حكم من باع ماله قبل الحجر بدين مع بقاء المبيع في ملكه
من وجد ماله عند من أفلس بعينه ولم يتصرف فيه؛ فإنه أولى به، فيأخذه برأس ماله، ومن سلمه عين مال جاهلاً بالحجر أخذ عين ماله إذا الأموال وعوضها كله باق، ولم يتعلق بها حقٌ للغير.
من باع ماله قبل الحجر بدين، ثم حجر عليه وتلك العين التي باعها موجودةٌ في ملكه فإنه أحق بها بشروط: الشرط الأول: ألا تتغير صفتها.
الشرط الثاني: ألا يقبض من ثمنها شيئاً.
الشرط الثالث: ألا يتعلق بها حقٌ للغير.
الشرط الرابع: أن يكون البائع موجوداً.
الشرط الخامس: أن يكون المشتري موجوداً.
وتتضح هذه الشروط بالتمثيل فنقول: إذا اشترى منك كيس قهوة، ونفرض أنه بـ (1000) ريال، وبعد نصف شهر حجر عليه، ولما حجر عليه إذا بالكيس موجودٌ في ملكه، فإنك تقول: أنا أحق به؛ لأنه عين مالي، آخذه برأس ماله، فإذا قال الغرماء الآخرون: بل نحن نشاركك في قيمته، وتشاركنا في بقية المال، فإن لك الحق في أن تطالب بعين مالك، فتقول: هذا الكيس مالي، أنا الذي بعته، وما تغير، ولو لم يحجر عليه إلا بعد موتك لم يكن لورثتك المطالبة.
وهذا الكيس لو تغير كما لو أدخله المحامص فحمص، فإنه يكون قد تغيرت حالته، فلا تستحق الرجوع فيه.
وكذلك مثلاً لو رهنه عند زيد، فإنك لا تستحق الرجوع فيه؛ وذلك لأن حق زيد تعلق به، حيث قد رهنه بدين آخر، فلا تستحق الرجوع فيه، فيكون دينك كسائر الغرماء.
وكذلك لو مات المشتري ووجدت عين مالك عند ورثته، فأنت أسوة الغرماء؛ لأن غريمك قد مات، فليس لك إلا ما للغرماء، وكذلك لو غير عين المبيع، فلو كان المبيع مثلاً كيس حنطة، ثم إنه طحنه وتغيرت هيئته وصورته، فيكون البائع أسوة الغرماء، ليس له إلا مثل ما لهم، فيباع الكيس مع بقية ماله، ويكون المشتري أسوة الغرماء، وكذلك أيضاً لو غيره فلو اشترى خشباً مثلاً، ونجرها أبواباً فإنه قد تغير، أو اشترى أقمشة وخاطها ثياباً فإنها قد تغيرت، فتغيرت صفته، فيكون صاحبه أسوة الغرماء، فلا بد من هذه الشروط الخمسة: كون البائع موجوداً، وكون المشتري موجوداً، وكون المبيع لم يتغير، وكون الثمن باقياً لم يقبض منه شيء، وكونه لم يتعلق به حق للغير.
سواءٌ كان هذا المبيع غالياً أو رخيصاً، فلو كان مثلاً سيارة اشتراها منك ديناً بستين ألفاً، ولم يعطك من ثمنها شيئاً، بل ثمنها دين، ثم أفلس وحجر عليه، فطالب بسيارتك، وقل: أنا أحق بها برأس مالها، ولا أكون أسوة الغرماء؛ لأنك إذا كنت أسوة الغرماء فلا يبقى لك إلا مقدار ما حل من الدين، والدين المؤجل لا تعطى من عوضه شيئاً.
وكذلك السيارة إذا رهنها عند آخر، فإنه تعلق بها حق الراهن، فلا تستحق الرجوع فيها، فلا بد أن تكون أنت موجوداً، ولا بد أن يكون المشتري موجوداً، ولا بد أن تكون السيارة لم تتغير، ما صدم بها مثلاً، ولا غير شيئاً من عجلاتها، أو شيئاً من أدواتها، ولا بد ألا تقبض شيئاً من الثمن، ولا بد ألا يرهنها.
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد عين ماله عند أحدٍ قد أفلس فهو أحق به) أي: بثمنه عند إنسان قد أفلس.
كذلك لو بعته عيناً ماليةً، ولم تدر أنه محجور عليه، ثم علمت بعد ذلك، فلك أن تستعيد تلك العين وتقول: أنا جاهل، ما علمت بأنه محجور عليه، وعين مالي موجودة، سيارتي موجودة مثلاً، أو كيسي موجود، يعني: أنك أحق به؛ لأنك جاهلٌ بالحجر، فتأخذها إذا كانت باقية بحالها، إذا كان عوضها كله باقياً في ذمته، ولم يتعلق بها حق للغير، ما رهنت مثلاً أو نحو ذلك.
ومما يذكرون في تعلق حق الغير: الجناية، لكنها خاصة بالعبد دون البعير والشاة والسيارة ونحوها، فيقولون: إذا اشترى منك عبداً مثلاً بعشرة آلاف، ثم إن العبد جرح إنساناً أو قطع منه إصبعاً، أو شجه في رأسه، أو أتلف شاةً لإنسان، فهذا قد تعلق به حق الغير، وهو المجني عليه، فلا تكون أنت أحق بثمنه، ولا ترجع فيه؛ لأن صاحب المجني عليه يقول: هذا العبد هو الذي جنى علي، فديني في ذمته، أو أرش جنايتي في ذمته، فلا ترجع فيه.
أما إذا كان المبيع شاةً أو بعيراً ثم إن هذا البعير رفس إنساناً فقتله، فهل يكون صاحبه المجني عليه أحق بثمن البعير أو أحق بالبعير بأن يقول: هذا البعير هو الذي قتل أخي، أو ابني؟
الجواب
ليس كذلك؛ وذلك لأن البعير غير مكلف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) أي: هدر.
وكذلك الشاة لو دخلت حرثكم فأكلت الزرع مثلاً، فهل تقولون: نحن أحق بها من الغرماء؛ لأنها أكلت زرعنا، نقول: ليس كذلك، ولكن صاحبها يغرم لكم ما أفسدته، وتكونون أسوة الغرماء.
وإذا بعته سيارةً بستين ألفاً ديناً، ثم إنه صدم بها إنساناً فمات، أو صدم بها شجرة أو جداراً، فهل يقول ورثة ذلك الميت: نحن أحق بالسيارة التي صدمت ولدنا؟ الجواب: ليس كذلك؛ لأن السيارة جماد، إنما الذي يحركها هو الذي يغرم، فهو الذي يغرم الدية، وهو الذي يغرم قيمة الجدار مثلاً، أو قيمة الشجرة، فلذلك لا يلحق بمثل جناية العبد؛ لأن العبد مكلف عاقل.(37/5)
للحاكم بيع مال المفلس وقسمه بين غرمائه إلا ما كان ضرورياً
يقول المؤلف: [ويبيع حاكم ماله ويقسمه على غرمائه] .
أي: بقدر حصصهم، فإذا أحصى المال الذي صفاه ووجده عشرة آلاف، ووجد الديون ثلاثين ألفاً كلها حالة، ننظر نسبة المال إلى نسبة الدين، وهو الثلث، فكل واحدٍ منهم يعطى ثلث دينه، فالذي له ثلاثمائة يعطى مائة، والذي له ثلاثة آلاف يعطى ألفاً، والذي له ألفٌ وخمسمائة يعطى خمسمائة، وهكذا، وبذلك تحصل المساواة بينهم، ويحصل النقص عليهم كلهم.
ولو قال رجل منهم: أنا ديني قديم من عشر سنين، وهؤلاء دينهم جديد، ما أخذوه إلا من سنة، أو من نصف سنة؟
الجواب
الجميع سواء، فكلهم حقهم قد حل، فيستوون في هذا المال.
واعلم أنه لا يجرد المفلس من كل ماله، بل يترك له بيت يسكنه، فإذا كان عنده بيتٌ يساوي مثلاً ثمانمائة ألف، فيبيعه الحاكم ويشتري له بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ليسكنه، ويقول: هذا بيت الفقراء، أما أن تسكن في هذا البيت الذي بثمانمائة ألف أو بمليون، فهذا بيت أثرياء وأغنياء، وأنت فقير، فيشتري بيتاً بمائتين أو بثلاثمائة ويسكنه فيه، ويقسم البقية الزائدة على الغرماء.
وإذا كانت عنده سيارة قيمتها ثمانون ألفاً يبيعها، وإذا قال: أنا لا أستغني عن السيارة.
فتشتري له سيارة بثلاثين ألفاً أو بعشرين ألفاً ولو مستعملة، ويقال: هذه سيارة الفقراء، لا تشترِ سيارة الأثرياء الأغنياء.
وكذلك أيضاً متاع بيته، إذا كان عنده شيءٌ زائد يبيعه، فإذا كان عنده مثلاً عددٌ من الصحون وعددٌ من القدور، وعددٌ من الكئوس، وعددٌ من الفرش وما أشبهها، فيترك له الشيء الضروري، ويبيع البقية ويقسم ثمنها، ويترك له الشيء الذي هو بحاجة إليه، مثل غسالة أو ماكنة خياطة إذا كان خياطاً، أو ثلاجةً صغيرةٌ مثلاً بقدره أو ما أشبه ذلك؛ حتى يبرئ ذمته، وإذا كان صاحب حرفة تركت له آلة حرفته، فإذا كان خياطاً تركت له آلة الخياطة، وقيل: تكسب وأنفق على نفسك، وأوفِ بقية دينك، وإذا كان مثلاً غسالاً فكذلك، وإذا كان حجاماً تركت له آلة حجامته، وإذا كان مثلاً بناءً تركت له آلة بنائه التي يشتغل ويبني بها، وهكذا بقية الحرف، أما إذا كان مثلاً صاحب ماشية، فيبيع من ماشيته ما يستغني عنه، ويترك له غنيمةً يشرب لبنها، ويبيع من نسلها، إلى أن يوفي دينه، وهكذا.
فالحاصل أن هذا دليل على عظم شأن الدين؛ لأنه حق آدمي؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه، فيقول في الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والهرم، والجبن والبخل، والكسل والحزن، وسوء الأخلاق، وشماتة الأعداء، وضلع الدين، وقهر الرجال) ضلع الدين يعني: ضرره، وهمه، وأثره.(37/6)
حرمة مطالبة المعسر أو حبسه
يقول: [ومن لم يقدر على وفاء شيءٍ من دينه أو هو مؤجل تحرم مطالبته، ويحرم حبسه، وكذا ملازمته] .
يمكن أن يقسم الناس بالنسبة للدين إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من ماله أكثر من دينه.
والقسم الثاني: من ماله أقل من دينه.
والقسم الثالث: من ليس له مال، فليس عنده قدرةٌ على الوفاء.
فإذا كان ماله أكثر من دينه أو بقدر دينه، فلا يحبس ولا يحجر عليه، ولكن يكلف أن يوفي دينه، وإذا كان ماله أقل من دينه حجر عليه بطلب غرمائه، وإذا لم يكن له مال لم يحجر عليه؛ وذلك لأنه معسر، بل يؤمر أن يتكسب، وأن يحترف إلى أن يجمع ما يوفي دينه، ويسد حاجته، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] النظرة هي التأخير، أنظروه يعني: أخروه إلى ميسرة، ولا يحل لكم أن تطالبوه وهو معسر.(37/7)
التنبه لحيل بعض الناس في ادعاء الإعسار
في هذه الأزمنة يكثر الذين يتحملون الديون، ثم يدعون الإعسار، وإذا ادعوا الإعسار أخذوا يتسولون، وأخذوا يطلبون من الأثرياء، ولا شك أن كثيراً من المتسولين ليسوا صادقين، بل أهل حيل، فلذلك فإن القضاة إذا ادعى أحد الإعسار لا يقبلون منه إلا بعد سجنه، فإذا صبر في السجن مثلاً نصف سنةٍ أو سنةً أو نحوها، عرف بذلك صدقه.
وقبل ذلك لابد أن يبحث عن ملكه، ماذا يملك؟ هل عنده عقار يستغني عنه؟ هل له رصيد أو حساب في أحد المصارف؟ هل له غرماء يطلب منهم مالاً؟ أي: عندهم له أموالٌ وديون، لا بد للقاضي أن يستفصل ويبحث.
وإذا أعطى الإنسان زكاته لمن يعتقده فقيراً، وكان في نفس الأمر غنياً، فإنه يعتبر قد برئت ذمته؛ لأن الغارمين لهم حقٌ في الزكاة، فقد جعلهم الله من جملة أهل الزكاة، فلابد للقضاة أن يتثبتوا وأن يتحققوا.
وكثيرٌ من الناس يستدينون أموالاً كثيرة ثم يسرفون، فتجدهم يبنون مبانٍ فاخرة، ويصرفون عليها مئات الألوف، فالأولى بالقاضي مع من كان من هؤلاء أن يقول: نبيع عمارتك هذه التي تساوي مليوناً أو أكثر، ونشتري لك عمارة بثلاثمائة ألف ونحوها، ونوفي الدين، فأنت قد أسرفت، وأخذت أموال الناس وصرفتها في هذه الزينات، وفي هذه الأنواع التي زخرفت بها هذا البناء، فهذا يعتبر من الإسراف، فلا يقبل منه ولا يقول: اسجنوني حتى تؤدي عني الحكومة أو ما أشبه ذلك، بل على القاضي أن يتثبت، وألا يصدق كل من يدعي، فقد يكون هناك كثيرٌ من المحتالين، وقد ظهر لبعض القضاة حيل كثيرٍ منهم، يأتي مثلاً إلى إنسان ويقول: اشتكني وادع أن في ذمتي لك خمسمائة ألف، وأنا سوف أعترف عند القاضي بأنها ثابتة، وبأنها قيمة السيارات، أو قيمة مواد بناء، أو ما أشبه ذلك، فإذا ثبتت في ذمتي أدعيت بعد ذلك الإعسار، فإذا ادعيت لا يضرني إذا سجنت نصف سنة ثم دفعت الحكومة عني، أو دفع الأثرياء، أو دفع من صندوق البر ثلثاها: أربعمائة أو نحوها، ثم أقتسمها أنا وأنت.
وقد ظهرت حيل كثيرة مثل هذه، فعلى القضاة أن يتثبتوا، فإذا ثبت أن هذا مدين، وأنه ليس عنده شيء يوفي به دينه، قل أم كثر فإنه معذور، ولا يجوز حبسه، ولكن يؤمر بأن يوفي دينه مهما استطاع، وإذا كان الدين مؤجلاً فلا يجوز مطالبته؛ لأن الدين لم يحل، ولا يجوز حبسه، ولا تجوز ملازمته، وإن كان عليه دين مؤجل فلا يجوز لأصحاب المؤجل أن يطالبوا بحقوقهم، ويقولون: أعطونا من ماله الذي تقتسمونه، فإن ديننا ثابت، نقول: دينكم مؤجل، فإن حل قبل أن تقسم الأموال أخذتم قسمكم، وإن قسم قبل الحلول فليس لكم مع هؤلاء شيء.
ومن مات وعليه دين مؤجل لم يحل، ويبقى إلى أن يحل، ولكن لو خاف أصحاب الدين المؤجل من الورثة أن يقتسموا الميراث، ويقولون: ما عندنا لك شيء، فلابد للدائن أن يطالبهم فيقول: إما أن تعطوني ديني ولو كان مؤجلاً، أو تعطوني بعضه وأسقط بعضه -على قول من أجاز ذلك- أو تأتوني بكفيل يكفل حقي، ويضمنه عند حلوله، أو ائتوني برهن أتوثق منه، فإذا وثق دينه برهن محرز بقدر الدين، فإنه يكفي أو يضمنه كفيل.(37/8)
ظهور الغريم بعد قسمة مال المفلس
يقول: [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه] .
لو اقتسموا، وبعدما اقتسموا تبيّن غريمٌ يطالبه بدين سابق، وقال: عنده لي دين، وهذه وثائقي، فإنه يرجع إلى الغرماء بقسطه، فإذا كان قسطه له العشر، فيأخذ من كل واحد منهم عُشر ما دفع إليه.
هذا الفصل الذي يتعلق بالدين والحجر عليه، أما الفصل الذي بعده فهو الحجر على السفهاء.(37/9)
الحجر على الصغير والمجنون والسفيه
قوله: [يحجر على الصغير والمجنون والسفيه لحظهم] أي: لمصلحتهم؛ وذلك لأنهم لا يحسنون التصرف، فيمنعون من التصرف في الأموال، والدليل قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] ، أي: لا تعطوها لهؤلاء السفهاء، فإنهم يفسدونها؛ لأنهم لا يفكرون ولا يعرفون المصالح، وإذا سلطوا على الأموال أتلفوها، فأنت إذا أعطيت طفلاً عمره خمس سنين خمسمائة ريال مثلاً، فإنه لا يدري قيمتها، وربما يشتري بها حلوى أو لعبةً أو نحو ذلك، يعجب بهذه السلعة، ولا يفكر في قيمتها؛ فلذلك لا يسلطون على الأموال، وكذلك المجنون فاقد العقل؛ لأنه لا يدري ما قيمة هذا المال، وكذلك السفيه ولو كان كبيراً، فهناك من يبلغ عشرين أو ثلاثين سنة وهو سفيه ناقص العقل لا يحسن أن يتصرف، فيقال: هذا سفيه، وإذا سلط على الأموال أتلفها، فيذبح ما يقدر عليه من الشياه مثلاً، ويمزق ما يقدر عليه من الثياب أو يشتري غالياً ويبيع رخيصاً، ولا يبالي بذلك، فمثل هؤلاء يمنعون من التصرف، ولو كانت الأموال أموالهم، فالمصلحة تعود إليهم.
قوله: [ومن دفع إليهم ماله بعقدٍ أو لا رجع بما بقي لا ما تلف] ، فإذا اشتريت منهم مثلاً ثوباً رجع به، وذلك لأنهم لم يؤذن لهم أن يشتروا، فشراؤهم هذا يعتبر سفهاً، ولو باعهم قدراً أو كيساً أو نحو ذلك فليس لهم حسن التصرف، فإذا تلف شيءٌ منه فلا يرجع؛ لأنه سلطهم على ماله، وإن بقي منه شيء فإنه يرجع فيه، فلو باعهم ثوبين فأحرقوا واحداً وبقي واحد، فإنه يرجع بالباقي، أو باعهم مأكولاً ثم أكلوا بعضه وبقي بعضه كفاكهة أو نحوها فإنه يرجع بما بقي، أما ما تلف فإنه يذهب عليه؛ لأنه سلطهم على ماله.
أما الجناية فيضمنونها ولكن تتحملها العاقلة إذا بلغت الثلث ونحوه، ولو كانت صغيرة، فلو قاد سيارةً وصدم بها إنساناً فإن العاقلة تتحمل ذلك، أي: أقاربه، وكذلك لو صدم جداراً أو شجرة فإن عاقلته وأهله يغرمون؛ لأنهم سلطوه على هذه السيارة، أو أخذ سكيناً وطعن بها إنساناً فإنهم يغرمون؛ لأنهم مأمورون بأن يحفظوه ولا يعطوه سلاحاً، فيضمنون الجناية ويضمنون إتلاف مال من لا يدفعه لهم، فلو دخل السفيه أو المجنون بيت أناس ثم أتلف شيئاً: أحرقه أو مزقه أو أراق شيئاً من الأطعمة أو الأدهان فإنه يضمن؛ لأن وليه مكلفٌ بأن يأخذ على يديه ويحفظه حتى لا يدخل بيوت الناس.(37/10)
الحد الذي ينتهي به الحجر على الصغير والمجنون
يقول: [ومن بلغ رشيداً أو مجنوناً ثم عقل ورشد انفك الحجر عنه بلا حكم، وأعطي ماله، لا قبل ذلك بحال] .
يدفع للصغير ماله بهذين الشرطين: البلوغ والرشد، أو العقل والرشد، فإذا كان مجنوناً ثم عقل ورشد دفع إليه ماله، وإذا كان صغيراً فبلغ ورشد دفع إليه ماله، والدليل قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، فذكر أن لذلك شرطين: الأول: بلوغ سن يقارب سن النكاح.
الثاني: اختبارهم بما يناسبهم، فإذا عقل ورشد أو بلغ ورشد دفع إليه ماله، قال الله: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] ، ولا يحتاج إلى حكم حاكم، بل بمجرد بلوغه ورشده يدفع إليه ماله؛ لأنه أحق به، وأما قبل ذلك فلا، ولو بلغ عشرين أو ثلاثين سنة؛ لأنه لا يزال سفيهاً.
بأي شيء يحصل البلوغ؟ البلوغ في الرجل يحصل بثلاثة أشياء: الأول: بالإمناء، أي: بالإنزال، فإذا احتلم فأنزل، أو أنزل باستمناء أو نحوه فقد بلغ، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] .
الثاني: تمام خمس عشرة سنة، لحديث ابن عمر يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) .
الثالث: نبات الشعر الخشن حول الفرج.
فهذه علامات البلوغ في الرجل والمرأة، وقد يوجد في الأطفال شعر رقيق، وليس هو علامة على البلوغ، قال عطية القرظي: (عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) ، يعني: كانوا يكشفون عن عوراتهم فينظرون، فمن أنبت يقتل، ويشبهونه بالرجال.
والأنثى أيضاً بلوغها بالإنزال، إذا احتلمت فأنزلت، أو بتمام خمس عشرة سنة، وبالشعر الخشن، وتزيد أيضاً بالحيض، فإذا حاضت فهو علامة على البلوغ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار) يعني: صلاة من قد حاضت، وكذلك الحمل دليل على الإنزال، فإذا حملت حكم ببلوغها من حين علوقها بالحمل، وهذا دليل على أنها قد بلغت.(37/11)
اختبار من بلغ الحلم قبل إعطائه ماله
يقول: [ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر بما يليق به، ويؤنس رشده، ومحله قبل البلوغ] .
والدليل قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] ابتلوهم، يعني: اختبروهم فيما يليق به، فيختبر ولد التاجر مثلاً فيما يناسبه، فيعطى شيئاً يتجر به فينظر، فإذا عرف رشده، فإنه يدفع إليه ماله، وولد البدوي مثلاً يختبر برعيه الغنم أو الإبل ونحوها، وحفظه لها، وهكذا صاحب الحرث ينظر في سقيه للحرث وما أشبهه، وهكذا كل إنسان يختبر بما يناسبه ويليق به.
وقوله: (ومحله قبل البلوغ) .
أي: الاختبار قرب بلوغه، والرشد في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء:6] هو الصلاح في المال ولو كان فاسداً في دينه؛ لأن الحجر عليه إنما هو في ماله، ومتى يعرف أنه صالحٌ في ماله، مصلح لماله؟ إذا باع واشترى فلم يغبن غبناً فاحشاً، لا يبيع رخيصاً، ويشتري غالياً، ولا يبذل ماله في حرام، أو في غير فائدة، فلا يشتري آلات الملاهي مثلاً، ولا يشتري شيئاً يلعب به أو نحو ذلك مما يتلف بلا فائدة، بل يحفظ ماله، ولا يبذله في أشياء محرمة، ولا في مخدرات، ولا مسكرات، ولا ملهيات، ومن فعل ذلك فإنه سفيه، ولو كان ماله كثيراً.(37/12)
ولي المحجور عليه للصغر أو الجنون
يقول: [ووليهم حال الحجر الأب] .
وذلك لأنه أولى، فإذا كان الطفل له مالٌ من أمه مثلاً، فإن أباه هو الولي، وهو وكيله ووصيه، ثم بعد ذلك وصي الأب، فإذا أوصى الوالد أن فلاناً وصيي على أطفالي.
فيكون الوصي وكيل الأب، ثم الحاكم إذا لم يكن هناك وصي، وللحاكم أن ينظر من هو الأقرب والأشفق عليه من أخٍ أو قريبٍ أو نحو ذلك، والولي يتصرف لهم في أموالهم، ولكن لا يتصرف إلا بما فيه الحظ لهم، فلا يبيع إلا إذا رأى مصلحة في البيع، ولا يشتري لهم إلا شيئاً تتحقق فائدته ومصلحته، وهو يعتبر أميناً على هذه الأموال، فيقبل قوله بعد فك الحجر، فيقبل قوله: إنه تلف من المال كذا، أو أنفقت منه كذا، أو بعت منه كذا، أو اضطررت إلى كذا وكذا؛ لأنه مأمور في المنفعة التي بذلها، وفي الضرورة التي ألجأته مثلاً إلى البيع، أو ما أشبه ذلك، فإذا قال: بعت شاته أو بعت بعيره لأنفق عليه، أو رأيت مناسبة لبيعها، ولو لم أبعها لفات الموسم، أو ما أشبه ذلك، قبل قوله، أما في دفع المال إليه فلا يقبل إلا ببينة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:6] فإذا دفع بغير شهود وجحد اليتيم، فإنه يغرم الولي إلا إذا كان متبرعاً بالحفظ، فأما إذا كان يحفظ بأجرة فيغرم ما تلف أو لم يدفعه.
بعد ذلك تكلم على دين العبد، فإذا كان العبد مأذوناً له في ذمة سيده فاستدان فإن دينه يتحمله سيده، وأما إذا لم يأذن له فإنه يتعلق برقبته، فيصير صاحب الدين يطالب ويقول: هذا العبد في رقبته لي كذا وكذا مائة أو ألف.
وكذلك لو استودع عند العبد شيئاً فأتلفه، فإنه يطالب السيد فيقول: إما أن تفديه وإما أن يشاركه فيه.
وكذلك أرش جناية العبد، فإذا جنى على إنسان: شجة أو جرحاً فإن المجني عليه يقول لسيده: إما أن تفديه وتعطيني الأرض، وإلا أكون شريكاً لك، ويكون ديني وأرش الجناية في رقبة هذا العبد، وكذلك قيمة متلفه، إذا أتلف العبد شيئاً تعلق برقبته، والله أعلم.(37/13)
الأسئلة(37/14)
حجر الأبناء على أبيهم
السؤال
ما هو ضابط حجر الأبناء على أبيهم؟
الجواب
الأصل أن الأبناء يحترمون آباءهم، لكن لو بلغ الأب سن التخريف، وبلغ حالةً لا يفقه فيها، فإن لهم أن يمنعوا الناس ويقولوا: لا تشتروا منه، ولا تبيعوا عليه، فإنه لا يفهم، وإنه لا يفقه المصلحة، فلهم أن يمنعوه، ولكن يعلن ذلك القاضي، فيكون ذلك بواسطة القاضي حتى لا يتعامل معه أحد إلا على بصيرة.(37/15)
إذا أقر المحجور عليه بمال لقريبه بقرينة عمل بها
السؤال
لو أقر المحجور عليه بأن هذا المال المعين لأخيه مثلاً، ووجدت قرينة على ذلك، فما الحكم؟
الجواب
إذا وجدت قرينة عمل بها، فيكون هذا المال لمن أقر به، لكن إن كانت حيلة فلا تقبل منه، وكثيرٌ من المحجور عليهم أو المدينين إذا طلب منه القضاء يقول: هذه الشاة لامرأتي، وهذه الإبل لأبي، ليس لي منها شيء.
ويريد بذلك التخلص من هؤلاء الغرماء، فلا يقبل منه إلا ببينة أو بقرائن.(37/16)
بيع دار الميت المدين لسداد دينه
السؤال
رجل توفي وعليه دين قرابة مليونين، وداره لو بيعت تساوي قرابة مليون ومائتين، وليس فيه سوى الزوجة وأربعة أبناء، فهل للغرماء أن يطالبوا ببيع البيت؟
الجواب
يرفع الأمر إلى القاضي، ولا يباع إلا بأمر القاضي؛ وذلك لأن هذا شيء تعلق بذمة هذا الميت، فلابد أنهم يسعوا في إبراء ذمته ببيع داره، وهل يستطيعون أن يستأجروا؟! فينظر القاضي في أمرهم.(37/17)
حد العاقلة
السؤال
هل صحيح أن حد العاقلة إلى الجد الخامس؟
الجواب
يعبرون عنهم بأنهم الأفخاذ، يمكن إلى الجد الخامس أو إلى العاشر إذا كانوا متقاربين.(37/18)
حكم أخذ المدين من الزكاة مع قدرته على سداد بعض دينه كل شهر
السؤال
ما حكم من يأخذ من الزكاة وهو مديون بدين يستطيع أن يسدده كل شهر؟
الجواب
لا يحل له إذا كان يستطيع، إلا إذا شدد عليه أهل الدين، وقالوا: لا نخلي سبيلك إلا أن تعطينا الآن.
ولم يوافقوا على التسديد شهرياً.(37/19)
طلب المحجور الإمهال ليتجر
السؤال
هل للمحجور عليه أن يطلب ممن حجروا عليه أن يمهلوه أن يتّجر بأمواله حتى يسددهم؟
الجواب
له ذلك إذا كانوا يثقون بأنه إذا اتّجر بها ربح، ثم حصل من أرباحه ما يعطيهم أموالهم كلها، ولو أنهم أخذوا الأموال الموجودة ما حصل لهم إلا نصف ديونهم، وهو ذو حرفة ومعرفة، إذا اتّجر ربح في هذه السنة أو نحوها أرباحاً يحصل منها وفاء ديونهم.(37/20)
من ادعى على ميت مالاً ومعه أوراق غير موثقة
السؤال
لي جدٌ توفي وترك مالاً وديناً، فوفينا عنه دينه، ثم جعلنا الباقي في بناء مسجد، وبعد أربع سنوات جاء رجلٌ يدعي على جدي بدين، مع علمه في تلك المدة بموت جدي، وجاء بأوراق ليست موثقة، فما العمل في هذه الحال؟
الجواب
لا بد من إثباتها عند القاضي، فيرفع الأمر إلى القاضي، فتدّعون أنه لم يتقدم هذه المدة، وهو يشاهدنا نوفي ديونه، ويعلم أننا صرفنا بقية تركته لمسجد، وهذه الأوراق ليست موثقة، وللقاضي أن ينظر في القرائن.(37/21)
مراعاة أحوال الناس وتقسيط ما ثبت في الذمة
السؤال
لي دين عند أحد الأثرياء، وذلك أن سائقه صدم سيارتي فقال لي: أخصص لك نصف راتب السائق خلال خمس سنوات، وأعطيك نصف المبلغ، فهل يجوز عمله هذا؟
الجواب
يجوز ذلك إذا رضيت أنت، فلك أن تطالب السائق، ولكن إذا عرفت أن السائق ليس عنده شيء، فلك أن ترضى بنصف مرتبه، ولك أن ترضى بنصف الأرش يقدمه لك تبرعاً منه.(37/22)
حكم أفلام الكرتون للأطفال
السؤال
انتشرت في هذه الأزمنة المتأخرة أجهزة إلكترونية وهي مشتملة على ألعاب مسلية للأطفال، غير أنها تشتمل على بعض الصور ولذوات الأرواح، ومنها أفلام كرتون، وقد تسامح فيها كثيرٌ من الأخيار من أجل حفظ أولادهم، ولأجل مصالح أخرى، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا شك أنها داخلة في اسم الصور، ولكن حيث إنها ليست ثابتة، ويمكن مسحها مثلاً والتسجيل عليها، فيخف أمر الصور فيها، لاسيما وأنها تختص بالأطفال الذين دون سن التمييز أو نحوهم، وتحفظهم من العبث الذي لا بد لهم منه، فلعله يتسامح فيها، ولكن لا يتوسع فيها توسعاً بحيث تبذل فيها أموالٌ طائلة، أو تشغل عما هو أهم منها.(37/23)
رجوع العوام إلى العلماء المعتبرين في المسائل المختلف فيها
السؤال
يحدث بيننا خلاف وجدل بسبب اختلافات الفقهاء والعلماء في بعض المسائل الفقهية، فما هو دور العامي مثلنا حيال ذلك؟
الجواب
لا شك أنه يوجد خلاف كثير بين العلماء، ولكن الواجب على العامة أن يأخذوا بأقوال العلماء المعتبرين فيرجعون إلى العلماء المعتبرين في زمانهم، وإذا نقل لهم عن علماء السلف الذين هم محل قدوة فيقتدون بهم.(37/24)
استئذان الوكيل لموكله في شراء سيارة لمصلحته
السؤال
شخصٌ وكله آخر باستثمار ماله، وسمح له بسد حاجته منه إن أراد، ويرغب الوكيل بشراء سيارة بقيمة سبعين ألفاً للوكيل، بحيث يسجلها لصالح الموكل بقيمة ثمانين ألفاً، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا بد من أخذ إذن الموكل؛ لأن هذه قيمة رفيعة، فإذا كانت السيارة لمصلحة الموكل؛ للاتجار في ماله، ولمتابعة الغرماء، ومتابعة التجارة، ومتابعة الإيراد والتصدير، وما أشبه ذلك، وسمح بذلك الموكل؛ جاز ذلك.(37/25)
حكم صرف الحوالة قبل قبضها
السؤال
جاءتني حوالة من أحد الإخوة، واستلمتها بالعملة التي توجد في البلد، فهل أدفع المبلغ بالعملة التي حولها هو أم بالعملة التي استلمتها في بلدي؟
الجواب
يجوز ذلك ويكون صرفاً لعين وذمة، كأنه يقول: عندكم لنا مثلاً مائة دولار، أريد صرفها بقيمة اليوم بريال سعودي مثلاً يجوز ذلك؛ لحديث ابن عمر: (كنا نبيع الإبل بالبقيع، فنبيع بالدراهم فنأخذ الدنانير وبالعكس، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، فتستلم منهم العوض في الحال.(37/26)
تأثير الرضاع إنما يكون لمن رضع دون إخوته
السؤال
أمي أرضعت ابن أختي الكبير، ومعروف شرعاً أنه أخو خاله من الرضاع، لكن إخوته الذين هم أصغر منه، ولم يرضعوا من أمي التي هي جدتهم، هل يجوز أن أزوجهم من بناتي أم لا، أفتونا مأجورين؟
الجواب
يجوز ذلك، والذي لا تزوجه هو الذي رضع من أمك، وأما إخوته فلا يتأثرون برضاع أخيهم.(37/27)
حكم الطار
السؤال
ابن خالي سوف يتزوج بعد أيام، وعلمنا بأنه سوف يأتي بفرقة من النساء تزعم أنها تستخدم الطار فقط، وهذه الفرقة سوف تحيي ساعات طويلة من الفرح وغير ذلك، وهذه الفرقة اشترطت أن تأخذ سبعة آلاف ريال، وأنا رفضت طلب والدتي، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا يجوز لك تمكين هؤلاء الذين يلعبون هذا اللعب المشتبه والمحرم بما يسمى بالطار أو ما أشبهه، ولا بأس باستعمال الدف على ما ورد في حديث: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) ، وشيء من النشيد المباح، وأما هذه الأجهزة الكثيرة وما أشبهها من الأمور الملهية، مع السهر الطويل؛ فلا تجوز.
أحسن الله إليكم، وأثابكم، ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/28)
شرح أخصر المختصرات [38]
قد لا يستطيع الإنسان قضاء حوائجه كلها بنفسه، فأجازت له الشريعة أن يوكل غيره في البيع أو الشراء أو الخصام، أو في قبض ديونه ونحو ذلك، فيقوم الوكيل مقام موكله فيما وكله فيه، وللوكالة أحكام بينها الفقهاء.(38/1)
الوكالة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وتصح الوكالة بكل قول يدل على إذن، وقبولها بكل قول أو فعل دالٍ عليه، وشرط كونهما جائزي التصرف، ومن له تصرف في شيء فله توكل وتوكيل فيه، وتصح في كل حق آدمي، لا ظهار ولعان وأيمان، وفي كل حق لله تدخله النيابة، وهي وشركة ومضاربة ومساقاة ومزارعة ووديعة وجعالة، عقود جائزة لكل فسخها، ولا يصح بلا إذن بيع وكيل لنفسه، ولا شراؤه منها لموكله، وولده ووالده ومكاتبه كنفسه، وإن باع بدون ثمن مثلٍ أو اشترى بأكثر منه صح، وضمن زيادة أو نقصاً، ووكيل مبيع يسلمه ولا يقبض ثمنه إلا بقرينة، ويسلم وكيل الشراء الثمن، ووكيل خصومة لا يقبض، وقبض يخاصم، والوكيل أمينٌ لا يضمن إلا بتعدٍ أو تفريط، ويقبل قوله في نفيهما وهلاك بيمينه كدعوى متبرع رد العين أو ثمنها لموكل، لا لورثته إلا ببينة.
فصل: والشركة خمسة أضرب: شركة عنان: وهي أن يحضر كل واحد من عدد جائز التصرف من ماله نقداً معلوماً؛ ليعمل فيه كلٌ على أن له من الربح جزءاً مشاعاً معلوماً.
الثاني: المضاربة: وهي دفع مال معين معلوم لمن يتجر فيه بجزء معلوم مشاعٍ من ربحه، وإن ضارب لآخر فأضر الأول حرم، ورد حصته في الشركة، وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد تصرف أو خسر جبر من ربح قبل قسمة] .
الفصل الأول: يتعلق بالوكالة.
والفصل الثاني: يتعلق بالشركة.(38/2)
تعريف الوكالة وحكمة مشروعيتها
الوكالة: مشتقة من وكلت الشيء إلى فلانٍ يعني: فوضته إليه، ويعرفونها اصطلاحاً: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
فقولهم: (استنابة) يعني: إقامة آخر مقامه، وصريحها أن يقول: وكلتك، أو أنبتك، أو فوضت إليك، أو قم مقامي في كذا.
وسبب شرعيتها أن الإنسان قد لا يقدر على قضاء حوائجه كلها بنفسه، فجاز له أن يوكل غيره، فيوكله ليبيع سلعته، ويوكله ليشتري له سلعةً، ويوكله ليخاصم في دين له أو حق، ويوكل لقبض ديونه أو جمعها، فيقوم الوكيل مقامه فيما وكله فيه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوكل بعض أصحابه لقبض الزكوات وهم العمال، وكذلك ورد أنه قال: (ائت وكيلي بخيبر ليعطيك وسقاً من التمر، فإن طلب منك آية فضع يدك على ترقوته) ، فلم يكن هناك وثائق ولا أختام، فكأنه قال: من جاءك يطلب من التمر زاعماً أني أرسلته، فلا تعطه حتى يضع يده على ترقوتك، وهو العظم الذي بين النحر والكتف، فهذا دليل على أنه كان يوكل أصحابه لجمع الزكوات، ويفرقونها بإذنه.
وكذلك روي (أنه وكل عروة البارقي أن يشتري له شاةً بدينار، فاشترى له شاتين بدينار، وباع إحداهما بدينار، وجاءه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى التراب لربح فيه) ، وفي حديث زيد بن خالد وأبي هريرة في قصة العسيف أنه قال: (اغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، فوكله في إثبات هذا الحد، ووكله في إقامته، وهذا يدل على أن هذا كله جائز.
ومن المعلوم أن هذه المملكة تحت ولاية الملك، وهو لا يستطيع أن يباشر كل الأعمال بيده، فوكلاؤه يعتبرون نوابه، فالوزراء وكلاء، وقد وكلوا في كل دائرة من يقوم بها، فهذا موكل في هذا النوع من المعاملات، وهذا موكل بالصرف لكذا وكذا، وهذا موكل بالقبض من كذا وكذا، وهؤلاء القضاة موكلون في إثبات الخصومات، وكذلك المنفذون موكَلون بتنفيذ الحدود، وبتنفيذ الأحكام القضائية وأشباه ذلك، هذا من حيث العموم.
أما من حيث الخصوص، فإن كلاً منا قد يكون محتاجاً إلى الوكالة، فأنت مثلاً تحتاج إلى شراء وأنت منشغل، فتوكل من يشتري لك ثوباً أو كيساً أو نحو ذلك، أو توكل من يبيع شاتك أو يبيع دارك، أو ما أشبه ذلك، ويقوم هذا الوكيل مقام الموكل، ولا شك أن هذا ونحوه دليل مشروعية الوكالة، وأن الناس بحاجة إليها، لا يستغنون عن أن يوكل أحدهم صاحبه في قضاء حاجته.
وقد عرفنا أن الوكالة: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.(38/3)
ما تنعقد به الوكالة من الألفاظ
شروط الوكالة: أولاً: هل يشترط لها صيغة؟ يقول: (تصح الوكالة بكل قول يدل على الإذن) فإذا قال: وكلتك، فوضت إليك، أنبتك، أنت نائب عني، أنت تقوم مقامي، اذهب فبع هذه السلعة، اذهب فاشتر لنا كيساً؛ هذه كلها صيغ تدل على الإذن.
وهل يشترط للقبول عبارة؟ لا يشترط، فلو قال: إن شاء الله، أو سأفعل، أو حباً وكرامة، أو أهلاً وسهلاً، أو قبلت منك هذا التوكيل، جاز ذلك كله، فلا حاجة إلى أن يحدد كلمة خاصة يقول فيها: قبلت، أو ما أشبه ذلك، فيصح قبولها بكل قول أو فعل يدل على القبول، لو قلت له: بع هذا الكيس، فسكت، ولكنه حمله على سيارته ودخل به السوق وباعه؛ صح.
وإذا قلت له: اذهب فاقبض ديني من زيد، فسكت، وذهب وقال لزيد: أنا وكيل في قبض الدين الذي عندك، صح ذلك، ويكون هذا دالاً على القبول.
قوله: (شرط كونهما جائزي التصرف) .
الذي لا يجوز تصرفه مثل المملوك، فليس له التصرف في نفسه ولا في غيره، لكن يجوز لسيده أن يوكله، وكذلك السفيه لا يستحق تصرفه في ماله كما تقدم، فلا يصح توكيله، ولا يصلح توكله، وكذلك الصغير، وكذلك المجنون، فكونهما جائزي التصرف يخرج هؤلاء الأربعة: المملوك، والصغير، والمجنون، والسفيه، فإن هؤلاء لا يصح لأحدهم أن يوكل، ولا يصلح أن يكون وكيلاً، فلا يتوكل ولا يوكل؛ لأنهم لا تصرف لهم في أموالهم، فكذا في غير أموالهم.
واصطلح الفقهاء على أن المالك يسمى موكلاً، وأما النائب فيسمى وكيلاً، ولا يقال (موكَّل) ؛ لأنها قد تشتبه في الكتابة (موكَّل وموكِّل) ، فإذا رأيت كلمة (م وك ل) فاقرأها موكِّل ولا تقرأها موكَّل؛ لأن الموكَّل عبروا عنه بالوكيل، وهو الذي ورد في القرآن: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:81] ، فالوكيل: هو النائب عن غيره.(38/4)
ما يصح التوكيل فيه
يصح التوكيل في كل شيء يصح التصرف فيه، يقول المؤلف: (من له التصرف في شيء فله توكُّل وتوكيلٌ فيه) ، كل شيء يصح تصرفه فيه فإنه يصح أن يكون وكيلاً أو يكون موكِّلاً، فمعلوم أن الإنسان يتصرف في ماله: فيبيع منه، ويهب، ويشتري، ويتصدق، ويسدد، وإذا كان كذلك فله أن يوكِّل، فيقول: وكلتك يا زيد! أن تكتب وثيقة بيتي الفلاني عند القاضي، وكلتك أن تبيع هذه الأرض التي هي ملكي، أو هذه السلعة، وكلتك أن تتصدق من مالي بألف ريال، وكلتك أن تعطي فلاناً أو تهدي إلى فلان شاة، فأنت تتصرف في مالك فلك أن توكل فيه.
ويدخل في ذلك العقود، فيصح للزوج أن يوكل، وكذلك الولي، فإذا كان الزوج بعيداً أرسل لك وكالة وقال: أنت وكيلي في تزوج بنت فلان، فتحضر أنت، فيقول ولي البنت: زوجت موكِّلك فلاناً ابنتي، فتقول: قبلتها لموكلي فلان، يصح ذلك، وهكذا أيضاً الولي يوكلك مثلاً فتقول للزوج: زوجتك بنت موكلي فلانة بنت فلان، فيقول: قبلتها.
وقد يوكلان معاً، يوكل الزوج ويوكل الولي، فيقول وكيل الزوج لوكيل الولي: زوجت موكلك فلاناً فلانة بنت موكلي فلان، فيقول وكيل الزوج: قبلت زواج فلانة لموكلي فلان.
ويصح أيضاً في الطلاق، فيوكلك في طلاق امرأته فتقول: اشهد يا فلان ويا فلان أني طلقت فلانة بوكالة زوجها لي، حيث وكلني على طلاقها، وهكذا المخاصمات، والناس الآن يوكلون من يسمى المحامي، فهذا المحامي وكيل عن فلان، فيأخذ ما عند موكله من الحجج ثم يحتج عند القاضي ويقول: حجتي التي أحتج بها لموكلي كذا وكذا، وموكلي عنده من البينات كذا وكذا، فهذا وكيلٌ أيضاً في الخصومة.
فالحاصل أن الوكالة تصح في كل شيء يملك التصرف فيه، وتصح في كل حقوق الآدميين من الأموال والعقود والفسوخ، فيوكل في البيع، ويوكل في الشراء، ويوكل في القبض، ويوكل في الخصومات، وما أشبه ذلك.(38/5)
ما لا يصح التوكيل فيه
استثنوا ما لا يصح التوكيل فيه فقال المؤلف: (لا ظهار ولعان وأيمان) ، فهذه لا يصح التوكيل فيها، فلا يصح أن يقول: وكلت من يظاهر من امرأتي، تقول: يا فلانة! أنتِ على فلان كظهر أمه، وذلك لأن الظهار حرام قال الله تعالى {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] وما كان منكراً وزوراً فلا تتوكل فيه، وإذا وكلك وقال: اذهب إلى امرأتي وقل: إن فلاناً يقول: أنتِ علي كظهر أمي، تقول: لا أقول هذا، ولا أفعله؛ لأن الله سماه منكراً وزوراً، فلا أتوكل في منكر، ولا أتوكل في زور.
وكذلك اللعان، لا يصح التوكيل فيه، لأنه يقترن به شهادات وأيمان ودعاء، واللعان ذكره الله تعالى في القرآن، ونسبه إلى الزوجين فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] فلا يصح التوكيل فيه، لا يقول: يا فلان! اذهب فاشهد عني، والعن نفسك عني؛ لأن الزوج يقول: أشهد بالله أن امرأتي هذه زانية، وإني لمن الصادقين، أربع مرات، وكذلك المرأة تقول: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، ثم تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلا يجوز أن يكون موكلاً في اللعن ولا في الغضب؛ لأن هذا دعاء على النفس، ولا يقول مثلاً: لعنة الله على فلان إن كان من الكاذبين، فهذا شيء يتعلق بما في الضمير، فلا يجوز التوكل فيه.
وكذلك الأيمان لا يجوز التوكل فيها، فلا يقول إذا توجهت إليه يمين في خصومة: يا فلان! وكلتك أن تحلف عني؛ لأن الحلف فيه استحضار عظمة المحلوف به، فالذي يحلف بالله أو بصفة من صفات الله يستحضر عظمة الله، فيحمله هذا الاستحضار على أن يعترف بالحق، وألا يتجرأ على الحلف كاذباً، ويستحضر أنه إذا حلف كاذباً فإن عليه عقوبة شديدة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين صبر هو فيها كاذبٌ لقي الله وهو عليه غضبان) .(38/6)
حكم التوكيل في العبادات
فالحاصل أن اليمين لا تدخلها النيابة، ولا يحلف أحد عن أحد.
يقول: (وفي كل حق لله تدخله النيابة) أي: من العبادات ما تدخله النيابة، فيجوز التوكيل فيه، فتوكله أن يفرق كفارة النذر أو كفارة اليمين، وتقول: يا فلان! عليّ كفارة يمين إطعام عشرة مساكين، فخذ هذه الدراهم لتشتري طعاماً وتطعمهم، فيجوز هذا، وكذلك مثلاً تعطيه زكاة مالك ليفرقها، فتقول: وكلتك أن تفرق هذه الزكاة على المساكين الذين تعرفهم، وتعرف استحقاقهم، فهذه من العبادات المالية التي يصح التوكيل فيها.
ومن العبادات التي يصح التوكيل فيها الحج والعمرة خاصة، فقد وردت الإنابة فيهما، فيجوز أن يوكل العاجز ويقول: يا فلان خذ هذه النفقة وحج عني أو حج عن أبي الميت، أو وكلتك أن تحج عني أو عن أبي، أو تعتمر وتجعل عمرتك عن أبي أو عن أخي، وتعطيه نفقته.
فهذه العبادات يصح التوكيل فيها، وأما بقية العبادات فلا يصح أن يوكل فيها.
ذكر لي بعض الإخوان الغيورين أنه مر على بعض الشباب المتهاونين فقال لهم: اذهبوا إلى المسجد وأدوا الصلاة مع الجماعة، فقالوا: أنت بالنيابة، يعني: كأنهم يقولون: صل عنا، وهذا من الاستهزاء، ولا شك أن الصلاة عبادة بدنية لا يصح التوكيل فيها، ولا يصح أن يصلي أحد عن أحد؛ لأنها عبادة تتعلق بالبدن، ولا تسقط عن الإنسان إلا إذا أداها بنفسه.
وكذلك الصيام عبادة بدنية، وقد رأيت إنساناً كبيراً لعله مسافر، شرب من الماء والناس ينظرون، فأنكر عليه بعضهم وقال: هذا ما صام! فقال: أنت تصوم عني، ويظهر أنه أراد بذلك الاعتذار، ولو قال: إنني مسافر كان أقرب إلى عذره، مع أن المسافر إذا كان في البلد لا يحل له أن يُظهر الأكل أمام الناس، فعليه أن يمسك ولا يأكل ولا يشرب إلا في خفية؛ لأن الناس يستنكرون أكله أو شربه في رمضان علناً، وعلى كل حال فالعبادات البدنية لا يجوز التوكل فيها.(38/7)
الوكالة عقد جائز ومثلها الشركة والمساقاة والمزارعة
وحكم الوكالة أنها عقد جائز، فيجوز للوكيل أن يخلع وكالته، ويقول: وكلني فلان على بيع سلعته، واشهدوا أني لا أريد هذه الوكالة، وكلني على قبض دينه مثلاً أو على قبض مكافأة، واشهدوا أني لا أقبضها، فليوكل غيري، فيجوز للوكيل أن يعزل نفسه متى أراد، وكذلك الموكل يجوز أن يعزل وكيله.
وقد تكون الوكالة محددة، ففي بعض الأعمال قد يقول الموكل: يا فلان! أنت وكيلٌ على سقي هذه الأغنام أو سقي هذه الأشجار حتى يأتي زيد من سفره، فإذا جاء بطل توكيلك، أو أنت وكيلٌ على أولادي تنفق عليهم من أموالهم إلى أن يبلغ الكبير منهم الحلم ويكون رشيداً فتنفسخ وكالتك، فهذه تكون وكالةٌ مؤقتة، فإذا قدم زيد انفسخت وصار هو الوكيل، أو إذا بلغ فلان ورشد فهو الوكيل وتنفسخ وكالته، وقد يوكل الموصي أخاه ويقول: حتى يبلغ ابني ويرشد.
فالوكالة عقد جائز، فيصح للوكيل أن يخلع نفسه، ويصح أن يخلعه الموكل، ثم لو تصرف قبل أن يبلغه الخلع فإن تصرفه نافذ، فلو وكله ليطلق امرأته، ولما وكله ذهب الوكيل إلى المحكمة وقال: هذه وكالة لي من فلان بطلاق امرأته.
ولكن ندم الموكل فقال: اشهدوا أني خلعته عن هذه الوكالة، ولم يعلم الوكيل بالخلع حتى ذهب إلى القاضي، وأصدر القاضي صكاً بالطلاق قبل أن يبلغه الخبر بأنه مخلوع، ففي هذه الحال لا شك أنه ينفذ الطلاق؛ لأنه ما بلغه خبر العزل إلا بعدما كتب الطلاق.
وهكذا يقال في البيع، لو قال مثلاً: وكلتك في بيع بيتي مثلاً بخمسمائة.
ثم ندم وقال: من لقي فلاناً فليخبره أني قد عزلته، ولم يلقه أحد ألا بعد البيع وقبض الثمن وكتابة الوثيقة، فإنه ينفذ البيع؛ لأنه تصرف وهو مفوض وموكل.
وشركة العنان وشركة المضاربة كلاهما عقد جائز، يعني: يتمكن أحد الشريكين أن يحل الشركة وأن يطلب القسمة، وكذلك المساقاة والمزارعة، والمساقاة هي أن يقول: اسق هذا النخل سنة بنصف الثمر أو بربعه.
فيصح أن يبطل العقد قبل أن يثمر النخل، ويعطيه أجرة مثله.
والمزارعة أن يقول: ازرع هذه الأرض ولك نصف الزرع، فيصح أن يخلعه ثم يعطيه أجرة ما أنفقه، وكذلك الوديعة؛ إذا أودع عندك إنسان مثلاً ألف ريال فإنه يصح أن يأخذها بعد ساعة أو بعد يوم.
وكذلك الجعالة، فإذا قال: من بنى هذا الجدار فله مائةٌ، فله أن يقول: رجعت عن ذلك؛ وذلك لأنه لم يتفق مع واحد، وهذه كلها عقود جائزة، ولكل واحد فسخها.(38/8)
لا يصح للوكيل أن يبيع على نفسه أو أقاربه أو يشتري لهم
قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح بلا إذن بيع وكيل لنفسه، ولا شراؤه منها لموكله، وولده ووالده ومكاتبه كنفسه) صورة ذلك إذا قال: وكلتك أن تبيع هذه الدار أو هذه السيارة أو هذا الكيس أو هذه الشاة.
ومعنى ذلك: أنك تدخل بها السوق، وتنظر من يشتري هذه الشاة أو هذا البعير أو هذا الكيس، فهل تقول: أنا أولى به وسأشتريه لنفسي؟ لا يجوز؛ لأنك متهم بالتساهل، فقد يقال: اشتراه لنفسه برخص، ولو أنه دخل به السوق أو صبر عليه لباعه بأكثر.
وهكذا إذا بعته على ولدك أو على والدك أو على مكاتبك؛ لأن المكاتب الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل، لا يزال عبداً ما بقي عليه درهم، فلا يصح للوكيل أن يشتري الشاة لنفسه، بل يبيعها لغيره، وإذا وكلك أن تبيع هذه السيارة فلا تبعها على نفسك أو ما أشبه ذلك مخافة التهمة.
وهكذا الشراء لا يجوز أيضاً، فإذا قال: وكلتك أن تشتري لي كيس بر أو أرز فلا تقل: عندي أكياس وسأشتري له من نفسي إلا إذا كان هناك دلالة تدل على الإذن أو قرينة بأن قال مثلاً: بعني من نفسك أو بصفتك تاجراً فبعني كيساً أو ثوباً أو شاة من غنمك.
فمثل هذا يعتبر قرينة، فأما إذا سكت وقال: اشتر لي كيس تمر أو سيارة صفتها كذا وكذا، أو اشتر لي ثوباً أو شاةً، فلا تشتر ذلك من نفسك ولا من أبيك ولا من أبنك ولا من مكاتبك؛ لأنك قد تزيد في الثمن، فقد يكون الكيس مثلاً بمائة، فتحسبه عليه بمائة وخمسة، أو نحو ذلك، فيدخله الشك.
فالحاصل أن الوكيل لا يشتري من نفسه، ولا يبيع على نفسه، وولده مثله، وأبوه مثله، ومكاتبه مثله.
يقول هنا: (وإن باع بدون ثمن مثلٍ أو اشترى بأكثر منه صح وضمن زيادةً أو نقصاً) صورة ذلك: إذا قال مثلاً: بع هذه الشاة في السوق، فتساهلت وبعتها مثلاً بمائتين، ومثلها يساوي مائتين وخمسين لو صبرت، لكنك بعتها في أدنى السوق، أو بعتها لأول من سامها، فالبيع صحيح، ولكن تضمن النقص؛ لأنها تساوي مائتين وخمسين وأنت بعتها بمائتين.
وكذلك إذا وكلك أن تشتري له شاة، والغنم التي تماثلها تساوي مائتين، ولكنك اشتريت من أدناهم وبدون مراجعة بمائتين وخمسين، فهذا دليل على أنك تريد الحظ لذلك البائع، أو أنك متساهل، فعليك أن تدفع هذه الزيادة، فيقول لك: الناس يشترون بمائتين، فأنا لا أدفع إلا مائتين، والخمسون الزائدة تكون عليك؛ لأنك تساهلت.
وهذا يفيد أن الوكيل عليه أن يجتهد في النصح لموكله سواءً كان بأجرة أو بدون أجرة، ومعلوم أنه إذا قال لك: بع الشاة ولك اثنين في المائة من ثمنها، فإنك سوف تحرص على أن تزيد في الثمن حتى تبيعها بأربعمائة مثلاً، فتكون أجرتك ثمانية مثلاً، وإذا بعتها بثلاثمائة مثلاً فلا يحصل لك إلا ستة.
وهكذا إذا قال: وكلتك أن تشتري لي شاة، ولك أجرةٌ عشرة ريال أو نحو ذلك، فإنك مأمور أن تنصح له، وأن تجتهد في شراء الرخيص، وألا تشتري بثمن مرتفع حتى لا تضره؛ لأنك وكيل وأمين.
فالحاصل أن الوكيل إذا تساهل واشترى غالياً صح الشراء وضمن الزيادة، وإن تساهل وباع رخيصاً صح البيع وضمن النقص.(38/9)
حكم القبض للثمن من الوكيل
قال المصنف رحمه الله: (وكيل بيع يسلمه، ولا يقبض ثمن إلا بقرينة) إذا قال مثلاً: وكلتك أن تبيع هذه الدار، أو هذه الأرض فأنت وكيل على البيع، تسلم وثائق الأرض، ومفاتيح الدار، وأما الثمن فقد لا يأمنك عليه، فلا تقبض الثمن إلا إذا كانت هناك قرينة، إذا قال مثلاً: بع هذه الغنم في هذا السوق.
فإنه يأتيك أعرابي ويأتيك حضريٌ ويأتيك جاهلٌ ويأتيك عارف، وتبيع على هذا شاةً وعلى هذا شاتين، فليس لك أن تترك الثمن في هذا الحال، بل تقبض الثمن؛ لأنك لو لم تقبضه لذهب عليه؛ لأنه لا يعرف هؤلاء الذين يشترون، فهذه قرينة تدل على أن الوكيل يقبض الثمن.
فالحاصل أن الوكيل يكون على تسليم المبيع لا على قبض الثمن، وبالأخص إذا كان المشتري معروفاً، إذا قال: وكلتك أن تبيع هذه الشاة على زيد أو تبيع هذا البعير على عمرو أو تبيع هذا البيت على خالد فلا تقبض الثمن، وإنما تسلم المبيع، وأما إذا قال: بعه في السوق فإنك تقبض الثمن.
أما الوكيل في الشراء فإنه يسلم الثمن؛ وذلك لأنه لا يوكلك أحد لتشتري له إلا بثمن، إلا إذا كان الشراء من إنسان يعرفه، فتذهب إلى التاجر وتقول: إن فلاناً وكلني أن أشتري له منك خمسة أكياس أو خمسة أثواب، ولم يعطني الثمن.
فيقول: أهلاً وسهلاً، فلان معروف عندي، فلا حاجة إلى تسليم الثمن مقدماً، فيعطيك السلع كالثياب ونحوها، ولك أن تقول: الثمن يدفعه إليك موكلي.
أما إذا أعطاك الثمن وقال: خذ هذه المائة لتشتري لي بها كيساً أو ثياباً، فإنك تسلم الثمن، وتقبض السلع التي اشتريت.(38/10)
وكيل الخصومة لا يقبض
قال المصنف رحمه الله: (ووكيل الخصومة لا يقبض، وقبض يخاصِم) : الوكيل في الخصومة مثل أن تقول للمحامي: وكلتك أن تخلص ديني الذي هو عشرة آلاف، فهذا توكيل على الخصومة، فيخاصم إلى أن يثبت الحق، فأما قبض الدين فلا يقبضه إلا إذا وكل على ذلك، كما إذا قال له: بعد أن تخاصم ويثبت الحق فأنت وكيل على القبض.
والمحامي يأتي بالبينات وبالوثائق وبالقرائن إلى القاضي، فإذا ثبت الحق واعترف به الخصم ولم يكن له عذر، فلا يقبض المحامي منه شيئاً، بل صاحبه هو الذي يقبضه؛ لأنه قد لا يأمن عليه أحداً، فوكيل الخصومة يخاصم ولا يقبض.
وأما وكيل القبض فله أن يخاصم، إذا قال مثلاً: وكلتك أن تقبض ديني من زيد، فجئت إلى زيد وقلت: أنا وكيل من فلان.
فامتنع أن يسلم لك، فإنك تخاصمه، وترفع أمره إلى القاضي، وتطلب منه أن يحكم عليه، وتقول: إن فلاناً أعطاني وكالةً أن أقبض دينه من هذا الرجل، وهذا الرجل امتنع أن يعطيني، فاحكم عليه، ففي هذا الحال يخاصم ويقبض.(38/11)
الوكيل أمين لا يضمن إلا بتعد أو تفريط
قال المصنف رحمه الله: يقول: (والوكيل أمين لا يضمن إلا بتعد أو تفريط) : الوكيل مأمون على المال الذي دفع إليه، فلو أعطيته مائةً يشتري لك بها، ثم سرقت منه أو تلفت فلا يضمن؛ لأنه أمين، وكذلك لو وكلته أن يبيع شاة، فقبض الثمن ثم سرق منه، فإنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط، والتعدي مثل أن يلبس الثوب فيتخرق فإنه يضمن، والتفريط مثل أن يهمل الشاة التي وكل أن يبيعها أو يحفظها فسرقت فإنه يضمن، هذا التعدي والتفريط.
قوله: (ويقبل قوله في نفيهما وهلاك مع يمينه) فيحلف أنه ما فرط أو ما تعدى، ويقبل قوله مع يمينه في الهلاك، إذا قال مثلاً: احترق الثوب ماتت الشاة هلك البعير، خربت السيارة.
قال المصنف رحمه الله: (كدعوى متبرع رد العين أو ثمنها لموكل لا لورثته إلا ببينة) : المتبرع هو الذي تبرع بحفظ هذه الشاة، فادعى أنه ردها إلى صاحبها فإنه أو رد ثمنها إلى صاحبها، يقبل قوله بيمينه، أما إذا ادعى أنه ردها إلى الورثة فلا يقبل إلا ببينة، فإذا قال: أعطيتك ثمن الشاة الذي وكلتني فيه.
فأنكر صاحب الشاة، حلف الوكيل أنه أعطاه وسلم، وأما إذا قال: أعطيتكم يا ورثة! ثمن الشاة التي وكلني بها أبوكم.
فلا يقبل إلا ببينة.(38/12)
الشركة
الشركة مشتقة من الاشتراك الذي هو الاجتماع، ويعرفونها بأنها: اجتماع في استحقاق أو تصرف، هذا تعريف الشركة من حيث العموم، وذكر أنها خمسة أضرب.(38/13)
شركة العنان
سميت شركة العنان لتساويهما من حيث التصرف ومن حيث رأس المال، مثل المتسابقين على فرسين، فعادة المتسابقين على الخيل أن يمسك كل واحد منهما بعنان فرسه، فإذا تساويا تساوت أعنتهما، فسميت شركة العنان لذلك، وهي أن يحضر كل واحد جائز التصرف من ماله نقداً معلوماً يعمل فيه كل واحد منهم على أن له من الربح جزءاً مشاعاً معلوماً، فهذه شركة العنان.
وهي تصح بين اثنين وبين ثلاثة وبين أربعة إلى عشرة إلى مائة أو أكثر أو أقل، وإذا كانوا كلهم يشتغلون في الشركة فيكون الربح بينهم على قدر النسبة التي يعملونها، وإذا كان العامل واحداً أو العامل غيرهما فالربح على ما يشترط، فلو دفع هذا مائة ألف، وهذا خمسين ألفاً، ولكن صاحب الخمسين يعمل في هذه التجارة عشر ساعات، وصاحب المائة يعمل خمس ساعات، واتفقوا على أن الربح بينهما نصفان، مع أن رأس مال أحدهما أكثر؛ جاز ذلك، ويكون الربح بينهما نصفين، وهذه الشركة كما هو مشاهد: شركة في تجارة، فيجمعون رأس المال ثم يشترون السلع الصغيرة أو الكبيرة ثم يبيعون ويربحون، وهذه السلع قد تكون صغيرة مثل الكئوس والخردوات والإبر والسكاكين والملاعق وما أشبهها، أو كبيرة مثل السيارات أو الماكينات أو الثلاجات أو ما أشبه ذلك، يبيعون مثل هذا، ويشتركون في الربح على ما شرطاه، فهذه الشركة صحيحة.
كذلك شركة المزارعة: إذا دفع هذا مائة ألف وهذا مائة، وهذا مائة، وأحيوا أرضاً أو اشتروها واشتروا ماكنات، واشتروا مضخات ورشاشات وحصادات وأدوات، ففي هذه الحال إذا زرعوا فإن الزرع يكون بينهم على قدر ما يشترطونه.
كذلك أيضاً الشركة المعمارية، إذا اشتركوا على أن يشتروا أدوات العمارة، ثم يكون الربح على ما يتفقون عليه.
فالحاصل أن شركة العنان فيما إذا أحضر كل واحد منهم رأس ماله، هذا مائة ألف، وهذا خمسين، وهذا عشرين، واتفقوا على أن يتجروا فيها، هذا يعمل أكثر، وهذا يعمل أقل، فلا بد أن يكون كل واحد منهم جائز التصرف، فهذه شركة صحيحة، ولا يدخل فيها من كان سفيهاً أو مجنوناً أو صغيراً أو محجوراً عليه، ويكون رأس المال من النقود المعلومة، هذا يحضر مثلاً مائة ألف ريال سعودي، وهذا مثله، ويجوز أن تكون نقوداً غير سعودية، هذا يحضر خمسين ألف دولار وهذا عشرين ألف دولار، وما أشبه ذلك، فيعمل به كل منهما على أن يكون الربح بينهما، ولكن لكل واحد منهما جزء مشاع معلوم، فيقول: لي نصف الربح، ولك نصفه، أو لي ثلثه ولك ثلثاه؛ بصفتك أكثر مالاً، أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز أن يشترط لأحدهما شيء معين فلا يقول لك في كل شهر مائة؛ لأنهما قد لا يربحان إلا هذه المائة، أو يقول لك ربح هذا الشهر ولي ربح الذي بعده، لا يجوز ذلك.(38/14)
شركة المضاربة
الضرب الثاني من الشركة: شركة المضاربة: وهي مشتقة من الضرب في الأرض، وهو السفر قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء:101] يعني: سافرتم، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] وسميت بذلك؛ لأن الغالب في التجار أن يسافر أحدهم لأجل التجارة، فيستجلب سلعاً رخيصةً ثم يحملها فيبيعها في البلد الثاني بثمن أرفع، فيربح في ذلك، فيكون له جزء من الربح، ولصاحب المال جزء من الربح.
وتعريفها: دفع مال معين معلوم لمن يتجر فيه بجزء معلوم مشاع من ربحه، وفي هذه الشركة يكون رأس المال من واحد والتصرف من واحد؛ وذلك لأنك قد تكون محسناً للتجارة قادراً على أن تشتري وعلى أن تبيع، وتعرف كيف يكون الربح، ولكن ليس عندك رأس مال، فتأتي إلى أحد التجار الذين عندهم أموال كثيرة زائدة عن تصرفهم، فتتفق معه على أن يعطيك مائة ألف مثلاً، على أن تتجر فيها، فيكون منك الاتجار والبيع والشراء، ومنه رأس المال، والربح بينكما، يكون نصفين أو أثلاثاً أو أرباعاً، على حسب ما تتفقان عليه.
وهذا مما يحصل به التنمية للأموال، فإن كثيراً من الناس عندهم أموال مرصودة ولا يحتاجون إليها للتصرف، وآخرون لا يجدون مالاً يتصرفون فيه، فيكون من هذا الاتجار، ومن هذا رأس المال، فيحصل لهذا ربح ولهذا ربح، ولا شك أن هذا جائز، ويسمى قراضاً، فكأنهم أقرضوه يعني: أعطوه من المال، وقد عمل بهذا كثير من السلف، وكان حكيم بن حزام إذا أعطى ماله قراضاً لإنسان يشترط عليه فيقول: لا تجعل مالي في كبدٍ رطبة -يعني: لا تشتر به بهائم فإنها قد تموت- ولا تنزل به وادياً -لأنه قد يأتي السيل فيذهب به- ولا تركب به بحراً -مخافة أن يغرق-، فكأنه يشترط عليه شروطاً.
ويذكر أن عبد الله بن عمر وعبيد الله جاءا مرةً من العراق، وكان أمير العراق قد جمع مالاً كثيراً لبيت المال من الجزية ومن الخراج، فأعطاه عبد الله وعبيد الله وقال: هذا مال لبيت المال، ادفعاه لأبيكما، واشتريا به حنطة.
فاشتريا وحملاها على رواحلهما وربحا ربحاً كثيراً، فقال أبوهما عمر رضي الله عنه: أعطياني رأس المال والربح، فإنه ما أعطي كل واحد من الجيش مثلكما، فقال عبيد الله: لو خسرنا لدفعناه كله، ولو تلف لدفعناه، وعبد الله سكت، ثم اتفق بعض الصحابة على أن يجعلوه قراضاً، فأخذ منهم نصف الربح وجعله قراضاً.
ولابد أن يكون رأس المال معلوماً، حتى إذا انتهت الشركة رد رأس المال إلى صاحبه ويقتسمان الربح، ولابد أن يكون الربح بينهما جزءاً معلوماً مشاعاً، فلا يقول مثلاً: لي ربح السفر إلى الشام، ولك ربح السفر إلى اليمن، بل يقول: في كل سفرةٍ لي نصف الربح ولك نصفه أو لي ثلثه ولك ثلثاه.
قوله: (وإن ضارب لآخر فأضر بالأول حرم، ورد حصته في الشركة) فمثلاً: لو أعطيته مائة ألف، وهذه المائة تكفيه ليتصرف، ولكن أخذ مائة ألف من تاجر آخر، واتجر بها، فلاشك أن هذه المائة الثانية تقلل من إنتاجه، وتشغله، فيضر بالأول، ففي هذه الحال يرد حصته من المضاربة الثانية في ربح المضارب الأول، ويقسمها مع المضارب الأول؛ لأنك ما أعطيته أولاً إلا وأنت تريد أن يعمل بجهده، وبكل ما يستطيعه، والآن قد صرف بعض جهده للآخر، أما إذا لم يضر فلا حرج؛ لأنه مثلاً قد يقول: أنت أعطيتني عشرة آلاف واشتريت بها ثياباً، والدكان واسع فأخذت من الثاني عشرة آلاف واشتريت بها أحذية، ولا يشغلني بيع الأحذية عن بيع الثياب، فلا حرج عليه والحال هذه.
قوله: (وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد تصرف أو خسر جبر من الربح قبل القسمة) ، فلو أنه عزل رأس المال، وعزل الربح قبل القسمة وقال: سأجعل الربح في ثياب وأجعل رأس المال في أكياس، ثم خسر رأس المال الذي في الأكياس، فإنه يجبر رأس المال من الربح الذي في الثياب.(38/15)
الأسئلة(38/16)
آيات الصفات محكمة من وجه ومتشابهة من وجه آخر
السؤال
نقرأ في بعض الكتب أن صفات الله جل وعلا من المحكم في القرآن، فهل هذا صحيح أو فيه تفصيل؟
الجواب
في هذا تفصيل، والتفصيل أن نقول: إن آيات الصفات من المحكم؛ لأن الله تعالى ذكرها بالألفاظ الفصيحة المعلومة التي يفهمها العرب، ويفسرونها ويعرفون مدلولها وما تدل عليه، فتفسر وتترجم وتفهم، فمعانيها الظاهرة المتبادرة ليست من المتشابه، أما كنه الصفة وماهية الصفة وكيفيتها وأي شيء هي، فهذا من المتشابه.
فمثلاً: الله تعالى ذكر العرش وهو مخلوق، ولكن لا ندري ماهية العرش: هل هو من حديد؟ هل هو من خشب؟ هل هو من بخار؟ هل هو من تراب؟ هل هو من طين؟ ما أخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، فلا يجوز لنا أن نخوض في ذلك.
والعرش لا شك أنه سرير عظيم خلقه الله تعالى واستوى عليه، وهذا مخلوق لا نقدر أن نعرف ماهيته، ومن أي شيء هو، فمن باب أولى ما يتعلق بالصفات، وقد اشتهر أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخبرنا عن ربك -يا محمد! - أهو من ذهب أم من فضة أم من جوهر؟ وهذا تكلف، فنقول: نثبت لله تعالى ذاتاً، ولكن كيفية الذات وماهيتها نتوقف في ذلك، ويكون هذا من المتشابه، هذا هو القول في صفات الله تعالى.(38/17)
لا مجاز في اللغة ولا في القرآن
السؤال
ونقرأ في بعض الكتب أن في القرآن مجازاً، فهل في المسألة خلاف؟ وما هو الراجح؟ وهل في ذلك خطر على العقيدة؟
الجواب
اشتهر عند الأصوليين والمتكلمين أن كلام العرب ينقسم إلى حقيقة ومجاز، ولا تخلو كتب الأصول من تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، ثم توسعوا في المجاز فحملوا آيات الصفات على المجاز، فقالوا: يد الله مجاز عن قدرته، واستواؤه مجاز عن ملكه، وعرشه مجاز عن الملك، وما أشبه ذلك، فتوصلوا بإثبات المجاز إلى نفي حقائق الصفات، وخالف في ذلك كثير من المحققين، وتكلم عن ذلك ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة، وكذلك قبله شيخه شيخ الإسلام، وقالا: إن كلام العرب كله حقيقة، وإن القرآن كله حقيقة، وليس فيه مجاز؛ لأن المجاز هو الذي يصح نفيه؛ فلذلك نختار ما اختاره ابن القيم، أنه ليس في القرآن مجاز، وأنه ليس في اللغة مجاز، هذا هو الذي يختار حتى لا يتوصل بإثبات المجاز إلى نفي الصفات، وإبطال دلالاتها، وإبطال معانيها.(38/18)
حرمة المحاماة عن المجرمين
السؤال
يقول: هل يجوز ما يفعله بعض المحامين من الدفاع عن بعض الناس، ولو كان هؤلاء الناس مجرمين، والمحامون يعرفون ذلك، ولكن يدافعون عنهم من أجل المال؟
الجواب
هذا حرام عليهم، فإذا علمت أن هذا مخطئ فحرام عليك أن تتوكل له وتحامي عنه لأجل مصلحة يعطيكها، فإذا علمت أن الدعوى عليه، وأنه ظالم في قضية، وليس له حق، فعليك أن تنصحه وتقول: لا أتوكل لك، فإني أعرف أنك مخطئ أو أنك ظالم.(38/19)
جواز شرط عدم فسخ الشركة إلا بعد زمن
السؤال
إذا اشترط أحد الشركاء عدم فسخ الشركة إلا بعد زمن، فهل يصح هذا؟
الجواب
لا شك أن ذلك جائز، فإذا خاف أن يفصلها شريكة فيتضرر، فله ذلك، وقد ذكروا أن الشركة عقد جائز ولكل واحد فسخه، لكن المسلمون على شروطهم.(38/20)
شراء صاحب الحراج السلعة لنفسه عند المزايدة
السؤال
هل يجوز للذين يقومون بالتحريج على السيارات أن يشتروا لأنفسهم؟
الجواب
الصحيح أنه يجوز لهم ذلك إذا سامح الحاضرون كلهم، ولم يزد السعر، وإنما وصل السعر إلى هذا المقدار، وزاد المحرج عليهم، ولم يزد أحد عليه، فلا بأس، فيقول: أنا آخذها بعشرين ألفاً، هل أحد يزيد، فلم يزد أحد فلا بأس، ويكون هو من جملة الزائدين، بخلاف ما إذا وكله ليبيعها فباعها على نفسه.(38/21)
تزويج الولي موليته في نفس الوقت الذي زوجها فيه وكيله
السؤال
إذا وكل شخص شخصاً بتزويج ابنته، ثم قام الموكل بتزويج ابنته لرجل، وقام الوكيل بتزويج نفس البنت لرجل آخر، فأيهما يمضي؟
الجواب
ذكروا هذا في النكاح، وأولاً نقول: لا بد إذا وكلت على التزويج أن تعين الزوج فتقول: وكلتك أن تزوج فلانة فلاناً، وإذا كنت بعيداً قلت: أنت وكيل على ابنتي أو على ابنة أخي، فإذا جاءك كفء فإنك تزوجه، لكن إذا زوج وليان كأخوين فيقولون: الحق للأسبق، فينظر أيهما أسبق، إما إذا وقعا معاً فإنهما يبطلان، ثم تختار أحدهما.(38/22)
توكيل الوكيل لغيره
السؤال
هل يصح للوكيل أن يوكل غيره؟
الجواب
ليس للوكيل أن يوكل غيره؛ لأن الموكل ما رضي إلا بك، فليس لك أن توكل غيرك، لكن إذا وكلك وقال: لك أن تفعل هذا بنفسك أو تنيب غيرك فلا حرج في ذلك.(38/23)
اجتماع التوكل في طرف واحد لطرفين
السؤال
هل لأحد أن يكون وكيلاً عن المدعي والمدعى عليه في نفس القضية؟
الجواب
لا يتصور هذا؛ لأنه إذا وكله هذا ووكله هذا فلا بد أنه سيحكم بنفسه، وفي هذه الحال لا تتصور الدعوى، وأما في غير ذلك فإنه يصح، فيصح مثلاً أن يوكلك إنسان على تزويج ابنته، ويوكلك آخر على تزويجها له، فتقول: اشهدوا أني زوجت فلانة لفلان، وأني قبلتها عنه، ويسمى هذا تولي طرفي العقد كالوكيل في الشراء، يوكلك آخر لتشتري له شاة، ويوكلك آخر لتبيعها، فتقول: اشهدوا بأني اشتريت هذه الشاة التي وكلني صاحبها، وبعتها على فلان الذي وكلني للشراء، فتكون وكيلاً للبائع ووكيلاً للمشتري.(38/24)
شرح أخصر المختصرات [39]
أمر الله بعمارة الأرض لتحقيق عبادته فيها، وشرع التعاون فيما فيه صلاح الدين والدنيا، ومن ذلك مشروعية الشركات بمختلف أنواعها، ومشروعية المساقاة والمزارعة، وقد بين أهل العلم أحكامها الشرعية حتى تتحقق منها المصالح المرضية.(39/1)
من أحكام الشركات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالث: شركة الوجوه، وهي: أن يشتركا في ربح ما يشتريان في ذمتهما بجاهيهما، وكل وكيل الآخر وكفيله بالثمن.
الرابع: شركة الأبدان، وهي: أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من مباح كاصطياد ونحوه، أو يتقبلان في ذممهما من عمل كخياطة، فما تقبله أحدهما لزمهما عمله وطولبا به، وإن ترك أحدهما العمل لعذر أو لا فالكسب بينهما، ويلزم من عذر أو لم يعرف العمل أن يقيم مقامه بطلب شريك.
الخامس: شركة المفاوضة، وهي: أن يفوض كل إلى صاحبه كل تصرف مالي، ويشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما، فتصح إن لم يدخلا فيها كسباً نادراً، وكلها جائزة، ولا ضمان فيها إلا بتعد أو تفريط.
فصل: وتصح المساقاةُ على شجر له ثمر يؤكل، وثمرة موجودة بجزء منها، وشجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة أو الشجر أو منهما، فإن فسخ مالك قبل ظهور ثمرة فلعامل أجرته، أو عامل فلا شيء له، وتملك الثمرة بظهورها، فعلى عامل تمام عمل إذا فسخت بعده، وعلى عامل كل ما فيه نمو أو صلاح وحصاد ونحوه، وعلى رب أصل حفظه ونحوه، وعليهما بقدر حصتيهما جذاد.
وتصح المزارعة بجزء معلوم مما يخرج من الأرض بشرط علم بذر، وقدره، وكونه من رب الأرض] .
ذَكَرَ المؤلف أن الشركة خمسة أضرب، وأشهرها شركة العِنان، وهي التي تحدث كثيراً، وذلك لأن الإنسان بمفرده قد يكون عنده مال قليل، ولا يستطيع أن يعمل فيه عملاً كثيراً، فإذا اشتركَ اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو مائة، وكل واحد منهم دفع مالاً، ثم اشتركوا في التصرف كان ذلك سبباً لكثرة الأرباح وكثرة النَاتج من هذه الشركة، يفعلون ذلك في تجارة مثلاً، كأن يجمعوا مائة ألف أو ألف ألف، ثم يتجرون فيها، ويربحون غالباً أرباحاً مناسبة، سواءٌ أكانت تجارتهم في أشياء صغيرة أم كبيرة، ففي هذه الحال يكون الربح على ما شرطوا، وكذلك إذا اشترك اثنان في صناعة، جمعا رأس المال، ثم اشتركا في مصانع تصنع أشياء كبيرة أو صغيرة، والعادة أنها يكون لها إنتاج، وكذلك إذا جعلا المال في زراعة، اشتركا، ثم اشتريا أدوات الزراعة التي ينتج بها المزروعات، من الحبوب والثمار وما أشبه ذلك، ويكونان شركاء في النتاج.(39/2)
حكم بيع الأسهم التجارية
الشركات الآن كثيرة: شركات تجارية، وشركات معمارية، وشركات زراعية، وشركات صناعية أو ما أشبهها، فالمساهمة فيها جائزة، واختلفوا في بيع السهام، فالإنسان إذا اشترك في شركة كشركة (سابك) ، التي هي صناعية منتجة ثم احتاج، فهل له أن يبيع سهامه التي في هذه الشركة؟ ومثلها شركة النقل أو شركة الألبان، فهذه الشركات لا شك أنها تنتج، وأنها تسوق إنتاجها، ويربحون كثيراً، فالصحيح أنه إذا كانت النسبة معلومة جاز البيع، وهم عادةً يخبرون برأس المال عندما يفتحونها ويبتدئونها، فيقولون: رأس المال مائة مليون، أو ألف مليون، أو نصف مليون.
ففي هذه الحال تعرف نسبة المساهمين، فلو كان للإنسان سهم من ألف سهم أو من مائة ألف لكان معروفاً، فيقول: بعتك سهمي الذي هو واحد في الألف، أو واحد في الألفين فيجوز ذلك ولا حرج في ذلك؛ لأنه يصبح شيئاً معلوماً.
والمعاملات المشتبهة التي لا يجوز بيعها مثل المساهمات في البنوك، وذلك لأن البنوك غالباً أعمالها فيها ربا، فلذلك المساهمة فيها لا تجوز، وكذلك شراء الأسهم، وإن كان يجوز الإيداع فيها إيداعاً عادياً، وإذا قيل: إن الشركات الكبيرة -مثل الشركات التجارية، أو الشركات الصناعية، أو المعمارية، أو الزراعية، أو شركات الكهرباء، أو النقل، أو الانتاج- تودع أموالها في البنوك وتأخذ عليها أرباحاً فيقال: إن هذه الأرباح جزء يسير بالنسبة إلى إنتاجها، فقد يكون إنتاجها -مثلاً- مائة مليون، ويكون الذي تأخذه من البنوك يساوي ربع مليون أو نحوه، والمعتاد أنهم في كل سنة يقسمون الأرباح، ففي هذه الحال لا بأس أن المساهم فيها يأخذ سهمه من هذه الأرباح، وحيث إن فيها هذه الشبهة فبعض المشايخ يقول: يتصدق بربعه أو عشره.
ونحن نقول: يكفيه لو تصدق بربع العشر؛ لأنه أكثر من الجزء الذي يؤخذ من الربا، فعلى هذا يصح بيع هذه الأسهم وشراؤها، وذلك لأنها شيء معلوم معين محدد معروف النسبة، يُعرف أن لك في هذه الشركة كذا وكذا من النسبة، واحد في الألف أو واحد في الألفين، فأنت ما تبيع إلا نصيبك، والمشتري ينزل منزلتك في استحقاق ما تستحقه من الأرباح، وأما جعلها تجارة فأرى أن ذلك مكروه، فكثير من الناس يشتري السهام في هذه الشركة مثل: (شركة الراجحي) ، فإذا ارتفع السعر باعها، ثم بعد أيام أو بعد شهر ينزل السعر فيشتري سهاماً، ولا يزال كذلك، ولا شك أنهم يتعرضون للخسران كثيراً، فقد يشتريها على أنها رخيصة، ثم تزداد رخصاً، وعلى كل حال أجاز العلماء بيع الأسهم إذا كانت معلومة، وليس فيها شيء من الشبهة، وأجازوا أخذ أرباح السهام من الشركات الكبيرة ولو كانت تودع في البنوك، أو تقترض من البنوك، ويتصدق بما يظنه دياً، والغالب أنهم يخبرون بالواقع إذا سألهم المساهم: ما قدر الفوائد التي دخلت عليكم من البنوك؟ فإذا قالوا: واحد في الألف أو واحد في المائة تصدق به أو زاد عليه احتياطاً وأخرجه صدقة، والبقية لا بأس بها.
والعادة أن الشركاء يشتغلون بأبدانهم، فيكون من هذا المال والبدن، ومن هذا ماله وبدنه، ومن هذا ماله وبدنه، ويشتركون جميعاً في العمل، ويشتركون في المال، لكن الشركات الكبيرة تأخذ السهام فقط، وتأتي بعمال أجانب يعملون لها في قيادة السيارات، وفي تشغيل الماكنات، وفي تسويق الإنتاج وما أشبه ذلك، فيحتاجون إلى عمال، وذكر بعضهم أن شركة (سابك) تربح في كل سنة نحو ثلاثمائة مليون أو أربعمائة مليون، وأنها تصرف الجميع في إعاشات العمال، وفي الأدوات، وفيما تحتاج إليه الشركة، ويبقى نحو العشر أو نصف العشر من الإنتاج يوزع على المساهمين، مما يدل على أنهم يستغرقون أكثر الإنتاج، فلا يبقى إلا جزء يسير منه هو الذي يوزع على المساهمين، وكذلك أيضاً الشركات الزراعية، يجمعون -مثلاً- رأس مال كثير، ثم يشترون الأدوات، ثم يحفرون الآبار، ويشترون المضخات، ويستجلبون الأدوات، ثم يبدءون في الإنتاج، ثم بعد التصفية لا شك أنهم يربحون، فيوزعون الأرباح على المساهمين، ولا شك أنهم يخسرون أجرة عمال، وكذلك إصلاح الماكنات، ومصاريف الكهرباء، وما أشبه ذلك، فيسددون ذلك من الإنتاج، والبقية توزع على المساهمين، وهكذا بقية أنواع الشركات، والشركات في العمارة تدخل في شركة الأبدان.(39/3)
شركة المضاربة
شركة المضاربة عرفنا أنها خاصة بأن يكون المال من واحد والعمل من آخر، وذلك لأنه قد يكون عند إنسان وقت فراغ ولا يجد مالاً، وهو يستطيع أن يَتَّجِرْ، فيعطيه الآخر مالاً ويقول: مني المال ومنك العمل.
ففي هذه الحال يَتَّجِرْ بهذا المال في الأعمال التي تناسبه، في أطعمة، أو في مشروبات، أو في أكسية، أو أحذية، أو أدوات، أو سيارات، أو أوانٍ أو نحو ذلك، والربح بينهما على ما شرطاه، سواء أكان للعامل الربع أم النصف أم الثلث، أم ما أشبه ذلك.
وإذا قال: الربح بيننا ففي هذه الحال يكون بينهما نصفين، وإذا قال: لك الربع.
أو: لك الثلث.
أو: لك الثلثان فيكون الباقي للآخر، وإذا اختلفا لمن الجزء المشروط فالأصل أنه للعامل؛ لأن المالك له ربح ماله، فإذا اتفقا على أن الجزء المشروط ثلث، فقال العامل: الثلث لك يا صاحب المال وقال المالك: الثلث لك يا عامل ولي الباقي فالمشروط للعامل، هذا هو الأصل، ثم قد تكون في غير تجارة، يكون إنسان متفرغاً يحسن الصناعة، فيقول: أعطني مالاً وأنا أشتري مواد صناعية وأنتج، والربح بيننا.
فلو أعطاه واشترى مطابع، وقال: الربح بيننا صح ذلك، فهذا يطبع وهذا منه رأس المال، أو اشترى أدوات خياطة، هذا منه الخياطة وهذا منه المال، والربح بينهما، وهكذا بقية الصناعات اليدوية وما أشبهها، والمصانع الآن تقوم على أنها شركات، إما أن تكون مساهمة، وإما أن يكون رأس المال كله من واحد والعمل من الآخر والناتج يكون بينهما، وهكذا أيضاً الزراعة، فلو قال: منك المال ومني الأرض، المال منك نشتري به مكائن، ونشتري به رشاشات، ونشتري به بلورات، ونحفر به، ونستأجر به عمالاً، وأنا علي الاحتراف والاشتغال، وإذا حصل النتاج فهو بيننا نصفان يجوز ذلك أيضاً، ويكون من المباح المعتاد، والربح يكون بينهما على ما شرطاه، فلو قدر أن رأس المال كان عشرين ألفاً، وفي نصف السنة ربح عشرين ألفاً، ثم إنه عزل رأس المال وقال: أجعل رأس المال في فواكه، وأجعل الأرباح في أطعمة -في أرز وفي تمر وفي شاي أو قهوة- ثم قدِّر أن رأس المال الذي جعله في فواكه أو في خضروات كسد وخسر ففي هذه الحال يجبر من الربح، فالربح الآن عشرون ألفاً، وقد خسر في هذه الأطعمة، فيجبر رأس المال من الربح ما لم يقسم.
ويجوز في كل سنة أن يقتسما، فلو أنه في السنة الأولى حسبت الأرباح وإذا هي عشرون ألفاً، فاقتسماها، وكل واحد أخذ حقه، وبقى رأس المال عشرون ألفاً، واستقبلا بها عاماً جديداً، ثم خسرا رأس المال، ذهب عليهما معاً، كأن يكون اشترى بها أغناماً ثم قدر أنها ماتت فإنها تذهب على المالك، وذلك لأن العامل أمين، فهو يقول: ذهب علي تعبي وذهب عليك مالك، فلا أغرم شيئاً.
ويُذكر أن بعضهم يشترط ويقول: رأس مالي لا ينقص ولا يضيع منه شيء، ولو خسرت فإنك تغرمه من مالك، وهذا شرط ينافي مقتضى العقد، وذلك لأن المضارِب مؤتمن؛ لأنه في الأصل أخذ ذلك لمصلحة الجميع، لكن إذا اشترطت عليه شروطاً ولم يفِ بها، أو عمل بخلافها فإنه يضمن، وقد ذكرنا أن حكيم بن حزام كان يعطي ماله مضاربة، ويشترط فيقول: لا تجعل مالي في كبد رطبة -أي: لا تجعله في حيوان؛ لأن الحيوانات قد يأتي عليها الموت فيذهب المال- ولا تنزل بمالي في واد -مجرى سيل- مخافةَ أن يأتي سيل فيحمله فيضيع مالي، ولا تركب به في بحر مخافة أن تهيج الأمواج فيلقى مالي في البحر.
فإذا اشترطت عليه مثل هذه الشروط، ولكنه ما وفى بها فإنه يضمن إذا تلف المال، أو تلف بعضه، أو خسر، وكذلك لو تلف المال قبل أن يبدأ في التصرف فإنه يذهب عليهما معاً.(39/4)
شركة الوجوه
شركة الوجوه سميت بذلك لأنهما يشتركان في الجاه، والجاه يسمى الوجه، فإذا قال أحدهما: أنا لي جاه عند هؤلاء التجار، وأنت لك جاه عند الآخرين، فهلم أستدين من هؤلاء، وأنت تستدين من هؤلاء، ونجمع ما أخذناه ونصرفه ونسوقه، وما ربحنا فهو بيننا نقضي منه الديون، ثم نشترك بعد ذلك في الأرباح وننميها، فيسمى هذا شركة الوجوه، يشتريان في ذمتيهما بجاهيهما، والجاه هو الوجه، فإذا كان الإنسان له جاه عند الناس فوثقوا به وأعطوه بدون أن يدفع لهم الثمن، أعطوه من مالهم ديناً، أو قرضاً، أو نحو ذلك، ولابد أن تتميز هذه الشركة، ولا يدخلان فيها شيئاً ليس منها، فإن أدخلا فيها كسباً نادراً فإنها تبطل، وذلك لأنها مبنية على المساواة، فلو قدر أن أحدهما استدان مبلغ خمسين ألفاً، والثاني حصل على عشرة آلاف فصارت ستين ألفاً، فجمعاها وتصرفا فيها بالبيع والشراء والتنمية، سواءٌ في تجارة، أو في حرث، أو في بناء أو ما أشبه ذلك والربح بينهما، وذلك لأن كلاً منهما جاء بما يقدر عليه، واستدان وبذل وجهه عند التجار وعند الأثرياء، وحصل على ما حصل عليه، ولو تفاوتا، لكن لو اتفقا على أن من أتى بالأكثر فله ربح أكثر جاز ذلك كما في رأس المال، فلو قال: أنا أتيت بخمسين ألفاً وأنت أتيت بعشرة فيكون لي -مثلاً- ثلثا الربح ولك الثلث ففي هذه الحال يجوز، فالمسلمون على شروطهم، وكذلك أيضاً لو تفاوتا في العمل، لو أن أحدهما يشتغل النهار كله، والآخر يشتغل خمس ساعات من الليل جاز أن يتفاوتا في الربح، فيقول: بصفتي أكثر منك عملاً فلي ثلثا الربح ولك الثلث.
فهذا يجوز إذا اتفقا عليه، ولو كان أحدهما أذكى من الآخر وأعرف بتسويق السلع وأعرف بالتجار وبتصريف المال واشترط لنفسه أكثر فالمسلمون على شروطهم.
يقول المؤلف: [وكل وكيل الآخر وكفيله بالثمن] .
فأصحاب الديون يطالبون هذا ويطالبون هذا، وذلك لأنهما اجتمعا في هذا المال، جمعاه في دكان واحد أو في مستودع واحد، فصاحب الخمسين الألف يطالبهما معاً، فيطالب صاحب العشرة فيقول: في شركتكما هذه لي دين، استدنتما مني خمسين ألفاً، أعطني لأنك أحد الشريكين.
وكذلك صاحب العشرة يطالب الآخر، ولو أنه ليس هو الذي اقترض منه، فكل منهما وكيل عن الآخر، كما أنهما يتصرفان بالوكالة، فإذا غاب أحدهما ينفذ تصرف الآخر في هذا الملك، فإذا باع -مثلاً- هذا الكيس فبيعه صحيح، نصفه له ملكاً ونصفه لشريكه، وشريكه قد وكله، فينفذ تصرفه فيه كله بحكم الملك في نصيبه وبحكم الوكالة في نصيب شريكه، وإذا أوفى أحدهما ديناً عن الآخر فإنه تبرأ ذمة الموفي ويسلم، وليس له أن يطالب الآخر، ويقول: أنت الذي اقترضت أو استدنت مني.(39/5)
شركة الأبدان
قال المصنف رحمه الله: [الرابع: شركة الأبدان، وهي: أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من مباح كاصطياد ونحوه، أو يتقبلان في ذممهما من عمل كخياطة] .
سميت شركة الأبدان بهذا لأنه ليس معهما رأس مال، وإنما يشتركان في أبدانهما، كما قال ابن مسعود: اشتركت أنا وعمار وسعد بن أبي وقاص فيما نكتسب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء.
وهذه شركة أبدان تصح في الكسب المباح في الأبدان، وفي الأعمال البدنية، فإذا اشتركا في قطع النبات وهو أخضر أو يابس وبيعه، فهذا معه منجل يحش به وهذا كذلك، ويحملانه -مثلاً- على ظهورهما أو على دابتيهما أو سيارتيهما ويبيعان، أو اشتركا في الحطب، يحتطبان ثم يحملانه ويبيعانه، وكل واحد منهما يجمع ما يقدر عليه من الحطب، أو اشتركا في الصيد المباح كصيد الظباء، أو صيد حمر الوحش، أو الوعول، أو الأرانب نحو ذلك من المباح، أو اشتركا في صيد الجراد ونحوه، وكل منهما يجمع في هذه الأواني التي يجمعان فيها صحت هذه الشركة، وهكذا أيضاً إذا تقبلا في ذمتيهما أعمالاً كخياطة، كأن يشتركا في فتح دكان يخيطان فيه بالأجرة، فيستأجران الدكان، ويشتريان ماكنات الخياطة وما أشبهها، وكذلك لو اشتركا في تغسيل الثياب في مغسلة هذا يغسل من جانب، وهذا يغسل من جانب، أو هذا عليه التغسيل وهذا عليه الكي، أو اشتركا في صنعة مباحة كحجامة، أو حياكة، أو حلاقة، ويشاهد أن الحلاقين يستأجرون دكاناً، ويحلق كل واحد منهم، ويشتركون في الكسب بينهم.
أو يشتركون في البناء للناس بالأجرة، يبنون عمارات أو منازل عادية أو أسواقاً أو مساجد أو مدارس، يشترك جماعة ويأخذونها مقاولةً أو نحو ذلك، ثم يعطون عمالهم ما يستحقونه، والبقية يقتسمونها بينهم، فيصح ذلك.
وكذلك لو اشتركا في حرث، كالعمال الذين يشتركون في سقي نخل ثم يصرمونه ويبيعونه ويعطون صاحبه نصيبه، ويشتركون في الباقي.
وكذلك لو اشتركا في أيَّ معمل، ونشاهد أهل الورش يكونون شركاء، وأهل النقل -سيارات الأجرة، وسيارات النقل، أو ما أشبهها- قد يكونون شركاء.
فالحاصل أن شركة الأبدان شركة يكثر الاحتياج إليها، ويكثر وقوعها في الناس، والناس على ما يتعارفون فيها، ولو أن إنساناً أعطى كيسه ليُطحن عند رجل من هؤلاء الطحانين جاز له أن يطالب الثاني؛ لأنهما مشتركان في هذا الطاحون، أو أعطاه دقيقاً ليخبزه في هذا الفرن جاز أن يطلبه من الثاني، فيقول: أعطيت شريكك كيس دقيق ليخبز لي فأنت مطالب به؛ لأنك وإياه شريكان.
أو أعطاه سيارته ليصلحها في هذه الورشة، وغاب صاحبها الذي أعطاه، فإنه يطلب إصلاحها من الآخرين، فيقول: أنجزوها؛ فإنكم سواء في هذا المكان.
وإذا أعطى ثوبه واحداً ثم جاء ولم يخطه، فيطالب الآخرين بخياطته، ويقول: أنتم سواء في هذا المكان فعليكم أن تنجزوه.
أو أعطاه خشباً لينجره باباً، أو حديداً ليصلحه باباً، فإنه يطالب كل واحد منهم بإنجاز هذا العمل، ولا يقولون: لم نأخذ منك هذا العمل.
بل عليهم أن ينجزوا العمل الذي يتقبله واحد منهم؛ لأنهم كلهم معتمدون في هذا المكان، هذا معنى قوله: [فما تقبله أحدهما لزمهما عمله وطولبا به] .
مثلاً: تقبل واحد منهم أن يبني هذا الجدار، فأصحاب الجدار يطالبون الثاني، ويطالبون الثالث، فيقولون: أنجزوا الذي التزمتم به.
وهكذا لو تقبل أحدهم حفر هذه البئر، فيطالب الجميع أن يحفروها، وأن ينجزوا هذا الحفر، وهكذا لو أعطى الثوب واحداً فله أن يطالب الثاني بإنجاز خياطته، أو بإنجاز غسله أو نحو ذلك، فيُطالبُ كل منهما بما تقبله الآخر.(39/6)
حكم ترك أحد الشركاء العمل
قال المصنف رحمه الله: [وإن ترك أحدهما العمل لعذر أو لا فالكسب بينهما] وذلك لأنهما متفقان على أن الكسب بينهما، فلو قدر على أن أحدهما تخلف يوماً، أو سافر يوماً أو أياماً لأمر عارض، والبقية يشتغلون في هذه الورشة أو في هذه العمارة فإن الكسب بينهم جميعاً، وذلك لأنهم مستوون في أنهم استأجروا هذا المكان وتقبلوا هذه الأعمال، والعادة أنهم يتسامحون فيمن غاب يوماً أو يومين ويعذرونه، سيما إذا كان له عذر، وقد يتغيب لكسل ونحوه، ولا شك أيضاً أنه معذور والكسب بينهم، ولكن لو اتفقا على أن من غاب فإنه يُنوِّبُ من يقوم مقامه لزمه، سيما إذا سافر سفراً بعيداً، أو مرض مرضاً مزمناً أو طويلاً، فإن عليه أن يُنوِّبَ مكانه، وإذا احتاج أحدهما من الشركة أخذ شيء فإنه يكون قرضاً حتى يقتسما فيحسب من نصيبه.
يقول: [ويلزم من عُذر أو لم يعرف العمل أن يقيم مقامه بطلب شريك] .
إذا كان أحدهما مريضاً أو انشغل بعذر، فقال شريكه: المكان يحتاج إلى عمال، فعليك أن تقيم مقامك من يعمل؛ فإن العمل مشروط بيننا نحن جميعاً أن نعمل ويكون الكسب بيننا فيلزمه أن يأتي بعامل على حسابه، ويعطيه أجرته من نصيبه ليقوم مقامه، وهكذا لو لم يكن يحسن الصنعة، فقد لا يحسن بعضهم الحلاقة أو الخياطة، ففي هذه الحال لا مانع من أن يقيم مقامه غيره إذا طالبوه، فإذا قالوا له: أنت لا تحسن هذه الصنعة، لا تحسن التسجيل -مثلاً- إذا كان مسجلاً، ولا تحسن الحياكة، ولا تحسن النجارة، فأنت الآن اشتركت معنا في عمل بدني ولا تشتغل، ونحن الذين نشتغل فيلزمه أن يقيم مقامه في العمل الذي يعجز عنه أو الذي لا يحسنه إذا طالبه بذلك شركاؤه.(39/7)
شركة المفاوضة
قال المصنف رحمه الله: [الخامس: شركة المفاوضة، وهي أن يفوِّض كل إلى صاحبه كل تصرف مالي، ويشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما، فتصح إن لم يدخلا فيها كسباً نادراً] .
وكأن شركة المفاوضة تعم جميع الشركات المتقدمة، وصورتها: أن ينضم كل واحد إلى الآخر، فيقول: نحن شركاء في المال الذي بأيدينا، ونحن شركاء في الكسب الذي نكسبه بأبداننا، ونحن شركاء فيما نتدينه في ذممنا، ونحن شركاء فيما نحصل عليه من الكسب المباح مثل صيد أو ما أشبه ذلك، كل واحد منهما يفوض الآخر، فيقول: فوضتك بما يحصل وبما تجده، ويقول الآخر أيضاً: فوضتك.
فيفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف، ويعم ذلك أيضاً التصرف الذي تدخله النيابة، ولكن لا يجوز أن يفوضه في كل شيء تحت تصرفه، فإنه لو قال ذلك لتسلط عليه، فقد يطلق زوجته، ويقول: إنك فوضتني! ويعتق عبده ويقول: إنك فوضتني! ويهب أمواله ويتصدق بها ويقول: إنك فوضتني! أنا مفوض من فلان.
إنما التفويض فيما هو معتاد أن يفوضه أحدهما إلى الآخر، فكأن هذه الشركة تعم جميع أنواع الشركات التي يمكن أن تدخل في اسم شركة.
فيفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي، ففي هذه الحال ينفذ تصرفه كوكيل، فيبيع من مال من فوضه، ويشتري له، ويضارب بماله، ويتاجر به، ويزارع به، ويَتَّجِرُ فيه بحسب العادة، فيكون شريكاً في كل ما يملك، ويكون مفوضاً في كل ما يملك.
قال: [يشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما] .
لو أهديت إلى أحدهما هدية صارا شريكين فيها، أو صاد أحدهما صيداً صارا شريكين فيه، أو ربح أحدهما في تجارة أو في بيع صارا شريكين فيها، وكذلك -أيضاً- إذا لزم أحدهما شيء فإنهما يدفعانه، فلو أتلف أو أحرق أحدهما ثوباً أو أفسده ضمناه جميعاً، وكذلك كل ما يتلفه أحدهما، ولو استدان أحدهما ديناً فإنهما جميعاً يقومان بقضائه، ولصاحب الدين أن يطالب من شاء منهما، لكن لا يدخلان فيها كسباً نادراً، فإذا أدخلا فيها كسباً نادراً فإنها لا تعتبر، والكسب النادر مثل لقطة، أو كنز، أو ميراث، فتفسد ويكون لكل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله، وذلك لأنه إذا وجد أحدهما لقطة وعرفها وصار لها قيمة وملكها فهذا مال زائد، وكذلك لو مات قريب أحدهما فورث منه مائة ألف أو نحوها، فهذا مال وكسب نادر، فلا يكونان شريكين فيه.
يقول: [وكلها جائزة، ولا ضمان فيها إلا بالتعدي أو التفريط] .
قد عرفنا الفرق بين العقود الجائزة واللازمة، فاللازمة هي التي يلزم الأخذ فيها ولا يتمكن أحد من الفسخ، أما الجائزة، فهي التي يجوز فسخها.(39/8)
المساقاة
قال المصنف رحمه الله: [وتصح المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، وثمرة موجودة بجزء منها، وشجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة أو الشجر أو منهما] .
المساقاة: مشتقة من السقي وذلك لأن أهم ما يعمله المساقي هو إخراج الماء من الآبار، وإصلاح الأنهار والجداول حتى تشرب الأشجار، فمثاله: إذا كان له نخل وعجز عن سقيه، فقال لآخر: اسقه والثمرة بيننا، اسقه وأبَّره ولَقِّحْهُ واصْرِمْهُ.
ولك نصف الثمرة، أنا الذي غرسته وعملت فيه حتى نبت وأثمر، ولكنني الآن منشغل وعاجز عن سقيه فيكون من هذا السقي ومن هذا الشجر، ودليل ذلك أنه لما فتحت خيبر وملك المسلمون شجرها وأرضها، والمسلمون منشغلون بالقتال وبالجهاد اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود الذين هم أهلها على أن يعملوا فيها بنصف الثمرة، يعملون في سقيها، وحرثها وكل تركيب وتلقيح وصرام، ولهم نصف الثمرة، فدل ذلك على جواز المساقاة، وليس خاصاً بالنخل، بل تجوز في غير النخل، كشجر العنب والتوت والرمان والخوخ والمشمش والطماطم والبطيخ بأنواعه، والتفاح بأنواعه، وما أشبه ذلك، فهذه أيضاً يصح أن يساقي عليها.
كذلك لو بدت ثمرة الشجر وعجز صاحبها عن إتمام بقيتها، فقال لعامل: لك ربعها على أن تسقيها حتى تنمو أو حتى تنضج، وعلى أن تجزها أو تلتقط هذه الثمرة الموجودة في شجرة الأترج أو الباذنجان، فيجوز ذلك، وله جزء منها مشاع، كذلك لو قال -مثلاً-: هذه الأرض، وأنا أشتري لك الشجر، وأنت اغرس الشجر، وهذه البئر أخرج منها الماء واسقِ الشجر إلى أن يثمر، وإذا أثمر فإن الثمرة بيننا، لي نصفها ولك نصفها، أنا مني الأرض ومني الشجر ومني الآبار، وأنت منك العمل -عمل يديك- يصح ذلك، ويكون بجزء مشاع، ولا يجوز أن يشرط له ثمرة شجرة معينة، فلا يقول -مثلاً-: لي التمر السكري -مثلاً- ولك تمر الصهري.
أو: لي ثمر هذه الشجرات الأربع ولك هذه الأربع.
لماذا لا يجوز؟ لأنها قد تثمر هذه ولا تثمر الأخرى، وقد تكون إحداهما أكثر ثمرة من الأخرى، فيحصل في ذلك الضرر والغبن على أحدهما، أما إذا قال: لك الربع أو الثلث أو النصف من جميع الثمرة رفيعها ووضيعها، غاليها ورخيصها صح ذلك، فيكون بجزء من الثمرة كنصفها، أو بجزء من الشجر بأن يقول -مثلاً-: إذا أثمر فلك نصف الشجر.
أو منهما فيقول: لك نصف الثمر ولك نصف الشجر، أو شجري الذي لي لك نصف ثمرته وشجرك لك.
أو ما أشبه ذلك.
والمساقاة والمزارعة عقدان جائزان، لكل منهما فسخه، فالعامل قد يفسخ والمالك قد يفسخ، فإذا فسخ العامل فقد أسقط حقه، فلو قدر أنه اشتغل وسقى شهراً أو نصف شهر ثم تركه فإنه يكون قد أضر بصاحب الشجر، فلا شيء له؛ لأنه يقول: أنا اتفقت معك حتى يثمر، وأنت الآن قد تركته ولم تسقه، فلا شيء لك، ذهب تعبك وعملك، أما إذا فسخ المالك عندما ظهرت الثمرة أو قبل أن تظهر الثمرة، كأن سقاه العامل نصف سنة، وقبل أن يظهر ثمر النخل طرده المالك لغير سبب فإنه يعطيه أجرة مثله، عن كل شهر كذا وكذا، فأما بعد ظهور الثمرة فإنه يستحق منها؛ لأنها قد ظهرت وأبّرت، فله نصيبه منها حتى ولو منعه المالك.
وقد ذكرنا فيما تقدم أنه إذا باع النخل بعد أن يُؤَبَّرَ فإن الثمرة للبائع، وهاهنا يقول: [تملك الثمرة بظهورها] يعني: يملكها العامل؛ لأنه عمل حتى ظهرت الثمرة، فعلى العامل أن يتمم العمل، وإذا طرده المالك لم يسقط حقه من الثمرة.
والعامل يعمل بيده، فكل ما فيه نمو الثمرة أو إصلاحها فإنه يلزمه، فعليه تركيب، وعليه اللقاح، وعليه الجزاز، وعليه الحصاد، وعليه السقي، وعليه الزبر، وعليه حرث الأرض، وعليه إصلاح مجاري الماء، وعليه إصلاحُ الأدوات التي يمشي معها الماء، ويكون العقد على حسب الاتفاق، فلو اتفقا على أن المالك يدفع قيمة المشتروات كلها فله ذلك، وعلى رب الأرض حفظه، فإذا انهدم الجدار أو انقطع الشباك فعليه إصلاحه، أو انهدمت البئر فعليه حفرها، أو خربت الماكنة فعليه إصلاحها، وإذا كانا شريكين فعليهما بقدر حصتيهما في الجزاز، فإذا ما بقي إلا حصاد الزرع يقول: علي نصف الحصاد وعليك نصفه وإن اتفقا على أن الحصاد على العامل والجزاز عليه لزمه ذلك.(39/9)
المزارعة
المزارعة: هي زرع الأرض، فإذا كان لإنسان أرض صالحة للزراعة، وفيها بئر، وعليها ماكنة، فإنه -والحال هذه- قد يحتاج إلى من يحرثها ومن يزرعها، فيتفق مع العامل قائلاً: عليك زرعها، ولك جزء من ثمرها، لك نصف الثمرة أو ربعها أو ما أشبه ذلك.
فيجوز ذلك أيضاً، فإن خيبر كانت فيها مزارع، وكان كثير من الصحابة لهم أرض فيها، فكانوا يكرونها بجزء مما يخرج منها كثلث أو ربع أو نحو ذلك، ولا يجوز أن يقول: لك زرع هذه البقعة ولي زرع هذه البقعة.
هذا لا يجوز، وهذا يسمى (المخابرة) ويسمى أيضاً (المحاقلة) ، وقد ورد النهي عن المخابرة، ولا شك أن النهي مخافة أن يكون فيه شيء من الغبن على أحدهما، لكن لابد أن يكون لك الثلث، أو الربع، أو العشر، أو الثلثان مما يخرج من الأرض، ويحدد الأرض بأنها التي مسافتها كذا وكذا، ويحدد ما يبذر فيها: يبذر فيها براً، أو أرزاً، أو شعيراً، أو ذرةً، ويبذر فيها -مثلاً- مسافةَ عشرين باعاً، أو مائة باع، واختلفوا: هل يشترط أن يكون البذر من رب الأرض أو يكون من العامل؟ على روايتين، والصحيح: أنه يجوز أن يكون البذر من رب الأرض أو من العامل، ولكن لا يجوز أن يقول: آخذ بذري بعد الحصاد ثم نقتسم الباقي.
بل يقتسمان الجميع، سواءٌ أكان البذر من المالك أم من العامل، والله أعلم.(39/10)
الأسئلة(39/11)
قول صاحب المحل للعامل: أعطني كذا كل شهر والباقي لك
السؤال
ما يفعله الناس اليوم من استخدام عامل ووضعه في محل تجاري، ويقول له: أعطني كل شهر خمسة آلاف ريال -مثلاً- وما زاد فهو لك هل هذا جائز؟
الجواب
قد يضطرون إلى هذا ويقولون: إننا نضطر إلى أن نأخذ منه شيئاً معلوماً وذلك لأن العامل عادة لا يؤتمن كثيراً، فقد يبيع في اليوم بخمسمائة ويجحد منها مائةً أو أكثر أو أقل، فيقولون: من المصلحة أن نجعل المكان كأنه مؤجر لكن قواعد الشرع لا تبيح ذلك، وذلك لأنه يؤجره الدكان، ثم يؤجره البضائع، فقد يكون رأس مال البضائع عشرين ألفاً أو خمسين ألفاً، فيقول: أجرتكها.
وقد يكتب عليه أن بيدك كذا وكذا، وقد يرتفع السعر عند عزله -مثلاً- فيتضرر العامل، فإذا كان شراؤك للكيس مثلاً بمائة، ولما أردت أن تعزله قلت: أعطني الدكان بما فيه، وفيه عشرون كيساً، وفيه عشرون ثوباً، وفيه كذا وكذا، فيحتاج إلى أن يشتريها، وقد يرتفع السعر وقد ينخفض، لهذا نرى أنه لا يجوز، وأن الإنسان يجب عليه أن يجلب أناساً مأمونين موثوقين، وإذا لم يأمنهم فعليه أن يباشر الأعمال بنفسه.(39/12)
قول صاحب السيارة للآخر: أعطني كل يوم كذا والباقي لك
السؤال
ما حكم ما يفعله أصحاب سيارات الأجرة، حيث إنهم يطالبون السائق بإعطائهم مائتي ريال يومياً، سواء توافر له ذلك المبلغ أم لم يتوافر؟
الجواب
هذا أخف؛ لأن هذا يعتبر أجرة، فالناس يؤجرون السيارات الآن، فالإنسان إذا لم يجد سيارة فإنه يستأجر سيارة كل يوم بمائة، أو كل ساعة بكذا وكذا، فلعل هذا يكون من باب الأجرة.(39/13)
حكم بيع السهم مؤجلاً بأكثر من سعره الحالي
السؤال
لدي سهم في إحدى الشركات، وأريد أن أبيع هذا السهم لشخص بثمن مؤجل أكثر من سعره الحالي، فهل هذا جائز؟
الجواب
أرى أنه لا يجوز، وذلك لأنه بيع دين بدين، فالسهام ما قبضت، والثمن ما قبض.(39/14)
الاشتراك في عملين مختلفين
السؤال
لو اشترك اثنان في عملين مختلفين: شخص يعمل في الخياطة، والآخر في الحدادة، فهل هذه الشركة من شركة الأبدان؟
الجواب
يجوز ذلك، فإذا كان هذا خياطاً، وهذا غسَّالاً فلا بأس بذلك.(39/15)
لا يجوز تحديد ثمر شجرة معينة في المزرعة
السؤال
ذكر أنه لا يجوز تحديد ثمر شجرة معينة في المزارعة، وفي المساقاة يذكر أنه يجوز أن يقول لك: التقط ثمر شجرة معينة.
فما الفرق بينهما؟
الجواب
الأصل أن المساقاة تكون على جزء معلوم النسبة كنصف الثمر أو ربع الثمر، فلا يجوز أن يقول المالك: لي النوع كذا ولك النوع كذا.
لأن هذه قد تثمر وهذه قد لا تثمر، وأما إذا اتفقا على النسبة: لك الربع من الشجر كله، أو الثلث فذلك جائز.(39/16)
يتحمل تبعات الحادث في سيارة يعمل فيها شركاء من كان يقودها
السؤال
نحن ثلاثة شركاء نعمل على سيارة، ونقتسم الربح بالتساوي، علماً بأن السيارة ملك لواحد منا، وليس له سوى نصيب واحد منا، فحصل حادث للسيارة فمن يتحمله؟
الجواب
أرى أنه يتحمله الذي كان يقودها، سواءٌ أكان المالك أم غيره؛ لأنه المتسبب فيها.(39/17)
زكاة المساهمات العقارية
السؤال
كيف نزكي المساهمات العقارية والتي مكثت أكثر من خمس سنوات، ولا نعلم مصيرها؟
الجواب
هذا يعتبر من المال غير المقدور عليه، فكثير من هذه المساهمات كالأراضي تبقى عشر سنين أو عشرين سنة، ولا يقدر أصحابها على أن يتصرفوا فيها، فليست هو تحت أيديهم، فلو أمروا أن يزكوا عن كل سنة لاستغرقت زكاتها أكثر من قيمتها أو أكثر من أرباحها، فأرى أنها تعتبر كالمال المفقود، ويزكى إذا قدروا عليها عن سنة واحدة.(39/18)
حكم الاشتراك في معمل للتصوير
السؤال
ما حكم الاشتراك في معمل للتصوير؟
الجواب
لا شك أن كل عمل يكون حلالاً أو حراماً بحسب ذلك العمل، سواءٌ فردياً أو شركة، فإذا اشتركا في فتح دكان لحلق اللحى كان الكسب حراماً؛ لأن العمل حرام، وهكذا إذا اشتركا في فتح دكان لأشرطة الغناء هذا منه الثمن وهذا منه التسويق كان الكسب حراماً، وهكذا أيضاً التصوير الذي ليس بضروري يعتبر أيضاً كسباً حراماً، وأشباه ذلك.(39/19)
حكم شركات التأمين
السؤال
ما حكم شركات التأمين الموجودة الآن؟
الجواب
لا يجوز الاشتراك فيها، يسمونها تعاونية وليست كذلك، بل هي تجارية، وقد صدرت الفتاوى من اللجنة الدائمة بأنه لا تجوز المساهمة فيها، ولا يجوز أن يُؤمن الرجل على نفسه، ولا على تجارته، ولا على أولاده، ولا على سكنه، ولا على سيارته، ولا عبرة بمن أباح ذلك، وما ذاك إلا أنهم غالباً يقصدون نفع أنفسهم والكسب من وراء المساهمين، وسبب المنع أولاً الغرر، وذلك لأنه يدفع لهم كل سنة ألفاً أو ألفين، وتمضي عليه عشر سنوات وهو لم يحتج إليهم، ولا يردون إليه شيئاً من هذا المال، ولو أنهم قد يقولون: إذا لم تحتج إلينا في السنة الأولى فلا تدفع شيئاً في السنة الثانية.
ويريدون بذلك ترغيب الناس أن يستمروا معهم.
والأمر الثاني أنه قد يكلفهم، فقد يدفع ألفاً أو ألفين، ثم يعمل حادثاً فيكلفهم عشرات الألوف، فيأخذ ما لا يستحقه.
الأمر الثالث: أن كثيراً من الذين يؤمنون يخاطرون، فتجد أحدهم يركب الأخطار بالسيارات ونحوها، وإذا قيل له: ترفق قال: أنا قد أمنت، والشركة ستدفع عني.
فيتسبب في إزهاق أرواح وفي إتلاف أموال.(39/20)
إعطاء الولد الذكر مثل حظ الأنثيين في العطية
السؤال
لدى والدي مال، فهل يعامل البنون والبنات في العطية للذكر مثل حظ الأنثيين حال الحياة؟
الجواب
إذا أعطى والد أولاده عطية فإنه يعدل بينهم؛ لحديث النعمان بن بشير: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، والصحيح أنه يقسم بينهم على قسمة القرآن: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ؛ لأن الصحابة كانوا يقسمون على قسمة القرآن، لكن الأشياء التي يحتاجها أحدهم لا يلزم أن يعطي الآخر مثلها، فإذا احتاجت المرأة -مثلاً- لكسوة بمائتين فلا يقول: نعطي الأولاد أربعمائة، فكسوة الولد -مثلاً- ستون أو سبعون، وكذلك أيضاً إذا احتاجت إلى حلي بخمسة آلاف أو بعشرة، فلا يلزم أن يعطي الأولاد ضعفها؛ لأن هذه حاجات خاصة.(39/21)
معنى الجداد
السؤال
ما معنى الجداد؟
الجواب
هو الصرام، أي: جرد النخل وجده، تصرم القنوان التي فيها الثمر، وذلك بقطعها بالمنجل ونحوه.(39/22)
شرح أخصر المختصرات [40]
الإجارة أنواع، ولها شروط، وفيها أحكام كثيرة ومسائل عديدة، وهي من العقود اللازمة، وحاجة الناس إليها ماسّة، وقد اهتم أهل العلم بباب الإجارة اهتماماً كثيراً، فينبغي العلم بأحكامها والعمل بها في عقود الإجارة بأنواعها.(40/1)
الإجارة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وتصح الإجارة بثلاثة شروط: معرفة منفعة، وإباحتها، ومعرفة أجرة إلا أجيرًا وظئرًا بطعامهما وكسوتهما.
وإن دخل حمامًا، أو سفينةً، أو أعطى ثوبه خياطًا ونحوه صح وله أجرة مثل.
وهي ضربان: إجارة عين: وشرط معرفتها، وقدرة على تسليمها، وعقد في غير ظئر على نفعها دون أجزائها، واشتمالها على النفع، وكونها لمؤجر، أو مأذوناً له فيها.
وإجارة العين قسمان: إلى أمد معلوم يغلب على الظن بقاؤها فيه.
الثاني: لعمل معلوم، كإجارة دابة لركوب أو حمل إلى موضع معين.
الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، فيشترط تقديرها بعمل أو مدة كبناء دار وخياطة، وشرط معرفة ذلك وضبطه، وكون أجير فيها آدمياً جائز التصرف، وكون عمل لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة] .(40/2)
تعريف الإجارة
يعرفون الإجارة: بأنها عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو عمل مباح بعوض مباح، والعقد: لا يكون إلا بين اثنين، عاقد: وهو المالك، وكذلك: العاقد الثاني: وهو المستأجر، والمعقود عليه: وهو المنفعة.
ويعرفون الإجارة: بأنها بيع المنافع، والحاجة داعية إليها؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يحصل ما يحتاجه من الأعيان للاستعمال، فيحتاج إلى أن يستأجر، ويقال أيضاً: إن حاجته لا تدوم، بل تنقضي في يوم أو في سنة أو نحو ذلك؛ فلذلك يحتاج إلى أن يستأجر العين لينتفع بها، ويدفع أجرتها، ثم يردها إلى مالكها، والمالك يكون عنده أعيان هو مستغنٍ عن استعمالها بخاصة نفسه، فيؤجرها لمن ينتفع بها ويدفع أجرةً، وترد إلى المالك بعد استيفاء المنافع التي فيها.(40/3)
شروط الإجارة
ذكر المؤلف أنه يشترط لها ثلاثة شروط: الأول: معرفة المنفعة.
الثاني: إباحة المنفعة.
الثالث: معرفة الأجرة.
وهذه شروط لابد منها في صحة الإجارة، فأولاً: معرفة المنفعة: فمعروف أن هناك أشياء منفعتها ظاهرة، فالدار مثلاً: يستأجرها ليسكن فيها مدة محددة، وقد يستأجرها ليجعلها مخزناً لتجارته أو نحو ذلك، فإذا استأجرها لهذا الغرض، فإنه يستوفي هذه المنفعة، فإن استأجرها للسكنى فلا يجوز له أن يجعلها مستودعاً للدواب -للبقر، وللغنم، وللحُمُر وللخيل-؛ وذلك لأنها تفسدها بحوافرها مثلاً، وتلوثها بالروائح -الروث ونحوه-، ولا يستأجرها للسكنى ويجعلها مثلاً: مصنعاً من المصانع التي يكثر فيها الدَّقُّ بالسندان أو بالحجارة الثقيلة التي تزلزل الحيطان وتتصدع منها وما أشبه ذلك.
وإذا استأجرها للسكنى فيسكن فيها من تتحمله، فإذا كانت تتحمل مثلاً: عشرة، فلا يسكن فيها عشرين أو ثلاثين؛ لأنهم بدخولهم وخروجهم وصعودهم ونزولهم قد يؤثرون على بنائها، وقد يؤثرون على أرضيتها وفرشها وحيطانها وما أشبه ذلك، فلا يسكنها إلا ما تتحمل.
وكذلك أيضاً: إذا استأجر الدار ونحوها، فلا يسكنها من يتضرر الجيران منهم.
فالحاصل: أن سكنى الدار منفعةٌ مباحة، وسكنى المخزن منفعةٌ مباحة، يخزن فيه تجارته، وكذلك: سكنى الدكاكين لإيداع البضائع فيها، وفتحها للاتجار فيها وما أشبه ذلك.
وكذلك استئجار الخيمة للاستظلال بها، والسجاد والفرش تستأجر من أجل أن تفرش فرشاً عادياً، ويجلس عليها جلوساً عادياً، ولا يجوز مثلاً: أن تفرش في الشمس التي تفسدها، ولا أن تتعرض للإحراق وما أشبه ذلك.
واستئجار السرر والكراسي هو للجلوس عليها والنوم عليها وما أشبه ذلك.
واستئجار القدر أو الإبريق للطبخ فيه، وإذا استأجره ليجعله زينةً فإنه ليس من المرافق، فيتجمل بها مثلاً.
واستئجار الثوب ليلبسه، وكذلك: ما يلبس كالنعل ونحوه.
ولابد أن تكون الأجرة معروفة، كسكنى دار وحمل إلى موضع معين، فإذا استأجر السيارة فلابد أن يحدد ما يحمله، أن يحمل عليها كذا وكذا -كيلو أو طن- وأن يحدد المسافة، فيقول: السير عليها من كذا إلى كذا، مثلاً: من الرياض إلى مكة أو ما أشبه ذلك.
وكذلك أيضاً: الخدمة: فإذا استأجر خادماً فلابد أن يحدد نوع الخدمة، فلا يكلفه أن يحمل الأشياء الثقيلة، وهو استأجره مثلاً: لإصلاح طعام، أو لإصلاح فرش، أو إصلاح القهوة، أو قيادة سيارة أو تنظيفها وتغسيلها، أو سقي حديقة، أو إخراج قمامة من المنزل، يعني: خدمةٌ يقدر عليها ذلك المستخدم، فلا يكلفه ما لا يطيق، فإذا كانت خدمته متواصلة كالذي يعمل في دكان أو الذي يعمل في بستان أو الذي يرعى دواب؛ فلا يكلفه أكثر مما يطيق، فيكلفه ما يستطيع، كأن يخدم عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة إذا لم يكن العمل شاقاً، ويريحه بقية الوقت.
وكذلك: إذا استأجر معلماً، فالتعليم يكون بقدره، كأن يعلم الأولاد -مثلاً- كل يوم عشر ساعات أو نحوها، وقد تكون المنفعة على شيء معين، كأن يقول: كلما حفظوا جزءاً فلك أجرة كذا وكذا، وكلما حفظوا باباً من العلم، أو تعلموا كتاباً فأجرتك كذا وكذا.
والحاصل أنه لابد من معرفة المنفعة التي تستغل من تلك العين، وفي كل عين منفعة، فاستئجار الكتاب ليس للزينة، وإنما للقراءة فيه، وكذا المصاحف، واستئجار السكين ليس للزينة وإنما ليقطع بها مثلاً، واستئجار الساعة ليستخدمها لمعرفة الوقت عند حاجته إليها، واستئجار السيارة للحمل عليها، لا ليتجمل بها، واستئجار السراج ليوقده في الليل مثلاً إذا كان محتاجاً إليه، وكذلك: استئجار مكيف ليتبرد به، فكل شيء منفعته محددة ومعروفة.(40/4)
الأشياء التي لا تصح الإجارة فيها
ثم ذكر المصنف الشرط الثاني: وهو إباحتها، وذكر في التعليق الأشياء التي لا تباح إجارتها يقول: فلا تصح الإجارة على الزنا والزمر والغناء، ولا على التياتو -يعني: الضرب بالأدوات التي فيها ملاهي من الأوتار وما أشبهها- ولا على النياحة، ولا على إيجار الدار أو الحانوت لبيع الخمر أو القمار، سواء شرط ذلك في العقد أم لا؛ لأن هذه محرمةٌ شرعاً، ولا يجوز أن يستأجر الأمةَ ليزني بها، وهي مملوكة لغيره، فيقول: أجرني هذه الأمة مدةَ شهر أستمتع بها أو يقول للمرأة: أجريني نفسكِ لفعل الزنا، هذا حرام، وأجرتها حرام، وقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مهر البغي خبيث أو سحت) ومهرُ البغي: هو ما يبذل للبغي الزانية مقابل تمكينها من الزنا بها، فهذه المنفعة محرمة.
وكذلك الزمر -يعني: المزامير التي ينفخ فيها ويكون لها صوت-، وكذلك استئجار الطبول ليتلذذ بها؛ فإنها أيضاً: ملحقةٌ بالمزامير التي هي محرمة، واستئجار المغني أو المغنية يعتبر أيضاً: منفعةً محرمة.
وكانوا قديماً يعلِّمون الأمةَ الغناء، فإذا تعلمت الغناء وصارت مطربةً ومغنيةً ارتفع ثمنها، وزيد فيها عند البيع إذا قيل: إنها مغنية، فكان العلماء يحرمون هذه الزيادة، ويقولون لبائعها: لا تبعها على أنها مغنية، بعها على أنها ساذجة جاهلة لا تعرف شيئاً، فإذا بعتها بألف، وزيد ثمنها لأجل غناها؛ فإن تلك الزيادة محرمةٌ عليك، فإذا كان هذا في بيعها، فكذلك في إجارتها، فالذين يؤجرون أنفسهم للطرب والغناء والتلحين والفن وما أشبه ذلك؛ هذه الأجرةُ حرام، واستئجار المغنين والمطربين ونحوهم حرامٌ، وما يدفعُ لهم حرام، وسماع أصواتهم حرام، فالغناء حرام بجميع أنواعه، سواءً بواسطة أشرطة الكاسيت، أو أشرطة الفيديو التي فيها شيء من الغناء والطرب، ويحرم تأجيرها، كما أنه حرامٌ بيعها.
وكذلك: أدوات اللهو واللعب التي تستعمل للطرب، مثل: الطبول التي تضرب في الأفراح ونحوها، ويستثنى ما رخص فيه، وهو الدف لقوله عليه السلام: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) ، وهو: الذي ختمت جهةٌ منه، ولم تختم الثانية، أما الطبل فإنه مختومٌ من الجهتين، وإذا ضرب سمع له طنينٌ مطرب، فلذلك: لا يجوز بيع الطبول وما أشبهها، ولا تجوز إجارتها.
وكذلك: استئجار النائحة، فهناك نساءٌ يعرفن النياحة، فيتعلمن الندب والنياحة والصياح وتعداد محاسن الميت، كقولهم: وا محمداه! وا إبراهيماه! وا مطعماه! وا كاسياه! وا أخواه! وا ولداه! ففعلهن هذا يسبب الحزن والبكاء والصراخ، فأجرتهن واستئجارهن محرم.
وكذلك استئجار الدار أو الحانوت لبيع الخمور؛ وذلك لأنه حرم ثمنه، فتحرم أجرته، والذين يؤجرونهم لا شك أنهم شركاء لهم في الإثم، ويدخلون في قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، وهكذا تأجيره على من يحلق اللحى، فإن ذلك محرمٌ، أما إذا كان يحلق الرأس مثلاً فلا بأس؛ لأن حلق الرأس من المباحات.
وكذلك الخياطون، إذا كان الخياط يخيط للنساء الملابس الضيقة فإنه يدخل في الوعيد، فإذا استأجر دكانه الخياط، فعليه أن يشترط عليه ألا يخيط الثياب الضيقة ولا الشفافة ولا القصيرة التي يتبين منها شيءٌ من أعضاء المرأة، وكذلك أيضاً: الثياب الزائدة بالنسبة للرجال التي فيها إسبال إلى تحت الكعبين فهذه أجرتها محرمة، فإذا استأجر منه الخياط اشترط عليه ألا يعمل مثل هذه الأعمال.
وهكذا أيضاً: إذا استأجره للبيع، فيشترط عليه ألا يبيع أجهزة الأغاني كالأشرطة المحرمة، وكذلك أدواتها المحرمة كالطبول وما أشبهها.
وهكذا الذين يستأجرونها للعب المحرم، فهناك من يعمل ما يسمى بالاستراحات، ثم يؤجرونها على أناس وفيها الخمور أو الدخان والشيش وما أشبهها، ويلعبون فيها طوال ليلهم بما يسمى بالزنجفة أو البلوت يعني: الأوراق التي هي لهو، فيلعبون فيها إلى آخر الليل، ويتركون الصلوات: مغرباً وعشاءً وفجراً، فنرى أن هؤلاء قد أعانوهم على الإثم والعدوان، فليتنبهوا لمثل ذلك، فلابد أن تكون العين مباحة، والمنفعة مباحة، ولا يشترط أن تكون العين التي فيها المنفعة نفسها مباحة، إنما اشترطوا إباحة المنفعة، فمثلاً: الحمار لا يؤكل، ولكن يؤجر للحمل عليه، أو ليركب وما أشبه ذلك.
وأما إذا كانت العين مباحة المنفعة كركوب الخيل والحمر والأواني، فإنه يصح التأجير لها، والعين التي لا تباح منفعتها، ولا يباح ثمنها كالكلب لا يصح تأجيره.
وتقدم أنه لا يصح أن يباع -مثلاً- العصير لمن يعمله خمراً، وهكذا أيضاً: لا يؤجر عليه -إذا كان يعمل خمراً- قدوراً أو أدوات وقود كآلات الطبخ، والوقود الذي هو (البوتجاز) لا يجوز تأجيره على من يستعين به على عمل محرم.(40/5)
معرفة الأجرة
الشرط الثالث: معرفة الأجرة، أي: تسمية الأجرة؛ وذلك لأنها أحد العوضين، المستأجر يستوفي المنفعة، والمؤجر يستحق الأجرة، فلابد من تسمية الأجرة؛ مخافة أن يكون هناك اختلاف ونزاع يؤدي إلى الضرر؛ لذلك: لابد من تسمية الأجرة.
كثيراً ما تركب سيارات الأجرة، ثم يقع اختلاف إذا لم تُسمِ الأجرة، فيطلب منك -مثلاً- ثلاثين، وتقول: لا تستحق إلا عشرين أو عشرةً، المسافة قليلة، والزمن قليل.
وهكذا أيضاً: قد يحسّن الإنسان الظن إذا استأجر فرشاً كقطع الزلِ، ولا يحدد أجرة، ثم عند المحاسبة يطلبون منه أكثر، ويقولون: كنا نؤجرها بكذا وكذا، كنا نؤجر الأباريق بكذا، ونؤجر القدور بكذا، فيطلبون منه أكثر؛ لذلك يقال: إن تسمية الأجرة في العقد أولى حتى ينقطع النزاع، وحتى لا يحصل الاختلاف.
ويصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما، والأجير: الخادم، فقد يكون هناك بعض الفقراء يعجز أحدهم عن تحصيل لقمة العيش، يعجز أن يجد ما يقوت به نفسه أو يستر به عورته، فيقول: أنا أقنع أن أخدمك بمجرد إطعامي وكسوتي، فيصح استئجار الخادم بطعامه وكسوته، وقد يقال: إن هذا يختلف! فيقال: الاختلاف قليل، فبعض الخدام لا يشبع إلا بثلاثة أرغفة، وبعضهم يكفيه رغيفٌ واحد في كل وجبة، فمثل هذا يتسامح فيه، والعادة أن التفاوت بسبب كثرة العمل، فإذا كان يشتغل شغلاً متواصلاً كثيراً؛ فلا يستنكر منه إذا أكل رغيفين أو ثلاثة أرغفة، أو أكل كثيراً، وإذا كان عمله يسيراً -يعمل وهو جالس، أو يجلس أكثر الوقت- فالغالب أنه لا يأكل كثيراً.
والحاصل: أن هذا يتسامح فيه ولو وقع فيه اختلاف.
وكذلك أيضاً: الكسوة، قد يكون لكثرة مزاولته الأعمال يحتاج إلى كسوة كل شهرين، وبعضهم قد تكفيه كسوة نصف سنة أو سنةً كاملة؛ لذلك يتسامح في ذلك، فيستأجر الخادم بطعامه وكسوته.
وكذلك الظئر: وعرفها في الحاشية بأنها: المرضعة، فإذا استؤجرت على طعامها وكسوتها؛ صح الإيجار، فكثيراً ما تكون المرأة عاجزةً عن إرضاع ولدها، فتستأجر له ظئراً -أي: مرضعةً-، فهذه المرضعة قد تكون فقيرة يعجزها تحصيل القوت، فتقنع بالطعام والكسوة، فتقول: أنا أرضع لكم ولدكم، ولو كان الرضاع يختلف، فالكبير يرضع منها كثيراً، والصغير أقل، ولو كان أيضاً: الطعام يختلف، قد تكون إحدى المرضعات تأكل كثيراً، وبعضهن تشبع بقليل، وهذا أيضاً مما يتسامح فيه.
يقول: (وإن دخل حماماً، أو سفينةً، أو أعطى ثوبه خياطاً أو نحوه؛ صح وله أجرة المثل) لأن هؤلاء عادةً تعرف الأجرة عندهم، والحمامات: هي أماكن تؤجر للاستحمام، وهي توجد في البلاد الباردة، مثل الشام ومصر والعراق، وهي بيوت تحت الأرض فيها حمامات -يعني: مستحمات-، وفيها ماءٌ ساخن، يدخلها الإنسان ويغسل بدنه بذلك الماء الحميم، والأجرة معروفة عندهم، فلا حاجة إلى أن تفرض الأجرة على كل من دخل، وإذا كانت أجرته مثلاً خمسة قد يكتبونها على البوابة، فيكتبون: أجرة الاستحمام خمسة أو عشرة أو عشرين، فلا حاجة إلى إيقاف كل واحد.
وكذلك: إذا ركب سفينةً معتادة التردد من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، تحمل الركاب؛ فهذه أيضاً: قد تكون معروفة الأجرة؛ لأنها تتردد دائماً، فلا حاجةَ إلى أن كل من ركب تفرض عليه الأجرة.
ويلحق بها السيارات والطائرات والباخرات والقطارات، فإنها وسائل نقل حديثة، والمسافة محددة، فمسافة القطار من الرياض إلى الأحساء أو إلى الدمام معروفة، وكل راكب محددة قيمة إركابه، بأنها بكذا وكذا، وكذلك سيارات النقل من الرياض إلى مكة أو إلى جدة أو الطائف معروفة الأجرة عندهم، فلا حاجة إلى أن كل راكب يشارطهم بأجرة كذا وكذا، بخلاف البلاد التي ليست مأهولةً دائماً، فإذا استأجر -مثلاً- من الرياض إلى برية معروفة، وقد يكون الطريق إليها غير مسفلت، فلابد أن يسمي الأجرة، سواءً أجر ركاباً يركبون كل راكب بكذا، أو أجر سيارته لمن يحمل عليها.
وهكذا الثياب، فالأصل أن الخياطين معروفة أجرة الخياطة عندهم، فيقولون: الثوب التام أجرته بكذا، وثوب الطفل أجرته بكذا، والسراويل أجرته بكذا، والقلنسوة أجرتها بكذا -يعني: أجرة الخياطة- وكذلك البنطلون أو الجبة أو ما أشبه ذلك، كل شيء خياطته محددة عندهم، فمثل هؤلاء لا حاجة إلى أن يتعاقد عند كل واحد.
وألحق بالخياط الدلال الذي يدل على السلع، يدلك على من تستأجر منه، أو يدلك على من تبتاع منه، أو تخطب منه خطبة نكاح، هؤلاء يسمون دلالين، وكذا الحمالين الذين يحملون على ظهورهم، وأجرتهم على الكيس كذا وكذا من الدكان إلى السيارة، وما أشبهها، وكذلك الحلاقين: والحلاق غالباً يكتب أجرة الحلاقة بكذا وكذا، حلق الرأس بكذا، وقصه بالماكنة بكذا، وكذلك الصباغ الذين يصبغون الأواني أو يصبغون الثياب، وكذا المطرِّز الذي يصلح القلنسوة فيدقها، ويصلح النقوشات، فهؤلاء يلحقون بالخياط.(40/6)
أنواع الإجارة
ذكر المؤلف أن الإجارة ضربان: أولاً: إجارة العين، والثاني: عقدٌ على منفعة في الذمة، فإجارة العين: هي أن يتعاقد على استيفاء المنفعة من هذه العين التي هي معينة أو موصوفةٌ في الذمة، فإذا كان فيها منفعة فإنها تصلح إجارتها، ويشترط لهذا الإجارة شروط: الشرط الأول: معرفة العين، وإن كانت غير معينة فلابد أن توصف وصفاً دقيقاً، فإذا استأجر منه داراً فلابد أن يراها، ويكفي أن توصف له وصفاً كاملاً، يقال مثلاً: سعتها كذا وكذا متراً مربعاً، وارتفاع سقفها كذا، وفيها من الغرف كذا، وفيها من المستحمات كذا وكذا، وتوصف الصهاريج ونحوها، وفيها من المجالس كذا، ومن السطوح كذا، ويذكر نوع بنائها، ونوع بلاطها، وما فيها من المرافق والمكيفات وما أشبه ذلك، فإذا وصفت وصفاً دقيقاً صح عقد الإجارة عليها وإن لم يرها.
كذلك: إذا استأجر دابةً للركوب فلابد أن توصف له، فيوصف له الفرس أنه قويٌ، وأنه سمين، وأنه ثابتٌ، وأنه مذلل، أو توصف له الناقة أو الجمل، وكذلك المراكب الجديدة، فتوصف له السيارة التي يريد أن يستأجرها يومياً أو إلى مكان معين أنها تتحمل كذا، وأنها من نوع كذا وكذا.
وهكذا: إذا استأجر ثوباً ولم يره صح أن يوصف له بأنه ثوب من صوف أو من قطن طوله كذا، جديد أو مستعمل، وإذا استأجر كتاباً ليقرأ فيه، أو قدراً ليطبخ فيه، أو كأساً ليشرب فيه أو ما أشبه ذلك؛ فلابد أن يعرفه معاينة أو يوصف له وصفاً دقيقاً.
الشرط الثاني: القدرة على التسليم، فلا يصح أن يؤجره جملاً شارداً ولا عبداً آبقاً؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، إلا إذا كان بالإمكان القدرة عليه، فإذا قدر على أن يدركه بالسيارة ويقبض عليه بأن كان في محيط؛ فلا بأس بذلك.
