرية.
الرابع: أن يكون هناك قرائن تدل على التهمة، كعداوات فيما بينهم، ومشاحنات وخصومات فيما بينهم، فتقوى التهمة أنهم الذين قتلوا هذا القتيل وليس هناك بينة.
قال: [وإذا أتمت شروطها بدئ بأيمان ذكور عصبته الوارثين، فيحلفون خمسين يميناً كل بقدر إرثه، ويجبر الكسر، فإن نكلوا أو كان الكل نساء حلفها مدعى عليه وبرئ] .
عرفنا هذه الشروط، فالشرط الأول: أن يحصل القتل الذي هو إراقة الدم.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً أو ذمياً معصوماً، ليس حربياً ونحوه.
الشرط الثالث: أن يكون لا يعلم قاتله.
الشرط الرابع: أن تقوى التهمة التي بينهم وبين هؤلاء المتهمين.
ففي قصة عبد الله بن سهل الأنصاري الذي قتل في خيبر أنه جاء إليه محيصة فوجده يتشحط بدمه، فقال: أنتم قتلتموه أيها اليهود، فقالوا: ما قتلناه.
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وعبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل الذي هو القتيل، فذكروا له القتيل، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع برمته.
فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف عليه؟! فقال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: قوم كفار لا نقبل أيمانهم.
فدفع ديته من بيت المال) .
وهكذا قصة القرشي الذي استأجره بعض الأعراب راعياً، ولما فقد عقالاً واحداً من إبله قتله، رماه بفرسن بعير فأصابه فتردى ومات، وقبل أن يموت مر عليه رجل فأوصاه أن يخبر أبا طالب، فأخبر أبا طالب أن الذي قتله كفيله الذي استأجره، فأحضروا ذلك الكفيل وقالوا: أنت قتلته، فإما أن تعطينا مائة من الإبل وإما أن يحلف منكم خمسون.
فحلف منهم ثمانية وأربعون، يقول ابن عباس: فما دارت السنة وفيهم عين تطرف.
ولذلك يقولون: إن اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع.
أي: إذا تجرأوا وحلفوا وهم كاذبون لم يؤمن أن يسلط الله عليهم مصائب فيموتوا.
فالحاصل أنه إذا اتهمت قبيلة بأنهم قتلوا هذا الإنسان، وقامت القرائن، وعرف أن بينهم تهمة وأن بينهم عداوات وإحناً وبغضاء، وأن قرائن التهمة تقوي أنهم هم الذين قتلوه، فيجوز -والحال هذه- أن يحلف الوارثون، فيقولون: نحلف أن هؤلاء قتلوه، أو أن هذا وحده قتله.
فإذا حلفوا قتل الذي حلفوا عليه.
ويذكر المؤلف أن الوارثين هم العصبة الذكور، تقسم الخمسون يميناً عليهم، فإن كانوا اثنين حلف هذا خمساً وعشرين يميناً وهذا خمساً وعشرين يميناً، فإن كانوا ثلاثة حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً حتى ينجبر الكسر.
وإذا كانوا -مثلاً- خمسة حلف كل واحد عشر مرات، وإن كانوا عشرة حلف كل واحد خمسة أيمان حتى تتم خمسين يميناً، فإذا حلفوا على شخص معين أن هذا هو عين القاتل ثبت عليه القتل فيقتل، إلا أن يطلبوا الدية أو يعفو الأولياء.
والحالف هم الذكور، فلا تحلف الإناث، والذكور الحالفون هم العصبة، فلا يحلف ذوو الأرحام مثلاً أو الزوج ونحوهم، ولا بد أن يكونوا وارثين للدم كأولاد الميت أو إخوته الذين يرثونه أو أبوه، وإخوته إذا كانوا يشتركون في الميراث، أي: الذين يرثون، كل بقدر إرثه، فالذي يرث النصف يحلف نصف الخمسين، والذي يرث الثلث يحلف قدرها، فإن نكلوا وقالوا: لا نحلف، هذا غيب ونحن لا ندري، فلا نحلف ونحن لا ندري.
فنكلوا عن الحلف، أو كان الورثة كلهم نساء: لا يوجد إلا بناته وزوجاته وأخواته، ولم يكن له ورثة ذكور؛ رجعت اليمين على أولياء الجاني، أو على الجاني نفسه، فيحلف الجاني المتهم: إنني بريء، وإنني ما قتلته ولا أعلم قاتله.
وإذا حلف برئ، ولم يكن لهم شيء عليه.
والله أعلم.(78/24)
الأسئلة(78/25)
حكمة التسوية بين الدامغة والجائفة
السؤال
لماذا سوي بين الدامغة والمأمومة فاستويا في ثلث الدية مع أن الدامغة أشد من المأمومة؟
الجواب
لأن كلاً منهما على خطر، فالدامغة شقت جلدة الدماغ، والمأمومة وصلت إلى أم الدماغ، فقاربت ذلك ولم تصل إليه، فجاء التقدير بأن كل واحدة فيها ثلث الدية.(78/26)
محلات الحلاقة ومطالبتها بدية اللحى التي تحلقها
السؤال
هل تعد محلات الحلاقة التي تحلق لحى المسلمين متعدية؟ وهل تطالب بالدية؟
الجواب
لا.
وذلك لأنهم لا يكرهون أحداً، إنما هذا هو الذي يأتيهم، بل يدفع لهم أجرة، يأتيهم ويقول: احلقوا لحيتي وأعطيكم عشرة، احلق وأعطيك أجرتك.
فيدفع كل يوم أجرة أو كل يومين أو كل أسبوع، فهم ما يحلقون لأحدٍ قهراً.(78/27)
تعدد الديات
السؤال
لو تعدى رجل على آخر ففقأ عينيه وجدع أنفه وقطع لسانه، فهل عليه ثلاثة ديات؟
الجواب
نعم.
تتعدد الدية بتعدد إذهاب المنافع، إذا جدع أنفه وقطع ذكره وقطع لسانه عليه ثلاث ديات، وإذا فقأ عينيه وقطع أذنيه وقطع شفتيه عليه ثلاث ديات.(78/28)
حكم الطبيب إذا فرط حتى أضر بالمريض
السؤال
ما مقدار الدية اللازمة على طبيب جراح فرط وأهمل في عملية في الدماغ، فأدى ذلك إلى عدم مقدرة المريض على فهم ما يقرأ أو يسمع، وإذا تكلم المريض تكلم بكلام غير مفهوم ولا مترابط؟
الجواب
معلوم أنه لا يجوز أن يتطبب وهو ليس بعالم بالطب، سواء الجراح أو المعالج بالأدوية أو ما أشبه ذلك، وورد في الحديث: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) ، فإذا قدر أنه عمل عملية ومات ذلك الذي عملها له، وعرف أنه تجرأ عليها وليس من أهل المعرفة فعليه الدية، ولا يقال: عليه القصاص.
وما ذاك إلا أنه ما تعمد، وهكذا لو عالج العين وليس معروفاً بذلك ففقأها، فعليه نصف الدية، وهكذا بقية العمليات.(78/29)
حكم من رمى رجل المجني عليه فشلت
السؤال
ما مقدار الدية على جانٍ أطلق رصاصة على مسلم فأدى إلى قطع عصب هام أدى إلى شلل الرجل اليمنى؟
الجواب
عليه نصف الدية؛ لأنها إذا شلت فلا ينتفع بها وبقيت صورة، فقد أذهب منفعة الرجل فعليه نصف الدية.(78/30)
القود في حالة إعادة اليد المجني عليها بقطع
السؤال
لقد توصل الطب الحديث -والحمد لله- الآن في بعض الأحيان إلى تدارك للأمر سريعاً وإرجاع العضو المقطوع كاليد مثلاً، فهل تسقط الدية؟
الجواب
قد تقطع اليد حتى تنفصل، ثم بعد ذلك يعيدونها، بمعنى أنهم يخيطون كل عضو في عضو وكل عرق في عرق إلى أن تعود، ولكن معلوم أيضاً أنها لا تعود كما كانت، فيكون فيها إما شلل وشيء من النقص، فيكون فيها نسبة ما نقص من حركاتها.(78/31)
العاقلة
السؤال
ما معنى العاقلة التي تحمل الدية؛ لأن عندنا معناها تكليف القبيلة كلها في الدية، وقد تكون القبيلة عشر عشائر أو خمساً، وكم يكون على الجاني وعصبته، وإذا امتنع أحد العاقلة عن الدفع فهل يلزم؟
الجواب
الأصل أن العاقلة هم الأسرة القريبة، ويمكن أن يقال: إلى الجد الخامس أو إلى الجد العاشر إذا كانوا قليلين، وأما أن تحمل القبيلة التي عددها -مثلاً- ألف رجل أو خمسة آلاف فلا يلزمون بذلك، ولكن في هذه الأزمنة يتحملون دية العمد التي قد تكون مثلاً: أربعة ملايين أو خمسة ملايين، فيقسمونها على القبيلة ولو كانوا ألف بيت أو ألفين، فيقولون: نحن اشترينا ابننا وولدنا، وهو منسوب إلينا جميعاً.
فيلزمونهم، وهذا الإلزام ليس شرعياً، وإنما هو اختياري.(78/32)
حكم من حلق لحية آخر تعدياً عليه
السؤال
من تعدى على رجل وحلق لحيته مع أنها تنبت فكيف تكون الدية؟
الجواب
في هذا حكومة، فليس دية وإنما فيه حكومة، فإذا كانت تعود وتنبت ولكن بتشويه فعليه قيمة تشويه خلقته وما أشبه ذلك، وقد كانوا يعزرون بحلق اللحية، حتى في أول عهد الملك عبد العزيز، كان إذا جنى إنسان فخرج عن الطاعة أو سرق أو غش أو حصل منه سخرية أو نحو ذلك يعاقبونه بحلق لحيته، وإذا حلقت خجل أن يمشي، وخجل أن يظهر للناس، فيخجل أن يراه الناس وهو حليق.(78/33)
إثم من لعن دابته أو سيارته
السؤال
ذكر في الحديث أن من لعن دابته فلا يملكها، كما في قصة المرأة التي لعنت دابتها، لكن من لعن سيارته أو متاعه فهل له نفس الحكم؟
الجواب
قالوا: إن هذا تعزير منه لتلك المرأة، والظاهر أنها رجعت إليها تلك الناقة أو إلى أولادها أو نحو ذلك، إنما قال: لا تصحبنا ناقة ملعونة.
أو: خذوا ما عليها واتركوها، أما في هذه الأزمنة فلو لعن سيارته أو لعن شاته -مثلاً- أو بقرته أو منزله فلا يخرج من ملكه، ولكن يعتبر آثماً.(78/34)
دفع العاقلة لدية القتل الخطأ بالسيارة
السؤال
إذا اعترف الجاني بالقتل الخطأ، وكانت القرائن تؤيد اعترافه كما في كثير من حوادث السير، فهل تتحمل العاقلة الدية أم لا؟
الجواب
إذا قامت القرائن على أنه هو الذي فعل ذلك واعترف يدخل الأمر إلى القاضي، فإذا حكم بأنه هو الذي قتل وأن القتل خطأ بموجب اعترافه وبموجب دعوى المدعي الذي ادعى عليه.
ففي هذه الحالة يحكم عليه، وتدفعها العاقلة.(78/35)
التعدي بقطع العضو الزائد
السؤال
لو كان مع الرجل عضو زائد وقطع فما الحكم؟
الجواب
اختلف في قطعه، والصحيح أنه يجوز لو كان في يده ستة أصابع، وكان الإصبع الزائد يؤذيه لغسله مثلاً أو نحو ذلك، أو لكونه يتدلى، أو كانت الزيادة في رجله، وهذه الإصبع الزائدة في رجله قد تؤذيه إذا لبس خفاً أو لبس جورباً، وفي هذه الأزمنة العمليات تزيله، ولا حرج في ذلك.
ومن اعتدى عليه فقطعه ففيه حكومة؛ لأنه ليس فيه شيء مقدر، فيرجع فيه إلى الحاكم.(78/36)
تعيين مصرف الوقف
السؤال
شخص توفي وترك أرضاً لأولاده وهم ابن وثلاث بنات، ووصى أن تكون سبيلاً، فما هي القسمة الصحيحة للإرث؟
الجواب
إذا وقفها فإن عين الجهة التي تصرف فيها غلتها تعينت، كأن يقول: أجرة هذه الأرض، أو ثمر هذا النخل تفطير للصوام -مثلاً- أو عمارة لهذا المسجد أو لإنارته، أو في سقايته وإصلاح مياهه تعين، وما فضل منه فإنه يصرف في جهة تماثلها.
وأما إذا لم يعين وقال: وقف فإن على الوكيل أن ينظر أفضل الجهات، كصدقة على أقاربه، أو إعطاء الفقراء من ذويه ومن ورثته، فإذا استغنوا صرف ما بقي في أعمال البر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/37)
شرح أخصر المختصرات [79]
لقد جعل الله عز وجل لهذه الأمة حدوداً وقوانين شرعية يتحاكمون إليها، حفظاً للأعراض والنسل والنسب، ولا سلامة للمجتمع من الرذيلة والفاحشة والمحرمات إلا إذا وجد في قلوبهم واعظ الله، وهو التقوى الرادعة عن المعاصي، ثم إقامة الحدود الشرعية، ومنها جلد الزاني البكر، ورجم المحصن، وجلد القاذف، وتعزير العاصي، وبهذا يكون المجتمع آمناً من الآفات والأمراض الجنسية.(79/1)
الحدود وأثرها في الحفاظ على المجتمع
قال رحمه الله تعالى: [كتاب الحدود لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم، وعلى إمام أو نائبه إقامتها.
ويضرب رجل قائمًا بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص وقميصان، ولا يبدي ضارب إبطه.
ويسن تفريقه على الأعضاء، ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل.
وامرأة كرجل، لكن تضرب جالسةً، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، ولا يحفر لمرجوم، ومن مات وعليه حد سقط.
فيرجم زان محصن حتى يموت، وغيره يجلد مائةً ويغرب عامًا، ورقيق خمسين ولا يغرب، ومبعض بحسابه فيهما.
والمحصن من وطئ زوجته بنكاح صحيح في قبلها ولو مرةً.
وشروطه ثلاثة: تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لآدمي ولو دبرًا، وانتفاء الشبهة، وثبوته بشهادة أربعة رجال عدول في مجلس واحد بزناً واحد مع وصفه أو إقراره أربع مرات مع ذكر حقيقة الوطء بلا رجوع.
والقاذف محصنًا يجلد حر ثمانين، ورقيق نصفها، ومبعض بحسابه.
والمحصن هنا: الحر المسلم العاقل العفيف.
وشرط كون مثله يطأ أو يوطأ لا بلوغه.
ويعزر بنحو: يا كافر يا ملعون يا أعور يا أعرج.
ويجب التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام] .
الحدود: هي العقوبات على المعاصي، وتطلق الحدود على الأحكام التي حددها الله وبينها، مثل قوله تعالى بعد آيات الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] ، وبعد آيات الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ، فحدود الله هنا أحكامه التي بينها ونهى عن قربها، أي: فعل شيء مما نهى الله عنه في الصيام أو في الاعتكاف ونحوه، وكذلك الاعتداء في النكاح والطلاق وما أشبه ذلك: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] ، فهكذا أصل الحدود، وتلك حدود الله، فيذكر الله تعالى الحدود بعد الأوامر والنواهي، وكذلك بعد الأحكام، كقوله بعد أحكام المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء:13] .
ولكن اصطلح الفقهاء على تخصيص الحدود بالعقوبات؛ لأن أصل الحد هو الحاجز بين الشيئين، فتقول مثلاً لجارك: هذا القطع حد بيني وبينك، بين ملكي وملكك فهذا الجدار حد بين أهل فلان وأهل فلان، ثم إن الفقهاء استعملوا الحدود للعقوبات، يقولون: الحد عقوبة على ذنب لتمنع من الوقوع في مثلها.
أي: أن هذا الحد يشرع فيه عقوبة على ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك المجرم، فيحد -أي: يعاقب- حتى يرتدع هو ويرتدع أمثاله، ولا يعودون إلى ذلك الذنب مرة أخرى، هذا هو الأصل في شرعية هذه العقوبات.
ولا شك أن إقامتها تطهير للبلاد، وتعطيلها نشر للفساد، ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) بمعنى أنه إذا أقيم الحد كان ذلك زجراً للناس عن هذا الذنب وعن الاعتداء عليه، فيكون بذلك تطهيراً للبلاد عن هذه المعاصي وتطهيراً للبلاد عن هذه المحرمات، وذلك مما يسبب رحمة الله لهم، حيث إنهم تابوا وأقلعوا عن الذنوب وابتعدوا عن هذه المحرمات، ولكن إذا أصروا واستمروا ولم يكن هناك عقوبات فإن المعاصي تكثر، ويكون من آثارها حرمان الله تعالى فضله، وحجزه عنهم رحمته، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
فيعلم بذلك أن الله تعالى ذكر هذه الحدود لتكون زواجر عن الآثام وعن الحرمات، وقد تقدم حد منها، وهو القصاص، وأنه شرع لأجل أن يتوقف المعتدي فلا يتعدى حده، بل يتوقف ولا يقدم، ولذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] يعني أن سبب شرعيته حتى يقل القتل، حتى إذا هم بقتل مسلم وتذكر أنه سوف يقتل عند ذلك ينزجر ويترك الاعتداء، فكذلك بقية العقوبات، فمثلاً عقوبة الزنا جعل الله تعالى فيها حد الجلد أو الرجم، وذلك لأنها محرمة، ولما يترتب عليها من المفاسد، فإذا هم بأن يزني وتذكر أنه سوف يرجم أو سوف يجلد ويغرب أو يحبس ويطال حبسه ترك هذا المحرم؛ لأنه يترتب عليه فضيحته، وسيترتب عليه أذى له، فينزجر ويتوب عن هذا الفعل.
كذلك أيضاً إذا همّ بأن يسرق وعرف بأنه سوف تقطع يده إذا سرق، ففكر وقال: ما قيمة هذه السرقة مقابل هذا المال الذي سوف آخذه؟ أين يقاس بيدي التي فيها نصف الدية؟ فيتراجع ويترك السرقة، وهكذا إذا هم بأن يشرب الخمر، وعرف بأنه إذا شربها فإنه لابد سيعاقب ويجلد ويشهر بأمره، فيقول: ما نتيجة هذه الشربة التي هي لذة لحظات ثم لا أستفيد منها إلا الخجل والفشل والألم الذي هو هذا الجلد الذي يعود علي بالضرر؟! فيرجع إلى نفسه ويعلم أنه لا حاجة له في هذا الشيء الذي لذته يسيرة وعقوبته شنيعة، هذا هو السبب، فهذه عقوبات دنيوية تزجر كثيراً من الناس.
مع أن الله تعالى قد توعد بعقوبات أخروية أشد وأشد، والعقوبات في الآخرة أشد، وهي حرمانهم من ثواب الله وجنته، ودخولهم النار أو تعرضهم لسخط الله، فيفكر أيضاً إذا كان معه إيمان وعقل أنه لا مقاومة ولا مقاربة بين هذه اللذة العاجلة وبين حرمان ثواب الله ورضاه أو الحصول على غضبه وعذابه في الآخرة، فيعرف أن هذه اللذة وقتها يسير وعاقبتها سيئة.
ولذلك ينزجر عنها العاقل إذا تذكر عقوبتها وتذكر أن مسرته هذه يعقبها مساءة شديدة وإساءة دائمة، حتى يقول بعضهم: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب يعني: لو أنك عشت في سرور مدة كبيرة وأحقاباً طويلة ثم لقيت بعدها مساءة يوم أو مساءة ساعة نسيت ما كنت فيه من تلك المسرات، وذهبت كأنها ليست شيئاً، فكيف إذا كانت المسرة ساعة أو يوماً أو أياما ًقليلة؟! فإن الدنيا كلها قليلة، وحياتك منها قليلة، ولهذا الكفار إذا قيل لهم: كم لبثتم يقولون: لبثنا يوماً أو بعض يوم، مع أنهم لبثوا عشرات السنين، ولكن نسوا ما كانوا فيه من لذة الدنيا وشهوتها، ورد أيضاً في الحديث أنه: (يجاء بأنعم الناس في الدنيا -من أهل الكفر أو من أهل المعاصي- فيغمس في النار غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط، هل مرت بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط.
ويجاء بأبأس الناس في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يارب) ، أهل النار إذا غمسوا فيها مرة نسوا ما كانوا في الدنيا من ملذاتهم وشهواتهم وسكرهم ومكرهم ولهوهم وسهوهم وخمرهم وزمرهم وزناهم وفواحشهم التي يتلذذون بها في الدنيا ويرفهون به عن أنفسهم ساعة واحدة أو أقل، إذا غمسوا في العذاب نسوا ذلك كله كأنه لم يكن.
ويقول بعض الشعراء: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار يعني: اللذة التي في الدنيا هي لذة زنا ولواط، ولذة فاحشة وسكر، ولذة غناء، ولذة كبر، ولذة رفاهية، ولذة تمتع في المحرمات وما أشبهها.
وترفيه -كما يقولون- وتسلية وما أشبه ذلك هل تدوم؟ تبقى معه ساعة أو سويعات أو نحو ذلك ثم كأنه لم يتمتع بتلك الملذات، ولكن يبقى عليه الإثم الذي يعاقب عليه في الآخرة، ويبقى عليه التعرض للعذاب، وتبقى عليه التبعات، فكيف -مع ذلك- يقدم وهو يعلم أنه سيستمر العذاب على ذلك، فلا خير في لذة من بعدها النار.
وحيث إن الكثير من الناس يقدمون القريب على البعيد والحاضر على الغائب، وينظرون إلى ما أمام أعينهم، ويغفلون عما وعدوا به، ويتناسون وعيد الله تعالى على هذه المعاصي والمحرمات، فتحملهم تلك المناظر البراقة وتلك الشهوات، والنفس الأمارة بالسوء على أن يندفعوا لفعل هذه المحرمات ويقعوا فيها، ولا يفكرون في العواقب، ثم بعد ذلك ينتبهون، فما ينتبهون إلا وقد وقعوا، ثم ربما يعودون مرة ثانية وثالثة ومراراً.
لما كان كذلك شرع الله تعالى هذه العقوبات الدنيوية لتكون زاجرة لهؤلاء الذين إيمانهم ضعيف، وناهية لهم عن الوقوع في هذه الآثام والمحرمات، فمن كان معه إيمان ويقين زجره إيمانه ولو لم يكن معه أحد يراقبه، ومن ضعف إيمانه اندفع بشهوته إلى أن يفعل الآثام وأنواع الإجرام.(79/2)
وصايا في تقوية الإيمان الزاجر عن المعاصي
أولاً: على المسلم أن يجدد إيمانه وعقيدته، فيؤمن بأن الله تعالى هو ربه وخالقه، والرب هو المعبود، ويؤمن كذلك بأن الله تعالى تعبده، أي: أمره ونهاه، فأصبح عبداً لله سبحانه وتعالى، والعبد عليه أن يطيع ربه وخالقه.
ثانياً: أن يعلم أن الله حرم هذا وأباح هذا، فيفعل ما هو مباح أو ما هو واجب يتقرب به، ويبتعد عما هو محرم وإثم كبير فيتركه خوفاً من الله.
ثالثاً: ليعلم أنه إذا أطاع الله وفعل ما أمر به فإن الله تعالى يثيبه في دنياه وأخراه، ويعطيه أجراً كبيراً، وأنه إذا عصى الله تعالى ووقع في هذه الآثام فإنه قد توعده بأنه يعاقبه ويعذبه في دنياه وأخراه.
فمن كان معه هذا الإيمان زجره عن المعاصي ولو كانت الدوافع إليها شديدة، وزجره عن الزنا والخنا وما أشبه ذلك ولو كانت متيسرة أسبابه.
فنضرب مثلاً بنبي الله يوسف عليه السلام، كونه شاباً في غاية الشباب، وجميلاً في غاية الجمال، وكونه في بيت سيده الذي ملكه ظلماً، وكون امرأة ذلك السيد من أجمل النساء، وكونها غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها، كما قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، ولكن ما الذي حجزه مع الدافع القوي؟ حجزه برهان ربه، حجزه الإيمان، حجزه إيمانه وخوفه من الله {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] اعترف بأن الله تعالى هو ربه، وأنه أحسن مثواه، وأنه توعد على ذلك بالعقوبة، فلاشك أن هذا أثر الإيمان القوي، يكون زاجراً لمن كان معه هذا الإيمان القوي.
لذلك ذكر ابن رجب أن رجلاً خلا بامرأة في ليلة وراودها عن نفسها وقال: ما يرانا إلا الكواكب.
قالت: فأين مكوكبها؟ فذكرته أن الله تعالى هو يراهما، وهو الذي كوكبها، أي: خلقها وسيرها، لا تخفى عليه خافية: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] .
وأن آخر خلا بامرأة في منزل وهم بها، فأظهرت له المطاوعة، وقال لها: أغلقي الأبواب.
فقال بعد ذلك: هل أغلقت جميع الأبواب؟ قالت: بقي باب واحد، الذي بيننا وبين الله.
فارتعد وخاف وخرج.
وكذلك وردت قصة في الصحيحين قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فأحدهم توسل بعفته، أنه كانت له ابنة عم يحبها حباً شديداً كأشد ما يحب الرجال النساء، وأنه أرادها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها في سنة من السنين حاجة شديدة، فجاءت إليه تقترض منه أو تستجدي، فامتنع حتى تمكنه من نفسها ويبذل لها مائة دينار، يقول: فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فقام عنها خوفاً من الله وترك المال الذي أعطاها.
فهؤلاء الذين يقعون في فواحش الزنا واللواط ومقدمات ذلك ليس معهم إيمان يزجرهم، ولكن لديهم نفوس ضعيفة وشهوات ضعيفة تدفعهم إلى فعل هذه الفواحش، فلو لم يكن هناك عقوبات جلد ورجم وتغريب وحبس ونحو ذلك لانتشر هؤلاء وانتشرت الفواحش، وإذا انتشرت فماذا تكون الحالة؟ لا شك أنها تحصل المنكرات، وأن الله تعالى ينزل عليهم العقوبات والأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: (ما فشت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) ، فهذا هو الواقع، لذلك ذكر العلماء هذه الحدود والعقوبات.(79/3)
أحكام الحدود(79/4)
من تجب عليه إقامة الحدود
يقول: [لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم] .
فهذه شروط من تجب عليه، والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا وقع في الزنا أو اللواط صغير دون البلوغ فمثل هذا غير مكلف؛ لعدم العقل التام الذي يزجره، وكذلك لو وقع فيه مجنون مسلوب العقل أو ضعيف العقل أو ضعيف المعرفة فمثل هذا أيضاً ليس معه ما يزجره، ليس معه من العقل ما يزجره ويدفعه إلى فعل هذه الجريمة أو إلى تركها، فهو ضعيف العقل أو مسلوبه، فمثل هذا أيضاً لا يقام عليه الحد.
وأما الملتزم فيخرج الكفار الذين ليسوا بملتزمين، ويدخل الملتزم منهم مثل الذمي، أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس إذا كانوا يؤدون الجزية يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض، وإقامة الحدود عليهم بما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين اللذين زنيا في عهده، مع أنهما ليسا بمسلمين، ولكن كانا ملتزمين، أي: خاضعين للعهد والذمة، فهؤلاء تقام عليهم الحدود، وأما الذين ليسوا تحت ولاية المسلمين أو الحربيون فلا ولاية للمسلمين عليهم، ولا تقام عليهم الحدود؛ لأن ذنبهم أكبر.
الشرط الثالث: كونه عالماً بالتحريم، أي: يعرف أن هذا الذنب حرام، فأما لو أسلم وبقي في بلاد ليس فيها علم وفعل الزنا ونحوه فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه جاهل لم يصل إليه العلم، ولا درى أن الله تعالى حرم هذا الذنب، فلا بد أن يكون معه علم بأن هذا محرم.(79/5)
من يقوم بتطبيق الحدود
يقول: [وعلى إمام أو نائبه إقامتها] .
الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، كأمير البلد أو وكيله، وهكذا أيضاً القاضي إذا كان مفوضاً، ويجوز أن يوكل الأمراء نواباً لهم، فيقول الأمير: أنت -أيها الوكيل في البلدة الفلانية- عليك أن تقيم الحدود، وأنت -أيها القاضي- قد فوضناك في إثبات الحدود وإقامتها.
والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل رجلاً يقال له: أنيس الأسلمي، قال: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، وكله في الاعتراف وإثبات الحد، ثم وكله في إقامة الحد، فاعترفت فرجمها.
وقصة ذلك أن رجلين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة شاة وليدة، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، ففيه دليل على إثبات الحدود، ثم بعد ذلك إقامتها.(79/6)
كيفية تطبيق الجلد وما يشترط فيه
الحدود إما القتل في القصاص، أو قطع اليد قصاصاً، أو الرجم -وهو أشدها- في الزنا، أو الجلد في الزنا والتغريب فيه، وقطع اليد في السرقة، والجلد في القذف وفي السكر، والقتل وما معه في قطع الطريق، هذه هي الحدود وما أشبهها، ويكون هناك باب أيضاً في التعزير، وهي العقوبات في حد لا يصل إلى الذنب الذي فيه عقوبة مقدرة، فهذا الكتاب فيه باب الرجم، وفيه باب الجلد، وفيه باب التغريب، وفيه باب حد المسكر، وحد القذف، وقطع اليد في السرقة، وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد، وهذه الحدود كلها تحت هذا الكتاب.
وإذا ثبت الحد الذي هو الجلد فإنه [يضرب رجل قائماً بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص أو قميصان، ولا يبدي ضارب إبطه] هكذا ذكروا، فالرجل إذا جلد في الزنا أو في الخمر أو جلد في القذف فإنه يضرب وهو قائم، ومن العلماء من أجاز أن يضرب وهو مضطجع على بطنه، ولكن كأنهم اختاروا أن يضرب وهو قائم.
والآلة التي يضرب بها تكون من عصا، ولا تكون قوية شديدة تشق جلده أو تعطل عليه بعض المنافع، ولا تكون خلقة لا تؤثر فيه، بل تكون وسطاً، روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد جلد رجل، فجيء بسوط جديد فقال: (دون هذا) ، فجيء بسوط رديء فقال: (فوق هذا) ، يعني أنه لا يشدد عليه بالسوط الجديد الذي قد يؤدي إلى قتله، وكذلك لا يضرب بالسوط الرديء الذي لا يؤثر فيه، بل يكون السوط وسطاً، والسياط قديماً تؤخذ من العصي كجريد النخل، فإذا كان متيناً يؤثر عليه، وإذا كان دقيقاً كرأس العسيب ونحوه لا يؤثر، وأما إذا كان متوسطاً فإنه الذي يؤثر ولا يضره، أي: لا يمته.
وتعمل السياط اليوم من السيور، أي: سيور الجلد ونحوه، وكذلك من الحبال أو من الخيوط يعملون سوطاً يفتلون بعضه في بعض، ثم بعد ذلك يجلدون به ذلك المجرم؛ لأنه الذي يكون ليناً بحيث يلتوي على جلده وظهره أو على فخذيه أو ما أشبه ذلك.
[ولا يجرد] يعني: لا تخلع ملابسه حتى يبدو جلده، ولكن يكون عليه قميص أو قميصان من هذه الثياب العادية من القطن ونحوه؛ لأنها لا تمنع وصول الألم إلى جلده.
[ويمنع أن يكون عليه عباءة غليظة] وكذلك ثوب غليظ، كما يسمى بالكوت ونحوه؛ لأن هذا قد لا يوصل الضرب والألم إلى جلده.
ثم الضرب يكون وسطاً ليس شديداً ولا ضعيفاً، وحددوه بأنه إذا رفع يده لا يرى إبطه، فالضارب يضرب ولا يرفع يده كثيراً، بل يرفعها ثم يجلد، ولكن يتفاوت الضرب وتتفاوت العقوبات، فمثل الزنا يشدد عليه، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] يعني: لا ترحموه؛ فإن ذنبه كبير.
ومعنى ذلك أنكم تشددون عليه، فلا ترحمونه، (ولا تأخذكم بهما رأفة) لا تأخذكم بالزاني رأفة فتخففوا عنه الجلد.
ونرى بعض الجلادين لا يحرك إلا كفه، فمثل هذا لا يؤثر، وبعضهم يشدد فيرفع يده كلها على نحو مترين ثم يضرب بقوة، وهذا شديد أيضاً قد يشق الجلد، فالجلد في الزنا يكون شديداً ولكن ليس إلى الشدة في النهاية.
{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] .
وأما الجلد في القذف فهو دون الجلد في الزنا، وكأنه أخفها، فالجلد في القذف أخف حدود الجلد، وأما الجلد في السكر فيكون وسطاً بين جلد القذف وبين جلد الزنا.
يقول: [ويسن تفريقه على الأعضاء] .
إذا كان قائماً يضرب ظهره وكتفيه وعضديه، ويضرب أسفل ظهره، ويضرب فخذيه وساقيه، ويضرب طولاً وعرضاً، وكذلك أيضاً يضرب فخذيه من الأمام والخلف، وساقيه من الأمام والخلف، وإليتيه من الخلف، وظهره كله وكتفيه، يفرقها على الأعضاء.
قال: [ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل] .
وذلك لأن هذه قد يؤثر فيها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) يعني: لا يضرب الوجه.
ولأن الوجه فيه الحواس، فيخاف أن يقضي على سمعه وبصره ولسانه وفمه وعلى أنفه، فيظهر أثر ذلك، ويفوّت عليه بعض الحواس، فلا يجوز الضرب في الوجه، وكذلك الرأس، ولو ضرب الرأس فقد يسبب موتاً، سيما إذا كان الضرب شديداً، وكذلك لا يضرب الفرج والقبل، أما الدبر فإنه يضرب الإليتين، فلا يضرب الفرج الذي هو القبل من رجل أو امرأة.
ويتجنب المقاتل، فلا يضرب رقيق البدن، وكذلك البطن مثلاً، فلو ضرب بسوط شديد لأتلفها أو شق جلد البطن أو نحو ذلك، وكذلك القلب لو ضربه فوق قلبه أو مقابل كليتيه لعطلهما، فلذلك لا يضربه في المقاتل.
قال: [وامرأة كرجل] .
يعني: إذا وجب عليها الجلد فإنها تجلد كما يجلد الرجل في الزنا، والقذف، والسكر، لكن تضرب جالسة؛ لئلا تتكشف، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، أي: تربط يداها؛ فإنها لو ضربت وهي قائمة لأوشك أن بعض الجلدات تكشف الثوب عن بعض جسدها فتتعرى، بخلاف ما إذا كانت جالسة، فإذا كانت جالسة يكون الجلد على الظهر والعضدين وأسفل الظهر، وتضرب أيضاً من الأمام على الساقين، أو تضرب من الجانب الأيمن على الحقوين والفخذ ونحو ذلك، ويفرق الضرب والجلد عليها.
وتشد عليها ثيابها لئلا تتكشف، أي: تشد من الأسفل ثيابها إن كانت قميصاً أو نحوه، ويشد الخمار على رأسها ووجهها، وأكمامها تربط حتى لا تتكشف ولا ينحسر شيء من ثيابها، وتمسك يداها بخيط إلى رقبتها حتى لا تمد يديها.
قال: [ولا يحفر لمرجوم] .
إذا أريد أن يرجم فإنه لا يحفر له قبر، بل يترك على وجه الأرض ثم يرجم، ويرى بعض العلماء أنه يوثق، يعني: تربط رجلاه حتى لا يهرب.
قال: [ومن مات وعليه حد سقط] .
يعني: ثبت الحد عليه، وقبل أن يقام عليه الحد مات، فلا يقام على أولاده؛ لأنهم ما أذنبوا، ولا على أحد من ورثته، وهل يجلد بعد أن مات؟! لا، سقط عنه الحد.
وأما لو مات تحت السياط فلا دية له، فإذا أقيم عليه الحد ومات بسبب الجلدات التي يجلد بها فليس هناك دية على الجلاد؛ لأنه حق، ورد في عبارة الفقهاء أنهم ينقلون ذلك عن بعض الصحابة: (من مات بحد فالحق قتله) .(79/7)
كيفية تطبيق الرجم
أما الرجم فلابد أن يكون الزاني محصناً، فإذا زنى وهو محصن فإنه يرجم حتى يموت، والرجم قذفه بالحجارة، تكون الحجارة ملء الكف أو أصغر، ويكون الزاني واقفاً أو جالساً، ويقيد حتى لا يهرب على الصحيح، ثم الذين يرجمونه يرجمونه في كل مكان؛ لأنه سوف يرجم إلى أن يموت، فلو أصاب الحجر رأسه فلا إثم في ذلك، كما في قصة الغامدية، ابتدءوا برجمها في رأسها، ولما رجمها خالد بن الوليد وأصاب الرأس فنزف الدم عليه سبها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) يعني: لا تسبها، وقال لـ عمر: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!) ، ولذلك صلى عليها.
والرجم يكون مع كل جهة، فيصيب الحجر الوجه والرأس، ويصيب القلب والبطن، ويصيب الجنب، ويصيب الكلية، ويصيب الفرج، يرجمونه إلى أن يموت، فإذا مات تحت الحجارة كان ذلك هو حده وعقوبته.
والرجم كان موجوداً في شريعة اليهود، ولما زنى منهم اثنان عند ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبروه بما عندهم، فأخبروه بغير الصحيح، وكان عبد الله بن سلام يعرف أن الرجم موجود في التوراة، فجيء بالتوراة فنشروها، يقول بعضهم: فوضع أصابع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تلوح، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم.
ثم اعتذروا وقالوا: إن الزنا كثر فينا، وكثر في أشرافنا، فزنى أحد أقارب بعض الملوك فتركوه ولم يقيموا عليه الحد، ثم زنى أحد الضعفاء والفقراء، فأرادوا أن يرجموه، فقال قومه: لا يرجم حتى يرجم فلان، فاصطلحوا على عقوبة يقيمونها على الصغير والكبير، والشريف والوضيع وهي التحميم، أي: يحممون وجهه بسواد ويركبوهما -الزاني والزانية- على حمار مقلوبين، ويطوفون بهما في الناس قائلين: إن هذا قد فعل كذا وكذا فلما ظهر أنهما يرجمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أحييت سنة قد أماتوها) ، وروي أنه وجد في القرآن آية كانت من المنسوخ، فذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن مما أنزل الله آية الرجم، قرأناها وسمعناها، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان فيقولوا: لا نجد الرجم في القرآن، فيضلوا بترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فالرجم مشروع وعقوبة شرعية.(79/8)
شروط الرجم بالزنا
شروطه: الإحصان، وثبوت الزنا، فيرجم حتى يموت، وأما غير المحصن فيجلد مائة ويغرب عاماً، يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة، وغير المحصن هو البكر، وأول ما نزل في حد الزنا قول الله تعالى في سورة النساء: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:15-16] ، فكانوا في أول الإسلام يحبسون الزاني والزانية، ويطيلون حبسه لقوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) .
بعد ذلك نزلت الآيات في أول سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] إلخ الآيات، ونزلت أيضاً آية الرجم التي نسخت، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فهذا حديث صحيح عند مسلم وغيره، وفي هذا الحديث أن الزاني إذا كان محصناً يجمع له بين العقوبتين، أولاً: يجلد مائة جلدة عملاً بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ؛ فإن الآية عامة للمحصن ولغيره فيجلد المحض مائة جلدة ثم بعد ذلك يرجم.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه زنت امرأة في عهده يقال لها: شراحة، ولما زنت وثبت زناها جلدها في يوم الخميس، ثم رجمها في يوم الجمعة وقال: (جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، هكذا جمع بينهما، والحديث فيه الجمع: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، لكن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الرجم في قصة ماعز الأسلمي حين زنى واعترف، وكان قد تزوج، فاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على رجمه، وجاءت بعده المرأة التي زنى بها يقال لها: الغامدية فاعترفت، ولم يجلدها، بل أمر بها فرجمت.
وهناك قصة أخرى لامرأة من جهينة، وهذه أيضاً قد وقعت في الزنا فاقتصر على رجمها، وقصة اليهوديين اقتصر على رجمهما ولم يأمر بالجلد قبل الرجم، فهذه القصص تفيد أنه لا حاجة إلى أن يجمع بين الحدين، بل يقتصر على الرجم والرجم كافٍ، وذلك لأنه يأتي على الحياة، وقالوا: إنه لما تلذذ جسده كله بتلك الشهوة المحرمة ناسب أن يعذب وأن يتألم جسده كله بهذه العقوبة، فهذا الجسد الذي تلذذ بلذة محرمة يعاقب بعقوبة شديدة تعمه كله وهو الرجم، ولأنه قد أنعم الله عليه، حيث قد تزوج ودخل بزوجته، فعدل عن الحلال إلى الحرام، فكانت عقوبته أشد.
ويعم ذلك ما لو كان قد طلق، فإذا زنى بعد أن تزوج ودخل بامرأته وطلق امرأته -أي: ليست عنده امرأة- صدق عليه أنه محصن، فعند ذلك يرجم، وأما غيره وهو البكر الذي لم يسبق له زواج فعقوبته الجلد، يجلد مائة ويغرب سنة، والتغريب أن يبعد عن وطنه وأن ينفى إلى بلد بعيد، والحكمة في ذلك أن يفقد من كان يعرفه، ويبتعد عن الأماكن التي فيها فساد؛ لأنه قد يكون في بلده يعرف بيوت الدعارة ويعرف مجتمعات فاسدة ويعرف أمكنة الخنا ونحو ذلك، فمن عقوبته أن يغرب إلى بلد لا يعرف فيها شيئاً، ولا يتمكن فيها من أن يتصل بأحد من أهل الفساد والشرك، ويبتعد عن بلده التي عرف فيها أشراراً، فلعله إذا رجع لا يعود إلى ذلك.
لكن في هذه الأزمنة قد تكون الغربة سبباً في زيادة شره؛ لأنه قد يغرب إلى بلد أشد فساداً، فكثير من البلاد إسلامية أو غير إسلامية الزنا فيها أكثر من بعض، وإذا غرب إليها فإنه قد يعجبه ذلك، ويسر به ويقول: الآن تمكنت مما أريد، والنساء فيها كثير، والمرأة تبذل نفسها بدون إكراه.
فيكون تغريبه زيادة في إفساده، فلذلك يرى بعض المشايخ أن بدل النفي السجن، فيدخل في السجن لمدة سنة، ويكون بذلك قد تاب إذا سجن وضيق عليه، فلعله يتأثر ويبتعد عن الأماكن التي فيها الفساد.
والحاصل أن هذه العقوبة تكون زاجرة عن هذا الذنب الكبير، والذين عطلوها انتشرت فيهم الفواحش، في بعض البلاد التي هي بلاد إسلامية أو فيها إسلام عطلت فيها هذه الحدود، فلا يسمع فيها بجلد على زنا، وكذلك بسجن عليه ولا برجم، بل توجد فيها الإباحية، حيث يزعمون أنه إذا بذلت المرأة نفسها باختيارها وبدون غصب أو نحوه فهو حق لها، وقد بذلته باختيارها فكيف مع ذلك تعاقب؟! والذي فعل بها ما غصبها فلا عقوبة عليه؛ لأنها بذلت ما تملكه، فيعطلون هذا، بل يمنعون أباها من التصرف فيها ومن منعها، فإذا كانت تفعل ذلك باختيارها لا يقدر أبوها ولا ولي أمرها على منعها، فلا شك أنه بهذا تنتشر هذه الفواحش، فالمرأة معها شهوة، ولأنها ضعيفة الإرادة، ولأن إيمانها ضعيف فليس معها ما يزجرها، فإذا سمح لها ووجدت من يفجر بها مع كثرة الأشرار والفجار تعظم المصيبة ويكثر الفساد، فلذلك انتشرت الفواحش في تلك الدول التي أباحت للمرأة بذل نفسها.
أما إقامة الحدود في البلاد التي تطبق شرع الله فإن الفواحش فيها أقل، وإن كان الشر كثيراً.(79/9)
إقامة الحد على المملوك
لما ذكر الجلد والتغريب ذكر أن الرقيق المملوك عقوبته خمسون جلدة ذكراً أم أنثى، وأخذ ذلك من القرآن الكريم في سورة النساء، فذكر الله تعالى الإماء في قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء:25] والمراد الإماء، إذا أتين بفاحشة -يعني: بزنا- فعقوبتهن نصف عقوبة المحصنة، والعقوبة التي في القرآن للمحصنات مائة جلدة، ونصفها خمسون جلدة، فإذا زنت الأمة فإنها تجلد خمسين جلدة، ولا تغرب، ولا يغرب الرقيق ذكراً أم أنثى؛ لأن تغريبه يفوت منفعته وخدمته لسيده، والسيد ما أذنب.
والصحابة بعضهم فهموا من قول الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء:25] أن المراد بإحصانهم الزواج، فقالوا: يا رسول الله! إذا زنت الأمة ولم تحصن -أي: ما عقوبتها-؟ فقال: (إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بحبل من شعر) ، وفي حديث آخر: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرب) يعني: لا يوبخها بهذا ولا يعيبها ويعيرها؛ لأن الزنا في الإماء كثير، وأما في الحرائر فإنه عيب، وفي قصة مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في قريش كان من جملتهن: هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، بايعهن وقرأ عليهن الآية في آخر سورة الممتحنة: {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12] ، فلما قال: (وَلا يَزْنِينَ) قالت هند: يا رسول الله! وهل تزني الحرة؟ استغراباً واستنكاراً؛ لأن الزنا إنما يكون في الإماء المماليك.
وقد ذكروا أن ابن أبي المنافق كان له أمتان، فكان يكرههما على الزنا ويقول: اذهبي فابغي لنا، والبغاء هو الزنا، والبغي هي الزانية، يكلفها ويكرهها أن تذهب وتزني وتأخذ أجرة وتأتي بها إلى سيدها، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور:33] ، والبغاء هو الزنا، أي: لا تكرهوهن على فعل فاحشة الزنا إذا أردن تحصناً وتحفظاً {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] ، فإذا أكرهت -سواءٌ أكرهت على الزنا أم أكرهها سيدها على أن تزني- فلا ذنب عليها، والذنب على سيدها.
فالحاصل أن الرقيق ذكراً أو أنثى حده خمسون جلدة، وليس عليه تغريب، وأما المبعض فبحسابه، إذا كان -مثلاً- نصفه حر ونصفه رقيق فيجلد لكونه رقيقاً خمسين جلدة، ويجلد نصفه خمساً وعشرين جلدة، فيكون جلد الذي نصفه حر خمس وسبعون جلدة، والتغريب يغرب ثلاثة أشهر؛ لأنه سقط عنه التغريب كله بسبب كونه رقيقاً، ولما كان نصفه رقيقاً أخذنا نصف النصف فغربناه ربع السنة، هذا ما نقول، فكل مبعض بحسابه فيهما.
ومن المراد بالمحصن في قوله: [فيرجم زان محصن] ؟ المحصن من وطئ زوجته بنكاح صحيح في قبلها ولو مرة.
فمن تزوج زواجاً صحيحاً كامل الشروط، ودخل بامرأته وتمكن منها ووطئها في نكاح صحيح ولو مرة واحدة صدق عليه أنه محصن، وأنه هو الذي يرجم.(79/10)
ما يشترط به وقوع الرجم على الزاني المحصن(79/11)
تغييب الحشفة في فرج أصلي محرم لآدمي
يشترط للرجم ثلاثة شروط: قال: [تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لآدمي ولو دبراً] .
يعني: سواء وطئ في الدبر الذي هو فاحشة اللواط، وطئ ذكراً أو أنثى، أو في القبل الذي هو الفرج، ويكفي تغييب رأس الذكر، أي: إلى حد الختان؛ لأن في الحديث: (إذا التقى الختانان) تغييب الحشفة إلى حد الختان، وذكر الحشفة الأصلية يخرج ما إذا كان له ذكر زائد فإنه لا حكم له.
قوله: [في فرج أصلي] .
لا في فرج غير أصلي، فلو كان هناك -مثلاً- ما يسمى بالخنثى، وكان له فرج غير أصلي أو مشكوكاً فيه فلا يعطى هذا الحكم.
وقوله: [بآدمي] .
كأنهم أرادوا أن ينبهوا على أن من وطئ البهيمة فلا يحد؛ لأن الزنا الحقيقي هو وطء آدمي، يعني: ذكراً أم أنثى.
وقوله: [ولو دبراً] .
صرحوا بأنه إذا وطئ في الدبر فإنه يعتبر زانياً، وقد اختلف في حد فاحشة اللواط الذي هو فعل قوم لوط الذين عاقبهم الله تعالى عليه، يقول الله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف:80-81] ، وفي آية أخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ، اشتهر هذا الفعل في قوم لوط، فنسب هذا الفعل إليهم، ولوط عليه السلام بريء منهم، ثم صارت هذه الفاحشة تسمى اللواط، وفاعلها يقال له: هذا لوطي.