الشرط الثالث: العقد على نفعها دون أجزائها إلا في الظئر، فقد عرفنا أن العقد فيها هو على شيء من أجزائها وهو لبنها، ويلحق بها أيضاً: ذوات اللبن، فيصح أن تستأجر شاةً لتحلبها، مع أن المنفعة جزءٌ من أجزائها، وكذا البقرة أو الناقة تستأجرها لأجل أن تشرب لبنها، وتكون الأجرة عليك؛ وذلك لأن التفاوت فيه يسير، فأما بقية الأدوات فإن الأجرة تكون على النفع لا على الأجزاء؛ وذلك لأن الأجزاء تهلك بالاستعمال، فمثلاً: لا يقول: أجرني هذا الكيس -كيس بر مثلاً- لآكل منه ثم أرده، فإن هذا لا يسمى انتفاعاً بالعين، بل استهلاكاً لها، وكل شيء يهلك بالاستعمال لا يستأجر، فلا يستأجر -مثلاً- التفاح لأجل أن يؤكل أو نحوه، ولا الطيب والعود لأجل أن يتطيب به؛ لأنه يتلف بالاستعمال، وأجاز بعضهم استئجاره للشم إذا كانت له رائحةٌ عطرة يقول مثلاً: رائحته عطرة، أجرنيه يوماً أتلذذ بشمه، ثم أرده عليك بأجرة كذا وكذا، فمثل هذا منفعة، ولكن ليست مقصودةً عادة؛ وذلك لأن الأصل أنه يتلف، وهكذا الشمعة معلومٌ أنه إذا أوقد فيها فإنها تتلف، فهل يجوز استئجارها لأجل أن يوقدها؟ لا يجوز؛ وذلك لأنها تتلف بالاستعمال، ويجوز استئجار السراج، ويكون الوقود على المستأجر يجعل فيه وقوداً مثل (القاز) أو ما أشبه ذلك، ويستأجر المكيف ليتبرد به، ثم يرده، أو يستأجر الأنوار الكهربائية ليستنير بها يوماً -مثلاً- ثم يردها، فهذه منفعتها مباحة، أو يستأجر -مثلاً- المكبر أو يستأجر المسجل ليسجل فيه، ثم يرده، كل هذه منافعها مباحة، والأجرة على المنفعة لا على الأجزاء، وإذا كان يخلولق، جاز ذلك، فمعلوم أن الثوب يخلولق إذا لبس، ولكن صاحبه يأخذ أجرة منفعة الثوب في اللباس، ومنفعة الحذاء -مثلاً- بالانتعال، ومنفعة الفرش بالجلوس عليها، فالإجارة تكون على نفعها لا على أجزائها.
الشرط الرابع: أن تكون العين فيها منفعة مقصودة، فإذا كانت لا تشتمل على منفعة ولا فائدة فيها فلا تؤجر، فمثلاً: سيارةٌ خربة لا تصلح أن يركب فيها، ولا أن يقودها قائد، فهذه لا منفعة فيها، وكذلك: جمل هزيل، لا يمكن أن ينتفع به في حمل، ولا في ركوب؛ على أي شيء يستعمل؟! ليس هو محلوبٌ ولا مركوب! فلا فائدة في تأجيره، وكذلك مثلاً: إذا استأجر أرضاً سبخة ليزرعها! ما يمكن، ليس فيها منفعة ولا تزرع؛ لأن الأرض السبخة لا تنبت نباتاً كقوله في الحديث: (إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً) .
فالحاصل أنه لابد أن تكون فيها منفعة، فالدار فيها منفعة للسكنى، والدابةُ التي تركب فيها منفعة، والثوب فيه منفعة، والقدور فيها منفعة، والخيمة فيها منفعة، فأما الذي لا منفعة فيه فلا تصح إجارته.
الشرط الخامس: كونها ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له فيها، أي: لابد أن يكون مالكاً لتلك العين أو مرخصاً له في تأجيرها، فلا يؤجر كتاب غيره، ولا قدر غيره، ولا بيت غيره، ولا سيارة غيره، حتى ولو رأى في ذلك مصلحة، لو رأى إنساناً محتاجاً للسيارة، وسوف يدفع أجرةً رفيعة كثيرة، ورأى أن جاره عنده سيارة واقفة، وأنه ليس بحاجة لها هذا اليوم أو هذه الأيام، فهل يقول: أتجرأ على جاري -ولو كان غائباً- وآخذ مفاتيح سيارته، وأؤجرها بأجرة رفيعة، لمصلحة جاري؟ ليس له ذلك؛ وذلك لأنه غير مأذون له، إلا إذا كان هناك إذن عام، بأن قال له جاره: متى رأيت مصلحةً مناسبةً فلا مانع من أن تتجرأ على ما يختص بنا، ولك الحرية في ذلك، فلابد أن يكون مالكاً للعين أو موكلاً مأذوناً له فيها.(40/7)
أقسام إجارة العين
ذكر المؤلف أن إجارة العين قسمان: الأول: إجارةٌ إلى أمد معلوم يغلب على الظن بقاؤها فيه، الثاني: لعمل معلوم، والغالب أن الذي إلى أمد تكون في بعض الأعيان التي تستغل غلتها ومنفعتها، ويجوز أن تكون المدة طويلة، ولكن يفضل ألا تطول طولاً يختلف به السعر، فقد رأينا أناساً أجروا دكاكين لمدة عشرين سنة، أجر هذا الدكان مدة عشرين سنة، وكل سنة -مثلاً- بعشرة آلاف، ثم في هذه المدة ارتفع السعر أو انخفض، فصار جيرانه يؤجرون -مثلاً- بخمسين ألفاً، وهو بعشرة آلاف مدة عشرين سنة! فيتأسف ويقول: هذا من الغبن، كوني أجرته عشرين سنة فارتفع السعر، وكذلك أيضاً: العكس، فكثير من الناس استأجروا أماكن لمدة عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وربما مائة سنة، ثم نزل السعر أو ارتفع، فصار الناس يؤجرونها بعشرة، وهو محسوبٌ عليه بعشرين أو بثلاثين، فيندم، فالأولى ألا تكون المدةُ طويلة، وذكروا أن أوقافاً في بعض البلاد أجرت لمائة سنة، وكل سنة بعشرين صاع من البر أو من التمر، وبعدما طالت المدة صارت مثلها تؤجر بعشرين ألفاً، وبثلاثين ألفاً، وهو لا يزال يستغلها بهذا الشيء الزهيد، وكانوا ما يؤملون ارتفاع الأسعار في كثير من المدن؛ فيكره أن تؤجر مدةً طويلةً يحتمل فيها تغير السعر بزيادة فيغبن المؤجر أو بنقص فيغبن المستأجر.
القسم الثاني: تأجير الإنسان -مثلاً- لعمل معلوم، كأن يستأجره لبناء حائط أو لحفر بئر أو لسقي نخل أو شجر، فلابد أن يكون العمل معلوماً، فتكون الخياطة -مثلاً- معلومة، نوعها كذا وكذا، أو معتاداً، ويكون البناء من كذا وكذا، من اللبن أو من البلوك أو ما أشبه ذلك، ومثل أيضاً: إجارة دابة لركوب إلى موضع معين أو لحمل إلى موضع معين، ومثلها أيضاً: السيارة، وفي هذه الحال لا تحدد المدة، والغالب أنها تخضع لعمل صاحبها الذي هو قائد السيارة أو سائق البعير، فأحياناً يستأجر السيارة من الرياض إلى القصيم ليحمل عليها متاعه أو أهله أو نحو ذلك، فيبقى في الطريق يومين، يسير بتؤدة، وأحياناً يقطعها في ثلاث ساعات.
فالحاصل أن هذا عمل معلوم، استأجرتك تحمل هذه البضاعة من الرياض إلى القصيم بمائة أو ألف سواءً وصلت في يوم أو وصلت في خمسة أيام أو في عشرة، هذا عمل معلوم، مثل: حمل لمتاع أو ركوب على دابة أو على سيارة أو ما أشبهها إلى موضع معين.(40/8)
الإجارة على منفعة في الذمة
انتهينا من الضرب الأول: وهو إجارة العين، والضرب الثاني: العقد على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، منفعة في الذمة: مثل خياطة الثوب، وبناء الجدار، وحفر البئر، وحرث الأرض وزرعها، وتلقيح الأشجار، وتلقيح النخل وجدادها، وصرامها، وحصاد هذا الزرع، ولقط هذا الثمر، كل هذا منفعة في الذمة، يعني: تستأجره على أن يعمل لك هذا العمل بأجرة معينة، تقول: استأجرتك أن تحصد هذه البقعة من الزرع -سواء حصدها في يوم أو في عشرة أيام أو في ساعة- بمائة أو بألف، هذه منفعة في الذمة يبذلها لك، أو تبني هذا الجدار الذي طوله كذا وسمكه كذا وعرضه كذا، بأجرة معينة، وإذا خشيت أنه يتلاعب في ذلك فلك أن تحدد له مدة، فتقول: في ظرف خمسة أيام أو شهر أو سنة، وإذا لم تفعل ذلك فإنك متساهل، ونضرب عليك غرامة عن تأخيرك ونحو ذلك كما تفعل ذلك الشركات التي تتقبل بناء الدور أو المساجد أو المدارس أو المشاريع الكبيرة، أو تتقبل إصلاح الطرق وصيانتها وتنويرها أو ما أشبه ذلك، وكل هذه منفعةٌ معلومة في الذمة يأتي بها ذلك المستأجر، ولابد أن تكون في شيء معين، أو موصوف، مثال الشيء المعين أن تقول: الطبخ في هذا القدر أو في قدر كذا وكذا، فهذه منفعةٌ معينةٌ من هذه العين، وكذلك أيضاً: العمل، إذا استأجرت الطحان لطحن هذا الكيس، هذه منفعة في الذمة، يطحنه بكذا، والغسال يغسل ثوبك بكذا، والقصار يقصره بكذا وكذا، والدباغ يدبغ لك هذا الجلد بكذا وكذا، والحلاق يحلق رأسك بكذا وكذا، هذه تسمى عقوداً على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، الشيء المعين: منفعة في هذه السيارة وهو الحمل عليها، والموصوف: منفعةٌ في خيمة كذا وكذا غير معينة، لا يقول: الخيمة الفلانية، أو يقول: تبني هذه الدار في المكان الفلاني كذا وكذا لأسكنها، إذا كان موصوفاً.
ويشترط تقديرها بعمل أو مدة، تقديرها بعمل: كالخياط يقدر عمله بالخياطة، وكذلك يقدر للمدة، فيقال مثلاً: لمدة شهر تبني داراً أو نحو ذلك، ويشترط معرفة ذلك وضبطه، معرفة الخياطة ونوعها، معرفة البناء ومقداره وارتفاعه وما أشبه ذلك.
وذكر أنه يشترط معرفة المنفعة وضبطها، يعني: نوع الخياطة وجنسها وصفتها، وارتفاع الجدار ونوع المادة التي يبني بها.
كذلك يشترط كون الأجير آدمياً جائز التصرف، والأجير في العادة يكون من الآدميين، لكن قد يستعين بالبهائم ونحوها، فالحفر -مثلاً- ما يكون إلا بالآدمي الذي ينزل في البئر ويحفرها، لكن إخراج التراب قد يحتاج إلى آلة، أو يحتاج إلى دابة يعلق فيها الدلو فيخرج التراب، ولكن الأصل أن الذي تعاقد معه آدمي.
وكذلك أيضاً: البناء، الأصل أنه يتولاه الآدميون، ولكن قد يستعملون الرافعة التي ترفع اللبن إلى السطح أو إلى المكان الرفيع أو الحيطان، وقد يستعملون الآلة التي تصب الصبة فوق السطوح، فهذه وإن لم تكن آدمياً ولكن الذي يستعملها آدمي.(40/9)
الإجارة على القرب
وشرط أيضاً: كون عمل يختص صاحبه أن يكون من أهل القربة، فإذا كان العمل من القربة لم يجز التأجير عليه؛ وذلك لأن القرب يتقرب بها إلى الله تعالى، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) ، فلا يجوز أن يستأجر أحداً على عمل من الأعمال الصالحة، فلا يستأجره على أن يصلي، فيقول: أستأجرك على أن تصلي هذه الصلاة، ولك أجرةٌ على الصلاة، أو لك أجرة على الصيام مثلاً، أو لك أجرةٌ على الأذان، أو على الإمامة، أو على الخطابة، أو على تعلم القرآن ونحو ذلك، فمثل هذه أعمال يبتغى بها وجه الله، ومن عملها للدنيا فسد أجره، ولا يجوز أن يكون العمل الذي يبتغى به وجه الله وتعالى يراد به الدنيا.
وذكرنا أنه يصح أن يستأجر من يحج عنه أو يعتمر عنه، ولكن ذلك الأجير لا يعمل العمل لأجل الأجرة، وإنما يأخذ المال لأجل العمل، فيحج لأجل الحج لا لأجل النقود التي تبذل له، حتى لا يبطل عمله، ويكون ممن عمل عملاً دينياً لأجل مصلحة دنيوية، وهكذا بقية القربات.(40/10)
الأسئلة(40/11)
استئجار الشعراء في الزواج
السؤال
أحسن الله إليكم وهذا سائل يقول: ما حكم استئجار الشعراء في ليلة الزواج؟
الجواب
إذا كان الشعر مباحاً جاز ذلك، ولكن يكره لهم أن يأخذوا الأجرة، روي أنه صلى الله عليه وسلم أباح الغناء المباح، وقال: (هلا أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم) يعني: أن مثل هذا من جملة ما يباح في ليالي الزواج ونحوه، فأما ما يفعل في كثير من الزواجات مما يسمونه (المراد) الذي فيه هجاءٌ، وفيه سبٌ، وفيه عيبٌ، وفيه أيضاً: سهرٌ طويل، وفيه تغنجٌ وتمايلٌ، ومديح فيه مبالغة، وذمٌ فيه مبالغة، فلا يجوز ذلك.(40/12)
وضع الدشوش في الاستراحات
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: هناك من يؤجر الاستراحات، ويضعون فيها الدشوش، ويقولون: إن عدد المستأجرين سوف يقل كثيراً إذا لم نضع هذا الجهاز، ونحن نخرج جزءًا من الدخل كصدقة للتكفير عن ذلك، فهل عملهم هذا جائز؟
الجواب
غير جائز؛ وذلك لأن هذه الدشوش آلاتٌ تفسد الأخلاق، وتدعو إلى الفساد، وهي محرمة ولو أنها عمت وطمت، ونقول: أخرجوها، واقنعوا بما يرزقكم الله تعالى من الرزق الحلال.(40/13)
حكم الرواتب التي يستلمها الأئمة والمؤذنون
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم الرواتب التي يستلمها الأئمة والمؤذنون؟
الجواب
يجوز أن يجعل من بيت المال رزقاً للمؤذنين والأئمة والخطباء والمعلمين والمقرئين ونحوهم، إذا كان يصرف لهم رزق من بيت المال لا مانع من ذلك، وأما أن يفرضوا على أهل المسجد فلا يجوز، سئل الإمام أحمد عن رجل قال: أصلي بكم بكذا وكذا؟ فقال: أسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا؟!(40/14)
استئجار استراحة فيها دشوش بدون استخدامها
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: هل يجوز استئجار استراحة فيها دشوش، ولكنني لا أستخدمها، وهل في ذلك إعانةٌ لهم على الإثم والعدوان؟
الجواب
أرى أن هذا فيه إعانةٌ لهم، اطلب غيرها مما هي سالمةٌ من هذا، وعادة أنهم يزيدون في أجرتها لأجل هذه الأجهزة، فستجد أرخص منها وأحسن منها.(40/15)
تأجير المستأجر لما استأجره
السؤال
أحسن الله إليكم يقول: استأجرت استراحة لمدة سنة، فهل يجوز لي أن أؤجرها باليوم من باب الاستثمار؟
الجواب
يجوز، فقد ذكروا أنه يجوز تأجير المؤجر لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضرراً، فإذا استأجرت البيت أو العمارة أو الشقة مدة سنة، ثم استغنيت عنها في نصف السنة، فلك أن تؤجر بقية مدتك.(40/16)
حكم بيع البيت المؤجر
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: هل يجوز بيع البيت المؤجر أثناء فترة تأجيره؟ وهل للمالك الجديد إخراج المستأجر؟
الجواب
يجوز، ولكن لا يملك المالك الجديد إخراج المستأجر، فيشترطون على المشتري ألا يخرج هذا المستأجر؛ لأن هذا المستأجر قد ملك المنفعة مدته التي اتفقوا عليها معه، فليس لهم إلزامه بالخروج، وإن خرج من نفسه فلا بأس.(40/17)
حكم إيجار المحلات لأصحاب الإنترنت
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: انتشرت في الآونة الأخيرة محلات تسمى مقهى الإنترنت، أي: أن الشخص يحضر إلى المقهى، ويراسل بالإنترنت، وربما يراسل أناساً لا يعرفهم من الرجال والنساء، ويأخذون أوقاتاً طويلة، فما حكم تأجير المحلات لهؤلاء؟ وما حكم استئجارها؟
الجواب
لا شك أن المقاهي يحصل فيها الفساد الكبير، ففيها شرب الدخان وشرب الشيش، وقد انتشرت هذه الأمور بسببها؛ وكذلك أيضاً: وجود أجهزة الدشوش فيها، زيادةً على ما ذكر السائل من هذه الأجهزة -أجهزة الإنترنت- التي يتمكن بها الشخص أن يكلم فيها من يريد، وأن يتصل فيها بمن يريد من خارج البلد وداخلها، فيتفق مع امرأة بعيدة أو قريبة أو ما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا تمكين لأهله مما لا يجوز؛ والإتيان إلى هذه الأماكن وتشجيع أهلها لا يجوز.(40/18)
تأجير محلات لبيع وتشغيل الألعاب الإلكترونية
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: ما رأيكم في تأجير محلات لبيع وتشغيل الألعاب الإلكترونية، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه الأدوات لا شك أن فيها مصلحة وفيها منفعة، مثل أجهزة المسجلات والمذياع وما أشبهه، فهذه فيها خير وشر، فإذا كانت خاصةً بالأشياء المباحة التي فيها منفعة، ولو كانت قد تستعمل للشر، فلعله يتسامح فيها، وأما إذا كانت خالصةً للشر فلا تجوز.(40/19)
حكم العرضة الشعبية
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: يحدث بكثرة عندنا في المنطقة الجنوبية ما يسمى بالعرضة الشعبية، ويستخدم فيها ما يسمى بالزير، كما أن فيها قصائد معظمها يعتمد على الكذب وعلى الكلام البذيء فما حكم ذلك؟
الجواب
نرى عدم حضورها، والأولى أنهم يمنعون من إعلانها، ويمنعون من إظهار هذا الذي يسمى بالزير أو ضرب الطبول أو ما أشبهها من المحرمات، فننصح بعدم حضورها، ومن له قدرة على أن يمنع أهله وأقاربه فليمنعهم، والأولى أن يرفع أمرهم إلى مراكز الهيئات ليأخذوا على أيديهم، ويقللوا من هذا المنكر.(40/20)
تأجير العمارات للشركات الأجنبية
السؤال
أحسن الله إليكم، ما حكم تأجير العمارات على الشركات الأجنبية والتي أغلب من يعمل بها من النصارى؟
الجواب
نرى أنه لا بأس؛ وذلك لأنهم دخلوا كعمال، ولابد لهم من مساكن، ولهم عهد، ولهم أمان، فيدخلون في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] يعني: إذا دخل، فهم يدخلون في أهل العهد، وأهل الذمة، فمثل هؤلاء لابد من نزولهم، وقد ورد في بعض الأحاديث ذكر الجار الكافر، وهو قوله في الحديث: (إن الجيران ثلاثة: جار له حق، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق) ، فذكر أن الجار الذي له حق هو الكافر، فله حق الجوار، فدل على أنه يجوز إسكانهم، وإقرارهم، ولكن الدولة أو الحكومة تتعهد عليهم ألا يظهروا شعائر دينهم، وألا يعملوا بما يخالف تعاليم البلاد الإسلامية.(40/21)
حكم استئجار الذهب
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم تأجير الذهب كما يحصل الآن عندما تتزوج المرأة فإن زوجها يستأجر ذهباً في ليلة الزواج فقط؟
الجواب
جائزٌ ذلك، وذكر بعض العلماء لما بحثوا في زكاة الذهب أنه إذا كان معداً للكراء أو للتأجير فإن فيه زكاة، فدل على أنه يجوز تأجيره، وهذا فيه منفعة، ولو كانت المنفعة فيه الجمال والزينة فلا مانع من استئجاره.(40/22)
إيجار الاستراحات مع اشتراط عدم الدشوش
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: بعض الناس يقولون: نحن نؤجر الاستراحات، ونشترط على المستأجرين عدم وضع الدشوش، أو ممارسة المحرمات، فهل يكفي هذا لإبراء الذمة؟
الجواب
يكفي، ولكن لابد من متابعتهم، وإذا تابعوهم ورأوهم قد خالفوا ذلك، فإن عليهم إخراجهم وقطع مدة الإجارة.(40/23)
حكم شراء كتيبات فيها مسابقات عليها جوائز
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: انتشرت في هذه الإجازة المسابقات الثقافية، والتي تباع في كتيب بريالين أو بخمسة ونحو ذلك، فما حكم شرائها مع العلم أننا لا نشتريها إلا من أجل الجائزة؟ وهل يدخل ذلك في الغرر؛ لأني لا أعرف هل أربح أو أخسر؟
الجواب
ينظر في المقاصد من وراء ذلك؛ فإذا كانت هذه المسابقات علمية، يعني: في هذا الكتيب -مثلاً- أسئلة يطلب الجواب عليها، وذكر فوائد، والذي يشتريه يستفيد منه، ويبقى منتفعاً به بقية حياته، فلا مانع سيما إذا كانت تكلفته قليلة، فيباع بسعر التكلفة، فلا مانع من الدخول في ذلك بهذا الشرط.(40/24)
صاحب البيت أحق من المستأجر
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: في بعض الدول إذا استأجر رجلٌ شقةً -مثلاً- فإن صاحب الشقة لا يستطيع إخراج المستأجر حسب أنظمة الدولة، ولا يستطيع رفع الإيجار عليه أبداً؛ فما حكم ذلك الإيجار؟ وما الحكم لو اشترط المستأجر للخروج من الشقة مبلغاً معيناً؟
الجواب
لا شك أن هذا مخالفٌ للشرع؛ وذلك لأن العين ملكٌ لصاحبها، فلا يجوز أن يملكها المستأجر أو يصير أحق بها، وهذه الأنظمة والقوانين التي يفرضونها ويعملون بها في كثير من البلاد لا شك أنها ظلم، فنقول: إن الإنسان عليه أن يعرف حرمة مال غيره، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) ، فإذا كانت نفسه غير طيبة، فلا يسكن فيها إلا برضاه وبأجرة المثل.(40/25)
حكم اشتراط سقوط الأجرة بتأخر العمل
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: أدخلت سيارتي في ورشة لإصلاحها، واتفقنا على ألفين ريال، والمدة بعد شهر، ومضى الشهر الأول والثاني وقلت له: خلال أسبوع إن خرجت وإلا لن أدفع لك ريالاً واحداً فتأخر، ثم أصلحها وأخذت السيارة ولم أعطه شيئاً؛ فهل علي شيء؟
الجواب
لا شيء عليك؛ وذلك لأنك تعطلت في هذين الشهرين والسبعة الأيام الزيادة، ويمكن أنك صرفت في تنقلاتك وفي استئجارك أكثر من الألف، فلا شك أنه أخطأ عليك في تأخره هذه المدة.(40/26)
الظفر بالحق
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: لدينا خادمة، ووالدي لا يدفع لهذه الخادمة راتبها؛ فهل آخذ شيئاً من ماله بدون علمه وأدفعه للخادمة علماً بأنه قادر؟
الجواب
قد يكون فعله هذا خوفاً من أن تهرب أو ما أشبه ذلك، أو يريد حفظه لها ليدفعه لها دفعة واحدة عند سفرها، حيث إنها لا تحتاج إليه في هذه المدة، وأنت عليك أن تستفصل منه عن السبب الذي لأجله منعها، ومعلوم أنه يحرم تأخير أجرة الأجير، ورد في الحديث: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) , وورد أيضاً وعيدٌ شديدٌ في الثلاثة الذين يعذبهم الله، ومنهم: (رجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره) ، وإذا رأيت أنه لا يعطيها، وأنه يمنعها ولا يريد المصلحة لها، فعليك أن تعطيها أجرتها من ماله، ولولم يعلم بذلك.(40/27)
شرح أخصر المختصرات [41]
لقد أباح لنا الشارع الحكيم عقد الإجارة، وبين لنا أنواع الإجارة وضوابطها، وما يلزم المؤجر والمستأجر؛ حتى تسير الحياة وتنتظم، ويرفع الظلم والضرر.(41/1)
ما يلزم المؤجر والمستأجر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلى المؤجر كل ما جرت به عادةٌ وعرفٌ، كزمام مركوب وشد، ورفع وحط، وعلى مكترٍ نحو محمل ومظلة، وتعزيل نحو بالوعة إن تسلمها فارغةً، وعلى مكرٍ تسليمها كذلك.
فصلٌ: وهي عقدٌ لازمٌ، فإن تحول مستأجرٌ في أثناء المدة بلا عذر فعليه كل الأجرة، وإن حوله مالكٌ فلا شيء له، وتنقضي بتلف معقود عليه، وموت مرتضع، وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه.
ولا يضمن أجيرٌ خاص ما جنت يده خطأً، ولا نحو حجام، وطبيب، وبيطار عرف حذقهم إن أذن فيه مكلفٌ أو ولي غيره ولم تجن أيديهم، ولا راعٍ ما لم يتعدَّ أو يفرط.
ويضمن مشتركٌ ما تلف بفعله لا من حرزه ولا أجرة له.
والخاص: من قدر نفعه بالزمن، والمشترك بالعمل.
وتجب الأجرة بالعقد ما لم تؤجل، ولا ضمان على مستأجر إلا بتعد أو تفريط، والقول قوله في نفيهما.
فصلٌ: وتجوز المسابقةُ على أقدام وسهام وسفن ومزاريق، وسائر حيوان لا بعوض، إلا على إبل، وخيل، وسهام.
وشرط تعيين مركوبين، واتحادهما، وتعيين رماة، وتحديد مسافة، وعلم عوض، وإباحته، وخروجٌ عن شبه قمار، والله أعلم] .
قد عرفنا شروط الإجارة، ومنها معرفة المنفعة كسكنى دار، وكون المنفعة مباحة، ومعرفة الأجرة.
وذكرنا أن الإجارة ضربان: إجارة عين، وعقدٌ على منفعة، وأن المنفعة: هي ما يتقبله الأجير في ذمته، كأن يلتزم خياطة ثوب، أو بناء حائط، أو طحن خبز، أو دبغ جلد، أو خرازة قربة، فهو عمل معين في الذمة يشترط تقديره أو تحديده بمدة، كبناء دار وخياطة، وشرط معرفة ذلك وضبطه، وشرط كون الأجير آدمياً جائز التصرف، وشرط كون العمل لا يختص صاحبه أن يكون من أهل القربة؛ لأن القربات يتقرب بها إلى الله، ولا يؤخذ عليها أجر.
وهنا نذكر ما يلزم المؤجر وما يلزم المستأجر، فالمؤجر إذا أجر دابةً، والتزم أن يسوقها -مثلاً: استأجره إنسان- فعليه ما جرت به العادة والعرف كزمام مركوب، وهو الحبل الذي يقاد به البعير، وشد: يعني رفع المتاع حتى يشده على ظهر البعير، وحط: إذا أنيخ البعير، فأجير المؤجر هو الذي يحط الرحل.
وأما المكتري فعليه المحمل والمظلة، كانوا إذا استأجروا بعيراً لركوب امرأةٌ فيه، عملوا لها محملاً ومظلة، وتسمى عمارية إذا كانت فوق البعير.
وتسمى هودجاً، تستتر فيه المرأة إذا ركبت على البعير، وقد يجعل على البعير هودجين عن يمينه وعن يساره، في كل واحد امرأة تدخل في وسطه ولا يراها أحد، وفي هذه الأزمنة المكري -المؤجر- مثل قائد السيارة، عليه وقودها، وعليه إصلاحها إذا خربت، وعليه قيادتها، وأما حط الرحل وشده وتنزيله فالعادة والعرف الآن أنه على صاحبه، وإذا كان العادة أنه يظلل السيارة، واحتيج إلى تظليل فإنه على حسب الشروط والعادات.
وإذا استأجره -مثلاً- لبناء حائط فالعادة أن اللبن، والطين، والإسمنت، والحديد، والأدوات الكهربائية تكون على صاحب المال -المؤجر-، وأما الأجير -الذي هو العامل- فعليه في العادة الأدوات التي يعمل بها، مثل: الأخشاب التي يصب عليها، ومثل الأدوات التي يرفع بها البلك إلى السطح، ومثل الخلاطة التي تخلط وتصب فوق السطح، فهذه على الأجير العامل، وهذا على حسب العرف والعادة.
وإذا استأجره لحفر؛ فإن الأدوات على الأجير -العامل-، فهو الذي يأتي بالحفار، ويأتي بالحبال وبالزنابيل التي يخرج بها التراب، وبالأدوات التي يحفر بها الأرض على حسب العادة.
وهكذا: إذا استأجره لخياطة فالماكنة على الخياط، وإذا استأجره لطحن فالماكنة التي تطحن على العامل، وهكذا قوله: (وتعزيل نحو بالوعة إن تسلمها فارغة) : عادةً أنهم إذا كان في الدار بالوعة -وهي ما يسمى الآن بالبيارة- فإن صاحب الدار يفرغها من الماء والأوساخ التي فيها ثم يسلمها، والأجير -أيضاً- إذا انتهى من الأجرة وأراد الرحيل فإنه يفرغها بأن ينزف ما فيها من الماء الذي حصل بسببه.
وكذلك أيضاً: الكنيف الذي عادةً أنهم يجعلونه محلاً لقضاء الحاجة، إذا تسلمه فارغاً فإنه يفرغه عند خروجه من الدار، وكذلك قمامة الدار إذا تسلمها وهي نظيفة، فلابد أنه يخرج ما فيها من القمامة.(41/2)
حكم الإجارة
ما حكم الإجارة؟ الإجارة عقدٌ لازم لا يجوز فسخه، لازم مثل عقد البيع، ولكن فيه خيار المجلس كما تقدم في البيع، فإذا تعاقد على أن يستأجر الدار بعشرة آلاف، واتفقا على ذلك، وسلمت الأجرة، ثم ندم أحدهما في المجلس فإنه يملك الفسخ، وله أن يقول: رد علي دراهمي، يمكن أن أحصل على أقل من هذا، أو يقول: خذ دراهمك ورد علي المفاتيح، يمكن أن أحصل على أجرة أحسن، أو أنا محتاج.
وهكذا خيار الشرط إذا اشترطاه يومين أو ثلاثة أيام، سواء اشترطه المؤجر أو المستأجر، ثم بدا لأحدهما فله أن يفسخ، ولكن إذا اشترطه مدة طويلة فلا يجوز إلا إذا كانت تنقضي قبل انقضاء مدة الإجارة، فلو كان البيت -مثلاً- فيه مستأجر، وتنقضي مدته بعد شهر، ثم استأجرته أنت، وقلت: لي الخيار هذا الشهر، وقال المالك: لي الخيار هذا الشهر، صح ذلك؛ فلكل منهما أن يفسخ في هذه المدة قبل أن يخرج المستأجر، وأما أن يكون البيت فارغاً، ويسلم مفاتحه، ويقول: لي الخيار شهراً فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه يضيع على المالك مدة شهر كامل يذهب عليه بدون أجرة، ولو استأجره -مثلاً- ثلاثة أشهر وقال: لي الخيار التسعة الأشهر الباقية أو عشرة أشهر إلا قليل، فله ذلك، وسبب ذلك: أنها لا تنقص من المدة التي استأجرها؛ لأنها تنقضي مدة الشرط قبل أن تبدأ مدة الإجارة، فعرف بذلك أن الإجارة عقدٌ لازم، متى حصل الافتراق، ولم يكن هناك شرط؛ لم يتمكن أحدهما أن يفسخ، إلا إذا أذن له الآخر وأقاله.
فلو -مثلاً- سكنه المستأجر شهراً، ثم انتقل وتركه وكانت الإجارة سنة، لزمته أجرة الباقي أحد عشر شهراً، وإن لم يسكن فيها، ويطالبه المالك ويقول: العقد قد انتهى بيني وبينك، وهو سنةٌ بعشرة آلاف، فأعطني العشرة الآلاف، واصنع بالبيت ما تصنع، اسكنه أو اتركه مغلقاً أو أجّره أو أسكن فيه من تريد؛ فالبيت ملكك في هذه السنة.
وإن تغاضى صاحب الدار وأقاله، ورد عليه أجرة الباقي، فهو أفضل.
أما لو استأجره -مثلاً- بعشرة آلاف، ثم سكنه أحد عشر شهراً، ثم إن المالك استكرهه وأخرجه كرهاً، فإنه يطالبه بالأجرة كاملة، ولو ما بقي له إلا شهر، فيطالبه بالأجرة كاملة، ولا يستحق عليه شيئاً.
وإذا خرّجه المالك قبل تمام المدة فلا شيء للمالك ولو لم يبقَ إلا أقل المدة، وما ذاك إلا أنه ملك البيت هذه السنة؛ فليس له أن يخرجه قبل تمامها، ويقال كذلك في سائر الأعيان التي تؤجر، كخيمة -مثلاً- استأجرها شهراً، ولما بقي خمسة أيام جاء صاحبها وقلعها، فللمستأجر المطالبة بالأجرة كلها، ولا يقول: أعطني أجرة خمسة الأيام، بل له الأجرة كاملة؛ لأنه يضطر إلى أن يستأجر أخرى بقية هذه المدة.
وكذلك: لو استأجر -مثلاً- قدراً ليطبخ فيه مدة يوم، وفي نفس اليوم جاء صاحبه وانتزعه؛ فلا يستحق أجرة، وإذا استأجره يوماً واكتفى منه بثلاث ساعات ورده؛ فلصاحب القدر أن يطالب بالأجرة كاملة.(41/3)
ما يفسخ عقد الإجارة
قال المصنف رحمه الله: (وتنفسخ بتلف معقود عليه) : إذا استأجر البعير ليحمل عليه، أو ليسني عليه، وكانت المدة شهراً، فمات البعير في نصف الشهر، انفسخت الإجارة في الباقي، وكذا: لو استأجر أرضاً فيها بئرٌ، ثم إن البئر نشف ماؤها، ولم يبقَ فيها ماء؛ انفسخت الإجارة في الباقي؛ لأن المستأجر يتضرر، ويموت شجره، ففي هذه الحال يعطيه نصف الأجرة إذا كانت نصف المدة قد مضت.
وكذلك: إذا استأجروا ظئراً -مرضعةً- ترضع طفلاً لمدة سنتين، وبعد سنة أو بعد أشهر مات الرضيع، انفسخت الإجارة في الباقي؛ لأنها استأجرت للإرضاع، ولم يبقَ هناك رضيع.
وكذلك أيضاً: اقتلاع ضرس، فإذا اتفق مع الطبيب بأجرة -مثلاً- مائة، على أن يقلع هذا الضرس، ثم إن صاحبه -مثلاً- قلعه بيده، فلا أجرة له والحال هذه؛ وذلك لأنه ما بقي عملٌ يعمله الطبيب.
وكذلك: لو أحس ببرئه -برئ الضرس- وقال: لا حاجة لي إلى قلعه فقد برئ، وأشباه ذلك إذا لم يبقَ حاجةٌ إلى تلك العين المؤجرة.
وفي كل حال: لو مات أحد الأجيرين فإنها لا تنفسخ، فلو استأجر الدار وتمت الأجرة، وقبل أن يسكنها مات المستأجر، فورثته يقومون مقامه، فيؤجرونها أو يسكنونها، ولو مات المؤجر الذي هو المالك، وقال الورثة: نحن بحاجة إلى بيتنا، لم يملكوا ذلك، ويملك المستأجر أخذها ولو مات المالك, ولو امتنع الورثة، فلا تنفسخ بموت أحدهما.(41/4)
الفرق بين الأجير العام والخاص
بعد ذلك ذكر المصنف أن الأجير ينقسم إلى قسمين: أجيرٌ خاص، وأجير مشترك.
والفرق بينهما: أن الأجير الخاص: هو الذي تملك منفعته اليوم كله، أو الشهر كله، أو السنة كلها، ولا يعمل عند غيرك، وقد استأجرته لعمل، ويعم ذلك كل الأعمال التي يستأجر لها العمال، فإذا استأجرته شهراً لبناء في بيتك فإنه يعمل عندك هذا الشهر، ولا يعمل عند غيرك، إلا إذا عمل في وقت الراحة، فمثلاً إذا اتفقتما على أن يعمل عندك كل يوم عشر ساعات، وتريحه أربع عشرة ساعة؛ فله أن يعمل فيها لنفسه أو لغيره.
وهكذا: إذا استأجرته خياطاً، وأنت الذي أثثت المكان، واشتريت مكائن الخياطة على أن يعمل فيها -مثلاً- في النهار سبع ساعات، وفي الليل خمس ساعات، فإنه يعتبر أجيراً خاصاً يعمل عندك بالأجرة، والأجرة التي يأخذها من أصحاب الثياب لك، وأنت تعطيه مرتباً حتى ولو لم يأتِه أحد، ولو بقي يوماً أو أياماً ليس لديه عمل فراتبه ماضٍ.
وهكذا: إذا استأجرته راعياً لغنمك أو إبلك، فهو أجيرٌ خاص، أو استأجرته عاملاً في حرثك، يسقي الحرث -مثلاً- ويحرث الأرض ويلقح ويصرم ويجز ويحصد، ويجري الماء ولا يعمل إلا عندك؛ فإنه أجيرٌ خاص.
وهكذا: بقية الأعمال اليدوية ونحوها، فإذا استأجرت دكاناً للحلاقة -حلاقة الرءوس مثلاً- واستأجرته ليحلق، فالأجرة لك وله راتبه، أو كذلك مغسلة سيارات، أو مغسلة ثياب، فإنه يعمل عنك بالشهر، ويكون أجيراً خاصاً، أو في ورشة إصلاح السيارات، فأنت الذي استأجرت الورشة، وأنت الذي عندك الأدوات، وهو يعمل بيده ويصلح السيارات، وما يدفع أصحاب السيارات فهو لك، وله مرتبه، ويعتبر أجيراً خاصاً، وهكذا: بقية الأعمال اليدوية التي يمكن أن يستأجرها إنسان.(41/5)
الأجير الخاص لا يضمن ما جنت يده
قال المصنف رحمه الله: (ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأً) : مثلاً: لو أخطأ في تفصيل الثوب فلا يضمن، إذا كان -مثلاً- يخيط لك ثياباً تختص بك أنت، أو أخطأ في سقي الأشجار فمات بعضها؛ فلا يضمن ما تلف بيده.
وهكذا -مثلاً-: إذا كان يصلح الساعات التي هي لك أنت، وأخطأ وخربت واحدة؛ فإنك لا تضمِّنه، وهكذا بقية الأعمال، فلو أحرق الثوب الذي يكويه وهو لك، لم يضمن ما جنت يده خطأً.
وكذلك الحجام الذي عُرف حذقه وإحسانه للحجامة لا يضمن، فلو أنه -مثلاً- لما حجم إنساناً سمم الجرح ومات ذلك المحجوم، فلا يضمن الحجام؛ لأنه معروف ومشهود له بالذكاء وبالحذق.
وكذلك الطبيب المشهود له بالطب والحذق، فإذا طبب إنساناً ومات، أو عاب أحد أعضائه، أو عالج العين -مثلاً- فعميت، أو عالج الأذن فصمت، أو عالج يداً فشلت، أو عالج لساناً فشل، أو ضرساً فانقلعت الأضراس، أو ما أشبه ذلك؛ فلا ضمان عليه إذا عرف حذقه، وأما إذا كان غير حاذق، فإنه يضمن، وقد ورد في ذلك حديث: (من تطبب ولم يعرف بطبٍ فهو ضامن) أي: إذا كان ليس أهلاً للتطبب -أي: ليس أهلاً للعلاج-، وليس معه مؤهلات العلاج، وعالج عيناً أو صدراً أو ظهراً أو يداً أو قدماً؛ فحصل شلل أو حصل فقد حاسةٍ كبصر أو كلام أو شم، أو فقد عضواً كعين أو أصبع، فإنه يضمن.
قوله: (وبيطار) أي: وكذلك: البيطار: وهو الطبيب الذي يعالج الدواب، فهناك من يتخصصون في علاج البقر أو الإبل أو الخيل، ومنهم من يكون حاذقاً مجرباً عارفاً، وقد يحصل أن الشاة التي عالجها تموت -مثلاً- أو أن الفرس تتعيب بسبب علاجه، فلا يضمن إذا كان حاذقاً معروفاً، بشرط أن يأذن له في العلاج الولي أو إنسان مكلف، فلو أن البيطار تطبب في طفل -ولو كان حاذقاً- ولم يأذن وليه، فإنه يضمن؛ وذلك لأنه لا يحق له أن يعالج بغير إذن الولي.
أما إذا كان المريض مكلفاً حراً، بالغاً رشيداً، وطلب من الطبيب أن يعالجه، فإنه يعتبر علاجه مأذوناً فيه، فلا يضمن الطبيب.
وهكذا كل من يعمل عملاً مأذوناً فيه، -فمثلاً- الختّان لو عرف بحذقه، وقطع بعض الذكر خطأ؛ فلا يضمن إذا كان حاذقاً.
والحلاق إذا جرح الرأس، وحصل تسممٌ في تلك الجروح أو حصل الموت؛ فإنه لا يضمن إذا كان معروفاً بإحسان الصنعة.
وكذلك: لو خرج في الإنسان -مثلاً- خراج -وهي القروح والبثور التي تكون في البدن- ثم تطبب طبيب وشق الجلد ليشق تلك الخروق، فتسمم الجرح؛ فإنه لا يضمن إذا كان من أهل الحذق.
ثم اشترط المصنف أيضاً شرطاً فقال: (ولم تجن أيديهم) أي: أما إذا جنت اليد -يعني: تعدت- فإنه يضمن، فمثلاً: الحجام معروف أنه بحجامته يجرح جروحاً يسيرة، ولكن لو أنه بالغ في الجرح، فشق الجلد إلى أن وصل -مثلاً- إلى العظم، فهذه جناية مضمونة، وكذلك الطبيب والبيطار لو قدر -مثلاً- أنه عمل جناية فيها شيء من التعدي فإنه يضمن.
يقول: (ولا راعٍ ما لم يتعدَ أو يفرط) الراعي: راعي الغنم أو البقر أو الإبل أجير خاص يعمل بالأجرة، فلا يضمن، فلو عدى الذئب -مثلاً- وافترس شاةً فلا يضمن.
وكذلك: لو جاء إليه لصوص وغصبوه فأخذوا من الدواب شيئاً، ولم يقدر على مقاومتهم؛ فإنه لا يضمن، أما إذا تعدى أو فرّط فإنه يضمن.
وقد عرفنا أن التعدي هو: الاستعمال، وأن التفريط هو: الإهمال، فإذا تعدى بأن ربط شاةً ليحلبها فجاء السبع ولم تستطع الهرب، فإنه يضمن؛ لأنه قيدها.
وكذلك: لو حمل على البعير أكثر مما يطيق فعقر فإنه يضمن، وهكذا: لو فرط بأن نام وضاعت الدواب، أو غفل وتركها تذهب فضاعت أو افترست فإنه يضمن؛ لأن هذا تفريط.(41/6)
الأجير العام يضمن ما جنت يده
الأجير المشترك: هو الذي يعمل لأكثر من واحد، فهذا يشترك الناس في منفعته، مثل: الخياطين، فالخياط: يأتيه هذا بثوبه، وهذا بسراويل، وهذا بقلنسوة، وهذا بفنيلة، وهذا بكوت، فيعمل لعدد، وأجرة الثوب بكذا، وأجرة السراويل بكذا، وأجرة القلنسوة بكذا.
ومثله أيضاً: الغسال: يأتيه هذا بثيابه ليغسلها، وهذا بعمائمه، وهذا بسراويله، وهذا وهذا فيشترك في نفعه أكثر من واحد.
ومثله: كل من يعملون بالأجرة كالدباغين والخرازين، فيأتي هذا بجلده ليخرزه دبةً، وهذا ليخرزه سقاءً، وهذا ليخرزه جراباً، وكذلك الحذَّاء الذي يعمل الأحذية، يأتيه هذا بجلد فيقول: اعمل لي حذاء، وهذا وهذا وكذلك: الخبازون: يأتيه هذا -مثلاً- بعجينه ليخبزه، وهذا بعجينه ليخبزه، وهكذا وكذلك الطحانون: يأتيه هذا بحنطته، وهذا بكيسه، ويسمى هؤلاء مشتركين، فالأجير المشترك هو الذي يشترك في منفعته أكثر من واحد، والأجير المشترك يضمن ما تلف بفعله، فلو أنه مزق الثوب لما فصله، أخذ يشقه بالمقراض من هنا ومن هنا، فأصبح غير صالح؛ فإنه يضمن.
وكذلك: لو أحرق الخبز، أهمله -مثلاً- وأحرقه، ولم يعد يصلح للأكل؛ فإنه يضمن، وهكذا الجزارون، والطباخون، إذا طبخ -مثلاً- وأضاعه، فإنه يضمن.
وكثيراً ما نسمع: أن إنساناً يأتيه بخروف فيقول: اذبحه واطبخه، ثم يأتيه آخر، فيعطيه خروفك خطأً، ويضيع عليك طعامك، أو يخطئ فيعطي لهذا ذبيحة هذا، وذبيحة هذا للآخر؛ فإنه يضمن والحال هذه، وهكذا لو طبخه، ولكنه أخطأ في طبخه إما بأن تركه نيئاً، وإما بأن أحرقه، وبقي غير مستساغ؛ فيضمن والحال هذه، ويسمى هذا: أجيراً مشتركاً.
وكذلك أصحاب الورش: إذا استأجره ليصلح سيارته، ولكنه خربها؛ بأن ركب فيها ما ليس بصالحٍ أو استعملها للنظر؛ فتلف منها شيء من الأدوات بفعله، فإنه يضمن، وهكذا: بقية العمال الذين يعملون بالأجرة في أماكنهم.
فالحاصل: أن هذا يسمى أجيراً مشتركاً، فما تلف بفعله فإنه يضمنه، وإذا أفسد -مثلاً- الجلد الذي يدبغه أو الذي يخرزه فإنه يضمنه، أما ما تلف من حرزه فإنه لا يضمنه، فلو احترق دكان الخياط فإننا لا نضمِّنه جميع ما احترق؛ لأنه ما فرط، أو جاءه لصوص وسرقوا ما فيه، فإنه لا يضمن.
مثلاً: احترقت الورشة وفيها سيارات، فأصحابها لا يضمنون، ولكن هل يعطون الأجرة؟ لا أجرة لهم؛ لأنهم لا يستحقون الأجرة إلا إذا سلَّم العين التي استؤجر لأجلها، وهاهنا ما سلم الثوب -مثلاً- بل احترق أو سرق قبل أن يغسله أو قبل أن يخيطه، أو احترق المخبز كله، واحترقت ماكنة الطحان؛ فلا يضمن، ولكن لا يستحق أجرة.
وقد عرفوا الأجير الخاص بأنه: من قدر نفعه بالزمن، والمشترك: من قدر نفعه بالعمل، فمن قدر نفعه بالزمن فإنه أجير خاص، كأن يقول المستأجر: لك في الشهر ألف، فهذا يسمى أجيراً خاصاً.
وأما المشترك فيقدر نفعه بالعمل: يعني: كل ما خطت الثوب فلك كذا، وكلما غسلته فلك كذا، وكل سيارة تصلحها فلك كذا، أو هذه السيارة إصلاحها أو غسيلها بعشرة أو مائة، فيقدر نفعه بالعمل.
ومثله أيضاً: من يعمل عملاً بدون تحديد مدة، فإذا قلت مثلاً: لك على هذا الحائط مائة، سواء عَمَرَهُ في يوم أو في شهر، فإن هذا مقدر نفعه بالعمل.(41/7)
أجرة الأجير تجب بالعقد ما لم تؤجل
قال المصنف رحمه الله: (وتجب الأجرة بالعقد ما لم تؤجل) أي: أجرة العامل يستحقها بالعقد، هذا هو الأصل، فإذا تعاقد اثنان على حفر هذه البئر، أو على بناء هذا الجدار، أو على خياطة هذا الثوب، أو إصلاح هذه السيارة، أو على سكنى هذه الدار، فإن هذا العقد يستحق به الأجرة من حين يتم العقد، وتجب الأجرة بالعقد ما لم تؤجل أو تقدر، فالمسلمون على شروطهم.
وفي هذه الأزمنة في هذه البلاد العادة أنه إذا استأجر داراً دفع نصف الأجرة مقدماً، والنصف الثاني بعد نصف سنة، يعني: في مبدأ النصف الثاني يسلم نصف الأجرة المتبقية، وأصبح هذا عرفاً، وفي بعض البلاد يدفع أجرة السنة كلها مقدماً قبل أن يستلم الدار، وهذا هو الأقرب: أنه يملك المالك الأجرة بنفس العقد، وإن اتفقا على أن يؤجره، ويعطيه كل شهر قسطاً جاز ذلك، وإن منعه وقال: لا أعطيك حتى تنتهي من العمل مخافة التهاون والتأخير فله ذلك، فيقول للأجير المشترك: تخيط هذا الثوب في يومين، فقال: أعطني الأجرة، فقال: أخشى إذا أعطيتك أن تتساهل ويبقى عندك الثوب أسبوعاً أو عشرة أيام، فأمسكها عندي حتى تنتهي منه بسرعة، أو نجارة هذا الباب، أو إصلاح هذا الباب من حديد، أو هذه النافذة -مثلاً- في أربعة أيام، فإذا منعه من الأجرة حتى ينهي العمل، وقال له: لا أسلمك الأجرة مخافة التساهل فله ذلك.
والحاصل: أن الأجرة تملك في الأصل بالعقد ما لم تؤجل، وإن كان مقدراً بالعمل فإنها تكون عند نهاية العمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ؛ وذلك لأنه عرق جبينه؛ ولأنه عمل يديه، فلا يجوز تأخير أجرته عنه، ونسمع أن كثيراً من أهل المؤسسات ونحوهم يؤخرون أجرة العمال، فيستأجر بعضهم كل عامل بستمائة أو ثمانمائة ليعملون له، ثم يمضي عليهم شهران وثلاثة أشهر أو خمسة أشهر وربما أكثر وهو لا يعطيهم أجرتهم، وربما يعطيهم كل شهر -مثلاً- خمسين ريالاً، ويقول: لحاجاتكم الضرورية، وإذا قيل له: لماذا لا تعطيهم؟ يقول: أخشى أن يهربوا، إنهم جاءوا على كفالتي وتحت مسئوليتي، وقد يجدون من يغريهم، ويقول: أنا أعطيكم في الشهر ألف ريال أو أكثر، فيأخذهم علي، ويعملون عنده بدون رخصة، فأنا أحبس الأجرة، فهل هذا يجوز؟!
الجواب
هذا حرامٌ عليك، فأنت تعرف أنهم فقراء، وما جاءوا إلا لفقرهم وحاجتهم، وقد يكون وراءهم أرامل وعوائل وذريات بحاجةٍ إلى من ينفق عليهم، وقد يكونون أيضاً: مدينين، فبعضهم يستدين حتى يأتي إلى هذه البلاد، وربما يستدين ألفاً أو خمسة آلاف حتى يعطيها لصاحب المكتب، فحرامٌ عليكم أن تؤخروا أجرتهم وأنتم تعلمون حاجتهم، وإذا هربوا فإنهم لا يقدرون على العمل، فجوازاتهم عندكم قد أمسكتموها، لا يقدرون على الهرب ولا على السفر إلا بها، وقد منعت الحكومة أن يعمل أحد عند غير كفيله، ومن عثر عليه وهو يعمل عند غير كفيله فإنه يستحق الجزاء، فلذلك أنت آمن من أن يهربوا، وأنت ظالم لتأخير أجرتهم عنهم، بل أعطهم أجرتهم شهرياً كما هو الاتفاق بينك وبينهم.(41/8)
لا ضمان على مستئجر إلا بتعدٍ أو تفريط
قال المصنف رحمه الله: (ولا ضمان على مستئجر إلا بتعد أو تفريط، والقول قوله في نفيهما) : العين المستأجرة أمانة عند المستئجر، فإذا تلفت فإنه لا يضمنها، فإذا استأجر ثوباً ليلبسه فتلف فلا يضمنه، أو حذاءً ليلبسه، أو قدراً ليطبخ فيه، أو مسحاةً ليحفر بها، أو سكيناً ليقطع بها، أو فأساً ليقطع بها شجراً، أو موساً ليحلق به، فكل هذا أمانةٌ في يديه، فإذا تلف فلا ضمان عليه إلا بتعدٍ أو تفريط.
والتعدي هو: الاستعمال، والتفريط هو: الإهمال، فإذا استعمل -مثلاً- السكين في غير ما استعملت له، فأخذ يقطع بها خشباً أو يقطع بها حجارة فإنه يضمن، وكذلك الفأس إذا استأجره ليقطع به الشجر، ولكنه أخذ يقطع به حجارة، فتكسر فإنه يضمن؛ لأن هذا تعدٍ، وكذلك الإهمال: إذا أهمل الفأس أو المسحاة -مثلاً- في الطريق؛ فسرقت، فإنه يضمن.
(والقول قوله في نفيهما) فيحلف أنني ما فرطت وأنني لم أتعدَ.
وهنا نهاية باب الإجارة، والفصل الذي بعده، يقال له: باب السبق أو السباق.(41/9)
باب المسابقة
لماذا جعلت المسابقة مع المعاملات؟ بعض العلماء يجعلها مع الجهاد؛ لأنها تدرب على الجهاد، ولكن لما كان بعضها فيه عوض؛ جعلت هاهنا ليعلم متى يحل العوض ومتى لا يحل.
والسَبْقُ: هو المسابقة، والسَبَقُ: هو العوض أي: الجائزة التي تدفع للسابق، وتسمى: سَبَقْاً، والمسابقة: تجوز على الأقدام، فيتسابق اثنان على قدميهما ليعلم من هو السابق منهما.(41/10)
مشروعية المسابقة
ورد في حديثٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما ركبني اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك) ، وكان ذلك في غزوة من الغزوات، وفي ليلة من الليالي، وكانوا منفردين في مكان بعيد عن الجيش، فأخذ يتدرب، وهذا يدل على حسن العشرة مع الزوجة، وأنه جاراها هذه المجاراة بالمسابقة على الأقدام في العدو.
وكذلك أيضاً: المصارعة؛ فكون أحدهما يجاهد نفسه أن يصرع الآخر فيه أيضاً: تدرب على النشاط والقوة، وفي بعض الأحاديث: أنه عليه الصلاة والسلام صارع رجلاً يقال له: ركانة، فالمصارعة فيها اختبار القوة والنشاط، كما أن المسابقة فيها التدرب على سرعة الجري على الأقدام.
وكذلك أيضاً: المسابقة على السفن البحرية، فقد تكون إحداهما أقوى جرياً من الأخرى، فيتجارى اثنتان، وينظر أيهما أسبق، وكانت السفن قديماً تجري بالرياح، وإذا سكنت الرياح سكنت في البحر كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] ، وأما في هذه الأزمنة فالمراكب البحرية فيها مكائن تدفعها فتندفع بها في لجة البحر، وقد يكون بعضها أقوى من بعض، وأسرع سيراً، فيجوز السباق على السفن والمراكب البحرية والمزاريق، والمزراق زورق يكون في البحر، وهو مركب صغير، يركب فيه أربعة أو خمسة، ثم يجعلون له مثل الخرقة تدفعها الريح، فالزورق من المراكب البحرية.
وكذلك أيضاً: السباق على الحيوانات: فيصح السباق على الإبل والخيل والبغال والحمر، وهي جميعها تركب ويتسابق عليها، والحكمة من ذلك تدريبها على سرعة السير.
ولا يجوز السباق بعوض إلا في ثلاثة: الإبل والخيل والسهام، وفي حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة والخيل التي لم تضمر، وكان ابن عمر فيمن سابق) ، فقد كانوا يضمرون الخيل.
يعني: يطعمونها طعاماً كاملاً نحو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى تسمن وتقوى، ثم يقطعون العلف عنها ثلاثة أيام حتى يخف ما في بطنها، ثم يطعمونها شيئاً يدفع عنها الجوع، فتصير خفيفةً وقويةً، وإذا انطلقت فقد تجري نحو اثني عشر ميلاً، والميل: قريب كيلوين إلا ربع، والخيل التي لم تضمر لا تجري إلا نحو ثلاثة كيلو أو أقل ثم تقف.
والحاصل: أنه سابق بين الخيل، فدل على صحة السباق، والحكمة من ذلك: تدريبها على السير؛ وذلك لأنه يقاتل عليها، فإذا كانت قد تدربت فإن صاحبها الذي ركبها يجريها حتى تصل إلى ما يريد أن تجري فيه حتى تلحق الأعداء، وحتى تدرك الأعداء الهاربين، ففي ذلك تدريب لها.
وكذلك الإبل يسابق عليها، ويجوز العوض لمن سبق، فمن سبق على بعيره فله هذا العوض الذي هو مائة أو ألف أو جوهرة أو كذا وكذا.
وكذلك السهام، فالسهام هي الرمي، ومعلوم أن تعلم الرمي سنة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) ، فيسن تعلم الرمي، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فقال: (ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) .
يعني: من جملة القوة تعلم الرمي، وكان الرمي قديماً بالسهام، والسهم ينحت من عود سَلَم، أو سَمُر، ويجعلون له رأساً محدداً، ثم يجعل في القوس، ويرمى به فيذهب نحو مائتي ذراع أو ثلاثمائة على الأكثر، ويرمي الرمية فينفذ فيها، فيتدرب على الرمي، ومثله أيضاً: الأسلحة الجديدة.(41/11)
شروط المسابقة
ذكروا في المسابقة شروطاً: الشرط الأول: تعيين المركوبين، بأن يقول: يكون السباق على هذه الفرس وهذه الفرس، فرسك الفلانية وفرسي الفلانية.
الشرط الثاني: اتحادهما؛ وذلك لأن الخيل تنقسم إلى أقسام: الخيل العربية: وهو الذي أبوه وأمه من الخيل العربية، وما يسمى (بالبراذين) وهو الذي أحد أبويه ليس بعربي، فلابد أن يكونا عربيين أو من غيرهما، فلابد من اتحادهما.
الشرط الثالث: تحديد المسافة: أن يكون بدء السباق من هذا المكان، ونهايته إلى ذلك المكان.
الشرط الرابع: العلم بالعوض: أن يعين العوض: وهو أن يقول: من سبق فله -مثلاً- مائة أو ألف الشرط الخامس: لابد أن يكون العوض مباحاً، فلا يقول: من سبق فله زق خمر -مثلاً- أو شيء مغصوب أو نحو ذلك الشرط السادس: ألا يكون شبيهاً بالقمار، والقمار هو الميسر، وهو أن يكون هناك شبه لعب، ويكون من قمر أخاه أخذ منه مالاً بغير حق، فاللعب بالبلوت وبالأوراق أو ما أشبه ذلك العوض الذي يؤخذ عليه حرام ملحق بالميسر.
الشرط السابع: تعيين الرماة: الرمي يكون من فلان وفلان، ولابد من تعيين الأقواس التي يرمى بها، أو السلاح الذي يرمى به -السلاح الجديد-، فكل ذلك مما يشترط في المسابقة.(41/12)
الأسئلة(41/13)
حكم أخذ العوض في المسابقات واللعب
السؤال
هذا سائل يقول: ما حكم: لو اتفق فريقان أو قسمان: بأن من فاز في هذه اللعبة أو في هذه المسابقة فإنه يأخذ من المهزوم مبلغاً من المال يحدده الجميع؟
الجواب
الأصل أنه لا يصح العوض إلا في المسابقة على الخيل أو الإبل أو الرمي، لكن رخص بعض المشايخ في المسابقات الهادفة مثل في العلوم الشرعية، فيقال مثلاً: من أجاب على هذه الأسئلة فله كذا، أو من كتب في هذه المسألة -مثلاً- ورقتين أو ثلاث ورقات فله كذا، ويكون في ذلك حث للكتَّاب على البحث في الكتب، وعلى القراءة، ومعرفة المراجع، وما أشبه ذلك، ففي ذلك فائدة، وإذا كان العوض إما من متبرع وإما من بيت المال فلا مانع، وأما إذا كان العوض من أحدهما فإن أكثر العلماء ألحقوه بالقمار.(41/14)
ما يعرف به حذق الطبيب
السؤال
ما هو ضابط معرفة حذق الطبيب، وقد كثر الأطباء في المستشفيات، وبعض الأطباء يفتك ببعض أعضاء المرضى، فهل في ذلك ضابط، حفظكم الله؟
الجواب
يعرف من الشهرة، وفي هذه الأزمنة يعرف من المؤهل، وبالخدمة، وأن معه شهادات على أنه قد درس هذا الطب في مدرسة كذا وكذا، لمدة عشر سنين أو سبع أو نحو ذلك، وكذلك أيضاً: أنه قد عمل في المستشفيات مدة كذا وكذا، وأنه معروف بالحذق، ويعرف ذلك بالتجربة.(41/15)
الاشتراط على المدرس ألا يدرس دروساً خاصة
السؤال
بالنسبة للمدارس الأهلية، بعضهم يشترط في العقد: ألا يعطي المدرس دروساً خصوصية للطلاب من المدارس أو غيرها، فهل هذا الشرط صحيح، ولو خالف المدرس في ذلك، فهل يعتبر المال الذي يحصل عليه من الدروس الخصوصية حرام أم لا؟
الجواب
نعم يعتبر شرطاً صحيحاً، والسبب في ذلك نظر الوزارة إلى أن كثيراً من المدرسين -وبالأخص المتعاقدين- لا يخلصون في التدريس في الفصول، ولا ينصحون للطلاب، فيبقى الطالب ملتبسة عليه بعض المسائل، ولا يعرف كيف يعرفها، فيحتاج إلى أن يستأجر هذا المدرس ليعلمه في بيته دروساً خصوصية، فيكتسب المدرس من الطلاب في الدروس الخصوصية زيادة على مرتبه من المدرسة، فيحصل من ذلك خلل وتقصير من المدرسين، فمنعت -والحال هذه- الوزارة أن يتولى أحد المدرسين الدروس الخصوصية.
ومثل ذلك أيضاً: الأطباء، فقد منع الطبيب الذي يعمل في المستشفيات الحكومية أن يفتح له عيادة خاصة، لماذا؟ مخافة ألا ينصح للمراجعين؛ ليحملهم على مراجعته في عيادته، فيكتسب من هنا ومن هنا، فمن خالف -والحال هذه- فإنه يتعبر مخطئاً، وما أخذه حرام.(41/16)
المتسبب المباشر ضامن
السؤال
السائق أجير خاص؛ فهل يضمن لو صدم بالسيارة؟ وهل يغرم السيارة الثانية، أم على كفيله ذلك؛ لأن كثيراً من الناس يخصم قيمة ما فسد من السيارتين من راتب السائق؟
الجواب
لا شك أنه إذا كان متسبباً فإنه يضمن، فإذا كان غير حاذق في القيادة، أو تهور أو خاطر أو عمل ما يسمى (مجاكرة) أو (تفحيط) مما يسبب الاصطدام أو الانقلاب، فإنه -والحال هذه- يضمن، وإذا كان الخطأ مشتركاً فإنه يقسم بين السائقين.(41/17)
حكم اشتراط عدم الضمان في حال التلف
السؤال
بعض مغاسل الثياب تشترط ألا تضمن الثوب في حال تلفه أو فقده إلا نصف قيمته أو نحوها، فهل يصح هذا الشرط؟
الجواب
هذا شرط يخالف الشرع، نقول: إذا أفسد الثوب غسال أو خياط بعمله فإنه يضمنه، وأما إذا سرق من دكانه فإنه لا يضمنه، ولكن لا أجرة له.(41/18)
حكم احتباس شيء من الأجرة مقابل الإخلال في العمل
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: لو أني استأجرت عاملاً لكي ينظف منزلي -مثلاً-، على أن يتقن النظافة، ولكنه لم يتقن النظافة، فهل يجوز لي أن أمسك شيئاً من الأجرة مقابل عدم إتقانه أو لا أعطيه الأجرة أصلاً؛ لأنه لم يلتزم بالشرط؟
الجواب
لا شك أن العمل يوصف قبل البدء فيه، فيبين له أن عملك كذا وكذا، ومن النظافة تغسيل كذا أو حمل كذا أو تنزيل كذا وكذا، فإذا كان بينهما شروط ولم يوفِ بها فلا أجرة له حتى يوفي ذلك العمل.(41/19)
الإيجار تملك للمدة المعينة
السؤال
أحسن الله إليكم، يقول: استأجرت منزلاً لمدة سنة، ثم أردت الخروج من المنزل بعد ستة أشهر، فأردت أن أؤجر المنزل في الستة الأشهر الباقية، فهل يحق لصاحب المنزل أن يمنعني مع العلم أنه لم يكن هناك اتفاق مسبق على هذا الأمر؟
الجواب
ليس له أن يمنعك، وعليك أن تعطيه أجرة بقية السنة، وتملك المنزل بقية سنتك، سواء أجرته أو أغلقته أو سكنته أو أسكنت فيه أحد أهلك.(41/20)
قياس السيارات على الإبل والخيل
السؤال
هل يقاس على الإبل والخيل السيارات كما قيست الأسلحة الجديدة على السهام؟
الجواب
الظاهر أنها لا تقاس، وسبب ذلك أنها ليس عادة مما يتدرب عليها في القتال، وقد يكون في الإسراع بها شيء من المخاطرة يؤدي إلى حوادث، فنرى أنها ليست مثل الإبل والخيل.(41/21)
حكم مسابقات الحيوانات
السؤال
ما حكم السباقات التي تجرى بين الحيوانات: كصراع الديكة وسباق الحمام؟
الجواب
هذه لا تجوز، ولا يجوز أن يؤخذ فيها عوض، وقد ورد أيضاً النهي عن اللعب بالحمام في بعض الأحاديث، وهو (أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة) ، فلا يجوز اللعب بها، ولا أخذ العوض على لعبها، وكذا ما أشبه ذلك.(41/22)
حكم لعب البلوت بغير عوض
السؤال
إذا كان لعب الورق والبلوت ليس على عوض، ولا يكون فيه تضييع للواجبات أو وقوع في محرمات، فما حكمه، مع العلم أن هذا يقع كثيراً، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ننصح بترك ذلك؛ لأنه من اللهو، وهو داخل في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] ، ولا شك أن لهو الحديث: كل شيء يشغل عن الخير، ولا شك أن هذا اللعب بالبلوت وما أشبهه يشغل عن قراءة القرآن وعن تحفظه، وعن تعلم العلم النافع، وعن ذكر الله تعالى، أو عن الاشتغال بالتجارة النافعة أو الأعمال المفيدة، أو عن التدرب على الأعمال المفيدة من تعلم صنعة مفيدة أو ما أشبه ذلك.
فنرى أن الانشغال بمثل هذا من لهو الحديث؛ فلا يجوز ولو كان اللاعبون يحافظون على الصلاة ولا تفوتهم، وإذا كان عندهم فراغ، فنقول: اشغلوا فراغكم بالعلم النافع والعمل الصالح.(41/23)
مخالفة الشرط تفسخ عقد الإجارة
السؤال
أجرت منزلاً، واشترطت عليه ألا يضع دشاً في البيت، فوافق على الشرط، وبعد مدة أخل بالشرط، فهل لي فسخ العقد، وهل له أن يطالبني بما دفع من النقود؟
الجواب
نعم، لك فسخ العقد؛ لأن المسلمين على شروطهم، وأما ما مضى من المدة فإنك تستحقه، وترد عليه بقية أجرة المدة التي لم يسكن فيها.(41/24)
حكم حبس شيء من راتب العامل لتذكرة سفره
السؤال
ما حكم قبض شيء من راتب العامل بقدر التذكرة؛ لأن بعض العمال بعد أن يأتي من بلده للعمل، قد يعمل ستة أشهر -مثلاً- ثم يرفض العمل، ويقول: أريد أن أسافر، ولا يوجد عنده قيمة التذكرة؛ لأنه أرسل جميع مرتباته إلى أهله في الخارج، فما الحكم لو أمسكت عليه قيمة التذكرة حتى إذا رفض العمل اشتريت له تذكرة من مرتبه ليسافر؟
الجواب
لا بأس بذلك إذا كان هذا شيئاً معروفاً عندهم، فيحسب عليه قيمة التذكرة، ويحفظها ويقول: عندي لك كذا وكذا -ألف، ألفان، ثلاثة آلاف- تكفي لتذكرتك، فإذا طلبت الرجوع قبل أن تنتهي مدتك اشتريت تذكرة بها، وإن أتممت المدة أعطيتك أجرتك وتذكرتك علينا.(41/25)
الأجير العام والأجير الخاص
السؤال
هل يجتمع وقت الأجير الخاص والأجير المشترك في محل واحد، بأن يكون في محل خياطة -مثلاً- فيعتبر الخياط أجيراً خاصاً لصاحب المحل، وعاماً لسائر الناس؟
الجواب
يعتبر الأجير الذي يعمل لك في المحل أجيراً خاصاً، وتعتبر أنت أجيراً عاماً؛ فإن الناس يأتون إليك وأنت صاحب المتجر، أو صاحب الدكان -مثلاً- الخياط، فأنت أجير مشترك، وعاملك الذي يعمل لك كل شهر بألف -مثلاً-أجير خاص لك.(41/26)
شرح أخصر المختصرات [42]
حث الدين الإسلامي على العارية، وتوعد مانعها من غير حاجة؛ لأن فيها توسعة على المسلمين، والإعارة لها أحكام وشروط ومسائل ذكرها العلماء في كتب الفقه، وكما أباح الله العارية وحث عليها فقد حرم الغصب وعدّه من الكبائر، وتوعد صاحبه بالعذاب الشديد، ولهذا الباب مسائل وأحكام بينها العلماء في كتب الفقه.(42/1)
أحكام العارية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والعارية سنةٌ.
وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه نفعًا مباحًا تصح إعارته إلا البُضْعَ وعبدًا مسلمًا لكافرٍ، وصيدًا ونحوه لمحرمٍ، وأمةً، وأمرد لغير مأمونٍ.
وتضمن مطلقًا بمثل مثلي، وقيمة غيره يوم تلفٍ، لا إن تلفت باستعمالٍ بمعروفٍ كخُمل منشفةٍ، ولا إن كانت وقفًا ككتب علمٍ، إلا بتفريطٍ، وعليه مؤنة ردها، وإن أركب منقطعًا لله لم يضمن.
فصلٌ: والغصب كبيرةٌ، فمن غصب كلبًا يقتنى، أو خمر ذمي محترمةً ردهما، لا جلد ميتةٍ، وإتلاف الثلاثة هدرٌ، وإن استولى على حر مسلمٍ لم يضمنه، بل ثياب صغيرٍ وحليه، وإن استعمله كرهًا أو حبسه فعليه أجرته كقن.
ويلزمه رد مغصوبٍ بزيادته، وإن نقص لغير تغير سعرٍ فعليه أرشه، وإن بنى أو غرس لزمه قلعٌ وأرش نقصٍ وتسوية أرضٍ، والأجرة، ولو غصب ما اتجر، أو صاد، أو حصد به فمهما حصل بذلك فلمالكه، وإن خلطه بما لا يتميز، أو صبغ الثوب فهما شريكان بقدر ملكيهما، وإن نقصت القيمة ضمن.
فصل: ومن اشترى أرضاً فغرس، أو بنى، ثم استحقت، وقلع ذلك، رجع على بائع بما غرمه، وإن أطعمه لعالم بغصبه؛ ضمن آكل.
ويضمن مثليٌ بمثله، وغيره بقيمته، وحرم تصرف غاصب بمغصوب، ولا يصح عقد، ولا عبادة، والقول في تالف وقدره وصفته قوله، وفي رده وعيب فيه قول ربه.
ومن بيده غصب أو غيره وجهل ربه؛ فله الصدقة به عنه بنية ضمان، ويسقط إثم غصب، ومن أتلف -ولو سهواًً- محترماً؛ ضمنه.
وإن ربط دابةً بطريق ضيق؛ ضمن ما أتلفته مطلقاً، وإن كانت بيد راكب، أو قائد، أو سائق؛ ضمن جناية مقدمها، ووطئها برجله] .(42/2)
العارية سنة
العارية: اشتقاقها من العري؛ لأنها عارية عن العوض والأجرة والثمن.
وتعريفها: أنها إباحة عين لمن ينتفع بها ويردها.
قوله: (العارية سنة) أي: إعارتها سنة؛ وذلك لأن فيها توسعة على المسلمين، حيث إن الإنسان تبدو حاجته في أمر، ثم لا حاجة به إليه دائماً، وإنما يحتاجها يوماً أو شهراً أو نحو ذلك، ثم يستغني عن تلك العين، فشرع أن يعيره من هو واجد لتلك العين حتى يقضي شغله وحاجته بها، ثم يردها.(42/3)
ما يصح إعارته
يقول: (وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه نفعاً مباحاً تصح إعارته، إلا البضع، وعبداً مسلماً لكافر، وصيداً ونحوه لمحرم، وأمة وأمرد لغير مأمون) ، والبقية تصح إعارته إذا كان نفعه مباحاً، فيحتاج الإنسان -مثلاً- إلى مطالعة في كتاب، وليس محتاجاً له دائماً فيستعيره من مكتبة أو من صديق له يقرأ فيه، ثم يرده، ولمن أعاره أجر، وكذلك يحتاج -مثلاً- لثوب أو لمشلح يتجمل به -مثلاً- في ليلة زفاف أو نحوه، وليس بحاجة إليه دائماً فتعيره ليتجمل به في تلك الليلة، ثم يرده.
يحتاج إلى قدر يطبخ فيه يوماً أو شهراً أو أسبوعاً إذا كان -مثلاً- مسافراً أو في قرية ليس له فيها أهل، فيستعير منك قدراًَ يطبخ فيه أو إناء يشرب به، أو سراجاً يستضيء به أو صحناً يأكل فيه فتعيره؛ فالإعارة في هذه الحال سنة وله أجر، وفي منعها إثم إذا كان مستغنياً عنها، وقد فسر قول الله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] ، أن المراد: منع العارية مع الاستغناء عنها.
إذا احتاج إنسان إلى دلوك ليجتذب به ماء من البئر، أو إلى قربتك ليجتلب بها ماءً لبيته، أو إلى قدر ليطبخ فيه، فتسن إعارته ويكره منعه مخافة الإثم؛ ولأنه لا يحتاج دائماً إلى هذه السلع، وإلا فمن حاجته غير عارضة فالعادة أنه يشتريها ويتملكها؛ وكذلك إذا احتاج إلى مسحاة ليحفر بها، أو زنبيل ليستعمله في الحفر -مثلاً- أو منجل ليقطع به حشيشاً أو نحوه، أو فأس ليقطع بها حطباً، وما أشبه ذلك، فإعارته فيها فضل وفيها أجر، وكذلك كل ما فيه منفعة، مع حاجة المحتاج إليه.(42/4)
شروط العارية
ويشترط أن تكون المنفعة مباحة، فإذا كانت المنفعة محرمة فلا يجوز إعارته؛ لأنه إذا أعاره صار شريكاً له، فلا يجوز أن تعيره طبلاً ليغني به ولا عوداً ولا شطرنج، وكذلك آلات الغناء، وأشرطة الغناء الماجن، وأفلام الفيديو التي فيها صور محرمة، فإذا طلب أن تعيره فأعرته فإنك تكون آثماً حيث إنك تساعده على هذا المنكر.
وهكذا إذا عرفت أنه يستعير منك لأجل معصية كما إذا استعار منك سيفاً ليقتل به مسلماً أو ليظلم به، أو رصاص بندقية ليصيد بها وهو محرم، أو ليرمي بها مسلماً بريئاً، أو استعار قدراً ليصنع فيه خمراً وأنت تعرف ذلك منه؛ أو استعار شطرنج للعب، وكذلك لو استعار موسىً ليحلق به لحيته، أو ليحلق به اللحى، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه مساعدة له على المنكر، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] .
وهكذا فالمحرم اقتناؤه تحرم إعارته، فكتب الضلال محرم اقتناؤها ومحرم إعارتها؛ لأنه يضل بها غيره، والمجلات الخليعة محرم اقتناؤها، ومحرم إعارتها؛ لأنها تضل خلقاً كثيراً.
تفطن لقوله هاهنا: (ينتفع به مع بقاء عينه نفعاً مباحاً) يعني: تطبخ في القدر، والقدر لا يتغير أو تشرب بالكأس، أو تجلس على الكنب أو تفرش الزلية أو تلبس الثوب يوماً أو نحوه، أو تأكل في القدر أو تستضيء بالسراج، فعينه باقية وفيه منفعة، وهذه المنفعة مباحة.
وقوله: (مع بقاء عينه) يخرج ما لا ينتفع به إلا بإتلاف عينه كالشمعة، فإنها تفنى بالاستعمال، وكالكيس من الطعام فإنه لا يعار؛ لأنه يفنى بالاستعمال، وإنما يسمى قرضاً، فإذا أقرضته طعاماً ليأكله فإنه يرد بدله كما تقدم في باب القرض.
ثم استثنوا البضع، فلا يجوز أن تعير جاريتك المملوكة لمن يطؤها؛ لأن الوطء لا يباح إلا بملك يمين أو بنكاح صحيح، وهذا ليس بموجود؛ لأنها ملك غيره، أما إعارة على الخدمة.
يعني: إذا كان عندك خادمة أعرتها لتخدمهم، ثم يردونها فلا بأس بذلك، وكذلك العبد إذا أعرته لمن يستخدمه فلا مانع من ذلك كأن يكون عندهم لقيادة سيارة أو تغسيل سيارة أو سقاية حديقة أو إصلاح قهوة، أو تنظيف أوانٍ، أو تغسيل ثياب ونحوه.
ويستثنى إذا كان كافراً، فلا يجوز أن تعيره عبداً مسلماً، لأنه يهينه ولأنه يستغله وهو كافر، ولأن الكافر لا ولاية له على المسلم، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ، أي: سيطرة وقوة وتسلطاً، فليس للكافر سلطة على المسلم، ولهذا إذا أسلم العبد وهو عند كافر، كلف الكافر بإعتاقه أو ببيعه أو بهبته.
أي: بإخراجه من ملكه حتى لا يبقى ذليلاً عند كافر.
قوله: (وصيداً ونحوه للمحرم) لا يجوز أن تعيره؛ وذلك لأن الصيد محرم على المحرم، قال تعالى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، وقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، فلذلك لا يجوز، وهكذا لا يجوز أن تعيره شيئاً يبطل إحرامه، فلا تعيره قميصاً ليلبسه وأنت تعرف أنه محرم، وكذلك إذا طلب منك موسىً ليحلق به وأنت تعرف أنه محرم، فلا تعره هذا الموسى؛ لأنه محرم عليه الحلق، وكذلك مقراضاً يقلم به أظفاره وهو محرم.
يقول: (وأمة وأمرد لغير مأمون) أي: لا يجوز إعارة الأمة لإنسان غير مأمون عليها، لا يؤمن أن يطأها، وكذلك الأمرد -يعني: الشاب- إذا كان شاباً مملوكاً وهو جميل، يخشى أن يفعل به فاحشة اللواط فلا يجوز أن يعار، وأما إذا كان مأموناً.
يعني: يقصد بذلك استخدامه فلا مانع.(42/5)
ضمان العارية
وقوله: (وتضمن مطلقاً) أي: العارية مضمونة إذا تلفت، ودليل ذلك: حديث صفوان بن أمية لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو هوازن في حنين وطلب منه عارية دروع ثلاثين درعاً، فقال -قبل أن يسلم-: أغصباً يا محمد؟! فقال: (بل عارية مضمونة) ، أي: نستعيرها ليلبسها المقاتلون، وتضمن إذا تلفت، ونردها إذا بقيت، فاستعار منه ثلاثين درعاً.
وهذا دليل على جواز الإستعارة من غير المسلم إذا كان لحاجة.
ولا شك أن الذي يعيرها للمجاهدين يكون له أجر، فالمجاهد إذا استعار منك سيفاً يقاتل به الكفار أو رمحاً أو قوساً أو درعاً أو مجناً يلبسه على رأسه أو حذاءً؛ فإن المعير يكون شريكاً له في الأجر، وكذلك أيضاً الأسلحة الجديدة يصح إعارتها للمجاهدين، ويكون شريكاً له في الأجر، كالدبابات والسيارات والقاذفات والبنادق والرشاشات وما أشبهها، ويكون للمستعير أجر القتال بها، وللمعير أجر في ذلك.
قوله: (وإذا تلفت فإنه يضمنها بمثل مثليٍّ، وقيمة غيره يوم تلف) : فالمثلي هو الذي يوجد له مثل، فيقال: هذا الكأس له أمثاله، فإذا استعاره فانكسر، أعطاه كأساً مثله؛ لأنه موجود فيضمن بمثله، أو استعار كتاباً فاحترق، وتوجد كتب مثله، فإنه يشتري له كتاباً ويعطيه إياه، وهذا القدر وهذا الصحن، لها أمثال فيضمن المثلي بمثله.
وأما غير المثلي: فهو الذي تختلف أجناسه، فمثلاً: الجلود كالقربة والسقاء والمزادة، فهذه تختلف عادة، وقل أن يوجد مثلها، أو أن يجد قربة مساوية لهذه أو مزادة أو ظرفاً مساوياً لهذا الظرف، وكذلك الأشياء التي كانت تصنع باليد كقدور النحاس والأباريق القديمة، فهذه يقل أن يوجد مثلها مساوياً فإنها تضمن بقيمتها، أي: تقوَّم يوم التلف، فيقال: كم تساوي تلك القربة؟ كم يساوي ذلك القدر الذي سلم إلى يد فلان؟ كم يساوي ذلك القميص الذي لا يوجد له نظير في هذه الأزمنة؟ فإذا كان يساوي عشرة يوم التلف، فأعطه العشرة.
قوله: (لا إن تلف باستعمال بمعروف كخمول منشفة) ، إذا تلف باستعمال فإنه لا يضمن، فإذا أذن لك أن تلبس الثوب، ثم إن الثوب تخرق من آثار اللبس العادي من غير تعد فلا يضمن.
وكذلك المنشفة، فالمنشفة التي تنشف بها الأيدي بعد الغسل أو بعد الوضوء، فإذا ذهب خملها من آثار المسح فلا تضمن.
والخمل: أهدابها التي فيها، فإذا ذهبت الخمل، فإنها لا تضمن؛ لأنه استعمال مأذون فيه، وقد أذن لك أن تتمسح بها مدة شهر أو نحوه، وكذلك لو اسود القدر من الطبخ فيه، فلا يضمن، وهكذا لو تثلم وجه المسحاة من آثار الحفر، أو تشقق الزنبيل من آثار الحمل فيه.
فالحاصل: أنه إذا تلف باستعمال بمعروف فلا ضمان، وأما إذا استعملها استعمالاً غير معروف فإنه يضمن.
كيف يكون الاستعمال غير معروف؟ إذا استعملها استعمالاً زائداً عما هي عليه، لو أنه أخذ يضرب بالفأس حجارة -مثلاً- ويكسرها به فتثلمت الفأس وتكسرت، أو أخذالمسحاة يحفر بها أرضاً حجرية وكان من آثار ذلك أن تكسر وجهها، فإنه يضمن والحال هذه؛ لأن هذا ليس هو المعروف، والمعروف: أنه يقطع بالفأس الخشب، ويحفر بالمسحاة ونحوها الأرض السهلة.
وكذلك المنجل الذي يسمى المحش، يقطع به الحشيش فإذا قطع به الحجارة فتثلم فإنه يعتبر قد تعدى فيضمن.
يقول: (ولا إن كانت وقفاً ككتب علم) أي: فهذه لا تضمن؛ لأنه مأذون في استعمالها، يوجد كتب في المكتبات مكتوب عليها: (وقف) يستعيرها الإنسان ليقرأ فيها، فلو قدر أنها تلفت عنده فإنها لا تضمن؛ وذلك لأنه مأذون في استعمالها فتلفها عنده كتلفها في المكتبة إذا استعملت، لكن لا يجوز أن يستعملها استعمالاً غير مأذون به، كأن يستعملها غير رافق بها، فيلقيها على الأرض أو يرمي بها رمياً سيئاً أو يعرضها للشمس أو للأطفال، ففي هذه الحال يضمن.
قوله: (وعليه مئونة ردها) : إذا كانت تحتاج إلى مئونة فإنها على المستعير، فلو احتاج إلى حمّال، كما لو استعار مكيفاً ثقيلاً فرده على المستعير فأجرة الذي يحمله من بيت المعير إلى بيت المستعير، ثم من بيت المستعير إلى بيت المعير، على المستعير، وهي مئونة ردها، وكذا كل شيء له مئونة إذا كان ثقيلاً، كما لو استعار فرشاً ثقيلاً ليفرشه في حفل أو نحوه، أو استعار خياماً ليستظل بها في مناسبة ونحوها، ثم انتهى منها فأجرة الرد على المستعير؛ لأنه أخذها لمنفعته.
قوله: (وإن أركب منقطعاً لله لم يضمن) : صورة ذلك: إذا رأيت إنساناً منقطعاً في برية وتصدقت عليه وأركبته بعيراً أو فرساً أو حماراً أو بغلاً أو وثقت به وأركبته في سيارة، وسلمت مفاتيحها له، ثم إنها خربت أو تلفت الدابة، وهو لم يفرط فإنه لا يضمن؛ وذلك لأنك محسن وتطلب الأجر، فليس لك أن تكدر أجرك وتبطله بتغريمه، فإنك محسن إليه.(42/6)
باب الغصب(42/7)
تعريف الغصب
الغصب: هو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق.
وكلمة الاستيلاء أوسع من الأخذ، إذ عرفه بعضهم بأنه: أخذ مال الغير ظلماً، فنقول: قد يكون هناك غصب من غير أخذ كما لو أخرجه من بيته ظلماً واستولى على بيته أو على مزرعته أو على أرضه، من غير أن يقبضها، فإن هذا يسمى غصباً، وهكذا إذا طرده من ماشيته -إبله أو خيله أو بقره- فإنه يكون قد استولى عليها فيعتبر مغتصباً، ويصح الغصب لكل شيء يمكن ملكه.
قال الله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] ، أي: يغتصبها من أهلها فيتسلمها ويطرد أهلها، وهذا يدل على أن الغصب هو الأخذ أو الاستيلاء على مال الغير أو حق الغير.(42/8)
حكم الغصب
الغصب والنهب كبيرة من الكبائر، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) .
يعني: ينتهبها من صاحبها والناس ينظرون.
يعني: شبه غصب، وفي الحديث الصحيح: (من اغتصب شبراً من الأرض بغير حق طوقه من سبع أرضين) .(42/9)
حكم غصب الكلب المقتنى وخمر الذمي وجلد الميتة
ثم إنه يقول: (من غصب كلباً يقتنى، أو خمر ذمي محترمة ردهما لا جلد ميتة) ؛ وذلك لأن الكلب المقتنى صاحبه أحق بمنفعته؛ لأن الله تعالى أضافه إلى أهله، لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] ، فهذا الكلب الذي دربته وعلمته فتعلم وأصبح يصيد الصيد، فأنت أملك به، فإذا جاء إنسان واغتصبه قهراً بغير حق فنقول له: رده إلى صاحبه فهو أولى به، وأنت تعتبر غاصباً.
والخمر محرمة، وهي في أيدي اليهود محترمة، فلا يجوز أن تدخل بيوتهم وتشقق الظروف التي فيها الخمر.
واحترامها معناه: إقرارهم عليها، فإن من دينهم شرب الخمر، فيقرون إلا أنهم لا يظهرون بيعها في بلاد الإسلام، ولا يظهرون شربها ولا يخرجون وهم سكارى، ولكن نعرف أنهم يصنعونها في بيوتهم ويجتمعون فيشربونها، فلو دخل إنسان واغتصب زق خمر، ثم ذهب به، أمر بأن يرده؛ لأن هذا من الاعتداء على المعاهدين، والمعاهدون لهم احترام، وقد ورد في ذلك الوعيد: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) ، المعاهدون وأهل الذمة لهم ذمة، ولهم عهد، فيرد الكلب، ويرد الخمر المحترمة، أما غير المحترمة فلا يردها.
وغير المحترمة: هي التي أظهرها صاحبها في الأسواق، فإنهم إذا أظهروها فلا حرمة لها، بل تتلف.
قوله: (لا جلد ميتة) قد عرف الخلاف في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أم لا، والراجح عندنا أنه يطهر، وإذا طهر فإنه يستعمل في اليابسات وفي الرطب وفي المائعات، وإذا كان كذلك؛ فالصحيح أنه مملوك، وأن الانتفاع به مباح، وأنه عين مالية تباع وتستبدل، فعلى هذا إذا كان مدبوغاً فإنه يرده، وكذلك إذا كان يصلح أن يدبغ.
قوله: (وإتلاف الثلاثة هدر) أي: الكلب والخمر والجلد، يعني: لا ضمان في إتلافها.
وقد عرفنا أن الراجح في الجلد أنه مضمون، أما إذا مات الكلب أو اهراق الخمر، فلا ضمان؛ لأنه لا قيمة لها.(42/10)
حكم غصب الآدمي
يقول: (وإن استولى على حر مسلم لم يضمنه، بل ثياب صغير وحليه) ، وذلك لأن الحر لا قيمة له ولا ثمن له، فلو استولى غصباً على إنسان حر، فحبسه عنده أو أوقفه عنده، وقدر أنه مرض ومات فلا دية عليه ولا ضمان بخلاف العبد، فإنه إذا استولى على العبد فمات عنده، فإنه يضمن ثمنه، وإذا استعمل هذا الحر كرهاً، فأكرهه على أن يبني عنده أو يحفر عنده أو استعمله في نسيج أو في حجامة أو في هندسة أو في سقي حرث أو في رعي إبل، واستعمله في عمل وأكرهه حتى اشتغل ذلك العمل، فعليه أجرته؛ وذلك لأن أجرته ومنافعه متقومة، والإنسان عادة لا يعمل عند غيره إلا بأجرة، فإذا استعمله كرهاً فعليه أجرته، وهكذا إذا حبسه، وأضاع عليه منفعته، فعليه أجرته، يقول: أنت حبستني شهراً أو أسبوعاً لو لم تكن حبستني لكنت أتكسب وأحترف وأحصل على مصلحة، والآن ضيعت علي هذا الزمان، فيطالبه بأجرته.
أما إذا كان صغيراً فإنه يضمن ثيابه وحليه، إذا اغتصب طفلا ًثم بليت ثيابه، فعليه ضمان ثيابه، وإن اغتصب جارية عليها حلي وأمسكها عنده -وهي حرة- وضاع حليها الذي عليها؛ فإنه يضمن ذلك الحلي.
أما إذا كان قناً مملوكاً فإنه يضمنه، فإن مات القن عنده ضمنه بقيمته، وإن حبسه فعليه أجرته، وإن استعمله كرهاً فعليه أجرته؛ وذلك لأن القن متقوم، كما لو غصب شاة فماتت فإنه يضمنها لأنها متقومة، ولو ماتت بمرض، وكذلك بقية الدواب، صغيرة أو كبيرة، فلو غصب دجاجة وماتت في يده ضمنها بقيمتها، أو غصب بعيراً كجمل أو ناقة، ثم ماتت عنده إما بتفريط كأن أهملها أو أجاعها أو حمل عليها، أو ماتت عنده مرضاً، فإنه يضمن الجميع؛ وذلك لأنها متقومة.(42/11)
وجوب رد المغصوب بزيادته
قوله: (ويلزمه رد المغصوب بزيادته، وإن نقص بغير تغير سعر فعليه أرشه) : ورد فيه حديث: (لا يحل لأحدكم أن يأخذ مال أخيه، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) ، إن أخذ العصا بغير حق فإنه يردها.
فإن زاد فإنه يرده بزيادته متصلة أو منفصلة، والزيادة المتصلة كما إذا غصب شاة هزيلة وسمنت عنده، فإنه يردها ولو كانت تساوي مثل الثمن الأول مرتين.
وكذلك إذا غصب بستاناً ليس فيه حمل، ثم حمل الشجر فإنه يرده بحمله الموجود.
وكذلك لو غصب شاةً أو بقرة فحملت عنده فإنه يردها بحملها؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فيرده ولو غرم عليه أضعافه.
ولو قال مثلاً: أنا أنفقت على هذه البقرة، أنا استجلبت لها فحلاً حتى طرقها، أنا حفظتها مدة ورعيتها وأعطيت الراعي أجرته، فيقال: أنت ظالم: (ليس لعرق ظالم حق) ، فعليك ردها بزيادتها ولا تستحق شيئاً.
وكذلك لو غيّرها عما كانت عليه، كما لو غصب قطناً فنسجه ثوباً؛ فإنه يرده منسوجاً، وقد يقال: إنه يستحق أجرة النسيج.
وكذلك لو غصب خشباً ونجره أبواباً فإن عليه رده؛ وذلك لأنه عين مال المغصوب منه، أو غصب بيضاً فأصبح فراخاً فإنه يردها، ولو قال: أنا ما غصبت إلا بيضاً فأرد بدله، فيقال: هذا عين مال المغصوب؛ ويلزمك أن ترده، ولو أنفقت عليه ما أنفقت.
وإذا غصب تبراً -يعني: ذهباً في ترابه- ثم صفّاه فأصبح صافياً مسبوكاً فإنه يرده، ولا أجرة له، وكذلك لو صاغه حلياً فإنه يرده، ولا حق له في أجرة؛ لأنه تصرف في ملك غيره.
وإذا غصب قطعة قماش، خاطها ثياباً فإنه يردها، ولو غرم عليها أضعاف ثمنها، وما ذاك إلا أنه تصرف في شيء لا يملكه، وليس له حق في هذا التصرف، بل هو تصرف فضولي فلا يستحق عليه شيئاً.
وهكذا لو باعها يلزمه استرجاعها، وإذا باع الشاة المغصوبة أو السيارة المغصوبة فالبيع باطل؛ لأنه تصرف في ملك الغير.
وهكذا لو جعلها صداقاً لامرأة تزوجها، فإنه يردها، ويعطي المرأة صداقاً بدل هذه الأشياء التي أصدقها.
وهكذا لو وهبها لإنسان لزم استرجاعها؛ فلو مات الغاصب فعلى الورثة أن يردوا الأعيان التي يعرفون أنها غصب إلى مالكها إذا كان معروفاً؛ وذلك لأنها ملك ذلك الرجل المعروف عندهم، فلا يحل لهم أن يستمتعوا بها وهم يعرفون أنها ظلم.(42/12)
وجوب رد المغصوب مع ضمان النقص
قوله: (وإذا نقص المغصوب فعليه ضمانه وعليه أرشه) : فلو هزلت الشاة أو العبد فإن عليه ضمان ذلك النقص، فلو كانت قيمتها لما اغتصبها ثلاثمائة والآن صارت قيمتها مائة بسبب الهزال، فإنه يضمن النقص، أو كبرت الشاة حيث كانت مسنةً فبقيت عنده حتى كبرت ونقص ثمنها، فإنه يضمن نقصها، وتقدر قيمتها يوم أخذها ويوم ردها ويضمن الفرق بينهما.
أما إذا كان النقص بسبب تغير السعر فلا ضمان، فلو اغتصب سيارة في وقت ارتفاع السعر، وكانت قيمتها عندما اغتصبها ثمانين ألفاً، ثم إنها بقيت عنده ولم يستعملها وردها، ولما ردها كانت لا تساوي إلا ستين ألفاً، فعليه ضمان نقصها إذا كان النقص بسبب قدم ما يسمى بالموديل، أما إذا كان بسبب رخص الأسعار فلا يضمن، مثاله: اغتصب أرضاً وقيمتها ذلك الوقت مائة ألف وبعد سنة أو نصف سنة رخصت الأراضي فصارت لا تساوي إلا خمسين ألفاً.
فالحاصل: أنه لا يضمن النقص إذا كان بسبب تغير السعر، وإذا زاد السعر ردها بزيادة السعر، فلو غصبها وقيمتها عشرون ألفاً ولما ردها ارتفع السعر وكانت تساوي أربعين ألفاً فإنه يردها ولا يطالب بشيء.
وإذا كانت فيها منفعة أضاعها، فإن صاحبها يطالب بمنفعتها تلك المدة، فإذا قال: عطلت علي داري مدة شهر أو مدة سنة وتركتها مقفلة وكنت سأستغلها وأسكنها أو أؤجرها، فعليه أجرتها تلك المدة التي أضاعها على صاحبها.
يقول: (وإن بنى أو غرس لزمه قلعٌ وأرش نقصٍ، وتسوية أرضٍ والأجرة) : أي: لزمه أربعة أشياء، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق) ، وهذا عرق ظالم غصب الأرض، ولما غصبها بنى فيها بنايات، وغرس فيها أشجاراً بغير حق، ولما استرجعها صاحبها طالبه، فيقال له: عليك أن تقلع هذه المباني التي بنيتها بغير إذن، ولو كان بناؤها مائة ألف، والهدم قد يكلفه مائة ألف أخرى فيلزمه هدم البناء وقلع الأشجار التي غرسها في هذه الأرض.
ويلزمه أيضاً أرش نقصها، يقال: لما اغتصبها كانت أرضاً مستوية وكان فيها طعمها، وكان فيها طينها، ولكنه نقصها لما أنه غرس فيها، فهذا الغراس امتص طعم الطين الذي فيها، وامتص طعم الأسمدة التي فيها، ونقصت قيمتها، فإذا كانت قيمتها قبل أن تغصب مائة ألف والآن قيمتها خمسون ألفاً، فعليك نصف القيمة.
وأيضاً: تسويتها، فعندما يقلع الأشجار وتكون فيها حفر، فيمسحها حتى يسويها كما كانت.
وعليه أيضاً أجرتها، إذا بقيت عنده سنة أو عشر سنين فإنه يطالبه بأجرتها تلك المدة.
إذاً: يلزمه أربعة أشياء: القلع، وأرش النقص، وتسوية الأرض، والأجرة.
فلو قال صاحبها: أنا أقنع بهذا الشجر الذي غرسته فيها، وأرى أن قلعه إفساد، وأنه كلفة وأن بقاءه فيه مصلحة؛ لأنه قد أثمر أو قارب أن يثمر، واتفقا على إبقائه، ولما أبقاه طالب الغاصب وقال: أعطني مقابل تعبي فأنا قد اشتريت هذه الجذوع، ثم اشتريت المضخة وحفرت لها في هذا المكان وجلبت الغراسين فغرست، وهكذا أيضاً عملت عليها إلى أن قربت من الثمر؛ فلهما أن يتفقا على إبقاء هذه الشجر، وهذه المباني التي بناها فيها ويقدر له قيمته، ولكن يطالبه بأجرتها عن السنة التي مضت.(42/13)
ربح وزيادة المغصوب لمالكه
قوله: (ولو غصب ما اتجر أو صاد أو حصد؛ فمهما حصل بذلك فلمالكه) : يعني: لو أنه اغتصب ألف ريال، ثم اتجر بها سنتين أو ثلاث سنين فزادت هذه الألف وأصبحت عشرين ألفاً، فإن الربح كله مع رأس المال للمغصوب منه؛ لأنه ربح ماله، والغاصب تصرف فيه تصرف فضولي فلا يستحق شيئاً.
وكذلك إذا اغتصب رصاصاً وبندقية، ثم صاد بها صيداً فإن الصيد أيضاً لصاحب البندق؛ وذلك لأنه حصل بعين ماله، والغاصب معتدٍ.
أما لو غصب فأساً، ثم قطع بها حطباً، أو غصب منجلاً وحصد به حشيشاً أو زرعاً، فالصحيح في هذه الحال أن الحشيش للغاصب، وكذلك الحطب، ولكن عليه أجرة الفأس، وعليه أجرة المنجل، كما إذا غصب سكيناً وذبح بها شاة فالشاة للغاصب؛ لأنها من غنمه، وعليه أجرة تلك السكين التي ذبح بها.
فالحاصل: أنه إذا كان من نماء عين المغصوب فإنه له، وأما إذا لم يكن عين ماله، وإنما هو شيء حصل به، فإنه للغاصب؛ وذلك لأن الحشيش من المباح، والغاصب -مثلاً- خرج إلى البر وقطع هذا الحشيش -الذي هو من المباح- وجمعه وحمله على بعيره أو على سيارته، فهو ملكه، وإن كان ذلك المنجل ملك غيره، إنما نقول: عليه أجرته.
وإذا استأجره إنسان ليحصد معه زرعاً والمنجل الذي معه ليس له بل مغصوب، فالأجرة على صاحب الزرع، فيقول: لك في كل يوم خمسون ريالاً، وأجرة المنجل في اليوم خمسة أو أربعة؛ لأن المحش قيمته رخيصة، فالصحيح أنه يكون ملكاً للغاصب عليه أجرة المنجل ونحوها.(42/14)
حكم المغصوب إذا خلط بما لا يميزه
قوله: (وإن خلطه بما لا يتميز أو صبغ الثوب فهما شريكان بقدر ملكيهما) : ومثال الذي لا يتميز: لو غصب حنطة، ثم طحنها وخلطها بدقيق غيرها فهذا لا يتميز، وكذلك لو غصب الحنطة أو الأرز، وصبه في أحواض مملوءة من الحنطة أو من الأرز، وغصب دقيقاً فخلطه بدقيق غيره، أو غصب دقيق حنطة وخلطه بدقيق شعير فأصبح لا يتميز؛ فهما شريكان، يقول: دقيقك أو حنطتك في هذا الكيس الذي فيه غيره: كم الذي لك يا هذا؟ وكم الذي لك يا هذا؟ فإذا قال هذا: لي خمسة، وهذا خمسة عشر، فهو بينهما أثلاثاً بقدر ملكيهما، ولو صبغ الثوب أو اغتصب قطناً وصبغه، فهما شريكان، هذا منه الصبغ وهذا منه القطن، ومعلوم أيضاً أنه لا يمكن إزالة الصبغ؛ لأنه ينصبغ به، فيكونان شريكين، هذا بقدر ثمن الثوب وهذا بقدر ثمن الصبغ.
وكذلك لو نسجه، فهذا عليه أجرة النسيج، لكن في هذه الحال يقولون: إنه تصرف في ملك غيره، فيرده كما كان، وقد ذكروا أنه إذا نجر الخشبة أو صار الحب زرعاً، أنه يرده وأرش نقصه، أو غصب نوىً وأصبح شجراً أو ما أشبه ذلك, فيرد بدله إذا لم يمكن رده.
قوله: (وإن نقصت القيمة ضمن) مثاله: إذا كان قطناً نظيفاً قيمته غالية، ولما صبغه نقصت القيمة، فعليه رده وعليه ضمان النقص، وكذا لو غصب دهناً وخلطه بزيت ونقصت قيمته وأصبح لا يتميز، ففي هذه الحال أيضاً يرده، ويرد النقص، أو يكونان شريكين بقدر ملكيهما.(42/15)
ضمان الغصب(42/16)
يرجع المشتري على الغاصب في غرامة غرسه وبنائه في الأرض المغصوبة
قوله: (ومن اشترى أرضاً فغرس أو بنى، ثم استحقت وقلع ذلك، رجع على بائع بما غرمه) .
صورة ذلك: إذا اشتريت أرضاً ودفعت الثمن، ثم غرست فيها غرساً، أو بنيت فيها بناءً، ثم جاء صاحبها، وقال: الأرض مغصوبة مني، والذي غصبها هو الذي باعك، فلا حق لك ولا حق له، فانتزعها، ولما انتزعها كلفك أن تقلع غرسك، وكلفك أن تهدم بناءك؛ وذلك لأنه ثبت ملكه للأرض واستحقها؛ ففي هذه الحال يرجع صاحب الغرس أو البناء على من باعه بما غرمه، أي: بما تكلف به، فيقول للبائع: أنت كلفتني، وأنت خدعتني، وما علمت أنك مغتصب أو منتهب، فالأرض قد أخذت مني، وقد هدم بنائي، وقلع غرسي فعلى الغاصب الذي باعه أن يغرم تكلفته، ولو كانت مئات الألوف؛ لأنه غره.(42/17)
ضمان الآكل عالماً بالغصب
قوله: (وإن أطعمه لعالم بغصبه ضمن آكل) : صورة ذلك: إذا غصب كيساً من بر أو نحوه، ولما غصبه أعطاك ذلك الكيس وأنت تعلم أنه مغصوب، وأنه ملك فلان أخذ بغير رضاه، فالضمان على الآكل الغاصب، وعليه الإثم، لكن المغصوب منه يطالب الغاصب؛ لأنه هو الذي اعتدى وأخذ الكيس، ثم إن الغاصب يرجع على الآكل، ويمكن أن المغصوب منه يطالب الآكل.
وإذا وجدت العين عند الآكل انتزعها المالك منه سواء كان أخذها بهبة أو بيع أو ما أشبه ذلك.
مثلاً: الغاصب غصب شاة وأهداها لزيد أو باعها على زيد، وزيد يعلم أنها مغصوبة، فجاء صاحبها ينتزعها من زيد، فإن ذبحها زيد فعليه قيمتها، وإن ولدت عند زيد، فولدها ملك لصاحبها، ويردها هي وولدها، فإن كان قد بذل فيها ثمناً رجع بالثمن على الغاصب؛ ولا شك أنه إذا علم بأنها مغصوبة حرم عليه أن يقبلها، إذ كيف يقبلها وهي ملك فلان، فلا يجوز له أن يقبلها لا بيعاً ولا هبةً ولا صداقاً ولا خلعاً ولا عطيةً ولا إرثاً، بل هي ملك فلان الذي لم تطب نفسه، وأخذت منه غصباً.(42/18)
كيفية ضمان المغصوب المثلي والقيمي
إذا تلف المغصوب وطالب به صاحبه، فإنه يضمن، وكيف يضمن؟ يضمن إذا كان مثلياً بمثله، وإذا كان غير مثلي بقيمته.
المثلي: هو المكيل والموزون وما أشبه ذلك من المقدرات، فإذا غصب سمناً ثم طالب به صاحبه، فيرد عليه سمناً ولو كان قد أتلفه واستهلكه، وإذا غصب براً أو أرزاً فإنه يشتري له بدله، إذا كان قد أكله.
وكذلك إذا غصب قماشاً يرد عليه مثله؛ لأنه موجود، ولو غصب زيتاً أو عسلاً رد عليه مثله؛ لأنه موجود.
أما غير المثلي فيرد الضامن قيمته يوم أتلفه أو يوم طالب به صاحبه.
وغير المثلي هو المصنوعات التي تدخلها اليد الصناعية كالسكاكين والخناجر والقدور والقرب والأسقية والأحذية، فقد كانت قديماً تصنع باليد، وتتفاوت، فتكون هذه القربة أكبر من هذه -مثلاً- وهذا الجلد أحسن من هذا، وهذا الحذاء أفضل من هذا، ولا تتساوى عادة، فلذلك تضمن بقيمتها.
وكذلك أيضاً بهيمة الأنعام، فإذا غصب شاة فالغنم أيضاً تتفاوت ويصعب أن يوجد لها مماثل سواء في سمنها وفي كبرها وفي لونها وسنها، فلذلك كان عليه قيمتها.
وعرفنا أن الغالب في هذه الأزمنة أن المصنوعات تتقارب، فالأحذية تتقارب، وكذلك الثياب التي تخاط بالماكنة تتقارب، والكتب التي تطبع طبعة واحدة متقاربة، والقدور والصحون والأباريق والأقلام والسكاكين والملاعق الغالب أنه لا تفاوت بينها، حيث إنها تصنع بماكنة فلا يقع تفاوت بينها، فيضمن القدر بمثله من أي نوع، ويضمن السكين بمثلها، ويضمن البساط بمثله والثوب بمثله، والخيمة بمثلها، لتقاربها وعدم التفاوت بينها.(42/19)
حكم تصرف الغاصب بالمغصوب(42/20)
بطلان تصرف الغاصب وعقده على المغصوب
قوله: (وحرم تصرف غاصب بمغصوب) : وذلك لأنه حرام إمساكه، فإذا حرم عليه إمساكه، حرم عليه التصرف فيه.
قال: (ولا يصح العقد) : فلو غصب ثوباً وباعه فالبيع باطل، ولو غصب أرضاً وسبلها بطل الوقف، ولو غصب جارية وزوجها بطل الزواج، ولو غصب أمتعة أو أطعمة وأكياساً ونحوها وتصدق بها؛ بطلت الصدقة ولصاحبها أن يستردها إذا كانت موجودة.
فتصرف الغاصب بالبيع، وبالهبة وبالوقف، وبالعتق -لو غصب وأعتق- وبالصداق -لو غصب شيئاً وجعله صداقاً لامرأة تزوجها- ونحوها؛ باطل فلا يصح العقد.(42/21)
حكم استخدام المغصوب في عبادة
قوله: (ولا عبادة) ذكر في الحاشية بعض الأمثلة على العبادة وأنها لا تصح، فإذا بنى في الأرض المغصوبة مسجداً فإنه لا يصح، ولصاحبها أن يهدم المسجد، وإن تراضوا على أن يعطوه ثمن الأرض ويبقى المسجد فهو أفضل، وكذلك لو غصب جملاً وحج عليه، أو سيارة وحج عليها أو جاهد عليها لم يصح جهاده، أو غصب ماءً وتوضأ به لم يصح وضوءه ولا اغتساله به، وكذلك بقية العبادات، ولو أخرج المغصوب كفارة عن نذر أو عن يمين فلا يجزئه ولا يقبل منه، وهذا هو القول المشهور.
والإمام أحمد رحمه الله يرى أنه لا يصح الحج بمال مغصوب، أو بمال حرام، وأن عليه أن يحج حجة أخرى، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: إذا حججت بمال أصله سُحتٌ فما حججتَ ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيتَ الله مبرورُ وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه يأثم، ولكن الحج صحيح، بحيث لا يؤمر أن يعيده؛ لأنه أدى الحج ومناسكه ببدنه، وإنما المال وسيلة، ولعل هذا هو الأقرب، وأنه يصح الحج ويسقط الفرض، ولكنه يأثم.
ومثله: إذا غصب ماءً فتوضأ به، أو اغتسل به من جنابة: فهل يرتفع الحدث؟ الإمام أحمد يرى أنه لا يرتفع؛ وذلك لأنه معصية، فكيف يجمع بين طاعة ومعصية؟! والصحيح هو القول الثاني في المذهب، وهو أنه يصح، وهو قول أكثر العلماء وأن الحدث يرتفع، ولكن يأثم بالغصب؛ لأنه يأثم بالغصب حتى لو أراقه، فلو أراق الماء الذي غصبه أثم، وكذلك لو شربه أو باعه أثم، فالعبادة لا تعلق لها بذلك.(42/22)
الصلاة في الدار المغصوبة
وكذلك: لو غصب داراً وصلى فيها، فهل تصح صلاته؟ الرواية المشهورة للإمام أحمد أنها لا تصح صلاته، والقول الآخر: أنها تصح، بحيث إذا تاب لا يؤمر بالإعادة؛ وذلك لأنه أدى الصلاة كما أمر، فلا حاجة إلى أن يعيدها، ونقول له: جلوسك في هذه الدار إثم، واستمتاعك بها واستعمالك لها إثم، وعليك ذنب الغصب، وعليك ذنب الاستعمال لها، وسواء أغلقتها أو سكنتها أو أجرتها أو أسكنت فيها فقراء -مثلاً- صدقة منك فلا يقبل الله تعالى صدقتك، حيث إنك تصرفت في مال إنسان معصوم بغير حق.
فعلى هذا لا يؤمر بإعادة الصلوات التي صلها في هذه الدار المغصوبة، ولكنه يأثم.(42/23)
الصلاة في الثوب المغصوب
وكذلك لو صلى في ثوب مغصوب، فالرواية المشهورة عند أحمد أنها لا تصح صلاته، والقول الثاني: أنها تصح مع الإثم، ويقال: أنت آثم بلبس هذا الثوب، سواء لبسته في صلاة أو لبسته في نوم أو لبسته في يقظة أو في سوق فأنت آثم باستعمالك له، ولكن لا دخل للعبادة.(42/24)
قبول قول الغاصب في التالف
قوله: (والقول في تالف وقدره وصفته قوله) ؛ وذلك لأنه غارم، فإذا غصب شاة وماتت، فقال صاحبها: إنها سمينة، وقال هو: بل هي هزيلة، فالقول قول الغاصب لأنه غارم، وكذلك لو قال: إنك غصبت مني نعجة، فقال: بل غصبت منك كبشاً ذكراً، أو قال: غصبت بقرة، فقال: بل ثوراً، أو قال: غصبت مني ناقة، قال: بل جملاً، أو قال: غصبت مني ثوبين، فقال: بل واحداً، وهي تالفة؛ فالقول قول الغاصب؛ لأنه ضامن.
فالقول قول الغصاب في عينه: أي: هل هو ذكر أو أنثى، وفي قدره، أي: ثوب أو ثوبان، وفي صفته، أي: جديد أو مستعمل.
وأما في رده والعيب فيه، فالقول قول صاحبه، فإذا قال: رددت عليك الكيس الذي غصبتك والثوب الذي أخذته منك بغير حق، فقال: لم ترده، فيحلفه صاحبه أنه ما رده وله ثمنه أو وله بدله؛ وذلك لأن الأصل عدم الرد، وقد اعترف بالغصب وادعى الرد، فلا يقبل قوله في الرد إلا ببينة، فإذا لم تكن بينة حلف صاحبه، وكذلك إذا ادعى الغاصب أنه معيب: فقال: إن الثوب مخرق، والقدح متصدع، والشاة عوراء، وأنكر صاحبها، وقال: بل هي سليمة ليس فيها شيء من هذه العيوب، فالقول قول ربها، فيحلف على سلامتها ويقبل قوله.(42/25)
الصدقة بالمغصوب ونحوه بنية الضمان
قوله: (ومن بيده غصب أو غيره وجهل ربه فله الصدقة به عن صاحبه بنية لضمان ويسقط إثم الغصب) : يحدث كثيراً أن الإنسان يكون عنده دين وينسى صاحبه، فيقول: أنا استدنت من صاحب دكان بعشرة، ولكن نسيته، ولا أدري أين هو ولا أدري من هو، فنقول: تصدق به واجعل أجره لصاحبه؛ فإن وجدته بعد ذلك فخيره بين الأجر وبين الضمان، وأخبره بأنك تصدقت بها، فإن اختار أجرها فله أجرها، وإن قال: اضمنها؛ فتضمنها والأجر يكون لك، وهذا معنى أنه يتصدق به بنية الضمان، أي: يضمنه إذا جاء صاحبه.
وهكذا الودائع: إذا أودع عندك إنسان ثوباً أو كيساً أو تمراً أو كتاباً أو خيمة أو بساطاً، ولم يأتِ ولا تدري ما اسمه، أو تعرف اسمه ولكن لا تدري أين هو، وطالت المدة حتى أيست من أن يرجع إليك؛ فتصدق به واجعل أجره لصاحبه، وإذا قدر أنه أتاك -ولو بعد عشر سنين أو عشرين سنة- فإنك تخيره، بين أجر تلك الصدقة، وبين غرامتها -غرامة العين- ويكون الأجر لك.(42/26)
ضمان المتلفات وضمان الدواب(42/27)
ضمان من أتلف محترماً
قوله: (ومن أتلف -ولو سهواً- محترماً ضمنه) .
من أتلف محترماً فعليه الضمان، ولو كان الإتلاف سهواً أو خطأً، فإذا صدم شاة فإنه يضمنها؛ لأنها محترمة، أو اصطدم في جدار فهدمه؛ فعليه الضمان، أو صدم شجرة فقلعها فعليه ضمانها.
وهكذا لو شق ظرفاً خطأً بأن رمى بسكين فأصابت قربة أو ظرفاً فيه سمن فإنه يضمن ما تلف فيه، وكذلك بقية الأموال إذا أتلفها بإحراق أو بإغراق أو ما أشبه ذلك، فلو أنه طرد شاةً فسقطت في بئر فماتت ضمنها.
ويحدث كثيراً أن يجد الراعي شاة ضالة فيأتي بها مع غنم صاحبه، فإذا وجدها صاحب الغنم فإن عليه إمساكها إلى أن يأتي ربها، ولا يجوز له طردها، فلو طردها فافترست ضمنها، بل يحفظها إلى أن يجيء صاحبها، وتكون كاللقطة؛ لأن في الحديث: (خذها؛ فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) ، وكذلك بقية ما كان ضالاً.(42/28)
لا تضمن آلات اللهو ونحو
وقوله: (محترماً) يعني: ما له قيمة وما يضمن.
فيخرج ما ليس بمحترم فإذا أتلف صوراً خليعة فلا يضمن لأنها غير محترمة، أو أتلف آلات لهو كطبول أو عود لهو أو شطرنج أو أشرطة غناء أو أفلام خليعة، إذا أتلفها فلا قيمة لها ولا ضمان عليه؛ لأنها غير محترمة، ولو أن صاحبها يبذل بها مالاً.
يعني: نقول: إن المال الذي يأخذه أهلها حرام، كالذين يسجلون أشرطة فيها صور خليعة كصور نساء متبرجات، فإنه يجب إتلافها، وكذلك الصور في المجلات التي تعرض فيها الصور الخليعة، لا شك أن إتلافها يعتبر امتثالاً فلا قيمة لها ولا حرمة لها ولا تضمن.
وكذلك أيضاً: الأعواد والرباب والطنبور والطبول وغيرها من آلات الغناء؛ فهذه غير محترمة فلا قيمة لها، ومن أتلفها فلا ضمان عليه.(42/29)
ضمان ما أتلفته الدواب
وقوله: (وإن ربط دابة بطريق ضيق ضمن ما أتلفته مطلقاً) .
وذلك لأن الطريق ليس ملكه، فإذا ربطها بطريق ضيق ضمن ما أتلفته مطلقاً.
وكذلك السيارات: لو أوقفها بطريق ضيق فعثر بها إنسان فتكسر أو شج وجهه، فإن صاحبها يضمن، وهكذا لو أوقفها في زاوية خفية فجاء سائق سيارة أخرى على غفلة فاصطدم بها فمات أو تحطمت سيارته، فإن صاحب السيارة الذي أوقفها يضمن أيضاً.
وذكر أن إنساناً أوقف سيارته في ظل، ثم إن طفلاً سقط من السطح على سطح تلك السيارة فمات، فضُمنه صاحب السيارة، ولعل هناك قرائن أيضاً سببت ضمانهُ.
وكذلك لو حفر بئراً أو حفرة في طريق ضيق وعثر بها إنسان فمات أو تكسر ضمن صاحب الحفرة؛ لأنه أخطأ بالحفر في هذا الطريق، أو أبقى فيه حجارة كالحجارة التي يبنى بها فسدت الطريق أو أكثره، فعثر بها إنسان فإنه يضمن.
وذكر الدابة كمثال -فقال: (إذا ربط دابة في طريق ضيق) وإلا فإنه يدخل ما يلحق بها.
وتكلموا أيضاً على ما تفسده الدابة من الحرث، وقد ورد في تفسير قول الله تعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] .
أن النفش هو الأكل منه ليلاً، فقالوا: إذا دخلت الدواب ليلاً كغنم أو بقر أو إبل أو حمر أو خيل في حرث، وأكلت منه، أو أفسدت الزرع -مثلاً- أو أفسدت البطيخ، فإن أهلها يضمنون؛ وذلك لأن عليهم حفظها بالليل؛ لأن عادة أهل الدواب أن يمسكوها ويحفظوها ليلاً، ولا يتركوها تعيث، فإذا لم يمسكوها ضمنوا ما أتلفته ليلاً، وأما في النهار فالعادة أن أصحاب الدواب يطلقون سراحها لترعى في النهار، إبلاً وخيلاً وغنماً، وأن أهل الحرث يحفظونه في النهار فيكونون حوله، فإذا غفلوا نهاراً عنه فلا ضمان؛ لأنهم تساهلوا بحراسة حرثهم.
ثم يقول: (وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جناية مقدمها ووطئها برجلها) وذلك لأن العادة أنه يتصرف في مقدمها، فإذا عضت إنساناً أو وطئته بخفها بمقدمها أو مؤخرها ضمن؛ لأنه يملك قيادتها، فإنه إذا كان يسوقها فإنه يصرفها هنا أو هنا، كذلك إن كان فيها خطام يقودها بالخطام، وكذلك إذا كان راكباً عليها، فالعادة أنه يحمل عصا وأنه يوجهها بالعصا من هنا ومن هنا.
فإذا كانت بيد راكب أو قائد يقودها بخطامها أو سائق خلفها يسوقها ضمن جناية مقدمها إذا عضت أحداً أو وطئته أو رفسته بيدها، ولا يضمن مؤخرها، فإذا نفحت بذنبها إنساناً فأصابت عينيه -مثلاً- أو وجهه، فلا غرم على صاحبها؛ لأنه لا يتصرف في مؤخرها، وكذا لو رمحته برجلها فلا ضمان على صاحبها.(42/30)
الأسئلة(42/31)
حكم التحدي بجعْلٍ
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيما يحصل كثيراً من التحدي بين اثنين أو أكثر في مسألة أو نحوها، فيقول أحدهما: إذا كان الأمر كما قلت فعليك ذبيحة، ويلزمه بها، فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا قد يدخل في القمار إذا كان كثيراً، وقد يتساهل فيه إذا كان يسيراً كطعام أو نحوه، ولكن تركه أولى إذا لم يترتب على ذلك مصلحة، أما إذا كان فيه مصلحة كمسابقات علمية عليها جوائز تشجع المتسابقين على البحث ونحوه فهذا جائز.(42/32)
البيع بعد الأذان
السؤال
ما رأيكم فيمن ينكر على من يبيع المساويك بعد الأذان ونحوها، وهل هذا محل للإنكار؟
الجواب
نعم.
ينبغي على الباعة إذا سمعوا الأذان أن يغلقوا متاجرهم، حتى بائع السواك ونحوه؛ فيبيعه بعد الصلاة أو قبل الأذان، أما إذا سمع المؤذن، فإنه يطوي متاعه ويذهب إلى المسجد، ومع ذلك إذا لم تقم الصلاة ولم يتضايق الوقت، فالبيع صحيح إذا حصل.(42/33)
دخول الأم في حديث: (أنت ومالك لأبيك)
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ، هل تقاس الأم على الأب في هذا الحكم؟
الجواب
نعم، هذا هو الصحيح؛ لأن الأم أحد الأبوين؛ ولأن الله تعالى عندما يذكر الأبوين يخص الأم بالذكر، كقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] ، {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] ، فهو يدل على عظم حقها.(42/34)
وإن أركب منقطعاً لله لم يضمن
السؤال
ما معنى قول المصنف: (وإن أركب منقطعاً لله لم يضمن) ؟
الجواب
ذكرنا أنه إذا وجد إنساناً منقطعاً في الطريق -ابن سبيل- ولم يستطع أن يصل إلى بلده، فأركبه حماراً -مثلاً- أو فرساً أو بعيراً، ثم إن ذلك المركوب تلف تحته -انكسر مثلاً- أو مات فلا ضمان على ذلك الراكب؛ لأنه أركبه لله.(42/35)
ضمان صاحب السيارة لمن أركبهم معه
السؤال
ما رأيكم فيما يحصل الآن: حيث إن الإنسان إذا أركب شخصاً في سيارته، ثم حصل حادث ومات هذا المنقطع، فإن الذي أركبه يحمل ديته؟
الجواب
إذا كان متسبباً، وكانت عليه نسبة من الخطأ.
يعني: أنه ارتكب خطأً لسرعته -مثلاً- أو استعمل السيارة وليست سليمة، بل فيها عيوب، مما سبب الحادث، فعليه نسبة من الخطأ؛ فإنه يضمن من تلف معه، ولو كان أركبهم لله.(42/36)
الفرق بين الغصب والسرقة
السؤال
ما الفرق بين الغصب والسرقة؟
الجواب
معلوم أن الغصب أخذ بقوة وعلانية، وجرأة وقدرة، يقهر بها المغصوب فيغلبه، أما السارق فإنه يأخذ على حين غفلة، فيكسر الأبواب في وقت الغفلة أو النوم، ويتسلق الحيطان، ثم يدخل ويأخذ الأمتعة على حين غفلة من أهلها وعلى غرة.
فهذا هو السارق.(42/37)
السارق والغاصب يضمن المنفعة والأجرة
السؤال
إذا سرقت البهائم في البادية فإن صاحبها يطلبها، وقد يستمر أياماً أو شهوراً فإذا تحصل على السارق: فهل يضمن السارق مصاريفه في مدة بحثه؟
الجواب
إذا كان أخذها من زريبته وساقها، فإنه يطالبه بمصارفيه التي أنفق لطلبها، وكذلك منفعتها إذا حلبها في هذه المدة، وذلك أن السارق أو الغاصب يُطَالب بقيمة ما أخذ منها.(42/38)
حكم منع العارية لمن لا يرجعها في وقتها
السؤال
قلتم: إن من منع العارية وهو مستغنٍ عنها؛ فإنه يأثم؛ لقول الله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] ، وبعض الإخوة وفقهم الله يطلبون من بعضهم إعارتهم بعض الكتب والأشرطة الدينية، ولكنهم يتهاونون في ردها، وربما لا يردونها، مما يجعل البعض إذا جاءه مستعير للكتب أو الأشرطة يرفض إعارته؛ فهل يدخل في هذه الآية؟
الجواب
لا يدخل إذا كان ذلك المعير محتاجاً إلى هذه الكتب أو هذه الأشرطة، وكان المستعير معروفاً بالتساهل وتأخير الرد، فيفوت على المعير مصلحة، بحيث إنه إذا احتاج إلى كتابه أو إلى ذلك الشريط لم يجده، فله أن يمنعه، فيقول: أنت لا تصلح أن تعار؛ لأننا بحاجة إلى كتبنا، وأنت تطيل بقاءها عندك، وبقي عندك ذلك الكتاب شهراً أو أشهراً وفوَّتَّ علينا الفوائد، وهو محق والحال هذه؛ وذلك لأن المستعير عليه أن يردها في الوقت الذي طُلب منه، إذا حدد له يوماً فلا يزيد عليه، فأما أن يهملها ويقول: ليسوا بحاجة فإن هذا خطأ.(42/39)
المؤمنون عند شروطهم
السؤال
توجد أرض عند أحد الأقارب، مساحتها اثنان كيلو في واحد كيلو، فقال لي: أريد أن أعطيك نصف الأرض بشرط أن تحيي الأرض، وتضع فيها رشاشين على مساحة الأرض، وأن تشبكها له وتستخرج عليها صكاً، ما حكم هذا أفتونا مأجورين؟
الجواب
إذا كانت ملكاً لذلك المالك الذي قد ملكها أو إقطاعاً -يعني: أُقطعها من الحكومة- فله أن يتصرف هو والأجير على ما يريدون، إذا قال: لك نصفها بشرط كذا وكذا -كما ذكر في السؤال- فالمؤمنون عند شروطهم.(42/40)
حكم استخدام آلة التصوير في الإدارات الحكومية لأغراض شخصية
السؤال
نستخدم آلات التصوير التي في عملنا لتصوير بعض الأوراق المتعارف عليها، مثل بطاقات الأحوال وغيرها، مع موافقة الرئيس المباشر؛ فهل في ذلك بأس؟
الجواب
ينبغي ألا يتوسع في هذا؛ لأن هذه الأجهزة حكومية اشتريت لمصلحة الإدارة التي هو فيها؛ فلا تستعمل إلا فيما هو من خصائص الأعمال، وأما الحاجات الخصوصية؛ فلا ينبغي أن يتوسع في ذلك، لكن إذا كان ذلك نادراً في حياته كما إذا احتاج إلى تصوير حفيظته أو شهادة له، فلعل ذلك يتسامح فيه.(42/41)
شرح أخصر المختصرات [43]
الشفعة هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي، وبثمنها الذي استقر عليه العقد، ولابد لثبوت الشفعة من شروط تضمن المصلحة ودفع الضرر عن الشفيع والمشتري، وهي مفصلة بأحكامها في كتب الفقه.(43/1)
باب الشفعة
قال المصنف رحمه الله: [فصلٌ: وتثبت الشفعة فوراً لمسلم تام الملك في حصة شريكه المنتقلة لغيره بعوض مالي بما استقر عليه العقد.
وشرط تقدم ملك شفيع وكون شقص مشاعاً من أرض تجب قسمتها، ويدخل غراس وبناء تبعاً، لا ثمرة وزرع، وأخذ جميع مبيع، فإن أراد أخذ البعض، أو عجز عن بعض الثمن بعد إنظاره ثلاثاً، أو قال لمشترٍ: بعني أو صالحني، أو أخبره عدلٌ فكذبه ونحوه: سقطت، فإن عفا بعضهم أخذ باقيهم الكل أو تركه.
وإن مات شفيعٌ قبل طلب بطلت، وإن كان الثمن مؤجلاً أخذ مليءٌ به، وغيره بكفيل مليء.
ولو أقر بائع بالبيع وأنكر مشترٍ ثبتت] .(43/2)
تعريف الشفعة
الشفعة: مشتقة من الشفع الذي هو العدد الزوج، فالواحد يسمى وتراً، والاثنان والأربعة والستة والثمانية والعشرة تسمى شفعاً، والأعداد إما وتر وإما شفع؛ لقوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] ، فالشفع هو العدد الزوج، هذا اشتقاقها.
تعريف الشفعة: هي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنها الذي استقر عليه العقد.
وهكذا تعريفها في زاد المستقنع، وسيتضح بالأمثلة كما سيأتي إن شاء الله.(43/3)
صورة الشفعة
وصورة ذلك: إذا كان للإنسان أرض ومعه شريك فيها شركة مشاعة، أي: ليس لهذا الجنوب ولهذا الشمال، بل كل بقعة منها فهي بينهما فهذه الأرض بينهما نصفين، فباع أحدهما نصفه على زيد، ولما باع علم شريكه فجاء إلى زيد وقال: أنت اشتريت نصيب شريكي وأنا أحق به؛ لأني لا أحب الشركاء، وأنت اشتريتها بستين ألفاً فخذ دراهمك.
فالشركة مشروعة؛ لأن الشركاء قد يتضايق بعضهم ببعض، قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] ، فيكون الشريك أحق بانتزاعها بالثمن الذي اشتراها به زيد.(43/4)
اشتراط الفور والإسلام وتمام الملك في الشفعة
ثم لابد لها من شروط: الشرط الأول: أن يبادر بأخذها فوراً ولا يؤخر الطلب؛ وذلك لأنه قد يتضرر المشتري فقد يتصرف فيها، فلابد أن يبادر ساعة ما يعلم أن شريكه باع، فيذهب إلى المشتري ويقول: إني شافع، أو يشهد من حوله: اشهدوا أني قد شفعت في حصة شريكي التي باعها على زيد.
الشرط الثاني: أن يكون الشفيع مسلماً؛ فإذا كان كافراً فلا شفعة له على مسلم، فلو كان أحد الشريكين كافراً، فباع المسلم على مسلم وأراد الكافر أن ينتزعها من المسلم، لم يجز له ذلك، وذلك لئلا يعلو على المسلم، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فلا شفعة لكافر على مسلم، ولو كانت الشركة بين كافرين فباع أحدهم على مسلم وأراد الكافر الثاني أن يشفع فلا شفعة له.
الشرط الثالث: تمام الملك: فإذا لم يكن الملك تاماً فلا شفعة.
كيف يكون تمام الملك؟ إذا كان قد ملكها إرثاً أو هبة أو ملكتها المرأة صداقاً بعد الدخول، أو ملكها الزوج مقابل خلع، أو ملكها شراءً، أو ملكها جميعاً بالإحياء، ففي هذه الحال له الشفعة، أما إذا لم يكن الملك تاماً فلا شفعة.
وصورة ذلك: إذا ملكتها المرأة صداقاً ولكن قبل أن يدخل بها الزوج باع شريكها، فلا شفعة لها؛ لأنه يمكن أن يطلقها قبل الدخول، فإذا طلقها ترجع نصف الأرض، فلا يكون لها شفعة.
وهكذا إذا كانت الأرض مجرد إقطاع، وأن الخليفة أو الملك أقطع هذه الأرض التي هي -مثلاً- مائة في مائة لزيد وعمرو، فلا يملكانها إلا بعد الغرس فيها أو بعد سقيها أو بعد البناء فيها، فإن باع أحدهما قبل الغرس ونحوه لم يكن الملك تاماً.(43/5)
لا شفعة إلا فيما انتقل بعوض مالي
وقوله: (في حصة شريكه المنتقلة لغيره بعوض مالي بما استقر عليه العقد) .
أي: ولو كانت الحصة قليلة، فلو كانت الأرض بين اثنين أحدهما له تسعة أعشارها والثاني له العشر، وباع صاحب التسعة الأعشار، فصاحب العشر له الشفعة على المشتري.
ولو تعدد المشتري: فلو كان المشتري -مثلاً- عشرة، كل واحد اشترى منها قطعة، فلصاحب العشر أن يشفع على الجميع، ويقول: أنا أحق؛ لأني شريك.
وكذلك لو كان العكس، فلو كان الذي باع هو صاحب العشر، فلصاحب التسعة الأعشار أن يأخذ هذا العشر فيضمه إلى ملكه ويعطي المشتري ثمنه، هذا إذا كان الانتقال بعوض مالي.(43/6)
إذا كان العقد بغير عوض مالي فلا شفعة
أما إذا كان الانتقال بعوض غير مالي فلا شفعة، وصورة ذلك: لو كانت الأرض بين اثنين شراكة، ثم إن أحدهما تزوج امرأة، وقال: صداقك نصف هذه الأرض التي بيني وبين خالد، ولما أصدقها أراد خالد أن يشفع؛ فهل له شفعة؟ ليس له شفعة؛ لأن شريكه دفعها مقابل النكاح، فلا يقول: أيتها المرأة! إني أشفع عليك وأعطيك صداقاً بدل هذا الصداق؛ فليس له ذلك؛ لأنها أخذته مقابل هذا الزواج، بل هو مقابل الاستمتاع بها.
هذا مثال.
مثال ثانٍ: إنسان قتل رجلاً عمداً، فقال: أولياء القتيل: سوف نقتلك أو تعطينا نصيبك من هذه الأرض بالغاً ما بلغ، فقال: خذوا الأرض، وقيمتها مائة ألف أو مائتا ألف أو ثلاثمائة، فهل هم أخذوها هنا بعوض مالي؟ ما أخذوها إلا عوضاً عن دم صاحبهم، فهذا عوض ليس بمالي، فليس فيه شفعة.(43/7)
اشتراط تقدم ملك الشفيع لصحة الشفعة
يشترط لها شروط: الشرط الأول في قوله: (وشرط تقدم ملك شفيع) أي: على البيع، فيخرج ما إذا ملكاها سواء فليس لأحدهما شفعة على الآخر، فإذا اشترى زيد وعمرو أرضاً على أنها شراكة بينهما، وكل منهما دفع نصف الثمن، فهل لأحدهما شفعة على الآخر؟
الجواب
ليس لأحدهما شفعة؛ لأنهما ملكاها دفعة واحدة، واشترياها سواءً.(43/8)
لا تكون الشفعة إلا في المشاع
الشرط الثاني في قوله: (وكون شقص مشاعاً) ، فيخرج ما إذا كان الشقص متميزاً، فلو قسماها نصفين، وقال: لك النصف الأيمن ولي النصف الأيسر، وتراضيا على ذلك، فإذا باع أحدهما بعد ذلك فلا شفعة، لأنه تميز ملك أحدهما، وفي بلوغ المرام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ، فإذا كانت الأرض مائة متر، ثم اقتسماها، وجعلا بينهما حدوداً ومعالم فلا شفعة.(43/9)
لا شفعة إلا في أرض تجب قسمتها
الشرط الثالث: كونها أرضاً تجب قسمتها.
وهذا فيه خلاف، فقسمة الأرض تنقسم إلى قسمين: قسمة إجبار، وقسمة تراضٍ.
فقسمة الإجبار: إذا كانت الأرض واسعة، وإذا قسمت لم يتضرر أحدهما، كأرض مساحتها مائة متر، فإذا قسمت أمكن صاحب الخمسين متراً أن يزرع فيها وأن يحفر وأن يبني وأن يغرس، فلا ضرر عليه بالقسمة، وهذا إذا طلب القسمة ألزم الثاني بأن يقسم معه.
أما ما لا يقسم إلا بضرر، فيسمى قسمة تراضٍ، فإذا كان بينهما -مثلاً- دكان عرضه متران، وطوله ثلاثة أمتار، وطلب أحدهما أن يقسم نصفين، فإن شريكه يقول: علي ضرر، لأنه لا يبقى إلا نحو متر وربما ينقصه الجدار فماذا يفيد؟! أنا لا أتمكن من الانتفاع به؛ فهذا لا يقسم إلا بتراضٍ، فإن تراضيا فلهما ذلك، فأما إذا لم يتراضيا فلا.
فهل تقع شفعة في هذا الدكان إذا باع أحدهما نصفه؟ الصحيح أن فيه شفعة ولو لم تجب القسمة؛ وذلك لأن الضرر فيه أشد.
وكذلك البيت إذا كان عرضه ستة أمتار وطوله سبعة أمتار أو ثمانية، وهو مشترك بين اثنين، وطلب أحدهما نصيبه قسمة، فلا يقسم إلا بالتراضي؛ لأنه إذا قسم فسد ولم ينتفع به، والصحيح أنه إذا باع أحدهما نصيبه ثبتت الشفعة.
قوله: (ويدخل غراس وبناء تبعاً) ، فإذا بيع البستان وهو بين اثنين نصفين، فباع أحدهما نصفه، وفيه غراس وبناء فإنه يدخل تبعاً، وذلك لأنه معلوم أنه للاستقرار وللدوام، والإنسان إذا بنى داراً فالعادة أنها ليست مؤقتة؛ يقول: هذه داري طول حياتي، ومن اشتراها فإنه يقول: أسكن فيها طول الحياة فليست مؤقتة.
وكذلك إذا غرس فيها شجراً كنخل أو ليمون أو رمان، فالعادة أيضاً أنه يبقى، وليس مثل الذي يموت بسرعة كبطيخ ونحوه.
فإذا شفع الشافع انتزعهما من المشتري وأعطاه ثمنه، وذلك إذا باع شريكه نصف الأرض بما فيها من البيوت وبما فيها من الأشجار.
قوله: (لا ثمرة وزرع) يعني: إذا باعها وفيها ثمر فالعادة -كما تقدم- أنه للبائع، وكذلك الزرع لبائع إلى الحصاد والجذاذ إلا إذا اشترطه المشتري، وقد تقدم هذا في الأصول والثمار.(43/10)
اشتراط أخذ جميع المبيع في الشفعة
الشرط الرابع: أخذ جميع المبيع: أن الشفيع يأخذ المبيع كله ولا يأخذ جزءاً منه.
صورة ذلك: إذا كانت الأرض أثلاثاً: أحدهما له ثلثاها والآخر له ثلث، ثم إن صاحب الثلثين باع ثلثيه على زيد، فقال صاحب الثلث: أنا أشفع، ولكن لا أريد إلا ثلثاً، فالمشتري يقول: علي ضرر، فالثلث لا يكفيني، وله أن يقول: إما أن تأخذ الثلثين أو تتنازل عن الشفعة، ويلزم بذلك، فإن عجز وأراد أخذ البعض، أو عجز عن بعض الثمن بعد إنظاره ثلاثاً بطل حقه في الشفعة.
وإذا قال: أنا شافع في الثلثين، وقيمتهما كانت أربعين ألفاً، فقال: أنا أريد أن أشفع، ولكن لا أجد إلا ثلاثين ألفاً، فيمهل ثلاثة أيام، فإن عجز، فإنه يرد الثمن وتبطل شفعته.
وكذلك لو قال للمشتري: أنت اشتريت من شريكي بأربعين ألفاً، فبعني هذا الشق الذي اشتريته بخمسين ألفاً مؤجلاً، أو قال: صالحني بنصفه أو بثلثه؛ بطلت شفعته؛ وذلك لأنه لم يبادر بالشفعة، وقد ورد في الحديث: (الشفعة كحل العقال) .
يعني: عليه أن يبادر بها، وفي حديث آخر: (إنما الشفعة لمن واثبها) ، يعني: بادر بطلبها دون تأخير.
وهكذا لو جاءه إنسان عدل وقال: إن شريكك قد باع شقصه بأربعين ألفاً، فكذبه، وليس من عادة هذا الإنسان الكذب، أو تواترت إليه الأخبار بأن صاحبه قد باع، فلم يطلب الشفعة، سقطت شفعته.(43/11)
حكم الشفعة إذا كثر الشركاء
قوله: (وإن عفا بعضهم أخذ باقيهم الكل أو تركه) : وصورة ذلك: إذا كانت الأرض بين ثلاثة: أحدهم له نصفها والآخر له ثلثها، والثالث له سدسها، ثم باع صاحب الثلث، فإذا باع صاحب الثلث، فصاحب النصف يقول: أنا أريد الشفعة، ولكن لا أشفع إلا في سدس، وصاحب السدس يقول: أنا لا أريد الشفعة، والمشتري يقول: لا أقدر أن أجزئها فإما أن تأخذه كله أو تتركه كله.
وهكذا لو باع صاحب النصف، فإذا قال صاحب الثلث: يكفيني سهمان أضمهما إلى الثلث، فقال المشتري: لا أقبل، فإما أن تأخذ النصف كله وإما أن تتنازل عن الشفعة، فإن قول المشتري صحيح، فإما أن يأخذ الشفيع نصيب شريكه كاملاً أو يدعه كاملاً.
أما إذا طلب الشريكان الشفعة؛ فإنه بينهما على قدر ملكيهما: فإذا فرضنا أن الأرض ستة أسهم، ثلاثة لواحد واثنان لواحد، والسادس لواحد، فباع صاحب الثلاثة، فأراد الشريكان الشفعة، فكيف نقسمها بينهما؟
الجواب
على قدر سهامهما، فلصاحب السهمين سهمان، ولصاحب السهم سهم، فيصبح صاحب السهمين يملك الثلثين، ويصبح صاحب السهم يملك الثلث.
فإن ترك أحدهما الطلب وقال: لا أريد الشفعة ألزم الآخر بأن يأخذ الجميع أو يترك الجميع؛ لئلا يتضرر المشتري.(43/12)
حق الشفعة لا يورث
هذا معنى قوله: (وإن عفا بعضهم أخذ باقيهم الكل أو تركه) .