والفعل يقال فيه: لاط فلان، أو لاط به.
ويلوط به، أخذاً من هذه الكلمة، وهي الوطء في الدبر، وحيث إنه مستقبح طبعاً، وأن المفعول به ليس له شهوة في دبره تحمله على أن يبذل نفسه، ولكن قد يكون مكرهاً يكره على هذه الفاحشة، أو يبذل له أجرة على أن يمكن من نفسه، وقد ذكر بعض العلماء أنه إذا قيل له: إما أن تمكننا من نفسك وإلا قتلناك أنه يفضل القتل، يقول ابن القيم: وذلك لأن نطفة اللوطي مسمومة، يعني أنه إذا فُعل فيه فإنه يألف ذلك، وقد يطلب من يفعل فيه والعياذ بالله، فلذلك يفضل أنه يقتل، يقول: اقتلوني ولا أمكنكم من أن تفعلوا فيّ.
ومع ذلك قد انتشرت هذه الفاحشة في كثير من الدول، وهي الفعل في الصبيان وفي الذكور والعياذ بالله، وأصبحت كأنها مألوفة لا تستنكر، وقد وجدت في عهد الصحابة في عهد أبي بكر، كتب خالد لـ أبي بكر: إنا قد وجدنا رجلاً يُنكح كما تنكح المرأة.
فعند ذلك جمع الصحابة فاختلفوا، ثم اتفقوا على أنه يحرق، وذلك لعظم ذنبه، كأنهم قالوا: إن هذا ذنب كبير، فنرى من بشاعته أنه يحرق هذا اللوطي ولو كان هو المفعول به.
وقال بعض الصحابة: إنه يلقى من شاهق ثم يتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، فإن الله تعالى قال: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82-83] أي: من فعل كفعلهم فليس عقوبتهم بعيدة منه، وإذا ألقي من شاهق فقد لا يموت، فبعد ذلك يرجم؛ لأن الله قلب عليهم ديارهم ثم بعد ذلك رجمهم.
والقول الثالث أنه يقتل، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ، والقتل يقتضي قتله بالسيف أو نحو ذلك، وذلك زجراً لمن يفعل ذلك، وقضاءً على هذا الفعل الشنيع.
واختيار المؤلف هنا أنه مثل الزنا، أي أن حده مثل حد الزنا، فإن كان محصناً -يعني: قد تزوج- سواء الفاعل أو المفعول به فإنه يرجم، وإن كان لم يتزوج سواء فاعلاً أو مفعولاً به فإنه يجلد ويغرب، ولذلك قال: [ولو دبراً] يعني: ولو كان الفعل في دبر، أي: دبر آدمي.
وأما إتيان البهيمة فلم يذكروا ذلك؛ لأن الحديث الذي ورد فيه يظهر أنه فتيا من بعض الصحابة: (من وطئ بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) ، فيظهر أنه فتوى من بعض الصحابة.(79/12)
انتفاء الشبهة
الشرط الثاني: انتفاء الشبهة.
فمن قال: أنا وطئتها لأني قد كنت طلقتها ثم راجعتها، وظننت أن المراجعة تامة، فقيل له: إنك لم تراجعها إلا بعد العدة فلا رجعة لك فهذا له شبهة، وكذلك لو قال: أنا وطئتها أظنها زوجتي، أو أظنها أمتي، وجدتها في بيتي فوطئتها، فيكون هذا أيضاً عذراً له، وهكذا وطء الشبهة.(79/13)
ثبوت الزنا بالبينة أو الإقرار
الشرط الثالث: ثبوت الزنا، ويثبت بالبينة والإقرار، فالبينة لابد أن يكونوا أربعة شهداء؛ لقول الله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ، ولقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، ولقوله في آية الإفك: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] ، فاختص الزنا بأنه لابد من أربعة شهداء يشهدون عليه، وهؤلاء يكونون رجالاً، فلا تقبل شهادة النساء، ولابد من العدالة، فلو كان فيهم فاسق أو مقدوح في عدالته لم تقبل شهادته، ولابد أن يشهدوا جميعاً في مجلس واحد، فلو جاء اثنان في مجلس واثنان في مجلس لم يثبت بذلك الزنا، فلابد أن يجتمعوا في مجلس واحد، ولابد أن يشهدوا في زناً واحد، فلو قال هذان: زنى يوم السبت.
وقال الآخران: زنى يوم الأحد.
فشهدا بزناً متكرر فلا يثبت.
وكذلك لابد من وصفه، بأن يقولوا: رأيناه بأعيننا يزني بهذه المرأة أو بفلانة زناً صحيحاً.
وبعض العلماء قالوا: لابد أن يشهد الأربعة بأنهم رأوا فرجه في فرجها، أو ذكره في قبلها.
ولكن يظهر أن هذا ليس بشرط، ولكن إذا تأكدوا أنه يزني بها ولم يروا الفرجين اكتفي بذلك؛ لأنه عادة لا يتمكن من رؤية الفرجين، قد يكونان ملتحفين مثلاً أو نحو ذلك، فعلى كل حال إذا قالوا: نتأكد ونوقن بأنه قد زنى بها، وأنه قد أولج فرجه في فرجها وإن لم نر الفرجين.
وتحققوا في ذلك قبلت شهادتهم، فلا حاجة إلى ما شدد به الفقهاء في ذلك، فإن مع تشديدهم لم يتمكن من إقامة الحد بهذه الشهادة، وذكر عن شيخ الإسلام أنه يقول: لم يقع رجم منذ عهد الصحابة إلى عهدنا هذا بشهود على ما ذكره الفقهاء؛ لأنه لا يتصور أنهم يكشفون عن الفرجين، يعني: طوال هذه القرون ما ثبت الزنا بأربعة شهود يصفونه فيقولون: رأينا قبله في قبلها، أو رأينا فرجه في فرجها.
ولا يمكن، فلذلك يكتفى بالعلم، والشهود الذين شهدوا على اليهودي قالوا: نعم.
رأينا فرجه في فرجها، ولكن يظهر أن ذلك مجرد يقين، أي: علمنا وتيقنا أنه أولج في فرجها، وأنه زنى بها زناً صريحاً، فهذا الذي يثبت به أولاً.
وأما الإقرار فهو أن يعترف به أربع مرات مع حقيقة الزنا وحقيقة الوطء، وهكذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما جاء معترفاً، فقال له: (لعلك قبلت أو غمزت أو لمست؟) ، يعني: فعلت مقدمات، فقال: (لا، فقال: أتدري ما حقيقة الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً) يعني: أولج فيها يعني جماعاً كاملاً، فهذا هو حقيقة أن يعترف بحقيقة الزنا.
واشترطوا أن يبقى مقراً بهذا الزنا حتى يفرغ من رجمه أو يفرغ من جلده، فإن تراجع فإنه يدرأ عنه، هذا قول، وذلك لأنهم ذكروا أنهم لما بدءوا برجم ماعز وكانوا لم يقيدوه يقول جابر: كنت فيمن رجمه، فلما أذلقته الحجارة هرب، فلحقناه حتى أدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات، وذكروا أنه لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه هرب، قال: (هلا تركتموه؟!) يعني لما هرب، فيخاف أن ذلك منه تراجع، واعتذر بعض العلماء بأن معنى قوله: (هلا تركتموه) يعني: حتى تتأكدوا أو تأتوا به إلينا.
والصحيح أنه إذا ثبت باختياره وإقراره ودون إكراه، واعترف على نفسه فإنه -والحال هذه- يقام عليه الحد، ولو قال: إني ندمت، أو كذبت أو تراجعت أو ما أشبه ذلك لا يقبل تراجعه، وكذلك أيضاً الشهود، فلو قال أحد منهم بعدما تمت الشهادة وكتبت: إني رجعت أو: إني أخطأت بالشهادة عليه إذا كان قد تلفظ بالشهادة.(79/14)
شروط القذف الذي يقام عليه الحد(79/15)
أن يكون المقذوف محصناً
انتهى ما يتعلق بالزنا، ثم ذكر بعده حد القذف، والقاذف: هو الذي يقذف محصناً.
قال: [فيجلد حر ثمانين ورقيق نصفها، ومبعض بحسابه] .
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] شرع حد القذف حماية للأعراض؛ لأن بعض الناس قد يظلم أحداً فيعيبه فيقول: إن فلاناً زنى مع أنه لم يكن زانياً، وقد عرف أنه لم يكن من أهل ذلك، فهذا الذي قذف محصناً وعابه وألحق به عاراً، أو ألحق به عيباً لا شك أنه قد ارتكب في حقه إثماً وأنه قد ظلمه، فهذا الذي قذف يقول: إن هذا قد نشر عني سمعة سيئة، وألفق بي تهمة شنيعة، فأريد أن أنتقم منه، وأريد أن آخذ بثأري منه، والشرع أنصفه وجعل في هذا القذف حداً، وهو الجلد إذا رمى محصناً أو محصنة بزناً صريح، فإنه إذا لم يكن عنده بينة فعليه الحد، يقال: أنت قذفت فلاناً فائت بأربعة شهداء وإلا فالحد عليك.
فمن قذف محصناً حده ثمانون إذا كان حراً، ونصفها إذا كان مملوكاً، ومبعض بحسابه، فإذا كان نصفه حراً فإنه يجلد أربعين لكونه رقيقاً، ويجلد عشرين لكون نصفه حراً، ومن المراد بالمحصن؟ المحصن هنا: الحر المسلم العاقل العفيف، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] فكذلك الرجال، أما إذا قذف عبداً فقال: هذا العبد زانٍ أو زنى فلان فإنه -والحال هذه- لا حد على القاذف؛ لأن العبد والأمة لا يلحقهما عار كما يلحق الحر، ولأن الزنا معروف وقوعه كثيراً في الإماء والمماليك ونحوهم.(79/16)
أن يكون المقذوف مسلماً
كذلك لابد أن يكون مسلماً، فإذا قذف كافراً ولو ذمياً فلا حد على القاذف؛ لأن الكافر وإن لحقه عار لكن ليس كالعار الذي يلحق المسلم.(79/17)
أن يكون المقذوف عاقلاً
ثالثاً: أن يكون عاقلاً.
فإذا قذف مجنوناً فالمجنون مرفوع عنه القلم، فلا يلحقه العار، سواء قال: إنه فعل.
أو: إنه فعل به.
فإذا كان مجنوناً ناقص العقل لم يكن معه من العقل ما يحجزه عن فعل هذه الجريمة -أي: الزنا- ونحوها.(79/18)
أن يكون المقذوف عفيفاً
الرابع: أن يكون عفيفاً.
والعفيف: هو الذي ليس متهماً بفعل الفاحشة، بل هو من الذين يعرف أنهم بعيدون عن هذا المنكر.
والفقهاء ذكروا أمثلة لهذا القذف، ولكن الصحيح أنه إذا كان اللفظ صريحاً فإنه يكون قذفاً، وإذا كانت اللفظة تستعمل لغير الزنا أو اللواط فاعلاً أو مفعولاً وإنما تستعمل لغيره فلا يكون قذفاً، فإذا قالوا مثلاً: زنيت يا فلان أنت زانٍ، زنيتي، رأيتك تزنين، زنى فرجك زنى دبرك أو قبلك أو: زنى بك فلان أو نحو ذلك، وكذلك أيضاً العبارات التي تستعمل لذلك وقد تكون أيضاً كنايات مثل النيك، كقول: يا منيوك.
أو: يا منيوكة أو ما أشبه ذلك، وهناك عبارات ليست صريحة، مثل كلمة (معفوج) أو نحوها، وكلمة (لوطي) قد يراد بها أنه على ملة لوط إذا قال ذلك، أما إذا قال: إنه -كما يعبرون- مخنث.
أو: إنه متخنث.
والتخنث هو التشبه بالنساء في ترقيق الكلام ونحوه، ولكن قد تستعمل صريحاً في أنه يفعل به إذا قالوا: مخنث أو تخنث أو نحو ذلك، وهكذا كثير من العبارات، وقديماً يعبرون عنه بقولهم: (مأبون) يعنون المفعول به، أو مأبون بمعنى: أنه يفعل به وما أشبه ذلك.
فالحاصل أنه إذا كان المجتمع يفهم من تلك الكلمة التي رماه بها أنه يريد بذلك الزنا، أو أنه فاعل أو مفعول به، وكانت تلك الكلمة صريحة واضحة فإنها تقبل منه ويعاقب بموجبها، ويقال: قد رميته بفعل الفاحشة فعليك الحد.
ثم حد القذف حد للمقذوف لا يقام إلا بمطالبته، فلو سمح وقال: هذا رماني وقذفني وأنا أتنازل عنه فإنه يسقط عنه الحد، وإذا مات قبل أن يتنازل فهل لورثته أن يطالبوا ويقولوا: هذا قذف أبانا، أو قذف ابننا، فنريد أن نقيم عليه الحد؟ يقولون: إنهم لا حق لهم؛ لأنه لا يدرى هل سمح أم لم يسمح، ولو لم يكن هناك بينة على أنه أسقط ذلك، ويشترط في حد القذف كون مثله يطأ أو يوطأ، ويشترط كونه يتمكن من الوطء، أما لو -مثلاً- قذف طفلاً عمره ثماني أو سبع سنوات بأنه زنى فمثل هذا يعلم أنه كاذب؛ لأنه لا يتصور منه، لكن إذا قذف به وقال: إنه فعل به فلان فهذا قد يتصور أنه يفعل به ولو كان عمره سبع أو ثماني سنوات، ولكن مع ذلك حيث إنه لم يكلف فإنه ليس عليه عقوبة، وذكروا أنه إذا بلغ وكلف فله المطالبة، فإذا قال: إن هذا رماني بأني مفعول بي أو وفعل بي قبل خمس سنين أو قبل عشر سنين، وعليه عندي بينة يشهد عليه فلان وفلان، وقد كذب علي فأريد إقامة الحد عليه ليجلد ثمانين جلدة ففي هذه الحال إذا طالب بذلك بعد تكليفه وكان هناك بينة ثبتت العقوبة والحد على ذلك القاذف.
وأما إذا لم يكن القذف صريحاً بالزنا فإن فيه التعزير، فإذا قال -مثلاً-: يا كافر.
أو: هذا كفر وليس حقاً يعزر القائل، وكذلك إذا قال: يا معلون وليس مستحقاً لذلك، وطالب ذلك الذي لعن يستحق ذلك التعزير، وأما إذا قال: يا أعور يا أعرج يريد بذلك عيبه فهذا أيضاً فيه التعزير إن طلب ذلك؛ لأنه قد يقول: هو ليس بصادق.(79/19)
حكم التعزير في كل معصية وحده
يقول: [ويجب التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام] .
التعزير ذكرنا أنه عقوبة غير مقدرة على ذنب لم تحدد فيه تلك العقوبة، فمثلاً: سرقة دون النصاب فيها التعزير، وزناً ليس فيه إيلاج بل تقبيل أو خلوة إذا وجد خالياً مع امرأة، أو اختطف امرأة ولم يتمكن من أن يزني بها، أو -مثلاً- وجد مع امرأة في فراش أو في لحاف، والمرأة أجنبية ولم يثبت عليه حد الزنا، وشهد عليه بذلك، وكذلك أيضاً المعاصي كترك الصلاة يعزر ويعاقب عليه، والفطر في نهار رمضان بغير عذر أو ما أشبه ذلك.
وقد يجمع عليه بحدين أو بعقوبتين ويتداخلان، فالحاصل أن التعزير هو العقوبة على ذنب لم يقدر فيه، وذكر الفقهاء أن التعزير لا يزاد على عشر جلدات، واستدلوا بحديث أبي بردة بن نيار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزاد على عشر جلدات إلا في حد من حدود الله) ، فقالوا: لا يزاد المعزر على عشر جلدات، والصحيح أنه تجوز الزيادة، وعليها العمل.
وعلى هذا كيف الجواب على الحديث؟ قالوا: الحديث في التأديب، فإذا أدب الرجل ولده يجلده عشراً ولا يزيد، أو أدب المعلم صبيته يجلدهم ولا يزيد، أو أدب الرجل امرأته على النشوز لقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فلا يزيد على عشر جلدات.
فأما إذا كانت العقوبة على معصية ليس فيها حد، كخلوة -مثلاً- بامرأة أجنبية، أو دخول في بيت لأجل فاحشة، أو لأجل سرقة ولم يتمكن، أو قذف بغير الزنا أو ما أشبه ذلك فإنهم يعزرون بحسب ما يختارون والله أعلم، وصلى الله على محمد.(79/20)
شرح أخصر المختصرات [80]
حرم الله سبحانه وتعالى على عباده الخمر؛ لأنها تذهب العقول وتفسدها، وتغير الطبائع، فيترتب عليها من المفاسد وارتكاب المحرمات الشيء الكثير، ورتب الشارع على شرب الخمر حد الجلد، وذلك إذا ثبت شربه بالشهادة أو الاعتراف، ويجلد شارب الخمر على ما يراه الإمام، إن شاء أربعين وإن شاء ثمانين.(80/1)
مراحل تحريم الخمر
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وكل شراب مسكر يحرم مطلقاً، إلا لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف، ويقدم عليه بول.
فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختاراً عالماً أن كثيره يسكر حد حر ثمانين وقن نصفها.
ويثبت بإقراره مرةً كقذف، أو شهادة عدلين.
وحرم عصير ونحوه إذا غلى أو أتى عليه ثلاثة أيام.
فصل: ويقطع السارق بثمانية شروط: السرقة، وهي أخذ مال معصوم خفيةً، وكون سارق مكلفاً مختاراً عالماً بمسروق وتحريمه، وكون مسروق مالاً محترماً، وكونه نصاباً وهو ثلاثة دراهم فضةً أو ربع مثقال ذهباً أو ما قيمة أحدهما، وإخراجه من حرز مثله، وحرز كل مال ما حفظ به عادةً، وانتفاء الشبهه، وثبوتها بشهادة عدلين يصفانها، أو إقرار مرتين مع وصف ودوام عليه، ومطالبة مسروق منه، أو وكيله أو وليه.
فإذا وجب قطعت يده اليمنى من مفصل كفه وحسمت، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه وحسمت، فإن عاد حبس حتى يتوب.
ومن سرق تمراً أو ماشيةً من غير حرز غرم قيمته مرتين ولا قطع، ومن لم يجد ما يشتريه أو يشتري به زمن مجاعة غلاء لم يقطع بسرقة.
فصل: وقطاع الطريق أنواع: فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كولد وأخذ المال قتل ثم صلب مكافئ حتى يشتهر.
ومن قتل فقط قتل حتماً ولا صلب.
ومن أخذ المال فقط قطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى في مقام واحد، وحسمتا وخلي.
وإن أخاف السبيل فقط نفي وشرد، وشرط ثبوت ذلك ببينة أو إقرار مرتين، وحرز ونصاب.
ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقط عنه حق الله تعالى وأخذ بحق آدمي.
ومن وجب عليه حد لله فتاب قبل ثبوته سقط.
ومن أريد ماله أو نفسه أو حرمته ولم يندفع المريد إلا بالقتل أبيح ولا ضمان.
والبغاة ذوو شوكة يخرجون على الإمام بتأويل سائغ فيلزمه مراسلتهم وإزالة ما يدعونه من شبهة ومظلمة، فإن فاءوا وإلا قاتلهم قادر] .
من جملة الحدود حد الخمر، أي: حد شرب المسكر.
والخمر هي كل ما أسكر، والإسكار هو إزالة العقل بالذي إذا شربه يزول معرفته ويهذي في كلامه، ولا يعرف ما يقول فيتصرف تصرفاً سيئاً، فحرم هذا لأنه يزيل العقل، ويلحق الذي يتعاطاه بالمجانين أو أقل حالة من البهائم.
وكانت الخمر مشهوراً شربها عند العرب قبل الإسلام، بل قد يفتخرون بها، كما في قول حسان في جاهليته: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء فلما جاء الإسلام لم تحرم دفعة واحدة؛ لأنهم منهمكون فيها، بل حرمت على مراتب، حرمت على مرات شيئاً فشيئاً، فأول ما نزل فيها قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، قال العلماء أو بعضهم: إن هذه الآية هي التي حرمت بها الخمر؛ لأنه ذكر أن فيها إثماً كبيراً، وإثمها أكبر من نفعها، فيدل على أنها محرمة، والله تعالى قد حرم الإثم في قوله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف:33] ، فتكون هذه الآية دالة على تحريمها.
ولكن لم يحرمها الناس لهذه الآية، حيث ذكر أن فيها منافع للناس، إما في التجارة فيها، وإما بالتلذذ بشربها، ولما نزلت تاب كثير وتركوها، وقدر بعد ذلك أن قوماً شربوها من الصحابة، وحصل منهم قتال حتى ضرب بعضهم صاحبه بلحي جمل وشجه، وصلى بعضهم وقرأ في الصلاة: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، أنتم تعبدون ما أعبد) وخلط في قراءته، عند ذلك نزلت آية في سورة النساء: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، نهاهم أن يصلوا في حالة السكر، وذلك لما يترتب على الصلاة في حالة السكر من الهذيان ومن الكلام السيء، فتاب ناس وتركوها تركاً كلياً، وبقي آخرون يشربونها في الأوقات الطويلة، يشربها بعد الفجر فيصحو قبل أن يدخل وقت الظهر، ويشربها بعد العشاء فيصحو قبل دخول وقت الفجر.(80/2)
العشرة الأوجه الواردة في الآيات في تحريم الخمر
ولما عرفوا آثارها السيئة نزل تحريمها بعد ذلك بالآيات التي في سورة المائدة، وأخذوا تحريمها من الآيات من عشرة أوجه: الوجه الأول: أن الله قرنها بالأصنام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ} [المائدة:90] التي هي الأصنام.
الوجه الثاني: قوله تعالى: (رِجْسٌ) ، والرجس هو النجس.
الوجه الثالث: قوله تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ، والشيطان لا يدعو إلا إلى الحرام وإلى الآثام.
الوجه الرابع: قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ) والاجتناب هو الابتعاد، فهو أبلغ من قول: اتركوه.
الوجه الخامس: قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: يتوقف فلاحكم على تركها.
الوجه السادس قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ} [المائدة:91] ، فالعداوة بينكم يوقعها الشيطان بسبب هذا الخمر.
الوجه السابع قوله تعالى: {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91] .
الوجه الثامن قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المائدة:91] أي: إن مجالسها مجالس باطل تصد عن ذكر الله.
الوجه التاسع: قوله تعالى: {وَعَنْ الصَّلاةِ} [المائدة:91] أي أنها تشغل عن الصلاة.
الوجه العاشر قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] فقالوا: انتهينا انتهينا.
فحرمت الخمر بهذه الآية، ووردت الأدلة في عقوبة شاربها، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، مع أن خمر الآخرة ليست مثل خمر الدنيا؛ لقول الله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] ، وقوله: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:18-19] مما يدل على أنها منزهة عما يكون في خمر الدنيا.
كذلك ورد في الحديث أن الذي يشربها ويموت وهو يشربها يسقيه الله من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار.(80/3)
حد شارب الخمر
ثم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما حد لها حداً محدداً، ولكن إذا جيء بشارب الخمر يقول: اضربوه، فمنهم من يضربه بيده، ومنهم من يضربه بنعل، ومنهم يضربه بعصا نحو الأربعين، هكذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بسكران، وكذلك أيضاً في عهد أبي بكر يضرب نحو الأربعين، ولما كان في عهد عمر كثر الذين يتعاطون شرب الخمر، ولم تردعهم أربعون جلدة، وتهاونوا بها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة فقالوا: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة.
والافتراء هو الكذب والقذف، فأمر عمر أن يجلد ثمانين، فصار يجلد هكذا، ولو أن ذلك لم يحدد في العهد النبوي؛ لأن هذا من باب التشديد عليه.
فأكثر الفقهاء على أن حده ثمانون؛ لأن عمر أفتى بذلك ووافقه عليه الصحابة، وذهب بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الحد أربعون، وأن الزيادة تعزير تستعمل عند الحاجة، أي: متى تهافت الناس على ذلك وكثر الذين يتعاطونه وتهاونوا بالأربعين زيد إلى الثمانين، وإن لم تردعهم الثمانون وكثروا وتهاونوا بهذه العقوبة زيد إلى المائة، أو إلى مائة وعشرين؛ لتكون الزيادة تستعمل وقت الحاجة عندما يكثرون، ويتمكنون من الشرب، فعند ذلك يجلد إلى ثمانين، ويجلد إلى مائة، ويجلد إلى مائة وعشرين، ولو احتيج إلى الزيادة زيد لأجل أن يرتدع الناس.
ثم ورد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب أحد الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه) ، هذا الحديث رواه بعض العلماء، وقال بعضهم: إنه منسوخ.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الرابعة فلم يقتله، فجزموا بأنه منسوخ، والترمذي لما خرجه قال في آخر كتابه: إنه لم يجد من يعمل به.
يعني: لم يكن عليه عمل، ولكن الحديث روي من طرق جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر الذي حقق أول المسند، وحقق أول تفسير الطبري، فإنه عندما روى الحديث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص خرجه وذكر الشواهد عليه، حتى بلغ أحد عشر حديثاً، واستدل به على أنه متواتر.
ثم إنه أفرد هذا القدر وطبعه في رسالة مستقلة في قتل الشارب بعد الرابعة، وقال: إنه لا عذر لأحد في ترك العمل به، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ما قتله بعد الرابعة قد يكون لعذر، وقد يكون ذلك الذي جلده ثلاث مرات أو أربع لم يكن متهاوناً، ولم يكن من المتساهلين، ولعل له عذراً، وهو واحد وقصتة واحدة، ولا يبطل لأجل هذه القصة العمل بأحد عشر حديثاً مروياً من عدة طرق يقوي بعضها بعضاً بمجموعها يكون كالمتواتر، فلا عذر لأحد من المفتين والعلماء أن يتركوا العمل بهذا الحديث، سيما في الأزمنة المتأخرة التي تساهل الناس فيها بشرب الخمر وصاروا لا يبالون، ويجلد أحدهم ثم يعود، ويذكر الآن أن بعضهم جلد عشر مرات، وربما عشرين، ومع ذلك يخلى سبيله، أو يسجن أياماً ثم يخلى سبيله.
وحيث إن عندنا هذا الحديث الذي أمر فيه بقتله نقول: إن ترك العمل به تهاون وتساهل، حيث وجد سببه، فلا عذر لأحد أن يفتي إذا أفتى بعدم قتله مع وجود الأحاديث، ولو قتل واحد لارتدع الكثيرون، فإنه إذا كان الحد شديداً صار بذلك رادعاً لأولئك الكثير الذين يتعاطون شرب الخمر بالعشرات وبالمئات وبالألوف يومياً أو أسبوعياً ولا يبالون.(80/4)
خلاف العلماء في المسكر مم يكون؟
يقول: [وكل شراب مسكر يحرم مطلقاً] بشرط أن يكون مسكراً، وذهب الحنفية إلى أن الخمر تختص بعصير العنب، وقالوا: إنه الخمر المعروف.
وأما بقية ما يعصر من المأكولات ونحوها فلا يسمى خمراً، ولا يحرم عندهم إلا إذا بلغ حد الإسكار، وخالفهم بذلك الجمهور الذين يرون أنه خمر من أي شيء صنع، وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن الخمر من خمسة -يعني: في العهد النبوي- يقول: إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من الذرة خمراً) يعني: ما عصر من هذه وبلغ حد الإسكار فإنه يسمى خمراً، فلا يجوز شربه ولو كان قليلاً.
ودليل ذلك أيضاً الحديث الذي يمكن أنه متواتر ولفظه: (كل مسكر حرام) ، (كل مسكر خمر) ، وقصة أبي موسى لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الأشربة في اليمن، منها ما يسمى (البتع) ، ومنها ما يسمى: (المزر) ، وذكر لـ عمر شراب يسمى الطلاء يشرب في مصر، فكلها ألحقوها بالخمر، ولما سأل أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: (أمسكر هو؟ قال: نعم، قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، فيحرم شرب المسكر، واستثنوا من ذلك إذا كان [لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف] ولم يجد ما يدفعها إلا بكأس خمر [ويقدم عليه بول] ، فإذا وجد بولاً ووجد خمراً فأيهما يدفع به هذه الغصة؟ يدفعه بالبول، فإذا لم يجد إلا الخمر دفعها به وعفي عنه، هكذا يمثلون، مع أن هذا نادر، نادر أن لا يجد إلا خمراً؛ لأنه يجد المياه، ويجد الألبان، ويجد العصيرات المباحة يدفع بها هذه اللقمة التي غص بها، وإنما ذكروا ذلك تقديراً، فلو قدر أنه ما وجد إلا خمراً فله أن يشرب منه جرعة يدفع تلك الغصة.(80/5)
شروط حد الخمر
يقول: [فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختاراً عالماً أن كثيره يسكر حد حر ثمانين وقن نصفها] .
الاحتقان كونه يحتقن بها مع أنفه مثلاً أو مع شدقه، يعني: أدخل طرف أو حافة المحقن في شدقه وصبها.
ولو أدخلها مع دبره صدق عليه أنه أدخلها إلى جوفه، ويشترط لإقامة الحد عليه شروط: الشرط الأول: أن يكون مسلماً.
وذلك لأن أهل الذمة يستبيحون شرب الخمر، أي: اليهود والنصارى، كما في قول الأخطل: ولكني سأشربها ثمولاً وأسجد عند منبلج الصباح يفتخر بأنه سيشربها.
الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً والمكلف: هو البالغ العاقل، فإذا كان صغيراً لا يعرف أو كان مجنوناً لا يعقل فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف.
الشرط الثالث: أن يكون مختاراً.
ويخرج به إذا أكره على شربها وهدد وقيل: إن لم تشربها قتلناك، أو: إن لم تشربها ضربناك ضرباً مبرحاً لا تتحمله.
فإن تهاون وشربها مختاراً حد.
الشرط الرابع: العلم، أن يكون عالماً بالتحريم، فإذا كان جاهلاً لا يدري أنها محرمة فلا حد عليه، وكذلك كونه عالماً أنها تسكر، أو أن الكثير منه يسكر ولو كان القليل لا يسكر، فإذا تمت هذه الشروط أقيم عليه الحد إن كان حراً ثمانون جلدة، وإن كان قناً أربعون جلدة، هكذا يجب عليه.(80/6)
ما يثبت به حد الخمر
الجلد يكون جلداً وسطاً، ليس شديداً وليس خفيفاً وسهلاً، بل يكون جلداً متوسطاً، ذكروا أنه فوق جلد القذف ودون جلد الزنا، ثم لا بد من ثبوت الشرب، وبأي شيء يثبت؟ بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين، فإذا أقر بأنه شرب الخمر التي تسكر ثبت عليه الجلد، وإذا شهد عليه شاهدان بأنه قد اعترف فقالا: نشهد أنه اعترف عندنا أنه شرب الخمر أقيم عليه الحد.
وذكروا أيضاً أن القذف يثبت بإقراره، فإذا قال: أنا الذي قذفت فلاناً، أنا الذي قلت: إنه زانٍ، أو: إن فلانة زانية.
إذا شهد على اعترافه عدلان فإنه يحد.
وكذلك إذا شهد عدلان على شربه وقالا: رأيناه يشرب فإنه يحد.(80/7)
مم يكون الخمر؟
كذلك يقول: [وحرم عصير ونحوه إذا غلى أو أتى عليه ثلاثة أيام] .
العصير هو عصير العنب، أو -كذلك- عصير التمر ويسمى النبيذ، فيطرح التمر في الماء إلى أن يكتسب حلاوة، أو يحرك في الماء إلى أن يكسبه حلاوة، وكذلك أيضاً الزبيب إذا خمر في الماء إلى أن يذوب، فإذا غلى ورمى بالزبد فإنه يقرب من الإسكار، وكذلك إذا أتى عليه ثلاثة أيام، ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء، يطرح في ذلك السقاء تمر ويصب عليه ماء، فيشرب منه ثلاثة أيام أو يومين ونصف، وإذا بقي بعد ذلك شيء منه أمر أن يشرب أو يراق، يخشى أنه ينعقد ويبلغ حد الإسكار، ففيه دليل على إباحة النبيذ، وكان قد نهى بعضهم عن الانتباذ في بعض الأسقية، ثم رخص لهم أن ينتبذوا فيما شاءوا، ولا يشربوا مسكراً، ففي الحديث: (نهى عن النبيذ في الحنتم والمزفت والنقير والدباء) ، والدباء هو نوع من القرع رأسه دقيق، إذا يبس فإنهم يأخذون جرمه فيجعلون فيه دهناً يحفظون فيه الدهن أو العصير، وحيث إن رأسه دقيق يسرع إليه التغير، فنهى عن النبيذ فيه، وكذلك الحنتم، ويسمى (الزير) الذي يصنع من الطين ونحوه أو الجرار، وكذلك الذي هو مبني بقار أو زفت يسرع إليه التغير، ولكن إذا تحقق أنه لا يتغير جاز الانتباذ فيه.(80/8)
أحكام السرقة(80/9)
شروط قطع يد السارق
تقدم من الحدود حد الزنا وحد القذف والتعزير وحد الخمر، وبقي الآن حد السرقة وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد.
زذكر أن السارق يقطع بثمانية شروط، والسارق: هو الذي يأخذ المال المحترم من حرزه على وجه الخفية.
فهو الذي يسمى سارقاً، فإذا أخذ من المال المنشور، كما إذا كان إنسان -مثلاً- نشر بضاعته، وجاء إنسان -مثلاً- تحرى غفلته وأخذ منه شيئاً وهو لا يدري فهذا ليس بسارق، يسمى مختلساً، وكذلك الذي ينهب المال ويهرب به يسمى منتهباً، وكذلك الذي يأخذه قهراً يسمى مغتصباً، فلا يقطع المختلس والمنتهب والمغتصب، وذلك لأن القطع إنما جاء في حق السارق، وغيره يعزرون التعزير الذي يردعهم.
وأما السارق فيقطع بثمانية شروط: الشرط الأول: أخذ مال معصوم خفي.
فيخرج مال الحربي، إذا أخذ مال حربي فلا يسمى سارقاً، ولا قطع عليه؛ لأن الحربي حلال قتله وحلال ماله، ويدخل في مال المعصوم المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن؛ لأنهم معصومة دماؤهم وكذلك أموالهم.
ولابد أن يكون الأخذ خفية، ويمكن أن يعد هذا شرطاً تاسعاً، أن يكون أخذه خفية، أما أخذه علانية فلا يسمى سرقة.
الشرط الثالث: أن يكون السارق مكلفاً مختاراً عالماً بمسروق وتحريمه، فإذا كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً على السرقة، أو جاهلاً بتحريم السرقة، أو جاهلاً بأن هذا المال معصوم، أو معتقداً أنه يجوز ولم يعلم أنه محرم فلا يقطع.
الشرط الرابع: كون المسروق مالاً محترماً.
ويخرج به ما إذا سرق أشرطة غناء، أو طبول محرمة، أو أجهزة الدش التي ليست محترمة، أو سرق دخاناً لأنه ليس بمال، أو سرق خمراً، أو سرق مخدرات فلا يقطع؛ لأن هذا ليس بمال محترم.
الشرط الخامس: أن يكون المسروق نصاباً، وهو ثلاثة دراهم فضة، وربع مثقال ذهباً أو قيمته، فهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم، كالدراهم القديمة التي هي من الفضة، ثم مقداره في هذه الأزمنة بهذا النحو، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) يعني أنه لا يفكر، والبيضة هي الترس الذي يجعل على الرأس في حالة القتال من حديد أو من صفر أو من نحاس تقي من وقع السلاح، وتسمى أيضاً المجن، وورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم) ، وروي أن رجلاً سرق أترجة، والأترجة التي هي شبيهة بالليمون إلا أنها كبيرة، وكانت قيمتها ثلاثة دراهم، فقطع.
ثم مقدار الذهب في هذه الأزمنة ربع مثقال -أي: ربع دينار- يقارب السبع من الجنيه السعودي، أي: سبع الجنيه، فإذا كان الجنيه -مثلاً- بسبعمائة فبسرق مائة يقطع.
ومعلوم أيضاً أن الدراهم الفضة قد لا تكون موجودة في هذه الأزمنة، ولكن قيمتها معروفة، فنصاب المال الزكوي من الفضة مائتان من الدراهم، ومقدارها بالريال الفضي السعودي ستة وخمسون ريالاً، فإذا نظرنا في مائتين وقسمناها على ستة وخمسين إذا هي نحو الربع، يدل على أن الدرهم قريب من ربع الريال السعودي، فإذا سرق مثلاً أرباع الريال السعودي، فإن ذلك يقوم مقام ثلاثة دراهم، وصدق عليه أنه سرق نصاباً فيقطع.
وحيث إن الريال الفضي غير متوفر يرجع إلى قيمته، ويمكن أن تكون قيمة الريال عشرة ريالات ورقاً، فعلى هذا يكون النصاب من الدراهم الورقية نحو ثلاثين، فإذا سرق ثلاثين ريالاً من الأوراق صدق عليه أنه سرق نصاباً فيقطع، وكذلك لو سرق سلعة قيمتها هذا.
الشرط السادس: إخراجه من حرز مثله.
وحرز كل مال ما يحفظ فيه عادة، فإذا كسر الباب ودخل، وأخذ قدراً -مثلاً- مما يوجد في الأسوار ونحوه قطع، أو كيساً لأنه أخذه من حرزه، وهكذا -مثلاً- إذا كسر باب الغرفة وأخذ منها أقمشة تدخر وتجعل في داخل الأسوار صدق عليه أنه أخذ من حرز، كذلك أيضاً لو كسر الصناديق وأخذ من الجواهر أو من الحلي أو من النقود صدق عليه أنه أخذ من الحرز.
أما إذا وجد هذا المال ملقىً عند الباب، إنسان جعل عند بابه في الطريق أكياساً من الطعام مثلاً، أو ثياباً وأقمشة، فالذي يأخذ منه لا يسمى سارقاً؛ لأنه أخذ من غير حرز، فلا قطع عليه.
الشرط السابع: انتفاء الشبهة فإذا قال: أنا شريك في هذا المال وكان له شراكة فلا قطع، لأنه يدعي أنه أخذ شيئاًَ يملكه، وكذلك لو كان المال صدقات مجموعة في بيت وقال: أنا من الفقراء الذين تحل لهم هذه الصدقات، ما أخذت إلا من شيء يحل لي أو كان المال -مثلاً- غنيمة وهو من جملة الغانمين، وقال: أنا لي حق فيه فلا يقطع.
الشرط الثامن: ثبوت السرقة بشهادة عدلين.
شهد عدلان بأنا رأيناه قد خرج من هذا الباب يحمل هذا الكيس، أو يحمل هذا الثوب، أو يحمل هذا القماش، أو رأيناه خرج من هذا الباب وجاء صاحب البيت وقبض عليه وفتشه فوجد معه هذه الأموال، وعرفنا أنه أخذها ثبتت السرقة، وكذلك الإقرار، إذا اعترف وأقر بأنه أخذ من هذا المال كذا وكذا سرقة، أقر مرتين، ودام على ذلك الإقرار ولم ينكر صدق عليه أنه يعتبر سارقاً.
الشرط التاسع: مطالبة صاحب المال أو وكيله أو وليه، فصاحب المال المسروق إذا لم يطالب فيمكن أنه أباحه له، قال: هذا أخذ منا ونحن قد سمحنا عنه؛ لأنه قريب لنا أو صديق أو نحو ذلك.
ففي هذه الحال يعفى عنه ولا يقطع، وكذلك لو لم يطالب المالك ولكن وكل، أو كان المالك صغيراً، أو محجوراً عليه فطالب به وليه، هذه هي الشروط، فإذا تمت الشروط وجب قطع يده، فيبدأ بقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف، أي: المفصل الذي بين الكف وبين الذراع، وإذا قطعت حسمت، يغلون زيتاً، فإذا غلا ذلك الزيت وقطعوا يده غمسوا رأسها في ذلك الزيت، لتتوقف العروق وتنسد عروق الدم؛ لأنهم إذا لم يغمسوها استمر خروج الدم وأدى ذلك إلى موته، فيغمسونها بعد ذلك ويعالجونها إلى أن يطيب الجرح، ويبقى ليس له إلا يد، فتقطع من مفصل كفه وتحسم، فإذا عاد فسرق مرة ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه وحسمت، ولا تقطع يده اليسرى، ولا تقطع رجله اليمنى، بل تقطع الرجل اليسرى، حتى لا يكون مشلول الجانب، وتحسم أيضاً رجله إذا قطعت، ويكون القطع من مفصل الكعب، فتقطع القدم.
فإذا عاد وقدر أنه سرق وقد قطعت يد ورجل فهل يقطع مرة ثالثة؟ الصحيح أنه لا يقطع، وإن كان روي عن بعض السلف أنه قطع ثلاث مرات، أي: يد ثم رجل ثم يد، بل يحبس حتى يتوب أو يموت، وذلك لأنه يعتبر مفسداً.
ومن سرق تمراً من غير حرز غرم قيمته مرتين، ولا قطع عليه، وكذلك من سرق ماشية، لمن جاء إلى غنم قد باتت في غير حرز وأخذ منها شاة، أو جاء إلى إبل ترعى وأخذ منها جملاً فإنه يغرم قيمته مرتين، سواء ذبحه أو باعه، ولا قطع؛ لأنه أخذه من غير حرز، هكذا ورد عن بعض السلف أنه يغرم ولا يقطع.
ولا يقطع في زمن المجاعة، إذا اشتد به الجوع ولم يجد ما يشتري به طعاماً، أو ما وجد شيئاً يشتريه، ما وجد خبزاً، ولا وجد تمراً، ولا وجد أرزاً، واحتاج ودخل في بيت وأخذ منه خبزاً ولو أكثر من النصاب فإنه معذور، ولهذا أسقط عمر رضي الله عنه القطع في سنة مجاعة حصلت تسمى (عام الرمادة) ، وهي مجاعة اشتدت فسواء لم يجد طعاماً يشتريه أو لم يجد قيمته في زمن مجاعة أو كان ارتفع سعره فلا يقطع والحال هذه؛ لأنه معذور.(80/10)
أحكام قطاع الطريق
قطاع الطريق هم الذين يقفون في الطرق، ويقتلون من مر بهم أو ينهبونه أو ما أشبه ذلك، يقفون في بعض الطرق التي هي قليلة السالكين لا يأتيها إلا أناس قليل، فإذا جاء إنسان ليس معه أحد أوقفوه وأكرهوه على أن يأخذوا ما معه من المال، فإن دافعهم قتلوه وأخذوا المال، فإن كانوا جماعة قاتلوهم إلى أن يأخذوا ما معهم من المال، وقد يكون أيضاً قصدهم سيئاً وهو الزنا بمن معهم من النساء، بأن يكرهوه على أن يخلي بينهم وبين النساء ليزنوا بهن، يحدث هذا أيضاً كثيراً، فإما أن يقتلوا الرجل، وإما أن يوثقوه رباطاً ويتمكنوا من المرأة أو من النساء، فيعتبرون قطاعاً، ونزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} [المائدة:33] .
وذهب بعض العلماء -كالمالكية- إلى أن الإمام مخيّر؛ لأن الآية فيها لفظ (أو) ، فإما أن يقتل، وإما أن يأسر ويوثق ويسجن، وإما أن يقطع، وإما أن ينفي: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} [المائدة:33] ، فدل ذلك على أنه مخيّر؛ لأن لفظة (أو) للتخيير، كما في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] .
وذهب الإمام أحمد إلى أن العقوبة على قدر الذنب، وروي ذلك عن ابن عباس.
يقول: [من منهم قتل مكافئاً أو غيره كولد وأخذ المال قتل ثم صلب مكافئاً حتى يشتهر] .
قوله: [مكافئاً] يعني: إذا كان حر قتل حراً.
يعني: حر مسلم قتل حراً مسلماً.
أما إذا قال: أنا ما قتلت إلا عبداً ففي هذه الحال يغرم قيمة العبد، وكذلك إذا قال: أنا ما قتلت مسلماً إنما قتلت كافراً، هذا الذي قتلته ليس بمسلم.
نقول: إنه معاهد وقتلك له يعتبر اعتداء، ولكن حيث إنه جاء الحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) فإنه -والحال هذه- لا يقتل، ولكن يعزر ويسجن ونحو ذلك.
فالحاصل أنه إذا كان قتل مسلماً حراً أو قتل ابنه -مثلاً- ولو كان صغيراً أو قتل امرأته أو نحو ذلك فإنه إذا قتل وأخذ المال يجمع له بين العقوبتين، فيقتل ثم يصلب، يصلب على سارية أو على خشبة في السوق يومين أو ثلاثة أيام وهو مصلوب بعدما يقتل حتى يشتهر أمره وحتى يعرفوه.
ومنهم من ينصب الرأس، فإذا كان -مثلاً- في حر شديد ويخشى أنه ينتن يكتفون بصلب الرأس ويدفنون الجثة، فهذا حكم الذي جمع بين الأمرين: القتل وأخذ المال.
الثاني: إذا قتل فقط ولم يأخذ المال، فإنه يقتل حتماً، ولا صلب عليه، وذلك لأنه اقتصر على القتل، فيقتل ويدفن بعد قتله، وهل يدخل في العفو؟ لو قال ولي المقتول: أنا أسمح عنه ولا أريد قتله هل يسقط القتل؟ لا يسقط، وذلك لأنه حد من حدود الله، أخاف الطريق وتعدى على المسلمين، فالحد لله تعالى، وبذلك أخبر الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ} [المائدة:33] يعني: عقوبتهم.
فلا يسقط بعفو صاحب المال أو صاحب الدم.
ويقولون: من أخذ المال فقط -أي: أكرههم وأخذ المال بدون قتل- ففي هذه الحال تقطع يده اليمنى.
ثم رجله اليسرى في مقام واحد وتحسمان ويخلى سبيله، يقطع منه رجل من جانب ويد من جانب، اليد اليمنى والرجل اليسرى، كما يقطع السارق إذا سرق في المرة الثانية، وتحسم، ولا يسجن بل يخلى سبيله.
وكانوا إذا قطعوا السارق أو قاطع الطريق يعلقون يده في عنقه حتى يعرف الناس أنه سارق أو أنه محارب، ولكن في هذه الأزمنة قد يتمكن الأطباء أن يزرعوا يده وأن يعيدوها في مكانها، وكذلك رجله بعملية، يقاربون العروق بعضها إلى بعض، ويخيطون بعضها في بعض حتى يسري فيها الدم وتعود فيها الحياة، ولذلك في هذه الأزمنة لا يمكن من أخذ يده ورجله، بل تدفن، أو تقطع قطعاً متكاثرة، فتقطع الأصابع قطعاً، وتقطع الكف، وتشقق اليد والرجل ونحو ذلك حتى لا يتمكن من أخذها وإعادتها.
الرابع: إذا أخاف الطريق فإنه ينفى ويشرد؛ لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} [المائدة:33] ، فهذا هو الرابع، فالأول قتل وأخذ المال، والثاني قتل فقط، والثالث أخذ المال فقط، والرابع أخاف السبيل، وأخاف الطريق، بحيث صار الناس يفزعون من سلوك هذا الطريق، فقبض عليه فينفى من الأرض، لكن في هذه الأزمنة قد لا يكون النفي مفيداً لسهولة المواصلات ولقرب الأماكن، فيفتي بعض العلماء بالسجن، يقول: إنه يدخل السجن ويضيق عليه.
هذه حالاته الأربع.(80/11)
ما يثبت به قطع الطريق
يقول: [وشرط ثبوت ذلك ببينة أو إقرار مرتين، وحرز ونصاب] فإذا أنكر وقال: أنا ما قطعت الطريق فلا بد من بينة، فيشهد شاهدان فيقولان: نشهد أن هذا من الذين وقفوا في طريق آل فلان، وأنه باشر وقتل، وأنه باشر أخذ المال، وكذلك غيره، ولم يذكر الفقهاء ما إذا أكره الرجل على الزنا أو على اللواط، وذلك لأنهم اكتفوا بما تقدم في الزنا أو في اللواط، وقالوا: إذا كان قصده من الوقوف في الطريق فعل الفاحشة بالمرأة أو بالصبي فعل اللواط ففي هذه الحال يحكم عليه بحد الزنا، أو بحد اللواط، فالحد الذي وجب عليه الرجم أو الجلد أو الإحراق أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أنه لا بد أن يكون هناك بينة يشهدون بأن هذا قطع الطريق وفعل كذا، أو اعترافه بأن يعترف مرتين فيقول: أنا من الذين قطعوا الطريق وقتلوا وأخافوا ونحو ذلك.(80/12)
حكم من تاب قبل القدرة عليه
يقول: [ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقط عنه حق الله تعالى وأخذ بحق الآدمي] لقول الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] يعني: جاء قبل أن تقبض عليه السلطة وسلم نفسه وقال: أنا تائب، وهذه توبتي، فيسقط عنه حق الله تعالى، فإذا كان -مثلاً- قد قتل وقال ولي المقتول: أريد القصاص، أو قد قتل وأخذ المال، فقال صاحب المال: أنا أريد حقي من المال، وقال صاحب الدم: أنا أريد حقي من القصاص يقام عليه حق دفع المال، فيغرم دفع المال ولا يقطع، ويقتل قصاصاً ولا يصلب؛ لأن الصلب حق لله، وهذا قد تاب فيقتل حقاً لآدمي ولا يصلب.