قوله: (وإن مات شفيع قبل طلب بطلت) : يعني مات قبل المطالبة بالشفعة فإن حقه من الشفعة يبطل، ولا تثبت الشفعة لورثته؛ وذلك لأن ملك الورثة متجدد، وقد ذكرنا أنه لابد أن يكون الملك سابقاً للبيع، والورثة ملكهم حادث بعد البيع للمشتري.(43/13)
حكم الشفعة إذا كان ثمن المبيع مؤجلاً
وإن كان الثمن مؤجلاً أخذ الشفيع به إذا كان مليئاً، وغير المليء يأتي بكفيل مليء، فإذا باع أحدهما نصيبه -مثلاً- بأربعين ألفاً مؤجلة لمدة سنة، وقال الشفيع: أنا شافع بالأربعين، ولكن كيف آخذها وهي مؤجلة؟ فنقول: إن كان الشفيع مليئاً فإنه يؤجل عليه الثمن، ولا يدفعه إلى سنة، وإذا لم يكن مليئاً فكان فقيراً فلا شفعة له إلا إذا وثق بكفيل مليء.(43/14)
ثبوت الشفعة بإقرار البائع وإنكار المشتري
يقول: (ولو أقر البائع بالبيع وأنكر مشترٍ ثبتت) : وذلك لأنها إنما ثبتت بإقرار البائع، فإذا قال البائع: أنا بعت نصيبي بأربعين ألفاً على زيد، فقال: زيد: أنا ما اشتريت، فقال الشريك: أنا شافع، ويكون الملك لي؛ ثبتت الشفعة بإقرار البائع بالبيع.(43/15)
الأسئلة(43/16)
حكم من دخل الصلاة وتيقن أنه على غير طهارة
السؤال
صليت المغرب وأنا في الركعة الثانية تذكرت بأني لست على طهارة، وتيقنت من ذلك، وحينما أردت الخروج تذكرت بأن ورائي صفوفاً من المصلين، والتخطي فيه مشقة، فأتممت صلاتي وأنا متيقن بأني لست على طهارة؛ فماذا أفعل الآن؟
الجواب
تعيد الصلاة، وإذا سلم المصلون تخرج سريعاً، وتجدد الوضوء وتعيد الصلاة التي صليتها بغير وضوء.(43/17)
حكم إلغاء عقد الإيجار قبل انتهاء وقته
السؤال
شخص استأجر مستودعاً بأجرة مقدارها عشرة آلاف ريال، واشترط عقد إيجار لمدة عشر سنوات، وبعد سنتين أراد المؤجر أن يلغي العقد: هل أطالبه بإيجار عشر سنوات؟
الجواب
إذا كان العقد بينهما محكماً عشر سنوات، كل سنة بكذا وكذا، وقد اتفقا على ذلك، فليس للمالك أن يلزمه بفسخ العقد؛ لأنه قد تم العقد بينهما سواء دفع القيمة أو كانت القيمة والأجرة على أقساط، فإن تنازل لذلك المستأجر فإنه من نفسه.
يعني: يجوز له أن يتنازل، وإن أصر فليس للمالك إلزامه بالتنازل.(43/18)
إبراء ذمة الميت من الدين
السؤال
توفي والدي وبعد شهرين أتى رجل يدعي أن له مبلغاً من المال، ولا يوجد معه بينة ووجدت في أوراق والدي أنه لم يكمل عمله وأنه أخذ مبلغاً مقدماً ولم يكمل عمله، وقد رددت على هذا الرجل وقلت له: هات بينة، والآن أجد في نفسي أنني أعطيه المال؛ ليذهب الشك عني، علماً بأن بحثت عن الرجل فلم أجده فماذا أفعل؟
الجواب
كما سمعت تصدق عنه، وتكون الصدقة عنه مضمونة، إن وجدته بعد ذلك، وأيضاً: إذا كان أبوك منعه؛ لأنه لم يكمل عمله، فلا حق له؛ لأنه لا يستحق الأجرة إلا بإتمام العمل، ولكن الأولى أن تبرئ ذمة أبيك.(43/19)
حكم اعتبار المال المفصول في الزكاة
السؤال
إذا غُصب مني مال، فهل يحق لي أن أعتبره من الزكاة؟
الجواب
لا يحق لك؛ وذلك لأن الغاصب عادة ليس من أهل الزكاة لظلمه، وقد يكون غنياً لا تحل له الزكاة، وإن عرفت الغاصب فلك مطالبته، وأخذ المال منه، وإن لم تعرفه فسوف تجده في الآخرة.(43/20)
حكم الضمان في حالة احتراق دكاكين متجاورة
السؤال
احترق مستودع للدخان، وكان ذلك بسبب سوء التوصيلات في المستودع المجاور له، فهل علي ضمان ذلك، علماً أن الحريق بدأ في مستودعنا أولاً؟
الجواب
ليس عليك ضمان إذا كان هذا الحريق حريقاً عاماً، فإنه قد تحترق عدة مخازن، وعدة دكاكين، بسبب حريق واحد، وهذا ليس بالإمكان.(43/21)
حدود السترة في الصلاة
السؤال
أحد الإخوة أتى إلي وأنا أصلي السنة الراتبة بعد صلاة المغرب فطرح سواكه أمامي على الأرض، ثم مر من أمامي من وراء السواك، فهل علمه هذا صحيح؟
الجواب
لا يكفي أن يكون السواك سترة، فالأولى أن يجعل بينه وبين قدميك نحن ثلاثة أذرع، ويمر من وراء ذلك.(43/22)
حكم من وضع سماً في مزرعته فماتت البهائم بسبب
السؤال
دخلت غنم في مزرعة شخص فأتلفت مزرعته، ثم حذر أصحاب الغنم من ذلك، وتكرر إتلاف مزرعته، فأخبر أصحابها أنه سوف يضع السم في المزرعة، فوضع السم وأتت الغنم وماتت؛ فهل يغرم؟
الجواب
لا شك أنه يغرم، وذكرنا أن ما أتلفته الغنم ليلاً فإنه يضمن صاحبها؛ لأنه فرط بحفظها، ونهاراً لا ضمان عليه؛ لأن أصحاب الحرث فرطوا بالحفظ، فوضعه لهذا السم يعتبر ظلماً منه، وعليه غرم ما تلف بسبب السم الذي وضعه عمداً؛ لأن البهائم لا تميز.(43/23)
حكم الصلاة في الأرض المسورة
السؤال
ما حكم الصلاة في الأرض التي عليها سور، وما حكم دخولها؛ وهذا يحصل كثيراًَ في السفر؟
الجواب
لا يعد غصباً؛ لأن كونها مسورة -مثلاً- وصاحبها لا ينتفع بها، وجاء المسافرون فوجدوها مسورة، ولها باب، ففتحوها وصلوا فيها، أو استظلوا بها أو استتروا بها عن أعين الناس؛ فلا يعد هذا غصباً، ولا تعد صلاتهم باطلة.(43/24)
حكم من اشترى أرضاً مغصوبة بالخطأ وبنى فيها
السؤال
لوالدي أرض، ولم يعلم إلا وقد بُني فيها بالخطأ، حيث بيعت من قبل المكتب العقاري خطأً بالأرض المجاورة لها، فما حكم ذلك، وهل يجوز الطلب من صاحب البناء أن يهدم بناءه؟
الجواب
إذا كان قد بنى فيها فتتفقون على الثمن، وتشترون منه البناء، فهو أفضل من الهدم لبناء ربما كلفه عشرات الألوف أو مئات الألوف، والبائع الذي أخذ الثمن فإنه يرده ويبيع الأرض الأخرى.(43/25)
شرح أخصر المختصرات [44]
الوديعة: هي الأمانة التي تودع عند إنسان ليحفظها، ويسن قبولها لمن علم من نفسه الأمانة، ولها مسائل وأحكام خاصة ينبغي معرفتها، وهي مذكورة في كتب الفقه.(44/1)
باب الوديعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويسن قبول وديعة لمن يعلم من نفسه الأمانة، ويلزم حفظها في حرز مثلها، وإن عينه ربها فأحرز بدونه أو تعدى أو فرط أو قطع علف دابة عنها بغير قول ضمن، ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه، وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن، وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم، فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه، ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها.
فصل: ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم ملكها، ويحصل بحوزها بحائط منيع، أو إجراء ماء لا تزرع إلا به إن قطع ماء لا تزرع معه، أو حفر بئر أو غرس شجر فيها، ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر.
فصل: ويجوز جعل شيء معلوم لمن يعمل عملاً ولو مجهولاً، كرد عبد، ولقطة، وبناء حائط، فمن فعله بعد علمه استحقه، ولكل فسخها، فمن عامل لا شيء له، ومن جاعل لعامل أجرة عمله، وإن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جَعْلٍ أو معدٍ بلا إذن فلا شيء له إلا في تحصيل متاع في بحر أو فلاة، فله أجر مثله، وفي رقيق دينار أو اثنا عشر درهماً.
فصل: واللقطة ثلاثة أقسام: ما لا تتبعه همة أوساط الناس كرغيف وشسع، فيملك بلا تعريف.
الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كخيل، وإبل، وبقر، فيحرم التقاطها، ولا تملك بتعريفها.
الثالث: باقي الأموال، كثمن، ومتاع، وغنم، وفصلان، وعجاجيل، فلمن أَمِنَ من نفسه عليها أخذها، ويجب حفظها وتعريفها في مجامع الناس غير المساجد حولاً كاملاً، وتملك بعده حكماً، ويحرم تصرفه فيها قبل معرفة وعائها ووكائها وعفاصها، وقدرها وجنسها وصفتها، ومتى جاء ربها فوصفها لزم دفعها إليه، ومن أخذ نعله ونحوه ووجد غيره مكانه فلقطة.
واللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل إلى التمييز، والتقاطه فرض كفاية، فإن لم يكن معه شيء وتعذر بيت المال أنفق عليه عالم به بلا رجوع، وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيه المسلمون، وإن ادعى أجنبي رقه وهو بيده صدق، وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به] .
الوديعة هي: الأمانة التي تودع عند إنسان ليحفظها، وهي مشتقة من ودع الشيء إذا تركه؛ لأنها متروكة عند المودع، (ودعه) أي: تركه، وقرأ بعض القراء قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أي: ما تركك.
ثم يسن أن يقبلها، إذا جاء إنسان يودع عندك وديعة دراهم أو أكياساً أو أقمشة يريد أن تحفظها حتى يحتاجها، أو أطعمة أو مواشي وأنت تعلم من نفسك الأمانة فإنك تحفظها، سواءً بأجرة أو تبرعاً، والمتبرع له أجر؛ لأنه داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، فمن وثق من نفسه بالأمانة، فإنه يحفظها في حرز مثلها.
قوله: (يلزم حفظها في حرز مثلها) ، أي: ما تحرز فيه، ومعلوم أنها إذا كانت جواهر أو حلياً أو نقوداً أنها تحفظ في الصناديق التي يقفل عليها، ما يسمى الآن بالتجوري أو ما أشبه.
يعني: أنه يقفل عليها ويحفظها؛ لأنها تتبعها الهمم، وربما تناولها الجهلة والسفهاء ونحوهم وعبثوا بها.
وقوله: (وإن عينه ربها فأحرز بدونه) فإنه يضمن، فإذا قال: احفظها في جيبك، فحفظها في كمه أو في يده، فإن اليد أقل حفظاً وحرزاً من الجيب، فيضمن والحال هذه؛ لأنه تساهل، وإذا قال: احفظها في الصندوق، فحفظها مثلاً في رف أو روزنة، فإنه يضمن؛ وذلك لأن هذا أقل حفظاً لها.
وإذا كانت غنماً وقال: احفظها في الزريبة، فتركها في الطريق فافتلتت ضمنها؛ لتساهله في حفظها، وكذلك إذا قال: احفظ هذه الأكياس في المستودع، فتركها خارج المستودع في داخل السور أو نحوه فإنه يضمن، ويلزمه أن يحرزها في حفظ مثلها.
وكذلك يضمن إذا تعدى أو فرط، فالتعدي: الاستعمال، فإذا لبس الثوب أو فتق الختم أو الحزام، أو حل حزام السمن فاهراق، أو حزام الكيس فعبثت به دابة أو طفل، فيعتبر متعدياً.
وكذلك: إذا فرط، فأهملها كأن ترك الباب مفتوحاً فدخل الأطفال فعبثوا بها أو أخرجوها، أو أهمل الدابة في الطريق فظلت، وكذا لو قطع العلف إذا كانت دابة فإنها لا تعيش إلا بالعلف، فإذا قطع العلف عن الشاة مثلاً، أو عن البقرة، أو البعير ضمن؛ لأنها لا بد لها من طعام، وينفق عليها مما أعطاه صاحبها، وصاحبها عادة قد يعطيه نفقة، وقد يقول له: خذ هذه النفقة، هذه مائة ريال أنفق عليها منها، وقد يقول له: انفق عليها واحبسها وأنا أعطيك ما خسرته.
أما لو رخص له صاحبها فقال: لا تنفق عليها بل اتركها تأكل بنفسها، تأكل من الحشيش ونحوه، فتركها فهزلت أو ماتت فإنه لا يضمن.
وكذا إذا قال له صاحبها: لا تطعم الدابة ولا تسقها، ولكن لا شك أنه يأثم إذا رآها تموت جوعاً أو ظمأً، فإن من رآها، ولو كان أجنبياً عليه أن يعلفها ويزيل عنها الظمأ ونحوه، ولو لم تكن مملوكة له، بل لو لم تكن مملوكة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -يعني: خفها- فنزلت في البئر وسقته، فغفر الله لها، قالوا: وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) .
قوله: (ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه) .
المودع: الموكل على حفظها.
فإذا قال: رددتها إليك، أو وكلتني أن أردها إلى فلان، فرددتها بأمرك، وأنكر صاحبها، فالقول قول المودع؛ لأنه أمين فلا يضمن.
قوله: (لا وارثه) : أي: وارث المودع؛ وذلك لأنه إذا مات المودع، وجاء وارثه، وقال: إن أبي قد ردها عليك، فلا يقبل إلا ببينة؛ لأنك ما ائتمنته إنما ائتمنت أباه أو مورثه.
قوله: (وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن) : أي: يقبل قوله في تلفها وعدم تفريط وتعدٍ وفي الأذن، فإذا قال: ماتت الشاة حتف أنفها، أو احترق الثوب، أو سرق المتاع، أو تآكل الجلد أو الثوب.
أي: أكله العث، أو نحو ذلك؛ فإنه يقبل قوله؛ لأنه مأمون موثوق.
ويقبل قوله في عدم التفريط، فإذا قال صاحبها: إنك فرطت وأهملت الشاة حتى افترست، فادعى أنه ما أهمل، فالقول قوله.
وكذلك: لو ادعى أنك تعديت، فلبست الثوب أو فككت حزام الدراهم، أو حزام الطعام، أو الدهن حتى اهراق، أو أخرجته حتى تسلط عليه الأطفال، أو الطير، أو الدواب؛ فأنكر المودع فإن القول قوله، أنه ما تعدى ولا فرط.
وكذلك في الإذن، إذا قال: أذنت لي أن أستعمله، أذنت لي أن أقترض من الدراهم، أذنت لي أن أتصدق منها، أو أذنت لي أن أعطيها لفلان فإنه يقبل قوله فيه.
قوله: (وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه) : صورة ذلك: إذا أودعك اثنان كيس بر، أو أرز، أو سمن، أو تمر، وقالا: هذا بيننا نصفين أي: كل منهما له نصف، فجاء أحدهما وقال: أنا محتاج، وشريكي في هذا الظرف غائب، فأعطني نصيبي، فلك أن تعطيه؛ لأنه طلب حقه.
وكذلك لو كان شريكه حاضراً ولكن امتنع، وقال: لا حاجة لي الآن في هذا الكيس، لست بحاجة إلى هذا الأرز ولا إلى هذا السمن، فإنه يعطى صاحبه وشريكه نصيبه، ويقسم نصفين بالمكيال أو بالميزان، ثم يعطى نصيبه.
المكيل: مثل الأدهان والألبان، وكذلك الحبوب والثمار، فهذه تقدم أنها مكيلة، والموزون: إذا كان بينهما مثلاً: قطن أو صوف -يعني شيء يوزن- فيقسم بينهما ويعطى هذا نصيبه، ويبقى نصيب الآخر حتى يأتي.
قوله: (ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها) أي: إذا غصبت العين المودعة، كما لو أودع عندك إنسان كتاباً وغصبه واحد، فإن لك حقاً أن تطالب به، فإذا قال: الكتاب ليس لك، أو الكيس ليس لك، أو البعير ليس لك، فقل: إنه أمانة عندي، صاحبه أودعه عندي فأنا وكيل على أن أحفظه، فلك أن تطالب الغاصب حتى تسترجعه.
وكذلك: المضارب: إذا أعطاك إنسان عشرين ألفاً وقال: اتجر فيها والربح بيننا، فتسمى هذه مضاربة وتسمى قراضاً، فأنت منك العمل وهو منه المال، فلو غصبت هذه العشرون الألف فإنك تطالب الغاصب؛ لأنها أمانة عندك، فتطالب الغاصب حتى يعيد إليك ما أخذه من هذا المال الذي هو وديعة عندك، ولك فيه حق وهو بعض الربح، ولصاحبه حق، فأنت الموكل.
كذلك المرتهن: إذا رهن عندك إنسان شاة أو كيساً أو سيفاً، ثم غصبه غاصب، فإنك تطالبه أنت أيها المرتهن، ولو كان غير ملكك، ولو كان ذلك الغاصب قريباً للمالك، ولو قال: هذا البعير بعير أخي فإنا أحق به، أو بعير ابن عمي، أو كيس جاري وقريبي فغصبه منك بغير حق، فإنك تطالبه؛ لأنه وديعة عندك.
وثانياً: أنه وثيقة قبضته وأمسكته حتى يحل دينك وتبيعه إذا لم يوفك الراهن.
وكذلك المستأجر: له أيضاً: مطالبة الغاصب، أياً كانت العين المؤجرة، فلو أنك استأجرت بيتاً، فجاء إنسان فغصبك وأخرجك، فإنك تطالبه.
أو استأجرت كتاباً فغصب منك، فلك المطالبة، ولو لم يكن الكتاب لك.
أو مثلاً: استأجرت سيارة تركبها فغصبت منك، أو بعيراً تركبه، أو بقرة تحلبها، فالغاصب يطالبه المغصوب منه إذا كانت مستأجرة عنده؛ لأنها أمانة عنده، والمال المضارب، والعين المرهونة، والعين المستأجرة كلها وديعة وكلها أمانة عند من هي في يده، فإذا غصبها غاصب فله مطالبة ذلك الغاصب.(44/2)
باب إحياء الموات
هذا الباب يتعلق بإحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك المعصوم، وتسمى مواتاً؛ لأنها أرض ميتة ليست لأحد، فمن أحياها ملكها.
واختلف هل يشترط فيها إذن الإمام أو لا يشترط؟ فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة اشتراط إذن الإمام، وكذلك رواية عن أحمد، وفي هذه الأزمنة يترجح عدم الإحياء إلا بإذن الإمام، نظراً إلى كثرة من يغلب عليهم الهلع، وكذلك الاستكثار، فيأخذون ما ليسوا بحاجة إليه وأيضاً: قد يحصل فيها شقاق ونزاع إذا لم تكن بإذن الإمام؛ فلذلك العمل في هذه البلاد: على أن الإحياء يشترط فيه إذن الإمام.
قوله: (ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات) : هناك ما يسمى بالأرض المختصة، فإن البلاد بحاجة إلى مراعي وبحاجة إلى مرتفقات، فتسمى هذه خصائص البلد، فليس لأحد أن يحييها؛ لأنه يضر بأهل البلد، وكذلك أيضاً: الإنسان إذا بنى داراً كان بحاجة إلى الأرض التي أمام بيته، موقف مناخة، وملقى كناسته، أو موقف سيارة، فليس لأحد أن يضايقه، فتسمى هذه اختصاصات.
قوله: (ملك معصوم ملكها) : وكذلك: إذا لم يكن فيها ملك لمعصوم، والمعصوم: هو المسلم والذمي، فإذا كان فيها ملك لذمي ولو كان كافراً لم تملك بالإحياء؛ لأنه قد ملكها ذلك المعصوم وبالطريق الأولى إذا كان مسلماً، فلا يحل لأحد أن يحييها.
ثم اختلف أيضاً: في الإحياء في دار الحرب، فإذا كانت الأرض في دار حرب وليست في دار إسلام -يعني: أهل تلك البلد محاربون للمسلمين- فسبق إنسان وأحياها، إن قيل: إنه لا يملكها؛ وذلك لأنها لا تملك إلا بالاغتنام، أي: لا تملك إلا بأخذها غنيمة، فإذا لم تكن غنيمة فلا يحصل الإحياء.
والقول الثاني: أنه يملكها ولو كانت في أرض حرب، والعمل على أنه يملكها إذا أحياها إحياء شرعياً، ويكون ذلك من جملة ما يحوزه المسلم كغنيمة يأخذها من بلاد المحاربين.
وإذا قيل: بأي شيء يحصل الإحياء؟ يقال: في هذه البلاد يحصل ما يسمى بالمنح -أن يمنح الإنسان أرضاً- وقديماً كان يسمى (إقطاعاً) أن يقطع الإمام أرضاً لمن يحييها، كما في حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع وائل بن حجر أرضاً) .
يعني: قال له: هذه الأرض لك اغرس فيها واستغلها، فيكون هذا المقطع أحق بها، فإما أن يحييها، وإما أن يتحجرها، وإما أن يعجز عنها، والدولة في هذه الأزمنة إذا منحت، تشترط أنك تحييها في ثلاث سنين مثلاً، أو خمس، أو ست وتحدد له مدة، فإذا لم يحيها فإنه يستحق أن تنزع منه وتعطى لمن يحييها، حتى تستغل، فإن فيها منفعة فتستغل منفعتها، فمن أمسكها وتركها مواتاً عشرات السنين فقد أضاع منفعتها.
وقوله: (ويحصل بحوزها بحائط منيع) أي: بأن يعني يبني عليها جداراً من جميع الجهات، وهذا الجدار لا بد أن يكون منيعاً، بحيث لا تدخلها الغنم، ولا البقر، ولا الكلاب، بل يردها هذا الجدار، فمن أحاط عليها حائطاً فقد أحياها، واستحق أنها تبقى في ملكه، واعتبر قد عمرها.
الثاني: قوله: (أو إجراء ماء لا تزرع إلا به) أي: إذا أجري عليها ماء فإنها تملك بهذا، والعادة أن الزراع يبذرون ثم يجرون الماء، وعادة أنه يجري بسواقي.
وفي هذه الأزمنة يقوم مقامها ما يسمى بالرشاش، ويعتبر سبباً في التملك، فإذا بذر فيها ثم رشها بهذا الرشاش الذي يسقى به الزرع ملكها، وصار أحق بها هو وأهله من بعده.
ولو أجرى الماء -مثلاً- من مسافة ثلاثة كيلو مع سواقي إلى أن وصل إليها وزرعها ملكها، وأما أن يأتي بماء في قراب أو في سيارة ثم يصبه عليها فلا يملكها والحال هذه؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن كل أحد يأتي بقربة ويصبها في مكان ويقول: ملكت هذه البقعة! فلا بد أن يجري الماء، إما مع سواقي أو ما أشبه ذلك من أنابيب الري.
وما زرعه على الطّل، أو على المطر، لا يملكها؛ وذلك لأنه ما أجرى إليها ماء، بل الماء الذي سقاه بها ماء السماء، فلا يملكها والحال هذه، ولكن يكون أحق بها ما دام زرعه باقياً.
قوله: (أو قطع ماء لا تزرع معه) ، كما لو جاء إلى أرض قريبة من الأنهار، أو من البحر، ثم حبس الماء الذي فيها ومنعه، وكانت مستنقعاً، فإنه يملكها والحال هذه؛ لأنها قبله لا تصلح أن تزرع، فقد كانت مستنقعاً -قطعة بحر أو قطعة نهر- فدفن ذلك المستنقع، أو حجز الماء الذي يمد إليها من البحر أو من النهر، فيملكها بذلك.
وكذلك: إذا حفر بئراًَ فإنه يملك حريمها، وورد في حريم البئر خلاف: فمنهم من يقول: حريم البئر مد رشائها، ومنهم من يقول: حريمها خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب إذا كانت بئراً جديدة، وإذا كانت قديمة فحريمها خمسون ذراعاً من كل جانب، وورد في ذلك حديث: (للبئر البدي خمسة وعشرون ذراعاً، والعادي خمسون ذراعاً) ، العادية: البئر القديمة، وإذا وجدت بئراً قديمةً قد اندفنت، وليست لأحد ولا يعرفها أحد، ثم إنك أحييتها، وحفرتها من أعلاها حتى أخرجت ماءها، وحتى وصلت إلى قعرها، فإن لها حريماً -يعني: حمى- من كل جانب: خمسون ذراعاً، وأما البئر الزراعية التي تزرع عادةً، فذهب بعضهم إلى أن حريمها ثلاثمائة ذراع من كل جانب إذا كانت للزرع، بخلاف ما إذا كانت لسقي الدواب، أو الامتياح -يعني: الارتواء منها- فإنه يكفيه خمسة وعشرون أو خمسون، وإذا كانت لا تكفي لعمقها، بأن كان عمقها -وهي بدية- ستين ذراعاً، أو عمقها خمسين ذراعاً، وقد رأينا آباراً في شمال المملكة عمقها أكثر من ستين باعاًًً -ليس ذراعاً- وذكروا لنا أن هناك بئراً عمقها قريب من تسعين باعاً، ففي هذه الحالة هم بحاجة إلى أن يكون حماها مد رشاها، وعادتهم أنهم يجتذبون الماء بالدلاء، والدلو معلق في رشا -حبل-، ثم يربطون طرف الحبل ويضعونه على البكرة، ثم يربطونه على دابة -بعير مثلاً- وفي هذه الأزمنة على سيارة يجتذبوا الدلو من البئر إلى أن يخرج، فربما يكون طول الرشا نحو ثلاثمائة ذراع أو قريباً منها؛ فلذلك هي بحاجة إلى مد رشاها.
فالحاصل: أن من حفر بئراً إلى أن وصل إلى الماء فإنه يملكها ويملك حريمها.
وكذلك إذا غرس شجراً فيها مما لا يعيش إلا بالغرس، يعني: أخرج الماء من البئر ثم غرسه حولها ملك ما غرسه كما يملك ما زرعه، وإذا أخرج الماء وزرع به زرعاً ولو مائة باع ملك، وكذلك إذا غرس غرساً وسقاه من هذه البئر أو جذب ماء من بئر بعيدة وسقى ذلك الغرس: نخلاً أو تيناً، أو أترجاً، أو من الشجر الذي لا يقوم على ساق كبطيخ وقرع ونحوه، ملك الأرض التي غرس فيها.
يقول بعد ذلك: (ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر) ، أي: من الناس من يكون معه بضاعة قليلة ويحتاج إلى أن يبسط بساطاً وينشر عليه بضاعته، ويعرضها للمشترين فإذا كان الشارع واسعاً وجاء إنسان وبسط بساطه في جانب من هذا الطريق، وترك فيه متاعه في صندوق ثقيل، أو نحو ذلك، وكلما أصبح نشر بضاعته فهو أحق بذلك المكان؛ لأنه سبق إليه، ولو طالت مدة بقائه فيه، وكذلك إذا منح من قبل البلدية، وإذا أعطته البلدية قطعة، وقالت: أنت تستحق هذه القطعة، ابسط فيها بساطك وانشر فيها بضاعتك، حتى تستغني عنها، أو تجد ما تستأجر به دكاناً، فإنه أحق بهذا المكان ولو طالت المدة.(44/3)
باب الجعالة
الجعالة: عرفها الشارح بقوله: أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملا ًمعلوماً أو مجهولاً بعوض معلوم.
قوله: (كرد عبد) وفي المتن المحقق: (لا كرد عبد) فـ"لا" هنا زائدة، وهو تكرار لها في: (مجهولاً) والصواب (مجهولاً كرد عبد) يعني: بدون "لا".(44/4)
صورة عقد الجعالة
من أمثلة العمل الذي تجعل عليه الجعالة: رد عبد آبق، ورد لقطة، وبناء حائط؛ فهذه أمثلة للجعالة، معناه: أنه لا يتفق مع إنسان، ولو اتفق معه لكانت إجارة، ولكن يقول: من بنى لي هذا الجدار فله مائة، أو من رد شاتي التي هربت، أو التي ضاعت فله عشرة، أو من رد اللقطة التي فقدتها -دراهم مثلاً أو ثوباً أو كيساً أو سيفاً- من أتى بهذه اللقطة فله مائة أو فله عشرة فنسمي هذا جعالة.
أي: جعلاً، لا أنه أجرة، فمن عمل هذا العمل استحقه، ومن فعله بعد علمه استحقه، وأما من فعله قبل علمه فإنه يعتبر متبرعاً.
فلو مثلاً: وجدت شاة فلان -ضالة- وعرفتها، وأتيت بها، وأنت ما علمت، فلما أتيته ذكر لك أنه قد جعل لمن جاء بها عشرة، فلا تطالب بهذه العشرة؛ وذلك لأنك متبرع ومحسن في إتيانك بها، وكذلك لو سقط منه كيس، وعرفت أنه كيس فلان، ثم أتيته به، اعتبرت متبرعاً، فليس لك المطالبة، ولا تطالب بقولك: إنه أعطى لمن جاء بالكيس عشرة أو خمسة لاعتبارك متبرعاً قبل أن يأتيك أو قبل أن تعلم، وهكذا لو قال: من حفر هذه البئر إلى الماء فله ألف، ومن بنى هذا الجدار وأقامه على صفة كذا وكذا، فله مائة أو خمسمائة، فعلم بذلك إنسان أو جماعة وعمروا وبنوا، فإنهم يستحقونه، وإذا كانوا جماعة اقتسموا الجعل بينهم على حسب أعمالهم، وإذا كان بعضهم أشد أو أكثر عملا ً استحق زيادة.
هذه هي الجعالة.(44/5)
حكم الجعالة
الجعالة عقد جائز وليست عقداً لازماً، فله أن يفسخه، وله أن يقول: قد رجعت عن قولي، ولن أعطي من رد ضالتي أو لقطتي شيئاً، وأنا الذي سوف أطلبها، ولا أعطي شيئاً على بناء الجدار، وأنا الذي سأبنيه، ففي هذه الحال إذا فسخ فإنه لا شيء لمن فعلها بعد الفسخ، لكن لو عمل العمل قبل أن يصل إليه خبر الفسخ، أي: علمت أنه جعل لمن رد بعيره عشرة، ووجدت البعير وأقبلت به، ولما أقبلت جاءك أناس وقالوا: إنه قد رجع وقال: لا يرده أحد، اتركوا البعير يرعى بنفسه، ولكنك قد أتيت به؛ فتستحق أجرة بقدر عملك، كما لو أتيت به إلى البلد قبل أن تعلم أنه أبطل الجعالة.
وكذلك لو أن إنساناً قال: من بنى لي جداراً طوله كذا فله مائة، ثم إن إنساناً بنى ربع الجدار أو ثلثه، ثم ترك البقية، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يأت بما جعلت الجعالة عليه، أما لو بنى نصفه أو ثلثه، ثم جاء صاحب الجدار، وقال: رجعت لا أبذل له شيئاً، ففي هذه الحال يلزمه أن يعطي العامل أجرة عمله، فإن بنى نصف الجدار فله نصف الجعالة، وإن بنى ثلثه فله ثلثها، وهكذا إذا فسخ الجاعل فللعامل أجرة ما عمله.(44/6)
من أحكام الجعالة
قوله: (إن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جُعْل، أو معدٍ بلا إذن فلا شيء له) ، لماذا؟ لأنه عمله متبرعاً، فلو رأيت جداراً متصدعاً فهدمته وأقمته، ولم يجعل صاحبه عليه شيئاً، أو رأيت بعيراً هارباً شارداً فوجدته، ولم يجعل صاحبه عليه شيئاً، فهل تستحق شيئاً؟ ليس لك جعالة، ولا تستحق؛ لأنك متبرع بهذا العمل، أو رأيت ثوباً متسخاً فغسلته أو كويته، وهو لم يجعل أجرةً أو جعالة، فلا تستحق شيئاً؛ لأنك متبرع.
وكذا: لو سقيت إبله، فرأيت إبله وردت على ماء وهي ظمأى وسقيتها، وهو لم يجعل أجرة ولا جعالة لمن سقاها، فلا شيء لمن سقاها؛ لأنه متبرع.
هذا معنى قوله: (وإن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جعل، فلا شيء له) ؛ وذلك لاعتباره متبرعاً، فمن خاط ثوباً بلا جُعْل أو غسله بلا جُعْل، أو طحن دقيقاً بلا جُعْل -يعني: ما أمر به-، أو رد بعيراً بلا جُعْل، أو نسخ كتاباً بلا جُعْل، فكل من فعل ذلك اعتبر متبرعاً ولا شيء له.
وكذلك قوله: (معدٍ بلا إذن) إذا كان معداً للجعالة، ولكن فعلته بدون إذنه، فلا شيء لك.
يعني: ما أذن لك أن تحفر بئره، ولو قلت: أخشى أن يموت حرثه أو شجره، فحفرتها حتى يكون فيها ماء، أو أحصد زرعه بدون أن يأذن لي ولو لم يجعل جعالة، أحصده حتى لا تأكله الطير أو الوحوش والدواب فليس لك جعل؛ وذلك لأنه ما أذن لك.
قوله: (إلا في تحصيل متاع من بحر أو فلاة فله أجر مثله) .
وهذا مستثنى، فمثلاً: إذا سقط متاعه في بحر، سقط منه كيس في بحر فأنقذته، أو متاع أوان فأنقذتها، ففي هذه الحال لك أجرة المثل، وكذلك لو وجدت له كيساً في صحراء وعرفت أنك إذا لم تأخذه فإنه سيلتقط -سيأخذه اللصوص ونحوهم- أو وجدت شاة ضالة وعرفت أنك إذا لم تنقذها ماتت، أو تلفت، فتستحق تشجيعاً لك على هذا أجرة المثل.
يقول: (وفي رقيق دينار أو اثنا عشر درهماً) .
يعني: العبد إذا هرب، وقد ورد عن بعض الصحابة أنهم قدروا أجرة رده ديناراً أو اثنا عشر درهماً، فإذا أبق العبد وجاء به إنسان إلى صاحبه، فإنه يستحق ذلك، والدينار: يقدر بأربعة أسباع الجنيه السعودي، والدراهم: اثنا عشر درهماً في ذلك الوقت، وهي مقابل الدينار.(44/7)
باب اللقطة
اللقطة هي: مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، يعني: مال وجدته ساقطاً في أرض تتبعه همة أوساط الناس؛ وذلك لأن الفقهاء قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نفوسهم ضعيفة: لو سقط منه ريال لاهتم به، ورجع يطلبه، ولو سقط منه رغيف خبز لذهب يطلبه، ولحزن له، وجعل ينادي من وجده.
القسم الثاني: رفيعة أنفسهم، لو ضاع من أحدهم مائة أو مئات ما همه ذلك، ولا اهتم بطلبها؛ وذلك لكثرة ماله، وعزة نفسه.
القسم الثالث: أوساط الناس، يعني: عوامهم، وهؤلاء إذا سقط من أحدهم خبزة، لم يهتم بها ولم يسأل عنها، أو قضيب عصا لم يهتم بذلك، أو تمرة أو نحوها لم يهتم بها.
وإذا سقط من أحدهم عشرة ريالات أو عشرون ريالاً رجع يتتبع أثرها، ويسأل: من وجدها؟ أو ضاع منه ثوب قيمته عشرة أو نحو ذلك، وغالباً أنه لا يهتم لما هو دون ذلك، فلا يهتم للريال أو الريالين أو ما أشبهها، ولا يهتم بالخبزة أو بالحبل أو نحو ذلك.
فالحاصل: أن الأشياء التي لا تتبعها همة أوساط الناس لا يحتاج ملتقطها إلى أن يعرفها، بل من وجدها ملكها، قد ورد أن بعض الصحابة قالوا: (رخص لنا في التقاط الحبل والثوب بدون تعريف) .
وثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فرفعها، وقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ، فهو دليل على أنها لا تحتاج إلى تعريف، فمثل تمرة، أو كسرة خبز، أو ما أشبه ذلك، مثل هذه لا تعرف.(44/8)
أنواع اللقطة
ولذلك قسموا اللقطة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما لا تتبعه همة أوساط الناس: كرغيف، أو سوط، أو عصا، أو شسع -يعني: سير النعل- أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تعرف.
القسم الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع: كخيل، وإبل، وبقر، وحمر ونحوها، فهذه لا تلتقط ولا تملك بتعريفها، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة؟ فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك أو استنفقها، ومتى جاء صاحبها يوماً من الدهر فوصفها فأعطها له، فقيل: فضالة الإبل؟ فغضب وقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يأتيها ربها، فقال: فضالة الغنم؟ فقال: خذها، فهي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ، فيقاس على الإبل الخيل؛ لأنها تهرب فلا يدركها السبع -الذئب ونحوه- وكذلك البقر، فإنها تمتنع من الذئاب العادية، ولا تقدر على افتراسها غالباً، ولكن قد تفترس إذا اجتمع عليها اثنان أو ثلاثة، وكذلك الإبل قد يجتمع عليها ثلاثة من الذئاب أو أربعة.
القسم الثالث: بقية الأموال.
فالحاصل: أن الضوال ثلاثة أقسام: الأول: لا تتبعه همة أوساط الناس، فهذا لا يلتقط، ولا يعرف.
الثاني: ما يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالخيل والإبل والبقر، فيحرم التقاطها، ولا تملك بالتعريف، ولو عرفها عشر سنين.
الثالث: بقية الأموال، كالأثمان -الدراهم والدنانير- والمصاغ: حلي الذهب أو الفضة، والأمتعة، كالأقمشة والفرش، والأدفئة والقدور والأواني، والدواب والغنم ضأناً أو معزاً، والفصلان، وهي: أولاد الإبل الصغار، والعجاجيل: أولاد البقر، وهي جمع عجل، فهذه لمن أمن نفسه عليها أخذها، وأما إذا لم يأمن نفسه عليها فلا يأخذها.
وعليه يحمل حديث: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ، ويتأكد إذا خاف عليها، كأن يخاف على الشاة أن تفترس، أو خاف على الدراهم أن تلتقط، فيلتقطها من يخفيها، وكذلك إذا خاف على بقية المتاع كحقيبة مثلاً: ويعرف أن صاحبها سوف يأتي قريباً، وأنه إذا لم يأخذها اختطفت ففي هذه الحال يحفظها.
يقول: (فلمن أمن نفسه عليها أخذها) يعني: التقاطها، وأما إذا لم يأمن نفسه وخشي أن نفسه تطمع فيها ويخفيها وهو يعرف أهلها أو لا يعرفهم، فإنه -والحال هذه- يعتبر ظالماً بأخذها، بل عليه أن يتركها؛ ليأخذها من يحفظها، ثم إذا أخذها فعليه حفظها، ولا يجوز له إهمالها؛ وذلك لأنها دخلت في عهدته، وإذا أهملها فإنه يضمن، فلو أنه أتى بالشاة وأدخلها مع غنمه ثم بعد ذلك أخرجها، فافترست، فإنه يضمنها؛ وذلك لأنها دخلت في ضمانه، فعليه أن يحفظها.
وكذلك لو أخذ الحقيبة مثلاً، أو الجراب أو الكيس، ثم جاء به إلى بيته، ثم رده إلى مكانه، فإنه يضمن، وما ذاك إلا أنه أزال مكانها التي كانت فيها، وأزالها من موضعها، وربما أن صاحبها جاء بعد شهر فلم يجدها، وأيس منها، فإذا ردها فإنه يضمن، ويجب بعد ذلك تعريفها.(44/9)
تعريف اللقطة
التعريف: هو النداء عليها في مجامع الناس غير المساجد حولاً كاملاً، كما في حديث زيد بن خالد يقول: (ثم عرفها سنة) ، أي: حولاً كاملاً.
أي: سنة هلالية، ينادي عليها في الأسواق وأبواب المساجد ولا يذكر صفتها كلها، فإذا كانت دراهم، قال: من فقد نقوداً؟ ولا يقول: من فئة مائة، أو من فئة خمسمائة، فإذا جاء صاحبها، فإنه لا بد أن يصفها أنها من فئة ريال أو من فئة خمسة -مثلاً- أو أنها في خرقة مثلاً، أو في بوك، أو ما أشبه ذلك ويصف عفاصها.
أي: خرقتها التي هي فيها، وكذلك: إذا كانت حلياً، يقول: من فقد الحلي؟ والحلي إذا جاء صاحبه قال: صفه لنا؟ فإن قال مثلاً: قلائد أو أسورةً أو خواتيم، أو أقراطاً، فإذا وصفها ووصف عددها كم هي؟ وزنتها، وهكذا أيضاً: يذكر جنسها إذا كانت -مثلاً- أطعمة، أي نوع من الطعام؟ من الأرز، من أي نوع من التمر؟ من أي نوع من الثياب؟ طولها وعددها، فلا بد أن يذكر ذلك، الذي يأتي ويصفها.
ثم بعدما يمضي الحول، يملكها حكماً، أي: يحكم بأنها للملتقط؛ لأنه جاء في الحديث: (إن جاء صاحبها وإلا فهي لك) ، ويدخلها في ماله، ولكن بعد أن يكتب أوصافها، وكذلك إن كانت من الدواب، من الغنم أو من أولاد البقر أو أولاد الإبل، فإنه يذكر أوصافها ولونها وسنها عندما وجدها، وإن كانت من الدراهم كتب أوصافها في دفتر مثلاً، وكذلك: بقية أوصافها ونحوه.
ويحرم تصرفه فيها، قبل معرفة ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها، ووكاءها، ثم عرفها) ، وعاءها: الخرقة التي هي بها إن كانت دراهم، وكذلك إن كانت حلياً، وكذلك نوع الكيس.
(وكاءها) يعني: الخيط الذي تربط به.
(وعفاصها) يعني: الإناء التي هي فيه، والعفاص: هو الوعاء أو الخرقة، (وقدرها) .
يعني: عددها، مائة أو ألف أو نحو ذلك.
(وجنسها) : أنها من فئة مائة أو من فئة خمسين أو من فئة مائتين، ولا يلزم أن يعرف أرقامها.
يعني: نفس العملات الآن فكل ورقة لها رقم، والإنسان لا يستحضر أرقامها، ومتى جاء صاحبها فوصفها لزم دفعها إليه ولو بعد عشر سنين أو عشرات السنين.
ثم يقول: (ومن أخذ نعله ووجد غيره مكانه فلقطة) ، وكذلك: من أخذ ثوبه في حمام أو نحوه فوجد ثوباً غيره فإنه لقطة، ولكن في هذه الحال، إذا تحقق أن صاحب هذه النعل هو الذي أخذ نعله، فإنه يأخذ قدر نعله من هذه النعال، وإذا كانت متقاربة أو متساوية فإنه يلبسها إلى أن يجيء صاحبها.
وكثير من الناس يلتقط اللقطة، ثم يكتمها لمدة شهر أو شهرين أو أشهر، ثم بعد ذلك يسأل، ويقول: وجدت لقطة، كيف أعرفها؟ فنقول له: قد أخطأت؛ وذلك لأنك كتمتها في هذه المدة، وصاحبها يهتم بها في الأسبوع الأول، وفي الشهر الأول، ويتسمع الأخبار، فإذا لم يسمع من ينشدها ولا من يعرفها أيس منها، وظن أنها سرقت، وأن الذي أخذها يخفيها ولا يبديها.
فالواجب أن يبدأ في التعريف من اليوم الأول الذي وجدها فيه، ففي الأسبوع الأول يعرفها في كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، ويكون التعريف في الأسواق وفي المجتمعات، وعند أبواب المساجد وإذا لم يقدر فإنه يؤجر من يعرفها، وأجرتها تكون منها.
يقول مثلاً: يا فلان! عرف لقطة من ذهب أو من نقود أو ما أشبه ذلك، ففي الأسبوع الأول يعرفها كل يوم مرتين، ثم في الأسبوع الثاني يعرفها كل يوم مرة، وفي الثالث كل يومين مرة، وفي الرابع كل أسبوع مرتين، ثم بعد ذلك، يعرفها بقية السنة، في كل أسبوع مرة، كيوم الجمعة مثلاً، وفي هذه الأزمنة يمكن أن يكتفى بالإعلانات ويعلن عنها في الصحف، ويعلن عنها في الإذاعة وغيرها، ويكون ذلك مما يلفت انتباه صاحبها في تتبع الإعلانات.
وكذلك أيضاً: يكون التعريف في الأماكن القريبة من مكانها الذي سقطت فيه، فإذا وجدها في السوق، فإنه يعرفها في هذا المكان وما قرب منه، وإذا وجدها في طريق عرفها قريباً منها، وكثيراً ما يسقط من السيارات -السيارات الناقلة- يسقط منها بعض الأمتعة فتحتاج إلى تعريف، ففي هذه الحال يعرفها في الأماكن التي يظن أن صاحبها يهتم بها ويأتي إلى ذلك المكان، فهذا الذي كتمها شهراً أو أشهراً، ثم بدأ يعرفها هل يملكها بعد السنة؟ نقول: لا يملكها، بل تكون عنده كأمانة أو يدفعها إلى بيت المال أو إلى القضاة أو ما أشبه ذلك، ويستثنى من ذلك أيضاً: لقطة الحرم، فقد ورد فيها ما يدل على آكدية تركها، فلا تلتقط لقطتها، وإذا التقطت فإنها لا تملك، بل تبقى، حتى يجد صاحبها، فإن لم يجده فإنها توضع في رتاج الكعبة، يعني: في مصلحة البيت الحرام، لئلا يتهاون بها.(44/10)
باب اللقيط
قوله: (اللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل، إلى التمييز) ، والغالب أنه إذا نبذ لا يعرف نسبه، والغالب أنه ابن زنا، فكثيراً ما تزني المرأة وإذا وضعت نبذت طفلها في طريق أو في مسجد، ثم هناك من يأخذه ويربيه، ويتولى حضانته، فاللقيط قد يكون ابن عهر، وقد يكون طفلاً ضجر منه أهله، ولا يريدونه، ويريدون أن يضمه من يلقاه، وكذلك قد يضل من أهله ولا يعرف أهله، فإما أنه نبذ -يعني: طرحه أهله عمداً- وإما أنه تاه وضل، والعادة أنه إذا ضل فإنهم يهتمون ويسألون عنه كثيراً، أما إذا كان مميزاً فإنه يعرب عن نفسه، فإذا بلغ السابعة فالأصل أنه يتكلم ويعرب عن نفسه، ويسمي نفسه، ويعرف أباه ويعرف أهله، فلا يكون والحال هذه لقيطاً، بل يحفظ إلى أن يجده أهله، أو يصف مكان أهله.(44/11)
حكم الالتقاط
قوله: (والتقاطه فرض كفاية) ؛ لأن أخذه من مصلحته مخافة أن يهلك؛ لأنه إذا لم يؤخذ تعرض للهلاك؛ لعدم معرفته لمصلحة نفسه، فمن وجده فإنه يأخذه.
وورد أن رجلاً جاء بطفل وجده ضالاً في برية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر (عسى الغوير أبوسا) وهذا مثَل يضرب لمن جاء بخبر عجيب، فأخبره بأنه وجده تائهاً أو ضالاً، فقال عمر: (لك ولاءه وعلينا نفقته) ، معنى ذلك: أننا ننفق عليه من بيت المال، ولاؤه: يعني: حضانته، وتربيته وحفظه عليك فأنت محتسب، وإذا لم يحتسب أو كان عاجزاً فإنه يوكل به بأجرة من يحضنه وينفق عليه ويربيه، كما في هذه البلاد؛ فإن هناك حضانة لمثل هؤلاء.
وكذلك أيضاً: هناك من يتولى تربيتهم وتنشئتهم وتدريسهم، وتعليم من ليس له والد أو لا يعرف والده، فهذا اللقيط لا يعرف نسبه وأنه ابن فلان، ولا يعرف هل هو رقيق أم حر، فالتقاطه فرض كفاية.
قوله: (فإن لم يكن معه شيء وتعذر بيت المال، أنفق عليه عالم بلا رجوع) فتارةً أهله يجعلون معه مالاً، يربطون معه مثلاً: شاةً ليرتضع منها أو يجعلوا معه صرةً فيها دراهم، ويجعلون معه أكسيةً أو نحوها، حتى ينفق عليه من تلك النفقة، فما وجد قريباً منه أو معه فإنه له، وينفق عليه منه، فإن لم يوجد معه شيء، أنفق عليه من بيت المال؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين، فإن لم يتيسر فعلى من علم حاله أن ينفق عليه، ويلزم من علم حاله من المسلمين الذين يقدرون أن ينفق عليه بقدر ما يحتاجه، وليس له أن يرجع على أحد، بل يجعل ذلك من باب الاحتساب، ويعتبر أخذه فرض كفاية، وتعتبر النفقة عليه فرض كفاية.(44/12)
أحكام اللقيط
يقول: (وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيها المسلمون) فيحكم بإسلامه، وذلك لأن الأصل في الأولاد أنهم ولدوا على الفطرة، فإن كانت البلاد كلها أهل ذمة، فإنه يلحق بهم، وإن كان الأكثرون هم المسلمون أو فيها مسلمون كثير حكمنا بأنه مسلم، ثم يحكم بأنه حر ولا يجوز أن يحكم برقه؛ لأن الأصل في المسلم الحرية.
قوله: (وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به) إذا جاء إنسان وقال: هذا ولدي، فإن كان ذلك ممكناً فإنه يحلق به حرصاً على اتصال نسبه، وحرصاً على ألا يكون مجهول النسب، وإن ادعى أنه مملوكه، وأنه ولد من أمته، وكانت هناك دلائل، فإنه يعتبر مملوكاً له، ولو كان ابن زنا.
وإذا كانت أمة مملوكة لإنسان وزنت، فولدها يكون رقيقاً لسيدها؛ لأن الولد يلحق أمه بالحرية والرق، وإذا تداعى فيه أكثر من واحد، وكل واحد يقول: هذا ابني، قدم لمن معه بينة، فالذي معه شهود يشهدون أنه ابنه فإنه يقدم، وإذا لم يكن مع أحدهما بينة، عرض على القافة، فمن ألحقته القافة به لحق به.
والقافة: هم الذين يعرفون الشبه، وهناك أناس عندهم قوة نظر وقوة فكر، إذا رأوا الأثر علموا أن هذا أثر فلان، أو أنه قريب منه أو أنه قريب من فلان.
وكذلك أيضاً: إذا رأوا إنساناً قالوا: قريب أو أخ لفلان بن فلان، فهؤلاء القافة، لا شك أنه يعتبر قولهم إذا جربت إصابتهم، وقد دل على ذلك، قصة مجزز المدلجي؛ فإنه مر على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وقد غطيا رءوسهما وقد بدت أرجلهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسر بذلك! وكان بنو مدلج فيهم قبيلة يعرفون الشبه والأثر، وكان أسامة بن زيد أسود البشرة وأبوه زيد بن حارثة أبيض مشرب بحمرة، فطعن بعض الناس في نسبه، وقالوا: ليس ابناً له، فعند ذلك لما رآهما مجزز وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، سر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أسامة حبه وابن حبه؛ ليرد بذلك طعن الذين يطعنون في نسبه.
إذا عرض هذا اللقيط على القافة، وعرض الرجلان اللذان يدعيان أنه ولدهما، فمن ألحقته القافة به لحق به، فإن اختلف القافة عرض على واحد، فألحق بأحدهما، ثم عرض على الثاني فألحقه بالآخر، ففي هذه الحال، قيل: إنه يخير بينهما، وقيل: يقرع بينهما.
وعلى كل حال، فهذا دليل على عناية الشرع بمصالح المسلمين، ثم هذا اللقيط الذي التقط وأحسن إليه يحكم بأنه مسلم ولا يجوز أن يلحق بالكفار إذا كان في بلاده مسلمون، ولو كان المسلمون قليلاً، وكذلك أيضاً: يعتنى به فيربى تربية صالحة حسنة، بمعنى: أنه يربى على الإسلام، وعلى معرفة دين الإسلام، ولو كانت البلاد فيها نصارى أو يهود أو أهل شرك أو نحو ذلك، حتى ينشأ على الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لأن الله تعالى فطر الناس على الإسلام؛ ولأن: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه) .
فالأصل أنه مولود على الفطرة، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) ، ومعنى: حنفاء.
يعني: على الفطرة الحنيفية.
فهكذا يربى الأولاد على الفطرة التي فطروا عليها -أي: على الإسلام- وكذلك أيضاً: في هذه الأزمنة يتساءل كثير من الذين يربونهم؛ وذلك لأنه إذا نشأ هذا الطفل الذي هو لقيط، فلابد أن يلحق نسبه بإنسان؛ لأنه إذا لم يعرف من أبوه ولا من أسرته وقبيلته، فقد يستضيق نفسه، وقد يتعقد في حياته، ولا يدري ما هو؛ فلذلك يخترعون اسماً، يعني: اسماً مناسباً ينطبق عليه ابن فلان بن فلان، إذا كان مثلاً: يصلح أن ينسب إليه، كأن يقال: ابن إبراهيم ولو كان إبراهيم بعيداً، وابن نوح ولو كان بعيداً أو ما أشبه ذلك.
ويمكن أن ينسب إلى أبٍ قريب، فإذا كان أهل البلد محصورون، ويمكن أن يكون من قبيلة كذا: من قبيلة يربوع أو من قبيلة حنظلة، أو من الرباب من تيم، وهكذا حتى لا يتعقد، بل يجعل له أب وأسرة ونحو ذلك، وعلى المربي تربيته بالتعليم، ويعلم تعاليم الإسلام، ويعلم ما يفقه به، وما يعرف به كيف يعبد ربه، ويربى على أركان الإسلام، وعلى تعاليم تلك الأركان، ويعلم الثلاثة الأصول وما يتصل بها.
فهذا ونحوه، دليل على عناية الشرع وما يتميز به عن سائر الأديان إذ لا يعتنون بهؤلاء اللقطاء بل يلقونهم، ولا يهتمون بهم، وتميز الإسلام بحرصه على ألا يكون هناك من يضيع نسبه، أو من يهمل فيتضرر به، إذا كان الإسلام يأمر بالإحسان إلى البهائم، وذكرنا قبل قليل: أنه لا يجوز إهمال البهائم حتى تموت مع القدرة على إنقاذها، فكيف ببني الإنسان؟!(44/13)
الأسئلة(44/14)
اختلاف السعر في البيع
السؤال
أنا أشتغل في محل تجاري ويأتيني الزبون فيسأل عن سعر السلعة فأقول له مثلاً: بخمسين ريالاً، وبعض الناس يشتريها بدون نقاش، وبعضهم يناقش في السعر فيأخذها مني مثلاً: بأربعين ريالاً، فما حكم هذا؟ وهل يلزمني أن أبيع للناس كلهم بسعر واحد؟
الجواب
المختار أنك تبيعهم بسعر واحد، وهو السعر المتوسط؛ لأنك إذا قلت: إن الثوب بخمسة عشر، وقد جاء إلى من قبلك، ووجده بعشرين فإنه سوف يشتريه منك، وإذا جاءك إنسان وماكسك وراجعك إلى أن اشتراه بخمسة عشر، وجاء إنسان آخر ولم يراجع واشتراه بالعشرين، فقد زدت على ذلك الجاهل، وكان الأولى أن تجعل سعرك واحداً.
وكثير من الباعة يزيد ويقول: الثوب بخمسة وعشرين، ويقول: إني إذا قلت: بخمسة عشر، لم يقبل الزبون لأول مرة، بل لا بد أن يماكس، وهذا غير صحيح، فالعادة أن الواحد إذا أراد الشراء، فإنه يسأل عدة دكاكين فيشتري من أرخصهم سعراً.(44/15)
حكم لقطة الحرم إذا كانت لا تتبعها أوساط الناس
السؤال
ما حكم لقطة الحرم التي لا تتبعها همة أوساط الناس؟ وهل الحرم هو المسجد أو منطقة الحرم كلها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كانت لا تتبعها همة أوساط الناس كرغيف، أو حبل صغير مثلاً، أو عصا فلا مانع من التقاطها، والحديث الذي قال فيه: (ولا تلتقط لقطتها) يريد بذلك: اللقطة التي تتبعها همة أوساط الناس.
والحرم: عبارة عن حدوده المحددة الآن، وهي التي لا يجوز قطع الشجر فيها، ولا يجوز تنفير الصيد فيها، وهي محددة بأعلام مبينة، فما كان وراءها فإنه ليس من حدود الحرم.(44/16)
حكم لقطة الشاة
السؤال
رجل ذهب ليصطاد في الجنوب -وهو من سكان الرياض- فوجد في أحد الأمكنة شاة في الطريق العام، وليس عندها أحد، فأخذها معه إلى الرياض ورباها، ولها عنده الآن مدة طويلة، فهل يجوز له بيعها وأكلها؟
الجواب
عرفنا أن الشاة عرضة للضياع وللسباع والهلاك؛ فلذلك لا تترك، إلا إذا ظن أن صاحبها يأتي قريباً، فإذا ظن أنه قريب، وأمن عليها الخطر؛ فليتركها.
ففي هذه الحال يفضل أنه يتصدق بقيمتها، أو يتصدق بها، حيث إنه فرط في التعريف.(44/17)
شرح أخصر المختصرات [45]
يعتبر الوقف من أهم الموارد المالية في الدولة الإسلامية، حيث يتكفل بجانب كبير من النفقات على الفقراء والمساكين، وإصلاح الطرق والجسور أو بنائها، وعمارة المساجد ودور تحفيظ القرآن، وغير ذلك.
والوقف يعتبر من المندوبات الشرعية التي يبتغي بها صاحبها وجه الله، ودوام الأجر له من بعد موته، وله شروط وأركان وحدود وضوابط يجب الالتزام بها شرعاً.(45/1)
تعريف الوقف ودليله وصيغته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والوقف سنة، ويصح بقول وفعل دال عليه عرفاً، كمن بنى أرضه مسجداً أو مقبرة، وأذن للناس أن يصلوا فيه ويدفنوا فيها.
وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت.
وشروطه خمسة: كونه في عين معلومة يصح بيعها غير مصحف، وينتفع بها مع بقائها، وكونه على بر، ويصح من مسلم على ذمي وعكسه، وكونه في غير مسجد ونحوه على معين يملك، وكون واقف نافذ التصرف، ووقفه ناجزاً.
ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع، ومع إطلاق يستوي غني وفقير، وذكر وأنثى.
والنظر عند عدم الشرط لموقوف عليه إن كان محصوراً، وإلا فلحاكم، كما لو كان على مسجد ونحوه.
وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية، ثم لولد بنيه، وعلى بنيه أو بني فلان فللذكور فقط، وإن كانوا قبيلة دخل النساء دون أولادهن من غيرهم، وعلى قرابته أو أهل بيته أو قومه دخل ذكر وأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه، لا مخالف دينه.
وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز التفضيل والاقتصار على واحد] .(45/2)
تعريف الوقف ودليله
يعرف الوقف كما في زاد المستقنع بأنه: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ولذلك قالوا: إنه عقد لازم، وقالوا: إنه لا يصح الرجوع فيه، ولا يصح بيعه إلا إذا تعطلت منافعه، فيباع ويصرف ثمنه في مثله.
والواقف يقصد الأجر، هذا هو الأغلب على الواقف؛ وذلك لأن الأجر يستمر بعد موت الواقف.
ودليله من السنة حديث عمر رضي الله عنه: أنه أصاب أرضاً بخيبر -أي: ملكها- لم يصب مالاً هو أعجب عنده منها، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم ماذا أفعل بها؟ فقال: (إن شئت حبست أصلها وسبلتها، ففعل ذلك عمر رضي الله عنه، فجعلها مسبلة على الفقير والمسكين وابن السبيل والضيف وفي وجوه الخير، وجعل لمن يشتغل فيها أن يأكل منها غير متأثل مالاً) أي: بقدر عمله فيها.
يقول: هذا البستان وقف سبلته، لا يُباع ولا يوهب ولا يورث ولا يُقسم على الورثة، بل يكون وقفاً، يبتغي به وجه الله، وثمرته وما يخرج منه تُنفق في وجوه الخير، أي: إذا كان يخرج منه تمر أو عنب أو ثمر مأكول أو ينتفع به، فإنه يتصدق بها على الفقراء وذوي الحاجات، فيأتيه أجر هذه الصدقة بعد موته.
ومن الأدلة على الوقف الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فالصدقة الجارية هي الوقف الذي هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، فإذا وقف داراً وقال: يسكنها ذوو الحاجة بدون أجرة، فإنه على خير، وله أجر، أو قال: تؤجر ويُتصدق بثمنها على المساكين وعلى الفقراء والمستضعفين؛ فإنه على خير، فهي صدقة جارية، أو وقف دكاناً وقال: أُجرته على فقراء آل فلان، أو فقراء البلد الفلانية، أو فقراء قبيلة كذا، فله أجر، ولا شك أنه يأتيه الأجر ما دامت الدار عامرة أو المزرعة يُنتفع بها، وكذلك بقية ما يُنتفع به.(45/3)
انقسام صيغة الوقف إلى صريح وكناية
لابد في الوقف من صيغة، والصيغة: قول أو فعل، فيصح بقول، ويصح بفعل دال عليه، وقد مثل للفعل بقوله: (كمن بنى أرضه مسجداً أو مقبرة وأذن للناس أن يصلوا فيه ويدفنوا فيها) أي: بنى أرضه مسجداً وأذن فيه، وفتح أبوابه، فلا يحتاج إلى أن يقول: أشهدكم أني أخرجته من ملكي، وأنه وقف لله، فإذا بناه مسجداً، وجعل محرابه إلى القبلة، وجعل له علامات المسجد كمنارة ونحوها، وأذّن فيه أو ركّب فيه مؤذناً، فقد أصبح هذا وقفاً يأتيه أجره ما دام المسجد عامراً بالمصلين، وكذلك لو كان عنده أرض، فسورها وفتح أبوابها، وأذِن للناس أن يدفنوا فيها أمواتهم، فقد أصبحت مقبرة مسبلة، وخرجت من ملكه، وأصبحت وقفاً على أموات المسلمين.
أما الصيغة القولية، فذكر المصنف أن منها ما هو صريح ومنها ما هو كناية، يقول: (وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدتّ) ، فإذا قال: وقفت هذا الكتاب أو حبسته أو سبلته أصبح وقفاً ولزمه، ولم يجز له بعد ذلك بيعه، وجاز أن ينتفع به من احتاج إليه أو من وقف عليه، وكذلك لو قال: حبست هذا المُكبر وجعلته لله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، أصبح بهذه الكلمة وقفاً لازماً، وخرج عن ملكه، ولم يحق له أن يرجع فيه، وكذا لو قال: سبلت هذا المكيف، خرج عن ملكه، فكلمة (سبلت) صريحة في أنه أراد بذلك إخراجه من ملكه وجعله وقفاً، وكذلك (وقفت، وحبست) فهذه عبارات صريحة.
وأما الكنايات فهي: (تصدقت، وحرمت، وأبدت) ، والغالب أن كلمة (تصدقت) تكون لإخراجه من ملكه ولتمليكه للمتصدق عليه، فإنه إذا قال: تصدقت بهذا الثوب على فلان، فإن المتصدق عليه يملكه، ولكن إذا قال: تصدقت بهذا الثوب أو بهذه العباءة لمن يحتاج إليه من المسلمين، جاز ذلك، وخرج عن ملكه وأصبح وقفاً، ولابد في هذه الكنايات من النية، وذلك بأن ينوي أنه وقف.
وأما قوله: (حرمت) فالأصل أن التحريم هو المنع، ولكن قد يريد بقوله: حرمت، أي: حرمت بيعه، وحرمت أن يملكه شخص، وجعلته محرماً على ورثتي أو على شخص معين، فإذا نوى أنه وقف صار وقفاً.
وكذلك قوله: (أبدت) ، كما إذا قال: أبدت هذه الفرش، أي: أخرجتها من ملكي، وجعلتها محرمة مؤبدة ليس لي فيها تصرف، فتصير وقفاً بهذه الكلمة.
والعلماء يشترطون النية مع هذه الكنايات: (تصدقت وحرمت وأبدت) ، وذلك أن يكون القائل ناوياً بذلك كونه وقفاً، أو يكمل ذلك بعبارة أخرى كأن يقول: تصدقت به صدقة محرمة، أو مؤبدة، أو مسبلة، أو محبسة، أو موقوفة، أو يقول: تصدقت به صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، فيفهم من ذلك أنه جعله وقفاً، وأنه أخرجه من ملكه حتى ينتفع به.(45/4)
شروط الوقف(45/5)
كون الوقف في عين معلومة
ذكر المصنف رحمه الله أن شروط الوقف خمسة فقال: (كونه في عين معلومة يصح بيعها غير مصحف، وينتفع بها مع بقائها) أي: أن الوقف لابد أن يكون في عين معينة معلومة، أياً كانت تلك العين إذا كان فيها منفعة، حتى الحيوانات، فإذا وقف هذه الفرس على المجاهدين فإنها تكون معلومة، أما إذا قال: فرساً من خيلي فإنه لا يصح حتى يعينها بالفرس الفلانية، أو قال مثلاً: هذا الجمل وقفته على من يجاهد عليه أو من يحج عليه، أصبح معيناً، أما إذا قال: جملاً من جمالي أو بعيراً من إبلي، فلا يصح حتى يعينه، ومثله في هذه الأزمنة المراكب الجديدة، فإنه يجوز وقفها، فيجوز أن يقول: وقفت هذه السيارة على من يحج ويعتمر عليها، أو وقفتها على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يتجولون عليها، أو وقفتها على الدعاة الذين يدعون إلى الله يسافرون عليها، فأخرجها من ملكه وجعلها وقفاً.
أما إذا قال: أوقفت سيارةً من سياراتي، وعنده سيارات، فلا يصح؛ لأنه لابد أن تكون معينة حتى تخرج من ملكه؛ لأن الأصل أن الموقوف يخرج عن ملك الواقف حتى ولو تعطل الانتفاع به، فلو وقف فرشاً على المسجد ثم هُدم المسجد، فلا يجوز له أن يقول: ردوا عليّ فرشي، لأنا نقول: قد أخرجته من ملكك فينقل إلى مسجد آخر، ولا يحل لك أن تستعيدها، أو قال: ردوا عليّ مكيفاتي أو مراوحي التي سبلتها في هذا المسجد، لم يحل له أن يرجع فيها.
فالحاصل أنه لابد أن يكون الوقف بعين معينة معلومة حتى بالإشارة مثلاً، كأن يقول: وقفت هذا المشلح على كل من يتزوج ليلة زواجه حتى أُريحه من شرائه، أو يقف ثوب المرأة الجميل الذي تدخل به على زوجها ليلة الزفاف حتى لا يكلف وليها أن يشتري لها ثوباً، فيوجد في بعض الأماكن لمساعدة المتزوجين مشالح موقوفة على من يريد أن يتزوج، فيأخذه يوم زواجه ثم يرده بعد يوم أو يومين؛ لأنه ليس من أهل لباسه، وكذلك يوجد ثياب للعروس لتتجمل بها ليلة زفافها ثم تردها، فهذه موقوفة يقصد الذين وقفوها الأجر، كذلك الحلي يجوز وقفها، فيوقف ما يسمى بالبنادق والأسورة، وكذا الخواتيم تلبسها العروس يوم زفافها أو القلادة، ثم بعد ذلك يردها المستعير لها؛ لأنه قد يقول: إني لا أقدر على شراء هذا الحلي الثقيل، فهناك من يسبلها ويجعلها وقفاً حتى ينتفع بها في ليلة زفافه أو يوم الاحتفال ثم يردها، وتكون وقفاً على العاجزين عن اقتناء أمثالها.
وقوله: (يصح بيعها غير مصحف) ، فالشيء الذي لا يصح بيعه لا يصح وقفه إلا المصحف، فإنه يصح وقفه مع أنه لا يصح بيعه عندهم، وإن كان الصحيح جواز بيعه، فأما الشيء الذي لا يصح بيعه فلا يصح وقفه، فلا يصح أن يوقف كلب صيد، فيقول: وقفت كلب صيد، أو كلب حراسة للحرث، أو الحراسة للغنم؛ لأنه ليس له ثمن، فلا يصح بيعه.
ويمثلون أيضاً بجلد الميتة ولو بعد الدبغ، إذ ترجح عندهم أنه لا يباع ولا ينتفع به إلا في اليابسات، والقول الثاني: أنه يصح بيعه ويصح الانتفاع به في اليابس وفي الرطب وما أشبه ذلك، فإذا دبغ جلد الميتة وجعله سقاءً أو قربةً يُبرد فيها الماء صح وقفه؛ لأنه يطهر بالدباغ، فيصح وقف القرب التي يُبرد فيها الماء أو يُنقل فيها الماء، فينتفع بها من يحتاج إليها ولو كانت من جلود الميتة.
أما جلود ما لا يؤكل لحمه كجلد حمار أو جلد كلب فهذا لا يصح بيعه، ولا يطهر بالدباغ على الصحيح، فلا يصح وقف مثله فراشاً، لأنه قد ورد النهي عن افتراش جلود النمار؛ لأنها سباع، والسباع محرمة الأكل، فلا يصح بيع جلودها، ولا يصح وقفها.
وتقدم أنه لا يصح بيع الحشرات، فلا يصح وقفها إلا إذا كان لها قيمة مثل النحل، فإنه يصح بيعه ولو كان من الحشرات؛ وذلك لأنه يُنتفع به.
والشيء الذي لا ينتفع به أو كان نفعه محرماً لا يصح وقفه، وذلك مثل آلات الملاهي، فإن نفعها محرم، فلو قال: أسبل هذه الطبول، وأجعلها وقفاً على الذين يلعبون في أيام الأعياد أو في أيام الأفراح، فإنه لا يجوز؛ وذلك لأن الانتفاع بها محرم، وكذلك جميع آلات الملاهي كالعود والطنبور والرباب، وكذلك كتب الإلحاد وكتب الضلال والمجلات الخليعة، فلو احتسب إنسان وقال: أنا أشتري هذه المجلات وأسبلها في هذه المكتبة، مع أنها مليئة بالضلال وبالصور الهابطة ونحو ذلك فلا يصح وقفه، أو قال: أُسبل هذه الأفلام التي فيها هذه الصور، وأجعلها في هذا المكان وقفاً يتفرج عليها من يريدون أن يتفرجوا، أو هذه الأشرطة الغنائية أسبلها، هل له أجر أم عليه وزر؟ لاشك أن عليه وزراً، فكل شيء لا يصح بيعه لصفة فيه فإنه لا يجوز وقفه؛ لأن ذلك يعتبر إعانة على المحرم، وهكذا جميع ما يُستعان به على المحرم.(45/6)
كون الوقف على برٍّ
الشرط الثاني: أن يكون الوقف على بر، ومثل له في الحاشية: إذا وقف على المساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب.
فالقناطر: جمع قنطرة، وهي الجسر الذي يجعل على النهر حتى يعبر الناس من جانب إلى جانب، فإصلاح هذه الجسور إذا خربت فيه نفع للمسلمين، فإذا قال: أُجرة هذا الدكان تُعمر بها المساجد، فهذا وقف بر، أو قال: أجرته لإصلاح فرش هذا المسجد، أو إصلاح مكيفاته، أو إصلاح أنواره، أو إصلاح مكبراته؛ فهذا عمل بر يثاب على ذلك، وكذلك إذا وقف هذه الدكاكين، وجعل أجرتها تُفرق على مساكين هذا البلد، أو مساكين القرية الفلانية، أو أقاربه ونحوهم؛ فهذه من أعمال البر.
عرفنا ما هو الوقف على بر، فما مثال الوقف الذي ليس على بر؟ نقول الأمثلة كثيرة؛ فإذا قال: غلته مثلاً يُسرج بها هذا القبر الذي يُعبد، أو يبنى بها على هذا القبر مشهد؛ حتى يكون هناك من يعبده ومن يصلون عنده أو يدعونه، فهذا عمل إثم، ولا عبرة بمن يفعله.
فيذكرون أن الرافضة في العراق وغيره أكثر أوقافهم على كربلاء، وعلى النجف، يدّعون أن كربلاء فيها قبر الحسين، والنجف فيه قبر علي رضي الله عنهما، فيوقفون السرج والأنوار على قبريهما، وكذلك يوقفون على عمارة الطرق وسفلتتها حتى يصلوا إلى هذا المشهد وهذه المعابد، ويوقفون على تنوير الطرق، وكذلك على عمارة ما انهدم وترميمه إذا طالت مدته، بل يوقفون على من يخدم من يزور هذه المشاهد، ويقولون: أنت يا هذا خادم لهؤلاء الذين يزورون هذا المكان ويطوفون به، وأجرتك وراتبك من هذه الأوقاف، حتى يخدمهم بحلق رءوسهم، يتحللون كأنهم محرمون، أو يحلقون لحاهم، أو ما أشبه ذلك، فهل هذه الأوقاف يؤجرون عليها؟ لا.
وهكذا كثير من الذين يوقفون أوقافاً كثيرة على إسراج القبور، أو على صب الأدهان عليها، أو على ضيافة من يعتكف عندها، أو من يطوف بها، أو ما أشبه ذلك، فهذا وقف على إثم ليس وقفاً على بر، فإن الوقف هو الذي يقصد به الأجر الأخروي، وأما إذا كان هذا يقصد به الإثم فإنه يعتبر مساعدة على الإثم، فيصير الذين وقفوا متعاونين على الإثم والعدوان.
فأنواع البر كثيرة، وأنواع الموقوفات أيضاً كثيرة، كان كثير من المسلمين يحرصون على أن يكون هناك ما ينتفع به إخوانهم العاجزون، فيوقفون ما يساعدهم على قضاء حوائجهم، وقد أدركنا قبل خمسين سنة أو نحوها أنهم يوقفون أشياء تمس إليها الحاجة، حتى كان يوقف بعضهم السكين على من يذبح بها أضحية أو نحوها ولا يجد ما يذبح به، ويوقف المنجل (المحش) على من يقطع به النخيل أو السعف أو يحش به لدوابه، ويوقفون القدور على من يطبخ بها إذا احتاجوا أن يطبخوا فيها؛ لأنه ليس كل أحد كان يجد قِدراً كبيراً يطبخ به إذا نزل به ضيف، فيذهبون إلى من عنده قدر موقوف فيقولون: عند فلان ضيف، ويأتون به ليطبخ فيه.
كذلك مما كانوا يوقفونه الطاحونة التي هي الرحى، وهي عبارة عن حجرين مدورين أحدهما فوق الآخر يُطحن بها القمح، والبر، والذرة، ونحوه، يديرونها إلى أن يخرج الدقيق من حافاتها، فكانوا قديماً في القرى يقولون: يوجد في بيت فلان رحى مسبلة نذهب نطحن فيها، وهكذا، فهذه بلا شك من الأسبال التي يؤجر من يوقفها.
والأمثلة كثيرة، فكل من سبّل شيئاً فيه منفعة ولو ثوباً أو ثياباً تُلبس في أيام العيد أو في أيام الحفلات يكون له أجره على لباسه، وكانوا يسبلون الأسلحة التي يقاتل بها، فيسبل عدة سيوف أو رماح لمن يقاتل في سبيل الله، كذلك الأقواس التي يُرمى بها قديماً، وبعدما وجدت البنادق كان يُسبل كثير منهم الأسلحة الجديدة، ويجعلها وقفاً لمن يقاتل بها في سبيل الله، وكذلك الدروع التي يلبسونها ويتحصنون بها من مواقع السلاح، وكذلك المغفر الذي يجعل على الرأس، فكانوا يسبلون أمثال هذه، ويبتغون بذلك الأجر؛ لأن من جهز غازياً فقد غزا، فيبقى له أجره ما دام يُقاتل بهذا السيف، فيكون قد ساعد على قتال المشركين؛ ولأنه نفع المسلمين بها في الجهاد أو ما أشبه ذلك، فهذه كلها تُعتبر من الوقف على بر.
واستثنوا أن يقف مسلم على ذمي، أو ذمي على مسلم، فيجوز ذلك ولو لم يكن فيه بر إلا أن فيه بر القرابة، ذكروا أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان لها قريب يهودي فدعته ليُسلم، وقالت: أسلم حتى ترثني، ففكر ثم قال: لا أترك ديني حتى لا يُقال: ترك دينه لأجل هذه المصلحة، فأصر على بقائه على يهوديته، وأحبت أن تصله لأجل القرابة، فوقفت وقفاً كدار، وجعلت غلتها عليه من باب صلة الرحم، فاستدلوا بذلك على أنه يجوز الوقف على غير المسلم إذا كان لقرابة بينهما، وكذلك لو كان الواقف هو الذمي كيهودي له ذمة أو نصراني له ذمة وقف على المسلمين، فبنى لهم مسجداً، أو أصلح لهم طريقاً، أو سبل لهم مقبرة، أو سبل نعشاً يُحمل عليه الموتى، فيصح ولو كان الذي سبله يهودياً ذمياً، لكن لما كان ينتفع به قُبل الانتفاع به، ونفذ ذلك، وصار وقفاً على المسلمين.
ثم قولهم: يشترط أن ينتفع بها مع بقاء عينها، يخرج بذلك ما لا ينتفع به إلا بإتلافه، فإنه لا يصح وقفه فلو قال: وقفت كيس الأرز، لم يصح هذا وقفاً؛ لأنه يتلف بأكله، وإذا قال مثلاً: وقفت هذا الشمع على هذا المسجد، لم يصح؛ لأن الشمع أيضاً يحترق شيئاً فشيئاً؛ لأنه يوقد بالشحم أو الزيت المجمد فلا يُنتفع به إلا بإتلافه، ومثل هذا لا يُسمى وقفاً؛ لأنه يفنى باستعماله.
بخلاف ما إذا قال: وقفت هذا السراج أو هذه النجفات ونحوها، فهذه تسمى وقفاً؛ لأنه يُنتفع بها مع بقائها.
ولو كان الموقوف يتلف بالاستعمال الطويل، كالثوب يتلف بالاستعمال، فإنه يصح وقفه؛ لأنه ينتفع به مدة، وكذلك إذا وقف الأحذية على المساكين أو على المصلين أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا وقف بئراً فيها ماء فإنه ينتفع بمائها؛ لأن الماء ولو كان يستهلك لكنه يستخلف، حيث ينزح منها ثم يأتي ماء بدل الماء، فيصح وقف البئر ليشرب منها، ويصح وقف الأحواض التي يُصب فيها الماء، ويصح وقف الدلو الذي يُنتزع به من البئر، ويكون وقفه مساعدةً على استخراج الماء من البئر، وفي هذه الأزمنة يصح وقف الماكينة (المضخة) التي ينتزع بها الماء من البئر، ويصح الوقف على وقودها ونحوه، فإذا وقف داراً وقال: غلة هذه الدار -أجرة هذه الدار- تُصلح منها هذه الماكينة التي يجتذب بها الماء، فيُشترى لها محروقات مثلاً، وهي تسقي النخل الذي ثمرته وقف على الصائمين أو ما أشبه ذلك، فكل ذلك مما يُنتفع به مع بقاء عينه.(45/7)
كون الوقف على معين
الشرط الثالث: أن يكون الوقف على معين يملك، إلا المسجد فإنه لا يملك، ولكن يصح الوقف عليه، ولكن لابد أن يوكل من يصلحه، فلو قال: وقفت هذا الدكان على هذا المسجد، فلابد من وكيل يؤجر الدكان، ويطلب الأجر، ويرمم المسجد، ويُصلح ما وهى منه، فيصلح أنواره، أو يدفع أجرة من يخدمه، أو ما أشبه ذلك.
فالمسجد جماد لا يملك، ولكن لابد من إنسان يتولى إصلاحه والإشراف عليه، هذا في المسجد، وكذلك في المقبرة لابد أن يكون هناك وكيل يحفر فيها أو يُصلحها ويفتح الأبواب أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا وقفاً على شيء لا يملك، ولكنه يستأجر له من يتولى أمره، وكذلك القناطر -التي هي الجسور التي يعبر بها من مكان إلى مكان- يصح الوقف عليها.
أما غير المساجد فلا بد أن يكون على معين يملك، وذلك إما معين بالذات أو معين بالوصف، ولابد أن يكون ذلك المعين ممن يملك، فالمعين بالذات كأن يقول: هذا وقف على أولادي، فإن كثيراً من الناس يقول: هذا البيت وقف على أولادي أو على أولادي الإناث، تسكنه من هي محتاجة ولا يباع، فهذا معين ببناته، أو يقول: يسكنه من لا يملك سكناً من أولادي بدلاً من أن يستأجر، أو يقول: غلته وأجرته تُقسم على أولادي أو على ذوي الحاجة منهم، فمثل هذا أيضاً معين يملك.
وأما غير المعين فيصح إذا عُين بالوصف، كأن يقول: وقف على المساكين، أو على الفقراء، أو على المجاهدين، أو يقول: غلة هذا العقار أو ثمرة هذا النخل على الصوام أو نحوهم، فهذا غير معين بالذات ولكنه معين بالوصف، وكذلك إذا قال: على ذوي الحاجة من أسرتي أو من القبيلة الفلانية، فكل هذا معين بالوصف، ولابد أن يمكنه أن ينتفع بهذه العين، ويشاهد انتفاعه بها، وأما الذي لا يشاهد فلا يجوز، إلا إذا وقفه مثلاً على تجهيز الأموات بأن يقول: أجرة هذه الدار أو الدكان في تجهيز الأموات، يُشترى به أكفان وحنوط وأجرة حفارين، فمثل هذا أيضاً يملك، وإن لم يكن ملكاً صحيحاً.
فأما ما لا يملك فلا يجوز الوقف عليه، مثاله: هؤلاء القبوريون يوقفون على ذلك القبر، فصاحب القبر ميت لا يملك، فيقولون: وقف على السيد فلان، على سيدي فلان، على الرفاعي، أو على سيدي عبد القادر، أو على سيدي البدوي، وهي أوقاف طائلة توقف على هؤلاء الأموات، ويتلاعب بها الذين يتولونها.
ثم يمثلون لمن لا يملك بما لو قال: وقف على المؤمنين من الجن؛ لأنهم لا يملكون كالبشر؛ ولو أنه خصص المؤمنين، أو قال: وقف على الملائكة، فالملائكة ليسوا من جنس البشر، ولا يملكون ملك المشاهدة، فلابد أن يكون الوقف على معين، وأن يكون ذلك المعين ممن يصح تملكه وانتفاعه.(45/8)
كون الواقف جائز التصرف
الشرط الرابع: كون الواقف جائز التصرف، فلا يصح من محجور عليه، فلو كان الواقف سفيهاً أو محجوراً عليه، كالمفلس الفقير الذي كثرت الديون عليه، أو إذا كان صغيراً لم يبلُغ ولم يعرف الأمور، فمثل هذا لا يصح وقفه حتى يبلُغ ويعقل ويفك حجره وما أشبه ذلك.(45/9)
كون الوقف ناجزاً
الشرط الخامس: أن يكون الوقف ناجزاً فلا يصح أن يكون وقفاً معلقاً ولا محدداً.
والناجز هو الذي يخرجه من ملكيته في الحال، يقول: وقفت هذا الكتاب، فيخرجه من ملكيته حالاً، وكذلك إذا قال: وقفت هذه الدار، خرجت من ملكيته وقفاً ناجزاً.
وغير الناجز هو المعلق، فلو قال مثلاً: إذا أغناني الله عن داري فهي وقف، فهذا وقف غير ناجز، فلا ينجز إلا إذا نجزه وقال: قد أخرجته من ملكي وأصبح وقفاً.
وكذلك إذا قال مثلاً: إذا قضيت ديني أوقفت دكاني أو أوقفت هذه الأرض مسجداً، فهذا أيضاً وقف معلق، فلا يصح إلا إذا كان منجزاً.
وكذلك أيضاً لو وقفه زمناً محدداً لم يصح، فلو قال مثلاً: وقفت هذا المكيف مدة الصيف، فلا يسمى وقفاً بل يسمى عارية؛ لأنه إذا انقضى الصيف أخذه، فلا يسمى وقفاً، فالوقف لابد أن يكون منجزاً تنقطع عنه علاقات الواقف، ويقصد بذلك الأجر عليه.
فهذه خمسة شروط: الأول: كونه في عين معينة معلومة.
والثاني: كونه على بر.
والثالث: كونه على معين يملك.
والرابع: كون الواقف نافذ التصرف.
والخامس: كون الوقف ناجزاً.(45/10)
العمل بشرط الواقف إن وافق الشرع
قال المصنف رحمه الله: (ويجب العمل بشرط الواقف إن وافق الشرع) : أي: يجب العمل بشرط الواقف، فإذا شرط فيه شروطاً موافقةً للشرع وجب العمل بها؛ لأنه هو المالك، أما إذا لم توافق الشرع فإنه لا يجوز العمل بها، فمثلاً لو قال: هذا المسجد وقفٌ على الصوفية لا يصلي فيه إلا المتصوفة، فغلاة الصوفية مشركون، فإذا استولينا عليه قلنا: هذا شرط باطل لا يُعمل به، وكذلك لو قال: غلة هذا العقار وقف على عمارة هذا القبر أو هذا المشهد، أو على خدمة الذين يعبدونه، ويعكفون عنده، فهذا شرط باطل لا يُعمل به، وكذلك لو قال: غلة هذا البيت يُشترى بها -مثلاً- آلات لهو، وطرب، وتسبل ويلعب بها في الحفلات وفي المهرجانات ونحوها، فلا يُعمل بهذا الشرط، ويعتبر شرطاً باطلاً.
وإذا وافق الشرط الشرع عُمل به، فإذا عين فيه إماماً فقال: وقفت هذا المسجد وبنيته بشرط ألا يصلي به إلا فلان مدة حياته عُمل بشرطه، وإذا بنى مدرسة وسبلها، وقال: بشرط أن يدرّس فيها المذهب الحنبلي أو المذهب الشافعي، فإنه يُعمل بشرطه، أو سبل داراً وقال: تُصرف أجرتها في شراء كتب التوحيد، أو كتب العقائد، أو يشترى بها كتب الفقه الحنفي أو الشافعي عمل بشرطه؛ لأن له مقصداً في ذلك؛ ولأن هذا شرط لا يخالف الشرع.
وكذلك لو شرط أن يتولاه فلان، ثم فلان، فإنهم يتولونه على ترتيبه الذي رتبه لهم.
وكذلك إذا شرط أن ينفق على جهة معينة وقال: ينفقه فلان على القبيلة الفلانية، وغلّة هذا الوقف أو ثمرة هذا النخل تُنفق على قبيلة كذا أو للأسرة الفلانية، أو قال: أجرة هذه الدار لأولاد فلان ولم يحدد ولم يرتب، فإنه يستوي فيهم الذكر والأنثى، والغني والفقير، أي: يقسم بينهم على رءوسهم.
أما إذا حدد وقال: يعطى الذكر سهمين، أو يُفضل الغني، أو القوي، أو العالم، أو المجاهد، أو الكريم، أو السخي، أو تختص بالفقراء، فخصص جهة، أو قال: تختص بالعزاب، أو لمساعدة المتزوجين؛ ففي هذه الحال يعمل بشرطه؛ لأنه شرط له فيه مقصد؛ ولأنه قد يكون قصده بذلك الأجر.
وإذا رئي مثلاً أنه خالف ما هو الأفضل والأولى، فالأولى أن يُقترح عليه ما هو أصلح وما هو أولى، فيقال: أنت ذكرت أنه يسوى بين الغني والفقير، وهذا ليس فيه أجر، فإن الغني عنده ما يكفيه ويسد حاجته ولو كان من أولادك، فالأولى إذا كان وقفاً أن تصرفه عن الغني، وأن تجعله للفقراء أو ما أشبه ذلك.
واشتهر عند بعض الفقهاء قاعدة وهي قولهم: شروط الواقف كشروط الشارع، ولكن هذا ليس بصحيح، لأن شروط الشارع جاءت عن المشرع الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مقدمة ويلزم العمل بها، وأما الواقف فهو بشر، فقد يشرط شرطاً يخالف مقتضى الشرع فلا يجوز العمل به، وقد ذكرنا لذلك أمثلة منها: إذا شرط أن يتولى وقفه فاسق فإنه لا يعمل به، ومن ذلك أن يعين في المسجد إماماً صوفياً أو قبورياً، وكذا إذا شرط أن يدفن في مسجده، كما إذا قال: إذا مت فادفنوني في مسجدي، فإن هذه شروط تخالف مقتضى الشرع فلا يعمل بها.
وهكذا الشروط التي تكون على باطل أو على محرم؛ فلو شرط أن غلة هذا الوقف تعمر بها الكنائس، أو تُرفع بها القباب على القبور، أو يُطبع بها الإنجيل أو التوراة، أو كتب الإلحاد، فمثل هذا لا يصح العمل بشرطه؛ وذلك لأنه يخالف مقتضى الشرع.
فلابد أن تكون شروط الواقف موافقة للشرع، فإذا شرط أن يتولى إمامة المسجد فلان وكان كفئاً، أو يؤذن فيه فلان وكان أهلاً لأن يتولى المأذنة، أو شرط أن وقفه ينظر فيه، ويتولى تأجيره وإصلاحه أحد أولاده، وكانوا مأمونين وموثوقين، فإن هذا شرط يوافق مقتضى الشرع فيعمل به.
وكذلك مصرف الوقف: فإذا شرط أن يُصرف في المساكين، أو يصرف على المساجد، أو على القناطر، أو على المدارس الخيرية، كمدارس تحفيظ القرآن، أو على المجاهدين، أو على طبع الرسائل والكتيبات الإسلامية والأشرطة الدينية، فإن هذه شروط فيها مصلحة.(45/11)
ناظر الوقف
أما بالنسبة للناظر على الوقف، فإذا قال الواقف: الوكيل على هذه الأوقاف فلان، والنظر له ينظر ما هو الأصلح، فعلى هذا الوكيل أن ينظر ما هو الأصلح، فيمكن في هذه السنة أن يتصدق به على الفقراء والمساكين، وفي السنة الثانية يصرفه على المجاهدين، وفي السنة الثالثة يُعمر به مساجد، وفي السنة الرابعة يطبع به كتباً أو أشرطة، فيكون النظر موقوفاً على اختيار ذلك الوكيل، ومن هنا فلابد أن يكون الناظر رشيداً عالماً.
وذكر المصنف أنه إذا لم يُعين فالنظر للموقوف عليهم، فإذا قال: غلة هذا البيت وقف على أولاد زيد، أو أولاد عمرو، أو أولاد أخي، ولم يعين ناظراً، ففي هذه الحال يكون الناظر واحداً منهم هو الذي يؤجره ويصلحه إذا وهي ويرممه، ويقبض الأجرة، ويفرقها فيما يريد، ويعطي من هو الأحق.
فالوكيل هنا هو أحد الموقوف عليهم، حيث يتفقون على رجل رشيد فيقولون: يا أخانا؛ أنت أفلحنا وأعدلنا، فنريد أن نجعلك وكيلاً على وقفنا؛ سواء كان الوقف عقاراً، كشقق أو دكاكين، أو كان بستاناً فيه نخيل وأعناب وتين ورمان وأشجار مثمرة، فهذا الوكيل يحفر الآبار، ويجري الأنهار، ويحاسب العمال، ويتفقد عملهم، ويوكل على التلقيح وعلى السقي، وعلى الحرث والزبر والحصاد وما أشبه ذلك.
والوكيل يتعب، فيجوز أن يجعلوا له جُعلاً مقابل تعبه، كأن يقولوا: (10%) أو (5%) من غلة هذا الوقف مقابل تعبك، ومقابل عملك وشغلك.
ولو عجز الموقوف عليهم عن الإشراف على هذا الوقف وعمارته، أو عن حرثه وزبره وما أشبه ذلك، فاستأجروا أجيراً أجنبياً للأشراف عليه، وجعلوا له جُعلاً، فقالوا: لك من كل عشرة واحداً أو اثنان أو قالوا: لك (10%) أو (20%) مقابل إشرافك وتعبك، فأنت تشتري المحروقات -مثلاً-، وتحاسب العمال، وتتفقد عملهم، وتوظفهم، أو تقوم بالسقي، وتصلح مجاري الماء، وتلقح، وتقطع الأغصان الرديئة، وأنت تصرم، وأنت وأنت، ففي هذه الحال يجوز أن يجعلوا له جُعلاً، ويجوز له أن يأخذه ولو لم يكن من أهل الوقف.
وإذا كان الموقوف عليهم محصورين كأن يقول: هذا وقف على أولاد أخي، وهم خمسة، فيختارون واحداً منهم، أو يقومون كلهم بالإشراف والنظر.
وكذلك إذا كان الموقوف منقولاً، فلابد أيضاً أن يكون عليه ناظر، فكثيراً ما يكتبون على الكتاب: هذا الكتاب وقف لله تعالى على طلبة العلم، والناظر عليه فلان ومن بعده فلان، فوظيفة هذا الناظر (الوكيل) أنه يحفظه من التلف، وإذا أعاره إنساناً توثق أنه سوف يرده إلى مكانه، وكذلك يحدد له مدة، فيقول مثلاً: أعرتك الكتاب عشرة أيام أو نحو ذلك، وعليه أن يحتاط.
وكذلك لو كان الموقوف سيفاً أو سلاحاً يقاتل به، فلابد أن يكون عليه ناظر، وهذا الناظر يعطيه من هو من أهل النجدة والقتال به.
وكذلك الأواني؛ إذا كان الموقوف قدراً أو صحناً أو فأساً فإنه يكون عليه وكيل، وهكذا سائر الموقوفات.(45/12)
النظر للحاكم إذا كان الموقوف عليهم غير معينين
إذا لم يعين الواقف وكيلاً، وكان الموقوف عليهم غير معينين كالمساجد، كما إذا وقف على المسجد أو على مساجد البلاد، أو وقف على مطبعة تطبع كتب أهل الإسلام أو ما أشبه ذلك، أو أجهزة التسجيل التي تسجل العلوم الإسلامية، ولم يوكل النظر لأحد؛ ففي هذه الحال يكون النظر للحاكم قاضي البلد.
قد يقولون: إن قاضي البلد لا يستطيع أن يُشرف على الأوقاف كلها لكثرتها، ولكن له أن يوكل، فيقول: أنت يا فلان وكيل على الوقف الفلاني الذي على المساجد، وأنت يا فلان وكيل على العقار الذي في المكان الفلاني الذي هو موقوف على طبع الكتب، وهكذا إذا كان الوقف على مسجد، أو على قنطرة، أو مدرسة خيرية، أو جهة خيرية كالجهاد وتجهيز الغزاة وما أشبه ذلك.(45/13)
حكما زيادة غلة الوقف عن مصرفه زيادة غير عادية
قديماً كان الوقف منزلاً صغيراً، وكان يؤجر في السنة بمائة أو بثمانين، فيقول الواقف: وقفته في أضحية، ويسكت عما زاد؛ لأنه في ذلك الزمان لم تكن غلته إلا بقدر الأضحية، لكن في هذه الأزمنة قد يكون إيجاره عشرة آلاف، وقد تصل في بعضها إلى مائة ألف بعد أن كانت أربعين ريالاً، وذلك بسبب أن الأوقاف كانت محل رغبة، ثم نُزعت ملكيتها، ولما نُزعت قدر لها ثمن كثير، فاشتري بها في مكان آخر، ثم جاءها أيضاً تثمين فقدرت بملايين، فعُمر بها أيضاً، فكانت تُغل كل سنة ثلاثمائة ألف أو خمسمائة ألف، وليس فيها إلا أضحية.
ففي هذه الحال إذا لم يذكر لها مصرفاً فإن الباقي يصرف في أعمال الخير، وما ذاك إلا لأن الواقف إنما قصد أن يبقى الأجر مستمراً عملاً بحديث: (صدقة جارية) ، فلما كانت كذلك رأى العلماء أن يصرف الباقي في مصارف الخير.
كثير من الواقفين لا يعينون المصرف، بل يقولون: هذا البيت وقف في أعمال البر، ففي هذه الحال تتولاه وزارة الأوقاف، وفي كل دولة وزارة أوقاف، فهذه الوزارة تصرفه في وجوه الخير.
أما إذا كان الواقف قد عين جهة، كما إذا حدد أن هذا البستان أو هذا المنزل وقف على أولاده، فإنه يقتصر عليهم.
وهنا
السؤال
لماذا وقفته على أولادك، فأموالك كلها لأولادك يأخذونها بعد موتك، فلماذا جعلته لأولادك؟
الجواب
يقول: إذا جعلته ملكاً مطلقاً يمكن أنهم يبيعوه، وإذا اقتسموه ربما أنهم يفسدونه وينفقونه بسرعة، أما إذا بقي فإنهم إن احتاجوا سكنوا، وإن لم يحتاجوا أجّروا، ويبقى مؤجراً ينتفعون به هم، ومن بعدهم أولادهم، فهذا مقصد كثير من الذين يوقفون البيوت والدكاكين على أولادهم، فيقولون: نخشى أن يبيعوه ويصرفوه ولا يبقى لهم شيء يغل.
وهكذا إذا وقف البستان، فقد يوقف البستان ويجعل فيه أضحية أو حجة، أو يجعل فيه نخلة للصائمين، وقد كانوا قديماً يقولون: هذه النخلة وقف لإفطار الصائمين في هذا المسجد، فتبقى النخلة موقوفة، والبقية ملك، فلا يقدرون على أن يبيعوه؛ لأن فيه نخلة، وقد يكون فيه نخلات، ويوجد الآن بعض البساتين أوقف الجد الأبعد نخلة، ثم الجد الذي يليه نخلة، ثم الجد الذي دونه نخلة، وهكذا إلى أن وصلت إلى خمس أو عشر، ولا يقدرون على بيعه، فلأجل ذلك يقتصرون على استغلاله.(45/14)
تعطل الوقف لسوء تصرف الناظر
ما حكم تعطّل الوقف؟ يوجد الآن كثير من المزارع التي كانت موقوفة، أو كانت فيها نخلة موقوفة أو فيها أضحية، ثم تعطلت بسبب غور المياه أو غلاء العمال أو غلاء المحروقات.
والغالب أن الوكيل قديماً لم يحسن التصرف، فكانوا يأكلونها ولا يدخرون منها شيئاً للمستقبل، فيستغلون البيت ما دام عامراً، فإذا خرب وانهدم قالوا: ليس عندنا ما نعمره، أو يشتغلون بالماكينة ما دامت تشتغل، ويأكلون ما حصلوا عليه، فإذا خربت تركوها وقالوا: ليس عندنا ما يصلحها، وقد كان الأولى بهم أن يدخروا كل سنة شيئاً من الغلة، حتى إذا خربت كانوا قد جمعوا ما يصلحونها به أو ما يشترون به ماكينة أخرى، فلذلك يقولون: إن على الناظر مسئولية، فإن الواقف يريد أن يستمر أجره، وأنت أيها الناظر وكيل، فعليك ألا تستغل المصلحة ما دامت موجودة ثم تعطلها، بل مسئوليتك كبيرة، وهو أنك تنظر إلى هذه الغلة، وترصد شيئاً منها للمستقبل.
حتى الدكاكين والشقق التي تؤجر، فالآن يقبضون أجرتها ثم يقتسمونها بسرعة، ثم في السنة الآتية أو التي بعدها تتعطل فلا تؤجر، ثم يقولون: ليس عندنا ما نضحي له به، أو ليس عندنا ما نحجج له به، فيقال: أين غلتها في الأزمنة الماضية؟ فيقولون: اقتسمناها! فيقال لهم: أخطأتم، وكان الأولى أنكم تحتفظون ببعضها، فربما تتعطل في سنة من السنوات فلا تؤجر أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أن على الوكيل الناظر مسئولية.(45/15)
الوقف الخاص(45/16)
استواء الذكور والإناث في حالة الوقف على الأولاد
قال المصنف رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية، ثم لولد بنيه) : كلمة الولد يدخل فيها الذكر والأنثى، كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] فالأنثى تسمى ولداً؛ لأنها مولودة، وكما في قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] ، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12] ، فيدخل الذكر والأنثى في كلمة ولد، فإذا قال: هذا الوقف -بستاناً كان أو دكاناً- وقف على ولدي، أو قال: وقف على ولد أخي، أو قال: على ولد ابن عمي فلان؛ فإنه يدخل فيه الذكور والإناث؛ لأنهم جميعاً من الولد.
ثم اختلفوا هل يكون وقفاً يتوزعونه بالسوية، أو يُفضل بعضهم كالذكور؟ المشهور أنهم يستوون.(45/17)
الوقف على ولد الابن وحكم دخول أولاد البنات فيه
قوله: (ثم بعدهم لولد بنيه) ، يعني: ذكوراً وإناثاً دون ولد البنات، فلا يدخل أولاد البنات؛ لأنهم يعتبرون أجانب، فلا يدخلون في قوله: على ولدي.
ثم هاهنا أيضاً مسألة تُشكل كثيراً: يأتوننا أناس ويقولون: إن جدنا مات، وجعل الوقف على أولاده، وأبونا قد مات، وأعمامنا لم يعطونا نصيب آبائنا، فهل لأولاد بنيه نصيب في هذه الحال؟ بعض الواقفين ينص على ذلك، فيقول: من مات من أولادي فنصيبه لأولاده، وفي هذا حل للنزاع، وبعضهم يسكت ويقول: على أولادي، أو يقول: على أولادي ثم أولاد بني ثم أولادهم وإن نزلوا، فإذا مات واحد منهم قد يكون له أولاد فقراء وأيتام، فأعمامهم يستغلون هذا الوقف ويقولون: لا حق لكم؛ لأنكم من البطن الثاني ونحن من البطن الأول! ف
الجواب
الواقف ما أراد إلا الأجر، وهؤلاء من ولده، وهم أيتام وفقراء، ففي هذه الحال الراجح أن من مات من أولاده فسهمه لذريته.
وإذا كان أولاده مثلاً عشرة، فالبنت إذا ماتت يرجع سهمها إلى الذكور، وليس لأولادها شيء؛ لأنهم أجانب، وأما الابن إذا مات فإن أولاده لهم حق، فلا يسقط حقه، فنرى في هذه الحال أنهم يعطون من غلة وقف جدهم.
وعبارة الفقهاء: (ثم لولد بنيه) يقتضي أنهم لا يعطون البنين إلا إذا انقطع الأولاد، ومعنى هذا أنه إذا كان الوقف غلته مائة ألف، وأولاده عشرة ذكور وإناث، فماتت بنت فإن المائة الألف تقسم على التسعة الباقين، فإذا ماتت بنت أخرى، قسمت المائة ألف على الثمانية، وكذلك إذا مات ابن، بل إذا ماتوا كلهم إلا واحداً فتكون الغلة لهذا الواحد، ولو بقي عشرين سنة وهو يأكل هذه الغلة، وأولاد إخوته فقراء ويتامى لا يعطيهم شيئاً، هذا مقتضى كلام بعض الفقهاء، ولعل الصحيح أنهم أولى بالرحمة، لاسيما إذا مات آباؤهم وهم أطفال، فهم أولى بأن يعطوا أنصباء آبائهم.
قال: (وعلى بنيه أو بني فلان، فللذكور فقط) أي: إذا قال: هذا وقف على بني، أو على بني أخي، أو على بني أختي؛ فإن كلمة (بنين) تختص بالذكور؛ لأنه إذا قيل: فلان له أولاد؟ قالوا: نعم، له أربعة بنين وخمس بنات، فقسم الأولاد إلى بنين وبنات، كما يقال الآن: مدارس بنين ومدارس بنات، أما كلمة أولاد فإنها تعم الذكور والإناث، فكلمة بنين تختص بالذكور، فإذا قال: هو وقف على بني، أو على بني أخي، أو على بني عمي؛ اختص بالذكور.
وكانوا يخصون الذكور؛ لأن الإناث غالباً يستغنين بمهورهن وبنفقة أزواجهن، فالمرأة لا تحتاج غالباً إلى المال؛ لأنه ينفق عليها زوجها، وأما الأبناء الذكور فإنهم بحاجة إلى دفعه في مهور، وإلى دفعه في نفقة على الأولاد، أو نفقة على الزوجات، أو على الخدم، أو ما أشبه ذلك، فقد يجوز أن يخص به الذكور، سيما إذا زوّج البنات في حياته، وعرف أنهن استغنين، فيقول: غلة هذا الدكان على بني أو ما أشبه ذلك، فيختص بالذكور فقط.(45/18)
توزيع الوقف على الأولاد والأبناء والقبائل ونحو ذلك
قال المصنف رحمه الله: (وإن كانوا قبيلة دخل النساء دون أولادهن من غيرهم) أي: إذا وقف على قبيلة، والقبيلة كما إذا قيل مثلاً: بنو تميم، بنو أسد، بنو خزيمة، بنو يربوع، بنو دارم، بنو حنظلة، بنو جهينة، وما أشبهه؛ فهذه قبائل، فإذا وقف على قبيلة دخل فيهم الذكور والإناث إلا أولاد الإناث من غيرهم؛ وذلك لأنهم لا ينتسبون إليهم، بل ينتسبون إلى قبائلهم، فمثلاً: امرأة من بني سليم زوجها من غطفان فيقال: أولادها من غطفان لا من سليم، فإذا وقف على بني سليم دخل الإناث دون أولادهن من غيرهم.(45/19)
حكم الواقف على قرابته أو أهل بيته أو قومه
ثم ذكر المصنف بعد ذلك أنه إذا وقف على قرابته فقال: على قرابتي، أو: على أهل بيتي، أو: على قومي، أو: على أنسابي -النسب والنسيب هو القريب- ففي هذه الحال يدخل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، يعني: أربعة بطون، ودليل ذلك الأخذ بأولي القربى في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41] ، وما كان لذي القربى صرفه النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه، فأدخل فيه ذريته كـ فاطمة وبنيها، ولم يكن لأبيه ذرية غيره، وذرية جده عبد المطلب وهم أعمامه، وذرية جد أبيه وهو هاشم، فأدخل هؤلاء الأربعة، فهكذا كلمة القرابة والقوم والنسباء وأهل البيت يدخل فيهم أربعة بطون.
وكلمة أهل البيت يراد بها الأقارب في الأصل، كما في قول الله تعالى في قصة إبراهيم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] أي: أقارب إبراهيم وذريته ونحوهم، إلا من خالف في الدين فلا يدخلون في أهل البيت ولا في القرابة.
وكذلك في قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] ، فأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فسروا بأنهم أقاربه الذين حرمت عليهم الزكاة في حديث زيد بن أرقم، عندما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في غدير خم فقال: (أذكركم الله في أهل بيتي، فقيل له: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته هم أقاربه الذين حرمت عليهم الزكاة بعده، ثم عد آل العباس وآل جعفر وآل عقيل وآل علي) يعني: من أولاده وأولاد أبيه وجده الذين هم بنو هاشم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سهم ذوي القربى لهم، وأنهم استغنوا به عن الزكاة بقوله: (لا تحل الزكاة لبني هاشم، إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم عن الزكاة) فدلنا هذا على أن أقارب الرجل وأنسابه هم أهل بيته وأقاربه إلى الجد الرابع.(45/20)
حكم الواقف على ذوي رحمه أو أصهاره
قد يقف الرجل على ذوي أرحامه، وكلمة الرحم يدخل فيها أقارب الأم وأقارب البنات؛ لأن لهم رحماً، فبنات أولاده وبنات بناته، وكذلك أخواله وخالاته وعماته، وبنات الأعمام وبنات الأخوال ونحوهم، هؤلاء من ذوي الأرحام؛ لأنهم يدخلون في الرحم كما في قوله عليه السلام: (إن لهم رحماً سأبلها ببلالها) ، فدخل في ذلك أقاربه من جهة أبيه ومن جهة أمه إذا وقف على ذوي أرحامه.
وإن وقف على أصهاره فالأصهار هم أقارب زوجته، وهم أبو الزوجة وأخوتها وأعمامها ونحوهم، فهؤلاء يسمون الأصهار، ولا يدخلون في الأنساب؛ لأن نسب الرجل أقاربه من جهة أبيه، وأما أقارب زوجته فهم الأصهار، وقد قسم الله تعالى القرابة إلى قسمين في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان:54] فأنسابك هم أعمامك وأولاد عمك وأبناء إخوتك وأبناء أعمام أبيك وأبناؤهم، وأصهارك هم أبو زوجتك وإخوتها وأعمامها وأولاد أعمامها.
فإذا وقف على أصهاره اختص بأقارب الزوجة، وإذا وقف على أنسابه أو على أقاربه اختص بأقاربه من الأب، وإذا وقف على أرحامه عمّ جميع أقاربه من الأب والأم.(45/21)
حكم الوقف على جماعة
قال المصنف رحمه الله: (وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم) أي: إذا وقف على جماعة؛ فإذا كان يمكن حصرهم فلابد من حصرهم، كما لو وقف على من في هذه القرية من بني هاشم أو من بني عبد المطلب أو من بني علي، أي: من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم محصورون بأولاد فلان وأولاد فلان وأولادهم، فيجب حصرهم والتسوية بينهم، فيفرق الوقف على الذكر والأنثى منهم، ويسوى بينهم.
أما إذا كثروا ولم يمكن حصرهم ففي هذه الحال يجوز التخصيص والتفضيل، ويجوز الاقتصار على واحد أو على جماعة؛ وذلك لأنه لا يمكن حصرهم، ففي هذه الأزمنة لا يمكن حصر الذين ينتسبون إلى الحسن والحسين، فأهل البيت لا يمكن حصرهم؛ لأنهم يوجدون في كل دولة، فملوك الأردن وملوك المغرب يدّعون ذلك، وكذلك يوجد منهم في المملكة قبائل كثيرون، فمن وقف مثلاً على الأشراف لم يمكن حصرهم، فيجوز أن يُقتصر على بعضهم، ويجوز أن يفضل هذا على هذا، والأولى في هذه الحال أن يُقتصر على ذوي الاستحقاق من الغارمين والعاجزين ومن يلحق بهم.
مسائل الوقف متعددة قد أطال العلماء فيها، ولكن المؤلف هنا اقتصر على أهمها، ومن أراد التوسع فيها فقد أُلّف فيها مؤلفات، وذلك لكثرة الخلاف الذي يقع فيها.
يوجد الآن أوقاف يمكن أن لها ألف عام أو أكثر وهي تصرف في مصارفها، وهناك أوقاف في الهند وفي المغرب وفي كثير من البلاد موقوفة على الكعبة، أو على المسجد الحرام، وقد استغنى عنها المسجد الحرام، بسبب أن الدولة خدمته وأقامت ما حوله ووسعته، كذلك أيضاً تشاهد الأوقاف التي في مكة مثل عمائر الأشراف، فهذه أوقاف على توسعة الحرم أو على خدمته أو على عمارته أو إنارته أو ما أشبه ذلك، يُصرف منه في وجوه ما يحتاجه شيء يسير والبقية يأخذها أولئك الذين يدعون أنهم من الأشراف، وأنهم وكلاء على ذلك، يصرفونها بما يرونه.
وبكل حال فالوقف من أفضل الأعمال لما ذُكر في الحديث: (صدقة جارية) ، وذكروا أن الصحابة ما منهم من أحد إلا وحبس عقاراً، وأن تلك الأحباس بقيت مدة طويلة لمكة، وأن الذين كانوا يتولونها استولوا عليها فيما بعد، وقد نزعت ملكية كثير منها، وعمر بها هذه العمارات التي في مكة، التي على عشرة أدوار أو خمسة عشر، والغالب أنها من تلك الأوقاف التي كانت قرب مكة، ولما نزعت ملكيتها عمر بها في أماكن، وأهلها الذين وقفت عليهم يستغلونها.
ومن الأوقاف أيضاً الأرض التي فتحت عنوة في عهد عمر رضي الله عنه، وهي أرض الشام ومصر والعراق، فإنها عندما فتحت رأى عمر رضي الله عنه وقفها، وعدم بيعها وعدم قسمتها، وجعلها وقفاً لبيت المال، يُضرب عليها خراج مستمر يؤخذ ممن هي في يده، فإذا كان الذي يزرعها أو يحرثها ذمياً دفع ما يسمى بالعُشر خراجاً، ويسمى الديوان، وكذلك إذا كان الذي يزرعها مسلماً فإنه يُخرج الزكاة ويُخرج أيضاً الأجرة التي هي الخراج، فيؤخذ منه الخمس، إذا كانت تسقى بغير مئونة أخرج العشر لأنه زكاة، والعشر الثاني كأجرة لها، ومع ذلك فإنها في هذه الأزمنة اقتطعت وقسمت وبيعت، ولم تبق على ما كانت عليه.(45/22)
شرح أخصر المختصرات [46]
مما يهم المسلم معرفته أحكام الهدية؛ إذ هي مما يتعامل بها الناس فيما بينهم، وكثير منهم لا يفرق بين الهدية والصدقة والعطية، ولا يميز أحكام هبة الثواب عن هبة التبرع، ولا يعرف ما يجب مراعاته من شروط لجواز أخذ الوالد من مال ولده، ولا متى يجب على الأب التسوية بين أبنائه ومتى لا يجب، وهذه أمور قد بينها الفقهاء، فعلى المسلم أن يعلمها ليسلم من مخالفة الشرع.(46/1)
تعريف الهبة وأحكامها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والهبة مستحبة، وتصح هبة مصحف, وكل ما يصح بيعه, وتنعقد بما يدل عليها عرفاً، وتلزم بقبض بإذن واهب، ومن أبرأ غريمه من دينه برئ ولو لم يقبل، ويجب تعديل في عطية وارث بأن يُعطي كلاًّ بقدر إرثه, فإن فضل سوى برجوع, وإن مات قبله ثبت تفضيله، ويحرم على واهب أن يرجع في هبته بعد قبض، وكره قبله.
وله أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده غير سرية ما شاء ما لم يضره, أو ليعطيه لولد آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافراً والابن مسلماً] .
الهبة مستحبة، وهي مشتقة من هبوب الريح، يقال: هبت الريح؛ وذلك لأن الريح خفيفة وهبوبها خفيف، ثم سميت الهبة بذلك لخفتها على مال الواهب.
ويعرِّفون الهبة بأنها: تمليك عين بلا عوض، وتسمى هبة التبرع أو التبرر، فإن صرف لها عوضاً سميت هبة الثواب؛ لأنه يطلب لها أجراً.
فإذا قال: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني منه ثوباً أو كيساً، فإن هذه هبة ثواب، فهي من أنواع البيع، لها أحكام البيع، وشروط البيع: بأن يكون الواهب يملك ما وهب، وأن يكون مكلفاً، وأن تكون الهبة مالية، وأن يكون مقدوراً على تسليمها، وأن تكون معلومة إلى آخر شروط البيع.
فهذه هبة الثواب، وأما هبة التبرر وهو الذي لا يريد عليها عوضاً، وإنما يقصد بذلك التودد إلى الذي يهب له، ويقصد أن تحصل بينهما المودة والمحبة وصفاء القلوب، كما ورد في الحديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) ، والسخيمة هي الضغائن التي في القلوب، والأحقاد والبغضاء، والغالب أنك إذا أهديته شيئاً يفرح به، فإنه يعرف بذلك صداقتك، وإذا كان يكن لك شيئاً من الحقد فإنه يرجع إلى المودة فيحبك ويُقدرك، فهذا السبب في الحث على الهبة.
فالهبة هي التبرع بالمال بدون عوض في الحياة، وهي مستحبة، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) ، أي: تذهب وحر الصدر كما في رواية: (تسل السخيمة وتذهب وحر الصدر) ، أي: تزيل ما في الصدر من البغضاء بين الاثنين، وما بينهما ومن الأحقاد والضغائن، فإذا أهدى إليه عرف أنه يُحبه وأنه يود له الخير، فعند ذلك تثبت المودة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها، وكان يأكل من الهدية ولا يأكل من الصدقات والزكوات ونحوها، ويقول: (إنها لا تحل لآل محمد) ، أما الهدية فإنه كان يقبلها ويثيب عليها.(46/2)
ما تجوز هبته
تصح الهدية ولو بشيء يسير، إذا أهديت لصاحبك شيئاً يسيراً ككتاب مثلاً أو فاكهة أو كسوة أو أي شيء مما يطعم أو يفرح به أو يُستعمل، ولو شيئاً يسيراً كقلم أو قرطاس أو دفتر، فإن ذلك مما يحسن استعماله بين الإخوة، فلذلك ذكروا باب الهدية.
وهل تصح هبة المصاحف؟ عندهم أن المصحف لا يباع ولكن يهدى، والصحيح أنه يجوز بيعه، وإذا كان له ثمن فإنه يصح بيعه وتصح هديته، ويصح إهداء كل ما يُنتفع به وإن لم يكن مما يباع، ككلب صيد أو جلد ميتة بعد الدبغ، وغيرها من الأشياء التي فيها منفعة إذا باعها، فإذا أهداها فإن ذلك مما يحصل به المحبة والمودة بين الإخوة.(46/3)
صيغة الهبة
هل للهبة صيغة؟ تصح بكل قول أو فعل يدل عليها، فإذا أهدى إليك مثلاً ثوباً أو ساعة وقال: خذ هذا، أو هذا تبرع مني، أو أهديتك، أو وهبتك أو ما أشبه ذلك، كان ذلك جائزاً.
وكذلك لو أشار إشارة عندما مد إليك كتاباً، وفهمت من إشارته أنه هدية بدون عوض، فإنك تقبله ويصير هدية، فتصح بكل قول وبكل فعل يدل عليها.
فالقول مثل: وهبتك، أهديتك، أعطيتُك، خذ مني هذا، تبرعت لك بهذا، وما أشبه ذلك.
والفعل هو: أن يمده بيده، أو يُشير إليك لتأخذه، فإذا وضعه على طاولة أو على الأرض وأشار إليك، وفهمت من إشارته أنه تبرع؛ صدق عليه أنه هدية وهبة.(46/4)
متى تلزم الهبة
متى تلزم الهبة؟ تلزم بقبضها، فإذا قبضها الموهوب له بإذن الواهب أصبحت لازمة، وقبل ذلك يصح أن يرجع فيها، فلو أنه مدّ يده إليك بالكتاب ولكن ما قبضته، فوضعه على السرير ولم تقبضه أنت، ففي هذه الحال يجوز أن يرجع فيها، ولا تكون لازمة.
فأما إذا قال: خذ هذا الكتاب، وضعه على سريرك أو على طاولة، فأخذته بعد أن قال لك: خذ، ففي هذه الحالة يصير لازماً، ولا يصح الرجوع فيه بعد قبضه.
أما إذا وضعه على السرير أو على الأرض ولم يقل: خذه، فأخذه صاحب السرير أو صاحب المنزل؛ فمثل هذا لا يصير هبة ولا يلزم، ولصاحبه أن يقول: أنا ما وهبتك، أنا ما أهديتك، بل نسختي بيدي ولا أستغني عنها، فله أن يرجع فيها، لأنه لا تلزم الهبة إلا بهذين الشرطين: حصول القبض الذي هو أخذ المتهب.
وإذن الواهب، وذلك إذا قال: خذه، فتصير لازمة.(46/5)
إبراء الدين إسقاط لا يفتقر إلى قبول
قال المصنف رحمه الله: (ومن أبرأ غريمه من دينه برئ ولو لم يقبل) ؛ لأن الإبراء إسقاط، وإذا أسقطه صار لازماً، فإذا قال للغريم: عندك لي مائة أو ألف، وأنا قد أبرأتك وأسقطته عنك، برئ الغريم، ولو لم يقل: أنا قابل، أو قال: لا أرضى أو لا أريدها وأنا في غنى، ولست بحاجة إلى أن تسامحني.
فيكون قد برئ بمجرد ما يقول: أبرأتك أو أسقطت الدين الذي عليك، أو وهبتك الدين الذي في ذمتك ولو لم يقل المدين: قد قبلت، وكذلك لو قال: لا أريد أن تُسقطه عني، أو قال: لا أُحب منتك، ولا أريد أن يكون لأحد عليّ فضل أو مِنّة، ففي هذه الحال الواهب قد أبرأه وأعطاه وأسقطه، والمتهب أو المدين له أن يرده ويقول: أنا لم أقبضه، أنا لا أريده، أنا لا أسمح ولا أريد أن أقبل منك ولا من غيرك شيئاً.(46/6)
الفرق بين العطية والهبة والصدقة
في هذا الباب جمعوا الهبة والعطية، وفي آخره ذكروا الوصية، والوصية تأتينا في الفصل الذي بعده إن شاء الله.
العطية معناها قريبٌ من الهبة ومن الهدية، ولكنها أعم، فيدخل في ذلك عطية الوالد لأولاده أو من دونه أو من فوقه، وكأن الهبة والهدية أخص، فإذا كان عندنا مثلاً أمير من الأمراء أو ثري أو رئيس قبيلة، وعندنا إنسان فقير مسكين، فالأمير أو الرئيس إذا سلّم هذا الفقير كسوة أو كيساً، فهل تسمى هذه هدية؟ هذه تسمى صدقة منه عليه؛ لأنه لا يُريد الأجر منه، وإنما يريد الأجر من الله، أما الفقير إذا جاء مثلاً بطيب طيب الرائحة وأعطاه للأمير، فهذه تسمى هدية وهبة، فالعطية من النازل للعالي تسمى هدية، ومن العالي لمن تحته تسمى صدقة، وأما من إنسان لمن هو مثله فتسمى عطية، وقد تسمى أيضاً هدية.
والغالب أن الفقير إذا أهدى للأمير فإنه والحال هذه يريد أكثر منها، فهو يقول: أنا أهديت للأمير هذه الفاكهة العجيبة، أو هذه الأطياب وما أشبهها؛ لأنني أريد أن يثيبني ويعطيني أكثر مما أعطيته، والعادة أن الأمير الذي أهدي له يثيب هذا الفقير، فيعطيه ثمنها مرتين أو أكثر أياً كانت تلك الهدية ولو كانت متوافرة، ولو أهدى إليه مثلاً فاكهة كعنب أو رطب مع أنها قد تكون موجودة عند الأمير أكثر، ولكنه أراد بذلك الثواب.
فإذا شُرط فيها الثواب فإنها تسمى هبة ثواب، وفي هذه الحال يكون لها حكم البيع، فيصح أن يرجع فيها فيقول: أنا أعطيتك أو وهبتك هذا الكيس ولم تهدني ولم تهبني فأنا أحق به، وقد ورد في ذلك حديث: (الرجل أحق بعطيته ما لم يثب عليها) أي: ما دامت موجودة وقد عُرف بأنه قصد أجر الثواب والعوض، فله في هذه الحال أن يرجع فيها؛ لأنها شبه بيع، والبيع لابد له من عوض، ولذلك قالوا: تصح الشفعة فيها إذا حدد الثمن، فإذا كان لك قطعة أرض إلى جنب أحد جيرانك، فأهديتها إلى أمير مثلاً وقلت: أريد ثوابها مثلاً مائة ألف، ففي هذه الحال للجار الذي إلى جانبك أن يقول: أنا لي شفعة فيها، وأدفع مائة ألف فتكون الأرض كلها لي، فهبة الثواب بمنزلة البيع، وكذلك له أن يرجع فيها كما عرفنا؛ لأن الرجل أحق بهديته ما لم يثب عليها، أي: إذا كان قد شرط ثواباً ولم يحصل له.(46/7)
التسوية بين الأولاد في العطية
ثم العطية كأنها بين المتقاربين في الحال، أي: إذا سلمت لأخيك شيئاً أو لجارك فإنها تسمى عطية، وكذلك هبتك لمن تحتك إذا لم تقصد الأجر تسمى عطية، ومن ذلك عطية الوالد لأولاده تُسمى عطية، فعطيتك لأخيك عطية، ولزميلك وصديقك عطية، ولولدك عطية، وأما للفقير الذي هو أنزل منك فإنها تسمى صدقة، وأما للأمير الذي فوقك فهذه تسمى هدية وهبة، والغالب أنك تأمل أكثر من ثمنها.
ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك عطية الوالد لأولاده، وأنه إذا أعطى أولاده عطية بدون سبب فإنه يلزمه التسوية والعدل، وقد جاء في ذلك حديث النعمان بن بشير، وهو أن والده بشير بن سعد أعطاه ونحله غلاماً، فقالت أمه: (أحب أن تُشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ليشهده، فقال: أكُلَّ ولدك نحلته مثله، قال: لا، فقال: فأرجعه) ، وفي رواية أنه قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فلا إذن، وقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، وفي رواية أنه حينما قال: (أشهدك على هذا، قال: لا أشهد على جور) ، وكل هذه الألفاظ في الصحيحين أو أحدهما.
وقوله: (اعدلوا بين أولادكم) العدل هو: التسوية، واختلف في مفهوم هذه الكلمة، فبعضهم قال: يسوي بين الذكر والأنثى؛ لأن قوله: (اعدلوا بين أولادكم) معناها: سووا بينهم، فيعطي الذكر كالأنثى، وقيل: إن العدل هو أن يقسم لهم على ما في الميراث، للذكر سهمان وللأنثى سهم؛ وذلك لأن كتاب الله تعالى هكذا فرض لهم، ولاشك أن القرآن هو أعدل ما يقال: إنه عدل، وهذا هو الصحيح، وهو أنه يسوي بينهم بقدر ميراثهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
وإذا قدِّر أنه فضل بعضهم وزاده، ففي هذه الحال يلزمه التسوية، فيسترد ما أعطى ذلك الذي أعطى، لقصة النعمان فإنه رد تلك الهبة، فعُلم بذلك أنها لا تلزم ولو قبضها ذلك الابن، وأنه يلزمه التسوية، فإن قدر على أن يعطي الآخرين مثل هذا الذي أعطاه فإنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يُعطي الآخرين حتى يستووا أو يسترد ما أخذه من ذلك الذي فضله.(46/8)
حكم موت الأب قبل أن يسوي بين أولاده في العطية
لو قدِّر أن الأب مات قبل أن يسوي بين أولاده، ففي هذه الحال هل تثبت؟ ذكروا أنها تثبت، وأن الورثة ليس لهم مطالبة أخيهم، وهذا هو الذي عليه الفتوى.
وذهب آخرون إلى أن للورثة مطالبة أخيهم فيقولون: أبونا فضلك وأعطاك شيئاً زائداً علينا بغير سبب، فنحن لا نرضى، ويلزمك أن تأتي بما أعطاك وتضعه في التركة، ونقتسمه بالسوية، وهذا قول لبعض العلماء، وله وجاهته حتى لا يلحق الأب إثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً فقال: (لا أشهد على جور) ، فإذا أرادوا إبراء ذمة أبيهم فإنه يلزمهم التسوية، فيرد الذي فضل على إخوته ما كان أخذه.(46/9)
حالة جواز التفضيل بين الأولاد
في هذه المسألة شيء من التفصيل، فنقول: إنه قد يجوز التفضيل لبعض الأسباب أو بعض المناسبات، فمن ذلك تزويج من بلغ منهم؛ لأن التزويج كالنفقة، فإذا بلغ واحد وزوجه، ثم بلغ الثاني وزوجه، فلا يلزمه أن يعطي الأصاغر مثل ذلك الكبير الذي زوجه، ولو كانت أمهم مثلاً مطلقة وهم تحت كفالتها فلا تقول: أنت أعطيت ولدك هذا خمسين ألفاً في زواجه، فأعط أولادي كل واحد منهم خمسين ألفاً، وعليه أن يقول: من بلغ منهم فإني أزوجه، وأما قبل البلوغ فلا يلزمني.
فلو مات قبل أن يزوّج بعضهم فليس لهم أن يأخذوا من التركة مقابل زواجهم، بل يقتسمون التركة ويتزوجون إن شاءوا من أنصبائهم.
ومن ذلك في هذه الأزمنة إذا بلغ أحدهم من الذكور مثلاً ثماني عشرة سنة احتاج إلى سيارة يتنقل عليها، وقد يكون له إخوة صغار، فيشتري له أبوه سيارة للدراسة وللتنقل، فهل يلزمه أن يُعطي الصغار مثل قيمة هذه السيارة، وتقول أُمهم: أعطيت ولدك الكبير سيارة بخمسين ألفاً مثلاً، فأولادي هؤلاء عليك أن تعطيهم قيمتها إذا بلغوا ليشتروا مثلها؛ لأنك إذا لم تفعل فقد فضلت بعضهم؟ لا يلزمه ذلك، وما ذاك إلا أن هذه السيارة للحاجة، فمتى بلغ الصغير اشترى له مثلها، وقبل البلوغ ليس بحاجة إليها فهي كالزواج.
وهكذا مثلاً إذا كان له بنات، واشترى لكل واحدة منهن حلياً بعشرة آلاف، فهل يعطي الذكور مثلها؟ لا يلزمه؛ لأن هذا من تمام الزينة، فلا يلزمه أن يعطي الذكور مثل ذلك.
وعندنا مثلاً الكسوة تتفاوت، فهو يشتري كسوة أولاده الذكور، فالذكر قد يكفيه كل شهرين أو كل أربعة أشهر خمسون ريالاً كسوة، وأما الأنثى فإن كسوتها قد تكون بمائتين، فلا يلزمه إذا اشترى كسوة أنثى بمائتين أن يُعطي الذكر تمام المائتين؛ لأن هذه كسوتها، وهذه كسوته، وقد أعطى كلاً منهم كسوته وسد حاجته، فهذا التفاوت لا يلزم التسوية فيه.
وبعضهم إذا زوج بناته قد يجهز بعضهن مثلاً بأربعين ألفاً زيادة على المهر، وبعضهن لا يجهزها كذلك، ويكتفي بمهرها، فهل يلزمه لهذه التي ما أعطاها شيئاً أن يُعطيها مثل ما جهز به أختها؟ لا يلزمه ذلك؛ لأن هذا التجهيز تستحقه تلك، فيشتري لها كسوة ويشتري لها حلياً أو أواني، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان الصداق الذي دفع لها قليلاً زاده من عنده، فلا يلزمه أن يُعطي أخواتها مثل هذه الزيادة، سواء قبل الزواج أو وقت الزواج.
كذلك ذكروا أنه يجوز التفضيل أيضاً لأسباب؛ منها: إذا كان أحدهم معوقاً فله أن يزيده وأن يتبرع له، كالمريض أو الضرير أو ما أشبه ذلك؛ لأنه بحاجة إلى الزيادة.
وكذلك لو أن أحدهم تفرغ لطلب العلم، والآخر اشتغل بطلب الدنيا، فهذا الذي اشتغل بطلب الدنيا حصل على مال واشترى له سكناً وأثث سكنه، وطالب العلم منشغل بالطلب وبالتعلم فيستحق أن يساعده في السكن، ويستحق أيضاً أن يساعده في الزواج أو في تأثيث السكن، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم، وأنا مطالب بمن لم يستغن، فكما أنكم استغنيتم، وانفرد كل واحد منكم في مسكن، وصار ينفق على نفسه، وأنا أنفق على إخوتكم الأطفال، ولا يلزمني أن أُعطيكم مثلهم؛ فكذلك أيضاً لا يلزمني أن أعطيكم مثل هذا الذي تفرغ للتعلم وانقطع للفقه في الدين، فليس يلزمه أن يُعطي إخوته مثل ما أعطاه.
وقد يقول: اشتغل بطلب العلم وأنا أشتري لك سيارة، وأنا أزوجك، وأنا أُسكنك، وأنا أُنفق عليك، فيقول: أنا لا أريد التعلم ولكني أشتغل لنفسي، فيقول: إذا اشتغلت لنفسك واستغنيت فلا يلزمني لك أكثر من حاجتك، فإذا أغنيت نفسك فلا نعطيك شيئاً، بل نعطي أخاك الذي تفرغ.
كذلك أيضاً يقع أن بعض الأولاد ينقطع على والده والآخر ينفصل، فهذا الذي انقطع عند والده يستحق أن يكافئه، كثير منهم يقول: أنا أشتغل مع والدي في تجارته، أشتغل معه في سقي حرثه، أساعده في حرفته أياً كانت، كما إذا كان خياطاً أو قصاراً أو خرازاً أو غسالاً أو نحو ذلك، فأحد أولاده انفرد بصنعة، والآخر اشتغل مع والده؛ فهذا الذي اشتغل مع والده يستحق أن يعطيه مقابل اشتغاله سكناً ويزوجه ويعطيه سيارة.
ثم أيضاً قد يشتغل بعضهم مع أبيه أربعين سنة في تجارته، والأخ الثاني موظف مستقل بوظيفته، فيجوز للأب أن يُشرك الولد ويقول: هذا الولد الذي اشتغل معي عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاماً، أجعله شريكاً، فأجعل تجارتي بيني وبينه نصفين.
أو يقول: إنه اشتغل معي في سقي الحرث، وفي إصلاح المضخات، وفي حفر الآبار، وفي الحرث والسقي والزرع والغرس وإصلاح المجاري للماء وما أشبه ذلك، فنقول: لاشك أنه تعب معك عشر سنين أو عشرين سنة، فإما أن تجعل له مرتباً كما لو كان أجنبياً، وإما أن تُشركه في هذا الحرث.
وهكذا في البوادي بعض أولادهم يتعلقون بالوظائف، وبعضهم يبقى عند ماشية أبيه يرعى ويسقي، ويحفظ إبلاً وغنماً، فينقطع على حفظ ماشية أبيه، فهل يساوى بإخوته الآخرين عند الميراث؟ إخوته توظفوا، وكل منهم يجمع مرتبه، ويشتري لنفسه مسكناً وأثاثاً، وأصبح عنده رأس مال، وعنده ذخيرة، وهذا انشغل مع أبيه في رعي غنمه وإبله، وفي سقيها وحفظها وإصلاحها ومراعاتها، وخدمة أبويه؛ فيستحق والحال هذه أن يجعل له نصيباً من هذه الأغنام أو الإبل، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم عن أبيكم، وهذا خدم أباه وقام بخدمته وحفظ حلاله وحفظ أمواله، ففي هذه الحالة يجوز التفضيل.(46/10)
حكم الرجوع في الهبة
قال المصنف رحمه الله: (ويحرم على واهب أن يرجع في هبته بعد قبض، وكره قبله إلا لأب) .
ذكر أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض بإذن الواهب، فإذا قبضها الموهوب له بعد أن يأذن له الواهب ويقول: اقبض هذه الهدية أو هذه الهبة خذها فهي لك، فقبضها، فهل لصاحبها أن يرجع فيها إذا كانت هبة تبرر وليست هبة ثواب؟ لا يجوز، وقد اشتهر في الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ، وقال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ، أي: هذا مثل سيء مطابق: فالكلب إذا وجد مثلاً جيفة وأكل منها أكثر من حاجته، وخاف أن يضره، فإنه يتقيأ، فيقيء نصف ما أكل، وبعد خمس ساعات أو ثلاث ساعات يأتي إلى قيئه ولو كان منتناً كريه الرائحة فيأكل قيئه، يقول قتادة: (ولا أعلم القيء إلا حراماً) .
فالإنسان إذا أكل لحماً أو خبزاً أو نحو ذلك، وبعد أن استقر في بطنه تقيأه، فهل نفسه تطمئن إلى أن يعود فيأكل ذلك القيء؟ لا شك أنه مستقذر طبعاً، فيقول قتادة: (ولا أعلم القيء إلا حراماً) ، أي: فإذا كان كذلك عُرف أنه لا يجوز الرجوع في الهبة بعد أن يستلمها المتهب ولو كانوا في المجلس ولو قبل التفرق؛ فإنه مثل الكلب.
حتى ولو كانت كثيرة، ولو وهبك بيتاً وأعطاك مفاتيحه، أو وهبك أرضاً وأعطاك وثائقها، وبعدما أعطاك وتمت الهبة وتم التقبل والقبض قال: رُد عليّ بيتي، أو أرضي، أو ناقتي، أو سيارتي، فتقول له: ألست قد وهبتها لي؟ ألست قد أهديتها لي؟ فإذا قال: أنا أحق بها؛ ف
الجواب
أن ذلك لا يحل لك، إلا إذا كان قد اشترط أجراً وهي هبة الثواب كما تقدم، ففي هذه الحال يجوز أن يرجع في هبته إذا كان قد اشترط لها عوضاً، ويسمى المردود، أي: ما يرده المتهب على الواهب.
وأما قبل القبض فإنه مكروه، فلو أعطاك أو وهبك كتاباً فوضعه على الطاولة، وقبل أن تقبضه وتستلمه أراد الرجوع، فهذا مكروه رجوعه ولو كان جائزاً، أي: أنه يجوز ولكن مع الكراهة.
ويستثنى الأب فيما يهب لأولاده؛ وذلك لأن الوالد يملك ما بيد الأبناء، فله إذا وهبهم أن يرجع، واستدل لذلك بحديث النعمان بن بشير عندما وهبه أبوه ذلك العبد، ثم رجع فيه لما قال له صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) فلما لم يكن عنده ما يُسوي بين أولاده رجع ورد تلك الهبة والنِحلة، والأب يملك ما بيد أولاده.(46/11)
شروط أخذ الأب من مال ابنه
قال المصنف رحمه الله: (وله) يعني: للأب (أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده غير سرية ما شاء ما لم يضره، أو ليعطيه ولداً آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافراً والابن مسلماً) .
دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ، وهو حديث مشهور، ولو كان في طرقه بعض الضعفاء، لكن بمجموعها يرتقي الحديث إلى أن يكون صحيحاً لغيره، فيجوز للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، سواء بقول أو بنية.
فالقول كما إذا قال: إني قد تملكت أرض ولدي هذه، فتدخل في ملك الأب، أو يقول: إني قد تملكت سيارة ابني هذه، فتدخل في ملك الأب.
والنية كما لو أخذ الأب مفاتيح دار ابنه ونوى أنه أدخلها في ملك الأب، ففي هذه الحال تدخل في ملك الأب بمجرد النية، وكذا إذا أخذ وثائق الأرض، وأخذ مفاتيح السيارة، وعزم على أنه قد ملكها وأخرجها من ملك ابنه إلى ملك الأب، فتدخل في ملك الوالد.
ويستثنى من ذلك السرية، فالأرجح أن المملوكة التي يطؤها ولده بملك اليمين، يحرم عليه أن يتملكها؛ لأن ابنه قد وطأها، ولا يحل له أن يطأ ما وطأ ابنه.(46/12)
عدم الإضرار بالولد
اشترطوا لذلك التملك شروطاً: الشرط الأول: ألا يضر الولد.
الشرط الثاني: ألا يأخذه من ولده ليعطيه ولداً آخر، فإن هذا جور.
الشرط الثالث: ألا يكون في مرض موت أحدهما، أي: موت الأب أو موت الابن.
الشرط الرابع: ألا يكون الابن مسلماً والأب كافراً.
ففي مثل هذه الحالات لا يصح للأب أن يأخذ، فإذا كان الابن محتاجاً إلى هذه الدار ليسكنها، ويسكن أولاده فيها، ولا يستغني عنها، والأب مستغنٍ؛ فهل له أن يخرج ولده ويقول: يا بني اخرج وانزل في خيمة أو نحوها واترك لي هذه الدار لأؤجرها؟ الدار ملك الابن، وهو الذي ملكها وعمرها وتعب فيها، وأسكن فيها أولاده، فلا يحل للوالد أخذها؛ لأن هذا ضرر عليه، وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) ، وقال تعالى: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق:6] ، وقال: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] ، فدل على أنه إذا تضرر الابن فلا يجوز للأب أن يأخذ، فإذا قال مثلاً: هذه سيارتي يا أبي لا أستغني عنها، ولا أستطيع أن أستأجر كلما أردت أن أذهب إلى مكان، ولا أقدر على أن أشتري بدلها؛ فكيف تأخذها وتدعني وأنت مستغن عنها، ولست محتاجاً إلى ثمنها، ولا محتاجاً إلى استعمالها؛ لأن عندك غيرها؟ فلا يجوز والحال هذه أن يأخذها، حتى ولو كان الشيء صغيراً، فلا يجوز له أن يأخذ ثوبه ويدعه عارياً، أو يأخذ طعامه ويدعه جائعاً، والأب مستغن عنه.(46/13)
أن لا يعطي ما أخذه لولد آخر
الشرط الثاني: ألا يعطيه لولد آخر، فيأخذ من هذا ألف ريال ويعطيها للثاني، فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن هذا جور، وفي الحديث: (لا أشهد على جور (، لكن إذا كان الابن مستغنياً وعنده فضل، وأخوه فقير وذو حاجة شديدة، وليس عنده ما يكفيه، والأب لا يقدر على أن يعوله؛ فإنّ على الأخ أن يُنفق على أخيه ولو كان لا يرث منه، ويجوز للأب أن يأخذ من مال هذا المستغني الذي عنده فضل ويُنفق منه على أخيه الفقير، فأما إذا كانا متكافئين فليس له أن يأخذ من هذا ويعطي هذا، فهذان شرطان.(46/14)
أن لا يكون الأخذ في مرض موت أحدهما
الشرط الثالث: ألا يكون في مرض موت أحدهما؛ وذلك لأنه عند المرض تتعلق بالمال حقوق الورثة، فإذا مرض الابن، وله زوجته وأمه وأولاده ذكوراً وإناثاً؛ فليس للأب في مرض موت الابن -إذا كان مرضاً مخوفاً- أن يأخذ من مال الابن؛ لأنه بذلك يظلم الزوجة ويظلم الأم ويضر الأولاد إذا أخذ تركة أبيهم.
وهكذا أيضاً لو كان المريض هو الأب، فإنه في هذه الحال ليس له أن يتملك؛ لأنه إذا كان مرض الأب مرضاً مخوفاً -أي: يخاف منه الموت- ففي هذه الحال نقول: ليس له أن يتملك من مال أولاده؛ لأنه والحال هذه كأنه يأخذ من مال هذا ويجعله في تركته ليُعطي أولاداً له ما كسبوا، وليُعطي زوجات له ما اكتسبن؛ فيضر بعض أولاده وينفع آخرين، هذه ثلاثة شروط.(46/15)
أن لا يكون الأب كافراً والابن مسلماً
الشرط الرابع: ألا يكون ذلك من مسلم لولد كافر، فلا يجوز للكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم؛ لأن أموال المسلم ملك لورثته، والكافر ليس له ميراث، فلا يرث من مال ابنه المسلم كما سيأتي في الفرائض إن شاء الله.
فليس له أن يأخذ من مال الولد المسلم أو قريبه المسلم أو أبيه المسلم، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] .(46/16)
شرح أخصر المختصرات [47]
المريض مرضاً مخوفاً له أحكام خاصة تتعلق بتصرفاته المالية؛ من وصية وعطية وغيرها، وقد بين الفقهاء تلك الأحكام، وبينوا فروقاً دقيقة بين كثير منها.(47/1)
متى يحرم قبول الهدية؟(47/2)
حكم قبول الهدية في مقابل العمل المراد به وجه الله
عرفنا أن الهدية: هي التبرع بجزء من المال أو بمنفعة لقصد التودد والمحبة، وأن العطية هي إعطاء الإنسان غيره شيئاً من المال بغير مقابل، وأن الهدية قسمان: هدية تبرر، وهدية ثواب، فهدية الثواب تكون كالبيع، إذا لم يعط مقابلها فله الرجوع، وهدية التبرع لا يجوز الرجوع فيها.
وقد ورد في فضل الهدية حديث مشهور هو: (تهادوا تحابوا) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، مع أن أهلها لا يشترطون ثواباً، ولكنه يحب مكافأتهم، فقد ورد في حديث: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه) .
وبهذا يعرف أن الهدية تكون مالاً، وتكون منفعة، فالإنسان الذي يعلمك، ويفهمك مسألة من المسائل، يعتبر قد فعل معك معروفاً، وأنت تحب أن تكافئه، لكن يستحب له إذا كان قصده الثواب والأجر ألا يأخذ هديتك؛ لأنها قد تنقص أجره، وقد جاء في حديث أبي الدرداء: (أنه علم رجلاً من أهل الصفة آيات من القرآن، فأهدى إليه قوساً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحببت أن تطوق مثله من النار فخذه) ؛ وذلك لأنه أراد الأجر بتعليمه، فلا يحق له أن يفسد أجره، وأن يأخذ عليه عوضاً.