كذلك المال حق لآدمي طالب بالمال وقال: إنه أخذ من أبي كذا وكذا فيطالب بحق دفع المال ولا يقطع، فلو أنه أخذ المال ولم يقتل ثم تاب قبل أن يقدر عليه فلا تقطع يده ورجله؛ لأن هذا حق لله، ولكن حق الآدمي إذا طالبا به يدفع، فلو قال الآدمي: أنا عفوت عنه سقط حقه إذا عفا عنه لأنه حق لآدمي، فإن طالب به فإنه يثبت، فيثبت حق آدمي مثلاً لو قال: إنه قطع يدي، إنه شجني، إنه فقأ عيني، أريد القصاص فيمكن من القصاص، وأما إذا قال: إنه قتل أبي وأخذ مالنا فأطالب بقتله وبالصلب ورد المال.
أو: عفوت عن المال ولكن أريد أن يقتل ويصلب، فالصلب حق لله، وقطع اليد والرجل حق لله، والنفي حق لله، ورد المال حق للآدميين، والقصاص في النفس أو فيما دون النفس حق للآدمي، فهذه يطالب بها.
قال: [ومن وجب عليه حد لله وتاب قبل ثبوته سقط] ، يعني: مثل السكر حد لله تعالى إذا تاب سقط عنه، ومثل النهب والتعزير وأشباهه هذه حقوق لله تعالى.(80/13)
دفع الصائل وأحكامه
ذكر بعد ذلك دفع الصائل فقال: [من أريد ماله أو نفسه أو حرمته] يعني: جاءه قطاع طريق وقالوا: سلم لنا نفسك لنقتلك فهل يسلم لهم نفسه؟ يقاتل ولو قتلهم، أو: سلم لنا مالك وإلإ قتلناك فهل يسلم لهم؟ يقاتل ولو قتل أو قتل، أو: سلم لنا امرأتك لنزني بها، لا يسلم، ولكن يقاتل ولو قتل، فإذا قتلهم دفاعاً كأن دافعهم لكن لم يندفعوا إلا بالقتل فلا غرامة عليه ولا قصاص؛ لأنه يقول: قاتلتهم أو قتلهم دفاعاً عن نفسي، فأنا مظلوم وأنا معتدىً علي، ففي هذه الحال لا غرامة عليه فيما قتل، فلو أنه قطع يد هذا، أو أنه فقأ عين هذا، أو أنه قطع رجل هذا، ثم بعد ذلك تخلص منهم فطالبوه فلا حرج عليه.
وفي الحديث: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) معناه أنه يقاتل حتى يقتل ولا يستسلم، ولا يسلم لهم نفسه بأن يفجروا به مثلاً بفعل الفاحشة، ولا يسلم لهم امرأته، ولا يسلم لهم ماله، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن جاءني باغ وقال: أعطني مالك؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد) ، فلا ضمان عليه.
فهذا ما يتعلق بالبغاة ويتعلق بالقطاع ويتعلق بدفع الصائل.(80/14)
أحكام البغاة الخارجين على الإمام
بعد ذلك ذكر البغاة، والبغاة هم الذين يخرجون على الإمام إذا كان لهم شوكة وعندهم قوة، ولهم نوع من التأويل، كأن ينكرون على الإمام فيقولون: إن هذا الإمام أو نحوه كافر لأنه فعل كذا، ولأنه فعل كذا وكذا، فهؤلاء بغاة يخرجون على الإمام ولهم تأويل سائغ، أي: شبهه، فماذا يفعل؟ يبدأ بمراسلتهم، فإذا كان لهم شبهة أزالها، فيزيل ما يدعونه من شبهة، وإذا ادعوا مظلمة أزالها، وإذا ادعوا شبهة أزالها، فإن فاءوا وإلا قاتلهم، يقاتلهم إذا كان قادراً على قتالهم، كما فعل علي مع الخوارج، فهذا حكم البغاة الذين هم ملحقون بقطاع الطريق، وفيهم كلام طويل مذكور في كتب الفقه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(80/15)
شرح أخصر المختصرات [81]
في الشرع حكم وأسرار يحاول الفقهاء كشفها حيث يمكن ذلك، ولعل من ذلك الرابط في الفقه بين إزهاق روح الآدمي في حد، وإزهاق روح الحيوان لأكل، فالآدمي قد تزهق روحه في نحو حد الردة، ولذلك جعل الشارع أحكاماً خاصة بالمرتد، وذلك يتعلق بتعريفه وما يحكم به عليه وحده، حتى لا يتخذ الناس هذا الدين لعباً وهزواً، ولا تتمكن النفوس الضعيفة من الطعن في دين الله.
وأباح الله عز وجل إزهاق روح بعض الحيوان لأكله، فيباح منها أكل ما كان طاهراً لا يفترس بنابه كأسد أو فهد، ومن الطيور ما كان طاهراً ولا يصيد بمخلبه كالعقاب والصقر، كما أباح من سائر الأطعمة كل طاهر غير مضر.(81/1)
أحكام المرتد
قال رحمه الله تعالى: [فصل: والمرتد من كفر طوعاً ولو مميزاً بعد إسلامه، فمتى ادعى النبوة، أو سب الله أو رسوله، أو جحده، أو صفة من صفاته، أو كتاباً أو رسولاً أو ملكاً، أو إحدى العبادات الخمس، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه كفر، فيستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يتب قتل، ولا تقبل ظاهراً ممن سب الله أو رسوله، أو تكررت ردته، ولا منافق، وساحر، وتجب التوبة من كل ذنب، وهي إقلاع وندم وعزم أن لا يعود، مع رد مظلمة لاستحلال من نحو غيبة وقذف.
فصل: وكل طعام طاهر لا مضرة فيه حلال وأصله الحل، وحرم نجس كدم وميتة، ومضر كسم، ومن حيوان بر ما يفترس بنابه كأسد ونمر وفهد وثعلب وابن آوى لا ضبع، ومن طير ما يصيد بمخلب كعقاب وصقر، وما يأكل الجيف كنسر ورخم، وما تستخبثه العرب ذوو اليسار كوطواط وقنفذ ونيص، وما تولد من مأكول وغيره كبغل، ويباح حيوان البحر كله سوى ضفدع وتمساح وحية، ومن اضطر أكل وجوباً من محرم غير سم ما يسد رمقه، ويلزم مسلماً ضيافة مسلم مسافر في قرية لا مصر يوماً وليلة قدر كفايته، وتسن ثلاثة أيام.
فصل: لا يباح حيوان يعيش في البر -غير جراد- إلا بذكاة، وشروطها أربعة: كون ذابحٍ عاقلاً مميزاً ولو كتابياً، والآلة، وهي كل محدد غير سن وظفر، وقطع حلقوم ومري.
وسن قطع الودجين، وما عجز عنه كواقع في بئر ومتوحش ومترد يكفي جرحه حيث كان، فإن أعانه غيره ككون رأسه في الماء ونحوه لم يحل.
وقول: (باسم الله) عند تحريك يده، وتسقط سهواً لا جهلاً، وذكاة جنين خرج ميتاً ونحوه بذكاة أمه، وكرهت بآلة كالة، وحدها بحضرة مذكىً، وسلخ وكسر عنق قبل زهوق، ونفخ لحم ببيع، وسن توجيهه إلى القبلة على شقه الأيسر، ورفق به، وتكبير] .(81/2)
الأدلة الواردة في تحريم الارتداد
بقي من كتاب الحدود باب حكم المرتد الذي في الفصل الأول، أما الفصل الثاني فيتعلق بالأطعمة وما يباح منها وما لا يباح، والفصل الثالث يتعلق بكيفية ذكاة الحيوان الذي يذكى وشروطها.
نقول: المرتد: هو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه إذا كفر طوعاً واختياراً بشرط أن يكون مميزاً وأن يكون سليماً عاقلاً، فإذا أكره على الردة فإنه لا يحكم بردته، قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .
ذكر أن عمار بن ياسر رضي الله عنه عذبه الكفار عذاباً شديداً، وحملوه، وقالوا: لا نخلي سبيلك إلا إذا كفرت بمحمد وسببت دينه فاضطر إلى أن يسبه حتى يتخلص من شرهم وأذاهم، فجاء بعد ما خلوا سبيله باكياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية: ((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ)) ، فعذر الله تعالى المكره ورفع عنه الإثم، ثم قال بعد ذلك: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ} [النحل:106] يعني: إذا تكلم بالكفر طوعاً واختياراً فعليه الغضب الشديد من الله تعالى، أما إذا كان مجنوناً فإنه مرفوع عنه القلم، فلو تكلم بالكفر فلا يؤاخذ، وكذلك إذا كان طفلاً لا يميز كابن أربع أو خمس أو نحو ذلك، فلو تكلم بكلمة كفر فإنه لا يعاتب لعدم تكليفه، فيكون بهذا الكلام مرتداً، قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217] يعني: إذا ارتد طائعاً مختاراً ومات على كفره حبط عمله وذكر الله أن الشرك يحبط الأعمال في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وفي قول الله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ، فالشرك والكفر والردة تحبط الأعمال، وتوجب لصاحبها الخلود في النار.(81/3)
حد المرتد
قد ورد حد المرتد في الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ، وحده القتل، وذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر في زمنه أناس غلوا فيه وقالوا له: أنت الرب، أنت الإله.
ولما خرج سجدوا له، فاستتابهم فأصروا، ثم إنه حفر أخاديد وألقاهم فيها وأحرقهم، ولما ذكر ذلك لـ ابن عباس قال: لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) ، فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن عباس! بمعنى أن ابن عباس رضي الله عنه كان عنده علم، ولكن علياً حملته شدة الغضب على إحراقهم؛ لأنهم اعتقدوا فيه وقالوا: أنت إلهنا وذلك كفر، وقد ذكر العلماء الكلمات التي يكون بها مرتداً، والأسباب التي تخرج من الإسلام، ولو راجعت كتب الفقهاء لوجدت فيها الكثير، حتى ذكر بعضهم أكثر من مائة خصلة إذا فعلها كفر.(81/4)
بعض الأمثلة التي يكون صاحبها مرتداً(81/5)
ادعاء النبوة وسب الله والرسول
يقول: [فمتى ادعى النبوة] ، فمن ادعى النبوة فإنه كافر مرتد.
[أو سب الله أو سب رسوله] صلى الله عليه وسلم فإنه يعتبر مرتداً، أو جحد وأنكر وجود الله كالدهريين كفر أيضاً، أو جحد صفة من الصفات الثابتة كفر أيضاً، فإذا جحد -مثلاً- صفة السمع التي أثبتها الله، وصفة الوجه، وصفة العلم، وصفة القدرة أنكرها إنكاراً كلياً صدق عليه أنه ارتد، أو جحد كتاباً من كتبه فقال: هذا القرآن مفترى ليس هو كلام الله، وليس هو منزل، وإنما افتراه محمد، كقول المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان:4] ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] أساطير الأولين أي: ما سطروه وما كتبوه وكقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ، وكقولهم: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] ، أو جحد رسالة محمد، أو جحد رسالة موسى، أو إبراهيم، أو عيسى، أو أحد الأنبياء وقال: إنه كذاب، حتى الذين قالوا: إن سليمان كافر ليس بنبي يكفرون بذلك، أو جحد ملكاً من الملائكة الذين سموا في القرآن كجبريل وميكائيل ومالك خازن النار ونحوهم من الملائكة الذين ذكرهم وارد في القرآن.(81/6)
إذا جحد شيئاً من أحكام الدين والعبادات
قال: [أو جحد إحدى العبادات الخمس] : إذا أنكر الشهادة وقال: لا فائدة فيها، أو لا أقر بـ (لا إله إلا الله) ، أو جعل مع الله آلهة أخرى، أو استباح الشرك -أي نوع من الشرك- كالسجود للأصنام، أو دعاء الأموات مع الله تعالى، أو تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق، وكذلك إذا جحد وجوب الصلاة وقال: إن هذه الصلاة فكرة من محمد ما أمر بها، أو قال: لا فائدة، فيها أنها شاغلة عن الأعمال الدنيوية فلا فائدة فيها حتى ولو كان يصلي اعتبر كافراً.
أو جحد وجوب الزكاة المفروضة وادعى أنها تفليس وأنها ظلم، وأن الذي يأخذها من أهل الأموال إنما هي ضرائب لهم.
أو جحد وجوب الصوم وقال: إنه تكليف شاق، فماذا يفيد كونهم يظمئون أنفسهم ويجيعون أنفسهم؟! يكون بذلك كافراً مرتداً.
أو جحد وجوب الحج، حتى ولو حج اعتبر بذلك مرتداًً.
أو شرعية الجهاد وقال: إن هذا خطأ، حيث يكلف الإنسان أن يتعرض لقتل نفسه ويتعرض لأن يقتل، أو جحد أيضاً إباحة النكاح، أو حرم النكاح الحلال، أو حرم الطلاق وقال: لا يباح أنه يطلق، وكذلك الذين حرموا تعدد الزوجات وقالوا: إن هذا ظلم للمرأة أن يتزوج عليها.
أو أباحوا للمرأة أن تتزوج اثنين يجتمعان في وطئها، أو كذلك من أباح نكاح ذوات المحارم كالبنات والأخوات.
وكذلك لو جحد حكماً ظاهراً مجمعاً عليه، كما إذا أباح الزنا وقال: إن الشرع أخطأ حيث حرمه إذا بذلت المرأة نفسها باختيارها، فتحريمه غلط، فهو لا بأس به، أو أباح الخمر وقال: إنها شراب طيب، كيف يحرمها الشرع؟! لقد أخطأ في تحريمها حتى ولو كان لا يشربها، أو أباح الربا وقال: إنما البيع مثل الربا لا فرق بينهما، فلماذا حرم هذا وأحل هذا؟! أو أباح أو حرم شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة تحليله أو تحريمه، فلو حرم مثلاً أكل الخبز التي هي إنتاج طيب، أو أباح أكل الرشوة، أو أباح قتل المسلم بغير حق، أو ما أشبه ذلك كفر، وذكرنا أن بعضهم أوصلها إلى مائة من الخصال التي يكفر بها.(81/7)
الاستهزاء بشيء من أحكام الدين
يكثر الاستهتار بأحكام الإسلام، وذلك أن كثيراً من ضعاف الإيمان يضحكون من المؤمنين ويسخرون منهم، وهذه السخرية لا شك أنها ذنب كبير قد يوقع في الكفر والردة، وفي القرآن قصة الساخرين الذين حكم الله تعالى بردتهم في غزوة تبوك يوم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم والقراء الذين معه- أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.
وكذبوا، فليسوا أرغب بطوناً، ليس همهم بطونهم ولا همهم فروجهم.
وحدث قبل أربعين سنة أو ثلاث وأربعين أن اليهود نشروا صورة كاريكاتير في صحفهم، ثم التقطها أيضاً أتباع لهم من أهل مصر ونشروها، حيث صوروا صورة ديك وكتبوا تحته بخط عريض بالعامية معناه: (هذا محمد أفندي المتزوج تسعاً) هكذا تجرءوا هذه الجرأة! صوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة ديك، وادعوا أنه ليس له هم إلا فرجه، وأنه من أجل شهوته تزوج تسعاً، والتقطها بعض المصريين ونشروها كأنهم مقرون لها، ثم رد عليهم أحد علماء مصر واستبشع قولهم، وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رسالة رداً عليهم على هذه المقالة، ورداً على جمال في قوله بالاشتراكية في تلك السنوات، حيث أمم كثيراً من الأموال وانتزعها وقال: إن الناس شركاء، وعنوان رسالة الشيخ رحمه الله: (ردة عن الإسلام واشتراكية الحرام!) ، فتكلم على تلك الصورة والذين أقروها من المصريين، واستبشع مقالتهم، وجعل هذا ردة عن الإسلام، ثم تكلم أيضاً عن الاشتراكية، فمثل هذه الكلمة تعتبر ردة.
ونقول: إن كثيراً من الناس يتهاونون في مثل هذه الكلمات، وقد عدت من أسباب الارتداد والعياذ بالله! قال الله تعالى في سورة البقرة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212] فالسخرية من الذين آمنوا تعتبر كفراً؛ لأنهم إذا سخروا منهم فكأنهم يسخرون من دينهم الذي يفتخرون به، وقال تعالى في قصة الذين قالوا مقولتهم في غزوة تبوك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65-66] ، فكفرهم بهذا الأمر {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] أي: دل على أنهم كانوا آمنوا، وأن هذه الكلمة ارتدوا بها وأصبحوا كافرين.
وقال تعالى أيضاً في سورة التوبة: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] ، هكذا عادة الكفار أنهم يسخرون من المؤمنين، كما قال الله تعالى في قصة نوح لهود: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] يعن: أنهم يسخرون من نوح وصناعته للسفينة، ولكن هكذا قال لهم، فأنت -مثلاً- إذا جاءك من يسخر بك فقل: ((إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ)) ، فالذين مثلاً يسخرون من اللحية ويقومون بمعاداة اللحى وصاروا يسخرون من الذين يربونها فيلمزونهم بأنها كأنها ذنب تيس وكأنها مكنسة بلدية، هذا سخرية من السنة، فقل لهم: ((إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)) ؛ لأن هذا استهزاء بالسنة، والسنة النبوية هي التي جاءت بهذا الأمر، ولا شك أن هذا سخرية بالشرع والشريعة، فيلحق بالمرتدين والعياذ بالله، وقد سماهم الله تعالى المجرمين، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إلى آخر السورة.
يعني أنهم يتنقصونهم ويقولون: هؤلاء مساكين، أضاعوا حياتهم في تعلم هذه الأبواب، تعلم صلاة، وتعلم طهارة، وتعلم صيام، وفاتهم السبق والتقدم، فالناس وصلوا إلى الأفلاك العليا، ووصلوا إلى القمر، وصنعوا الذرة ونحو ذلك، وأما هؤلاء فإنهم أضاعوا أعمارهم يتعلمون باب التيمم، وباب الحيض وباب إزالة النجاسة وباب كذا وكذا، فلا يستفيدون إلا هذه العلوم التي نقصت أعمارهم وضيعت عليهم تقدمهم، أليس هذا سخرية؟ نعم إنه سخرية بعلوم الشريعة، وإنهم وإن تعلموا ما يقولون فإنه قد فاتهم الخير الكثير.(81/8)
تنقص أهل الأعمال الصالحة والدين
وكذلك أيضاً الذين يتنقصون أهل الأعمال الصالحة أهل الذكر والتسبيح وقراءة القرآن وعمارة المساجد والاعتكاف فيها، فيقولون: هؤلاء رجعيون! هؤلاء متأخرون! هؤلاء متخلفون! لا شك أن هذا أيضاً يعتبر كفراً ابتلي به كثير من الناس، يقول فيهم بعض المعاصرين: خفافيش هذا الوقت كان لها ضرر وأوباشها بين الورى شرها ظهر يعيبون أهل الدين من جهلهم بهم كما عابت الكفار من جاء من مضر يقولون رجعيون لما تمسكوا بنص من الوحيين كان له أثر وإعفاؤهم تلك اللحى لجمالها وترك سواد حين كان به غرر وحملهم تلك العصي لأنها لديهم حماقات ومسواك مطهر يعيبونهم حتى بالسواك، مع أنهم جعلوا بدل السواك السني السجائر والعياذ بالله، فيفخرون بالسجائر، فلو أشعل أحدهم سجارته أخذ يتمايل ويفتخر، وإذا رأى من أمسك سواكاً وأخذ يدلك به جعل يتنقصه ويعيبه، فمثل هؤلاء يعتبرون مرتدين إذا كانوا يستبيحون مثل هذا.
وبذلك تعرف أن أمر الردة أمر خطير، وأنه يدخل فيه كل من يستهزئ بشيء من الشريعة، وأنهم سوف يعذبون في الآخرة، اقرأ قول الله تعالى في سورة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قال الله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108-110] اتخذتموهم سخرياً لما كانوا يدعون ويتعبدون وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون:111] ، فيحذر المسلم أن يقع في الردة وهو لا يشعر، فيستعمل مثل هذه الكلمات التي خطرها كبير، فيقع في تنقص الدين، أو تنقص المؤمنين لأجل إيمانهم ولأجل عقيدتهم ولأجل علومهم الشرعية، فيهلك ويحبط عمله وهو لا يشعر، يتساهل بكلمة يقولها وقد يقولها مازحاً، وقد يقولها ضاحكاً ولا يعلم أنها تتلفه، وأنها تهلك عليه أمر دينه ودنياه، وأنه أهل لذلك أن يقام عليه حد الردة.
يقول: إذا فعل ذلك الكفر [فيستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل] .
لا شك أنه إذا عرض عليه القتل وقيل له: إنا سنقتلك فسيظهر التوبة والندم خوفاً من القتل، ولكن إذا عرف بأن توبته توبة الكذابين فلا يقبل منه.
وذكر أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: عسى الغوير أبؤساً.
وهذا مثل قديم مضروب، يعني: ماذا عندك من الأخبار؟ فقال: رجل ارتد بعد إيمانه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: (هلا استتبتموه ثلاثة أيام ومنعتم عنه الطعام والشراب لعله أن يتوب؟! اللهم! إني أبرأ إليك مما فعلوا) ، فأخذوا من هذا أنه لا بد أن يستتاب، فيحبس ويجوع ويضيق عليه ويقال: إن لم تتب قتلناك، فإذا أصر ثلاثة أيام وهو يهدد وقال: لا أتوب ولا أتغير ولا أتبدل فإنه -والحال هذه- يقتل، وإذا قتل فإنه يقتل كافراً، وحينئذ لا يرثه أقاربه المسلمون، ولا يورث، وماله يكون فيئاً لبيت المال، ولا يصلى عليه إذا قتل على ذلك، ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يدفن بعيداً، ويوارى إذا لم يجد من يواريه.(81/9)
الذين لا تقبل توبتهم(81/10)
من سب الله ورسوله
يقول: [ولا تقبل ظاهراً -يعني: التوبة- ممن سب الله أو رسوله] ؛ لأن السب هذا فيه دليل على أنها عقيدة في قلبه، فحينئذ لا تقبل توبته ولو قال: إني أتوب، وذلك لأن هذا دليل على أن قلبه مطمئن بالكفر؛ لأنه هكذا شأنه، كالمنافقين الذين قال الله تعالى عنهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] .
ذكر أن يهودياً في الشام في حدود سنة عشرين وسبعمائة أخذ يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه كذاب، وإنه مفترٍ، وإنه وإنه فلما ظهر من أمره هذا السب المعلن غضب عليه العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب كتابه المشهور: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وأورد فيه الأدلة فأطال وبسط فيه الكلام، وخلاصة كلامه أنه لا تقبل توبة مثل هذا ولو ادعى توبة، وإن كان من المعاهدين، ومن أهل الجزية الذميين فإنه ينتقض بذلك عهده، وإنه لتظاهره بهذا السب يجب قتله، وأورد أدلة كثيرة في أول الكتاب، فذكر قصة رجل كان عنده جارية مملوكة، ولكنها كانت كافرة، وكان قد تسراها فولدت له ولدين، فكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك قتلها، فلما قتلها ذكر ذلك لـ عمر بن الخطاب فمدحه على قتلها لأنها تسب النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك كثير.(81/11)
من تكررت ردته
يقول: [أو تكررت ردته] .
أي: لا تقبل توبة من تكررت ردته، وذلك لأن تكررها يدل على امتلاء قلبه بالكفر، فإذا تكلم -مثلاً بالكفر- ثم بعد ذلك استتيب فتاب، ثم ذكر عنه وثبت عنه أنه تكلم بكلمة كفر أو سخرية، ثم استتيب فتاب، ثم عاد مرة ثالثة عرف بذلك أنه مرتد، وأن قلبه مليء بالنفاق والكفر، فلا يقبل منه الرجوع، ولا تقبل منه التوبة.(81/12)
المنافق لا تقبل توبته
ولا تقبل توبة المنافق، ويسمى الزنديق الذي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، إذا عرف بأنه يميل مع الكفار وأنه كما قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] ، وأنهم يتربصون بالمؤمنين الدوائر: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] ، فمثل هؤلاء ظاهرهم مع المؤمنين، وباطنهم مع الكفار، فمثل هؤلاء زنادقة لا تقبل توبتهم، وكذلك إذا استمروا على ذلك فالعادة أن دياناتهم وأعمالهم لا تتغير، سيما إذا طعن أحدهم في السن.
ذكر أن أحد الزنادقة أحضر عند المهدي وقرره، فثبت عنده أنه زنديق فأمر بقتله، فقال ذلك المنافق والزنديق: هب أنك قتلتني، كيف تصنع بأربعة آلاف حديث كذبتها على نبيكم؟! فقال: تعيش لها نقادها يعني أن الله تعالى حفظ دينه، وهناك من ينتقدها، ويبينها، ومن يحذر منها.
وأحضر إليه رجل أديب ولكنه متهم أيضاً بالزندقة، فاستتابه فأظهر التوبة، ولما عفا عنه تذكر أبياتاً له فرده وقتله بسببها، وهي قوله: وإن من أدبته في الصبى كالزرع يسقى الماء في غرسه والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنا عاد إلى نكسه فقال: أنت شيخ -يعني: كبير- فلا تترك أخلاقك، وقد اعترفت على نفسك.
فقوله: (والشيخ لا يترك أخلاقه) يعني: كبير السن (حتى يوارى في ثرى رمسه) يعني: حتى يدفن، (إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنا) : يعني: المرض (عاد إلى نكسه) ، فقتله على زندقتة في هذه الأبيات.(81/13)
الساحر لا تقبل توبته
ولا تقبل توبة الساحر، وذلك لأنه يخفي عمله، ولأنه ورد أن قتله حد، وحد الساحر ضربة بالسيف، والصحابة قتلوا بدون استتابة، ففي حديث بجالة قال: (جاءنا كتاب عمر أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر) ، وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، وكذلك صح عن جندب، فهكذا هؤلاء لا تقبل توبتهم، فمن سب الله أو رسوله، أو تكررت ردته، أو ثبت نفاقه، أو عمل سحراً يقتل، ويمكن أن يقبل من بعضهم إذا ثبت رجوعه عن ذلك العمل ولم يعد إليه.(81/14)
التوبة وشروطها
والتوبة واجبة من كل ذنب، ولكن من مثل هذا الأمور التي هي أمور ردة واجبة متحتمة وشروطها: الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود، ورد المظالم إلى أهلها.
والإقلاع يعني: ترك ذلك الذنب، سواء أكان كفراً أم معصية، فالذي يقول بلسانه: أنا تائب، ولكنه مصر ومستمر على هذا الذنب لا يقبل منه.
وكذلك الذي لا يندم، يتمدح ويقول: أنا الذي قتلت فلاناً! أنا قد زنيت كذا وكذا أنا الذي سببت فلاناً! أنا الذي سخرت من كذا وكذا يتمدح بأفعاله ولا يتأسف عليها، وهكذا الذي يحدث نفسه أنه سوف يعود إلى الذنب، سوف يعود إليه إذا تسنى له، لا تقبل توبته.
ويشترط إذا كانت التوبة من حقوق آدميين أن يردها إليهم، فإن كان قتلاً مكن من نفسه وقال: أنا الذي قتلت ابنكم، وإن كان ضرباً قال: أنا الذي ضربت أو أنا الذي قطعت يده أو إصبعه، وإن كان مالاً قال: هذا مالكم الذي سرقته أو الذي نهبته أو جحدته، يرد المظالم.
فإذا كان الذنب غيبة أو قذفاً فهل يستحلهم فيقول: أنا يا فلان اغتبتك فاجعلني في حل؟ لا يشترط ذلك، ولكن يمدحه في الأماكن الذي كان يغتابه فيها، ولا يشترط أن يقول: أبحني أو أحلني، بل يمدحه ويثني عليه، ويستغفر الله من ذلك الذنب، وهكذا إذا كان الذنب قذفاً، والقذف: الرمي بفعل فاحشة فلا يحتاج أن يأتي إليه ويقول: اجعلني في حل فإني قد رميتك وقلت: إنك زان أو إنك لوطي.
لا يشترط ذلك.(81/15)
أحكام الأطعمة(81/16)
كل طعام ظاهر لا مضرة فيه فهو حلال
ذكرنا أن الفصل الذي بعده يتعلق بالأطعمة، وبعض العلماء يذكرون الأطعمة مع المعاملات، أي: مع البيع والشراء والإجارة؛ لأنه فيها بيان ما هو مأكول وما ليس بمأكول، ولكن ذكروها ها هنا لأن أكثر ما ذكروه من المباحات هو الحيوانات التي تحتاج إلى ذبح، ولذلك ذكروا بعده الذكاة، وذكروا بعده الصيد، فكأنهم لما ذكروا القصاص والحدود قالوا: هذا ما يتعلق بالآدمي فكيف ما يتعلق بالحيوان؟! فقالوا: إن هناك ما يقتل من الحيوانات كالكلاب الضارية والسباع ونحوها، فإنها تقتل في الحرم والإحرام، ورد أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها فقال: (خمس من الفواسق تقتل في الحل والحرم: وذكر منها الكلب العقور) ، فعند ذلك قالوا: نحتاج إلى أن نعرف ما يقتل من هذا الحيوان، وما يؤكل، وما ليس بمأكول، فذكروا بعد ذلك الأطعمة، فكل طعام طاهر لا مضرة فيه حلال، وأصله الحل من النباتات والثمار والحيوانات وما أشبه ذلك، والأطعمة يأكل الإنسان منها ما يناسبه، وتأكل الحيوانات من يناسبها من النباتات، قال الله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] يعني: من هذا النبات وقد يكون بعض النبات يناسب الإنسان أن يأكل منه كبعض أوراق الزرع أو ما أشبهه، وثمره الذي هو السنبل، وثمر النخل الذي هو التمر، وثمر العنب الذي هو الزبيب، وثمر التين والتوت، وثمر الرمان، وأشباه ذلك من الثمار التي هي من الطيبات، فطعام طاهر طيب مغذٍ ليس فيه مضرة مباح وحلال.
وأما إذا كان فيه مضرة ولو كان يأكله بعض الناس فإنه يكون حراماً، فهناك مثلاً ما يسمى بالحشيش، فإنه يأكله كثير من الناس، ولكنه محرم لأنه مضر، وهناك ما يصنع من عصير العنب حتى يسكر وهو الخمر، فهذا ولو شربه كثيرون لكنه حرام، ولو قالوا: إنه شراب طيب لكنه مضر بالعقل فيكون حراماً، وهناك -مثلاً- ما يسمى بالقات يأكله كثيرون، ولكنه مضر فيه مضرة، ولو كثر الذين يأكلونه فيكون حراما، ً ولا عبرة بمن يستحلونه فيدعون أنه مأكول وأن فيه وفيه، لا عبرة بهم، فإنهم كالبهائم التي تستحلي ما هو مر في ذوق الإنسان وتستجيز ما فيه مضرة.
والذين يشربون الدخان يعرفون بأنه مضر ويعترفون بذلك، ومع ذلك يستمرون فيه فلا عبرة بهم، والذين يشربون الخمر قد يعترفون بأنها حرام، ولكن مع ذلك يصرون على شربها، وكذلك الذين يأكلون الحشيش، وهو نوع من النباتات مضر، ظهر في حدود القرن السادس وانتشر الأكل منه، وأفتى العلماء بتحريمه، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخمر بمنزلة الأبوال والحشيش بمنزلة العذرة، والعذرة: الغائط الذي يخرج من الإنسان، تنفيراً منه، ومع ذلك يكثر الذين يأكلونه، وكذلك الذين يستبيحون أكل هذا النبات الخبيث القات، وثمر آخر يقال له: (الجيرو) ، قد يكون أخف ضرراً من القات، ولكن لا منفعة فيه، قد يكون ثمنه رفيعاً، ونبات آخر رائحته قبيحة يسمونه: (البردقان) ، وليس هو البرتقال حيث هو من الطيبات، ولكن البردقان نبات رائحته خبيثة، وكذلك ما يسمى بالشمة التي يمضغونها، هؤلاء لا شك أنهم استحسنوا القبيح فلا عبرة بهم، ولو ادعوا أن هذا من الطيبات فإنه من الخبائث، فلا يغتر بكثرة من يتعاطى أو من يمدحه، وفيما يظهر أن الشيخ الحكمي رحمه الله أول من نظم منظومته لما سئل عن القات، فنظم فيه منظومة تائية في تحريمه وبيان آفاته، وذكر من مضاره أنه يضيع الصلاة، يقول في منظومته: إن جاءه الظهر فالوسطى يضيعها أو مغرب فعشاء قط لن يأتي وإن أتاها فمع سهو ووسوسة يعني: يأتيها وهو غير عاقل.
ورد عليه بعض علماء اليمن يقال له: ابن المهدي رداً ضعيفاً، ثم جاءه ذلك الرد فرد عليه أيضاً نظماً، في منظومة طويلة استفتحها بالتاء: الحمد لله في كل البريات وبدء كل شئوني واختتاماتي ثم الصلاة على ختم النبوات محمد من أتانا بالكرامات فما يدل على تمكنه رحمه الله.(81/17)
كل نجس ومضر فهو حرام
يقول: [وحرم نجس] .
كل شيء نجس فهو محرم، كالدم، فهو نجس لأن الله تعالى حرمه، والميتة نجسة، فيحرم أكلها إلا ما ذكره الله في قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، ولحم الخنزير نجس، ومثله أيضاً المحرم من الحيوانات، وكل ما هو مضر مثل السم، ويذكر في اللغة أنه مثلث السين: (السُّم والسِّم والسَّم) ، فكل ما يقتل إذا أكل أو إذا شرب فهو من السموم.
وكذلك ما هو مضر من الحيوانات البرية، فيحرم منها ما يفترس بنابه كالأسد والنمر والفهد والثعلب وابن آوى وابن عرس، فهذه تفترس ولها ناب، ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل ذي ناب من السباع) التي لها ناب تفترس به وتعدو على الناس، واستثني الضبع، وحرمه أكثر العلماء، وأباحه الإمام أحمد؛ لأنه ورد فيه حديث، ولكن الأقرب أنه حرام، وذلك لأنه ذو ناب ولأنه يفترس، ولأنه يأكل الجيف، فيكون بذلك أقرب إلى كونه محرماً.
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والمخلب: هو أصابعه المحددة، والطيور بعضها أصابعه محددة يفترس بها، ويأخذ صيده بها، وقد يمسك الشيء الثقيل بمخالبه ويرتفع به، فيصيد بمخلبه، كعقاب وصقر وغراب وباز وباشق، وما أشبهها هذه أيضاً محرمة؛ لأنها لها مخلب تفترس به.
وكذلك كل ما يأكل الجيف: كالكلاب والسنانير -القطط- ومن الطير: النسور والرخم وما أشبهها مما يأكل الجيف؛ لأن الجيف محرمة، وما أكلها فهو محرم، وكذلك كل ما تستخبثه العرب ذوو اليسار، أي: العرب الذي هم أهل يسار وسعة من الرزق، بخلاف الضعفاء والفقراء ونحوهم، فإنهم قد يأكلون الخبائث، وقد تأتي إلى بعضهم فتقول لهم: ماذا تأكلون من الدواب؟ فيقولون: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حبين.
وهي دابة كهيئة الخنفساء، يأكلون كل ما دب ودرج، فيأكلون الفئران، والخنافس، والحشرات التي يمكن أن يصيدوها، والزنابير والفراش وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه مستخبثة، وهناك طير يقال له: (الوطواط) أيضاً محرم؛ لأنه مستخبث، والقنفذ وهو الذي عليه شوك، على جلده، والنيص، وهو مثل القنفذ إلا أنه أكبر منه، وشوكه طويل قد اكتسى لجلده، فإذا جاءه أحد فإنه ينفض جلده وتطير الشوكة نحو عشرة أمتار لتصل إلى الذي يريد أن يرميه.(81/18)
ما تولد من مأكول اللحم وغيره فهو حرام
قال: [وما تولد من مأكول وغيره كبغل] ، لأنه يتولد من الحمار والخيل فيكون محرماً، فهذه هي المحرمات من الحيوانات، وذكروا أن مما حرم في الحديث الحمر الأهلية لأنها مستخبثة ولو كانت من بهيمة الأنعام، ومما حرم أيضاً ما يتغذى بالنجاسة كالجلالة من الإبل أو البقر أو الغنم، وهي التي تأكل العذرة إلحاقاً لها بالمستخبث إذا كان أكثر طعامها من هذه النجاسات، تتبع العذرة وتأكلها، فتكون بذلك تأكل النجاسة، يقولون: لا يشرب لبنها، ولا يؤكل لحمها حتى تحبس أربعين يوماً -كما ذكر ذلك بعضهم- وتطعم حلالاً حتى يطيب لحمها وكذا يحبس غيرها، وهكذا أيضاً الدجاج الذي يأكل العذرة فإنه لا يحل حتى يطيب لحمه بأن يحبس -قيل: ثلاثة أيام وقيل: عشرة- ويطعم حلالاً.(81/19)
جواز أكل حيوانات البحر إلا ما استثني من الضفدع والتمساح والحية
يقول: [ويباح حيوان البحر كله سوى ضفدع وتمساح وحية] .
الضفدع تخرج في البر، تخرج على الساحل ولها نقيق، فتكون ليست من حيوانات البحر، فحيوان البحر هو الذي لا يعيش إلا في البحر، والتمساح لا يعيش إلا في البحر، ولكن قيل: إنه سام أو مضر، وحية البحر مثل حية البر وإن لم يكن فيها سم، وبقية حيوان البحر تكون حلالاً.(81/20)
ما يجوز أكله عند الاضطرار
قال: [ومن اضطر أكل وجوباً من محرم غير سم ما يسد رمقه] .
إذا اضطر ووجد ميتة أو وجد غير مباح كأسد ميت أو ثعلب أو قط أو غراب فله أن يأكل منه ما يسد رمقه، يأكل ما ليس بضار، أما الشيء الضار كالسم فليس له أكله لأنه يقتل.(81/21)
أحكام الضيافة
ثم بعد ذلك ذكر الضيافة، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ، أخبر الله تعالى بأن إبراهيم كان يكرم الضيف، كل من نزل به أكرمه، وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته؟ قال: يومه وليليته، ثم قال: والضيافة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يأوي عنده حتى يحرجه) .
وقديماً كان المسافرون يأتون على أرجلهم وليس مع أحدهم متاع، فيمر بقرية فينزل عند بعض المنازل أو بعض أهل البيوت، وإذا نزل علق متاعه أو نعليه وصار بذلك ضيفاً، وصاحب المنزل يطعمه غداءً وعشاءً كعادة أهل البلد، يطعمه مما يأكله هو وأهله، هذا هو الإكرام، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، والضيافة في الأصل يوم وليلة، وإذا زاد فإنها ثلاثة أيام، فإن زاد على الثلاثة فله أن يعتذر منه ويقول: قد انتهت مدة الضيافة فانتقل عني، كذلك يقول: لا يحل للضيف أن يأوي عند صاحب البيت حتى يحرجه ويشق عليه، بل يكون خفيفاً ولا يضجر صاحب البيت.
ويلزم المسلم ضيافة المسلم المسافر، وخصه بقوله: [في قرية لا مصر] ، فالضيافة تكون في القرى، وذلك لأنه إذا نزل في قرية قد لا يجد مكاناً يأوي إليه، فيحتاج إلى أن ينزل مقابل صاحب بيت ينيخ راحلته، فيعرف صاحب البيت أنه قد وافاه، فعليه أن يضيفه ويكرمه ولا يكن كمن قال فيهم تعالى: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] يعني: يكرموهما، أما في المصر أو في المدن الكبار فلا يلزم ذلك؛ لأنه في الاستطاعة، في إمكانه أن يجد المطاعم والفنادق، فيأكل في الفندق ويكرم نفسه، أو يأكل في المطعم، وسيجد ما يسد حاجته، ولا يحتاج إلى أن يضيف، إلا إذا كان له قريب أو صديق واستضافه فله أن يستضيفه، وأن ينزل عنده، بخلاف القرى فإنها لا توجد فيها المطاعم وما أشبهها، وغالباً يخجل أن ينزل أمام أهل قرية وينصب قدره ويوقد ناره ويخبز والناس ينظرون إليه، يخجل من ذلك، لأجل ذلك يضيف عند أحدهم، فيضيفونه يوماً وليلة قدر كفايته، والسنة ثلاثة أيام.(81/22)
أحكام الذبح
الفصل الذي بعده يتعلق بالذكاة.
يقول: [لا يباح حيوان يعيش في البر -غير جراد- إلا بذكاة] .
أي: لا يباح بغير ذكاة حيوان يعيش في البر غير جراد ونحوه.
والذكاة: هي الذبح بالسكين ونحوها، والجراد يباح أكله، كما في حديث ابن عمر: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالجراد والحوت) يعني: السمك لا يحتاج إلى ذكاة (وأما الدمان: فالكبد والطحال) ، فأما غير ذلك من الحيوانات فلا بد من الذكاة، قال الله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] أي: هذه المحرمات من قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة:3] هذه كلها محرمة إلا ما ذكيتم، زالمنخنقة: التي تختنق بحبل، فإن أدركوها قبل أن تموت وذكوها -ذبحوها- فهي حلال، والموقوذة: التي ترمى بحجارة، فإذا ماتت قبل أن يذبحوها فهي حرام، فإن أدركوها حية وذبحوها وتحركت عند الذبح فهي حلال، والمتردية: التي تسقط من رأس جبل، فإذا ماتت قبل أن تصل إلى الأرض حرمت، فإن أدركوها وهي حية وذكوها فهي حلال، والنطيحة: التي تنطحها شاة أو بقرة وتموت من النطح، فإن أدركوها وذكوها فهي حلال، وأكيلة السبع: التي ينهشها السبع -الذئب أو الأسد أو النمر- فيجدونها قد نهشها، فإن أدركوها حية وذبحوها فهي مذكاة.(81/23)
شروط التذكية الشرعية
وشروط الذكاة أربعة: أهلية المذكي، والآلة، وقطع الحلقوم والمري، وذكر اسم الله.(81/24)
كون الذابح عاقلاً مميزاً
الشرط الأول: كون الذابح عاقلاً مميزاً، فإذا كان الذابح صبياً لا يميز فلا تحل ذبيحته، أما إذا كان مميزاً -أي: أكبر من سبع سنين- يعقل حلت ذبيحته، وإذا كان مجنوناً فإن ذبحه يكون بغير نية فلا تحل ذبيحته، وتحل ذبيحة الكتابي؛ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ، فسر طعامهم بأنه ذبحهم، وذلك لأن من شرعهم أن يذبحوا ذبحاً شرعياً فيذبحوا بالسكين، وكذلك يذكرون اسم الله عند الذبح، فإذا ذبحوا ذبحاً شرعياً حل ذبحهم.
أما في هذه الأزمنة فالغالب أنهم لا يذبحون ذبحاً شرعياً لأمور: أولاً: أنهم أو كلهم لا يذكرون اسم الله.
ثانياً: أنهم لا يذبحون، وإنما يسلطون عليها آلات تقطعها من الخلف، يقتلون -مثلاً- البقر أو الغنم، فيصفونها ثم يغمزون هذا المسمار فيأتي عليها من رءوسها فيقطعها من الخلف فتسقط الرءوس، لكن يقول بعضهم: إذا كان مسمى وأتى السكين على الحلق قبل أن تموت فإنها تباح، أما لو قطع -مثلاً- العنق من فوق ولم يقطع الحلقوم ولا المريء ولم يقطع الودجين فإنه لا يسمى ذابحاً، وكثير منهم يقطعون عظم الرقبة ويبقى الرأس متدلياً، ولا يقطعون الحلقوم حتى تموت فيكون ذلك ذبحاً شرعياً.
كذلك الطيور عندما يذبحونها يعلقونها -مثلاً- بأرجلها، ثم تمر على ماء يغلي فتنغمس فيه، وإذا انغمست كشط جلدها، والغالب أنها تموت، فإذا خرجت من هذا الماء الحار مرت على سكينة لتقطع رءوسها، وأحياناً لحركتها لا تقطع إلا المنقار، وأحياناً لا تقطع الرأس بل تضرب المنقار فتتعدى وتسقط وهي حية -أي: ما قطع رأسها- في الكرتون، ثم تمر بعد ذلك على كماشة تأخذ الريش الذي عليها حتى تسلخها، ثم بعد ذلك تمر على آلة تقطع الرجل وتسقط، ولا شك أن مثل هؤلاء ما ذبحوا حتى ولو كانوا مسلمين، فلا يحل ذبحهم والحال هذه، أما إذا تحقق أنهم يذبحون بسكين حادة، وأنهم يصفون الدم فإنه يباح.
والحكمة من الذكاة خروج هذا الدم؛ لأن بقاء الدم في هذا الطير أو في هذا الحيوان يفسد لحمه، ولكن كثيراً من أهل المصانع يتركون الدم فيها لأنه يزيد في الوزن، فيزيد في الوزن -مثلاً- ولو جراماً أو جرامين؛ لأنهم يجهزون -مثلاً- مائة ألف من هذا الحيوان يومياً، وهذه الزيادة التي هي جرام تزيد في الثمن، فيأخذون عليها ثمناً، فلأجل ذلك يحاولون أن لا يقطعوا الرأس إلا بعد أن تموت ويبقى الدم فيها، فنقول: إن ذبحهم -والحال هذه- أقرب إلى أنه محرم، فمن التنزه أن لا تؤكل ذبائحهم، وهذه اللحوم المستوردة قد كتب فيها شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله رسالة مطبوعة بعنوان (اللحوم المستوردة) ورجح فيها أن لحومهم غالباً ليست مذبوحة ذباحاً شرعياً.(81/25)
كون الآلة المستخدمة حادة
الشرط الثاني: الآلة.
وهي: كل محدد يقطع غير سن وظفر، كما في حديث رافع بن خديج قالوا: (يا رسول الله! إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى - المدية: السكين - فهل نذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، غير السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) ، الحبشة الذين هم نصارى كانوا يذبحون بأظفارهم، فنهى عن الذبح بالظفر، ولو طيراً لا تذبحه بظفرك؛ فإن هذا تشبه بهم، وكذلك لا يذبح بسنه ولو عصفوراً، فإن ذلك أيضاً عظم، وكذلك أيضاً لا يذبح بعظم ولو لم يجد إلا عظماً لا يذبح به، أما إذا وجد حديدة محددة، أو وجد حجراً له طرف حاد، أو وجد عوداً له حد وذبح به فإنه يجزي، أو -كذلك- وجد زجاجة محددة أو ما أشبه ذلك، فكل محدد يقطع الجلد واللحم تصح التذكية به، غير السن والظفر.(81/26)
قطع الحلقوم والمريء
الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء، والحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام، والسكين لا بد أنه يقطع بها هذا الحلقوم الغليظ الذي يدخل معه النفس وهذا المريء الذي يدخل منه الطعام، يقطعه بالسكين ونحوها.
قال: [وسن قطع الودجين] بالطعن في جانبي العنق، وهما اللذان يخرج منهما الدم الكثير؛ لأن الحكمة في هذه الذكاة لأجل خروج الدم الذي هو محرم ويفسد اللحم.
قال: [وما عجز عنه كواقع في بئر ومتوحش ومترد يكفي جرحه حيث كان] ، وفي حديث رافع يقول: (ند بعير - هرب بعير - فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) ، فإذا هرب -مثلاً- ورموه بسهم فمات بسبب السهم فإنه حلال، سواء من الصيد أو من بهيمة الأنعام؛ لأن هذا السهم جرحه، ولا بد أنه خرج من هذا الجرح دم، فيكون بذلك صار حلالاً، وكذلك لو وقع في بئر، فإذا وقع جمل في بئر ولم يقدروا على إخراجه وعرفوا أنه سيموت، ينزلون عليه ويذبحونه، إن قدروا على أن يذبحوه في أصل الرقبة أو في أصل الرأس، فإذا لم يجدوا طعنوه في جنبه، أو طعنوه في فخذه حتى يموت بسبب سكين، والعادة أنه يخرج منه الدم، فيكون ذلك مبيحاً له مع ذكر اسم الله تعالى، وكذلك المتوحش، لو توحش تيس وهرب فرموه، فإنه إذا رموه وأصابوه بهذا السهم ومات بسببه إذا ذكروا اسم الله عليه حل أكله، والمتردي: الذي يسقط من جبل أو من سطح، إذا لم يجدوا إلا أن يجرحوه في الطريق، فإذا جرحوه في أي مكان يكفي جرحه حيث كان، في ظهره أو في فخذه أو غير ذلك.