ويقال كذلك في كل من عمل عملاً يحتسبه عند الله، فلا يفسد أجره بقبول تلك الهدية، سيما إذا كان ذلك الذي علمته أو دللته فقيراً كأهل الصفة الذين هم من فقراء المهاجرين، فمن فعل ذلك يحتسب الأجر، فليس له أن يأخذ ما يقابله، وقد ورد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: (من عمل عملاً يبتغي به وجه الله فأهدي إليه شيء فلا يأخذه) ، بل عد في بعض الروايات أنه من الربا، وإن لم يكن من الربا الصريح، فإذا عملت لإنسان عملاً تحتسبه فلا تأخذ عليه أجراً، كما إذا حملت له متاعه أو رفعته له، أو أوصلته له إلى منزله وأنت محتسب أنه فقير ذو حاجة، أو شفعت له عند من قضى حاجته، أو أما أشبه ذلك، وأنت تحتسب الأجر، فليس لك إفساد أجرك بأخذ هدية، وقد قصدت الأجر الأخروي، فلا تأخذ أجراً دنيوياً.(47/3)
حكم قبول الهدية إذا قصد بها الرشوة
ومن الهدايا التي لا تجوز، إذا كان ذلك المهدي يقصد مقصداً دنيوياً، فليس له أن يهدي، وليس للمهدى إليه أن يقبل، فإذا أهديت للطبيب لأجل أن يقدمك على المراجعين، فهذه هدية شبيهة بالغلول، وهدايا هؤلاء العمال غلول، أو أهديت لمدرس ليزيد في درجاتك، فهذه من جنسها، ولا يحق له أن يقبلها، أو أهديت للموظف ليقبل وظيفتك، وليقدمك في الوظيفة على من هو أحق منك، فإن هذه من الغلول أو من المحرم.
ومثله: ما ورد في هدية القاضي فإنها تسمى رشوة، فإذا أهدى أحد الخصمين للقاضي أو نفعه، وأراد بذلك أن يميل معه، وسماها هدية، ولو -مثلاً- ضيافة، بأن استضافه وأكرمه ويريد أن يميل معه، فإنها تسمى رشوة، وكذلك إذا كان يراجع كاتباً ويريد أن يقدمه على غيره، فإنه بذلك يكون قد أعطاه ما يشبه الرشوة، فليس للآخذ أن يأخذ، ولا للمعطي أن يعطي في هذه الحالات وأشباهها.
ويقع كثيراً التساهل في هذا، ويسأل كثيرون من أصحاب المنح هذا
السؤال
إني طلبت منحة أرض سكنية، وإذا أعطيت هذا المسئول أعطاني في مكان مرغوب، وإذا ما أعطيته دفعني وأبعدني؟ فالجواب أن نقول: هذه رشوة ولو سميتها هدية، فإنك بذلك تضر غيرك، والواجب عليه أن يسوي بين جميع الممنوحين ونحوهم، فلا يقدم هذا لأنه يعرفه، أو هذا لأنه صديقه، أو هذا لأنه من أسرته، أو هذا لأنه كبير القوم، أو هذا لأنه أهدى إليه أو ما أشبه ذلك.
وأما حديث: (هدايا العمال غلول) فهو مشهور، وإن كان هذا اللفظ في إسناده مقال، والأصل فيه قصة ابن اللتبية الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على جمع الزكاة من البهائم، فجاء وقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلَّا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً) المعنى: أنهم أهدوا له حتى يتسامح معهم، إذا كان عليهم -مثلاً- خمس شياه ثمينة، أهدوا له شاة وأعطوه خمساً هزيلة، وقبلها، فمثل هذا يعتبر رشوة، ولو سموها هدية؛ لأنهم يقصدون بذلك أن يخفف عنهم، وكذلك أصحاب الثمار، لا يجوز له أن يستضاف عندهم؛ لأنه قد يزيد في خرص من لم يضيفه أو لم يكرمه ويتغاضى عن الذي أكرمه، والذي زاد في إكرامه ينقص عليه من الزكاة، فلذلك لا يجوز له والحال هذه.
فأمر الهدايا والهبات فيه تساهل كثير، ويقع به ضرر على الفقراء الذين لا يجدون ما يهدون، حيث إن أولئك الذين هم أهل طمع وأهل مقاصد دنيوية؛ يقدمون من أهدى إليهم في القضايا وفي الكتابات وإخراج الصكوك، وكذلك في المنح وما أشبهها، وهذا لا يجوز، وإذا عرفنا هذا الحكم فلا يصح لأحد أن يقبل شيئاً من هذه الهدايا ونحوها.(47/4)
لا يطالب الأب بالدين بل بالنفقة الواجبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وليس لولد ولا لورثته مطالبة أبيه بدين ونحوه، بل بنفقه واجبة، ومن مرضه غير مخوفٍ تصرفه كصحيح، أو مخوف كبرسامٍ أو إسهال متداركٍ، وما قال طبيبان مسلمان عدلان عند إشكاله إنه مخوفٌ، لا يلزم تبرعه لوارثٍ بشيءٍ، ولا بما فوق الثلث لغيره إلا بإجازة الورثة.
ومن امتد مرضه بجذام ونحوه ولم يقطعه بفراش فكصحيح، ويعتبر عند الموت كونه وارثاً أو لا، ويبدأ بالأول فالأول بالعطية، ولا يصح الرجوع فيها، ويعتبر قبولها عند وجودها، ويثبت الملك فيها من حينها، والوصية بخلاف ذلك كله] .
تقدم فيما يتعلق بالعطية ما يحل للأب أن يأخذ من مال ولده، وعرفنا شروطه، ثم يقول المصنف: (وليس لولد ولا لورثة مطالبة أبيه بدين ونحوه، بل بنفقة واجبة) أي: إذا كان لك دين على والدك فليس لك أن تطالب أباك بهذا الدين، وتقول: إن عندك لي ديناً يا أبي، بل إن دفعه الأب ورده فلك أخذه، وإلا فله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه، فإذا استدان منه ديناً فليس له أن يطالبه ويقول: أعطني يا أبي الدين الذي عندك، وكذلك إذا مات الابن فليس لورثته مطالبة أجدادهم، ويقولون: إن أبانا كان له دين عندك أيها الأب الأبعد، أيها الجد، ليس لهم ذلك.
وظاهر هذا أنه يجوز له أن يأخذ من مال أولاد ابنه، وأن الجد بمنزلة الأب يأخذ من مال ابنه، ومن مال ابن ابنه وإن نزل؛ لأن الجد أب، فله أن يأخذ من ماله ابنه وابن ابنه ما لا يضر الابن، ولا تتعلق به حاجته.
ويجوز للابن مطالبة أبيه بالنفقة الواجبة، فإنه يجب عليه أن ينفق على أولاده، والأصل أن الأب لا يجمع الأموال إلا لأولاده، فإذا احتاجوا للنفقة الواجبة الضرورية وجب عليه أن ينفق عليهم بقدر كفايتهم طعاماً وشراباً وكسوة وسكناً، وكذلك الحاجات الضرورية كتزويج وما أشبهه.
وللأب أن يسوي بينهم في النفقة، فلا يزيد لهذا عن هذا، أو لهؤلاء عن هؤلاء لأنه يحبهم، بل يعطيهم بالسوية، فلا يشتري لهذا كسوة غالية وهذا كسوة رخيصة، أو يطعم هؤلاء من اللحوم والفواكه، وهؤلاء من يابس الخبز وما أشبهه، بل عليه أن يسوي بينهم، وإذا قصر عليهم وكادوا أن يجوعوا، فلهم مطالبة أبيهم حتى يسد خلتهم وحاجتهم.(47/5)
تصرفات المريض(47/6)
حكم تصرفات المريض إذا كان مرضه غير مخوف
ذكر المصنف بعد ذلك تصرفات المريض، متى تكون نافذة أو غير نافذة؟ إذا كان المرض غير مخوف فتصرفه كتصرف الصحيح، فإذا كان مرضه وجع ضرس، أو وجع عين، أو ألماً في إصبع، أو صداعاً في رأسه أو حرارة، أو سعلة يسيرة، أو ألماً في يد أو رجل؛ فإنه يتصرف تصرفاً صحيحاً، فله أن يهدي، وله أن يتصدق، وله أن يوقف؛ وذلك لأنه شبيه بالصحيح، والإنسان في صحته يتصرف كما يشاء.
والصدقة في حالة الصحة أفضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمسك حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) ، فلا يجوز له أن يتصدق في حالة المرض المخوف إلا بالثلث فأقل.
فإذا كان الإنسان صحيحاً وتصدق بنصف ماله أو بالثلثين أو سبله، أو أعطاه لمستحق أو ما أشبه ذلك، فليس لورثته منعه، وكذلك لو أوقف أموالاً كثيرة أو تبرع بها وأعطاها لبعض أقاربه، أو بنى بها مساجد أو ما أشبه ذلك؛ فكل ذلك جائز في حالة الصحة.(47/7)
حكم تصرفات صاحب المرض المخوف
إذا كان المرض مخوفاً فليس له تصرف إلا في الثلث.
والمرض المخوف مثلوا له بالبرسام أو بالإسهال، والبرسام: مرض في الرأس يختل به الدماغ، تسميه العامة أبو دمغة؛ لأنه يختل به الدماغ؛ فالعادة في مثل هذا أنه يموت، وأما الإسهال المتدارك فاسمه عند الأطباء (الكوليرا) ، وهو مرض يحصل به الإسهال المتدارك، ويتمادى به إلى أن يموت.
فإذا كان مرضه مخوفاً أو قرر طبيبان مسلمان عدلان أن هذا المرض مخوف، أي: يخاف منه الموت؛ فمثل هذا تصرفاته لا تنفذ إلا في الثلث؛ وذلك لأن حقوق الورثة إذا تعلقت بالمال فيخاف أن يقصد إضرار الورثة، مثل ما يسمى عند العامة بتوليج المال، أي: إخراجه من ملكه حتى يتضرروا، ولا يبقى لهم شيء يملكونه؛ إما لأنهم أساءوا صحبته، أو أنهم ما أطاعوه ولا خدموه، أو أنهم أقارب غير رافقين به إذا لم يكن له أولاد، وكان له إخوة أهل قطعية وعقوق، أو بنو عم مقاطعون له، فأراد أن يخرج المال من ملكه في حياته حتى لا ينتفعوا به إضراراً بهم.
فإن كان صحيحاً ولو كان عمره مائة سنة، ولكن معه عقله وإدراكه، ومعه قوته يذهب ويجيء، فتصرفه تصرف نافذ، فإذا بنى مساجد، أو عمر مدارس خيرية، أو أصلح طرقاً، أو تصدق بصدقات، أو أوقف أوقافاً وسبلها، فإنه ينفذ؛ وذلك لأنه في حالة صحته وفي حالة قوته، والعادة أن الصحيح القوي يمسك المال، وأنه يحتاج إليه.(47/8)
حكم العطية للوارث في المرض المخوف
الحاصل أنه إذا كان صحيحاً فتصرفه صحيح، وأما إذا كان مرضه مخوفاً فإن تصرفه لا ينفذ إلا في الثلث، ولا ينفذ إذا أوصى للوارث، وقال: لك يا ولدي كذا، أو لك يا أمي أو يا زوجتي كذا، ففي هذه الحال لا ينفذ ذلك؛ لأنهم وارثون، وقد ورد في الحديث: (لا وصية لوارث) ، وهذا شبيه بالوصية؛ لأنه عطية في المرض، وقد تعلقت حقوق الورثة بالمال، فهذه العطية تعتبر من الثلث إلا إذا كانت لوارث، ففي الحديث: (لا وصية لوارث) .
وفي قصة سعد لما قال: (أتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
قال: النصف؟ قال: لا.
قال: الثلث؟ قال: الثلث؛ والثلث كثير) يعني أراد أن يتصدق بالثلثين، ثم بالنصف، فصرفه إلى الثلث، ثم قال: (والثلث كثير) ، فإذا أجاز الورثة ذلك جاز، أي: إذا تصدق بنصف ماله أو بثلثيه ووافق الورثة على ذلك جاز؛ لأن الحق لهم، وكذلك لو تبرع لأحدهم، فمثلاً: إذا كان له ثلاثة أولاد أغنياء، وعندهم تجارات، وعندهم أملاك، وله واحد فقير لا يملك شيئاً ولا سكناً، وأوصى له أو تبرع في مرض الموت، فقال: أعطوه مسكناً.
ووافق الورثة، نفذ ذلك إذا أجازه الورثة؛ لأن الحق لهم.(47/9)
المرض الممتد وحكم التصرف فيه إذا لم يقعده
هناك أمراض تمتد ولا يكون المرض مخوفاً، فمن امتد مرضه بجذام ونحوه، ولم يقطعه بفراش؛ فتصرفه صحيح، والجذام: قروح تخرج في الأنف أو في الوجه، وهو الذي ورد الاستعاذة منه: (أعوذ بك من البرص والجذام وسيء الأسقام) وفي الحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، وذلك لأن ينتقل بإذن الله.
فالجذام قد يطول بصاحبه عشر سنين أو عشرين سنة، فلا يكون مخوفاً، ومثله مرض السل في ابتدائه، ومرض الصدر أو التدرن الصدري، فهذا في أول الأمر يبقى سليماً معافى، ولكن في آخره تخرج قروح في الرئة، ثم تشتد إلى أن تقضي عليه، ولكن تطول مدته، فقد يبقى عشر سنين أو نحوها.
ومثل ذلك الفالج في آخره، والفالج هو الشلل النصفي، ففي أوله خطر، أما في آخره فإنه قد يبقى عشر سنين أو عشرين سنة وهو مشلول يد أو رجل، فتصرفه صحيح، ولو طالت مدته، إلا إذا كان على الفراش، فمن كان مرضه قد ألزمه الفراش بحيث لا يستطيع أن يتحول ولا أن يذهب ويجيء، بل هو دائم على الفراش فإن هذا مخوف، فتصرفه غير صحيح إلا بإجازة الورثة.(47/10)
الفرق بين عطية المريض ووصيته(47/11)
الفرق بين الوصية والعطية
هناك فروق بين العطية والوصية: فالعطية هي التبرع في الحياة، والوصية هي: التبرع بعد الموت وبعد الوفاة، فيعتبر عند الموت كونه وارثاً أو لا، فمثلاً: إذا تبرع لقريبه فقال في مرض موته: أعطوا أخي هذه السيارة أو عشرة آلاف، وكان أخوه لا يرث؛ لأنه محجوب بابن للميت، ثم قدر أن ابن الميت مات قبل أبيه، ثم مات الأب، فأصبح الأخ وارثاً، فهل يأخذ هذه العطية أو الوصية؟ لا يأخذها إلا بإجازة الورثة؛ لأنه أصبح وارثاً، وفي الحديث: (لا وصية لوارث) ، فيعطى حقه من الميراث، ولا يأخذ هذه العطية.
وعكسه: لو قدر أنه أوصى لأخيه، أو أعطاه في آخر حياته، وكان أخوه يرث في ذلك الحال، ثم قدر أن الموصي أو المعطي ولد له ابن قبل موته، ولما ولد له حجب الأخ، فأصبح الأخ لا يرث، فهل تصح تلك العطية له؟ نعم تصح، إن خرجت من الثلث أو إن سمح بها الورثة، هذا معنى قوله: (يعتبر عند الموت كونه وارثاً أو لا) ، بمعنى أنه أوصى له وهو يرث، وقبل موت الموصي حجب وأصبح لا يرث، فتصح الوصية، والعكس: إذا أصبح الموصى له وارثاً، وذلك إذا مات ابن الموصي أو المعطي في حياته، وأصبح الموصى له من الورثة، فلا تصح تلك الوصية أو العطية.(47/12)
كيفية البدء في العطية والوصية
قال المصنف رحمه الله: (ويبدأ بالأول فالأول في العطية) .
صورة ذلك: إذا قال وهو مريض مرضاً مخوفاً: أعطوا زيداً خمسة آلاف، ثم في اليوم الثاني قال: أعطوا سعداً عشرة آلاف، ثم في اليوم الثالث قال: أعطوا إبراهيم ثلاثة آلاف.
فنظرنا فإذا الجميع ثمانية عشر ألفاً، ثم قدر أنه لما مات حصرنا الثلث، ووجدنا الثلث عشرة آلاف، ففي هذه الحال يأخذ زيد منها خمسة آلاف، وسعد خمسة آلاف فقط، ولا يأخذ إبراهيم شيئاً.
وكذلك لو قالوا يوم الجمعة: أعطوا زيداً ثلاثة آلاف، فإنا نعطيه الثلاثة الآلاف، فنبدأ بالأول، وقال يوم السبت: أعطوا سعداً خمسة آلاف، فإنا نعطيه ذلك من هذا الثلث الذي هو عشرة آلاف، يبقى عندنا من الثلث ألفان، وعندنا إبراهيم قد أمر له بعشرة آلاف يوم الأحد، فنقول له: خذ هذين الألفين بقية الثلث، فإذا قال: لماذا أعطيتموهم حقهم تماماً، وما أعطيتموني إلا القليل؟ ف
الجواب
لأنهم قبلك، أي: لأنه تبرع لهم قبل أن يتبرع لك، فليس لك إلا بقية الثلث؛ وذلك لأن العطية تنفذ في الحياة، وإنما منعنا من إخراجها لأنه مريض، فإن شفي من مرضه أعطاهم ما يريدون أو منعهم؛ لأن العطية والهبة لا تلزم إلا بالقبض، وأما إن مات فإنها ترجع إلى الثلث، فإن خرجت أعطياته كلها من الثلث أخذوها، وإن كان الثلث قليلاً لم يخرج منه إلا الثلث، ويبدأ بالأول الذي هو زيد فيعطى الثلاثة الآلاف، ثم سعد يعطى الخمسة الآلاف، ثم يبقى لإبراهيم من الثلث ألفان، وليس له إلا ذلك، هذا معنى قوله: (يبدأ بالأول فالأول في العطية) .
بخلاف الوصية، فإنهم يستوون، فلو قال: إذا مت فأعطوا زيداً ثلاثة آلاف، ثم قال بعد يوم: وأعطوا سعداً خمسة آلاف، ثم قال بعد يوم: وأعطوا إبراهيم عشرة آلاف.
فنظرنا وإذا المجموع ثمانية عشر ألفاً، ووجدنا الثلث تسعة آلاف، ففي هذه الحال يسوى بينهم في الوصية، وكيفية التسوية أن يعطى كل واحد منهم بقدر حصته.
ننظر في الثلث فإذا هو تسعة آلاف، والوصية ثمانية عشر ألفاً، فنسبتها النصف، فنقول: لك يا زيد ألف ونصف، ولك يا سعد ألفان ونصف، ولك يا إبراهيم خمسة آلاف، هذا هو الثلث، فيبدأ بالأول فالأول في العطية، ويستوي المتقدم والمتأخر في الوصية.(47/13)
حكم الرجوع في العطية وفي الوصية
العطية لا يصح الرجوع فيها؛ وذلك لأنه تبرع بها، وإنما منعنا إخراجها انتظار أن يموت فتخرج من الثلث أو يشفى فيخرجها، فإذا قال وهو مريض: لك يا سعد هذه السيارة، ولك يا عمرو هذه الأرض، ولك يا إبراهيم هذه النقود المصرورة، فلا تنفذ في هذه الحال، ولكن إذا قدر أنه شفي، فهل له أن يرجع؟ ليس له أن يرجع في العطية، لحديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ، وإن كانت لا تلزم كما تقدم إلا بالقبض، ولكن هذا قد تبرع بها، وأصبحت كأنها ملك للمعطى، فليس له الرجوع، بخلاف الوصية فإن له الرجوع، فإذا قال: إذا مت فأعطوا زيداً هذه السيارة، وأعطوا سعداً هذه العمارة، وأعطوا بكراً هذه القطعة من الأرض، ثم شفي، فهل يلزم إعطاؤهم؟ لا يلزم، وله أن يرجع؛ وذلك لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت، فله أن يرجع في الوصية، ولا يرجع في العطية.(47/14)
وقت اعتبار قبول العطية وقبول الوصية
إذا قدر أنه قال وهو مريض: أعطوا زيداً هذه الشاة، وأعطوا سعداً هذه الناقة، فكل منهم قال: قبلت.
ولكن منعناهما من أخذها مخافة ألا تخرج من الثلث، فولدت الشاة ونتجت الناقة، ثم مات، وخرجتا من الثلث، ففي هذه الحال هل يكون ولد الناقة وولد الشاة تركة أو يكونان للمعطى؟
الجواب
يكونان للمعطى؛ وذلك لأنها دخلت في ملكه من وقت القبول، فهذا معنى قوله: (يعتبر قبولها عند وجودها) ، لما اعتبر قبولها عند وجودها صار نماؤها تبعاً لها.
وهكذا لو قال: أعطوا زيداً هذه النخلة.
ثم لم يمت حتى حملت، وزيد قد قبلها، ولما مات طالبه الورثة بالحمل، فهل لهم ذلك؟ ليس لهم، فلو قالوا: إنها حملت قبل الموت، فالجواب: أنها تلزم بالقبول، والقبول قد حصل.
وهكذا لو كانت داراً فقال: أعطوا زيداً هذه الدار، وأعطوا عمراً هذا الدكان، وقبل كل منهما، ولكن ما سلمناها مخافة أن يموت ولا تخرج من الثلث، ولما مات نظرنا فإذا الدار قد أجرت بعشرة آلاف، والدكان بخمسة آلاف مثلاً، ففي هذه الحال نقول: إنه والحال هذه تكون الأجرة للمعطَى؛ لأنها خرجت من الثلث، وملكها من وقت القبول، هذا معنى: (يعتبر قبولها عند وجودها) .
وقوله: (يثبت الملك فيها من حينها) : (من حينها) قيل: إنه من حين العطية، وقيل: من حين القبول.
والفرق بين القولين: أنه لو قال: أعطوا زيداً الدكان، ولم يقل زيد: قبلت إلا بعد الموت، فلا يثبت الملك إلا بعد الموت، وليس له الأجرة قبل القبول، بل أجرة الدكان للورثة، وله عين الدكان، وله قسطه من الأجرة بعد القبول.
وأما إذا قلنا: إن الملك قبل القبول يثبت من حين العطية، ففي هذه الحال له أجرة هذا الدكان، بمعنى أنه لو قال في شهر المحرم: أعطوه هذا الدكان.
وزيد ما قال: قبلت.
إلا في شهر رجب، أي: بعد نصف سنة، والمعطي ما مات إلا في ذي الحجة بعد سنة، فالصحيح أن أجرة نصف السنة قبل القبول للورثة، والنصف الثاني للمعطى، والملك يثبت من حين القبول.
وأما الوصية فإنها لا تثبت إلا بعد الموت، فلو قال الموصى له: قبلت.
ثم قال الموصي: رجعت.
فله الرجوع.(47/15)
شرح أخصر المختصرات [48]
جعل الله للمسلم ثلث ماله يتصدق به عند وفاته، فيجعله وقفاً أو وصية أو نحو ذلك مما يبتغى به وجه الله، والوصية لها أحكام كثيرة تتعلق بها، من جهة ما تجوز الوصية به أو له وما لا تجوز، ومن جهة المقدار الذي يحق للمرء الوصية به، وماذا يكون العمل عندما يوصي بقدر نصيب وارث، وغير ذلك من المسائل التي تكلم عنها الفقهاء رحمهم الله.(48/1)
أحكام عامة في الوصية
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الوصايا: يسن لمن ترك مالاً كثيراً عرفاً الوصية بخمسه.
وتحرم ممن يرثه غير أحد الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبي، أو لوارث بشيء.
وتصح موقوفة على الإجازة.
وتكره من فقير وارثه محتاج، فإن لم يف الثلث بالوصايا تحاصوا فيه كمسائل العول، وتخرج الواجبات من دين وحج وزكاة من رأس المال مطلقاً.
وتصح لعبده بمشاع كثلث، ويعتق منه بقدره، فإن فضل شيء أخذه، وبحمل ولحمل تحقق وجوده، لا لكنيسة وبيت نار وكتب التوراة والإنجيل ونحوها، وتصح بمجهول ومعدوم، وبما لا يقدر على تسليمه.
وما حدث بعد الوصية يدخل فيها، وتبطل بتلف معين وصى به.
وإن وصى بمثل نصيب وارث معين، فله مثله مضموماً إلى المسألة، وبمثل نصيب أحد ورثته له مثل ما لأقلهم، وبسهم له سدس، وبشيء أو حظ أو جزء يعطيه الوارث ما شاء] .
اختصر المؤلف الوصايا مع كونها كثيرة المسائل، وتوسع الفقهاء فيها، والغالب أن كلامهم فيها إنما هو فرض مسائل.
ذكر الله تعالى الوصية في القرآن، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180] ، وكان هذا قبل أن تنزل الفرائض، فكان أحدهم إذا حضره الموت قال: اقسموا مالي، فأعطوا الوالد كذا، وأعطوا الوالدة كذا، وأعطوا الزوجة كذا، وأعطوا الأخ كذا، وأعطوا الابن أو البنت كذا وكذا فكان هو الذي يقسمه، وكان الله أمر بذلك (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) ، ولما نزلت آيات المواريث نسخت إطلاق هذه الآية، وأصبحت الوصية لا تصح للورثة، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) فالوارث يكفيه نصيبه.
والذين يرثون بكل حال -كما سيأتينا في الفرائض- الأولاد ذكوراً وإناثاً، والأبوان (الأب والأم) ، والزوجة أو الزوج، فهؤلاء لا يصح أن يوصي لهم، وأما غيرهم فيصح أن يوصي له إلا إذا كان يرث، أو أوصى له وهو لا يرث، ولكن أصبح بعد ذلك وارثاً، كما لو أوصى لأخيه من الأب فقال: إذا مت فأعطوا أخي من الأب ألفاً أو عشرين ألفاً، وكان محجوباً بأخيه الشقيق، فمات الشقيق قبل الموصي، فأصبح الأخ من الأب وارثاً، فلا يعطى شيئاً من الوصية، ولا يوصى له؛ لأنه أصبح وارثاً.
وكذلك ما ذكرناه قريباً: فيما إذا أوصى لأخيه، وكان له ابن، فمات الابن قبل الموصي، أصبح الأخ وارثاً، فلا يصح أن يوصى له.
يقول المؤلف: (يسن لمن ترك مالاً كثيراً عرفاً الوصية بخمسه) : قول الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] المراد: ترك مالاً كثيراً فيه فضل على ورثته، وإلا فإن الأصل أن يجمع المال لورثته ليتوسعوا في ماله، هذا هو الأصل.
ومعلوم أن الورثة أحق بمال مورثهم، سيما إذا كانوا فقراء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، عالة: يعني فقراء، فإذا كان ماله قليلاً، وورثته ذوي حاجة وفقراء، فالصدقة تكون فيهم، فلا يستحب له أن يوصي لا بثلث ولا بأقل من الثلث؛ لأن إمساكه للمال لأجل توسعته على ورثته أفضل.
فإذا كان الورثة أغنياء وأثرياء، وسمحوا بزيادة على الثلث، فله أن يتصدق ولو بماله كله، فلو قدر أنه ليس له ورثة، لا أصحاب فروض ولا عصبات، ففي هذه الحال له أن يوصي بماله كله، لأن المال في هذه الحال سيدخل في بيت المال، فله أن يوصي أو يتصدق بماله كله، سواء في الحياة أو بعد الممات.
أما حكم الوصية فيستحبون أن يوصي بالخمس، فقد ذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: رضيت لنفسي ما رضي الله لنفسه، فأوصى بالخمس؛ وذلك اقتداءً بقول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] يعني: أن ظاهر الآية أن الله تعالى أمر بأخذ الخمس من الغنائم، فأوصى بالخمس، فهذا دليل استحباب الوصية بالخمس.
وروي عن ابن عباس أنه قال: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث؛ والثلث كثير) ، فصاروا يستحبون أن يوصي بالربع ولو كان عنده أموال طائلة.
ثم ذكروا أنه لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا بشيء لوارث؛ وذلك لأن الحق للورثة إذا كان له ورثة.
فلا يوصي بأكثر من الثلث؛ لقوله: (الثلث؛ والثلث كثير) إلا بإجازة الورثة، ولا يوصي لوارث بشيء ولو كان قليلاً، ولو كان الوارث محتاجاً، ويستثنى من ذلك إذا لم يكن له وارث إلا الزوجة، فإذا لم يرثه إلا زوجته، فله أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن الزوجة ستأخذ نصيبها كاملاً.(48/2)
تعريف الوصية وسنية كتابتها
الوصايا: جمع وصية، واشتقاقها من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك لأن الموصي وصل ما قبل الموت بما بعد الموت.
وتعريفها: أنها الأمر بالتصرف بعد الموت، يعني أن يوصي غيره بأن يتصرف له بعد الموت بكذا وكذا، فيدخل فيها أن يوصيه بأولاده، فيقول: أنت وكيلي على ذريتي الأطفال تنفق عليهم وتحفظ أموالهم، ويدخل فيه أن يوصيه بتفريق ثلثه أو بتنشئته أو نحو ذلك، ويدخل في ذلك أيضاً أن يوصي إليه بوفاء دينه، أو ما أشبه ذلك.
ويستحب أو يتأكد أن يكتب وصيته، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ، فمن هذا استحبوا بتأكد كتابة الإنسان وصيته في حياته، ولو كان شاباً، ولو كان سليم القوى، وذلك لأنه لا يدري متى يفجؤه الأجل، فإذا كتب وصيته ومات فجأة كان قد أوصى، واحتاط لنفسه.
فيكتب الديون التي له: عند فلان لي كذا، وعند فلان كذا وكذا، ويكتب الديون التي في ذمته: عندي لفلان كذا، وعندي لفلان كذا، ويكتب الأمانات التي عنده، فيقول: عندي لفلان أمانة في موضع كذا وكذا، وقدرها كذا أو نوعها كذا وكذا، أو عندي وصية أبي أو وقف جدي أو أبي الذي فيه كذا وكذا، فيفصل ذلك، حتى لا يبقى في ذمته شيء؛ وذلك لأنه إذا مات ولم يكتب وصاياه وديونه، ثم جاء الغرماء إلى ورثته وقالوا: إننا نطالبه بدين مقداره كذا.
فالورثة قد لا يصدقون، وقد يأتيهم من هو كاذب، فربما يكون أحدهم صادقاً ويتورع عن الحلف، أو لا يجد بينة، فلا يأتيه حقه، فيبقى الميت معلقاً بدينه، ويؤخذ في الآخرة من أعماله.
وكذلك قد تضيع حقوقه وديونه التي على الناس مع حاجة ورثته إليها، فلذلك يتأكد أن يحتاط ويكتب ما كان عنده من أمانات ومن وصايا وأوقاف وديون وغيرها.
وقد كتب كثير من المشايخ نماذج للوصايا صغيرة أو كبيرة، حتى طبعت رسالة في نحو عشرين صفحة مكتوب عليها كعنوان "هذه وصيتي"، ففي مقدمتها فضل الوصية والاحتياط لها، وما يكتبه، وما عنوان الديون التي له، والأملاك التي لي، والديون التي علي، والأملاك التي أنا شريك فيها، وكذلك أيضاً أوصي بكذا وكذا، وعلى وصيي أن يعمل بكذا وكذا.
وبعضهم اختصر نموذجاً وجعله في صفحة أو في صفحتين، وجعل فيه بياضاً يكتب فيه الموصي اسمه واسم الوكيل الذي يوصيه، وبياضاً أيضاً لما يريد أن يثبته في ذمته من الديون أو الحقوق، أو ما يوصي من المال كثلث أو ربع أو خمس، وما يريد أن يجعله في تلك الوصية من مال أو من أعمال بر، فإذا حصلت على هذا النموذج وكتبته في مقدمة وصيتك أو أشغلت فيه الفراغ الذي في وسطه واحتفظت به، فإن ذلك أولى وأحرى وأجدر.
ومعلوم أيضاً أن الموصي في حياته يغير ما يريد، فيزيد في وصيته ويغير فيها، فإذا قال: إذا مت فبيتي يصير وقفاً، ثم بدا له في حياته فباعه جاز له ذلك، أو نقله من بيت إلى بيت، جاز ذلك؛ لأنه في حياته يملك التصرف في وصيته بزيادة أو بنقص أو بتغيير أو نحوه؛ وذلك لأنها لا تثبت إلا بعد الموت.
ثم هناك أيضاً مقدمة للوصية رواها كثير من العلماء، وكانوا يكتبونها في مقدمة وصاياهم، وهي موجودة في مصنف عبد الرزاق وغيره من المصنفات القديمة، وذلك أنهم كانوا يكتبون في مقدمة الوصية: هذا ما أوصى به فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ويوصي من خلفه أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم إن كانوا مؤمنين، وأن يحافظوا على الصلوات، وأن يبتعدوا عن المحرمات إلخ ذلك من نصائح يكتبها لورثته أو لمن بعده، فكانوا يستحبون هذا في مقدمة الوصية.(48/3)
استحباب الوصية بالخمس
الوصية التي ذكرت في القرآن هي الوصية بالمال في قول الله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:180-182] ، فكان هذا قبل أن تنزل المواريث.
ومعنى (كتب عليكم) : فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن يوصي، فيقول: أعطوا أبوي من مالي كذا، أعطوا الوالد كذا، والوالدة كذا، والأخ الفلاني كذا، والأخ الفلاني كذا، والابن كذا، والبنت كذا، هذا معنى قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) يعني: مالاً (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) فالأقربون يدخل فيهم الإخوة ونحوهم.
ولما نزلت آيات المواريث نسخ الإطلاق، فقيدت الوصية بأن تكون لغير الوارث، فجاء في الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) أي: قد بين الله تعالى الحقوق، فلا يصح لأحد أن يوصي للوارث، بل الوارث يكفيه نصيبه من الإرث.
وقد تقدم في الهبة والعطية أنه إذا أعطى في مرض موته فلا تنفذ تلك العطية إلا بعد الموت، ولا تنفذ بعد الموت إلا إذا خرجت من الثلث، وكذلك الوصايا، لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث، ولا يصح أن يوصي للورثة بأي شيء، بل الورثة يكفيهم إرثهم.
ثم ذكر الله تعالى أن الوصية تكون لمن ترك خيراً، وفسروا ذلك بما إذا ترك مالاً كثيراً فإنه يوصي، وتكون وصيته على المستحب بالخمس، قال أبو بكر رضي الله عنه: رضيت لنفسي ما رضي الله لنفسه.
يعني: قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] فأوصى بالخمس.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والثلث كثير) أي: فلا يزاد على الثلث، ويستحب أن ينقص منه إلى الربع، وهذا الحديث هو حديث سعد بن أبي وقاص، يقول: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وأنا مريض، فقلت: يا رسول الله! إني امرؤ ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
قلت: فالشطر؟ قال: لا.
قلت: فالثلث؟ قال: الثلث؛ والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فذكر هنا أن الثلث كثير، وأن سعداً لا يرثه إلا بنت واحدة، أي: وزوجته، وبقية المال يأخذه عصبته كإخوته وبنيهم، ومع ذلك منعه من أن يزيد على الثلث، وقال: الثلث كثير، وعلل بإغنائه لورثته، أي: احرص على أن تغني ورثتك.
ثم إن سعداً شفي من ذلك المرض وتزوج، وولد له أولاد منهم مصعب بن سعد، وعامر بن سعد، وعمر بن سعد وغيرهم، ومع ذلك يظهر أنه التزم بما عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخرج الثلث، يوصي به كصدقة، وذكروا أنه توفي في حدود سنة ست وخمسين.
فالحاصل أن في هذا أن منع الزيادة على الثلث لحق الورثة، فلذلك لا يضار الورثة، ولا يجوز له أن يوزع أمواله في حياته حتى لا يترك لهم شيئاً، حتى ولو كانوا قد أساءوا صحبته، ولو أنهم قد عصوه أو عاملوه معاملة سيئة، فلا يجوز له إخراج أمواله وتفريقها إضراراً بهم.
وأما إذا أراد أن يتصدق في حياته ولو بمال كثير أو يوقف، فإن له ذلك ولو بأكثر من النصف، أي: أن الإنسان في حياته يتصرف بما يريد، فيخرج من ماله ما يريد، وأما بعد الموت فلا يزيد على الثلث، وورد حديث: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) أي: عفا عن ذلك، وأباح لكم عند الوفاة أن تتصدقوا بالثلث ليكون زيادة في أعمالكم، وأما بقية المال فإنه يكون للورثة، أي: إذا أخرج الثلث فالثلثان للورثة.(48/4)
حكم الوصية بأكثر من الثلث لمن يرثه غير أحد الزوجين
ذكروا أنه إذا لم يكن للمرأة وارث إلا الزوج، فيجوز لها أن تخرج أكثر من الثلث؛ لأن الزوج أجنبي، وكذلك الزوج إذا لم يكن له وارث إلا الزوجة جاز أن يزيد على الثلث، فيجوز له أن يوصي بالنصف أو بالثلثين أو ما أشبه ذلك، وما ذاك إلا أن الزوجة أو الزوج يعتبر كأجنبي؛ فلأجل ذلك يعرف بأن الورثة هم العصبة والأقارب ونحوهم.
وقول المصنف رحمه الله: (يسن) أي: يستحب، (لمن ترك مالاً كثيراً عرفاً) أي: باعتبار عرف الناس، وقد تكون العشرة الآلاف في بعض الأزمنة كثيرة، وفي بعضها المائة الألف قليلة، أي: بالنسبة إلى حاجة الفقراء ونحوهم، فالكثرة والقلة بحسب عرف الناس وعادتهم.(48/5)
حرمة الوصية لوارث
بعد أن ذكر المصنف أنه تحرم الوصية ممن يرثه أحد غير الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبي، ذكر أن الوصية لوارث بشيء حرام، وذكرنا الحديث: (لا وصية لوارث) ، فالوصية لا تصح لوارث، بل الوارث يكفيه ميراثه، وأما الأجنبي فلا يصح الوصية إلا بالثلث فأقل، وكذلك إذا أوصى بأعمال البر، فلا يزيد على الثلث.(48/6)
حكم الوصية لوارث أو لغيره بأكثر من الثلث إن أجاز ذلك الورثة
إن أجاز الورثة الزيادة، أو أجازوا الوصية للوارث فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم وقد أسقطوه، فإذا قال: يا أولادي! أخوكم هذا قد خدمني ونفعني، وأنتم مستقلون بأنفسكم، فإني أوصي له بالربع؛ لأنه انقطع في خدمتي، فسمحوا له في الحياة، ثمن انتقضوا بعد الموت، وقالوا: لا نسمح.
فهل يجوز؟ يجوز ذلك؛ لأن ملكه للوصية إنما يكون بعد الموت، وقبل الموت طاعتهم وسماحهم له سماح قبل الملك، فإنهم لا يملكون الميراث ولا التركة إلا بعد الموت، فإذا سمحوا بعد الموت نفذ، وأما قبل الموت فلا يعتبر سماحهم، فلهم أن يرجعوا بعد الموت.
وكذلك لو أوصى بالنصف، وسمحوا قبل الموت، ثم انتقضوا بعد الموت فلهم ذلك، أما إذا سمحوا بالنصف الذي أخرجه بعد الموت فإنه ينفذ.
وتصح الوصية موقوفة على الإجازة، أي: موقوفة على إجازة الورثة، فإذا قالوا بعد الموت: أبونا أوصى لك يا أخانا بمائة ألف، أو أوصى لك بالربع، ونحن قد سمحنا قبل الموت، والآن أيضاً نسمح بعد الموت، فأجازوا ما أوصى به أبوهم لأخيهم، فإنه يجوز ذلك.
كذلك أيضاً إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبي، قال: أعطوا أخي -وهو غير وارث- أو عمي نصف المال، أو أعطوا أعمامي وأخوالي خمسي التركة، فسمحوا في حياته، ثم بعد الموت سمحوا وأجازوا ذلك، صحت الوصية، فالإجازة لا تكون إلا بعد الموت.(48/7)
حكم الوصية لمن وارثه محتاج
قال المصنف رحمه الله: (وتكره وصية فقير وارثه محتاج) .
أي: إذا كان ماله قليلاً، وورثته فقراء، فإن البر فيهم، والأجر فيهم، فله أن يترك ماله القليل لورثته ليتعففوا، وليكفوا وجوههم عن الحاجة للناس، لقوله في الحديث: (خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أي: يسألونهم، والسائل عادة يمد كفه، يقول: يا فلان! أعطني، يا فلان! تصدق علي، فيسمى هذا التسول تكففاً، بمعنى أنه يمد كفه، هذا معنى (يتكففون الناس) .
فلذلك إذا كان المال قليلاً والورثة محتاجين، فالصدقة فيهم، بل هي صدقة وصلة وبر وإغناء لأولاده عن أن يحتاجوا، فهذا معنى قوله: (وارثه محتاج) أي: تكره وصيته إذا كان فقيراً وورثته محتاجين.
أما إذا لم يكن له وارث إلا بيت المال فله أن يوصي بماله كله؛ لأنه والحال هذه ليس هناك وارث يحتاجه، فبعض الناس منقطع ليس له أقارب يمسك الحق والمال لأجلهم، فله أن يتصدق بماله كله في الحياة، وله أن يوصي به كله لأعمال البر.(48/8)
المحاصة في الوصية
قال المصنف رحمه الله: (فإن لم يفِ الثلث للوصايا تحاصوا فيه كمسائل العول) .
تقدم قريباً الفرق بين العطية والوصية، حيث ذكر أن العطية يبدأ فيها بالأول فالأول، وأما الوصية فيتحاصون فيها، أي: تقسم بينهم على قدر أنصبائهم إذا لم يفِ الثلث.
مثال ذلك كما سبق: قلنا: إذا كان مريضاً فقال في مرضه: أعطوا زيداً ألفاً.
ثم قال بعد يومين: أعطوا خالداً ألفين.
ثم قال بعد يوم: أعطوا سعيداً ألفين.
فكان مجموع العطايا خمسة آلاف، ثم لم نعطهم شيئاً لأنه مريض، وبعدما مات وجدنا أن ثلث التركة أربعة آلاف، ففي هذه الحالة نقول: لك يا زيد ألف لأنك أولهم، فخذ وصيتك كاملة، ولك يا خالد ألفين، وصيتك كاملة لأنك بعد زيد، ولك يا سعيد ألف، لأنه ما بقي من الثلث إلا ألف، فهو أمر لك بألفين لكن لم يبق إلا ألف، فتأخذ الألف الذي بقي.
هذا معنى أنه يبدأ بالأول فالأول في العطية.
وأما الوصية فإنهم يتحاصون، ففي هذه الحال إذا كان لزيد ألف، ولخالد ألفان، ولسعد ألفان، ووجدنا أن ثلث التركة أربعة آلاف، أي: نقص الخمس عن الوصايا؛ لأن مجموع الوصايا خمسة آلاف، والثلث إنما هو أربعة آلاف، فنقص الخمس، ففي هذه الحالة يتحاصون، فيسقط الخمس على كل واحد منهم، فالذي له ألف يسقط خُمُسه، فيبقى له ثمانمائة، والذي له ألفان يسقط الخمس، فيبقى ألف وستمائة، وبذلك تنقسم عليهم الأربعة الآلاف التي هي الثلث، هذا معنى قوله: يتحاصون فيه كمسائل العول.
وسيأتي العول في الفرائض، وأنه ينقص على الورثة بقدر سهامهم، وذلك عندما تزيد السهام وتنقص الحظوظ، مثاله: إذا ماتت امرأة ولها أم وأخت وزوج، فإن الزوج له النصف، والأخت لها النصف، والأم لها الثلث، فمن أين نعطي الأم؟ يدخل النقص عليهم، فكل واحد منهم ينقص نصيبه، فنقسم المال إلى ثمانية أسهم، فلك يا زوج ثلاثة أثمان، ولك يا أم ربع، ولكِ يا أخت ثلاثة أثمان، فدخل النقص عليهم جميعاً، هكذا مسائل العول.(48/9)
الواجبات المقدمة على الوصية في التركة
قال المصنف رحمه الله: (وتخرج الواجبات من دين وحج وزكاة من رأس المال مطلقاً) .
وذلك لأن هذه حقوق متعلقة بذمة المالك، فتعتبر مقدمة في التركة، فإذا كان عليه ديون فإنها تقدم على الوصايا، ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إنكم تقرءون الوصية قبل الدين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالدين قبل الوصية) ، يريد قول الله في آيات المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] ، {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] ، {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] ، {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] ، فقدم الوصية، فإذا مات شخص، فهل نقدم الوصية أو نقدم الدين؟ يقدم الدين، وما ذاك إلا لأن الدين حق آدمي قد استغله المالك، وقد استهلكه في حياته، فهو متعلق بذمته، وذمته مشغولة به، وفي الحديث (نفس الميت معلقة بدينه حتى يقضى عنه) ، فلذلك لابد أن يقدم الدين.
ذكروا أن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، فلذلك نعرف أنها تؤدى قبل حقوق الله تعالى كالزكاة والحج؛ لأنها مبنية على المسامحة والمساهلة، ولذلك لا تجب الزكاة على الفقير، ولا يجب الحج على العاجز، ولكن إذا كان في المال فضل ومات ولم يحج لزم أن يخرج من ماله نفقة حج وعمرة من بلده، فلابد من ذلك، ويكون مقدماً على الوصايا، ويكون من رأس المال.
وكذلك أيضاً الزكوات، إذا مات وقد حلت الزكاة في ماله من نقود أو ماشية أو ثمار أو حبوب، فإنها تخرج من رأس المال؛ لأنها تعتبر ديناً، فالزكاة دين في ذمة الميت، فيخرج كما يخرج الدين الذي لآدمي، بمعنى أن هذه كلها تقدم على الوصية، وتخرج من رأس المال، ثم بعد ذلك تخرج الوصايا، أي: يبدأ بدين الآدمي، ثم بدين الله تعالى الزكاة والحج، ثم بالوصايا، والباقي يقسم على الورثة.(48/10)
الوصية للعبد
ذكر المصنف رحمه الله أن الوصية تصح لعبده بمشاع كثلثه.
العبد لا يملك لأنه مملوك، ولكن إذا أوصى له بمشاع كثلث التركة عتق منه بقدر الثلث، أو عتق كله، أو عتق وأخذ الباقي؛ فلذلك صحت بمشاع، ولا تصح بمعين؛ لأن العبد لا يملك.
فلو قال: إن مت فأعطوا عبدي هذه الأرض أو هذا البستان أو هذا المنزل.
فنقول: العبد مملوك فكيف يملك؟ وكذلك لو قال: أعطوه من تركتي ألفاً أو عشرين ألفاً.
فلا يملك؛ لأنه هو وما بيده لسيده، فلذلك لا تصح الوصية للعبد إلا بمشاع.
والمشاع هو أن يقول: بثلث أو ربع أو خمس، إذا قال: أعطوا عبدي ربع التركة، صح ذلك، ثم يكون حينئذ كأنه أوصى بعتق ذلك العبد، فيعتقون منه بقدر الثلث، والباقي يكون رقيقاً؛ فإن عتق كله وبقي شيء من الثلث أخذه.
مثال ذلك: إذا كانت قيمة العبد خمسة آلاف، وقال: أوصيت لعبدي بثلث التركة.
فنظرنا وإذا المال الذي تركه عشرة آلاف، وقيمة العبد خمسة آلاف، مجموعها خمسة عشر ألفاً، وثلثها قيمة العبد، فيكون هو الثلث، فيعتق كله، فكأنه قال: أوصيت بثلثي في عتق عبدي، فيعتق العبد.
فلو كانت التركة ثلاثين ألفاً، قيمة العبد منها خمسة آلاف، أي: عنده خمسة وعشرون ألفاً، وعنده عبد يساوي خمسة آلاف، وقال: أعطوا عبدي الثلث.
فيعتق العبد وقيمته خمسة آلاف، وهل يستحق شيئاً؟ نعم، يستحق بقية الثلث؛ لأن ثلث المال عشرة آلاف، من جملتها قيمة العبد، فنقول في هذه الحال: قيمتك خمسة آلاف، وبقي من الثلث خمسة آلاف خذها.
فيكون قد أوصى بعتقه، وبجزء من ماله، والبقية يتقاسمها الورثة.
وكذلك إذا لم يعتق كله، لو قدرنا أن التركة عشرة آلاف، وقيمة العبد خمسة آلاف، وقد أوصى له بالثلث، فنظرنا وإذا ثلث التركة ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون، وقيمة العبد خمسة آلاف، ففي هذه الحال يعتقون منه بقدره، والباقي يبقى رقيقاً، أي: إذا نسبناه وجدنا أن ثلاثة آلاف وثلاثمائة تعتبر ثلث التركة، وتعتبر ثلثي العبد، فيعتقون من العبد ثلثيه، ويبقى ثلثه رقيقاً.
فالحاصل أنه إذا أوصى لعبده بمشاع كثلثه عتق منه بقدره كالثلثين في مثالنا، فإن فضل شيء أخذه، كما في المثال الأول الذي قلنا: إن التركة فيه ثلاثون ألفاً والعبد منها، فعتق كله، وأخذ بقية الثلث خمسة آلاف.(48/11)
الوصية بالحمل
تصح الوصية بالحمل إذا تحقق وجوده، فإذا قال: إذا مت فحمل هذه الشاة أو هذه الناقة أو البقرة أو الفرس لزيد.
وزيد ليس من الورثة، فتصح الوصية إذا تحقق وجوده.
وكذلك تصح أيضاً للحمل، فإذا قال -مثلاً-: أوصيت لحمل فلانة -امرأة حامل كأخته أو عمته -فقال: إذا مت فأعطوا الحمل الذي في بطنها شاة من غنمي أو ناقة، فالوصية هاهنا للحمل، فإذا كان موجوداً حال الوصية وانفصل حياً، فإنها تصح الوصية له.(48/12)
ما لا تصح الوصية به
ما الذي لا تصح الوصية به؟ لا تصح الوصية بالمعصية، فلا يقول: ثلثي تعمر به الكنائس؛ لأنها معابد النصارى، وكذلك إذا قال: يعمر من ثلثي بيت النار؛ لأنه معبد المجوس، فقد كانوا يعبدون النار.
وكذلك لو قال: ثلثي يطبع به الإنجيل، أو تطبع به التوراة وتفرق؛ فلا تصح هذه الوصية؛ لأنها إعانة على معصية، ولأن هذه الكتب محرفة؛ ولأن ما فيها منسوخ بالقرآن، فلا يجوز أن يوصي بطبعها وتوزيعها.(48/13)
الوصية بالمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه
قال المصنف رحمه الله: (وتصح بمجهول وبمعدوم وبما لا يقدر على تسليمه) ، وذلك لأنها تبرع.
قوله: (تصح بمجهول) مثل الحمل فإنه مجهول، فإذا قال: حمل هذه الشاة أوصيت به لزيد.
فإنه لا يدرى أذكر هو أم أنثى، واحد أم عدد، حي أم ميت، فإذا ولد فهو له سواء كان ذكراً أو أنثى، عدداً أو واحداً.
وكذلك المعدوم، فإذا قال: ما تحمله هذه النخلة فأعطوه زيداً بعد موتي.
والنخلة ما حملت في ذلك الوقت، فحملها معدوم، فيصح الوصية بالمعدوم؛ وذلك لأنه إن حصل شيء أخذه الموصى له، وإذا لم يحصل شيء فإنه لا يضره شيء.
وكذلك تصح بما لا يقدر على تسليمه؛ لأنه إن قدر فهو له، وإن لم يقدر فلا يضره ولا يخسر شيئاً، وتقدم مثال ذلك في البيع: كالعبد الآبق، والجمل الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، والمغصوب في يد غاصبه، فإذا قال: عبدي الذي هرب قد أوصيت به لزيد، أو جملي الذي شرد هو بعد موتي لزيد، أو قال: أرضي التي غصبها فلان هي لزيد بعد موتي.
فإن قدر وخلصها فهي له، وإن غُلب عليها فلا يضره.
كذلك أيضاً الطير في الهواء، تقدم أنه لا يجوز بيعه ولو كان يألف الرجوع كالصقر وغيره، فبيعه لا يجوز، ولكن الوصية به تجوز؛ لأنه إن قدر عليه وجاءه ونزل عليه فهو له، وإلا فلا يخسر شيئاً.(48/14)
حكم ما حدث بعد الوصية
قال المصنف رحمه الله: (وما حدث بعد الوصية يدخل فيها) أي: ما حدث بعدها يدخل فيها، فإذا قال: هذه الشاة بعد موتي أعطوها زيداً وصية، ثم ولدت الشاة في حياته ومات، فهي له، أو كانت حائلاً وحملت ومات وهي حامل، فحملها له.
أو أوصى بالشجرة وليس فيها ثمر، وحملت الثمرة، ومات وفيها ثمر -النخلة أو نحوها- فما حدث بعد الوصية يدخل فيها، وولد الدابة يلحقها.(48/15)
بطلان الوصية بتلف معين أوصى به
قال المصنف رحمه الله: (وتبطل بتلف معين وصى به) ؛ وذلك لأنه إذا وصى بشيء وتلف فلا حيلة في أن يرد، فإذا قال: هذه الشاة أو هذه الفرس إذا مت فأعطوها زيداً.
فماتت الشاة أو الفرس قبل أن يموت بطلت الوصية، وليس له شيء، فلو أوصى لك بشاة وماتت، أو باعها، أو تصرف فيها بطلت الوصية.(48/16)
الوصية بالأنصباء والأجزاء
هناك تعبير للفقهاء، وهو: الوصية بالأنصباء والأجزاء.
يقولون: باب الوصية بالأنصباء والأجزاء كما في زاد المستقنع، وذكر المصنف ذلك هاهنا إجمالاً، قال رحمه الله: (إذا وصى بمثل نصيب وارث معين، فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة) أي: إذا قال: إذا مت فأعطوا أخي مثل نصيب بنتي، وكان له ولدان وبنت، فالولدان لهما أربعة أسهم، والبنت لها سهم، فماذا نعطي أخاه؟ نعطيه سهماً آخر مثل نصيب البنت، فنقسم المال ستة أسهم، فيكون للابن سهمان، وللابن الآخر سهمان، وللبنت سهم، وللأخ سهم -أي: من ستة- هذا معنى أنه وصى له بمثل نصيب أحدهما، أي أنه قال: بمثل نصيب بنتي.
فإن قال: أعطوه مثل نصيب زوجتي، وكان له ابن وزوجة، فإن نصيب الزوجة الثمن، فمخرجه من ثمانية، في هذه الحال نجعل المال تسعة، فللزوجة سهم، وللأخ سهم، وللابن سبعة أسهم، فأعطيناه مثل نصيب الزوجة، فأصبحت المسألة من تسعة، فهذا معنى قوله: (مضموماً إلى المسألة) .
وإذا كان له ابنان وله أخ، فقال: أعطوا أخي مثل نصيب أحد أولادي، فللولدان سهمان وللأخ سهم، فيأخذ الأخ ثلثاً، ويأخذ كل واحد من الولدين الثلث.
أما إذا قال: أعطوا أخي -مثلاً- نصيب ولدي، وليس له إلا ولد وبنت، فمعنى ذلك أنه يأخذ أكثر من الثلث، فيأخذ الخُمُسين، وذلك لأن الولد يأخذ سهمين، والبنت تأخذ سهماً، والأخ يأخذ سهمين، فأصبح للأخ سهمان من خمسة، وهي أكثر من الثلث، فلا تصح إلا بإجازة الورثة هذا معنى قوله: (إذا وصى بمثل نصيب وارث معين) أي: كابنه أو بنته أو زوجته أو أمه، (فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة) أي: ننظر مخرج المسألة، ونجعل السهم الذي أوصى به زائداً عليها مضموماً إليها، سواء كان واحداً أو أكثر.
لو كان له جدة، وله أم، وله أخ، فالأم تأخذ الثلث، والأخ يأخذ الباقي وهو قدر الثلثان، وقد أوصى بمثل نصيب الأم لجدته، فقال: أعطوا جدتي مثل أمي، ففي هذه الحال نقسم المال أرباعاً، فنقول: الجدة لها سهم، والأم سهم، والأخ سهمان، فصار للأم الربع؛ لأن المسألة كانت من ثلاثة: الأخ له اثنان، والأم لها واحد؛ لأن الأخ الواحد لا يحجبها، فلما كانت ثلاثة أضفنا إليها رابعاً حيث جعلنا للجدة مثل الأم، فتكون من أربعة.
أما إذا لم يعين، بل قال: أعطوا أخي مثل نصيب أحد الورثة، ولم يقل: أمي ولا زوجتي ولا بنتي، ففي هذه الحال يعطى مثل ما لأقلهم، أي: ينظر أقلهم فيعطى مثله.
فإذا كان له زوجتان وابن، وأوصى لأخيه بمثل نصيب أحد ورثته، فإننا ننظر إلى أن الزوجتين كل واحدة لها نصف الثمن، وأن الابن له سبعة أثمان، فأخوه الذي أوصى له نعطيه نصف الثمن، وذلك مثل ما لأقلهم، فنفرض أن المسألة من ستة عشر، كل زوجة لها سهم من ستة عشر، والابن له أربعة عشر، نزيد فيها سهماً فنجعلها من سبعة عشر، فلأخيه سهم من سبعة عشر، وزوجتاه لكل واحدة سهم، ولابنه أربعة عشر سهماً؛ لأنه قال: مثل أحد ورثتي.
والزوجة من ورثته، فنحتاط للورثة، ونعطي الموصى له مثل ما لأقلهم.
وكذلك لو كان له -مثلاً- خمسة أبناء وخمس بنات، وقال: أعطوا أخي مثل ما لأحد ورثتي، فالخمسة الأبناء لهم عشرة أسهم، والخمس البنات لهن خمسة، الجميع خمسة عشر سهماً، يصير نصيب كل بنت واحداً من خمسة عشر، فنعطي أخاه سهماً واحداً مثل سهم بنت، فنجعل المسألة من ستة عشر، ونقول: للأخ واحد من ستة عشر، ولكل واحد من الأولاد الذكور من الستة عشر سهمان، ولكل بنت سهم، هذا معنى قوله: (مثل ما لأقلهم) .(48/17)
الوصية بسهم من المال
إذا أوصى بسهم من ماله فيعطى السدس؛ لأن أقل ما تطلق عليه كلمة (السهم) عند الإطلاق السدس، فإذا قال: أعطوا أخي سهماً من التركة، وكان له عشرة أولاد، فيكون لأخيه السدس، والعشرة الأولاد خمسة أسداس، كل واحد له نصف السدس؛ وذلك لأنه نص على سهم، إلا إذا كان هناك قرينة، وأنه يريد بالسهم واحداً من سهام المسألة، ففي هذه الحال سهام المسألة عشرة، فيضم إليها واحد، فيعطى سهماً من أحد عشر سهماً.(48/18)
الوصية بشيء من المال أو حظ أو جزء
إذا أوصى وقال: أعطوه من مالي شيئاً.
ولم يحدد، فللوارث أن يعطيه ما شاء، ولو أن يعطيه عشرة أو مائة أو شاة أو نحو ذلك.
وكذلك لو قال: أخي له حظ من مالي بعد موتي.
فكلمة (حظ) لا تدل على شيء معين، فيعطيه الوارث ما شاء.
وكذلك إذا قال: أعطوه جزءاً من مالي.
فكلمة (جزء) تصدق على ربع العشر، وعلى جزء من مائة جزء، فيعطيه الوارث ما شاء.
فنعرف بذلك أن الموصى له هو الذي يعطى من الوصية، ولابد أن يكون عاقلاً يملك، وقد تقدم أنه لا يجوز الوقف على من لا يملك، فكذلك الوصية، فلا يجوز أن يوصى لملك من الملائكة، ولا أن يوصى لجني، ولا أن يوصى لقبر؛ وذلك لأنه لا يملك، وإذا وجدت هذه الوصية فهي باطلة، والمال كله للورثة.
وإذا كانت وصية على معصية صرفت إلى طاعة، كالوصية على شيء فيه شرك، كأن يوصي بعمارة المشاهد التي تعبد من دون الله، ففي هذه الحال يصرف للمساجد وما أشبهها.(48/19)
شرح أخصر المختصرات [49]
من أراد الوصية فعليه أن يوصي إلى من يرتضيه الشرع وصياً، بحيث يكون مؤهلاً للقيام بالمسئولية المناطة به، وقد ذكر الفقهاء صفاته وشروطه، والأعمال التي يقوم بها، وضوابط ذلك.(49/1)
شروط الموصى إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الإيصاء إلى كل مسلم مكلف رشيد عدل، ولو ظاهرًا، ومن كافر إلى مسلم، وعدل في دينه.
ولا يصح إلا في معلوم يملك الموصي فعله.
ومن مات بمحل لا حاكم فيه ولا وصي، فلمسلم حوز تركته، وفعل الأصلح فيها من بيع وغيره، وتجهيزه منها، ومع عدمها منه، ويرجع عليها أو على من تلزمه نفقته إن نواه، أو استأذن حاكمًا] .
هذا الفصل يتعلق بالموصى إليه، والفقهاء يذكرون باب الموصي، وباب الموصى به، وباب الموصى له، وباب الموصى إليه.
والمراد بالموصى إليه الوكيل الذي يتولى تنفيذ الوصية، فمن شروط الموصى إليه: أن يكون مسلماً مكلفاً رشيداً عدلاً ولو ظاهراً، فلا يصح أن يوكل كافراً إلا عند الضرورة، دليل ذلك قول الله تعالى في آية الوصية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] إلخ الآية.
وسبب نزولها: أن رجلاً من قريش كان مسافراً ومعه مال، وفيه جام ثمين، فحضره الموت وليس عنده إلا اثنان من النصارى، فأوصى بماله، فتوليا وصيته، ثم إنهما جحدا من تركته جاماً له قيمة، فجاءوا بتركته إلى قبيلته من بني سهم، فقالوا: أين الجام؟ فقالوا: لا نعرفه، ثم عثر على الجام بعد ذلك وقد بيع، وأخبر المشتري بمن باعاه، وهما الوصيان، فأنزل الله هذه الآية، وهي تدل على أنه إذا لم يكن عنده من يوصي إليه، فله أن يوصي إلى كافر، وإذا خيف أن هذا الكافر لا يؤدي الأمانة فإنه يستحلف، كما قال ((فيقسمان بالله)) أي: يحلفان بعد الصلاة، كما في هذه الآية: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ} [المائدة:106] .
فإذا خيف أنهما كتما، حلف اثنان من أولياء الميت: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة:107-108] ، فهذا في حالة الضرورة.
واشترطوا في الوكيل أن يكون مكلفاً، فلا يوكل على تركته أو على وصيته صغيراً غير مميز، ولا يوكل مجنوناً فاقد العقل.
واشترطوا أيضاً أن يكون رشيداً، والرشد هو الصلاح في المال، فالرشيد هو الذي يكون مصلحاً للمال، وحافظاً له، ومواظباً عليه، ومأموناً عليه، أما إذا كان مفسداً للأموال سفيهاً مسرفاً، فلا يصح أن يوكل.
ومن شروطه أن يكون عدلاً، والعدالة تكون في الدين وتكون في الدنيا، فلا يصح أن يوصي إلى فاسق، والفاسق هو من يفعل المنكرات والفواحش، ويفعل الآثام، وما أشبهها، ففي هذه الحال لا تصح الوصية إليه.
فالإسلام، والعقل، والبلوغ، والرشد، والعدالة، هذه شروط الموصى إليه، وهو الوكيل.
ويشترط أن يكون عدلاً ولو ظاهراً، أي: يكون عدلاً في الظاهر، فيقولون: لا نعلم عنه إلا خيراً، وباطنه أمره إلى الله.(49/2)
إيصاء الكافر إلى مسلم أو عدل في دينه
قال المصنف رحمه الله: (وتصح من كافر إلى مسلم) أي: يصح أن الكافر يوكل ويوصي إلى مسلم.
قال: (وعدل في دينه) ، أي: يصح أن الكافر يوصي أو يوكل عدلاً في دينه، أما المسلم فلا يوصي إلى كافر إلا عند الضرورة كما ذكرنا.(49/3)
شروط الموصى به
شروط الموصى به أن يكون معلوماً، والموصى به هو المال، أو الأفعال التي يوصى بها، وذلك كأن يقول: أوصيت بوقف هذا البيت، أو أوصيت بالأضحية بهذه الشاة، أوصيت بالصدقة بهذا الألف، أوصيت بالصدقة بهذه الأكياس، وما أشبهها، فهذا هو الموصى به.
ويشترط أن يملكه الموصي، فلا يقول: إذا مت فأعتقوا عني عبد فلان، أو أوقفوا لي بيتاً؛ لأن هذا لا يملكه، ولا يقول: ضحوا عني بشاة فلان؛ لأنه لا يملكها، فلا يوصي إلا بشيء من ملكه، وكذلك أيضاً الأفعال.
ومعلوم أن الإنسان إنما يملك ما ولي، فلا يصح أن يقول: أوصيت زيداً على أولاد أخي، فأبوهم أولى بهم، أو يقول: على أن يقسّم تركة أخي، فيقال: أخوك هو الذي يوصي.
فلابد أن يكون ذلك الفعل الذي أوصى به يملك ذلك الموصي فعله.(49/4)
من مات بمحل ليس فيه حاكم ولا وصي
ذكر المصنف رحمه الله أن من مات بمحل ليس فيه حاكم، ولا وصي، فعلى من حضره من المسلمين أن يتولوا تركته ويحوزها المسلم العدل، ويفعل ما فيه الصلاح من بيع أو غيره، كإنسان غريب في بلد، وقدر أنه ليس في تلك البلد قاض، فأتاه الموت وهو في تلك البلدة بعيداً عن أهله، فلا تترك تركته تضيع وينتهبها الناهبون، بل يتبرع أحد المسلمين الأكفاء فيتولى تركته، فيجمع أمواله وتركته، وديونه وحقوقه، وإذا جمعها حفظها، فإن كان وصى بصدقة نفذها، وإذا احتاج شيء إلى أن يباع باعه إذا كان ذلك أصلح، فإذا كان فيها بهائم تحتاج إلى علف، ولا يمكن أن يشتري لها، ويخاف أن تموت جوعاً فإنه يبيعها، وإذا كان فيها شيء يفسد كأطعمة أو تمور أو فواكه فإنها يبيعها ولا يتركها تفسد، وإذا كان فيها شيء يخاف عليه التلف فإنه يبيعه كثياب يخشى عليها الحرق ونحوه، ويحفظ ثمنها، ثم يرسل بها إلى بلده التي فيها أهله.
وإذا احتاج الميت إلى التجهيز يجهزه من تركته، أي: أجرة تغسيله، وقيمة الحنوط، وثمن الكفن، وأجرة الحفار ونحوها، فيجهزه ذلك المسلم الذي تولاه من تركته محتسباً للأجر.
فإن عدمت التركة فلم يكن له مال، ولم يكن عنده شيء، ففي هذه الحال يجهزه من نفسه، إما تبرعاً وصدقة وإما قرضاً، فيحتسب ما جهزه به، ثم يرجع به على ورثته أو على أهله، فيخبرهم بأنه مات، وخسرت على تجهيزه مائة أو مائتين، فله أن يطالبهم بما جهزه به.
هذا إذا لم يوجد متبرع، فيرجع بها على تركته أو على من تلزمه نفقته إن نواه.
وقوله رحمه الله: (أو استأذن حاكماً) أي: إذا كانت نيته أن يرجع على ورثته أو تركته أو أذن له الحاكم وقال: أنت يا فلان موكل على أن تجهزه، فرخص له الحاكم فجهزه، ففي هذه الحال يرجع على من تلزمه مؤنته.(49/5)
شرح أخصر المختصرات [50]
من أهم العلوم التي ينبغي العلم بها: علم الفرائض، وهو علم قسمة التركة بين الورثة، ولا يتم ذلك إلا لمن أتقن هذا العلم، فعرف أسباب الميراث وموانعه وشروطه، والحقوق المتعلقة بالتركة وغير ذلك.(50/1)
مقدمة تمهيدية عن علم الفرائض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الفرائض: أسباب الإرث: رحم، ونكاح، وولاء.
وموانعه: قتل، ورق، واختلاف دين.
وأركانه: وارث، ومورث، ومال موروث.
وشروطه: تحقق موت مورث، وتحقق وجود وارث، والعلم بالجهة المقتضية للإرث.
والورثة: ذو فرض، وعصبة، وذو رحم] .
نبدأ في كتاب الفرائض وهو علم مستقل كان الأولون يهتمون به، ويولونه عناية، وقد أكثروا فيه من التأليف قديماً وحديثاً، ومن أشهر ما ألف فيه منظومة الرحبي المشهورة بالرحبية، ذكر في مقدمتها أهمية هذا العلم بقوله: وأن هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلماء بأنه أول علم يفقد في الأرض حتى لا يكاد يوجد ولكن الناظم نظمها على مذهب زيد قال: عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض فاقتصر على مذهب زيد، ومدح ذلك بقوله: وأن زيداً خص لا محاله بما حباه خاتم الرساله من قوله في فضله منبها أفرضكم زيد وناهيك بها ثم ذكر أنه أيضاً مذهب الشافعي بقوله: فكان أولى باتباع التابعي لا سيما وقد نحاه الشافعي فالحاصل أنه اقتصر على مذهب زيد.
ثم إن العلماء رحمهم الله تعرضوا للفرائض في كتب الفقه كما في هذا الكتاب، واختصروا أو توسعوا بحسب تلك الكتب التي ألفت، وأفردت هذه الفرائض في مؤلفات مفردة، ومن أسهلها رسالة شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله وتسمى: الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، ألفها من نحو ستين عاماً، عندما كان قاضياً مدرساً، فألفها وطبعت، وهي سهلة التناول، ثم جاء بعده من ألف وزادوا في تآليفهم بالجداول التي يرسمونها ويذكرون فيها أصل المسألة وعولها، وسهام كل وارث، وكذلك يذكرون فيها مصح المسألة أو تصحيحها، وهذه الجداول تسهلها.
توجد نسخة الشيخ ابن باز لعلنا نحصل على نسخ منها، نأتي بها إن شاء الله يوم السبت، الذي ليست عنده يأخذها، يفرقها الشيخ فهد، والذي هي عنده يرجع إليها، والذي عنده أيضاً نسخ أخرى تغني عنها كعدة الباحث لأحكام الموارث للشيخ عبد العزيز بن رشيد، وكذلك رسالة الشيخ صالح بن فوزان في الفرائض، وأيضاً كتاب: الفوائد الملية في المباحث الفرضية كتاب كبير للشيخ ابن سلمان.
وأيضاً شروح هذه القصيدة التي هي الرحبية فمنها شرح للشنشوري، وشرح لـ سبط المارديني، وفي كل حال فإنها تحتاج إلى عناية، وتحتاج إلى تفهم، وإلى توسعة، وقد لا تتضح من شرحنا، وذلك لأن الكتاب مختصر، فيرجع إلى المؤلفات الأخرى من خفي عليه شيء.
معلوم أن فيها اصطلاحات، وتلك الاصطلاحات لا تعرف إلا بعد التكرر وبعد التأكد وبعد التنفيذ، فلذلك ينبغي أن يتفطن طالب العلم للاصطلاحات الفرضية، ويطبقها، ويعلم معناها حتى يفهم المراد.
تعرف الفرائض: بأنها العلم بقسمة المواريث، أو العلم بقسمة التركات، والفرائض جمع فريضة، واشتقاقها من الفرض، وهو يدور على معان أصلها الحز والقطع، يقال: فرضت في الخشبة، أو فرض الحبل في الخشبة فرضاً، أي: حز فيها، وفرضه بالسكين، فأصل الفرض الحز والقطع.
وسميت فرائض؛ لأنها محددة، وهي في اللغة جمع فريضة، بمعنى مفروضة، ولعلهم أخذوا تسميتها من القرآن الكريم في قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:11] ، فسماها فريضة، فجمعوها فرائض، وسموها بهذا الاسم.(50/2)
أسباب الميراث(50/3)
تعريف السبب لغة واصطلاحاً
وقد ذكروا أولاً: أسباب الإرث، ويوسعون الكلام فيها كما في رسالة الشيخ ابن باز، يقولون: السبب في اللغة ما يتوصل به إلى الشيء، ومنه سمي الحبل سبباً، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] ومنها أيضاً قوله تعالى: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:10] وقول فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} [غافر:36-37] يعني: الوسائل التي يصعد بها.
وأما السبب في الاصطلاح فهو: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، هذا تعريفهم، مثاله: إذا قلنا: أسباب الإرث نكاح وولاء ونسب، أو رحم ونكاح وولاء، فإذا عدمت هذه الأسباب عدم الإرث، فهذا معنى أنه يلزم من عدمه العدم، أي: إذا عدمت الأسباب عدم المسبب، ولكن لو اجتمعت الأسباب فهل يلزم أن يكون هناك إرث؟ لا يلزم من وجودها وجود الإرث، فقد توجد الأسباب أو بعضها ويتخلف الإرث لمانع من الموانع أو لعدم التركة، فعرفنا بذلك أنه يلزم من عدم السبب عدم الإرث، ولكن لا يلزم من وجوده وجود الإرث، فإذا وجد السبب لم يلزم أن يوجد المسبب، فقد توجد الأسباب ولا يوجد إرث.(50/4)
الرحم
وقد ذكر أن الأسباب ثلاثة: رحم ونكاح وولاء، والناظم عبر بقوله: أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب فجعل بدل الرحم النسب، والرحم القرابة، ودليله قول الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] ، ولكن اصطلح الفقهاء على تقسيم القرابة إلى قسمين: عصبة وذوو رحم، فالعصبة الذين يرثون بالتعصيب، وذوو الرحم الذين لا يرثون إلا مع ذوي الأرحام.
فالعصبة: هم الأقارب الذكور من جهة الأب، كالابن وابن الابن والأب وأبي الأب ونحوهم، وكذلك الإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم.
وأما الرحم: فهم الأخوال والخالات والعمات وبنات العم ونحوهم.(50/5)
النكاح
ثم النكاح سبب من أسباب الإرث، قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] ، ومتى يحصل بالنكاح إرث؟ يحصل بمجرد العقد، فإذا حصل عقد النكاح حصل التوارث، والمقصود عقد الزوجية الصحيح الخالي من الموانع الشرعية.
فإذا مات أحدهما بعد العقد ولو قبل الدخول، وقبل الخلوة ورثه الآخر، وذلك لأنه يصدق عليه أنه زوج بعد العقد، فإذا مات ورثت منه، وإذا ماتت ورث منها.
ثم ذكروا أيضاً في الكتب التي يتوسعون فيها ميراث المطلقة، وأنه إذا طلقها في مرض موته ورثت؛ لأنه يتهم بقصد حرمانها، وإذا طلقها ومات وهي في العدة، فإنها أيضاً ترث إذا كان الطلاق رجعياً، وأما إذا كان الطلاق بائناً فلا توارث.(50/6)
الولاء
أما الولاء: فالمراد به ولاء العتاقة، والمولى هو العتيق، ويعرفونه بأنه عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالتعق، فيرثه هو وعصبته المتعصبون بأنفسهم لا بغيرهم ولا مع غيرهم، ولعل هذا التعريف يتضح فيما بعد.
فالمولى هو العبد المملوك أعتقه سيده وأصبح مولى له، كأنه يتولاه وينصره، وينتسب إلى سيده الذي أعتقه ومنّ عليه بالعتق، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] يعني: زيد بن حارثة أنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق.
وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] ، سماهم الله تعالى موالي لأنهم يتولون.
فإذا مات العتيق وله مال وليس له أولاد، ورثه سيده؛ لأنه أنعم عليه بالعتق، فإذا كان السيد قد مات قام أولاده مقامه، وإذا مات العبد وله أولاد، ثم مات أولاده بعده ولم يكن لهم أولاد، ورثهم أولاد سيدهم، أو إخوة سيد الذي أعتق أباهم، فيحصل التوارث بين هذا العتيق وبين معتقه.
واختلف العلماء: هل العبد يرث سيده، إذا قدر أن السيد مات وليس له أولاد ولا عصبة؟ صحح بعض العلماء أنه إذا لم يكن له وارث أن عبده الذي أعتقه يرثه؛ لأن بينهما قرابة وهي هذا الولاء، ولذا يعرفه بعضهم بأنه لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، أي: كأنه قرابة، فلا يجوز للإنسان أن يبيع قرابته من أخيه، فلا يقول لإنسان أجنبي: بعتك قرابتي من أخي أو من أبناء عمي؛ لأن هذا نسب ثابت، فإذا كان لا يجوز أن يبيع قرابته من أخيه أو عمه أو ابن عمه، فكذلك عتيقه، فلا يجوز أن يقول: بعتك قرابتي من هذا العبد الذي أعتقته وأصبح مولىً لي.
ولا يجوز أن تهبه، وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) ، فلا تقول: وهبتك قرابتي من هذا العبد الذي أعتقته، أو بعتك قرابتي منه، فلا يباع ولا يوهب، هذا حكم الولاء، فالولاء يرث به المعتق هو وعصبته.
هذه أسباب الأرث.
أما الرحم فقد ذكرنا أنهم ينقسمون إلى عصبة وذوي أرحام، والعصبة ينقسمون إلى أصول وفروع وحواش، ويأتينا أمثلة لهم.(50/7)
موانع الإرث
موانع الإرث: قتل ورق واختلاف دين، ذكر ذلك الناظم بقوله: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين(50/8)
الرق
الأول: الرق، ويعرفونه بأنه: عجز حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر، يعني: السبب الأصل هو أنه كافر، ولما استولى عليه المسلمون استرقوه، وأصبح مملوكاً، فأصبح عاجزاً عجزاً حكمياً لا عجزاً حسياً، ومعنى العجز الحكمي أنه لا يقدر على أن يسافر إلا بإذن سيده، ولا يبيع ولا يشتري إلا بإذن سيده، ولا يتزوج إلا بإذن سيده، وكذلك لا يتملك شيئاً إلا بإذن سيده، فهو مولىً عليه مملوك، هذا معنى أنه عجز حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر.
والمملوك لا يملك، فهو وما بيده لسيده، حتى ثيابه وحذاؤه وما كان تحت يده فإنه ملك للسيد، فلذلك لا يرث فإذا كان له أخ حر، ومات أخوه الحر، ولهذا الحر أخ آخر حر وهذا الأخ الرقيق، فالمال كله لأخيه الحر ولا يرث أخيه الرقيق، لأنه لو أخذ شيئاً من المال لأخذه سيده، والسيد أجنبي، فلا يرث الرقيق ولا يورث؛ لأنه ليس له تركة.
أما إذا أعتق بعضه فإنه يسمى مبعضاً، والمبعض يرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، فإذا قدرنا أن عبداً بين اثنين، أعتق أحدهما نصفه وعجز عن إعتاق نصف الشريك، أصبح نصفه حراً ونصفه رقيقاً، فإذا مات أبوه ولهذا الأب الذي مات زوجة، وله أب، وله هذا الابن الرقيق؛ فهذا الابن الرقيق هل يحجب الزوجة ويمنعها من ميراثها؟ يحجبها عن نصف الثُمن، ولو كان حراً لحجبها عن ثمن، ولم ترث إلا ثمناً، ولكنه نصفه حر فيحجبها عن نصف ما يحجب الحر، فترث الزوجة ثمناً ونصف ثمن، لأنه حجبها عن نصف الثمن بنصفه الحر.
وكذلك يرث بنصفه الحر، والأب يرث السدس، لأن الابن لا يمنعه من إرث السدس.
نقدر مثلاً أن الأب له السدس، وأن الزوجة لها الثمن، وأن الباقي للابن، فكم يبقى؟ يبقى له سبعة عشر سهماً من أربعة وعشرين.
لكنه في مسألتنا نصفه حر، فيرث نصف السبعة عشر، ويرث الأب الباقي، هذا معنى كونه يرث بنصفه الحر، وهذا يسمى مبعضاً.(50/9)
القتل
وأما القتل فإنه يمنع الإرث، والقتل الذي يمنع الإرث هو ما أوجب قصاصاً أو دية أو كفارة، فإذا قتل الأخ أخاه عمداً وكان له إخوة آخرون فقالوا: نريد القصاص، فقال: أنا أخوه أعطوني ميراثي، فإنه يقال له: لا حظ لك في ميراثه، بل ميراثه لنا ونحن نريد أن نقتلك قصاصاً؛ لأنك قتلته عمداً، ففي هذه الحال لا يرث؛ لأنه قتل عمداً.
أما لو قتل الأب ابنه فلا قصاص؛ لأن الأب لا يقتل بابنه، ولكن عليه الدية، فيدفع الدية لأولاده ولأمه، وذلك لأنهم ورثته، فلا قصاص هنا، ولكن تجب الدية، ولا يرث الأب، فإذا كان للابن المقتول أموال فلا يرث منه أبوه؛ لأنه قاتل.
كذلك قتل الخطأ، كما إذا كان يقود السيارة فاصطدم أو انقلب مثلاً بأبيه أو بأخيه ومات، فليس له شيء من إرثه ولو كان خطأ لأن عليه الكفارة! لماذا لا يرث القاتل؟ لئلا يتسرع أحد الفسقة بقتل قريبه ويقول: أقتله حتى آخذ تركته، فأنا قريبه ووارثه، ومن القواعد: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فجعل القتل سبباً لعدم الإرث، فمن قتل مورثه منع من الإرث.
ومثله الموصى له: فإذا أوصى زيد لقريبه أو أحد أصدقائه فقال: إذا مت فأعطوه عشرة آلاف أو مائة ألف من تركتي، ثم طالت حياته، فقال الموصى له: أريد أن أقتله حتى آخذ هذه الوصية، فلا يجوز أن يعطى شيئاً.
وكذلك المدبر؛ ذكروا أن عائشة رضي الله عنها دبرت مملوكة لها، وقالت: إذا مت فهي حرة، فتلك المملوكة استبطأت موت عائشة، وعملت لها سحراً تريد أن تموت، فعرف هذا السحر، فقيل: لماذا عملتيه؟ فقالت: أريد العتق، فقالت عائشة: لا تعتقين، وأمرت أن تباع على أشد الناس ملكة، فهذا معنى: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.(50/10)
اختلاف الدين
أما اختلاف الدين فهو أيضاً مانع من الموانع، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، وذلك لما مات أبو طالب وكان له عقار بمكة، وكان له أربعة أولاد، ولدان مسلمان جعفر وعلي، وولدان كافران طالب وعقيل، فورثه ولداه الكافران اللذان هما طالب وعقيل، ثم مات طالب وورثه عقيل، ثم أسلم عقيل بعد ذلك، فكان عقيل هو الذي حاز تلك العقارات، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قيل له: أين تنزل؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) ، يعني: أنه استولى على الرباع التي كان يملكها أبوه، فقال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) .
فاختلاف الدين يفرق بين الأخوين أو نحوهما.
ولقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ، ولنهيه عن التولي: {لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} [التوبة:23] فلا يتوارثان.
واختلف هل يرث اليهودي نصرانياً، أو يرث النصراني مجوسياً أو وثنياً، فإذا كان هناك أخوان أحدهما يهودي والآخر نصراني فهل يتوارثان؟ فعند الإمام أحمد لا يتوارثان؛ لأن الكفر ملل شتى، فلا يتوارث أهل ملتين، وعند كثير من الأئمة يحصل التوارث؛ لأن الكفر ملة واحدة، دليل الإمام أحمد حديث روي: (لا يتوارث أهل ملتين) ، وهذا هو الذي عليه العمل.(50/11)
أركان الإرث
أركان الإرث: وارث، ومورث، ومال موروث.
الأركان هي التي يتكون منها الإرث، فلابد أن يكون هناك وارث، وأن يكون هناك مورث.
فالوارث هو الذي يحوز المال، والمورث هو الذي يموت وله تركة، والحق أو المال هو التركة، فإذا مات أحد وليس له وارث فلا يحصل إرث، وإذا مات المورث وله وارث ولكن ليس له مال فلا يحصل الإرث، أي: إذا فقد الوارث أو فقد المورث أو فقدت التركة فلا يحصل إرث، هذه أركانه.(50/12)
شروط الإرث
وأما شروطه فهي ثلاثة أيضاً: تحقق موت المورث، وتحقق وجود الوارث، والعلم بالجهة المقتضية للإرث.(50/13)
تحقق موت المورث
متى نتحقق موت المورث؟ إما بالمشاهدة، وإما بالاستفاضة، فالمشاهدة إذا حضره اثنان وقد خرجت روحه، فقالوا: نشهد أننا رأينا فلاناً مات وخرجت روحه، ففي هذه الحال يحكم بأنه مات، وتقسم التركة.
إذا لم يأتنا أحد يقول: إني أشهد أنه مات، ولكن نقل نقلاً مستفيضاً اشتهر بين الناس وكثر الذين يتناقلونه، وجاء الناس يعزون أقاربه، بأن مات في بلدة بعيدة ودفن بها، وجاء الخبر وانتشر، فهل يجوز قسمة التركة مع أنا ما شهدناه، ولا أتانا من يقول: أشهد أني شاهدته عندما خرجت روحه؟ يجوز إذا انتشر الخبر وكثر المتناقلون له، فتجوز في هذه الحال قسمة تركته؛ لأنا تحققنا أنه مات بالاستفاضة.
أما إذا فقد فيقولون: لا تقسم تركته إذا كان الغالب عليه السلامة إلا بعد أن يتم له من عمره تسعون سنة، والصحيح أنه يجتهد في ذلك الحاكم.(50/14)
تحقق حياة الوارث
الشرط الثاني: تحقق وجود المورث، أي: تحقق حياة المورث ووجوده ولو نطفة، فإذا مات ميت وادعت زوجته أنها حامل منه، فإنه يرث الحمل ولو كان نطفة، أو علقة، أو مضغة، وعلامة ذلك إذا كانت غير فراش أن تلده لأقل من أربع سنين؛ لأن أكثر مدة الحمل أربع سنين، فإذا لم تكن ذات زوج، وادعت أنها حامل، فإنه ينتظر حتى تلد ولو طالت مدة الحمل، لكن في هذه الأزمنة يمكن الكشف عليه بالأشعة ونحوها، فإذا ادعت أنها حامل وأنكر ذلك الورثة، وكشف عليها وتحقق أنها حامل بالأشعة صدقت، فإذا تأخرت ولادتها ولو سنة أو سنتين فإن ولدها يرث إذا ولد حياً.
ثم لابد أن يولد حياً حياة مستقرة، أما إذا ولد ميتاً فإنه لا يرث، وكذلك علامة حياته الحركة إذا ولد وتحرك حركة، فحينئذ ٍيرث ولو مات بعد دقيقة من بعد ولادته.
أما إذا شك في حياته كما لو مات اثنان جميعاً، ولم يعلم ولم يتحقق أن أحدهما مات قبل الآخر ففي ذلك تفصيل مذكور في باب الغرقى.(50/15)
العلم بجهة الإرث
أما الشرط الثالث: وهو العلم بالجهة المقتضية للإرث، فمعناه: لابد أن نعرف ونتحقق أنه من جملة الورثة، فإذا جاء وقال: أنا أخوه، قلنا: ما الدليل على أنك أخوه؟ ائتنا بمن يشهد لك.
مات مثلاً أجنبي في بلد، وجاء إنسان وقال: أنا وارثه، فلابد من الإثبات ومن التثبت، مخافة أن يدعي إرثه من ليس وارثاً له، فلابد من التثبت بشهود مثلاً، أو بمكالمة هاتفية كما في هذه الأزمنة، أو بصكوك تدل على ذلك بما يسمى حصر الإرث، فإذا تحقق ذلك صدق وورث.(50/16)
أقسام الورثة
ذكر بعد ذلك أن الورثة ثلاثة: ذو فرض، وعصبة، وذو رحم، المشهور عند أكثر الفقهاء أن الورثة قسمان: كما يقول الناظم: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما ولكن فقهاء الحنابلة جعلوها ثلاثة: أصحاب فروض، وأصحاب تعصيب، وأصحاب رحم.
فأصحاب الفروض: هم الذي يأخذون فروضهم المذكورة في القرآن.
وأصحاب التعصيب: هم الذين يأخذون بالتقدير.
أما أهل الرحم: فهم الذين يرثون عند عدم العصبة، وعند عدم أهل الفروض، كالأخوال ومن أدلى بهم، والعمات ومن أدلى بهن، وبنات العم، وبنات ابن العم، وبنات الإخوة الأشقاء أو لأب، وأولاد الإخوة من الأم، فهؤلاء يسمون أصحاب رحم، أي: من ذوي الأرحام.(50/17)
الحقوق المتعلقة بالتركة
ذكروا أن التركة يتعلق بها خمسة أشياء: الأول: مئونة التجهيز، فإذا مات أخذ من تركته مئونة تجهيزه حتى يجهز، أي: ثمن الكفن، وأجرة الحفر، وما أشبه ذلك.
الثاني: الديون التي فيها رهن، المتعلقة بعين التركة، كشاة مرهونة فيأخذها الراهن أو يبيعها، وغير ذلك مما له أمثلة كثيرة.
الثالث: الديون المطلقة، فلابد من إيفائها قبل قسمة التركة.
الرابع: الوصية.
الخامس: تقسيم التركة على الورثة.
وذكروا هنا أن الوصية تؤخر عن الدين، مع أن الله تعالى ذكر الوصية قبله، في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] لماذا قدم الله الوصية؟ لأنها قد تكون ثقيلة على الورثة، فقدمها للاهتمام بها، أما الدين فإنه حق لإنسان، وصاحبه يطالب به، وهو يطالب بحق، فلذلك قدم من حيث الترتيب، ولأن الميت قد استهلكه، أي: استدان طعاماً وأكله أو ثوباً ولبسه، فهو قد استهلك ثمن ذلك الدين، فلا جرم أن يقدم صاحب الدين على صاحب الوصية.
فإذا ضاقت التركة بدئ بهذه الأشياء، فيقدم تجهيز الميت إن لم يوجد من يتبرع به، فإن فضل شيء من المال قدم الدين الذي فيه رهن، كالشاة المرهونة أو السيف المرهون، فإذا أخذها المرتهن وبقي شيء من المال قدمت بقية الديون، فإن بقي شيء أخذه الموصى له، وإن لم يبق شيء من المال سقط الموصى له.
وبعد أخذ الوصية تقسم التركة.(50/18)
شرح أخصر المختصرات [51]
لقد قسم الله الفرائض وبينها في كتابه، ولم يكل ذلك إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل، بل حددها مع أصحابها وشروطهم في كتابه، ثم بين العلماء حالات الورثة استنباطاً من كلام الله تعالى، فذكروا أن أصحاب النصف خمسة، وأن كل وارث يرثه بشروط، وهي مذكورة في كلام العلماء، وكذلك ذكر العلماء أصحاب الربع والثمن بشروطهم، وكما هي مبنية في كتاب الله تعالى.(51/1)
تحديد أصحاب الفروض
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فذو الفرض عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، وولد الأم.
والفروض المقدرة في كتاب الله ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
فالنصف فرض خمسة: الزوج إن لم يكن للزوجة ولد ولا ولد ابن، والبنت، وبنت الابن مع عدم الولد الصلب، والأخت لأبوين عند عدم الولد وولد الابن، والأخت للأب عند عدم الأشقاء.
والربع فرض اثنين: الزوج مع الولد أو ولد الابن، والزوجة فأكثر مع عدمهما.
والثمن فرض واحد: وهو الزوجة فأكثر مع الولد أو ولد الابن] .
ذكر أن أصحاب الفروض عشرة، وبها سمي هذا العلم علم الفرائض، وهي الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى، فأصحاب الفروض عشرة، والفروض التي ذكرت في القرآن ستة.
يتوسع الفرضيون في ذكر الشروط والمحترزات، ولكن لا نستطيع أن نتوسع؛ وذلك لاختصار الكتاب، وأيضاً أن هذا العلم قد توسع فيه العلماء ووضحوا ما يحتاج إلى توضيح، ولقصر الوقت، ومن أراد التوسع والفهم فليرجع إلى الكتب المصنفة في ذلك، ومن أسهلها: رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله؛ الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
يقول: (أصحاب الفروض عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، وولد الأم) .
هؤلاء عشرة أجملهم: الأول: الزوج، والثاني: الزوجة، والثالث: الأم، والرابع: الأب، والخامس: الجد، والسادس: الجدة، والسابع: البنت، والثامن: بنت الابن، والتاسع: الأخت، والعاشر: ولد الأم.
فهؤلاء أصحاب الفروض.
وطريقة القسم: أن يُبدأ بأصحاب الفروض إذا كانوا موجودين، فيعطون فروضهم، وما بقي بعدهم يأخذه الأقارب الذين هم العصبة بحسب قربهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، أي: أعطوا أصحاب الفروض فروضهم من التركة، فإذا بقي شيء فأعطوه أقرب الذكور.(51/2)
الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى
وقد ذكر الله تعالى هذه الفروض، وذكر أهلها.
يقول: (الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس) .
ويعبر بعضهم فيقول: (النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما) .
النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف الربع وهو الثمن، والثلثان، ونصف الثلثين وهو الثلث، ونصف الثلث وهو السدس.
وإذا شئت قلت: الثلثان والنصف، ونصف الثلثين ونصف النصف، ونصف نصف الثلثين، ونصف نصف النصف.
وقد ذكر الله تعالى النصف في ثلاثة مواضع: في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] يعني: من الذرية.
الموضع الثاني: في قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] .
الموضع الثالث: في قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] .
هذه ثلاثة مواضع ذكر الله فيها النصف.
وذكر الله الربع في موضعين: في حق الزوجين، في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12] .
وذكر الثمن في موضع واحد: قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] .
وذكر الله الثلثين في موضعين: في قول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] ، هذا الموضع الأول.
والموضع الثاني: في قوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176] .
وذكر الله تعالى الثلث في موضعين: في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] .
والموضع الثاني: في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
وذكر الله تعالى السدس في ثلاثة مواضع: في قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11] .
ثم قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] .
ثم قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، فذكر السدس في ثلاثة مواضع.
ولأجل ذلك نعرف أن الفرائض بينها الله تعالى، فالله تعالى هو الذي وضحها وبينها، أنزل فيها ثلاث آيات من سورة النساء: قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] إلى آخر الآيتين.
والآية التي في آخر السورة، وهي قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] إلى آخر الآية، فذكر الله تعالى فيها هذه الفرائض، وذكر فيها أيضاً التعصيب.
وذكر ذوي الأرحام في آخر سورة الأنفال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] ، وكذا في سورة الأحزاب: (وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب:6] .
وأجمل الله الفرائض أول ما أنزل قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7] ، هؤلاء هم الذين ذكر الله تعالى ميراثهم.
وكانوا قبل أن تنزل الفرائض يوصي الميت عند قرب موته فيقول: أعطوا والدي كذا، ووالدتي كذا، وابني كذا، وابنتي كذا، وأخي، عملاً بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، فلما نزلت الفرائض نسخت الوصية للأقربين الوارثين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) .(51/3)
ذكر أصحاب النصف وشروطهم
نبدأ بأهل النصف، ونقول: ذكروا أن النصف فرض خمسة: الزوج، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت من الأب.
ولا يشترك في النصف أكثر من واحد، بل النصف لا يكون إلا لواحد أو واحدة، إلا إذا كان تعصيباً، والتعصيب هو الإرث بلا تقدير، أعني: أخذ المال بغير فرض، وإنما هو بالتعصيب الذي هو رد ما بقي بعد أهل الفروض إلى الوارث.
فمثلاً: ماتت امرأة عن زوج وأخ، فالزوج له النصف، والأخ له النصف، ولكن لا نقول: للأخ نصف، بل نقول: له الباقي، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (وما بقي فلأولى رجل ذكر) فنسميه تعصيباً، ونسميه باقياً.
أما إذا ماتت امرأة عن زوج وأخت شقيقة، ففي هذه الحال، نقول: للزوج النصف، وللأخت النصف، ولا نقول: للأخت الباقي، بل نقول: للأخت النصف؛ لأن الزوج يأخذ النصف فرضاً، والأخت تأخذ النصف فرضاً، فلكل واحد منهم النصف.(51/4)
شرط أخذ الزوج النصف
فذكروا أن الزوج يأخذ النصف بشرط واحد، وهو شرط عدمي، وهو: عدم الفرع الوارث.
كلمة (عدمي) إشارة إلى أنه شيء يعدم، ولا يوجد.
ومن هو الفرع الوارث؟ اعلم أن الفرع الوارث: هو الأولاد ذكوراً وإناثاً، وأولاد البنين، أي: الذين يرثون.
كلمة الأولاد يدخل فيها الذكور والإناث، فالإناث يسمين أولاداً، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فسمى الجميع أولاداً.
فإذا كان هناك ولد ذكر أو أنثى حجب الزوج إلى الربع، ومنعه من النصف، ويكونون سواء في الحجب، فإذا ماتت امرأة عن زوج وبنت فإن للزوج الربع، لماذا لم يأخذ النصف؟ لوجود الفرع الوارث، فالبنت من الفرع الوارث.
ماتت امرأة عن زوج وعشرة أبناء، للزوج الربع، من الذي منعه من النصف؟ الفرع الوارث، الذين هم عشرة أبناء.
ماتت امرأة عن زوج وبنت ابن- ابنها قد مات وله بنت- تحجب الزوج، وتمنعه من النصف، فليس له إلا الربع وهكذا، فالبنت من الفرع الوارث، والابن من الفرع الوارث، وبنت الابن من الفرع الوارث، وابن الابن من الفرع الوارث وإن بعدوا.
فشرط أخذ الزوج للنصف أن لا يكون للزوجة ولد ولا ولد ابن، لماذا قال: ولا ولد ابن؟ إشارة إلى أن ولد البنت لا يمنعه؛ لأن ولد البنت لا يرث ذكراً كان أو أنثى، بخلاف ولد الابن: ابن ابن، أو بنت ابن وإن نزل.
أما ابن البنت فلا يمنعه، أو بنت البنت فلا تمنعه، إنما الذي يمنعه: الذكور والإناث من أولاد الميتة، والذكور والإناث من أولاد بنيها، لا أولاد بناتها.(51/5)
شرط أخذ البنت النصف
الثاني من أهل النصف: البنت، دليله قول الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} [النساء:11] يعني: فإن كان أولادكم نساء، أي: بنات، {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11] يعني: اثنتين فما فوق،: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] ، البنت الواحدة لها النصف، وتأخذ النصف بشرطين عدميين: الشرط الأول: عدم الشريك، وهو أختها.
الشرط الثاني: عدم المعصب، وهو أخوها، فإذا كانتا ابنتين أو ثلاث بنات أو أربعاً أو عشراً، فلا تأخذ إحداهن النصف، بل يشتركن في الثلثين، فإذا عدمت البنات ولم توجد إلا بنت واحدة فلها النصف، هذا معنى عدم الشريك؛ لأن أختها وأخواتها يشاركنها في الإرث، أي: يشتركن معها في فرض وهو الثلثان.
أما المعصب فهو أخوها، لماذا سمي معصباً؟ لأنه ينقلها من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب، تكون معه عصبة بالغير.
فإذا ماتت امرأة ولها زوج وبنت وابن، ففي هذه الحال لا تأخذ البنت النصف، ولا تأخذ الثلث، ولا تأخذ الثلثين، ولكنها تشترك مع أخيها في الباقي، فنعطي الزوج الربع لوجود الفرع الوارث، ويبقى ثلاثة أرباع للابن وأخته تعصيباً، فالأخت مع أخيها ورثت الباقي تعصيباً، حيث عصبها أخوها، أي: قواها، وصارت معه عصبة بالغير ترث ما بقي ولو كان الباقي قليلاً.
لو كان عندنا زوج وأم وأب، وخمسة أبناء، وخمس بنات، ففي هذه الحال نقسم المال إلى اثني عشر سهماً، فنقول: للأم السدس؛ اثنان من اثني عشر، وللأب السدس؛ اثنان من اثني عشر، وللزوج الربع؛ ثلاثة من اثني عشر، وبقي من الاثني عشر خمسة، هذه الخمسة هي نصيب الأولاد ذكوراً وإناثاً: خمس بنات وخمسة أبناء، ونسميه تعصيباً ولا نسميه فرضاً، فإذا وجد الأخ مع أخته ورثت معه ما بقي تعصيباً.
فنقول: الزوج يأخذ النصف بهذا الشرط: عدم الفرع الوارث.
وذكروا أن الزوج له أربع حالات: تارة يأخذ النصف كاملاً، وتارة يأخذ النصف عائلاً، وتارة يأخذ الربع كاملاً، وتارة يأخذ الربع عائلاً.
وأما البنت فإن لها ست حالات: تارة تأخذ النصف كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في الثلثين كاملاً، وتارة تشارك في الثلثين عائلاً، وتارة ترث بقية المال تعصيباً مع الابن، وتارة تشارك في المال كاملاً تعصيباً.(51/6)
شروط أخذ بنت الابن النصف
بعدها بنت الابن: وبنت الابن تقوم مقام البنت إذا لم يوجد بنت، فتأخذ النصف مع عدم ولد الصلب.
كلمة ولد الصلب يدخل فيها الذكور والإناث، فإذا وجد أحد من ولد الصلب؛ أي: أولاد الميت، ذكراً أم أنثى حجبوها، أو أسقطوها؛ هذه بنت الابن.
وذكروا أنها تأخذ النصف بثلاثة شروط: عدم الشريك، وعدم المعصب، وعدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها.
وقد عرفنا الشريك؛ وهو أختها أو بنت عمها التي في درجتها، وكذلك المعصب الذي هو أخوها أو ابن عمها الذي في درجتها، والفرع الوارث هو الابن أو البنت الذين هم أقرب إلى الميت منها، فلا تأخذ النصف إلا بثلاثة شروط، فإذا اختل واحد من هذه الشروط لم تأخذ النصف.
فإذا كان عندنا بنتا ابن فإنهما يأخذان الثلثين، وإذا كان عندنا بنت ابن وابن ابن، فإنهما يأخذان المال بالتعصيب، حتى ولو لم يكونا أخوين.
نفرض أن إنساناً له ابنان، مات أحدهما في حياته وخلف بنتاً، ومات الثاني في حياته وخلف بنتاً أخرى، فاجتمعت البنتان، فهذه تقول: الميت جدي أبو أبي، وهذه تقول أيضاً: الميت جدي أبو أبي، فماذا نعطي البنتين وهما بنتا ابن متفرقتين؟
الجواب
يشتركان في الثلثين؛ لأن كل واحدة منهما يصدق عليها أنها بنت ابن.
فإذا كان مع إحدى البنتين أخ لها (ابن ابن) فهل يرثان الثلثين؟ الجواب: لا يرثانه، بل يعصبهما، فيأخذ المال هو والبنتان بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، فيقول: أنا ابن ابن لي سهمان، وأنتما بنتا ابن لكما سهمان، للذكر مثل حظ الأنثيين، فلا ترث بنت الابن وحدها، بل يعصبها ابن عمها؛ لأنه في درجتها، والحاصل: أن بنت الابن لها إحدى عشرة حالة: تارة تأخذ النصف كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في الثلثين كاملاً، وتارة تشارك في الثلثين عائلاً، وتارة تأخذ السدس كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في السدس كاملاً، وتارة تشارك فيه عائلاً، وتارة تشارك في المال كله بالتعصيب، وتارة تشارك فيما بقي بعد الفروض بالتعصيب، وتارة تسقط.(51/7)
شروط أخذ الأخت الشقيقة النصف
والأخت الشقيقة ترث النصف بأربعة شروط: عدم الشريك، وعدم المعصب، وعدم الأصل الوارث من الذكور، وعدم الفرع الوارث.
عرفنا الشريك؛ وهو أختها، فإذا كانتا شقيقتين أو أخوات شقائق، فلا تأخذ النصف بل تشارك في الثلثين، فالشريك هو أختها التي تماثلها.
والمعصب هو أخوها، فإذا كان معها أخ شقيق فإنها ترث المال هي وأخوها بالتعصيب، قليلاً أو كثيراً.
فإذا ماتت امرأة ولها زوج وأبوان، ولها خمسة إخوة أشقاء، وخمسة أخوات شقائق، أعطينا الزوج النصف، وأعطينا الأم السدس، والباقي يأخذه الأب، ولا شيء للإخوة، فإن لم يكن هناك أب ورث الإخوة والأخوات الباقي، وسمينا إرثهم تعصيباً.
فالأخت الشقيقة مثل البنت: تارة تأخذ النصف كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في الثلثين كاملاً، وتارة تشارك في الثلثين عائلاً، وتارة تأخذ ما بقي مع أخيها تعصيباً بالغير، وتارة تأخذ المال أو ترث المال كله مع أخيها تعصيباً بالغير، وتارة تسقط، فيكون لها سبع حالات.(51/8)
شروط أخذ الأخت لأب النصف
بعدها الأخت من الأب عند عدم الأشقاء، أي: أخت الميت من أبيه، لا من أبويه، فترث النصف بخمسة شروط: وهي الأربعة الماضية، وزيادة عدم الأشقاء والشقائق.
فعدم الشريك وهو أختها من الأب، وعدم المعصب وهو أخوها من الأب، وعدم الفرع الوارث، وهو الأولاد وأولاد البنين، وعدم الأصل الوارث من الذكور، وهو الأب والجد، وعدم الأشقاء والشقائق.
وإذا أردنا أن نذكر أمثلة على هذه الشروط: فنقول مثلاً: إذا كان عندنا أخت شقيقة، وأخ شقيق، وأخت من الأب، فإنها تسقط الأخت من الأب، يسقطها الشقيق.
وكذلك إذا كان عندنا أختان شقيقتان، وأختان من الأب، وعم، تسقط الأختان من الأب، والأختان الشقيقتان تأخذان الثلثين، والباقي للعم، ولا شيء للأخوات من الأب؛ لأن الأخوات الشقيقات استوفين فرضهن، كما قال الناظم: إذا أخذن فرضهن وافيا أسقطن أولاد الأب البواكيا كذلك نعرف أيضاً أن الأخت من الأب لها نحو إحدى عشرة حالة: تارة تأخذ النصف كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في الثلثين كاملاً، وتارة تشارك في الثلثين عائلاً، وتارة تأخذ السدس كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في السدس كاملاً، وتارة تشارك فيه عائلاً، وتارة تأخذ ما بقي بعد أهل الفروض مشاركة، وتارة تشارك في المال كاملاً تعصيباً مع الغير، وتارة تسقط.
وستأتي مسائل العول إن شاء الله! هذه شروط أخذ أهل النصف للنصف.
ثم قد يأخذ النصف بعض الأخوات بدون أن يكون في المسألة نصفان: فإذا مات ميت عن زوج وأخت شقيقة، فالزوج له النصف كاملاً فرضاً، والشقيقة لها النصف كاملاً فرضاً، وكذلك إذا كان عندنا أخت لأب بدل الشقيقة؛ فللزوج النصف، وللأخت النصف أيضاً كاملاً، فهذان اثنان يأخذان النصف كاملاً فرضاً.
وأما إذا كان أحدهما معصباً، فصورة ذلك: إذا مات ميت وله بنت وأخت؛ البنت لها النصف، والأخت لها النصف، ولكن نصف الأخت نسميه تعصيباً مع الغير؛ أي: أن البنت عصبت الأخت، وجعلت المال الباقي لها تعصيباً مع الغير، ويعبرون فيقولون: الأخوات مع البنات عصبات، فهاهنا صاحب الفرض هو البنت، وصاحب التعصيب هو الأخت، ومع ذلك هذه لها نصف وهذه لها نصف، ولكن نقول: المسألة من اثنين؛ للبنت النصف فرضاً، والباقي للأخت، ولا نقول: والنصف للأخت، وذلك كما لو كان عندنا بنت وأخ؛ فللبنت النصف، والباقي النصف يأخذه أخو الميت، ونسميه: تعصيباً، ولكنه تعصيب بالنفس.
هؤلاء هم أهل النصف.(51/9)
أصحاب الربع وأصحاب الثمن
أما أهل الربع، فذكر أن الربع فرض اثنين: الزوج مع الولد أو ولد الابن، والزوجة فأكثر مع عدمهما، وهذا مذكور في القرآن في قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] .(51/10)
ما يأخذه الزوج عند وجود الفرع الوارث
الربع يأخذه الزوج مع الولد، أو ولد الابن، والمراد بالولد: ولد الميتة ذكراً كان أو أنثى، واحداً أو عدداً، فيحجبه الواحد ويحجبه العدد إلى الربع.
فلو ماتت امرأة ولها زوج ولها بنت، فللبنت النصف، وللزوج الربع، والباقي لأولى رجل ذكر، وكذلك لو ماتت امرأة ولها زوج ولها عشرة أبناء أو بنات أو بنين وبنات، فللزوج الربع، والباقي للأولاد ذكوراً وإناثاً، قليلاً أو كثيراً (للذكر مثل حظ الأنثيين) .
وهكذا إذا لم يكن لها أولاد من الصلب ولكن لها أولاد بنين، فإذا كان لها بنت ابن، أو ابن ابن وإن نزل، أو خمسة أبناء ابن، أو عشر بنات ابن، فالجميع يحجبون الزوج من النصف، فلا يرث إلا الربع، يقول الناظم: والربع فرض الزوج إن كان معه من ولد الزوجة من قد منعه ولد الزوجة، يعني: الفرع الوارث الذي هو الابن واحداً كان أو عدداً، والبنت واحدة كانت أو عدداً، وابن الابن واحداً كان أو عدد، وبنت الابن واحدة كانت أو عدداً، فواحد منهم أو جماعة يحجبون الزوج إلى الربع.(51/11)
شرط أخذ الزوجة أو الزوجات الربع
وأما الزوجة فأكثر فإنها ترث الربع مع عدم الفرع الوارث، والفرع الوارث هم الأولاد وأولاد البنين، أي: الابن، وابن الابن، والبنت، وبنت الابن، واحداً كان أو عدداً، هؤلاء إذا وجدوا منعوا الزوجة من الربع إلى الثمن، وإذا عدموا أخذت الزوجة الربع كاملاً، ويسمون الفرع الوارث.
وقوله: (الزوجة فأكثر) أي: زوجة أو زوجتان أو ثلاث أو أربع يشتركن في فرضهن؛ لأن الله قال: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] فمقتضاه: أنهن يشتركن في الربع.(51/12)
ما تأخذه الزوجة عند وجود الفرع الوارث
وأما الثمن: فهو فرض واحد: وهي الزوجة فأكثر مع الولد أو ولد الابن، فيكون للزوجة ثمان حالات: تارة تأخذ الربع كاملاً، وتارة تأخذه عائلاً، وتارة تشارك في الربع كاملاً، وتارة تشارك فيه عائلاً، وتارة تأخذ الثمن كاملاً، وتارة تشارك فيه كاملاً، وتارة تأخذ الثمن عائلاً، وتارة تشارك فيه عائلاً.
مثال أخذها الربع كاملاً: إذا مات رجل وله زوجة وأم وأب.
في هذه المسألة: الزوجة لها الربع كاملاً واحد من أربعة، والأم لها ثلث الباقي واحد، والزوج له الباقي.
وهذه إحدى العمريتين، فهنا أخذت الربع كاملاً.
فلو فرضنا أن عندنا أربع زوجات، وأب، وأم، فالأربع الزوجات يشتركن في الربع، ويأخذن الربع كاملاً؛ لعدم الفرع الوارث.
لو كان عندنا: زوجة، وأختان شقيقتان، وأختان من الأم.
في هذه الحال: المسألة تكون من اثني عشر؛ لأن فيها ربعاً، وفيها ثلثاً وثلثين، فالزوجة لها الربع ثلاثة، والأخوات الشقائق لهن الثلثان؛ فيأخذن ثلثي الاثني عشر ثمانية، والأخوات من الأم لهن الثلث وهو أربعة، هذه اثنا عشر، ثمانية وأربعة، فهل تسقط الزوجة؟ لا تسقط، بل نزيد في السهام، فنقسم المسألة من خمسة عشر، وهذا هو العول، فنقول: عالت المسألة إلى خمسة عشر، فللأخوات الشقائق ثمانية، وللأخوات من الأم أربعة، هذه اثنا عشر، وللزوجات أو الزوجة الربع ثلاثة، فهذه خمسة عشر، هذا هو العول.
فسواء كانت الزوجة واحدة أو ثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فيشتركن في الربع كاملاً، ويشتركن فيه عائلاً.
وكذلك إذا كن يرثن الثمن، مثاله: مسألة تسمى المنبرية، ذكروا أن علياً رضي الله عنه سئل وهو على المنبر عن رجل مات وله زوجة، وأبوان، وبنتان، فنطق وهو في الخطبة بقوله: (جعل الله الثمن تسعاً) أو (صار الثمن تسعاً) .
صحيح أن الزوجات لا يأخذن إلا التسع في هذه الحالة، وتكون المسألة من سبعة وعشرين، بعد أن كانت من أربعة وعشرين، فالبنات لهن ثلثا الأربعة والعشرين: ستة عشر، والأبوان لكل واحد منهما السدس أربعة، فيأخذان ثمانية، فهذه أربعة وعشرون، فأين ميراث الزوجة أو الزوجات؟ تعول لهن المسألة فتكون من سبعة وعشرين؛ لأن لهن الثمن ثلاثة، فسواء كن زوجة أو زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فإنهن يشتركن في الثمن الذي عالت به المسألة.
وهكذا لو لم تعل، فلو كان عندنا بنت واحدة، وزوجة، وعم، فإن البنت لها النصف أربعة من ثمانية، وللزوجة الثمن واحد من ثمانية، والباقي ثلاثة يأخذها العاصب الذي هو العم.
فهاهنا أخذت الزوجة الثمن كاملاً، سواء كانت زوجة واحدة، أو ثنتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فإنهن يشتركن في الثمن لا يزدن عليه، فهذا معنى كونها تأخذ الثمن كاملاً، أو تأخذه عائلاً، أو تشارك فيه كاملاً، أو تشارك فيه عائلاً، وكذلك الربع.
والحاصل عندنا: أن أهل الفروض هم هؤلاء العشرة.
وقد عرفنا الآن ميراث الزوجين: أن الزوج له الربع مع الفرع الوارث، والنصف مع عدمه، وأنه تارة يعول، وتارة لا يعول.(51/13)
أمثلة على العول
مثال العول: إذا ماتت امرأة ولها أختان، وزوج؛ فالأختان يطالبن بالثلثين، لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء:176] ، والزوج يطالب بالنصف، لأن الله يقول: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] فليس هاهنا ولد.
فيكون في المسألة ثلثان ونصف، ففي هذه الحالة نجعل المسألة من ستة؛ لأن الستة فيها ثلثان وفيها نصف، ونقسم، فنقول: سهام الزوج ثلاثة، وسهام الأخوات أربعة، فعالت المسألة إلى سبعة، هذا معنى كونها عالت.
فالزوج هاهنا ما حصل على النصف، وإنما حصل على ثلاثة أسباع.
وكذلك لو كان عندنا: أم، مع الأخوات والزوج، فالأم تأخذ السدس، والزوج يأخذ النصف، ففي هذه الحالة تعول المسألة إلى ثمانية: الأخوات لهن أربعة، والأم لها واحد، هذه خمسة، والزوج له ثلاثة، هذه ثمانية، فالزوج هاهنا ما حصل على النصف، وإنما حصل على الربع ونصف الربع؛ أي: على ثلاثة أثمان، لماذا؟ لوجود العول، العول الذي هو: زيادة في السهام ونقص في الأنصبة.
وكذلك البنت، وبنت الابن، والأخت ونحوهن، أيضاً يدخل العول في المسألة التي فيها البنت، أو البنات أو نحوهن، فإذا كان عندنا مثلاً: بنت، وزوج، وأبوان؛ فالبنت لها النصف؛ ستة من اثني عشر، والأبوان لهما السدسان، هذه عشرة، والزوج له الربع ثلاثة، فعالت المسألة إلى ثلاثة عشر؛ لأن البنت أخذت النصف ستة، والأب السدس اثنين، والأم السدس اثنين، وبقي اثنان من اثني عشر، والزوج يطالب بالربع، والربع ثلاثة من اثني عشر، فنقسم المسألة إلى ثلاثة عشر سهماً، فيدخل النقص على الجميع، أي أن الأم ما أتاها إلا اثنان من ثلاثة عشر، وكذا الأب، والبنت أعطيناها النصف اسماً لا حقيقة، وكذلك بقية أصحاب الفروض، يدخل عليهم النقص.
وكذلك بنت الابن أيضاً تأخذ النصف وتأخذ السدس -كما سيأتي- إذا كان هناك بنت واحدة، فهذا السدس تارة يكون عائلاً، وتارة يكون كاملاً، وتارة تأخذه وحدها، وتارة تشارك فيه أخواتها.
ففي مسألتنا هذه: إذا كان عندنا بنت ابن، وأبوان، وزوج، فإن بنت الابن تقوم مقام البنت، فلها النصف كاملاً، ولكن دخل عليها العول، حيث أعطيناها ستة من ثلاثة عشر، ودخل العول على من معها، فهذه أمثلة لحالاتهن.(51/14)
شرح أخصر المختصرات [52]
من الفرائض التي بينها الله في كتابه: الثلثان والثلث، فالثلثان فرض أربعة من الورثة، والثلث فرض اثنين، ولكل وارث شروط يتصف بها عند أخذه فرضه، وقد وضحها العلماء في متون الفقه وشرحها من بعدهم.
ومن مسائل الفرائض: العمريتان، فيفرض فيهما للأم ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين، وإنما سمي (ثلثاً) تأدباً مع القرآن، وإلا فهو ناقص عن الثلث.(52/1)
أصحاب الثلثين
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [والثلثان فرض أربعة: البنتين فأكثر, وبنتي الابن فأكثر, والأختين لأبوين فأكثر, والأختين لأب فأكثر.
والثلث فرض اثنين: ولدي الأم فأكثر, يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم, والأم حيث لا ولد ولا ولد ابن، ولا عدد من الإخوة والأخوات.
لكن لها ثلث الباقي في العمريتين؛ وهما أبوان وزوجٌ أو زوجة.
والسدس فرض سبعة: الأم مع الولد أو ولد الابن، أو عدد من الإخوة والأخوات, والجدة فأكثر مع تحاذ، وبنت الابن فأكثر مع بنت الصلب، وأخت فأكثر مع أخت لأبوين, والواحد من ولد الأم , والأب مع الولد أو ولد الابن, والجد كذلك] .(52/2)
شرطا استحقاق البنتين فأكثر الثلثين
الثلثان سهمان من ثلاثة أسهم، جعلهما الله تعالى فرضاً للبنتين فأكثر، وللأختين فأكثر، في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] قال العلماء: معنى فوق اثنتين: أي اثنتين فما فوق، هذا هو الصحيح؛ وذلك لأن الأختين لهما الثلثان، كما في آخر السورة: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء:176] يعني: الأختين، فالبنتان أولى.
ولأن الأخت تأخذ النصف، وتأخذ الثلث مع أخيها، فالبنت كذلك بطريق الأولى، أي أنها إذا كانت تأخذ النصف وحدها؛ فإن كانتا اثنتين تغير إرثهما وورثتا الثلثين، فتكون كلمة (فوق اثنتين) معناها: اثنتين فما فوق.
وذهب بعض الظاهرية إلى أن فرض الثنتين من البنات النصف، وما فوق الثنتين الثلثان.
ولكن هذا خلاف إجماع الأئمة، فقد ذكر أن سعد بن الربيع رضي الله عنه قتل في غزوة أحد، وكان له أخ، وله ابنتان، وله زوجة، فأخذ أخوه جميع المال وقال: الإناث ليس لهن مال، فجاءت امرأته تشتكي وتقول: إنه خلف ابنتين، وإنهما لا ينكحان إلا إذا كان لهما مال، فأنزل الله آية الفرائض، فدعاه فقال: (أعط بنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك) فهذا دليل على أن البنتين تأخذان الثلثين.
ذكروا أنهن يأخذن الثلثين بشرطين: شرط وجودي، وشرط عدمي.
الشرط الوجودي: أن يكن اثنتين فأكثر، ولو وصلن إلى عشر أو عشرين، فلا يزيد سهمهن على الثلثين.
الشرط الثاني: عدم المعصب الذي هو أخوهن، فإنه ينقلهن من الفرض إلى التعصيب.
فلو مات ميت وله عشر بنات، وله عم، فالعشر البنات يأخذن الثلثين، والباقي للعم، فإن كان مع البنات أخوهن أخذوا المال كله واقتسموه تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين، فتكون القسمة من اثني عشر؛ البنات لهن عشرة أسهم، وهو له سهمان، أي أنه في هذه الحال نقلهن من الفرض إلى التعصيب؛ وأخذوا جميع المال، وسقط العم، وحصل لهن خمسة أسداس المال، ولأخيهن السدس، وقبل وجوده ما كان لهن إلا الثلثان، ولهذا فإنه يسمى: أخاً مباركاً.(52/3)
شروط استحقاق بنتي الابن الثلثين
ورد في الأولاد: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] والأولاد يدخل فيهم الذكور والإناث، فالإناث أولاد، والذكور أولاد؛ لأنهم مولودون.
وقال العلماء: إن أولاد البنين كأولاد الصلب، فلذلك فإن ابن الابن إذا لم يوجد غيره ورث المال كله كما يرثه الابن، فالابن إذا لم يكن إلا واحداً أخذ المال كله، فإن مات قبل أبيه وكان له ابن، فابن الابن يرث المال كله إذا لم يكن غيره؛ فكذلك بنت الابن تقوم مقام البنت إذا لم يكن هناك بنت، فتأخذ النصف.
فإذا كن بنتي ابن أو أكثر من اثنتين ورثن الثلثين؛ لأنهن يقمن مقام بنات الصلب.
فبنات الابن يرثن الثلثين بثلاثة شروط: أن يكن اثنتين فأكثر، وعدم المعصب، وعدم الفرع الوارث الذي أعلى منهن، فإذا كانت واحدة فليس لها إلا النصف، كما أن البنت ليس لها إلا النصف، وإذا كان معهن أخوهن عصبهن، فيأخذن المال معه، كما أن الابن يعصب أخواته، كذلك ابن الابن يعصب أخواته، وابن الابن أيضاً يعصب بنات عمه اللاتي في درجته.
إذا كان لزيد مثلاً ابنان، مات أحدهما وله ثلاث بنات، ومات الثاني وله بنت وابن، ثم مات الجد، فبنات الأول يرثن من جدهن، ويقلن: هذا أبو والدنا، وبنت الثاني وابنه يرثون أيضاً، فابن الابن هذا يعصب أخته ويعصب بنات عمه اللاتي في درجته، فيأخذون المال كله تعصيباً، أي: يقتسمونه للذكر مثل حظ الأنثيين، فبنات عمه لهن ثلاثة أسهم، وهو وأخته لهما ثلاثة، له سهمان ولأخته سهم، هذا معنى كون المعصب ينقلهن من الفرض -الثلثين- إلى التعصيب، وهو أخذ ما بقي بعد أهل الفروض.
فلو فرضنا أن هناك زوجاً، فإن الزوج يأخذ الربع؛ لوجود الفرع الوارث، والباقي يأخذه ابن الابن وأخته وبنات عمه تعصيباً.
وإذا كان مع بنات الابن بنت صلب، فإن بنت الصلب تأخذ نصفها كاملاً، ويبقى السدس من الثلثين فتأخذه بنات الابن ولو كن عشراً، ويسمى السدس تكملة الثلثين، فلا يرثن الثلثين إلا مع عدم الفرع الوارث الذي أعلى منهن.
عرفت أن الفرع الوارث هم الأولاد وأولاد البنين، فبنت الابن وبنات الابن من الفرع الوارث؛ لأنهم متفرعون عن الميت، وحيث إنهم متفرعون عنه فإنهم فرع, وقيدوه بالوارث احترازاً من الفرع الذي لا يرث؛ كبنت البنت، وبنت بنت الابن، فهي فرع غير وارث؛ لأنها تدلي بأنثى.
ثم عرفنا أن بنات الابن يأخذن الثلثين بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر.
الشرط الثاني: عدم المعصب؛ وهو أخوهن.
الشرط الثالث: عدم الفرع الوارث الذي أعلى منهن، فإن كان معهن ابن الصلب سقطن، وإن كان معهن بنت أخذت البنت النصف والباقي لبنت الابن أو بنات الابن، وإن كان معهن بنتان أخذ البنتان الثلثين وسقطت بنت أو بنات الابن.(52/4)
شروط استحقاق الأخوات الشقيقات الثلثين
الثالث: الأخوات الشقائق، يأخذن الثلثين بأربعة شروط: أن يكن اثنتين فأكثر، وعدم المعصب، وعدم الأصل الوارث من الذكور، وعدم الفرع الوارث.
فالواحدة من الأخوات ترث النصف، ولا يرثن الثلثين إلا إذا كن اثنتين فأكثر.
وإذا كان معهن أخوهن نقلهن إلى التعصيب ليرثن معه المال كله تعصيباً، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] .
وإذا كان هناك فرع وارث؛ وهو الأبناء أو البنات، أو بنات الابن، أو أبناء الابن، فلا يرث الأخوات الثلثين، بل إما أن يرثن تعصيباً مع الغير، وإما أن يسقطن، فالابن يسقطهن، والبنات يأخذن معهن الثلث تعصيباً، والبنت إذا أخذت نصفها أخذت الأخوات الباقي تعصيباً.
والأصل الوارث هو الأب والجد، وقيدوه بالذكور، فإن كان أب أسقط الأخوات؛ لأنهن يدلين به، يعني: هو واسطتهن، فمن أدلى بواسطة سقط بها.
وإن كان جداً ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله، فلا يرثن الثلثين مع الأب، ولا مع الجد، ولا مع الابن، ولا مع البنت، ولا مع ابن الابن، ولا بنت الابن، فلا يرث الشقائق الثلثين إلا عند عدم هؤلاء.(52/5)
شروط استحقاق الأخوات لأب الثلثين
أما الأخوات من الأب، فإنهن يقمن مقام الأخوات الشقائق عند عدمهن، فيأخذن الثلثين بخمسة شروط: الشروط المذكورة في الأخوات الشقائق، وزيادة الشرط الخامس، وهو: عدم الأشقاء والشقائق، فإذا كان معهن شقيقة أخذت النصف، وبقي السدس تكملة الثلثين للأخوات من الأب، وإن كن شقيقتين أخذن الثلثين وسقط الأخوات لأب، وإن كان أخ شقيق، أسقط جميع أولاد الأب، ذكوراً وإناثاً، هؤلاء أصحاب الثلثين.(52/6)
أصحاب الثلث(52/7)
شروط استحقاق أولاد الأم الثلث
أما الثلث: فإنه فرض اثنين؛ الأم وولد الأم.
فولد الأم هم الإخوة من الأم، واحدهم له السدس، والاثنان لهما الثلث، وكذلك إن زادوا فلا يزيد فرضهم على الثلث، وقد ذكر في القرآن في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] ويستوي ذكرهم وأنثاهم، فيأخذون الثلث بهذه الشروط: الشرط الأول: عدم الفرع الوارث؛ وهو ألا يكون للميت ابن ولا بنت، ولا ابن ابن، ولا بنت ابن، هؤلاء كلهم يسقطون الأخ من الأم والإخوة من الأم، واحداً كان أو عدداً، فإن لم يكن له إلا بنت أو بنت ابن فإنها تسقط الإخوة من الأم.
وكذلك إذا كثروا؛ فلو كان له عشرة أبناء سقط الإخوة من الأم.
الشرط الثاني: عدم الأصل الوارث من الذكور؛ وهم الأب والجد، هذا هو الأصل الوارث، فالأب يسقطهم، والجد يسقطهم ولو كان بعيداً، فمعناه: أن الإخوة من الأم لا يرثون الثلث إلا بهذه الشروط: عدم الفرع الوارث، وعدم الأصل الوارث من الذكور.
والشرط الثالث: أن يكونوا اثنين فأكثر.
ولهم أربع خصائص: أولاً: أنهم يدلون بأنثى ويرثون.
ثانياً: أنهم يحجبون من أدلوا به حجب نقصان.
ثالثاً: أن ذكرهم كأنثاهم.
رابعاً: أنهم ذكرهم لا يعصب أنثاهم.
هذه خصائصهم.
كل من أدلى بأنثى لا يرث، إلا الإخوة من الأم يدلون بأنثى ويرثون، فمثلاً: أولاد الأخت لا يرثون من خالهم، ولا من خالتهم؛ لأنهم يدلون بأنثى، وكذلك أولاد البنت لا يرثون من جدهم أو من جدتهم؛ لأنهم يدلون بأنثى، وكذلك أولاد بنت الابن، وحتى الجد أبو الأم؛ لأنه يدلي بالأم، فكل من أدلى بأنثى لا يرث، إلا الإخوة من الأم، يدلون بأنثى ويرثون.
كذلك يضرون أمهم: فإذا مات امرؤ وله أم، وأخوان من أم، وعم؛ فالأم ليس لها إلا السدس، والأخوان لهما ثلث، والبقية للعم، فحجبوا الأم؛ لأنها مع عدمهم كانت تأخذ الثلث، فمع وجودهم ما حصلت إلا على السدس، فهم يحجبون من أدلوا به حجب نقصان.
كذلك لما كانوا يرثون بالرحم المجردة استوى ذكرهم وأنثاهم، فإن قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] ، دليل على أنهم لا يزيدون عن الثلث، والشركة تقتضي المساواة، أي: هم شركاء، ذكرهم كأنثاهم، فهؤلاء من أهل الثلث.(52/8)
شروط استحقاق الأم الثلث
ومن أهل الثلث: الأم؛ فترث الثلث بثلاثة شروط عدمية: عدم الفرع الوارث، وعدم الجمع من الإخوة، وأن لا تكون المسألة إحدى العمريتين؛ هذه شروط أخذ الأم للثلث.
قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] يعني: إذا لم يرثه إلا أبواه فلأمه الثلث والباقي للأب لأنه إذا ذكر نصيب وارث، وسكت عن الباقي، فهو للوارث الثاني، ففي هذه الحال لأمه الثلث إذا لم يكن له ولد، ولم يرثه إلا أبواه، هذا شرط: الولد يعم الذكر والأنثى من الأولاد وأولاد البنين، ويعم الواحد والعدد، فلو كان له بنت أو بنت ابن، فلا ترث الأم إلا السدس؛ لأن له ولداً.
الشرط الثاني: عدم الجمع من الإخوة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] فجعل الله الإخوة يحجبون الأم إلى السدس، كما أن الأولاد يحجبونها إلى السدس، هذا نص: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] .
إذا لم يكن له إلا أم وله إخوة، أعطيت الأم السدس، والبقية للإخوة، وكلمة إخوة تعم الإخوة من الأم، فلذلك قالوا: يحجبها الإخوة من الأم إذا كانوا اثنين أو أكثر، ويحجبها من الإخوة الأشقاء اثنان فأكثر، ومن الإخوة من الأب اثنان فأكثر، وكذلك الأخوات شقائق كن أو لأب أو لأم، أو كانوا متفرقين، فيحجبونها إلى السدس.
ففي أخوين شقيقين وأم؛ للأم السدس، وفي أختين شقيقتين وأم لها السدس، وكذلك مع أخوان لأب لها السدس، أو أختان لأب، أو أختان لأم، أو أخوان لأم، أو أخ شقيق وأخت لأم، أو أخ شقيق وأخت لأب، أو أخت لأب وأخت لأم، فاثنان من الإخوة ذكوراً وإناثاً، لأب أو لأبوين أو لأم، يحجبونها إلى السدس.
ثم هاهنا مسألة فيها خلاف: وهي إذا كان الإخوة محجوبين، فهل يحجبونها أم لا؟ إذا كانوا محجوبين بالجد على القول بأنه يحجبهم، أو محجوبين بالأب: مثاله: مات شخص وله أبوان، وأخوان، ففي هذه الحال: الجمهور على أنهم ساقطون ويحجبون، فيضرون الأم ولا ينتفعون، فيكون للأم السدس، وخمسة الأسداس للأب، هذا مثال من يحجب ولا يرث، ولكنه حجب نقصان؛ فمنعوا الأم من أوفر حظيها، ولم ينتفعوا، بل صار النفع للأب.
وذهب بعض العلماء إلى أنهم لا يحجبون في هذه الحال، ويختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيقول: إذا كانوا لا ينتفعون فكيف يضرون؟! إذ العادة أن الحاجب إنما يحجب غيره إذا كان ينتفع بذلك الحجب، وهذا هو الأصل؛ أن الأولاد يحجبون الأبوين لأجل أن يزيد لهم المال، ويحجبون الزوجين حجب نقصان؛ لأجل أن يزيد لهم المال، ويحجبون الإخوة حجب حرمان؛ لأجل أن يزيد لهم المال، فما فائدة الإخوة من هذا الحجب، وكيف يحجبون وهم لا يرثون؟ فيرى شيخ الإسلام أنهم لا يرثون في هذه الحال، ولا يحجبون الأم، بل الأم لها الثلث كاملاً، ولكن ما تجرأ العلماء على أن يعطوها الثلث وهناك إخوة؛ للنص الصريح: {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] فـ شيخ الإسلام يقدر: فإن كان له إخوة يرثون فلأمه السدس، كما إذا كان له ولد وارثون فلأمه السدس.(52/9)
المسألتان العمريتان
ثم ذكر أن للأم ثلث الباقي في العمريتين، وهما: أبوان وزوج أو زوجة، فللأم ثلث الباقي تمشِّياً وتأدباً مع القرآن، لأن القرآن فرض لها الثلث إذا لم يكن هناك ولد ولا جمعٌ من الإخوة، ففي هذه الحال إذا كان في المسألة أحد الزوجين وأب وأم فكيف نعطيها أكثر من الأب، الأب عادة ما يأخذ أكثر منها، فإذا كان معها زوج وأعطينا الزوج النصف ثلاثة من ستة، وأعطينا الأم الثلث اثنين من ستة، ما بقي للأب إلا واحد وهو سدس.
فرأى عمر بن الخطاب أنها تعطى ثلث الباقي بعد الزوج، ففي هذه الحال يكون لها سدس، وللأب مثلها مرتين، وللزوج النصف، وهذا يسمى ثلث الباقي تأدباً مع القرآن، إذا أخذ الزوج النصف ثلاثة من ستة بقي عندنا ثلاثة أسهم، للأم ثلث الثلاثة واحد وللأب مثلاها.
فهذه إحدى العمريتين.
الثانية: زوجة وأبوان، فالزوجة لها الربع ويبقى ثلاثة، فللأم ثلث الباقي وللأب الباقي.
الباقي بعد الزوجة ثلاثة أرباع، فتأخذ الأم ثلث الباقي وهو في الحقيقة ربع، وسميناه ثلث الباقي تأدباً مع القرآن، ويأخذ الأب الباقي.
هذا هو قول عمر رضي الله عنه، فقد اشتهر أنه أفتى في هاتين المسألتين، وتبعه الصحابة وأجمعوا على ذلك، وسميتا بالعمريتين نسبة إلى عمر لأنه الذي أفتى بذلك، كأنه رأى أن الأم عادة ما تأخذ نصف الأب، كما أن البنت تأخذ نصف الابن، وكما أن الزوجة تأخذ نصف ما يأخذه الزوج، فلذلك قالوا نعطيها في هذا نصف الأب.
وكأنهم جعلوا معنى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء:11] ، أي لم يرثه إلا أبواه {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11] أي: في هذه الحال، فأما إذا كان هناك ورثة غير الأبوين كزوج أو زوجة فإنها لا تأخذ الثلث وإنما تأخذ مثل نصف الأب.
هذا رأيهم.
وذهب الظاهرية إلى أنها تأخذ الثلث كاملاً في العمريتين، وقالوا: إن العادة أنها تأخذ فرضها كاملاً، وذلك للعمل بالحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فعندنا الزوج يأخذ النصف فرضاً، والأم فرضها الثلث، وما بقي هو سدس، فيأخذه أولى رجل وهو الأب.
هكذا ذكروا، ولكن الجمهور على ما أفتى به عمر.(52/10)
أصحاب السدس
ذكر أن السدس فرض سبعة، الأم والجدة وبنت الابن والأخت لأب والأخ من الأم والأب والجد.(52/11)
الأم
فالأم تستحقه مع الولد، أي: إذا كان هناك ولد للميت ذكر أو أنثى، منع الأم من الثلث وورثت السدس.
وكذلك ولد الابن يمنعونها أيضاً لأنهم فرع وارث، فلو كان عندنا بنت ابن ابن ابن فإنها تحجب الأم إلى السدس وإن نزلت.
كذلك العدد من الإخوة والأخوات: فالجمع من الإخوة يمنعون الأم من الثلث وترث معهم السدس، قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] ، وكلمة (إخوة) تصدق على اثنين، فإذا مات وله أخوان وأم فللأم السدس والباقي للأخوين، وإذا كان له أختان وأم، فللأم السدس وللأختين شقيقتين أو لأب الثلثان والباقي للعاصب.
فالمقصود أنه يحجبها الجمع من الإخوة، وهم اثنان، أخوان لأب، أو أخوان لأم، أو أخوان لأبوين، أو أختان من أي جهة، أو أخ وأخت، فيحجبونها فلا ترث معهم إلا السدس.(52/12)
الجدة أو الجدات
الثاني: الجدة فأكثر مع تحاذ: الجدة ترث السدس بشرط واحد وهو عدم الأم، فلا يمنعها إلا الأم، لأنها تسقطها، وإذا كان عندنا جدتان اشتركن في السدس، وإذا كن ثلاث جدات متحاذيات اشتركن في السدس.
يقول الناظم: والسدس فرض جدة في النسب واحدة كانت لأم أو أب وإن تساوى نسب الجدات وكن كلهن وارثات فالسدس بينهن بالسويه في القسمة العادلة الشرعية فإذا كان عندك أم أم وأم أب فهما مستويتان، أم الأب في الدرجة الثانية وأم الأم في الدرجة الثانية، فيشتركان في السدس، فإن كن ثلاث فلا يتحاذين إلا إذا كن في الدرجة الثالثة أم أم أم، وأم أم أب، وأم أب أب.
أعني أم أم أم كلهن إناث، وأم أم أب أنثيان وأب، وأم أب أب، فيتحاذين ثلاثاً، فيشتركن في السدس.
ذكروا أن الجدة أم الأم جاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها فشهد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّثها السدس، ثم جاءت الجدة الثانية أم الأب إلى عمر فقال: هو ذاك السدس، أيكن انفردت فهو لها، وإن اجتمعتما فبينكما.
ويتحاذى ثلاث جدات، أعني: أم أم أم، وأم أم أب، وأم أب أب، فيرثن السدس بشرط عدم الأم.(52/13)
بنت الابن
الثالث: بنت الابن فأكثر مع بنت الصلب ترث السدس، ويسمى تكملة الثلثين، صورة ذلك: إذا كان عندك بنت للصلب وعندك بنت ابن، فبنت الصلب تأخذ النصف، وتعطى بنت الابن السدس تكملة الثلثين؛ لأن الله جعل للبنات الثلثين، ومعلوم أن بنات الابن يأخذن الثلثين إذا لم يكن غيرهن، فإذا كان كذلك فلا بد للفرع الوارث من الإناث من استكمال الثلثين، وحيث إن القربى أخذت النصف، فالبعيدة التي هي بنت الابن تأخذ السدس تكملة الثلثين، سواء كانت واحدة أو ثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر.
فبنت الابن أو بنتا الابن يشتركن في السدس الذي هو تكملة الثلثين.
إذا مات الميت وله بنت وخمس بنات ابن، فالبنت لها النصف لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] ، والخمس بنات الابن لهن السدس تكملة الثلثين يشتركن فيه.(52/14)
الأخت لأب
الرابعة: الأخت لأب فأكثر مع أخت لأبوين.
الأخت من الأب مع الأخت الشقيقة مثل بنت الابن مع بنت الصلب سواء، فإذا كان عندك أخت شقيقة، وخمس أخوات من أب أو واحدة، فالشقيقة لها النصف ثلاثة من ستة، والأخت أو الأخوات من الأب لهن السدس تكملة الثلثين؛ لأن الله جعل للأخت النصف وجعل للأختين الثلثين، فالقريبة القوية التي هي الشقيقة تأخذ النصف، والبقية يأخذن السدس تكملة الثلثين؛ مثل بنت الابن مع بنت الصلب.(52/15)
الواحد من الإخوة لأم
الخامس: الواحد من ولد الأم.
ولد الأم يعم الذكور والإناث، فالواحد يأخذ السدس لقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، فالأخ من الأم أو الأخت من الأم سيأخذ السدس، يقول الناظم: وولد الأم ينال السدسا والشرط في إفراده لا ينسى أي: أن يكون واحداً، سواء كان ذكراً أم أنثى.(52/16)
الأب
السادس: الأب، فيرث السدس مع الولد أو ولد الابن.
والولد يعم الذكور والإناث من أولاد الصلب، وولد الابن يعم الذكور والإناث من أولاد الابن، فكلهم يحجبون الأب إلى السدس، لكن إذا كن إناثاً فإنه يأخذ الباقي تعصيباً، مع السدس فيجمع بين الفرض والتعصيب.
إذا مات ميت وله أب وبنت فللأب السدس فرضاً وللبنت النصف فرضاً، ويبقى عندنا ثلث يأخذه الأب تعصيباً؛ لأنه أولى رجل ذَكر، فهو صاحب فرض وصاحب تعصيب.
كذلك إذا بقي أقل: فلو كان عندك مثلاً زوجة وبنتان وأب، فالزوجة لها الثمن ثلاثة من أربعة وعشرين، والبنتان لهما الثلثان ستة عشر، والأب له السدس أربعة، ويبقى عندك واحد من أربعة وعشرين يأخذه الأب تعصيباً، فيجمع بين الفرض والتعصيب.
فإذا كان الولد ذكوراً، فالتعصيب للولد، وكذلك ولد الابن واحداً كان أو عدداً، فإذا مات ميت عن أبيه وابنه فالسدس للأب وخمسة الأسداس للابن.
وكذلك ابن ابن أو ابن ابن ابن وإن نزل، فليس للأب إلا السدس مع الابن أو ابن الابن وإن نزل.(52/17)
الجد أبو الأب
والجد كذلك ينزل منزلة الأب في أن الابن يحجبه إلى السدس، وكذلك البنت تحجبه، إلا أنه معها يأخذ الباقي تعصيباً، أي أن منزلته منزلة الأب إلا مع الإخوة، يقول الناظم: والجد مثل الأب عند فقده في حوز ما يصيبه ومده إلا إذا كان هناك إخوة لكونهم في القرب وهو أسوه أو أبوان معهما زوج ورث فالأم للثلث مع الجد ترث ثم قال في باب آخر: ونبتدئ الآن بما أردنا في الجد والإخوة إذ وعدنا(52/18)
شرح أخصر المختصرات [53]
تعتبر مسائل الجد والإخوة في علم الفرائض من المسائل المختلف فيها، وعلى القول بتوريث الإخوة مع الجد فلذلك حالات: فإما أن يكون معهم صاحب فرض أو لا، وإما أن يكون الإخوة أشقاء فقط أو مع الإخوة لأب، وهذه الحالات لابد أن يختار للجد فيها ما هو أحظ له من الميراث، لكنه على كل حال لا ينقص عن السدس كاملاً أو عائلاً، ولو سقط الإخوة.