فإن أعانه غيره فلا يحل، كما إذا كان رأسه في الماء وعرف أنه مات بسبب الغرق، فهذا البعير إذا انغمس رأسه في الماء ولم يستطع أن يخرجه، ولما وصلوا إليه وجدوه قد مات، ولو جرحوه فعادة لا يخرج منه الدم؛ لأنه قد مات، وإذا مات فإن الدم يتسرب في اللحم فلا يخرج، فلأجل ذلك إذا سقط البعير في البئر وانغمس رأسه في الماء، وجاءوا إليه وقد مات وطعنوه فإنه لا يحل؛ لأن الموت حصل بسبب انغماس رأسه في الماء، وكذلك كل ما كان موته بسبب مباح وغير مباح.(81/27)
التسمية
الشرط الرابع: التسمية.
أن يقول: (باسم الله) عند تحريك يده، ويسن التكبير، أن يقول: (باسم الله والله أكبر) ، قال: [وتسقط سهواً لا جهلاً] .
لو نسي التسمية وسها بسبب العجلة ونحوها سقطت التسمية وحلت الذبيحة، وأما إذا كان تركها جهلاً فلا تحل ذبيحته، ويذكر بعض الإخوان أنهم يأتون إلى بعض الذين يعملون في بيع الدواجن في بعض الأماكن، وأن أولئك الذين يذبحون من سرعتهم يذبح أحدهم وهو يتكلم ولا يذكر اسم الله، وغالبهم من المتعاقدين يقول: إنه قال لأحدهم: كيف تذبح ولا تسمي؟! فقال: أنا أسمي في قلبي.
يعني: أنه تكفيه التسمية في القلب فأنكر عليه وقال: لا بد من التسمية، فإذاً أنا لا أشتري منك وأنت لا تذكر اسم الله، يأخذ بالدجاجة ويقطع رأسها وهو يتكلم، ويضعها بمكان يصب فيه الدم، ثم يأخذ الثانية ويذبح بسرعة ولا يذكر اسم الله، فالواجب أنه يسمي عند كل واحدة يذبحها من دجاج أو حمام أو نحو ذلك.
كذلك الذين يذبحون الإبل ونحوها يذكر أيضاً أنهم يستأجرون عمالاً من أفارقة أو نحوهم، وهؤلاء أيضاً لا يذبحون الذبح الشرعي، يأخذون خشبة ثم يضربون بها البعير أو الثور في رأسه ضربات إلى أن يسقط، ثم بعد ذلك يشرعون في الذبح، وغالباً أنهم لا يعرفون التسمية، وإنما همهم أن يذبحوها بسرعة وأن يسلخوها ويرسلوها إلى صاحب اللحم الذي يبيعها لحماً، ولا يهمهم إلا أنهم يستأجرون عمالاً لأجل أن يريحوهم من هذا الذبح ومن هذا السلخ وما أشبه ذلك.
فالحاصل أنه لا بد أن يكون الذابح أهلاً، وأن يكونوا ممن يذبح ذبحاً شرعياً، وأن يكون ممن يذكرون اسم الله، وأنه إذا لم يذكر اسم الله تجاهلاً لا يحل، أما إذا ترك التسمية لعجلة أو نحو ذلك تهون، فإن ذلك يبيح ذكاته.(81/28)
أحكام أخرى في الذبح
بعد ذلك يقول: [وذكاة جنين خرج ميتاً أو نحوه بذكاة أمه] .(81/29)
ذكاة الجنين
هكذا جاء في الحديث: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) ، فإذا ذبحت الشاة الحامل، ولما ذبحوها وسلخوها وشقوا بطنها أخرجوا منها جنيناً صغيراً أو كبيراً ففي هذه الحال يجوز أكله ولا يحتاج إلى أن يذبح؛ لأنه تابع لأمه، فهو كجزء منها، وكذلك ولد البقرة أو الفرس، وولد الناقة إذا أخرج بعد أن ذبحت وقد مات، إما إذا أخرج حياً فإنه يذبح كما يذبح الحي.(81/30)
كراهية الذبح بآلة كالة
يقول: [وكرمت بآلة كالة] .
يكره الذبح بالآلة الكالة، وهي السكين التي ليست محددة، كأن تكون مثلمة، فلا يجوز الذبح بها، وذلك لأنه يعذب ذلك الحيوان من شدة حزه، وربما يبقى يقطع عشر دقائق أو ربع ساعة وهو يحز قبل أن يقطع الجلد، ثم يقطع اللحم، ثم يقطع الحلقوم، ثم يقطع المري، فيبقى مدة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ، والشفرة: هي السكين، تسمى شفرة وسكيناً ومدية، فينبغي أن تكون حادة حتى تقطع سريعاً، وحتى لا يعذب ذلك الحيوان إذا كانت الآلة التي يذبح بها كالة أي: متثلمة أو غير محددة.
ويكره أن يحدها بحضرة المذكى، فلا يحدها على حجر، أو على سكين، أو على حديدة والحيوان ينظر، بل يحدها بعيداً عنه؛ لأن الحيوان قد يكون له فطنة ومعرفة، فمثلاً: نقل في بعض الكتب يقول رجل: كنت أمسكت شاة أريد أن أذبحها، ولما عزمت على ذبحها جاءني رجل وأراد أن يكلمني، فألقيت السكين وأخذت أكلم الرجل، فقبضت الشاة السكين بفمها وذهبت بها، وحفرت بيدها بأصل الجدار، وألقت السكين ودفنتها في أصل الجدار، فقال: ألا تعجب ألا تعجب! يقول: فحلفت أني لا أذبح ذبيحة بعدها.
فهذه البهائم قد يكون لها شيء من الذكاء، فيكره أن يحدها والحيوان ينظر، ويكره أن يسلخها قبل زهوق الروح، وإذا ذبحها تركها حتى يخرج الدم، فإذا خرج الدم وزهقت الروح وسكنت عن الحركة وعلم موتها ابتدأ في سلخها، وسلخ الجلد: إزالته عن اللحم، ولا يكسر العنق أيضاً قبل زهوق الروح، والعادة أنهم يقطعون الحلقوم، ثم يقطعون المريء، ثم يقطعون الودجين، ثم يتركونه حتى يخرج الدم كله، ولا يكسرون العنق؛ لأن كسر العنق فيه تعذيب، وربما تموت بكسر عنقها ويتوقف الدم الباقي في العروق، فلا يكسر عنقها قبل زهوق الروح، أي: قبل أن تخرج الروح ويخرج الدم كله.(81/31)
كراهية نفخ اللحم
قال: [ونقخ لحم بيع] .
أي: يكره نفخ اللحم للبيع، فبعض القصابين إذا أرادوا أن يذبحوا شاة أو نحوها ينفخونها حتى ينتفخ اللحم، وبعضهم يسقونها ملحاً حتى تنتفخ، فإذا جاء المشتري ورأى اللحم كثيراً ظن أنه لحم وإنما هو نفخ، فيكره نفخه إذا كان لأجل البيع.(81/32)
سنة توجيه الذبيحة إلى القبلة
ويسن عند الذبح توجيه الذبيحة إلى القبلة؛ لأن القبلة هي أشرف الجهات، وليس ذلك شرطاً، فلو ذبحها لغير القبلة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أجزأت، وكذلك أيضاً يسن أن تكون البقر والغنم على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، وأما الإبل فتنحر قائمة، هذا إذا كانت مما يكون من المناسك، فتكون قائمة ومعقولة يدها اليسرى، ويمسك رأسها ويلويه إلى جنبها، ثم يطعنها في الوحدة التي بين أصل العنق والنحر، فإذا سقطت ابتدأ في سلخها لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] ، وكذلك يرفق بها، فلا يؤلمها ألماً شديداً كالذي ذكرنا قبل ذبحها، يضربونها إلى أن تسقط، وقد يضربونها مع جنبها إلى أن تسقط، وهذا تعذيب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، فلا بد أنهم يرفقون به.(81/33)
التكبير مع التسمية
ويسن التكبير، والتكبير مع التسمية أن يقول: (باسم الله والله أكبر) ، وإذا كانت الذبيحة مما يتقرب بها إلى الله فإنه مع ذلك يدعو بقوله: اللهم! تقبل مني نسكي.
اللهم! هذا منك ولك.
أو ما أشبه ذلك.(81/34)
الأسئلة(81/35)
سبب عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين
السؤال
كيف يقتل المنافق مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين في عهده وهو يعلم أنهم منافقون؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم بعلمه، ولم يكن هناك بينات تدل على أن فلاناً منهم وفلاناً، فكره أن يحكم بعلمه وأن يقتلهم بموجب ما يعلم منهم، وأيضاً خشي أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه؛ لأنهم يظهرون الإسلام للناس، وأيضاً لهم عشائر وقبائل يغضبون لأجلهم، فلأجل ذلك كره أن يعاملهم بعلمه.(81/36)
لزوم إقامة الحجة على المستهزئ بالصالحين
السؤال
الحالات التي ذكرت وهي تخرج الإنسان من الملة -خاصة الاستهزاء بالدين والسنة وبالملتزمين- قل من ينجو منها في عصرنا هذا -وللأسف- من عامة الناس ومن غيرهم، فهذا عن جهلهم، فهل يخرجون من الملة؟
الجواب
يعلمون وينصحون، وذلك لأنهم يفعلون ذلك عن تساهل، وهذه الكلمات التي تصدر منهم يفعلونها عن تساهل، ولو علموا خطرها لتركوا إن كانوا ذوي علم، فإذا أصروا على ذلك واستمروا عرف بذلك أنهم مرتدون فيعاملون معاملة المرتد.(81/37)
التكذيب بكون المرأة خلقت من ضلع أعوج
السؤال
نشر في إحدى الجرائد قبل فترة ليست بالبعيدة قول شاعرة تقول في شعرها: ملعون يا سيدتي من قال فيك: إنك خرجت من ضلع أعوج.
فهل تكفر بذلك؟
الجواب
لا شك أن هذا طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج) نعوذ بالله! وهذا -بغير شك- إذا تحقق فإنها تكون مرتدة، وتعامل معاملة المرتد، فتستتاب فإن تابت وإلا قتلت.(81/38)
بيان معنى قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)
السؤال
في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] استدل بعض الملحدين بهذه الآية قائلاً: صرح الله في هذه الآية على أنه لا إجبار في الإسلام، فلماذا يأتي حكم المرتد بالقتل؟
الجواب
قيل إن الآية منسوخة، وإذا لم تكن منسوخة فإنها في أهل الذمة، أي: أهل الكتاب، لا نكرههم على ديننا، بل إذا اختاروا العهد عاهدناهم، وإذا اختاروا الذمة أبقيناهم على ذمتهم، وإذا اختاروا الجزية أبقيناهم ولا نكرههم، وذلك لأن هذا قد يكون سبباً بعد ذلك في دخولهم الإسلام، فأما الكفار والمشركون فإنهم يخيرون بين الإسلام أو القتل.(81/39)
لا يشترط الاستحلال في سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
الذي يسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما رأيكم فيمن يقول: إنه ليس بكافر، ولا بد أن يكون مستحلاً؟
الجواب
لا شك أنه كافر، وأما كونه مستحلاً أو غير مستحل فهذا شيء خفي، ونحن نعامله بالظاهر، ثبت أن عمر رضي الله عنه قال: (إن الوحي انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه، ومن أظهر لنا شراً كرهناه وأبعدناه) ، ونحن نأخذهم بالظاهر، حتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) .(81/40)
حكم من يسب الله إغاظة للملتزمين
السؤال
أحياناً أكون أمشي في الشارع في بلدي، فعندما يرى بعض الأشخاص أني مسلم وملتزم يسبون الله بصوت مرتفع حتى يسمعوني، فهل أضرب الشاتم إن استطعت، أم ماذا أفعل؟
الجواب
لا شك أن هذا كفر، ومثل هؤلاء ليسوا بمسلمين، الذين يسبون الله أمام المسلمين حتى يثيروا غضب المسلم، فإن كان لك ولاية، أو كان هناك من لهم قوة فإن عليكم أن تنفذوا الحكم فيهم بقتلهم أو بقتالهم، وإلا فالتحذير منهم، وإلا فالرد عليهم.(81/41)
وجوب التسمية عند ذبح كل دجاجة
السؤال
هل يجوز لمؤسسة تبيع الدجاج أن تكتفي بالتسمية على أول دجاجة وبقية الدجاج لا يذكرون اسم الله عليها؟
الجواب
لا يجوز، فلا بد من التسمية عند كل واحدة ولو كانت مائة ألف، فالأصل أنهم يذبحون كل واحدة وحدها بالسكين، والتسمية سهلة ليس فيها مشقة، وكذلك أيضاً إذا كانت تذبح بسكين الآلة التي يعلقون فيها الدجاج حيث إن هناك أشرطة وخطاطيف يعلقون بها الدجاج أو الطير في أرجلها، ثم هذه الخطاطيف تمر على هذا الماء فتنغمس فيه هذه الدجاجة أو هذا الطير وهو حار فيسلخ جلدها، ثم بعد ذلك تمر على سكين فتقطع رأسها، فإن كانت قد ماتت بهذا الماء الحار حرمت، وإن كانت خرجت حية فلا بد من التسمية عند قطع رأسها بتلك السكين وإلا فلا تحل.(81/42)
حكم أكل النيص والقنفذ
السؤال
تختلف الأعراف من بلد إلى بلد، فعند بعض الناس لا يستقذرون القنفذ، وبعضهم لا يستقذرون النيص، فهل يجوز أكله عندهم؟
الجواب
لا شك أن هناك مذاهب، وأوسعها مذهب المالكية، فإنهم يرون إباحة أكل السباع أو كثير من السباع وكثير من الطير ولو كانت مما نهي عن قتله أو أمر بقتله، أو كان له ناب من السباع أو له مخلب من الطير، والمذاهب تختلف، ولكن إذا ترجح لك أن هذا محرم لثبوت الحديث فيه فلا تعمل بأي مذهب يخالف ذلك.
والنيص فيه خلاف، قالوا: إنه لا يأكل إلا عروق الشجر، ولا يأكل الجيف ونحوها.
فلذلك أباحه بعضهم، ولكن العرب تستخبثه.(81/43)
حكم أكل خنزير وكلب البحر
السؤال
ما حكم أكل خنزير البحر وكلب البحر؟
الجواب
ذكر المصنف أن دواب البحر كلها حلال إلا ما استثني من الضفدع والتمساح والحية، لكن قال بعضهم قولاً آخر، قال: كل ما له شبيه في البر وهو محرم فإنه يحرم من البحر.
ومعلوم أن هذا الشبه إنما هو في الخلقة، فلو كان يشبه كلب البر أو -مثلاً- خنزير البر فالأصل أنه لا يعيش إلا في البحر، وأنه يتغذى بدواب البحر كما يتغذى السمك، فيكون حلالاً.(81/44)
حكم أكل الدجاج الذي يتغذى بالدم المجمد
السؤال
بعض الدجاج يتغذى على الدم المجمد، أي: دم الدجاج المذبوح، يأخذونه ويعالجونه حتى يكون طعاماً، فهل يجوز أكل هذا الدجاج؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنه إذا تغذى على الدم فالدم محرم ولو كان الدم مستحيلاً، هذا هو الصحيح، وهناك من يقول: إن النجاسة إذا استحالت طهرت ولكن ليس ذلك ممكناً أو متأتياً في كل شيء، فالأصل أن كل شيء محرم لا تجوز التغذية به.(81/45)
قاعدة (آكل اللحم لا يؤكل)
السؤال
ما صحة هذه القاعدة: (آكل اللحم لا يؤكل) ؟
الجواب
كأنهم يقولون: ما يأكل اللحم فلا يؤكل، وهذه يمكن أنها تكون قاعدة، لكن يستثنى منها الضبع، فالذين أباحوا الضبع يبيحون أكلها مع أنها تتغذى باللحوم، بل تأكل الجيف، وأما البقية فيقولون: كل ما يأكل الجيف فإنه محرم.(81/46)
حكم استخدام الحبوب المفترة والمخدرة
السؤال
ما حكم الحبوب التي يستعملها بعض المرضى النفسيين التي تؤكل ويكون فيها نسبة من التفتير والتخدير والخمور؟
الجواب
إذا كانت علاجاً ودواءً لبعض الأمراض أو الأمراض النفسية فلا بأس، ولو حصل بها تخدير ونحو ذلك؛ فإن ذلك مما يستعان به في تخفيف تلك الآلام النفسية، وأما إذا لم يكن فيها فائدة فإنها محرمة.(81/47)
حكم من يستهزئ بالدين من أهل اللحى
السؤال
شخص أعفى لحيته ولكنه يفعل المنكرات، ويتكلم بكلام يستهزئ فيه بشيء من السنة وغيرها من الدين، فهل يجوز لي أن آمره بحلق لحيته لكي لا يعرض السنة للاستهزاء؟
الجواب
كثيرون ولو كانوا يؤثرون بعض السنة كإعفاء اللحية يظهر منهم شيء كثير من السخرية ببعض تعاليم الدين، وذلك دليل على ضعف الإيمان وعلى شك داخل قلوبهم، فمن عرف أحداً منهم فينصحه ويأتي بمن ينصحه ويبين له خطأه، فإذا أصر واستمر على ذلك فإنه يجب البراءة منه ومن أمثاله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/48)
شرح أخصر المختصرات [82]
أباح الله للإنسان أن ينتفع بما سخر له، ومن ذلك الصيد، فهو مباح للمسلم لكن بشروط وضوابط يجب عليه مراعاتها ومعرفتها قبل الاصطياد.(82/1)
أحكام الصيد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الصيد مباح، وشروطه أربعة: كون صائد من أهل ذكاة، والآلة، وهي آلة ذكاة، أو جارح معلم وهو أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، وإرسالها قاصداً، فلو استرسل جارح بنفسه فقتل صيداً لم يحل، والتسمية عند رمي أو إرسال ولا تسقط بحال، وسن تكبير معها.
ومن أعتق صيداً، أو أرسل بعيراً أو غيره لم يزل ملكه عنه.(82/2)
تعريف الصيد
بعد أن ذكر المؤلف الأطعمة وما يباح من الحيوانات كبهيمة الأنعام ذكر الصيد.
والصيد: مصدر صاد يصيد صيداً، ويسمى المصيد صيداً، وهو اقتناص حيوان مباح متوحش طبعاً غير مقدور عليه.
والاقتناص هو الذهاب في طلبه، وهذا الحيوان المباح متوحش بطبعه، كالظباء، والوعول، وحمر الوحش، والأوبار، والأرانب، وكذلك من الطير كالحبارى، والحجل، والحمام وما أشبه ذلك من الحلال، فاقتناصه طلبه إلى أن يصيده، فتارة يصيده بالرمي، وتارة يصيده بالكلاب، أو الصقر، وتارة يصيده بالشبكة التي ينصبونها له، ونحوها كالقفص، فإذا صاده وأدركه حياً فإنه يذبحه كما يذبح بهيمة الأنعام، فإذا أمسك الأرنب أو الضب أو اليربوع وهو حي فلابد أن يذبحه إذا قدر عليه حياً، كما يذبح السخلة والعجل والفصيل، فيذبحه بسكين حاد أو يذبحه بما يحل الذبح به، ويذكر اسم الله عليه.
وإذا مات بالرمي وقد ذكر اسم الله عليه فإنه يباح أكله، وكذلك إذا قتله الكلب أو ذبحه الطير كالصقر ونحوه، فإذا أدركه وقد مات فإنه يباح إذا كان قد ذكر اسم الله عند إرسال الجارح، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] .(82/3)
انقسام الحيوانات إلى مستأنس ووحشي
جعل الله هذه الحيوانات قسمين: قسماً مستأنساً لا يهرب من الناس، كالإبل والبقر والغنم والحمر الأهلية والخيل، وقسماً متوحشاً يهرب من الإنسان، وهذا القسم المتوحش الذي يهرب من الإنسان منه ما هو حلال كالظبي والوعل وحمار الوحش وبقر الوحش وغنمها، والأرنب والوبر والضب وما أشبهها.
ومنه ما هو محرم كالذئب والأسد والنمر والثعلب، وقد يكون مستأنساً محرماً كالقط وما أشبهه، فهذه محرمة، وتقدم أن الذي يأكل الجيف فإنه حرام، ويدخل في ذلك الثعالب والقطط، وابن آوى الذي يفترس الدجاج، وابن عرس وهو يفترس ويأكل الجيف.(82/4)
شروط إباحة الصيد
ما أباحه الله كالظباء ونحوها، إنما يباح إذا تمت شروط أربعة:(82/5)
أهلية الصائد
الشرط الأول: كون الصائد من أهل الذكاة، فإذا كان الذي صادها مسلماً أو من أهل الكتاب المتمسكين، فإنه يكون من أهل الذكاة، ولا يصح صيد المشركين ومنهم الرافضة، ولا صيد القبوريين الذين يعبدون أهل القبور ومنهم المتصوفة، ولا صيد البوذيين وذبائحهم، ولا صيد السيخ، ولا الهندوس، ولا القاديانيين، ولا الدهريين الشيوعيين، لا يباح صيدهم ولو سموا وذبحوه؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة.(82/6)
الآلة الجارحة وذكر علامة الحيوان المعلم
الشرط الثاني: الآلة، وهي مثل آلة الذكاة، فلابد أن يذبحه بما يخرج معه الدم إذا قدر على الصيد وهو حي، فيذبحه بالسكين أو بحجر حاد، أو يذبحه بقصب أو عود حاد، والمراد أن يذبحه بآلةٍ حادةٍ تجرح وتقطع الجلد، ولا يذبحه بالظفر، ولا بالعظم ولا بالسن ولو كان عصفوراً كما تقدم في الذكاة.
وإذا رميت طيراً كحمامة أو سماني أو الغرانيق البيض أو الحبارى أو الحجل أو ما أشبهها، فإنها لا تباح إذا أدركتها حية إلا بعد ذبحها بالسكين أو نحوها من الحلق، يعني: من أصل العنق أو من أصل الرأس، فإذا ذبحتها وخرج دمها وماتت بسبب الذبح حل أكلها مع الشروط الآتية.
والجارح إما أن يكون من الطيور وإما من الكلاب، فمن الطيور الصقر والبازي والشاهين والباشق، فهذه الجوارح من الطيور تقنص الصيد، وتقبل التعليم، فإذا أرسلت إلى الصيد كالحبارى أو الحمام أو الأرنب، فإنها تنزل عليه وتضربه بمخالبها، وتمزق الجلد وتمزق الريش وتقطعه، فيسقط ذلك الطائر كالحبارى ونحوه، وإذا سقط فقد يموت في حينه قبل أن يأتي إليه الصياد فيكون حلالاً إذا تمت الشروط، وقد يدركه حياً فلابد من ذبحه بالسكين ونحوها، وفي هذه الحال يباح ما صاده بهذا الجارح.
ومن الجوارح الكلب المعلم، وكذا الفهد المعلم، فإنه يصيد الظباء لصاحبه، فإن أدركه حياً فليذبحه، وإن أدركه ميتاً وقد جرحه الكلب فإنه حلال إذا كان قد ذكر اسم الله عند إرسال ذلك الجارح.
ما علامة كون الجارح معلماً؟ أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذه علامات المعلم؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فإذا أكل فإنما أمسك لنفسه.
وقد يسمون الصقر أو الكلب باسم، فيناديه باسمه، ويرسله بكلمات يفهمها الكلب أو الفهد، فإذا أرسل استرسل، أي: ذهب مسرعاً يسعى خلف ذلك الصيد إلى أن يدركه، هذا معنى: إذا أرسل استرسل.
وإذا زجر انزجر، والزجر الكف، فإذا زجره كف وتوقف، وقد يكون الزجر التحريض، فلو قدر أن الكلب رأى أرنباً وسار وراءها وصاحبه لم يشعر، ولما رآه زجره وزاد في سيره، وذكر اسم الله عليه، فإذا أمسك ولم يأكل فإنه يحل ما صاده حتى ولو لم يذبحه.
وقد اختلف العلماء فيما إذا قتل الصيد بثقله ولم يجرح، فإن الكلب قد يمسك الأرنب ثم يتحامل عليها ويضمها وتموت، أو يعض أضلاعها فتموت دون أن يخرج شيء من دمها ودون أن يجرحها، فيأتي صاحبه وقد ماتت، فهل تباح أم لا تباح؟ كثير من العلماء يقولون: هو حلال مما أمسك؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ولأن صاحبه قد أرسله وسمى عند إرساله، فيباح أكله ولو قتله، وذهب آخرون أنه لا يباح إلا إذا أدرك حياً أو جرحه ذلك الجارح؛ ولذلك سمي جارحاً في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ، وهذا لم يجرحه، ولم يخرج دمه، فيكون ميتة أو شبيهاً بها.
وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية في أول سورة المائدة: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فكأنه يميل إلى عدم الحل؛ وذلك لأنه مات حتف أنفه دون تذكية ودون جرح أو نحو ذلك، هذا الذي يظهر من كلامه، وذهب آخرون وهو المشهور إلى أنه يحل لظاهر الآية: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] .(82/7)
القصد في إرسال الجارح
الشرط الثالث: إرسالها قاصداً، فإذا استرسل الجارح بنفسه فقتل لم يحل؛ لأنه أمسك على نفسه، ولأنه استرسل بنفسه فلا يحل ما صاده.
فإذا استرسل بنفسه وأمسك، فإن أدركته حياً فذكيته فحلال، وإن لم تدركه إلا بعد أن قتله فلا يحل، فلو أرسلت الكلب وأمسك عليك ولكنه أكل من الصيد، فلا يحل؛ لأنه يخاف أنه أمسكه على نفسه، هكذا جاء في الحديث: (فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه) .
ويستثنى من ذلك الجارح من الطير كالشاهين والصقر والباشق، فهذا يصعب تعليمه، فالكلب يمكن أن يعلم بالضرب، وأما الصقر فكيف يضرب؟ وكيف يعلم بالضرب؟ فالعادة أنه يأكل، وأكله قليل بالنسبة لأكل الكلب، فإذا أكل فإن الصيد لا يحرم، بل يجوز أكل ما بقي ولو أكل نصف الأرنب أو نصف الحبارى، وما ذاك إلا لأنه يصعب تعليمه.(82/8)
التسمية
الشرط الرابع: التسمية عند الرمي أو عند الإرسال، ولا تسقط بحال، وقد تقدم في الذكاة أنها تسقط بالنسيان لا بالجهل، وأما في الصيد فلا تسقط، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، هكذا اشترط (اذكروا اسم الله عليه) ، فلابد من التسمية عند إرسال الصقر أو عند إرسال الكلب، وكذلك عند الرمي، فإذا سدد السهم ليرمي أرنباً أو ليرمي حمامةً فليقل: باسم الله، ولا تسقط بحال، ويسن التكبير فيقول: باسم الله، والله أكبر.
هذه هي شروط حل الصيد، الشرط الأول: أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وهو مسلم أو كتابي متمسك، الشرط الثاني: الآلة التي يصاد بها، كالسهام والحيوان الجارح، الشرط الثالث: إرسال الجارح قصداً، الشرط الرابع: التسمية عند الرمي وعند الإرسال.(82/9)
حكم إعتاق الصيد والحيوان المستأنس
من أعتق صيداً هل يخرج من ملكه؟ لو أن إنساناً صاد ظبياً وبقي عنده، ثم إنه أعتقه وأرسله، فلا يخرج من ملكه؛ لأنه ملكه بإمساكه، فيبقى في ملكه، ولكن إذا أرسله وذهب مع الظباء، وصار متوحشاً يهرب من الناس كما تهرب الظباء، ففي هذه الحال من صاده ملكه ولو كان قد ملكه فلان ولو عرفه، فمثلاً: لو صاد غزالاً ثم وسمها، وقطع طرف إذنها ثم أرسلها، وبقيت مع الغزلان، ترتع معها وترجع معها -أي: مع الصيد المتوحش- ثم وجدها إنسان ورماها أو صادها بحبال ملكها؛ وذلك لأن صاحبها لما أعتقها لا يريدها ولا يرغب في اقتنائها فتذهب عليه.
وأما البعير أو الكبش ونحوه إذا تركه صاحبه وأرسله وأهمله فهل يخرج من ملكه؟ لا يخرج من ملكه؛ لأنه ملكه أصلاً بالشراء أو ملكه بالاستيلاد؛ فإذا ملكه قال: لا حاجة لي فيه، وتركه يرتع مع الإبل ويذهب معها ويشرب معها، أو قال لا حاجة لي في هذا الحصان أو في هذا الثور أو هذه البقرة أو هذا الكبش، وتركه يذهب ويجيء ويشرب الماء ويأكل من الشجر، فلا يزول ملكه عنه، بل يبقى تحت ملكه، ولو كانت ناقة ونتجت فنتاجها لصاحبها الذي تركها.(82/10)
شرح أخصر المختصرات [83]
من الأحكام الشرعية حكم اليمين وحكم النذر، واليمين لا تنعقد إلا إذا كانت بالله أو بصفة من صفاته، وأما ما يترتب عليها من البر والحنث والكفارة وغيرها فقد بينها الفقهاء.
وأما النذر فمكروه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، وفي باب النذر أحكام وتقسيمات مختلفة كما هو مبين عند العلماء.(83/1)
كتاب الأيمان
ذكر المؤلف بعد الصيد كتاب الأيمان، ومناسبته أن الأيمان يحتاج إليها في الشهادات وفي القضاء، ويحتاج إليها أيضاً في إثبات الحدود كحد الزنا وحد القذف وحد الشرب، فيحلف المتهم مثلاً ويبرأ؛ ولذلك ذكروها هنا.(83/2)
معنى اليمين
قال المصنف رحمه الله: [باب الأيمان: تحرم بغير الله، أو صفة من صفاته، أو القرآن، فمن حلف وحنث وجبت عليه الكفارة.
ولوجوبها أربعة شروط: قصد عقد اليمين، وكونها على مستقبل، فلا تنعقد على ماضٍ كاذباً عالماً به وهي الغموس، ولا ظاناً صدق نفسه فيبين بخلافه، ولا على فعل مستحيل، وكون حالفٍ مختاراً، وحنثه بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله غير مكره أو جاهل أو ناس.
ويسن حنثٌ ويكره برٌ إذا كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب، وعكسه بعكسه.
ويجب إن كانت على فعل محرم، أو ترك واجب، وعكسه بعكسه.
فصل: وإن حرم أمته أو حلالاً غير زوجة لم يحرم، وعليه كفارة يمين إن فعله.
وتجب فوراً بحنث، ويخير فيها بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم كسوةً تصح بها صلاة فرض، أو عتق رقبة مؤمنة، فإن عجز كفطرة صام ثلاثة أيام متتابعة.
ومبنى يمين على العرف، ويرجع فيها إلى نية حالف ليس ظالماً -إن احتملها لفظه- كنيته ببناء وسقف السماء.
فصل: النذر مكروه، ولا يصح إلا من مكلف، والمنعقد ستة أنواع: المطلق: كلله علي نذر إن فعلت كذا.
ولا نية، فكفارة يمين إن فعله.
الثاني: نذر لجاج وغضب، وهو تعليقه بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه، كإن كلمتك فعلي كذا، فيخير بين فعله وكفارة يمين.
الثالث: نذر مباح، كلله علي أن ألبس ثوبي، فيخير أيضاً.
الرابع: نذر مكروه كطلاق ونحوه فالتكفير أولى.
الخامس: نذر معصية، كشرب خمر، فيحرم الوفاء، ويجب التكفير.
السادس: نذر تبرر، كصلاة وصيام واعتكاف بقصد التقرب مطلقاً، أو معلقاً بشرط، كإن شفى الله مريضي فلله علي كذا، فيلزم الوفاء به.
ومن نذر الصدقة بكل ماله أجزأه ثلثه، أو صوم شهر ونحوه لزمه التتابع، لا إن نذر أياماً معدودةً.
وسن الوفاء بالوعد، وحرم بلا استثناء] .
الأيمان جمع يمين، ويقال له: القسم، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] أي: اجتهاداً في أيمانهم.
ولماذا سميت يميناً؟ لأن المتحالفين يتقابلان بيديهما، كل واحد يمد يمينه ويمسك يد الآخر اليمنى ويقول: أحلف بالله إنني ما قتلت أباك، أو ليس عندي لك أو ما أشبه ذلك، فلما كانت تقبض باليد اليمنى سموا الحلف نفسه يميناً، هذا سبب التسمية، ومعنى حلف أي: أقسم، وسمي قسماً لأنه يصير قِسماً أو قسيماً له.(83/3)
حكم الحلف بغير الله
الحلف هو الحلف بالله أو بصفة من صفاته أو بالقرآن، أما الحلف بغير الله فحرام، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، فيحرم الحلف بغير الله، وقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، فلا يجوز الحلف بالأب، فلا يقول: بأبي، ولا يحلف بنفسه، فلا يقول: بحياتي، ولا بحياتك يا فلان، أو بحياتك يا فلانة، ولا يحلف بشرفه فلا يقول: بشرفي، أو بنسبي، أو بأبي، أو بأبوي، أو بتربة أبوي، أو بقبر والدي، فإن هذا شرك، لماذا؟ لأنه تعظيم للمحلوف به، ولا يجوز تعظيم غير الله، فالتعظيم الذي في الحلف لا يكون إلا لله، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) .
يجوز الحلف بصفات الله كأن يحلف بيمين الله، أو بوجه الله، أو بعزة الله، أو بعلم الله، أو بكلام الله، ويجوز الحلف بالقرآن لأنه كلام الله، فإذا قال: وكلام الله أو والقرآن الكريم انعقدت يمينه.
يقول: من حلف وحنث وجبت عليه الكفارة، والحنث مخالفة ما حلف عليه، والحنث حرام إلا إذا كفره، قال الله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] ويسمى الحنث فجوراً، فمن حلف وهو كاذب سمي فاجراً، فمن حلف وحنث فقد ارتكب ذنباً وعليه كفارة تمحو ذلك الذنب الذي حلف عليه.(83/4)
شروط وجوب الكفارة
ذكر أهل العلم لوجوب الكفارة أربعة شروط:(83/5)
الشرط الأول: قصد عقد اليمين
الشرط الأول: قصد عقد اليمين، قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] وفي آية أخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] ، فأما لغو اليمين فإنه يعفى عنه، وذلك مثل ما يجري على الألسن من غير عقد يمين في أدنى الكلام، يقول: لا والله، بلى والله، ولم يعقد على ذلك قلبه ولا قصده، أو حلف يعتقد صدق نفسه، فهذا لغو، لا كفارة فيه، (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) .
أما إذا كان قاصداً عازماً على اليمين فإنه يكفر، فلو قال مثلاً: والله لا أركب مع فلان وهو عازم، فركب معه فعليه كفارة اليمين، والله لا أكلم فلاناً، وجبت عليه الكفارة إذا كلمه، والله لا أدخل هذا البيت، ثم دخله وجبت عليه الكفارة، والله لا آكل من هذا الطعام، وجبت عليه الكفارة إن أكل، وكذلك في الإثبات إذا قال: والله لأضربن فلاناً، والله لأسافرن هذا اليوم وأشباه ذلك، فإذا لم يفعل فعليه الكفارة، هذا الشرط الأول.(83/6)
الشرط الثاني: أن تكون اليمين على مستقبل
الشرط الثاني: كون اليمين على فعل مستقبل، فإذا قال مثلاً: والله لا أدخل هذا البيت، ولا ألبس هذا الثوب، ولا أشتري هذا الطعام، فإذا فعل فإنه يكفر؛ لأن هذه أمور مستقبلة، أو يقول: والله لأسافرن اليوم، أو أسافر غداً، في هذه الحال عليه كفارة إذا حنث، ولا كفارة حتى يحنث.(83/7)
حكم اليمين الكاذبة والحلف على مستحيل
لا تنعقد اليمين على أمرٍ ماض، وهو كاذب عالم بكذبه، وهي اليمين الغموس، وقد جاء في الحديث: (من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم -يعني: يأخذ بها ما لا يحل له - لقي الله وهو عليه غضبان) ، وفي حديث آخر قيل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: (وإن كان قضيباً من أراك) أي: عود سواك، فهذه هي اليمين الغموس، ومثلها أيضاً إذا حلف كاذباً وهو يعلم كذب نفسه، فهو يحلف أنه ما قتل فلاناً وهو الذي قتله، أو حلف أنه ما أخذ ماله وهو يعرف أنه أخذه، أو حلف أنه ما دخل بيته أو ما ركب سيارته أو ما أخذها أو ما رآها وهو كاذب في ذلك، فهذه هي اليمين الغموس.
لماذا سميت غموساً؟ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، وفي هذا الحديث: (لقي الله وهو عليه غضبان) ، أما لو حلف وهو يظن صدق نفسه فتبين بخلافه فلا كفارة، فإذا حلف: إن هذا كتابي، ويظن صدق نفسه لأنه يشبه أو حلف: إن هذا أخي، وهو يظن أنه أخوه وكان شبيهاً به، أو حلف: إن هذا متاعي أو إن هذا كيس فلان، وهو يعتقد أنه متاعه أو كيسه فتبين خلافه، فإنه والحالة هذه يعتقد صدق نفسه فلا كفارة عليه.
كذلك إذا حلف على فعل مستحيل فلا كفارة عليه؛ لأنه يعرف كذب نفسه، فإذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز، وليس فيه ماء، ففي هذه الحال لا يحنث؛ لأنه يعلم أنه مستحيل، وذكروا من المستحيل ما تستحيل قدرة الإنسان عليه، فلو حلف مثلاً أن يقلب هذا الإناء ذهباً أو يقلب هذا الماء لبناً، فهذا مستحيل، فلا تكون عليه الكفارة؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر.(83/8)
الشرط الثالث: الإكراه في اليمين
الشرط الثالث: أن يكون الحالف مختاراً، فيخرج المكره على الحلف، كأن يكرهه إنسان ويقول: أنت الذي أخذت هذا المال وسوف أقتلك إن لم تحلف، فيحلف ليتخلص من القتل ظلماً، أو أنت الذي شربت هذا الماء وهو لم يشربه ولكنه يخشى من التعذيب، فيحلف، وهكذا كل ما فيه إكراه لا تنعقد يمينه؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .
ولذلك ذكروا أن المكره لا إثم عليه، فلو أكره على شرب الخمر فلا يحد، أو أكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها، أو أكره على بيع ماله أو بذله فإنه لا ينعقد البيع لعدم اختياره، وكذلك لو أكره على دخول دار وكان قد حلف على ألا يدخل هذه الدار، فأمسكه قوم وأوثقوه وغلوه ودخلوا به، فإنه لا يحنث، أو حلف ألا يأكل من هذا الطعام ثم أكرهوه وقالوا: إن لم تأكل ضربناك أو قتلناك.
فأكل لأجل التخلص، ففي هذه الحالة لا يحنث.(83/9)
الشرط الرابع: الحنث في اليمين
الشرط الرابع: الحنث، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، كأن حلف ألا يأكل من هذا الطعام وأكل أو حلف ألا يلبس هذا الثوب ولبسه، أو حلف ألا يركب هذه السيارة وركبها، أو حلف ألا يكلم فلاناً وكلمه، هذا هو الحنث.
وكذلك لو حلف على الترك ولم يترك، كأن حلف أنه لن يسافر هذا اليوم وسافر، أو حلف ألا يصلي في هذا المسجد شهراً وصلى فيه، ففي هذه الحال يحكم بحنثه، إلا إذا فعل ذلك مكرهاً، فحلف ألا يلبس ذلك الثوب وأكره وهدد حتى لبسه، أو حلف ألا يأكل من الطعام، وأكره وهدد حتى أكل منه، فإنه لا يحنث.
وكذلك إذا كان جاهلاً كأ، حلف ألا يلبس الثوب ولبس ثوباً يعتقد أنه غيره، وتبين أنه هو، ففي هذه الحال لا يحنث؛ لأنه لم يتعمد، وهكذا لو حلف ألا يكلم فلاناً، ثم نسي فكلمه فلا شيء عليه، هذه هي شروط وجوب الكفارة.(83/10)
أحوال الحنث في اليمين
قوله: (يسن الحنث، ويكره البر إذا كان على فعل مكروه وترك مندوب، وعكسه بعكسه) : ورد في حديث أبي موسى أنه جاء في غزوة تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يحمله ويحمل قومه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما عندي ما أحملكم، ووالله لا أحملكم، ثم جاءته إبل من إبل الصدقة، فأرسل إليهم خمس ذود غر الذرى، فقالوا: استغفلنا رسول الله يمينه، فقد حلف ألا يحملنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) وكذلك قال لـ عبد الرحمن بن سمرة: (إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك وأئت الذي هو خير) ، فإذا حلف أحد أنه لا يكلم فلاناً من غير سبب فهذا حرام، فيكفر ويكلمه، أو حلف ألا يقبل هدية فلان، فيكفر ويقبل هذه الهدية؛ لأن قبول الهدية مستحب.
حلف ألا يقبل دعوة فلان، وإجابة الدعوة من المستحبات أو من الواجبات، فعليه أن يكفر عن يمينه ويجيب تلك الدعوة، أو حلف ألا يصل فلاناً وكان له قرابة، أو لا يهدي إليه أو لا يستضيفه، فيكفر عن ذلك ويفعل، فإن فعل ذلك خير، روي أن رجلاً كان له دين، فطلبوا منه أن يسقط من دينه، فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (حلف ألا يفعل خيراً!) يعني: حلف ألا يتنازل عن شيء من ماله، والأولى أن يسقط عن هذا الغريم المدين الفقير، وأن يكفر عن يمينه، وهكذا إذا حلف ألا يتصدق في هذا الشهر، فالصدقة خير، فعليه أن يحنث وأن يتصدق ويكفر، وهكذا في سائر المستحبات.
ويكره بره بيمينه إذا كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب، ففعل المكروه كأن يحلف مثلاً أن يسب فلاناً لأنه قد سبه، فالأولى أن يكفر ولا يفعل، وإذا قيل له: إن فلاناً اغتابك، فقال: والله لأغتابنه.
فعليه أن يكفر ولا يغتاب لأن هذا فعل محرم، وإذا قيل: إنه مثلاً ضرب ولده ولدك، فقلت: والله لأضربن ولده، فالأولى أن تعفو وتصفح.
وأما إذا كان فعل خير فإن عليه أن يفي به ويكره حنثه، فإذا قال: والله لأتصدقن في هذا اليوم، فلا يترك الصدقة ولو بشيء قليل، أو قال: والله لأقرأن في هذا اليوم جزءاً من القرآن، أو إذا كان مدخناً فقال: والله لا أدخن في هذا اليوم، أو كان يسمع الغناء فحلف ألا يسمعه في هذا اليوم؛ فعليه أن يوفي بيمينه، ويكره الحنث.
هذا معنى قوله: (وعكسه بعكسه) ، فإذا حلف أن يفعل خيراً أو يترك شراً فعليه أن يوفي بما حلف، ففعل الخير كأن يحلف أن يتصدق، أو يقرأ في هذا اليوم جزءاً، أو يصلي في هذه الليلة ساعة، أو يزور في هذا اليوم مريضاً أو يتبع فيه جنازة، فهذا فعل خير، لا تحنث وأوف بيمينك.
وكذلك الترك، إذا حلف وقال مثلاً: والله لا أشرب الدخان هذا اليوم، أو لا أسمع الغناء هذا اليوم، أو لا أنظر إلى الصور هذا اليوم، فأوف بيمينك ولا تحنث، فإنك حلفت على خير.(83/11)
ما جاء في التحريم
إذا حرم أمته، وقال: والله لا أطأ هذه الأمة، أو حرم طعاماً، فقال: هذا الطعام علي حرام، أو هذا الثوب علي حرام، أو هذا الماء علي حرام، أو هذه القهوة علي حرام، أو هذا الخبز علي حرام، أو خبز فلان علي حرام لا آكل منه، أو طعام فلان علي حرام لا آكله، هل يصير حراماً؟ لا يصير حراماً ولكن عليه الكفارة، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زينب وتسقيه عسلاً، فغارت عائشة وحفصة، فاتفقتا على أن كل واحدة منهما تقول له: هل أكلت مغافير؟ وهو شيء ينضحه بعض شجر العضاة، له رائحة، فقال: (إنما شربت عسلاً عند زينب) فقالت: جرست نحله العرفط، أي: أكلت نحله من العرفط، وله رائحة، فعند ذلك قال: (هو علي حرام) أي: هذا العسل، فعند ذلك نزلت الآية: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] ، وبين الله التحلة وهي الكفارة.
وكذلك روي أيضاً: أنه حرم أمة له وهي مارية، وكانت سرية له، وهي أم إبراهيم، غارت بعض نسائه وقالت: كيف تباشرها في بيتي وعلى فراشي؟ فقال: (هي علي حرام) فنزلت الآية: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [التحريم:1] ، وكفر عن يمينه عند ذلك، وحلت له.
وكذلك الرجل إذا حرم أمته، فإن عليه كفارة يمين، أو حرم شيئاً حلالاً غير الزوجة -أما الزوجة فتحريمها ظهار كما تقدم في الظهار- فإذا حرم هذا الشراب، أو هذا اللبن أو لبن هذه الشاة، أو لبن هذه البقرة، أو هذا الإدام أو خبز هذا الخباز أو ذبح هذا الجزار، ثم احتاج، فيكفر عن يمينه، وإذا كفر حل له ذلك وأكل منه.(83/12)
كفارة اليمين وصفتها
متى تجب الكفارة؟ إذا حنث، فإذا فعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله فإنه والحال هذه يكفر، فإذا لبس الثوب الذي حلف ألا يلبسه فإنه يكفر، أو حلف أن يبيت الليلة في هذا المنزل، ولم يبت فيه فعليه الكفارة، حيث إنه حنث.
وهل تجب الكفارة فوراً أم على التراخي؟ تجب على الفور، فيبادر ويخرجها فوراً.
وما هي الكفارة؟ ذكر الله تعالى الكفارة في سورة المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] يعني: يخير بين هذه الثلاث، فيقال له: لك الخيار: أعتق رقبة، أو أطعم عشرة مساكين، أو اكسهم.
الإطعام يكون من أوسط ما يطعم أهله، لا من الخيار ولا من الأدنى، فإذا كان أحياناً يشتري لأهله السمك والفواكه ولحم الضأن ورقيق الخبز والأرز، وأحياناً يطعمهم من الخبز اليابس، وأحياناً إدامهم من التمر أو نحوه، وأغلب الأحوال يطعمهم الرز والخبز واللحم العادي كلحم الإبل أو لحم الدجاج، فنقول: الوسط هو ما تطعم به أهلك من الطعام الذي ليس من الجيد وليس من الرديء، هذا بالنسبة للإطعام.
أما بالنسبة للكسوة، فإنه لابد أن يعطي كل واحد كسوة تجزئه في صلاة الفريضة، فيستر عورته بسراويل من السرة إلى الركبة أو إلى ما تحت الركبة، ويستر ظهره برداء كرداء المحرم، ويكفي القميص الذي له أكمام، ولو لم يجعل معه عمامة ولا سراويل، بل قميص يستر البدن كله، يستر المنكبين ويستر البطن والظهر، ويستر العجز ويستر الفخذين والركبتين، فيكفي ولو كان ثوباً واحداً.
العتق: أن يعتق رقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل -كما تقدم في كفارة الظهار- ولابد أن تكون رقبة مؤمنة.
إذا عجز عن العتق وعن الكسوة وعن الإطعام انتقل إلى الصيام، فيصوم ثلاثة أيام متتابعة، وعلامة عجزه ألا يجد إلا قوت ليلته التي يقوت بها أهله، وتقدم في زكاة الفطر أنه تسقط الفطرة عن إنسان ليس عنده إلا قوت نفسه وقوت عياله في يوم العيد وفي ليلة العيد، هذا معنى قوله: (فإن عجز كفطرة) أي: كما يعجز في إخراج الفطرة، فيصوم ثلاثة أيام متتابعة، وقرأ ابن مسعود هذه الآية: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وتحمل على أنها تفسير.(83/13)
النية في اليمين
تكلم الفقهاء وأطالوا على النية في اليمين، فقالوا: مبنى اليمين على العرف، وهو الشيء المتعارف بين الناس، نذكر لذلك أمثلة: عندنا في المملكة لو حلف شخص ألا يلبس ثوباً، فالثوب عندنا هو الذي له أكمام وله جيب، وأما في اللغة فإن العمامة تسمى ثوباً، والعباءة تسمى ثوباً، وكذا الرداء والإزار، فنقول: أنت لا تعرف إلا الثوب الذي له جيب وأكمام، فلا تلبسه في هذه الليلة، ولك أن تلبس رداءً أو إزاراً أو سراويل، فإن لبست الثوب الذي له أكمام فكفر؛ لأنك حلفت عليه.