ومما ينبغي معرفته من علم الفرائض: باب الحجب؛ إذ به ينضبط للطالب مراتب الورثة، وكيفية تقديم بعضهم على بعض في الإرث، ومتى يأخذ صاحب الفرضين أوفاهما، ومتى ينتقل الوارث من الحال الأوفر إلى الأقل وعكسه، ومتى يرث ومتى يسقطه غيره، ومالم ينضبط هذا الباب عند الطالب فلا يعد فرضيّاً، ولا يحق له الكلام في الفرائض.(53/1)
ميراث الجد والإخوة
ذكر المصنف تقسيم المال بين الجد والإخوة، وننبه إلى أن مسألة الجد والإخوة من المسائل الحرجة التي وقع فيها خلاف كبير بين العلماء المتقدمين من عهد عمر رضي الله عنه، فأفتى فيها أبو بكر بأن الجد يحجب الإخوة وأنه كالأب، وهذا هو الراجح الذي عليه الفتوى.
وذهب آخرون إلى أن الجد لا يسقط الإخوة لكونهم في القرب وهو أسوة يعني أنهم متساوون، فالإخوة يقولون: نحن ندلي بالأب، والجد يقول: أنا أدلي بالأب، أي: أنا واسطتي أبوه، فهم يقولون: نحن أبناء أبيه، وهو يقول: أنا أبو أبيه، فجعلوهم أسوة مع الجد، فورَّثوهم معه، سواء كانوا إخوة أشقاء أو إخوة من الأب، فيجعلون الجد كواحد منهم إلا إذا كانت المقاسمة تنقِّصه، فإذا لم يكن معهم صاحب فرض فإنه يقال: أنت بالخيار: إما أن تأخذ ثلث المال أو تقاسم الإخوة، فيختار الأحظ له، فإن كان الإخوة أقل من مثليه فالمقاسمة أحظ له، وإن كان الإخوة مثليه استوى له المقاسمة وثلث المال، وإن كان الإخوة أكثر من مثليه فالمقاسمة تنقِّصه فيأخذ ثلث المال.
يقول المؤلف رحمه الله: [فصلٌ والجد مع الإخوة والأخوات لأبوين أو لأب كأحدهم: فإن لم يكن معه صاحب فرض فله خير أمرين: المقاسمة أو ثلث جميع المال.
وإن كان فله خير ثلاثة أمور: المقاسمة، أو ثلث الباقي بعد صاحب الفرض، أو سدس جميع المال، فإن لم يبق غيره أخذه وسقطوا إلا في الأكدرية.
وهي: زوج، وأم، وجد، وأخت لأبوين أو لأب، فللزوج نصف، وللأم ثلث، وللجد سدس، وللأخت نصف، فتعول إلى تسعة، ثم يقسم نصيب الجد والأخت بينهما، وهو أربعة على ثلاثة فتصح من سبعة وعشرين، ولا يعول في مسائل الجد ولا يفرض لأخت معه ابتداءً إلا فيها.
وإذا كان مع الشقيق ولد أب عده على الجد ثم أخذ ما حصل له.
وتأخذ أنثى لأبوين تمام فرضها والبقية لولد الأب.
فصلٌ حجب الحرمان لا يدخل على الزوجين والأبوين والولد، ويسقط الجد بالأب، وكل جد وابن أبعد بأقرب، وكل جدة بأم، والقربى منهن تحجب البعدى مطلقاً، لا أبٌ أمّه أو أمّ أبيه.
ولا يرث إلا ثلاث، أم أم، وأم أب، وأم أبي أب وإن علون أمومة.
ولذات قرابتين مع ذات قرابة ثلثا السدس.
ويسقط ولد الأبوين بابن وإن نزل، وأب، وولد الأب بهؤلاء وأخ لأبوين، وابن أخ بهؤلاء وجدٍّ، وولدُ الأم بولدٍ وولدِ ابنٍ وإن نزل، وأبٍ وأبيه وإن علا.
ومن لا يرث لمانع فيه لا يحجب.
] .(53/2)
ما يأخذ الجد مع الإخوة إذا لم يكن معهم صاحب فرض
كما ذكرنا فإن مسائل الجد والإخوة من أكثر المسائل غموضاً، حيث لم يرد فيها حديث مرفوع، واختلف فيها الصحابة اختلافاً كثيراً، فأفتى أبو بكر رضي الله عنه بأن الجد كالأب يُسقط الإخوة، وأما عمر فاختلف رأيه: فتارةً يسقط الإخوة بالجد، وتارةً يورِّثهم، وتارة يتوقّف ويكره الفتيا في هذه المسألة.
ولكنها وقعت له، فوقع أنه مات أحد أبنائه وله ذرّية، ثم مات أحد أولئك الذرية وله إخوة وجد، وهو عمر نفسه، فلم يكن بد من أن يفتي فيها، فاختار أن الجد لا يسقط الإخوة بل يقاسمهم ولكن له طريقة وهي التي ذكرت هنا.
فالفتوى الآن على أن الجد يسقط الإخوة وأنه كالأب، وقد نصر ذلك ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين بنحو عشرين وجهاً، فدل على أن الجد يُسقط الإخوة وأنه كالأب، فمن أرادها طالعها.
وإذا قيل: إن الجد لا يُسقطهم فإنهم ينظرون ما هو الأحظ له، وذلك لأنه أقوى من الإخوة، فلما كان كذلك جعلوه أفضل منهم.
والإخوة الذين يقاسمهم الجد هم الأشقاء أو لأب، وذلك لأنهم جميعاً يدلون بالأب وهو يدلي بالأب، فإذا كان معه إخوة فإنه يكون كأحدهم، فإذا كان في المسألة جد وأخ فإن المال يقسم نصفين، وإذا كان فيها جد وأخت فإن الجد كأخ، فللأخت سهم وله سهمان كما لو كان أخاها، وجد وأختان له سهمان ولهما سهمان لكل واحدة سهم.
فإذا لم يكن معهم أصحاب فروض فإن له خير الأمرين: المقاسمة أو ثلث المال.
فالمقاسمة أن يقتسم المال مع الإخوة على عدد الرءوس.
وتكون المقاسمة خيراً له من ثلث المال إذا كان الإخوة أقل من مثليه، وذلك إذا كانوا مثله مرة ونصف مرة أو مثله مرة، أو نصف مثله، وتنحصر في خمس صور: جد وأخت؛ الأخت نصفه.
جد وأختان؛ الأختان مثله.
جد وأخ؛ الأخ مثله.
جد وأخ وأخت؛ الأخ والأخت مثله مرة ونصف مرة.
جد وثلاث أخوات؛ الثلاث الأخوات مثله مرة ونصف مرة.
ففي هذه الحالات تكون المقاسمة خيراً له، فإنه إذا كانت مع الجد أخت واحدة يأخذ الثلثين، وإذا كان معه أختان أو أخ يأخذ النصف، وإذا كان معه أخ وأخت أو ثلاث أخوات يأخذ الخمسين، وهو أكثر من الثلث.
الحالة الثانية: أن يستوي له المقاسمة وثلث المال، وتنحصر في ثلاث صور، وضابطها أن يكون الإخوة مثليه، أي: مثله مرتين، وصورها ثلاث: جد وأَخَوَان لكل واحد سهم، جد وأخ وأختان؛ الأختان سهم والأخ سهم والجد سهم، جد وأربع أخَوات؛ الجد سهم وأختان سهم وأختان سهم، ففي هذه الحالات تستوي له المقاسمة وثلث المال.
أما إذا كان الإخوة خمسة، أو أخوين وأختاً، أو ثلاثة أخوة، أو خمس أخوات، ففي هذه الحالات يكون الإخوة أكثر من مثليه، فإذا كانوا أَخَوين وأختاً، فهم مثله مرتين ونصفاً، وكذلك أخ وثلاث أخوات مثله مرتين ونصف مرة، أو خمس أخوات فهن مثله مرتين ونصف مرة، ففي هذه الحالات لو قاسمهم ما حصل له إلا سبعان، أي: سهمان من سبعة وهذا أقل من الثلث، ففي هذه الحال يأخذ ثلث المال؛ لأنهم أكثر من مثليه.
هذا معنى قوله: (إذا لم يكن معه صاحب فرض فإنه يخيَّر بين أمرين المقاسمة أو ثلث جميع المال) .(53/3)
ما يأخذه الجد مع الإخوة إذا كان معهم صاحب فرض
فإن كان معه صاحب فرض، ففي هذه الحال نعطي صاحب الفرض فرضه ثم ننظر في الباقي، فنقول: له ثلاث حالات: إما المقاسمة، وإما ثلث الباقي، وإما سدس جميع المال.
فمثلاً: إذا كان يوجد معه جدة أو أم أو زوج أو زوجة أو بنت ففي هذه الحال ننظر في الباقي.
فإذا كان معه جدة، فإن الجدة تأخذ السدس، فإذا كان عندنا جد وأخت وجدة بقي عندنا خمسة أسداس بعد الجدة، فالأحَظُّ للجد المقاسمة، لأنه يأخذ من الخمسة الباقية ثلثيها، وتأخذ الأخت ثلثها، وتصح المسألة من ثمانية عشر، نعطي الجدة منها ثلاثة، بقي عندنا خمسة عشر، فالأخت تأخذ خمسة من ثمانية عشر، والجد يأخذ عشرة من ثمانية عشر فهي أكثر من النصف، فالمقاسمة أحظ له.
أما لو كان معنا زوج وأخت وجد، ففي هذه الحال يأخذ الزوج النصف، ويبقى معنا ثلاثة من ستة فننظر فإذا الزوج أخذ النصف والباقي نصف وهو ثلاثة من ستة، ومعنا جد وأخت، فنظرنا وإذا هم ثلاثة: الجد عن اثنين والأخت عن واحد، فيكون الأحظ للجد في هذه الحال المقاسمة أيضاً، لأنها خير من السدس وخير من ثلث الباقي، وللأخت ثلث الباقي.
أما إذا كثر أصحاب الفروض، كما إذا كان عندنا مثلاً زوج وأم وجد وإخوة، ففي هذه الحال للزوج النصف، والأم لها السدس، ويبقى سدسان للجد والإخوة، فلو قاسمهم لنقص عن السدس، فنقول يأخذ السدس كاملاً والسدس الباقي للإخوة يقتسمونه ولو كانوا عشرة.
فإذا لم يبق بعد الفروض إلا السدس أخذه، مثال ذلك: إذا كان عندنا زوج وبنتان وجد وإخوة، الزوج له الربع ثلاثة، والبنتان لهما الثلثان ثمانية، هذه أحد عشر، وبقي عندنا واحد من اثني عشر، فنعطي الجد السدس وتعول المسألة، ويسقط الإخوة ولو كانوا عشرة؛ لأن الجد لا يسقط ولا ينقص عن السدس كاملاً أو عائلاً.
فيقول: (إن كان) أي معه (صاحب فرض، فله خير ثلاثة أمور: المقاسمة، أو ثلث الباقي بعد صاحب الفرض، أو سدس جميع المال) .
عرفنا مثلاً أن المقاسمة أحظ له فيما إذا كان الباقي من المال أكثر من النصف، ومثَّلنا بما إذا كان عندنا جدة لها السدس والباقي خمسة أسداس، فإذا كان عندنا مثلاً جد وأخ فيكون للجد سدسان ونصف، وللأخ سدسان ونصف، أي: فله ثلث ونصف السدس، فيكون أكثر من ثلث المال، وهو أكثر وأحظ من ثلث الباقي.
وأما إذا كان عندنا مثلاً زوجة وأَخَوَان وجد، فالزوجة لها الربع، وبقي عندنا أَخَوان وجد، وبقي معنا ثلاثة أرباع، إذا قاسمهم أخذ سهماً وأخذ الأخوان سهمين، فتكون المقاسمة أحظ له من سدس المال، وإذا قلنا له ثلث الباقي فالباقي بعد فرض الزوجة ثلاثة، ففي هذه الحالة يستوي له المقاسمة وثلث الباقي.
فأما إذا كان عندنا بنتان وأم وجد وإخوة، فالبنتان لهما الثلثان أربعة من ستة، والأم لها السدس واحد من ستة، وبقي عندنا سدس يأخذه الجد ويسقط الإخوة، وهذا هو معنى قوله: (فإن لم يبق غيره أخذه وسقطوا) أي: يسقط الإخوة.(53/4)
المسألة الأكدرية
إلا في مسألة اسمها الأكدرية فإنه في هذه المسألة ترث الأخت ويفرض لها، ويقول الناظم: والأخت لا فرض مع الجد لها فيما عدا مسألة كمّلها زوج وأم وهما تمامها فافهم فخير أمة علامها تعرف يا صاح بالاكدريه وهي بأن تعرفها حريه فيفرض النصف لها والسدس له حتى تعول بالفروض المجملة ثم يعودان إلى المقاسمه كما مضى فاحفظه واشكر ناظمه فهي زوج وأم وجد وأخت لأبوين أو لأب، المتَّبع أن الزوج له النصف ثلاثة، وأن الأم لها الثلث لعدم الجمع من الإخوة، وأن الجد له السدس الباقي، وأن الأخت تسقط.
ولكن في هذه الحال جعلوا لها فرضاً، وذلك حتى يزيد نصيب الجد، فأعطوها النصف كالعادة أن الأخت ترث النصف، وأن الأختين ترثان الثلثين، إذا لم يكن هناك أب، وأن الجد مثل أحدهم.
ولكن في هذه المسألة فرضوا للأخت فأعطوا الأخت النصف ثلاثة، والزوج النصف ثلاثة، والجد السدس، والأم الثلث، فعالت المسألة إلى تسعة، ثم نجمع نصيب الأخت مع نصيب الجد ونقسمه بينهما، فالأخت لها ثلاثة من التسعة والجد له واحد، وهو يقول: أنا وأنتِ على حد سواء فلماذا لا نتقاسم فنجمع سهامنا الأربعة ونقسمها بيننا: لي سهمان ولك سهم، والأربعة لا تنقسم على الثلاثة، فنأخذ رءوسهم، وهم ثلاثة؛ لأن الجد عن اثنين وهي عن واحد، فنضرب ثلاثة في أصل المسألة مع عولها، أي: في تسعة، فتصح إذا ضربت ثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين، فتنقسم فتعطي الزوج ثلاثة مضروبة في ثلاثة بتسعة، وتعطي الأم اثنين مضروباً في ثلاثة بستة، ويبقى عندك سهامهم أربعة مضروبة في ثلاثة باثني عشر يقتسمونها، فللأخت أربعة وله ثمانية.
وربما: يلغِز بعضهم فيقول: ها هنا أربعة، أخذ أحدهم ثلث المال، وأخذ الثاني ثلث ما بقي، وأخذ الثالث ثلث الباقي، وأخذ الرابع الباقي.
وذلك أن الزوج أخذ تسعة، وهي ثلث الجميع، أي: ثلث سبعة وعشرين، بقي ثمانية عشر سهماً أخذت الأم منها ستة، وهي ثلث الثمانية عشر، بقي اثنا عشر، للأخت منها أربعة، وهي ثلث الاثني عشر، فهذه مسألة الأكدرية.
ولا يعول في مسائل الجد إلا هذه المسألة، ولا يفرض للأخت معه ابتداءً، إلا في هذه المسألة.(53/5)
مسائل المعادة
بعد ذلك ذكر أن الشقيق يَعُد ولد الأب على الجد ثم يأخذ ما بيده، لأنه يحجبه، وذلك لأن الأخ من أبوين أقوى من الأخ من أب فلأجل ذلك يحجبه.
وصورة المعادة: أن إذا كان معنا جد وأخ شقيق وأخ من أب فالجد ليس له دخل في أمهم يقول: أنتم سواء بالنسبة لي لأنكم تدلون بالأب، فالإخوة الأشقاء يزاحمون الجد، والإخوة من الأب يزاحمون الجد ويأخذون معه، فلو لم يكن معنا إلا إخوة من الأب لزاحموه وقاسموه، فإذا كان معنا أخ شقيق وأخ من أب فإن الأخ من الأب ينضم إلى الشقيق فيقولان: نحن الآن مثلك مرتين فلك الثلث ولنا الثلثان.
فإذا أخذا الثلثين فإن الأخ الشقيق يقول للأخ لأب: لو لم يكن إلا أنا وأنت هل ترث؟ لا ترث، لأني أقوى منك.
فيأخذ نصيب الأخ من الأب، فهو يعده على الجد، ثم يأخذ نصيبه لأنه ليس وارثاً معه، أي: يعده على الجد ثم يأخذ ما حصل له.
متى يستعمل المعادّة؟ إذا كان الأشقاء أقل من مثلي الجد؛ فإنهم لو كانوا أقل من مثلي الجد فإنهم يعدون الإخوة لأب على الجد، ثم بعد ذلك يأخذون ما بيد الإخوة من الأب، ويقولون: ليس لكم شيء نحن أقوى منكم.
إذا كان الإخوة من الأبوين: أختاً واحدة شقيقة ومعها إخوة من الأب، فإن الشقيقة تقول لهم: هلموا معي حتى نزاحم الجد وحتى نعطيه الثلث، فتأخذ معها أخت وأخ من الأب، فبذلك يكونون مثل الجد مرتين: أختين واحدة شقيقة وواحدة من الأب، وأخاً من الأب، فيكونون مثلي الجد، فيأخذون الثلثين ويأخذ الجد الثلث.
في هذه الحال تقول لهم الأخت الشقيقة: أنا أقوى منكم، فإنه لو لم يكن إلا أنا وأنتم لأخذت النصف كاملاً، فالآن آخذ ميراثي كاملاً وهو النصف وما بقي فلكم، ففي هذه الحال تأخذ نصف المال، فننظر وإذا مخرج النصف من اثنين، والمسألة من ثلاثة، فإذا ضربنا اثنين في ثلاثة بستة، قلنا: للجد اثنان، وللأخت ثلاثة، وللأخ والأخت من الأب واحد من ستة؛ لأن الأخت أخذت نصفها كاملاً وما بقي فللأخ من الأب والأخت من الأب الذين كملوا الأخت الشقيقة حتى صاروا مثل الجد مرتين، فتأخذ الأنثى لأبوين تمام فرضها وهو النصف، والباقي لولد الأب.
العادة أنه لا يبقى لولد الأب إلا سدس، إذا كانت الأخت واحدة وأولاد الأب عشرة فإنها تعدهم على الجد وتقول: يا جد لك ثلث المال لأننا أكثر من مثليك، فلك ثلث المال ولنا الثلثان.
وإذا أخذوا الثلثين قالت للإخوة من الأب: لو لم يكن إلا أنا وأنتم لكان نصيبي النصف وباقي المال لكم، والآن أنا آخذ نصيبي كاملاً وهو نصف التركة، ويبقى الباقي لكم فاقتسموه بينكم.
هذا على وجه الاختصار، ومن أراد التوسع فليقرأ في المؤلفات التي فيها الأمثلة بكثرة.(53/6)
مسائل الحجب
ننتقل إلى الفصل الذي بعده، ويتعلق بالحجب، فذكر أن حجب الحرمان لا يدخل على الزوج والأبوين والولد، وذكر أن الحجب ينقسم إلى قسمين: حجب حرمان وحجب نقصان.
فالحجب مطلقاً تعريفه أنه: منع من قام به سبب الإرث من إرثه بالكلية أو من أوفر حظيه.
فإذا مُنِع من إرثه بالكلية سميناه حجب حرمان، وإذا مُنِع من أوفر حظيه سميناه حجب نقصان.
ثم حجب الحرمان ينقسم إلى قسمين: حجب أوصاف، وحجب أشخاص.
حجب الأوصاف: هو موانع الإرث التي تقدمت: (رقٌ وقتل واختلاف دين) ، فمن قام به مانع منها فهو محجوب بصفة.
وأما حجب الأشخاص: فهو الذي يكون محجوباً بمن هو أقرب منه، أي: فهناك شخص أقرب منه أو أقوى منه فيحجبه ويُسقِطه.
ثم حجب النقصان: هو حجبه من أوفر حظيه.
إذا كان له حظان أحدهما واف والآخر ناقص، فإذا حُجِب من الوافي فهذا حجب نقصان، ويدخل حجب النقصان على جميع الورثة.(53/7)
أقسام الورثة بالنسبة لحجب الحرمان
وينقسم الورثة بالنسبة إلى حجب الحرمان إلى أربعة أقسام: قسم يحجبون ويُحجَبون، وقسم يحجبون ولا يُحجَبون، وقسم لا يحجبون ولا يُحجَبون، وقسم يُحجَبون ولا يَحجبون.
فالذين لا يحجبون ولا يحجبون الزوجان، فلا يحجبان أحداً حجب حرمان ولا يحجبهم أحد.
والذين يُحجَبون ولا يحجبون هم الإخوة من الأم، يحجبهم الولد والأب والجد، ولا يحجبون أحداً حجب حرمان.
والذين يحجبون غيرهم ولا يحجبهم أحد هم الأولاد: الأبناء والبنات، هؤلاء لا يحجبهم أحد ولا يسقطهم أحد.
بقية الورثة كالإخوة وبنيهم وبني البنين والأخوات والأعمام يحجبون ويُحجَبون.(53/8)
أقسام الورثة بالنسبة لحجب النقصان
أما حجب النقصان فذكروا أنه سبعة أنواع: أربع انتقالات، وثلاث ازدحامات: الأول: انتقال من فرض إلى فرض أقل منه.
الثاني: انتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه.
الثالث: انتقال من تعصيب إلى فرض أقل منه.
الرابع: انتقال من تعصيب إلى تعصيب أقل منه.
نذكر لكل واحد مثالاً حتى لا يطول: فالأم لها فرضان الثلث والسدس، فإذا انتقلت من الثلث إلى السدس فهذا انتقال من فرض إلى فرض أقل منه، أعني إذا كان هناك ولد -مثلاً- منعها من الثلث إلى السدس.
والزوج له فرضان النصف والربع، فإذا انتقل من النصف إلى الربع، فقد انتقل من فرض إلى فرض أقل منه، فيسمى هذا حجب نقصان.
وأما الانتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه، فمثاله البنت، إذا كانت وحدها ففرضها النصف، فإذا كان معها أخوها انتقلت إلى التعصيب ولم يحصل لها إلا الثلث، فانتقلت من فرض النصف إلى تعصيب الثلث، وقد يكون أقل من الثلث إذا كان إخوتها اثنين أو أكثر، وهذا انتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه.
وأما الانتقال من تعصيب إلى فرض أقل منه، فمثاله الأب، إذا كان وحده أخذ المال كله تعصيباً، فإذا كان معه ابن نقله من التعصيب إلى فرض وهو السدس، فلا يصير له إلا السدس، فانتقل من تعصيب يأخذ به المال كله إلى فرض ليس له فيه إلا السدس.
وأما الانتقال من تعصيب إلى تعصيب أقل منه، فمثاله: الأخت مع أخيها تأخذ الثلث تعصيباً بالغير، فإذا كان هناك بنتان وأم وليس معها أخ فإنها بدل ما تأخذ الثلث مع أخيها لا يحصل لها إلا السدس تعصيباً، لكن تعصيبها مع أخيها تعصيب بالغير، وتعصيبها مع البنتين تعصيب مع الغير، فانتقلت من تعصيب إلى تعصيب أقل منه.(53/9)
من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة
وقد ذكر المصنف هنا أن الزوجين والأبوين والولد لا يحجبون حجب حرمان، فالزوج لابد أن يرث، وكذلك الزوجة، والأم ترث ولا أحد يسقطها، ولا بد أن الأب يرث ولا أحد يسقطه، وكذلك البنت ترث ولا أحد يسقطها، وكذلك الابن، فهؤلاء لا يسقطهم أحد.
وأما الجد فإنه يسقط بالأب، ولا يسقطه إلا الأب، لماذا؟ لأنه واسطته، ومن قواعدهم: من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة.
واستثنوا من ذلك ما تقدم، وهو أولاد الأم يدلون بالأم ويرثون معها، فيرثون مع من أدلوا به، وأما الجد فإنه يدلي بالأب فيسقطه الأب، وكل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، وكل جد يسقط بمن هو أقرب منه، فإذا كان عندنا جد الميت وجد أبيه فإن الإرث لجده ويسقُط جد أبيه لأنه أبعد، وكل أبعد يسقط بالأقرب.
كذلك الابن يُسقِط ابن الابن ولو لم يكن مدلياً به، فإذا مات ميت وله ابن موجود وابن قد مات وترك ابناً، فإن الابن الموجود يُسقِط ابن أخيه ويقول له: أنا في الدرجة الأولى وأنت في الدرجة الثانية، أنا ابن وأنت ابن ابن، فالذي في الدرجة الأولى أقرب، فكل قريب يُسقِط من هو أبعد منه.
وفي هذه الحال ذكروا أنه يستحب للأب أن يوصي لأولاد ابنه إذا مات ابنه قبله، فيوصي لهم جدهم فلا يُحرمون، ولكن لا يكون ذلك واجباً.(53/10)
ميراث الجدات وحجبهن
يقول: (وكل جدة بأم) الجدات يرثن ولكن تسقطهن الأم؛ لأن الأم هي التي باشرت الولادة، والجدات يرثن بالأمومة والأم هي المباشرة، فتُسقِط الجدةَ أم الأم وأمها وإن بعدت، وتسقط القربى بمن هو أبعد منها، فالقربى تحجب البعدى مطلقاً، يقول الناظم: وتسقط البعدى بذات القرب في المذهب الأولى فقل لي حسبي فإذا كان عندنا جدة وأم جدة فإن الجدة القريبة تسقط أمها، وكذلك إذا كان عندنا أم أم وأم أم أم فإن أم الأم تسقط أم أم الأم البعيدة.
يستثنى من ذلك أن الجدة أم الأب ترث مع ابنها، فلا يُسقط الأبُ أمَّه ولا أمَّ أبيه، بل ترث معه، فهذه تستثنى من القاعدة التي تقول: من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، فأم الأب ترث مع الأب ولو كان هو واسطتها، لماذا؟ لأنها ترث بالأمومة أي: ترث بالولادة فهي أم، ووسيلتها الولادة، وإذا كان كذلك فإنه لا يسقطها إلا الأم، وأما ولدها فلا يسقطها، فالأب لا يُسقط أمَّه، ولا يُسقط أمَّ أبيه التي هي جدة وارثة.
ولا يرث من الجدات إلا ثلاث: أم الأم وأم الأب وأم الجد أب الأب وإن علون أمومة، معنا أم أم أم أم ولو كانت في الدرجة الرابعة أو الخامسة وليس هناك أقرب منها، فهذه واحدة من قبل الأم.
الثانية: من قبل الأب: أم أم أب أو أم أم أم أب في الدرجة الرابعة.
الثالثة: من قبل الجد، أم أب أب، أو أم أم أب أب وإن علت، إذا كانت من جهة الجد أب الأب.
فهؤلاء الجدات الثلاث، القريبة منهن في سلسلة واحدة تسقط البعيدة، وإذا اجتمعن: وإن تساوى نسب الجدات وكن كلهن وارثات فالسدس بينهن بالسوية في القسمة العادلة الشرعية فلو كان هناك أم أم أم في الدرجة الثالثة، وأم أم أب، وأم أب أب، فإذا استوين في هذا اقتسمن السدس، فيكون السدس بينهن بالسوية.
ثم ذكروا أن من أدلت بقرابتين مع ذات قرابة واحدة أخذت ثلثي السدس، فلو أن إنساناً تزوج بنت عمّته، وولد له ولد، فجدة الزوج تقول لولدهما: أنا جدتك أم أم أمك وأنا جدتك أيضاً أم أب أبيك؛ لأنه يتزوج بنت عمته فعمته أخت أبيه من الأم أو من الأب، فعمته هي بنت جدته وأبوه ابن جدته نفسها، فالجدة أم لأبيه ولعمته، والولد تكون الجدة جدته من جهتين، فإذا كان له جدة أخرى وهي أم أم أبيه فإنها ترث ثلث السدس، وهذه الجدة ترث ثلثي السدس لأنها أدلت بقرابتين.(53/11)
كيفية التقديم بين العصبات
يقول: (ويسقط ولد الأبوين، يعني الأخ، بالابن وإن نزل والأب) يقول الناظم: وتسقط الإخوة بالبنينا وبالأب الأدنى كما روينا ولد الأبوين ذكوراً وإناثاً: الإخوة والأخوات، يُسقِطهم الابن ويُسقِطهم الأب، فولد الأبوين وهم الأشقاء، يسقُطون بالأبناء وبالأب الأدنى.
ويسقط الأخ من الأب بهؤلاء: أي يسقط بالابن وابن الابن والأب، ويسقط بالأخ الشقيق.
ويسقط ابن الأخ بهؤلاء: ابن الأخ يسقط بالابن وابن الابن والأب وبالأخ من الأب، ويسقط بالجد.
ويسقط ولد الأم بستة: الإخوة من الأم يسقطون بالولد، أي الابن والبنت، ويسقط بابن الابن وبنت الابن، ويسقط بالأب وبالجد.
الطريقة في هذا، ذكروا بعض القواعد في الإسقاط فقالوا: إن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، وأن القريب يسقط بالبعيد ولو لم يكن مدلياً به، وأن الإخوة يسقطون بالأب لأنه واسطتهم، ويسقطون بالابن وذلك لأن الله ما ورّث الإخوة إلا إذا كانت المسألة كلالة، لقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] ، فجعل ميراثهم فيما إذا كانت المسألة كلالة، والكلالة: من ليس له ولد ولا والد، أي: من ليس له أب ولا ابن، ولا ابن ابن ولا أب أب، فالإخوة يَسقطون بمن هو أقوى منهم ومن هو أقرب منهم.
وهناك بيت ذكره الشيخ ابن باز رحمه الله في الفوائد، نقله عن الجعبري في منظومته يقول فيه: فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا ومعنى ذلك أنه يُقدم بالجهة، ثم بعد ذلك بالقرب، ثم بعد ذلك بالقوة: فالجهة مثلاً: جهة البنوة أقوى من جهة الأبوة فيُقدم بجهة البنوة.
ثم جهة البنوة فيها أيضاً قرب، فإن البنوة يدخل فيها الابن وابن الابن وابن ابن الابن ولو بعُد.
فيقول: (ثم بقربه) أي: ثم تقدم بالقرب، فإذا كان الوارثان في جهة، ولكن أحدهما أقرب من الآخر قدّمته بقربه، فعندك الأخ يُسقط ابن الأخ، وابن الأخ يُسقط ابن ابن الأخ وإن بعُد بسبب القرب.
وكذلك العم يسقط ابن العم، وذلك لقربه.
وأما القوة فتكون في الإخوة والأعمام، فإذا كان أخوان أحدهما لأب والآخر لأبوين، فكلاهما بالقرب والجهة سواء، لكن أحدهما أقوى، فالشقيق أقوى من الأخ لأب، ففي هذه الحال يُقدم الشقيق، هذا هو التقديم بالقوة.
وكذلك العم، يكون عماً شقيقاً وعماً لأب، فالعم الشقيق أقوى فيحجب العم لأب ويسقطه.
فعرفنا أن القرب يكون في الجهات، فالابن يسقط ابن الابن، وابن الابن يسقط ابن ابن الابن وهكذا، والأب يسقط الجد، والجد يسقط جد الأب وهكذا، والأخ يسقط ابن الأخ، وابن الأخ يسقط ابن ابن الأخ، والعم يسقط ابن العم، وابن العم يسقط ابن ابن العم وما أشبهه.
وكذلك أيضاً القوة.(53/12)
حكم حجب من لا يرث لمانعٍ غيره
ثم يقول: (من لا يرث لمانع فيه لا يحجب) ، أي: إذا كان محجوباً بمانع فإنه لا يَحجب غيره، مثاله الموانع الثلاثة: رق وقتل واختلاف دين، فمثل هؤلاء لا يحجبون، فإذا كان رقيقاً ولأبيه زوجة ومات، فإن زوجته تأخذ الربع ولا يحجبها ابنه إلى الثمن؛ لأنه لا يرث ولا يورث.(53/13)
شرح أخصر المختصرات [54]
مما يتعلق بعلم الفرائض: معرفة أحوال الورثة، فالورثة إما ذوو فرض أو عصبة، فالعاصب يرث المال إذا انفرد، ويأخذ الباقي بعد الفروض، فإن لم يبق شيء سقط، وهم إما عصبة بالنفس أو بالغير أو مع الغير، ولهم أحوال مختلفة، وبعضهم قد ينتقل من الفرض إلى التعصيب، وقد فصل العلماء ميراث العصبات، وحالاتهم، وكيفية التقديم بينهم إذا اجتمعوا.
ومما يتعلق بالمواريث: معرفة أصول المسائل، فهو علم متعلق بالحساب، ويحتاج إليه في معرفة أصول المسائل، وما يعول منها وما لا يعول، وكيفية العمل في الرد والعول، ومعرفة قسمة التركات بالطرق المختلفة، حتى يعطى كل وارث حقه الذي أعطاه الله تعالى.(54/1)
ذكر العصبة بالنفس وإرثهم
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والعصبة يأخذ ما أبقت الفروض، وإن لم يبق شيء سقط مطلقاً، وإن انفرد أخذ جميع المال، لكن للجد والأب ثلاث حالات: فيرثان بالتعصيب فقط مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض فقط مع ذكوريته، وبالفرض والتعصيب مع أنوثيته.
وأخت فأكثر مع بنت أو بنت ابن فأكثر يرثن ما فضل.
والابن وابنه والأخ لأبوين أو لأب يعصبون أخواتهم، فلذكر مثلا ما لأنثى، ومتى كان العاصب عماً أو ابنه أو ابن أخ انفرد بالإرث دون أخواته، وإن عدمت عصبة النسب ورث المولى المعتِق مطلقاً، ثم عصبته الذكور، والأقرب فالأقرب كالنسب.
فصل: أصول المسائل سبعة: أربعة لا تعول، وهي ما فيها فرض أو فرضان من نوع، فنصفان أو نصف والبقية من اثنين، وثلثان أو ثلث والبقية من ثلاثة، وربع والبقية أو مع النصف من أربعة، وثمن والبقية أو مع النصف من ثمانية] .(54/2)
تعداد العصبات بالنفس
العصبة: هي الإرث بلا تقدير، وقد ذكروا أنهم ثلاثة أقسام: 1- عصبة بالنفس.
2- عصبة بالغير.
3- عصبة مع الغير.
فالعصبة بالنفس كلهم ذكور، وهم: الأب والجد وإن علا، والابن وابن الابن وإن نزل، والأخ الشقيق، والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعم الشقيق، والعم لأب، وابن العم الشقيق، وابن العم لأب، والمعتق والمعتقة، هؤلاء هم العصبة بالنفس، فكلهم ذكور إلا المعتقة، يقول الناظم: وليس في النساء طراً عصبة إلا التي منت بعتق الرقبة فالعصبة: هم الذين يرثون بلا تقدير.
وذكر أن للعاصب ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يأخذ ما أبقت الفروض قليلاً أو كثيراً.
والحالة الثانية: أن يسقط إذا استغرقت الفروض التركة.
والحالة الثالثة: أن يأخذ جميع المال إذا انفرد.
هذه حالات المعصب: إذا انفرد حاز المال، وإن بقي شيء بعد أهل الفروض أخذه، وإن استغرقت الفروض التركة سقط.(54/3)
أمثلة على أخذ العصبة للمال كله
فمثاله الأب: إذا لم يكن معه غيره أخذ المال كله، وكذلك الابن إذا انفرد أخذ المال كله، وكذلك ابن الابن، والجد، والأخ، وابنه، والعم، وابنه؛ فمن انفرد منهم ولم يزاحمه أحد أخذ المال كله.(54/4)
أمثلة على أخذ العصبة ما أبقت الفروض
وإذا بقي شيء بعد أهل الفروض أخذه، فإذا ماتت امرأة عن زوج وبنت وابن ابن، فعندنا الزوج له فرض الربع لوجود الفرع الوارث، والبنت لها فرض النصف، فتأخذ البنت اثنين من أربعة، والزوج واحد من أربعة، ويبقى الربع يأخذه ابن الابن تعصيباً، فهو أخذ ما بقي بعد أهل الفروض.
ولو بقي قليل فإنه يأخذه، فلو كان عندنا بنتان وأم وزوجة وأخت شقيقة، أو ابن ابن، أو أخ شقيق، أليس البنتان لهما الثلثان ستة عشر من أربعة وعشرين؟ أليس الأم لها السدس أربعة من أربعة وعشرين؟ هذه عشرون، أليس الزوجة لها الثمن ثلاثة من الأربعة والعشرين؟ هذه ثلاثة وعشرون، بقي سهم واحد: ثلث الثمن، يأخذه ابن الابن مثلاً؛ لأنه المعصب، فيأخذه المعصب، سواء كان ابن الابن، أو الأخ الشقيق، أو الأخ لأب، أو العم الشقيق، أو العم لأب، أو ابن أحدهما، فيأخذه، مع أنه ما بقي إلا ثلث الثمن، فهذا بيان أنه إذا أبقت الفروض شيئاً أخذه المعصب قليلاً كان أو كثيراً.
فإذا كان عندنا ابن وزوجة، هل الابن يرث بالفرض أو بالتعصيب؟ الابن يرث بالتعصيب، ولا يرث بالفرض، ولكن يحجب الزوجة إلى الثمن، فللزوجة الثمن، والباقي للابن سبعة أثمان، والابن أخذ ما بقي، فإن كان معنا زوج وأبوان وابن، فالزوج له الربع، والأبوان لكل واحد منهما السدس، والابن له الباقي، فنعطي الأبوين أربعة من اثني عشر، والزوج ثلاثة من اثني عشر، فهذه سبعة، يبقى خمسة يأخذها الابن، أي أنه ما بقي له إلا أقل من النصف، فهو يأخذ ما بقي.
وكذلك إذا كان عندك بنت، وزوج، وأم، وعم، في هذه الحال: البنت لها النصف ستة، والزوج له الربع ثلاثة من اثني عشر، والأم لها السدس اثنان من اثني عشر، بقي نصف السدس يأخذه العم تعصيباً، فهو المعصب، فيأخذ ما أبقت الفروض قليلاً كان أو كثيراً.(54/5)
أمثلة سقوط العصبة لاستغراق الفروض
وإن استغرقت الفروض التركة سقط، فهذه حالة من حالاته، إلا الابن والأب فلا يسقطان، وذلك لأن الابن يحجب أهل الفروض الكثيرة: فيحجب الأخوات، وكذلك ينقص الأم فلا تأخذ إلا السدس، وينقص الأبوين فلا يأخذ كل واحد منهما إلا السدس، وينقص الزوج فلا يأخذ إلا الربع، أو الزوجة فلا تأخذ إلا ثمن، فيتوفر له الباقي، فلا يمكن أن يسقط؛ لأنه لما حجبهم ومنعهم من أن يأخذوا الحظ الأوفر، لم يمكن أن تستغرق الفروض التركة.
ومثال استغراق الفروض التركة: لو ماتت امرأة عن زوج وأخت شقيقة وعم، أليس الزوج له النصف؟ أليس الشقيقة لها النصف؟ نصفان هل بقي شيء للعم؟ ما بقي شيء، فيسقط العم، وكذلك لو كان ابن أخ ما بقي له شيء فيسقط؛ لاستغراق الفروض التركة، هذا استغراق الفروض.
فإذا كان عندنا أختان شقيقتان، وأختان لأم، وأخ من الأب، أليس الشقيقتان ترثان الثلثين، والأخوان من الأم يرثان الثلث؟ هل بقي شيء للأخ من الأب؟ لا.
فقد استغرقت الفروض التركة وإذا استغرقت الفروض التركة سقط.
فهذه حالات المعصب: إذا انفرد حاز المال، وإن بقي شيء بعد أهل الفروض أخذه، وإن استغرقت الفروض التركة سقط.(54/6)
حالات إرث الأب والجد
ثم ذكر أن الجد والأب لكل منهما ثلاث حالات: تارة يرث بالفرض، وتارة يرث بالتعصيب، وتارة يجمع بينهما.
فيرثان بالتعصيب فقط مع عدم الولد وولد الابن ذكوراً وإناثاً؛ فإذا لم يكن عندك إلا أب أخذ المال.
وكذلك لو كان هناك زوج أو زوجة أو أم، فالجد في هذه الحال، هل يرث بالفرض؟ لا يرث بالفرض، بل يرث بالتعصيب، ولا يرث بالفرض إلا إذا كان معه أحد الأولاد، فإن كان معه ابن، أو بنون، أو بنون وبنات، فليس له إلا فرض، وهو السدس: هلك هالك عن أب وابن، فللأب السدس والباقي للابن تعصيباً، وكذلك لو كان معه أم، أعطيت الأب السدس والأم السدس، والباقي للابن، وكذلك لو كان معهم زوج، أعطيت الأبوين السدسين، والزوج الربع، والباقي للابن، فالأب إذا كان هناك أبناء قليلون أو كثيرون فليس له إلا السدس، فهو يرث بالفرض مع ذكور الأولاد، وكذلك ولد الابن، فإذا كان مع الأب ابن ابن، فليس للأب إلا السدس، أو ابن ابن ابن وأب، فللأب السدس، لا يزيد ميراثه عن السدس إذا كان معه ابن أو بنون، أو ابن ابن، أو ابن ابن ابن، فيرث بالفرض مع ذكور الأولاد.
ويرث بالتعصيب إذا لم يوجد ابن، ولا بنت، ولا ابن ابن، ولا بنت ابن، ولا أولاد ذكور أو إناث، ولا أولاد بنين ذكور أو إناث، فإن كان وحده أخذ المال، وإن كان معه أصحاب فروض أخذ ما بقي، والأب لا يسقط بحال، أما الجد فهو مثل الأب، يقول الناظم: والجد مثل الأب عند فقده في حوز ما يصيبه ومده إلا إذا كان هناك أخوة لكونهم في القرب وهو أسوة.
ويقول في الحجب: والجد محجوب عن الميراث بالأب في أحواله الثلاث يعني: أن الأب له ثلاثة أحوال: حال يرث فيها بالفرض، وحال بالتعصيب، وحال يجمع بينهما.
متى يجمع الجد أو الأب بين الفرض والتعصيب؟ إذا كان هناك إناث من الولد، يعني: من الذرية، وبقي شيء بعد أهل الفروض، فإن الأب أو الجد أولى به، فيأخذه تعصيباً.
فإذا مات ميت عن أب وبنت، أليس الأب له السدس فرضاً، والبنت لها النصف فرضاً؟ وبقي عندنا ثلث يأخذه الأب تعصيباً.
وكذا لو مات عن بنت وجد، نعطي الجد السدس، ونعطي البنت النصف، ونعطي الباقي للجد تعصيباً، وكذا لو كان عندنا بنتان وأب، أليس البنتان لهما الثلثان، والجد أو الأب له السدس فرضاً؟ ويبقى عندنا سدس يأخذه الأب أو الجد تعصيباً، فيجمع بين الفرض والتعصيب مع الإناث.
فإن لم يبق إلا السدس أخذه، فلو كان عندنا بنتان وأم وأب، أليس البنتان لهما الثلثان أربعة من ستة، والأم لها السدس واحد من ستة؟ ما بقي إلا واحد يأخذه الأب فرضاً، وليس هناك تعصيب، فاستغرقت الفروض التركة، فما بقي شيء يأخذه تعصيباً في هذه الحال، وكذلك لو عالت المسألة، فإنه لا يبقى له شيء، وإنما يأخذ سهمه السدس من عولها.
فالحاصل أن للأب والجد ثلاث حالات: الحالة الأولى: التعصيب فقط، وذلك إذا لم يكن هناك ابن، ولا ابن ابن، ولا بنت، ولا بنت ابن، ففي هذه الحال يرث الموجود منهما بالتعصيب.
الحالة الثانية: بالفرض فقط، وذلك مع الابن، أو ابن الابن، أي: مع ذكور الولد؛ الابن وابن الابن وإن نزل.
الحالة الثالثة: الجمع بين الفرض والتعصيب مع الإناث من الفرع الوارث، فيأخذ ما بقي بعد أهل الفروض، قليلاً كان أو كثيراً، وإن لم يبق شيء اقتصر على السدس، الذي هو فرضه.(54/7)
العصبة مع الغير والعصبة بالغير(54/8)
ميراث العصبة مع الغير
يقول: (وأخت فأكثر مع بنت أو بنت ابن فأكثر يرثن ما فضل) .
ويسمى هذا: التعصيب مع الغير، فالأخوات مع البنات عصبات، دليل ذلك حديث ابن مسعود: (فإنه رفع إليه رجل مات، وله بنت وبنت ابن وأخت شقيقة، فسألوا أبا موسى فجعل المال نصفين بين البنت والأخت، وأسقط بنت الابن، وقال للسائل: ائت ابن مسعود فسيوافقني) ، ظن أبو موسى أن الله ذكر البنت في أول السورة بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] ، وذكر الأخت في آخر السورة بقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] فأعطى البنت النصف والأخت النصف، وأسقط بنت الابن.
(فجاءوا إلى ابن مسعود فأخبروه بجواب أبي موسى، فقال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت) .
فهذا الحديث فيه أن الأخت أخذت الباقي، ومعلوم أنه ليس فرضاً، فإن الأخت لا ترث فرضاً إلا في الكلالة، وهاهنا ليست المسألة كلالة؛ لوجود الفرع الوارث، وهو البنت وبنت الابن، فإنهما من الولد، والله تعالى ما ورّث الأخت إلا مع عدم الولد؛ لقوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] ، فلذلك أعطوا البنت النصف، وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وبقي ثلث، فأعطوا الأخت، وسموا هذا تعصيباً مع الغير.
القياس في هذه المسألة: أن نعطي البنت النصف، وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، ونقول الباقي لأولى رجل ذكر؛ وذلك لأن الأخت لا ترث إلا في الكلالة، وهاهنا ليست المسألة كلالة، ولأن الله تعالى إنما ورّث الأخت عند عدم الولد: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] ، وهاهنا الولد موجود، فإن البنت ولد، وبنت الابن ولد، فهذا هو القياس، ولكن اتبعنا النص، وهو الحديث، وقلنا: لا قياس مع النص، وجعلنا الأخت لها الباقي، وسميناه تعصيباً مع الغير، فتأخذ ما بقي في المسألة قليلاً كان أو كثيراً، وقد تُقَدَّم في هذه الحال على الذكور.
فلو مات ميت عن بنت وأخت شقيقة، وأخ من الأب، فإن البنت لها النصف فرضاً، والنصف الباقي نعطيه الشقيقة تعصيباً مع الغير، ولا شيء للأخ من الأب؛ لأن الأخت الشقيقة أصبحت عصبة مع الغير، فتكون أقدم منه، فهذا معنى: أن الأخت أو الأخوات مع البنت أو بنت الابن فأكثر يرثن ما فضل، قليلاً كان أو كثيراً.
فبنت وخمس أخوات شقائق: للبنت النصف فرضاً، والباقي للأخوات الشقائق.
بنتان وأخوات شقائق أو من الأب: للبنتين الثلثان، والباقي للأخوات من الأب، أو الأخوات الشقائق تعصيباً مع الغير.
بنتان وأم وخمس أخوات شقائق: البنتان لهما الثلثان أربعة من ستة، والأم لها السدس واحد من ستة، ويبقى عندنا السدس تأخذه الأخوات تعصيباً مع الغير.
إذا كان عندنا بنتان، وأم، وزوجة، وعشر أخوات شقائق: في هذه الحال البنتان لهما الثلثان ستة عشر من أربعة وعشرين، والأم لها السدس أربعة من أربعة وعشرين، فهذه عشرون، والزوجة لها الثمن ثلاثة من أربعة وعشرين، بقي واحد من أربعة وعشرين تأخذه الأخوات الشقائق أو الأخوات لأب، ونسميه تعصيباً مع الغير، فيأخذن ما فضل.
وكذا لو كان بدل البنات بنات ابن: فإذا مات ميت عن بنتي ابن وأخت شقيقة؛ فلبنتي الابن الثلثان، وللأخت الشقيقة ما بقي تعصيباً وكذلك إذا كانت أختاً لأب.(54/9)
ميراث العصبة بالغير
يقول: (الابن وابنه، والأخ لأبوين أو لأب، يعصبون أخواتهم، فللذكر مثلا ما للأنثى) .
يسمى هذا تعصيباً بالغير، وبذلك تعرف أن التعصيب ثلاثة: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.
فالعصبة بالغير هم: البنت مع أخيها، وبنت الابن مع أخيها أو ابن عمها الذي في درجتها، والشقيقة مع أخيها، والأخت من الأب مع أخيها.
فهؤلاء يعصبون أخواتهم، فينقلونهن من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب، فيكون لهم المال أو ما بقي.
فإذا كان عندك أم وأب وزوج، وثلاثة أبناء وثلاث بنات، فهل تعطي البنات فرضاً أو تعصيباً؟ تعطيهن تعصيباً؛ لوجود إخوتهن، وهم الأبناء، فيأخذ أهل الفروض فروضهم، ثم الباقي للأولاد ذكوراً وإناثاً، ويكون تعصيباً، ولو لم يكن عندك إلا البنات لورثن الثلثين فرضاً، ولعالت لهن المسألة.
إذا كان عندك أم لها السدس، وأب له سدس، فهذه أربعة من اثني عشر، وزوج له ربع هذه سبعة، والبنتان لهما الثلثان ثمانية، فتعول إلى خمسة عشر، فيكون لهن ثمانية من خمسة عشر، ولما جاء معهن أخوهن أو إخوتهن نقلوهن إلى التعصيب، ولم يحصل للجميع إلا خمسة من اثني عشر، فقلّ نصيبهن، فالأخ لما نقلهن إلى التعصيب نقص حظهن.
وكذلك بنات الابن، فالابن يعصب أخته، فإذا انفرد ابن وأخته أو أخواته فلهم المال، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ابن الابن وبنت الابن ولو لم تكن أخته، كما لو كانت بنت عمه في درجته، أو هو أنزل منها واحتاجت إليه، فإنه يعصبها، وينقلها إلى الإرث بالتعصيب.
وقد يكون أخاً مباركاً، وقد يكون أخاً مشئوماً: فالأخ المبارك، كما لو كان عندك بنتان وعم وخمس بنات ابن، فهل تعطي بنات الابن شيئاً؟ ليس لهن شيء؛ لأن الثلثين أخذه بنات الصلب، والثلث الباقي يأخذه العم، ويسقط بنات الابن، فإذا وجد معهن أخوهن، أو ابن عمهن في درجتهن، أخذوا الثلث الباقي، واقتسمه هو وأخواته أو بنات عمه، ويسمى هذا تعصيباً بالغير، وسقط العم، فيسمى أخاً مباركاً، حيث ورثن معه وقد كن ساقطات؛ لأن البنات إذا استغرقن الثلثين سقط بنات الابن.
وأما إذا أخذ بنات الابن السدس مع بنت الصلب، وكان عندك ابن ابن ابن فإنه يأخذ الباقي تعصيباً: مثاله: مات ميت عن بنت الصلب لها النصف، وبنت ابن لها السدس تكملة الثلثين، وابن ابن ابن له الباقي تعصيباً، وفي هذه الحال لا تشاركه بنت الابن؛ لأنها أخذت فرضها، فلو كانت ساقطة، كما لو مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن؛ فإن ابن ابن الابن يعصب عمته التي هي أخت أبيه، فيأخذ الثلث الباقي هو وإياها، فهي تقول له: لو كان أبوك حياً لورثت معه فإني في منزلته، وإذا كان مفقوداً فأنت تقوم مقامه، فأرث معك كما أرث مع أبيك، فيعصب عمته، ويعصب أخته التي هي بنت ابن ابن.
كذلك الأخوات: فالأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق عصبة بالغير، أي: أنه إذا كان عندنا بنتان وزوج وأخ شقيق وأخت شقيقة، فإن الأخ الشقيق والأخت الشقيقة يأخذان ما بقي وهو نصف السدس، ويسمى تعصيباً بالغير، وكذا لو كان عندك زوج، وأم، وأخ من أم، وأخ شقيق وأخته، ففي هذه الحال إذا أعطيت الزوج النصف، والأم السدس؛ لوجود الجمع من الإخوة، والأخ من أم السدس، بقي عندك سدس يأخذه الشقيق وأخته، لو لم يكن معه أخت لانفرد بالمال، ولو لم يكن معها أخ لورثت فرضاً، فلما كان معه أخت أخذا الباقي تعصيباً، فهو نقلها إلى الإرث بالتعصيب.
وكذلك الأخ من الأب مع الأخت من أب، أي: كلاهما أخ للميت من أبيه، فيرثان المال تعصيباً، أو يرثان ما بقي بعد أهل الفروض تعصيباً، قليلاً كان أو كثيراً.
فالعصبة بالغير هؤلاء الأربعة: الابن مع أخته أو أخواته، وابن الابن مع أخته أو بنت عمه أو أخواته أو بنات عمه، والأخ الشقيق مع أخته أو أخواته، والأخ من الأب مع أخته أو أخواته، فيسمون عصبة بالغير، فللذكر مثل حظ الأنثيين.
العم هل يعصب أخته؟ لا يعصبها، بل يأخذ المال وحده، والعمة لا ترث.
وابن العم هل ترث معه بنت العم؟ لا ترث؛ لأنها ليست من الورثة.
ابن الأخ هل يعصب بنت الأخ؟ لا يعصبها، بل يأخذ المال كله دون أخته، يقول الناظم: وليس ابن الأخ بالمعصب من مثله أو فوقه في النسب أي: حتى لو كانت عمة.
إذا مات ميت عن بنت أخيه وابن ابن أخيه، فإنه لا يعصب عمته.
فإذا كان عندنا أخت شقيقة، وعندنا بنت وبنت ابن، وعم أو ابن عم، فإن الشقيقة هي التي ترث الباقي لوجود البنات، ويسقط العم.
وبكل حال هؤلاء هم العصبة، فالعصبة بالنفس كلهم ذكور إلا المعتقة.
والعصبة بالغير هم: البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب.
والعصبة مع الغير: الأخت الشقيقة مع البنات أو بنات الابن، والأخت من الأب مع البنات أو بنات الابن.(54/10)
ميراث عصبة المعتق
يقول بعد ذلك: (إذا عدمت عصبة النسب ورث المولى المعتِق مطلقاً، ثم عصبته الذكور، والأقرب فالأقرب كالنسب) .
المولى هو المعتق؛ وذلك لأنه أنعم على رقيقه بالعتق، فإذا أنعم عليه أصبح مولىً له، فإذا مات ذلك العتيق وليس له أولاد ولا إخوة أحرار ورثه سيده المعتق، فإن كان السيد المعتق قد مات ورثه أولاده، أي: أولاد المعتق، فإن لم يكن له أولاد فإخوة المعتق أو أعمامه أو بنو عمه.
الحاصل: أنه يرثه عصبته الذكور الأقرب فالأقرب، فابن المعتق يقدم على ابن ابن المعتق، وأخو المعتق يقدم على عم المعتق، وابن أخ المعتق الشقيق يقدم على العم، وهكذا كالتقديم بالنسب.(54/11)
التقديم بين جهات العصوبة
وقد ذكرنا أن العصبة خمس جهات: بنوة، ثم أبوة، ثم جدودة وأخوة، ثم بنو أخوة، ثم عمومة وبنوهم، ثم ولاء، وهي ست جهات إذا قلنا إن الإخوة يرثون مع الجد، أما إذا أسقطنا الإخوة بالجد، فتكون الجهات خمساً: حيث نعد الأبوة والجدودة جهة، فنقول: البنوة وبنوهم، والأبوة وآباؤهم، والإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، والولاء.
ثم ترتيبهم في الإرث على هذا، أي: على ترتيبهم في التعصيب.
فمن من المعلوم أنه إذا كان عند الميت أبناء وآباء وإخوة وأعمام وموال؛ فالعصبة للأقرب فالأقرب: فهي للابن، فإن عدم فابن الابن، فإن لم يكن عندنا أبناء ولا أبناء أبناء، فالتعصيب للأب، ثم لأب الأب، وهكذا.
فإن عدم الأبناء والآباء فالتعصيب للإخوة: الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب.
فإن عدم الإخوة وبنوهم فالتعصيب للأعمام: العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب.
ثم أعمام الأب، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم وبنو بنيهم وإن نزلوا، فيصير التعصيب لأولى رجل ذكر.
فإن اتحدت الجهة قدمنا القريب: فابن الابن لا يرث مع الابن؛ لأن الابن أقرب، وابن ابن الابن لا يرث مع ابن ابن، وكذلك ابن الأخ لا يرث مع الأخ، وابن ابن الأخ لا يرث مع ابن الأخ، لأن التقديم للأقرب.
وإذا اتحدت الجهة واستووا في القرب: مثل: إذا كان عندنا إخوة أشقاء وإخوة من الأب، فالإرث للأشقاء، أي أن التعصيب للأشقاء؛ لأنهم يدلون بقرابتين، وكذلك العم الشقيق يقدم على العم لأب، يقول الناظم: والأخ والعم لأم وأبِ أولى من المدلي بشطر النسب شطر النسب: أي الذي ما أدلى إلا بأب، كأخ من أب، أو عم من أب، فيقدم عليه عم من أب وأم.(54/12)
أصول المسائل
ذكر بعد ذلك أصول المسائل، والمراد حساب المسائل، وعبر بعضهم بباب الحساب، فقالوا: للمسألة أصل ومصح: فأصل المسألة: تحصيل أقل عدد يخرج منه فرضها أو فروضها بلا كسر.
ومصح المسألة: تحصيل أقل عدد تنقسم منه المسألة بلا كسر.
فأصول المسائل، أي: التصحيح والتأصيل، فالتأصيل: معرفة أصل المسألة، والتصحيح: معرفة مصح المسألة.(54/13)
الأصول التي لا تعول
فذكر: (أن أصول المسائل سبعة: أربعة لا تعول، وهي ما فيها فرض أو فرضان من نوع، فنصفان أو نصف والبقية من اثنين) ، مثال النصفين: زوج وأخت، أليس الزوج له النصف فرضاً، والأخت لها النصف فرضاً؟ المسألة من اثنين، لها نصف وله نصف.
أو نصف والبقية من اثنين: إذا كان عندك زوج وعم، فهي من اثنين، فتقول: للزوج النصف، وللعم الباقي ولا تقل: للعم النصف، بل يكون له البقية؛ لأنه ليس فرضاً، فهي من اثنين.
(وثلثان أو ثلث والبقية من ثلاثة) : ثلثان والبقية من ثلاثة، إذا كان عندك بنتان وعم، أليس البنتان لهما الثلثان فرضاً؟ لا تقل: وللعم الثلث، لكن قل: وللعم الباقي، هذا معنى قوله: (وثلثان والبقية) .
(أو ثلثان وثلث) : إذا كان عندك مثلاً أختان شقيقتان وأختان لأم، أليس الأختان الشقيقتان لهما الثلثان، والأختان لأم لهما الثلث؟ فتقول: أصل المسألة من ثلاثة، للأختين الشقيقتين الثلثان، وللأختين لأم الثلث، ولا تقل: الباقي؛ لأنه فرض، فإذا كان في المسألة ثلثان وثلث، فهي من ثلاثة، وإذا كان فيها ثلثان وباق فهي من ثلاثة.
(وإذا كان فيها ثلث وباق من ثلاثة) : كأم وأخ، أليس الأم لها الثلث، لأنه لا يحجبها الأخ الواحد؟ فللأم الثلث، ولا تقل: للأخ الثلثان، بل قل: وللأخ الباقي، هذا معنى: (ثلثان أو ثلث والبقية من ثلاثة) ، يعني: مخرج الثلث من ثلاثة، إذا قلت: من اثنين، فالاثنان ليس فيهما ثلث، ولا فيهما ثلثان، وإذا قلت: من أربعة، فالأربعة ما فيها ثلث، ولا ثلثان، فتكون من ثلاثة.
(وربع والبقية من أربعة) : إذا كان عندك زوجة وأخ، أليست الزوجة لها الربع، والباقي للأخ؟ ولا تقل: له ثلاثة أرباع، بل قل: له الباقي، مخرج الربع من أربعة، أما ثلاثة فليس فيها ربع، فتقول: هي من أربعة.
وكذلك إذا كان مع الربع نصف: فإذا كان عندك بنت وزوج وأخ، أليس الزوج له الربع والبنت لها النصف؟ فتقول: من أربعة، للزوج الربع واحد من أربعة، والبنت النصف اثنان من أربعة، والباقي للأخ، لا تقل: للأخ الربع، لكن قل: له الباقي؛ لأنه ليس فرضاً، تمشياً مع قوله في الحديث: (وما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فربع والباقي أو ربع مع النصف، من أربعة.
نصفان من اثنين، ونصف والبقية من اثنين، وثلثان والبقية من ثلاثة، وثلث والبقية من ثلاثة، وثلثان وثلث من ثلاثة.
ثمن والبقية من ثمانية، وكذلك ثمن ونصف والبقية من ثمانية، فإذا كان عندك ابن وزوجة، أليس الزوجة لها الثمن؟ فتقول: للزوجة الثمن، ولا تقل: للابن سبعة أثمان، لكن قل: له الباقي.
فإذا كان عندك زوجة وبنت وعم، فللزوجة الثمن واحد من ثمانية، والبنت لها النصف أربعة من ثمانية، العم لا تقل: له ثلاثة أثمان، وقل: له الباقي.
فهذه أربعة أصول: أصل اثنين، وأصل ثلاثة، وأصل أربعة، وأصل ثمانية؛ فأصل اثنين يكون عادلاً ويكون ناقصاً ولا يعول، عادلاً: أي سهامه بقدر فروضه، كزوج وأخت، هذا أصل اثنين.
وأما: زوج وعم فهذا يسمى ناقصاً؛ لأن فيه باقياً؛ حيث بقي بعد النصف فرض تعصيب، فهذا الناقص.
أما الثلاثة: فإنه يكون عادلاً، ويكون ناقصاً، فعادلاً: إذا كان عندك أختان شقيقتان وأختان لأم.
وأما إذا كان أم وعم، فهو ناقص؛ للأم الثلث والباقي للعم، وكذلك بنتان وأخ ناقص، للبنتين الثلثان، والأخ له الثلث تعصيباً.
وأما أصل ثمانية وأصل أربعة، فلا يكون إلا ناقصاً ولا يكون عادلاً، ولا يكون عائلاً، الناقص: هو الذي يبقى فيه شيء بعد صاحب الفرض، ولا يمكن فيه أن تستغرق الفروض التركة، إذا كان أصل أربعة فيه فرضان ربع ونصف وباق، وأصل ثمانية فيه ثمن ونصف وباق، فلا يكون عادلاً.
العادل: هو الذي سهامه بقدر فروضه، كثلث وثلثين، ونصف ونصف، والناقص: هو الذي سهامه أقل من فروضه، كنصف وربع وباق، أو ثمن ونصف وباق.
قال رحمه الله تعالى: [وثلاثة تعول، وهي ما فرضها نوعان فأكثر، فنصف مع ثلثين أو ثلث أو سدس من ستة، وتعول إلى عشرة شفعاً ووتراً.
وربع مع ثلثين أو ثلث أو سدس من اثني عشر، وتعول إلى سبعة عشر وتراً.
وثمن مع سدس أو ثلثين أو هما من أربعة وعشرين، وتعول مرة واحدة إلى سبعة وعشرين.
وإن فضل عن الفرض شيء ولا عصبة، رد على كل بقدر فرضه ما عدا الزوجين.
وإذا كانت التركة معلومة، وأمكن نسبة سهم كل وارث من المسألة، فله من التركة مثل نسبته، وإن شئت ضربت سهامه في التركة، وقسمت الحاصل على المسألة فما خرج فنصيبه، وإن شئت قسمته على غير ذلك من الطرق] .
الذي يقسم التركات ويقسم المواريث بحاجة إلى الحساب، والحساب فن واسع توسع فيه الحاسبون وأطالوا فيه، وذكروا فيه مسائل كثيرة يقرؤها الطلاب في المراحل الدراسية، ولكن هاهنا ذكروا حساب المواريث وهو تصحيحها وتأصيلها، والمؤلف هنا اقتصر على التأصيل ولم يذكر التصحيح؛ وذلك لطوله، وقد توسع فيه الذين ألفوا في الفرائض مفرداً، ففي رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله (الفوائد الجلية) التوسع في الحساب، حيث يبحثون فيه أولاً عن أصل المسألة، ثم يبحثون بعد ذلك عن تصحيحها.(54/14)
الأصول التي تعول
ذكرنا أن التأصيل: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر، فإذا جاءتك مسألة فانظر ماذا فيها من الفروض واجعلها من مخرج ذلك الفرض، فإذا كان عندك أب وابن فليس فيها إلا فرض السدس، ففي هذه الحال تقول: هي من ستة؛ للأب السدس والباقي للابن.
وإذا كان عندك ابن وزوجة؛ فليس فيها فرض إلا الثمن، فتقول: للزوجة الثمن واحد من ثمانية، والباقي للابن، فتجعلها من مخرج الثمن.
ومخرج الثمن من ثمانية، ومخرج السدس من ستة، والثلث من ثلاثة، والربع من أربعة، والنصف من اثنين.
ثم يوجد بعض المسائل فيها فرضان من نوعين، فهذه الفروض هي التي تعول، وقد ذكر أنها ثلاثة، علامتها: ما فيها فرضان فأكثر من نوعين.
الأول: أصل ستة: إذا كان في المسألة نصف وثلثان، فمخرج النصف من اثنين، ومخرج الثلثان من ثلاثة، فتضرب اثنين في ثلاثة فتكون من ستة، فإذا كان عندك زوج وأختان، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فهي من ستة، وإذا حسبتها وجدت أن الزوج له ثلاثة، والأختان لهما أربعة، وعالت إلى سبعة.
وكذلك إذا كان عندك زوج وأم وعم، أليس الزوج له النصف، ومخرج النصف من اثنين، والأم لها الثلث، ومخرج الثلث من ثلاثة، فتضرب اثنين في ثلاثة بستة، فتقول: للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للعم واحد من ستة.
كذلك إذا كان فيها سدس وباق، كما إذا كان عندك جدة وعم فهي من ستة، للجدة السدس والباقي للعم، فهذه الستة.
هذا الأصل (يعول إلى عشرة شفعاً ووتراً) ، فعندنا مثلاً: زوج وأختان من ستة، الزوج له ثلاثة، والأختان لهما أربعة، فعالت إلى سبعة.
وذكروا أن أول ما وجد العول في عهد عمر رضي الله عنه، حيث رفعت إليه مسألة فيها زوج وأخت وأم، الزوج له النصف، والأخت لها النصف، أين نصيب الأم؟ فقالوا: لا بد أن تعول المسألة، فجعلوها من ستة؛ لأن مخرج الثلث من ثلاثة، ومخرج النصف من اثنين، فهي من ستة، ثم حسبوا سهامهم: للزوج ثلاثة من ستة، وللأخت ثلاثة من ستة، وللأم الثلث اثنان، فعالت إلى ثمانية، فقسموا المال من ثمانية.
كذلك إذا كان عندك زوج وأختان شقيقتان وأختان من الأم، أليس الزوج له النصف ثلاثة من ستة، والأختان الشقيقتان لهما الثلثان أربعة، والأختان من الأم لهما الثلث اثنان، فإذا حسبتها فهي تسعة: أربعة وثلاثة واثنان، عالت إلى تسعة.
فإن كان معهم أم عالت إلى عشرة؛ لأن الأم لها واحد، والإخوة من الأم لهما اثنان، والزوج له ثلاثة، والأخوات الشقائق لهن أربعة، واحد واثنان وثلاثة وأربعة، الجميع عشرة، هذا منتهى عولها شفعاً ووتراً.
الثاني: أصل اثني عشر: إذا كان عندك ربع مع ثلثين أو مع ثلث أو مع سدس، فمخرج الربع من أربعة، ومخرج الثلث من ثلاثة، فإذا ضربت ثلاثة في أربعة باثني عشر.
وإذا كان فيها سدس فمخرج السدس من ستة، ومخرج الربع من أربعة، وبينها موافقة؛ لأن الأربعة فيها نصف والستة فيها نصف، فإذا أخذت نصف الستة ثلاثة، وضربته في أربعة باثني عشر، أو أخذت نصف الأربعة اثنين، وضربتها في ستة باثني عشر، فهذا أصل اثني عشر.
فأصل اثني عشر لا بد أن يكون فيه ربع، ومع الربع ثلث أو ثلثان أو سدس، وهذا الأصل يعول ثلاث مرات، فأصل ستة يكون عادلاً وناقصاً وعائلاً، وأما أصل اثني عشر فلا يكون إلا ناقصاً أو عائلاً، ولا يكون عادلاً، وتقدم أن العادل هو الذي فروضه بقدر سهامه، وأن العائل هو الذي يكون فيه الزيادة، وأن الناقص ما ينقص عن سهامه.
فينقص أصل اثني عشر فيكون أحد عشر، فيما إذا كان عندك زوج وبنتان وعم، فالبنتان لهما الثلثان ثمانية والزوج له الربع ثلاثة، فهذا ناقص، ويبقى واحد للعم، فإن كان مع البنتين والزوج أم عالت إلى ثلاثة عشر؛ لأن للأم السدس اثنان فتكون ثلاثة عشر، فإن كان معهم أب عالت إلى خمسة عشر: للأب اثنان، وللأم اثنان، وللزوج ثلاثة، وللبنات ثمانية، فهذه خمسة عشر.
وأما عولها إلى سبعة عشر ففي مسألة تسمى أم الفروج، وتسمى الدينارية، وهي: إذا كان عندك ثمان أخوات شقائق، لهن الثلثان ثمانية، وأربع أخوات لأم، لهن الثلث أربعة، فهذه اثنا عشر، وثلاث زوجات، لهن الربع ثلاثة، وجدتان لهما السدس اثنان، فثمانية وأربعة اثنا عشر، وثلاثة خمسة عشر، واثنان سبعة عشر.
وتسمى الدينارية؛ لأن كل واحدة أخذت سهماً، فالأخوات الشقائق ثمان، ولهن ثمانية أسهم من سبعة عشر، والأخوات لأم أربع ولهن أربعة أسهم من سبعة عشر، والزوجات لهن الربع وهن ثلاث، ثلاثة أسهم من سبعة عشر، والجدتان لهما السدس اثنان من سبعة عشر، فبلغت إلى سبعة عشر، هذا عولها.
الثالث: أصل أربعة وعشرين: إذا كان فيهما ثمن مع سدس، أو ثمن مع ثلثين، ولم يذكروا الثمن مع الثلث؛ وذلك لأن الثمن لا يكون إلا للزوجة عند وجود الولد، والثلث لا يكون إلا للأم أو للإخوة من الأم، وإذا أخذت الأم الثلث أو الإخوة لأم فلا يكون ذلك إلا مع عدم الولد، فإذا كان فيها ولد لم يكن لها الثلث، بل يكون لها السدس، وأما الإخوة لأم فالولد يسقطهم، فلا يجتمع الثمن مع الثلث، فالحاصل: أن الثمن مع السدس، أو الثمن مع الثلثين، من أربعة وعشرين، وهي أيضاً لا تكون إلا ناقصة أو عائلة.
مثلاً: عندك بنتان وزوجة وعم؛ البنتان لهما الثلثان ستة عشر، والزوجة لها الثمن ثلاثة، فهذه تسعة عشر، يبقى خمسة للعاصب، فهذه ناقصة.
فإن كان معهم أم، فالأم لها السدس، فتعطي البنتين الثلثين ستة عشر، والأم السدس أربعة، هذه عشرون، والزوجة الثمن ثلاثة هذه ثلاثة وعشرون، ويبقى سهم يأخذه أولى رجل ذكر.
أما مسألة العول، فتعول مرة واحدة بثمنها، وذلك في المسألة المنبرية، وقد ذكرنا أن علياً سئل وهو على المنبر، عن رجل خلف أبوين وبنتين وزوجة؟ فقال: صار الثمن تسعاً.
يعني: أفتاهم في أثناء خطبته.
صار الثمن تسعاً، أي: عالت إلى سبعة وعشرين، فالثمن ثلاثة، وهي من سبعة وعشرين، فلا يكون ثمناً وإنما يكون تسعاً، ذلك بأنك تعطي البنات ستة عشر، وتعطي الأبوين ثمانية، كل واحد أربعة، والزوجة لها الثمن ثلاثة، فتعول إلى سبعة عشر، وتسمى البخيلة؛ لأنها ما عالت إلا مرة.(54/15)
الكلام على العول
نشير إلى أن العول هو: زيادة في السهام ونقص في الأنصباء، يعني: بدل ما كانت المسألة من أربعة وعشرين زادت إلى أن صارت سبعة وعشرين، فبدل ما كانت الزوجة تأخذ الثمن ما أخذت إلا التسع.
وكذلك في أصل ستة، إذا كان فيها نصف ونصف وثلث، فالنصف ثلاثة للزوج، فما حصل له إلا ثلاثة أثمان، والنصف الآخر للأخت ما حصل لها إلا ثلاثة أثمان، والثلث للأم ما حصل لها إلا ثمنان أي ربع، فزادت السهام ونقصت الأنصباء.
وأول من أفتى به عمر رضي الله عنه لما وقعت هذه المسائل، فاضطر إلى أن يقول بالعول، ثم إن ابن عباس أنكر العول بعد ذلك، وجعل النقص على من يرثون بالتعصيب، إذا كان هناك ازدحام فيقول: النقص على من يرثون بالتعصيب كما لو كانوا عصبة، ففي هذه المسألة التي هي زوج وأخت وأم، يجعل النقص على الأخت، يقول: لو كان بدلها أخ ما عالت المسألة، أي: إذا كان عندنا زوج وأخ وأم: فالزوج له النصف، والأم لها الثلث، والباقي للأخ، فكيف تكون أخته أكثر منه؟ فتأخذ النصف وهو لا يأخذ إلا السدس، ولو كان معها فإنه يعصبها، أي: ينقلها إلى الإرث بالتعصيب، فإذا كان كذلك فكيف يأخذ الذكر أقل من الأنثى؟ فجعل النقص على الأخت! وكذلك على البنت، أو على البنات في مسألة المنبرية، يقول: نعطي كل واحد من الأبوين السدس كاملاً، والزوجة الثمن كاملاً، والباقي نجعله للبنات، ولو كان أقل من الثلثين؛ وذلك لأنه لو كان معهن أخوهن ما عالت المسألة.
لو كان عندنا أم وأب وزوجة وبنتان وابن ما عالت المسألة، بل يكون الباقي للبنتين وأخيهن، ولو كان بدل البنتين ابنين ما عالت المسألة، بل يكون الباقي للابنين، فكيف تكون البنتان ميراثهن أكثر من أخويهن؟ هذا مذهب ابن عباس، وقد ذهب إليه أهل الظاهر كـ ابن حزم فأنكروا العول، روي عن ابن عباس أنه قال: (إن الذي أحصى رمال عالج عدداً لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً، فهذان النصفان أخذا المال، فأين الثلث؟ فقيل له: لماذا لم تقله في زمن عمر؟ فقال: إن عمر كان مهيباً فهبته) .
ولعله تجدد له فكر.
ثم ما ذكروا هنا التصحيح فيرجع في التصحيح إلى رسالة الشيخ الفوائد الجلية، وكذلك إلى غيرها.
وتصحيح المسائل هو تحصيل أقل عدد تنقسم منه التركة بلا كسر، وذكروا أن التصحيح إنما يحتاج إليه إذا انكسر سهام فريق عليهم، فيحتاج إلى تصحيحها، والكلام عليه يطول، وقد أطالوا فيه وتوسعوا.(54/16)
الكلام على الرد
ذكر المؤلف بعد ذلك الرد، قال: (وإن فضل عن الفرض شيء ولا عصبة، رد على كل بقدر فرضه ما عدا الزوجين) .
الرد عكس العول: وهو نقص في السهام وزيادة في الأنصباء، وقد نظمه أحد العلماء، وألحقه بأبيات الرحبية، في الأبيات التي يقول فيها: إن أبقت الفروض بعض التركه وليس ثم عاصب قد ملكه فرده لمن سوى الزوجين من كل ذي فرض بغير مين فيرد لمن سوى الزوجين، فإذا لم يكن عندك إلا بنتان، وليس هناك عصبة، فإن البنتين تأخذان المال فرضاً ورداً، وتكون المسألة من اثنين، وإن كان عندك بنتان وأم، فالأصل من ستة، أليس البنتان لهما الثلثان أربعة، والأم لها السدس واحد، الجميع خمسة؟ فتقول: المسألة من خمسة، يعني: أخذتها من أصل ستة.
وكذلك لو كان عندك أختان من أم، وأم، وليس هناك عصبة، أليس الأختان من أم لهما الثلث اثنان من ستة، والأم لها السدس واحد من ستة، مجموع سهامهم ثلاثة، فترد المسألة إلى ثلاثة، فبدل ما كانت الأم تأخذ السدس؛ لوجود الجمع من الإخوة أخذت الثلث، وبدل ما كان الأختان من أم تأخذان الثلث أخذتا الثلثين، فهذا هو الرد.
فإن كان الموجود صنفاً واحداً، كما لو كان عندك بنت واحدة، فالمال كله لها فرضاً ورداً، أو بنتان فالمال لهما كله فرضاً ورداً، أو أخ من الأم، فالمال كله له فرضاً ورداً، أو أخوان من أم يأخذان المال فرضاً ورداً، أو أخت شقيقة فالمال كله لها فرضاً ورداً، أو أختان شقيقتان يأخذان المال كله فرضاً ورداً.
فإذا كان عندك أخت شقيقة لها ثلاثة من ستة، وأخت من الأب لها واحد من ستة، تكملة الثلثين، فالجميع أربعة، تقسم المال على أربعة، وتقول: لهما المال فرضاً ورداً، ترده عليهما بقدر سهامهما.
وكذلك البنات: بنت وبنت ابن وأم، البنت لها النصف ثلاثة من ستة، وبنت الابن لها واحد تكملة الثلثين سدس، والأم لها السدس، الجميع خمسة، تقسم المال على خمسة فرضاً ورداً، فتقول: كأن البنت أخذت ثلاثة أخماس، وبنت الابن أخذت خمساً، والأم أخذت خمساً، فمعنى فرضاً ورداً أنه يرد عليهم بقدر فروضهم، إلا الزوجان هل يرد عليهما؟ أما الزوجان فبعض العلماء قال: يرد عليهما، فيدخل الرد عليهما كما يدخل العول، فإن العول نقص والرد زيادة، فلماذا يضرهما العول ولا ينتفعان بالرد؟ فرجح شيخ الإسلام أنه يرد على الزوجين، وتبعه ابن سعدي في فتاواه، يعني: رجح أنه يرد على الزوجين.
ولكن الجمهور: على أنه لا يرد عليهما.
فإذا كان عندك زوج وعندك بنت، أليس الزوج له الربع، والبنت لها النصف؟ فتقول: الزوج له الربع واحد من أربعة، والبنت لها النصف اثنان من أربعة، ولها الباقي رداً، فتأخذ البنت ثلاثة أرباع.
وإذا كان المسألة فيها حساب فإنك تحسبها، فإذا كان عندك بنتان لهما الثلثان، وزوج له الربع، فالزوج يأخذ ربعه من أصل أربعة، والبنتان يأخذان الثلثين من أصل ثلاثة، فتكون المسألة من مخرج الربع الذي هو أربعة، وأما البنتان فلهما الباقي فرضاً ورداً، يعني: بدل ما كان لهن الثلثان أخذن ثلاثة أرباع، ومعلوم أنهن يختلفن: فبنت الابن -مثلاً- لها سدس والبنت لها نصف وهكذا.(54/17)
قسمة التركات
بقية الفصل فيه قسمة التركة، ذكر الشيخ ابن باز في الفوائد قسمة التركة وتوسع فيها، وذكروا أن قسمة التركة أسهل ما تقسم به بطريقة النسبة، إذا كانت التركة معلومة، وأمكن نسبة سهم كل وارث من المسألة، فله من التركة مثل نسبته، هذه طريقة النسبة، صورة ذلك: إذا قلنا: عندنا زوج وأخت: فالزوج له النصف من المسألة، فله النصف من التركة، والأخت لها نصف المسألة، فلها نصف التركة.
وإذا كان معهما أم عالت المسألة إلى ثمانية، فنقول: نسبة سهام الزوج ثلاثة أثمان من المسألة، فله ثلاثة أثمان التركة، فالتركة إذا كانت تنقسم بالأجزاء قسمت، كالنقود تنقسم بالأجزاء، فتجعلها أثلاثاً أو أثماناً أو نحو ذلك، وتعطي كل واحد من الورثة بقدر نسبته.
وإن كانت عقاراً فإنها أيضاً تنقسم بالأمتار أو بالأذرع أو نحو ذلك، ففي هذه الحال تنقسم بالنسبة، فيقال: لهذا ربع التركة؛ لأنه يستحق ربع المسألة.
هناك طريقة أخرى وهي: أن تضرب سهامه في التركة وتقسم الحاصل على المسألة، فما خرج فهو نصيبه: فإذا كان للزوج مثلاً ثلاثة أسهم، تضربها في التركة، فإذا كانت التركة مثلاً مائة، ضربت الثلاثة في التركة أصبحت ثلاثمائة، فتقسم الحاصل الذي هو ثلاثمائة، على المسألة الذي هو ثمانية، فما خرج فهو نصيب الزوج وهكذا.
وإن شئت قسمته على غير ذلك من الطرق؛ فهناك طريقة أخرى تسمى طريقة القيراط الذي هو سهم من أربعة وعشرين سهماً، يسمى ثلث الثمن، فيقسمون التركة على أربعة وعشرين سهماً، ثم يعطون كل واحد نسبته من هذه القراريط.
وهناك بعض المؤلفات التي تذكر فيها الجداول، مثل عمدة الباحث لـ ابن رشيد، يذكر فيها في الجزء الأول قسمة التركات، والجدول يبين نسبة كل واحد، فننتهي من هذا.(54/18)
شرح أخصر المختصرات [55]
مما اختلف فيه العلماء في الفرائض: توريث ذوي الأرحام، وقد استدل بعض العلماء على توريثهم بأدلة، وجعلوا ميراثهم بطريقة تنزيلهم منزلة من أدلوا به، وقد فصل العلماء فيهم وفي ميراثهم.
ومن مسائل المواريث: الميراث بالتقدير، وهو ميراث الحمل ونحوه، فيوقف له الأحظ، ويعطى الورثة اليقين.(55/1)
ميراث ذوي الأرحام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: في ذوي الأرحام.
وهم أحد عشر صنفاً: ولد البنات لصلب أو لابن، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وولد ولد الأم، والعم لأم، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو أب أعلى من الجد، ومن أدلى بهم.
وإنما يرثون إذا لم يكن صاحب فرض ولا عصبة، بتنزيلهم منزلة من أدلوا به، وذكرهم كأنثاهم.
ولزوج أو زوجة معهم فرضه بلا حجب ولا عول، والباقي لهم.
فصل: والحمل يرث ويورث إن استهل صارخاً، أو وجد دليل حياته سوى حركة أو تنفس يسيرين أو اختلاج، وإن طلب الورثة القسمة وقف له الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، ويدفع لمن لا يحجبه إرثه كاملاً، ولمن ينقصه اليقين، فإذا ولد أخذ نصيبه ورد ما بقي، وإن أعوز شيئاً رجع.
ومن قتل مورثه ولو بمشاركة أو سبب لم يرثه؛ إن لزمه قود أو دية أو كفارة.
ولا يرث رقيق ولا يورث، ويرث مبعض ويورث، ويحجب بقدر حريته] .
عندنا فصل في ذوي الأرحام: ذوو الأرحام: هم الذين ليسوا عصبة وليسوا من أصحاب الفروض، وإنما هم من الأقارب، واختلف في توريثهم: فذهب الإمام أحمد إلى أنهم أولى من بيت المال، فإذا لم يكن أهل فروض ولا أهل تعصيب ولو بعيدين ورثنا ذوي الأرحام.
وقد استدل على توريثهم بقول الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] ، فإنها صريحة في أنهم يستحقون مال قريبهم، فهم أولى من بيت المال، أو أولى من الموالي البعيدين كمولى الموالاة أو نحوهم.
وقد يستدل أيضاً على توريثهم بحديث ورد بلفظ: (الخال وارث من لا وارث له) ، مع أنه ليس من العصبة، وليس من ذوي الفروض.(55/2)
أصناف ذوي الأرحام
وقد ذكر المصنف أن ذوي الأرحام أحد عشر صنفاً: الصنف الأول: ولد البنات للصلب، ذكوراً وإناثاً، أو ولد بنت الابن.
فالبنت ترث، ولكن ابنها لا يرث، وبنتها لا ترث، وهي بنت البنت، وكذلك بنت الابن ترث، ولكن ابنها وهو ابن بنت الابن لا يرث، وبنت بنت الابن لا ترث، فيكونون من ذوي الأرحام.
الثاني: ولد الأخوات: فالأخت ترث، ولكن ولدها لا يرث: فالأخت الشقيقة ترث، أما ابنها وبنتها فلا يرثان، والأخت لأب ترث، وبنتها لا ترث، وابنها لا يرث، أي أن الأخت الشقيقة والأخت لأب لا يرث أولادهما، فيكونون من ذوي الأرحام ذكوراً وإناثاً.
الثالث: بنات الإخوة: فالأخ يرث، وابن الأخ، ولكن بنت الأخ لا ترث، فتكون من ذوي الأرحام.
والعم يرث وابنه يرث، ولكن بنت العم لا ترث.
والأخ من الأم يرث، وكذلك الأخت من الأم ترث، لكن أولاد الأخ من الأم أو الأخت من الأم لا يرثون، فيكونون من ذوي الأرحام.
والعم لأم، أي: أخ الأب من الأم، وهو عم الميت ولكن أخو أبيه من الأم؛ أولاده يكونون أيضاً من ذوي الأرحام.
والأخوال لا يرثون، ويكونون من ذوي الأرحام.
والخالات من ذوي الأرحام.
والجد أبو الأم من ذوي الأرحام.
وكل جدة أدلت بأبٍ بين أمين، أو بأبٍ أعلى من الجد، ومن أدلى بهم من ذوي الأرحام.
فهؤلاء أحد عشر: الأول: ولد البنات.
والثاني: ولد الأخوات.
والثالث: بنات الإخوة.
والرابع: بنات العم.
والخامس: ولد ولد الأم.
والسادس: العم لأم.
والسابع: الخال.
والثامن: الخالة.
والتاسع: الجد أبو الأم.
والعاشر: كل جدة أدلت بأبٍ بين أمين، أو أب أعلى منهم.
والحادي عشر: من أدلى بهؤلاء.(55/3)
توريث ذوي الأرحام بالتنزيل
متى يرثون؟ يقول: يرثون إذا لم يكن هناك أصحاب فروض، ولا أصحاب عصبة.
وكيف يرثون؟ ويرثون بالتنزيل: أي: ننزلهم مكان من أدلوا به كبنت بنت حجبت بنت بنت ابن، أو عمة قد حجبت بنتاً لعم فيرثون بالتنزيل، فإذا كان عندك بنت بنت وبنت بنت ابن، فبنت البنت تنزل منزلة البنت فتأخذ النصف، وبنت بنت ابن تنزل منزلة بنت ابن فتأخذ السدس، فتعطيهما المال فرضاً ورداً، هذه بمنزلة أمها، وهذه بمنزلة أمها، هذا هو التنزيل.
كذلك إذا كان عندك بنت أخت شقيقة وبنت أخت من الأب ففي هذه الحال: بنت الشقيقة لها النصف، وبنت الأخت من الأب لها السدس، فيكون المال من أربعة، يقسم عليهما من أربعة.
ولو كان هناك جماعة أدلين بواحدة فلهن فرضها.
فإذا كان عندك مثلاً ثلاث بنات أخت شقيقة، وأربعة أبناء أخت من الأب، فبنات أو أبناء الشقيقة لهن النصف، وبنات أو أبناء الأخت من الأب لهن السدس، فيرثون بالتنزيل، فتعطي هؤلاء سهماً، وهم الذين أدلوا بالأخت من الأب، وهؤلاء ثلاثة، فهذا معنى التنزيل.
وبنات الإخوة بمنزلة الإخوة: فإذا كان عندك بنت أخ فإنها تأخذ المال كله، تقول: أنا بمنزلة أبي، فإن أبي لو كان موجوداً لأخذ المال كله، فتنزل منزلة أبيها، وبنت العم تنزل منزلة العم؛ لكن إذا كان عندك بنت أخ وبنت عم: فبنت الأخ تحجب بنت العم، تقول: إن والدي يحجب والدكِ، أي: الأخ يسقط العم، فيكون المال لبنت الأخ دون بنت العم.
وكذلك مثلاً إذا كان عندك بنت بنت، وعندك بنت أخ لأم، أليس البنت تسقط الأخ لأم؟ فكذلك بنت البنت تسقط بنت أخ لأم، تقول: أمي تسقط أباكِ، فأنت ساقطة، نعم.
هذه تقول: أنا بنت أخ الميت من أمه، أي: أبي أخوه من أمه، لكن هذه تقول: أنا بنت بنته، فبنت البنت أقرب، فتسقط ابن أخ لأم.
العمة: العمات أيضاً يدلين بالأب، والخالات يدلين بالأم، فإذا كان عندك عمة وخالة، فافرض أن عندك أباً وأماً، فالعمة لها ميراث الأب، والخالة لها ميراث الأم، فتعطي هذه الثلث وهذه الثلثين.
وإذا كان عندك عمتان، عمة أخت للميت من أبيه، وعمة أخته من أبويه، أي: شقيقة، وكذلك أخت الأم شقيقة وأختها من الأب؛ ففي هذه الحال الثلث الذي للخالات يقسم أرباعاً بينهما، والثلثان اللذان للعمات يقسمان أرباعاً: للتي من الأب واحد، وللتي من الشقيقة ثلاثة، كما لو كان ميراثهم، هذا معنى: تنزيلهم منزلة من أدلوا به.(55/4)
ميراث ذكور ذوي الأرحام وإناثهم
قوله: (ذكرهم كأنثاهم) يعني: إذا كان عندك أولاد بنت، البنت تأخذ النصف وتأخذ المال كله إذا لم يكن وارث إلا هي، فإذا كان موجوداً لها خمسة أبناء وخمس بنات، فيقسم المال بينهم على عدد رءوسهم للذكر مثل حظ الأنثى، لماذا؟ لأنهم يرثون بالرحم المجردة.(55/5)
ميراث أحد الزوجين مع ذوي الأرحام
إذا كان معهم زوج أو زوجة، فإن كلاً من الزوجين يأخذ فرضه كاملاً بلا حجب ولا عول، والباقي يكون لهم.
فإذا كان عندك زوج، وعندك عمة وخالة، فتقول: الزوج له النصف، والعمة والخالة لهما الباقي نقسمه أثلاثاً، للخالة ثلثه وللعمة ثلثاه؛ لأن الأب يأخذ سهمين والأم تأخذ سهماً، فأنت أيتها العمة لك نصيب الأب، وأنت أيتها الخالة لك نصيب الأم.
فأعطينا الزوج النصف كاملاً، وقسمنا الباقي الذي هو النصف بين العمة والخالة أثلاثاً.
وكذلك لو كان عندنا زوجة أعطينا الزوجة الربع كاملاً، وأعطينا الثلاثة الأرباع للعمة والخالة، للعمة ميراث الأب، وللخالة ميراث الأم، فإن كان عمات وخالات، فميراث الأب للعمات، وميراث الأم الذي هو الثلث للخالات بينهن، وهكذا.
الناظم الرحبي لم يذكر باب الرد، ولا ذكر باب ذوي الأرحام؛ لأن الشافعية لا يورثون ذوي الأرحام ولا يردون، وإنما يجعلون الميراث لبيت المال إذا زاد.(55/6)
ميراث الحمل
وقد ذكر العلماء أبواباً لم يذكرها المؤلف هنا، وقد ذكرها الشيخ رحمه الله في رسالته، منها: ميراث المفقود، وميراث الخنثى المشكل، وميراث الغرقى والحرقى ونحوهم، وقد توسع العلماء في ذكرهم.
هنا ذكر ميراث الحمل، قال: (الحمل يرث ويورث إن استهل صارخاً) : إذا مات رجل وله امرأة حامل، فإن هذا الحمل يرث، ولكن يوقف المال حتى يولد، فإذا ولد حياً واستهل صارخاً أعطي نصيبه من الميراث كإخوته.
وكذلك إذا ولد (ووجد دليل حياته، سوى حركة يسيرة أو تنفس يسير، أو اختلاج) ، وحركة الاختلاج: هي اضطراب اللحم، يعني: أنه قد يخرج ميتاً فيتحرك لحم فخذه؛ ذلك لأنه لما خرج من مكان ضيق فقد يختلج اللحم، ولا يدل ذلك على حياة، فلا بد أن يولد حياً؛ بأن يستهل صارخاً، أو يتنفس تنفساً يدل على حياته، أو يتحرك حركة ظاهرة تدل على حياته، ثم إذا ولد حياً ثم مات ولو بعد دقيقة أو دقائق، فإن ميراثه لورثته، فيجعل له نصيب من هذا المال ويقسم على ورثته الذين يرثونه لو كان من الأحياء.
إذا طلب الورثة القسمة قبل أن يولد الحمل وقف له الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، يقول الناظم: وإن يك في مستحق المال خنثى صحيح بيّن الإشكال فاقسم على الأقل واليقين تحظ بحظ القسم والتبيين ثم يقول: وهكذا حكم ذوات الحمل يعني: أنه يبني على اليقين.
واحكم على المفقود حكم الخنثى إن ذكراً يكون أو هو أنثى وهكذا حكم ذوات الحمل فابن على اليقين والأقل فصورة ذلك: إذا مات رجل وله ابن وله زوجة حامل، ففي هذه الحال إذا طلب الورثة القسم نوقف للحمل ميراث ذكرين؛ لأنه أكثر من ميراث أنثيين، فميراث الذكرين في هذه الحال أكثر، فنقول: بالنسبة للزوجة لا ندري هل يولد حياً أو يولد ميتاً، فإن ولد حياً فإنه يرث، وإن ولد ميتاً فإنه لا يرث، الزوجة لها الثمن لا يزيد ولا ينقص، وأما الابن فإنه إن كان أنثى فله ثلثا الباقي، وإن كانا أنثيين فله نصف الباقي بعد الزوجة، وإن كانا ذكرين فله الثلث، فالأحظ للحمل أن نقدره ذكرين لا أنثيين، متى يكون ميراث الأنثيين أكثر؟ إذا مات ميت عن امرأة حامل وأبوين، إذا قدرناه ذكرين ورث ثلاثة عشر من أربعة وعشرين، وإذا قدرناه أنثيين ورث ستة عشر من أربعة وعشرين عائلة إلى سبعة وعشرين، فنقدره أنثيين؛ لأنهما أكثر إرثاً، ثم إذا ولد أخذ نصيبه ورد ما بقي، أي: إذا قدرناه أنثيين ثم ولد وإذا هو أنثى، فالأنثى لا ترث إلا النصف اثني عشر، ونحن وقفنا لها ستة عشر، فترث نصيبها وترد الباقي على الأب، وإذا قدرناه أنثيين وقفنا ستة عشر، ثم ولد ذكر أو ذكران في هذه الحال أيضاً يأخذ نصيبه، ويرد على الأبوين ما نقصهما؛ لأننا نقصنا الأبوين ونقصنا الزوجة، وجعلنا المسألة فيها عول.
يقول: (ويدفع لمن لا يحجبه إرثه كاملاً، ولمن ينقصه اليقين) : الذي لا يحجبه كالأم فإنه لا يحجبها، لوجود الذكر، والزوجة لا يحجبها، لوجود الفرع الوارث، فيدفع لهما نصيبهما والباقي يوقف للحمل، وهو الأكثر كما ذكرنا.(55/7)
ميراث القاتل والرقيق
بقي مسألة القتل: ذكرنا فيما تقدم أن من قتل مورثه فإنه لا يرثه، ولو بمشاركة أو بسبب، وعلامة ذلك: إذا لزمه قود أو دية أو كفارة كما تقدم.
كذلك ذكرنا فيما تقدم أن الرقيق لا يرث ولا يورث، وأن المبعض الذي نصفه حر ونصفه رقيق يرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية.
انتهى كتاب الفرائض، وننتقل إلى كتاب العتق إن شاء الله.(55/8)
شرح أخصر المختصرات [56]
من مميزات الشريعة الإسلامية: معاملة الضعفاء بالحسنى، ومن ذلك رفقها بالعبيد، وحثها على عتقهم، وهذا أمر طبقه المسلمون وعملوا به ابتغاء وجه الله تعالى.
ومن العجب أن نسمع من الكفار اليوم الطعن على الإسلام بقضية الرق، وهم يسترقون الأحرار، ويقتلون النساء والأطفال، ويستخدمون من ليس منهم في أشق الأعمال وأنكرها ظلماً وعدواناً.
والعتق له أحكام كثيرة اهتم بها الإسلام، كأحكام الكتابة، والتدبير، وأمهات الأولاد، والوصية بالعتق، وغير ذلك مما بينه العلماء والفقهاء.(56/1)
مقدمات لأحكام العتق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب العتق.
يسن عتق من له كسب ويكره لمن لا قوة له ولا كسب، ولا تصح الوصية به، بل تعليقه بالموت وهو التدبير، ويعتبر من الثلث.
وتسن كتابة من علم فيه خيراً وهو الكسب والأمانة، وتكره لمن لا كسب له.
ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتبه، فإن أدى عتق، وولاؤه لمنتقل إليه.
وأم الولد تعتق بموت سيدها من كل ماله، وهي من ولدت ما فيه صورة ولو خفية، من مالك ولو بعضها، أو محرمة عليه، أو من أبيه إن لم يكن وطئها الابن، وأحكامها كأمة إلا فيما ينقل الملك في رقبتها أو يراد له.
ومن أعتق رقبة أو أعتقت عليه فله عليها الولاء، وهو أنه يصير عصبة لها مطلقاً عند عدم عصبة النسب] .
العتق: هو إزالة الرق، أو هو: تحرير الرقاب وإزالة الرق عنها.
يقول: (يسن عتق من له كسب) .
السنن ما فيها أجر وثواب، وقد ورد ما يدل على عظم الأجر، وهو مشهور قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه) ، وهذا دليل على فضل العتق.
الأصل أن الرق إنما يجوز لأجل الكفر، يقولون في تعريف الرقيق: هو عجز حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر.
هكذا عرفوه، وذلك لأن الكفار تعبدوا لغير الله وعبدوا غيره، فصاروا عبيداً للشيطان، ومن عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإذا كانوا كذلك فإن الله أباح استرقاقهم، فإذا استولى عليهم المسلمون فإنه يجوز استرقاقهم واستعبادهم، ويكونون ملكاً لمن استولى عليهم؛ وذلك لأنهم لما خرجوا عن عبودية الله، وبلوا برق النفس والشيطان، فكان من أثر ذلك أن أباح الله استرقاقهم، وأنهم يكونون من ملك اليمين.
فنساؤهم يملكهن من استولى عليهن، ورجالهم كذلك، فالمملوك يصير رقيقاً لمن كان تحت يده، فيستخدمه ويلزمه بما يلتزم به، وكذلك الأمة يستخدمها، ويطؤها كسرية، فتكون حلالاً له؛ لقول الله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] ، فجعل الاستمتاع بملك اليمين حلالاً.(56/2)
أمر الإسلام بالإحسان إلى الرقيق
ولما أباح الله تعالى الرق أمر بمعاملة الأرقاء معاملة حسنة، ورد في حديث: (أن أبا ذر سب رجلاً كأنه مملوك، فعيره بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده؛ فليلبسه مما يلبس، وليطعمه مما يطعم، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) .
وقد أمر الله تعالى بحسن الملكة، وجعل للمماليك حقاً من الحقوق العشرة في آيات الحقوق العشرة، وهي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] ، أي: أحسنوا إليهم، فجعل لهم حقاً مع الوالدين والأقربين ونحوهم، فإذا كان كذلك دل على أن الإسلام جاء بالإحسان إليهم.(56/3)
الجواب على شبهات الكافرين حول الرق في الإسلام
اشتهر في هذه الأزمنة أن الكفار والنصارى ونحوهم يعيبون المسلمين، ويقولون: تستخدمون أخاكم الذي هو رجل مسلم مثلكم! تستخدمونه وتجعلونه كسلعة، وتبيعونه وتشترونه كأنه بهيمة! هذا لا يبيحه العقل، هذا لا يجيزه إنسان ذو عقل، فعابوا على المسلمين أنهم يبيحون الرق، وأنهم يجيزون أن يملك الإنسان إنساناً وأن يستخدمه!
و
الجواب
أولاً: أنه ما استبيح إلا لأنه كان عبداً للشيطان، كافراً بالله تعالى، فلما كان كافراً أباح الله للمسلمين إذا تغلبوا عليه أن يسترقوه وأن يجعلوه مملوكاً لهم، بدل ما كان عبداً للهوى والنفس والشيطان.
ثانياً: معلوم أنهم إن استولوا على النساء وعلى الأولاد، فإنهم يستولون عليهم ويكونون مماليك، وأما الرجال والأكابر فقد يخيّرون إذا استولوا عليهم بين أربعة أشياء: بين أن يكونوا أرقاء ولو كانوا كباراً.
وبين القتل لأنهم كفار.
وبين المنّ عليهم.
وبين أخذ الفدية.
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] يعني: أوثقوهم وأسروهم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] فخيرهم بين المن وبين الفداء، ولما أسر الذين أسروا في غزوة بدر منَّ النبي صلى الله عليه وسلم على بعضهم، وفادى ببعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك استرق بعضهم، فكان هذا هو الذي جاء به الإسلام.
معلوم أنه إذا كان رقيقاً وهو كافر، فإن صاحبه الذي هو في ملكه قد يبيعه، فتشتريه أنت وتبذل ثمنه، فإذا أسلم بقي مملوكاً حتى لا يضيع مالك الذي بذلته فيه، فيبقى على رقه بعد أن يسلم؛ وذلك لأنه أصبح مملوكاً، وأصبح مالاً متمولاً، ولو كان من أسلم تحرر لضاعت أموال كثيرة.
فالمسلمون يتبادلون هؤلاء الأرقاء فيبيع هذا ويشتري هذا، فإذا اشتراهم وهم أرقاء ثم أسلموا بقوا على رقهم، وحق له أن يستخدمهم، وله أن يبيعهم، وله أن يعتقهم.(56/4)
كثرة سبل العتق في الإسلام(56/5)
كفارات الذنوب بعتق الرقاب
وقد جاءت الأدلة تحث على كثرة العتق، وجعل ذلك في كفارات الذنوب: جعل الله في كفارة الظهار تحرير الرقبة في قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] أي: عتقها، وذلك من الحرص على أن الرقاب التي أسلمت يزول الرق عنها.
وكذلك في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] جاء في هذه الآية (مؤمنة) في ثلاثة مواضع: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فذكر الله تحرير رقبة مؤمنة في ثلاثة مواضع في هذه الآية، فيحمل قوله في سورة المجادلة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] على أنها مؤمنة؛ لأن الأجر فيها.
وكذلك في كفارة اليمين في قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ثم قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] ثم قال: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، فالرقبة هنا أيضاً أطلقت، ولكن يحمل المطلق على المقيد، لأن الأجر يكون في تحرير الرقبة المؤمنة، فيقولون: لا بد أن تكون مؤمنة، وكذلك في كفارة الوطء في نهار رمضان، جاء في السنة الأمر بعتق رقبة مؤمنة.(56/6)
حكم من أساء إلى عبد
ثم أيضاً ورد الحرص على تحرير الرقاب، فمن ذلك: أن من قطع عضواً من عبده فكفارته أن يعتقه، أو لطمه، وفي حديث النعمان بن مقرن يقول: (كنا عشرة إخوة أو تسعة، ليس لنا إلا خادم واحدة تخدمنا، فلطمها أصغرنا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقوها) يعني: كفارة تلك اللطمة أنها تعتق، فأمر بإعتاقها! كذلك أيضاً ورد عن أبي مسعود أنه سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب عبداً له، فقال: (اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعتق ذلك الغلام، فقال: لو لم تفعل للفحتك النار) يعني: على ضربك له.
وورد أيضاً النهي عن التمثيل بالمملوك، في حديث: (من لطم عبده لطمناه، ومن مثّل بعبده فإنه يعتق، من جدع عبده جدعناه) يعني: عقوبة له على هذا الفعل.
كما جاء الأمر بإحسان الملكة، أي: الإحسان إلى المملوك، حتى ورد في حديث: (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه ليأكل، فإنه ولي حره وعلاجه، فإن لم يفعل فليناوله لقمة أو لقمتين) بمعنى: أن عادة السيد أن يكون له الطعام الحسن الشهي، والذي يتولى إصلاحه هو عبده، فإذا جاءه به فعليه أن يطعمه معه، وأن يجلسه معه.
وقد عمل بذلك أبو ذر لما أنه عيّر رجلاً بأمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه؟ هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) ، فكان أبو ذر إذا لبس حلة ألبس مملوكه مثلها، ويساويه بنفسه، وإذا اشترى حذاء اشترى لعبده مثله، وإذا اشترى عمامة اشترى لعبده مثلها، وكذلك أيضاً يواسيه: فلا يأكل إلا معه؛ يواسيه في الأكل، يواسيه في الشرب، وفي اللباس، وما أشبه ذلك، كل ذلك حرصاً منه على حفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم) .(56/7)
سريان العتق على من أعتق شركه في عبد
ومن الوسائل لعتق الرقاب عتق من أعتق بعضه، ورد في حديث: (من أعتق شركاً له في عبد قوّم عليه قيمة عدلٍ، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وإلا عتق منه ما عتق) ، صورة ذلك: إذا كان عبد مشترك بين خمسه، فأعتق أحدهم نصيبه، ألزمناه بأن يشتري بقية أربعة الأخماس، فنقوّم العبد بثمن متوسط، فيشتريه ويعطي كل واحد منهم حصته وثمنه، حتى يكون العبد حراً، ويكون ولاؤه له، فإن لم يكن له مال فإن العبد يكون مبعضاً، يعتق منه جزؤه الذي أعتقه ذلك المعتق وهو أحد الشركاء، أما إذا كان له مال بحيث يقدر على أن يشتري أنصباء شركائه، فإن عليه أن يشتريه.
ثم استحباب العتق خاص بمن له كسب، أي: من إذا أعتقته قدر على أن يكتسب أموالاً ويغني نفسه، هكذا استحبوا.(56/8)
مقارنة بين الاسترقاق عند المسلمين والكفار
والحاصل: أن مسألة الرق من محاسن الإسلام، فالدول الأخرى إذا استولوا على النساء وعلى الأطفال وعلى الرجال.
حصدوهم حصداً، فقتلوا الأطفال وقتلوا النساء ونحوهم، ولا شك أن إبقاءهم مماليك أفضل من قتلهم، وكذا من إيداعهم في السجون، وإطالة سجنهم، فإنهم إذا كانوا مماليك ينفعون غيرهم ويخدمون أهلهم، فينتفعون بالحياة، ويريحهم السيد من كد التعب والكسب، ويقوم بكفايتهم ويعطيهم ما يحتاجون إليه، فأيهما أفضل: ذلك أم قتلهم كما تفعله الدول الكافرة؟! يعيبوننا ويقولون: كيف تستحلون ملكية الإنسان، وتجعلونه كسلعة؟ ولا يفكرون في حالتهم هم، حيث إنهم يقتلون الأطفال، ويقتلون الرجال، ويودعونهم السجون مدة طويلة، فأيما أفضل لهؤلاء المستولى عليهم؟ لا شك أن كونهم يبقون أحياء ينفعون أنفسهم وينتفعون، وقد يتعرضون لأن يكونوا عتقاء يعتقهم من استولى عليهم، ذلك بلا شك خير.
ثم في القرن الماضي في أول القرن الرابع عشر وفي آخر القرن الثالث عشر، كان هناك أناس يسرقون بعض الأطفال ويبيعونهم على أنهم مماليك، فيأتون إلى بعض البلاد التي فيها شيء من الجوع ونحوه، مثل السودان أو الحبشة وتلك البلاد، ثم يستدعون بعض الأولاد الذين في سن العاشرة والحادية عشرة، ويختطفونه فيطعمونه ويكسونه ويقولون: اذهب معنا ونحن نطعمك ونعطيك ونحو ذلك.
فيذهب معهم يعتقد أنهم سوف يحسنون إليه، ويأتون إلى هذه البلاد ويبيعونه على أنه مملوك، وكثر بيع هؤلاء الذين ليسوا مماليك، وإنما هم أحرار، فلما كثر بيعهم وقلّ أو انقطع الجهاد من عشرات السنين، رأت الحكومة في هذه البلاد أن أكثر هؤلاء المماليك ليست ملكيتهم صحيحة، وأنهم مظلومون، وأنهم قد بيعوا وهم أحرار، فرأت الحكومة تحريرهم، ففي سنة ست وثمانين صدر الأمر بتحرير كل الرقاب الموجودين في المملكة، وتعويض أهاليهم عنهم، ولو كان عند أحدهم عشرة أو عشرون دفعت الحكومة قيمهم وتحرروا، ولم يبق في هذه البلاد أرقاء.
ولكن إذا حصل قتال مع الكفار ثم حصل الاستيلاء على سبيهم، فإن الرق يعود، وهذا هو الأصل؛ لأن أصله الاستيلاء على سبي المشركين أطفالهم ونسائهم ونحو ذلك، فإذا قوتل مثلاً اليهود واستولي على سبيهم فلا شك أنهم يكونون أرقاء، وكذلك إذا استولي على سبي بعض المشركين والكفار، فلو أن المجاهدين في الأفغان أو في الشيشان يستولون على سبي من سبي الكفار الذين هم شيوعيون كفرة، فإنهم يسترقون، ولكنهم لم يتجرءوا على السبي، لأجل ذلك من استولوا عليه قتلوه، مع أنه قد ورد النهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب؛ وذلك لأنهن لا يقاتلن، وكما ذكر أن في غزوة وجدوا امرأة مقتولة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتل) .
لهذا إذا استولى المسلمون في حرب من الحروب الإسلامية التي هي ضد الكفار على سبيهم من نساء وأطفال، فإنه لا يجوز قتل النساء والأطفال، بل إما أن يمنوا عليهم، وإما أن يسترقوهم، وإما أن يفادوا بهم: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
ذكر أيضاً أنه يكره عتق من لا قوة له ولا كسب؛ لأن الأرفق به أن يبقى عند سيده، ينفق عليه، فإذا كان هناك مملوك كبير السن، إذا أعتقه فمن الذين ينفق عليه، لكبر سنه وعجزه، إذ لا قوة له، وليس له قدرة على الكسب؟ فبقاؤه في رق سيده ينفق عليه ويقوم بكفايته أولى به من العتق وأفضل، مع أن العتق فيه هذا الأجر الكبير.(56/9)
الوصية بالعتق والتدبير
قوله: (ولا تصح الوصية بالعتق) ، يعني: لا يصح أن يقول: أوصيت بعتق فلان رقيقي، قد تقدم أنها تصح الوصية للعبد بجزء مشاع من المال -كما تقدم في الوصايا- كثلثه، فيقول: إذا مت فأعطوا ثلث مالي عبدي سعيداً، فإذا قدروا نصف ماله أنه مائة بما فيه العبد، وقيمة العبد مائة عتق كله، وإذا قدر أن قيمة العبد مائة، وثلث المال بما فيه العبد مائتان عتق العبد وأخذ مائة.
فأما الوصية به، أن يقول: إذا مت فأعتقوا من مالي كذا، فهذا لا يصح؛ وذلك لأنه تتعلق به بعد ذلك حقوق الورثة.
أما تعليقه بالموت وهو التدبير فيصح، والتدبير أن يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أشهدكم أني دبرت هذا المملوك أو هذه الأمة.
دبرتها: يعني جعلتها حرة بعد موتي، التدبير معناه: أن يعلق عتقه بموته، فيقول: إذا مت فعبدي حر، لماذا سمي تدبيراً؟ لأنه دبر حياته باستخدام العبد، ودبر ما بعد الموت بحصول أجر العتق، فما دام مدبراً فإنه يستمتع به فيستخدمه، وكسبه له، وإن كانت أمة فله وطؤها؛ لأنها لم تخرج عن ملكه، فيكون بذلك كأنه دبر حياته ودبر ما بعد الموت، هذا تعليقه بالموت وهو التدبير.
وإذا دبره وعتق بعد موته عتق من الثلث، إن خرج من الثلث خرج كله، وإن لم يخرج عتق منه بقدر ثلث ماله إلا أن يجيز الورثة ما زاد على الثلث، هذا المدبر في حديث جابر ذكر أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر، ليس له مال غيره، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه ثمنه، وقال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) إلى آخره.
فدل على جواز بيع المدبر، إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، أو: إذا مت ففلان حر، فإنه يجوز له في الحياة أن يبيعه وينتفع بثمنه، فإذا باعه بطل التدبير، وإذا دبره وعتق بعد الموت فإنه لا يعتق إلا إذا خرج من الثلث، فإن كان أقل من الثلث عتق منه بقدر الثلث بما في ذلك قيمته.(56/10)
مكاتبة المملوك(56/11)
حكم كتابة من علم فيه خير
يقول: (وتسن كتابة من علم فيه خيراً) : هذا يسمى المكاتب، وقد ذكر في القرآن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] وصورة ذلك أن يقول العبد: أنا أشتري نفسي وأستطيع أن أحرر نفسي، أعمل لنفسي، وأؤدي دين الكتابة، فيتفق مع سيده على أن يشتري نفسه بثمن مقسط، يؤدي كل شهر أو كل سنة قسطاً، إلى أن يؤدي الثمن كله فيعتق، هذا هو المكاتب.
وذلك فيما إذا كان يعلم منه أنه قادر على الكسب، وهذا معنى قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] ، فالخير في الآية: الكسب والأمانة، فإذا علم بأنه مأمون، بحيث إنه لا يهرب، ولا يبقى كلاً على الناس يتكفف الناس ونحوه؛ ففي هذه الحال يكاتبه إذا طلب العبد، فيقول: قيمتك مثلاً عشرة آلاف، وأنا أبيعك نفسك بخمسة عشر، تعطيني كل سنة ألفين حتى تتحرر، هذه هي الكتابة، يعني مكاتبته، فيحرص العبد على أن يؤدي الأقساط، يشتغل بالأجرة أو بالتجارة، أو يكون له حرفة يدوية أو ما أشبه ذلك، فيؤدي الكتابة التي تلزمه.
فإذا تأخر سنة فلسيده أن يلغي الكتابة، ويقول: أنت لست أهلاً؛ وذلك لأنك ما عملت بما وعدت، حيث إنك ما أديت الكتابة والدين في حينه، فإذا ألغاه لُغي، وعاد قناً، وهكذا إذا عجز وجاء إلى سيده وقال: عجزت، فإنه يعود مملوكاً له، ويعود إلى كونه رقيقاً، ورد في حديث: (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم) .
والحاصل: أنه إذا علم فيه خيراً فإنه يكاتبه.(56/12)
حكم كتابة من لا كسب له
قوله: (وتكره لمن لا كسب له) : لأنه إذا لم يكن له كسب يكون كلاً على الناس، يتسول ويمد كفه إلى الناس: أعطوني أنا أنا، لا شك أن له حقاً، بل له حق في الزكاة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ، فسرت الرقاب هنا بأنهم المماليك المكاتبون، وأن لهم حقاً في الزكاة، فيعطون حتى يساعدوا على تحرير أنفسهم.
فإذا علم فيه خيراً فإنه يكاتبه، وإذا عرف بأنه ليس من أهل الكسب، ولا من أهل القدرة على أداء ما التزم به، أو خاف أنه يهرب، فإن الكتابة لا تصح؛ لأنه يساعده على الإفساد، وكثير من المماليك إذا عتق فسد، من حيث يقع في الزنا، ويقع في المسكرات، ويقع في الفواحش وما أشبهها، فبقاؤه مملوكاً أولى به.(56/13)
بيع المكاتب
يقول: (ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتبه) : دليل ذلك قصة بريرة: أنها كاتبت أهلها على تسع أواق الأوقية أربعون درهماً، يعني: نحو ثلاثمائة وستين درهماً، وقيمتها يمكن أنها مائتا درهم، ولكن لما كانت مؤجلة زادوا في ثمنها، ولكن جاءت إلى عائشة تطلب منها أن تساعدها في دين كتابتها، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أدفع لهم الثمن ويكون ولاؤك لي فعلت، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها بأن تشتريها ويكون لها الولاء، لكن أهلها الذين كاتبوها قالوا: نريد أن يكون الولاء لنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) ، فجعل الولاء لمن أعتق، وفي هذه الصورة عائشة هي التي أعتقتها، فهذا معنى قوله: (يجوز بيع المكاتب) .
وقوله: (ومشتريه يقوم مقام مكاتبه) : إذا اشتراه المشتري مكنه من الاحتراف، فإن أدى ما عليه عتق، وكان ولاؤه للمشتري، وإن عجز عاد رقيقاً وصار مملوكاً للمشتري، أي: إذا أدى عتق وولاؤه لمن انتقل إليه، فالذي باعه باع العبد وثمنه وولاءه.(56/14)
عتق أمهات الأولاد
ذكر بعد ذلك أم الولد فقال: (تعتق بعد موت سيدها من كل ماله) : أم الولد هي الأمة التي يطؤها سيدها فتلد منه ولداً واحداً أو عدداً، ذكراً أو أنثى، فإنها تصير أم ولد، وسواء كان ذلك الولد حياً أم ميتاً إذا وضعته بعدما يتبين فيه خلق الإنسان، يعني: إذا وضعت ما تبين فيه خلق الإنسان كرأسه، وعلامة رأسه عيناه وشفتاه، أو يداه ورجلاه، وأصابع يديه ورجليه، أي أنها وضعت حملاً ولو ميتاً، وقد مضى عليه نحو أربعة أشهر، فإذا وضعته أصبحت أم ولد.
وما دامت أم ولد فإن حكمها حكم الأمة عند سيدها، له أن يطأها، وله أن يستمتع بها، وله أن يستخدمها، إلا في نقل الملك؛ فليس له أن يبيعها، ولا أن يهبها لمن يملكها، لماذا؟ لأنه قد انعقد سبب عتقها؛ وذلك لأنها لما ولدت منه صار لها من تمنّ عليه وهو ولدها، في هذه الحال إذا مات سيدها عتقت من رأس المال.(56/15)
عتق أم الولد ممَّم يحسب
تعتق أم الولد بموت السيد من كل المال، لا من الثلث.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تعتق من نصيب ابنها؛ لأنها ولدته، فسواء كان واحداً أو عدداً، وسواء كان ذكراً أم أنثى، فكأنهم يقولون: إن ولدها يملكها، وإذا ملكها فإنه لا يستخدمها، بل تعتق عليه.
وقد ذكروا من أسباب العتق: أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فإذا ملك الإنسان أباه عتق، أو ملك ابنه عتق، أو ملك أخاه أو ابن أخيه أو عمه أو خاله، يعني: الذي بينه وبينه محرمية، فبمجرد ما يملكه يعتقه.
فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فكأن ابنها ملكها، أو ملك جزءاً منها، أما في حالة حياة السيد فليس لهم ملك، بل الملك للسيد، أما بعد وفاته فيملكها أولاده، ومن جملتهم ولدها الذي منه واحداً كان أو عدداً، وإذا كان ولدها قد ملكها فإنها تعتق من نصيبه.
ولكن القول المشهور: أنها تعتق من رأس المال، أي: تعتق من جميع التركة، فمتى مات سيدها عتقت.
تعريفها: من ولدت ما فيه صورة، ولو خفية، من مالك، يعني: ولدت من الذي ملكها مولوداً فيه صورة الإنسان، ولو كانت تلك الصورة خفية، ولكن بالتأمل يُعرف أن هذا رأسه، وأن هذا وجهه، وأن هذه عيناه، وهذه خلقته، ورجلاه، ويداه، يكون ذلك من أسباب عتقها، أنها انعقد سبب عتقها بولادتها ولداً ولو ميتاً ولكن فيه صورة الإنسان ولو خفية، وأن ذلك الولد من سيدها الذي وطئها فأحبلها.(56/16)
أحكام عتق أمهات الأولاد
يقول: (ولو كان يملك بعضها، أو كانت محرمة عليه) .
يعني: لو أن إنساناً وطئ أمة بشبهة فولدت منه عتقت، وكذلك لو كانت مشتركة بينه وبين ثلاثة، وهو رابعهم، فوطئها أحدهم، فحرام عليه أن يطأها، لكن بشبهة، فحملت منه فولدت؛ أصبحت أم ولد له، وعليه أن يعطي شركاءه حصصهم، وتبقى مملوكة له، فإذا مات عتقت من رأس ماله.
يقول: (أو محرمة عليه) : يعني: لكونها مشتركة.
(أو من أبيه) : لو وطئ أمة لأبيه فأولدها صارت أم ولد له.
يقول: (إن لم يكن وطئها الابن) : لأنه يحرم على الأب أن يطأ أمة ابنه، ويحرم على الابن أن يطأ أمة أبيه، فإذا قدر أنه وطئها، وحملت منه، أصبحت أم ولد لمن وطئها.
يقول: (وأحكامها كأمة إلا فيما ينقل ملك رقبتها أو يراد له) : يعني: تبقى في حال حياة سيدها كأنها أمة يستخدمها، ويطؤها، ويستمتع بها، وهي خادمة عنده، وله أيضاً أن يزوجها، وإذا زوجها وولدت أولاداً من ذلك الزوج، أصبحوا مماليك له، فإذا مات عتقت، وعتق أولادها؛ لأنه قد انعقد سبب عتقها، فيعتقون معها، هذا معنى قوله: (أحكامها كأمة إلا فيما ينقل الملك لرقبتها) ، يعني البيع أو الهبة، وكذلك الرهن؛ لأن الرهن يراد للبيع، فليس له أن يرهنها؛ لأنه قد يُعسِر ويحل الدين فيبيعها ذلك المرتهن.
فلا بد أنه يحافظ عليها، فلا يبيعها، ولا يهبها، ولا يرهنها، هذا معنى: (أو يراد له) يعني: يراد للبيع، ويراد لنقل الملكية.(56/17)
ولاء المعتق
ثم يقول: (ومن أعتق رقبة أو عتقت عليه فله عليها الولاء، وهو أنه يصير عصبة لها مطلقاً عند عدم عصبة النسب) : قد ذكرنا أن الولاء من أسباب الإرث، فمن الأسباب التي يحصل بها التوارث الولاء، وذكرنا أنهم عرفوه بأن الولاء: عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فيرثه هو وورثته المتعصبون بأنفسهم، لا بغيرهم ولا مع غيرهم؛ وذلك لأنه إذا أعتق هذا العبد أو تسبب في عتقه، حتى ولو كان كفارة، أصبح ذلك العبد مولىً لذلك المعتق، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] إلى قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] ، فسماهم الله إخواناً وموالي وهم عتقاء.
المولى: هو الذي يتولى إنساناً، فيسمى مولىً له، ثم يطلق الولاء على ولاء العتاقة، ويطلق على ولاء الإسلام، يعني: أن هناك من تدعوه فيسلم على يديك، فيكون مولىً لك، وينتسب إلى قبيلتك، من ذلك ما ذكروا أن جد البخاري الذي هو أبو المغيرة كان مجوسياً دعاه رجل من قبيلة جعف، فأسلم على يديه، فصار يقال له: الجعفي، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، فهو جعفي بالولاء، وليس هو ولاء الرق ولكنه ولاء الإسلام، لأنه أسلم على يدي بعض قبيلة بني جعف.
وهذا الولاء لا يحصل به توارث: لا ولاء الإسلام، ولا ولاء الموالاة، وهو أن يأتي إنسان ضعيف، فينضم إلى قبيلة فيقول: أنا لكم وأنا منكم، هذا أيضاً لا يحصل به التوارث.
بخلاف ولاء العتق، فإنه يحصل به التوارث، ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق) ، لما أن عائشة أعتقت بريرة، وقد كان أهلها أرادوا الولاء لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولاء لمن أعتق) ، فالرقيق بعد عتقه يصير مولىً لمن أعتقه، فله عليه الولاء، ويصير عصبة له مطلقاً، يرثه عند عدم عصبة النسب، أي: إذا لم يوجد له أقارب من النسب ورثه معتقه الذي منّ عليه بالعتق، وإذا مات السيد قام مقامه أولاده الذكور دون الإناث، فيكون عصبة له هو وأولاده الذكور دون الإناث.
هذا آخر العتق.(56/18)
شرح أخصر المختصرات [57]
النكاح سنة من سنن الله عز وجل الكونية؛ وقد شرعه الله لبقاء النسل البشري، فقد خلق الله عز وجل الرجل والمرأة، وجعل بينهما غريزة النكاح، وقد جاءت الشريعة بتهذيب هذه الغريزة وحفظها من الانحراف، وللنكاح أحكام تجب معرفتها على كل من يقدم عليه.(57/1)
أحكام النكاح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب النكاح: يسن مع شهوة لمن لم يخف الزنا, ويجب على من يخافه.
ويسن نكاح واحدة حسيبة دينة أجنبية بكر ولود, ولمريد خطبة امرأة مع ظن إجابة نظر إلى ما يظهر منها غالباً بلا خلوة إن أمن الشهوة, وله نظر ذلك، ورأس وساق من ذوات محارمه ومن أمة.
وحرم تصريح بخطبة معتدة على غير زوج تحل له، وتعريض بخطبة رجعية, وخطبة على خطبة مسلم أجيب.
وسن عقده يوم الجمعة مساء بعد خطبة ابن مسعود] .
ذكر بعضهم أن النكاح تتعلق به الأحكام الخمسة، فيكون على بعض الناس واجباً، وعلى بعضهم حراماً، وعلى بعضهم مكروهاً، ولبعضهم مستحباً، ولبعضهم مندوباً.
فيكون واجباً إذا خاف على نفسه الزنا، وقدر على مئونة النكاح، وقدر على العدل وإعطاء الزوجة حقها، ففي هذه الحال يكون واجباً؛ لأنه إذا لم يتزوج خيف على نفسه إما الضرر، وإما الوقوع في الزنا ونحوه، والشيء الذي يقي عن الحرام يكون واجباً؛ فلذلك جعلوه واجباً على من يخاف على نفسه الزنا.(57/2)
الحكمة من النكاح
ذكر العلماء الحكمة في أن الله تعالى ركّب الشهوة في جنس الآدميين كما ركبها أيضاً في بقية الحيوانات، فقالوا: الحكمة هي: وجود التوالد، وبقاء هذا الجنس من خلق الله تعالى، فإن بالنكاح يدوم ما دام أن الله تعالى أراد إبقاءه، ولما أراد الله أن يغرق أهل الأرض في زمن نوح، أمره أن يحمل من الحيوانات من كل زوجين اثنين: ذكراً وأنثى من كل صنف، فحمل من الإبل ذكراً وأنثى، ومن الفيل ذكراً وأنثى، ومن الخيل، ومن الحمر، ومن البقر، ومن المعز، ومن الضأن، وكذلك من الطيور، ومن الوحوش، ومن الظباء والوعول وما أشبهها، حشرها الله له فحمل من كل زوجين اثنين؛ لأن الغرق عم جميع الأرض، فغرق كل من على وجه الأرض، ونجا أهل السفينة، فلما نجا أهل السفينة بما فيها تناسل ذلك الخلق الذي بقي، وقد حمل حتى الحشرات ونحوها مما أذن الله تعالى بقتله كالحية والعقرب والحشرات بأنواعها، وقد جعل الله تعالى سبب بقائها هذا التزاوج، فالذكر منها ينكح الأنثى، ثم يحصل التزاوج، ويحصل بعد ذلك التواجد، فهكذا الإنسان، ركّب الله فيه هذه الشهوة التي تدفعه إلى الاتصال الجنسي، وكذلك ركب أيضاً في المرأة الشهوة ليحصل التزاوج، ويحصل التقارب؛ فيحصل بذلك التوالد، ووجود النوع الإنساني، وعدم انقطاعه، فلو كان الخلق كلهم ذكوراً ما حصل التوالد، وكذا لو كانوا كلهم إناثاً، فالذي تكون -مثلاً- إبله كلها ذكوراً لا تتوالد، وكذلك بقره أو غنمه لا يحصل التوالد إلا إذا كان هناك ذكور وإناث، فمن حكمة الله أن جعل في الإنسان هذه الشهوة التي تدفعه إلى أن يحصل منه هذا الوصال وهذا الجماع؛ فيحصل بذلك الحمل، ويحصل التوالد، ويحصل البقاء.
كذلك أيضاً بعد خروج الإنسان إلى الدنيا يلقي الله في قلوب أبويه رقة وشفقة عليه؛ ليربياه إلى أن يترعرع، وإلى أن يكون إنساناً قوياً.(57/3)
الترغيب في النكاح
جاء الترغيب في النكاح، وورد الحث عليه، قال الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] والخطاب للرجال، والمعنى: انكحوا -أيها الرجال! - ما طاب لكم من النساء، وفي آية أخرى قال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] الأيامى: جمع أيم، وهي: المرأة غير المزوجة، أي: أنكحوها، ولا تبقوها دائماً أيماً، وهذا حث على النكاح.
ثم ورد في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) فخاطب الشباب؛ وذلك لأنهم غالباً عندهم قوة الغلمة والشباب، ولأنهم غالباً لا يحجزهم قوة إيمان عن الوقوع في المحرم، فإذا تزوجوا حصلت لهم هذه المصلحة المذكورة: (أغض للبصر، وأحصن للفرج) .
وقد وردت الأدلة في النهي عن التبتل، كما في حديث سعد في الصحيح أنه قال: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) ، فـ عثمان بن مظعون اشتهر بأنه أراد الزهد في الدنيا، والانقطاع للعبادة، وترك زوجته، وكان يقال لها: الحولاء، وبقي هاجراً لها مدة، فجاءت مرة عند النساء وإذا هي متبذلة في ثياب دنسة، وشعر شعث، فأنكرن ذلك، فأخبرت بأن زوجها لا رغبة له فيها، ولا رغبة له في الدنيا، وأنه دائماً إما في صلاة وإما في صوم، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، وأخبره بأن هذا الانقطاع لا يجوز، وأخبره بما يجب عليه نحو زوجته، ونحو نفسه، فعند ذلك تراجع، وباشر زوجته، وأعطى نفسه شهوتها، ورد عليه هذا التبتل، يقول سعد: لو أذن له بالتبتل والانقطاع لتبتلنا، ولا نستطيع أن نصبر عن النساء إلا إذا اختصينا، يعني: قطعنا أسباب الشهوة، فكان هذا دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم أراد من أمته أن يأتوا ما أباح الله، وألا يتبتلوا، وألا يتركوا ما أحل الله تعالى لهم من الشهوة المباحة، بل رغبهم في ذلك.
ومن الأحاديث التي تحث على ذلك، وتنهى عن ضده: (أن ثلاثة سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر فتقالوها، فقال بعضهم: أنا أصوم دائماً، وقال بعضهم: أنا أقوم دائماً، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء؛ فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وهذا وعيد، فالذي يترك الزواج تقشفاً يُعتبر راغباً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يفضل فعله على فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم -وذكر منهم- المتزوج يريد العفاف) ، فإذا تزوج الإنسان يريد أن يعف نفسه عن الحرام، فإن حقاً على الله تعالى -يعني: مما جعله على نفسه- أن يعينه، وأن يسدده، وأن يخفف عنه ما قد يتحمله، وهذا مشاهد، ونعرف كثيراً من الذين كانوا فقراء لما تزوجوا أغناهم الله تعالى؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: إذا كانوا فقراء فتزوجوا للتعفف فتح الله عليهم، ورزقهم ووسع عليهم، وكذلك جاء في الحديث المشهور: (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، فما ذكر إلا: (ترضون دينه وأمانته) ؛ وذلك لأنه إذا أخذ الزوجة فهو مأمون عليها؛ ولذلك جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) إلى آخره، فهن أمانة، فإذا كان المتقدم أميناً موثوقاً ديناً فإنه لا يرد، إلا إذا كان هناك أسباب أخرى.(57/4)
حكم النكاح
قال المصنف رحمه الله: (يسن مع شهوة لمن لم يخف الزنا) أي: أنه إذا كان عنده شهوة، ولكنه يأمن على نفسه، ويقدر على أن يحفظ نفسه من الزنا، فإنه مسنون في حقه ومستحب، فيكون النكاح مسنوناً إذا كان له شهوة، لكنه يأمن على نفسه من الوقوع في الزنا.
فإذا قلت: متى يكون مباحاً؟
الجواب
يكون مباحاً إذا كان لا شهوة له، يعني: ليس له شهوة تدفعه، ولكن إذا تزوج قدر على أن يعف زوجته؛ لأن عنده قدرة على المباشرة، ولكن ليس هناك شهوة تدفعه أو يندفع بها؛ لأن أمر الشهوة يتفاوت الناس فيه: فمنهم من لا يكون له شهوة، ولكن إذا تزوج قدر على أن يعف امرأته بالوطء ولو كل شهر أو نحوه.
ومنهم من يكون معه شهوة، ولكنه يقدر على أن يملك نفسه، فالشهوة تدفعه، ولكنه يستطيع أن يملك نفسه.
ومتى يكون النكاح واجباً؟ الجواب: يجب على من عنده شهوة قوية يخشى إذا ترك النكاح أن تدفعه شهوته إلى فعل فاحشة الزنا أو نحوه، ويشترط: أن يكون قادراً على المئونة، وعلى إعطاء الزوجة حقها من العشرة بالمعروف ونحو ذلك.
ومتى يكون مكروهاً؟ إذا علم بأنه يقصر في حقوق المرأة، ولو كان يعطيها ولكنه يظلمها أو يعطيها دون حقها.
ومتى يكون حراماً؟ إذا كان يتحقق بأنه لا يعطيها شيئاً من حقها، فيظلمها فلا يعفها، ولا ينفق عليها، ويضر بها بأنواع من الضرر، بمعنى: أنه يؤذيها ويفتنها.
فالحاصل: أن النكاح يكون مسنوناً لمن أمن على نفسه، ومباحاً لمن لا شهوة له، وواجباً لمن خاف على نفسه فاحشة الزنا، ومكروهاً لمن خاف التقصير في حق الزوجة، وحراماً لمن علم أنه يظلم المرأة ولا يعطيها حقها.(57/5)
تعدد الزوجات
ذكروا أنه يسن نكاح واحدة؛ وذلك لأن الزيادة عليها يعرضه للضرر، ولعدم العدل، إلا من كان قادراً، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129] .
واختلف: هل الأصل في النكاح التعدد أو الإفراد؟ فالذين قالوا: الأصل التعدد، قالوا: إنه الذي أمر الله به في قوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، فإن هذا أمر بأن ينكح أكثر من واحدة، ولكن بشرط وهو قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3] ، فهذا دليل من يقول: الأصل التعدد.
دليل من يقول: الأصل الإفراد قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] ، فهذا دليل على أن الإنسان غالباً لا يستطيع العدل بين الزوجات إلا بصعوبة، وسوف يأتينا في باب العِشْرَة أنواع العدل، إن شاء الله.(57/6)
مقاصد الناس في النكاح
وصف المصنف من يستحب نكاحها بأنها حسيبة، يقول المعلق: أصل الحسب: الشرف بالآباء أو بما يعده الإنسان من مفاخرهم.
وقوله: (يسن أن تكون حسيبة) يعني: من قوم ذوي شرف، واختلف في حقيقة الشرف: فمن الناس من يقول: إن الشرف هو: الكرم والسخاء والجود، والشجاعة والشهرة والإقدام، وإنه بذلك يكون شريفاً، ولكن هذا أيضاً ليس بمطرد، ولا ينتفع به الخلف، فلا ينتفع خلف بشرف آبائهم وأسلافهم، ولذلك ورد النهي عن الافتخار به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) يعني: أنهم يفتخرون بآبائهم وأسلافهم، وفي حديث آخر: (إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب) ، وفي حديث أخر أنه قيل: يا رسول الله! من أكرم الناس؟ فقال: (أكرمهم عند الله أتقاهم) إلى آخر الحديث، فيكون الحسب هو: التقوى والديانة.
ولا شك أيضاً أن من الحسب شرف النسب، وقال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) يعني: أن أكثر الناس إنما يسألون عن هذه الأربع، فمنهم من يسأل عن شرف الآباء، فهذه أهلها أوفياء وشجعان وكرماء وأمراء وقادة وسادة؛ فلها شرف ولها نسب رفيع، ثم يذكرون أن هذا الشرف قد يحملها على صيانة نفسها، وصيانة عرضها، وصيانة زوجها، وحفظ نفسها، فلا تتعرض لما يقدح في شرفها، ولما يجلب السمعة لأهلها، فيكون ذلك مما يجلب لها سمعة سيئة، فيذكرون أنها إذا كانت ذات نسب وذات شرف حفظت نفسها عن الدناءات، وعن الأقذار، وترفعت عما لا يستحسن، فتتخلق بالأخلاق الرفيعة، وتتخلى عن الأخلاق الدنيئة التي تقدح في شرفها، والتي تجلب لأهلها سمعة سيئة، فهذا لا شك أنه يقع، ولكن ليس بمطرد دائماً؛ وذلك لأن كثيراً من الناس ذكوراً وإناثاً آباؤهم أهل صيانة وأهل حسب وأهل شرف، ومع ذلك لا يكونون مثلهم ولا قريباً منهم، فلا ينفعهم شرف آبائهم، كما يقول الشاعر: إذا افتخرت بأقوام لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا أي: أنك ما وافقتهم على شرفهم، بل صرت مخالفاً لهم خلافاً ظاهراً، فحسب الإنسان هو فعله، وكما قال بعضهم أيضاً: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب فالحاصل: أن هذا مقصد من المقاصد، وهو كونها حسيبة.
وقوله: (دينة) أي: ذات دين، ولا شك أن هذا من المقاصد الحسنة؛ لقوله في الحديث: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، وهذا أيضاً مقصد من المقاصد.
وأما مقصد الجمال فهو أيضاً بلا شك من المقاصد المعروفة، فإن الكثير يقصدون جمال المرأة وحسنها، فإذا كانت دميمة الخلقة فإن النفس تنفر منها، ولأجل ذلك أبيح النظر إليها قبل العقد، فالجمال من دوافع ومن دواعي النفس، ولكن مع ذلك قد لا يكون مقصداً مقصوداً؛ لأنها قد تفتخر عليه إذا كانت جميلة، وقد تترفع عليه، وتقول: لست كفئاً لي، أنا أجمل النساء، وأنا وأنا، فلا يكون هذا مقصوداً أساسياً.
أما قصد المال فهو أيضاً مقصد لكثير من الناس، فهناك من يتزوج المرأة لأجل أنها ذات ثروة وغنىً وكثرة مال، وفي هذه الأزمنة قد يتزوجها لكونها موظفة تتقاضى مرتباً قد يكون مثل مرتب زوجها، أو قد تكون أكثر منه دخلاً، فيتزوجها لذلك، وهذا أيضاً ليس مقصداً أساسياً؛ وذلك لأنها قد تفتخر عليه، وتمنّ عليه وتقول: أنا الذي كفلتك، وأنا الذي أعطيتك، وأنفقت عليك، وقضيت دينك، وأنفقت على ولدك، وأعطيتك، وكذا وكذا، فذلك مما يوقعه في امتنانها عليه، وهذا مما يضجره ويمله، فلذلك لا يكون هذا أيضاً مقصداً أساسياً، إنما المقصد الأساسي أن تكون دينة.(57/7)
استحباب كون الزوجة من غير الأقارب
قول المصنف رحمه الله: (أجنبية) يعني: بعيدة من نسبه، ليست من أقارب الزوج، واختلف في السبب في ذلك: فقيل: إن ولدها يكون نجيباً، هكذا قالوا، ولكن ليس ذلك مطرداً.
والأكثرون عللوا بمخافة قطع الرحم؛ لأنه إذا ساءت العشرة بينهما فحصل الطلاق أو الشقاق حصل بذلك التهاجر، وقطيعة الرحم، فيقطع أعمامه أو أخواله أو عشيرته، فيحصل التهاجر والتباغض فيما بينهم، وهذا فيما إذا كان أحد الزوجين معروفاً بشراسته وحقده، وحنقه وغضبه، وعدم أمانته، أما إذا عرف كل منهما بالصيانة والديانة، فإن القريبة تكون أحنى عليه وأشفق عليه وعلى ولده؛ لأنها تحبه لقرابته قبل أن يكون زوجاً، وتزداد في محبته ومؤانسته بعد أن يكون زوجها وعشيرها في حياتها، فليس مطرداً كونها أجنبية دائماً، بل بحسب الحالات والمناسبات.(57/8)
استحباب كون المرأة بكراً
قوله رحمه الله: (بكراً) ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟!) ولأن المطلقة غالباً يكون قلبها مع زوجها الأول، وكلما حدث بينهما شيء فإنها تمنّ عليه وتعيبه وتقول: زوجي الأول خير منك، كان كذا وكذا، وكان أظفر، وكان أظرف، وكان وكان، فتتمنن عليه، أو يكون قلبها متعلقاً به، وإن كان قد طلقها، فهذا هو السبب، ولا شك أن البكر التي لم تعرف زوجاً قبله تكون أقرب إلى أنها توده وتحبه.
وإذا قيل: النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته كلهن ثيبات إلا عائشة، فلماذا اختار هؤلاء الثيبات؟
الجواب
ذكر العلماء: أنه صلى الله عليه وسلم ما تزوجهن لأجل الشهوة، وإنما تزوجهن لأجل أن يتودد إلى آبائهن، وإلى أقاربهن، أو نحو ذلك، فتزوج حفصة بنت عمر مع كونها ثيباً؛ ليحصل الوداد بينه وبين أبيها، وكذلك تزوجه لـ ميمونة ولـ زينب، وغيرهن، كان ذلك لأسباب ثبوت المودة، وثبوت الآثار الحسنة، فإنه لما تزوج جويرية بنت الحارث حصل أن الصحابة أعتقوا من عندهم من الإماء، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك مصلحة، ولأن أباها كان من أشراف قومه، فأراد أن يتودد إليه، وغير ذلك، وإلا فالبكر أولى؛ لأنها تكون متوددة متحببة إلى زوجها.(57/9)
استحباب كون المراة ولوداً
قوله رحمه الله: (ولوداً) أي: من نساء يعرفن بكثرة الولادة، وكيف يعرف ذلك؟
الجواب
إذا عرف أمهاتها وجداتها بكثرة الولادة، ولكن هذا أيضاً من الغيب، فإذا كانت بكراً فكونها ولوداً من أمر غيب، ولكن هذه هي العادة المطردة، وقد تكون عقيماً عاقراً لا تلد، وذلك مما يخلقه الله تعالى في بعض النساء كالرجال، ولكن يُستحب أن تكون ولوداً.
روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أعجبت بامرأة، وأريد خطبتها، ولكنها لا تلد، فأعرض عنه، ثم سأله مرة ثانية وأخذ يمدحها، ولكنها لا تلد، فقال له: دعها، تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ، الودود يعني: المتحببة إلى زوجها، والولود يعني المعروفة بالولادة، أي: أنها ليست عاقراً بل تلد، وعلل بقوله: (إني مكاثر بكم الأمم) يعني: أحب أن تكثروا ويكثر أولادكم؛ حتى يكون أتباعي أكثر من أتباع غيري.(57/10)
النظر إلى المخطوبة
قال المصنف رحمه الله: (لمريد خطبة امرأة مع ظن إجابة نظر إلى ما يظهر منها غالباً) .
الخِطبة بالكسر خطبة النساء، والخُطبة بالضم خُطبة الجمعة ونحوها، فإذا أراد أن يخطب امرأة وغلب على ظنه أنها تجيبه وأهلها يجيبون، لما عرف من أهليته وكفاءته، فإن له أن ينظر إلى ما يظهر منها غالباً، وقد وردت في ذلك أحاديث، كحديث المغيرة: أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً) ، وفي حديث آخر أنه قال: (إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إليها؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يؤدم بينهما) يعني: إلى أن يؤلف بينهما، وإلى أن تحصل المودة بينهما.