وكذلك إذا حلف أن يذبح لفلان شاة، والشاة عند الناس في هذه المملكة النعجة الأنثى من الضأن، وإن كان العرب يسمون الذكر من الضأن شاة والعنز شاة، فالشاة عند العرب الواحدة من الغنم ذكراً كانت أم أنثى، فإذا حلف أن يذبح شاة، نقول له: أنت لا تعرف الشاة إلا أنها النعجة الأنثى من الضأن، هذا هو العرف، فعليك أن تذبحها.
وإذا حلف أن يذبح في هذا الشهر بعيراً، والبعير عند العامة في هذه المملكة هو الجمل، لا يعرفون الجمل إلا أنه البعير، والبعير عند العرب يدخل فيه الناقة، فالناقة بعير لأنها تركب، والجمل بعير، وإذا أرادوا أن يفرقوا بينهما قالوا: ناقة وجمل، وإذا قال رجلٌ عند العرب: عندي بعير، قالوا: ناقة أم جمل؟ فيسمون الناقة بعيراً، ولكن الناس في هذه المملكة لا يعرفون البعير إلا أنه الجمل، فإذا حلف أن يذبح بعيراً لم تبر يمينه إلا إذا ذبح جملاً، هذا معنى قوله: (مبنى اليمين على العرف) .
فإن كان العرف غير موجود في هذه اليمين رجع إلى نية الحالف الذي ليس بظالم، وذلك لأنه قد يحلف على شيء وقد تكون نيته أنه يؤكد الشيء، فمثلاً: أنت طالبته بدين، فحلف أن يعطيك حقك يوم الجمعة، ثم قضاك يوم الأربعاء، هل يحنث؟ لا يحنث؛ لأنه ما أراد إلا أن يعجل حقك لك، فقد عجله قبل موعده فلا يحنث والحالة هذه، فنيته بهذه اليمين نية صادقة وهي التعجيل.
أما إذا كان ظالماً فلا تنفعه هذه النية، والظالم هو الذي يحلف بنية يتأول فيها، فإذا قال: والله ما لك عندي شيء، وتأول وقال: عنيت بشيء مأكولاً، فلا تنفعه نيته؛ لأن كلمة شيء تدخل فيها النقود وتدخل فيها الأكسية وما أشبه ذلك، فهذه نية الظالم.
قوله: (إن احتملها لفظه) أي: فإذا قال مثلاً: والله لا أبيت تحت السماء هذه الليلة، وقال: نيتي بالسماء السقف؛ لأن الله تعالى قال: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني إلى السقف، نيته محتملة، أو قال: والله لا أبيت تحت بناء وأراد بالبناء المنزل المبني، فنيته محتملة، فالحاصل أنه يرجع في نيته إلى العرف ثم إلى ما هيج اليمين، ثم إلى حقيقة الشيء.
وتكلموا هنا أيضاً على الحقيقة وقالوا: إن الحقيقة حقيقة شرعية وحقيقة عرفية، فالحقيقة الشرعية كالصلاة، فالصلاة حقيقة لهذه العبادة التي فيها ركوع وسجود، ولكن أصلها في اللغة الدعاء {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي: ادعُ لهم، فإذا حلف مثلاً: لا أصلي في هذا المسجد هذا اليوم، ثم دخل ودعا فيه، لا يحنث لأنه أراد بالصلاة الصلاة الشرعية.(83/14)
تعريف النذر وحكمه
الفصل الذي بعده يتعلق بالنذر، وتوسع في النذر أكثر من غيره، والنذر هو أن يلزم الإنسان نفسه ما ليس بواجب في أصل الشرع، كأن يقول مثلاً: لله علي أن أصوم في هذا الشهر خمسة أيام، فهذا يسمى نذراً.
وأما إذا قال: لله علي أن أصلي في هذا اليوم خمس صلوات ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاء وفجراً، فلا يسمى هذا نذراً؛ لأن الله قد أوجبها ولم يوجبها الإنسان على نفسه، فالنذر هو الذي يوجبه الإنسان على نفسه، فمثلاً إذا قال: والله لأخرجن زكاتي هذا العام فلا يسمى هذا نذراً؛ لأن زكاته واجبة عليه، أما إذا قال: والله لأتصدقن في هذا الشهر بألف من غير الزكاة، فهذا نذر؛ لأنه زائد عن الزكاة.
النذر مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ، يعني: أن النذر لا يغير شيئاً من الحقائق، ولا يغير شيئاً من قدر الله، خلافاً لما يعتقده بعض العامة من أن النذر يصير سبباً في إجابة الدعاء، أو سبباً في شفاء المريض، أو سبباً في كثرة الرزق، أو سبباً في حصول الخير؛ فيعقد نذوراً، فيقول مثلاً: لله علي إن نجحت في الاختبار أن أتصدق بمائة، ويظن أن الله لا ينجحه إلا إذا تصدق.
أو يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أذبح شاة وأن أتصدق بلحمها، ويظن أن الله لا يشفي مريضه إلا إذا نذر أن يتصدق، أو يقول مثلاً: لله عليَّ إن ربحت في هذه التجارة أن أتصدق بنصف الربح، ويظن أن الله لا يربح تجارته إلا إذا كان سيتصدق، وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى قدر المقادير، وإذا أردت أن تتصدق بنصف الربح أو بربعه أو أن تذبح هذه الشاة فافعل ذلك من دون أن تلزم نفسك، ومن دون أن تعلق بهذا الأمر المستقبل، فإنه لا يأتي بخير، ولا يقدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل، كأن هذا البخيل لم يكن ليتصدق إلا إذا نجح أو إذا ربح أو إذا شفي أو ما أشبه ذلك.(83/15)
أنواع النذر
النذر المنعقد ستة أنواع: الأول: النذر المطلق الذي لم يعلق، كأن يقول: لله علي نذر إن فعلت كذا.
وليس له نية، فهذا كفارته كفارة يمين إن فعله، فلو قال: لله علي نذر إن ضربت فلاناً أو إن اغتبت فلاناً، فعليه كفارة يمين إن فعله، أو: لله علي نذر إن سافرت في هذا اليوم أو إن ركبت هذه السيارة، ولم يذكر مقدار النذر، فهذا نذر مطلق، فعليه كفارة يمين إذا فعله.
الثاني: نذر لجاج وغضب، وهو تعليقه بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه، كأن يقول: إن كلمتك فعلي كذا، فيخير بين فعله وكفارة يمين، هذا نذر اللجاج والغضب، لأنه يصير بين اثنين عند الغضب والخصومات ورفع الأصوات، فيقول أحدهما: إن كلمتك فأنا يهودي، أو إن كلمتك أقتل ولدي أو أخرج من مالي، أو أخرج نصف مالي.
يكون هذا بسبب الغضب.
أو يعقد فعلاً كأن يقول مثلاً: إن لم أقتل شاتك فأنا ابن زنا، أو أنا لست بمسلم أو ما أشبه ذلك، يسمى هذا نذر اللجاج والغضب، ففيه الكفارة إلا إن فعله.
واختلف فيما إذا قصد فعلاً كبيراً كأن يقول مثلاً: إن لم أضرب ولد فلان فعلي صيام شهرين أو صيام سنة، ولم يقصد إلا أن يلزم نفسه، والصحيح أن عليه كفارة يمين إلا إذا وفى بنذره.
هذا نذر لجاج وغضب، يعلقه بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه، فالمنع منه كأن يقول مثلاً: إن أكرمت فلاناً، أو إن أدخلته بيتي، أوإن زرته في بيته؛ فعلي أن أخرج من مالي أو أن أصوم سنة، أو أن أحج ماشياً، ويقصد بذلك منع نفسه، ولا يقصد التصدق بماله كله، ففي هذه الحال متى ما حنث فعليه كفارة يمين.
والحمل عليه كأن يقول: إن لم أضرب فلاناً أو لم أضرب ولده، أو إن لم أذبح بعيره أو أعقر فرسه فعلي صيام شهر أو شهرين أو أن أخرج من مالي، أو يقول: أنا لست ابن أبي أو ما أشبه ذلك، كل هذا فيه كفارة يمين.
القسم الثالث: النذر المباح، إذا قال: لله علي أن ألبس ثوباً من كذا أو نحو ذلك، فهذا مباح، وإن لم يفعله فعليه كفارة، ويخير بين فعله وبين الكفارة.
إذا قال مثلاً: لله علي ألا ألبس ثوباً إلا ثوباً جديداً، أو ألا ألبس ثوباً بأقل من مائة أو بأقل من مائتين، لله علي ألا ألبس حذاء إلا من خرازة فلان، أو إلا ما قيمته مائة أو مائتان، لله علي ألا آكل إلا لحم سمك من نوع كذا وكذا، أو ألا آكل إلا من لحم الدجاج الذي نوعه كذا وكذا، أو لله علي ألا آكل إلا خبزاً مرققاً وما أشبه ذلك، فهذا نذر مباح، إذا لم يفعله فعليه الكفارة، وإن فعله بر في نذره.
الرابع: النذر المكروه كالطلاق ونحوه، فالتكفير فيه أولى، فإذا قال: لله علي ألا أكلم فلاناً، الأولى له أن يكلمه ويكفر، وإذا قال: لله علي ألا أكرم فلاناً، فالأولى أن يكرمه ويكفر، فإن إكرامه خير، وكذلك لو قيل له: إن فلاناً اغتابك، فقال: لله علي أن أغتابه كما اغتابني، فعليه أن يكفر ولا يغتابه، وكذلك كل فعل فيه إسراف أو إفساد فلو قال: لله علي ألا ألبس ثوباً إلا بمائتين أو بخمسمائة، ففي هذا شيء من الإسراف وهو مكروه، أو أن يفعل شيئاً مكروهاً كغيبة أو نميمة فيترك ذلك ويكفر عن يمينه، أو كذلك: لله علي أن أطلق امرأتي في هذا الشهر، فعليه أن يكفر ولا يطلق.
الخامس: نذر المعصية، وفعله محرم، وعليه كفارة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) فإذا نذر وقال: الله علي أن أشرب الخمر في هذا الشهر أو في هذا اليوم، أو أن أزني بفلانة، أو أن ألوط بفلان، هذا محرم، أو علي أن أشتري في هذا الأسبوع أشرطة الغناء أو أفلام الصور.
فلا يجوز له الوفاء، بل يجب عليه الكفارة.
السادس: نذر التبرر، يعني: نذر فعل فيه طاعة وبر، ولا شك أن البر مأمور به، قال صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) فكما أن نذر المعصية يحرم الوفاء به، فنذر الطاعة يجب الوفاء به، وقد مر في كتاب التوحيد باب: من الشرك النذر لغير الله، وسبب ذلك أن المشركين والقبوريين ينذرون للأموات وللسادة، ويرجون بالنذر لهم حصول خير، فيقول أحدهم: إن شفيت من هذا المرض فعلي أن أسرج قبر السيد الفلاني أسبوعاً أو يومين، فيجعل عليه سراجاً طوال الليل، أو يقول: إن ربحت في هذه التجارة فعلي أن أذبح شاة عند قبر السيد البدوي مثلاً، أو إن ولد لي ذكر فعلي أن أهريق على قبر السيد فلان زيتاً أو سمناً تكريماً للسيد، فهذا نذر معصية، والدليل على أنه نذر معصية ما جاء في هذا الحديث: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، وهذا تعظيم لهذا القبر ولهذا الميت، والتعظيم لا يصلح إلا لله، ففي هذه الحال يكفر عن نذره، ولا يفعل هذا الشيء الذي هو من الشرك.
وكذلك إذا نذر الاعتكاف عنده، فإذا قال: إن شفيت من هذا المرض أو شفي ابني، أو قدم غائبي أو ربحت تجارتي؛ فعلي أن أعتكف عند قبر فلان يومين أو ثلاثة أو أن أصلي عند قبره صلاتين أو ثلاث صلوات، أو أقرأ عند قبره جزءاً أو جزئين، فهذا يعتبر شركاً؛ لأنه تعظيم لهذا الميت، والميت لا يجوز تعظيمه التعظيم الذي لا يصلح إلا لله، والاعتكاف عبادة لله، فإذا نذر الإنسان أن يعتكف لله لزمه الوفاء؛ لأنه نذر طاعة، وقد ثبت في الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوفِ بنذرك) ، فمن نذر نذر تبرر كصلاة وصيام واعتكاف لقصد التقرب مطلقاً أو معلقاً بشرط فإن عليه الوفاء بذلك.
المطلق: مثاله أن يقول: لله علي أن أصوم في هذا الشهر ثلاثة أيام، أو لله علي أن أصوم في هذه السنة من كل شهر ثلاثة أيام، أو لله علي أن أتصدق في هذا الشهر بمائة ريال أو في هذا الأسبوع بخمسين ريالاً، أو كل يوم من هذا الأسبوع بخمسة ريالات، أو لله علي أن أصلي في هذه الليلة عشر ركعات، هذا نذر عبادة مطلق، فيجب عليه أن يوفي به؛ لهذا الحديث.
أما إذا كان معلقاً بشرط فلا يلزمه الوفاء إلا إذا وجد الشرط، كأن يقول: لله عليَّ إن شفى الله مريضي أن أتصدق بمائة، أما إذا قال: فلله علي أن أذبح شاة عند القبر الفلاني، فلا يجوز الوفاء به وعليه كفارة يمين.
علق النذر على شفاء المريض: إن شفى الله مريضي، أو إن قدم غائبي، أو إن ربحت في تجارتي، أو إن سلمت من كيد فلان، فلله علي أن أصوم كذا، أو أن أتصدق بكذا، أو أعتكف كذا، أو أقرأ كذا أو ما أشبه ذلك، فإن كان النذر فيه شيء من الضرر فلا يوفي به، بسبب ذلك الضرر.
وقد جاء في قصة أبي إسرائيل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه قائماً في الشمس فسأل عنه، فقالوا: إنه نذر ألا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال للناس: مروه أن يتكلم، وأن يجلس، وأن يستظل، ويتم صومه) لأن هذا تعذيب للنفس، والاستظلال فيه راحة للنفس، وكونه يقف في الشمس ولا يقعد فيه تعذيب للنفس.
وكذلك أخت عقبة نذرت أن تحج من المدينة إلى مكة ماشية حافية على قدميها غير منتعلة، فكونها تمشي عشرة أيام على قدميها حافية فيه مشقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيها: (إن الله لا يفعل بتعذيب أختك نفسها شيئاً -يعني: أن الله غني عن تعذيبها نفسها- مرها أن تمشي وتركب) أي: تركب إذا تعبت، وتمشي إذا قدرت، ولو ركبت المسافة كلها ما كان عليها إلا كفارة يمين فالحاصل أن نذر التبرر كأن يقول: لله علي أن أصلي في هذه الليلة عشر ركعات، أو أن أصوم في هذا الشهر ثلاثة أيام، أو أن أعتكف في هذا الشهر ثلاثة أيام بقصد التقرب؛ فعليه الوفاء، أو يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا، أو إن ربحت تجارتي، أو إن نجح أولادي، أو إن قدم غائبي فلله علي أن أتصدق بكذا أو أن أصوم كذا، فإن هذا نذر طاعة.(83/16)
من نذر الصدقة بكل ماله أجزأه ثلثه
وقوله: (ومن نذر الصدقة بكل ماله أجزأه ثلثه) وذلك لقصة سعد لما قال: (أأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، فإذا نذر أن يتصدق بجميع ماله كفاه الثلث وليس عليه كفارة.
ودليل ذلك أيضاً قصة كعب لما قال: إن من توبتي أن أنخلع من جميع مالي -يعني: أخرج منه- فقال له: (لا تفعل) فقال: إني إمسك سهمي الذي في خيبر، فهذا يدل على أنه يجوز أن يمسك بعضه ولو أنه نذر أن يتصدق به كله.
ومن نذر أن يصوم شهراً فقال: لله علي أن أصوم في هذه السنة شهراً، فكيف يصوم؟ يصوم شهراً هلالياً من الهلال إلى الهلال حتى ولو كان ذلك الشهر تسعة وعشرين يوماً، فلابد من التتابع، أما لو قال: لله علي أن أصوم ثلاثين يوماً، ففي هذه الحال يجوز له أن يفرق فيحسب ثلاثين يوماً ولو أن يصوم يوماً بعد يوم.(83/17)
الوفاء بالوعد
يقول: (وسن الوفاء بالوعد) إذا وعد الإنسان فإنه يتأكد في حقه الوفاء بوعده، والوفاء بالوعد من صفات المؤمنين، وخلف الوعد من صفات المنافقين، ويحرم الخلف بالوعد بلا استثناء، أما إذا قال: سآتيك إن شاء الله، ثم لم يأته فلا يأثم أو قال: سأوفيك إن شاء الله ولم يوفه فلا يأثم، بخلاف ما إذا جزم فقال: لأوفينك أو لآتينك في هذا اليوم فلم يأته فإنه يأثم، والله أعلم.(83/18)
شرح أخصر المختصرات [84]
لقد جبل ابن آدم على حب الأثرة، وفطرت النفوس على الحرص، وهذا قد يدفع إلى ظلم الآخرين والتعدي على حقوقهم بغياً وعدواناً، ولذا كان الناس بحاجة ماسة إلى قاضٍ يؤدي الحقوق إلى أهلها.
وقد اهتم العلماء ببيان ما يجب على القاضي وما يحرم، وبيان كيفية القضاء وآدابه وأحكامه، وكذلك بينوا شروط الدعوى وآدابها وأحكامها.(84/1)
القضاء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب القضاء: وهو فرض كفايةٍ كالإمامة، فينصب الإمام بكل إقليمٍ قاضيًا، ويختار أفضل من يجد علمًا وورعًا، ويأمره بالتقوى وتحري العدل، وتفيد ولاية حكمٍ عامة فصل الخصومات، وأخذ الحق ودفعه إلى ربه، والنظر في مال يتيمٍ ومجنونٍ وسفيهٍ وغائبٍ، ووقف عمله ليجري على شرطه وغير ذلك.
ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل، وخاصاً في أحدهما أو فيهما.
وشرط كون قاضٍ بالغًا، عاقلًا، ذكرًا، حراً، مسلمًا، عدلًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، مجتهدًا ولو في مذهب إمامه.
وإن حكم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه.
وسن كونه قوياً بلا عنف، ليناً بلا ضعف، حليماً متأنياً، فطناً عفيفاً، وعليه العدل بين المتحاكمين في لفظه ولحظه، ومجلسه ودخول عليه.
وحرم القضاء وهو غضبان كثيرًا، أو حاقنٌ، أو في شدة جوعٍ أو عطشٍ، أو همٍّ، أو مللٍ، أو كسلٍ، أو نعاسٍ، أو بردٍ مؤلمٍ، أو حرٍ مزعج، وقبول رشوةٍ وهديةٍ من غير من كان يهاديه قبل ولايته، ولا حكومة له.
ولا ينفذ حكمه على عدوه، ولا لنفسه، ولا لمن لا تقبل شهادته له.
ومن استعداه على خصمٍ في البلد بما تتبعه الهمة لزمه إحضاره، إلا غير برزةٍ فتوكّل كمريضٍ ونحوه، وإن وجبت يمينٌ أرسل من يحلفها.
فصل: وشرط كون مدعٍ ومنكرٍ جائزي التصرف، وتحرير الدعوى، وعلم مدعًى به إلا فيما نصححه مجهولًا كوصيةٍ.
فإن ادعى عقدًا ذكر شروطه، أو إرثًا ذكر سببه، أو محلى بأحد النقدين قومه بالآخر، أو بهما فبأيهما شاء.
وإذا حررها، فإن أقر الخصم حكم عليه بسؤال مدعٍ، وإن أنكر ولا بينة فقوله بيمينه، فإن نكل حكم عليه بسؤال مدعٍ في مالٍ وما يقصد به.
ويستحلف في كل حق آدمي سوى نكاحٍ ورجعةٍ ونسبٍ ونحوها، لا في حق الله كحد وعبادةٍ.
واليمين المشروعة لا تنعقد بالله وحده أو بصفته.
ويحكم بالبينة بعد التحليف.
وشرط في بينة عدالةٌ ظاهرًا، وفي غير [عقد] نكاحٍ باطنًا أيضًا.
وفي مزك معرفة جرحٍ وتعديلٍ، ومعرفة حاكم خبرته الباطنة، وتقدم بينة جرح.
فمتى جهل حاكم حال بينة طلب التزكية مطلقاً، ولا يقبل فيها وفي جرح ونحوهما إلا رجلان، ومن ادعى على غائب مسافة قصر، أو مستتر في البلد، أو ميت، أو غير مكلف وله بينة سمعت وحكم بها في غير حق الله تعالى، ولا تسمع على غيرهم حتى يحضر أو يمتنع، ولو رفع إليه حكم لا يلزمه نقضه لينفذه لزمه تنفيذه، ويقبل كتاب قاض إلى قاض في كل حق آدمي، وفيما حكم به لينفذه، لا فيما ثبت عنده ليحكم به إلا في مسافة قصر] .(84/2)
أهمية القضاء
ذكر الفقهاء القضاء في آخر كتاب الفقه، وذكروا الشهادة والإقرار؛ لأنها التي يعتمد عليها القاضي؛ ولأن الغالب أن الإنسان إذا تمت عليه النعمة، بأن حصل على المال، وحصل على النكاح، فلا يؤمن أن يتعدى على غيره، وأن يغلبه الطمع في حق الغائب؛ ولذا تكثر الخصومات والمرافعات، فتجد عند القضاة عدة قضايا؛ وذلك من آثار الاعتداء، ومن آثار الطمع، ومن آثار الظلم، ولو أن كلاً اقتصر على حقه لاستراح القضاة ونحوهم، وهكذا لو أن الإنسان تورع عن الشيء المشتبه وتركه ولم يطالب به عندما يكون الحق الذي يدعيه ليس شيئاً واضحاً؛ إذاً لقلت الخصومات ولقلت القضايا.
ولما كانت الخصومات واقعية، وكانت المرافعات والمنازعات منتشرة في كل البلاد غالباً، وكان هناك اعتداءات ومظالم وأخذ للحقوق بغير حق؛ احتيج إلى نصب القضاة ليحكموا بين الناس.
وقد كان من الأنبياء قضاة، مثل: داود، قال الله تعالى في سورة ص: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] (بين الناس بالحق) يعني: عندما يتخاصمون، جعله الله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس.
وكذلك أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكم حتى بين اليهود، وخيره في ذلك القضاء: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] ثم قال: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة:49] فأمره الله أن يحكم بينهم بالعدل أي: بالقسط، وأمر الله الحكام عموماً بالعدل في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] وفي سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] أي: بالمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه وأخذ المظلمة من الظالم، والانتصار للمظلوم ونصره على من ظلمه.
ونصر الظالم بنصيحته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه وتحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه) أي: تأخذ على يديه وتمنعه من أن يأخذ ما لا يستحقه، وتمنعه من الاعتداء عليه، وتخبره بأن ما أخذه من حق مسلم وهو لا يستحقه فإنه يؤخذ من حسناته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن المظالم حتى ينتصر للشاة الجماء من الشاة القرناء) ، تؤدى المظالم حتى أن الشاة من الغنم إذا كانت جماء ليس لها قرون، ونطحتها التي لها قرون؛ فلابد أن الله تعالى يأخذ حق هذه من هذه، وإذا كان هذا بين البهائم مع أنها لا تكليف عليها، فبطريق الأولى الإنسان المكلف الذي هو بالغ وعاقل، ومع ذلك من الناس من يأخذ حق غيره فيعتدي على ما ليس له ويظلم الناس؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:42] السبيل، يعني: الحجة عليهم، فمنهم من يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، والذي يحملهم على هذا البغي ضعف إيمانهم؛ ولو كانوا مؤمنين حقاً لحجزهم إيمانهم عن الاعتداء على حق مسلم بغير حق، وقد يحملهم على البغي السرف وحب المال والطمع في الاستكثار، ولا شك أن هذا مما يحمل كثيراً من الناس على أن يعتدي على حق أخيه فيأخذه بغير حق، فيكون بذلك ظالماً ومسيئاً في أخذ ما لا يستحقه.(84/3)
الورع عن حقوق الناس
ومما يحمل على البغي قلة الورع، والورع: هو التوقف عن الشيء المشتبه، وقد كان السلف رحمهم الله يحملهم الورع والخوف على ترك الاعتداء وترك الشيء المشتبه، بل إذا كان هناك شيء مشتبه يخشون أن فيه حراماً أو أنه قريب من الحرام تركوه كله، وقد كتب الإمام أحمد رحمه الله رسالة صغيرة مطبوعة، إذا قرأتها تعرف ما كان عليه الإمام أحمد وغيره من أهل زمانه من شدة التورع عن أخذ ما ليس بحق له.
فإذا عرف الإنسان أن هذا حق مسلم، فعليه أن يتجنبه، ولا يأخذ ما لا يستحقه ظلماً، فإنه ولابد سينتقم منه وسيؤخذ منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كثيرة ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلومين فطرحت عليه، ثم قذف في النار) .
لابد أن يؤخذ للمظلوم من الظالم حتى ولو دخل الجنة، وقد ورد في الحديث: (إنهم إذا نزلوا من الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم كانت بينهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة) أي: لا يدخلون الجنة وبينهم أحقاد، وبينهم مظالم، وبينهم شحناء وعداوات، بل يدخلون الجنة بعدما تصفى قلوبهم، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] أي: ما كان بينهم في الدنيا من الأحقاد، لا يدخلون الجنة إلا وقد صفت منها قلوبهم، وسلموا من الظلم.
ولذلك نقول: إن على المسلم أن يتورع عن حق إخوانه، فإن الاعتداء عليهم حرام، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) أي: محرم بعضكم على بعض أن يعتدي أحد على أحد، وفي حديث آخر قال: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) ، ولكن هناك من لا يبالي في الاعتداء على حق أخيه، فيضربه بغير حق، أو يقتله ظلماً، أو ينتهبه، أو يختلس منه، أو يستولي على شيء من حقه فيأخذه ظلماً وعدواناً، وهذا بلا شك من الظلم، وإذا كان كذلك فلابد أن يؤديه في الدنيا، فإن لم يؤده طوعاً أداه كرهاً وذلك إذا حكم عليه الحاكم بأنه ظالم، وأن عنده من الحقوق لإخوانه كذا وكذا، فيحكم عليه بدفع تلك المظلمة وإعطائها لمستحقها كرهاً ولو بحبس أو بجلد حتى يؤدي الحقوق لمستحقيها؛ ولهذا نصب القضاة والحكام ونحوهم.(84/4)
حكم تنصيب القضاة وصفاتهم
نصب القضاة فرض كفاية، أي: يكفي في البلد قاض واحد إذا كان يقوم بفصل الخصومات، وإن عجز ضم إليه ثانياً وربما ثالثاً أو أكثر من ذلك ولو عشرة أو عشرين إذا كانت البلد مترامية الأطراف.
وهكذا أيضاً إذا كثرت الخصومات وكثرت المنازعات، فإن على ولي الأمر أن ينصب في كل قطر قاضياً، وهذا فرض كفاية كالإمامة التي هي الخلافة، فنصب ملك يتولى أمور المسلمين من أمور الكفاية، والإمام الذي هو الملك مسئول عن نصب القضاة، فعليه أن ينصب في كل إقليم قاضياً، أي: في كل قطر وفي كل جهة ينصب قاضياً إذا كان كافياً، فإن لم يكف زيد بقدر الكفاية.
(ويختار أفضل من يجد علماً وورعاً) : وذلك لأن القاضي يتولى أمور الناس ويسمع أقوالهم، فلابد أن يكون عالماً، أما إذا كان جاهلاً فإنه لا يعرف الحكم، ولا يدري ما يحكم به، فيكون بذلك غير قائم بما أوجب الله، والعالم هو: العالم بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبالأحكام وبالآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في أمور القضاء وما إلى ذلك.
وكذلك يتصف بالورع، فيكون تاركاً للمشتبهات، بحيث إنه يتورع عن أن يظلم أحداً، وإذا لم يكن ورعاً خشي أن يميل مع هذا لصداقته، ومع هذا لقرابته، ومع هذا لمعاملته، فيظلم الناس بغير موجب، ويظلم الناس للناس، يعني: يظلم هذا لأجل هذا ولا مصلحة له هو إذا لم يكن ورعاً، فلابد أن يكون من أهل الورع حتى يحمله ورعه على أن يحكم بالعدل.
(ويوصيه الوالي بالتقوى وتحري العدل) ، والتقوى كلمة جامعة يدخل فيها فعل الأوامر وترك الزواجر، فعل الخيرات وترك المنكرات، وهي مشتقة من التوقي، وهو أن يجعل بينه وبين الحرام وقاية، فيقول: عليك بتقوى الله، أي: الخوف منه ومن عقوبته، ويقول أيضاً كما في الحديث: (اتق دعوة المظلوم) ، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، يعني: توقها فلا تظلم أحداً لنفسك ولا لغيرك، قاله لـ معاذ عندما أرسله إلى اليمن داعياً وجابياً وقاضياً وهادياً، أرسله بأربع وظائف، فأرسله للدعوة إلى الله، فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله) ، وأرسله جابياً الزكاة أي: جامعاً للزكوات ونحوها قال له: (إياك وكرائم أموالهم) ، وأرسله قاضياً وسأله: (كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله) إلى آخره، وأرسله هادياً يعني: معلماً؛ وذلك لأنه من أعلم الصحابة، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، فلذلك أوصاه بالتقوى.
وكذلك يوصي الوالي القاضي أن يعدل بين الخصوم، ولا يظلم أحداً، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] .(84/5)
الولاية العامة والخاصة للقاضي
يقول: (تفيد ولاية حكم العامة فصل الحكومة وأخذ الحق ودفعه إلى ربه، والنظر في مال يتيم ومجنون وسفيه وغائب، ووقف عمله ليجري على شرطه وغير ذلك) .
الولاية إما أن تكون عامة وإما أن تكون خاصة، والولاية العامة كأن يقول: وليتك الولاية الفلانية ولاية عامة، بحيث أنه يوليه جميع أعمالها، والولاية الخاصة كأن يقول: وليتك فصل الخصومات، أو يقول: وليتك أخذ الحقوق من بعضهم لبعض، أو يقول: وليتك ولاية الأموال التي ليس لها مالك أو ما أشبه ذلك، فهذه تكون ولاية خاصة.
وفي هذه الأزمنة الغالب أن هناك ولايات خاصة حيث إن الحكومة تجعل لكل عمل والياً، فالقاضي يتولى فصل الخصومات، يقول: عندك يا هذا كذا، وعليك يا هذا كذا، والأمير يتولى التنفيذ، فيقول: يا فلان! سلم، ويا فلان خذ حقك، فيلزم هذا بأخذ وهذا بدفع، وهذا الذي يسمى منفذاً، وهناك ولايات أخرى، فمثلاً: الأوقاف لها ولاية، وهي الجهة التي تتولى الأوقاف، وتنفذ شروط الواقفين، وهناك ولاة يتولون على الأموال التي ليس لها مالك أو أموال السفهاء ينظرون فيها ويحفظونها، هذا إذا كان هناك عدة ولايات.
وإذا لم يتمكن الإمام أن يجعل لكل جهة والياً فإنه يولي القاضي ولاية عامة، فيقول: عليك أيها القاضي فصل الخصومات وعليك بعد ذلك التنفيذ، ألزم هذا بأن يدفع ما عنده حتى يأخذ الحق صاحبه ومستحقه، ولك أن تنظر في أموال القاصرين في هذه البلد من مجانين ويتامى وسفهاء وأموال غاب أهلها، فلا تترك هذه الأموال فيعبث بها السفهاء فتضيع وتفسد.
والذي يتولى النظر فيها القاضي، وله أن يوكل، فيقول: وكلت فلاناً على مال اليتيم الفلاني، وأنت على مال السفيه، وأنت على مال الغائب احفظ مال هذا الغائب كما تحفظ مالك، واتجر فيه كما تتجر في مالك؛ لأن القاضي قد يقول: أنا منشغل والأعمال كثيرة، فكيف أتولى هذا بنفسي؟! فيوكل من يراه كفؤاً يقوم مقامه ولو لم يأمره الإمام الذي هو الخليفة، لأجل ألا تضيع الأموال.
كذلك إذا كان في البلد أوقاف مثل عقارات أو نخيل، أو بهائم موقوفة كخيل أو نحوها، من الذي يتولى النظر فيها؟ القاضي، لكن إذا جعل هناك -كما في هذه المملكة- من يتولاها كوزارة الأوقاف أو نحوها فإنهم يتولونها ولا يلزم القاضي أن ينظر فيها؛ لأن الأوقاف قد يشرط أصحابها شروطاً، فيقولون مثلاً إذا كانت الأوقاف كتباً: لا تمنع ممن يستفيد، والوكيل عليها فلان، وبعده فلان، وبعده الصالح من الذرية، وهكذا أيضاً إذا كان الوقف عقاراً، أو شجراً، أو دواب، كل ذلك في حاجة إلى أن يتولاه من يقيمة ومن ينظر فيه.
(ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل وخاصاً في أحدهما أو خاصاً فيهما) : مثال عموم النظر في عموم العمل أن يقول الملك لإنسان: وليتك عموم النظر في عموم عملي، أي: ما تحت ولايتي، ولو اتسعت الولاية فله أن يقول: هذه المملكة الواسعة، وقد وليتك عموم النظر، فلك أن تفصل، ولك أن توظف، ولك أن توقف، ولك أن تنفذ، ولك أن تعمر، ولك أن تنقل، لك عموم النظر، فهذا الذي ولاه عموم النظر له أن يوظف من يراه صالحاً، وله أن يعزل من يريد عن قضاء، أو عن إمامة، أو عن خطابة، أو عن تدريس، أو عن وعظ ودعوة، أو ما أشبه ذلك من العمل في جميع المملكة، هذا عموم النظر في عموم العمل، فيقول: وليتك عموم النظر في منطقة الأحساء، فهذا الذي ولاه عموم النظر له في هذه المنطقة أن يوظف وأن يعزل، وأن يغير، وأن ينقل، وأن يعمر مساجد، ويعمر مدراس، فيعين فيها من يريد في هذه المنطقة وحدها، وكذلك له أن يغير بعض الأشياء التي تحتاج إلى تغيير، فإذا كان هناك أوقاف تعطلت فله أن يبيعها وينقلها إلى جهة أخرى، وله أن يقضي، وله أن ينقل، وله أن يعلم، وله أن يوكل من يعلم، يعني: عموم النظر في هذه المنطقة في خاص دون العمل.
وله أن يوليه عموم العمل في خاص منهما، بأن يقول: وليتك القضاء في جميع المملكة، هذا خاص في عمل عام، عرفنا أن العمل هو المملكة، وأن النظر هو جهة من جهاتها، فقال: وليتك جميع المملكة في النظر في القضاة، أو النظر في الأئمة، أو النظر في الخطباء، أو النظر في المعلمين، أو النظر في الدعاة، في خصوص النظر في عموم العمل، ففي هذه الحال يتصرف فيما حدد له، هذا معنى: خاص بأحدهما، ومثال الخاص مثلاً: إذا قال: لك النظر في القضاة في منطقة القصيم، فهذا خاص في خاص، أما عام في عام: لك النظر في المملكة كلها في جميع ما تأمر به، هذا عام في عام، أما إذا كان نظراً في عموم، فمثل ما ذكرنا، وهو: النظر في المملكة في جميع الأحوال، وأما نظر في خاص، أي: في منطقة، وأما خاص في عام، مثل أن يقول: لك النظر في هذه المنطقة في جميع ما تأمر به.
فالحاصل: أنه يجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل أو خاصاً في أحدهما أو فيهما.(84/6)
شروط القاضي
قال رحمه الله: (يشترط كون القاضي بالغاً عاقلاً ذكراً حراً مسلماً عدلاً سميعاً بصيراً متكلماً مجتهداً ولو في مذهب إمامه) .
يعني: أنه إذا كان صغيراً دون البلوغ فإنه قد ينخدع؛ وذلك لأنه لم يتكامل عقله، ولم تتكامل معرفته، فلابد أن يكون قد بلغ، ويجوز إذا كان قد بلغ، وذكروا أن معاذاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن وعمره نحو العشرين أو ثمانية عشر، وكذلك كثير من الذين تولوا في عهد الصحابة وغيرهم تولوا القضاء وهم صغار؛ وذلك لأن الذي ولاهم عرف فيهم الكفاءة فولاهم وقاموا بالعمل كما ينبغي.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، فاقد العقل، فكيف يعرف أن يتصرف؟ وكيف يعرف ما يحكم به؟ الشرط الثالث: الذكورية، لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فارس ولوا ابنة ملكهم، فقال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) المرأة كما ورد في الحديث ناقصة عقل ودين، فلا تتولى مثل هذا، وأيضاً فإن المرأة وظيفتها الاستحياء والاحتشام والتستر، والقاضي يلزمه أن يكون بارزاً للناس، يتوافد إليه الخصوم، فيجلسون إليه ويدلون بحججهم، فلا يكون القاضي امرأة؛ لأنه يلزم من ذلك أن تبرز للناس وذلك ينافي أنوثتها.
الشرط الرابع: الحرية؛ لأن المملوك مستولى عليه، بمعنى: أنه مملوك لسيده ومنافعه له، فلا يمكن أن يتولى، لكن لو أذن له سيده وكان كفؤاً عالماً عاقلاً بالغاً مسلماً عدلاً، وفرغه للقضاء، وكان أهلاً؛ فإنه يصلح، وتكون أجرته ومرتبه لسيده.
الشرط الخامس: الإسلام، فلا يجوز أن يولى القضاء كافراً ولو كان عالماً عارفاً بالأحكام؛ لأنه يحكم للمسلمين، حتى وإن كان قد يحكم لغيرهم إذا كانوا معهم، فلا يكون إلا من المسلمين.
الشرط السادس: العدالة، أن يكون عدلاً، يخرج بهذا المتظاهر بالمعصية، فإنه لا يصلح أن يتولى القضاء أياً كانت تلك المعصية، سواء كان يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو يحلق لحيته، أو يسمع الغناء، أو يترك الصلاة، أو يتأخر عن صلاة الجماعة، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً إذا كان يتعامل بالربا، أو يأخذ الرشوة، فكل ذلك يقدح في عدالته، فلا يجوز أن يتولى مثل هذا قضاء المسلمين.
الشرط السابع: أن يكون سميعاً، فالأصم لا يدري ما الناس يقولون؛ وذلك لأنه لابد أن يسمع كلام هذا الخصم ثم كلام الخصم الثاني، فإذا كان أصم فكيف يسمع؟ الشرط الثامن: البصر، حتى يعرف سيما هذا وسيما هذا؛ لأنه إذا كان ضريراً لبس عليه، وقد يأتيه إنسان على أنه فلان وليس هو، والصحيح: أنه يجوز أن يكون القاضي ضريراً؛ لأن العادة أن الضرير يكون معه فطنة وفهم ومعرفة بأصوات الناس، فهو يميز بين الصادق والكاذب، وكذلك يعرف الأصوات ويميز بين صوت فلان وفلان.
الشرط التاسع: أن يكون متكلماً، فلا يصح أن يكون أخرس لا ينطق، كيف يعرف الناس حكمه إذا كان أخرس؟ ليس كل الناس يعرف إشارات الأخرس، إذا أشار بكذا وبكذا بأصابعه لم يفهمه كل أحد، إذاً: لابد أن يكون متكلماً.
الشرط العاشر والأخير: أن يكون مجتهداً ولو في مذهب إمامه.
الاجتهاد قسمان: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد، فالاجتهاد المطلق هو الذي يقدر أن يعرف الحكم الذي هو الصواب بدليله، فيستطيع أن يعرف الأدلة ويستخرجها من أصولها، وذكر المتأخرون أن الاجتهاد المطلق قد انقطع بعد انتهاء عصر الأئمة الأربعة، وأن من بعدهم لابد أن يرجع إلى أقوالهم، ولكن الصحيح أنه لم ينقطع، وأن الإنسان إذا أعطاه الله قدرة وملكة فإن له أن يجتهد، ويأخذ القول الصواب سواء كان عند هذا الإمام أو عند هذا، وقد ذكروا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان مجتهداً؛ ولذلك خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل، مما يدل على أن الله أعطاه ملكة يقدر بها على معرفة الصواب ولو خالفه من خالفه.
وكذلك في عهد السيوطي في القرن التاسع وأول القرن العاشر ادعى أنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولما ادعى ذلك أنكر عليه أهل زمانه، وأشد من أنكر عليه السخاوي، وقالوا: كيف تدعي الاجتهاد والاجتهاد قد انقطع؟ ولكن مؤلفاته فيها شيء كثير من الاختيارات، والغالب أنه لم يأخذ كل شيء عن مذهب الشافعي؛ لأنه شافعي المذهب، فهذا هو الاجتهاد المطلق.
وأما الاجتهاد المقيد فهو: أن يجتهد في مذهب الإمام الذي يقلده، إذا كان في المذهب عدة روايات كمذهب الإمام أحمد، ففي مذهب الإمام أحمد روايتان وثلاث روايات وأربع روايات، ففي هذه الحال إذا كان مجتهداً مقيداً فمعناه أنه يعرف الراجح من هذه الروايات، إذا نزلت به نازلة يستطيع أن يخرج دليلها وأن يخرج القول فيها من كتب العلماء الذي هو تبع لهم، من كتب الحنابلة إن كان حنبلياً، أو من كتب الشافعية إن كان شافعياً، يستطيع أن يخرجها.
وأما المقلد الذي هو غير مجتهد فإذا حصلت عليه قضية لا يعرف دليلها ولا يعرف الحكم، فيحتاج أن يسأل فيقول: يا فلان! عرضت علي قضية كذا وكذا، أخبرني كيف أقضي، كلما جاءته قضية توقف فيها حتى يسأل زملاءه أو أهل بلده، فهذا لا يسمى عالماً؛ لأنه يأخذ العلم عن غيره، ويأخذ القضاء عن غيره.
هذه شروط القاضي، وهي عشرة، وفي واحد منها خلاف، وهو اشتراط البصر.(84/7)
نفوذ حكم المحكم
يقول: (إن حكم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه) .
اثنان بينهما خصومة ونزاع، وطال ذلك النزاع، وكل يدعي أن الصواب معه، فاتفقا على رجل وأتيا إليه وقالا: نرى فيك الأهلية، وقد رضينا حكمك، دعنا نعرض عليك قضيتنا، هذه دعواي كذا وكذا، والثاني يقول: وأنا دعواي كذا وكذا.
فإذا سمع دعوى كل واحد منهما قال: أنتما حكمتماني، أنت يا فلان عندك كذا لصاحبك فأعطه حقه، هل ينفذ؟ ينفذ لأنهما حكماه ورضيا بحكمه واقتنعا به وقالا: قد جعلناك حكماً بيننا، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] يعني: إذا طال النزاع بين الزوجين فللقاضي أو لأهلهما أن يبعثوا حكمين، يختار هؤلاء حكماً، ويختار هؤلاء حكماً، ثم يقول الحكمان: ماذا عندك يازوج؟ ماذا عندك يازوجة؟ فإذا سمعا منهما عند ذلك يحكمان، فيقولان: الحكم لك يا فلان والحكم عليك يا فلان، مثلاً: عليك أن تقنعي بدون حقك، وعلى وليك أن يدفع كذا أو ما أشبه ذلك، فالله تعالى أباح أن يحكم حكمان في هذا الأمر.
وكذلك قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فأمر أن يحكم في الصيد حكمان.
اثنان بينهما خصومة، فاختارا رجلاً اسمه سعيد، فقالا: يا سعيد قد جعلناك حكماً بيننا؛ لأنك تصلح للقضاء، ولأنك من أهل المعرفة، ومن أهل العلم، احكم بيننا، فينفذ حكمه في كل شيء ينفذ فيه حكم من ولاه الإمام أو نائبه، يعني: في فصل الخصومات وفي قطع المنازعات.(84/8)
آداب القاضي
ما هي صفات القاضي التي ينبغي أن يتحلى بها من الأخلاق؟ قال: (يسن كونه قوياً بلا عنف، ليناً بلا ضعف، حليماً، متأنياً، فطناً، عفيفاً) ، هذه مما يشترط في صفات القاضي؛ لأنه إذا كان ضعيف الجانب، ليس له هيبة، وليس له سلطة؛ طمع فيه الظالم، ولبس عليه، بخلاف ما إذا كان مهيباً، ولكن لا تكون هيبته قوة شديدة بحيث يهابه صاحب الحق، ولا يقدر على أن ينطق بحق؛ لأن بعض القضاة يظهر شدة ويظهر قوة ويظهر اعتزازاً، فإذا رآه المظلوم أيس من حقه وقال: هذا متعجرف، وهذا متكبر، كيف آخذ حقي منه؟ هذا شديد لقوة كلامه ولصرامته، فلا يطمع في أخذ شيء من حقه، فيكون بذلك ظالماً، فلابد أن تكون قوته ليس فيها عنف وبطش.
وأن يكون ليناً ليس معه ضعف، فيكون لين الجانب، سهل الأخلاق، مسفر الوجه، طليقه، يتواضع مع الصغير والكبير، ولكن بحيث لا يطمع فيه أهل الظلم، فيغتنم دينه ويخدعه ويصرفه عن طريق الحق، لابد أن يكون ليناً ولكن لا يكون مع اللين ضعف شديد.
وأن يكون حليماً، فلا يعجل، وإذا تكلم عليه أحد لم يغضب ولم يشتد في كلامه، بل يغلبه الحلم.
وأن يكون متأنياً، والتأني هو التريث في الأمور وعدم العجلة، حتى يعرف الحق ويحكم به بعد أن يتضح دليله، بخلاف الذي يحكم بسرعة فإنه قد ينتقض حكمه؛ لأنه لا يكون عارفاً، فالعارف يتأنى في الأمور، ولا يتسرع، ولا يحكم إلا بعد ما يتتبع القضية من هذا ومن هذا.
ويسن أن يكون فطناً، أي: ذكياً، وإذا كان بليداً فإنه قد يعتقد الظالم محقاً ويحكم له، ولا يتفطن لحيلة، فإن الناس معهم حيل ومعهم أفكار قد يصرفون بها القاضي، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن من حجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) وهذا أيضاً يدل على أنه يستحب للقاضي نصيحة الخصوم وتوبيخهم حتى يقنعوا، وحتى يرجع الظالم عن ظلمه، وحتى ينصرفوا وهم راضون عن القاضي.
وأن يكون عفيفاً، والعفيف هو الورع المتعفف عما لا يحل، والعفة تكون عن الحرام وتكون عن المشتبهات، فإذا كان يتعامل بالمشتبهات في بيعه أو في شرائه أو في تصرفه دخل عليه الخلل ودخل عليه العيب، ورمي بأنه يتجرأ على حقوق الناس، وبأنه يأخذ ما لا يحل، فيكون ذلك طعناً فيه فلا تقبل أحكامه ولا نصائحه.(84/9)
وجوب العدل بين المتخاصمين
قال: (وعليه العدل بين المتحاكمين في لفظه ولحظه ومجلسه ودخول عليه) العدل هو المساواة، والمتحاكمان هما المتخاصمان، عليه أن يعدل بينهما أي: أن يسوي بينهما في لفظه، فلا يلين في الكلام مع أحدهما والآخر يشدد عليه، بل يكلمهما سواء، فيعدل بينهما، أما كونه يلين مع واحد أو يساره فيتكلم معه سراً فإن هذا فيه حيد، فعليه أن يعدل بينهما في كلامه، ولا يكلم أحدهما سراً والآخر لا يسمع، فإن هذا يكون مطعناً عليه.
وكذلك في لحظه، أي: نظره، فإذا كان ينظر إلى واحد من المتخاصمين اتهمه الآخر، ويقول: كونه دائماً كان يحدق النظر إلى خصمي يدل على أنه مال معه، وأنه ظلمني بهذا الميل، فيكون ذلك سبباً في الطعن عليه، فلابد أن يلحظهما سواء.
وكذلك مجلسه، ورد في الشرع أن الخصمين يجلسان أمام القاضي، ولو كان أحدهما أميراً أو ثرياً أو كبيراً، يجلسان سواء بين يدي القاضي ولا يرفع مجلس أحدهما عن الآخر، بل يجلسهما سواء، فإن كانا على كرسيين سوى بينهما، وإن كانا على الأرض سوى بينهما، ولا يجلس أحدهما على فراش أحسن من الثاني، ولا أحدهما على الأرض والآخر على الفراش، بل يسوي بينهما في مجلسه.
كذلك يسوي بينهما في الدخول عليه، فيدخلان عليه سواء؛ لأنه لو دخل واحد وحجب الآخر اتهمه ذلك المحجوب، ويقول: دخل عليه وحده وأسر إليه وكلمه، وأنا حجبني ومنعني، وما أدخلني إلا بعد مدة، فلابد أن يدخلا عليه سواء، وذلك من العدل.(84/10)
متى يحرم القضاء؟
يقول: (وحرم القضاء وهو غضبان كثيراً) في حديث أبي بكرة لما تولى ابنه القضاء كتب إليه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ؛ لأنه إذا كان غضبان كثيراً فقد لا يتصور المسألة، وقد يحمله غضبه على أن يميل مع أحدهما، فإذا غضب من أحدهما أجل القضية، وصرفهما إلى أن يذهب عنه غضبه، فيحكم بينهما في حالة هو فيها مقتنع بالحكم، قد ذهب عنه الغضب الشديد.
ولا يحكم وهو محتقن البول؛ لأنه يكون متكدر البال غير متأنٍ ولا متأمل لما يقول، وكذا إذا كان في شدة الجوع، فإذا كان جائعاً جوعاً شديداً فإنه في تلك الحالة لا يكون مطمئناً، ولا يكون متثبتاً؛ لأنه مع شدة ألم الجوع، وكذلك العطش؛ لا يكون متأنياً؛ يتمنى أن تنفصل القضية ليذهب ليأكل أو ليشرب.
أو في هم، فإذا جاءه هم وغم شديد فإنه لا يفكر في القضية، فلا يجلس للقضاء وهو مهموم.
وكذلك إذا كان في ملل، أي: تعب شديد بحيث إنه من آثاره لا يقبل على القضية.
وكذلك الكسل، وهو التثاقل في الأمور وعدم النشاط فيها.
وكذلك النعاس، فإذا كان في حالة نعاس، وهو بحاجة إلى أن يريح نفسه، فإذا قضى في تلك الحالة قد يكون القضاء غير محكم.
وهكذا إذا كان هناك برد شديد مؤلم أو حر شديد، بحيث إنه لا يطمئن في مجلسه لشدة الحر الذي يزعجه أو لشدة البرد الذي يزعجه.(84/11)
حرمة الهدية للقاضي
قال: (وحرم عليه قبول رشوة) : النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، والرشوة هو المال الذي يعطيه أحد الخصمين حتى يميل معه، يقول أحد الخصمين: إن عندي لك هدية، عندي لك كذا، ويسميها هدية وهي رشوة، ففي هذه الحالة يميل معه، أو يقصد ذلك الراشي أن يميل معه، وفي الحديث: (لعن الله الراشي والمرتشي) .
وكذلك لا يقبل الهدية إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، وليس له قضية، فلا يقبل الهدايا من أحد مخافة أن يكون له دعوى، فإذا خاف أن له دعوى لا يقبل هديته بل يردها عليه، وإذا قبلها فقد يتهم، ويقال: حكم لفلان لأنه يهدي إليه، ومال معه لأنه أعطاه كذا، فيتهم وإن لم يكن ذلك قصداً، والذي يقبل هديته يشترط ألا يكون له خصومة ودعوى، فإذا كان له دعوى فلا، ولا يقبلها إلا إذا كان ممن يهادونه قبل أن يتولى، إذا كان يهدي إليك وتهدي إليه قبل أن تتولى، فأهدى إليك كعادته، فلا بأس أن تقبل تلك الهدية؛ لأن العادة أنهم يتهادون من قبل عملاً بحديث: (تهادوا تحابوا) .
ومنع القاضي أن يتجر في الأسواق؛ لأن الناس قد يتساهلون معه بالبيع أو بالشراء طمعاً أن يميل معهم.(84/12)
لا يقضي القاضي على عدوه ولا قريبه
قال رحمه الله: (ولا ينفذ حكمه على عدوه) لأنه يتهم، يقول: حكم عليّ لأني قد عاديته، ولأني قد خاصمته.
إذا كان له عدو فلا يحكم له، بل يحيل القضية إلى غيره، يقول: أحيل القضية إلى فلان من القضاة، أما أن يحكم على عدوه فإنه متهم.
ولا يحكم لنفسه ولا لجميع أولاده وآبائه وأجداده وجداته وبناته، فإذا كانت القضية لولده مع خصم آخر أحالها على غيره من القضاة وقال: انظروا في دعوى ولدي فلان، أو والدي فلان؛ لأني لا أحكم له مخافة أن أتهم بأني تساهلت مع أبي أو مع ابني.
وهكذا كل من لا تقبل شهادته له من الأصول والفروع كالأب والجد والأم والجدة وإن عليا، وكذلك أيضاً الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وبنت البنت وابن البنت ونحوهم، فهؤلاء لا تقبل شهادته لهم، وكذلك لا يشهدون له، وكذلك أيضاً لا يحكم لهم مخافة أن يتهم ويقال: حكم لقريبه.(84/13)
إحضار الخصم
قال: (ومن استعداه على خصم في البلد بما تتبعه الهمة لزمه إحضاره إلا غير برزة) يظهر أن (إلا) زائدة، والصواب (لزمه إحضاره غير برزة فتوكل كالمريض) ، وهنا كتبها بزرة، والصواب: برزة، أي: إلا المرأة التي ليست برزة، وهي التي تستحي ولا تبرز للناس، فغير البرزة توكل، أما البرزة التي معها جرأة تخرج وتكلم وتحتج فإنه يلزمها أن تحضر.
والاستعداء الشكاية، فإذا جاء إلى القاضي رجل وقال: إن فلاناً خصمي، أريد أن تحضره، وهو موجود في البلد، وقد ظلمني بكذا وكذا، فإذا كانت المظلمة مالاً له قيمة وله قدر تتبعه همة الناس يلزم القاضي إحضار ذلك الخصم، وفي هذه الأزمنة يكون الاستعداء للشرط، أو أمراء البلد، فهم الذين يستعديهم المظلوم، ويقول: إن فلاناً ظلمني، فإذا كان كذلك فإن على القاضي أن يرسل من يحضره فيقال له: يا فلان أجب القاضي فإن فلاناً قد اشتكاك، احضر وإن لم تحضر فإننا سنعاقبك، فيلزمه أن يحضر إذا كان المال مما تتبعه الهمة.
أما غير البرزة فلا يحضرها بل توكل، يعني: المرأة التي تستحي من الناس -غير برزة- توكل؛ لأنها تستحي أن تحضر، وكذلك المريض، إذا قال: إن فلاناً مريض وعليه لي حق قدره كذا وكذا مما تتبعه الهمة، فإنه في هذه الحال يوكل؛ لأنه يشق عليه الحضور.
وكذلك أيضاً: من كان بعيداً، أي: خارج البلد فإنه يوكل؛ لأن عليه مشقة في الحضور.
وإذا وجبت اليمين على غير البرزة، أو على الغائب، أو على المريض فلا يحلف الوكيل؛ لأن الحلف يتعلق بالذمة، بل يرسل القاضي من يحلفهما، فيرسل إلى المرأة التي ليست برزة: احلفي على كذا وكذا، ويرسل إلى المريض: احلف على كذا وكذا، فيحكم بعد ذلك بما يوجب ذلك.(84/14)
الدعاوى
هذا الفصل يتعلق بالدعوى، والدعوى: هي القضية التي تكون فيها الدعوى، ويشترط في المدعي والمدعى عليه أن يكونا جائزي التصرف.
وجائز التصرف: هو الحر البالغ الرشيد، فإذا كان المدعي صبياً لم تسمع دعواه، ويتولى أمره وليه، وكذلك إذا كان مجنوناً أو كان عبداً فإنه يتولى أمرهم وليهم.
ادعى رجل أن هذا الصبي ظلمني، وأنه أخذ حقاً لي ونحو ذلك، أو هذا المجنون، أو هذا العبد، ففي هذه الحال لا تسمع دعواه عليهم، لكن الدعوى تكون على أوليائهم، أما العبد فيمكن أن تسمع الدعوى عليه؛ لأنه قد يظلم، وقد يعتدى، وقد يظلم هو بضرب أو بنهب، أو نحو ذلك، ولكن الخصم سيده، فيحضر سيده، وإذا وجبت اليمين فالذي يحلف هو العبد.(84/15)
تحرير الدعوى
يشترط تحرير الدعوى، وتحريرها يعني: تشخيصها، أما إذا قال: لي عليه حق، أو لي عليه مظلمة، فلا بد أن يبين ذلك، فلا يقول مثلاًً: عنده لي أرض، أو عنده لي عقار؟ فلا بد أن يحرر ذلك وأن يبينه وأن يذكر أوصافه، فيقول: إني أملك الأرض الفلانية، وإنه اعتدى عليّ وأخذ منها نصفها، أو ربعها، وتقع في البلدة الفلانية، أو أدعي عليه أنه أخذ من غنمي شاة، وصفتها كذا وكذا، من ضأن أو من معز، وأنه انتهبها أو ذبحها، أو أدعي عليه أن عنده لي ديناً قدره من الدراهم كذا، أو من الدنانير كذا وكذا، وأنه بخسني حقي، أو أدعي عليه أنه ضرب ابني ضربة بكذا وكذا، أو قلع سناً منه، أو فقأ عيناً منه، أو قطع إصبعاً من يده اليمنى أو اليسرى، أو ما أشبه ذلك، فهذه دعوى محررة، بخلاف ما إذا قال: لي حق ولم يبين، أو دين ولم يذكر مقداره، أو مظلمة ولم يسمها، أو عقار ولم يحرره، فلا بد من تحرير الدعوى.
ويشترط علم مدعى به إلا فيما نصححه مجهولاً كوصية، والمدعى به هو الحق، فيقول: أدعي عليه مائة ريال، أدعي عليه شاة أدعي عليه كذا دراهم قيمة ثوب، أدعي عليه أنه ضربني أو ضرب ابني، فلا بد من علم المدعى به وتحديده، ويتسامح إذا كان الشيء مما يصحح وهو مجهول، فإذا قال: إنه أخذ مني من البقالة مالاً لا أذكر عدده، ولكن هو أخذه مني في عدة أيام.
وفي هذه الحال يسمع منه، ويكون العدد عند الآخذ أو عند المأخوذ منه أو يصطلحان، وكذلك إذا قال: إن أبي أوصى لي بوصية وجحدها، أوصى أن يعطوني من المال وصية، ولا أدري هل هي الثلث أو الربع أو العشر أو مائة أو ألف؟ أوصى لي وصية ثم جحدني الوصية، والوصية تصح بالمجهول كشيء أو مال أو جزء أو سهم كما تقدم.
يقول: (فإن ادعى عقداً ذكر شروطه) : هذا من التحرير، إذا قال مثلاً: إني اشتريت منه سيارة فلا بد من ذكر شروط البيع، هل السيارة ملك لك؟ هل كانت السيارة معلومة؟ هل باعك ما لا يملك؟ هل الثمن معلوم أو مجهول؟ هل هي موجودة عنده أو ليس بموجودة؟ لا بد من ذكر شروطه.
وكذلك لو ادعى نكاحاً قال: أدعي عليه أنه زوجني ابنته أو أخته، لا بد أن تذكر الشروط فتقول: هي أخته، وهو وليها، وأنا دفعت له المهر، وهو أوجب، وأنا قبلت، وإننا أشهدنا فلاناً، أو عقد لنا فلان الذي هو مأذون، وتمت الشروط، ففي هذه الحال تقبل الدعوى؛ لأنها أصبحت محررة.
كذلك إذا ادعى إرثاً وذكر سببه فقال: إن عندهم لي ميراثاً، وأنا وارث من جملة الورثة، فيقال له: اذكر السبب، لأي سبب ترث، بنسب أو بنكاح أو بولاء، هل الميت أخوك، أو أخوك لأم، أو الميتة أمك، أو زوجتك؟ اذكر السبب.
قال: (أو محلى بأحد النقدين قومه بالآخر، أو بهما فبأيهما شاء) إذا ادعى مثلاً سيفاً محلى، أو خنجراً محلى كقوله: عنده لي سيف محلى بذهب، أو خنجر محلى بذهب، ففي هذه الحال كيف يقوم ذلك السيف المحلى بأحد النقدين: يقوم بالدراهم، أو يقوم بالدنانير، إن كان محلى بالذهب لا يقوم بالذهب؛ لئلا يقوم ذهب بذهب فيكون متفاوتاً، بل يقوم بالدراهم (الفضة) ، وإذا ادعى أنه محلى بفضة، وقال: أريده محلى بفضة، وادعى صاحبه أنه قد فات مني، أو بعته، أو نحو ذلك، فإنه يقوم بالنقد الآخر، فالمحلى بالذهب يقوم بالفضة، والمحلى بالفضة يقوم بالذهب.
أو يقوم بهما، فإذا قال مثلاً: محلى بذهب وفضة ما قال: محلى بأحدهما، بل محلى بهما، أي فيه ذهب وفضة، ففي هذه الحال يقومونه بأيهما شاء.
إذا حرر الدعوى ووصفها وصفاً دقيقاً ففي هذه الحال إما أن يقر الخصم أو يجحد، فإذا أقر الخصم حكم عليه الحاكم بسؤال المدعي، إذا قال: أنا أدعي عليه بدين، والدين الذي لي قدره ألف ريال قيمة مبيع، أو قيمة متلف، سأل القاضي: ماذا تقول في دعوى خصمك؟ فإذا قال: صدق، عندي له كذا وكذا، وقال المدعي الثاني: احكم عليه أن يدفعه، حكم عليه بسؤال المدعي.
هذا في حالة الإقرار، أما إذا أنكر فقال: كذب، ليس عندي له شيء، ولا أعرفه، ولا اشتريت منه، ولا اشترى مني، ولا تعاملنا، ولا بيننا معرفة، ولا بيننا دعوى، ماذا يفعل؟ تعرفون الحديث الذي في الأربعين النووية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وفي رواية البخاري: (أنه قضى باليمين على المدعى عليه) ، المدعى عليه هو المنكر.(84/16)
الفرق بين المدعي والمدعى عليه
المدعي: هو الذي يطالب وإذا ترك لم يسكت.
والمدعى عليه هو المطلوب منه، ويعرفونهما: بأن المدعي من إذا سكت ترك، والمدعى عليه إذا سكت لم يترك، المدعي هو الذي يطالب، والمدعى عليه هو المطلوب، الذي إذا سكت لم يترك هو المدعى عليه، والذي إذا سكت ترك هو المدعي.
ويعرفونهم أيضاً: بأن المدعي هو الخارج، والمدعى عليه الداخل، فيقولون: البينة على الخارج واليمين على الداخل (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) .
ثم إن البينة هي الشهود، ولكن يقول ابن القيم رحمه الله: إن البينة اسم لكل ما يبين الحق كالقرائن والشهود والاعترافات والظواهر والشهرة وانتشار الخبر، فهذه تسمى بينات، وليست خاصة بشاهدين، وقد تكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه المطبوع الذي سماه: الطرق الحكمية فيما يتعلق بالقضاء يقول: فإذا أنكر وليس للمدعي بينة قبل قول المنكر بيمينه، فيحلف إنه ليس عندي له ما يدعيه، وإني لا أطالب بمال ولا بحق أو مظلمة ونحو ذلك، فإذا حلف برئت ذمته.
أما إذا نكل وقال: لا أحلف، أخشى من الكذب، وأخشى من عقوبة الفجور، قيل له: إما أن تحلف وإلا حكمنا عليك، فيحكم عليه بسؤال المدعي، بأن يقول: احكم عليه.
والحكم بالبينة أو باليمين يكون في الأموال ونحوها، وأما الفروج ونحوها فلا يحكم فيها باليمين، بل لا بد من البينة.
ومن العلماء من يقول: إذا نكل المدعى عليه حلف المدعي لحديث ورد في ذلك وهو مذكور في البلوغ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق) ، أي: فإذا كان المدعي ليس معه بينة، وامتنع المدعى عليه من الحلف، فيقال للمدعي: حيث إن صاحبك قد امتنع فاحلف أنت أن عنده لك مائة أو ألف ريال قيمة كذا وكذا حتى نلزمه، فتكون عندنا قرينة، فقرينة امتناع المدعى عليه تدل على أنه ظالم، وقرينة أن هذا حلف تدل على أنه صادق.(84/17)
مواضع الاستحلاف
يقول: (ويستحلف في كل حق آدمي سوى نكاح ورجعة ونسب ونحوها) : حقوق الآدميين إما أن تكون مالاً مثل ثمن مبيع يقول: عنده لي قيمة سيارة أو قيمة بعير وجحده، أو مثلاً عنده لي وديعة قد خان فيها أو ما أشبه ذلك من حقوق الآدميين، أو تدعي المرأة على زوجها أنه ما أعطاها صداقها، أو يدعي عليها أنها ما أعطته عوض الخلع، أو تدعي عليه أنه ما أنفق عليها مدة كذا وكذا.
فهذه من حقوق الآدميين، ومنها القذف، فإذا ادعى عليك أنك قذفته فهذا حق آدمي، فلك أن تحلف أنه كاذب عليك، وإذا لم تحلف حلف هو أنه صادق، وأشباه ذلك من حقوق الآدميين.
أما النكاح فلا يستحلف فيه، فإذا ادعى عليك أنك زوجته ابنتك فلا يقبل حلفه، ولا يلزمك اليمين إذا أنكرت، فإن لم يكن عنده شهود على النكاح فلا يحلف المدعي ولا المدعى عليه، وكذلك الرجعة، إذا ادعى أنه طلق امرأته ثم قال: إني راجعتها، هل نقول: احلف؟ لا نقول، ولكن نقول: ائت بشاهدين أنك راجعتها في العدة.
وكذلك النسب: إذا ادعى وقال: إنني وارثه لأني ابن عمه، هل نحلفه؟ لا نحلفه؛ وذلك لأنه لا يعلم إلا من قبله.
أما حقوق الله تعالى فلا يحلف فيها، وكذلك العبادات، فإذا اتهم بالزنا وثبت عليه الحد فأنكر، ولم يكن هناك بينة فلا نقول: احلف أنك ما زنيت، أو ما شربت الخمر أو نحو ذلك، وهكذا العبادات إذا ادعي عليه أنه ما زكى، أو أنه ما صلى صلاة كذا، فلا حاجة إلى التحليف؛ لأن هذا شيء خفي بينه وبين الله تعالى.
وكيفية اليمين التي يحلف بها المدعى عليه هي اليمين المشروعة، أن يحلف بالله وحده، أو بصفة من صفاته، كوجه الله، أو عزة الله، أو يحلف مثلاً بكلام الله، أو بالقرآن.
ويحكم بالبينة بعد التحليف، إذا حلف المدعى عليه حكم بيمينه وقيل للمدعي: لا شيء لك أيها المدعي؛ لأنك ما أتيت ببينة، فإذا أتى بالبينة وقال: هؤلاء شهودي ولم يكن هناك ما يقدح فيهم، حكم بموجب البينة التي هي الشهود، وإن كان المدعي عليه قد حلف.
ولو قدر أن المدعى عليه حلف، والمدعي يقول: ما عندي شهود، ولكن أريد يمينه، فحلف المدعى عليه أن ما عندي له شيء، ولا يطالبني، ولا اشتريت منه، ولا عندي له أمانة ولا وديعة، ولا ضربته، ولا ضربت ولده.
وقدر بعد ذلك أنه وجد بينة عادلة، وأحضرها عند القاضي فلا نقول: الدعوى قد انقضت لما حلف بل نحكم بالبينة التي وجدت بعد أن انتهت الدعوى، ونقول: تبين أن يمينك كاذبة، وعليك أن تستغفر الله عن ذلك الحلف الفاجر، وهي اليمين الغموس، وقد حكمنا عليك لما جاء بالبينة الذين هم شهود عدول، فيحكم بالبينة ولو بعد أن يحلف المدعى عليه.(84/18)
شروط البينة
ماذا يشترط في البينة؟ يشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً في الظاهر يعني: معروفين أنهم يصلون ويصومون، وأنهم من أهل الصدق، ومن أهل الورع، وليسوا فسقة ولا كفرة ولا غير ذلك.
(وفي غير عقد النكاح باطناً أيضاًَ) : عقد النكاح يكفي فيه شاهدان عدلان عدالة ظاهرة، وليس للمأذون أن يفتش ويقول: أخبروني بباطن أمرهم، فقد يكونون غير صادقين ولا صالحين، نقول: يحكم بالظاهر أنهما عدلان؛ لأن في الحديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، وفي رواية: (لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل) ، فشهود عقد النكاح يكفي فيهم العدالة الظاهرة.
وأما شهود القضايا التي عند القاضي فلا بد أن يكونوا عدولاً ظاهراً وباطناً، وإذا جهلهم القاضي طلب من يزكيهم فيقول: يا فلان! هل تعرف هذا الشاهد؟ يقول: نعم أعرفه، وأزكيه فهو عدل.
ويشترط في المزكي معرفة الجرح والتعديل، فإذا قال المدعى عليه: هؤلاء مطعون فيهم.
فيقال: أحضر من يطعن فيهم، فإذا حضر الشهود وقالوا: نعم هذا نعرف أنه قد شهد زوراً، وهذا نعرف أنه لا يصلي مع الجماعة، وهذا نعرف أنه قد أطلق لسانه بالقذف والسب ونحو ذلك، فهؤلاء جرحوا فلا تقبل شهادتهم.
وإذا قال القاضي لصاحب البينة: ائتنا بمن يعدلهم، فالمعدل يقول: نعم أعرف هذا الشاهد أنه عدل يصلي ويصوم، ولا يتعامل بالربا، ولا يشهد زوراً، ولا يكذب في كلامه وما أشبه ذلك، هكذا يكون المزكي، ولا بد أن الحاكم يعرف خبرته الباطنة، وإذا كان القاضي يعرفهما باطناً وظاهراً حكم بمعرفته، ولا حاجة إلى طلب المزكي، إذا قال: يا قاضي هؤلاء شهودي فلان وفلان هل تعرفهم؟ يقول القاضي: نعم أعرفهم، هل تعرفهم باطناً وظاهراً؟ فإذا قال: نعم أعرف باطنهم وظاهرهم، فإنه يحكم بهم، ولا حاجة إلى مزكين.(84/19)
تقديم بينة جرح على تعديل
يقول: (وتقدم بينة جرح) : إذا قال القاضي: لا أعرفهما ائت بمن يزكيهما، وقال المدعى عليه: عندي فيهما جرح، يقول: ائت بمن يجرحهما، فالمدعي جاء باثنين يزكون، والمدعى عليه جاء باثنين يجرحون، هذا يقول: إنهما فاسقان، وإنهما كاذبان، وإنهما من شهود الزور.
وهؤلاء يقولون: إنهما عدلان ظاهران، يصليان ويصومان، ويؤمنان بالله واليوم الآخر، فالقاضي يقدم بينة الجرح؛ لأن الغالب أن الجارح يعلم شيئاً يخفى على المعدل، فلأجل ذلك يحكم القاضي بأن هذا غير مقبول؛ لأنه قد جرحه هؤلاء، وبينوا ما فيه من الجرح، فلا يقبل دعواه.(84/20)
تزكية الشهود
لما تكلموا على القضاء عرفوا أن القاضي قد يحتاج إلى بينة، والبينة هم الشهود الذين يتبين الحق بشهادتهم، فإذا عرف الحاكم هؤلاء الشهود فلا حاجة أن يطلب من يزكيهم؛ لأن معرفته يقينية، فعندئذ تكون شهادته أو تزكيته كافية، أما إذا جهل البينة فإنه يطلب من يزكيهم.
ولا يقبل في التزكية ولا في الجرح ونحوهما إلا رجلان، وإذا جاء رجلان فكل واحد منهما يزكي الاثنين، فإن قال أحدهما: أنا لا أزكي إلا واحداً، وقال الثاني: أنا لا أزكي إلا واحداً، لم يكتف بذلك، وإذا جاء شاهدان يزكيان كل واحد من الاثنين، يقول كل واحد منهما: أنا أعرف هذا وأزكيه، وأعرف هذا وأزكيه، وقال الثاني: أنا أعرفهما جميعاً وأزكيهما، هاهنا حصل أن كل واحد جاء اثنان ليزكياه.
أما إذا قال واحد: أنا أزكي هذا، وقال الثاني: أنا أزكي هذا، صار كل واحد، ما زكاه إلا واحد فلا بد حينئذ أن يطلب اثنين آخرين، أو واحداً يزكي الاثنين، فلو جاء بثلاثة وواحد قال: أنا أزكي واحداً، والآخر قال: أنا أزكي واحداً، والآخر قال: أنا أزكي الاثنين قبلت التزكية؛ لأن هذا الذي زكى الاثنين حصل بتزكيته تزكية الاثنين، وكل واحد من الاثنين زكى واحداً، فحصل بذلك أن كل واحد منهما زكاه اثنان.
وكذلك في الجرح، إذا جرحهما الخصم وقال: هؤلاء مطعون فيهما، فيقال: أثبت الطعن فلا بد أن يأتي بمن يطعن فيهما من المطاعن التي ذكروها في كتاب الشهادات وهي كثيرة كما سيأتي إن شاء الله، فلا بد أن كل واحد يجرحه اثنان، فيقول مثلاً: هذا لا يصلي مع الجماعة، أو هذا يسمع الأغاني، أو هذا يشرب الدخان أو الخمر، أو يتعاطى مخدرات فيكون ذلك طعناً فيه، فلا تقبل شهادته.(84/21)
الدعوى على الغائب
من ادعى على غائب هل تسمع بينته؟ يقولون: تسمع إذا كان الغائب بعيداً في مسافة قصر يعني: لا يأتي إلا بعد يومين، أو بعد أربعة أيام يومين ذهاباً ويومين إياباً، مثل إنسان قال: أدعي على زيد، وزيد يقيم مثلاً في القصيم، وفي ذلك الوقت هذه المسافة لا تقطع إلا في أربعة أيام، أو خمسة أيام، ففي هذه الحال يقول: عندي شهود يشهدون أنه هو الذي ضربني، أو هو الذي عنده أمانه وجحدها، وعندي شهود.
فالقاضي يأخذ الشهود ويكتب شهادتهم؛ لأن صاحب الحق قد يقول: إذا لم تقبل شهادتهم وتكتبها الآن فسوف يذهبون؛ لأنهم ليسوا من البلد فاغتنم القاضي حضورهم ليكتب شهادتهم.
وإذا حضر الخصم بعد ذلك سأله: هل أنت معترف أو منكر؟ إذا كنت منكراً فهنا شاهدان وهما فلان وفلان، هل تطعن فيهما؟ فإذا طعن فيهما وأتى بالجرح قبل جرحه، وقيل لصاحب الحق: ائت بغيرهما، فإذا أتى بغيرهما ولم يكن فيهما طعن حكم له، هذا إذا كان بعيداً مسافة قصر.
وهكذا لو ادعى على مستخف، فالمدعى عليه الذي عنده الحق هو موجود في هذا البلد ولكن لا ندري أين هو! إن كان في بيته فإنه يغلق بيته، وقد يكون عند صاحب له في طرف البلد ولم نقدر على إحضاره، والشهود يقولون: اكتب شهادتنا وإلا فسوف نسافر، فالقاضي يطلبهما ويكتب شهادتهما حتى يؤتى بالمدعى عليه.
وهكذا لو كانت الدعوى على ميت، قال: إن فلاناً الذي مات هو الذي اصطدم بجداري، أو هو الذي عمل هذا الحادث حتى مات معه ابني، ولكنه أيضاً مات، والبينة حاضرون، فالقاضي يكتب شهادتهم حتى يأتي ولي الميت ويدافع عنه؛ وذلك حتى لا تفوت الشهادة فالشهود قد يموتون، وقد يتفرقون، وقد يسافرون، فيكتب شهادتهم.
وكذلك لو كان المدعى عليه غير مكلف، ادعى أحد على هذا المجنون، أو على هذا الصبي أنه قتل، أو سرق، أو انتهب، أو أفسد ولم يكن له ولي الآن، لأن وليه غائب، فتقبل الشهادة وتكتب، ويسمع القاضي الشهادة ويحكم بموجبها.
قال: (إلا في حقوق الله تعالى) : حقوق الله مثل حد الزنا والخمر، وقطع الطريق، وترك الصلاة وما أشبه ذلك، فهذه لا تسمع وهو غائب حتى يحضر؛ لأنها مبنية على المسامحة، وأما حقوق الآدمي فإنها مبنية على المشاحة والمضايقة.
ولا تسمع على غائب حتى يحضر أو يمتنع، كإنسان موجود في البلد ادعيت عليه دعوى وهو حاضر، وعندك بينة، فلا تسمع بينتك حتى يحضر أو يرسلون إليه فيمتنع ويقول: لا أحضر ولا أعترف، فحينئذ يسمع القاضي البينة ويحكم بها إذا كان الحق لآدمي.
ثم في هذه الأزمنة قد يقال: إن الحالة قد تغيرت بالنسبة لمسافة القصر، كانت مسافة القصر مثلاً نحو خمسه وثمانين كيلو، ولكن في هذه الأزمنة تقطع هذه المسافة في ساعة أو في أقل من ساعة، ففي إمكان القاضي أن يقول: هذا الرجل قريب، ما بينك وبينه إلا ساعتان، ساعة ذهاب وساعة إياب، اذهب إليه بخطابي هذا، واطلب منه الحضور، فإذا امتنع بعد ذلك اشهدنا عليه، فأما أني أسمع دعواك وهو قريب في القصيم، وفي إمكانك أن تحضره فلا.
ففي يوم أو في نصف يوم، فليس هناك مسافة طويلة، أحضره حتى تسمع الدعوى وهو حاضر، وحتى تسمع البينة فيرد أو يكافح أو يجاوب.
وهكذا أيضاًَ تغيرت الحال بوجود المكالمات الهاتفية، فإن في الإمكان أن القاضي يتصل به إذا حضرت البينة وحضر المدعي، فهذا المدعى عليه يرفع السماعة ويكلمه القاضي فيقول: فلان ادعى أنك ظلمته، أو أنك جحدت أمانته، أو أنك هدمت جداره، أو قلعت شجرته، أو نحو ذلك، وأحضر بينة وهم فلان وفلان، فهل تطعن فيهما أو تقر بذلك؟ فإن لم تطعن فإننا سوف نحكم عليك.
فيتصل به ويخبره بالدعوى ويخبره بالشهود، ويطلب منه أن يطعن إن كان عنده مطعن، فإذا لم يكن عنده مطعن فإنه يحكم عليه.
فإذا قال: عندي مطعن طلب منه الحضور، حتى ولو كان خارج المملكة فيمكن أن يكلمه ولو كان في الشام أو في العراق أو في اليمن يقول: إنه حضر فلان وادعى عليك بكذا، فهل تعترف بهذا الحق أولا تعترف؟ فإذا قال: أعترف حكم عليه، وإذا قال: لا أعترف، قال: قد أحضر شهوداً وهم فلان وفلان، هل تطعن فيهم؟ فإذا قال: لا أطعن، حكم عليه، فإذا قال: إني أطعن فيهم سمع منه طعنه وجرحه، فإذا قال: أمهلوا القضية حتى أحضر أمكنه أن يمهله وأن يؤخر القضية لتقارب الأماكن.(84/22)
نقض القاضي لحكم قاض آخر
يقول: (ولو رفع إليه حكم لا يلزمه نقضه لينفذه لزمه تنفيذه) .
كان التنفيذ عند القاضي، وفي هذه الأزمنة يكون التنفيذ عند المحافظ وعند الأمير فهو الذي ينفذ قضاء القضاة الذين في محافظته، ولكن لو رفعت إليه قضية من قاض آخر، والمدعى عليه في محافظته، فإنه ينفذه.
أو عادتهم في هذه الأزمنة أن الدعوى تكون في بلد المدعى عليه، فإذا كان المدعي من أهل الرياض والمدعى عليه من أهل مكة، فإن المدعي يذهب إلى قاضي مكة ويقول له: إني أدعي على فلان وهو موجود الآن، فيحضر ويشهد عليه الشهود، فإذا لم يطعن فيهم حكم قاضي مكة عليه بالإلزام، وإذا حكم رفع الحكم إلى أمير مكة، والأمير هو الذي ينفذ، فيلزمه ويقول: حكم عليك القاضي بكذا فسلم ما حكم به عليك فيلزمه بذلك.
لكن لو أن الدعوى كانت في المدينة وفيها المدعي والمدعى عليه، وحكم قاضي المدينة، وأخرج بذلك صكاً، ثم إن المدعى عليه انتقل إلى مكة، فجاء المدعي بالصك وقال: يا أمير مكة! فلان حكم عليه قاضي المدينة بهذا الحكم، وهو الآن يقيم بمكة، فإن أمير مكة يلزمه وينفذ حكم القاضي ويقول: أخرج ما عندك وادفع ما حكم به عليك وإلا عاقبناك، فالتنفيذ يكون على الأمراء والمحافظين.
وقديماً كان التنفيذ على القاضي، فهو يلزم ويقول: إني قد حكمت على فلان بكذا؛ يا فلان! سلم الحق الذي عندك.
ثم قد يكون المحكوم عليه غائباً، فإذا حكم القاضي بالحكم وأعطى الصك لصاحب الحق وقال: إني حكمت بموجب بينتك، ولكن المحكوم عليه انتقل إلى مكة مثلاً، أو إلى الأحساء، اذهب بصكي هذا إلى قاضي الأحساء وقل: إن فلاناً عنده لي حق، وقد حكم به القاضي، وهذا صك الحكم وهو موجود عندكم، فالقاضي يأمره وينفذ حكم القاضي.
لكن لو أن القاضي الثاني قرأ الحكم ورأى فيه خللاً، أو خطأً وغلطاً، أو جاء المدعى عليه وبين أن القاضي الأول قد أخطأ، وقال: إنه حكم ببينة غير مقبولة، أو إن البينة لهم مصلحة، فإن القاضي الثاني ينقض الحكم الأول ويقول: لا أحكم به؛ وذلك لأنه رأى أنه غير صالح وأن عليه مطعناً.
وفي هذه الأزمنة إذا حكم القاضي بحكم فإن المحكوم عليه يطلب إمهالاً حتى يعترض عليه، ويسمونه: لائحة الاعتراض، فيخرج لائحة اعتراض فيقول: أعترض على الحكم بكذا، وأعترض عليه بكذا وكذا، وأعترض عليه بكذا وكذا، فإذا اعترض عليه بهذه الاعتراضات نظر فيها القاضي مرة أخرى، فإن كانت مناسبة نقض حكمه الأول، وإن لم تكن مناسبة أجاب عنها وقال: الصواب كذا والصواب كذا.
وفي هذه الأزمنة أيضاً: شكلت الحكومة هيئة التمييز، وهي التي تنظر في الحكم بعد القضاء، فإذا لم يقنع المحكوم عليه فيرفع قضيته إلى هذه الهيئة، وغالباً أن كل دعوى يطلب أهلها تمييزها فإنها تميز، وكثرت على الهيئة المرافعات، لعله يأتيهم في كل يوم مئات القضايا وألوف القضايا، وغالباً أنهم لا يقرءون تلك القضايا، وإنما ينظرون إلى مقدمة القضية ثم يكتبون موافقة.
والأولى في كل قضية أن عليهم النظر في دعوى المدعي، وفي اعتراضات هذا المعترض، ولا يكتفون بقراءة الدعوى والإجابة الأولى، هذا هو الواجب؛ لأنهم يحكمون، ولأنهم يعتبرون قد حكموا، فإذا لم يقرءوا القضية ولم يقرءوا الاعتراضات فليس لهم أن يحكموا، ولا أن يوافقوا، ولهم أن يردوها ويقولون: نحن منشغلون، أو لم نتفرغ لقراءتها، أو يشكل لها لجنة، أو ما أشبه ذلك.(84/23)
كتاب القاضي إلى قاض آخر
ذكر الفقهاء كتاب القاضي إلى القاضي، هل يقبل أم لا؟ إذا كتب القاضي الذي في نجران إلى القاضي الذي في عرعر، وبينهما مسافة طويلة: إنني قد حضر عندي فلان، وقد كتبت دعواه، وهو يدعي على فلان كذا وكذا، وحيث إنه مقيم عندكم فإن عليك أن تحضره، وأن تستفسره، وتسأله، فيقبله قاضي عرعر إذا كان في حق آدمي وينفذه، أو قاض في خارج المملكة.
وهكذا أيضاً إذا كتب القاضي إلى قاض آخر دعوىً حكم بها: إنني حكمت على فلان الموجود عندكم بكذا وكذا، فنفذوا الحكم، فينفذ في حقوق الآدميين ولا ينفذ في حقوق الله تعالى التي منها الرجم والجلد ونحوها.
وكانوا يشترطون في كتاب القاضي أن يُشهد عليه شاهدين، فيقرأه على شاهدين فيشهدان فيقول: إن هذا كتابي الذي وجهته إلى فلان، خذا هذا الكتاب واذهبا به إليه واقرآه عليه وقولا: إنا نشهد أن هذا كتاب قاضي نجران، كتبه ونحن حاضران وأشهدنا عليه، فشهدنا بما فيه، فلك أن تنقضه ولك أن تنفذه.
ولا يقبلونه إذا كان كتاباً عادياً، ولكن في هذه الأزمنة أصبحت الكتب مظرفة، وأصبحت محفوظة ومسجلة، وإذا كتبها القاضي فإنه يسجلها ويجعلها في ظرف، ويسلمها لناقل البريد، وناقل البريد يحفظها حتى يسلمها للقاضي الثاني، وإذا سلمها فالقاضي الثاني يفتح الظرف، ويجد فيه ختم ذلك القاضي وختم محكمته، ففي هذه الحال يجزم بأنه كتاب فلان، ولا حاجة إلى أن يقرأه الأول على شاهدين، والشاهدان يقرآنه على الثاني؛ لثقة الثاني بأنه كتابه.
وكذلك أيضاً وجد في هذه الأزمنة المكالمات، فإن القاضي قد يكلم القاضي ولو كان بعيداً، فيرفع السماعة ويقول: إنه ثبت عندي أن لفلان كذا وكذا، والشهود كذا، وفلان يقيم عندك، فعليك أن تنفذه أو عليك أن تحضره.
وأيضاً جاء هذا الذي يسمى بالفاكس، وصار في الإمكان إرسال ذلك الصك بواسطة هذا الفاكس في لحظات فيصل إلى القاضي الثاني ويقرأه كما هو، فينظر فيه، فإن شاء حكم، وإن شاء رده أو نقضه، فهذا حيث وجدت هذه الأجهزة ونحوها، أما إذا كان في بلدة ليس فيها الهاتف، أو ليس فيها الفاكس، أو ليس فيها البريد المنتظم، ففي هذه الحال نرى أنه يعمل بكتاب القاضي إلى القاضي بالشروط التي ذكرها الفقهاء.
يقبل كتاب القاضي إلى القاضي فيما حكم به الأول لينفذه الثاني، فيقول: حكمت على فلان بكذا، وفلان موجود عندكم، فخذوا الحق منه، والقاضي الثاني ينفذه، وكذلك المحافظ والأمير ينفذه، أما إذا قال: ثبت عندي ببينة كذا وكذا، فهذه البينة ثبتت عندي، والأمر إليك فاحكم بهذا الذي ثبت عندي، فهل يحكم به؟ يقولون: لا يحكم الثاني بما ثبت عند الأول إلا إذا كان بينهما مسافة قصر، وقد عرفنا أن مسافة القصر تختلف باختلاف الأزمنة، وأنه أيضاً قد وجدت المكالمات ووجدت المكاتبات وما أشبهها.(84/24)
الأسئلة(84/25)
التوكل على الله في الزواج
السؤال
حبذا لو ألقيت كلمة عن فضل الزواج خاصة في زماننا هذا الذي كثر فيه المغريات، وكيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله أن يعينهم -وذكر- الناكح يريد العفاف) وبين حديث: (اعقلها وتوكل) ، حيث إن الكثير يريد الزواج، ولكن راتبه قليل، وبعض الشباب يثبط عن الزواج بحجة قلة الراتب والله يحفظكم؟
الجواب
الحديث وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك وعد الله تعالى فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ، هكذا: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ) فوعدهم الله بالغنى، فنقول: إذا كان عندك مقدرة على الزواج ولو أن تقترض، أو أن تطلب من يساعدك؛ فثق بأن الله سيوفقك ويعينك.(84/26)
الخروج على المرأة إن كانت ولي أمر المسلمين
السؤال
إذا كان ولي الأمر امرأة فهل يجوز الخروج عليها؟
الجواب
إذا تولت المرأة ولاية عامة فالأصل أنها لا تولى؛ لأن المرأة وظيفتها التستر، فإذا قدر أن هناك دولة يولون المرأة ولاية عامة أو نحوها فنقول: لا يجوز السمع والطاعة لها، بل يحرصون على أن يفصلوها ويولوا رجلاً.(84/27)
الهدية للقاضي بعد انتهاء الحكم
السؤال
هل تجوز الهدية للقاضي بعد انتهاء الحكم بين الخصمين؟
الجواب
نرى أنه لا يجوز أن يقبل ذلك، ولو بعد انتهاء الدعوى إذا لم يكن الذي أهدى إليه يهدي إليه من قبل، أما إذا كانوا يتهادون من قبل فلا بأس.(84/28)
اشتراط الاجتهاد في القاضي في هذه الأزمنة
السؤال
كثير من البلاد لا يوجد فيها مجتهدون، فهل يبقى هذا الشرط في القضاء أم لا؟
الجواب
البلاد المهملة التي لا يوجد فيها من يحكم بالعدل، ولا يوجد فيها شهود، أو لا يوجد فيها من يزكي، أو لا يوجد فيها من يحكم بالعدل؛ فإنهم يصطلحون فيما بينهم.(84/29)
حكم الكلب المعلم إذا أرسل إلى فريسة فصاد غيرها
السؤال
لو أرسل صياد كلبه المعلم على فريسة فصاد غيرها فما الحكم؟
الجواب
يجوز ذلك إذا سمى عند إرساله، لو أرسله على واحدة ثم صاد اثنتين وكان قد سمى حل أكله.(84/30)
شرح أخصر المختصرات [85]
من الأمور المهمة في الفقه القسمة بين الشركاء، والأشياء المشتركة بين الشركاء تختلف، فمنها ما تضره القسمة ومنها ما لا تضره القسمة، ولكل منهما أحكام وضوابط.(85/1)
القسمة
قال رحمه الله تعالى: [فصل: والقسمة نوعان: قسمة تراض وهي فيما لا ينقسم إلا بضرر أو رد عوض كحمام ودور صغار، وشرط لها رضا كل الشركاء، وحكمها كبيع، ومن دعا شريكه فيها وفي شركه نحو عبد وسيف وفرس إلى بيع أو إجارة أجبر، فإن أبى بيع أو أجر عليهما وقسم ثمن أو أجرة.
الثاني: قسمة إجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض، كمكيل وموزون من جنس واحد ودور كبار، فيجبر شريك أو وليه عليها، ويقسم حاكم على غائب بطلب شريك أو وليه، وهذه إفراز، وشرط كون قاسم مسلماً عدلاً عارفاً بالقسمة ما لم يرضوا بغيره، ويكفي واحد ومع تقويم الاثنان، وتعدل السهام بالأجزاء إن تساوت وإلا بالقيمة أو الرد إن اقتضت، ثم يقرع، وتلزم القسمة بها، وإن خير أحدهما الآخر صحت ولزمت برضاهما وتفرقهما] .
القسمة: هي إفراز نصيب الشريك عن نصيب شريكه، فالقاضي قد يحكم بقسمة المال المشترك بين اثنين؛ لأن الشريكين قد يكون بينهما خصومات ومنازعات كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] ، وقوله تعالى: {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] أي: يكثر بينهم المشاكسة والمجادلة ونحو ذلك، فيطلبون القسمة فيترافعون إلى القاضي ليحكم بينهم فعند ذلك يقول: اقتسموا.(85/2)
أنواع القسمة
القسمة نوعان: قسمة التراضي وقسمة الإجبار، فقسمة التراضي تكون في الشيء الذي لا ينقسم إلا بضرر أو برد عوض كحمام ودور صغار، فهذه تقسم قسمة التراضي، فإذا كان بينهما دار صغيرة مساحتها مثلاً ثمانية أمتار طولاً وسبعة أمتار عرضاً، وهي مشتركة بين اثنين، وقالا: نريد أن نقتسمها، فيقول القاضي: إذا اقتسمتم يكون لك يا هذا أربعة في سبعة ماذا تنتفع بها؟ تكون ضيقة ولا تنتفع بها، وإذا قال: أنا راض اقسموا لي، هل ترضى أنت أيها الآخر أن يكون هذا قسمك؟ إذا أردت أن تبيع، هل أحد يشتري منك هذه الدار التي عرضها ثلاثة أذرع؟ إذا أردت أن تؤجر هل أحد يستأجرها وهي بهذه المسافة؟ فقسمها يفسدها ويتضرر أهلها، لكن لو رضي كل من الطرفين، فإن القاضي يقسمه، فيأتي بواحد يقسم بينهما فيبني حاجزاً بينهما فيقول: لك يا هذا كذا، ولك يا هذا كذا، هل رضيتما؟ قالا: رضينا.
وقوله: (الحمام) هو المكان الذي يغتسل فيه تحت الأرض قديماً، كانوا في البلاد الباردة كالشام ومصر والعراق وبعض البلاد يحفرون حماماً نحو خمسة أمتار في الأرض، ويجعلون دورين، الدور الأسفل يكون فيه الماء، وينزل فيه الذي يريد الاستحمام يعني: الاغتسال والنظافة، وقد يكون الحمام صغيراً عرضه مثلاً أربعة أذرع وطوله خمسة أذرع، وإذا قسم فإنه يختل، ولا ينتفع بنصفه، فلا يقسم إلا إذا تراضوا، وقد يكون هذا الحمام، أو هذه الدور، أو هذا الدكان بين ثلاثة أو أربعة، فالدكان الذي عرضه متران، وطوله أربعة أمتار، وهو مشترك بين اثنين يطلبان القسمة، فلا يقسمه إلا إذا تراضيا، فيشترط رضا كل الشركاء، فإنه كبيع ومعناه: أن لكل منهما الخيار كأنه يقول: بعتك نصيبي في هذا القسم، والثاني يقول: بعتك نصيبي في هذا القسم، فإذا رجع أحدهما في مجلس الخيار فله ذلك؛ لأن حكمها كالبيع.(85/3)
دعوة الشريك للبيع أو الإجارة
يقول: (ومن دعا شريكه فيها، أو في شركة نحو عبد وسيف وفرس إلى بيع أو إجارة أجبر) : إذا قال: أنا شريك لك في هذا الدكان الذي عرضه متران، ولكن أنا أريد البيع، إما أن تبيعني أو أبيعك وإلا بعنا نصيبنا جميعاً، فإنه يجبر، إذا قال: أنا شريك في هذا الدكان، أنا شريك في هذا العبد، أو في هذه الفرس، أو في هذا السيف، فالعبد لا يمكن قسمه، والسيف لا يمكن قسمه، والفرس لا يمكن قسمها، وإنما هذه الأشياء تباع، فإذا طلب أحدهما البيع فإن له ذلك، والقاضي أو الأمير يجبر من امتنع؛ لأن الآخر متضرر بالشركة حيث يقول: إنه ينتفع بها وأنا لا أنتفع، أو إنها معطلة، أو إنها مؤجرة بأجرة زهيدة أو نحو ذلك، فأنا أريد بيع نصيبي، أو أريد تأجير نصيبي بأجرة أكثر من ذلك.
فالحاكم يجبر بقية الشركاء على بيع أو إجارة، وإذا أبى أحدهما وقال: أنا لا أبيع نصيبي في هذا العبد، ولا في هذا الجمل، ولا في هذا الدكان، أجبره الحاكم أو القاضي أن يبيعه أو يؤجره، ويقسم الثمن أو يقسم الأجرة بينهما، يقول له: إما أن تبيع نصيبك مع نصيب صاحبك، أو تشتري نصيب صاحبك فإذا لم توافق فإننا سنبيعه، فإذا قال: بع نصف شريكي، قد يقول: نصف شريكك إذا كان متراً فلن نجد أحداً يشتريه، وكذلك إذا كان نصيبه نصف هذا السيف، فمن الذي يشتري نصف السيف؟ ماذا يريد بنصف السيف أو نصف الفرس؟ فيجبره على أن يبيع أو يجبره على أن يؤجر، أو يبيعه الحاكم ويقسم الثمن عليهما، ويلزمهما بذلك، أو يؤجره ويقسم الأجرة بينهما، هذا ما يتعلق بقسمة التراضي.
النوع الثاني: قسمة الإجبار: وهي ما لا ضرر فيه ولا رد عوض كمكيل وموزون من جنس واحد ودور كبار، فيجبر على القسمة، فإذا قال: اشتريت وفلان كيساً من البر، والآن أريد نصيبي، والأول يقول: أنا لا أقسمه، ولكني سوف أبيعه، فإنه يجبر من امتنع فيقسم الكيس بالصاع أو بالكيلو ويعطى كل واحد منهما نصيبه ليتصرف فيه، وكذلك لو كان كيس تمر مثلاً، أو شيئاً يوزن كحديد، أو قطن، أو صوف، ففي هذه الأحوال كلها يجبر من امتنع؛ لأنه ليس ببيع وإنما يسمى إفرازاً.