واختلف: هل هذا النظر سر أو علانية؟ الأكثرون على أنه يكون سراً وخفية، كما في حديث جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب أحدكم امرأة فاستطاع أن ينظر إليها فليفعل) ، قال جابر: (فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها) ، فقوله: (إن استطاع) دليل على أنه يكون بغير علمها، وقوله: (أتخبأ لها) يعني: أختفي لها، وراء حائط أو نخلة أو نحو ذلك، قال: إلى أن رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها.
وينظر إلى ما يظهر منها غالباً، والذي يظهر غالباً وجهها وشعرها وكفاها وقدماها، هذا الذي يظهر منها غالباً، وليس المراد أن ينظر إلى بدنها كاملاً، وأن يتحين كونها مثلاً قد تجردت للاغتسال ونحوه فينظر إليها، أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يجوز.
وإذا قيل: إنه ينظر إليها علانية، فيكون ذلك في غير خلوة، وذلك بأن تحضر ومعها أحد محارمها كأبيها أو أخيها، فينظر إليها قائمة، وينظر إليها مقبلة أو مدبرة، ولا يكون هناك خلوة، وتظهر له وجهها وكفيها وشعرها، وينظر إلى هيكلها طولاً وقصراً، وضخامة أو نحافة أو ما أشبه ذلك، فإذا نظر إليها في غير خلوة كان ذلك من الأسباب التي تدفعه إليها.
أما إذا غلب على ظنه أنه لا يُجاب، فليس له أن يتعمد النظر، ولا يطلب ذلك، وكذلك أيضاً أهلها إذا غلب على ظنهم أنه لن يعزم على النكاح فلا يجوز لهم أن يمكنوه من النظر إليها.
وذكروا أنه ينظر إليها بشرطين: نفي الخلوة، ونفي إثارة الشهوة، أي: أن يأمن الشهوة، وقد يقع أن بعضاً من الشباب إذا خطب امرأة يكثر الاتصال بها هاتفياً، ثم يعقد معها مواعيد، ثم يخلو بها، وربما يخرج بها في سيارته خارج البلد، وهذا لا يجوز لما فيه من الخلوة، وكثيراً ما يحصل أنه يقع بها، ويطؤها في الحرام -والعياذ بالله-؛ لأنها لا تحل له إلا بعد العقد، ولو أنهم استجابوا له وقبلوه فحرام عليه الخلوة بها، سيما إذا لم يأمن الشهوة، ومعلوم أنه إذا خلا بها، وكان شديد الغلمة، وكذلك هي قد تكون شديدة الشهوة، فيندفع كل منهما إلى الآخر، فيقعا في فعل الفاحشة، فلذلك اشترطوا: ألا يكون هناك خلوة، وألا يكون هناك إثارة شهوة.(57/11)
بيان المقدار الذي يجوز النظر إليه من ذوات المحارم
لما ذكر العلماء النظر إلى المخطوبة استطردوا فيما للإنسان أن ينظر إليه من النساء، وما المقدار الذي ينظر إليه، فذكروا أنه ينظر إلى ما يظهر غالباً: كالوجه، والكفين، والرأس، والساق، أي: إذا كنَّ من ذوات محارمه، يعني: كأمه وبنته وأخته وعمته وخالته، وبنت أخ وبنت أخت، وأم من الرضاع، فيجوز أن ينظر إلى ما يظهر غالباً، فينظر إلى الرأس وإلى الوجه وإلى الساعد والذراع والساق؛ لأن هذا مما تحتاج إليه المرأة مع محارمها، كابنها وأبيها، فلابد أنها تتبذل، وأنها تخدم، وأنها تبدو لهم، فيشق عليها أن تتحفظ وأن تتستر، ومعلوم أيضاً أن المسلمين قلوبهم نزيهة، لا يمكن أن تثور شهوته على أمه أو على بنته أو نحوهما، إنما يفعل ذلك من ليس في قلبه إيمان -والعياذ بالله-، فينظر إلى ما يظهر غالباً من ذوات محارمه، ونظر الرجل إلى الرجل يجوز فيما يظهر غالباً، يعني: ينظر إلى ساقيه وإلى ذراعيه وعضديه وعنقه ونحو ذلك، ولا يجوز للعاقل أن يتعرى أمام الرجال، ولا أن يظهر بدنه ولو ستر العورة المغلظة، فإن ذلك مما يقدح في المروءة، كالذين يمشون عراة، ويلبس أحدهم تباناً، يعني: سراويل قصيراً يستر به مجرد الفرجين، ويدعي أنه بسبب الحر أو ما أشبه ذلك، أو أنه ليس بعورة، ولو كان ذلك ليس بعورة أمام الرجال، لكنه ينقص المروءة، فالرجل يحرص على أن يتستر وأن يحفظ نفسه، والله تعالى أمر بالتستر فقال تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] ، فالريش هو: اللباس الذي يستر البدن.
والمرأة لا يجوز لها أن تتبذل أمام النساء، ولا أن تظهر شيئاً مما يخفيه اللباس ويستره، وإنما يجوز لها أن تبدي وجهها وعنقها، وكذلك أيضاً صدرها لإخراج الثديين لإرضاع الطفل؛ لأنها تحتاج إلى إرضاع طفلها عند النساء أو عند المحارم، وكذلك تنظر المرأة من المرأة إلى ساعديها أو ساقيها، فأما ما تستره غالباً كالبطن والظهر والمنكبين والإبطين والجنبين فلا، فهذا مما يُعتاد ستره، ولا يجوز التفسخ والتعري ولو لم يكن عندها إلا نساء.(57/12)
حكم خطبة المعتدة
قوله: (وحرم تصريح بخطبة معتدة على غير زوج تحل له) وهي المطلقة، فالمعتدة إما أن تكون بائناً أو رجعية، فإذا كانت رجعية -طلقت واحدة أو اثنتين- فإنها تبقى في بيت زوجها، ولا يحل لأحد أن يخطبها، بل هي في ذمة زوجها، ينفق عليها، ويسكنها، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ} [الطلاق:6] ، ولها أن تتكشف أمامه، وترغبه بأن يراجعها، فهذه الرجعية يحرم أن أحداً يخطبها أو يصرح أو يلوح بخطبتها.
وأما المعتدة البائن مثل المطلقة ثلاثاً، فلا تحل لزوجها إلا بعد زوج، وكذلك المتوفى عنها، فهي معتدة، وعدتها ثلاثة قروء، أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، أو بوضع الحمل، فهذه لا يحل له أيضاً أن يخطبها تصريحاً، ويحل له أن يعرض لها، والتعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، أو إني أريد أن أتزوج، أو أتمنى أن تحصل لي زوجة مناسبة، أو ما أشبه ذلك، فلا يجوز التعريض بخطبة الرجعية، وإنما يجوز التعريض بخطبة البائن.(57/13)
حكم الخطبة على خطبة الغير
يحرم أن يخطب على خطبة أخيه المسلم إذا كان قد أجيب؛ لأن ذلك يسبب الوحشة بينهما والعداوة، فإذا علمت بأنه قد أفسد عليك الخطبة، بأن تقدم عليهم، وقد كانوا أجابوك أو ركنوا إليك، ثم قدموه لكونه أشب أو أغنى أو نحو ذلك، فإن هذا حرام، وقد يحصل بينك وبينه بسبب هذا وحشة وعداوة.(57/14)
ما يستحب في العقد
ذكر المصنف سنية العقد، يعني: عقد الزوجية بين الزوجين، الذي يسمى الآن المِلكة، فذكر أن التزويج يسن أن يكون يوم الجمعة، وأن يكون في المساء، يعني: في آخر النهار، رجاء أن يصادفوا ساعة الإجابة؛ لأنه يدعى لهما بالبركة، ويسن أن يخطب بخطبة ابن مسعود، التي هي خطبة الحاجة المشهورة، وهي أن يقول: إن الحمد لله نحمده ونستعينه إلى آخر ذلك، ثم يقرأ ثلاث آيات: من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] وأول سورة النساء، وآيتين من آخر سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] .(57/15)
شرح أخصر المختصرات [58]
النكاح عقد له أهمية كبيرة في الإسلام، فله أركان وشروط لابد من حصولها ليحكم بصحته، وقد بين الفقهاء هذه الأركان والشروط بأدلتها من الكتاب والسنة.(58/1)
أركان النكاح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: أركانه: الزوجان الخاليان عن الموانع، وإيجاب بلفظ: (أنكحت) أو (زوجت) ، وقبول بلفظ: (قبلت) أو (رضيت) فقط أو (مع هذا النكاح) ، أو (تزوجتها) .
ومن جهلهما لم يلزمه تعلم, وكفاه معناهما الخاص بكل لسان.
وشروطه أربعة: تعيين الزوجين، ورضاهما, لكن لأب ووصيه في نكاح تزويج صغير وبالغ معتوه ومجنونة وثيب لها دون تسع, وبكر مطلقاً كسيد مع إمائه وعبده الصغير، فلا يزوج باقي الأولياء صغيرة بحال، ولا بنت تسع إلا بإذنها, وهو: صمات بكر، ونطق ثيب.
والولي, وشروطه: تكليف, وذكورة, وحرية, ورشد, واتفاق دين، وعدالة ولو ظاهراً، إلا في سلطان وسيد.
ويقدم وجوباً أب، ثم وصيه فيه, ثم جد لأب وإن علا, ثم ابن وإن نزل, وهكذا على ترتيب الميراث، ثم المولى المنعم، ثم أقرب عصبته نسباً, ثم ولاء, ثم السلطان، فإن عضل الأقرب أو لم يكن أهلاً أو كان مسافراً فوق مسافة قصر زوج حرة أبعد وأمة الحاكم.
وشهادة رجلين مكلفين عدلين ولو ظاهراً سميعين ناطقين.
والكفاءة شرط للزومه, فيحرم تزويجها بغيره إلا برضاها] .
للنكاح أركان، وله شروط، ويراد بأركانه: مجموع ما يتكون منه، وأركان الشيء أجزاؤه الذي يتكون منها، ويُعرفون الركن: بأنه جزء ماهية الشيء، كأركان البيت أو المسجد، يعني: حيطانه التي يتكون منها، ونقول مثلاً: أركان الإنسان أجزاؤه، فيقال: يداه ركن منه، ورجلاه ركن، ورأسه ركن، وظهره ركن، يعني: يتكون ويتركب من هذه الأجزاء، كأركان الصلاة التي تتكون منها، فالقيام جزء من الصلاة وهو ركن، والركوع جزء، كذلك أركان النكاح التي يتكون منها ويصير من مجموعها نكاحاً كاملاً.
ذكروا أن أركانه أربعة: الزوج، ولابد أن يكون كامل الرجولة، وخالياً عن الموانع، والزوجة، والإيجاب، والقبول.
قوله: (الزوجان الخاليان من الموانع) ، فإذا كان الزوج محرماً للمرأة، لا يصح النكاح؛ لأن هناك مانعاً، أو كان رضيعاً لها لم يصح النكاح، أو كان الزوج كافراً والمرأة مسلمة لم يصح النكاح؛ وذلك لكونه غير كفءٍ لها، وهكذا الموانع التي لا يصح ولا ينعقد معها النكاح، وكذلك المرأة قد يكون فيها موانع، كأن تكون ذات زوج، أو تكون معتدة في عدة زوج قد طلقها أو في عدة وفاة، وكذلك كون الزوج عنده أربع قبلها، فكل هذه موانع لابد من انتفائها من الزوج ومن الزوجة.
فالزوج ركن، والزوجة ركن، والإيجاب ركن، والقبول ركن، والإيجاب يكون من الولي، والقبول من الزوج.(58/2)
الألفاظ التي يكون بها الإيجاب والقبول
يشترط بعضهم أن يكون الإيجاب بأحد لفظتين: زوجتك، أو أنكحتك، ويقولون: إنها هي الألفاظ التي ذكرت في القرآن، فذكر في القرآن قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] ، وكذلك ذكر الأزواج: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] ، وذكر في القرآن النكاح: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، وكذلك قوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ، وقوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، وقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة:235] ، فلذلك قالوا: ينطق الولي بأحد هاتين الكلمتين: (زوجتك موليتي) أو (أنكحتك موليتي) .
ولفظ التزويج اشتقاقه من العدد الشفع، فإن العدد قسمان: شفع ووتر، والشفع يقال له: زوج، وسمي النكاح زواجاً؛ لأن أحد الزوجين قبله كان فرداً ووتراً، فإذا انضم إليه الزوج الثاني أصبح زوجاً، يعني: أصبح بدل الوتر اثنين، ولأجل ذلك كلمة (الزوج) تطلق على الذكر والأنثى، كما تقول: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: التي صارت معه زوجاً، ويقال: النبي صلى الله عليه وسلم زوج عائشة، فكلمة زوج تصلح للرجل وللمرأة، فكل منهما يُسمى زوجاً، إلا أن أهل الفرائض احتاجوا إلى التمييز، فأدخلوا على المرأة تاء التأنيث، كما في قول الناظم: والثمن للزوجة والزوجات وهو لكل زوجة أو أكثرا وإلا فالأصل أنه موضوع لكل واحد من الزوجين، هذا سبب تسمية الزوج بهذا الاسم؛ لأنه بانضمامه إلى الآخر يكون زوجاً بدل ما كان وتراً وفرداً.
أما النكاح فالأصل فيه أنه الانضمام، تقول العرب: تناكحت الأشجار، يعني: انضم بعضها إلى بعض وتلاصقت، وذلك إذا امتدت أغصانها، ويقال: تناكح العودان على النار، يعني: انضم أحدهما إلى الآخر حتى صح الوقود بهما، وأما تسمية هذا الزواج نكاحاً؛ فلأن الزوج ينضم إلى الزوجة، والانضمام هو: التناكح، هذا هو الأصل من الانضمام.
وهل المراد بالنكاح العقد أو الوطء؟
الجواب
يطلق عليهما، وأغلب ما يطلق على العقد، فيقال: نكح فلان المرأة، يعني: عقد عليها، وذكر بعض أهل اللغة: أن العرب فرقت بينهما فرقاً لطيفاً، فإذا قالوا: نكح فلان بنت فلان، فالمراد عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو أمته، فالمراد وطؤها، وكل ما في القرآن من نكح فإنه للعقد، إلا قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، فإن النكاح هنا هو الوطء، وورد ذلك في السنة.
ذكر بعض العلماء في كتب الفقه: أنه لا يصح إلا بلفظ: (أنكحتك موليتي) أو (زوجتك موليتي) بأحد هاتين الكلمتين، وذهب آخرون إلى أنه يجوز بغيرهما مما هو معروف عند المتخاطبين، ورجح ذلك بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، فإذا قال -مثلاً-: (ملكت ابنتي) فمعناه: أنك تملك الاستمتاع بها ما لا يملكه أبوها، فيكون هذا قائماً مقام زوجتك؛ لأنه حصل بها المقصود، وإذا قال: وهبتك ابنتي، حصل أيضاً المقصود، وهكذا إذا قال: أعطيتكها، حصل بذلك المقصود، وهذا القول هو الأقرب، وهو أنه يصح بكل لفظ يدل على المعنى، ويؤدي المراد، مثل: أنكحتك، وزوجتك، وملكّتك، ووهبتك، وأعطيتك ابنتي، وأملكت لك عليها، أو خليت بينك وبينها، أو خذ ابنتي حلالاً لك، أو أحللتها لك، أو ما أشبه ذلك.
وأما القبول فهو من الزوج، واشترطوا أن يقول: قبلت، أو رضيت، عبارتين فقط، أو قبلت هذا النكاح، يعني: يضيف كلمة (هذا النكاح) بعد (قبلت) ، أو يجمع بينهما فيقول: قبلت هذا النكاح ورضيته، أو تزوجتها، أو قبلتها.
وإذا قلنا: إنه يصح بما دل على المعنى، فيصح إذا قال الزوج: وافقت، أو أنا موافق، أو أخذتها، أو استوهبتها، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الرضا.
يقول المصنف رحمه الله: (ومن جهلهما لم يلزمه تعلم) يعني: من جهل كلمة: (أنكحت) أو (زوجت) أو كلمة: (قبلت) أو (رضيت) ، وذلك إذا كان لا يعرف اللغة، أو لا يعرف معناها، فهل يلزمه أن يتعلمهما، ولا يصح إلا أن يقول: (قبلت) أو (رضيت) ؟ الجواب: لا يلزم، إنما يكفيه معناهما الخاص بكل لسان؛ وذلك لأن كل قوم وأهل كل لسان عندهم اصطلاحات يتعارفون عليها بلسانهم، ذكر لنا بعض الإخوان أنه جاء إلى بعض الأعراب الجهلة في بعض جهات المملكة، وأخذ يسأله، فذكر له أنه مفتيهم، وأنه الذي يعقد لهم، فقال له: كيف طريقتك في عقد النكاح لهم؟ لأنهم بوادٍ بعيدون عن القرى، وبعيدون عن الناس، فذكر له أنه يقول للولي قل: هاك خصلة بنتي على سنة الله وسنة رسوله، منامها حلال، ومقامها حلال، وادخل على الله من الملل والاستملال، وأنت وإياها تحت الله! ولا شك أن هذه من العبارات التي اصطلحوا عليها، وليس عندهم أحد يعقد لهم، فرضوا بأن يكون هذا الذي عندهم -وكأنه أعرفهم وأفهمهم- أن يتكلم بهذه الكلمات.
فيبقى أن الزوج لابد أن يقول: قد وافقت، أو قبلت، أو أخذتها، أو ما أشبه ذلك.
وهل يصح النكاح بالمعاطاة؟ الصحيح: أنه لا يصح، وإنما تصح المعاطاة في البيع، مثلاً: إذا كانت السلعة معروفاً ثمنها، الثوب معروف ثمنه، فأتيت مثلاً بعشرة ودفعتها للبائع، ودفع لك الثوب، ولم يتكلم واحد منكما بكلمة، صح البيع بالمعاطاة، ولكن لا يصح النكاح بالمعاطاة، فلا يصح أن تدفع له مثلاً المهر، ويدفع لك الزوجة بدون كلام، بل لا يصح إلا بهذا الكلام، ولا يصح أيضاً إلا بشروطه.(58/3)
شروط عقد النكاح
الشروط: جمع شرط، وهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، يعني: إذا عدمت الشروط عدم المشروط، ولكن إذا اجتمعت الشروط فقد يتخلف المشروط، فهاهنا الشروط في النكاح هي لوازم النكاح التي لا يتم إلا بها، وهي أيضاً شروط للعقد، وشروط العقد أربعة: الأول: تعيين الزوجين.
الثاني: رضاهما.
الثالث: الولي.
الرابع: الشهود.
هذه شروط النكاح، إذا تخلف واحد منها لا يصح النكاح.(58/4)
تعيين الزوجين
الشرط الأول: التعيين، ومعناه: أن يسمي الزوج أو يعيّنه، وكذلك الزوجة، فلا يقول مثلاً: زوجتك أحد بناتي، وله خمس أو عشر؛ لأنه قد يختار من لا ترضى، أو من لا تصلح له، أو يختار الولي له من لا تناسبه، فلابد أن يعينها، فإن قال مثلاً: زوجتك ابنتي فلانة، وسماها صح إذا تعينت، أو كان له بنات وقال: زوجتك ابنتي الكبرى، أو الصغرى، أو الوسطى صح ذلك؛ وذلك لأن هذا الوصف يحصل به التعيين، ولو لم يكن له إلا ابنة واحدة، وقال: زوجتك ابنتي؛ صح ذلك، وأما إذا كان ليس أباً فلابد أن يسميها، فإذا قال: زوجتك أختي، فلابد من تسميتها، أو زوجتك ابنة أخي، فلابد أن يسميها، حتى تتعين؛ لأن الجهالة يحصل معها الغرر، ويحصل معها عدم المقصود.
كذلك أيضاً يشترط تعيين الزوج وهو الرجل، فإذا قال: زوجت أحد ولديك ابنتي، أو أحد أبنائك، وله عدة أبناء، لا يصح، أو جاء إليه اثنان فقال: زوجت أحدكما ابنتي فلانة لا يصح؛ لأنه لا يعرف أيهما هو الزوج، فلابد أن يخاطبه، ويقول: يا فلان! زوجتك ابنتي فلانة، أو يكون الخطاب له، وهو معروف ماثل بين يديه، ويقول: زوجتك ابنتي فلانة، هذا معنى تعيين الزوجين.(58/5)
الرضا
الشرط الثاني: الرضا، ولا شك أن الرضا معتبر، وقد تقدم أنه شرط في البيع أيضاً، ودليله: قوله سبحانه وتعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29] ، وقوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232] ، فإذا كان شرطاً في البيع، مع أنه تمليك مال، فلابد أيضاً أن يكون شرطاً في النكاح، فلا يصح إكراه أحدهما على النكاح وهو لا يريده، ولا يصح أن يُكره الرجل على امرأة لا يرغبها، وتنفر نفسه منها، إما لسوء خلق، أو لقبح مظهر، أو دمامة، أو عيب، أو كبر، أو صغر، أو جهل، أو نحو ذلك، فإذا أكره وهو غير مقتنع ولم يكن موافقاً، لم يعش عيشة طيبة، ويؤدي ذلك إلى الفراق بسرعة، فلذلك لابد أن يكون موافقاً راضياً، وهكذا الزوجة أيضاً لابد من رضاها، بل ورضاها أهم، وما ذاك إلا أن الغالب أن الزوج هو المتقدم للخطبة، وهو الطالب، والغالب أنه لا يقدم إلا بعدما يتأكد من الصلاحية، أما الزوجة فإنها قد تكون جاهلة بذلك الزوج، وقد تكون أيضاً كارهة له، وربما كارهة للنكاح كلياً، فلذلك لابد من رضاها، وقد جاءت السنة باشتراط الرضا، فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح البكر حتى تُستأذن، ولا الثيب حتى تُستأمر) ، وثبت أيضاً: (أن جارية زوجها أبوها بغير رضاها، فخيّرها النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي حديث آخر: (جاءت جارية بكراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته -يعني: ليرفع قدره، كأن ابن أخيه كان خاملاً فأراد أن يرفع قدره بتزويجه بابنته- فخيّرها، فأجازت نكاح أبيها، وقالت: إنما أردت أن يعلم النساء أن ليس للأولياء عليهن سلطة) أو كما في الحديث، فدل ذلك على أنه يشترط رضاها، وفي حديث عبد الله بن عمر أنه خطب ابنة خاله قدامة وكان قد مات، وكان له بنت فخطبها إلى أمها فوافقت، وعقدوا له، ثم إنه جاءهم المغيرة بن شعبة ورغب لهم في المال، فجاء عمها، واشتكى وقال: (يا رسول الله! إنها جاهلة، وإنها تزوجت وأنا غير راضٍ، وأنا أولى بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها يتيمة، وإن اليتيمة لا تزوج إلا بإذنها وبإذن وليها) ففسخ نكاحها من عبد الله وهي ابنة خاله، وزوجها بـ المغيرة؛ فدل ذلك على أنها لا تزوج إلا برضاها، وبعد مشاورتها.
ثم لابد أن يُسمى لها الرجل حتى تعرفه يقيناً، وإذا كانت جاهلة فلها أن تسأل، وكذلك أيضاً لابد أن تخبر عن نسبه، وعن حرفته، وعن كفاءته، ومقدرته المالية ونحوها، فإذا اقتنعت بذلك كله، حصل التزويج، أما إذا لم تقتنع فلا يجوز.
والفقهاء استثنوا الأب، وقالوا: إن الأب يجوز له أن يزوج الصغيرة بدون إذنها، وله أيضاً أن يزوج ابنه الصغير إذا رأى في ذلك مصلحة، ولماذا يزوج ابنته دون رضاها إذا كانت صغيرة؟
الجواب
الغالب أن الأب يكون معه شفقة، ويكون معه حنو على ولده ذكراً كان أو أنثى، فلا يقدم على تزويجه إلا لمصلحة ظاهرة يراها، فأباحوا له أن يزوج ولده ذكراً أو أنثى إذا كان صغيراً، والغالب أن الصغير رجلاً أو امرأة لا يكون عنده تفكير، ولا يكون عنده معرفة، فإذا كان الأب راضياً بهذا الزوج فالغالب أن الولد يكون كفئاً وأهلاً أن يزوج، ومع ذلك فالصحيح أنه ليس على إطلاقه، فقد يكون كثير من الآباء عندهم جشع، ويزوج غير الكفء لأجل المال، فإذا جاءه إنسان عنده مال ورغبه في كثرة العطاء، فقد يزوجه بغير رضا المرأة، والمرأة هي التي تتألم، وهي التي تتعذب؛ لأنها تلازم ذلك الزوج طوال حياتها، فإذا لم يكن أهلاً في دينه وفي خلقه، فإنها هي التي ينالها الأذى، فلابد من رضاها.
وكثيراً ما تشتكي الإناث فتذكر الواحدة منهن أن أباها أكرهها؛ لأجل أن ذلك الزوج عنده مال، ودفع له دفعاً كثيراً، فتألمت الزوجة وتعذبت، وبقيت حسيرة سجينة، وتذكر أنه يتركها في المنزل، ويذهب مع رفقته، ولا يأتي إلا في الساعة الثالثة ليلاً، وربما لا يأتي إلا بعد الفجر، وإذا جاء طرح نفسه على الفراش، وهي طوال ليلها ساهرة تنتظره، أو كذلك يأتي إلى بيته بأصدقائه الفاسدين، ويشرب معهم المسكر، ويسهرون طوال ليلهم على غناء وزمر ومفاسد، وتكون هي المعذبة، لذلك لابد أنها تكون راضية حتى ولو كانت صغيرة إذا كانت مميزة عاقلة.
والأولى أيضاً عدم تزويج الصغيرة التي دون العاشرة؛ وذلك لأنها في الغالب ليس عندها تفكير، ولكن إذا كان الأب ناصحاً، وخاف أن هذا الزوج يفوت عليه، فله أن يزوجها، ويكون ذلك موقوفاً على رضاها بعدما تميز.
كذلك أيضاً استثنوا المعتوه ولو كان بالغاً، أي: ضعيف العقل، ما عنده تمييز ولا عنده معرفة، سواء كان ذكراً أو أنثى، فإذا رأى وليه المصلحة في تزويجه فإن له أن يزوجه ولو بغير رضاه، فكثير من النساء تكون مخبلة ضعيفة العقل، أو معها مس أو نحوه، ولا تمييز لها، فلابد أنه ينظر لها المصلحة، فإذا جاءه من يخطبها ولو كبيراً ولو فقيراً ورأى في ذلك المصلحة فله تزويجها؛ لأنه ليس لها اختيار، سواء كان فيها نقص العقل أو فقده كالجنون، فالمعتوهة أو المجنونة له أن يزوجها وليها بغير اختيارها؛ لأنه ليس لها اختيار.
كذلك أيضاً استثنوا الثيب التي دون تسع، وإن كان ذلك أيضاً نادراً، فلو قدر أن رجلاً زوج ابنته وهي بنت ثمان، ودخل بها زوجها ووطأها، ثم طلقها وأصبحت ثيباً وعمرها دون التسع، فلأبيها أن يزوجها؛ وذلك لعدم تمييزها، ولعدم معرفتها بما هو الأصلح.
وقد ذكرنا أن الأولى عدم تزويجها حتى ترشد وحتى تختار.
وكذلك أيضاً البكر، جُعل له تزويجها مطلقاً؛ وذلك لأن الأب كما ذكروا أحنى على أولاده، وأشفق عليهم، فلا يزوج إلا باختيار وبحرص، فجعلوا الأب أحق بالبكر ولو كان عمرها عشرين، فله أن يزوجها بدون اختيارها وبدون أخذ رأيها، هكذا قالوا، وقد ذكرنا الأدلة على أنها تختار، وأنه لا يجوز تزويجها إلا برضاها؛ لعموم الأدلة: (لا تنكح البكر حتى تُستأذن) وهذا عام، سواء كان الأب أو غيره، فالفقهاء اختاروا أن الأب له خصوصية، وألحقوا به أيضاً وصيه، فإذا أوصى إلى إنسان عدل وموثوق فإنه يقوم مقام الأب في كونه يزوج الصغير ويزوج المعتوه ولو كان بالغاً بدون رضاه، ويزوج المجنونة، ويزوج الثيب التي دون تسع، ويزوج البكر مطلقاً ولو كانت ابنة عشرين، فالأب ووصيه يزوجون هؤلاء بدون الرضا.
والقول الثاني -وهو الصحيح سيما في هذه الأزمنة-: أنه لابد من الرضا لهؤلاء مطلقاً.
واستثنوا أيضاً السيد، فإذا كان إنسان عنده مماليك: إماء وعبيد، فيزوج إماءه بدون رضاهن؛ وذلك لأن المصلحة له، وهو الذي يأخذ المهر، وأولادها يكونون مماليكاً له وعبيداً، فله أن يكرهها، وأن يجبرها على أن تتزوج بمن يريد، ولعل الأرجح: عدم جواز ذلك؛ لما فيه من التعذيب حسياً أو معنوياً، وكذلك أيضاً عبده الصغير، ليس له إكراهه على أن يتزوج إلا برضاه؛ لأن ذلك يخضع لشهوته ونفسه وميلها.
ولما ذكروا الأب ووصيه والسيد قالوا: لا يزوج بقية الأولياء صغيرة بحال، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والجد، والابن وابنه، لا يزوجون الصغيرة بحال، فلابد أنهم يتركونها حتى تبلغ وترشد، ولا يزوجون بنت تسع إلا بإذنها، سواء كانت بكراً أو ثيباً.
ثم ذكروا كيف يعرف إذنها، ورد في الحديث: (رضا البكر صماتها، وسئل: إن البكر قد تستأذن فتستحيي، فقال: إذنها سكوتها) ، فإذا سكتت فإن ذلك دليل على الرضا، أما إذا نطقت وقالت: لا أريده، فعند ذلك لا يجوز إجبارها، وإذا تجرأت ونطقت وقالت: زوجوه، ولو كانت بكراً، جاز ذلك بطريق الأولى، فإذا كان رضاها السكوت، فالنطق دليل الرضا أيضاً، وأما الثيب فلا يُكتفى في نكاحها بالسكوت، بل لابد أنها تنطق وتتكلم صريحاً بأنها قد رضيت فتقول: زوجوه، أو قبلته، أو ما أشبه ذلك.(58/6)
الولي
الشرط الثالث: الولي.
الولي هو: ولي المرأة الذي يتولى العقد لها، واشتراطه هو قول الجمهور، ووردت في اشتراطه الأحاديث الكثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) وهو حديث مشهور، رواه نحو خمسة من الصحابة أو أكثر، وورد أيضاً حديث: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها) ، وفي رواية: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) وهذا هو قول الجمهور.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فدل على أن الولي هو الذي يمنع المرأة؛ لأن العضل المنع، أي: لا تمنعوهن من نكاح أزواجهن، أي: من الزواج.
وذهب الأحناف إلى أنه يصح للمرأة أن تزوج نفسها، وعللوا ذلك بأنها أملك لنفسها، وإذا كانت تملك نفسها فإنها تزوج نفسها، وهي أيضاً تملك أمتها، فلها أن تزوج أمتها.
وأدلة الحنفية تعليلات، وقد استدلوا بظاهر قوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ولكن لا دلالة في الآية، إنما المراد: حتى يطأها الزوج.
فالحاصل: أن جمهور الأمة على أنه لابد من الولي في العقد، وأن من تزوجت بدون ولي فنكاحها باطل، ورد ذلك في حديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) ، وقد أخذ الحنفية من بعض هذه الكلمات: (الثيب أحق بنفسها من وليها) ، فجعلوا هذا دليلاً على أنها تزوج نفسها، ولكن ليس هذا بصحيح، وإنما المراد أنها أحق بنفسها، أي: لا يكرهها، ولا يزوجها إلا بعدما يأخذ رضاها.
وإذا عرفنا أن الولي شرط من شروط النكاح، فماذا يشترط في الولي؟ ذكر المصنف أنه يشترط فيه ستة شروط: الشرط الأول: التكليف.
الشرط الثاني: الذكورية.
الشرط الثالث: الحرية.
الشرط الرابع: الرشد.
الشرط الخامس: اتفاق الدين.
الشرط السادس: العدالة.
فهذه ستة شروط، ويمكن أن تكون سبعة، فإن التكليف يتضمن شرطين: الشرط الأول: البلوغ.
فلا يُزوج صغير دون البلوغ؛ وذلك لنقص معرفته؛ لأنه ناقص المعرفة بنفسه، فلا يكون عارفاً بغيره، أو بمن هو ولي عليه.
الشرط الثاني: العقل.
فناقص العقل أو المخبل أوالمجنون ليس أهلاً أن يزوج؛ وذلك لعدم أهليته، ولعدم تفكيره.
الشرط الثالث: الذكورة.
فلا تزوج المرأة المرأة، كما جاء في الحديث: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها) ، وفي الحديث الآخر: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) .
الرابع: الحرية.
فالمملوك لا يزوج نفسه، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر) أي: زاني، فإذا كان لا يقدر أن يزوّج نفسه، فكذا لا يزوّج بنته، ولو كانت حرة.
الخامس: الرشد.
الرشد هو: الصلاح، وضده السفه، فإذا كان سفيهاً مغفلاً لم يكن أهلاً أن يزوج، ورد في الحديث: (لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل) ، فاشترط فيه: أن يكون مرشداً، يعني: رشيداً غير سفيه، ولا ضعيف التفكير.
الشرط السادس: اتفاق الدين.
فلا يزوج الكافر مسلمة؛ لأن الإسلام فرق بينهما، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فلابد أن يكونا متفقي الدين.
الشرط السابع: العدالة.
أي: ولو ظاهراً، فيشترط أن يكون عدلاً، فيخرج ما إذا كان فاسقاً معلناً الفسوق، أما إذا كان ظاهره العدالة فإنه يُزوج، واستثنوا السلطان؛ لأنه -أي: السلطان- ولي من لا ولي له، واستثنوا السيد ولو كان فاسقاً؛ لأنه ولي مواليه.
ثم ترتيب الأولياء: يقدم الأب وجوباً؛ وذلك لأنه أولى بابنته، ثم وصيه، إذا مات وكان قد وصى أو وكَّل، فوصيه يقدم على غيره، ثم الجد لأب، ثم أبوه وإن علا، فهو أقدم من الإخوة، ثم الابن، يعني: ابن المرأة يزوجها، ثم ابن الابن وإن نزل يزوج جدته مثلاً، ثم بعد ذلك بقية العصبة على ترتيب الميراث: فيقدم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم أبناءهما وإن نزلا، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب، على ترتيب الميراث كما تقدم، ثم إذا انقطع أصحاب العصبة فهل يزوج ذوو الأرحام كالخال، والأخ من الأم، وابن الأخت؟ والصحيح: أنهم لا يزوجون، والمولى أقرب منهم، فالمولى المعتق يزوج، فإذا عُدم فأقرب عصبته نسباً، ابنه، ثم أبوه، ثم إخوته على ترتيب الميراث، ثم مولاه، يعني: الذي أعتقه، ثم إذا انقرضوا فالسلطان، لحديث: (السلطان ولي من لا ولي له) ، فإذا عضل الأقرب أو لم يكن أهلاً، أو كان مسافراً فوق مسافة قصر زوج حرة أبعد، وأمة حاكم، والعضل مذكور في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] ، فإذا عضلها ومنعها حتى ولو كان أباها، فإنه يزوج من هو أبعد منه، إذا اشتكت واشتكى أقاربها أنه منعها وعضلها، كذلك إذا لم يكن أهلاً، فإذا كان سفيهاً أو فاسقاً أو مخبلاً زوج الأبعد، كذلك إذا كان غائباً مسافة لا تقطع إلا بمشقة زوج الأبعد، وفي هذه الأزمنة المسافات تقاربت، فليس هناك مكان بعيد، لكن إذا شق عليه الحضور أمكنه أن يوكل ولو هاتفياً.(58/7)
الإشهاد في النكاح
الشرط الرابع: شهادة رجلين مكلفين عدلين.
ورد في الحديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، والله تعالى أمر بالإشهاد عند البيع فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] ، وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] ، فكذلك بطريق الأولى النكاح، والشاهدان يشهدان على قول الولي: زوجتك، وعلى قول الزوج: قبلت.
ولابد أيضاً أن يكونا رجلين، فلا تصح شهادة النساء، ولو كن أربعاً أو خمساً أو عشراً، وكذلك لا يصح بشهادة رجل وامرأتين، وشهادة النساء إنما تكون في المال، ولابد أيضاً أن يكونا مكلفين، فلا يصح شهادة ضعيف العقل، أو مخبّل، أو مجنون، أو صغير، فلابد أن يكون الشاهد مكلفاً، ولابد أن يكونا عدلين، فلا تصح شهادة الفاسق ناقص العدالة؛ لأن العدالة: ضدها الفسوق.
ثم العدالة يُكتفى بها ولو كانت عدالة في الظاهر.
ولابد أن يكونا سميعين ناطقين، يعني: يسمعان الكلام وينطقان.
واشتراط الشهادة هو قول الجمهور، وخالف في ذلك المالكية فاكتفوا بالإعلان، فقالوا: إذا أعلن النكاح اكتفي بذلك ولو لم يكن هناك شهود، والجمهور على أنه لابد من شهود للحديث الذي ذكرنا.(58/8)
اشتراط الكفاءة في النكاح
الكفاءة في النكاح جعلها بعضهم شرطاً للزومه، فقالوا: يحرم تزويجها بغير الكفء إلا برضاها، وفسرت الكفاءة بأنها المساواة، والمساواة معتبرة في خمسة أشياء: الديانة، والصناعة، والميسرة، والحرية، والنسب، وفيها كلام طويل، وبالأخص في النسب، وقد ورد فيها بعض الأدلة، حيث إن هناك من يجعل الموالي ليسوا أكفاء للعرب، وبعضهم يتسامح في ذلك.
وأما في الصناعة فإذا كانت صناعته رديئة ولم يخبرهم بأنه حداد أو دباغ أو حائك أو حجام أو ما أشبه ذلك، فيمكن أن يكون لهم الخيار.
وأما الديانة فهي شرط كما ذكرنا.
وكذلك الميسرة يشترط أن يقدر على النفقة على زوجته.
وكذلك الحرية، فإذا تبين أنه مملوك فإن ذلك عيب.
فهذه تمام الشروط في النكاح، والله أعلم.(58/9)
شرح أخصر المختصرات [59]
بينت الشريعة الإسلامية المحرمات من النساء في النكاح، ويجب على المسلم معرفتهن؛ لأن الوقوع في ذلك أمر خطير، والمحرمات في النكاح قسمان: قسم يحرم على التأبيد، وقسم يحرم مؤقتاً، وقد بين العلماء في كتب التفاسير والفقه تفاصيل ذلك.(59/1)
المحرمات في النكاح بالنسب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحرم أبداً أمٌ وجدة وإن علت, وبنت وبنت ولد وإن سفلت, وأخت مطلقاً, وبنتها, وبنت ولدها وإن سفلت, وبنت كل أخ, وبنتها, وبنت ولدها وإن سفلت، وعمة وخالة مطلقاً.
ويحرم برضاع ما يحرم بنسب, ويحرم بعقد حلائل عمودي نسبه, وأمهات زوجته وإن علون، وبدخولٍ ربيبةٌ، وبنتها، وبنت ولدها وإن سفلت، وإلى أمدٍ أخت معتدته أو زوجته, وزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها, ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره بشرطه، ومسلمة على كافر, وكافرة على مسلم إلا حرةً كتابيةً، وعلى حر مسلم أمة مسلمة, ما لم يخف عنت عزوبة لحاجة متعة أو خدمة، ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة، وعلى عبد سيدته وعلى سيد أمته وأمة ولده, وعلى حرة قِنُّ ولدها.
ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمةً كتابيةً] .
يبوب الفقهاء على الفصل الأول: باب المحرمات في النكاح، ويذكرون أيضاً بعده باب نكاح الكفار؛ وذلك أنه لابد أن نبحث ونعرف متى تحرم المرأة، ومتى لا تحرم.
والمحرمات في النكاح قد ورد إجمالهن في القرآن، فذكر الله تعالى في القرآن سبعاً من المحرمات بالنسب، وذكر أيضاً اثنتين من المحرمات بالرضاع، وأربعاً من المحرمات بالمصاهرة، وواحدة محرمة بكونها زوجة للغير، ثم إن العلماء فصلوا: فأول المحرمات: الأم قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وكلمة الأم تصدق على الوالدة، وتصدق على الجدة، فالجدة أم الأم تعتبر أماً، وكذلك الجدة أم الأب، فهي من الأمهات؛ لأنه إذا قيل: أمك وأم أمك، وأم أم أمك، وكذلك أم أبيك، وأم أبي أبيك؛ ففيها كلمة أم، ولا شك أن تحريمها لأجل الولادة، ولأنها التي ربت المولود، وأشفقت عليه في صغره، فتعتبر ذات تربية، وذات نعمة عليه، فلا جرم أن كانت أول المحرمات، وأول ما بدأ بها، فالذي ينكح أمه يعتبر قد أتى أكبر المنكر وأفحشه، وكذلك أيضاً أم الأم وإن علت، وأم الأب وإن علت.
الثانية: قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] ، فجعل البنت بعد الأم، والبنت أيضاً خلقت من ماء الرجل، وهو الذي غالباً يحنو عليها ويرفق بها، فهي خلقت من مائه، وخلقت منه؛ فلذلك يتأكد تحريمها، ويدخل في كلمة: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] الفروع، فبنته، وبنت بنته، وبنت بنت بنته، وبنت ابنه، وبنت ابن ابنه، يعني: التي هو جدها، سواء كان أبا الأم، أو أبا الأب وإن بعدت يصدق عليها أنها بنته.
وكلمة (ولد) يدخل فيها الذكور والإناث، فالبنت ولد، يعني: مولدة، فبنتها تحرم، وكذلك الابن ولد، فبنته تحرم، وبنت ابن ابن، وبنت بنت ابن، وإن بعدت.
الثالثة: قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] ، فالأخت خلقت معه، إما من ماء واحد إذا كانت أختاً لأبيه، أو اجتمعت وإياه في رحم واحد، إذا كانت أخته من الأم، فكلمة (مطلقاً) يدخل فيها الجميع: أخت من الأبوين، وأخت من الأب، وأخت من الأم، وكلهن يدخلن في كلمة: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] .
الرابعة والخامسة: ذكر الله تعالى بعدهن العمة والخالة فقال: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23] ، ويدخل في كلمة (عمتك) : أخت أبيك، وأخت جدك عمةُ أبيك، وكذلك أخت جدك أبي الأم، فهي عمة أمك، {عَمَّاتُكُمْ} [النساء:23] يعني: أخوات آبائكم، وأخوات أجدادكم، آباء الآباء أو آباء الأجداد من جهة الأم أو من جهة الأب، فأخت جدك أبي أمك تعتبر عمة أمك؛ فتكون عمتك، وهكذا.
والخالة هي: أخت الأم، فأخت الأم تُسمى خالة، وكذلك خالة الأم أخت جدتك أم الأم، وخالة الأب أخت جدتك أم أبيك، وهكذا.
قوله: (مطلقاً) أي: تدخل فيه الأخت من أي جهة، فأخت أبيك من أبيه عمتك، وأخته من أبويه عمتك، وأخته من الأم عمتك، كذلك أخت جدك للأب عمة أبيك، سواءً كانت أخته من الأب أو من الأم أو من الأبوين، وأخت جدك أبي الأم عمة أمك، سواء كانت أخته من الأب أو من الأم أو من الأبوين، فالجميع يصدق عليها أنها عمة، وكذلك الخالة هي أخت الأم، سواء كانت أختها من أمها، أو من أبيها، أو شقيقة، يصدق عليها أنها خالتك أخت أمك؛ لأنها وأمك من أب واحد، أو من أم واحدة، أو من أب وأم، كذلك أيضاً خالة أمك، التي هي أخت جدتك من أب أو من أم أو من أبوين، الجميع تدخل في اسم العمة والخالة.
السادسة والسابعة: قال تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23] ، وهاتان من المحرمات من النسب: بنت أخيك، وأخوك: يعم الأخ من الأب، أو من الأم، أو من الأبوين وهو الشقيق، فتحرم بنته عليك؛ لأنك عمها، كذلك بنتها وإن نزلت، وكذلك بنت ولدها.
فهذه التي أنت عمها حرام عليك؛ لأنها بنت أخيك، وبنتها تقول: أنت عم أمي فأنت محرم لها، أو عم جدتي فأنت محرم لها، كذلك بنت ابنها، تدعوك وتقول: يا عم أبي، فأنت عم أبيها، وإن بعدت، فبنت الأخ وبنت بنت الأخ، وبنت بنت بنت الأخ، وبنت ابن الأخ، وبنت ابن ابن الأخ، وبنت بنت ابن الأخ، وكل من تدعوك عماً لها، أو عماً لأحد أجدادها أو آبائها، تدخل في بنت الأخ.
كذلك بنت الأخت، أنت خالها، فهي تدعوك خال، سواء كنت أخاً لأمها من الأم، أو من الأب، أو من الأبوين؛ فهي تدعوك خالاً لها، كذلك بنتها، تقول لك: يا خال أمي، وكذلك بنت ابنها، تقول لك: أنت خال أبي، أو خال أبي أبي، أو خال جدي.
والأخوَّة سواء كانت من الأبوين أو من أحدهما؛ فالأخت وبنتها، وبنت بنتها، وإن نزلت، وبنت ابنها، وبنت ابن ابنها، وبنت بنت ابنها، وهكذا، كل من تفرع ممن تدعوك عماً لها أو خالاً، أو عماً لأمها أو لأبيها، أو عماً لجدها أو خالاً لها أو خالاً لجدها، أو نحو ذلك.
فهؤلاء سبع محرمات بالنسب.(59/2)
المحرمات في النكاح بالرضاع
قوله: (يحرم برضاع ما يحرم بنسب) .
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أي: المحرمات من النسب يحرم مثلهن من الرضاع، فالأم التي أرضعتك تعتبر محرماً لك، وبنتها تعتبر أختك من الرضاع، فهي تقول: أرضعتك أمي، وبنت زوجها، تعتبر أيضاً أختك، تقول: أرضعتك زوجة أبي بلبن أبي، فأنت أخي، ارتضعت من اللبن الذي سببه والدي، فهي كذلك تعتبر أختك.
مثلاً: لو قدر أن رجلاً له أربع زوجات، ثم أرضعتك إحداهن رضعتين، وأرضعتك الثانية رضعة، والثالثة رضعة، والرابعة رضعة؛ فاجتمع خمس رضعات، فكل واحدة لست ابناً لها؛ لأن الرضاع المحرم خمس، وهذه ما أرضعتك إلا واحدة أو ثنتين، ولكن زوجهن يعتبر أبوك؛ لأنك رضعت من لبنه خمس رضعات، من اللبن الذي هو بسببه، فبناته أخواتك، فهن يقلن: ارتضعت من لبن أبينا خمس رضعات، فبناته من هذه ومن هذه ومن هذه ومن كل زوجاته محرمات عليك؛ لأنك أنت ابنه؛ لأنك رضعت من زوجاته، وزوجاته يحتجبن عنك، إلا أنك ابن زوجهن، وبناته لا يحتجبن؛ وذلك لأنك ارتضعت من لبن أبيهن.
فالحاصل أن الأم من الرضاعة هي: التي أرضعت الطفل خمس رضعات في الحولين.
والأخت من الرضاع هي: بنت المرضعة أو بنت زوجها الذي هو صاحب اللبن، فتدخل في قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] ، فبنتك من الرضاعة هي: التي رضعت من زوجتك خمس رضعات، فتحرم عليك؛ لأنها رضعت من اللبن الذي أنت سببه، فتكون محرماً لها.
وكذلك بنت ابنك من الرضاعة، يعني: هذا الذي رضع من زوجتك إذا كان له بنت، فأنت جدها من الرضاع، فهي تقول: أنت أبو أبي من الرضاع، وأنت تقول لها: أنت بنت ابني من الرضاع.
كذلك عمتك من الرضاع، وهي أخت أبيك من الرضاع، إذا كان زوج المرأة التي أرضعتك له أخوات، فاعتبرهن عماتك؛ لأنهن أخوات أبيك من الرضاع، وأمك التي أرضعتك إذا كان لها أخوات فاعتبرهن خالاتك من الرضاع، وكل واحدة تقول: أرضعتك أختي فأنت ابن أختي من الرضاع، والعمات كل واحدة تقول: رضعت من لبن أخي، فأنا عمتك أخت أبيك من الرضاع.
وكذلك بنت أخيك من الرضاع، يعني: الذي رضعت من لبن أمه أو من لبن أبيه فبنته تدعوك عماً، وتقول: أنت عمي من الرضاع، رضعت من لبن جدتي أخت أم أبي، فأنت أخو أبي، فتكون عمي، أو أنت أخو أمي فتكون خالي، فهي بنت أخيك من الرضاع، وبنت أختك من الرضاع.
فتحرم الأم من الرضاع، والأخت من الرضاع، والبنت من الرضاع، وبنت الأخ من الرضاع، وبنت الأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، يحرم سبع من الرضاع، كما يحرم سبع من النسب.(59/3)
المحرمات في النكاح بالمصاهرة
ثم ذكر المصنف المحرمات بالمصاهرة، والقرابة بين الناس: إما قرابة نسب، وإما قرابة مناسبة، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان:54] ، فالمصاهرة القرابة من النكاح، فأم الزوجة تحريمها بالمصاهرة، وبنت الزوجة، تحريمها بالمصاهرة، وكذلك زوجة الابن، وزوجة الأب، تحريمهن بالمصاهرة، وهؤلاء يحرمن بمجرد ما يحصل عقد النكاح، ولو لم يدخل بها، فإذا عقدت على امرأة مجرد عقد ولم تدخل بها فقد حرمت عليك أمها وجدتها، وإن علت، وكذلك إذا عقد ابنك على امرأة ولو لم يدخل بها؛ حرمت عليك تلك المرأة التي عقد عليها ابنك ولو لم يدخل بها، فتصبح محرماً لك، وإذا عقد أبوك على امرأة؛ حرمت عليك تلك المرأة التي عقد عليها أبوك ولو لم يدخل بها، حتى ولو طلقها قبل الدخول بها، فزوجة الابن محرم بمجرد العقد، وزوجة الأب محرم بمجرد العقد، ومثله ابن الابن، فزوجة ابن ابنك أيضاً محرم لك، وزوجة ابن بنتك محرم لك، وابن بنتك حتى -على الصحيح- من الرضاع، فابنك من الرضاع زوجته محرم لك، وأبوك من الرضاع زوجته محرم لك.
قوله: (حلائل عمودي نسبه) ، فزوجة الجد محرم، ولو كان بعيداً، فالجد أبو الأم، أو الجد أبو الأب، وكذلك زوجة ابن الابن، وابن البنت وإن نزل كلهن محرمات، هذا معنى: حلائل عمودي نسبه.
ولماذا سميا عمودين؟
الجواب
لأن الفروع أغصان يعتمد بعضها على بعض، والأصول كأنها أعمدة يعتمد بعضها على بعض، فعمود النسب العليا: أبوك، وجدك، وجد أبيك، وجد جدك من الأب أو الأم.
وعمود النسب الفروع: ابنك، وابن ابنك، وابن ابن ابنك، وبنتك، وبنت ابنك، وبنت ابن ابنك، وبنت بنت ابنك، وهكذا؛ فحلائلهم تحرم بمجرد العقد، كما مثلنا.
قوله: (أمهات زوجته وإن علون) يعني: بمجرد العقد، فإذا عقد رجل على امرأة حرمت عليه أمها، وجدتها أم أمها، وجدتها أم أبيها، وإن علت، فهؤلاء هن أمهات الزوجات وإن علون، وهؤلاء يحرمن بمجرد العقد، حتى ولو طلق قبل الدخول.
والتي تحرم بالدخول ولا تحرم بالعقد هي الربيبة، لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] وهي بنت الزوجة، ولا تكون محرمة إلا إذا دخل بأمها، أما إذا عقد على امرأة ثم طلقها ولها بنت، حلت له البنت؛ لأنه لم يدخل بأمها، فمجرد العقد عليها لا يحرم بنتها؛ وإنما يحرم الأم ولا يحرم البنت، يقول السلف: أطلقوا ما أطلقه الله، فالله تعالى قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ، وأطلق، ثم قال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23] ، فاشترط في الربيبة الدخول بأمها.
وقول الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] استدل بها بعض العلماء على أن زوجة الابن من الرضاع، إذا طلقها حلت لأبيه من الرضاع؛ لأن الله قال: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) ، فيجعلون الابن من الرضاع لا يدخل في هذه الآية، والجمهور على أنه يدخل؛ وذلك لأن اللبن الذي ارتضع منه من الصلب ولو كان لبن المرأة، لكن أصله بسبب الزوج، فالحمل الذي حصل ودرت بسببه لبناً هو من الزوج، فهذا الولد ارتضع من اللبن الذي صار بسببه، والذي خلق من صلبه، هذا هو الصحيح، فعلى هذا يخرج بقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) المتبنى؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يأخذ أحدهم ولداً أجنبياً ويضمه ويقول: هذا ابني بالتبني، ويسمى دعيّاً، ويسمون أدعياء، فلذلك قال الله تعالى في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ، (أدعياءكم) يعني: الذين تدعونهم أبناء وهم أجانب، وإنما ضممتموهم إليكم، فيكون قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ليخرج الدعي، فإن زوجته أجنبية، ولأجل ذلك أحل الله زوجة زيد بن حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان دعياً يدعونه ابن محمد، فقال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] ، فأباح الله زوجته زينب للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] لماذا؟ {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَج فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] أي: حتى لا يتحرج أحد أن يتزوج زوجة دعيه من بعده.
والربيبة اشترط الله فيها قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، ولكن أكثر العلماء على أن هذا الشرط أغلبي، وأن كونها ربيبة تعريف لها، وليس ذلك مطرداً، فالضابط أن نقول: بنت الزوجة حرام على زوجها، أي: بنتها من غيره حرام عليه، سواء كانت تلك البنت في حجره أو ليست في حجره، وسواءً كانت ولدت قبل أن يتزوجها أو بعدما تزوجها وطلقها، فبنتها محرم له، هذا هو قول الجمهور، والغالب أنه إذا تزوج الرجل امرأة ومعها بنات أنهن يتربين عنده، وينفق عليهن، فبناء على الأغلب قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء:23] ، وليس ضرورياً أن يربيها، بل لو ربتها أمها قبل أن يتزوجها، ولما تزوجها أخذها أبوها، فتُعتبر ربيبة؛ لأنها بنت زوجته.
كذلك أيضاً لا يشترط أن تكون في حجره، بل لو تزوجها ولها بنت، فأخذ البنت أهلها، ولم تدخل في بيته إلا لزيارة فنعتبرها ربيبة له، وتحرم عليه، ويكون محرماً لها.
وكذلك بنات الزوجة بعد الزوج، إذا تزوجت امرأة، وجاءت منك بأولاد، وطلقتها، وتزوجها زيد وجاءت منه ببنات، فبناتها قبلك وبناتها بعدك حرام عليك، فالضابط أن بنت المرأة المدخول بها، سواء قبل الزوج أو بعده محارم له.
وبنت الربيبة حرام أيضاً، فهي تقول: أنت زوج جدتي أم أمي، وكذلك بنت ابنها، فهي تقول: أنت زوج جدتي أم أبي، فتكون محرماً لها، يعني: بنات زوجتك من غيرك، وبنات بنات زوجتك، وبنات أبناء زوجتك من غيرك، كلهن محرمات عليك وإن سفلن، هؤلاء المحرمات أبداً.
وقوله في أول الباب: (يحرم أبداً) يعني: محرمات مطلقاً.(59/4)
المحرمات في النكاح تحريماً مؤقتاً(59/5)
تحريم أخت الزوجة
ذكر المصنف رحمه الله المحرمات إلى أمد، يعني: المحرمات تحريماً مؤقتاً، فيقول: (أخت معتدته، أو أخت زوجته) .
أخت زوجته التي في ذمته حرام عليه إلى أن يطلق زوجته، وتنتهي عدتها، أو تتوفى زوجته، فتحل له أختها، فإذا طلق امرأة فلا يتزوج أختها حتى تنتهي عدة المطلقة، سواء بوضع الحمل، أو بثلاثة قروء، أو نحو ذلك؛ لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين، حتى لو كانت المطلقة بائناً، وهي المطلقة ثلاثاً، فلا يتزوج أختها حتى تنتهي عدتها، وتحل للأزواج، أمّا ما دامت محبوسة عليه فإنها تعتبر كأنها في عصمته.(59/6)
تحريم الزواج بالزانية حتى تتوب
تحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، قال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَان أَوْ مُشْرِك} [النور:3] ، ففي الآية تحريم نكاح الزانية، سيما إذا كانت مصرة على الزنا؛ وذلك لأنها فاجرة، ولأنها تستحق الحد الذي هو العقوبة المشروعة، فلا يتزوجها لئلا تدخل عليه أولاداً من غيره؛ لأنها إذا زنت وحملت من غيره نسبت الأولاد الذين هم من الزنا إليه، فيترتب على ذلك مفاسد، فلا يجوز أن يتزوجها إلا بعد توبتها، ولكن بعدما تقام عليها الحدود، فإذا زنت واعترفت وهي بكر وجلدت مائة جلدة، وغربت، وظهرت منها التوبة والندم، وعرف بذلك أنها صادقة في توبتها، وانقضت عدتها من ذلك الحمل، أو من ذلك الزنا، ففي هذه الحال يحل أن يتزوجها؛ لأنها أصبحت عفيفة، وأما قبل ذلك فلا يجوز، قال الله تعالى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ، فإذا تابت أصبحت من الطيبات، وقبل ذلك كانت من الخبيثات، والله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] .(59/7)
تحريم المطلقة ثلاثاً
تحرم على الرجل مطلقته ثلاثاً، فإذا طلقها ثلاث طلقات حرمت عليه، وتُسمى بائناً بينونة كبرى، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي، كما قال قبل هذه الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: في الطلقتين، فإذا طلقها ثم راجعها ثم طلقها فله مراجعتها: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] ، ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: الثالثة، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، فلا تحل مطلقته إذا كان قد طلقها طلاقاً ثلاثاً -وهي البائنة- حتى تنكح زوجاً غيره، وحتى يطأها ذلك الزوج بشرطه، يعني: لابد أن يطأها الوطء الصحيح، كما في حديث المرأة التي ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه طلقها زوجها، وأنها تزوجت بعده، وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته) يعني: حتى يطأها الوطء الذي يوجب الغسل، يطأها بنكاح صحيح مع الانتشار في قبلها، فلو وطأها في الدبر أو باشرها دون الفرج؛ فإنها لا تحل لزوجها الأول، حتى يطأها الثاني وطئاً صحيحاً.(59/8)
تحريم زواج المسلمة بالكافر والمسلم بالكافرة إلا الكتابية
تحرم المسلمة على الكافر، قال الله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْد مُؤْمِن خَيْر مِنْ مُشْرِك} [البقرة:221] فالعبد المؤمن المملوك خير من الحر المشرك، وإذا أسلمت تحته فرق بينهما، فإن أسلم في العدة رجعت إليه، وإلا حرمت عليه.
قوله: (تحرم كافرة على مسلم، إلا حرة كتابية) .
لقول الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] عصمتها يعني ذمتها، أي: إذا كان لكم زوجات كافرات فلا تمسكوهن بعصمتهن، ولما نزلت الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زوجتين له كانتا بمكة كافرتين.
ويقول تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] يعني: مملوكة خير من حرة مشركة، واستثنوا الحرة الكتابية؛ لأن الله تعالى أباح نكاح الكتابية؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَان} [المائدة:5] ، فمثل هذه تحل بهذه الشروط: الشرط الأول: أن تكون كتابية، يعني: من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) ، فإذا كانت وثنية فلا تحل، وإذا كانت مجوسية، أو هندوسية، أو بوذية، أو قاديانية؛ فإنها لا تحل.
الشرط الثاني: لابد أن تكون متمسكة بكتابها، فإذا كانوا يتسمون بأنهم يهود، ولكنهم لم يتمكسوا بما في كتابهم، أو نصارى ولم يعملوا بالإنجيل العمل الواجب، بل يخالفونه؛ فليسوا كتابيين، وذلك لأن من شريعة الكتابيين في التوراة والإنجيل تحريم الزنا، وأما الموجودون الآن بكثرة فإنهم لا يحرمون الزنا، ويتسمون بأنهم نصارى أو يهود، يذكر لنا الذين يسافرون إلى فرنسا وبريطانيا وأمريكا أن المرأة هناك لا تتورع عن الزنا، وأن الزنا عندهم أسهل شيء، ولا يغار أحد على ابنته، ولا على موليته، ففي هذه الحال، هل تكون كتابية أصلاً؟! لا تكون كتابية حقيقة.
الشرط الثالث: أن تكون محصنة، والمحصنة هي المتعففة، أما إذا كانت غير عفيفة فلا تحل، وكثير من الذين يسافرون إلى البلاد الخارجية يقول أحدهم: أتزوجها؛ لأنها كتابية، ولا يشترط أن تكون عفيفة، ولا يشترط أن تكون متمسكة بكتابها، وقد تكون مرتدة، أو لا تكون كتابيةً حقيقية، فنقول: نكاحها حرام، والله تعالى ما أباح إلا نكاح اللاتي هن من أهل الكتاب حقاً، بشرط كونهن محصنات؛ لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] المحصنات يعني: العفيفات، فإذا لم تكن محصنة فلا يحل لك أن تتزوجها، وإذا لم تكن من أهل الكتاب المتمسكين بكتابهم فلا تحل لك، ولا يحل أن تتزوجها.
الشرط الرابع: أن تكون حرةً، فإذا كانت أمة كتابية فلا تحل لمسلم.(59/9)
تحريم زواج المسلم بالأمة المسلمة إلا للضرورة
يحرم على الحر المسلم نكاح الأمة المسلمة، إلا إذا خاف عنت العزوبة، واحتاج إلى نكاحها لحاجة متعة أو خدمة، وعجز عن طول حرة أو ثمن أمة، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:25] يعني: من المملوكات، فاشترط ألا يستطيع طولاً، والطول هو: المهر، فإذا كان لا يقدر على مهر الحرة، ولا على ثمن أمة يستمتع بها إذا وجد الإماء فله أن يتزوج أمة، ثم قال في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:25] يعني: خشي الزنا، يعني: خاف من مشقة عنت العزوبة أن تحمله الشهوة على فعل الفاحشة، فلذلك قال: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ) أي: خاف (الْعَنَتَ) أي: عنت العزوبة، وكانت حاجته الاستمتاع لكسر حدة شهوته أو الخدمة أيضاً، قال الله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْر لَكُمْ} [النساء:25] ؛ وذلك لأنه إذا تزوجها صار أولاده عبيداً لسيدها؛ لأن الأولاد يتبعون أمهم، فيتحسر إذا رأى أولاده مملوكين يباعون ويشترون؛ فلذلك الصبر خير.(59/10)
تحريم زواج العبد بسيدته والسيد بأمته
يحرم على العبد سيدته، وعلى السيد أمته؛ لأن العبد ليس كفئاً أن يتزوج سيدته، فهو في ملكها؛ لأنها أرفع منه، والسيد يطأ أمته بملك اليمين، فليس بحاجة إلى أن يتزوجها وكذلك أمة ولده لا يحل له أن يتزوجها، إلا إذا لم يكن الابن قد وطأها، وخرجت من ملكية ولدها.
وقد ورد في فضل من أعتق الأمة ثم تزوجها الحديث المشهور: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين -وذكر منهم- السيد الذي علم أمته ثم أعتقها وتزوجها) .
قوله: (يحرم على الحرة قن ولدها) يعني: مملوك ولدها، فالحرة لا يحل لها أن تتزوج عبدها، ولا عبد ولدها؛ لأنها أرفع منه.(59/11)
من حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا الأمة الكتابية
يقول المصنف رحمه الله: (ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين؛ إلا أمةً كتابية) .
(من حرم وطؤها بالعقد) مثلاً: حرم وطء أخت الزوجة بالعقد؛ فكذلك يحرم بملك اليمين، فلو كان لزوجتك أخت مملوكة اشترتيها فلا تطأها، وإن كانت مملوكة لك؛ لئلا تدخل في قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، وكذلك عمة زوجتك، وخالة زوجتك، وما أشبه ذلك.
والمؤلف هنا لم يذكر من المحرمات للجمع إلا قوله: (أخت معتدته، وأخت زوجته) .
والصحيح أيضاً: أن عمة زوجته، وخالتها، وبنت أخيها، وبنت أختها محرمات عليه، حتى يفارق زوجته.(59/12)
شرح أخصر المختصرات [60]
يجب الوفاء بالشروط إذا لم تحل حراماً أو تحرم حلالاً، وأحق الشروط التي يجب الوفاء بها -إذا كانت شروطاً جائزة- الشروط في النكاح، وقد بين الفقهاء أحكام الشروط في النكاح، وما يجوز منها وما لا يجوز.(60/1)
الشروط في النكاح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والشروط في النكاح نوعان: صحيح كشرط زيادة في مهرها، فإن لم يف بذلك فلها الفسخ.
وفاسد يبطل العقد، وهو أربعة أشياء: نكاح الشغار، والمحلل، والمتعة، والمعلق على شرط غير مشيئة الله تعالى.
وفاسد لا يبطله كشرط أن لا مهر، أو لا نفقة، أو أن يقيم عندها أكثر من ضرتها أو أقل.
وإن شرط نفي عيب لا يفسخ به النكاح فوجد بها فله الفسخ.
فصل: وعيب نكاح ثلاثة أنواع: نوع مختص بالرجل كجب وعنة، ونوع مختص بالمرأة كسد فرج ورتق، ونوع مشترك بينهما كجنون وجذام، فيفسخ بكل من ذلك، ولو حدث بعد دخول، لا بنحو عمىً وطرش وقطع يد أو رجل إلا بشرط، ومن ثبتت عنته أجل سنة من حين ترفعه إلى الحاكم، فإن لم يطأ فيها فلها الفسخ.
وخيار عيب على التراخي لكن يسقط بما يدل على الرضا، لا في عنة إلا بقول.
ولا فسخ إلا بحاكم، فإن فسخ قبل دخول فلا مهر، وبعده لها المسمى يرجع به على مُغرِّ.
ويقر الكفار على نكاح فاسد إن اعتقدوا صحته، وإن أسلم الزوجان -والمرأة تباح إذن- أقرا] .
هذا الفصل يبوبون عليه: باب الشروط في النكاح، وقد سبق أنهم قالوا: باب الشروط في البيع، وهنا قالوا: باب الشروط في النكاح، وهي: ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر، وهي قسمان: - شروط صحيحة.
- وشروط باطلة.
وقد ورد الوفاء بالشروط في النكاح في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج) يعني: أن الشروط التي تشترطها المرأة، وتحل نفسها لك بها، عليك أن توفي بها.
والشرط هو ما يلتزم به الزوج للزوجة، أو ما تلتزم به الزوجة لزوجها، ويكون محل الشروط صلب العقد، أي: الشروط التي يلزم الوفاء بها هي التي يشترطونها عند العقد، ويكتب ذلك في العقد، فيكتب في العقد أنه اشترط الولي على الزوج لزوجته أن يسكنها في بيت مستقل، أو اشترط ألا يسافر بها، أو اشترط ألا يتزوج عليها، وقد تكثر الشروط التي يحتاج إلى كتابتها، ويختار الإشهاد عليها، فيكتبونها ويشهدون عليها عند العقد، وإذا خالف فيها فلها طلب الفسخ؛ لأنه حق لها، ومعلوم أنه إذا أدخل عليها زوجة أخرى في بيتها فإنها تتضرر، فلها أن تطلب الفسخ، وتقول: إما ألا تدخل علي الزوجة أو فارقني.
كذلك أيضاً إذا شرط لها ألا يسافر بها، فإن لها شرطها، وكذلك إذا شرط لها ألا يخرجها من دارها أو من بلدها، فإن هذا من الشروط التي لها فيه مصلحة، وهكذا أيضاً إذا اشترط عليه أن يزوّرها أهلها كل أسبوع أو كل شهر أو كل سنة، فلها شرطها، ولها المطالبة به، وكذلك إذا شرطت زيادة في المهر، فإذا كان مهر أخواتها -مثلاً- عشرة آلاف فاشترطت عشرين ألفاً فلها شرطها، وهكذا إذا شرطوا أيضاً شرطاً قد وجد له أصل في الشرع، ويكون ذلك من باب التأكيد، فإذا شرطوا ألا يُركبها مع أجنبي في السيارة، أو ألا يخلو بها أجنبي، فهذا شرط أقره الشرع، وكذلك إذا شرطوا على الزوج ألا يدخل عليها جهاز الدش ونحوه، ولو طلبت ذلك، وهكذا إذا شرطت أن تبقى في وظيفتها، أو شرطت أن تواصل دراستها حتى تكملها، أو شرطت -إذا كانت موظفة- أن لها راتبها، أو أن يوصلها إلى المدرسة، أو إلى محل عملها، كل ذلك من الشروط التي يجب الوفاء بها.
أما الشروط التي تحلل حراماً فلا يجوز اشتراطها ولا الوفاء بها، فلو شرطت أن يمكنها من دخول السوق متى أرادت، أو أن تخرج من بيته متى شاءت، فهذا شرط يخالف الشرع، أو شرطت مثلاً أن يمكنها من نزع الحجاب، كما يكون ذلك في بعض البلاد، أو من حضور الحفلات التي فيها منكرات، أو النوادي، أو من الألعاب التي فيها منكر ونحوه، فهذا شرط يخالف مقتضى الشرع، فلا يجوز الوفاء به، ولو رضي بذلك عند العقد، فإن في الحديث: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) .
وإذا شرطت ألا يتزوج عليها فبعض العلماء يقول: لا يصح؛ لأن هذا شرط يحرم حلالاً، ولكن الجمهور على أنه صحيح؛ وما ذاك إلا لأن عليها ضرراً من الضرة، وعلى هذا إذا أراد الزواج بأخرى فإنه يخيرها، ويقول: أنا أريد أن أتزوج، فإما أن توافقي، وإما أن تطلبي الفراق، أي: إذا رغب في ذلك النكاح، وكان هناك دوافع، لكن قد تقول: إن الطلاق ضرر عليَّ، فقد يكون ضرراً عليها، لاسيما إذا أتت بولد واحد أو عدد، فإن ذلك يكون إساءة لسمعتها، وإذا طلقت فقد لا يرغبها الرجال، ويقولون: هذه قد نشزت وفارقها زوج، فلا يرغب فيها غيره، فلذلك يرى بعض العلماء أن عليه الوفاء بهذا الشرط، وألا يتزوج عليها، ولو تضرر.
والصحيح: أنه إذا احتاج إلى ذلك فإنه يخيرها بين أن تبقى معه مع الزوجة الجديدة أو تفارقه، فيكون لها الخيار.
فإذا لم يف بهذه الشروط أو ببعضها فلها طلب الفسخ، ولها أن تذهب إلى الحاكم وتطلب منه أن يفسخ النكاح إذا جاءت بالشرط، وقد تقول: قد شُرط عليه كذا، وهذه صورة العقد، أو هؤلاء الشهود الذين يشهدون، فأطالب إما أن يفي بما شُرط عليه، وإما أن يخلي لي السبيل، ويكون هذا أوثق لها، روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة، وأنها شرطت عليه ألا يسافر بها، فقال: مقاطع الحقوق عند الشروط، يعني: أن الحقوق تقطعها الشروط، فالشروط أوثق، وأولى ما يوفى به شروط النكاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ، فإذا كان هناك شروط في العقد لزم الوفاء بها.(60/2)
الشروط التي تبطل النكاح
الشروط الفاسدة: منها شروط تبطل العقد، ومنها شروط فاسدة والعقد صحيح.
والشروط التي تبطل العقد أربعة:(60/3)
نكاح الشغار
الأول: نكاح الشغار، صورته: أن يقول لك: أزوج ابنك ابنتي، بشرط: أن تزوج ابني ابنتك، أو زوجني بنتك، بشرط: أن أزوجك ابنتي، أو لا أزوج ابنك إلا إذا زوجت ابني، فهذا هو نكاح الشغار.
واختُلف في سبب تسميته، فقيل: كلمة (الشغار) مشتقة من الشغر الذي هو الفراغ، يقال: شغر البيت، يعني: خلي ولم يكن فيه ساكن، ومحل شاغر، ومركز شاغر، أي: خالٍ، فقيل: إنه سمي من الفراغ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يخلونه من المهر، فيقول أحدهم: زوجني بنتك وأزوجك ابنتي، ولا صداق، وتكون هذه عوض هذه، يعني: بضع هذه هو مهر الثانية، وبضع هذه هو مهر الأولى، فلا يكون بينهما شيء من المهر، هذا تفسير للشغار.
وروي في حديث ابن عمر أنه فسر الشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا صداق بينهما.
ورجح بعض المحققين أن تفسيره من كلام ابن عمر، وقيل: إنه من كلام نافع، فعلى هذا هل يكون حجة؟ وهل يستدل به على أن الشغار هو الذي لا يكون فيه مهر؟ ذهب إلى ذلك بعض العلماء كالأحناف، فقالوا: الشغار صحيح، ولكن يفرض لكل منهما، فإذا تم العقد فإننا نقول: يا هذا! أعط زوجتك مهراً، وأنت أيضاً أعط زوجتك مهراً، أي: مهر أمثالها، ويبقى النكاح على حاله صحيحاً.
والقول الثاني: أنه باطل ولو سُمي لها صداقاً، ولو أعطيت صداقاً بعد العقد أو قبله، وقالوا: إنه ورد في الحديث تفسيره أن يقول: زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي، زوجني أختك بشرط أن أزوجك أختي، أو نحو ذلك، ويكون العلة فيه هو الاشتراط: لا أزوجك إلا إذا زوجتني، أو لا أزوج ابنك إلا بشرط أن تزوج ابني، فيكون هذا مفسداً له؛ لأنه لابد غالباً أن يحصل إكراه لإحدى الزوجتين، فإنه قد يكره ابنته لمصلحته، ويلجؤها على أن توافق؛ لأن له مصلحة بأنه سوف يتزوج، فيقول: يا ابنتي! اقبلي حتى يزوجوني، أو حتى يزوجوا ابني، فيكرهها، فيكون فيه غالباً إكراه إحدى الزوجتين، أو إكراه كلتيهما، والإكراه لا يجوز، وقد تقدم أنه لا يجوز تزويج البكر إلا بإذنها، ولا الثيب إلا بأمرها، كما في الحديث: (والبكر يستأذنها أبوها) ، فإذا كان هناك عدم رضا فلن تصلح الحال، ولن تستقيم الأمور، فلذلك حرم هذا النكاح، كما يقع في كثير من القرى ومن البوادي، يقع عندهم هذا، ثم تحصل مفسدة، وهو أن أحدهما إذا نشزت امرأته وذهبت إلى أهلها، وابنته صالحة مع زوجها، جاء إلى ابنته وأخذها قهراً، وقال: انشزي يا بنتي! كما نشزت ابنتهم، أو آخذ ابنتي قهراً ولو كانت موافقةً لزوجها، ولو كان بينهما أولاد، ولو كانت تحبه ويحبها، فيصر على أن يأخذها قهراً، ويكون في ذلك مفسدة.
هذه هي العلة في تحريم الشغار.
أما إذا لم يكن هناك شرط، وكان هناك رضاً من الطرفين، ودفع لكل واحدة منهما ما تستحقه، ففي هذه الحال يظهر أنه لا بأس به، فإذا قال: أهلاً وسهلاً، أنا سوف أزوجك أو أزوج ابنك، وابنتي موافقة، فأعطها مهرها الذي تستحق، فقال: مهرها كذا وكذا، وعندي أيضاً ابنة إذا تريدها فإنها توافق عليك أو على ابنك، ولم يكرهها، ولا ألزمها، فهي راضية، ولكن لابد أن تدفع لها مهرها، وكل واحد منهم يقول: أنا سوف أزوجك سواء زوجتني أم لا، وإذا زوجتني فإني سوف أعطي ابنتك حقها، فمثل هذا لا بأس إذا حصل التراضي.(60/4)
نكاح التحليل
الثاني: المحلل، وهو: الذي يتزوج المرأة لأجل أن يحلها لزوجها الذي طلقها ثلاثاً، كأنه مستأجَر، وقد اشترطوا عليه وقالوا له: تزوجها بشرط أنك متى وطأتها فإنها تطلق منك، أو يلزمك أن تطلقها، ويقصدون بذلك إحلالها لزوجها، وقد يكون الزوج الذي طلق هو الذي يتفق مع هذا الجديد فيقول له: تزوج امرأتي فلانة فإني قد طلقتها، وحُرمت عليّ، بشرط: أنك تبيت معها ليلة ثم تفارقها، حتى أراجعها بعدما تطلقها وتعتد، وقد تقدم في ذكر أنواع المحرمات أنها تحرم عليه مطلقته حتى تنكح زوجاً آخر ويطؤها، فإذا كان ذلك الذي تزوجها ما قصد إلا إحلالها، أو استأجره أهلها أو زوجها حتى يحلها، فإن هذا باطل، والأحاديث فيه كثيرة، أورد ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] أحاديث كثيرة في لعن المحلِّل والمحلَّل له، وفي بعضها تسمية هذا المحلِّل (التيسَ المستعار) ، والتيس هو ذكر المعز، يعني: كأن زوجها استعاره حتى يطأ زوجته، أو كأنه تيس يُستعار حتى ينزو على المعزى حتى تحبل، فهذه تسمية للتنفير، أما إذا تزوجها برضا وباختيار، وما قصد بذلك إلا النكاح، ففي هذه الحال لو طلقها بعد ذلك باختياره حلت للأول.
ثم قد يكون هذا من المرأة، كثيراً ما تندم المرأة إذا طلقت ثلاثاً، وتتمنى الرجوع إلى زوجها، والزوج لا يشعر بذلك منها، فتتزوج، وإذا دخل بها الزوج ووطأها نفرت منه، وافتدت أو خالعت، أو قالت: لا أريده، ويكون قصدها بذلك أن تحل للأول، فهل يكون هذا تحليلاً؟
الجواب
لا يكون إذا كان الزوج الأول لم يتدخل في هذا، والزوج الثاني ما له دخل، ولا قصد إحلالها، وإنما هي التي نفرت، وطلبت فراقه حتى تحل للأول، فمثل هذا الوعيد عليها هي، وأما الزوج فلا وعيد عليه، ولا يلحقه هذا اللعن.(60/5)
نكاح المتعة
الثالث: نكاح المتعة، وهو الذي تحدد فيه المدة، بأن يقول للمرأة: تزوجتك مدة شهر، أو يقول وليها: زوجتكها مدة أسبوع، ويعطيها صداقاً يسيراً كدرهم أو دراهم معدودة، ثم إذا مضت المدة التي حددوها حصل الفراق بينهما، هذا النكاح ورد أنه أبيح في غزوة الفتح، والصحيح: أنه ما أبيح إلا فيها، ثم حرم فيها؛ وذلك لأنهم لما دخلوا مكة كانوا عشرة آلاف، وأكثرهم عزّاب، وأعراب، ومسلمون جدد، ويشق عليهم طول العزبة، ودخلوها في نصف رمضان، أو في العشر الأواخر، ومكثوا ستة عشر أو سبعة عشر يوماً، ففي تلك المدة مع عشرة أيام في الطريق خاف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت؛ لكونهم حديث عهد بالإسلام، فأباح لهم نكاح المتعة، بأن يتزوج الرجل المرأة على ثوب، أو على خمسة دراهم، ويمكث معها عشرة أيام أو أسبوعاً يستمتع بها، ثم يفارقها إن انتهت المدة، ثم هي تعتد، أو تستبرئ، وإن حملت فإن حملها يكون منه، وإن لم تحمل لا تتزوج غيره إلا بعدما تحيض حيضة، حتى تعرف براءة رحمها، ولما مضت عشرة أيام أو نحوها أعلن أنه زواج محرم، وبقي تحريمه أبداً، وما ذاك إلا لأنه لا يُسمى نكاحاً شرعياً، وهذه المرأة لا تُسمى زوجة، ولا يتوارثان، ولا يحصل بهذا عشرة زوجية، فلذلك نهي عنه نهياً مؤبداً، وبقي كذلك، إلا عند الرافضة فإنهم يبالغون في أنه حلال، ويدّعون أنه كان حلالاً في العهد النبوي، وأن الذي حرمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيعيبون على عمر، ويطعنون فيه بأنه هو الذي حرم هذا النكاح، وكذبوا، بل التحريم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر إنما نهى عن متعة الحج، فتوهموا أنه نهى عن متعة النكاح، ومعنى متعة الحج، أي: التمتع بالحج إلى العمرة، حتى لا يجمع الإنسان في سفر واحد بين حج وعمرة، بل يسافر للعمرة سفراً مستقلاً، وقصده بذلك ألا يبقى البيت مهجوراً؛ لأنهم إذا اعتمروا مع حجتهم بقي البيت طوال السنة لا يأتي إليه أحد، مع أنه ليس نهياً صريحاً، إنما هو نهي كراهة، أو نهي من باب ما هو الأحسن، فلما رأوا في صحيح مسلم أو في غيره أنه نهى عن المتعة، جعلوها متعة النكاح، وقد وقع في بعض الروايات في صحيح مسلم، وكذلك في مصنف عبد الرزاق: أنه نهى عن متعة النساء، والصحيح: أنه خطأ من الراوي.
وكذلك أيضاً روي عن بعض الصحابة أنه كان يبيحه كـ ابن عباس، ولكن الصحيح أن ابن عباس ما أباحه إلا للضرورة، وقد أنكر عليه بعض الصحابة حتى علي رضي الله عنه، وكان ابن عباس يبيح أيضاً أكل لحوم الحمر، فيقول: إنها حلال، فرد عليه علي في هاتين المسألتين، في المتعة وفي الحمر، كما في الحديث الذي في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) فجمع بينهما في حديث، وأتى بكلمة: (يوم خيبر) ظرفاً لتحريم الحمر لا ظرفاً للمسألتين، وتوهم بعض العلماء أن النهي عن نكاح المتعة كان في خيبر، والصحيح: أنه ما أبيح إلا في غزوة الفتح، وحرم في تلك الغزوة.
وقد ناقش أدلة الرافضة كثير من أهل السنة، ولهم مؤلفات في ذلك، والرافضة لهم مبالغة في إباحتها، ولا يزالون هكذا، ولا يعتبر بخلافهم؛ لأنهم ليسوا من أهل السنة.(60/6)
تعليق الشرط على غير مشيئة الله
الرابع: المعلق على شرط غير مشيئة الله تعالى.
إذا قال: زوجتك بشرط رضا أخيها، وأخوها غائب، فهذا معلق على شرط، أو زوجتك بشرط بقائها إلى سنة أو نصف سنة، أو زوجتك بشرط نجاحها في هذا الاختبار، فهذا غيب ولا يُدرى، لأجل ذلك يكون هذا باطلاً، فإذا أرادوا العقد عند تحقق الشرط فليعقدوا لها عقداً جديداً لا بتعليق.(60/7)
الشروط الباطلة التي لا تبطل العقد
هناك شروط فاسدة لا تبطل العقد، بل يبطل الشرط ويصح العقد، فإذا شرط ألا مهر لها، فالعقد صحيح والشرط باطل، وتعطى مهر أمثالها؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] ، وإذا شرط ألا نفقة لها، أو شرط ألا تطالبه بنفقة ولو خبزة أو رغيفاً، صح العقد وبطل الشرط؛ لأنه يخالف مقتضى العقد، فالأصل أن الزوج عليه نفقة امرأته، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، فالنفقة واجبة على الزوج، لكن إذا كان لها دخل وساعدته في نفقتها أو في نفقة الأولاد جاز ذلك.
ومن الشروط الباطلة: إذا شرط أن يقيم عندها أكثر من ضرتها أو أقل، فإذا قالت: بشرط أن تقيم عندي أربعة أيام، وعند ضرتي يوماً، أو تقيم عندي ثلاثة، أو يومين، فهذا شرط ينافي العدل؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] فلابد أن يعدل بينهما.
وكذلك إذا كان قد شرط عليها: ما لك إلا يوم في الأسبوع، والبقية لضرتك، أو نحو ذلك، فهذا شرط باطل، والعقد صحيح.
وإذا شرط نفي عيب لا يفسخ به النكاح، فوُجد بها؛ فله الفسخ، مثلاً: إذا شرط أنها ليست أمية، فوجدت أمية لا تقرأ ولا تكتب، فهذا الشرط لا يبطل العقد، ولكن إذا كان قد شرط ذلك فله شرطه، وله طلب الفسخ، ويُرد عليه صداقه، وكذلك لو شرط أنها بيضاء وبانت سوداء، أو شرط أنها جميلة وبانت دميمة، فالعقد صحيح، ولكن لما تخلّف المطلوب فله الفسخ، وكذلك لو شرط أنها سليمة وصحيحة من العيوب، فوجد بها مثلاً نقص إصبع أو زيادته، أو مثلاً جروحاً يسيرة في البدن، فإن هذا أيضاً لا يبطل به العقد، لكن إذا قال: أنا شرطت فيها السلامة، ووجدت فيها عيوباً أو عيباً؛ فله الفسخ.(60/8)
عيوب النكاح
الفصل الثاني في عيوب النكاح، والعيب هو: ما يكون نقصاً في أحد الزوجين، بحيث تنفر النفس من ذلك العيب، أو لا يحصل كمال الاستمتاع، أو لا يحصل كمال الألفة، أو ما أشبه ذلك، فإذا وجد هذا العيب فإنه يكون سبباً في الفراق.
وذكر المصنف أن العيوب ثلاثة أنواع: قسم يختص بالرجال، وقسم يختص بالنساء، وقسم يوجد في الرجال وفي النساء.
فالذي يختص بالرجال: كجبّ وعنة، والجب هو: قطع الذكر، وهذا بلا شك عيب؛ لأنه لا يحصل به الاستمتاع، والمجبوب لا يكون زوجاً يحصل منه الإنجاب، ولا يحصل منه الاستمتاع.
وإذا كان مقطوعاً نصف ذكره فإنه قد يحصل منه الاستمتاع أو الوطء، ولكن لا يكون استمتاعاً كاملاً، فلها طلب الفسخ.
وأما العنة: فهي عدم القدرة على الوطء، العنين هو: الذي لا يحصل منه الانتشار الذي يتمكن معه من الوطء، فإن بعض الناس ليس عنده شهوة، أو عنده شهوة ضعيفة بحيث إنه لا يحصل منه الانتشار والانتصاب، فلا يحصل منه قدرة على الوطء، فيكون هذا عيباً، فللمرأة طلب الفسخ إذا ظهر أنه عنين.
والنوع الثاني يختص بالنساء: ذكروا أن من النساء من يكون في فرجها سد يسمى الرتق والعفل، والرتق هو: انضمام الفرج والتحامه، فلا يتمكن زوجها من الاستمتاع، يقال: امرأة رتقاء، أي: ملتصق فرجها بعضه ببعض، ومن الرتق قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء:30] أي: كانت السموات ملتصقة بالأرض {فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] .
وكذلك العفل مرض يكون أيضاً في الفرج، يمنع من كمال الاستمتاع، ويشبهونه بالأدرة التي قد تكون في الرجل، والآدر هو: الذي فيه فتق في أسفل بطنه، فتنحدر منه أمعاؤه، حتى تجتمع في الأنثيين، هذه تسمى الأدرة، فيكون في النساء هذا الفتق، فيكون أيضاً عيباً، ولكنه أغلب ما يكون في الرجل، والآدر: هو الذي فيه هذا الفتق، فيكون أيضاً عيباً، والفتق قد يفسر بنوع آخر وهو: انفتاق ما بين مخرج الحيض ومخرج البول، فإذا كان منفتقاً ما بينهما فإن ذلك أيضاً عيب؛ لأنها في هذه الحالة لا تقدر على استمساك البول، ففي هذه الحال يكون هذا عيباً.
النوع الثالث: العيب المشترك بين الرجل والمرأة: كالجنون، والجذام، والبرص، فإذا وجد في واحد منهما فللآخر طلب الفسخ؛ لأنه مما تنفر منه النفس، فالجنون: فقد للعقل، يقال: جن إذا غُطي على عقله، فإذا تبين أن المرأة مجنونة فله أن يطالب بالفسخ، أو الرجل تبين أنه مجنون فلها المطالبة بالفسخ.
كذلك الجذام، وهو: قروح تخرج في الأنف وفي الوجه وتنتشر، ويكون لها رائحة منتنة، ويخشى أيضاً انتقالها، وفي الحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالجذام من الأمراض الشديدة، وقد ورد الاستعاذة منه، فمن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله من البرص، والجنون، والجذام، وسيئ الأسقام) .
والبرص معروف وهو: هذا البهق والبياض الذي يكون في بعض الناس في يديه أو في وجهه أو في أعضائه، فإن كان خفياً في بطن أو ظهر فقد لا يكون عيباً، وإلا فإن النفس تنفر من الشيء الذي يخالف خلقة الإنسان، فيكون عيباً يفسخ به، أما بقية العيوب فلا توجب الفسخ، لكن إذا اشترط نفيها فله شرطه، فإذا شرط ألا عيب فيها، ووجد بها عور، أو وُجد أنها عمياء، أو مشلولة إحدى اليدين، أو عرجاء، أو بها قرع، وهو تمزق شعر الرأس، الأقرع هو: الذي يكون في رأسه هذه القروح التي تمزق الشعر أو نحوه، أو قروح خفية وجروح، أو مرض خفي.
فالحاصل: أنه إذا وجد عيب خفي، وكانوا قد كتبوه؛ فله المطالبة بالفسخ إذا كان مما ينفر النفس، وله أن يرضى به.
وإذا حدث الجنون أو البرص بعد الزواج وبعد الدخول جاز له أن يطلب الفسخ، مع أن هذا ليس بسبب منها، ولا من أهلها، وإنما حدث أنها جنت، أو أصيبت بالجذام بعد ما دخل بها، ولكن النفس تنفر من ذلك.
وهناك عيوب لا تكون ملزمة للفسخ، ولكن إذا كان هناك شرط فـ (المسلمون على شروطهم) ، فإذا لم يشترط نفي العيوب، ووجدها عمياء، أو عوراء، أو وجدت زوجها مثلاً ضعيف البصر يحتاج إلى من يقوده، أو أطرش، والطرَش هو: ثقل السمع، فإذا وجد بأحد منهما طرَش، فإن كان هناك شرط فله شرطه، وإلا فإنه لا يُعد عيباً، وكذلك قطع اليد أو الرجل، سواءً كان حادثاً أو قديماً، وكذلك إذا قطعت إصبعه، فلا يكون هذا موجباً للفسخ إلا بشرط، فإذا شرط: ألا عيب فيها أصلاً من الخلقة، ثم وجدت مقطوعة إحدى اليدين، أو مقطوعة أحد الأصابع بحيث يختل العمل؛ فله طلب الفسخ؛ لأنه شرط نفي العيب.
ومن ثبتت عنته أجل سنة من حين ترفعه إلى الحاكم، ويحدث هذا في كبار السن، فقد تجد أن أحدهم يصاب بضعف الشهوة، والمرأة تريد زوجاً يحصل منه الاستمتاع بها، ففي هذه الحال إذا طلبت منه الاستمتاع ورفعته إلى الحاكم، فإن الحاكم يؤجله سنة، وكذلك إذا ثبتت عنته، أي: أنه لا ينتصب ذكره، ولا يحصل منه الوطء الذي يحصل به الاستمتاع، فإذا ترافعا فالحاكم يؤجله سنة، حتى تمر به الفصول الأربعة، يمر به فصل الربيع، فقد يكون مثلاً بسبب برودة، ويمر به فصل الشتاء، فقد يكون الضعف بسبب حرارة، ويمر به فصل الخريف وفصل الصيف، فإذا مرت به الفصول الأربعة ولم يتبين أنه تغيّر بل بقي على عنته، ففي هذه الحال بعد أن ثبتت عنته، وأجله الحاكم سنة من حين الترافع، فإن لم يطأ فيها فلها طلب الفسخ.
وإذا وجد عيب كعمى وطرش أو صمم أو خرس أو عور أو شلل على التراخي، يعني: سكتت، ولم تطالب الفراق، ومضى عليها سنة أو سنوات ثم طلبت الفراق، فهل يحتج عليها ويقول: أنت قد مكثت عندي سنة أو سنتين راضية بالحال، فلماذا طلبت الفراق بعد ذلك؟
الجواب
لها أن تطلب الفراق ولو بعد عشر سنين؛ لأنه يمكن أنها تقول: كنت أتحمل، أو أتصبر، أو لعله يتغير، فخيار العيب على التراخي، لكن يسقط بما يدل على الرضا إذا دل كلامها أو كلامه على الرضا، فإذا قال: رضيت بها ولو خرساء، فهذا دليل على رضاه، أو قال: رضيت بها ولو عرجاء فكذلك، أو قالت: رضيت به ولو أعور، أو أعمى، أو حدث به العمى، أو المرض، فإذا أظهرت الرضا بطل الخيار، فلو طالبت بعد ذلك بالفسخ فليس لها؛ لأنها رضيت به، ومن رضي به في وقت استقر الرضا بعد ذلك.
وأما في عنة فلا يسقط، ولا خيار إلا بالقول، فالعنين خياره لا يسقط إلا بقول، وصورة ذلك: إذا قالت: رضيت به عنيناً، أي: رضيت أن يبقى معها ولو كان عنيناً، فيسقط خيارها.
وأما الفسخ فهو: فسخ النكاح، بمعنى: أنها تطالب بالفسخ، ولا يفسخه إلا الحاكم، فإذا ترافعا إلى الحاكم، وقالت: أريد فسخ النكاح بيننا، فإنه هو الذي يتولى فسخه، وإذا فُسِخ النكاح قبل الدخول فلا مهر؛ لأن الصداق إنما كان بسبب العقد، وهاهنا تبين أن العقد لا يصح، وأنه لا يُقر على تلك الحال، فلا تستحق عليه لا مهراً ولا نصف المهر، وأما إذا دخل بها فإنها تستحق المهر كاملاً بما استحل من فرجها، ولكن يرجع به على الذي غرّه أو أوهمه أنها سليمة، سواء الأب أو الأخ أو الواسطة بينهما، يقول: أنت خدعتني، دخلت بها ووجدت بها عيب كذا وكذا، وقد أخذت مني المهر كاملاً، فأنت الذي خدعتني، فيرجع به عليه.(60/9)
أحكام نكاح الكفار، وحكم إذا أسلم أحد الزوجين أو كلاهما
ذكر المصنف نكاح الكفار، وأنهم يقرون على النكاح الفاسد الذي اعتقدوا صحته، كنكاح بلا ولي، أي: أن تزوج المرأة نفسها، كذلك أيضاً إذا كان هناك نكاح بلا إيجاب ولا قبول، مثاله: اجتمع رجل وامرأة في الجاهلية وقال: زوجيني نفسك، فأخذ بيدها دون أن يكون هناك إيجاب أو قبول، فإذا اعتقدوا صحته صح ذلك.
وإذا أسلم الزوجان والمرأة تباح أُقرا على نكاحهما، أي: إذا كانت تباح في تلك الحال، وإلا فرق بينهما.
رووا: أن فيروزاً الديلمي أسلم وعنده أختان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارق إحداهما، ولكن يعتزل الثانية حتى تستبرأ التي فارقها.
وأسلم غيلان الثقفي وعنده عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختر أربعاً وفارق سائرهن) ، فإذا أسلموا يقرون على الذي يحله الشرع، والذي لا يحله لا يقرون عليه.
وإذا أسلم المجوسي وعنده في ذمته أحد من محارمه أمر بفراقها؛ وذلك لأنه محرم، والمجوس يستبيح أحدهم أن يتزوج بنته أو أخته أو أمه أو غيرهن، فإذا أسلموا أمروا بفراق من هي من المحارم.(60/10)
شرح أخصر المختصرات [61]
مما فرضه الله عز وجل للمرأة على الزوج: الصداق، وهي تستحقه كله بالدخول عليها، وتستحق نصفه إذا فارقها بعد العقد وقبل الدخول، ويستحب في الصداق أن يكون معجلاً، ويجوز تأجيله، وتكره المغالاة في المهور.(61/1)
أحكام الصداق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصداق.
يسن تسميته في العقد وتخفيفه، وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً، فإن لم يسم أو بطلت التسمية وجب مهر مثل بعقد.
وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح، فلو طلق قبل دخول رجع بألفها، ولا شيء على الأب لهما، وإن شرط لغير الأب شيء فالكل لها، ويصح تأجيله، وإن أطلق الأجل فمحله الفرقة، وتملكه بعقد.
ويصح تفويض بضع بأن يزوج أب ابنته المجبرة، أو ولي غيرها بإذنها بلا مهر، كعلى ما شاءت أو شاء فلان.
ويجب لها بعقد مهر مثل، ويستقر بدخول، وإن مات أحدهما قبل دخول وفرض ورثه الآخر، ولها مهر نسائها كأمها وعمتها وخالتها.
وإن طلقت قبلهما لم يكن لها عليه إلا المتعة، وهي بقدر يسره وعسره.
ويجب مهر مثل لمن وطئت بشبهة أو زناً كرهاً، لا أرش بكارة معه، ولها منع نفسها حتى تقبض مهراً حالاً، لا إذا حلّ قبل تسليم أو تبرعت بتسليم نفسها، وإن أعسر لحال فلها الفسخ بحاكم.
ويقرر المسمى كله موت، وقتل، ووطء في فرج ولو دبراً، وخلوة عن مميز ممن يطأ مثله مع علمه إن لم تمنعه، وطلاق في مرض موت أحدهما، ولمس أو نظر إلى فرجها بشهوة فيهما، وتقبيلها، وينصفه كل فرقة من قِبله قبل دخول، ومن قِبلها قبله تسقطه.
فصل: وتسن الوليمة لعرس ولو بشاة فأقل.
وتجب الإجابة إليها بشرطه.
وتسن لكل دعوة مباحة، وتكره لمن في ماله حرام كأكل منه، ومعاملته وقبول هديته، وهبته.
ويسن الأكل، وإباحته تتوقف على صريح إذن أو قرينة مطلقاً.
والصائم فرضاً يدعو، ونفلاً يسن أكله مع جبر خاطر.
وسن إعلان نكاح، وضرب بدف مباح فيه، وفي ختان ونحوه] .(61/2)
تعريف الصداق
الصداق: هو ما تستحقه المرأة مقابل الزواج بها، سمي صداقاً؛ لأنه يدل على الصدق في دفعه، وأنه ما دفعه إلا لأجل صدقه في طلبها، وفي نكاحها، أو على الصداقة بينهما، قال الله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] جمع الصدَاق: صدُقات، وأما الصدقة فجمعها: صدَقات.
وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] يعني: نحلاً، والنحل هو: العطاء، تقول: نحلني فلان يعني: أعطاني عطية، ويُسمى أيضاً أجراً كقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] ، ويسمى أيضاً فريضة كقوله في هذه الآية: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] ، وذكر بعض العلماء أن له ثمانية أسماء، ونظمها بقوله: صداق ومهر نحلةٌ وفريضةٌ حباءٌ وأجر ثم عقر علائق.
فله هذه الأسماء، ومنها ما هو مستعمل كثيراً، ومنها ما استعماله قليل، فالجميع اسم لمسمىً واحد، وهو ما تستحقه المرأة مقابل العقد عليها.(61/3)
استحباب تسمية الصداق عند العقد
قال المصنف رحمه الله: (يسن تسميته بالعقد وتخفيفه) ، قوله: (يسن) أي: ليس بلازم، فإذا عقد عليها، ولم يسم لها مهراً، فإنها تُسمى مفوضة، أي: قد فوضت أمرها إلى وليها، أو إلى زوجها الذي لم يسم لها صداقاً بيناً، وقد دل أيضاً على عدم التسمية قول الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] يعني: يجوز لكم طلاقهن بعد العقد، ولو قبل الدخول، وقبل الفرض، فدل على أن هناك عقداً لا يكون فيه فرض، أي: تسمية مهر، ولكن يسن تسميته لأجل قطع الخلاف، أي: حتى لا يكون هناك خلاف بينهما في مقداره، وإذا طلق قبله، وكان الصداق بيناً، فتستحق ما سمي لها.
ويسن تسميته في العقد، فإذا عقد الولي يقول: زوجتك موليتي فلانة بصداق ألف، أو بصداق عشرين ألفاً، فيسميه، حتى لا يكون هناك نزاع.(61/4)
استحباب تخفيف الصداق
يسن تخفيفه، ورد في حديث: (خير النساء أيسرهن مهراً) أو (أيسرهن مئونة) أو (أفضل النساء أو خير النساء أيسرهن مئونة) ، وورد (أن امرأة تزوجت على نعلين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك بنعلين؟ فقالت: نعم) فأجاز ذلك، وكذلك جاء في الحديث أنه قال لرجل: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، فلو جاء بخاتم من حديد لعقد له به، وكذلك أيضاً جاء رجل فقال: (إني تزوجت امرأة على اثني عشرة أوقية) فأنكر عليه وقال: (كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) ، فأنكر عليه مع أن هذا قليل، فدل على أنه يستحب أن يكون المهر قليلاً، والأوقية: أربعون درهماً، وذكرت عائشة أن مهر نساء النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر أوقية ونشَّاً، أي: ونصفاً، فيكون ذلك خمسمائة درهم؛ لأن الأوقية أربعون درهماً، وأما بناته فمهورهن أربعمائة، يعني: عشر أواق، أربعمائة درهم، إلا أم حبيبة فإنه أمهرها عنه النجاشي بأربعة آلاف دينار، ولم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم في مهرها شيئاً.(61/5)
مقدار الصداق
قال المصنف رحمه الله: (وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً) ، كل ما صح أجره، يعني: عوضاً عن عمل، والأثمان هي قيم السلع، أو هي التي تجعل ثمناً للسلع، وهي الآن تسمى نقوداً، والنقود تختلف باختلاف البلاد، فإذا قال مثلاً: زوجتك على عشرين ألف ريال، وأطلق، فإنه يرجع إلى نقد البلد، فإن كان في السعودية، فعشرون ألف ريال سعودي، وإن كان في قطر فعشرون ألف ريال قطري، وفي اليمن يمني؛ لأن لكل بلد عملتهم، مع أن اسمه ريال، وإذا كان مثلاً في مصر وعقد على عشرين ألف فإنه يكون بنقد البلد، وهو: الجنيه المصري، وإن كان في السودان فالجنيه السوداني، وكذلك إذا عقد على عشرين ألف ليرة، فإن كانوا في سوريا فمن نقدها، وإن كانوا في لبنان فمن نقدها، وإن كانوا في تركيا فليرة تركية، وهكذا، فهذا معنى أن كل بلد لهم نقدهم، فيسمى بالاسم الذي يتعارف عليه.
وكل ما صح ثمناً صح مهراً، وعندنا الآن الأثمان بالريالات، وقد تكون أيضاً بالدولارات الأمريكية، وذلك لشيوعها وكثرة التعامل بها في كثير من الدول، فإذا قال: زوجتك بخمسة آلاف دولار، صح ذلك مهراً، وهكذا.
وكذلك من الأثمان الجنيه، فإذا قال: زوجتك بخمسين جنيهاً وهم في السعودية فالجنيه السعودي وهكذا.
ويصح أيضاً أن يجعل المهر عرضاً، ففي حديث علي لما تزوج فاطمة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادفع لها مهراً، قال: ليس عندي شيء، فقال: أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي، فجعلها مهراً) ، والدرع هي: التي تلبس في الجهاد يتقي بها اللابس وقع السلاح، ولا يلبسها غالباً إلا الرجال، فجعلها مهراً، وكذلك أيضاً لو أصدقها ثوباً أو ثياباً، أو أصدقها عروضاً كأكياس من الأطعمة، أو أدوات من هذه الأواني وما أشبهها، صدق عليه أنه قد أصدقها مهراً، فكل ما صح ثمناً صح مهراً.
وكل ما صح أجرة كذلك، والأجرة هي: التي تؤخذ مقابل عمل، مثلاً: يعمل الإنسان عندك أجيراً، فتعطيه أجرته، فإما أن تعطيه عيناً ونقداً، وإما أن تعطيه عرضاً، فكل ما صح أجرة صح مهراً، فتقول له مثلاً: اشتغل عندي خادماً، وكل شهر أعطيك كبشاً، أي: كل شهر بكبش من الغنم، أو كل أسبوع أجرته ثوب، أو كل شهر أجرته كيس من الأرز أو البر، فكل ما يصلح أن يكون أجرة فيصلح أن يكون مهراً، فيصح أن تمهرها أكياساً من الأرز، أو قطيعاً من الغنم، أو قطعاً من الأقمشة، أو عدداً من الأواني التي تستعمل للشرب أو للطبخ أو للأكل؛ لأنها يصلح أن يكون لها ثمن معين، فيصلح أن تكون مهراً، وقد يصح أيضاً بالحرفة نفسها، فإذا قالت: مهري أن تبني لي هذا البيت، أو مهري أن تحفر لي هذه البئر، أو تركز لي هذا الشجر، أو تسقيه، أو نحو ذلك؛ صح ذلك مهراً، وهو حرفة وعمل، أو أن تطحن لي هذا البر، أو أن تخيط لي هذه الثياب، فيعتبر هذا مهراً؛ لأنه يؤخذ عليه الأجر، والإنسان لا يبني الدار إلا بأجرة، فإذا قيل له: ابنه واجعله صداقاً، أو نزوجك ابنتنا مقابل بنائك لهذا الجدار، أو لهذه الدار، فيصلح أن يكون هذا مهراً.
إذاً: المهر المسمى الأصل أنه عند العقد، ويجب لها مهر المثل إذا لم يسم لها صداقاً، فإذا قال: زوجتك ابنتي، ولم يقل: بصداق كذا وكذا، أو قال مثلاً: نتفق فيما بعد، ثم حصلت الفرقة وهو ما سمى، أو حصلت الوفاة، ففي هذه الحال يجب لها مهر المثل بعقد، يعني: مهر أمثالها التي عُقد عليهن بذلك المهر، كأختها أو شبيهتها من زميلاتها.
وكذلك إذا بطلت التسمية، فلو أصدقها محرّماً فلا يصح، مثلاً: لو أصدقها زقاق خمر، أو أصدقها طبول، أو آلات لهو، أو أصدقها أفلاماً هابطة، أو أشرطة غناء، فهل يصح هذا الصداق؟
الجواب
هذا حرام فلا يصح، وفي هذه الحال يضرب لها مهر أمثالها، أي: من يساويها، فيقال: فلانة التي تساويها في السن، وتساويها في الجمال، وفي النسب، وفي العلم والدراسة، فرض لها كذا، فيفرض لها مثلها.(61/6)
حكم أخذ الأب من مهر ابنته
قال المصنف رحمه الله: (إن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح ذلك) ؛ وذلك لأن الأب له أن يأخذ من مال أولاده ما لا يضرهم ولا يحتاجون إليه، فإذا أخذ الأب صداق ابنته، فإن له الحق في ذلك، إلا الشيء الذي تتضرر بأخذه كثيابها وأحذيتها وما أشبه ذلك، فإذا قال: أصدقتك ألفاً لك وألفاً لابنتك -التي هي الزوجة- انعقد النكاح وصح، ولزمه الألفان، لكن إذا طلّق قبل الدخول سقط نصف الصداق؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] أي: أعطوهن نصف الفريضة التي فرضتم لهن، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] فإن قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) يعني: لو فرض لها ألفين صداقاً، ثم طلقها قبل الدخول استحق أن يطالبها بألف، فيلزمها دفعه، هذا إذا كانت قد قبلت الصداق وقبضته، فإن كان فرض لها ألفين: ألفاً لها وألفاً لأبيها، وطلق قبل أن يدخل بها، رجع بالألف الذي لها، وأما الألف الذي لأبيها فلا تستطيع أن تجبر أباها، وتقول: أعطني الألف الذي قبضته؛ لأن له أن يأخذ من مالها ما لا تحتاجه.
قال المصنف: (إذا طلق قبل الدخول رجع بألفها ولا شيء على الأب لهما) ، لا للزوج ولا للزوجة؛ لأن الزوج أخذ نصفه، ولا يستحق أكثر من النصف، وقد أخذه، وأما الزوجة فإنها لا تطالب أباها، ولا تقول: يا أبي! أخذت مهري؛ لأنه يقول: أخذته؛ لأن الولد وما يملك لأبيه، كما في الحديث: (أنت ومالك لأبيك) .(61/7)
إذا اشترط في الصداق شيء لغير الأب فالكل للمرأة
قال المصنف رحمه الله: (وإن شرط لغير الأب شيء فالكل لها) أي: إذا كان لغير الأب حتى الأم، فلو قال: أصدقتكم عشرة ثياب! لها ثوبان، وآخران لأمها، وآخران لأختها، وآخران لعمتها، وآخران لخالتها، فهذه عشرة ثياب كلها لها، وفي هذه الحال إذا طلق رجع بنصف هذه الثياب، سواء كانت عندها، أو عند خالاتها وأخواتها، وما ذاك إلا أن غير الأب لا يُقاس عليه، فيرجع على من هي عنده، وهذه الثياب العشرة هي صداقها، والآن حصل الطلاق قبل الدخول، واستحق خمسة من هذه الثياب إذا كانت متساوية، فيرجع عليها، ويطالبها بأن تجمع له نصف الصداق الذي هو خمسة من هذه الثياب وتردها عليه، سواء التي عندها أو عند أختها أو عند عمتها أو نحو ذلك.(61/8)
صحة تأجيل الصداق
قال المصنف رحمه الله: (ويصح تأجيله) يصح تأجيل الصداق، ويقع هذا في كثير من الدول، في سوريا، وفي مصر، وفي الأردن وغيرها، فيقسمون الصداق إلى معجل ومؤخر، فالمعجل يدفعه لها عند العقد أو بعده لتنتفع به، وأما المؤخر فإنه يبقى عنده إلى أن يطلق أو إلى أن يفارق أو بعد الموت، ويبقى في ذمته ديناً عليه، لماذا تجعلون هذا المؤخر؟ يقولون: لأنها قد تطلق، وإذا طلقت فقد لا ترغب في الأزواج، وتبقى أيماً أرملةً ليس عندها من يكفلها، فإذا طُلقت فهذا الصداق الذي كان مؤجلاً -وقد يكون عشرين ألفاً أو أربعين ألفاً- تتمتع به بقية حياتها، حتى لا تضطر إلى أهلها، ولا إلى أخوتها أو أبويها أو نحو ذلك، فتستغني بهذا المهر المؤخر، ويصح تأجيله كما ذكر، سواءً كان إلى أجل مسمىً أو غير مسمىً، فالأجل المسمى إذا قالوا: أصدقنا ثلاثين ألفاً: عشرة ادفعها، وعشرين بعد سنة، أو عشرة ادفعها، وعشرة بعد سنة، وعشرة بعد السنة الثانية، ففي هذه الحال يلزمهم أن يؤخروه إلى أن يحل الأجل، وقد يكون قصدهم أنها بحاجة؛ يمكن هذه السنة تكفيها العشرة لأواني أو فرش أو سرر أو مجالس أو أكسية أو ما أشبه ذلك، وهذه الأشياء قد تفنى في عشر سنين، أو تتحطم أو تنكسر؛ ففي العشر السنين الأخرى يأتيها مثلاً عشرة آلاف أخرى، وهكذا.
فالحاصل: أنه يصح تأجيله إلى أجل محدد أو غير محدد، فإذا أطلق الأجل ولم يحدد وإنما قال: أصدقنا أربعين ألفاً مؤجلة، وعشرين ألفاً نقداً، فنقد له العشرين ألفاً، وسكت عن تحديد المؤجلة، ما قال: مدة سنة، أو سنتين، أو عشر سنين، أو إلى الموت، فالمؤجل محِلُّه الفرقة، فإذا حصلت الفرقة بطلاق أو بفسخ أو بموت متى ما حصلت حُكِم لها به، ولزمه دفعه، فالفرقة تكون بطلاق أو بفسخ كأن يفسخ الحاكم النكاح، أو بالموت، فمتى حصلت الفرقة حل المؤجل، حتى ولو حصلت بعد الدخول بيوم أو بأيام؛ وذلك لأنه تحقق أنه فارقها.(61/9)
المرأة تملك الصداق بمجرد العقد
متى تملك المرأة صداقها؟
الجواب
تملكه بمجرد العقد، فقد يكون الصداق عيناً، يعني: قد يكون عرضاً من العروض أو بهيمة أو نحوها فتملكه بالعقد، فإن كان معيناً، كأن يقول: أصدقتك هذه الدار، أو هذه الأشجار، أو هذه الأغنام، فبمجرد العقد تملكها، فلو أن هذه الغنم ولدت بعد شهر، ثم طلق، وأراد أن يأخذ نصف الغنم، فهل يأخذ نصف البهم؟ الجواب: لا يأخذ؛ لأنه في تلك المدة التي أُعلفت فيها، كانت في ملك الزوجة، وفائدتها لها؛ فإذا حلبتها في تلك الأيام فإن لها لبنها ودهنها وجِزتها، كل ذلك يكون لها، وإذا أثمر الشجر بعد العقد فالثمرة لها، وإذا أجَّرت الدار بعد العقد فالأجرة لها، وليس له إذا طلق أن يطالب بنصف الأجرة أو بنصف الثمرة؛ لأنها دخلت في ملكها بمجرد العقد، هذا معنى قوله: (وتملكه بعقد) .(61/10)
مئونة الصداق إذا طلق قبل الدخول يكون على المرأة
يلزم المرأة مئونة الصداق، فمثلاً إذا قال: أصدقتك هذه الأكياس، وكانت الأكياس في مستودع إنسان، ثم مكثت في ذلك المستودع خمسة أشهر، فأجرتها في هذه الخمسة على الزوجة؛ لأنها ملكها، فلو أنه طلق قبل الدخول أخذ نصفها، وليس لها أن تطالبه بنصف الأجرة، بل يقول: أجرتها عليك وغلتها لك، أي: أن أولاد الغنم وأجرة الدار وثمر الشجر لها، ولو كان كثيراً، ولا يطالبها بنصفه، ومئونتها عليها، فإذا احتاجت الغنم إلى علف فإنه عليها، ولو طلق قبل الدخول لا تطالبه بنصف العلف ولا بنصف أجرة الراعي، كما لا يطالبها بنصف اللبن، ولا بنصف الجزة، ولا بنصف النتاج من الأولاد.(61/11)
مهر المفوضة
قال المصنف رحمه الله: (يصح تفويض بضع) .
التفويض هو: عدم تسمية المهر في العقد، ومن لم يُسم لها مهر تُسمى مفوَّضة، فيصح تفويض البضع، يعني: بضع امرأة بأن يزوج الأب ابنته المجبرة بلا مهر، أو يزوج الرجل غير المجبرة بإذنها بلا مهر، مثاله: أن يقول: أصدقتها ما شاءت، أو ما شاء أخوها، أو ما شاءت أمها، وما أشبه ذلك، ففي هذه الحال تُسمى مفوضة، يفرض لها ما شاءت، قل أو كثر، فإذا قالت: أنتم قلتم: صداقها ما شاءت أو ما رضيت به أو ما ترضى فلو طلبت مائة ألف أو مائتين فلها ذلك؛ لأنه فوض الأمر إليها وقال: ما شاءت، أو قال: ما شاء فلان، ما شاء أخوها، أو ابنها أو أبوها، فالكل يُسمى تفويضاً.
ثم المفوَّضة أو غير المسمى لها، متى يجب لها مهر المثل؟ يجب بالعقد، وقد تقدم أنها تملكه بالعقد إذا كان مسمى، وإذا لم يكن مسمى فلها مهر المثل، ويجب بمجرد ما يحصل العقد بينهما، ففي هذه الحال يجب لها مهر المثل.(61/12)
استقرار المهر بالدخول
قال المصنف رحمه الله: (ويستقر لدخول) .
يعني: إذا دخل بها استقر المهر، فهنا فرَّق بين (يجب) و (يستقر) ، فما هو الفرق بينهما؟
الجواب
الوجوب معناه: اللزوم، يعني: يكون لازماً لها، لها مهر المثل، وإن لم يحدد، وأما الاستقرار فإنما يكون بالدخول، فبمجرد العقد يقال: في ذمتك مهر المثل، وبمجرد الدخول يقال: استقر عليك مهر قدره كذا وكذا، فالمهر يستقر بالدخول.(61/13)
مقدار المهر إذا مات أحد الزوجين قبل الآخر
قال المصنف رحمه الله: (وإن مات أحدهما قبل دخول وفرض ورثه الآخر) .
قد ذكرنا في الفرائض أن المرأة إذا ماتت بعد العقد ورث منها، ويرث من مهرها ولو قبل الدخول، وإذا مات ورثت منه ولو قبل أن يفرض لها، فإذا عقد عليها عقداً صحيحاً فمات ورثت منه، أو ماتت ورث منها، وإن لم يحصل دخول ولا خلوة، فإذا مات الزوج ورثت منه، وإذا ماتت الزوجة ورث منها، ولو قبل الدخول بها، ولو قبل أن يفرض لها، ويُسمى لها مهر مثلها، وحينئذ ماذا يجب لها من المهر؟ لها مهر نسائها كأمها وعمتها وخالتها، أي: يفرض لها مثل مهر نسائها اللاتي يماثلنها، كما جاء في الحديث أن قوماً سألوا ابن مسعود عن رجل عقد على امرأة ومات قبل أن يفرض لها، وترددوا إليه شهراً، فقال: (أنا أفتيكم برأي إن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، ولا تتخذوا قولي دليلاً: لها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث) وكان عنده رجل يقال له: معقل بن سنان الأشجعي، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة عندنا يقال لها: بروع بنت واشق بمثل ما قضيت) ، ففرح بذلك ابن مسعود؛ حيث وافق قوله قول النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذا أنه جعل لها مهر نسائها، يعني: كعمتها وخالتها وأختها وقريباتها، فيُنظر كم كان يقدر لهن، فلها مهر كامل ولو قبل الدخول، فإذا مات قبل أن يدخل بها وقبل أن يسمي لها إذا كان قد عقد عليها فإنها ترثه من تركته، ومع ذلك تحد عليه، فجعل عليها عدة وإحداداً، وجعل لها ميراثاً، وأمر لها بصداق أمثالها، هذا هو الذي يجب لها.
وروي أن بعض الصحابة خالفوا ذلك، ولم يقبلوا قول معقل بن سنان الأشجعي، وكأنهم لم يصدقوه، حتى قال بعضهم: (كيف نقبل قول أعرابي يبول على عقبه؟!) يعني: أنه من الذين لا يعرفون العلم وهذا غير قادح، فإنه صحابي، والصحابة عدول، والحديث قد اشتهر، ورواه الأئمة في كتبهم، فعلى هذا تُعطى مهراً كاملاً كمهر نسائها، عملاً بهذا الحديث، وهكذا إذا كان قد فرض لها، فإنه يدفع لها المهر الذي فرض لها كاملاً.
وذهب بعضهم إلى أنها كالمطلقة قبل الدخول، لها نصف الصداق، عملاً بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] وبعضهم قال: لا يقدر لها شيئاً، أي: إذا لم يكن قد فرض لها، وجعلها كالمفوضة غير المدخول بها.
قال المصنف رحمه الله: (يجب لها بعقد مهر مثل -يعني: مفوضة- ويستقر بالدخول، وإن مات أحدهما قبل الدخول وقبل الفرض ورثه الآخر، وأُعطيت مهر نسائها -أي: مثل مهر نساءها- لا وكس، ولا شطط) أي: مثل نسائها كأمها وعمتها وخالتها وأخواتها ونحوهن.(61/14)
متعة المطلقة
قال المصنف رحمه الله: (وإن طلقت قبلهما لم يكن عليه لها إلا المتعة، وهي بقدر يسره وعسره) .
يعني: امرأة عقد عليها رجل، ولم يدخل بها، ولم يُسم لها مهراً، ثم طلقها قبل الدخول وقبل تسمية الصداق، فهل تطالبه بصداق أو تطالبه بنصفه مع أنه لم يسم لها شيئاً؟
الجواب
هذه ليس لها إلا أن يمتعها، والمتعة هي: أن يعطيها شيئاً يجبر نفسها عوضاً عن فراقه لها، يُسمى متاعاً ومتعة، واستُدل عليها بآيات من القرآن منها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49] أي: أنه ليس عليها عدة، وعليك أن تُمتعها بأن تعطيها متاعاً وتسرحها.
ومنها أيضاً قول الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] فجعل المتاع بقدر العسر واليسر، هذا إذا لم يكن لها صداق فلها المتعة، ولها أن يمتعها، يقول تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) يعني: مقدار الذي يتحمله، وعلى المعسر الفقير (قدره) وقرأها بعضها: (قدْرُهُ) .
ثم قال بعضهم: أعلى المتاع أن يعطيها خادماً: ذكراً أو أنثى، أي: يشتري لها عبداً أو أمة، وأدناه كسوة تجزئها في صلاتها، فإذا طلقها يمتعها؛ لأنها نكحت وطلقت قبل الدخول ولم يُفرض لها، فلم تُعط نصف المفروض ولم تُعط صداقاً كاملاً ولم يدخل بها، وانكسر قلبها بهذا الطلاق الذي حصل قبل الدخول، فيُجبر ذلك بهذه المتعة، يعطيها متاعاً كما قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] .(61/15)
وجوب مهر المثل لمن وطئت بشبهة أو زناً كرهاً
قال المصنف رحمه الله: (يجب مهر مثل لمن وطئت بشبهة أو زناً كرهاً) .
مهر المثل يعني: مهر مثل نسائها، مثاله: إذا دخل إنسان بيته، وفيه امرأة نائمة، وظنها زوجته، ووطأها ولم ينتبه إلا بعدما وطأها، فعليه مهر المثل، يعني: مثل مهر نسائها وما ذاك إلا أنه وطأ من لا تحل له، فتطالبه بمهر مثلها، ولو أنه وطأها ساعة أو نصف ساعة.
وكذلك لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية، ووطأ الأجنبية وهو يعتقدها زوجته، فإن عليه مهر مثلها، وقد يكون هناك اشتباه بين الزوجين وبين الزوجتين كما إذا أُدخل هذا على زوجة أخيه وأُدخل الثاني على زوجة أخيه الأول، ووطأ كل واحد منهما زوجة أخيه، وهو يعتقد أنها زوجته الحلال، ثم تبين عدم ذلك، ففي هذه الحال عليه لها مهر مثلها؛ لأنها وطئت بشبهة.
وكذا إذا زنا بها إكراهاً، يعني: هددها حتى مكنته من نفسها قهراً فزنى بها، ففي هذه الحال إذا تاب فعليه لها مهر مثل نسائها، سواء كانت بكراً وأزال بكارتها فإن عليه مهر مثل نسائها أو وطأها وهي ثيب.
وإذا كانت بكراً هل لها أن تطالبه بأرش البكارة وتقول: أنت قهرتني قهراً، وأكرهتني على الزنا، والآن أطالبك باثنين: أطالبك بمهر المثل، وأطالبك بأرش البكارة؛ لأنك أزلت بكارتي؟ ليس لها إلا واحد، وهو مهر المثل، فلا تطالبه بأرش البكارة، وإنما يكفيها صداقها الذي وهبه لها مثل مهر نسائها، يعني: صداق مثل أمثالها، فلا تطالبه بأرش البكارة.(61/16)
جواز منع المرأة نفسها قبل قبضها المهر الحال
قال المصنف رحمه الله: (ولها منع نفسها حتى تقبض مهراً حالاً) .
إذا أصدقها عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً حالَّة ثم طلبها للزفاف فلها أن تمتنع وتقول: لا أُسلم نفسي حتى تُسلم ما عندك، على حد قول بعضهم: ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ولا أسلِّمها إلا يداً بيد فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا وإن أبيتم يكون الرهن تحت يدي فهي إذا بذلت نفسها، ووطأها وأزال بكارتها، ثم مع ذلك منعها من صداقها، فات عليها الأوان، فلها قبل ذلك أن تمتنع وتقول: لا أسلِّم نفسي حتى تسلم ما عندك من الصداق الحال، وكذا لو كان الصداق مؤجلاً ثم حل، فلها الامتناع من تسليم نفسها حتى يسلمها ما حل من صداقها.
قوله: (لا إذا حل قبل تسليم) .
أي: إذا سلمت نفسها ثم حل الصداق، ففي هذه الحال لا تمتنع بعد ذلك؛ لأنها رضيت وسلمت نفسها، ووطأها واستمتع بها، ثم حل الصداق، فهل تقول: أنا أمنع نفسي منك الآن حتى تسلم ما بقي؟
الجواب
ليس لها أن تمتنع، ولكن لها المطالبة، وكذلك إذا تبرعت بتسليم نفسها، فليس لها الامتناع بعد ذلك، فإذا تبرعت بتسليم نفسها ثم أرادت أن تمتنع وقالت: سلم لي المهر وإلا امتنعت، ليس لها الامتناع.(61/17)
إذا أعسر الزوج عن دفع الصداق فللمرأة المطالبة بالفسخ
قال المصنف رحمه الله: (إن أعسر بحال فلها الفسخ بحاكم) .
إذا أعسر الزوج بالصداق الحال، ولو بعد تسليم نفسها، ففي هذه الحال لها أن تطالبه وتقول له: إما أن تعطيني صداقي أو تفارقني، فإذا قال: أنا معسر لا أجد، ف
الجواب
ولو كنت كذلك، فترفعه للحاكم، وتذكر له أنه لم يسلمها صداقها، فيقول له الحاكم: إما أن تسلمه، وإما أن أفسخ النكاح منك، فإن امتنع فله أن يفسخ النكاح، ولا يفسخه إلا الحاكم.(61/18)
بيان الوقت الذي يستقر فيه الصداق
قال المصنف رحمه الله: (ويقرر المسمى كله موت، وقتل، ووطء في فرج ولو دبراً، وخلوة عن مميز) .
يعني: كل هذه تقرر المسمى، وقد ذكرنا قريباً الفرق بين الاستقرار وبين الوجوب، عند قوله: (ويجب عليها بعقد مهر مثل، ويستقر بدخول) يستقر: يعني يثبت كله؛ لأنه قبل الدخول عرضة لأن ينفسخ نصفه، فأما بعد الدخول فإنه يستقر المسمى كله.
يستقر بالموت، فإذا مات استقر الصداق كله في تركته، وكذلك إذا قُتل، أو إذا وطء في الفرج، فهذا يستقر به المهر، حتى ولو وطء في الدبر مع تحريمه.
وكذلك إذا كان هناك خلوة، فإذا خلى بها، ولم يكن عندهما مميز، وهو يقدر على الوطء، وهو عالم بأنها معه في ذلك المكان، ولم تمنعه أن يطأها.
وكذلك الطلاق إذا طلق في مرض موته أو مرض موتها كل ذلك يقرر المسمى.
وكذلك اللمس، فإذا لمسها بشهوة استقر لها الصداق وكذلك إذا نظر إلى فرجها بشهوة، وكذلك إذا قبل، كل هذه يستقر بها المهر كله لها.
وأما النصف فينصفه كل فرقة من قبله قبل الدخول، وأما من قبلها فتسقطه، فإذا كان الطلاق منه قبل الدخول يُنصف المهر، وأما إذا كان منها، أي: هي التي فسخت إما لعيب فيها وإما هي التي طلبت فإنه يسقط.(61/19)
حكم الوليمة
قال المصنف رحمه الله: (تسن الوليمة للعرس ولو بشاة فأقل) .
ذهب بعض العلماء إلى أنها تجب، ولكن الصحيح: أنها مسنونة، ودليلهم قصة عبد الرحمن بن عوف لما تزوج وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم؟ قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: كم أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب) والنواة نواة التمر، يعني: هذا صداقها، فقال: (بارك الله لك، أولم ولو بشاة) يعني: اجعل وليمة ولو بشاة، فكأن هذا يدل على أقل الوليمة في حق القادر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها بشاة، وأكثر نسائه كان يولم عليهن بحيس، فإن صفية لما تزوجها في طريقه بين خيبر وبين المدينة أمر بالأنطاع فبسطت، وجُعل عليها تمر وأقط وسمن، ودعا الناس فأكلوا، فكانت تلك وليمته، فدل هذا على أنه يجوز جعل الوليمة من غير شاة وغير لحم.(61/20)
وجوب إجابة دعوة الوليمة إذا لم يكن فيها منكر
قال المصنف رحمه الله: (تجب الإجابة إليها بشرطه) .
إذا دُعي الإنسان إلى الوليمة فما حكم إجابته إليها؟ ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (شر الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى إليها من يأباها، ويترك من يأيتها أو من يريدها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله) وورد في الحديث أنه عليه السلام جعل إجابة الدعوة من حقوق المسلم على أخيه، لقوله: (وتجيبه إذا دعاك) فأخذوا من قوله: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله) أن هذا يدل على الوجوب، ولكن خصوا ذلك بما إذا كانت دعوة خاصة، وجعلوا الولائم قسمين: النقر، والجفل، فدعوة الجفل هي: أن يرسل واحداً ويقول: ادع كل من لقيت في الأسواق وفي الطرق وفي الأماكن العامة، فدعوة الجفل لا تجب الإجابة إليها.
وأما دعوة النقر فهي أن يخصص فيقول: ادع فلاناً وفلاناً وفلاناً، فدعوة النقر هي التي تجب الإجابة إليها، ولو لم يجب الدعوة فقد عصى الله.
ثم اشترطوا ألا يكون له عذر، فإن كان له عذر كشغل أو مرض أو علم بوجود منكر فإن له بهذا عذراً، مثل أن يعلم أن هناك اختلاط رجال بنساء، أو هناك نساء متكشفات، أو هناك من يعلنون بشرب الدخان، أو من يدقون الطبول، أو من يغنون غناءً ماجناً، أو من يشربون الخمور، أو يجلسون على فرش الحرير، أو يشربون في أواني ذهب، ولو كانت كئوس لقهوة ونحوها، أو كان الذي دعاه مكسبه حرام كرشوة أو رباً أو نحو ذلك فله أن يمتنع.(61/21)
استحباب إجابة كل دعوة مباحة
قال المصنف رحمه الله: (تسن لكل دعوة مباحة) .
كل من دعاك لمناسبة مباحة فإن الأصل أنك تجيبه، وذلك جبراً لقلب أخيك الذي دعاك إلى أي دعوة مباحة؛ لأن هناك ولائم لها مناسبات، كمناسبة سُكنى الدار، فإذا دعاك لذلك فإن هذا ممن تُسن إجابته، وكذلك مناسبة شفاء من مرض، أو مناسبة قدوم غائب، أو مناسبة نجاح من دراسة، أو مناسبة مكسب في تجارة، أو تحصيل وظيفة أو ما أشبه ذلك، فهذه مباحة إذا لم يكن فيها منكر.(61/22)
تكره إجابة دعوة من في ماله حرام
قال المصنف رحمه الله: (وتكره لمن في ماله حرام) .
إذا كانت معاملاته محرمة؛ يأخذ الرشا، أو يخدع في البيوع، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يتعامل بمعاملات ربوية أو ما أشبه ذلك، فتكره إجابته، ويكره الأكل من ماله، وتكره معاملته من بيع وشراء، ويكره قبول هديته وهبته إذا كان في ماله حرام؛ لأن في ذلك شيئاً من إقراره بهذا الحرام، وقد يكون ذلك أيضاً سبباً في تقريره، وبعض العلماء يقول: يجوز قبول هديته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا ملوك الكفار، فملك مصر، وملك الشام، وملك عمان، كانوا يهدون إليه، ويقبل منهم وهم كفار، ويكون إثم المكسب عليهم، ولكن لما كان أصل المال فيه حرام، فالذي يأكله كأنه يقره، ويتغذى بشيء من جملة ما حرم الله، فالأولى أنك لا تجيب دعوته، ولا تقبل هبته وهديته أو كرامته، ولا تتعامل معه ببيع أو شراء وأنت تعرف أنه يتعاطى المحرمات.
وأما الأكل فإذا دُعي الإنسان إلى وليمة أو إلى طعام فإن الدعوة لأجل الأكل، فالذي يُدعى ولكنه لا يأكل يكون كأنه ما أتى، فلذلك يُستحب أن يأكل، ومتى يباح الطعام إذا قُدِّم؟ تتوقف إباحته على الإذن أو على القرينة، الإذن أن يقول: كلوا، أو كلوا باسم الله، أو يأمرهم، وأما القرينة فإذا وضع الطعام على الخوان ودعاهم وقال: هلُموا وجلسوا؛ فإن تقديمه إذن في أكله، فلا يحتاج إلى إذن خاص: ما جيء بالطعام إلا للالتقام لا تحتشم من أكل كفعل أهل الجهل فيأكل منه إذا قُدِّم له الأكل الذي تهواه نفسه، فإذا كان صائماً صيام فريضة كقضاء أو نحوه فيقتصر على الدعاء، فيدعو وينصرف، كما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليُصلِ) يعني: يدعو له بالبركة وينصرف، أما إذا كان صيامه نفلاً فيستحب أن يفطر؛ ليجبر خاطر صاحبه الذي دعاه، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم دعاه أحد الصحابة، فلما جلسوا للأكل اعتزل أحدهم وقال: (إني صائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وجمعكم وقدّم لكم هذا الطعام، أَفطرْ وصمْ يوماً مكانه) فهذا إذا كان نفلاً، وكان أكله فيه جبر لخاطر صاحبه، وفي عدم أكله إساءة الظن به، وإذا لم يكن هناك إساءة ظن فلا داعي إلى ذلك.(61/23)
حكم إجابة الدعوة بالبطاقات
في الأزمنة المتقدمة كان الداعي أو صاحب الوليمة يُرسل رسله، فيُرسل واحداً فيقول: ادع فلاناً وفلاناً وفلاناً، ويرسل الآخر إلى الجهة الأخرى ويقول: ادع فلاناً وفلاناً وفلاناً، فيأتي المدعو مع ذلك الرسول.
وفي هذه الأزمنة كما هو معروف في هذه البلاد يكتفون كثيراً بإرسال بطاقات فيها الدعوة، وفيها تحديد اليوم، وتحديد المكان، وهذه البطاقة ليس لها حكم الدعوة، وليس لها حكم ما لو كان يُرسل رسولاً؛ وما ذاك إلا أن الدعوة حقيقة هي كونه يقول: فلان يدعوك، فأما كونه يكتب لك كلمات يدعوك بها، وهذه كلمات كتبت لك ولغيرك، فلا تكون مثل الدعوة الخاصة، ولكن من باب الجبر تتأكد الإجابة.(61/24)
استحباب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف
ذكر المصنف رحمه الله أنه يسن إعلان النكاح والضرب عليه بالدف، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) والإعلان هو: الإشهار حتى لا يكون سراً، كما في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] يعني: كونهم يخفونه ولا يبدونه ولا يظهرونه، فإعلان النكاح إشهاره حتى يشتهر أن فلاناً تزوج بفلانه، وربما يكون هناك أخبار عن معرفة بمحظور أو رضاع بينهما، فإذا اشتهر النكاح عرف ما بينهما، فهذا هو السبب في إعلانه، والإعلان يكون بنشر الأخبار، ويكون أيضاً الآن بوضع الأنوار الكهربائية على المكان الذي يجتمعون فيه، ويكون فيه الاحتفال، وغير ذلك من الأشياء التي يحصل فيها الإعلان.
وأما الضرب بالدف فالدف هو: الآلة التي هي كهيئة الطار يُختم أحد جانبيه بجلد لم يُدبغ، ثم يُضرب فيصير له صوت ليس شديداً، أما إذا ختم جانباه فإنه لا يجوز، ويسمى طبلاً، والطبل هو: الذي خُتم جانباه، فيُسمى الدف (الطار) ، ويسمى في بعض البلاد (الزير) ، ويسمى عند بعضهم (الدمام) ، والأصل أن تسمية الدف شرعية، وقد جاء حديث أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت إن قدمت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: (أوف بنذرك) فالدف يُضرب به للفرح، وهو مثل المنخل إلا أنه ختم أحد جانبيه، والمنخل فيه خروق، فذلك المكان المختوم فيه جلد ليس فيه خروق، هو الدف، وهو مباح، وله أوصاف أيضاً يكون بها أحياناً غير مباح، مثل إذا كان فيه زرود أو نحوها.
ولا بأس أيضاً مع ذلك بصوت مباح؛ لأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هلا أرسلتم معها من ينادي يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم) إلى آخره، يعني: أبيات فيها شيء من التحية والترحيب والمديح المباح الذي يكون فيه دليل على التواد والمحبة، فأما الغناء الذي يُفعل لكثير من المناسبات بحيث إنه يجتمع رجال من جهتين، فهؤلاء في جهة وهؤلاء في جهة، ثم يتمايلون ويُغنون غناءً فيه شيء من التشبيب، وفيه شيء من التلحين والطرب، أو يضربون الطبول، فمثل هذا نرى أنه لا يُشرع حضوره، وكذلك أيضاً رفع أصوات النساء بضرب الدفوف أو الطبول، ورفع أصواتهن بغناء فيه شيء من المبالغة في التمايل أو التطريب أو التلحين أو التشبيب أو وصف الخدود والقدود أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً لا يجوز.
وعادة أن النساء يضربن بالدف ويتمايلن ويرقصن، فهذا إذا لم يكن فيه شيء من الاختلاط، وليس فيه شيء من المحظورات، فلا بأس به.(61/25)
ضرب الدف عند الختان
يستحبون أيضاً ضرب الدف في حفل الختان، والصحيح: أن الختان أمر عادي، وكانوا يختنون الطفل وعمره سنتان أو ثلاث سنين، ثم يجعلون للختان شيئاً من الحفل، يقسِّمون فيه على الأولاد ونحوهم شيئاً يفرحهم، كجوز أو حلوى أو ما أشبه ذلك، ويضربون بالدف، ولكن ليس دائماً، وإنما مرتين أو ثلاث مرات، والله أعلم.(61/26)
شرح أخصر المختصرات [62]
أساس بناء المجتمع يبدأ من الأسرة المكونة من الزوج والزوجة، ولأجل أن يكون البناء صحيحاً متيناً فقد بين الشرع أحكام العشرة بين الزوجين، فبين حقوق الزوج على زوجته، وبين حقوق الزوجة على زوجها، فإذا أدى كل منهما ما عليه من الحقوق فستكون أسرة سعيدة، وسيكون بناؤها قوياً متيناً.(62/1)
أحكام العِشْرة بين الزوجين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويلزم كلاً من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، وألا يمطله بما يلزمه، ولا يتكره لبذله.
ويجب بعقد تسليم حرة يوطأ مثلها في بيت زوج إن طلبها ولم تكن شرطت دارها.
ومن استُمهل أمهل اليومين والثلاثة لا لعمل جهاز، وتسليم أمة ليلاً فقط.
ولزوج استمتاع بزوجة كل وقت ما لم يضرها، أو يشغلها عن فرض, والسفر بحرة ما لم تكن شرطت بلدها.
وله إجبارها على غسل حيض وجنابة ونجاسة، وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره.
ويلزمه الوطء في كل أربعة أشهر مرة إن قدر، ومبيت بطلب عند حرة ليلة من كل أربع، وأمة من كل سبع] .
هذا الفصل يتعلق بعشرة النساء، يذكر فيه الفقهاء باب عشرة النساء، والعشرة والمعاشرة هي: الصحبة التي تكون بين اثنين، وسُميت القبيلة عشيرة لوجود الصحبة بينهم، قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] فعشيرة الرجل هم أقاربه؛ لأنه يصحبهم، فبين الزوجين صحبة هي غالباً أتم من غيرها، وأطول مدة في الغالب، فلذلك لابد من حُسن العشرة، وأمر الله تعالى بذلك فقال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أي: اصحبوهن صحبة حسنة بالمعروف، أي: بما هو معروف حُسنُه، ومعروف ملاءمتُه، فيلزم زوجين معاشرة كل منهما الآخر بالمعروف، وأن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، وهي كذلك، فيلين جانبه، ويصفح عن الأخطاء والزلات، وكذلك يتخلق بالأخلاق الشريفة، ويبتعد عن الأخلاق السيئة، فيبتعد عما يثير الأحقاد والغضب، وما يسبب الغضب أو النفرة أو ما أشبه ذلك، وهكذا أيضاً يبتعد عن الأخلاق السيئة: عن الكذب، وخُلف الوعد، والمماطلة، والتقصير، وكذلك أيضاً عن أسباب الأذى التي تتأذى منها، فإذا كان كذلك فالأصل أنها تدوم الصحبة.
أما إذا اشتمل المجتمع الزوجي على شيء من الأذى فغالباً أن الصحبة لا تدوم، وإذا كان أحد الزوجين سيء الخلق، أو شرساً، أو كثير الظنون، أو حقوداً، أو غضوباً، أو شديد التأثر بأدنى شيء، فإن على الطرف الثاني أن يكون لين الجانب، ويكون سهل الكلام، بحيث إنه يتحمل ما يسمعه، فإذا غضب الزوج لشيء وسب فإن كانت الزوجة ذات خلق فإنها تعترف بالخطأ وتعتذر، وتطلب منه العفو والصفح عما حصل منها، وإن كان شيئاً طفيفاً، وكذلك أيضاً إذا أساء إليها بغيبة أو بتأخير في شيء طلبته أو ما أشبه ذلك، فعليها أن تعفو وتصفح، وهو إذا رأى منها حقداً أو شدة تأثر اعتذر عذراً لطيفاً، وتودد إليها، ووعدها وعد خير، فيكون ذلك سبباً في الصفح وفي الرضا وفي دوام الصحبة.
وكثيراً ما تحصل الفرقة بسبب سوء خلق أحدهما إذا كان الآخر لا يعتذر ولا يقبل الاعتذار، بل مجرد أدنى زلة أو خطأً أو ما أشبه ذلك يسب ويشتم، ثم يقابله الآخر بالسباب وبالعتاب الشديد الذي يثير الغضب.
أو هي كذلك تسيء الظن به وتتهمه بتهم كثيرة فتقول: أنت تذهب إلى كذا وتتركني، وأنت تجلس إلى فلان أو أنت وأنت، وهو يقول: أنت تكلمين كذا، ويتهمها بأنها تعاكس أو تغازل فيكون ذلك من الأسباب التي تُثير الأحقاد، والواجب هو حسن الظن، فيجب أن يحسن كل منهما الظن بالآخر، وأن يعفو ويتجاوز عما يقع من الخطأ، فهذا من العمل بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] .(62/2)
من العشرة بالمعروف عدم المماطلة
من العشرة بالمعروف ترك المماطلة التي هي التأخير بما يلزمه، فإذا طلبت منه شيئاً من حاجتها كنفقة أو كسوة ضرورية فأخذ يماطلها ويتأخر بما طلبت من شيء واجب فإن ذلك يُسبب حقدها؛ فلا يجوز له المماطلة، كذلك إذا طلبت صداقها الحال فلا يجوز له التأخير بغير عذر، فإن كان يقدر سلّم ما طلبت منه، وإن كان لا يقدر فإنه يعتذر عذراً يُقبل منه.