وهكذا لو كان بينهما أرض واسعة مساحتها مثلاً مائة متر في مائة وطلب أحدهما القسمة فيجبر من امتنع منها، ولو كانوا ثلاثة وقال أحدهم: إنا إذا قسمناها نقصت قيمتها، ف
الجواب
أصحابك طلبوا قسمتهم، يريدون أن يعمروا، وأنت إذا أخذت نصيبك، فإن شئت فبع، وإن شئت فأجر، وإن شئت فاعمر، فيجبره الحاكم، ويقسمها بينهم، ويعطي كل واحد نصيبه، هذا إذا كان ليس فيها ضرر ولا رد عوض.
فإن كان فيها رد عوض فلا بد من التراضي كما تقدم في قسمة التراضي، وصورة ذلك: إذا كان بيت طوله عشرون متراً وعرضه عشرون متراً -أي: أنه نحو أربعمائة متر- وهو بين اثنين، ولكن يختلف القسم الجنوبي عن القسم الشمالي، فالقسم الشمالي على طريق واسع، وعلى مكان معروف، وقريب من المرافق ومن الخدمات، وأما القسم الجنوبي فليس على مرفق، وليس حوله ولا أمامه إلا طريق ضيق، ففي هذه الحال إذا قسمناه نصفين فكل واحد منهما يقول: أنا أريد القسم الشمالي، ففي هذه الحال نقول: من كان له القسم الشمالي يدفع للآخر عشرة آلاف ريال، هذا فيه رد عوض، فهل هذه قسمة إجبار أو قسمة تراض؟ قسمة تراض؛ لأن فيها رد عوض، فليس كل منهم يرضى بهذه القسمة فيقول: قنعت.
أما إذا كانت الأرض في صحراء، وليس حولها بناء، وهي أرض واسعة قدرها مائتا متر في مائتين، وهذه عندها مرافق وخدمات وهذه كذلك، وهي بين أربعة مثلاً، ففي هذه الحال إذا طلبوا القسمة جاز ذلك، وأجبروا على ذلك، وليس فيها رد عوض، فإذا قسمناها على أربعة فكل واحد له مائة في مائة، فهذه قسمة إجبار لا ضرر فيها ولا رد عوض.
والشيء الذي يكال كالأكياس أو يوزن كالحديد والقطن، ويكون من جنس واحد ليس بينه تفاوت يعني: هذا بر كله، وهذا رز كله، والدور الكبار، والأراضي الواسعة، فالقسمة فيها قسمة إجبار، يجبر الشريك أو يجبر وليه إذا كانت الشراكة لولي يتيم، أو لولي مجنون، على القسمة ويقسم الحاكم على غائب، فإذا كان أحدهم غائباً وطلب الشركاء الحاضرون أو طلب أولياؤهم القسمة، يقسم الحاكم عليهم.
وهذه القسمة تسمى إفرازاً وليست كالأولى، فالأولى بيع وهذه إفراز، وليس فيها خيار، ولكن إذا اتفقت الرغبات فإنهم يقرعون بينهم، وكل يأخذ ما يصيبه بالقرعة.(85/4)
شروط القاسم
القاسم الذي يتولى القسم يشترط فيه شروط: أن يكون مسلماً: فلا يتولى القسم من كان كافراً، وأهل الشراكة مسلمون.
وأن يكون عدلاً: فلا يكون فاسقاً؛ لأنه قد يظلم أحدهما، ويعطيه أكثر أو يعطيه أقل.
وأن يكون عارفاً بالقسمة، أي: قد جرب وعرف أنه من أهل المعرفة وأهل الفطنة، ما لم يتراضوا بغيره، فلو قالوا: نرضى بك يا فلان! قسمت بينهم وإن كنت لست من أهل التجربة، ولكن قد رضوا بك فقسمت بينهم وتراضوا، فتنفذ القسمة.
وهل يشترط العدد؟ يكفي قاسم واحد، لكن إذا كان هناك تقدير فلا بد من اثنين أي: إذا كان هناك رد عوض، فمثلاً: إذا قسمنا الدار وكانت تختلف، وقلنا: لا بد أن نزيد صاحب هذا القسم الشرقي عن هذا الغربي؛ لأن الغربي أرغب، فنأتي باثنين، ويقال: قدرا: فيقولان: نقدر هذا القسم الغربي بثلاثمائة ألف، ونقدر الشرقي بمائتين، فيكون هذا ثلاثة أخماس، والآخر خمسان، فالذي يأخذ الغربي يلتزم بدفع نصف الخمس للآخر خمسمائة مثلاً، أو خمسين ألفاً أو نحو ذلك يعني: نصف الخمس حتى تتساوى، والتقدير لا بد فيه من اثنين لأنه فرق بين تقدير هذا وهذا، فيقولان: هذا خمسان وهذا ثلاثة، الفرق بينهما كذا، فالذي يأخذ الثلاثة أخماس يدفع نصف الخمس.(85/5)
قسمة التعديل
يقول: (وتعدل السهام بالأجزاء إن تساوت) : تعدل بالأجزاء أي: بالأمتار، فإذا كانت الأرض واسعة، بحيث قسناها وإذا هي أربعمائة متر، أو أربعة آلاف متر، أو أربعون ألف متر، فهذه تقسم بالأجزاء، فيقال: لك يا هذا مائة متر، وأنت يا هذا مائة، وأنت يا هذا مائة، وأنت يا هذا مائة، أو لك يا هذا مائتان، ولك يا هذا مائتان؛ لأنها مستوية، ولا فرق بين أجزائها، والربوة في هذه مثل الربوة في هذه.
فتقدر السهام بالأجزاء، والأجزاء هي السهام يعني: هذا مائتان وهذا مائتان إذا تساوت، فأما إذا لم تتساو فإنها تقدر بالقيمة، فإذا قسمنا البيت نصفين شرقياً وغربياً، وكان بينهما تفاوت فنقدره بالقيمة: كم يساوي الشرقي؟ فإذا قالوا: الشرقي يساوي أربعمائة ألف قلنا: وكم يساوي الغربي؟ يقولون: يساوي ستمائة ألف فهذا يسمى التقدير بالقيمة، فتقدر القيمة، ويأخذ كل منهما ما يناسبه، قد يكون لأحدهما مثلاً الثلثان، فإذا قدرنا أن هذا بستمائة وهذا بمائتين فالذي له الثلث يأخذ الذي بستمائة، ويرد على الآخر؛ لأن المجموع مثلاً ثمانمائة، فإذا قدرنا هذا بأربعمائة وهذا بستمائة، فيرد أيضاً الزائد، صاحب الثلثين يأخذ نصيبه، ويرد الزائد على صاحب الثلث.
وكذلك إذا قدرت بالرد، فإذا وزعوها أقرع بينهم، فمن أصابته قرعة كذا فإنه يرضى بما أصاب، وتلزم القسمة بالقرعة، أما إذا لم يقترعوا وتراضوا فيما بينهم وقالوا: نحن نقسم الأرض، نحن إخوان والأرض بيننا، فنقسمها ولك الخيار يا أخي، فإذا خير أحدهما صاحبه فلا يحتاج إلى قرعة، وحينئذ إذا رضيا وتفرقا فإنها تلزم، ولو طلبا بعد ذلك أن يعيدا القسمة لم يلزم.(85/6)
شرح أخصر المختصرات [86]
مما ينبغي معرفته من الفقه باب الشهادات؛ فإن الشهادات مهمة لإثبات الحقوق وإقامة العدل، وللشهود شروط وصفات يجب تحققها حتى تقبل شهادتهم وتترتب عليها آثارها.(86/1)
الشهادات
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الشهادات: تحملها في حق الله فرض كفاية، وأداؤها فرض عين مع القدرة بلا ضرر، وحرم أخذ أجرة وجعل عليها لا أجرة مركوب لمتأذ بمشي، وأن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع أو استفاضة عن عدد يقع به العلم فيما يتعذر علمه غالباً بغيرها كنسب وموت ونكاح وطلاق ووقف ومصرفه، واعتبر ذكر شروط مشهود به، ويجب إشهاد في نكاح ويسن في غيره.
وشرط في شاهد: إسلام وبلوغ وعقل ونطق، لكن تقبل من أخرس بخطه، وممن يفيق حال إفاقته، وعدالة ويعتبر لها شيئان: الأول: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحارم بألا يأتي كبيرة، ولا يدمن على صغيرة، الثاني: استعمال المروءة بفعل ما يزينه ويجمله وترك ما يدنسه ويشينه.
ولا تقبل شهادة بعض عمودي نسبه لبعض، ولا أحد الزوجين للآخر، ولا من يجر بها إلى نفسه نفعاً أو يدفع بها عنها ضرراً، ولا عدو على عدوه في غير نكاح، ومن سره مساءة أحد أو غمه فرحه فهو عدوه، ومن لا تقبل له تقبل عليه] .
قوله: (كتاب الشهادات) .
يعني: الشهود، ويعم ذلك تحمل الشهادة ويعم أداءها.
قال: (تحملها في حق الله فرض كفاية، وأداؤها فرض عين مع القدرة بلا ضرر) .
التحمل: أن يدعوك فيقول: اذهب اشهد معي على فلان أنه اعترف بأن عنده لي كذا وكذا هل تذهب معه؟ هذا فرض كفاية ولا يلزمك، ولك أن تقول: الشهود كثير، لك أن تشهد غيري، اذهب إلى فلان واذهب إلى فلان، فهم أقدر مني، وهم أفرغ مني أو نحو ذلك، هذا هو التحمل.
فإذا لم يجد ألزم من تعين عليه، فإذا لم يجدك إلا أنت فإن عليك أن تذهب معه حتى تحمل الشهادة، سواء كانت شهادة على بيع، أو على نكاح، أو على إثبات دين، أو على إقرار مدين، أو على إقرار لحق في ذمة، أو أي شيء مما يحتاج إلى الإشهاد.
أما أداء الشهادة فإنه فرض عين مع القدرة بلا ضرر، فإذا تحملت الشهادة، وشهدت على فلان وفلان أنهما اعترفا بأن عندهما ديناً، أو عندهما حقاً، أو أنهما باعا، أو وقفا، أو تنازلا بكذا، ثم احتيج إلى إثبات شهادتك عند القاضي ودعوك فهل تمتنع؟ لا تمتنع عن أداء الشهادة، وذلك فرض عين، قال الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282] قال العلماء: إذا دعوا للتحمل فإن لهم أن يمتنعوا؛ لأن في الإمكان أن يجد غيرهم، وأما إذا دعوا للأداء عند الحاكم فلا يمتنعون، بل ولا يحل لهم الكتمان قال الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] .
فإذا كتم الشهادة وهو يعلم أنه يضيع حقاً فإنه آثم قلبه، ولكن مع ذلك إذا قال: أنا علي ضرر الآن، أمهلوني فإني الآن منشغل، أو أنا ناعس اتركوني أنام، أو جائع اتركوني أطعم، أو مرهق اتركوني أستريح، أو نحو ذلك فهل يلزمونه؟ لا يلزمونه؛ لأنه في هذه الحال عاجز وعليه ضرر، قال الله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] أي: لا تضروه، لا تضروا الكاتب وتتعبوه، ولا تضروا الشهيد وتتعبوه وترهقوه، بل ارفقوا به فإنه محسن، سيما إذا كانت الشهادة على شيء يمكن تداركه، ويمكن أن يؤجل يوماً أو أياماً، فلا يلزم أن يؤدى في حينه.(86/2)
حكم أخذ الأجرة على الشهادة
يقول: (وحرم أخذ أجرة وجعل عليها) .
وذلك لأنها تكون حينئذ شهادة لغير الله، والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] يعني: اجعلوا شهادتكم لله، ولا تأخذ على شهادتك أجراً، فالذي يقول: أنا ما أشهد لك إلا إذا أعطيتني أجرة مائة أو ألفاً، فإذا طلب أجرة فلا يعطى؛ لأن هذا طعن فيه فلا يكون مقبول الشهادة، ولا يجوز للمشهود له أن يعطيه ويقول: اشهد لي وأعطيك على الشهادة مائة أو ألف ريال، وهذا هو الجعل.
أما إذا قال: أنا سوف أستأجر للحضور سيارة أجرة، اتصل بك وأنت مثلاً في طرف البلد وقال: يا فلان احضر أنا الآن عند القاضي، وأنت شاهد لي فإذا قلت: أنا سوف أحضر ولكن أعطني أجرة سيارة الأجرة فإني سوف أركب سيارة أجرة وأدفع مثلاً عشرين ريالاً، فلك أن تطلب ما دفعته؛ لأنه ليس لك مصلحة من هذه الشهادة، والمصلحة هي له فهو الذي كلفك، فعليه أن يدفع أجرة مركوب؛ لأنك تتأذى بالمشي الذي يشق عليك، إذا كنت مثلاً في طرف البلد، والبلاد الآن واسعة، وقد يكون بينك وبين المحكمة مثلاً أربعون كيلو ويشق عليك أن تقطعها ماشياً، بخلاف ما إذا كان بينك وبينه أربعون متراً أو مائة متر فإنك تأتي ماشياً ولا تتأذى بالمشي.(86/3)
حرمة الشهادة إلا بعلم
يقول: (يحرم أن يشهد إلا بما علم) .
لا يجوز الشهادة إلا بعد التثبت قال الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] ، فلا بد أن يشهد عن علم، وبأي شيء يحصل العلم؟ بالرؤية، أو السماع، أو الاستفاضة عن عدد يقع بهم العلم بما يتعذر علمه غالباً بغيرها، كنسب وموت ونكاح وطلاق ووقف ومصرفه.
مثال الرؤية أن يقول: نعم أنا رأيته عندما ضرب فلاناً، أنا رأيته عندما انتهب مالاً، أو اغتصب كيساً، أو نحو ذلك، أنا رأيته رأي العين، أنا رأيته عندما طعنه بسكين، أنا رأيته يسوق سيارة واصطدم بشجرته أو بجداره فهدمه، فيشهد بما علم.
كذلك السماع يقول: أنا سمعته يقول: بعني بدين فقال: بعتك بألف ديناً إلى شهر أو إلى شهرين وشهدته عندما أخذ السلعة وحملها، أو سمعته وهو يعترف أن عندي لفلان ألف ريال، أو عندي لفلان مائة دينار، أو ألف درهم، أو نحو ذلك، سمعت ذلك سماعاً يقينياً، فيشهد بالسماع.
إذا لم يسمع ولم ير ولكن استفاض عن عدد كثير من الناس يعلم بهم ما يتعذر علمه كما لو قال: أنا أشهد أن هذا ولد هذا، فيقال: هل رأيته عندما ولد على فراشه؟ فيقول: ما رأيته، ولكن أنا عرفته وعمره عشر سنين وهو يمشي معه ويقول: هذا ولدي، والناس يقرونه، ويدعوه ويقول: هذا أبي وأنا أشهد أن هذا ولده، أو أن هذا أبوه، أو أشهد أن هذا أخوه، فيقال: هل رأيته عندما ولد؟ فيقول: لا ما سمعته ولا رأيته، ولكن بالاستفاضة عن الناس، فكلهم يقولون: فلان بن فلان، وفلان أبو فلان.
وكذلك الشهادة بالوفاة: هل تشهد أنه توفي؟ أنا ما رأيته عندما خرجت روحه، ولكن كثير من أهل البلد أخبروني أنه توفي، ولكني لم أحضر روحه عندما خرجت، فأشهد بالاستفاضة، سمعت من فلان وفلان وفلان وكلهم شيعوه، وعزوا أهله، وصلوا عليه، وهم أعداد كثيرة، أشهد بذلك.
وكذلك أيضاً إذا شهد بأن هذه زوجة فلان، أو شهد بأن فلاناً قد زوج ابنته فلانة لفلان، فيقال: هل حضرت العقد؟ فيقول: ما حضرته، ولكن انتشر الخير بين الناس، ورأيتهم يهنئون هذا، ويبركون له، ورأيتهم حضروا احتفاله بالزفاف، واشتهر بينهم أنه أخذ زوجته، وأنه دخل بها، أشهد بذلك وإن لم أحضر، فله أن يشهد بالاستفاضة.
وكذلك الطلاق: إذا قال: أشهد أنه طلق، فيقال: هل سمعته عندما طلق؟ فيقول: ما سمعته ولكن انتشر الخبر، وقد ذكره فلان لفلان وهم عشرة أو عشرون وكلهم يقولون: إن فلاناً طلق زوجته، وانتشر الخبر في البلد، فأنا أشهد بالانتشار.
وكذلك الوقف: هل سمعته عندما أوقف هذه الدار وقال: هذه الدار وقف؟ فيقول: لا.
ما سمعته، ولكن انتشر ذلك بين الناس، وكلهم يقول إنه أوقف هذه الدار أو هذا البستان، أو المزرعة، أو النخلة وكلهم يقول: هذه وقف، أوقفها فلان.
فيشهد وإن لم يحضره عندما أوقفها ولا سمعه، ولكن انتشر الوقف في البلد، وكل الناس يعرفون أن هذا الوقف مصرفه في كذا وكذا.(86/4)
شروط المشهود به، وحكم الإشهاد
يقول: (واعتبر ذكر شروط مشهود به) المشهود به هو المال أو أي حق من الحقوق، فلابد أن يذكر شروطه، فيقول مثلاً: إني أشهد على البيع، وأن البيع حصل على الرضا، وأنه حصل من مالك، وأنه بثمن معلوم، وأن الرؤية معلومة، وأن المبيع مقدور على تسليمه، فيذكر شروط مشهود به.
وكذلك أيضاً شروط النكاح، يقول مثلاً: أشهد بتمام الشروط، أشهد أن هذا أوجب، وأن هذا قبل، وأنهما متراضيان، وأن المهر معروف، وأن الموانع منتفية، فالمشهود عليه لابد أن تذكر شروطه.
وما حكم الإشهاد على النكاح؟ حكم الإشهاد عليه واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، فلابد في عقد النكاح من شاهدين اثنين، هذا مذهب الجمهور، وذهب المالكية إلى أنه يكفي الإعلان، فلو عقد بدون شاهدين تم النكاح، والجمهور على وجوب الإشهاد.
وما حكم الإشهاد على البيع؟ قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] فهل يكون الإشهاد واجباً؟ هل كل من باع كأساً يشهد، حتى ولو باع قلماً يشهد عليه؟ قد يكون البيع ديناً، ويثق بصاحبه ولا يشهد.
إذاً: الإشهاد على البيع ليس بواجب، ولكنه مسنون مخافة الإنكار.(86/5)
شروط الشاهد
يشترط في الشاهد: إسلام وبلوغ وعقل ونطق، لابد من هذه الشروط.
الشرط الأول: الإسلام: لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] والكافر لا يرضى، فلا تقبل شهادته.
الشرط الثاني: البلوغ؛ لأن الصغير ليس له ما يحجزه عن الكذب.
الشرط الثالث: العقل، فاقد العقل لا معرفة له وهو المجنون.
الشرط الرابع: النطق، أي: الكلام حتى يؤدي ما يشهد به؛ لأنه إذا كان أخرس لم يعرف ما شهد به، لكن تقبل من أخرس بخطه إذا كان يعرف الخط، فبعض فاقدي الكلام يكتبون الحروف كتابة واضحة، ففي هذه الحال إذا أدى الشهادة بخطه قبلت، وأما الإشارة فليس كل واحد يفهمها.
وإذا كان مجنوناً ولكنه يصرع أحياناً، فإذا أدى شهادته في حالة إفاقته قبلت، وإذا كان يصرع دائماً فأدى الشهادة وهو مصروع فلا تقبل منه.
الشرط الخامس: العدالة، فلابد من العدالة، وضدها الفسوق، والعدل هو الذي أدى حقوق الله تعالى وحقوق العباد، وتجنب القوادح في دينه وفي عقله وفي معاملاته ونحو ذلك، فيشترط للعدالة شيئان: الأول: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بنوافلها، واجتناب المحارم، فلا يأتي كبيرة، ولا يدمن على صغيرة، وذكروا أنه إذا كان لا يحافظ على الرواتب فذلك قدح فيه، فمثلاً: إذا قال صاحب الحق: إنه يصلي، فقال المشهود عليه: نعم، ولكنه لا يصلي الرواتب، لا الراتبة التي قبل الظهر، ولا التي بعدها، ولا التي بعد المغرب، ولا راتبة العشاء، ولا قبل الفجر، وكذلك لا يحافظ على الأذكار، فيخرج ساعة ما يسلم ولا يأتي بالأذكار بعد الصلوات، ولا يتقدم إلى المساجد، وإنما يأتي إذا أذن؛ فهذا لا تقبل شهادته؛ وذلك لأن فعله هذا يدل على خفة في دينه، وخفيف الدين قد تخف عليه الشهادة، فيشهد وهو غير متثبت.
والفرائض يدخل فيها الزكاة والصيام والحج والدعوة إلى الله، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، فإذا عثر على أنه يفرط في شيء من هذا فإنه يقدح فيه، فإذا قال المعترض: إن هذا قاطع رحم.
لم تقبل شهادته، إنه عاق لأبويه، إنه هجر إخوته؛ فلا تقبل شهادته، وإذا قال: إنه غشاش في معاملاته، إنه يتعامل بالربا، إنه يأخذ الرشوة.
والوقوع في أي من الكبائر أو الإصرار على الصغائر، ترد به شهادته، فإذا قال: إنه يحلق لحيته، فقال: حلق اللحية من الصغائر، فنقول: الإصرار عليها من الكبائر، فهذا أصر على حلق اللحية فلا تقبل شهادته، وإذا قالوا: إنه يسبل ثيابه، فالإسبال قد يقال: إنه صغيرة، ولكن الإدمان عليه كبيرة فلا تقبل شهادته، وإذا قال: إنه يشرب الدخان فلا تقبل شهادته، أو يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات، أو يسمع الغناء، أو ينظر إلى الصور الفاتنة، فضلاً عن كونه يزني أو يفعل فاحشة اللواط أو متهم بذلك، أو يلاحق النساء المتبرجات، ويغازل، ويعاكس، وما أشبه ذلك؛ فهذه كلها من الكبائر، فلا تقبل شهادة من يفعل ذلك.
فالكبائر التي أوصلها الذهبي إلى سبعين كبيرة في كتاب الكبائر، إذا أصر على واحدة منها أو فعلها اعتبر قادحاً في شهادته.
الشيء الثاني: استعمال المروءة: أن يفعل ما يجمله ويزينه، ويترك ما يدنسه ويشينه، هكذا ذكروا، فالأشياء التي تجمله يحافظ عليها، من اللباس الحسن، والكلام الحسن، وكذلك صحبته للأخيار، ومجالسته لهم، فإذا كان جلساؤه أهل الفساد لم تقبل شهادته، وهكذا أيضاً إذا كان بذيء اللسان، بأن كان يسب، ويشتم، ويقبح، ويلعن، ويغتاب، وينم، ويفشي الأسرار، ويتنكر لأهل الخير، ويتعاطى أشياء تقدح في عدالته، وتقدح في شرفه، فإنه لا تقبل شهادته، وعدوا من ذلك أشياء، فإذا كان الناس في البلد لا يمشون إلا وقد ستروا رءوسهم، وهو يمشي حاسر الرأس عد ذلك قادحاً في عدالته، أو كان يرفع ثوبه إذا مشى حتى يبدي شيئاً من فخذه، ولا يبالي بنظر الناس إلى فخذه أو إلى شيء من عورته عد ذلك قادحاً، وكذلك إذا كان يأكل في السوق والناس ينظرون إليه؛ عد ذلك قادحاً في عدالته، وإذا كان يضطجع أمام الجلوس الذي جلسوا أو يمد رجليه أمامهم عد ذلك قادحاً في عدالته، وأفعال المروءة كثيرة تجدونها في كتب الأخلاق، والمؤلف أجملها بقوله: يفعل ما يجمله ويزينه، ويترك ما يدنسه ويشينه.
ومثل له في الحاشية بالمتمسخر والرقاص والمضحك واللاعب بألعاب تخل بالمروءة، وملاعب القردة، وصاحب صنعة يكون فيها سخرية، ويوجد في الشروح أمثلة كثيرة للقوادح.(86/6)
من تقبل شهادة المرء له ومن لا تقبل
ولا تقبل شهادة بعض عمودي النسب لبعض، مثل الأب والأجداد، فهؤلاء أصول، والأبناء وأبناؤهم، هؤلاء فروع، فلا تقبل شهادته لأبيه ولا لجده، ولا لجد أبيه، ولا لجدته ولو كانت جدة لأم أو جداً لأم، وكذلك لا تقبل شهادته لابنه ولا لابن ابنه أو لبنته أو لابن بنته أو لبنت ابنه أو لبنت بنته أو نحوهم من عمودي النسب.
(ولا أحد الزوجين للآخر) يعني: لا تقبل شهادة المرأة لزوجها، ولا شهادة الزوج لزوجته؛ وذلك لأن كلاً منهما ينتفع بمال الآخر (ولا من يجر بالشهادة إلى نفسه نفعاً) : كأن كان شريكاً للمشهود له، أو كان وارثاً فشهد على إرث وهو من جملة الوارثين فهو يشهد لنفسه، فلا تقبل؛ لأنه يجر لنفسه منفعة.
وكذلك من يدفع بالشهادة مضرة، فإذا شهد مثلاً أن هذا ما قذف، وهو قد قذف، ويريد بذلك أن يدفع الضرر عن نفسه؛ لأنه إذا كان قاذفاً ثبت عليه الحد، فهو يريد ألا يجلد.
ولا تقبل شهادة عدوه إلا في نكاح، فإذا شهد على عقد النكاح فلا بأس، فإذا قال المشهود عليه: إن هذا عدوي، وإنه قد هجرني، وإنه قد ضربني، وإنه قد أخذ مني كذا وكذا، وبيني وبينه عداوة، فهو يفرح بما يضرني، فلا أقبل شهادته، وأتى ببينة تشهد أن بينهما عداوة، وأنهما متقاطعان ومتهاجران من زمن كذا وكذا، فلا تقبل.
ومتى يعرف أنه عدو؟ من كان يسره مساءة أحد ويغمه فرحه فهو عدو له، مثلا ً: أخبر أن فلاناً رزق ولداً، فقال: لا بورك له فيه، أو قيل له: إنه ربح في تجارته فقال: لا هنأه الله؛ فهذا يدل على أنه عدو له، أو قيل: إن فلاناً مرض ولده فقال: عسى أن يموت، أو قال: عسى أن يمرض أولاده كلهم، دل ذلك على أنه عدو له، فهذا لا تقبل شهادته لأنه عدو له.
والشاهد الذي لا تقبل شهادته له تقبل عليه، فإذا شهد ابنك أنك بعت على فلان، أو أنك سامحت وأسقطت دينك الذي عليه، أو شهد أنك وهبت من مالك كذا وكذا، فهي شهادته عليك، فتقبل شهادته عليه، ولا تقبل شهادته له، وكذلك بقية من ذكر، والله أعلم.(86/7)
الأسئلة(86/8)
حكم الشهادة لإنسان إحساناً للظن به
السؤال
هذا أحد الإخوة في الشبكة وهو من الكويت يقول: ما حكم من يشهد لشخص لمجرد أنه في نظره صادق أو لمجرد أنه أخ يحتمل أنه صادق؟
الجواب
لا تجوز، لا يشهد إلا بما علم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] فكونه يقول: هذا لا يكذب فأنا أشهد له، لا يجوز، واستثنوا من ذلك الشهادات التي لا يترتب عليها ضرر على أحد كشهادة عقد النكاح، أو كالشهود الذين يشهدون في حجج الاستحكام؛ لأنهم يعرفون أن هذا هو صاحب هذا البيت ومالكه.(86/9)
التسامح في شروط العدالة
السؤال
يقول: في هذه القيود بالشهادة لاسيما العدالة يصعب الوصول إلى الشهود، فما هو الحل؟
الجواب
لا يصعب، أهل الخير فيهم بركة وفيهم خير، وأهل الشر الذين يتساهلون في ذلك لا تقبل شهادتهم ويطلب غيرهم، ولكن إذا كان أهل البلد كلهم على حالة واحدة حالقي اللحى مثلاً فيمكن أن يتسامح في ذلك إن لم يجدوا غيرهم.(86/10)
حكم من شهد بما لا يعلم
السؤال
طلب مني أحد أقاربي الشهادة، وشهدت وأنا لا أدري ما هذه الشهادة، ولم يسألني الذي كتب شهادتي إلا بما في الأوراق وكانوا يقولون لي: إذا قال لك كذا فقل: نعم، يقول: فما هو الحل، وأنا لا أدري على أي شيء شهدت؟
الجواب
لابد أن تسأل قريبك عن أي شيء أشهد، فإذا كنت لا تعلم شيئاً عن هذه المعاملات أو هذه المبايعة فليس لك أن تشهد إلا بعلم، ولكن إذا كنت تعرف عمك أو قريبك هذا وتعرف أحواله، وتعرف معاملاته وتعرف أولاده، فالشهادة قد تكون على إثبات أن هؤلاء أولاده، وأن هذه زوجته وأنت تعرفه، ففي مثل هذا يتسامحون فيه.(86/11)
هل تسقط عدالة من يأكل في المطعم؟
السؤال
هل تسقط عدالة من يأكل في المطعم أمام الناس؟
الجواب
قد لا تسقط إذا كان يأكل في المطاعم، فهذا من الضرورة، لكن إذا خرج بخبزة وجلس على الرصيف ليأكل، والناس ينظرون إليه، فهذا يقدح في عدالته، وأما المطاعم فالناس مضطرون إليها في كثير من الدول وفي كثير من المدن.(86/12)
التحاكم إلى مشايخ القبائل مع فسق بعضهم
السؤال
ما حكم التحاكم إلى مشايخ القبائل مع أنهم ليسوا أهلاً للقضاء، بل قد يكون بعضهم من الفساق، فما هو الحل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يجوز التحاكم إليهم، والعادة أنهم يجعلون أنفسهم كمصلحين في نظرهم ولكن يلزمونهم، فيقولون: عليك يا هذا ذبيحة أو عليك ذبيحتان أو خمس أو نحو ذلك، ثم يكون هذا إلزاماً مع أنه يوجد عندهم قضاة، فلا يتعذرون، فما رفع إلى القاضي دعوى وقال: لا أعرفها اذهبوا إلى أمرائكم ورؤسائكم، ما وقع هذا.(86/13)
حكم شهادة الزور على مسلم في محاكم الكفار
السؤال
هذا سائل من سويسرا يقول: ما حكم المسلم الذي يشهد زوراً ضد مسلم في المحاكم الأوروبية، وحسب اليمين عندهم؟
الجواب
لا شك أنه يتحمل الإثم إذا شهد ضد إنسان كذباً، لكن إن كان يشهد بحق فله ذلك سواء للمسلم أو عليه، إذا دعي للشهادة وكان المدعى عليه مسلماً فليشهد بما عرف، فإذا كان ذلك المسلم ظالماً وجاحداً ومنكراً فلا شك أنه لا يجوز إقراره على ذلك، فيشهد عليه بالحق ولو كان خصمه كافراً، اشهد بما علمت.(86/14)
قدح عدالة من يضرب بالدف
السؤال
الرجل الذي يضرب الدف أحياناً، هل فيه شرط العدالة، وجزاكم الله خيرا؟
الجواب
المغنون وأهل الدفوف وأهل الطبول الذين يستعملون ذلك في كثير من المناسبات وفي كثير من الأوقات، يستقبل من يزوره بذلك، أو يجلس بين زملائه أو بين أضيافه ويفعل ذلك، فلا شك أن هذا قادح في عدالته.(86/15)
حد ما تعم به البلوى في ترك القدح به
السؤال
وهذا سائل من الكويت يقول: ما وجه من يقول من الفقهاء: إن ما يقدح في العدالة إذا عمت به البلوى يتسامح به في هذه الشهادة، ما حد ما تعم به البلوى وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هو الشيء الذي لابد منه من الأمور التي لا يمكن التخلص منها، فإذا كان أهل البلد قد انتشر بينهم مثلاً شرب الدخان، فيقولون: هذا عمت به البلوى، أو انتشر بينهم التصوير، ولا يمكن لأحد أن يسلم من حمل الصورة، فيقولون: هذا مما عمت به البلوى، أو انتشر بينهم سماع الغناء، ولا يسلم أحد ولا يسلم بيت من ذلك فيقولون: هذا عمت به البلوى، لكن إذا كان بالإمكان التخلص من هذا، فإنه يعتبر قادحاً سواء الغناء والدخان وحلق اللحى ونحو ذلك، ولكن قد يقولون: إن بعض البلاد لا يمكن أهلها التخلص منها.(86/16)
من طلب من شريكه البيع مع تضرر شريكه بذلك
السؤال
توفي جدي وترك بيتاً، فسكنه والدي وعمي، كل واحد منهما في جهة منه، ثم أراد عمي أن يبيع البيت؛ لأنه بحاجة إلى المال، وله بيت آخر يسكنه، وامتنع والدي من البيع؛ لأنه ليس لنا بيت آخر نسكنه ولا من المال ما نشتري به بيتاً أو نستأجر، علماً بأننا إذا بعنا البيت فإن نصيبنا من المال لا يكفي لشراء بيت آخر، فما هو الحل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
حاولوا أنكم تشترونه من عمكم، ولو أن تشتروا نصيبه بثمن مؤجل، وإذا كان البيت واسعاً تطلبون القسم؛ لأن هناك قسمة إجبار، فاطلبوا قسمته بينكم نصفين وهو يتصرف بقسمه، وتسكنون في نصفكم، فإذا كان البيت مساحته عشرون في عشرين أو عشرون في عشرة فيمكن قسمه.(86/17)
حكم الهدية للكافر
السؤال
يقول في الشبكة: نذرت أن أعطي طبيباً هدية إذا أجرى عملية لوالدي، والحمد لله تم ذلك، ولكن تبين لي أن الطبيب نصراني، فهل أوفي بنذري أم لا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا تعطيه هدية إذا كان نصرانياً، ويكفيه أن تعطيه أجرته إذا كان عالجه بأجرة، وإن كان عاملاً للحكومة فالحكومة تدفع له مرتبه كاملاً، فلا حاجة أن تهدي له.(86/18)
تكفي كفارة واحدة لمن تعددت أيمانه التي حنث فيها
السؤال
مشكلتي أني سابقاً أجهل باب الإيلاء، فمثلاً: أحلف بالله ألا آتي زوجتي -أي: لا أجامعها- في هذه الليلة أو في هذا الأسبوع، وأحياناً أستثني وأحياناً أضمر في قلبي بدون نطق، وبعض الأحيان أقول: لن آتيها هذه الليلة بدون قسم وهكذا، فما الحل فيما سبق، مع العلم أني إذا أتيتها أكفر، وإذا كنت مستثنياً لا أكفر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
تكفيك كفارة واحدة ولو تعددت الأيمان، وهي إطعام عشرة مساكين، وما كفرت عنه فلا يحتاج إلى تكفير مرة ثانية، ولو بقي عليك عشرة أيمان أو عشرون يميناً فيكفيها كفارة واحدة.(86/19)
حكم قسمة الكفار
السؤال
إذا تراضى اثنان بقسمة كافر، فهل تبطل القسمة؟
الجواب
إذا كان هناك ما يبطلها فإنها تبطل، إذا عرف مثلاً أن الكافر الذي قسم بينهما لم يكن من أهل المعرفة، أو جار في قسمته أو نحو ذلك، أما إذا لم يجدوا إلا هذا القاسم وكان كافراً أو فاسقاً، وكانت قسمته مناسبة فلا تبطل.(86/20)
شرح أخصر المختصرات [87]
إذا كانت الدعاوى لا تثبت إلا بشهادة أو إقرار ونحو ذلك فإن الشهادة تختلف في عدد الشهود من دعوى إلى دعوى، فما يشترط لثبوت الحدود مثلاً غير ما يشترط لثبوت الأموال.
وقد يتعذر حضور الشاهد الأصلي فيحمل الشهادة غيره، ولهذه أيضاً شروط، وقد بين الفقهاء أحكام ذلك وما يترتب عليه.(87/1)
عدد الشهود في الدعاوى المختلفة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشرط في الزنا أربعة رجال يشهدون به أو أنه أقر به أربعاً.
وفي دعوى فقر ممن عرف بغنى ثلاثة.
وفي قود وإعسار وموجب تعزير، أو حد ونكاح ونحوه مما ليس مالاً، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً رجلان.
وفي مال وما يقصد به رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي.
وفي داء ودابة وموضحة ونحوهما قول اثنين، ومع عذر واحد.
وما لا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب نساء تحت ثياب، ورضاع، واستهلال، وجراحة ونحوها في حمام وعرس: امرأة عدل أو رجل عدل.
فصل: وتقبل الشهادة على الشهادة في كل ما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.
وشُرِط تعذر شهود أصل بموت، أو مرض، أو غيبة مسافة قصر، أو خوف من سلطان أو غيره، ودوام عدالتهما، واسترعاء أصل لفرع أو لغيره، وهو يسمع فيقول: أشهد أني أشهد أن فلان بن فلان أشهدني على نفسه أو أقر عندي بكذا ونحوه، أو يسمعه يشهد عند حاكم، أو يعزوها إلى سبب كبيع وقرض، وتأدية فرع بصفة تحمله وتعيينه لأصل، وثبوت عدالة الجميع.
وإن رجع شهود مال قبل حكم لم يحكم وبعده لم ينقض وضمنوا.
وإن بان خطأ مفت أو قاض في إتلاف لمخالفة قاطع ضمنا] .(87/2)
عدد الشهود في الزنا
لما ذكر المؤلف الشهادات ومن تقبل شهادته ومن لا تقبل، وما يتعلق بها؛ تكلم بعد ذلك في عدد الشهود في الدعاوي التي يختلف فيها الحكم، فذكر أن عدد الشهود في الزنا أربعة، ودليل ذلك: قول الله تعالى في سورة النساء: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] وقوله تعالى في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، إلى قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور:13] فدل على اشتراط أربعة، ولابد أن يكونوا رجالاً، فلا تقبل شهادة النساء ولو كثرن في هذا؛ وذلك لأنه شيء يتعلق بالرجال، ويطلع عليه الرجال؛ فاشترط أن يكونوا رجالاً، وتقدم قول المؤلف: ثبوته بشهادة أربعة رجال عدول في مجلس واحد بزناً واحد مع وصفه، يعني: لابد أن يكونوا في مجلس واحد، ولابد أن يكونوا عدولاً، ولابد أن يشهدوا بزناً واحد، ولابد أن يصفوه وصفاً شاملاً؛ وبذلك يثبت الحد الذي هو الزنا.
يقول العلماء: لابد أن يشهدوا به شهادة واضحة بأن يروا فرجه في فرجها، وقد ذكرنا في كتاب الحدود أن هذا قد يكون متعذراً، يعني: رؤية الفرجين، ولكن إذا تحققوا أنه وقع بها وأنه أولج فيها، ورأوا علامات ظاهرة تدل على الزنا؛ فإنهم يشهدون وتقبل شهادتهم، وإذا شهد أربعة على رجل بأنه زنى قبلت شهادتهم على الصحيح ولو جاءوا متفرقين، وهكذا أيضاً لو شهد اثنان في يوم السبت أنه زنى، ثم شهد يوم الأحد آخران أنه زنى، فاجتمع أربعة عدول ثقات، ففي هذه الحالة تقبل شهادتهم، ويقام عليه الحد، هذا ما يتعلق بما يثبت به حد الزنا.
وكذلك إذا شهدوا أنه أقر عندهم أربع مرات، فهذا أيضاً مما يقام به الحد، يقولون: نشهد أنه اعترف عندنا أربع مرات أنه زنى بفلانة، ففي هذه الحال تقبل شهادتهم، والصحيح أنه إذا أنكر يدان، فإذا قال: إنهم كذبوا علي.
وكانوا عدولاً فإنه يدان، ويقام عليه الحد بموجب شهادتهم على اعترافه، ولا يقبل إنكاره ولا يقبل رجوعه ولو قال: رجعت عن الإقرار بعد أن شهد عليه أربعة؛ فالصحيح أنه لا يقبل.
هناك من يقول: إذا رجع يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد، واستدلوا بما وقع في رجم ماعز فإنه لما أذلقته الحجارة هرب، وروي أنهم ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا تركتموه) ، ولكن لما لم يعنفهم ولم يضمنهم؛ دل على أنه مستحق للرجم ولو هرب.(87/3)
عدد الشهود في دعوى الفقر
يقول: (وفي دعوى فقر لمن عرف بغنى ثلاثة) ، دليل ذلك حديث قبيصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا قبيصة! لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله حلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة -يعني: فقر- حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فيقولون: نشهد بالله لقد أصابت فلاناً فاقة.
فحلت له المسألة حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش) ، فإذا كان إنسان معروفاً بالغنى ثم ادعى أنه افتقر، فلا تقبل دعواه، ولا تحل له المسألة إلا إذا شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه -يعني: من أقاربه العارفين به - فيقولون: نشهد بأنه افتقر بعد أن كان غنياً، وأصابه فقر وفاقة.
فحلت له المسألة وإلا فلا تحل له.(87/4)
ما يكفي فيه شهادة رجلين
مما يقبل فيه رجلان: القود يعني: القصاص بالنفس، وما دون النفس.
فالقود يقبل فيه شاهدان رجلان يقولان: نشهد بأن هذا الذي قتل فلاناً، أو نشهد بأنه هو الذي قطع يده أو فقأ عينه أو جدع أنفه أو قطع إصبعه أو قلع سنه؛ لأن هذا قود، فهذا يقبل فيه شاهدان.
وكذلك الإعسار، إذا قالا: نشهد أنه معسر، إذا لم يكن معروفاً بالغنى فيشهد اثنان على إعساره.
وكذلك ما يوجب التعزير أو يوجب الحد، مثال الذي يوجب التعزير: سرقة مال يسير دون نصاب السرقة، وكذلك قذف بغير الزنا، إذا قذفه بغير الزنا ولو بالكفر أو بالبدعة فإنه إذا جاء شاهدان فقالا: نشهد أن هذا كفر فلاناً، أو أنه رماه بأنه يشرب الخمر أو أنه قد سرق فشاهدان يكفيان في عقوبة التعزير، فلو شهد عليه اثنان أنه سرق تحت النصاب عزر، ولو شهدا أنه ضم امرأة أجنبية أو قبلها وهي لا تحل له أو نحو ذلك ففيه التعزير، ويقبل فيه شاهدان.
وكذلك عقد النكاح يكفي فيه شاهدان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) .
وكذلك عقد المبايعة والإجارة ونحو ذلك.
يقول: (ما ليس بمال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً يقبل فيه رجلان) .
فيقبل رجلان في القصاص وفي الحدود وفي العقوبات وما أشبه ذلك مما يطلعون عليه، وكذلك في إثبات النسب إذا قال: إن هذا ابني، فقيل: ائت بشاهدين، فجاء بشاهدين؛ ثبت نسبه.
وكذلك الطلاق، قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فهذه كلها يقبل فيها رجلان، ولا يقبل فيها النساء، فلا تقبل شهادتهن في إثبات الحدود، وتكون مرجحة فإذا شهد نساء أن هذا دخل بيت فلان وسرق منه، فلا يقام عليه حد القطع، ولكن يعزر، وكذلك لو شهد النساء أن هذا شرب خمراً أو أن هذه شربت خمراً فلا يقام الحد ولكن يقام التعزير.(87/5)
ما يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين
متى تقبل شهادة رجل وامرأتين؟ في المال وما يقصد به المال، فيقبل رجل وامرأتان في البيع كما قال الله تعالى: {َاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] فهذا في المبايعات؛ لأنها مال، يقول الشهود: نشهد أنه باع هذه الدار على فلان، نشهد أنه أقر بدين قدره ألف أو عشرون ألفاً، نشهد أنه أوصى له بمال، نشهد أنه وهبه هذه الشاة مثلاً، نشهد أنه كساه هذا الثوب.
فالمال وما يقصد به المال تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، والذي يقصد به المال هو ما يستفاد منه مالياً كما لو قالوا: نشهد أنه أسكنه هذه الدار مجاناً، أو منحه هذه البقرة ليشرب من لبنها أو ما أشبه ذلك، فهذه تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين.
وإذا لم يكن هناك إلا رجل فتقبل شهادته مع اليمين، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين، فإذا جاء المدعي بالشاهد وقال: لا أعرف شاهداً آخر، عند ذلك قال: عليك اليمين، احلف مع شاهدك ونحكم لك، فإذا حلف ومعه شاهد حكم له، هذا في المال أو ما يقصد به المال.
وأما شهادة زنا، أو شهادة سرقة، أو شهادة سكر، أو شهادة قذف، أو شهادة نكاح أو طلاق؛ فلا تقبل فيها النساء، ولا تكفي فيها اليمين.(87/6)
ما يقبل فيه شهادة الواحد
متى تقبل شهادة واحد؟ ذكر أنه يقبل قول طبيب واحد مجرب إذا أثبت أن هذا مريض أو أن هذه الدابة مريضة، ففي الأمراض تقبل شهادة الطبيب، وكذلك في الدواب إذا قال: هذه الدابة معيبة، وكان معروفاً بالخبرة فإنها تقبل شهادته.
وكذلك الموضحة - وهي الشجة التي تصل إلى العظم-إذا شهد المقدر أنها وصلت إلى العظم، فتقبل شهادته ولو كان وحده، فإن تيسر اثنان يقولان: نشهد أنها موضحة وصلت إلى العظم فهو أفضل، فإن لم يتيسر قبل واحد مع العذر.(87/7)
شهادة النساء
تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً من أمور النساء الخفية، وإنما يطلع عليها النساء، مثل العيوب الخفية التي تحت الثياب، فإذا شهد النساء مثلاً أنها بكر أو أنها ثيب فهذا لا يطلع عليه الرجال، أو أن فيها عيباً كعفل أو قرن أو فتق وغيرها مما يذكر من عيوب النساء التي ترد بها في النكاح، وتقدم في كتاب النكاح ذكر العيوب كالرتق والعفل والقرن ونحو ذلك، فهذه لا يطلع عليها إلا النساء، فإذا شهدت امرأة ثقة بمثل هذا فإنه يقبل.
وكذلك الرضاع، فهذا أيضاً لا يطلع عليه الرجال، ودليله: قصة عقبة بن عامر لما تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: إني قد أرضعت عقبة والذي تزوج بها، فأنكر ذلك عقبة وقال: أنا ما أعرف ذلك، فعند ذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (كيف وقد قيل؟ خلها عنك) ففارقها عقبة وتزوجت غيره، فهذا دليل على أنها تقبل شهادة المرأة الواحدة في الرضاع؛ لأنه لا يعرف إلا من قبلها.
وكذلك الشهادة في الاستهلال، وفسر الاستهلال بالصياح، فإن الولد إذا خرج من بطن أمه واستهل -أي: صاح- يكون حياً وإن لم يصح يكون ميتاً؛ وذلك لأنه إذا خرج حياً واستهل وصرخ دل ذلك على أنه حي فيورث، وإذا ولد ميتاً فلا يورث، فإذا قالت المرأة الواحدة: أشهد أنه استهل، يعني: صاح عندما ولد، قبلت شهادتها وحدها.
وكذلك الجروح الخفية في المرأة، إذا قالت امرأة: اطلعت على جرح في هذه المرأة تحت الثياب، وقد يكون هذا في الحمامات، فهناك حمامات خاصة للنساء في بعض البلاد الباردة، وحمامات أخرى للرجال يغتسلون فيها، والغالب في ذلك الزمان أنها تكون مظلمة، لم يكن هناك كهرباء، ولا يستخدمون فيها السرج؛ وذلك لأنها ليس لها منافذ، فالنساء قد يقع بينهن في الحمام شيء من المشاجرات والمخاصمات والضرب ونحو ذلك، فإذا شهدت امرأة واحدة أنها رأت جرحاً في هذه المرأة تحت الثوب، وأنه بسبب فلانة قبلت شهادتها.
يقول: وكذلك الجراحات التي في العرس، فإذا كان النساء في حفل زواج، فقد يحصل بينهن شيء من الاختلاف ومن المضاربة في ذلك الحفل، فتحصل جراحات وما أشبه ذلك، فإذا شهدت بذلك امرأة واحدة عدل موثوقة قبلت شهادتها، وكذلك بطريق الأولى الرجل.(87/8)
الشهادة على الشهادة
هذا الفصل يتعلق بالشهادة على الشهادة، ويبوبون له: باب الشهادة على الشهادة، والمراد تحمل الفرع للشهادة عن الأصل، إذا كان إنسان عنده شهادة، وخاف أنه يموت، وجاء إلى إنسان وقال: اشهد على شهادتي أني أعرف أن هذا ملك لفلان، أو أعرف أن هذا الرجل يرث فلاناً، وأنه أقرب من يرثه، أو أشهد أن هذه البئر حفرها فلان، اشهد على شهادتي، فهذه تسمى الشهادة على الشهادة.