وكثيراً ما يحصل الضجر من هذا الفعل الذي هو المماطلة بالحقوق وبالمواعيد، فإذا وعدها زيارة وماطلها فإن ذلك مما يسبب نفرتها أو إساءة الظن به، وإذا وعدها أن يشتري لها حاجة مما تحتاج إليها ثم تأخر كان ذلك من أسباب إساءة الظن به، وكذلك إذا وعدته شيئاً كأن تصلح له حاجةً وأن تخيط له ثوباً أو تغسله أو تصلح له طعاماً يطلبه أو طعاماً لضيفه ولكنها تأخرت أو ماطلت كان ذلك من أسباب النفرة.(62/3)
من العشرة بالمعروف عدم التكره
قال المصنف رحمه الله: (ولا يتكره لبذله) .
يعني: يتكره لما يبذله فيمنُّ به عليها ويقول: أتعبتني وأقلقت راحتي بكثرة الطلبات، وبكثرة الأشغال والأعمال، وهذا مما يكلفني.
وكذلك المرأة إذا طلبها شيئاً أخذت تتكره إليه وتتثاقل، فإذا طلبها -مثلاً- لفراشه لا تجيبه إلا بعد تعب، وبعد طول انتظار، وإذا طلب منها حاجة لا تبذلها إلا بتكره، فهذا مما يسبب النفرة.(62/4)
وجوب تسليم الزوجة للزوج بعد العقد إذا طلبها زوجها
قال المصنف رحمه الله: (ويجب بالعقد تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت زوجها إن طلبها، ولم تكن شرطت داراً) .
أي: متى حصل العقد، وطلب من أهلها تسليمها إلى منزله، وكانت يوطأ مثلها، يعني: قد كبرت، وهي التي زادت على العشر وأمكن أن توطأ ويستمتع بمثلها، فإذا طلبها إلى بيته وجب على أهلها تسليمها إلا إذا اشترطت دارها، فإذا اشترطت ألا يخرجها من بيتها أو من بيت أهلها فلها شرطها، وأما إذا لم تشترط فإن على أهلها أن يسلموها لزوجها.
كذلك أيضاً إذا اشترطوا ألا يستلمها إلا بعدما يدفع المهر كاملاً فامتنعت وقالت: لا أسلم نفسي إلا إذا سلمت الدفع الذي اشترط عليك فلها ذلك، فإذا طلب زوجته فعليهم أن يدفعوها له إذا لم يكن هناك عذر، فإذا طلبوا الإمهال وقالوا: أمهلنا حتى نجهزها، فله أن يمهلهم يومين أو ثلاثة، حتى يهيئوها ويشتروا لها حاجاتها وما أشبه ذلك، ثم يسلموها لزوجها.
قوله: (من استمهل أمهل اليومين والثلاثة، لا لعمل جهاز) .
يعني: إذا كانوا يشترون لها حاجاتها، ويكملون لها طلباتها؛ أمهلهم، أما التجهيز فإنه هو الذي يجهزها، فإذا أعطوه امرأته فإنه يجهزها بما طلبت، يعني: بكسوتها وبأوانيها وبأدواتها التي تحتاج إليها إذا كانت هذه الأشياء معتادة: وإذا تزوج الرجل أمة مملوكة فالعادة أنها تخدم سيدها في النهار، ففي الليل تبيت مع زوجها، فيُسلمها سيدها لزوجها ليلاً.(62/5)
وجوب إجابة المرأة زوجها إلى الفراش إذا دعاها
الاستمتاع الذي هو الوطء يملكه الزوج، فهو حق للزوج، وأيضاً هو حق للزوجة، ولكن الأصل أن الزوج هو الذي يطلب امرأته إلى فراشه، وقد تطلبه هي أن يستمتع بها، فالأصل أنه للزوج، فلذلك يملك أن يستمتع بها كل وقت ليلاً أو نهاراً ما لم يضرها، أما إذا أضرها بكثرة الوطء فإن الضرر يزال، أو يشغلها عن فرض من الفروض كصلاة من الصلوات فلا يجوز ذلك، فالأصل أن الاستمتاع يكون متى طلبها ليلاً أو نهاراً، وعليها أن تجيبه متى طلبها، كما في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته فلتجبه ولو كانت على التنور) وذكر العلماء أنه يستمتع بها وتجيبه ولو كانت على التنور، أو كانت راكبة قتب، وهو: الذي يجعل على ظهر الدابة التي يُحمل عليها، أي: ولو كانت راكبة تجيبه لقضاء حاجته؛ لأنه هو الذي يملك الاستمتاع بها ما لم يضرها أو يشغلها عن فرض، وإذا دعاها فعليها الإجابة، ويحرم عليها التكره والتبرم والتثاقل، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) ، وفي رواية: (إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها) ويكون هذا حسب شهوته ورغبته.
وإذا كان الأمر من قبلها فكذلك أيضاً، فبعض النساء هي التي تطلب زوجها، كلما دخل أو كلما رأته اجتذبته إلى الفراش، فإن كان قادراً فإن عليه أن يجيبها؛ لأن لها شهوة كما للرجل.(62/6)
المرأة تابعة لزوجها حضراً وسفراً
قوله: (وله السفر بحرة ما لم تشترط بلدها) .
تقدم في الشروط أنها إذا لم تشترط فإن له أن يسافر بها حيث يرغب، فإذا كان -مثلاً- في الرياض وتزوج وأراد السفر -مثلاً- إلى الحجاز أو إلى القصيم فالمرأة تابعة له إلا إذا اشترط عليه أهلها أنها لا تسافر، أو شرطت هي عند العقد.(62/7)
إجبار الرجل زوجته على التطهر والتنظف
قوله: (وله إجبارها على غسل حيض وجنابة) ؛ وذلك لأنه نجاسة معنوية، فيلزمها أن تغتسل حتى تحل له لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} [البقرة:222] ، فالتطهر يكون بالاغتسال الذي ورد في السنة، وكذلك إذا حصلت جنابة يلزمها أن تغتسل ولا تصلي إلا بعد الاغتسال لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، ولقوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] .
ويلزمها أيضاً على غسل النجاسة على بدنها أو ثوبها أو مكانها، فإذا كان هناك نجاسة عينية كبول أو غائط أو دم أو قيء أو شيء مستقذر فعليها أن تغسل ذلك؛ لأنه مما يحصل به التقذر، وعليها أخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره، يعني: إذا كان هناك شيء تعافه النفس كشعر الإبط أو شعر العانة فعليها إزالة ذلك، ونحوه كالأظفار إذا طالت، وكالوسخ في الأسنان الذي يحتاج إلى استعمال السواك والنظافة، وكالوسخ في البدن، فيلزمها أخذ وإزالة كل ما تعافه النفس.(62/8)
لزوم الوطء كل أربعة أشهر
ذكر المصنف حكم الوطء فقال: (يلزمه الوطء في كل أربعة أشهر مرة، إذا قدر) .
أي: في كل ثلث سنة؛ وذلك لأن هذا هو القدر الذي تقدر المرأة على التحمل والصبر فيه، ولأجل ذلك جعلت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] ، وزيادة العشر للاحتياط في وجود حمل أو نحوه، مثال ذلك: عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر إن قدر، فإن كان عاجزاً لكبر أو نحوه فبقدر ما يستطيع.
ويلزمه المبيت بطلب عند الحرة ليلة من كل أربع، والأمة ليلة من كل سبع، واشتهرت في هذا قصة كعب بن سور، وهي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: (إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فظن أنها تمدحه) فقال: (جزاه الله خيراً) ، فاستحيت المرأة وانصرفت، فقال كعب: إنها تشتكيه وتدعي أنه لا يتفرغ للاستمتاع بها، فردّها وأرسل إلى زوجها وقال لـ كعب بن سور: (اقض بينهما كما فهمت قصتها) ، فقال له كعب: أيها الرجل! إن الله أباح لك أربع نساء، نصيب كل واحدة منهن ليلة، وحيث إنه ليس معك إلا واحدة فلك أن تتعبد ثلاث ليال وتبيت مع زوجتك ليلة من كل أربع، فعجب عمر من فطانته، وأرسله قاضياً على الكوفة، فمن هذا أخذوا أن يلزمه أن يبيت معها، ولا يلزم من المبيت الوطء، وإنما يبيت معها للمؤانسة، فله أن يبيت ثلاث ليال حيث شاء، والليلة الرابعة يبيت عندها، وإذا لم يكن هناك مانع فالأصل أنه يبيت عندها كل الليالي.
أما الأمة فإنه قد يجمع معها ثلاث حرائر، والحرة لها مثل الأمة مرتين، فكأنه إذا كان عنده ثلاث حرائر وأمة بات عند هذه ليلتين وعند الأخرى ليلتين وعند الأخرى ليلتين والسابعة عند الأمة؛ فنصيب الأمة ليلة من كل سبع، فإذا لم يكن معه إلا زوجة مملوكة فإنه يبيت عندها ليلة من كل أسبوع.(62/9)
عدم جواز غيبة الرجل عن زوجته أكثر من نصف سنة إلا برضاها
إن سافر الزوج أكثر من نصف سنة، وطلبت زوجته قدومه؛ راسله الحاكم، ذكروا أن عمر رضي الله عنه سأل ابنته حفصة: (كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: نصف سنة) فعند ذلك كان يرسل إلى أمراء الأجناد أن كل من تم نصف سنة فإن عليه أن يرجع، ويرسل بديله من المجاهدين، ففي كل نصف سنة يرجع ليقيم عند زوجته شهراً أو نحوه ثم يرجع، أما إذا تركته وسمحت ولم تطلبه ولم تتكلم فله أن يبقى إلى الوقت الذي يحتاج إليه.
والآن كثير من العمال قد يبقى سنتين وربما ثلاث سنين أو أربعاً ولا يذهب إلى زوجته، وعذره عدم التفرغ، أو أن كفيله لا يسمح له، أو أنه لم يجمع شيئاً يستغني به إذا رجع إلى بلده، وزوجته قد سمحت له لأنها تعرف حاجته، فإذا طلبت قدومه أرسل إليه الحاكم، فإذا راسله الحاكم فامتنع وليس له عذر فرق الحاكم بينهما بطلبها، فيفسخ النكاح.
أما إذا لم يُعلم خبره فلا فسخ لذلك بحال، فإذا لم يعلم هل هو في الشمال أو في الجنوب أو هو مفقود، ففي هذه الحال تبقى، لكن الصحيح: أنها إذا تضررت، ولم تجد من ينفق عليها، فإن للحاكم فسخ النكاح، فإن رجع الزوج قبل أن تتزوج فهو أحق بها، وإن تزوجت قبل أن يرجع فإنه يعطى مهره.(62/10)
تحريم جمع الزوجات في مسكن واحد إلا برضاهن
قال المصنف رحمه الله: (من العشرة ألا يجمع الزوجتين بمسكن واحد إلا برضاهما) .
وذلك لأن العادة وجود غيرة بينهما، وكل منهما تبغض الأخرى، وتحقد عليها، وتحسدها، وتلتمس عثراتها، فمن الصعب أن ترضى إحداهما بالأخرى وهي معها في منزل واحد، تقابلها كل يوم؛ فلذلك يجعل كل واحدة في مسكن إلا إذا شرط على الأولى أن الثانية تسكن معك، وشرط على الثانية أن أسكنك معها، ورضيتا بذلك، ففي هذه الحال يجوز أن يجمعهما إذا رضيتا بذلك، وكذا الثلاث أو الأربع.(62/11)
جواز منع الرجل زوجته من الخروج من داره إلا للضرورة
قوله: (وله منعها من الخروج من داره) .
لأنه إذا عقد عليها وذهبت معه إلى منزله فهو أملك بها؛ فليس لها أن تخرج إلا بإذنه، وله منعها إلا للأشياء الضرورية، كما إذا مرضت وذهبت إلى الطبيب، أو إذا احتاجت حاجة ضرورية وذهبت إلى البقال وما أشبه ذلك، ففي هذه الحال ليس له منعها لشدة الضرورة، وكذلك أيضاً إذا مرض أحد أبويها فليس له منعها من زيارتهم وما أشبه ذلك.
هذا ما يتعلق بالعشرة، وبعد ذلك يتكلمون على القسم بين الزوجات.(62/12)
القسمة بين الزوجات ووجوب العدل
قال المصنف رحمه الله: (وعلى غير طفل التسوية بين زوجات في القسم) .
إذا كان له زوجتان فأكثر وهو بالغ عاقل رشيد، وجب عليه التسوية بينهما؛ وذلك لأن كلاً منهما لها حق عليه، فيلزمه أن يسوي بينهما، ولا يفضل إحداهما على الأخرى، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) يعني: كالمفلوج، يجيء وهو مشلول أحد الجانبين علامة على ميله.
والتسوية بينهما هي: التسوية في القسم، وفي النفقة، وفي المبيت، وفي قضاء الحاجات، ونحوها.
لكن إذا رضيت أحداهما فلها إسقاط حقها، والأصل أنه يسوي بينهما بقدر ما يستطيعه، فيسوي بينهما في شراء الحاجات وما أشبهها، وكذلك أيضاً يُسوي بينهما في الأكل، يعني: يأكل عند هذه يوماً وعند هذه يوماً حتى لا تتبرم إحداهما، وقد يقول بعضهم: إذا استضاف الزوج أضيافاً فقد لا تتحمل إحداهما أن تقوم بخدمة الأضياف! فنقول: له أن يجعلهم عند التي تتحمل، كما إذا كان بيت هذه واسعاً والأخرى ضيقاً، وكل ذلك حسب الحاجة.(62/13)
عدم وجوب التسوية في الوطء والكسوة والمودة
لا يلزم الزوج التسوية في الوطء، وذلك لأن الوطء يخضع للشهوة، فقد توجد شهوته عند إحداهما دون الأخرى، ولكن عليه ألا يمنعها من حقها من الاستمتاع ولو في الشهر مرة أو في الشهرين أو في الثلاثة أو ما أشبه ذلك بقدر الاستطاعة، فإذا كانت تحتد شهوته إذا جاء عند إحداهما دون الأخرى فلا يلزمه التسوية بينهما.
وكذلك في الكسوة، فالكسوة تكون على قدر الحاجة، فقد تحتاج إحداهما إلى كسوة كل شهرين والأخرى بخلافها؛ بكثرة زيارات هذه دون هذه، فلا يلزمه التسوية بالكسوة.
كذلك التسوية في الأطعمة يشتري لكلٍ حاجتها، فقد يكون هذه عندها أولاد بحاجة إلى فاكهة وبحاجة إلى لحم وتلك إذا اشترى لها حاجة وليس عندها أولاد بقيت عندها مدة.
كذلك أيضاً لا تجب التسوية في مودة القلب، لما جاء في حديث عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) يعني: القلب، فإن القلوب بيد علام الغيوب، فإذا كان قلبه يحب إحداهما أكثر فهو لا يقدر على التسوية في ذلك، ولكن آثار ذلك لابد أن يحرص على التسوية فيها، فإذا قام بالواجب لهما، ولكن الأخرى أحب إليه؛ فلا حرج عليه.
والقسم عماده الليل؛ لأن الناس في النهار يتقلبون في حاجاتهم وفي أعمالهم، فيقسم لهذه ليلة، ولهذه ليلة، لكن إذا كان حارساً فإنه يقسم في النهار، وكذلك الذي عمله ليلاً كأهل المرابطة وأهل الخفارات وأهل الحراسة للأشياء المخوفة وكل من لا يحرس إلا ليلاً، ففي هذه الحال يقسم في النهار؛ لأنه في الليل منشغل بالحراسة.(62/14)
القسم للملوكة على النصف من الحرة
ذكر المصنف أن الزوجة المملوكة على النصف من الحرة في القسم، فإذا كان عنده زوجتان حرة وأمة فللحرة ليلتان وللأمة ليلة، والمبعضة في الحساب التي نصفها حر في هذه الحال يقال: لهذه التي نصفها حر مثلاً ليلة ونصف ليلة، وتلك الأخرى الحرة لها ليلتان، ويكون ذلك بالجبر، كأن يقول: لهذه أربع ليال ولهذه ثلاث، بالحساب.(62/15)
متى يسقط حق الزوجة؟
إذا أبت الزوجة المبيت معه أو السفر سقطت نفقتها، إلا إذا كانت قد اشترطت دارها أو بلدها وامتنعت من السفر، وأما إذا طلبها للمبيت على فراشه فامتنعت سقطت نفقتها، وسقط حظها من القسم، وله أن يُعطي نصيبها للضرة الثانية.
وإذا سافرت لحاجتها حتى للحج أو للعمرة سقطت نفقتها مدة السفر سواء كان طويلاً أو قصيراً؛ وذلك لأن النفقة مقابل الاستمتاع، وهي الآن قد فوتته على نفسها.(62/16)
يقيم عند البكر سبعاً وعند الثيب ثلاثاً
إذا تزوج الرجل بكراً وعنده قبلها امرأة أو امرأتان أقام عند البكر الجديدة سبعة أيام ثم قسم، أما إذا تزوج ثيباً وعنده قبلها نساء أقام عند هذه الجديدة ثلاثة أيام ثم دار على نسائه، كما ذكرت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها وهي ثيب أقام عندها ثلاثة أيام متتابعة ثم قال: (إنه ليس بك هوان على أهلك، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي) يعني: أتممت لك سبعة أيام، فرضيت أن يبيت عندها ثلاث ليال، فالجديدة البكر يبيت عندها سبعة أيام متوالية لتأنيسها لكونها جديدة، والثيب يبيت عندها ثلاثة أيام متوالية، إلى هنا انتهى ما يتعلق بالقسم.(62/17)
شرح أخصر المختصرات [63]
لقد بين العلماء أحكام النشوز والناشز، وما ينبغي للزوج تجاه زوجته إذا خشي نشوزها، وإذا كرهت الزوجة زوجها فلها أن تخالعه ببذل شيء من مالها يتراضيان عليه.(63/1)
أحكام النشوز
قال المصنف رحمه الله: [والنشوز حرام، وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها، فمتى ظهرت أماراته وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء، وفي الكلام ثلاثاً، فإن أصرت ضربها غير شديد، وله ضربها على ترك فرائض الله تعالى.
باب الخلع: يباح لسوء عشرة، وبغض، وكبر، وقلة دين، ويكره مع استقامة، وهو بلفظ خلع أو فسخ أو مفاداة فسخ، وبلفظ طلاق أو نيته أو كنايته طلقة بائنة.
ولا يصح إلا بعوض.
ويكره بأكثر مما أعطاها.
ويصح بذله ممن يصح تبرعه من زوجة وأجنبي، ويصح بمجهول ومعدوم لا بلا عوض ولا بمحرم، ولا حيلة لإسقاط طلاق، وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق طلقت بعطيته ولو تراخت، وإن قالت: اخلعني بألف أو على ألف ففعل بانت واستحقها.
وليس له خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها ولا ابنته الصغيرة بشيء من مالها، وإن علّق طلاقها على صفة ثم أبانها فوجدت أو لا ثم نكحها فوجدت طلقت, وكذا عتق.
وإن سافر فوق نصف سنة وطلبت قدومه راسله حاكم, فإن أبى بلا عذر فُرق بينهما بطلبها, وإن لم يُعلم خبره فلا فسخ لذلك بحال.
وحرُم جمع زوجتيه بمسكن واحد ما لم يرضيا، وله منعها من الخروج، وعلى غير طفل التسوية بين زوجات في القسم، لا في وطء وكسوة ونحوهما إذا قام بالواجب، وعماده الليل، إلا في حارس ونحوه فالنهار، وزوجة أمة على النصف من حرة، ومبعضة بالحساب، وإن أبت المبيت معه أو السفر أو سافرت في حاجتها سقط قسمها ونفقتها.
وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً، أو ثيباً أقام ثلاثاً ثم دار] .
النشوز هو: عصيان المرأة لزوجها وهو حرام، أي: معصيتها إياه فيما يجب عليها؛ وذلك لأن الواجب عليها أن تطيعه بما يتعلق بحاجته، فإذا رأى منها أنها تكرهه، وعلامة ذلك أنها لا تجيبه إلى فراشه، أو تجيبه متبرمة متثاقلة، فهذا من علامات النشوز، يقول الله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فيبدأ بالوعظ والتذكير، فيذكرها ويخوفها، ويذكر لها حق الزوج عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لما لها عليه من الحق) ، ووردت في عظم حق الزوج على امرأته أحاديث، وإن كان في أسانيدها مقال، ولكن أصحها هذا، فيعظها ويذكرها ويحذرها من هذا النشوز والتبرم والتثاقل، والعصيان لزوجها، ويخوفها بالله، ويخوفها بالعذاب الأخروي، وبسخط الله، وأن الله يسخط عليها، وأن الملائكة تلعنها وما أشبه ذلك.
فإن أصرت وامتنعت أن تقبل وعظه فإنه يهجرها، قال الله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] فيعتزل فراشها، ويذهب إلى زوجته الأخرى إن كان له زوجة، وإذا لم يكن له زوجة فإنه يبيت ويترك فراشها أو يوليها ظهره، فيهجرها في المضجع ما شاء، ولو طالت المدة، ويهجرها في الكلام ثلاثة أيام لا أكثر، فإن الهجر لا يجوز أكثر من ثلاث، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) .
ثم قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فإذا أصرت ولم تتأثر بالموعظة ولا بالهجران ينتقل معها إلى الضرب، ولكنه ضرب غير مبرح، أي: غير شديد، يعني: ضرب تأديب، لا يزيد فيه على عشر جلدات.
ثم ذكروا أن له ضربها على ترك فرائض الله تعالى كالصلاة والصيام وما أشبه ذلك من الواجبات الدينية، كما أن له ضربها على فعل المنكرات، كما إذا علم بأنها تعاكس، أو لها خلوات مع غير المحارم، أو تدخل في بيته من لا يرضاه، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه، ولا يأذن في بيوتكم لمن لا تريدونه) فليس لها أن تدخل في بيت زوجها من لا يرضاه، ولو كان من محارمها، إلا إذا سمح الزوج.
وكذلك لا تجلس على فراشه أجنبياً سواء تجلسه لفعل الفاحشة بها أو لغير ذلك لعموم: (لا يوطئن فرشكم من تكرهونه) ، فإذا علم ذلك منها فله تأديبها.(63/2)
أحكام الخلع
عقد المصنف رحمه الله باب الخلع، وهو: أن تطلب المرأة فسخ النكاح، والتخلي من هذا الزوج؛ وذلك إذا كرهته، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] أي: لا جناح عليها إذا فدت نفسها واشترت نفسها، والأصل فيه أيضاً قصة امرأة ثابت بن قيس بن شماس، فإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إني لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام) وذكرت أنها كرهت خلقته، خيل إليها أنه دميم، وأنه قبيح المنظر، وأنه وأنه، فلم تطق التحمل والصبر معه، فأباح لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفتدي فيه، وقال: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) وكان قد أعطاها حديقة، فإذا كانت تكرهه لسوء عشرته، ولصلابته، ولشرهه، ولعيب فيه؛ فإنها تفتدي منه.
وكذلك لنقص دينه أو تهمته بالزنا أو بمسكر أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا عمل معها ما لا يحل كإتيانها في الدبر، فإن لها أن تفتدي.
وكذلك إذا كرهته لكبر سن، أي: أنه طعن في السن وهي لا تزال شابة، أو رأت أنه قليل الديانة لا يتورع عن الحرام، أو يترك الصلوات، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال لها أن تخالعه.
قوله: (ويكره مع الاستقامة) إذا كانت حاله مستقيمة كره لها أن تطلب الطلاق أو أن تطلب الفراق أو أن تفتدي، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) يعني: إذا طلبت الطلاق والحال مستقيمة بينها وبين زوجها، وليس هناك عيب فيه ولا خلل، لا نقص في دينه، ولا نقص في عقله، ولا نقص في أخلاقه؛ فطلبها للطلاق أو للمخالعة يعتبر حراماً عليها والحال هذه؛ لورود هذا الحديث.(63/3)
الخلاف في الخلع هل يُعد فسخاً أو طلاقاً
وهل يعتبر الخلع فسخاً للنكاح أو يعتبر طلاقاً؟ إذا كان بلفظ الخلع أو بلفظ الفسخ، أو بلفظ المفاداة اعتبر فسخاً، وإذا كان بلفظ الطلاق أو نيته أو كنايته اعتبر طلاقاً، طلقة بائنة، وإذا قلت: ما النتيجة في ذلك؟ نقول: إذا قال: خالعتها بألف، أو فسخت نكاحها بعشرة آلاف، أو يقول لها: افتدي نفسك بعشرة آلاف فدفعتها، ففي هذه الحال يكون فسخاً، ومعنى كونه فسخاً: أنه لا ينقص به عدد الطلقات، فمثلاً: لو خالعها في سنة إحدى وعشرين بلفظ المفاداة، ثم تزوجها بعد ذلك بالتراضي؛ ثم خالعها في سنة اثنتين وعشرين، فبذلت له مالاً وخالعها، ثم تزوجها بعد ذلك بشهر أو شهرين ودفع لها مهراً، ثم خالعها في سنة ثلاث وعشرين فبذلت له مالاً وخالعها ورضيت بذلك، ثم تراضوا بعد ذلك، فقد خالعها ثلاث مرات، فهل تكون هذه الثلاث ثلاث طلقات؟
الجواب
لا تكون، بل يحل له أن ينكحها بعقد جديد، فالخلع بلفظ الخلع، أو بلفظ الفداء يعتبر فسخاً، هذه من النتائج، كذلك من النتائج أيضاً أن في الفسخ ليس عليها عدة، وإنما عليها أن تتربص حيضة واحدة إذا كانت تحيض، ثم تتزوج إذا شاءت، أو تتربص شهر إذا كانت لا تحيض، هذا معنى كونه بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة، أي: أنه فسخ لا ينقص به عدد الطلاق.
فأما إذا قال: طلقتك بألف فقالت: خذه، فإنه يعتبر طلاقاً بلفظ الطلاق، أو: أعطيني ألفاً وأطلقك، فقالت: أعطيتك، أو قال: طلقت، أو كان بنية الطلاق كما إذا كان ناوياً طلاقها وطلب منها فدية وقع الطلاق، وتكون طلقة واحدة، أو كناية الطلاق فإذا قال -مثلاً-: أنت خلية، أو برية، أو أنت حرة، أو أنت الحرج، أو اخرجي وذوقي وتجرعي، وحبلك على الغارب، اذهبي كيف شئت، فهذه تعتبر كنايات الطلاق، فإذا قال ذلك وقعت طلقة.
وهل تكون رجعية أو بائنة؟ ذكروا أنها طلقة بائنة، ومعنى كونها بائنة عدم تمكنه من الرجعة؛ لأنها اشترت نفسها، فلا ترضى أنه يعيدها، وهي ما دفعت له هذا المال إلا للتخلص، فليس له رجعة عليها، فتعتبر طلقة واحدة بائنة، فإذا قال: اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي طلقت طلقة واحدة ولكنها بائنة.(63/4)
حكم الخلع بغير عوض
وقوله: (الخلع لا يصح إلا بعوض) أي: فلا يصح بدون عوض، وإذا كان بدون عوض يُسمى طلاقاً ولا يسمى خلعاً؛ لأن الخلع كأنه تفدي وتشتري نفسها، وتتخلص من سوء عشرة هذا الزوج، فلابد أن تبذل له مالاً حتى يفارقها وتتخلص منه.(63/5)
حكم الخلع بأكثر من المهر
قوله: (ويكره بأكثر مما أعطاها) في حديث امرأة ثابت أنه كان أعطاها حديقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فردت عليه حديقته، كان هذا هو الخلع، فإذا أصدقها ألفاً فلا يأخذ منها أكثر منه، ويكره ذلك، وإذا أصدقها بعيراً ومات البعير فإنها ترد عليه بدله مثله، وهكذا لو أصدقها شاة أو ضأناً فإنها ترد عليه مثلهن، وأما أولادهن فلا تردها؛ لأنهن ملكها، وأشباه ذلك.
وأجاز بعض العلماء أن يأخذ منها أكثر، واستدلوا بعموم الآية وهي قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] ، يعني: ولو افتدت بكثير فلا جناح عليهما في شيء تفتدي به، وظاهر الآية أنه يجوز أن تفتدي نفسها ولو بأكثر مما أعطاها، فأجاز ذلك بعضهم، ولكن ورد في الحديث، أنه منع من الزيادة، فقال: (أما الزيادة فلا) .(63/6)
حكم بذل العوض من غير مخالعة
ويصح بذل العوض ممن يصح تبرعه من زوجة وأجنبي، يعني: أن الأجنبي يصح تبرعه أو زوجة يصح تبرعها، فلو دفع الفدية أخوها وهو عاقل بالغ رشيد صحت الفدية، وكذلك لو دفعها أجنبي كجار لهم أو صديق لهم أو نحو ذلك جاز ذلك، لكن لا يتخذ حيلة، فإذا عرف بأنها حيلة لم يجز.
مثلاً: بعض الرجال قد يعشق امرأة زيد من الناس، ثم يراسلها ويهاتفها ويقول: انشزي عنه وافتدي منه وأنا أتزوجك، فإذا قالت: كيف أفتدي وما عندي شيء؟ يقول: أنا أدفع لك -مثلاً- ألفاً أو عشرين ألفاً تفتدين بها نفسك، فمثل هذا لا يجوز، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من خبب امرأة على زوجها فله النار) أو كما قال، (خببها) يعني: أفسدها حتى نشزت وعصت عليه، ولا يجوز لها أيضاً طاعة مثل هؤلاء الذين يخببونها، ولو وعدها ولو قال: أنا أكثر منه مالاً، وأنا أعطيك أكثر منه أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً لو كان يعطيها مطالب قد تجوز أو قد لا تجوز، ويحدث مثل هذا من بعض الفسقة، فإذا رأها -مثلاً- مكموتة قال: زوجك قد أضرك، لم يعطك أجهزة تتسلين بها، ولو كنت عندي فإني أشتري لك جهاز تلفاز، أو جهاز الدش مثلاً، أو أشرطة غناء تتسلين بها، أو أسمح لك بالخروج إلى الملاهي وإلى الملاعب وإلى الأسواق وإلى المنتزهات، وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً حرام عليه أن يخبب امرأة على زوجها، فإذا رآها سالكة مع زوجها يحرم عليه الاتصال بها ومكالمتها أو مهاتفتها، ومن باب أولى أفسادها.
أما إذا كان رافقاً بها ورآها متضررة، ورآها متأثمة فتصدق عليها وأعطاها مالاً تفتدي به فلا بأس بذلك، ولا يكون قصده أن يتزوج بها، فإن ثبت أنها متضررة جاز لها أن تأخذ هذا المال حتى تتخلص من ذلك الضرر، من سوء عشرة الزوج، أو سوء خلقه، أو سوء معاملته، أو قبح مظهره، أو إضراره بها، أو تقصيره بالنفقة، أو كثرة غيبته، أو كثرة أسفاره وتركها وحيدة أو ما أشبه ذلك.(63/7)
حكم الخلع بمجهول أو معدوم
ويصح عوض الخلع بمجهول ومعدوم، فلو قالت -مثلاً-: خالعني بنفقة ولدي، فهذه النفقة معدومة، ولكنها توجد شيئاً فشيئاً، أو قالت: أنا أبريك من نفقة الولد أو الأولاد سنة أو خمس سنين وخالعني، وأنا أتحمل نفقتهم فيكون الخلع معدوماً، ولكنه يوجد شيئاً فشيئاً، وكذلك المجهول، لو قالت: خالعني بما تحمل به هذه الشجرة، أو بما تلده هذه الشاة أو هذه الفرس، فهذا مجهول لا يعلم أهو ذكر أم أنثى، واحد أم عدد، ولكن يصح ذلك، فإن حملت وإلا فله مطالبتها بمثله، لا بلا عوض، والخلع لا يصح إلا بعوض.(63/8)
حكم الخلع بمحرم أو بحيلة
ولا يصح بمحرم، فلو قالت: خالعني بزقاق خمر، أو بطبول وآلات لهو لم يصح؛ لأن هذا محرم.
ولا يصح حيلة لإسقاط الطلاق، فبعض الناس يتزوج المرأة وإذا رأى منها سوء خلقها وخاف أنه إن طلقها تحسب عليه طلقة قال: أعطيني عشرة ريالات أو خمسة ريالات فداءً افتدي بها نفسك، حتى لا تحسب عليه طلقة، وليس له حاجة بهذه الدراهم وإنما يريد أنها لا تحسب عليه، ثم يتزوجها بعد ذلك بعقد جديد، ثم يحتال أيضاً حتى لا يقع الطلاق بأن يطلب منها وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن يتخذ حيلة لإسقاط الطلاق، أما إذا كان قصده المال فلا بأس أن يأخذ المال ولا يحسب من الطلاق.(63/9)
حكم الخلع والطلاق بالتعليق
فإذا قال: متى أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو إذا أعطيتني ألفاً فأنت طالق، طلقت لعطيته ولو تأخرت؛ لأنه علق الطلاق على إعطائه ألفاً، فلو ما أعطته إلا بعد سنة أو بعد عشر سنين، أعطته قالت: خذ الألف الذي أنت طلبته على الطلاق، فأنت قد علقت الطلاق على عطية الألف والآن هذا هو الألف وقع الطلاق في الحال، ولكنه يقع طلقة واحدة، ولكن تكون طلقة بائنة بحيث إنه لا يقدر على رجعتها، والبينونة هنا بينونة صغرى، والبينونة الكبرى هي التي لا تحل له إلا بعد زوج، وأما هذه فهي بائنة بينونة صغرى تحل له برضاها بعقد جديد، ومهر جديد.
فإذا قالت له: اخلعني بألف، أو على ألف، ففعل، بانت واستحق الألف، فإذا قال: قد فعلت، قد وافقت، يستحق الألف منها، وتبين منه بينونة صغرى أيضاً؛ وذلك لأنها هي التي طلبت وهو وافق على طلبها.(63/10)
حكم مخالعة الأب لزوجة ابنه الصغير
قوله: (وليس له خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها) أي: إذا كانت راضية وكانت الحال مستقيمة، وقد يقال: إن الابن في هذه الحال ليس له خيرة، فإذا كان صغيراً دون العشر وعقد له على امرأة دون العشر، ثم طلبت تلك المرأة ولو كانت صغيرة أو طلب وليها المخالعة فهل لأبيه أن يخالعها؟
الجواب
لا يجوز ذلك، بل تترك إلى أن يبلغ الصبي ويعقل، فإن وافق على المخالعة فله ذلك، وأما إذا امتنع وقال: أنا أريدها كزوجة فإنه تبقى الزوجية.
وكذلك أيضاً ليس له طلاق امرأة ابنه إلا برضى الابن، فإذا تشددت وقالت: أريد الطلاق، والابن صغير ليس له اختيار فلا يطلقها أبوه، وإذا تضررت رفع الأمر إلى الحاكم، وللحاكم أن يطلق أو يعلق.(63/11)
حكم خلع الأب ابنته الصغيرة من زوجها
وليس له خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، فمثلاً: أنه جاء إلى زوج ابنته، وقال: أنا أريد أن أخلع ابنتي منك؛ لأنك لا تصلح زوجاً، وابنتي لا تريدك، فأريد أن أخلعها بشيء من مالها، آخذ من مالها ألفاً أو ألفين أو عشرة وهي ما طلبت ولا سمحت بمالها فليس له أن يخلعها، أما إذا طلبت هي وقالت: يا أبت! وكلتك أن تخلصني من هذا الزوج بشيء من مالي أو من مالك بما تريد ففي هذه الحال إذا طلبت ووافق أبوها وبذل من مالها ما طلبه الزوج جاز له ذلك، فإذا قال الزوج: أنا أطلب ألفاً أو عشرة آلاف فله أعطاؤه ذلك.(63/12)
من أحكام تعليق الطلاق على صفة
وإذا علق طلاقها على صفة، ثم أبانها فوجدت تلك الصفة، ثم نكحها فوجدت طلقت وكذا العتق، صورة ذلك: إذا قال لها: إذا كلمتي فلاناً بالهاتف فأنت طالق، ثم طلقها قبل أن تكلمه، وبانت منه بينونة صغرى، ولما بانت منه بينونة صغرى كلمته بالهاتف، ثم تراضوا بعد ذلك ونكحها نكاحاً جديداً، ثم بعد أن نكحها النكاح الجديد كلمته بالهاتف، وجد ذلك الشيء الذي علق عليه الطلاق، ففي هذه الحال يقع الطلاق المعلق، فإن قلت: أليس علقه على أول مكالمة؟ قلنا: نعم، ولكن المكالمة الأولى كانت في غير عصمته، ولا يملك إيقاع الطلاق فيها، وهو قد حذرها من المكالمة هاتفياً، وقد كالمته في حال كونها في ذمته فيقع الطلاق.
وقاسوا على ذلك العتق، فإذا كان له عبد فقال له: إن سافرت إلى الأحساء -مثلاً- فأنت عتيق، فقدر أنه باعه، اشتراه رجل، وفي حالة شرائه سافر إلى الأحساء، ثم قدر أن صاحبه الأول استعاده واشتراه، ولما اشتراه مرة ثانية سافر إلى الأحساء فيحصل العتق الذي هو متعلق على السفر أو على أية صفة، كأن يقول مثلاً: إن خدمت فلاناً لمدة شهر أو: إن خدمت والدي فأنت حر، وباعه قبل الخدمة، ثم قدر أنه خدم في حالة بينونته وفي حالة عدم كونه تحت ملكه، ثم استعاده فإذا خدم حصل العتق المعلق على ذلك الشرط.
هذا آخر كتاب النكاح.(63/13)
الأسئلة(63/14)
جواز مخالعة المرأة زوجها إذا كان عقيماً
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا كان الزوج عقيماً، فهل للزوجة المطالبة بالطلاق؟
الجواب
إذا تبين أن الزوج لا يولد له، وكانت ترغب في الإنجاب، فلها طلب الفسخ، ولا يفسخ إلا الحاكم، وإن كان هناك شرط فإنه يحدد، فإذا عرف أنه لا يولد له، وزوجوه وقالوا: بشرط فسخ النكاح بعد سنتين أو خمس سنين إن أرادت المرأة، فلهم ذلك.(63/15)
معنى الدخول الموجب للمهر
السؤال
ما معنى الدخول الذي يوجب المهر، هل هو الخلوة أم الوطء؟
الجواب
الصحيح أنه الخلوة، فإذا أغلق الباب، وليس معه أحد غيرها، ففي هذه الحال يُسمى قد دخل بها، ولو لم يطأها.(63/16)
تعريف النكاح المعلق على شرط
السؤال
إذا زوج الشخص ابنته وكتبوا في العقد: يشترط أن يكون الزواج بعد سنة أو بعد إنهاء الدراسة فهل هذا من الشرط المعلق؟
الجواب
ليس بمعلق، وإنما أخروا الزفاف، فيجوز أن يشترطوا أنه لا يكون هناك زفاف إلا بعد انتهائها من الدراسة أو ما أشبه ذلك، والنكاح المعلق على شرط هو الذي يعلق على شيء مجهول، كأن يقول: بشرط أن يرضى أخوها، ولا يدرى هل يرضى أم لا، أو بشرط نجاحها أو نجاحه وهذا أيضاً لا يدرى هل يحصل أم لا.(63/17)
المساواة في المبيت لا تسقط إلا برضا المرأة
السؤال
رجل متزوج بأربع نسوة، ولا يعدل في المبيت، وعندما ينصح يقول: إنني اشترطت عليها أن المبيت على مزاجي إن أردت المبيت وإلا فلا؟
الجواب
ذكروا أن هذا شرط باطل، وأن عليه العدل بينهن إلا إذا أسقطت إحداهن حقها أو ليلتها برضاها فلها ذلك، فأما إذا لم ترض ولم يكن هناك قناعة ولا موافقة فلها طلب ليلتها في حينها.(63/18)
على المدرس والمفتي تبيين مسائل الخلاف
السؤال
امرأة مدرسة لمادة الفقه، ويوجد أقوال للعلماء مختلفة، فكيف يحصل الترجيح، وهل دائماً يؤخذ بالأحوط؟
الجواب
المدرس أو المفتي إذا سئل عن مسألة خلافية فالأولى له أن يذكر الخلاف إذا كان لا يقدر على الترجيح، كأن يكون في المسألة قولان، فيذكر من قال بكل قول، هذا إذا كان الخلاف ظاهراً، أما إذا كان الخلاف ضعيفاً أو الذين ذهبوا إلى أحد القولين هم الجمهور فإنه يقول: قول الجمهور كذا، أو الصحيح عند العلماء كذا.(63/19)
معاودة النظر إلى المرأة المخطوبة
السؤال
هل للخاطب أن يعاود النظر إلى المرأة المخطوبة؟ وهل تأثم في لبس بعض الحلي عندما يراها؟
الجواب
له ذلك، لكن إذا كان صادق الرغبة، فله أن يطلب النظر إليها مرة ثانية، ويقول: إني نظرت وقد تكون في تلك المرة متغيرة، أو متحلية بشيء يغيرها ويجملها، أو ما أشبه ذلك، فعليها أن تظهر بلباسها المعتاد، ولا تغير شيئاً من جسدها، ولا تظهر بحلي أو بزينة تلفت الأنظار لا في المرة الأولى ولا في الثانية، والأولى أنه لا يتشدد في طلب النظر.(63/20)
جواز تزويج الولي نفسه من موليته إذا كان أقرب الناس إليها وكانت راضية
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا ولي لابنة عمي، وهي الآن مطلقة، فهل أزوج نفسي بها أم لابد من ولي من العصبة، أفتونا مأجورين؟
الجواب
إذا كنت أقرب عصبتها فلك أن تزوج نفسك بشاهدين إذا كانت راضية، فتقول للشاهدين: اشهدا أنني زوجت نفسي من ابنة عمي، أو أني تزوجتها، أو قبلتها كزوجة، أو ما أشبه ذلك، أو يقول لك ذلك المأذون: قل: إني زوجت نفسي بابنة عمي وقبلت الزواج، وأما إذا كان هناك من هو أقرب منك فإنه هو الذي يتولى العقد.(63/21)
حكم زواج التحليل
السؤال
فضيلة الشيخ: بالنسبة للتيس المستعار هل هو محرم فقط ويكون الزواج صحيحاً ويأثم فاعله أم أن هذا الزواج باطل ولا تحل لزوجها من بعده؟
الجواب
الجمهور على أنه باطل، وهناك بعض الذين يتساهلون فيحللونها للأول إذا تزوجها هذا الثاني، مع أنه ما قصد إلا تحليلها، أو حصل الاتفاق بينهما، فالجمهور على أنه باطل، وعلى أنها لا تحل للأول، وتعرفون أنه تساهل فيه كثير من الناس في القرون الأولى، وصاروا في القرون المتوسطة يتساهلون فيه أكثر، وفي زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كثر هذا التحليل، وصار عادة وديدناً، وألف فيه ابن تيمية كتاباً كبيراً مطبوعاً اسمه: (إبطال التحليل) وأورد الأدلة فيه، وبين أنه حرام، وكذلك تكلم عليه ابن القيم في (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان) وبين الأدلة على تحريمه، وكأنه اختصر ما ذكره شيخه، فعلى هذا نقول: إن من تزوجها لقصد الإحلال لا تحل، وحرام عليه، وكذلك إذا استأجره الزوج وقال: تزوجها واشترط كذا.(63/22)
الفرق بين الزواج العرفي وزواج المسيار
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الفرق بين الزواج العرفي ونكاح المتعة وزواج المسيار؟
الجواب
أما العرفي فالعرف عند الناس هو الذي يتعارفون عليه، فإذا كان هناك عرف عند أهل بلد يتعارفون على تسميته زواجاً فلهم عرفهم، ولكن لا يُعتمد إذا كان مخالفاً للشرع، أو كان فيه ما يخالف الشروط الشرعية، ولو تعارفوا على تسميته زواجاً، يعني: لو تعارفوا على تسمية نكاح المتعة زواجاً وقالوا: هذا الزواج العرفي، أو تعارفوا على زواج بلا رضا، أو بلا شهود، أو بلا مهر، وتعارفوا وقالوا: نسميه زواجاً، أو زواجاً مؤقتاً، فلا عبرة بهذا الزواج العرفي.
وأما الزواج الشرعي فهو الذي تمت فيه الشروط التي ذكرت في أول كتاب النكاح، فإذا تمت الشروط فيه وانتفت الموانع، فهذا هو الزواج الشرعي.
وأما ما سموه الآن بزواج المسيار فهذا شيء جديد، ما كان معروفاً بهذا الاسم، ثم اصطلحوا على تسميته، فإذا تمت فيه الشروط فلا بأس، يعني: كأنه لا يجعل لها ليلة، وإنما يأتيها ساعة من نهار، ويقضي وطره ثم يخرج، ولا يجعل لها ليلة محددة، وهي ترضى بذلك، أو تبقى في بيتها، وتقول: لا أتحول عن بيتي ومع أولادي، وأنت الذي تأتي لقضاء حاجتك، فإذا تمت الشروط فهو صحيح، والشروط أن يكون هناك رضا، وشاهدان، وصداق، وإعلان للنكاح، وإضافتها -مثلاً- في دفتر عائلته، فأما إذا كان سراً، فقد ورد النهي عن نكاح السر، وكذلك إذا شرط شيئاًَ لا يجيزه الشرع.(63/23)
تعريف الدرزية
السؤال
أشكل علي قوله في الحاشية: كالمجوسية والوثنية والدرزية، فمن هي الدرزية؟
الجواب
الدروز طائفة من غلاة الرافضة والنصيرية، وقد يكونون أخبث منهم، ويوجدون بكثرة في سوريا في دمشق، وفي كثير من قرى سوريا، وهم معروفون بهذا الاسم، ويعترفون بأنهم دروز، واحدهم درزي، وعقيدتهم عقيدة كفرية، وقد يتكتمون على عقيدتهم ولا يبدونها، ولا يخرجون شيئا ًمن مؤلفاتهم التي فيها عقائدهم، لكن بعض من دخل فيهم أو احتال عليهم أظهر شيئاً من مؤلفاتهم التي عرف بها معتقدهم، فهم يعتقدون في الحاكم العبيدي أنه إله أو أنه معبودهم، ومعتقداتهم سيئة، فهم لا يصلون ولا يزكون ولا يعملون الأعمال الصالحة، ولا يخلصون العبادة لله، ولا يعترفون بالعبودية، وقد ألفت في الرد عليهم مؤلفات قديمة وحديثة.(63/24)
مارية القبطية رضي الله عنها كانت أمة للنبي صلى الله عليه وسلم وليست زوجة
السؤال
هل مارية القبطية أمة للرسول صلى الله عليه وسلم أم زوجة له؟ وهل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وطء أمة؟
الجواب
هي جارية أهديت له، وأصلها مصرية؛ لأن القبط كانوا في مصر، فهي أمة، وأم ولد، يعني: استمتع بها فحملت وولدت له ابنه إبراهيم، وبقيت عنده، وأعتقت بعد موته، ولعله أعتقها في حياته.(63/25)
حكم اشتراط المرأة على زوجها عند العقد ألا يتزوج عليها
السؤال
شرط المرأة على العاقد: ألا يتزوج عليها، أليس شرطاً محرماً؟
الجواب
لا شك أنه شرط حرم حلالاً، ولكن للمرأة مصلحة في هذا الشرط، وعليها مضرة بمخالفته، فلأجل ذلك يعتبره كثير من العلماء شرطاً صحيحاً، ويقولون: إذا كان عليها ضرر فتطلب الفسخ، فإذا شرطت أنه لا يتزوج ثم تزوج، فلها أن تقول: فارقني؛ أنا لا أطيق أن أبقى مع ضرة.(63/26)
حكم لعن الكافر المعين
السؤال
هل يجوز لعن الكافر المعين بعد موته سيما إذا تحقق أنه مات على كفره؟
الجواب
الصحيح أنه يجوز، وأن النهي عن لعن المعين إنما هو في حال الحياة؛ لأنا لا ندري ما يختم له، أما إذا تحقق أنه مات وهو على كفره مصراً عليه، وعمله الكفري لا خلاف فيه، فإنه يجوز لعنه تنفيراً من معتقده ومذهبه.(63/27)
معنى قول المؤلف (حتى يطأها زوج غيره بشرطه)
السؤال
ما معنى قول المؤلف: (حتى يطأها زوج غيره بشرطه) مع تحريم زواج التحليل أفيدونا مأجورين؟
الجواب
سيأتينا تحريم نكاح التحليل، وقوله: (بشرطه) ليخرج نكاح التحليل، وهو: أن يطأها زوج، ولذلك سماه زوجاً، وأما المحلل فلا يُسمى زوجاً، فيشترط أنه لابد أن يكون زوجاً لا محللاً.(63/28)
المتمسكات بدينهن المحرف من الكتابيات موجودات
السؤال
فضيلة الشيخ: ذكرتم حفظكم الله أنه إذا لم تكن الكتابية متمسكة بدينها فإنه لا يجوز التزوج بها، فهل يوجد هناك كتابيات متمسكات في هذا الزمن؟
الجواب
لابد أنه يوجد، فهناك من يدعون إلى التمسك بشريعتهم، فيوجد من اليهود من يدعو إلى التمسك بشريعة اليهود، وهكذا يوجد في النصارى من يُسمون الرهبان والنساك ونحوهم، وعلامتهم أنهم يدعون إلى ذلك، ويُسمون أيضاً مبشرين، ويسمون قسيسين، فلابد أنه يوجد ولو كانوا قلة.(63/29)
بنات المرأة لا يحرمن بمجرد العقد
السؤال
أنا شاب عقدت النكاح على امرأة وخلوت بها، ولم أجامعها بسبب عدم قبولها، ثم حصل بيننا الطلاق، فهل أكون محرماً لبناتها فيما بعد، ويكون أبنائي محارم لبناتها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا لم تطأها فالصحيح أنك لا تكون محرماً لبناتها، وتكون محرما ًلأمها؛ لأنك حصل لك العقد مع ابنتها، وكذلك أولادك يكونون محارم لها؛ لأن زوجة الأب تحرم بمجرد العقد، وأما بناتها فحلال لأولادك.(63/30)
حكم الزواج بنية الطلاق
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الشباب يذهبون إلى بعض البلاد ويتزوجون هناك بنية الطلاق، فيجلس معها شهراً أو أكثر، ثم إذا أراد أن يرجع طلقها، وقد اتخذ هذا العمل عادة في كل إجازة، فهل هذا جائز؟
الجواب
أفتى المشايخ أنه يجوز النكاح بنية الطلاق إذا لم يكن مشروطاً في العقد، إذا لم يشترط ولم تحدد المدة، لأنه إذا شرط وحددت المدة فهو نكاح متعة وهو حرام، فأما إذا حصل العقد، ودفع المهر المطلوب منه كاملاً مهر أمثالها، والتزم أنها زوجة له، ورضيت بذلك، وكان في نفسه أنه لا يرضاها كزوجة ثم طلقها؛ اعتبر هو الذي خسر زوجته وخسر ماله، وهي رابحة لأنها سوف تتزوج بعده غيره.
بكل حال، هكذا أفتى المشايخ، وذكروا ذلك أيضاً عن بعض المؤلفين، وخالف في ذلك بعض الإخوان، وألف الشيخ صالح بن منصور رسالة قوية في المنع، وقدم لها الشيخ صالح بن اللحيدان، وذكروا أنه لا يجوز، واختاروا عدم إباحته لما فيه من المفاسد، ولما فيه من الإسراف والمحذورات، ولكل اجتهاده.
فنحن نقول: إذا كان يخشى على نفسه الزنا وتزوج زواجاً صحيحاً فهو خير من أن يقع في فاحشة الزنا.
ثم نقول أيضاً: لا يجوز السفر لأجل ذلك، فكون الإنسان يقطع هذه المسافات ويسافر لأجل هذا فهذا حرام عليه، يعني: كأنه يقول: أسافر لأجل أتمتع بها هذه المدة، مع أن تكاليف السفر ومهر تلك المرأة وتكاليف الرجوع يمكنه أن يتزوج به زوجة وطنية تبقى معه بقية حياته.(63/31)
كفر عباد القبور
السؤال
فضيلة الشيخ: ينكر بعض الإخوة على من يكفر القبوريين، ويقول: الله لم يكلفكم بتكفير هؤلاء، فهل قولهم صحيح؟
الجواب
نقول: المراد بالقبوريين: عباد القبور الذين يعبدون الأموات، والذين يأتون إلى المقبور كالسيد الحسين أو علي أو البدوي أو ابن علوان أو السيدة زينب أو ما أشبه ذلك، ثم يدعونهم: يا سيدتي زينب! يا سيدي الحسين! يا سيدي علي! يا ابن علوان! يا يوسف! يا فلان! ثم يعكفون عندهم، ويذبحون لهم ذبائح يتقربون بها إليهم، ويتبركون بتربتهم، فيأخذ أحدهم التراب ويمسح به وجهه، زاعماً التبرك بهذه التربة المباركة التي نالتها بركة هذا السيد، ويصلي عنده، ويقول: إن الصلاة عنده أفضل من الصلاة في المساجد؛ لأنه يرفع صلاتي! أليس هذا من الشرك؟! الجواب: لا شك أنه دعاه من دون الله، وإذا كانوا بهذه الحالة أصبحوا كفاراً، ولكن لا يقاتلون إلا بعدما تقوم عليهم الحجة، ونرى أن الحجة في هذه الأزمنة قائمة بانتشار الإذاعات، والكتب الإسلامية، والدعوة إلى الله.(63/32)
حكم اشتراط الرجل على زوجته الكفالة
السؤال
رجل اشترط على زوجته كفالته، وإذا لم تكفله سوف ينكد عليها فما حكم ذلك؟
الجواب
يمكن أن يكون أجنبياً وهي وطنية، فمعنى كفالته: أن تكون إقامته على كفالتها، فإذا كان كذلك فعليها إذا أرادته زوجاً أن تكفله حتى تؤشر له الإقامة؛ لأن إقامته محدودة أو مشروط فيها أن يكون له كفيل، فالأجنبي المصري أو اليمني أو السوري إذا لم يكن له كفيل فلابد أنه يُسفّر، أما إذا كان له كفيل ولو كفلته زوجته فإنه يبقى.
وبكل حال إذا كانت ترغب أن يبقى زوجاً لها فإنها تتقدم حتى تكفله، هذا إذا كانت السائلة تريد الكفالة يعني: كفالة الإقامة.
أما إذا كانت تقصد كفالة النفقة، أي: أنه فقير يريد أن تكفله، وتنفق عليه من راتبها أو مالها فإذا كان كذلك فالأصل أن الزوج هو الذي ينفق على زوجته، فإذا شرط عليها هذا، فهذا شرط يخالف مقتضى العقد.(63/33)
حكم الصفرة والكدرة التي تكون قبل الحيض
السؤال
ما حكم الصفرة والكدرة التي تسبق الحيض؟
الجواب
الأصل أنها ليست حيضاً إذا كانت في غير الحيض، وإنما تكون حيضاً إذا كانت في وقته، أما إذا كانت قبله أو بعده فلا تعد، تقول أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) أي: لا نعتبرها حيضاً، فلا نترك لها الصلاة.(63/34)
البياض الذي تراه المرأة بعد الطهر لا يضر
السؤال
ماذا لو رأت المرأة البياض بعد ستة أيام من دم الحيض، وحوالى عشرة أيام أخرى ما بين كدرة وصفرة، وقد يستمر لأكثر من ذلك؟
الجواب
البياض الذي هو القصة البيضاء علامة على انقطاع الحيض، فإذا رأت القصة البيضاء المعروفة عرفت أنها انقضى حيضها، فما رأته بعد ذلك فإنه دم عرق أو صفرة أو كدرة، سواء قليله أو كثيره.(63/35)
وصف القصة البيضاء
السؤال
هل للقصة البيضاء وصف معروف حتى لا يلتبس مع الإفرازات الأخرى؟
الجواب
هذا شيء تعرفه النساء، يقولون: إنها شيء تشبه الجص، والقصة في الأصل هي الجص الأبيض يخرج من الرحم بعد انتهاء العادة، وهو دليل على أن الحيض قد انقطع، وليس شبيهاً بالإفرازات التي تخرج من الرحم في الاحتلام أو نحوه، فهو شيء له لون خاص، وله إحساس خاص.(63/36)
حكم إمامة صاحب السَلَس
السؤال
أنا شخص مصاب بمرض خروج الريح المستمر -سلس الريح-، وقد حفظت كتاب الله جل وعلا، هل تصح إمامتي في الصلاة، حيث إنني أحياناً أصلي مع كبار السن، وأناس لا يستطيعون قراءة القرآن، أو قراءة الفاتحة، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا تصح إمامة صاحب السلس إلا بمثله، هكذا نص العلماء، ثم إذا كان كذلك فإن عليه أن يعالج نفسه حتى تزول هذه الأمراض والعاهات ونحوها، وإذا قدموه فعليه أن يتحفظ حتى تنتهي الصلاة، فلا يصلي وهو يخرج منه هذا الريح الذي هو ناقض للوضوء، وإذا خرج منه فإن عليه أن يستخلف، ويقدم غيره ليكمل الصلاة.(63/37)
زوج الجدة من المحارم
السؤال
هل تحرم البنت على زوج جدتها، الذي لم يكن أباً لأمها؟
الجواب
زوج الجدة يعتبر محرماً للأم، يعني: تقول: أنت زوج جدتي أم الأم أو أم الأب، فأنت تعتبر محرماً، فزوج الأم وزوج أم الأم وزوج أم الأب كلهم محارم للمرأة.(63/38)
الفرق بين المخالعة والفسخ
السؤال
لقد أشكل علي الفرق بين المخالعة والفسخ، فما الفرق بينهما وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كرهت المرأة زوجها، وقالت: أعطيك ألفاً أو عشرة آلاف، أو أعطيك أرضاً أو بيتاً على أن تخلي سبيلي، يُسمى هذا خلعاً، وإذا غاب الزوج وتقدمت المرأة إلى القاضي وقالت: زوجي غاب، وأهملني فله أن يفسخ النكاح؛ لأنها تتضرر بانتظاره، ويُسمى هذا فسخاً، وكذلك إذا ظهر به عيب كمرض مستمر فللقاضي أن يفسخ النكاح.(63/39)
حكم الرجوع في الهبة قبل تسليمها
السؤال
فضيلة الشيخ: اتفقت أنا وأحد أصدقائي على هبة شخص مبلغاً من المال، وقمنا بجمع المبلغ، وقبل إيصال المبلغ إليه احتجنا لذلك المبلغ، فهل لنا الرجوع في هذه الهبة؟
الجواب
يجوز الرجوع للواهب إذا لم يدفعها للموهوب له أو لوكيله، فأما إذا دفعوها له أو لوكيله حرم الرجوع، فهذا الذي لا تزال هبته في يده ولم يعطها للموهوب له يجوز أن يرجع فيها، وأما الذي قد أعطاك أو أعطى شخصاً آخر فليس له أن يرجع فيها.(63/40)
ضابط الرضعات المحرمة
السؤال
ما هو ضابط الرضعات المحرمة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هي مذكورة في الكتاب في باب الرضاع بعد باب الطلاق، ذكروا أنه تحرم عند الإمام الشافعي والإمام أحمد خمس رضعات، وأما عند الإمام مالك فرضعة واحدة، وذهب الأحناف إلى أنه لا تحرم إلا عشر رضعات.
والرضعة اختلفوا فيها، فمنهم من يقول: إنها مجرد مصة؛ لأن في الحديث قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان) فإذا مص وابتلع فتعد واحدة، ومنهم من يقول: إنها الإمساك ثم الإطلاق، فإذا أمسك الثدي وامتص منه ثم تركه أو نزع منه فهي رضعة، ومنهم من يقول: هي الشبع، فإذا رضع حتى يشبع تعد هذه رضعة، ولو أنه مسه وأطلقه مراراً، والمختار الذي عليه الفتوى أن الرضعة هي: الإمساك والإطلاق ولو في مجلس واحد.(63/41)
حكم الجمعية التي يجمع فيها أفراد قبيلة للحوادث التي تنزل بهم
السؤال
قبيلة معينة أنشأت فيما بينها جمعية؛ حيث يقوم كل فرد من أفراد هذه القبيلة بدفع مبلغ معين، وذلك كل سنة، ويتم تجميعها ووضعها عند أحد أفراد هذه القبيلة، وتبقى عنده، وذلك من أجل الدم أو الدية، ثم حدث خلاف بينهم بسبب هذه الجمعية، مما أدى إلى حصول الشحناء والبغضاء والمقاطعة بينهم، وسؤالي: ما حكم إنشاء مثل هذه الجمعيات؟ وما العمل لحل هذا الخلاف بين القبيلة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا أدى ذلك إلى هذا الخلاف فعليهم حل هذه الجمعية، ورد كل مال إلى صاحبه، وإذا نزل بهم حادث عليهم أن يجمعوا له ما يحتاج إليه فوراً؛ لأن الحوادث هذه تقوم بها العاقلة، وأقارب صاحب الحادث يأخذون من هذا ألفاً أو خمسة آلاف ومن هذا ومن هذا حتى يجمعوها.
وهذه الجمعية يفعلونها حتى لا يكون هناك تكلف في جمعها بعد أن يحدث الحادث، فإذا صار يحصل بسببها خلاف كأن يقول أحدهم: كلفتوني أو أخذتم مني أكثر من غيري، وقد يقول: لا أعطيكم لأنكم لا تستحقون، أو لأنكم تأخذون مني ولم يحصل شيء، فيحصل نزاعات وخصومات وتقاطع، فالأولى تركها.(63/42)
حكم الجمع بين المرأة وزوجة أبيها
السؤال
هل يصح الجمع بين الزوجة وزوجة أبيها المتوفى؟
الجواب
يصح ذلك، فقد ذكروا أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تزوج بنت علي بن أبي طالب، ولما مات علي تزوج امرأة من نسائه، فجمع بين بنت علي وزوجته، ولكنها ليست أم الزوجة التي عنده، وذلك لأنه لا قرابة بينهما، إنما هي قرابة مصاهرة.(63/43)
حكم إكراه البكر على الزواج إذا لم ترغب فيه
السؤال
إذا رفضت البكر الزواج من عدد من الرجال، وكلهم كفء لها، من دون عذر شرعي، فهل لوليها إجبارها على الزواج؟
الجواب
لا يجبرها إذا امتنعت، ولا خير في إجبارها؛ لأنها هي التي تتألم، ولكن عليه وعلى أمها إقناعها، وبيان المصلحة التي تترتب على تزويجها، فإذا لم ترغب أصلاً فلا إكراه عليها.(63/44)
حكم عقد الزواج بلفظ البيع
السؤال
في بعض المناطق يقول الرجل إذا أراد تزويج ابنته: بعتك بنتي بمائة من الغنم، فيقول الزوج: قبلت، وكذلك يقولون: باع بنته، ويقصدون زوجها فهل يصح ذلك؟
الجواب
إذا كان هذا اصطلاح فلا مانع، وهذا مثل قوله: ملكتك ابنتي، أو أعطيتك ابنتي بصداق كذا، أو بمهر كذا، فهذا يمكن أن يكون اصطلاحاً كما يكون في اللغات الأخرى، هناك لغات أجنبية متنوعة، فكل يعقد باللغة التي يفهمها.(63/45)
على العاقد أن يعرف توفر الشروط وانتفاء الموانع في المرأة قبل أن يعقد
السؤال
هل يجب على المأذون أو أحد الشهود أن يتأكدوا من رضا الزوجة؟ وكيف يكون ذلك؟
الجواب
المأذون يعتبر كواسطة بينهما، فعليه أن يستفصل قبل أن يعقد، فيسألهم: هل الزوجة راضية؟ ولابد أن يسأل الشاهدين إذا كانا يعرفانها، وكذلك يسأل الولي، ويتحقق من تمام الشروط، ومن انتفاء الموانع، فإذا خاف أن هناك إجباراً، أو أن هناك أشياء من الموانع فلا يجوز له الإقدام على العقد إلا بعد التحقق من توافر الشروط وانتفاء الموانع.(63/46)
الفرق بين الاستئذان والاستئمار
السؤال
ما الفرق بين الاستئذان للبكر والاستئمار للثيب؟
الجواب
كأن الاستئذان مأخوذ من الإذن الذي يدل على الرضا، فيكون السكوت دليلاً على الإذن، وأما الاستئمار فلابد فيه من الأمر، فكلمة: زوجوه أمر، أو اعقدوا له، فلابد أن الثيب تأمرهم، فلذلك قال: (حتى تستأمر) يعني: يطلب منها الأمر، وقال في الصغيرة: (حتى تستأذن) فهذا هو الفرق.(63/47)
حكم قول: (يا وجه الله)
السؤال
كثر عند العامة الدعاء بقولهم: يا وجه الله! فما حكم ذلك؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ لأن الوجه يطلق على الذات، كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فإذا دعا الله تعالى بيا وجه الله! جاز ذلك؛ لإطلاقه على الذات، وإن كان الاقتصار على بعض الصفات غير مألوف.(63/48)
يصح الزواج بأي شرط جائز
السؤال
رجل متزوج وأراد أن يتزوج بأخرى، وشرط عليها أن تسكن مع أهلها، ويأتيها إذا سافر لعمله، فهل يصح ذلك؟
الجواب
إذا قبلت بهذا الشرط فلا بأس بذلك، المسلمون على شروطهم، كذلك أيضاً إذا اشترطت عليه شروطاً، فالمسلمون على شروطهم.(63/49)
العقد بدون تعيين غير صحيح
السؤال
قال لي أحد الناس: سأزوجك ابنتي، وله ابنتان، فقلت له: قبلت، فهل يلزمه أن يزوجني إحداهما؟
الجواب
لا يلزم حتى يسميها، فيقول: زوجتك ابنتي فلانة، وأما قوله: سوف أزوجك أو أريد أن أزوجك بلفظ المضارع فلا يصير عقداً حتى يكون بلفظ: زوجتك، بلفظ الماضي، وبكل حال لا يتم إلا بعد الرضا، ولا يتم إلا بعد التعيين.(63/50)
إذا اشترطت المرأة عند العقد مواصلة الدراسة أو التدريس فلها ذلك
السؤال
اشترطت على زوجي عند عقد النكاح المواصلة في الدراسة والتدريس، فهل إذا توظفت في وظيفة تدريس أعتبر ناشزا ًولا تحل لي نفقته؟
الجواب
إذا كان هناك شرط وافق عليه كمواصلة الدراسة أو مواصلة التدريس أو اشترطت أن تواصل الدراسة ثم بعد إنهاء الدراسة أن يمكنها من التدريس والتزم بذلك فإن عليه ذلك، وإذا أراد منعها فإن لها أن تطالبه بتمكينها من هذا الذي شرطت عليه، وإذا منعها من هذا العمل ثم عصت أو نفرت فلا تُسمى ناشزا ًوالحال هذه؛ لأنها قد اشترطت عليه، لكن إذا رأيا المصلحة في ترك العمل ونحو ذلك فيشير عليها بذلك رجاء أن يحصل بينهما التوافق.(63/51)
حكم أخذ الراتب مع عدم العمل إذا أذن في ذلك المسئول عن العمل
السؤال
أنا موظف في إحدى وزارات الدولة، وقد سمح لي الوزير المفوض من الحاكم بعدم المجيء إلى العمل؛ وذلك لأني أدرس في إحدى الجامعات في خارج بلدي، فهل الراتب الذي أستلمه حلال أم حرام؛ مع العلم أن القانون عندنا لا ينطبق عليّ، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لابد لمن تعين في عمل أن يقوم بذلك العمل، لكن إذا وافق الرئيس المباشر أو المسئول عنه على تخفيف العمل عنه، ويسلم له الراتب كاملاً؛ بسبب كونه يواصل الدراسة انتظاماً أو انتساباً في الداخل أو الخارج ولن يختل العمل الذي وكل إليه، فلعله يتسامح في ذلك، ويكون الراتب حلالاً، سواء وافق على ذلك النظام أو القانون أو لا.
والحاصل: لابد من التأكد من عدم اختلال العمل، وموافقة المسئول.(63/52)
حكم العقد بالهاتف أو الكتابة
السؤال
ما حكم عقد النكاح ونحوه بالهاتف أو بالكتابة ونحوه من الوسائل الحديثة؟
الجواب
يظهر أنه إذا كان بالهاتف الذي يسمعه الشهود فلا بأس، يعني: هناك هاتف معه سماعة خارجية، ولا يقتصر على سماعه المتكلم، بل يرفع صوته، فالولي ولو كان بعيداً لابد أنهم يعرفون كلامه، ويتحققون أن هذا هو الولي، ويتكلم فيقول: أشهدكم يا فلان وفلان أني قد زوجت ابنتي فلانة لفلان على أن يصدقها كذا، وبشرط كذا وكذا.
ثم يجيب الزوج ويقول: أشهدكم أني قبلت، وهو يسمع ذلك، أما إذا كان الهاتف لا يسمعه إلا واحد فلا يكفي؛ لأن الشهود لابد أن يشهدوا على سماع الإيجاب والقبول، وأما الكتابة فلا تكفي، وذلك لأنه يشترط -على الصحيح- الموالاة بين الإيجاب والقبول، وعدم الفاصل بينها.(63/53)
حكم المزاح في ألفاظ عقد النكاح
السؤال
كثير من الناس يقول مازحاً عن ابنته: زوجتها ابنك أو العكس، فهل في هذا مزح، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يجوز المزح بهذا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق) فلا يجوز المزاح ولا العبث بمثل هذه الكلمات، ومع ذلك مثل هذا الكلام لا يكون عقداً صحيحاً، وذلك لفقد الرضا ولفقد التعيين، ولفقد كثير من الشروط كالأهلية وما أشبهها.(63/54)
ذكر الاختلاف في أيهما الأصل: الإفراد أو التعدد
السؤال
ذكرتم أن العلماء اختلفوا هل الأصل التعدد أم الإفراد، فما هو الراجح من أقوالهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لكلٍ دليله، والأصل والأغلب الاقتصار على الواحدة كما ذكر ذلك المؤلف بقوله (يسن نكاح واحدة) ، وقالوا: إن الزيادة عليها تعريض للضرر، ولذلك تسمى الزوجة الثانية: ضرة، لأنها تضار الأولى، وتضار الزوج، ولكن تختلف باختلاف المقدرات وما أشبهه.(63/55)
حكم كتابة آيات من القرآن ثم تُغمس في ماء وتشرب
السؤال
يقوم بعض الناس بكتابة بعض آيات من كتاب الله بالزعفران في أوراق، ثم تغمس هذه الأوراق بالماء وتشرب، فهل يستشفى بذلك، وجزاكم الله خيرا؟
الجواب
أدركنا بعض المشايخ يعملون ذلك، يعني: يكتبون آيات من القرآن في أوراق أو في أواني نظيفة، ثم تغسل ويشربها المريض الذي كُتبت له، ويذكرون أنهم يتأثرون بذلك، ويجدون فيها فائدة؛ لأن كلام الله تعالى فيه فائدة، كما يستشفى بالقراءة عليه ونحو ذلك، فإذا كان ذلك الكاتب موثوقاً معروفاً أنه لا يكتب إلا شيئاً معروفاً فلعله يجوز.(63/56)
حكم معصية الأقارب في الزواج من أجنبية
السؤال
أنا شاب أريد الزواج من امرأة أجنبية، وذلك لأن أقاربي يطلبون مهراً كثيراً، ولكن والدتي ترفض زواجي من أجنبية، فهل يحل لي عصيانها؟
الجواب
عليك أن تطلب النكاح من غير أجنبية؛ لأن نكاح الأجنبية يحتاج إلى إذن من الدولة، ويحتاج إلى إجراءات، ثم هذه الأجنبية قد لا يوافق عليها، وقد لا تناسبك، وإذا طلقت مثلاً أو رجع أهلها إلى دولتهم شق عليك أن تخرجها، وأن تفرق بينها وبين أولادها، ثم في ذلك أيضاً معصية أهلك وأبويك وأقاربك، فنشير عليك بأن تطيع أهلك وأقاربك الذين لا يريدون منك الزواج بالأجنبية، وستجد إن شاء الله من يناسبك غير هذه الأجنبية.
وإذا كان يقصد أنها أجنبية بمعنى ما ذكره المؤلف يعني: أنها ليست من قبيلته بل من قبيلة أخرى، فمثل هذا أيضاً ليس فيه عيب، بل استحبه العلماء كما سمعنا؛ ولما ذكرنا من العلل، ففي هذه الحال لعلك أن تشير على أهلك، وتحاول معهم حتى يوافقوا.(63/57)
حكم استخدام حبوب منع الحمل
السؤال
كثير من النساء يستخدمن حبوب منع الحمل بحجة أنها تجلس فترة بعد الولادة ترتاح فيها؛ لأن كثرة الولادة يتعبها ويذهب شبابها فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يستحب ذلك، فهذه الحبوب مضرة بالصحة، وقد قرر ذلك الأطباء المعتبرون، ولها نتائج سيئة؛ فعلى المرأة أن ترضى بقضاء الله تعالى وبقدره، وقد كان النساء قبل أربعين سنة أو نحوها لا يعرفن هذه الحبوب، ولا يستعملها إلا النادر منهن، وكانت المرأة إذا ولدت اشتغلت برضاع ولدها، وإذا اشتغلت بإرضاعه توقف عنها دم الحيض، وإذا توقف يقول العلماء: إنه ينقلب لبناً، وحيث إنها لا تحيض فإنها لا تحمل، وهذا مشاهد أنها تبقى سنتين بعد الولادة وقت الرضاع لا يأتيها قطرة دم، ومع ذلك لا تحمل، فإذا أنهت رضاع ولدها وفطمته ففي ذلك الشهر تأتيها العادة، ثم بعد وطء زوجها لها بعد الطهر تحمل، هذا كان فعل النساء، وفي كل ثلاث سنين تأتي بولد، أو سنتين ونصف، ولا يحصل عليها تأثر، ولا أذى، ولا ضرر بكثرة إنهاك بدنها، أما في هذه الأزمنة فعدل كثير من النساء عن إرضاع أطفالهن، فصارت ترضعه من هذا اللبن الصناعي، وبعدما تنتهي من مدة النفاس تأتيها العادة، ثم إذا طهرت من العادة ووطأها زوجها حملت منه بعد ذلك، فتحمل في كل سنة، وربما في كل عشرة أشهر أو نحوها، فتقول: إنني أتضرر بذلك، فلذلك تعمل هذه الحيل، فتعمل ما يسمى باللولب، أو تتعاطى هذه الحبوب، أو تحمل زوجها على أن يعزل عنها، وإن كان العزل فيه خلاف في جوازه كما سيأتي.
والحاصل: ننصح المرأة بأن تقتصر على ما كانت عليه أمها وجدتها وهو إرضاع الطفل، فتقصره على رضاع لبنه منها إلى أن تفطمه.
ووجد من النساء من تحيض ولو كانت ترضع، ومنهن من تحيض بعد الإرضاع بسنة، يعني: تبقى سنة لا تحيض، والنساء يختلفن في قوة البنية أو ضعفها.(63/58)
الزواج لا يعيق عن طلب العلم
السؤال
أريد الزواج ولكن بعض الإخوة ينصحونني بعدم الزواج؛ لأنه يشغل عن طلب العلم، مع أنني أدرس في الجامعة فما رأيكم؟
الجواب
إذا كنت قادراً مقدرة مالية فإن الزواج لا يشغلك عن طلب العلم لا في الجامعة ولا في الحلقات ونحوها، وستجد وقتاً تتعلم فيه، والزواج تعف به نفسك، وكذلك تشغل به فراغك، وتؤنس نفسك، وتؤنس زوجتك، فأنصحك بألا تتأخر لأجل عذر الطلب، فكثير من الطلاب متزوجون ولا يعوقهم ذلك.(63/59)
الذي لا يستطيع القيام بواجب زوجته عليه أن يفارقها
السؤال
ماذا يلزم الرجل إذا كان لا يستطيع أن يقوم بالواجب نحو زوجته بسبب ضعف شهوته وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
عليه أن يحرص على أن يعفها بما يستطيع، وقد ذكروا في باب العشرة أنه إذا كان قادراً على وطئها في السنة ثلاث مرات -أي: في كل أربعة أشهر مرة- كفاه ذلك، أما إذا لم يقدر أصلاً، وطلبت منه الفراق، وهي مثلاً ذات شباب أو نحوه؛ فيجب عليه أن يفارقها حتى تجد من يعفها.(63/60)
حكم تأخير زواج الأصغر إلى أن يتزوج الأكبر
السؤال
يوجد بعض العادات وهي أن بعض الآباء لا يزوج إلا الابن الأكبر ثم الذي يليه، فإذا كان الابن الأكبر لا يريد الزواج أخر من قبله من الإخوة، فهل من كلمة لهؤلاء؟
الجواب
نعتبر هذا خطأ، بل من طلب النكاح وكان أهلاً فإن على الوالد أن يزوجه، وتزويجهم على آبائهم؛ وذلك ليعفهم وليحرص على أن يصونهم عن الوقوع في المحرمات ونحوها.
وكذلك أيضاً الإناث كثير من الأولياء قد تبلغ إحدى بناته مثلاً: خمساً وعشرين سنة، أو ثلاثين سنة، فيتقدم إليه بعض الشباب عمره في عشرين سنة، ويخطب ابنة له عمرها عشرون، أو عمرها ثمانية عشر عاماً فيرده، ويقول: لا أزوجها حتى أزوج التي أكبر منها، فيعضلها ويعضل الأخرى، ويكون سبب ذلك كونه لا يزوج الصغرى حتى تتزوج الكبرى، فعليه أن يزوج من جاءه خاطباً إذا كان كفئاً، فهذا الخاطب الذي عمره عشرون سنة أو ثنتان وعشرون قد لا يرغب في التي عمرها ثلاثون أو خمس وعشرون؛ فلذلك لا يحق له أن يمنع من تقدم له من الأكفاء، والله أعلم.(63/61)
شرح أخصر المختصرات [64](64/1)
لا يصح وقف إلا ما ينتفع به مع بقائه
السؤال
ذكر المؤلف رحمه الله أن من شرط الوقف أن ينتفع به مع بقائه، فهل يصح وقف بعض التمر أو بعض الماء مع أنه لا يبقى؟ وما ضابط هذا الشرط، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يصح وقف النخلة أو النخل؛ لأنه يثمر كل سنة، وكذلك يصح وقف الأرض التي تزرع وتستغل، فيكون زرعها يتنفع به ويؤكل منه، وكذلك الأشجار التي فيها ثمر كشجر التين والعنب والتوت والرمان يصح وقفها؛ وذلك لأنه ينتفع بها، وتثمر كل سنة، وأما أن يقول: وقفت هذا الكيس التمر فهذا لا ينتفع به؛ لأنه يؤكل مرتين أو ثلاثاً ثم يفنى، أو كيس البر لا ينتفع به إلا لاستهلاكه.(64/2)
الفرق بين ضمان الموقوف وضمان ما تلف من غيره
السؤال
لماذا استثنى علماء الحنابلة رحمهم الله تعالى ضمان الموقوف، مع أنهم قالوا بضمان ما تلف من غيره؟
الجواب
كأنه يريد بضمان الموقوف أن العلماء قالوا: إذا تلف الموقوف فلا يضمنه المتلف، وقالوا: إن كل من أتلف شيئاً فإنه يضمنه، ولعل السبب في ذلك أن من أتلف شيئاً مملوكاً لشخص فإن ذلك المالك لابد أنه يطالب المتلف، فإذا أتلف إنسان داراً مملوكة فأهلها يطالبون ذلك الذي هدمها وأتلفها ويقولون: لماذا هدمت دارنا؟ وكذلك الموقوف فلو أن إنساناً هدم داراً موقوفة فالوكيل يطالب ذلك الهادم: لماذا أتلفتها وأذهبت منفعتها؟ عليك أن تبنيها وتعيدها كما كانت، أما الموقوف المستعمل فإذا تلف فيما استعمل به فإنه لا يضمن، فإذا وقف إنسان ثوباً ولبسه إنسان لأنه من أهله وتمزق عليه فلا يضمنه، وكذلك لو احترق وهو عنده فلا يضمنه؛ لأنه يعتبر كالأمانة عنده، هذا الفرق بينهما.(64/3)
صحة وقف تسجيلات إسلامية
السؤال
يوجد عندي تسجيلات إسلامية، وأرغب في وقفها بالاشتراك مع بعض الإخوة، على أن يتم بيع الأشرطة بسعر رمزي، فهل يصح مثل هذا الوقف؟
الجواب
لا بأس بذلك، والأولى -مثلاً- أنك توقف الأشرطة التي تسجل، وأما إذا وقفت الأجهزة وقلت: هذه الأجهزة وقف، وجعلت لمن يشتغل بها أن يبيع الأشرطة بسعر التكلفة فلك أجر على وقف هذه الأجهزة.(64/4)
حكم الوقف لمدة معلومة
السؤال
هل يصح الوقف لمدة معلومة مثل: وقفت هذا المنزل لمدة عشر سنين؟
الجواب
لا يصح، بل لابد أن يكون الوقف مستمراً، ولا يُرجع فيه، بل يخرج من ملكية الواقف.(64/5)
حكم الوقف على بعض الأولاد دون بعض
السؤال
من وقف على أحد أولاده هل يلزمه أن يقف على بقية أولاده مثله؟
الجواب
يصح الوقف على جنس من أولاده، فيقف مثلاً البيت على العزاب، أو على المطلقة من البنات أو نحوها للسكنى، أو يقفه على الفقير من الأولاد يسكنه، وكذلك على من تفرغ لطلب العلم، فيقول: المتفرغ يستحق من يساعده بخلاف العاملين والموظفين، فيجعله على جهة أو على جنس، فأما إذا كان بدون سبب فإنه يوقفه عليهم جميعاً.(64/6)
حكم أخذ الواقف مما أوقفه
السؤال
رجل أوقف دكاناً لصالح المسجد أو للفقراء، وكان غنياً ثم افتقر، فهل يجوز له أن يأخذ مما أوقفه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا أوقفه وخرج من ملكه فإن كان على الفقراء فهو فقير له أن يأخذ مع الفقراء، وأما إذا كان على المسجد فليس له أن يرجع فيه، ولا أن يأخذ من غلته شيئاً، ولكن يأخذ من جهة أخرى كالأوقاف التي على المساكين والفقراء.(64/7)
الوقف المعلق
السؤال
ما حكم لو قال: هذه كتبي إذا مت فهي وقف لله؟
الجواب
هذا وقف يعتبر معلقاً، ولكن حيث إنه لا يكون إلا بعد الموت فإنه يعتبر وصية إذا علقه بالموت، إذا قال مثلاً: هذه البيوت وقف بعد موتي فقوله يعتبر وصية، فإن كانت بقدر الثلث نفذت هذه الوصية، وإن كانت أكثر نفذ منها بقدر الثلث.(64/8)
لا يشترط في الموقوف له أن يكون فقيراً
السؤال
هل من شرط الموقوف له أن يكون فقيراً؟
الجواب
قد لا يكون، فكثير من الآباء يوقفون على أولادهم ولهم أموال طائلة، ولكن يقول: أوقف هذا البستان حتى لا يُباع، وحتى يأكلوا منه بقية حياتهم وأولادهم وأولاد أولادهم، وأوقف هذه الدكاكين وهذه الشقق حتى يأكلوا من غلتها، وربما تتغير حالتهم، هم الآن أغنياء وقد يصيرون فقراء في يوم من الأيام، فيجعلها وقفاً عليهم كلهم، غنيهم وفقيرهم ولو كانوا كلهم فقراء أو كلهم أغنياء.(64/9)
الشرط الذي فيه ضرر لا يصح
السؤال
انتشر في الآونة الأخير في بعض المناطق أن تشترط الزوجة على زوجها في عقد النكاح بيتاً خاصاً بها، وتشترط عدم دخول أم الزوج لهذا البيت إلا بعد إذنها، وقد يكون الأبوان أو أحدهما مريضاً أو محتاجاً، فهل يصح مثل هذا الشرط؟
الجواب
إذا كان شرطاً فيه ضرر فلا يصح، فلا يجوز له أن يوافقها على هذا الشرط، وهو منع أبويه مثلاً من الدخول في هذا البيت أو من زيارته، أو منع أولاده من غيرها، أو منع أقاربه أو ما أشبه ذلك هذا شرط فيه ضرر، ولكن إذا رأى فيه مصلحة وليس فيه ضرر، وسمح أبواه ونحوهم فلا بأس.(64/10)
لا يجوز الوثوق بطبيب نصراني
السؤال
كانت امرأتي حاملاً ولها ستة أشهر، فقال لي الطبيب: إن الجنين مشوه ولابد من إنزاله، وعندما وافقت وأجريت العملية تبين أن الطفل لم يكن به شيء، وكان الطبيب نصرانياً، فقتله الطبيب، فماذا علي، علماً بأن الجنين لم يُعمل له عقيقة حتى الآن لعدم علمي ماذا له وماذا عليه، وهل علي كفارة صيام شهرين أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا يجوز أن يوثق بالنصارى، فإنهم أعداء للمسلمين، وفي تقريره هذا قد أخفق، وأنت أخطأت حيث صدقته وعملت بقوله حتى أسقطت ذلك الجنين الذي لم يكن فيه شيء من التشويه، فنقول: لك مطالبة هذا الطبيب الذي كذب والذي اقترح إنزاله بالدية، وكذلك أيضاً لا يلزم العقيقة؛ لأن العقيقة إنما تلزم إذا ولد حياً وعاش سبعة أيام فأكثر، وأما صيام شهرين فليس عليك، بل الآثم ذاك النصراني الذي قرر إنزاله، وأمر به.(64/11)
حكم الأحذية المصنوعة من جلد النمر
السؤال
يوجد أحذية من جلد النمر، فهل يجوز لبسها وبيعها واقتناؤها؟
الجواب
هناك قول بأن الدباغ يطهر كل الجلود، ولو كان جلد محرم الأكل، ورجح ذلك الشوكاني في (نيل الأوطار) واستدل بعموم الحديث: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وهذا قول من الأقوال، فهذه الأحذية إذا كانت إنما هي أحذية تلبس في الأرجل فلا بأس، لكن نرى أنك لا تصلي بها للشك في طهارتها.(64/12)
الكفارة على عدة أيمان على عدة أفعال
السؤال
لو حلف شخص عدة أيمان على عدة أفعال مختلفة عن بعضها، فهل يجزئ أن يكفر كفارة واحدة، أم لابد لكل يمين من كفارة؟
الجواب
الصحيح أنه يكفيه كفارة واحدة ولو تعددت الأيمان ولو تعدد أسبابها، لأن المسبب واحد فتتداخل، فقد يحلف يميناً واحدة على عدة أشياء، كأن يقول: والله لا أكلم فلاناً، ولا آكل من هذا الطعام، ولا أدخل هذا البيت، ولا أركب هذه السيارة، ثم يضطر فيكلم ويأكل ويركب ويدخل، وهي يمين واحدة وحلف واحد، فتكفيه كفارة واحدة، وكذلك لو كانت عدة أيمان، فلو حلف -مثلاً- اليوم أنه لا يكلم فلاناً فكلمه، ثم حلف غداً أنه لا يأكل من هذا الطعام فأكل، ثم حلف بعده أنه لا يركب هذه السيارة ثم ركب، فالصحيح أنها تتداخل، وتكفيه كفارة واحدة.(64/13)
حكم من ترك السعي بين الصفا والمروة ولم يعلم إلا بعد رجوعه إلى بلده
السؤال
امرأة كبيرة في السن طافت، ولكنها لم تسع لأنها ضاعت، ولم يعلموا إلا بعد وصولهم إلى الرياض، فما هو العمل الآن؟
الجواب
معلوم أن هناك خلافاً في السعي، فهناك من يقول: إنه ركن، وهناك من يقول: إنه واجب، فاختلف في ذلك كثير من العلماء، حتى أن عالماً واحداً وهو ابن قدامة في كتابه (المقنع) ذكر روايتين، وفي كتابه (العمدة) ذكر أنه واجب وأنه يجبر بدم، فعلى هذا نعمل بهذه الرواية ونقول: عليها دم يذبح لمساكين الحرم، وهذه الأعمال إذا وقعت وانقطع ومضى الفعل ولا يمكن تداركه أفتينا بأسهل الأقوال، حتى لا يقع المسلم في حرج.(64/14)
حكم تجاوز الميقات والإحرام من ميقات آخر
السؤال
نحن جماعة قدمنا من المدينة قاصدين مكة للعمرة، ولكننا تجاوزنا ميقات أهل المدينة عامدين، وذلك لأننا أردنا الإحرام من الطائف؛ لأنه أيسر لنا وأسهل، فما حكم عملنا هذا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا بأس بذلك إذا أحرمتم من ميقات آخر، فإذا وصلتم إلى الطائف ومررتم بميقات أهل الطائف الذي هو وادي محرم أو السيل الكبير وأحرمتم منه فلا حرج، مع أن الأولى أنه ليس هناك مشقة لو أحرمتم من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وقد تكون المشقة في وصولكم الطائف أكثر؛ لأنكم ستبقون بعد إحرامكم أربع ساعات أو ثلاث ساعات ونصف بين المدينة وبين مكة، وأما ذهابكم إلى الطائف ثم رجوعكم ستطول مدة ذهابكم ورجوعكم، وعلى كل حال لا حرج في ذلك.(64/15)
حكم التأمين، وحكم الأخذ من شركات التأمين
السؤال
هل يجوز أخذ الدية من التأمين التجاري، وإذا اضطر الإنسان إلى التأمين التجاري وحصل له حادث فهل يأخذ مما تعوض له الشركة تأميناً أم لا؛ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نحن نختار أنه لا يجوز التأمين التجاري لا على السيارات ولا على الأنفس ولا على التجارات، ولكن متى حصل ووقع أن إنساناً أمّن على سيارته ثم حصل عليه حادث فإنه تدفع له الشركة، وله أن يأخذ؛ لأن تلك الشركة التزمت أن تدفع له، سواء أخذ منها أكثر مما أعطاها أو أقل.(64/16)
حكم بيع الوقف إذا لم ينتفع به وصرفه في مجال آخر
السؤال
إذا وقف رجل نخلاً وهي لبعض الأموات، ويخشى من موتها لعدم قيام أحد بهذا الوقف، فهل يجوز بيعها وجعلها في مسجد أو بئر، نرجو التوضيح، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
صحيح أن هناك أوقافاً تعطلت، يعني: قديماً كان الميت إذا مات يوقف هذه البئر، أو هذا النخل، أو هذه الأرض مزرعة أو نحوها، وفي ذلك الوقت كان الناس يهتمون بالحرث، ويحفرون الآبار العميقة، وكذلك أيضاً يولون الأشجار عناية، ولكن أتى بعد ذلك سنوات زهدوا في الزراعة، وأقبلوا على الوظائف أو على التجارات فتعطلت الأوقاف، فالآبار والأراضي قد تبقى عشرات السنين لا ينتفع بها، ولا يصل إلى الميت منها شيء، ففي هذه الحال للوكيل أو للناظر أن يرفع أمرها إلى قاضي البلد الذي هو تبع لها، والقاضي إذا عرف أنها لا يمكن أن تعمر، وليس هناك من يعمرها، وأن عمارتها تكلف أضعاف ثمنها، فله أن يبيعها وينقل ثمنها إلى غيرها ليعمر به شققاً أو يبني به مسجداً أو يصرفه في وجه من وجوه الخير.(64/17)
حكم العمل في تصوير الأموات
السؤال
هل يجوز تصوير الأموات كعمل، علماً أني أعمل في قطاع عسكري، ويوجد غيري يقوم بهذا العمل، فما رأيكم؟
الجواب
نرى أنه لا يجوز، وأنه يبتعد عن الأشياء التي ورد فيها وعيد، وبكل حال قد يكون هناك مقاصد في تصوير الأموات في بعض النشرات، وقصده في ذلك أن يعتبر المسلمون، ويرون أنه حصل كذا وكذا، كذلك في بعض الصحف الذين ينشرون عن الأموات أنه مات فلان، وأن أسرته آل فلان حتى يكون هناك تعزية لهم، فتختلف المقاصد.(64/18)
حكم الأخذ من المصاحف الموقوفة إذا زادت عن الحاجة
السؤال
كان بجانبي أحد المساجد مصاحف كثيرة زائدة في كراتين، وكان هناك عامل يصلح هذا المسجد، فطلب مني أن أعطيه مصحفاً، فأعطيته مع أن هذه المصاحف وقف لله تعالى، فهل علي شيء؟
الجواب
في هذه الأزمنة كثرت المصاحف والحمد لله، وطبع منها ألوف مؤلفة، وامتلأت المساجد، وكتب عليها أنها وقف لا تباع، ففي هذه الحال إذا كانت زائدة عن حاجة المسجد فلا مانع من أن تأخذ منها مصحفاً تقرأ به في بيتك مع بقائه على وقفيته، أو تعطيه إذا كنت وكيلاً على المسجد إنساناً تعرف أنه يقرأ فيه، فهو أولى من بقائها مرصوصة، بل قد تبقى أشهراً لا يُقرأ في شيء منها.(64/19)
حكم الوقف على أمر مباح
السؤال
هل يصح الوقف على مباح، كمن وقف البندقية للصيد مثلاً؟
الجواب
لا بأس، والأصل أن الواقف يقصد بذلك الأجر، فإذا أوقف السلاح فإنه يجعله على المقاتلين في سبيل الله، أو المقاتلين لصد المعتدي، ولا يجوز أن يجعله للمحاربين أو قطاع الطريق، أو البغاة ونحوهم، أو المقاتلين في فتنة، أما إن جعله فيمن يقاتل به في الصيد كأن يقول: وقف على أولادي يصيدون بها فهذا يعتبر وقفاً على الأولاد، ومنفعته خاصة، وهو كما لو قال: هذه الدار وقف على أولادي للسكنى.(64/20)
جواز إشراك الذين أوقف عليهم غيرهم في منفعة الوقف
السؤال
إذا أوقفت منزلاً على آل فلان، فهل يجوز لهم إسكان غيرهم معهم، مع أنهم راضون جميعاً؟
الجواب
إذا كانوا راضين فلا بأس، فإذا حدد وقال: وقف على أولاد أخي، ثم تزوجت أخت لهم وماتت ولها أولاد وأسكنوا أولاد أختهم معهم برضاهم فلا حرج.(64/21)
الوقف لا يرجع إلى من أوقفه
السؤال
ما حكم من يقول: هذا وقف على الفقراء أو على مسجد كذا، فإن استغني عنه فيرجع لولدي، فهل هذا الشرط صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح، لا يرجع الوقف على الميت ولا على أولاده، بل إذا قال: وقف على ذلك المسجد، ثم استغنى المسجد، نقل إلى مسجد آخر، فإذا قال: وقف على حاجة أولاد أخي واستغنوا ولم يكن لهم حاجة صرف على أولاد قريب له آخر، وأما كونه يرجع إليه فلا يجوز.(64/22)
وقف الأسهم التجارية
السؤال
هل يجوز وقف الأسهم التجارية في الشركات، مع العلم أنها معرضة للخطر من الربح والخسارة؟
الجواب
نرى أنه لا بأس بذلك؛ لأن فيها غالباً غلة، فإذا قال: أسهمي في شركة كذا وقف، فهو يريد بذلك غلتها؛ لأنها في كل سنة يخرج لها غلة، فيقول: وقف على المساجد، أو وقف على الغزاة ونحوهم، أو وقف على الفقراء والمساكين، أو وقف على طبع الكتب والمصاحف، فكلما أخذت أرباحها في سنة صرفت حالاً في ذلك الشيء، فإن قدر أنها خسرت أو كسدت أو لم تربح في سنة من السنين فلا شيء عليه.(64/23)
حكم بناء مسجد في أرض مسبلة للسقاية
السؤال
يوجد في قريتنا قطعة أرض مسبلة بسقاية ماء، وبعد فترة جاء رجل وبنى في هذه الأرض مسجداً، فهل تعتبر أرضاً مغصوبة، وهل يجوز الصلاة في هذا المسجد؟
الجواب
أرى أنه لا بأس إذا كانت موقوفة مسبلة للسقاية، واستغني عن السقاية، وقد كانوا في الأزمنة القديمة يجعلون سقاية، وهي ما يُسمى بالجوابي، والجابية هي مجمع الماء، وقد يكون طولها خمسة أمتار أو أربعة، وعرضها قريباً من ذلك، ويجعلونها مسبلة تردها الدواب من إبل وبقر وأغنام، فيملئونها بالماء، ثم قد يقال إن في هذه الأزمنة قد استغني عنها، فأهل الأغنام ونحوهم يأخذون المياه لها في الوايتات والأحواض، ويجلبون الماء إليها وهي في البرية، فلا يوجد الآن حاجة إلى جعلها، ففي هذه الحال لما استغني عنها وبني مكانها مسجد فلا يعتبر مغصوباً، بل الأجر باقٍ، وهو أولى من تعطيلها.(64/24)
تعطيل الوقف
السؤال
رجل أوقف ثلاجة على طلبة العلم، فإذا خربت فهل على الناظر إصلاحها أم على من يستخدمها؟
الجواب
الواجب الحرص على عمارتها؛ حتى يستمر نفعها على طلبة العلم، ولكن إذا خربت ولم يكن في الإمكان عمارتها فلا حرج على الناظر.(64/25)
من أوقف وقفاً فليس له المنازعة فيه
السؤال
رجل أوقف أرضاً لإصلاح بئر للشرب، وبعدما أصلحت هذه البئر صار ينازعهم كل يوم يريد أن يسقي زرعه ويزرع عليها، فهل يجوز لنا منعه من ذلك، علماً أن هناك الكثير ممن يجاورون البئر، وتسبب لنا مشاكل معهم أفيدونا مأجورين؟
الجواب
ليس له حق، بل تبقى على ما وقفت عليه، فإن سقي زرعه شيء خاص يخصه، وهي وقفت على الأمر العام، فلا يجوز له المنازعة، والأولى في هذه الحال أن يتدخل القضاة، وأن يأخذوا على يد الظالم، ويردوه إلى الحق، ويبينوا له أن العمل بشرط الواقف لازم إذا لم يكن هناك محذور، وأنه لا حق له في أن يسقي زرعه، ويعطل المصالح الأخرى.(64/26)
حكم وقف أرباح الأموال المودعة في البنوك
السؤال
هل من الممكن أخذ الأموال التي تخرج أرباحاً من البنوك وجعلها وقفاً للفقراء؟
الجواب
نرى أن الأرباح التي في البنوك كسب حرام، ولكن لا يجوز لصاحب المال أن يتملكها، ولا يجوز له أن يؤكلهم ذلك الربا، فلا يأكله ولا يؤكلهم، لأن في الحديث (لعن الله آكل الربا وموكله) وإنما يتخلص منه، والتخلص هو أن يحيل عليه من ينتفع به، فلا يأخذه وإنما يحيل عليه أحد الفقراء أو المساكين، أو يحيل عليه من يأخذه إلى مسجد ليُعمر به أو نحو ذلك، وإذا أخذ من البنك ولم يأكله المالك ولم يأكله البنك فهو مال طاهر كالأموال التي تغنم من المشركين ولو كانت حراماً، فتحل باغتنام المسلمين لها، ولو كانت ثمن خمر، وكان عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على بعض النصارى، ولم يكن عندهم أموال إلا الخمور، فكان يقول: (ولوهم بيعها، وخذوا الجزية من أثمانها، فإذا باعوها وأعطوكم من أثمانها الجزية فخذوها فهي لكم) فكذلك هذه الأموال إذا أخذت طهرت، فلا يأكلها المالك ولا يأكلها البنك، فتكون بعد ذلك كأموال الغنائم، يجوز أن يُبنى بها مساجد أو غيرها، أو تجعل في أوقاف تكون غلتها للمسلمين أو ما أشبه ذلك.(64/27)
التصرف في غلة الوقف الزائدة
السؤال
رجل أوصى بثلث ماله في أضحية، وغلته تزيد عن قيمة الأضحية، فهل للورثة أن يقتسموا الزيادة؟
الجواب
إذا زادت الغلة عن الأضحية يفضل أنها تصرف في المصالح الأخرى، يعني: أن الثلث قد يزيد على ما عين له، فإذا قال: أوصي بثلثي صدقة تخرج منه أضحية، ثم جعل الثلث في دكان، وأجرة الدكان عشرة آلاف سنوياً، وقيمة الأضحية -مثلاً- ألف، فالتسعة الباقية لابد أنها صدقة، وأنه قصد بها الأجر، فللوكيل الناظر أن يصرفها في وجه آخر من وجوه الخير.(64/28)
حكم بيع الوقف لسداد الواقف
السؤال
إذا أوقف رجل لأولاده بيتاً ثم توفي، ووجد أن عليه ديناً، فهل يسدد الدين من البيت الموقوف أم لا؟
الجواب
يُسدد الدين من الغلة، وأما البيت فلا يباع إلا بإذن الحاكم.(64/29)
حكم الوقف للذكور دون الإناث
السؤال
أوقفت جدة جدي وقفاً، ونصت أن ثمرة الوقف لذريتها الذكور دون الإناث، وأُخبرنا أن هذا لا يجوز، فلماذا؟
الجواب
كأن فيه حيفاً ومحاباة وظلماً للإناث، وهذا هو ما يسمى بالتوليج، يعني: كأنها تولج المال للذكور دون الإناث، هذا هو السبب، وعلى كل حال الوصية لا يُعمل بها إلا بعد الموت، ولا يعمل فيها إلا بأمر الشرع.(64/30)
حكم أخذ الناظر من مال الوقف
السؤال
أوقف أبي وقفاً عاماً لجدي، وقد توفي والدي رحمه الله وعهد إلي بالوقف، وهو عبارة عن بيت مؤجر، وسؤالي: هل يجوز لي الأخذ من ريع الوقف وصرفه في أمور البيت وحاجاته من الطعام واللباس وشراء المركب أو إصلاحه إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاجها البيت، علماً بأني قد أحتاج أحياناً لريع الوقف، وهل يجوز لي سداد ديني من هذا الريع، أفتونا مأجورين؟
الجواب
يجوز ذلك، فتبدأ بما أوصاك به سواءً الجد أو الأب فيما عينه كأضحية أو حجة أو ما كانوا يوصون به قديماً، وقد كانوا قديماً يوصون بأشياء الغالب أنها قد انقرضت، فيوصي أحدهم -مثلاً- بدلو أو ما يُسمى بالركية يعني: البئر، وهذا قد انقطع، أو يوصي بسراج للمسجد، وهذا أيضاً قد انقطع، أو يوصي بقرب كسقاية للناس، ففي هذه الحال يمكن أن يجعل بدل القرب ما يسمى بالبرادات؛ لأنها تقوم مقامها، فالحاصل: أنه إذا نفذ ما أوصي به وزاد هناك شيء وهو محتاج فله أن ينفقه على بيته، إما لأجل أنه ناظر على هذا الوقف، والناظر له أن يأخذ منه بقدر عمله، وإما لأنه ولد ذلك الواقف أو ولد ولده، فله حق فيه، وله أن يقضي دينه من الزائد أو نحوه.(64/31)
وقف النخل هل يشتمل الأرض التي هي فيها
السؤال
إذا أوقف رجل نخلة أو نخلات فتعطل الوقف بموتها، فهل يشمل وقف الأرض أم أن الوقف خاص بالنخلة، فإذا ماتت انتهى الوقف؟
الجواب
إن نص صاحب الوقف على أنها لا تبدل فإنه يختص بالنخلة، وأما إذا سكت، وقال: هذه النخلة أو هذه النخلات وقف، فإذا ماتت أو سقطت فعليهم أن يغرسوا في مكانها أخرى، أو قريباً منها، فإن الأرض تتبع النخلة التي غرست فيها.(64/32)
لا يكون الوقف إلا فيما يبقى
السؤال
رجل يملك مزرعة وبها مضخة ماء، وهي ليست وقفاً، وتعطلت المضخة وهو لا يملك مالاً لإصلاحها، وأعطيته مالاً لإصلاحها بنية أنه وقف لله، فهل يعتبر هذا المال صدقة أم وقفاً؟
الجواب
يعتبر صدقة؛ لأن الوقف هو الذي يبقى، أما هذا فإنه يشتري به -مثلاً- محروقات، أو يشتري به زيتاً، أو يشتري به ما يسمى بالديزل، فهذا يُعتبر صدقة.(64/33)
حكم الوقف للمخالف في الدين
السؤال
مر معنا أنه يصح الوقف من مسلم على ذمي وعكسه، وفي آخر الفصل يقول: وعلى قرابته أو أهل بيته، إلى أن قال: لا على مخالف دينه، فكيف التوفيق بين ذلك؟
الجواب
المخالف للدين، يعني: إذا قال: على أولادي أو أقاربي أو أنسابي أو قومي أو أهل بيتي فلا يدخل فيهم المخالف للدين، وأما إذا كان له قريب وخصصه، فقال: غلة هذا البيت لقريبي فلان الذي هو ذمي، كما وقفت صفية، فالتخصيص يستثنى من المخالف للدين.(64/34)
المقصود بالبنين في قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)
السؤال
هل المقصود في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] الأبناء الذكور أم تشمل الذكور والإناث؟
الجواب
الظاهر أنها خاصة بالذكور، وذلك لأنهم يفتخرون بالذكور، ولذلك قال تعالى في آية أخرى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14] ولم يقل: البنات، فإنما كانوا يفتخرون بالبنين.(64/35)
الحجر على من يستخدم الوقف أو الهدية في المحرم
السؤال
وهبت لأخي سيارة هدية، ولكنه أصبح بعد ذلك قليل المكوث في البيت، وقد يذهب إلى أصدقاء السوء، وأنا أخشى عليه من الانحراف، فهل يجوز لي أن آخذ السيارة ولو على وجه التهديد له حتى يقلل من خروجه من البيت، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
في هذه الحال يُحجر عليه، ويمنع إذا أصبحت هذه السيارة سبباً لفساده وكثرة غيابه، واتصاله بمن يُفسد عليه أخلاقه، فلأخيه أو لأبيه أو لأحد أقاربه الذين لهم ولاية عليه أن يمنعوه، وأن يحولوا بينه وبين ذلك، وأن يأخذوا هذه السيارة، فإما أن يبيعوها ويصرفوا ثمنها له في شيء آخر، وإما أن ينفقوا بها عليه إلى أن يعقل، ويتغير عن حالته هذه.(64/36)
يوزع الوقف كما يريد الواقف
السؤال
بعض الواقفين يجعل ريع الوقف في الأضاحي، والباقي يوزع على الورثة بالتساوي، فهل هذا جائز، أم يقسم الباقي حسب القسمة الشرعية؟
الجواب
يعمل بوصية الواقف، فإذا أخرجت الأضحية وقال: الباقي للورثة بقدر إرثهم، فللذكر مثل حظ الإنثيين، وإذا قال: بالتساوي فيسوى بين الذكر والأنثى، وإذا قال: الباقي للورثة وسكت فيصح أن يُسمى إرثاً.(64/37)
الوفاء بالوعد المعلق
السؤال
اختلفت أنا وأحد الإخوة على ناقة هل هي لقحة أم لا، وقلت له: إن كانت لقحة فما في بطنها فهو لك، تأكيداً مني على أنها غير ذلك، فأنتجت فهل يلزمني أن أعطيه ما أنتجت؟
الجواب
في هذه الحال يكون وعداً، والمسلم يفي بما وعد، فإذا قال: إن كانت هذه الناقة حاملاً فولدها لك، فصارت حاملاً فولدت فعليه أن يفي بما وعده.(64/38)
الشفاعة في تارك الصلاة
السؤال
ما هو رد العلماء الذين يرون تكفير تارك الصلاة تهاوناً على أحاديث الشفاعة، وحديث صاحب البطاقة، وأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان؟
الجواب
معلوم في أحاديث الشفاعة أنه لا يشفع إلا في أهل التوحيد، أهل (لا إله إلا الله) وأنهم يعرفونهم بأثر السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون، فدل على أن من لا يصلي لا يُعرف فلا تناله شفاعتهم، وكذلك حديث البطاقة معلوم أن هذه البطاقة التي فيها الشهادتان حصلت من مؤمن موقن مصدق بها تصديقاً يقينياً، وهذا التصديق لا شك أنه يحمله على العمل بحقها، لقوله في الحديث: (إلا بحقها) فيكون بذلك من أهل (لا إله إلا الله) ومن العاملين بها، ومن العمل بها أداء الصلاة.(64/39)
هدايا المسئولين
السؤال
ما حكم الهبة لأجل مصلحة، مثل أن يُعطي الموظف للمدير هدية؟
الجواب
ورد في حديث: (هدايا العمال غلول) ، فإذا كان يقصد في هذه الهدية منفعة عاجلة فلا يجوز، ولا يجوز للمهدى إليه قبولها إذا خاف أنها تحمله على أن يفعل منكراً، أو يترك واجباً، أو ما أشبه ذلك.(64/40)
بيان متى يستقر المسافر ويكون له حكم المقيم
السؤال
قدمنا من الكويت لحضور دروس هذه الدورة، فهل نعتبر مسافرين، وهل تسقط عنا السنن الرواتب؟
الجواب
من استقر في سكن مفروش مهيأ مكيف منور فلا يقال إنه مسافر، بل له حكم المقيم، ولو ما أقام إلا يوماً أو يومين، ومن لم يستقر وبقي في سيارته يتجول فيها، أو سكن خارج البلد في خيمة أو تحت شجرة فله حكم المسافر ولو طالت مدته.(64/41)
الزنا أشد من حلق اللحية وكلاهما معصية
السؤال
يقال: إنك تفتي أن حلق اللحية أشد من الزنا، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ما ذكرت ذلك، ولا أتذكر أني أفتيت بذلك، ولا شك أن الزنا أقبح وأشد؛ لأن الله رتب عليه عقوبة وحداً زاجراً، وحداً شديداً وهو الرجم أو الجلد والتغريب، فلا يقال: إن حلق اللحى أشد منه، وفي كل حال كلاهما معصية.(64/42)
وصية لمن خاف على نفسه الانتكاسة
السؤال
أنا شاب مستقيم بحمد الله، ولكنني لا أستطيع الموازنة بين الأعمال، فأحياناً أنشط للصيام فأصوم كثيراً، وأحياناً للصدقة ولغيرها، ثم يقول: أخشى أن أصاب بالانتكاسة، فأسألك يا شيخ الدعاء لي، وبماذا توجهني؟
الجواب
نوصيك بمواصلة الأعمال الصالحة، والحرص على الإكثار من النوافل وملازمتها، وإذا كسلت أحياناً وعجزت عن الصيام أو عن الصدقة، أو كسلت وفاتتك سنة من السنن قبلية أو بعدية كالرواتب فلا لوم عليك؛ لأنك تركت مستحباً، ولا يقال: إن هذه انتكاسة.(64/43)
من خاف خروج وقت الصلاة فليصل على أي حال تيسر له
السؤال
كنا في حافلة في أيام الحج، وكنا في وسط الزحام، وحان وقت صلاة الفجر ولم نستطع التوقف، وبدأ الوقت بالخروج ثم اتضح النور، فحينما توقفنا نزلت وصليت، فما حكم صلاتي هذه، وهل كان يجوز لي أن أصلي وأنا جالس في الحافلة، وما الحكم إذا كنت على غير وضوء، وما الحكم أيضاً في القبلة إذا لم نكن عليها، أفتونا مأجورين؟
الجواب
نقول: إن الذين في الحافلة كان بإمكانهم أن يقفوا إذا حان الوقت في زاوية من الطريق ويصلوا الصلاة في وقتها، فإن كان معهم ماء وإلا تيمموا، فإذا قدر أنهم لم يستطيعوا بأن كان الطريق ضيقاً كما في حالة الانصراف من عرفة إلى مزدلفة، أو أنهم لا يتمكنون لوجود سيارات عن اليمين وعن الشمال، فإذا خافوا أن يخرج الوقت صلوا، فإن قدروا على أن يصلوا قياماً بين الكراسي فعلوا ذلك، وإن لم يقدروا صلوا على الكراسي ولو بالإيماء بالركوع والسجود، وإن قدروا على طهارة توضئوا وتطهروا أو تيمموا، وإن عجزوا فعلوا ما يستطيعونه ولو أن يتيمموا على كراسيهم.(64/44)
يكون للواقف أجر ولو شاركه غيره فيه
السؤال
هذا أخ يقول: أشهد الله سبحانه وتعالى أني أحبك فيه، وأسأله أن ينفعني والحاضرين بعلمك إنه ولي ذلك والقادر عليه، فضيلة الشيخ! كان لدي بعض الكتيبات قمت بطباعتها، ثم جاءني بعض الإخوة يرغبون بشرائها، فقلت لهم: أبيعكم إياها بنصف قيمة الطباعة على أن تكون وقفاً لله تعالى، وتوزع مجاناً فوافقوا على ذلك، فهل يكتب لي وقفها وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لك أجر على طبعها ونشرها، ونستحب لك أن تطبع بثمنها مثلها؛ لأنك نويت إخراجها من ماليتك، فثمنها الذي بعتها به -ولو اشترطت على الذين اشتروها أنهم يوقفونها- ننصحك بأن تشتري مثلها، أو تطبع مثلها، وتكون وقفاً.(64/45)
أنواع الهبة
السؤال
كيف الجمع بين حديث: (الرجل أحق بهديته ما لم يثب عليها) وبين حديث: (العائد في هبته كالكلب) أفتونا مأجورين؟
الجواب
ذكرنا أن الهبة نوعان: هبة تبرر، وهبة ثواب، فالذي أحق بهبته هو الذي شرط عوضاً، وتُسمى هبة الثواب، فهو أحق بها ما لم يثب عليها، وأما إذا كانت هبة تبرر فإنه لا يجوز له الرجوع فيها.(64/46)
حكم حجز الأماكن في المسجد
السؤال
ما حكم حجز المكان في المسجد بكتاب أو بمفتاح أو بشيء آخر، سواء كان هذا المكان من صفوف الصلاة أو من صفوف طلب العلم عند المشايخ، نرجو التفصيل بارك الله فيكم؟
الجواب
إذا كان الذي حجز هذا المكان قريباً، يعني: ذهب لقضاء حاجة، أو لتجديد وضوء فله ذلك، أو كان في المسجد جالساً متكئاً على سارية يقرأ أو يذاكر أو يتعلم جاز له أن يحجز مكاناً سواء للصلاة أو لطلب العلم، وقد ورد فيه حديث: (إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) ، وأما إذا حجز المكان وذهب لينام أو ذهب ليتجول في الأسواق لغير حاجة، أو ذهب إلى محل تجارته أو حرفته أو ما أشبه ذلك فلا يجوز، ولا يحق له الحجز والحال هذه.(64/47)
حكم الهدية إلى المعلم أو الشيخ
السؤال
هل يجوز للطالب أن يقدم لأحد أساتذته ومشايخه هدية أو هبة، علماً أن هؤلاء قد أحسنوا إليه بالتعليم والتربية، أفتونا مأجورين؛ لأن بعض الإخوة قد قال بعدم جواز ذلك؛ لأنه يدخل في الرشوة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الممنوع أن الأستاذ والمدرس يأخذ الهدية من الطالب إذا خاف أنه يميل معه، أي: أنه إذا أهدى إليك مالت نفسك معه، فتقدمه على غيره، وتتغاضى عن هفواته، وتجبر نفسه، وتزيد في درجاته، وتتساهل في التصحيح معه وما أشبه ذلك مما تفضله به على غيره، ففي هذه الحال لا يحق للمدرس أن يقبل من هذا، ولو أنه قد أحسن إليه، ولا يحق للطالب أن يهدي له وهذا غرضه.
وأما إذا كان قد انتهى من الدراسة، وانتهى من هذه المدرسة، ونجح منها وعزم على أن ينتقل إلى جامعة أو إلى مدرسة أخرى فلا مانع من أن يهدي إليهم هدايا مكافأة لهم، وأن يستضيفهم ويكرمهم أو يهديهم كتباً، أو يهديهم أقلاماً ثمينة، أو ساعات، أو حقائب، أو كسوة، أو ما أشبه ذلك، وهذا من باب رد الجميل، يعني: رأى منهم حسن معاملة معه ومع غيره، فأراد مكافأتهم.(64/48)
حكم هبة ما لا يجوز بيعه
السؤال
ذكر الماتن أنه تصح هبة كل ما يصح بيعه، فهل تصح هبة ما لا يجوز بيعه ككلب الصيد وغيره؟
الجواب
لما كان صاحبه الذي يمسكه أولى بنفعه، فالصحيح أنه تجوز هبته، ولكن لا يطلب مكافأة على الصحيح، ومع ذلك إن كافأه جاز، ومما لا يصح بيعه وتجوز هبته أو المكافأة عليه عسب الفحل، فإنه لا يجوز بيعه، لحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع عسب الفحل) ، والمراد ضرابه، فإذا كان عند إنسان ثور أو تيس معد للضراب والنزوان على الإناث وطلبه إنسان لينزو على الإناث عنده كبقر أو معز أو نحوه، فلا يجوز أن يشرط ويقول: أعطيكه على أن تعطيني عنه مائة أو ألفاً أو نحو ذلك، لكن له أن يكافئه بعدما ينتهي من الضراب، ويقولون: إنه يحصل منه هزال وضعف بعد ذلك، فله أن يرد الجميل، وأن يعطيه مكافأة بدون شرط.(64/49)
حكم المطالب بالدين بعد إسقاطه إذا لم يقبل المدين الإسقاط
السؤال
إذا رفض المدين أن يقبل إسقاط الدين عنه، وأصر على إرجاع الدين، فهل يحق للدائن أن يطالبه بعد حين به؟
الجواب
لا يطالبه، وكثير من المدينين لا يحب منّة الدائن، فإذا قال: أسقطت عنك الدين الذي في ذمتك، فقال: لا أقبل؛ لأني لا أتحمل منتك، بل سوف أقضيك، فإذا قال: إني قد أسقطته، قال: لا أقبل صدقتك ولا إسقاطك، فالدائن لا يطالبه، ولكن لو رده جاز قبوله، فإذا رده إليك جاز أن تقبله، لأنك لما وهبته ولم يقل: قبلت، لم يخرج عن ملكيتك.(64/50)
حكم مكافأة أحد الأولاد دون إخوته على عمل ما
السؤال
هل يجوز أن يكافئ الوالد ولده إذا نجح في الدراسة تفضيلاً على إخوته، أو إذا حفظ القرآن مثلاً؟
الجواب
يجوز ذلك تشجيعاً له، فإنه يجوز للأب أن يقول لأولاده: من حفظ منكم جزءاً فإني أكافئه أو أعطيه ساعة مثلاً، أو قلماً ثميناً، أو حقيبة جديدة، تشجيعاً لهم، أو من نجح منكم أعطيته مكافأة على جده ونشاطه كذا وكذا، مكافأة له، ففي هذه الحالة يجوز ذلك، ويكون بذلك قد حثهم على المنافسة، ولا يكون هذا تفضيلاً.(64/51)
حكم الأخذ من الميراث مقابل عمل من الأعمال
السؤال
رجل كان لوالده مزرعة كبيرة، وكان هو يقوم عليها، وكذلك كان يقوم بالإنفاق على والديه وأخواته، وقرب موت والده قام بكتب هذه المزرعة له، ولم يعط إخوانه منها إلا شيئاً يسيراً، فهل هذا العمل صحيح، وإذا كان غير صحيح فما هو العمل، أفتونا مأجورين؟
الجواب
كان عليهم أن يكافئوه على جهده وعلى نشاطه وعلى حفظه لهذه المزرعة في حياة أبيه، بأن يجعلوا له نصيباً منها، كربع أو خمس مقابل تعبه؛ لأنه وقف نفسه عليها هذه المدة، ولكن حيث لم يتأكد من ذلك ولم يتثبت من أبيه ولم يفرض له أبوه شيئاً، وبخل إخوته أن يكافئوه فإنهم يعتبرون آثمين إذا لم يرض، وإذا رضي عنهم وسامحهم فلا إثم.(64/52)
حكم تملك الابن الكافر من مال أبيه المسلم
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أن من شروط تملك الابن لملك أبيه ألا يكون الابن مسلماً والأب كافراً، فلو كان العكس الابن كافراً والأب مسلماً فهل هذا يصح، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: يتصور هذا فيما إذا كانا كافرين فأسلم الأب وبقي الابن على كفره، بأن كان من أهل الذمة، ففي هذه الحال الإسلام فرق بينهما، فلا يتوارثان، وأما الأخذ فعلى القاعدة أن الإسلام فرق بينهما فليس للأب أن يتملك من مال ولده؛ وذلك لأنه لا ولاية له عليه، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ، هذا مقتضى القاعدة.(64/53)
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن والسنة النبوية؟
الجواب
يجوز ذلك، وأما حديث سلمان فإنه كان متبرعاً في تعليمه ذلك المهاجر، وكان ذلك المهاجر أيضاً فقيراً، فكره له أن يبطل أجره بأخذ ذلك القوس، وإلا فقد ورد: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) فيجوز أن يأخذ على تعليم القرآن وعلى تعليم السنة أجراً.(64/54)
بعض الأسباب المعينة على الاستقامة
السؤال
أنا شاب في بداية طريقي إلى الهداية والاستقامة، فكيف أقوي إيماني وأثبت على هدايتي ولا أفتر؟ وكيف أكون في ذمة الله، أفتونا مأجورين؟
الجواب
نوصي الشباب المستقيمين أن يحرصوا على أسباب الاستقامة، فمن الأسباب التي تثبتهم وتقوي إيمانهم تعلم العلم النافع، ومن من الأسباب أيضاً كثرة الأعمال الصالحة، ولكن بقدر الجهد، يعني: يتقرب إلى الله بالفرائض وبما يتيسر من النوافل، ومن الأسباب عدم تكليف النفس والمشقة عليها، كما في الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا) وكذلك أيضاً قد يكلف نفسه ويشق عليها بكثرة الصيام وبكثرة القيام وبكثرة العبادات وبالتقلل من الشهوة ومن المباحات ويكون بذلك متسبباً بأن تمل نفسه وتستثقل الطاعة، ويشبه مثل هذا بالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فعليه أن يرفق بنفسه وألا يكلفها فوق طاقتها، وعليه أيضاً أن يختار الصحبة الذين يثبتونه ويشجعونه.(64/55)
حكم الجوائز التي تؤخذ على المسابقات القرآنية والعلمية
السؤال
ما حكم الجوائز التي تؤخذ على المسابقات القرآنية والعلمية، وكيف يحكم فيها مع ما ذكر من الترهيب في أخذ مثل ذلك كما في حديث سلمان، وكيف نوفق بين ذلك وحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) أفتونا مأجورين؟
الجواب
الجوائز هذه تعتبر جوائز تشجيعية لمن سبق إلى كذا أو لمن فعل كذا، كأن يقال مثلاً: من حفظ القرآن كله يعطى جائزة تشجيعاً له وحثاً للآخرين، أو من حفظ من القرآن كذا فله كذا، وكذا من حفظ السنة، أو من حفظ الصحيح، أو من حفظ مائة حديث أو ألفاً فله جائزة كذا وكذا، فهذه جوائز مشروعة لأجل الحث على المسابقة، مع أن الفاعل يجب عليه الحرص على إخلاص النية، وأن الذي يحمله هو إرادة الثواب الأخروي، وإنما يأخذ هذا تقوية له، فلا يكون هذا هو الهدف.
كذلك أيضاً عندنا المسابقات التي ورد فيها الحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) فهذه أيضاً تشجيعية، والنصل هو الرمي، والحافر هو الفرس، والخف هو الإبل، فالمسابقة على هذه يجعل عليها سبق، والسبق هو الجعل الذي يجعل عليها، فيجعل الجعل على مثل هذه، وأما معنى الحديث فإنه يريد بذلك النهي عن الأشياء التي فيها قمار كالألعاب، وما يُسمى بـ (البلوت) أو الألعاب التي تلهي، ثم يأخذون عنها عوضاً، فهذا قمار، ولا يصح أخذه، وهذه لا تُسمى سبقاً، يعني: الجوائز، إنما تُسمى تشجيعية.(64/56)
الأم تعدل بين أولادها كالأب
السؤال
هل يجب على الأم أن تعدل كالأب في العطية بين أولادها؟
الجواب
الأم أحد الأبوين، فإذا كان عندها مال وعندها ملك فإنها تعدل بين أولادها، ولا تفضل إلا اذا كان هناك مبرر للتفضيل.(64/57)
الفرق بين الوصية والوقف
السؤال
إذا كان الفقهاء رحمهم الله يقولون: إن الوقف بعد الموت حكمه حكم الوصية، بمعنى: أنه ينظر هل يخرج من الثلث أم لا، فهل هو أيضاً حكمه حكم الوصية في إمكان الرجوع قبل الموت، أم أنه يلزم، ويبقى النظر في خروجه من الثلث فقط، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الوقف هو: إخراج شيء من ماله في حياته ليبقى وينتفع به مع بقاء عينه، بمعنى أنه قال: هذه الدار وقف، وغلتها تصرف على الفقراء أو على المساكين أو على الدعوة إلى الله، ثم في مرض موته قال: وهذه الدار أيضاً وقف، غلتها تصرف على المساجد أو على المجاهدين، فالدار الأولى نفذت؛ لأنها في حالة الصحة، والدار الثانية لا تنفذ؛ لأنها في حالة المرض، فإذا مات وخرجت من الثلث نفذت؛ لأنه أصبح جائز التصرف في الثلث، وإذا عاش وبرئ من ذلك المرض نفذت أيضاً، ولو كانت أكثر من الثلث؛ لأنه في حياته يصح له أن يتصرف، وأن يخرج من ماله ما يريد، ولو ماله كله.(64/58)
حكم دفع الرشوة إذا لم يخرج الحق إلا بدفعها
السؤال
إذا دفع شخص الرشوة لمسئول لكي يحصل على حق له شرعي كان سيضيع ويُعطى لمن لا يستحقه إن لم يدفع الرشوة، فما حكم ذلك، أفتونا مأجورين، فإن هذا أمر قد عمت فيه البلوى في بعض البلاد؟
الجواب
لا شك أنه رشوة، ولكن يمكن أن يكون السائل في بلاد لا تخرج منها الحقوق إلا برشوة، وإذا لم يدفعها بشيء فلا يخرج حقه بل يضيع عليه ويؤكل، ويعطى لغيره، أو يأخذه أولئك المستولون، فكأنه يشتري حقه الذي هو مستحق له، فأما إذا كان غيره أحق منه فلا يجوز له أن يدفع، صورة الحق الذي له: إذا كان له تركة عند ولي الأمر، وهذه التركة يؤخذ عليها ضرائب، وإذا لم يدفع تلك الضرائب استولي عليها ولم تخرج، ففي هذه الحال يخلصها ولو دفع هذه الضرائب، وكذلك لو كان له دين على إنسان، والقاضي أو الوالي لا يحكم له إلا إذا دفع له رشوة، وإلا فيعرف أن صاحبها الذي عليه الدين سيدفع رشوة، وإذا دفع رشوة قال القاضي أو الوالي لصاحب الحق: ليس لك حق، فهذا إذا كان عادة متبعة ففي هذه الحال يدفعها تخليصاً لحقه إذا لم يظهر لغيره.(64/59)
قضاء الأولاد دين أبيهم بعد موته
السؤال
إذا مات الأب وعليه دين فهل يلزم الأولاد بتسديد هذا الدين عن أبيهم، أفتونا مأجورين؟
الجواب
إذا كان له تركة وجب عليهم المبادرة بوفاء الدين عن أبيهم من تركته؛ لأن الميت معلق بدينه حتى يقضى، وأما إذا لم يكن له تركة وكان له أولاد عندهم مال فإن عليهم أن يوفوا عن أبيهم، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) فدل على أنهم قد عرفوا أن الدين حق لآدمي يقضيه ورثته، أو يقضيه أولاده إذا كانوا قادرين.(64/60)
حكم أخذ الجوائز والهدايا التجارية
السؤال
يحدث في الوقت الحالي عند دخولي إلى محطة الوقود أو ما أشبه ذلك، وعند تعبئة وقود السيارة بسعر معين يعطونني هدية فما حكم أخذ هذه الهدية، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه تعتبر دعايات من أصحاب هذه المحلات، ويقصدون بذلك أن يجلبوا الناس إليهم، فيجعلون مثل هذه الأشياء لتشتهر أماكنهم، أو شركاتهم، فيجعلون هذه الهدايا، فصاحب المحطة -مثلاً- يقول: إذا اشترى مني أحد بمائة أو مائتين فإني أعطيه كذا، ولا شك أنه يضر أصحاب المحطات الأخرى؛ لأن الناس يأتون إلى هذا، فيكون هذا ضرراً، فلا يجوز لك أن تقصده لأجل هذا التخفيض، أو لأجل هذه الهدية، كذلك أصحاب الورش يقولون لأصحاب السيارات الناقلة التي تسمى الونوش التي تنقل: إذا أتيتنا بسيارة خربة فلك جائزة كذا كلما أتيتنا، فهو يتجاوز أكثر من ورشة ويذهب إلى تلك الورشة التي تعطيه مائة أو خمسين، ولا شك أيضاً أنهم ضروا أصحاب الورش الأخرى، فيكون هذا أيضاً شبيهاً بأخذ الحرام؛ لما فيه من الضرر، وكذلك أصحاب المحلات الذي يقولون: من اشترى منا بكذا أعطيناه جائزة قد تصل هذه الجائزة إلى سيارة أو ما أشبهها، ففي هذه الحالة أيضاً يضرون أصحاب المحلات الأخرى، فلا يجوز ذلك والحالة هذه، ولا يحل لهم هذا، وإذا كنت تشتري منهم بكل حال، أو أوصلت لهم سيارتك لأنهم أقرب فلا بأس أن تأخذ هذه الجائزة، وأما قصدهم لأجل ذلك فإن فيه تشجيعهم على إضرار غيرهم.(64/61)
حكم صلاة المسبل ووضوئه
السؤال
انتشرت أوراق في بطلان صلاة ووضوء المسبل، فهل هذا صحيح؟
الجواب
إذا توضأ المسلم وضوءاً صحيحا ً سليماً وكذلك صلى صلاة كاملة فلا يجوز أن يقال: إن وضوءه باطل وصلاته باطلة، إنما تبطل فيما إذا أبطلها، والوضوء لا يبطله إلا الحدث والناقض، والصلاة لا يبطلها إلا ما يبطلها من النواقض والمبطلات.
فقد ورد في المسبل في سنن أبي داود، ولكن الحديث في إسناده مقال، وإن ذكره النووي في رياض الصالحين، وفي الحديث أنه قال له: (ارجع فأعد وضوءك مرتين، ثم قال: إنه مسبل، وإن الله لا يقبل صلاة مسبل) وهذا الحديث الذي في السنن فيه رجل ضعيف، وإن كان يروى حديثه للاعتبار، وبكل حال فالحديث لا يقبل بكل حال، وإذا صح فإنما هو زجر عن الإسبال.(64/62)
صيغة السلام على النبي في التشهد
السؤال
هل يقول المصلي في التشهد: السلام عليك أيها النبي! أم يقول: السلام على النبي، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الصحيح والمشهور أن يقول: السلام عليك أيها النبي! ولو لم يكن خطاباً، وذكر عن ابن مسعود رواية أنه قال: (كنا نقول: السلام عليك أيها النبي في حياته، أما بعد موته فنقول: السلام على النبي) ولكن هذا لم يكن مشهوراً، والصحابة كلهم كانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي!(64/63)
حكم الرجوع في العطية والوصية
السؤال
لم يتضح لي جواز الرجوع وعدمه في العطية والوصية، فهل لك أن توضح ذلك؟
الجواب
أما الرجوع في الوصية فالإنسان ما دام حياً فله أن يرجع عن وصيته، وله أن يرجع فيها؛ وذلك لأنها لا تلزم إلا بعد الموت، فلو قال: إذا مت فأعطوا زيداً مائة، ثم ندم وقال: لا تعطوه، فله ذلك، أو قال: إذا مت فأعطوا زيداً هذه الشاه، ثم قال: لا تعطوه؛ فالشاه لي وزيد لا حق له، فرجع فيها فيجوز له ذلك، فيجوز أن يرجع في وصيته.
وأما العطية فيجوز أن يرجع فيها قبل أن يقبلها صاحبها، أما إذا قال: قبلتها فإنها تثبت، وليس له أن يرجع فيها إذا قبلها صاحبها وقبضها، وأما قبل القبض وقبل القبول فله أن يرجع.(64/64)
بيان الواجب على ورثة من مات وعليه دين لا يُعرف صاحبه
السؤال
امرأة ماتت وعليها ديون كثيرة ولا يعرف أصحاب الديون، وقد أعلنوا في الصحف وغيرها مطالبين بأصحاب الديون لمراجعتهم فلم يحضر أحد، فما هو الحل؟
الجواب
على كل حال إما أن يسأل ورثتها عمن كانت تتعامل معه، فإذا عرف أصحاب المعاملة فالغالب أنهم يقولون: إن لفلان عليها كذا، ولفلان كذا وكذا، فمن عرفوا منهم أعطوه حقه، ومن جاءهم وقال: إن لي ديناً وأثبت ذلك بوثيقة أو ببينة أو حلف عليه فعليهم الوفاء.(64/65)
حكم بيع الولد من مال أبيه المجنون من أجل علاجه
السؤال
أبي يعاني من مرض الجنون منذ زمن طويل، وقد عالجته دون فائدة، وله أملاك، وأنا ابنه الوحيد، فهل يجوز لي أن أبيع من أملاكه عند حاجتي، علماً أنني لم أبع شيئاً رغم ظروفي القاسية التي أمر بها وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يجوز إذا لم تجد ما تعالجه به إلا من ماله كماشية أو عقار أو نحو ذلك، وإذا كان علاجه يخفف عنه هذا المرض أو يزيله برقية أو أدوية معروفة فلك أن تعالجه.(64/66)
دية قتل الخطأ تكون على العاقلة
السؤال
أحسن الله إليكم، رجل توفي في حادث، وتوفي معه شخصان، وليس له تركة، فهل يلزم أولاده بدفع دياتهم، مع العلم أن أولاده صغار ومحتاجون؟
الجواب
في هذه الحالة الدية تكون على العاقلة، فإذا كان القتل خطأ فالعاقلة تتحمل الدية، وتؤجل عليهم ثلاث سنين، كل سنة يدفعون ثلثها.(64/67)
حكم توكيل أحد الورثة على حفظ التركة وتنميتها
السؤال
نحن ثمانية إخوة وثلاث بنات، مع وجود الوالدة، وقد ترك لنا والدنا أملاكاً عقارية كثيرة، ومنذ وفاة الوالد منذ ثلاث سنوات لم يتم تصفية الإرث، لكن يتم توزيع الأرباح بالتساوي علينا، مع بقاء عين هذه الأملاك، علماً أني عينت من قبل بقية الإخوة وكيلاً على الورثة، فهل فعلنا هذا صحيح؟
الجواب
كان الواجب إذا طلبوا القسمة أن يقسم بينهم ويصفيها، فإن رضوا بالشراكة فيما بينهم ووكلوا أحد إخوتهم على أنه يتجر لهم أو ينمي أموالهم ويعطونه أجرته على تعبه وعلى تصفيته وعلى عمله وعلى جمعه للتركة فلهم ذلك، وما فعلوه لا بأس به إن شاء الله.(64/68)
الوصية لوارث لا تمنعه من أخذ فرضه المفروض له
السؤال
إذا سمح الورثة بالوصية لوارث، فهل يقتسم الباقي معهم بسهمه المفروض له؟
الجواب
نعم؛ لا يسقط حقه من الإرث، فإذا سمحوا بما خصه به فالباقي لهم جميعاً وهو معهم.(64/69)
حكم توكيل الورثة أحدهم ناظراً للوقف
السؤال
إذا لم يحدد الواقف ناظراً، واتفقت الورثة على أحدهم، فهل يجوز ذلك دون الرجوع إلى الحاكم؟ وهل للناظر أن يأخذ مقابل نظارته على الوقف؟
الجواب
لا بأس، والأصل أن الواقف يوكل واحداً عنده الأهلية، فإذا لم يوكل وكان له أولاد يجوز أن يُوكل واحداً منهم.(64/70)
الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت
السؤال
أشكل علي قولهم: لا يصح القبول قبل الموت، ويثبت الملك به بعد الموت؟
الجواب
يعني: قبول الوصية؛ لأنه إذا أوصى لزيد بشاة، ثم قال زيد: قبلت وهو حي، ثم إن الموصي رجع فيها، بطلت الوصية، أما إذا قال: قبلت بعد الموت ثبت الملك.(64/71)
حكم قسمة المورث تركته على ورثته قبل موته
السؤال
قد يقوم بعض الأشخاص بتوزيع ماله عند قرب أجله وفي مرضه على ورثته للرجل ضعف ما للأنثيين، فهل ما يفعله هذا الرجل سليماً؟
الجواب
إذا لم يضر أحداً من الورثة فلا بأس، فإذا لم يضر أبويه أو زوجته أو زوجاته وقسم بين أولاده وأعطى الذكر سهمين والأنثى سهماً فلا حرج في ذلك، كما لو أعطاهم وهو صحيح.(64/72)
حكم منع الورثة من الميراث إذا كانوا سيستخدمونه في الحرام
السؤال
إذا كان لي مال كثير وشركات كثيرة، وكان لي أبناء أخ وأبناء أخت، وخشيت أن يقوموا باستخدام أموالي في المحرمات والفسوق والمخدرات، فهل أحرمهم من الميراث؟
الجواب
الذين يرثون هم أولى بالأخذ إذا كان ليس له أقارب، أما أولاد الأخت فلا يرثون؛ لأنهم من ذوي الأرحام، وبكل حال لا يحرمهم حقهم، لكن في حياته له أن يتصدق وله أن يوقف، وله في حياته وفي صحته أن يعمر مساجد وقناطر وما أشبه ذلك، وأما بعد موته أو قرب موته فليس له أن يضرهم، ولكن مع ذلك ينصحهم ويربيهم التربية الصالحة، ويبين لهم تحريم ما يفعلونه من المخدرات ونحوها.(64/73)
تقدير الوصية عند عدم إمكان حصرها
السؤال
رجل أوصى بثلث ماله، وماله كثير جداً، فما استطاع الورثة أن يحصروا ثلث ماله، ولو أرادوا ذلك لاحتاجوا إلى سنين طويلة، ويكون في ذلك ضرر على الورثة، وتأخر في أخذ نصيبهم، فهل للورثة تقدير الثلث وذلك بوضع لجنة تقدر الثلث، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لهم ذلك، ولكن يحتاطون، فإذا قالوا: يمكن أن يكون الثلث عشرة ملايين ولكن نحتاط ونجعله خمسة عشر، والبقية لنا؛ حتى لا يتأخر إخراج الثلث، وإخراج حق الميت.(64/74)
حكم إجازة بعض الورثة الوصية لوارث دون بعض
السؤال
إن أجاز الوصية لوارث بعض الورثة دون البعض الآخر فما الحكم؟
الجواب
إذا أجازها بعضهم صحت في نصيبه، والذين لم يجيزوها لا تصح في نصيبهم، سواء كانت زيادة على الثلث أو وصية لوارث، فيؤخذ من نصيب الذين أجازوه وتقدر نسبتها.(64/75)
ماذا يعمل الموسوس في وضوئه
السؤال
أحياناً بعد الانتهاء من التبول والبدء بالوضوء أو عند الدخول في الصلاة أشعر بخروج قطرة من البول، وقد تأكدت من ذلك، فعند ذلك أقطع صلاتي إذا كنت في صلاة، وأذهب إلى إعادة وضوئي والصلاة، وأحياناً لا أعيد الصلاة ولا ألتفت لذلك، وقد أشغلني ذلك كثيراً، فما هو العمل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الغالب أن هذا إذا كان من الشباب أنه وسوسة وتخيلات، فننصح بعدم الالتفات إلى ذلك، فبعد التبول يستنجي بالماء، والعادة أنه ينقطع أثر البول، وعلامة أنه وسوسة: كونه لا يحس به في سائر أوقاته، وإنما يحس به إذا كان في الصلاة أو قرب الوضوء، أو ما أشبه ذلك، فيتخيل هذا، ثم إذا قدر أنه حقيقي اعتبر من سلس البول، وسلس البول عذر في أنه يصلي على حسب حاله ولو كان يتقاطر.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/76)
شرح أخصر المختصرات [65](65/1)
معنى قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى) الآية
السؤال
كيف يعطى من حضر القسمة؟ وما حكم تعمد الحضور لمثل هذا؟ وما مقدار العطية منه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
قد اختلف في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] حيث قيل: إنها منسوخة، وقيل: إنها على الاستحباب، ومعنى ذلك: أنه على الذين يقتسمون المال وحضرهم بعض أقاربهم من المستضعفين وذوي الحاجة أن يعطوهم رزقاً من ذلك المال، لا سيما إذا كان مطعوماً، مثل أن يقتسموا الطعام بالصاع تمراً أو حنطةً، أو نحو ذلك، أو يحضرهم أخ للميت أو ابن أخٍ من ذوي الحاجة، أو يأتيهم أحد من أقاربهم فيعطونه صاعاً أو صاعين أو ما أشبه ذلك.(65/2)
أقسام العصبات في الميراث
السؤال
ما الفرق بين التعصيب مع الغير، والتعصيب بالغير، والتعصيب بالنفس.
وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ذكروا أن العصبة ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير، فالعصبة بالنفس كلهم ذكور، أي: أن الإنسان يرث بنفسه، وهم الذكور: الابن، وابن الابن، والأب، والجد، والإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، والمعتق، فهؤلاء أحدهم يقرب نفسه، فهو الذي يرث، وهو الذي يعصب نفسه.
وأما العصبة بالغير ومع الغير فإنهن إناث، فالعصبة بالغير: البنت يعصبها أخوها، وبنت الابن يعصبها أخوها أو ابن عمها الذي في درجتها، والأخت الشقيقة يعصبها أخوها الشقيق، والأخت من الأب يعصبها الأخ من الأب إذا كان أبوهما واحداً.
ومعنى ذلك: أنه ينقلها من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب، فبدل أن كانت البنات يأخذن الثلثين، فإذا كان معهن أخوهن أو إخوتهن فلا يأخذن الثلثين، بل يقتسمون الباقي ولو كان أقل من الثلث، أو أقل من الثلثين أو نحو ذلك.
فمثلاً: ماتت امرأة عن زوج وأم وأب وثلاث بنات، فالبنات لهن الثلثان ولو عالت المسألة إلى ثلاثة عشر، ولو كان معهن أخوهن لها عالت المسألة، فبدل ما يأخذون ستة من ثلاثة عشر يأخذون خمسة من اثني عشر، ويرثون بالتعصيب ويُسمى بالنسبة للأخ تعصيباً بالنفس، ولأخواته البنات تعصيباً بالغير.
وأما التعصيب مع الغير فمثاله: الأخت إذا كانت مع البنت أو مع بنت الابن، أي: شقيقة الأخت أو أخت لأب فإنها ترث ما بقي من المال، ويُسمى هذا تعصيباً مع الغير.(65/3)
الخلاف في التوارث بالإسلام على اليد والالتقاط وكونهما من أهل الديوان
السؤال
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن من أسباب الإرث: الإسلام على اليد، والالتقاط، وكونهما من أهل الديوان، فما معنى هذا القيد؟ والله يرعاكم.