فتقبل فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وقد تقدم أنه يقبل كتاب قاضٍ إلى قاضٍ في كل حق آدمي، وفي كل ما حكم به لينفذه، وكذلك الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين، وأما في حقوق الله فلا، فإذا قال: أشهد أن فلاناً زنى، اشهد على شهادتي، وأشهد أن فلاناً سرق ما بلغ النصاب ووجب عليه قطع يد، أشهد أن فلاناً شرب الخمر، فاشهد على شهادتي، فلا يشهد على الشهادة إلا في حقوق الآدميين؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحاة والمضايقة، وأما حقوق الله تعالى فإنها مبنية على المسامحة.(87/9)
شروط الشهادة على الشهادة
ما هي كيفية تحميل الشهادة؟ ومتى يشهد الفرع على شهادة الأصل؟ يشترط لتحميل الشهادة -أولاً- أن يتعذر شهود الأصل، فإذا كان شهود الأصل موجودين فلا حاجة إلى الفرع، فنأتي بالأصل، ونحضرهم عند القاضي فيقولون: نعم، نشهد أن فلاناً باع كذا واشترى كذا، نشهد أنه غرس أو أنه حفر أو أنه بنى هذا المكان، أو أنه باع، أو أنه اشترى، أو أنه صنع كذا، نشهد بذلك.
فإذا تعذر شهود الأصل احتيج إلى شهود الفرع.
متى يتعذر شهود الأصل؟ يتعذر بالموت، الشاهد الأول مات، فنأتي بالفرع ونقول له: أليس فلان أشهدك قبل أن يموت على أن هذا ملك لفلان؟ فيقول: نعم، وحملني شهادته.
وكذلك إذا كان مريضاً، فالمريض إذا كان عنده شهادة ثم قال لك: إني لا أقدر على الذهاب إلى القاضي، ولكن اشهد عني وانقل شهادتي بأني أشهد أن هذا لفلان وأن هذا لفلان، فإنه يقبل.
وكذلك إذا كانت غيبة طويلة، ويمثلون بالغيبة مسافة قصر وهي في ذلك الزمان غيبة طويلة، مثلاً من الرياض إلى الخرج أو إلى قرى سدير، هذه مسافة طويلة في ذلك الوقت، فكانوا يحتاجون للشهادة على الشهادة، فيقول: أنا لا أقدر أن أرسل رسالة إلى القاضي ولكن احمل شهادتي إليه، اشهد أني أشهد أن فلاناً باع كذا أو اشترى كذا أو ما أشبه ذلك، فحينئذ تقبل شهادة الفرع.
وقد ذكرنا أن الزمان قد تغير في مسألة القرب والبعد، ففي هذه الأزمنة صار ذلك البعيد قريباً، كان مسيرة خمسة أيام فأصبح مسيرة ساعتين أو ثلاث ساعات، فلا يكون هناك مشقة، فيقال لصاحب الحق: أحضر شاهدك، إذا كان مثلاً في القصيم أحضره، فالقصيم قريبة، وأربع ساعات أو عشر ساعات لا يضرك أن تذهب وتأتي به.
وفي هذه الأزمنة يكون هنا الاستخلاف، والاستخلاف عند القضاة أن يكتب القاضي إلى القاضي الآخر فيقول: استخلفتك في سماع شهادة فلان، فالمدعي يقول: شهودي بعيدون في مكة أو في نجران، ولا أقدر أن أقدمهم؛ لأن علي تكلفة عندما آتي بهم، أدفع أجرة إركابهم ونحو ذلك، ولكن أيها القاضي أعطني استخلافاً لقاضي نجران أو لقاضي مكة، فيكتب قاضي الرياض إلى قاضي مكة: استخلفتك لتثبت الشهادة التي عند فلان لصالح فلان وترسلها إلينا، فإذا أرسلها فإنه يجعلها في ظرف مختوم، ويختم عليها، ويكتبها في أوراق رسمية؛ فيجزم القاضي الأول أن هذا ختم فلان، وأن هذا إثباته، ففي هذه الحال أصبحت المسافة البعيدة قريبة، فلا حاجة حينئذ إلى التحمل.
فالحاصل أنه إذا مات شهود الأصل أو مرضوا أو اختفوا أو غابوا غيبة طويلة ولا يدرى أين هم، أو خافوا إذا خرجوا من السلطان، أو خافوا من غريم، يقول: أنا إذا ذهبت إلى المحكمة فإن السلطان يطلبني؛ لأن علي له تبعة أو لأن فلاناً سيمسكني لأن عندي له ديناً، فيمسكني ويطلبني وأنا لا أقدر على سداده يختفي، ففي هذه الحال تقبل شهادة الفرع، فيوكل ويقول: اشهد على شهادتي.
ويشترط ثانياً: دوام عدالتهما، يعني: عدالة الأصل والفرع، فيقول الشاهد الأصل: اشهد على شهادتي، ثم نسأل: هل تعرف ياقاضي شاهد الأصل؟ فقال: نعم، أعرفه وأعرف عدالته، وشاهد الفرع هذا هل تعرفه؟ قال: نعم، فإذا قال: لا أعرف الفرع ولا أعرف الأصل، فكيف نفعل؟ يكلف صاحب الحق المدعي أن يزكي شاهدي الأصل والفرع.
ويشترط ثالثاً: الاسترعاء، يعني: التحميل، وهو استرعاء الأصل للفرع أو استرعاؤه لغيره وهو يسمع، كأن يقول: اشهد بأني أشهد أن فلان بن فلان أشهدني على نفسه أو أقر عندي بكذا ونحوه.
وكذلك إذا قال: اشهد على شهادتي فإن عندي شهادة أن فلاناً باع كذا، أو اشترى كذا، أو ابتاع كذا، أو أوقف كذا، أو أجر كذا، أو حفر، أو غرس، أو عمر، أنا أشهد على هذا، وأنا أخشى من الموت، فاشهد على شهادتي، فهذا يسمى استرعاء.
كذلك إذا سمعته يحمل غيرك، فأنت مثلاً اسمك إبراهيم، سمعت صاحب الأصل يقول: يا سعيد! اشهد على شهادتي، فإني أشهد أن البيت الفلاني وقف، أو أن البئر الفلاني وقف على المسجد أو أن هذه الأرض الفلانية وقف للمقبرة، فيشهد سعيداً، فأنت يا إبراهيم تقول: نعم، أشهد أني سمعته يقول: يا سعيد احمل شهادتي واشهد أني أشهد بكذا وكذا، هذا هو الاسترعاء، تقول: أشهد أني أشهد أن فلان بن فلان أشهدني على نفسه، أو أقر عندي بدين، أو أقر بالقبض، أو أقر بالبيع، أو أقر بوقف أو نحو ذلك.
وهكذا إذا سمعته يشهد عند الحاكم، فيقول: ياحاكم! عندي شهادة، ولكن الحاكم مثلاً تغافل ولم يكتب شهادته، فشهدت أنت بشهادته، وكذلك إذا سمعته يعزوها إلى سبب كبيع وقرض، يقول: نعم، أنا أشهد أن فلاناً استقرض من فلان ألف ريال، ثم مات الشاهد الأول وأنكر المقترض، وأنت سمعت ذلك الشاهد، ففي هذه الحال لك أن تشهد وتقول: إني سمعت فلاناً يشهد بهذا القرض ويعترف به، في هذه الحال لك أن تشهد، فإذا قلت مثلاً: إن فلاناً أشهدني على نفسه، أو أقر عندي بكذا ونحوه، أو سمعته يشهد عند الحاكم، أو سمعته يعزوها إلى سبب، قال مثلاً: عندي دين لفلان ثمن البيت، أو ثمن الأرض، أو ثمن البستان، أو ثمن الطعام، عندي بيت، عندي دين، أقرضني زيد، فإذا سمعته فلك أن تشهد على شهادته.
يقول: (وتأدية فرع بصفة تحمله) ، هذا أيضاً من الشروط، كيف تؤدي وأنت الفرع؟ تؤدي بصفة التحمل، أنت تحملت عن إنسان متحمل، وذلك أنه حملك الشهادة، فأد بصفة ما حملك ولا تزد ولا تغير، فتقول مثلاً: أشهدني على البيع ولم يشهدني على قيمة الثمن، ولكن أشهدني أن فلاناً باع هذه الدار على فلان دون أن يشهدني على قدر الثمن، فتشهد بصفة التحمل.
ومن الشروط أيضاً: تعيينه الأصل، أي: أن يسمي أصله، فإذا كان الأصل الشاهد اسمه إبراهيم، والفرع اسمه سعيد، فهو يقول: أنا سعيد، أشهد على شهادة إبراهيم، ويسميه حتى يعرف، وهذا معناه تعيينه لأصل بحيث يتعين، فلا يقول: سمعت رجلاً أو سمعت واحداً من أهل هذه البلد أو أشهدني إنسان لا أعرفه بكذا وكذا، فلابد من تعيين الأصل.
ومن الشروط: ثبوت عدالة الجميع.
فالشروط هي: الأول: تعذر شهود الأصل، الشرط الثاني: دوام العدالة، فإذا كان عدلاً وقتاً ثم صار غير عدل بطلت.
الشرط الثالث: الاسترعاء والتحميل، أن يقول: اشهد أن أشهد أن عند فلان كذا وكذا.
الشرط الرابع: تأدية الفرع بصفة ما تحمله.
الشرط الخامس: تعيين الأصل، أن يقول: أشهد بشهادة فلان.
الشرط السادس: ثبوت عدالة الجميع عند القاضي، فلابد أن يتثبت.(87/10)
حكم رجوع الشهود
يقول: (إذا رجع شهود مال قبل الحكم لم يحكم، وبعده لم ينقض، ويضمنون) ، وكذلك أيضاً دية ما فات بسببهم، فإذا قالوا مثلاً: يا قاضي! نحن شهدنا أن فلاناً عنده دين لفلان، والآن تراجعنا، لا ندري يمكن أنه فلان ويمكن أنه غيره، ففي هذه الحال لا شك أنه لا يحكم الحاكم، فالشاهدان قد تراجع كل منهما عن شهادته.
وأما بعد الحكم فالحكم لا ينقض؛ وذلك لأنه بني على بينة، ولكن هذا الشاهد الذي بني على شهادته يغرم ما حصل بشهادته، كيف يغرم؟ إذا قالوا مثلاً: نشهد أن هذا هو القاتل الذي قتل فلاناً، ثم إن ذلك الشخص قتل ثم ندموا وقالوا: كذبنا ليس هو القاتل، القاتل ولا نعرفه، أو القاتل غيره، فما الحل؟ يقتلون إلا أن يقبل أولياء المقتول الدية؛ لأنهم تسببوا في قتل هذا الإنسان، وإذا شهدوا عليه في قطع يد، وقالوا: نشهد أن هذا هو الذي قطع يد زيد، وقطعت يده قصاصاً، وبعد ذلك تراجعوا وقالوا: ندمنا، نحن لا ندري، أو ليس هو ولكنه غيره، فيضمنون اليد؛ لأنهم السبب في قطعها؛ ولأن تراجعهم وقع بعدما تم الحكم.
وهكذا أيضاً إذا كان المشهود به مالاً، إذا شهد شاهدان أن فلاناً عنده ألف لزيد، وألزمه الحاكم ودفعها، ولما دفعها تراجع الشاهدان وقالا: رجعنا، هل الحاكم ينقض الحكم فيقول: يا فلان! رد الألف فإنها ليست لك، شهودك كانوا شهود زور وقد تراجعوا؟ ليس له نقضه، وليس له رده؛ ولكن يضمنان، فالشاهدان هما السبب، فيغرمان هذا المال، فالحاكم يبني حكمه على شهادتهما.
كان شريح يقول لبعض من يوصيهم: القضاء جمرة، فإياك أن تمسها إلا بعودين، والعودان هما الشاهدان، يعني: قدر هذه القضية جمرة، فلو مسستها بيدك أحرقتك، ولكن لو قبضتها بعودين ورفعتها ما أحسست بذلك، فالشاهدان هما العودان.(87/11)
ضمان المفتي والقاضي إذا بان خطؤهما لمخالفة نص قاطع
بعد ذلك ذكر المؤلف الخطأ في الفتوى أو في القضاء، يقول: (إذا بان خطأ المفتي أو خطأ القاضي في إتلاف لمخالفة قاطع ضمنا) : المفتي هو الذي يتحمل الفتوى بشيء من العلم الذي عنده، لكن كان القضاة هم الذين يفتون، وفي هذه الأزمنة نصب المفتي ونصب القاضي، فإذا أخطأ المفتي فإنه يضمن، أخطأ مثلاً وأفتى بحل هذا النكاح وتبين خطؤه، وكان الرجل قد دخل بالمرأة وأزال بكارتها، فالمفتي هو الذي يضمن؛ لأن هذا ليس بنكاح صحيح.
قوله: بإتلاف يعني: إتلاف شيء بسبب فتواه، لمخالفة قاطع: أي: لمخالفة شيء ضروري قطعي الثبوت.(87/12)
شرح أخصر المختصرات [88]
الإقرار سيد الأدلة، وهو مقدم على غيره، وله أحكام كثيرة بينها أهل العلم، والقضاة من أعلم الناس بها لحاجتهم إليها في فصل الخصومات بين الناس، وإيصال الحقوق إلى ذويها.(88/1)
الإقرار
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الإقرار: يصح من مكلف مختار بلفظ أو كتابة، أو إشارة من أخرس، لا على الغير إلا من وكيل وولي ووارث.
ويصح من مريض مرض الموت لا لوارث إلا ببينة أو إجازة، ولو صار عند الموت أجنبياً.
ويصح لأجنبي ولو صار عند الموت وارثاً.
وإعطاء كإقرار.
وإن أقرت أو وليها بنكاح لم يدعه اثنان قبل.
ويقبل إقرار صبي له عشر أنه بلغ باحتلام.
ومن ادعي عليه بشيء فقال: "نعم" أو "بلى" ونحوهما أو "اتزنه" أو"خذه" فقد أقر، لا "خذ" أو "اتزن" ونحوه.
ولا يضر الإنشاء فيه.
وله علي ألف لا يلزمني، أو ثمن خمر ونحوه يلزمه الألف.
وله أو كان علي ألف قضيته أو برئت منه فقوله.
وإن ثبت ببينة أو عزاه لسبب فلا.
وإن أقر وأنكر سبب الحق، ثم ادعى الدفع ببينة لم يقبل.
ومن أقر بقبض أو إقباض أو هبة ونحوها، ثم أنكر، ولم يجحد إقراره ولا بينة، وسأل إحلاف خصمه لزمه.
ومن باع أو وهب أو أعتق، ثم أقر بذلك لغيره لم يقبل، ويغرمه لمقر له.
وإن قال: لم يكن ملكي، ثم ملكته بعد، قبل ببينة ما لم يكذبها بنحو قبضت ثمن ملكي.
ولا يقبل رجوع مقر إلا في حد لله.
وإن قال: له علي شيء، أو كذا، أو مال عظيم ونحوه، وأبى تفسيره، حبس حتى يفسره، ويقبل بأقل مال، وبكلب مباح، لا بصبية أو خمر أو قشر جوزة ونحوه.
وله تمر في جراب أو سكين في قراب، أو فص في خاتم، ونحو ذلك يلزمه الأول.
وإقرار بشجر ليس إقراراً بأرضه، وبأمة ليس إقراراً بحملها، وببستان يشمل أشجاره.
وإن ادعى أحدهما صحة العقد، والآخر فساده فقول مدعي الصحة.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] .
آخر الكتاب هو الإقرار، وهو أحد ما يحكم به الحكام؛ لأن القاضي يحكم بالشهود ويحكم بالإقرار، يعني: الاعتراف، أي: يعترف إنسان بشيء، ويقولون: لا عذر لمقر، ذكر أن شريحاً القاضي كان يجلس للقضاء، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إني تزوجت امرأة وإنها شرطت دارها، فقال: الشرط أوثق، فقالا: احكم بيننا، قال: قد فعلت، فقال: على من حكمت؟ قال: على ابن أمك، يعني: عليك أنت؛ لأنك اعترفت بأنها شرطت والشرط أوثق، فأنت لما اعترفت بهذا الشرط ألزمناك بموجبه.(88/2)
من يصح إقراره
قال: (يصح إقرار من مكلف مختار بلفظ أو كتابة أو إشارة من أخرس) : الإقرار هو الاعتراف، لابد أن يكون المقر مكلفاً، المكلف هو البالغ العاقل، فلا يقبل إقرار الصبي واعترافه؛ لأنه غير مكلف، ولا إقرار المجنون؛ لأنه فاقد للعقل فلا يقبل إقراره، وكذلك لا يعمل بإقرار المكره، فإذا أكره وقيل: اعترف وإلا ضربناك، في هذه الحال إذا اعترف فإنه لا يلزم بهذا الاعتراف؛ ولذلك إذا أنكر بعد ذلك فإنه لا يقام عليه حد أو نحو ذلك، لكن إذا ثبت أن إقراره بدون إكراه فلا يقبل رجوعه.
وكثير من المتهمين يقبض عليهم الجنود، ويدخلونهم السجن، وقد يضربونهم ثم يعترف أحدهم بأنه القاتل، أو بأنه السارق، أو بأنه القاطع، أو بأنه المتهم بكذا والفاعل كذا، ثم إذا حضر عند القاضي وقد وقع عند الشرطة أنكر، فالقاضي لا يؤاخذه؛ لأنه يقول: إنني ما أقررت إلا تحت الجلد، ما أقررت إلا بعدما ضربوني وآلموني ألماً شديداً، فلم أستطع أن أتحمل فاعترفت للتخلص من ضربهم، فإن كان صادقاً فإنه لا يقبل اعترافه ولا يؤاخذ به، إلا إذا ذكر الشرط أنه اعترف باختياره ثم جاء من لقنه وقال له: أنكر حتى لا تؤاخذ، فأنكر عند القاضي، وقد كان اعترف طائعاً مختاراً، فلا يقبل إنكاره.
والإقرار يكون بالكلام، أي: بالتلفظ، يقول: أقر وأعترف بأن عندي لزيد ديناً أو ألفاً، أو أقر وأعترف بأني بعته بيتي بكذا وكذا، أو أقر وأعترف بأني الذي قطعت يده أو قتلت ابنه، أو الذي قلعت شجرته.
أو بكتابة، فإذا كتب على نفسه بخط يده، وكان هناك من يشهد أن هذا خط يده وتوقيعه، فإن ذلك يقبل منه.
وكذلك إذا كان أخرس لا يتكلم، ولكن إشاراته مفهومه، يشير بيده كذا وكذا فيفهمه الحاضرون، فإذا اعترف على نفسه فإنه يؤخذ على إقراره.
وأما إذا شهد على غيره وأقر على غيره فإنه لا يقبل، وكل أحد إذا أقر على غيره لا يقبل إقراره إلا الوكيل والولي والوارث.
فالإنسان الذي يقر على نفسه يقول: عندي دين، أما أن يقول: عند أخي أو عند أبي فهذه شهادة، ولا تكون إقراراً، لكن تقبل من الوكيل إذا قال: أنا وكيل لهؤلاء الأيتام، أقر بأني بعت ملكهم بكذا، بعت عقارهم أو بعت غنمهم بكذا؛ لأني موكل من قبل القاضي، فيقبل إقراره.
وكذلك ولي المرأة في النكاح إذا اعترف وقال: أقر بأني قد عقدت لها؛ لأني ولي أمرها، أنا أخوها، أو ابن أخيها وقد رضيت وعقدت لها.
وكذلك الوارث: إذا مات إنسان وخلف ورثة، واعترفوا وقالوا: نقر ونعترف بأن مورثنا مدين بكذا، عنده لفلان مائة أو ألف، أو أنه الذي وهب كذا، أو وقف كذا، أو ما أشبه ذلك، فيقبل إقرار الورثة.
هل يصح إقرار المريض؟ يصح ولو كان مريضاً مرض الموت، فيصح إقراره على نفسه، لكن لا يصح إقراره لوارث إلا ببينة أو إجازة؛ وذلك لأنه متهم بإضرار الورثة، فإذا اعترف عند الموت وقال: أعترف بأن بيتي هذا لزوجتي، ويريد بذلك أن يضر زوجته الثانية، أو يضر أولاده الآخرين؛ فلا يقبل إقراره، أو قال: أعترف بأني قد وهبت ابني الأرضية الفلانية أو السيارة الفلانية وأنكر ذلك بقية أولاده فلا يقبل؛ لأنه متهم بإضرارهم، والوالد عليه أن يسوي بين أولاده، فإذا أقر لوارث فلا يصح إلا ببينة أو إجازة.
البينة أن يقول شاهدان: نشهد أنه قد أقر عندنا قبل المرض بأن البيت الفلاني ليس له، وإنما هو لزوجته أو لولده الأكبر أو ما أشبه ذلك.
وكذلك إجازة الهبة أو الوقف أو نحو ذلك، إذا قال في مرض موته: قد أجزت عطيتي لفلان، أو هو وقف لكذا وكذا، أو أجزت لفلان أن يسكن في البيت كذا وكذا، لأنه كان قد طلبني وتوقفت، ولكن الآن قد أجزت، فلا تقبل للوارث حتى لو صار عند الموت أجنبياً، مثلاً: أقر به له لأنه عمه، وقبل الموت ولد له ولد فحجب العم، وأصبح العم أجنبياً، وتصح له الوصية ولكن العبرة أنه في حالة الوصية كان متهماً.
ويصح الإقرار لأجنبي ولو صار عند الموت وارثاً، وصورة ذلك أن يقول: أقر على نفسي أن ابن عمي فلاناً يطالبني بألف أو عندي له خمسة آلاف، أو أنه أعارني البيت الفلاني، وليس بملك لي، ففي مثل هذه الحال يقبل؛ لأنه في حالة الإقرار ليس بمتهم، وليس بوارث، ولا يريد أن يورثه، لكن لو قدر أن ابن عمه هذا أصبح وارثاً له؛ بأن مات ابنه الذي كان حاجباً له، وورث ابن العم، فيقبل إقراره ولو كان عند الموت وارثاً.(88/3)
العطية كالإقرار
يقول: (وإعطاء كإقرار) ، العطية كالإقرار لا تصح في مرض الموت، فلا يصح في مرض الموت أن يوصي بأكثر من الثلث، ولا يصح في مرض الموت أن يقول مثلاً: أعطيت زوجتي كذا، أعطيت ولدي الأكبر كذا، أعطيت بنتي كذا؛ لأن المال قد تعلقت به حقوق الورثة الباقين، فلهم حق، فإذا أعطاهم أعطى الآخرين، فلا تصح الوصية في مرض الموت إلا لأجنبي.(88/4)
الإقرار بنكاح لم يدعه اثنان
قال: (وإن أقرت أو وليها بنكاح لم يدعه اثنان قبل) أي: إذا اعترفت وقالت: نعم، أنا أقر أني زوجة فلان، ولم يدع زوجيتها إلا واحد، بأن قال: أنت زوجتي، فقالت: نعم، أقر بأني زوجتك، صح أما إذا جاء اثنان وكل واحد منهم يقول: هذه زوجتي هذه زوجتي، فأقرت لأحدهما لم يصح؛ وذلك لأن كل واحد منهما يدعي الزوجية، فلا يصح، ولكن في هذه الحال تفسخ من زوجها، وتزوج بمن شاءت.(88/5)
إقرار الصبي
متى يقبل إقرار الصبي؟ إذا بلغ بالاحتلام، وقد يحتلم وهو ابن عشر، فإذا كان محتلماً -يعني: بالغاً- ففي هذه الحال يقبل ما أقر به، إذا قال مثلاً: نعم، أنا الذي فقأت عين فلان، أنا الذي جرحته، أنا الذي صدمت سيارته، قبل إقراره؛ لأنه ليس بسفيه؛ ولأنه يعتبر مكلفاً.(88/6)
تأثير الألفاظ في الإقرار
قال: (من ادعي عليه بشيء فقال: نعم، أو بلى، أو نحوهما، أو اتزنه، أو خذه، فقد أقر) إذا قال له: عندك لي ألف، قال: نعم، أو قال: أليس لي عندك ألف؟ فقال: بلى، هل يؤاخذ؟ نعم يؤاخذ بهذا الإقرار ويلزم به.
وكذلك لو قال مثلاً: عندك لي عشرة آصع بر، أو عشرة كيلو لحم، فقال: خذه أو اتزنه أو اكتله، فمعنى ذلك: أنه عنده، ويقول: خذه، أي: قرب مكيالاً أو قرب ميزاناً وخذه، فهذا يعتبر إقراراً، فإذا أنكر بعد ذلك لم يقبل منه.
لكن لو قال: خذ أو اتزن، فإن هذا لا يكون إقراراً بهذا المقدار، أي: لو قال: عندك لي عشرة آصع، فقال: خذ، فقد يقول: ما أردت بخذ إلا صاعاً واحداً، أو قال: اتزن، ثم قال: ما أردت بالاتزان إلا كيلو واحداً، فلا يكون إقراراً بكيل الجميع.
قال: (ولا يضر الإنشاء فيه) الإنشاء هو الابتداء، أن يبتدئ ويقول: أنا عندي لفلان كذا، هذا إنشاء، يعني: ابتداء الكلام.
(وإذا قال: له علي ألف لا يلزمني، أو) له علي ألف (ثمن خمر) ، أو ثمن خنازير، (يلزمه الألف) ، أي: يطالب بالإلف؛ وذلك لأن إقراره بالألف اعتراف، ثم قوله بأن هذا ثمن خمر هذه دعوى، والمدعي لا تقبل دعواه إلا ببينة، فإذا أتى ببينة أن هذا ثمن خمر سقطت عنه؛ لأن الخمر لا قيمة لها.
وأما قوله: لا يلزمني، فإن هذه دعوى، كيف تقول عندك لي ألف ثم تقول: لا يلزمني؟ ما السبب؟ إذا كانت عندك فإنها تلزمك؛ لكن إذا قال: له علي ألف قد قضيته أو كان علي ألف قضيته، أو ألف وبرئت منه، أو أبرأني، أو أسقطه عني، فإنه يقبل قوله بيمينه.
أنت الآن اعترفت بهذا الألف، وأنكر هو أنه قد قضي أو أنه أبرأك منه، فاحلف على هذا.
لكن إذا ثبت ببينة أو عزاه لسبب فلا يقبل إلا ببينة، إذا قال مثلاً: نعم، عندي له ألف وثبت ببينة، وشهدت الشهود أن الألف ثابت، ثم ادعى بعد ذلك أنه قد قضاه؛ فلا يقبل منه إلا ببينة على القضاء، وكذلك إذا قال: عندي له ألف قرضاً أو عندي له ألف بقية ثمن سيارة أو ثمن دار، فعيَّن الثمن أو ذكر السبب بأنه قرض أو أجرة دار أو نحو ذلك؛ فلا يقبل قوله بالإسقاط وبالقضاء إلا ببينة.(88/7)
من أنكر سبب الحق ثم ادعى الدفع ببينة
يقول: (وإن أنكر سبب الحق ثم ادعى الدفع ببينة لم يقبل) ، إنكار سبب الحق كأن يقول: ما شريت منك، ولا استأجرت منك، ولا اقترضت منك أبداً، وبعد ذلك ثبت الشراء، ولما ثبت الشراء قال: صحيح أنني قد اشتريت منك، لكن عندي بينة أنني قد قضيتك، وأحضر من يشهدون بالقضاء وبالوفاء، ففي هذه الحال لا تقبل؛ لأنه أنكر الأصل.
يقولون: لا يقبل قوله حتى ولو أتى ببينة، ويوجد قول ثانٍ ولعله أقرب وهو: أنها تقبل إذا ادعى النسيان، إذا قال: أنا نسيت أني اشتريت منك سيارة، أو نسيت أني اشتريت منك الطعام، ولكن تذكرت الآن، وعندي بينة أنني قضيتك، وهي بينة عادلة، فجاء بالبينة بأنه قد قضاه، ففي هذه الحال تقبل البينة، والقول الأول يقول: تكذب البينة؛ لأنه جاحد يقول: ما اشتريت منه، ولا استأجرت منه، ولا أعرفه، ولا اقترضت منه، ولا شيء عندي له أبداً.
ثم ثبت ذلك الدين، ثم ادعى وقال: إني قد قضيته.
وكان ذلك بعد أن أنكر، فيقولون: لا يقبل قوله ولو بالبينة؛ لأنه يكذب البينة، ولكن إذا ادعى النسيان فالصحيح أنه يقبل منه ببينة.(88/8)
حكم من أقر بقبض ثم أنكر ولم يجحد إقراره
قال: (ومن أقر بقبض أو إقباض ببينة أو هبة ونحوها، ثم أنكر ولم يجحد إقراره ولا بينة وسأل إحلاف خصمه لزمه) : صورة ذلك أن يقول: أنا أعترف بأني اقترضت منك ألفاً أو وهبتك ألفاً أو أقبضتك الهبة، أعترف بأني قد وهبتك مثلاً شاة وأنك استلمتها، أو وهبتك مائة وسلمتها لك، أو أعترف أنك أقبضتني مثلاً ألفاً، أو قبضت منك ألفاً أو نحو ذلك، أو وهبتني كذا ولكني ما قبضت، أو قبضت ولكني ما أثبتك على شيء من ذلك.
ثم أنكر ولم يجحد إقراره، أي: أنكر بعد ذلك أن يكون مديناً بألف أو بنصف ألف، لكن ما جحد إقراره، فهو معترف بأنه قبض أو أقبض أو وهب، وما وجد بينة، ولكن قال: احلف يا خصم أني ما أقبضتك الألف، احلف أنك أقبضتني الألف، احلف أنك وهبتني أو أني وهبت لك.
فيحلف الخصم.(88/9)
حكم من باع أو أعتق ثم أقر به لغيره
يقول: (ومن باع أو وهب أو أعتق ثم أقر بذلك لغيره لم يقبل، ويغرمه لمقر له) : صورة ذلك أن يبيع شاة ويستلم ثمنها أو يهب كيساً أو يعتق عبداً على أن هذه كلها ملكه، وبعد ذلك اعترف وقال: أعترف الآن أن العبد الذي أعتقته ليس لي، ولكنه لابن أخي، أو لأخي أو لابن عمي، فهل يقبل منه؟ لا يقبل منه، بمعنى: أنه لا يرجع العبد عبداً، بل يبقى على حريته.
وكذلك أيضاً: هل تسترد الهبة التي وهبها ثم ادعى أنها شاة لابن عمه أو لجاره؟ لا ترد.
وكذلك لا يرد البيع، إذا قال: أنا بعتك ولكني ما ذكرت لك أن البيت ليس لي، إنما هو لجاري، وبعته ظناً أنه سيجيز البيع، والآن أريد أن أرده.
فلا يرد؛ لأنه قد لزم.
وفي هذه الأحوال يلزمه الغرامة لمن أقر له، فإذا قال: العبد لجاري، يقال: اغرمه لأنك أعتقته واعترفت بأنه ليس لك، أو قال مثلاً: الشاة التي وهبتك ليست لي وإنما لزيد، فيقال: اغرمها لزيد، والهبة لا ترد.(88/10)
حكم من قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد
يقول: (وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد، قبل ببينة ما لم يكذبها بنحو: قبضت ثمن ملكي) ، إذا قال: هذا الكيس وهذه الشاة وهذا العبد الذي بعته أو وهبته أو أعتقته لم يكن في ملكي ثم ملكته بعدما أعتقته، حيث وهبه لي صاحبه، أو ملكت الشاة أو ملكت الكيس بعد الهبة وبعد التصرف؛ فإنه يقبل ببينة، فالبينة إذا شهدت بأنه ملكه قبل منه، ففي هذه الحال يمضي البيع وتمضي الهبة.
لكن إذا كذب البينة بقوله: قبضت ثمن ملكي، فإن هذا دليل أنها ملكه قبل البيع، فقوله: إني ملكتها بعد البيع يكذب نفسه، أي: إذا قال: بعتك الكيس، ثم قال: أعترف أني قبضت ثمن الكيس الذي هو ملكي، ثم ادعى بعد ذلك أن الكيس ليس ملكه، ولكن صاحبه قد باعه منه أو وهبه بعد ذلك، فإذا قال: إني قبضت ثمن ملكي، فهو يكذب البينة.(88/11)
رجوع المقر عن إقراره
قال: (ولا يقبل رجوع المقر إلا في حد لله) ، فمن أقر إقراراً كاملاً بشيء عليه، سواء أقر بدين أو أقر بعتق أو أقر أنه تصدق بكذا أو أقر بأنه وقف كذا وكذا، ثم قال: رجعت، ندمت، تراجعت، لا أريد وقف الدار، أو لا أريد الهبة، ولا أريد البيع، فهل يقبل رجوعه؟ لا يقبل؛ لأنه قد تعلق به حق آدمي، أما إذا كان حقاً لله فإنه يقبل.
وحق الله تعالى مثل: حد الزنا، فإذا قال: إني قد زنيت، ثم قال: رجعت عن إقراري، وكذلك حد السرقة، وحد شرب الخمر.
حد السرقة فيه حق للآدمي الذي سُرق، فإذا رده وقال: إني ما سرقته ولكنه أعطانيه، أو سرقه غيري، أو وجدته ملقى في الطريق؛ فتراجع عن السرقة، فيسقط عنه القطع، لكن يلزمه رد المال.
أما حد الشرب فحق لله تعالى، فإذا اعترف وقال: إني شربت وسكرت، ثم تراجع وقال: ما سكرت؛ قُبِل رجوعه؛ لأنه حق لله تعالى.
وحد القذف حق لآدمي، فإذا اعترف وقال: إني أعترف بأني رميت فلاناً بأنه زانٍ أو رميت فلانة بأنها زانية، ثم تراجع بعد ذلك، فهذا حق آدمي، فإذا قال المقذوف: أنا لا أتسامح، فإنه قد قذفني، واعترف بهذا عند القاضي، واعترف بهذا عند الشهود، والآن تراجع وينكر، وأنا لا أسامحه، بل أطالب بحقي في هذا، فإنه يجلد حد القذف.(88/12)
الإقرار بالمجمل
إذا أقر إنسان بشيء مجمل، فقال: له علي شيء، فكلمة (شيء) مجملة يدخل فيها الكبير والصغير، يدخل فيها مثلاً: له علي سيارات، له علي إبرة أو ملعقة أو سكين ونحو ذلك، فماذا نفعل إذا قال: له علي شيء؟ يقولون: يحبس حتى يفسره، فنقول: أخبرنا بذلك الشيء الذي أقررت به، لأنه لا يعرف إلا من قبلك أنت، فأنت اعترفت بأن له عندك شيئاً، هذا الشيء ما هو؟ فإذا فسره بشيء يقبل أن يكون شيئاً قبل منه ولو كان شيئاً يسيراً، فإذا قال مثلاً: نعم، له علي حد قذف، يعني: قد قذفته، أو إني قد اغتبته؛ قبل منه لأن هذا شيئاً، أو قال: إني اقترضت منه درهماً واحداً أو هللة، أو وهبته شيئاً ولم أعطه هذه الهبة قبل منه.
وكذا إذا قال: له علي كذا - كاف وذال وألف- ثم سكت، فيقال: ما هو الذي عليك؟ أخبرنا به.
ويحبس إذا لم يعترف.
وإذا قال: له علي مال عظيم ونحوه، فقد يستعظم الشيء الكثير، فينظر في حالته، فعند الفقراء مثلاً عشرة دراهم مال عظيم، والأثرياء المال العظيم عندهم الذي يكون ألفاً أو خمسة آلاف أو مائة ألف، فإذا كان من الضعفاء والفقراء وقال: له علي مال عظيم، وفسره بعشرة أو عشرين؛ قبل ذلك منه وبرئ بدفعها، وإذا أبى أن يفسر هذا المجمل حبس حتى يفسره، فإذا فسره بأقل مال قبل منه، وإذا قال مثلاً: هذا المال الذي عندي هو ثوب مستعمل أو نعل مستعملة أو قلنسوة، أو فسره بشيء يستعمل كقدر يطبخ فيه أو صحن يأكل فيه، أو سكين يذبح بها أو نحو ذلك من أقل مال؛ فإنه يقبل ولو قال: إنه عظيم.
وإذا قال: له علي مال عظيم.
ثم فسره وقال: عندي له كلب صيد، أو كلب ماشية، أو كلب حرث، أي: كلب مباح قبل منه؛ وذلك لأنه قد يطلق عليه أنه مال، أو أنه شيء يمتلك، وإن كان لا يجوز بيعه، فيقبل تفسيره بكلب أو بجلد ميتة؛ لأنه قد ينتفع به.
وإذا فسره بصبية، بأن قال: عندي له مال، ويعني: طفلة، فالطفلة (الصبية الحرة) لا تسمى مالاً فلا يقبل، أما إذا قال: عندي بعض أهله أو عندي أحد منهم أو عندي منهم، ثم فسره بطفلة أو بطفل يقبل.
وإذا قال مثلاً: له علي شيء ثم فسره بخمر، هل يقبل؟ الخمر ليس بمال، فلا يقبل، وإذا فسره بقشر جوزة لم يقبل أيضاً، فالشيء التافه مثل قشرة برتقالة أو قشرة موزة لا يتمول ولا يملك في العادة وليس له قيمة، وقد يكون له قيمة في بعض الأحيان حيث يتخذ علفاً لبعض الدواب، لكن هذا ليس دائماً.
وكذلك لو قال: عندي شيء.
ثم فسره بنوى التمر (حبات التمر) ، وقد كانت تتخذ علفاً للنواضح، حيث كانوا يطبخونها ويعلفونها للنواضح، والنواضح السواني التي يسنى عليها، ففي هذه الحال قد يقبل إذا كان شيئاً مما يتمول.(88/13)
الإقرار بشيء ليس إقراراً بملابسه
إذا قال: عندي له تمر في جراب.
ما الذي يلزمه؟ التمر فقط، والجراب يمكن أنه عارية، وأن صاحب التمر قال: أعطني جراباً أو: دع عندك هذا التمر، فأعطاه، وقال: عندي له تمر في جراب، أو مثلاً: بر في كيس، أو سكين في قراب، القراب هو الغلاف الذي تدخل فيه السكين، فيمكن أنه قال: هذه سكين احفظها عندك، فحفظها في قراب، وكذلك السيف في قراب، أو فص في خاتم، فإنه يلزمه الأول الذي هو التمر والسكين والفص، ويمكن أنه أخذ الفص وألصقه في خاتم له، فلا يكون الخاتم تابعاً له.
وإذا أقر بشجر فهل تتبعه الأرض؟ إذا قال: هذه الشجرات أو هذه النخلات ليست لي، وإنما هي لزيد، فماذا يستحق زيد؟ يقلعها، يمكن أنه غرسها حتى تعيش ثم إذا عاشت وعلقت يريد زيد أن يقلعها ويغرسها في بستانه، فإذا أقر بالشجر لم يلزمه الإقرار بالأرض.
وكذلك لو قال: وليست لي هذه الأمة الحامل، ولكنها لزيد، فهل يتبعها حملها مثلاً؟ قد لا يتبعها إذا كان قد زوجها صاحبها، واشترط أن الحمل لا يملك، أو كان قد باعها واشترط ألا يتبعها حملها.
أما إذا قال: هذا البستان كله لزيد، فاعترف بأنه كله لزيد، لزمه أن يدفعه كله بما فيه من الشجر: كشجر العنب والتوت والرمان والنخل وما أشبه ذلك في هذا البستان، فكله يتبعه، فيدفع لمن أقر له به.(88/14)
اختلاف دعوى صحة العقد وفساده
يقول: (إن ادعى أحدهما صحة العقد والآخر فساده قبل قول مدعي الصحة بيمينه) ، وذلك لأن الأصل في العقود الصحة.
مثال ذلك: شريكان في أرض، فقال أحدهما: إني بعته وهو مجهول، فقال الآخر: بل اشتريناه وهو معلوم، وبعناه وهو معلوم.
أو قال أحدهما: اشترينا هذا البيت بعدما رأيناه وبعدما علمناه، وقال الآخر: ما رأيناه ولا علمناه، وإنما اشتريناه وهو مغلق فالعقد فاسد ولا نريده؛ فالقول قول مدعي الصحة؛ لأنه هو الأصل، والله تعالى أعلم بالصواب.
إلى هنا انتهى شرح هذا الكتاب، وكنا قد قرأنا منه في السنوات الماضية، وقد اجتهد أحد الإخوة وفرغ ما قرأناه إلى أن وقف على النكاح، ولعله أن يفرغ الباقي، ثم يصحح وينشر، وصلى الله وسلم على محمد.(88/15)
الأسئلة(88/16)
إتيان المدعى عليه بشهود لجرح شهود المدعي
السؤال
هل يصح أن يأتي المدعى عليه بجرح لشهود المدعي؟
الجواب
إذا كان الجرح قادحاً في عدالتهم قبل جرحه، وتقدم بينة الجارح على بينة المعدل.(88/17)
الشدة على المجرمين
السؤال
بعض المجرمين أصحاب حيل وخداع، فلا ينفع معهم إلا الشدة في إظهار الحق، أما اللين فلا ينفع معهم، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا قويت التهمة، وكان هناك قرائن قوية تدل على أن هذا متهم، فلا بأس أن يهدد وأن يجلد وأن يضرب إلى أن تظهر براءته أو يحصل الاعتراف، فإذا اتهم أنه سارق، وقد كان جرب عليه سرقة أو ظهرت أمارات تدل على أنه هو الذي سرق، ففي هذه الحال يعاقب بما يحصل به الإقرار أو تظهر براءته.(88/18)
لباس الشهرة للنساء
السؤال
هل يحرم لباس الشهرة على النساء؟
الجواب
إذا كانت تخرج إلى الأسواق ويراها الناس الأجانب، فلا يجوز لها لبس شيء يلفت الأنظار، أما إذا كانت في بيتها وأمام زوجها فلا مانع أن تلبس ما شاءت.(88/19)
بيع مزرعة نخل فيها نخلة موقوفة
السؤال
أوقفت ثمر نخلة لعمي المتوفى وهي في مزرعتي الكبيرة، وذلك براً به، فهل يجوز بيع المزرعة وفيها تلك النخلة؟ وإذا كان لا يجوز فما علي لأني لا أعرف الحكم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن بعتها فاشترط على المشتري أن هذه النخلة موقوفة ليست لي وليست لك، عليك أن تسقيها وتخرج ثمرتها للصائمين مثلاً أو للمساكين ليكون أجرها لفلان، فإذا قال: لا أريد أن أشتري المزرعة وفيها وقف، خلصنا منها، فلك أن تنقلها بإذن القاضي إلى نخل في بستان آخر.(88/20)
تعارض القرينة مع الشهود
السؤال
هل تقبل القرينة؟ وإذا تعارضت القرينة مع الشهود فأيهما يقدم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يعمل بالقرينة وحدها، ولكن إذا قويت القرائن شدت بيمين المدعي وما أشبه ذلك، وإذا ما كان هناك مدع كما في الحقوق العامة التي تسند إلى المدعي العام، فهناك يتأكدون ويعملون بالقرائن لعله أن يكون هناك إقرار، ولو أن يعذبوا ذلك المتهم إلى أن تظهر براءته أو تتحقق تهمته.(88/21)
حكم تضييع الأمانة
السؤال
هل تضييع الأمانة من الكبائر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أنه من صفات المنافقين؛ لقوله: (وإذا اؤتمن خان) ، فالمنافق هو الذي يضيع الأمانات أو يخون فيها بمعنى: أنه يكتمها، أو لا يحتفظ بها كما يحتفظ بماله، والواجب إذا كان عندك أمانة ووديعة أن تحفظها كما تحفظ مالك، فإذا فرطت فإنك تغرم.(88/22)
حكم من رفع من الركوع قبل الإمام ثم رجع إلى الركوع
السؤال
في صلاة العشاء رفعت من الركوع قبل الإمام؛ لأني سمعت من المأمومين من قال: سمع الله لمن حمده، فرجعت إلى الركوع وزدت ركعة بعد سلام الإمام شكاً مني في صحة الركوع، فهل هذا صحيح؟
الجواب
إذا كنت رفعت بعدما رجعت كفاك ذلك، فمثلاً: رفعت قبل الإمام ولما رأيت أن الإمام ما رفع وأن المأمومين ما رفعوا رجعت ثم رفعت معهم أجزأك ذلك، وهكذا مثلاً لو أنك رفعت قبل أن يرفعوا ثم رفعوا ثم عدت فركعت ورفعت معهم أجزأك ذلك ولا يلزمك أن تعيد ركعة، وأما إذا رفعت قبلهم، ثم رفعوا وما رجعت، فالاحتياط أن تأتي بركعة.(88/23)
نصيحة لطلاب العلم
السؤال
ما نصيحتكم حفظكم الله لطلبة العلم بعد نهاية هذه الدورة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ننصح طلبة العلم بالمواصلة، وألا ينقطعوا عن التعلم، ووسائل العلم كثيرة، فيتعلمون من الكتب التي أولاها العلماء عناية كاملة، ويجدون فيها إن شاء الله بغيتهم، لاسيما كتب العقيدة، ومثل كتب التوحيد التي اجتهد فيها المؤلفون كأئمة الدعوة رحمهم الله، وكذلك يتعلمون بواسطة الأشرطة التي تحتوي على علم كثير من علماء موثوق بهم.
كذلك أيضاً مذاكرة العلوم التي تعلموها، بتردادها وتكرارها حتى تثبت؛ لأن الإنسان إذا تناسى شيئاً فقد يذهب من ذاكرته، بخلاف ما إذا راجعه وتذكره، وكذلك أيضاً التطبيق بأن يعملوا بما تعلموه، فيقولون: نحن استفدنا فوائد، فمن واجبنا أن نعمل بها؛ حتى نعرف أننا انتفعنا بما تعلمنا، ولابد أن لهم إخوة وجيراناً وأصحاباً جهلاء فعليهم أن يعلموهم، فيشغلون مجالسهم بالعلم، فإذا جلسوا مجلساً عادياً قالوا: نحب أن نسمعكم هذا الشريط أو نحوه، نحب أن نسمعكم هذا الباب، نقرؤه عليكم، فإذا قرءوه بينوا لهم ما يعرفون، أو مثلاً: يتساءلون فيما بينهم، يا فلان! إذا وقعت بك مسألة كذا فكيف تتخلص؟ وكيف تعمل؟ وبذلك إن شاء الله يكونون عاملين موفقين.(88/24)
نصيحة للوالدين في تربية الأولاد
السؤال
هذه سائلة تقول: إنها أم لخمسة أولاد، تقول: وبيتي ولله الحمد خالٍ من المنكرات، ولكن أولادي يأتون إلي بمنكر القول والفعل من خارج البيت، وزوجي في البيت لا تسمع له همساً، يقول: ليس علي إلا طلب الرزق، وأنت عليك التربية، فأرجو توجيه النصيحة لي وله، وهل علي إثم إذا طلبت منه الطلاق لضعف بدني، وعدم استطاعتي تحمل المسئولية، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن الأب عليه مسئولية كبيرة، فإنه هو المسئول والمخاطب بالتربية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) والخطاب للرجال، وإن كانت النساء يدخلن في ذلك، فعليه تربية أبنائه التربية الصالحة؛ بتعليمهم القرآن، وحثهم على أن يتعلموا في المدارس الخيرية لتحفيظ القرآن في المساجد، وكذلك الأخذ بأيديهم إذا كانوا ذكوراً إلى المسجد، وتعليمهم الوضوء، وتعليمهم الصلاة، وكذلك تعليمهم الآداب والأخلاق التي يتعاملون بها مع غيرهم، وحثهم على الصحبة الصالحة، وتحذيرهم ممن يفسدهم من الخلطاء الفاسدين ونحوهم، والمسئولية عليكما جميعاً، ولا شك أن صلاح الأولاد أول من ينتفع به الآباء، فإذا صلحوا كان ذلك قرة عين لأبويهم، فنوصيهم بالحرص على إصلاح أولادهم ذكوراً وإناثاً ليكونوا قرة عين لهم.(88/25)
الحرص على إبراء الذمة من الديون
السؤال
هذا سائل من الشبكة يقول: أطالب شخصاً بمليوني ريال، وهو هارب، وعليه حكم شرعي مميز، وعلي مطالبة من آخرين في حدود المليون، فهل يجوز ربط سدادهم حتى أتحصل على حقي المثبت، مع العلم أن أموالهم في ذمة المدين الهارب، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كانت الديون التي عندك ثابتة في ذمتك، فننصحك أن تسعى في قضائها إذا قدرت على ذلك، ولا تحبسهم حتى تحصل على دينك الذي عند فلان، فقد يكون ذلك مماطلاً، وقد يكون فقيراً عاجزاً، ثم قد لا يعثر عليه، فأنت تحرص على إبراء ذمتك، ولك أن تطالب ذلك الذي عنده المال إلى أن تحصل عليه.
وختاماً نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين، أن يرزقهم الله العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقهم لاتباع العلم بالعمل، حتى ينتفعوا بما تعلموا، ويكون حجة لهم لا حجة عليهم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(88/26)