الجواب
هذه أدخلوها في المولى، وفيها خلاف قوي، يقول: إذا دعوت نصرانياً أو مجوسياً وأسلم على يدك، ثم مات وليس له وارث، وله أموال بحيث إنك أنت الذي تسببت في هدايته فتعتبر مولىً له فترثه على هذا القول؛ لأنه أسلم على يديك.
والقول الثاني: أن ماله لبيت المال.
وأما الالتقاط فمعنى ذلك: إذا وجد لقيط ليس له أب، كأولاد البغايا، فإذا ولدت البغي ألقت ولدها غالباً إما في مسجدٍ أو في زاوية في برية أو في غير ذلك، فإذا التقطه إنسان ورباه فإذا مات وله مال فهذا الذي التقطه ورباه أولى بماله، وقيل: ماله لبيت المال.
وأما كونهما من أهل الديوان، فالمراد أنهما كانا يجتمعان ويدونان اسميهما تحت مسمىً واحد، فيكون هذا دليلاً على أخوتهما وتُسمى هذه أخوةً بالمؤاخاة، يعني: اسمهما في ديوان واحد، والصحيح -وهو القول المشهور- أنهما لا يتوارثان.(65/4)
ذكر الخلاف في الرد على الزوج
السؤال
هل يجوز للمرأة أن توصي لزوجها بالنصف إذا لم يكن لها وارث إلا هو، وهل يكون هذا النصف نصف المال أو نصف المال بعد فرضه؛ فإني لم أتبين كيفية القسمة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا ماتت وليس لها وارث إلا الزوج فيأخذ نصف المال بالفرض، ويبقى النصف الآخر اختلف لمن يكون إذا لم يكن لها وراث غير زوجها؟ فأكثر العلماء يقولون: يصرف لأقاربها ولو كانوا بعيدون، ولو إلى الجد العاشر، ولو من القبيلة، أو لسيدها الذي أعتقها، فإذا لم يوجد لها أحدٌ قريب فقيل: إن النصف الباقي لبيت المال، وقيل: إنه يرد على الزوج، ويسمى هذا الرد كما أسماه كثير من العلماء: الرد على الزوجين، وأجازه بعضهم كـ شيخ الإسلام، فعلى هذا القول يأخذ المال كله فرضاً ورداً.(65/5)
إرث الأخ لأب مع الأخت الشقيقة
السؤال
هل الأخ من الأب يُعصب الأخت الشقيقة؟
الجواب
لا يعصبها.
بل هي أقوى منه وأقرب، ولا يرث إلا ما بقي بعد النصف، فإذا مات ميتٌ وله أخت شقيقة وأخ لأب، فالشقيقة تأخذ النصف كاملاً فرضاً، والباقي يأخذه الأخ من الأب تعصيباً، ولو قدرنا أنه ما بقي إلا قليل فليس له إلا ما بقي.
فإذا كان عندنا زوج وأخت شقيقة وأخ من الأب فالزوج له النصف، والشقيقة لها النصف، ويسقط الأخ من الأب؛ وذلك لاستغراق أصحاب الفروض جميع التركة.(65/6)
حكم مضارة الزوجة في الميراث
السؤال
رجلٌ قسم تركته بين أبنائه وهو حيٌ ولم يفرض لزوجته التي لا تزال على قيد الحياة، فما حكم عمله هذا؟
الجواب
نرى أن ترد القسمة، كما جاء في قصة غيلان الثقفي في عهد عمر لما طال عمره قسَّم أمواله في حياته على أولاده، وطلق نساءه؛ حتى لا يرثن، فجيء به إلى عمر فقال: (لتراجعن نساءك، ولتسترجعن أموالك، أو لأمرن بقبرك أن يرجم) .
أي: أنه ما فعل ذلك إلا ليحرم زوجاته.
فإذا كانت زوجته في ذمته فلا يحرمها من حقها لاسيما إذا كان كبيراً مترقباً للموت، فعليه أن يترك المال حتى يقسم قسمةً شرعية، أما فعله هذا فيعتبر ظلماً؛ لأنه ما قصد من ذلك إلا حرمان الزوجة.(65/7)
حكم تبيين الخاطب لأهل المرأة أنه مريض بالسكري
السؤال
رجلٌ مصاب بمرض السكري ويريد الزواج، فهل يجب عليه أن يخبر من يريد الزواج منهم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كان هذا المرض لا يعوقه عن الاستمتاع ولا يعوقه أيضاً عن الإنجاب فلا يلزمه الإخبار، أما إذا كان في التقارير أنه لا يحصل منه الإنجاب، أو لا يحصل منه كمال الاستمتاع فلابد أنه يبين أمره للزوجة.
وكذلك أيضاً ليس هو مرضاً وراثياً، أو أنه ينتقل ويعدي كما يقولون، بل هذا ليس بصحيح.(65/8)
حكم ضرب الطبل أو الدف للنساء في الأعراس
السؤال
تقام في بعض الأعراس عند النساء ما تسمى بضاربة الطبل أو الدف، فهل يجوز أن تذهب نساؤنا إلى مثل هذه الأعراس، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الضرب بالدف جائزٌ في الأعراس، وقد يكون مندوباً، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) ، وقال: (فرق ما بين النكاح والسفاح الضرب بالدف) ، ولعل السبب فيه إظهار الفرح والسرور.
وأما إذا كان معه طبول أو أصوات موسيقية أو أغانٍ ماجنة، أو تغنجٌ وأهازيج ونحو ذلك مما لا يحل، فننصح بعدم حضوره للنساء.(65/9)
الجمع بين حديث: (لا عدوى ولا طيرة) وحديث: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد)
السؤال
كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) وبين قوله: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد) ؟
الجواب
جمعوا بينهما بأن قوله: (لا عدوى ولا طيرة) ، نافٍ لما كانت العرب تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها، فإنهم كانوا يعتقدون أن المرض بطبيعته يعدي.
فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقل إلا بإذن الله، وقد جعل الله تعالى المخالطة سبباً، ولكن ليست سبباً أكيداً، فقد يحصل الاختلاط ومع ذلك لا تنتقل الأمراض، فنهى عن المخالطة، بألا يُورد ممرضٌ على مصح، فـ: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) مخافة أن يصيبه مرضٌ، فيعتقد صحة العدوى، وأنها كما يقول الجاهليون تعدي بطبيعتها.(65/10)
الحقوق المتعلقة بعين التركة، وبيان ما يُقدّم من حقوق الميت والنفقات
السؤال
أشكل عليَّ تمثيل الفقهاء رحمهم الله تعالى بالحقوق المتعلقة بعين التركة بأرش جناية العبد المتعلق برقبته، فآمل منكم توضيح ذلك؟
الجواب
إذا مات الميت وله تركة: فأولاً: يبدأ بتجهيز الميت، كأجرة الحفر، والغسل، وثمن الكفن والحنوط.
ثانياً: الحقوق المتعلقة بعين التركة.
مثاله: إذا رهن إنسان بيتاً بدين، فهو أحق به حتى يأخذ دينه، أو رهن سيفاً من التركة فهو أحق بثمنه، فإذا استوفى دينه فالبقية بين الورثة.
والفقهاء يمثلون بأرش الجناية على العبد؛ لأن الرق كان كثيراً في زمانهم.
مثال ذلك: إذا كان في التركة عبد مملوك، وهذا العبد قد شج إنساناً -أي: جرحه في رأسه- فقدر جرحه بخمسٍ من الإبل، وقطع إصبع إنسان آخر فقدر الإصبع بعشر من الإبل، فهذه تكون خمسة عشر، والتركة موجودة ومنها هذا العبد، فيقدم صاحب الشجة وصاحب الإصبع في قيمة العبد، فيباع العبد ويؤخذ منه أرش الشجة، وأرش الإصبع، مقدمة على بقية أصحاب الديون؛ لأن أرشهم تعلق برقبة هذا العبد، فهم أولى بثمنه، فإن أوفاهم ثمنه وإلا فهم في بقية المال مثل بقية الغرماء، وإذا قدرت الشجاج -مثلاً- بعشرين ألفاً، وقيمة العبد عشرة آلاف فتأخذ العشرة الآلاف والعشرة الباقية يرجعون فيها إلى بقية المال ويتحاصون مع الغرماء، أي: يقتسمون المال هم والغرماء، فإن أوفاهم وإلا فلا شيء لهم.(65/11)
المذي الذي ينقض الوضوء
السؤال
أحس أحياناً بخروج مذي قليل جداً بعد التفكير أو التقبيل لزوجتي، فهل ينقض الوضوء هذا المذي اليسير، مع العلم بأنه لا يخرج أحياناً إلا في أثناء الصلاة، وهل يلزمني إعادة تلك الصلاة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كنت لا تحس برطوبته على فخذيك أو في ثوبك فلا تقطع الصلاة، فمجرد الإحساس من غير أن تحس برطوبته خارجاً لا يضر، وقد يكون قطع الصلاة يشق عليك ويكلفك فلا حرج بأن تستمر في صلاتك.
وأما إذا تيقنت أنه خرج وأنت في الصلاة، وكان ذلك بسبب منك، أي: بسبب مداعبة أو تقبيل أو ضم أو نحو ذلك، فإنه يبطل الوضوء.(65/12)
من شروط التوبة إرجاع الحقوق إلى أصحابها
السؤال
رجلٌ سرق ثم تاب، وهو الآن يريد أن يرد ما سرقه إلى صاحبه، فهل يجوز له أن يرد من غير أن يعرف صاحب المال، أو ما الحل في ذلك؟
الجواب
لابد أن يرد المال إلى أصحابه الذين أُخذ منهم سرقةً أو اختلاساً أو نحو ذلك، فإن كان يعرفهم أوصله إليهم بأي وسيلة ولو بواسطة، بأن يعطيه ولد أحدهم ويقول: أعط هذا أباك فإنه من نصيبه، أو يعطيه أحد أصدقائه ويقول: أوصله إلى فلان فإنه مال له عندي أو ما أشبه ذلك، ولا تبرأ ذمته إلا بإيصاله، فإن جهلهم تصدق به عنهم.(65/13)
حكم بنت العمة من الرضاع
السؤال
ابنةٌ رضعت من عمتي، فهل يكون والدي خالٌ لها ويحق له السلام عليها، أفتونا مأجورين؟
الجواب
كلمة العمة عند العامة قد تطلق على زوجة الأب، فإن كان يريد زوجة أبيه اعتبرت أخته، أي: أن هذه التي رضعت من زوجة أبيه تكون قد رضعت من لبن أبيه فتكون أخته، فإذا كانت أخته كانت عمة أولاده.
أما إذا أراد أنها رضعت من عمته التي هي أخت أبيه، فإنها لا تحرم عليه، بل تكون ابنة عمته، وبنت عمته تحل له كابنة عمه، يحل له أن يتزوج بنت عمته كابنة عمه.(65/14)
حكم حبس الكتب الموقوفة
السؤال
نحصل أحياناً على بعض الكتب الموقوفة لله عز وجل، ولكن قد يمر عليها عدة سنوات ولم نقرأ فيها، فهل يجوز لنا أن نتركها حتى نحتاج إليها، أم يجب علينا إخراجها لمن يستفيد منها؟
الجواب
نظراً لكثرة الكتب وتيسرها في هذه الأزمنة وأصبحت متوفرةً في المكتبات الخيرية وفي المكتبات العامة، وكذلك المكتبات الخاصة، وأصبحت موقوفة، وكثر الذين يطبعونها ويوقفونها، نقول: إن وجدت من هو بحاجةٍ إلى هذه الكتب الموقوفة وسوف يقرأ فيها فلا تحبسها عندك، بل أعطها لمن يستفيدون منها، حيث إنك تذكر أنه قد يأتي عليك عدة سنوات ما فتشت فيها كتاباً.
فأما إذا كان الآخرون عندهم أمثالها فلا حرج أن تحبسها حتى تحتاج إليها ولو في العمر مرة.(65/15)
حكم البيع والشراء بجانب المسجد
السؤال
هل صحيح أنكم تحرمون البيع والشراء من الباعة الذين يبيعون خارج المسجد؟
الجواب
يحرم ذلك إذا أقيمت الصلاة أو تضايق الوقت، فيحرم أن يبيع أو أن يُبتاع منهم.
أما قبل الإقامة فلا يحرم ذلك.
ولكن على كل حال الواجب أنهم لا يشتغلون بعد الأذان، بل يتفرغون للصلاة، ولمقدمة الصلاة.(65/16)
اللقيط والدعي وولد الزنى لا يرثون
السؤال
توفي عمٌ لي وترك إرثاً، وكان له بنتٌ وزوجة وابنٌ غير شرعي، فهل لوالدي حقٌ في هذا الإرث؟
الجواب
كأنه يقول: إن هذا الابن إما أنه لقيط، أي: تبناه وإما أنه ولدٌ له من امرأة زنى بها.
وعلى كل حال لا يرث هذا اللقيط، ولا الدعي، ولا ابن المزني بها، لا يرث من الزاني، ففي هذه الحال يكون بقية المال بعد البنات وبعد الزوجة للعاصب الذي هو ابن العم أو العم، أو ابن الأخ، يعني: الأقرب من العصبة.(65/17)
بيان الوقت الذي يقسم فيه الإرث
السؤال
ما هو الأفضل: تقسيم الإرث حال وفاة الميت، أم إبقاؤه وصرف الأرباح السنوية على الورثة إذا كانت بعض هذه الأموال مؤجرة؟
الجواب
الأولى تقسيمه إذا طلبوا القسمة، لكن إذا كان هناك أطفالٌ قاصرون فنرى عدم التقسيم بينهم، بل يترك الذي لهم جميعاً عند وكيلهم ووليهم لينفق عليهم، وعليه مع ذلك أن يتصرف في مالهم ويتجر به حتى لا تأكله الصدقات والنفقات والزكاة.(65/18)
حكم منحة الوالد لبعض أولاده دون الآخرين
السؤال
قبل وفاة والدي منحني قطعة أرض مقابل خدمتي له، وقمت ببيعها على أحد إخوتي وتصرفت بثمنها، فهل تحق لي هذه المنحة من والدي، أفتونا مأجورين؟
الجواب
ذكر العلماء أنه لا يجوز للوالد أن يفضل أحد أولاده، لكن إذا فعل ذلك ومات قبل أن يسوي بينهم ثبتت واستقرت على ما هي عليه، وحيث إنه قد توفي وأنك قد تصرفت فيها قبل وفاته أو بعد وفاته فنرى أنها استقرت ملكاً لك.(65/19)
حكم تخصيص الذكور دون الإناث بشيء من الإرث
السؤال
منحنا والدنا قبل وفاته نحن الأولاد فللاً سكنية من دون البنات، فهل تحسب هذه المساكن ضمن الإرث بالتساوي مع البنات، أم تكون مستقلة عن حق الورثة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
كان الواجب على الوالد أن يسوي بين أولاده، فيعطي الإناث نصف ما يعطي الذكور من هذه المنح ونحوها، ولكن قد ذكرنا أنه يجوز التفضيل لمبرر ولسبب من الأسباب التي ذكرها العلماء.
وعلى كل حال وحيث إنه قد مات وقد تُصرف فيها أو قبضت فعلى ما ذكر الفقهاء أنها تثبت، ولا يرجعون فيها، وليس للإناث شيءٌ منها.(65/20)
حكم وجود شاهدين في الوصية
السؤال
هل يشترط في الوصية المكتوبة وجود شاهدين فيها، وإن وجدت وصية مكتوبة بدون شاهدين، فهل تمضى أم لا؟
الجواب
الأولى أن يكون عليها شاهدان، لكن إذا كانت بخط يده المعروف ووجدت في حقائبه أو في حفائظه عُمل بها إذا لم يأتِ ما ينسخها وإن لم يكن فيها شهود؛ إذا عرفوا أن هذا خطه.(65/21)
من هلك عن أب وأم وزوج وأخ لأم
السؤال
هلك هالك عن أبٍ وأم وزوجٍ وأخ لأم، هل تُعد المسألة عمرية؛ وذلك لسقوط الأخ لأم أم لا؛ وذلك لأنه يحجب الأم، نرجو الإيضاح والله يرعاكم؟
الجواب
إذا قلنا: إنه إذا وجد اثنان من الإخوة ولو كانوا لا يرثون فإنهم يحجبون الأم، فأخوان من أم، أو أخ وأخت من أم، أو أخ من أم وأخ من أب يحجبون الأم، سواء كانوا وارثين أو محجوبين بالأب.
ففي هذه الحال الجمهور على أنهم لا يرثون ويحجبون بالأب، ومع ذلك يحجبون الأم حجب نقصان.(65/22)
من هلك عن بنت وابن ابن
السؤال
إذا مات الميت عن بنتٍ وابن ابن، هل يأخذ ابن الابن السدس تكملة الثلثين، أم يأخذ الباقي تعصيباً، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يأخذ الباقي تعصيباً؛ لأنه لو لم يكن إلا هو فيأخذ المال كله، فالبنت تأخذ النصف لأنها أقرب، والباقي لأولى رجل ذكر، وهو أولى رجل ذكر.(65/23)
معنى قول الفرضيين: (من أدلى بأنثى)
السؤال
ذكرتم قولكم: (يدلون بأنثى) ، فما معنى هذا الكلام؟
الجواب
أي: أنها واسطتهم، فالإدلاء بمعنى التوسط.
فواسطة الإخوة من الأم، الأم؛ فهي التي قربتهم، ومع ذلك ورثوا، فقولهم: (أدلوا بأنثى) أي: توسطوا بها وورثوا، وبقية الذين يدلون بإناث لا يرثون إلا أم الأم، فالجدة أم الأم واسطتها الأم، ومع ذلك ترث، ولكنها تسقطها الأم.
مثلاً: أولاد الأخت، الأخت ترث وأولادها ذكوراً وإناثاً لا يرثون؛ لأن واسطتهم الأخت وهي أنثى، وكذلك أولاد البنت، ابن البنت وبنت البنت لا يرثون؛ لأن واسطتهم أنثى، فكل من كان واسطته أنثى لا يرث، إلا من استُثني.(65/24)
معنى قيام الحجة على الكافر
السؤال
هناك من يقول: إن الكفار من اليهود والنصارى والمجوس لا يستوجبون دخول النار بعد موتهم إلا إذا سمعوا القرآن أو السنة، أو شيئاً من الحجج العقلية، ولا يدخلون النار إلا بعد فهم الحجة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لله الحجة على خلقه، فليس هناك أحدٌ إلا وقد قامت عليه الحجة، سواء بالعقل أو بالنقل، ولا شك أن هؤلاء الكفار سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً أو وثنيين ونحوهم، كلهم قد قامت عليهم الحجة، إما ببعث الرسل إليهم وإما ببقايا دين الرسل قبلهم، فالذين قامت عليهم الحجة يعذبون إذا كفروا وأصروا، والذين لم تقم عليهم الحجة يمتحنون في الآخرة، والذين لم تبلغهم الشريعة كأهل الفترة يمتحنون في الآخرة، فمنهم من يمتثل عند الامتحان أمر الله فيكون من أهل الجنة، ومنهم من لا يمتثل فيعصي أمر الله فيكون من أهل النار.
وتجدون الأحاديث في ذلك في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] .(65/25)
قضاء ترديد الأذان بعد الانتهاء منه
السؤال
هل يجوز قضاء ترديد الأذان بعد الانتهاء، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ لأنه من باب التدارك، فإذا كان الإنسان مشغولاً ففات عليه شيءٌ من السنن فعليه أن يبادر بقضاء ما فاته، سواء قضاء الأذان أو قضاء السنن الرواتب إذا فاتت، أو ما أشبه ذلك.(65/26)
حكم قول: (شرفني الله بخدمتك)
السؤال
(شرفني الله بخدمتك) هذه اللفظة انتشرت، فما رأي فضيلتكم فيها؟
الجواب
كلمةٌ يستعملها ويتساهل فيها بعض الناس، ولا شك أنها قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة.
ولا شك أن خدمة أولياء الله والصالحين من عباده أنها فضيلة وفيها أجر، فمن شُرف بها فله أجر.
وأما خدمة من ليسوا مثلهم فليس فيها شرف، بل إما أن تكون عادية مباحة أو تكون محرمة.(65/27)
حكم زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم من النساء؟
الجواب
وردت الأدلة في تحريم زيارة النساء للقبور بما في ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، فالأصل أن النساء لا يزرن القبور؛ لئلا يدخلن في اللعن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) ، وهذا يدل على التحريم؛ لأن اللعن يدل على التحريم.(65/28)
نصيحة لمن لا يستطيع الزواج
السؤال
أنا شابٌ لا أسمع عن الزواج إلا وتزداد شهوتي حتى في الدروس العلمية، ولا أستطيع الزواج، حيث إنني ما زلت طالباً، ولا أستطيع النفقة على زوجتي، فبماذا تنصحونني مع أنني أصوم، ولكنه لا ينفع؟
الجواب
ننصحك بأن تكثر من الأعمال التي تضعف شهوتك، مثل الاحتراف، والعمل البدني، فغالباً أنه يكون له تأثير في إضعاف الشهوة، فإذا كان الإنسان يحترف يحفر يحرث يحمل أحمالاً ثقيلة يمشي مشياً طويلاً يجوع يظمأ فإن ذلك من أسباب إضعاف الشهوة.
ثم احرص على أن تعف نفسك بالنكاح الحلال، احرص على أنك تتكسب وتطلب من المال باحترافك وعملك بدنياً إلى أن تجد ما تتعفف به وما تدفعه صداقاً، حتى تزول عنك هذه الحدة.(65/29)
تحذير أولياء الأمور من الفتنة والتبرج عند النساء
السؤال
ما رأي فضيلتكم في أغلب الزواجات الآن واحتوائها على منكر عظيم، بل إنهم في زيادة، والله المستعان، والملاحظ يا شيخ! أن كثيراً من الشباب المستقيمين زوجاتهم على هذه الكيفية بالنسبة للبسها في الزواج وغيرها من المنكرات، ويقول واحد منهم: هذا عند النساء، وأنا لا شأن لي، مع أنه من المساعدين على هذا المنكر بضعف شخصيته وبماله الذي يدفعه، فهل من كلمة لهؤلاء؟
الجواب
الواجب هاهنا على النساء والرجال، فعلى الرجال أولياء الأمور الآباء والإخوة والأزواج أن يحرصوا على استقامة نسائهم، وعلى ردهن عن أسباب الشر والفساد، سواءٌ في اللباس أو في الأعمال الأخرى، فالرجل مسئولٌ عن زوجته وعن نسائه، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ، أي: أن الرجل قائم عليها، فلا يمكنها -مثلاً- من الخروج إلى الأماكن التي يكثر فيها الزحام واحتكاك الرجال بالنساء أو مقاربتهن، أو يكثر فيها وجود الشباب المنحرف الذين يحصل منهم غمزٌ أو معاكسة أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً الخروج إلى المنتديات أو الملاهي حتى لا يحصل شيءٌ من التبرج والسفور والعري ومشاهدة العراة، وما أشبه ذلك.
وأيضاً الأعمال البدنية، فالكثير من النساء اللاتي يعملن في وجوههن أعمالاً تلفت الأنظار، سواء من اللباس أو غيره، تعمل ما يسمى بالمكياج، أو تحمير الشفتين، أو توسعة فتحات النقاب، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً إظهارها لزينتها إذا كان عليها حليٌ، كأسورة في ذراعها، وقد تخرج ذراعها وساعدها وفيه خواتيم وأسورة، فإذا أبدته مع بياض أو حمرةٍ زائدة كان ذلك من الفتنة.
فلا شك أن الواجب على الأولياء أن يأخذوا على أيدي من تحت ولايتهم، كذلك أيضاً بالنسبة إلى الأمهات فعليهن مسئولية عن بناتهن ألا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وإذا اضطرت إلى أن تخرج خرجت محتشمة، متسترة؛ لئلا تكون سبباً في فتنة نفسها أو الافتتان بها.(65/30)
كيفية صفوف النساء في صلاة الجماعة
السؤال
تقول: يحضر دروس هذه الدورة كثير من النساء بحمد الله عز وجل، ولكن نلاحظ عليهن عدم الاهتمام بالصفوف أثناء الصلاة، فتصف كل اثنتين مع بعضهن، ويتركن مسافةً بين بعضهن، فهل من كلمة لهؤلاء؟ وهل على النساء أن يقفن في جهة واحدة من المسجد، أو يقفن في وسط المسجد خلف الإمام، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
صفوف النساء كصفوف الرجال، وكانوا يستحبون أن تصف المرأة أول ما تأتي في الصفوف المتأخرة لحديث: (خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، وكان السبب قربه من الرجال -قرب المقدم من صفوف الرجال- ولكن لوجود وصول الصوت مع وجود الحواجز المنيعة التي لا يحصل معها احتكاك أو اختلاط أو تقارب تصبح صفوف النساء أولها أفضلها، أي: المقدم.
فعليهن أن يبدأن بالصف المقدم، وأن يكون الصف من الوسط كصفوف الرجال، أي: من محاذاة الإمام ثم يكملن الصفوف الأول فالأول، وليس لهن التفرق وأن يدعن فُرجاً أو صفوفاً متباعدة، فمن خصائص النساء أن المرأة يجوز لها أن تقوم وحدها؛ لحديث مليكة جدة أنس لما صلوا قامت في صف وحدها، وهذا يدل على أن المرأة يجوز لها أن تصف وحدها، ولو لم يصف معها غيرها.(65/31)
حكم بيع المدبَّر
السؤال
ألم يرد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المُدَّبر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
باع النبي صلى الله عليه وسلم المدَّبر، ففي حديث جابر: (أن رجلاً أعتق عبداً له عن دبر، لم يكن له غيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم النحام بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، وقال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها) .
يقول جابر: عبداً حبشياً مات عام أول -عرفه جابر - ولم يكن هناك نهي عن بيع المدَّبر.(65/32)
تعريف المدبَّر
السؤال
ما هو تعريف المكاتب والمُدَّبر، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
المدَّبر هو الذي يقول له سيده: إذا مت فأنت حر بعد موتي، أو أعتقتك عن دبر، سمي بذلك لأنه دبر حياته بالاستخدام، ودبر موته بالأجر، فهذا سبب تسميته، ثم إنه يجوز بيعه كما سمعنا، والمدَّبر إذا مات سيده أعتق، ولكن يعتق من الثلث، فإذا خرج من الثلث عتق، وإن لم يخرج عتق منه بقدر الثلث.(65/33)
استخدام المبعض من العبيد
السؤال
هل يكون استعمال العبد والأمة الذي عتق جزء من أحدهما بنفس استعمال العبد والأمة غير المعتق جزء منه؟
الجواب
إذا عتق جزء منه أصبح مبعضاً فلا يجوز استخدامه إلا بقدر جزئه، فلو أن عبداً مملوكاً بين ثلاثة فأعتق أحدهم نصيبه وهو الثلث، والآخران لم يعتقا، والذي أعتق لم يقدر على تخليصه فأصبح ثلثه حراً وثلثاه رقيقاً، فإنه يشتغل ويحترف لنفسه يوماً، ويخدم سيده هذا يوماً ويخدم الآخر يوماً، فلا يجوز لهما أن يستخدماه طوال الزمان، فليس لهما إلا ثلثا خدمته، فيومه الذي هو يخدم نفسه له أن يتكسب، سواء في التجارة أو في حرفةٍ أو في غيرها.(65/34)
الفرق بين الوصية بالعتق والوصية للعبد
السؤال
أشكل عليَّ قولكم: (الوصية بالعتق) والفرق بينها وبين الوصية للعبد؟
الجواب
الوصية بالعتق إذا قال: إذا متُ فعبدي حر، فهذه وصيةٌ بالعتق، وفي هذه الحال لا يعتق إلا إذا خرج من الثلث، فتعتبر وصية.
وأما الوصية للعبد، فهو إذا قال: إذا متُ فأعطوا عبدي ثلث تركتي أو ربع تركتي، ففي هذه الحال العبد مملوك، فكأنه يوصي له، فتصح الوصية له، فإذا مات نظرنا في ثلث التركة، فإذا كان أكثر من قيمة العبد فننظر: إن كانت قيمة العبد مائة وثلث التركة مائتين أعتق وأخذ مائة؛ لأنه أُوصي له بالثلث، وإذا كان ثلث التركة خمسين وقيمة العبد مائة عتق نصفه، وهكذا.(65/35)
جواز استرقاق الكفار وبيعهم إذا أُسروا في الجهاد في سبيل الله
السؤال
هناك قبائل مسلمة في دولةٍ من الدول، وتقوم هذه القبائل بقتال القبائل الوثنية، وتقوم بأسر بعض النساء، فهل يجوز للمسلم أن يشتري منهم جاريةً للتسري بها؟
الجواب
يجوز ذلك، يعني: شرعاً لا مانع من جوازه إذا تحقق بأن الذين يقاتلونهم يقاتلونهم على الإسلام، بأن كانوا يدعونهم ويقولون: أسلموا وإلا قاتلناكم، ثم إذا قاتلوهم استولوا على سبيهم نساءً وأطفالاً، فإنهم يصبحون مماليك.
فمثلاً: المقاتلون الآن في الشيشان معلوم أنهم يقاتلون دولة كافرة، وأن أموالهم وسبيهم حلال، فإن استولى المقاتلون على شيءٍ من السبي جاز لهم بيعه وتملكه، وجاز الشراء منهم بعدما يستولون عليه، لكن قد لا يُسمح بدخوله في كثير من البلاد الإسلامية؛ وذلك لأن الدول الإسلامية الآن كأنهم أخذوا هذه الفكرة وارتكزت في نفوسهم، هذه الفكرة هي التي يرددها النصارى ويقولون: كيف تستخدمون أمثالكم؟! كيف تستعبدون إنساناً سوياً مثلكم؟! فصارت القوانين الآن في كل البلاد تحارب الرق، والبلاد هذه منعته لأجل ما ذكر، ولو قُدر مثلاً أنه حصل قتال صحيح وسبي صحيح فلا مانع من الاسترقاق.(65/36)
حكم حضور العرس الذي يشتمل على منكرات
السؤال
إذا كان هناك زواجٌ وفي هذا الزواج منكرات: من ضرب الطبول، والتصوير بالكاميرا، ومن لبس النساء اللاتي يحضرن لباساً عارياً، يبين مفاتنهن، ولبس البنطال وغيره، فهل يجوز حضور هذا الزواج، ولاسيما إذا كان هذا الزواج لأخٍ لي، أفتونا مأجورين؟
الجواب
نرى أنه لا يجوز إذا كان فيه منكرات، فإذا كان فيه طبول فالطبل لا يجوز الضرب به، وإنما يجوز بالدف، وهكذا إذا كان فيه غناء فاتن، أي: أغانٍ ماجنة، أو كان فيه اختلاط الرجال بالنساء، أو فيه أن النساء يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، فيلبسن لباساً أشبه بالعري، أو كذلك فيه تصوير وإفشاء لتلك الصور؛ صور لنساءٍ متكشفات.
فإن قدرت المرأة أن تغيّر وتنصح فلها الحضور، وأما إذا لم تقدر على أن تغير فعذرها واسع فلا تحضر.(65/37)
الرد على من يقول: لا حاجة إلى علم أحكام الجهاد وأحكام الرق
السؤال
هناك من يدَّعون ويقولون: لا حاجة لنا بهذا العلم -علم أحكام العتق والرقيق- بل هو من المعدوم الآن فلا ينبغي الانشغال بتعلمه حتى يقع ذلك، فما قولكم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا العلم تكلم فيه العلماء، وأودعوه كتبهم، وامتلأت الكتب بما يتعلق بالعتق، وبتحرير الرقاب وغيرها، ولم ينقطع، وأشرنا إلى أنه إذا استولى المسلمون في البلاد التي فيها حروب على أسرى كفار فإنه يقع ذلك، والآن هناك حرب في الشيشان وحرب في كشمير وفي الفلبين وفي إرتيريا وفي فلسطين، فهذه الحروب حروب مع كفار نصارى، فلماذا إذا استولى المسلمون على سبيهم لا يكون رقيقاً؟ فهذا أصل الرق في الشرع، فيمكن أن يعود الرق، وأن يستعمل، وتطبق العلوم والمسائل التي يمثل بها العلماء في كل باب غالباً.(65/38)
الرد على من ينكر دعاء الخطيب يوم الجمعة
السؤال
قال لي أحد الإخوة: إن دعاء الخطيب يوم الجمعة للمسلمين خلاف السنة؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في الخطبة، فما رأيكم؟
الجواب
ليس بصحيح، بل الدعاء سنة لأمور: أولاً: ورد في الحديث أن في يوم الجمعة ساعة إجابة.
ثانياً: رجح كثير من العلماء أن تلك الساعة هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنتهي الصلاة، فيكون هذا موضع دعاء عند مظنة الإجابة.
ثالثاً: ما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدعو فيها، بل الأصل أنه يدعو، يدل على ذلك دعاؤه بالاستغاثة لما طُلب منه في جمعةٍ من الجمع، وقال: (اللهم أغثنا) ، وفي الجمعة الثانية دعا بكفها فقال: (اللهم حوالينا ولا علينا) .
فالغالب أنه يدعو في كل جمعة للمسلمين، وهذا سنة المسلمين، ذكروا أن أحد المجاهدين في عهد الصحابة كان يتحيّن وقت صلاة الجمعة فيبدأ في القتال، ويقول: في تلك الساعة يدعو الخطباء بكل جهات البلاد الإسلامية للمجاهدين بالنصر: اللهم انصر المجاهدين، فيرجى إجابة دعائهم -أي: الخطباء- لنا بالنصر إذا بدأنا القتال في تلك الساعة، مما يدل على أن هذا كان مشهوراً.(65/39)
حكم التصرف في الممتلكات العامة للأمور الخاصة
السؤال
رئيسٌ في إحدى الدوائر الحكومية يستعمل سيارات تلك الدائرة وبعض موظفيها أو عمالها لمصلحته الخاصة، ويمنح أراضي بعد موافقة ولي الأمر لأقاربه وإن كانوا ليسوا من أهل هذه المدينة، فهل عمله هذا جائز؟ وهل يجوز أخذ هذه الأراضي التي يوزعها على أقاربه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الواجب على من اؤتمن على أمانة أن يؤدي هذه الأمانة.
فمدراء ورؤساء الدوائر مؤتمنون على ما يصرف لهم من السيارات، أي: أنهم يستعملونها في الأمور الإدارية التي تحتاجها الإدارة، أي: بما تحتاج إليه تلك الإدارة من نقليات أو شراء أدواتٍ أو ما أشبه ذلك.
وأما استعمالهم لها في الأغراض الخاصة كنقل أولاده أو في شراء أغراضه الخاصة به أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك خيانة للأمانة.
وهكذا أيضاً لا يجوز له تشغيل موظفي الحكومة في أغراضه الخاصة، يعني: الخادم الذي هو خادم في المكاتب لا يحق له أن يقول له: اذهب إلى السوق واشترِ لي غرض كذا وكذا وأوصله إلى داري، أو انقل أولادي من المدرسة إلى المنزل؛ لأنه ليس مملوكاً له أو خادماً له، وإنما خادم للمكتب.
وهكذا أيضاً إذا فوّض إليه توزيع أراضٍ فليس له أن يستبد بها ويعطيها أخصاءه، بل عليه أن يقدم من هو أحق من المواطنين، ويعطي كل مستحق ما يستحقه، ويسوي بينهم، ولا يقدم هذا لقرابته أو نحو ذلك.(65/40)
حكم مد الأرجل إذا كان أمامها مصاحف
السؤال
نرى بعض الإخوة يمدون أرجلهم وأمامها المصاحف، فهل هذا العمل جائز؟
الجواب
إذا لم يكن هناك استهانة بالمصاحف لا حرج في ذلك، فالأصل أن المصاحف تكون على كراسٍ مرتفعة عن مستوى الأرض، وأن يتحقق الرفع لها لقوله تعالى: {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:14] ، فإذا احتاج إلى مد قدميه للاستراحة من تعبٍ أو نحوه ولو كان المصحف أمامه فليس في ذلك تهاون.(65/41)
حكم قتل المرأة التي تقاتل
السؤال
هل يجوز قتل النساء اللاتي يقاتلن المسلمين، كما هو في الوقت الحاضر؛ فإنهن من الجنود فهل يجوز قتلهن، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يقولون: لا تقاتل المرأة إلا إذا قاتلت؛ لأنه ورد في الحديث أنه وجدت امرأة مقتولة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتل، ونهى عن قتل النساء) ، فإذا قُدر في زمن من الأزمنة أن النساء تعلمن الحرب والرمي وخوض المعارك، صارت المرأة كأنها رجل تدخل في المعركة ومعها آلات القتال إما سيف وإما بندقية وإما رشاشات وإما تقود دبابات أو نحوها، فحكمها في هذه الحال أنها تُقتل؛ لأنها من جملة المقاتلين.(65/42)
حكم الجمع بين الأختين في النكاح
السؤال
هل يجوز الجمع بين الأختين في الزواج إذا كانت الأخرى من الأب؟
الجواب
لا يجوز نكاح أختين، لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، أي: لا يجمعهما زوج واحد، سواء كانتا أختين من أب أو أم، أو شقيقتين أو متفرقتين، فلا يجوز.(65/43)
معنى قول المؤلف: (كل جدة أدلت بأب بين أمَّين)
السؤال
نريد أن تبينوا لنا معنى قول المؤلف: (كل جدة أدلت بأبٍ بين أُمين) ؟
الجواب
أي: عندك أم أب أم، فالأب أصبح بين أُمين: أم أب أم، فهذا الأب أبو الأم هو جدك أبو الأم ولا يرث، فأمه كذلك لا ترث، ويُسمى الجد الذي من قبل الأم، أي أن أبا الأم من ذوي الأرحام، فجعله -كما سمعنا- من ذوي الأرحام، وكذلك أمه من ذوي الأرحام، فهي جدة أدلت بأبٍ بين أُمين، ذكرها الناظم بقوله: وكل من أدلت بغير وارث فما لها حظٌ من الموارث وكذلك إذا أدلت بجدٍ رابع، يعني: لأن عندهم أن الجدات لا يرثن إلا أم أم، وأم أب، وأم جد، وأما أم أبي الجد فلا ترث، إنما ترث أم الجد القريب.(65/44)
حكم اصطحاب الخادمة في السفر
السؤال
يوجد عندنا خادمة مسلمة ونريد أن نسافر، فهل يجوز لنا أن نأخذها معنا؟
الجواب
يجوز ذلك إذا خيف عليها وتكون مع النساء؛ لأنها إذا كانت أجنبية وليس هناك أحد تجلس عنده، وليس هناك لها محارم، وإذا تركوها في المنزل خيف عليها، أو تركوها عند أحدٍ من الناس خافوا عليها، ففي هذه الحال يجوز للضرورة لاسيما إذا كانوا محتاجين لها.(65/45)
حكم الأخذ من اللحية، وبيان حدودها
السؤال
ما حكم ما يفعله بعض الناس من الأخذ من لحيته من جهة الرقبة، ومن أعلى من جهة الخد، هل يجوز هذا العمل؟
الجواب
الشعر الذي على الرقبة أو تحت الحنك ليس من اللحية، اللحية: ما نبت على اللحيين، واللحيان هما: منبت الأسنان السفلى، فالحنك الأسفل ما نبت عليه يُسمى لحية، فما نبت على الوجنتين أو قرب منهما أو على الأسنان العليا فليس من اللحية، وما نبت تحت الحنك ليس من اللحية أيضاً.(65/46)
حكم طهارة المصاب بالسلس
السؤال
هل من يحس بالرطوبة في ثيابه أثناء الصلاة يقطع صلاته، مع العلم أنه مصاب بالسلس، أفتونا مأجورين؟
الجواب
إذا كان مصاباً بالسلس فهو معذور، فيتطهر عند دخول الوقت بعد الأذان ثم يصلي على حسب حاله.
وكثيراً ما تحدث الوسوسة عند بعض الشباب، فيخيل إلى أحدهم أنه أحدث بخروج ريح، أو يخيل إليه أنه تقاطر منه بول، وتلك في الحقيقة تخيلات ليست بصحيحة، وعلامة ذلك: أنه لا يجد ذلك إلا أثناء الصلاة، أو بعدما يتوضأ للصلاة، ولا يحس بذلك في الضحى أو في أوقات غير أوقات الصلاة، فهذا دليلٌ على أنها توهمات وتخيلات.(65/47)
ميراث الجد من جهة الأم
السؤال
توفي شخص وليس له ورثة ولكن له جد من جهة الأم، فهل يرث وما نصيبه؟
الجواب
الجد أحياناً في مثل هذه الحال يكون من ذوي الأرحام، فذوو الأرحام ينزلون منزلة من أدلوا به، فالجد أبو الأم يدلي بالأم، فهي واسطته فينزل منزلتها، ولو لم يكن عندنا إلا أم أعطيناها المال كله فرضاً ورداً، فرضها الثلث والباقي بالرد.
كذلك أبوها الذي أدلى بها وهو الجد أبو الأم، فيأخذ المال كله فرضاً ورداً.(65/48)
حكم قول القائل: (الله يخلف علينا؛ صرنا كلنا مطاوعة)
السؤال
أبي يردد أحياناً هذه الكلمة: (الله يخلف علينا؛ صرنا كلنا مطاوعة) ، وهو يقصد أن هؤلاء الشباب ليسوا بشجعان، فكيف أوجه أبي حينما يقول هذه المقالة، وهل هذا من الاستهزاء بالدين، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يكون هذا على حسب النية، ولا شك أن مثل هذه الكلمات يرددها بعض الناس كأنهم ينظرون إلى واقع حال أهل زمانهم، ولكن لا نحملها على أنها سخرية بالدين أو سخرية بغيره، وإنما هي من الكلمات التي يكثر استعمالها تأسفاً على ما مضى، أو تأسفاً على فقد الناس الذين هم أكفأ أو نحو ذلك.
ولا شك أن مثل هذه الكلمة فيها شيء من التنقص، فإذا كان يقصد بذلك أن هذا عيب فهي شيء من السخرية، وأما إذا كان يقصد بذلك أنهم صاروا كذلك ففي هذه الحال إنما الأعمال بالنيات.(65/49)
تحول صغائر الذنوب إلى كبائر
السؤال
هل الذنوب والصغائر تتحول إلى كبائر؟ وهل الإصرار على حلق اللحية من كبائر الذنوب؟
الجواب
ذُكر عن ابن عباس أنه قال: (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار) ، فمن أصر على الصغائر فمعنى ذلك أنه احتقر هذا الذنب، وإذا احتقره واستصغره فإنه يصير كبيرة؛ لأنه يحتقر ما حرم الله وما نهى الله تعالى عنه.
ومن ذلك الاستمرار على حلق اللحية باعتقاد أنه ذنب يسير، ولا شك أنه مع الاستمرار والاحتقار له ينقل إلى كبيرة من الكبائر التي لا تغفر إلا بالتوبة، وكذلك بقية الذنوب ولو كانت صغيرة كالإسبال والكبرياء وما أشبه ذلك.(65/50)
حكم من طاف من داخل الحِجْر
السؤال
رجلٌ حج هو وزوجته، فلما طافا طواف الإفاضة طافا من داخل الحِجر جاهلين بالحكم، فماذا عليهما، مع العلم أنهما لم يعلما بحكم المسألة إلا بعد الرجوع إلى بلادهم، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا يجزئ هذا الطواف؛ لأن الحِجر جزءٌ منه من البيت، فكأنهما لم يطوفا بالبيت كله وإنما طافا ببعضه، لكن نقول: إذا كان طواف الوداع طوافاً كاملاً فلعله يكفي عن طواف الإفاضة.
بمعنى: أنهما طافا للوداع من وراء الحِجر كما يطوف الناس، ويمكن أنهما طافا؛ لأن غالباً طواف الوداع يكون فيه زحام شديد فيطوفون من بعيد، فعلى كل حال يجزئ طواف الوداع عن طواف الإفاضة؛ لأنه يصدق عليه أنه طاف بالبيت، ولو كانت نيته أنه للوداع، حيث بطل طواف الإفاضة.
أما إذا كان طواف الوداع مثل طواف الإفاضة أيضاً من داخل الحِجر؛ فإننا نقول: إنهما لم يكملا حجهما، وإن زوجته لا تحل له حتى يرجعا ويطوفا؛ لأنهما لم يتحللا التحلل الثاني.(65/51)
الأولى عدم الخوض في المسائل التي فيها شيء من الغرابة
السؤال
قرأت أن بعض أهل العلم نفى أن يلامس الله -أي: يماس- شيئاً من مخلوقاته، وبعضهم أثبت ذلك مستدلاً بالحديث الذي فيه: (أن الله خلق الجنة بيده) ، والحديث الذي فيه: (أن الله خط التوراة بيده) ، فما الصحيح في ذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأولى عدم الخوض في مثل ذلك، فالمسائل التي فيها شيء من الغرابة فالأولى البعد عنها، وعدم الخوض فيها.
ونحن نعتقد أن الله تعالى يخلق ما يشاء، وأنه يقول للشيء: كن، فيكون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وأن خلقه بيده كما يشاء؛ لقوله: (كتب التوراة بيده) ، ولقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، خلقه كما يشاء، سواءً قلنا: إنه مماسة أو قلنا إنه كما يشاء، فالأولى أن نقول: يخلق ما يشاء وكما يشاء.(65/52)
حكم دعاء الأموات
السؤال
ما حكم أن يسأل رجل الميت أن يسأل الله له، فقال بعضهم: إنه شركٌ أكبر، وقال بعضهم: إنه بدعة وليس بشرك، فما الصحيح في ذلك، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا شك أنه شرك، فدعاء الأموات شرك؛ لأن الأموات كما ذكر الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191-192] إلى أن قال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:195] ، فدعاء الميت يكون شركاً.(65/53)
حكم إرث الولد من والده إذا مات في حادث سيارة كان الولد هو السائق لها
السؤال
شابٌ يسوق السيارة ومعه والده فوقع حادث فمات الوالد، فهل يرث الابن؟
الجواب
المشهور أنه لا يرث إذا كان عليه نسبة من الخطأ، ولو قليلة؛ لأنه في هذه الحال يلزمه دية، لو مات معه أموات يلزمه دية أو نسبة من الدية، وكذلك تلزمه الكفارة، فلا يرثه في هذه الحالة.
أما إذا لم يكن عليه نسبة من الخطأ، وكان الخطأ على الطرف الثاني أو نحو ذلك فإنه يرث.(65/54)
حكم طواف الوداع بعد السفر بمدة يومين
السؤال
عندما رجعنا من منى إلى مكة لم أطف طواف الوداع، وذهبت إلى جدة ثم رجعت اليوم الثاني ليلاً وطفت طواف الوداع، فهل عليَّ شيء؟
الجواب
ليس عليك شيء إذا رجعت وطُفت، ذكر العلماء أنه لو سافر مسيرة يومين أنه يرجع، بمعنى أنه سار يومين في ذلك الوقت الذي يكون السير فيه على الإبل ثم رجع، أي: أنه ما ودع إلا بعدما خرج بأربعة أيام، فيعتبر إذا غاب أربعة أيام في جدة ثم رجع وودع.(65/55)
غلط من يقول: إن الأخ لأب ليس من ذوي الأرحام
السؤال
يقول بعض العامة: إن زيارة الخال والخالة والعم والعمة أفضل من زيارة الأخ لأب، وأن الأخ من الأب ليس من الرحم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ليس كذلك، والأخ من الأب والأخت من الأب من الورثة، يرثون إما بالفرض أو بالتعصيب، وأما الأخوال فلا يرثون إلا مع الرحم، وفي كل حال كلهم من ذوي الأرحام.(65/56)
أبناء الابن محجوبون بالابن
السؤال
رجل توفي، وقبل وفاته توفي له ذكر وأنثى من أبنائه، وبقي له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، فهل لأبناء الميتين مطالبة أعمامهم بأخذ شيء من التركة؟
الجواب
الأعمام الأحياء هم الذين يرثون، أما الأموات فلا يرثون ولا يرث أبناؤهم، لكن الأولى للميت هذا قبل أن يموت أن يوصي لأولاد بنيه الذين ماتوا وهو حي؛ حتى لا يحرموا من المال، وعلى كل حال هذا هو الأقرب، أما الإلزام فليس بلازم.(65/57)
حكم الإنصات للقرآن
السؤال
إذا كان القرآن يُقرأ في السيارة ونحن نتحدث، فهل يلزمنا الإنصات أم نغلقه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
عليكم أن تنصتوا لعموم الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] فإنه يدخل فيه سماع القرآن في الإذاعة ونحوه، وإذا لم تكن منصتاً له فالأولى أنك تغلقه، سواء من شريط أو من إذاعة، فإذا كنت تمشي في السيارة أو في المنزل فإن فتحت القرآن فاستمع له وأنصت.(65/58)
حكم النفقة على الزوجة إذا رفضت السفر معه
السؤال
رجل تزوج من خارج بلده وبقي معها مدة، ثم طلب من زوجته السفر معه إلى بلاده فرفضت، مع أنه قد شرط عليها السفر، وله منها ابنان يرسل لهما النفقة شهرياً، ويسأل: هل تلزمه النفقة على زوجته بالرغم أنها رفضت السفر معه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يرجع إلى الشروط؛ فإن كان قد اشترط عليها أنها تأتي معه إلى بلده فامتنعت سقطت نفقتها، وأما نفقة أولاده فلا تسقط حيثما كانوا، وأما إذا كان لم يشترط أو هي التي اشترطت أنها تبقى، أي: تزوجته بشرط أنه لا يخرجها من بلدها فلها شرطها، وليس له والحال هذه أن يلزمها بأن تأتي معه إلا برضاها، وإذا امتنعت فهي قد اشترطت أنها تبقى في بلادها، وفي هذه الحال عليه نفقتها.(65/59)
حكم بيع الأسهم التجارية إلى أجل
السؤال
لدي أسهمٌ في إحدى الشركات تساوي ستين ألف ريال، فجاء شخصٌ وقال: بعنيها بمائة ألف إلى سنتين، علماً أنه ما اشتراها إلا لقصد بيعها وأخذ ثمنها، فهل هذا من الربا؟
الجواب
لا يكون من الربا، ولكنه من الأشياء التي نهي عنها، ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الدين بالدين، أو بيع الكالئ بالكالئ) ، ففي هذه الحال يكون هذا السهم ديناً؛ لأنه من شركة غير مقبوض، وأنت إذا اشتريته تشتريه بدين؛ لأن ثمنه مؤجل، فيكون بيع دين بدين، أي: غائب بغائب، فلا يجوز، عملاً بحديث: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) .
أما إذا حضر أحد الثمنين فلا مانع إذا بعته بثمنٍ نقداً، فلو قلت: أنا أملك بهذه الشركة سهماً أو مائة سهم، أي: تملك جزءاً معلوماً منها، كواحد في الألف أو واحد في مائة ألف، أو اثنين من ألف ألف، ثم اتفقتم على الثمن فهذا الثمن يجب أن ينقده لك وتحيله على الشركة وينزل منزلتك في استحقاق الأرباح، فيجوز ذلك إذا سلَّم الثمن.(65/60)
الخلاف في إرث الجد مع الإخوة
السؤال
أشكل عليَّ فهم قولكم: (وهذا ما عليه الفتوى) فلم أعرف ما هو المقصود بهذه الكلمة؟
الجواب
تقدم هذا في مسألة الجد والإخوة، يعني: أن فقهاء المذهب الحنبلي يورثون الإخوة مع الجد، وكذلك فقهاء المالكية وفقهاء الشافعية يورثون الجد مع الإخوة، ولكن اللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء اختاروا القول الثاني وهو: أن الجد يُسقِط الإخوة، فصارت الفتوى على أنهم لا يرثون معه.
وكذلك المسائل التي فيها خلاف.(65/61)
مدى صحة القاعدة: (الشروع في النوافل يصيرها فرائض)
السؤال
ما رأيكم حفظكم الله في القاعدة الأصولية: (الشروع في النوافل يصيرها فرائض) ؟
الجواب
ما أظنها صحيحة، فهذه القاعدة على الإطلاق لا تكون إلا في الحج أو العمرة، فإذا شرع الإنسان في الحج أو العمرة فإنها تصير فريضة يلزمه إتمامها؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، فلا يجوز له إبطالها.
وأما إذا شرع في صيام التطوع فيجوز له أن يقطع صومه، لما ورد في الحديث: (المتطوع أمير نفسه) ، فله أن يفطر إذا عرض له عارض، وكذلك أيضاً الصلاة -على الصحيح- إذا شرع فيها وعرض له عارض فله أن يقطعها، كما لو أقيمت الصلاة وخاف أن تفوته ركعة أو نحو ذلك فله أن يقطعها، وأما إذا رجا أنه يتمها فلا يقطعها؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] .(65/62)
حال حديث: (أنا وارث من لا وارث له، والخال وارث من لا وارث له)
السؤال
ما صحة حديث: (أنا وارث من لا وارث له، والخال وارث من لا وارث له) ، وهل الخال يرث؟
الجواب
الحديث مشهور بلفظ: (الخال وارث من لا وارث له) ، وأما أول الحديث فليس بصحيح، إنما فيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ وإليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته) ، فحديث: (الخال وارث من لا وارث له) حديث مشهور يعمل به كثير من العلماء، ولم يعمل به آخرون كالشافعية؛ لأنه ما ثبت عندهم.(65/63)
حكم عقد الأجرة من غير منفعة
السؤال
عندنا في بلادنا يطلب من الشركات التي لديها بضاعة كبيرة أن تستأجر مخازن، والسؤال: يأتي مندوب الشركة التي تريد استئجار المحل ويطلب ورقة من مكتب العقارات فقط دون المنفعة بثلث القيمة، يعني: إذا أراد استعمال المخزن فإنه يستأجره بثلاثين ألف مثلاً، وبدون استعمال المخزن يدفع عشرة آلاف سنوياً، فهل يجوز أن نعطيه ورقة العقد؛ لأن الحكومة تطالب بذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا بأس أنكم تعقدون الأجرة معه كمخزن، إما أن تلزموه بالضرائب التي تأخذها الحكومة، وإما أن تسقطوها عنه وتقومون أنتم بدفعها، سواء كان اتفاق مع مندوب الشركة أو كان مع مديرها، فإذا اتفقتم على تحديد الأجرة فلا مانع من الزيادة فيها مقابل أنكم تدفعون ما تطلبه الدولة أو النقص منها، مع الالتزام بأنه يدفع، فتقولون مثلاً: هذا يساوي ثمانين ألفاً، والدولة تأخذ منا عشرة، فإما أن تلتزم بتسعين ونحن ندفع للدولة، وإما أن تلتزم بثمانين وتدفع للدولة، فإذا اتفقوا على ذلك جاز.
وأما إذا كان القصد به التحيل فلا يجوز؛ لأن هذا يصير خداعاً، أعني أن بعض الموظفين يصرف لهم بدل سكن كالمتعاقدين، ثم إنه يتفق مع صاحب العقار على أنه دفع له، يعني: يقول: أنا سأدفع لك يا صاحب العقار عشرين ألفاً وهو ما دفع له شيئاً، أو دفع له عشرة، وكتبها عشرين وقال: اكتب أني دفعت لك عشرين وأنا أعطيك خمسة مني، اكتبها عشرين حتى أستلم، فيكتبها عشرين ألفاً، وهو ما دفع إلا عشرة أو خمسة عشر، فهذا تحايل لا يجوز.(65/64)
حكم حفظ الأصول الثلاثة
السؤال
سمعنا من بعض المشايخ أنه من الواجب على كل مسلم ومسلمة حفظ شرح الأصول الثلاثة، وهل الإنسان إذا مات يُسأل عن الدليل؟
الجواب
إذا فهم ذلك فليس واجباً حفظ النصوص، إنما الواجب الفهم والاعتقاد، واجب على كل المسلمين أن يعترفوا بأن الله تعالى هو ربهم، وهو خالقهم، وهو معبودهم، فإذا فعلوا ذلك فلا يلزم أن يحفظوا قوله: (ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمته) ، فليس واجباً عليهم أن يحفظوا هذا النص.
كذلك عليهم جميعاً أن يدينوا بالإسلام، وأن يكونوا كلهم من الذين يعترفون بأنهم مسلمون، وليس واجباً عليهم أن يعرفوا أو يحفظوا قوله: (الإسلام: الاستسلام لله بالتوحيد) إلخ، بل إذا اتفق أنهم اعترفوا بأنهم مسلمون وأنهم يدينون لله تعالى بالطاعة فلا يلزم حفظ النصوص ونحوها.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/65)
شرح أخصر المختصرات [66]
شرع الله تعالى الطلاق وأباحه عند الحاجة، وجعله بيد الرجل، وفي إباحته رحمة وحكمة، والطلاق له أحكام كثيرة من حيث وقوعه وعدمه، وشروط صحته، وصريحه وكنايته، وطلاق السنة وطلاق البدعة، والتوكيل فيه، وغير ذلك من الأحكام.(66/1)
مقدمة عن أهمية تعلم العلم والعمل به وتعليمه
نحمد الله ونشكره، ونثني عليه ونستغفره، ونسأله المزيد من فضله، ونسأله أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يبصرنا بأمور ديننا، وأن يهدينا سواء السبيل.
نذكركم أنكم -والحمد لله- تعملون عملاً صالحاً في مثل هذه الدورات؛ وذلك لأن مواصلة التعلم والحرص على التلقي عمل بر، عمل صالح يهدي به الله تعالى من أراد به خيراً؛ تكتب به الحسنات، وترفع به الدرجات، ويكتب الله أهله في حملة العلم الذين يحبهم ويحبونه، فهنيئاً للذين يواصلون أوقاتهم بعضها ببعض حتى يستفيدوا من حياتهم في هذه الإجازة التي يتوقف فيها الكثير من الناس عن الدراسة النظامية، والإجازة تضيع على كثير من الناس، بحيث إنهم إما يضيعونها في لهو وسهو وجلوس وتسكع في الأسواق وعمل غير مرضي، أو يضيعونها في رحلات وأسفار لا أهمية لها ولا يستفيدون منها فائدة تعود عليهم بالخير، أو يضيعونها في أمور دنيوية، أو لو استفادوا من أمور الدنيا لكن يفوتهم الخير الكثير؛ وذلك لأن هذه الأيام لابد أن يحاسب عليها العبد، فمن صنع جزءاً من عمره في غير فائدة فإنه يحاسب، وفي الحديث: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) .
فالسؤال عن العمر هو أولها، يعني: سواء كان كهلاً أو شاباً أو شيخاً، يسأل عن عمره في أي شيءٍ شغله، ويسأل أيضاً عن شبابه في أي شيءٍ شغله وصرفه، فإذا كان قد صرفه في خير أجاب بجواب نافع مفيد، وأما إذا صرفه في اللهو والسهو فإنه يكون في ذلك متحسراً ولا يجد جواباً.
ومن أفضل ما يصرف الشاب أيامه وأشهره فيه التعلم، سيما تعلم العلوم الشرعية، فإنها مفيدة للإنسان في حياته، والعلوم الشرعية يحبها الله تعالى، وتبصر الإنسان في حياته، ويكون بها عالماً كيف يعمل؛ وذلك لأن علمه له نتيجة وله ثمرة.
ونحن نحسن الظن بإخواننا الذين توافدوا من بلاد بعيدة إلى هذه الدورة، ونقول لهم: هنيئاً لكم أن تجشمتم المشقات، وجئتم من بلاد بعيدة، وقصدكم بذلك أن تستفيدوا من حياتكم، وأن تعملوا عملاً صالحاً يرفعكم الله تعالى به درجات، ويجزل لكم به الثواب العظيم، فهذا فضل الله تعالى ونعمته عليكم، فلكم بذلك فضل كبير، ونوصيكم أولاً بحسن النية؛ لأن النية إذا كانت حسنة صالحة وفق الله العبد للعمل الصالح، فانو بهذا التعلم رفع الجهل؛ فإن الإنسان خلق جاهلاً كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ، فالإنسان خلق جاهلاً، والجهل نقص، فيزول هذا النقص بالتعلم، حيث أعطانا الله السمع والبصر واللسان والفؤاد وهي من وسائل التعلم، فمن حسن النية أن تنوي رفع الجهل.
ومن حسن النية أن تنوي حمل العلم الذي حمله شرف وحمله فضيلة.
ومن حسن النية أن تنوي العمل بهذا العلم؛ حتى تعمل على بصيرة، وعلى نور وبرهان.
ومن حسن النية أن تنوي نفع نفسك؛ حيث تعمل بالعلم ويقبله الله منك، وتثاب على هذا العلم الذي تعلمته.
ومن حسن النية أن تنوي ميراث الأنبياء، بأن تكون من ورثة علمهم الذين ورثوه، ومن أخذه أخذ بحظ وافر.
ومن حسن النية أن تنوي نفع الناس الجهلة الذين يحتاجون إليك وإلى أمثالك، وهم كثيرون في البلاد، فقد يتعلم فرد العلم الشرعي، ويرجع إلى بلدة يغمرها الجهل، ويكثر الجهل في أهلها، فلذلك إذا تعلم وفقه الله تعالى وعلّم أهل بلده، واستفاد واستفادوا منه ونفعهم، وكان له أجر كبير على تعلمه؛ حيث إنه يبث ما معه من العلم، ويفقه الأمة ويدعوهم إلى الله: (ومن دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء) ، وفي الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) .
ونوصيك أيضاً بمواصلة التعلم؛ فإن العلم كثير ليس له نهاية، وهذه المدة التي تتعلمها في هذه الدورة قليلة بالنسبة إلى بقية الحياة، لا تنال فيها إلا جزءاً يسيراً من العلم، وأنت تعرف أن هذه العلوم تعتبر مبادئ، وأن كل علم له فروع وله شروحات، فإذا انتهيت من هذه الدورة فعليك المواصلة بقراءة الشروح والتعاليق والحواشي، والحرص على استظهارها، وعلى تذكر معانيها حتى تبقى هذه المعلومات، وعليك التزود فيما بعد إلى نهاية الحياة، وتذكر وصية بعض العلماء الذي يقول: اطلب العلم من المهد إلى اللحد؛ يعني إلى الموت، وما ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: مع المحبرة إلى المقبرة، أي: نحمل المحبرة التي هي الدواة نكتب من مدادها الفوائد، ولا نفارقها إلا إذا متنا: مع المحبرة إلى المقبرة، وأشباه ذلك.
فكل هذا دليل على أنه لا بد من مواصلة التعلم، وأن الإنسان مهما بلغ من العلم، فإن علمه قليل.
وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته لو عمرت مائة سنة ما وصلت إلى عشر العلوم، ولكن الله تعالى جعل بعض العلوم فريضة يلزم تعلمها والعمل بها، وجعل البقية نافلة إذا تعلمها كان من حملة العلم الذي قد يحتاج إليه.
والعلوم منها: ما هو فرض عين: وهي الأشياء التي كلف بها العبد أن يعمل بها، ومنها ما هو فرض كفاية: وهي العلوم التي يلزم الأمة أن يتعلموها ويحملوها.
موضوعنا هذا هو موضوع الفقه في الدين، الذي هو تعلم الأحكام؛ وذلك لأن العلماء رحمهم الله لما قرءوا النصوص من الكتاب والسنة؛ استخرجوا منها الأحكام، وجعلوها في هذه الكتب، وسموها: الفقه؛ الذي هو الفهم، واستنباط الأحكام من الأدلة، وذكر كل مسألة قد يحتاج إليها؛ فدونوها في هذه الكتب وسموها: كتب الفقه.
وتعرفون ما فيها من الخلاف بين العلماء المجتهدين، حيث إن هناك أقوالاً للأحناف الذين هم على مذهب أبي حنيفة، وخالفتها أقوال ومسائل لمن هم أتباع مالك، وخالفتها أيضاً أقوال لأتباع الشافعي، وخالفتها أقوال لأتباع الإمام أحمد بن حنبل، وهذا الاختلاف الذي وقع بينهم الأصل أنه بسبب الاجتهاد، وسبب اختلاف الآراء، وسبب اختلاف الأفهام، وقد يكون سببه أيضاً وقوع خلاف بين الأدلة، والمحققون يجدون جواباً على اختلاف الأدلة، فيجمعون بينها حتى لا يكون بينها اختلاف؛ وذلك لأن مصدرها واحد؛ لأنها إما من كتاب الله وإما من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالاختلاف الذي يكون بينها يمكن الجمع بينه، وإذا لم يمكن حرصوا على أن يجمعوا بينها بأية وسيلة، وقد مر بنا أمثلة لهذه المسائل التي وقع فيها خلاف.
نحن الآن في أواخر كتاب الأحكام من هذا الكتاب الذي هو: أخصر المختصرات، وهو من أخصر كتب الفقه، اختصره مؤلفه من زاد المستقنع، وزاد عليه بعض الجمل، ونقص منه كثيراً؛ فهو قد اختصره لمن يريد أن يحفظه والذي يفهمه يكون عنده علم بمجمل الأحكام الفقهية التي يحتاج إليها في هذه الحياة الدنيا.(66/2)
الطلاق أحكام ومعان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الطلاق: يكره بلا حاجة، ويباح لها، ويسن لتضررها بالوطء، وتركها صلاةً وعفةً ونحوهما.
ولا يصح إلا من زوج ولو مميزاً يعقله.
ومن عذر بزوال عقله، أو أكره، أو هدد من قادر فطلق لذلك؛ لم يقع.
ومن صح طلاقه صح توكيله فيه وتوكله، ويصح توكيل امرأة في طلاق نفسها أو غيرها.
والسنة أن يطلقها واحدةً في طهر لم يجامع فيه، وإن طلق مدخولاً بها في حيض أو طهر جامع فيه؛ فبدعة محرم ويقع، لكن تسن رجعتها.
ولا سنة ولا بدعة لمستبين حملها، وصغيرة، وآيسة، وغير مدخول بها.
ويقع بصريحه مطلقاً، وبكنايته مع النية، وصريحه لفظ طلاق وما تصرف منه، غير أمر ومضارع ومطلّقة بكسر اللام.
وإن قال: أنت عليَّ حرام، أو كظهر أمي، أو ما أحل الله عليَّ حرام، فهو ظهار ولو نوى طلاقاً، وإن قال: كالميتة أو الدم، وقع ما نواه، ومع عدم نية ظهار، وإن قال: حلفت بالطلاق وكذب دين ولزمه حكماً.
ويملك حر ومبعَّض ثلاث تطليقات، وعبد اثنتين.
ويصح استثناء النصف فأقل من طلقات ومطلقات.
وشرطَ تلفظ، واتصال معتاد، ونيته قبل تمام مستثنًى منه، ويصح بقلب من مطلقات لا طلقات.
وأنت طالق قبل موتي تطلق في الحال، وبعده أو معه لا تطلق، وفي هذا الشهر أو اليوم أو السنة تطلق في الحال، فإن قال: أردت آخر الكل، قبل حكماً، وغداً أو يوم السبت ونحوه تطلق بأوله، فلو قال: أردت الآخر لم يقبل، وإذا مضت سنة فأنت طالق، تطلق بمضي اثني عشر شهراً، وإن قال: السنة، فبانسلاخ ذي الحجة] .
الطلاق في اللغة: يراد به فك الشيء المربوط، وحلّ الرباط ونحوه، يقولون: أطلق البعير فهو مطْلَق ومطَلَّق؛ يعني غير مربوط بعد أن كان مربوطاً، طلّق رباط البعير أو الشاة ونحو ذلك؛ وسمي بذلك لأنه بعد حله ينطلق، يعني: يذهب حيث يريد.
والطلاق في الشرع: اسم لمفارقة الزوجة وإطلاق صراحها، سماه الله تعالى بذلك في قوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ؛ ولذلك تسمى هذه السورة: سورة الطلاق، وذكر أيضاً في البقرة في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] ، وفي قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} [البقرة:228] ، وفي قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] ، إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، وغير ذلك من الآيات.
والمراد به: إطلاق صراح المرأة، فالزوجة بعد عقد النكاح يلزمها أن تكون مقيَّدة مع زوجها، فلا تقدر على معصيته في نفسها ولا أن تذهب إلا بإذنه، ويحل له الاستمتاع بها، فهي معه في عصمته وفي ذمته، فإذا كرهها فإن له رخصة في أن يفارقها، ويسمى هذا الفراق: طلاقاً.(66/3)
حكم الطلاق
ذكر العلماء أن الطلاق تتعلق به الأحكام الخمسة: يباح للحاجة، ويكره بلا حاجة، فالطلاق يباح للحاجة، ومالمراد بالحاجة؟ إذا تضررت المرأة مثلاً، أو كره الرجل خلق المرأة، أو سوء معاملتها؛ فإنه يكون مباحاً؛ لا ثواب منه ولا عقاب، ويكره لغير الحاجة، فإذا كانت الحالة مستقيمة بين الزوجين وكل منهما يسير سيراً مستقيماً مع الآخر؛ فإن الطلاق يكون مكروهاً ولو كان حلالاً، جاء في الحديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ؛ فيكون حلالاً ولكنه مكروه، لماذا؟ لأنه يفرق بين الزوجين، ولأنه قد يفرق بين الأولاد وأحد أبويهم، ولما فيه من إضاعتها؛ فالزوجة متى طلقت فإنها قد يكره النّاس عشرتها ونكاحها، يقولون: ما طلقت إلا وفيها ضرر، أو أنها غير صالحة، وهكذا أيضاً قد يتضرر الزوج، ولا يرغب فيه أحد، حيث يقولون: إنه كثير الطلاق، أو يطلق بلا سبب؛ فلذلك يكون الطلاق مكروهاً من غير حاجة، وإن كان واقعاً.
ويستحب الطلاق لتضررها، فإذا تضررت الزوجة، وليس التضرر خاصاً بأن يضرها الجماع، بل حتى إذا كانت تتضرر بسوء خلق الزوج، إذا كانت تكرهه لسوء خلقه ولسوء معاملته؛ بحيث إنه إذا أمسكها تضررت وتمنت فراقه، حتى ربما تبذل له من مالها ليطلقها، وهو الخلع، بحيث تحتاج إلى المخالعة، فإذا وصلت إلى هذه الحالة، وصارت تتمنى الفراق؛ استحب له أن يطلقها سواء كانت تتضرر بكثرة الجماع منه، أو تتضرر بسوء معاملته أو ما أشبه ذلك.
وكذلك إذا ساءت أخلاقها، أو رآها لا تصلي؛ استحب أن يطلقها، أو رآها قليلة ديانة، أو ليست عفيفة، يخشى أن تفسد نفسها؛ فتفسد عليه فراشها، أو تدخل عليه من ليس من أولاده إذا كانت متهمة بالفاحشة، ففي هذه الحال يستحب له فراقها حتى يسلم من هذه المصائب وما أشبهها.(66/4)
من يصح منه الطلاق
من الذي يصح منه الطلاق؟ ورد في الحديث: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، وهو الزوج الذي يملك الاستمتاع بامرأته، فهو الذي يطلق، فلو طلّق أبوه ما وقع، ولو طلق ابنه أو أخوه ما وقع، إلا إذا وكّل، لا يصح الطلاق إلا من الزوج، وإذا كان الزوج صغيراً غير مميز لا يقع طلاقه، وأما إذا كان قد بلغ سن التمييز، وكان في نحو سن العاشرة، وعرف أن الطلاق يسبب مفارقة الزوجة؛ فإن له -والحالة هذه- أن يطلق، ويقع طلاقه ولو كان دون البلوغ.(66/5)
موانع الطلاق وتعذر وقوعه
متى لا يقع الطلاق؟ إذا كان الزوج معذوراً كزوال عقله -فلو شرب مسكراً جاهلاً، ولم يعلم أنه حرام، فطلاقه لا يقع؛ لأنه يتكلم بما لا يعقل.
واختلف فيما إذا طلق وقد تعمد السكر، هل يقع طلاقه أم لا؟ معلوم أن السكران يهذي في كلامه ولا يعقل ما يقول، حيث إن هذا السكر غطّى عقله ومعرفته.
أكثر العلماء يقولون: إنه يقع؛ لأنه تعمد شرب المسكر؛ فيقع الطلاق عقوبة له، ولأنه يعرف ما يترتب على شرب المسكر: كالغيبوبة وزوال العقل وزوال المعرفة، فهو كأنه مقدم على هذا الأمر؛ فيقع عقوبة له، قال أكثر العلماء: يقع طلاق السكران، واختار بعض المحققين أنه لا يقع؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وبه كان يفتي شيخنا ابن باز رحمه الله؛ وذلك لأنه في تلك الحالة لا يدري ما يقول، والله تعالى يقول: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، وهو لا يعلم ما يقول، فكلامه لا يحاسب عليه، ومعلوم أنه سيقام عليه الحد الذي هو الجلد أو السجن أو نحو ذلك، فلا نؤاخذه بالطلاق حال سكره.
وبعض الناس يستحلون ما يقدرون عليه من أموال السكران، فبعض السكارى -والعياذ بالله- إذا سكر خرج وجعل يمشي بين الناس وفي الأسواق، فإذا أشار مثلاً إلى صاحب سيارة وركب معه، وعرف السائق أنه سكران، أخذ ما معه، فيسلبه ما معه ولو كان ألفاً أو ألوفاً، وربما يأخذ ما معه مما هو ثمين كساعة أو نحوها، فهذا حرام، لأنه أخذ ماله في غفلته وهو لا يدري، وهكذا بعض هؤلاء إذا دخلوا بيت إنسان، ورأوا أنه سكران؛ فإنهم يسلبون ما عنده من المال، ويقولون: إنه حلال لنا؛ لأنه سمح لنا وأعطانا، وهذا حرام.
ولاشك أنه يستحق العقوبة الشديدة؛ حيث إنه تعاطى ما يزيل عقله، ولكن كوننا نستحل أمواله أو نأخذ منه ما ليس حقاً لنا، فهذا لا يجوز، أما إذا كان عقله زال بعذر؛ بمعنى: أنه شرب وهو لا يدري، أو مثلاً بنج أي: ضرب ببنج أزال شعوره، فتكلم بما لا يعقل وطلق؛ فإنه لا يقع.
وهكذا المكره، وهو الذي ألجئ على التلفظ بالطلاق وهدد، وكان الذي هدده إذا قال فعل؛ يعني: أنه قادر على إلحاق الضرر به، فطلق لذلك، فلا يقع طلاقه، فإذا أكرهه سلطان أو رئيس، أو جاء أهل المرأة إليه فقالوا: طلق وإلا قتلناك، أو قال له أحد أوليائها الذين يريدونها لأنفسهم: طلق وإلا قتلناك، وهددوه بالسلاح، وهم قادرون، ومعهم الأسلحة، فطلق بناءً على كلامهم، فالأصل أنه مغلوب على أمره، فالمكره قد أبيح له أن ينطق بكلمة الكفر، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فكل ما فيه شيء من الإكراه لا يقع به الطلاق.
يحكى أن رجلاً رأى عسلاً في قمة جبل، ولا يوصل إليه إلا من الأعلى، فقال لامرأته: إني سأتدلى بهذا الحبل إليه، فأمسكي هذا الحبل، فأمسكته وتدلى، ولما كان في نصف الطريق متدلياً قالت له: طلقني وإلا أطلقت الحبل حتى تسقط، ولو أطلقته سقط من قمة الجبل ولن يصل إلا قطعاً، فخوفها بالله فلم تقبل؛ فطلقها، ولما صعد ذهب إلى عمر وسأله فقال: راجع امرأتك، لا يقع مثل هذا الطلاق، هذا مثال على الإكراه.(66/6)
من يصح توكيله في الطلاق
من صح طلاقه صح توكيله فيه وتوكله، ومن لا يصح طلاقه فلا يصح توكيله، فلو قال رجل: وكلتك أن تطلق زوجة ابني، فهل تطلقها وقد وكلك أبوه؟ ما يصح، وليس لك أن تطلقها؛ لأن الأب لا يصح أن يطلق زوجة ابنه، أما إذا وكلك هو وقال: وكلتك أن تطلق زوجتي فلانة؛ فلك أن تطلقها، بشرط أن يكون الوكيل عاقلاً عارفاً بآثار الطلاق، وأن يكون الموكل عاقلاً عارفاً بآثار الطلاق، فلا بد أن يكون الوكيل والموكل كلاهما ممن يصح طلاقه.
فيصح توكل العاقل البالغ الرشيد ويصح توكيله.
وهل يصح توكيل المرأة لطلاق نفسها؟ يصح ذلك، فإذا قال لها: وكلتك في تطليق نفسك متى طلبت أو متى رغبت فيه، فإذا رغبت وقالت: قد طلقت نفسي وقع؛ لأنه سمح لها بتطليق نفسها، فيقع الطلاق.
ويصح أيضاً أن يوكلها لطلاق غيرها، فلو وكل امرأة أجنبية وقال لها: وكلتك أن تطلقي امرأتي فلانة، وهي امرأة عاقلة عارفة، يصح أن تطلقها، فيصح أن تكون وكيلةً للطلاق، وكيلةً لطلاق نفسها، ووكيلةً لطلاق ضرتها، ووكيلةً لطلاق امرأة بعيدة.(66/7)
طلاق البدعة وحكمه
الطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة.
ما صفة طلاق السنة؟ طلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة، وأن تكون في طهر لم يطأها فيه، بل طلقها في طهر لم يجامع فيه، هذا هو طلاق السنة إذا كانت قد دخل بها.
طلاق البدعة مثل: طلاق الثنتين، وطلاق الثلاث، فجمع الثلاث طلاق بدعة، واختلف هل يقع إذا طلقها ثلاثاً، كما لو قال: أنت طالق وطالق وطالق، أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أنت طالق ثلاثاً، أو قال: أنت طالق مائةً أو نحو ذلك، والجمهور على أنه يقع؛ وذلك لأن هذا هو الذي اجتمع عليه الصحابة، والأئمة الأربعة على أن من جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يعد طلاقاً، وأنها لا تحل له إلا بعد زوج، وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: لا يقع إلا واحدة إذا طلقها بالثلاث، فقال: أنت طالق بالثلاث، أو طالق وطالق وطالق، قال: إنما يقع طلقة واحدة، لماذا خالفت الجمهور؟ لماذا خالفت الأئمة الأربعة وأتباعهم؟ يقول: إني ابتليت بالمحلل، كثر في زمانه المحلل، لو طلق الرجل امرأته ثلاثاً استأجر من يحللها له، والمحلل ملعون كما في الحديث: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) ، ويقول: جاء في صحيح مسلم: (أن الطلاق الثلاث كانت تحسب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، وكذلك في عهد أبي بكر، وأن عمر هو الذي أجراها وجعلها ثلاثاً) ؛ فقال اجتهاداً منه: أنا أعمل بهذا الحديث، أعمل بما كان في العهد النبوي، هذا عذر الإمام ابن تيمية، وكان يفتي بذلك شيخنا ابن باز رحمه الله، فمن جمع الثلاث بقوله: طالق ثلاثاً أو طالق بالثلاث تكون واحدة، لما جاء في هذا الحديث.
والعلماء أجابوا عن حديث ابن عباس الذي فيه أن الثلاث واحدة بستة أجوبة تجدونها في كتب الشروح: كسبل السلام ونيل الأوطار وغيرها، ومنها: أنه كان منسوخاً ولم يتفطن لنسخه إلا عمر.
ومنها: أن الحديث مضطرب ولا يعمل به.
ومنها: أن ابن عباس خالف هذا الحديث وأفتى بأن الثلاث تكون ثلاثاً، ولو كانت بلفظ واحدة، إلى غير ذلك.
ثم منهم من يقول: إذا قال: طالق ثلاثاً، أو طالق بالثلاث بكلمة واحدة فهي واحدة، وإذا قال: طالق وطالق وطالق، أو طالق ثم طالق ثم طالق فإنه يقع الثلاث، يعني: لم تقع إلا طلقة واحدة إذا قال: طالق بالثلاث أو طالق ثلاثاً، بخلاف ما إذا قال: طالق وطالق، أو طالق ثم طالق فتقع الثلاث.
ثم طلاقها وهي حائض طلاق بدعة، وطلاقها في طهر قد جامعها فيه طلاق بدعة، ولكن هل يقع؟ في ذلك أيضاً خلاف؛ فـ شيخ الإسلام وتبعه الشيخ ابن باز على أنه لا يقع إذا طلق وهي حائض أو في طهر قد جامع فيه، والجمهور على أنه يقع ولو كان طلاق بدعة، هذا قول الجمهور.
ذكر المصنف رحمه الله هنا أنه إذا طلق مدخولاً بها في زمن الحيض أو في طهر جامع فيه فهو طلاق بدعة محرم، ويقع، ولكن تسن رجعتها، واستدلوا بحديث ابن عمر: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستاء لذلك وقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) فقوله: (فليراجعها) دليل على أن الطلاق قد وقع، وهذا معنى قوله: (تسن رجعتها) ، فإن الرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وهو يدل على أنه طلقها في حيض ووقعت، وأمر أن يراجعها، إذا راجعها في ذلك الحيض أمسكها، حتى إذا طهرت بعد ذلك الحيض فإنه يجامعها؛ لأن الرجعة تكون بالوطء، ثم بعد ذلك يمسكها، فإذا مضى ذلك الطهر وحاضت حيضةً أخرى وطهرت، فإن شاء طلق وإن شاء أمسك.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أمره أن يراجعها في ذلك الحيض حتى تطهر، وفي الطهر الذي بعد ذلك الحيض يطؤها فيه، ولا يطلقها في ذلك الطهر حتى تحيض حيضة غير التي طلقها فيه، فإذا حاضت أمسكها حتى تطهر، فإذا طهرت في الحيضة الثانية طلقها إن شاء أو أمسكها، وإذا تأملنا ذلك وجدنا أن الحكمة فيه تقليل الطلاق؛ لأن الشرع يكرهه، وذلك لأن الزوج إذا حاضت امرأته قد تكرهها نفسه؛ لأنه لا يقدر على الانتفاع بها والاستمتاع، فإذا طلقها وهي حائض تسرعاً منه فإنه يندم، بخلاف ما إذا أمسكها، فنقول له: أمسكها حتى تطهر، فإذا طهرت فقد تغلبه شهوته فيطؤها فإذا وطئها في ذلك الطهر قلنا له: لا تطلقها في ذلك الطهر حتى يتبين حملها، فإذا أمسكها ولم يتبين فقد يبغضها، فإذا حاضت المرة الثانية قلنا له: لا تطلقها في هذا الحيض فهو طلاق بدعة، أمسكها حتى تطهر، لا يجوز الطلاق في الحيض، فهو يمسكها مع كراهته لها، وإذا طهرت من الحيضة الأخرى فقد يندفع إليها ويجامعها، فإذا جامعها عرف أيضاً أنه لا يحل له أن يطلقها في ذلك الطهر الذي وطأها فيه، فيمسكها وربما يتغير ما في قلبه، ربما يتراجع عن عزمه على الطلاق، فيمسكها ويبقيها زوجة له، وتصلح الحال بينهما، هذا هو السبب في النهي عن طلاق البدعة.
عرفنا أن طلاق الثلاث طلاق بدعة، ويقع عند الجمهور، وأن من طلاق البدعة الطلاق في الحيض، ومع ذلك يقع عند الجمهور , وأن من طلاق البدعة أن يطلق في طهر قد جامع فيه، ويقع عند الجمهور، ولا يقع عند بعض المحققين.(66/8)
حكم طلاق الغضبان
مما وقع فيه الخلاف إذا طلق في حالة غضب، وهو (طلاق الغضبان) ، وقد قسم العلماء الغضب إلى ثلاثة أقسام: الأول: عند ابتداء الغضب، وهذا يقع الطلاق فيه بلا خلاف.
القسم الثاني: الغضب الشديد الذي لا يذهب الإحساس، وهذا يقع الطلاق فيه عند الجمهور، وخالف في ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وألّف ابن القيم رسالة مطبوعة اسمها: إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان، ورجح أنه لا يقع.
والقسم الثالث: الغضب الذي يذهب الإحساس ويسبب الإغماء والغيبوبة، فهذا لا يقع.(66/9)
حكم طلاق الحامل والصغيرة والآيسة وغير المدخول بها
ذكر المصنف رحمه الله الطلاق الذي لا يسمى سنة ولا بدعة فقال: (ولا سنة ولا بدعة لمستبين حملها) يعني: متى بان حملها، فإنه يطلقها متى أراد، وطلاق الحامل جائز بكل حال وليس ببدعة، ففي حديث ابن عمر أنه قال: (ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً) يعني: طاهراً ليست حائضاً في طهر لم يجامعها فيه، أو حاملاً قد تبين حملها، والطهر هاهنا هو طهرها من الحيض، أي: بعد انقضاء الحيض واغتسالها بعده.
ذكر عن بعض الجهلة أنه لما سمع أنه لا يطلق إلا في طهر ظن أنه لا يطلق إلا متطهراً؛ يعني: متوضئاً أو مغتسلاً، وهذا قلة فهم، والمراد طهر للمرأة، أي: وهي ليست حائضاً.
وكذلك الصغيرة التي لم تحض يجوز طلاقها متى أراد، وليس لطلاقها سنة ولا بدعة؛ وذلك لأنها لا تحيض ولا تحمل، فمتى أراد يطلقها ولو في طهر جامعها فيه؛ لأنها لا تحيض، فله أن يطلقها متى شاء.
وكذلك الآيسة التي قد بلغت سن اليأس يقول تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4] يطلقها متى شاء فليس لطلاقها سنة محددة.
وكذلك أيضاً غير المدخول بها، أي: التي لم يكن دخل بها، فإن له أن يطلقها متى أراد، ولا يشترط أن تكون طاهراً أو حائضاً.(66/10)
صريح الطلاق وكنايته
ذكروا أن الطلاق له صريح وله كناية: فصريح الطلاق إذا قال: أنت طالق، أو قد طلقتك، أو أنت مطلقة، فيقع الطلاق بصريحه مطلقاً، وكذلك معنى الطلاق كما لو قال: فارقتك أو خلعتك أو لست في ذمتي، أو أنت لست زوجة لي أو ما أشبه ذلك، الطلاق والتسريح والفراق ورد في القرآن في قوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] ، وفي قوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ، إذا قال: سرحتك، أو أنت مسرحة، فارقتك أو أنت مفارقة، طلقتك أو أنت مطلقة؛ فهو صريح، وكذلك يكون صريحاً بلفظ (طلاق) وما تصرف منه: طلاق، وطالق، أنت طلاق، وأنت طالق، وأنت مطلقة، قد طلقتك، وما تصرف منه، إلا الأمر لا يقع به، إذا قال: اطلقي أو اسرحي، فهذا أمر لا يقع به الطلاق، وكذلك المضارع مثل: تطلقين أو تسرحين، هذا أيضاً لا يصح، لا بد أن يكون بلفظ الماضي أو بلفظ اسم المفعول مطلَّقة، أما إذا قال: مطلِّقة (بكسر اللام) فلا يقع الطلاق؛ لأنه يقصد أنت مطلقة لغيركِ.
وأما الكنايات فهي كثيرة: مثل أن يقول: اخرجي، اذهبي، ذوقي، تجرعي، حبلك على غاربك، أو قال مثلاً: بتتكِ، أنت خلية، أنت برية، أنت بائن، أنت حرة، أنت حرج، فهل يقع الطلاق بهذه الكنايات التي ليست صريحة؟ يقع بالكناية إذا نوى، فيقال له: هل نويت؟ إذا قلت مثلاً: اخرجي، ذوقي، تجرعي، حبلك على غاربك، أنت خلية، أنت برية، أنت حرة، أنت حرج، هل نويت طلاقاً، أم لم تنوِ طلاقاً؟ فإن قال: قلت لها: أنت حرة؛ لأنها ليست مملوكة، أنت حرة؛ يعني: بنفسكِ، ما ملكتكِ ملكاً كما تملك الإماء.
وكذلك قوله: أنت الحرج، فإن قال: لا أريد بذلك أنها محرمة علي، وإنما أريد أن أحرجها، وقولي لها: اذهبي ذوقي اخرجي، ما أريد إلا تأديبها، أما إذا قال: نعم، قد أردت فراقها؛ فإنها تطلق بهذه الكناية.
إذا قال: أنت علي حرام، أو أنت كظهر أمي، أو ما أحل الله علي حرام، فهذا ظهار، يأتينا في باب الظهار كفارته هي المذكورة في أول سورة المجادلة، فإنه إذا حرم امرأته فالتحريم يعتبر ظهاراً، إذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أختي، أو كظهر ابنتي أو كبطنها أو كفرجها، فإن هذا أيضاً ظهار، أو ما أحل الله منكِ علي حرام؛ فهذا ظهار، فإذا قال: نويت الطلاق، نقول له: لا يقع، لكن عليك كفارة أو عليك أن تصرح بالطلاق.
إذا قال: أنت علي كالميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير، يعني: محرمة، وقع ما نواه، إن كان نوى طلاقاً وقع طلاقاً، وإن كان لم ينوِ فإنه ظهار، ومع عدم النية يكون ظهاراً.
إذا قال: هلكت بالطلاق وكذب؛ فإنه يديَّن، هل أنت صدقت في أنك هالك بالطلاق؟ فإذا قال: ما أردت إلا اليمين، ما أردت الطلاق، فإنه يديَّن ويكون عليه كفارة اليمين.
وأما إذا قال: حلفت بالطلاق، أو علي الطلاق من امرأتي أن أفعل كذا وكذا، وكان قد نوى الطلاق، فإنه يقع، ويلزمه حكماً ظاهراً، فإذا طالبت امرأته وقالت: إنه قد حلف بالطلاق، وقال مثلاً: إن لم تخرجي فأنتِ طالق، إن لم تركبي معي فأنت طالق، أو قال: إن خرجت مع فلان فأنت طالق، وكان يريد الطلاق؛ فإنها تطلق، فإن كان لا يريد إلا اليمين يديَّن.(66/11)
عدد الطلقات للحر والمبعض والعبد
كم يملك الحر والمبعض من الطلقات؟ يملك الحر والمبعض ثلاثاً، والعبد يملك اثنتين، إذا طلق الحر واحدة فله أن يراجع؛ لأنها رجعية، فإذا طلق الثانية فله أن يراجع، أما إذا طلق الثالثة فلا رجعة بعدها حتى تنكح زوجاً غيره.
وكذلك المعتق بعضه الذي ليس حراً كله؛ نصفه حر، ونصفه عبد يملك ثلاثاً، أما العبد فلا يملك إلا طلقتين، إذا طلق طلقتين لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.(66/12)
حكم الاستثناء من الطلاق والمطلقات
ما هو حكم الاستثناء من الطلاق ومن المطلقات؟ يصح استثناء النصف فأقل، ولا يصح استثناء أكثر، إذا كان له مثلاً أربع زوجات فقال: زوجاتي طوالق إلا اثنتين، صح ذلك، ووقع الطلاق على اثنتين ولم يقع على اثنتين؛ لأنه استثنى النصف، وكذلك لو قال: زوجاتي الثلاث طوالق إلا واحدة، الواحدة أقل من النصف، أما لو قال: زوجاتي الأربع طوالق إلا ثلاثاً، ما يصح استثناء أكثر من النصف، أو زوجاتي الثلاث طوالق إلا اثنتين ما يصح؛ لأنه استثنى أكثر من النصف، والاستثناء يكون بالنصف فأقل.
وهكذا الطلقات وصورتها أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، كم يقع بها؟ تقع اثنتان؛ لأن الواحدة أقل من النصف، أما إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين فإنه لا يصح الاستثناء؛ لأنه استثنى أكثر من النصف، لا بد أن يكون الاستثناء بالنصف فأقل.
اختلف فيما إذا زاد على ما يملك، لو قال: أنت طالق أربع طلقات إلا اثنتين، فهل يقع؟ هو ما يملك إلا ثلاث، ففي هذه الحال الصحيح أنه يصح استثناؤه، أو قال: أنت طالق عشر طلقات إلا اثنتين تطلق واحدة؛ لأنه استثنى أقل من النصف.(66/13)
شروط صحة الاستثناء
متى يصح الاستثناء؟ اشترط له التلفظ أما إذا كان بالنية، فلا، مثال النية أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، ثم قال: استثنيت واحدة بقلبي، أو زوجاتي الأربع مطلقات، وسئل بعد ذلك فقال: استثنيت فلانة، أو استثنيت اثنتين، هذا ما ينفعه؛ لا بد أن يكون الاستثناء باللفظ.
الشرط الثاني: شرط اتصال المكان، وشرط النية قبل تمام المستثنى منه، الاتصال أي: لا يكون مفصولاً، صورته مثلاً: إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، وسكت نصف ساعة أو ربع ساعة ثم قال: إلا واحدة، لا ينفعه الاستثناء، لا بد أن يكون متصلاً بالكلام.
ذكر عن رجل أنه دخل على المنصور وعنده أبو حنيفة فقال له: إن أبا حنيفة يخالف جدك ابن عباس يقول: إن الاستثناء لا يكون إلا متصلاً، فقال المنصور: ما تقول يا أبا حنيفة؟ قال أبو حنيفة: إن هذا الرجل يزعم أنه ليس لكم بيعة عند الرعية، قال المنصور: لماذا؟ قال: يحلفون لكم، وإذا رجعوا إلى بيوتهم استثنوا، وصح لهم أن ينقضوا العهد؛ لأنهم قد استثنوا، فعرف المنصور أن الاستثناء لا يكون إلا متصلاً، وأقر أبا حنيفة على ذلك، والأثر الذي روي عن ابن عباس أنه كان يجيز الاستثناء ولو متأخراً، لم يثبت عنه على الصحيح، فهو أثر ضعيف، فالاستثناء لا بد أن يكون متصلاً، لكن لو سكت للتنفس صح، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، ثم وقف يتنفس ثم قال: إلا واحدة، فهذا اتصال مكان.
ولا بد من النية قبل أن يتم المستثنى منه، فلو قال: أنت طالق ثلاثاً، وما كانت نيته الاستثناء، ولكنه لما أكمل كلامه قال: إلا واحدة، فلا تنفعه؛ لأنه ما نوى الاستثناء قبل تمام الكلام.(66/14)
حكم الاستثناء بالقلب
هل يصح الاستثناء بالقلب؟ يقول المصنف: (يصح من مطلقات لا من طلقات) ، إذا قال مثلاً: زوجاتي طوالق وله أربع، ونوى بقلبه استثناء واحدة أو استثناء اثنتين، يصح؛ وذلك لأن كلمة زوجات تصدق على اثنتين وعلى واحدة، فلا حرج في أن يستثني بقلبه من المطلقات، وأما الطلقات فلا يصح الاستثناء إلا باللفظ، ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في عدد الطلقات.(66/15)
مسائل غريبة في الطلاق
تكلم المصنف هنا على مسائل فيها بعض الغرابة، أولاً: إذا قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت في الحال؛ لأن الآن قبل موته، ولا يدرى هل يموت بعد دقائق أو يموت بعد سنوات أو بعد عشرات السنين؛ فتطلق في الحال؛ لأنه جعل الطلاق قبل الموت وهذا الوقت قبل موته.
ثانياً: إذا قال: أنت طالق بعد موتي فهل تطلق؟ ما تطلق؛ لأنها بعد موته قد بانت منه؛ لأن الموت بينونة كبرى، ومفارقة كاملة، فلا يقع الطلاق، هذا إذا قال: بعد موتي، وإذا قال: أنت طالق مع موتي هل تطلق؟ لا تطلق أيضاً، وما ذاك إلا لأن الطلاق لا بد أن يكون في الحياة، وأما حالة الموت فلا يصح.
وقد ذكروا أنه لو طلقها وهو مريض، فإنها ترث منه، حتى ولو انتهت عدتها؛ لأن الغالب أنه يقصد حرمانها، فيطلقها في المرض حتى لا ترث، فالطلاق مع الموت أو مع قربه لا يقع، لكن إن كان في مرض معتاد وقع الطلاق، لكن إذا اتهم بقصد حرمانها فإنها ترث.
وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر، متى تطلق؟ تطلق في الحال؛ لأن هذه الحال من هذا الشهر.
وإذا قال: أنت طالق اليوم؛ تطلق ساعة ما يتلفظ، ولا حاجة إلى أن يؤخر الطلاق إلى نهايته.
وإذا قال: أنت طالق في هذه السنة؛ تطلق حالة ما يتكلم، سواء قال: أنت طالق اليوم أو في هذا الأسبوع أو في هذا الشهر أو في هذه السنة؛ فإنها تطلق ساعة ما يتكلم.
ولو قال: ما أردت طلاقها في الحال، وإنما أردت آخر الكل، يقبل حكماً؛ يعني يصدق.
فإذا قال: ما أردت إلا آخر اليوم؛ فإنها تطلق عند غروب الشمس، وإذا قال: آخر الأسبوع؛ فإنها تطلق آخر يوم الجمعة، وإذا قال: آخر الشهر؛ فإنها تطلق آخر يوم ثلاثين الذي هو آخر الشهر، أو آخر تسع وعشرين إن كان الشهر ناقصاً، وهكذا آخر السنة يقبل قوله حكماً.
إذا قال: أنت طالق غداً، يراد بغدٍ اليوم الذي بعد هذا اليوم، تطلق في أوله، وأول غدٍ متى هو؟ وقت إمساك الصائم، يعني: وقت طلوع الفجر، فإنه أول النهار، فتطلق وقت طلوع الفجر وتبيُّن الصبح، وقبل ذلك لو ماتت؛ ورثها، ولو مات قبلها ورثت منه؛ لأنها لا تزال زوجة، وتحد عليه ونحو ذلك.
إذا قال: أنت طالق يوم السبت مثلاً، يوم السبت قيل: إنه يدخل فيه الليل، فتطلق إذا غربت شمس يوم الجمعة؛ لأن الليلة تكون من يوم السبت، ولكن الأكثرون على أنه يفرق بين يوم السبت وليلة السبت، فلا تطلق إلا في أول صباح يوم السبت بطلوع الفجر، لو قال: أردت آخر يوم السبت أي: وقت غروب شمس يوم السبت، أو قال: أردت آخر الغد كأن قال: أنت طالق غداً، وأراد بها آخر النهار قرب غروب الشمس، هل يقبل؟ لا يقبل.
إذا قال: إذا مرَّت سنة فأنت طالق، كلمة سنة اسم لمضي اثني عشر شهراً، فمتى مضى اثنا عشر شهراً هلالياً فإنها تطلق، لكن في بعض البلاد يوقتون بالأشهر الشمسية أو الميلادية، فإذا كان ذلك معتاداً عندهم، فلا بد أن يمضي اثنا عشر شهراً شمسياً من الأشهر المعروفة عند أهل التاريخ الميلادي، وأما إذا قال: اثنا عشر شهراً وهو من المسلمين وبينهم، فتكون الأشهر هلالية؛ لأن هذا هو المعتاد والمعروف عند المسلمين.
إذا قال: إذا مضت السنة فأنت طالق؛ السنة في اصطلاح المسلمين هي السنة الهجرية، وتبدأ بشهر محرم، وتنتهي بشهر ذي الحجة، فتطلق في آخر شهر ذي الحجة؛ لأن هذه هي السنة الهجرية، وإذا كان ممن يؤرخ بالتاريخ الميلادي، فإنها تطلق بنهاية السنة الميلادية، فقبل أن يدخل الشهر الميلادي الذي يستقبلون به السنة ويسمى: يناير تطلق، وتنتهي السنة بشهر ديسمبر.
الحاصل أن مثل هذه المسائل يذكرها الفقهاء، وبعضها قالوه بالاجتهاد، ومع ذلك فإنهم يقيسون بعضها على بعض على أقل ما يليق بها، فنقول: لا يشترط أن يكون على كل جملة نصٌ أو دليل واضح، بل الأدلة تؤخذ من العمومات أو تؤخذ من المسميات، ونعرف أيضاً أن كثيراً منها خلافية أي: يوجد فيها خلاف بين الفقهاء، وإنما ذكروا ما يترجح لهم.(66/16)
شرح أخصر المختصرات [67]
اهتم الفقهاء بباب تعليق الطلاق بالشروط، وذكروا فيه مسائل عديدة، وفرقوا بين كثير منها بفروق دقيقة، وكل ذلك استنباط من الأدلة الشرعية وأصول اللغة العربية، ومعرفة هذه المسائل فيها تدريب لطالب العلم على الاستنباط والفتوى.(67/1)
الحكمة من مشروعية الطلاق
دين الإسلام دين وسط، والأدلة على هذا كثيرة؛ ومن ذلك أنه أباح الطلاق، وأباح الرجعة، وذكروا: أن النصارى ليس عندهم طلاق، بل متى عقد على المرأة فلا يقدر على أن يتخلص منها، ويلزمونه بإبقائها مهما كانت الحال، ويشددون عليه في أن يمسكها، ولو أساءت صحبته، ولو أضرت به، ولو كانت مخالفة له في أمر العقيدة أو في أمر الديانة، ولا يقدر على أن يتخلص منها، هكذا قالوا.
وإذا قدر أنه فارقها فإنهم يلزمونه بالإنفاق عليها بقية حياتها، ويقولون له: إنك أفسدت عليها حياتها، وإنك أضررت بها حيث تزوجتها ثم طلقتها، وذلك ضرر عليها، من أين تأكل؟ وكيف تعيش وقد فارقتها؟ فإما أن تؤمن لها معيشة، وإما أن تبقيها عندك ولا تفارقها، هذه ديانة النصارى، وقد انتشرت هذا الظاهرة في كثير من الدول التي تتسمى بالإسلام؛ وذلك بسبب تأثرها بالاستعمار النصراني، وقد أثر فيها مجاورة النصارى، فهذه الدول تحرم أن يتزوج الرجل أكثر من واحدة.
وكذلك أيضاً يمنعون من الطلاق تأثراً بمجاورة من حولهم من النصارى.
وكذلك أيضاً إذا عقد عليها فرضوا عليه صداقاً مؤخراً، ويقولون: هذا المؤخر لو قدر أنه مات قبلها، أو قدر أنه طلقها، فإن هذا المؤخر يؤمن لها حياتها، ويؤمن لها معيشتها، فهذه عادة ورثوها من النصارى.
ونحن نقول: لا بأس إذا طلبت تأخير صداقها وقالت: لست بحاجة إليه الآن، أدعه كوديعة عندك متى بدت لي حاجة طلبتك، أو إذا فارقتني بموت أو بطلاق طلبته، لا بأس بهذا المؤخر، وأما اعتياده واعتقاد أنه لا يحصل عقد إلا بفرضه، فهذا يخالف ما عليه تعاليم الإسلام؛ لأنهم فرضوا شيئاً زائداً على شرع الله تعالى.
إباحة الطلاق من محاسن دين الإسلام، إذا كره الرجل امرأته، ونفرت منها نفسه، أبيح له أن يطلقها، كما أنها إذا كرهته لسوء خلقه أو لسوء معاملته فلها أن تفتدي، أي: أن تدفع مالاً حتى يخلي سبيلها؛ لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] ، وهو ما يسمى: بالخلع.(67/2)
من أسباب وقوع الطلاق بين الزوجين
كثيراً ما يحدث الشقاق والنزاع بين الزوجين، يكون أحياناً من الزوج وأحياناً من الزوجة، ويكون نتيجته الطلاق؛ ومن أعظم أسباب ذلك -والله أعلم-: سوء التربية للزوج أو للزوجة، فالزوج مثلاً ينشأ في ترف وفي سرف، وينشأ في مجتمع فاسد يألف اللهو واللعب، ويألف المعاصي والمحرمات، ويشب عليها، فإذا تزوج امرأة حصينة محصنة عفيفة أساء معاملتها أو أضر بها، مما يحملها على بغضه وكراهيته وطلب الطلاق.
أحياناً يسهر مع شلة من جنسه إلى الساعة الثانية أو الثالثة ليلاً، ثم يأتي وهو مجهد، فيلقي بنفسه على الفراش، ولا يستيقظ إلا قرب القيلولة، ويتركها أول الليل وحيدة تذرف عيناها بالدموع، لا تدري أين هو، ليس عندها من يؤانسها، ولا يسمح لها أن تكون عند أهلها، ولا أن تكون عند جيرانها، فهي وحيدة ولا تدري أين هو، هل هو في بئر أو في بطن سبع؛ أو على أي شيء سَهِر؟ وسهره غالباً على معاصٍ، حيث إنه نشأ منذ ترعرع مع أولئك الفاسدين المفسدين، فيسهرون على لعب ولهو، ويسهرون على غناء وطرب، ويسهرون على أعواد وعلى دفوف وعلى طبول طوال ليلهم، وقد يسهرون على خمر وزمر ودخان وما أشبه ذلك، وقد يسهرون على مشاهدة أفلام خليعة عبر القنوات الفضائية، ينظرونها ويشاهدونها عبر الشاشات، ويكون ليلهم ضحكاً وقهقهة وتفكهاً وتسلية، كما يعبرون، وهكذا ينقضي ليله، ولا شك أنها تتألم وتتضرر إذا كانت هذه حالته.
فعلى هذه الحال لها أن تطلب الطلاق، كيف تقيم زمناً طويلاً وهي وحيدة ليس عندها من يؤانسها، ولا من يزيل وحشتها؟!! وهكذا أيضاً كثير من الأزواج يكون سيئ الخلق مع امرأته، فهو يشدد عليها، ودائماً يسبها ويشتم ويثلب ويعيب ويقبح، ويمد يده ويضرب ويؤلم، وينتقدها على أقل شيء مما ينتقد، ويدقق عليها بأي شيء إذا لم تفعله، بحيث إنه إذا جاء مثلاً وتأخرت عن إحضار الطعام قام وسب وأقذع في السب، وبالغ فيه، وتكلم بكلام سيئ يقلق راحتها، ويقض مضجعها، فهذا بلا شك مما يسبب قلقها، حتى لا تصبر، وتطلب الفراق ولو كان ما كان، وتتمنى أن تعيش وحيدة ولا أن تكون قرينة ذلك الزوج.
كذلك مما يسبب الفراق أيضاً أن كثيراً من الأزواج يكون شديداً على امرأته، بحيث يهجرها دائماً، ويغلق عليها، ولا يترك لها متنفساً، فلا يمكنها من زيارة أبويها ولا أقاربها، حتى ولو استدعوها، ولا يمكنها من زيارة أهل فلان كأصدقاء أو جيران لها، فهي دائماً منفردة، مغلق عليها بأشد التغاليق، فماذا تفعل؟ لا شك أنها والحال هذه لا يهنأ لها عيش، ولا يستقر لها قرار، فتكون متمنية دائماً أن تفارقه؛ لأنها تعتبر سجينة، وتعتبر نفسها في أشد الضرر؛ وذلك مما يسبب طلبها الفراق؛ بسبب الصحبة السيئة.
كذلك أيضاً كثير من الأزواج سيئ الظن بامرأته، بحيث إنه يكاد أن يقذفها وأن يرميها بفعل الفاحشة، إذا رآها رفعت السماعة اتهمها أن لها أصدقاء، وإذا رآها خرجت اتهمها أنها خرجت للزنا، أو نحو ذلك، ودائماً يسألها ويحلّفها، وأدنى حركة يظن أنها فعلت مع غيره أو زنت أو نحو ذلك، مع أنها في الظاهر محصنة قد أحصنت فرجها، قد حفظت نفسها، ولكن لشدة ظنه وتشدده يقع منه هذا الظن السيئ، وقد ورد النهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث) .
وهناك أسباب أخرى لعلكم تعرفونها أكثر مما ذكرنا.
وأما بالنسبة للزوجة فلا شك أيضاً أنه يحصل منها أسباب تحمل الزوج على الفراق، منها: أن كثيراً من الزوجات نشأت في بيت ترف، وفي بيت إسراف، وفي بيت فساد، قد أعطاها أهلها ما تريد، وقد أطلقوا لها الحرية، وقد مكنوها من كل شيء تتمناه، فهي عند أهلها قبل زواجها تسرح وتمرح، إذا شاءت دخلت الأسواق وحدها أو مع غيرها، ولا تبالي أن تزاحم الرجال، وقد تتكشف وتتبرج أمام الرجال الذين يحتكون بها.
وكذلك أيضاً قد تطول غيبتها عن أهلها، وأهلها قد أطلقوا لها الحرية، وتركوا لها الحبل على الغارب، ومكنوها مما تريد.
ومنها: أن كثيراً من البنات تعيش عند أهلها فيما يسمونه بالرفاهية والتنعم، فهم يجلبون لبناتهم ما يتمنينه، فتجد البنات قد نشأن على سماع الغناء دائماً والتلذذ به، ونشأن على رؤية الصور التي تفتن، فهن دائماً مقابلات لهذه الشاشات التي تُعرض فيها الصور الفاتنة الفاضحة، والمرأة ضعيفة التحمل، فهي قد عاشت على هذه العيشة الشريرة التي عاقبتها سيئة.
ومنها: تمكين أهلها لها من شراء الصور الفاتنة، والمجلات الخليعة التي فيها صور فاتنة هابطة، إذا رآها الرجل أو المرأة اعتقد أن أهلها هم أهل الرقي وأهل التقدم وأهل الحضارة وأهل الثقافة، فتقلدهم، وتفعل كما تفعل أولئك النساء اللاتي صورت صورهن في تلك المجلات متكشفات متبرجات، فماذا تكون حالتها وقد عاشت عشرين سنة أو نحوها على هذه الصور، وعلى النظر فيها؟ لا شك أنها تحب التقليد لأولئك، فهذا من أسباب فساد البنات.
ومنها: أن كثيراً من البنات يمنعهن أهلهن من العمل، فإذا دخلت بيتها فليس لها عمل إلا أن تنطرح على فراش أو تقرأ في قصة، أو تنظر إلى أفلام أو صور، ولا تمد يدها لشغل، قد أراحها أهلها، واجتلبوا لها خادمة تكفيها مئونة بيتها، فهي لا تحسن أن تصلح طعاماً، ولا أن تصلح شراباً، ولا أن تغسل ثوباً، ولا أن تنظف بيتاً، ولا أن تنظف إناءً، قد اعتادت الرفاهية، واعتادت الكسل، واعتادت الخمول، ورضيت بذلك، ورضي بذلك أهلها، ولم يعلموها أية حرفة، فإذا تزوج مثل هؤلاء البنات ماذا تكون حالتهن إذا تزوجن؟! فهل في الإمكان أن تشتغل لزوجها؟ لا يمكن أنها تشتغل، سمعت قصة أوردها شيخنا الشيخ ابن حميد رحمه الله، وهي: أن رجلاً كان وحيداً هو ووالدته في بيت واسع، ثم إنه تزوج امرأة وقال: أتزوج يا والدتي امرأة تساعدك على شغل الدار، وتشتغل وتحترف معك، فلما تزوج تلك المرأة التي قد رفهها أهلها ونعموها، وعاشت في غاية التنعم، دخلت إلى بيته وبقيت على الفراش، ففي اليوم الأول قامت أمه بإصلاح الطعام وبكنس الدار، والزوجة الجديدة تنظر إليها، ثم في اليوم الثاني رأى والدته أيضاً قامت تكنس الدار وتصلحها، فقال: يا أماه! دعيني أكنس معك.
يريد بذلك إثارة همة هذه الزوجة لعلها أن ترفق به وتقول: بل أنا أقوم مقامك، ولا تكلف نفسك، أنت رجل.
فامتنعت أمه وصارت هي التي تكنس.
في اليوم الثالث دخل وإذا أمه تكنس الدار، أيضاً حاول أن يكنس معها فأبت أمه، فأطلت هذه الزوجة الجديدة من النافذة تتفرج عليهما، فقالت: أنا أحكم بينكما: عليك أن تكنس يوماً، وعلى أمك أن تكنس يوماً! هذا جوابها!! ما تنازلت أن تنزل وتريح زوجها من هذا العمل، ففي هذه الحال ماذا تكون حالتها؟ فالرجل يتزوج المرأة من أجل أن تريحه، وأن تصلح له الطعام، فإذا جاء من عمله يجده مهيأًً، وكذلك تغسل ثوبه، وتغسل أواني بيتها وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يضرها، بل إنه يعودها على الحركة، ويذهب عنها الخمول والكسل الذي اعتادته ونشأت عليه، وهو مما يضر بصحتها.
فهذا ونحوه من أسباب الفراق، إذا تزوجها ولم يجد منها إلا خمولاً وضعف همة، وانقطاعاً عن أن تنفعه أو تنفع غيره، فلا شك أن هذا يسبب الفراق.
كذلك مطالبتها بما نشأت عليه، مثل أن يحضر لها تلك المجلات الخليعة؛ لأنه لا صبر لها عنها؛ ولأنها تربت عليها، أو دخل عليها وعثر عليها عندها، فهذا مما يجلب له الظن السيئ بها، وكذلك إذا ألحت عليه في أن يجلب لها الأفلام والصور الخليعة المسجلة في أشرطة الفيديو وغيرها، أو طلبت منه أن يمكنها من شراء هذه الأفلام، فهذا أيضاً مما يسبب مقته وبغضه، لها وسرعة فراقه لها.
ومنها: إذا رآها مكبة على سماع الغناء الماجن والتلذذ به، ولا همة لها في أن تصلح شأنه أو شأن بيتها، بل هي مكبة على هذا السماع واللهو، فهذا من أسباب الفراق، فيمقتها ويقول: هذه لا حاجة لي فيها، ولا منفعة لي منها، فكيف أتحمل؟! وكيف أصبر وأقوم أنا بخدمتها؟! ولا شك أن هذا من آثار تربية أهلها الذين ربوها التربية السيئة، ولم يعلموها شيئاً من عمل البيت ولا من عمل الحرفة، ونعموها، وأحضروا لها مطالبها.
ومنها: كون البنت درست وواصلت الدراسة، ووصلت إلى مرحلة راقية، أصبحت جامعية أو دكتورة أو نحو ذلك، وقد يكون الرجل دونها في هذا المؤهل، فتحتقره، وتقلل من شأنه، ومن أمره، وتقول: أنا أرفع منك رتبة، وأنا أعز منك منزلة، وأنا وأنا مما يجعله يبغضها، ويعجل بفراقها.
ومن أسباب الفرقة: الوظيفة، كونها موظفة في مدرسة كمدرسة أو مديرة أو نحو ذلك، أو موظفة في مستشفى كطبيبة أو ممرضة أو ما أشبه ذلك، فإن هذا أيضاً يأخذ منها وقتاً طويلاً على زوجها، وتكلفه أيضاً إيصالها أو ردها، أو تكلفه إحضار خادم أو سائق يذهب بها ويجيء، وذلك مما قد يسبب الريبة لخلوته بها، ولمخاطبته لها، ولا تلين لزوجها، بل تلزمه بذلك إلزاماً، فهذا ونحوه من آثار التربية السيئة.(67/3)
علاج الأسباب المؤدية إلى الطلاق
الواجب على الوالدين أن يربوا أولادهم ذكوراً وإناثاً التربية الصحيحة، التربية السليمة، فيربون الذكور على محبة العلم والعمل، العلم النافع، والعمل الصالح، والعبادة ومحبتها، ومحبة الصالحين، وعلى الآداب الإسلامية، وعلى الأخلاق الفاضلة العالية، ومن ذلك حسن المعاملة لأبويهم، وكذلك لإخوتهم وللمسلمين عموماً ذكوراً وإناثاً، فإن الشاب إذا نشأ على هذه التربية علم بأن عليه حقوقاً: حق لله تعالى، وحق لعباده، وحق لنفسه، وأعطى كل ذي حق حقه، وعرف أنه إذا تزوج فإنه يجب عليه حسن المعاملة لهذه الزوجة، وحسن الصحبة، والتخلق بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وبذل الندى، وكف الأذى، وحسن المعاملة، وتجنب مساوئ الأخلاق، وإعطاؤها حقوقها، وتمكينها مما تريد مما لا محظور فيه، حتى تألفه، وحتى تعيش معه عيشة طيبة، وتجد مطلبها وراحتها، ويرزقها الله تعالى رزقاً حسناً.
وكذلك الزوجة إذا تربت على ذلك كان في ذلك توفيقاً بإذن الله لكل من الزوجين، وكل منهما يعيش العيشة الطيبة، ويحيا حياة طيبة، ويسعد سعادة طيبة، هذا هو العلاج الفعال لبقاء الزوجية، وعدم المفارقة لها.(67/4)
تعليق الطلاق بالشروط
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن علق طلاقًا ونحوه بشرطٍ لم يقع حتى يوجد، فلو لم يلفظ به وادعاه لم يقبل حكمًا.
ولا يصح إلا من زوجٍ بصريحٍ وكنايةٍ مع قصدٍ، ويقطعه فصلٌ بتسبيحٍ وسكوتٍ، لا كلامٌ منتظمٌ، كأنت طالقٌ يا زانية إن قمت.
وأدوات الشرط نحو: "إن" و"متى" و"إذا"، وإن كلمتك فأنت طالقٌ فتحققي أو تنحي ونحوه تطلق، وإن بدأتك بالكلام فأنت طالقٌ، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه وتبقى يمينها، وإن خرجتِ بغير إذني ونحوه فأنت طالقٌ، ثم أذن لها فخرجت، ثم خرجت بغير إذنٍ، أو أذن لها ولم تعلم طلقت.
وإن علقه على مشيئتها تطلق بمشيئتها غير مكرهة، أو بمشيئة اثنين، فبمشيئتهما كذلك، وإن علقه على مشيئة الله تعالى تطلق في الحال، وكذا عتق.
وإن حلف لا يدخل دارًا، أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوبًا من غزلها فلبس ثوبًا فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث، وليفعلن شيئًا لا يبر إلا بفعله كله ما لم يكن له نيةٌ، وإن فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا حنث في طلاقٍ وعتاقٍ.
وينفع غير ظالمٍ تأول بيمينه.
ومن شك في طلاقٍ أو ما علق عليه لم يلزمه، أو في عدده رجع إلى اليقين.
وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالقٌ.
طلقت زوجته، لا عكسها.
ومن أوقع بزوجته كلمةً وشك هل هي طلاقٌ أو ظهارٌ لم يلزمه شيءٌ] .
هذا الفصل يتعلق بالحلف بالطلاق، ويتعلق بتعليق الطلاق بالشروط، هكذا يبوبون: باب الحلف بالطلاق، أو باب تعليق الطلاق بالشروط.
والشروط هاهنا: هي الأمور المستقبلة، فمتى علق الطلاق أو العتق أو البيع أو نحو ذلك بشرط فلا يقع ذلك الشيء حتى يوجد ذلك الشرط، ويكثر تمثيل الفقهاء بهذا الشرط، ويقولون: متى علقه بشرط تعلق به، ولو أراد نقضه لم يقدر؛ لأن الشرط تعلق به، فلو قال: إن ولدت امرأتي ابنة فهي طالق.
ثم ندم قبل أن تلد، وهي لا تزال حاملاً، وقال: أبطلت شرطي، أبطلت طلاقي، لا ينفعه؛ وذلك لأنه علقه بشيء مستقبل، فإذا ولدت أنثى وقعت الطلقة التي علق بها.
وهكذا أيضاً إذا علقه بزمان مستقبل، كأن يقول: إذا دخل شهر ربيع الثاني فامرأتي طالق، وندم قبل انسلاخ هذا الشهر؛ لم ينفعه ندمه، بل تطلق بدخول شهر ربيع الثاني، ولو حاول إبطال الشرط، فإنه لا ينفعه إبطاله.
وكذلك إذا قال: متى قدم زيد فامرأتي طالق، ثم ندم قبل قدوم زيد، ما نفعه ندمه، بل يقع الطلاق وقت قدوم زيد.(67/5)
ضرورة التلفظ بالشرط المعلق في الطلاق
الشرط لابد أن يكون ملفوظاً، ثم قد يكون الشرط فعلاً، كأن يقول مثلاً: إن سافرتِ بدون محرم فأنت طالق، أو أنت طالق إن ركبت مع أجنبي.
وقد يقول: إنني أريد شرطاً ولم أتلفظ به، في هذه الحال هل ينفعه إذا قال: أنت طالق، ثم قال بعد مدة: أردت إذا سافرتِ؟ فقالت: أنت ما أسمعتني هذا الشرط، سمعتك تقول: أنت طالق، وسمعك فلان وفلان تقول: أنتِ طالق، فقال: إني أريد إذا سافرتِ بدون محرم، أو إذا خرجت بدون رضاي أو ما أشبه ذلك، وإنما قلته بقلبي، هل ينفعه ذلك؟ لا ينفعه إذا لم يتلفظ بذلك الشرط، وادعاه بعد ما وقع الفعل، بعدما وقع الطلاق لم يقبل حكماً، وأما إذا لم يسأل، وكانت هذه نيته، أو دلت على الشرط قرائن فإنه يُقبل؛ وذلك لأن هذا شيء بينه وبين الله، لا يعلم ما في قلبه إلا الله.
فإذا قال: ما طلقتها بهذا اللفظ إلا إذا فعلت هذا الفعل: إذا سمعت أغاني مثلاً، أو إذا خاطبت أجنبياً، أو إذا خرجت إلى الأسواق بدون إذني، أو إذا تبرجت وتكشفت للناس، هذه نيتي، فيقال له: أنت ما تكلمت بهذا، سمعك فلان وفلان تقول: أنتِ طالق، أو امرأتي طالق، ولم تقل: إن خرجت، ما أتيت بالشرط، فإذاً لا يُقبل منه، إلا إذا كان ذلك بينه وبين الله، ولم يسمع الطلاق منه أحد إلا امرأته.(67/6)
عدم صحة الطلاق المعلق وغيره إلا من زوج
قال المصنف رحمه الله: (لا يصح الطلاق إلا من زوج) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) يعني: الزوج، فإنه هو الذي يمسك امرأته وقت الوقاع، يمسك ساقها، ويمسك عضدها، الطلاق للزوج، فلو طلق عليه أبوه -مثلاً- لم يقع، لا يقول: امرأة ابني طالق، أو امرأة والدي طالق، أو امرأة أخي، لا يقع الطلاق إلا من الزوج.
وقد ذكرنا أن الطلاق صريح وكناية، وصريح الطلاق كقوله: أنت طالق، أنت مطلقة، قد طلقتك، وكذلك: فارقتك، وسرحتك، وما أشبه ذلك، هذا صريح.
والكناية لا يقع بها الطلاق إلا مع النية، كناية الطلاق هي اللفظ الذي ليس بصريح، مثل: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وأنت خلية، وأنت برية، وأنت بائن، وأنت حرة، وأنت حرج، ولست لي بامرأة، وحبلك على غاربك، وأمثال ذلك، فهذه محتملة، فإذا كان هناك نية أو هناك قرينة وقع الطلاق بالكناية.(67/7)
ما يقطع التعليق في الطلاق؟
قال المصنف رحمه الله: (يقطعه فصل بتسبيح وسكوت، لا كلام منتظم) .
الضمير في (يقطعه) الشرط والاستثناء، يقطعه تسبيح وسكوت، فلو قال مثلاً: أنت طالق، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، إن قمتِ، إن خرجتِ، بطل الشرط، ووقع الطلاق، ولا ينفعه هذا الشرط، وكذلك لو قال: أنت طالق، ثم سكت سكوتاً يمكنه أن يأتي فيه بكلام، وبعد سكوته قال: إن ركبت مع أجنبي.
لماذا لم تأتِ بالشرط ساعة ما نطقت بالطلاق؟ لا ينفعه هذا الشرط المتأخر؛ لأنه فصل بين الطلاق والشرط بالسكوت.
أما إذا كان الكلام متواصلاً فإنه والحال هذه يعتبر الشرط، ومثلوا له بقوله: أنتِ طالقة يا زانية إن قمت، كلمة (إن قمت) هذه هي الشرط، وفصل بينها بقوله: (يا زانية) ، وهكذا لو دعاها باسمها، إذا قال: أنت طالق يا بنت زيد إن خرجت بلا إذني، فهذا كلام متصل، ويعتبر الشرط، ولا تطلق إلا إذا خرجت بغير إذنه.(67/8)
أدوات الشرط المستعملة في الطلاق المعلق
ذكر المصنف أدوات الشرط، وهي معروفة في علم النحو وغيره، لكن اقتصر هنا على ثلاث: (إن) وهي الأصل، و (متى) ، و (إذا) .
مثالها: أنت طالق إن كلمتِ زيداً هاتفياً، أو أنتِ طالق متى خرجتِ بدون إذني، أنت طالق إذا ركبتِ مع سائق أجنبي.
أتى بـ (إن، وإذا، ومتى) فمتى أتى بها متصلة وقع الطلاق إذا وقع الشرط، هذا هو قول جمهور العلماء، أن الطلاق المعلق يقع بوقوع ذلك الشيء الذي علقه، إذا كان ذلك في الإمكان، وأما إذا علقه بشيء غير متصور؛ فإنه لا يقع، ومثل له بعض العلماء بما إذا قال: أنت طالق إن طرتِ، أو صعدتِ السماء، أو قلبت الحجر ذهباً، أو رددتِ اليوم الماضي، أو أحييتِ هذا الميت.
فهل يقع الطلاق؟ هذا شيء لا يتصور، ولا يمكن أن تقدر عليه، لا يمكن أن تقلب الحجر ذهباً، ولا أن تحيي الأموات، ولا أن ترد مثلاً يوم السبت الماضي.
وأما إذا عكس ذلك فإنها تقع الطلقة، إذا قال: أنت طالق إن لم تحيي الموتى، فتطلق في الحال، أنت طالق إن لم تصعدي إلى السماء، تطلق في الحال، وأشباه ذلك.(67/9)
حكم وقوع الطلاق المعلق
الطلاق المعلق عند جمهور العلماء يقع متى وقع الشرط، وهناك خلاف، فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه إذا لم ينوِ الطلاق، وإنما نوى التهديد، اعتبر يميناً، وكفاه أن يكفر كفارة يمين، وهذا هو الواقع كثيراً من الناس، فأكثر من يعلق الطلاق لا يقصد الطلاق، وإنما يقصد الحض أو المنع، يريد بذلك تهديدها، فإذا طلبها من أهلها وقال: اركبي معي، اذهبي إلى البيت، فتثاقلت فقال: إن لم تذهبي معي فأنت طالق، يقول: ما أردت طلاقها، ولكن أردت تخويفها حتى تخاف من الطلاق وتركب معي، ولكنها تمادت وعصت ولم تركب معه، هل يقع طلاقاً؟ يفتي شيخ الإسلام بأنه لا يقع الطلاق وإنما يكفر بإطعام عشرة مساكين كفارة يمين؛ فهو رحمه الله لاحظ المراد من هذا اللفظ.
كذلك إذا طلب أن يزور أهله وقال: تعالي معي إلى أهلي، فتثاقلت، فقال: إن لم تركبي معي إلى أهلي فأنت طالق، يريد بذلك تخويفها حتى تطيعه، ولا تتخلف، ولكنها امتنعت، فهل يقع الطلاق؟ يقول شيخ الإسلام: عليه كفارة يمين، وهذا يقع من كثير من الأزواج، فيعتبره شيخ الإسلام يميناً، ويعتبره غيره طلاقاً معلقاً.
إذا قال مثلاً: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فقال: ما أريد طلاقها، ولكني أريد ألا تخرج من البيت أو قال مثلاً: إن ركبتِ مع فلان، أو إن كلمتِ فلاناً ولو هاتفياً فأنت طالق، ثم قال: ما أريد فراقها، ولكني أريد تهديدها حتى لا يقع منها هذا العصيان، فهذا يعتبره شيخ الإسلام يميناً، فيها كفارة اليمين، ولو لم يكن حلفاً صريحاً، ولكن كأنه حلف، كأنه يقول: والله لتذهبن معي، أو لأمنعنك أن تركبي مع فلان، أو أن تكلمي أجنبياً، أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا حلفاً.
ولما أفتى شيخ الإسلام بهذا وافقه كثيرون، حتى الخصوم الذين خالفوه في كثير من المسائل الفرعية والأصولية وافقوه على هذه الفكرة، وله رسالة في تعليق الطلاق بالشروط، وكون ذلك يميناً، طبعت في المجلد الرابع والثلاثين، وقد أفردت وطبعت في نسخة مستقلة، وعلق عليها، وجعل لها مقدمة، وهذا يريح كثيراً من الذين يعلقون الطلاق بشرط مستقبل، ولا يكون قصدهم إيقاع الطلاق.
وأما الشيء الذي ليس باختيارها فإنه على الصحيح يقع به الطلاق، وقد مثلنا له في أول الكلام، كما لو قال: إن ولدتِ أنثى فأنت طالق، فهنا تطلق؛ وذلك لأن الذكور والإناث ليس باختيارها، وكذلك إذا قال: أنتِ طالق إذا دخل شهر ربيع الثاني، وهاهنا تطلق ولا يقال: إنه تهديد، ولا إنه حض، ولا إنه منع، وكذلك لو قال: أنتِ طالق إذا قدم زيد من سفره، فقدومه ليس باختيارها، فهذا لا يصلح تهديداً ولا وعيداً، وليس فيه حض ولا منع، فكل شيء ليس في إمكانها أن تفعله فإنه يقع، ويكون طلاقاً معلقاً بشرط، وأما الأشياء التي يكلمها به وفي إمكانها أن تفعل أو تترك فيعتبرونها يميناً، ويفتي بذلك شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، وغيره من زملائه، فإذا جاءهم من يقول: إني قلت لامرأتي: إن خرجت إلى السوق فأنت طالق، ثم ندمت فماذا أفعل؟ يقولون: هل أنت تريد الطلاق أو لا تريده وإنما تريد منعها؟ فإذا قال: أنا أريد امرأتي، ولا أرغب طلاقها، ولكني أردت أن تمتنع عن هذا الخروج، فيقولون: إذاً عليك الكفارة.
أما إذا قال: إني عازم على الطلاق، وأريد أن يكون آخر عهدي بها خروجها أو مكالمتها، ولا أريدها بعد ذلك، أنا أريد طلاقها، ولكن يتوقف طلاقها على هذا الفعل، فهنا تقع الطلقة أو الطلقات.
بعد ذلك أتى المصنف بأمثلة: إن كلمتك فأنت طالق فتنحي أو تحققي أو نحو ذلك؛ فإنها تطلق؛ وذلك لأنه كلمها، أليس قوله: (فتحققي أو تنحي) كلام؟ نعم، فتطلق؛ وذلك لأنه علق الطلاق بكلامه، ومع ذلك أوقع الكلام، فتطلق، هذا على قول الجمهور في أن التعليق يقع به طلاق، وأما على قول شيخ الإسلام فإنه لا يقع، ويكون يميناً إذا لم يقصد الطلاق، وإنما قصد منع نفسه أن يكلمها في هذه الحال كلاماً مطلقاً.
قوله: (إن بدأتك بالكلام فأنت طالق) يعني: إذا ابتدأتك بعد هذه الجملة، لكنها قالت له: (إن بدأتك به فعبدي حر.
انحلت يمينه) ؛ وذلك لأنه ما بدأها، بل هي التي بدأته بقولها: إن بدأتك به فعبدي حر، فلا تطلق، حيث إنها هي التي بدأته، وأما هي فتبقى يمينها، فإذا كلمته بعد ذلك عتق عبدها؛ لأنها بدأته بعد هذا الكلام.
قوله: (إن خرجت بغير إذني -أو نحو ذلك- فأنت طالق) يعني: إن خرجتِ إلى السوق، أو إلى الأندية، أو إلى الاستراحات، أو أماكن اللهو بغير إذني فأنت طالق، ثم أذن لها فخرجت، فهذه المرة ما تطلق، لكن خرجت بعد ذلك بغير إذنه، أو أذن لها ولم تعلم بإذنه لها وخرجت، في هذه الحال تطلق، المرة الأولى أذن، والمرة الثانية ما أذن، أو أذن ولم تعلم.
أما إذا أبطل كلامه وقال: قد أبطلت كلامي، قد أذنت لك متى شئتِ؛ فإنها لا تطلق.(67/10)
حكم تعليق الطلاق على مشيئة المرأة أو اثنين
قال المصنف رحمه الله: (وإن علقه على مشيئتها تطلق بمشيئتها غير مكرهة) إذا قال: أنتِ طالق متى شئتِ، فإذا قالت: قد شئت، أنا أريد الطلاق، أنا أشاء الطلاق، طلقت؛ لأنه علقه على فعل لها، وهذا الطلاق لا يعرف إلا من قبلها، فإذا قالت: قد شئت الطلاق، أو قد أردته، وليست بمكرهة؛ طلقت.
أما إذا أكرهها أبوها، وقال: إنه أراد طلاقك، اطلبي منه الطلاق، قولي: إني قد شئت، وإلا ضربتكِ، وإلا أوجعتكِ، أو قاله أخوها لها، فأكرهوها على أن تقول: إني قد شئت الطلاق، فهاهنا هي مكرهة، وتقدم أن الإكراه يمنع وقوع الطلاق.
وإذا علق الطلاق بمشيئة اثنين فلا تطلق إلا بمشيئتهما جميعاً، فإذا قال: أنت طالق إذا شاء أبوك وأمك، فقال أبوها: أنا قد شئت، وقالت أمها: أنا لم أشأ، ولا أريد أن تطلق، لا تطلق؛ لأنه علقه على مشيئة اثنين، وكذلك على مشيئة أخويها أو أختيها، إذا شاء أحدهما وقال: أنا أريد أنها تطلق، وقال الآخر: أنا لا أريد، فلا يقع الطلاق إلا بمشيئتهما جميعاً.
وإن علقه على مشيئة الله تعالى تطلق في الحال؛ وذلك لأن مشيئة الله نافذة، والله تعالى يشاء كل ما في الوجود، فإذا قال: أنتِ طالق إن شاء الله.
طلقت في الحال، وإذا قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، أو أعتقتك إن شاء الله، فمتى يعتق؟ يعتق في الحال؛ لأن كل ما يقع فإنه يكون بمشيئة الله تعالى.(67/11)
الحلف بالطلاق بنية الحث أو المنع أو التضمين
ذكر المؤلف بعد ذلك أمثلة من الكلام الذي هو حلف؛ وذلك لأن كثيراً من الطلاق يعتبرونه حلفاً، فأتوا بهذه الأمثلة: إذا حلف لا يدخل داراً، أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده، أو دخل طاق الباب، في هذه الحال هل يحنث؟ لا يحنث؛ لأنه ما فعل المحلوف عليه، ومثله الطلاق، لو قال: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، فأدخلت رأسها، أو وقفت فوق الطاق، والطاق: هو الباب، إذا فتح ووقفت تحت الطاق، ما تطلق؛ لأنه ما حصل الدخول.
وكذلك لو قال: والله! لا أخرج من هذه الدار اليوم، فأطل من النافذة، وأخرج رأسه أو نحو ذلك، أو وقف في طاق الباب فلا يحنث.
وكذا لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار في هذا اليوم فأنت طالق، فأخرجت رأسها من نافذة أو من الباب، أو وقفت في طاق الباب، فلا تطلق، وكذلك إذا أخرجت يدها من الباب أو من النافذة.
إذا حلف ألا يلبس ثوباً من غزلها، فلبس ثوباً بعضه من غزلها، وبعضه من غيره، وغزلها هو الذي تحيكه، كان النساء يغزلن الصوف، وإذا غزلنه نسج ثياباً أو فرشاً أو بيوت شعر أو نحو ذلك، إذا قال: والله لا ألبس ثوباً من غزلها ولبس ثوباً بعضه من غزلها، وبعضه من غيره، ما يحنث.
وكذلك لو قال: إن لبست ثوباً من غزلها فهي طالق، ولبس ثوباً بعضه من غزلها، فلا تطلق.
إذا حلف ألا يشرب ماء هذا الإناء، كان الإناء فيه ماء فقال: والله! لا أشرب ماء هذا الإناء، فإذا شرب بعضه وقد حلف ألا يشربه لم يحنث، أما إذا حلف أن يشربه وشرب بعضه حنث، فإذا شربه كله لم يحنث.
وكذا الطلاق إذا قال: أنت طالق إن شربتِ ماء هذا الإناء، فإنها لا تطلق إذا شربت نصفه أو ثلثيه؛ لأنه علق الطلاق على شربه كله.
أما إذا قال: أنت طالق إن لم تشربي ماءه، فإذا شربته كله لم تطلق، وإن شربت بعضه طلقت.
إذا قال: والله لآكلن هذا الرغيف، أو والله لألبسن هذا الثوب أو هذه الحلة، فلا يبر إلا إذا فعله كله، ما لم يكن له نية، لو أكل بعضه حنث، وكذا لو حلف على امرأته: إن لم تأكلي هذا الرغيف فأنت طالق، فأكلت نصفه طلقت، وإن أكلته كله لم تطلق.
أو قال: أنت طالق إن أكلت الرغيف، فإن أكلت نصفه لم تطلق، وإن أكلته كله طلقت.
وهكذا إذا قال: أنت طالق إن لم تشربي هذا الماء، وشربت نصفه فإنها تطلق، فإن شربته كله لا تطلق.
أنت طالق إن شربت هذا الإناء، يعني: إن شربته أكله.
إذا كان له نية فإنها تنفعه نيته، كما لو لم يكن يتصور، لو قال مثلاً: إن شربت ماء هذا النهر فأنتِ طالق، معلوم أنه لا يتصور أن الإنسان يشرب ماء النهر الجاري كله، فعلى هذا إذا شربت منه فإنها تطلق؛ لأن القرينة تدل على أنه لا يريد شربه كله، وكذلك مثلاً لو كان الطعام كثيراً، فإذا ذبح مثلاً كبشاً، وقال: إن لم تأكلي هذا الكبش فأنت طالق.
يريد بذلك: إن لم تأكلي منه، لا يريد أنها تأكله كله؛ فإن هذا متعذر.(67/12)
حكم من علق الطلاق والعتاق بشيء ففعله ناسياً
ذكروا أنه يعذر من حلف على شيء ثم فعله ناسياً أو جاهلاً، إلا في الطلاق والعتاق، فإذا قال: إن لبست هذا الثوب فامرأتي طالق، ولبسه، وقال: إني نسيت أني علقت الطلاق على لبسه، هل يقبل قوله؟ لا يقبل، بل يقع الطلاق؛ وذلك لأنه ادعى شيئاً خفياً، فنحن نعامله بالظاهر، فنقول: تطلق المرأة، وكذلك العكس، لو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، ثم لبسه وقال: إني نسيت، أو إني جاهل أنه هو الثوب الذي علقت العتق على لبسه، فيعتق العبد؛ وذلك لأن الطلاق والعتق فيهما حق لآدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، فلأجل ذلك يقع الطلاق ويقع العتاق؛ بخلاف اليمين فإنها لا تقع.
ومعنى ذلك: أنه لو قال: والله! لا ألبس هذا الثوب، ثم لبسه ناسياً، فلا يحنث، والله! لا أركب هذه السيارة، ثم ركبها ناسياً ليمينه أو جاهلاً أنها السيارة التي حلف ألا يركبها، فإنه لا كفارة عليه، وما ذاك إلا لأنه معذور بالنسيان وبالجهل؛ لأن الناسي معذور، قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فإذا حلف أنه لا يركب فركب، أو حلف أنه لا يشرب فشرب، وقال: إني ناسٍِ أو جاهل؛ قُبل قوله ولم يلزمه كفارة، وإذا طلق أو أعتق أنه لا يركب وقال: إن ركبت فامرأتي طالق، إن شربت فامرأتي طالق أو عبدي حر، فشرب الماء، أو ركب البعير، أو أكل من اللحم الذي علق عليه طلاقاً ففي هذه الحال يقع الطلاق، حتى ولو قال: إني ناسٍ، ويقع العتاق، ولو ادعى النسيان؛ لأنه ينكر حقاً لغيره.(67/13)
حكم المعاريض في الطلاق والعتاق وغيرهما
قال المصنف رحمه الله: (وينفع غير ظالم تأول بيمينه) .
التأويل: هو ما يسمى: بالمعاريض، أو تأويل الكلام بتأويل فيه غرابة، وقد ذكروا أمثلة كثيرة في بعضها غرابة، ولكن يقولون: إن فيها مخرجاً من بعض المآزم، ولا يسمى: كذباً، مثاله: في غزوة بدر لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأقبل على بدر لقي رجلاً من المشركين، فسألوه: (ما أخبار قريش وما أخبار محمد؟ فسألهم: ممن أنتم؟ فقالوا: أخبرنا ونخبرك.
فأخبرهم بما سمع عن هؤلاء وهؤلاء، ثم قال: من أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء) يعني: أننا خلقنا من ماء، فظن أن هناك قبيلة يقال لها: (ماءً) وصدقهم، وليس في هذا كذب، ولكن فيه تأويل، فالتأويل ينفع إذا كان المؤول غير ظالم، وأما إذا كان ظالماً فليس له أن يتأول، فمثلاً الإنسان الذي عنده دين أو عنده مال، إذا حلف وقال: والله! ماله عندي شيء، وقال: أردت بذلك ماله عندي، وهو شيء، فصاحب المال يعتبر أن هذا حلف على النفي، ونية الحالف على الإثبات، أي: له عندي شيء.
فمثل هذا يعتبر كذباً، ولا ينفعه هذا التأويل.
وقد كثر التأويل من قبل أهل البدع في كثير من النصوص، واعتبروه أنه نافع، ولكن ليس بنافع لهم؛ لأنهم متأولون ما لا يحل لهم، فأول بعضهم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فجعلوا كلمة: (إلى) اسماً لواحد الآلاء التي هي النعم، قالوا: (إلى) -يعني: نعمة- (ربها ناظرة) وهذا تأويل بعيد.
ومثال التأويل الظالم: لو قال: هل رأيت بعيري؟ فقال: والله ما رأيته، مع أنه قد تركه عنده، لماذا حلفت وهو عندك؟ قال: حلفت ما رأيته؛ يعني: ما طعنت رئته، رأيته يعني: طعنته في الرئة وأخرجت رئته، وكذلك لو قال: ما قلبته، وأراد بذلك: ما قطعت قلبه، فإن هذا تأويل باطل إذا كان المؤول ظالماً وكاذباً وسارقاً، ولا ينفعه تأويله، وأما إذا كان غير كاذب وغير ظالم فإنه ينفعه تأويله، وينفعه الكلام الذي قد يفهم منه غير ظاهره، فلا يكون في ذلك كذب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلمات حق، وقد يفهمها بعض على غير ما هي عليه: (جاء إليه رجل فقال: يا رسول الله! احملني.
فقال: أحملك على ولد الناقة، فقال: لا يطيقني، فقال: والله! لا أحملك إلا على ولد الناقة) وظن أن ولد الناقة هو البكر الصغير (فقيل له: وهل الجمل إلا ولد الناقة؟!) ، إذا حملك على جمل فالجمل ولد الناقة، فهذا من التأويل المباح.
وذكر أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر في زوجها، فقال: (زوجك الذي في عينيه بياض؟ فأنكرت ذلك، فقال: بلى) ولما رجعت أخذت تنظر في عيني زوجها، وما فكرت أن المراد بالبياض: البياض الذي بجانب السواد، وكل إنسان في عينيه سواد وبياض.
وكذلك -أيضاً- جاءت امرأة وقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يدخلني الجنة، وكانت امرأة كبيرة، فقال: (ويحك! إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال: ادعوها وأخبروها أنها لا تدخل الجنة وهي عجوز، إن الله يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35-36] ) .
فهذه أمثلة من التأويل الذي ينفع.(67/14)
حكم الشك في وقوع الطلاق وعدده وما علق عليه
قال المصنف رحمه الله: (من شك في طلاق أو ما علق عليه لم يلزمه) إذا قال: أنا أشك هل أنا طلقت أو ما طلقت؟! لا تلتفت إلى هذا الشك، ولا تهتم به؛ وذلك لأن الأصل بقاء الزوجية، وإذا كانت الزوجية باقية فالأصل أنه ما حدث شيء يخرجها عن كونها زوجة، فلا تلتفت إلى هذا الطلاق المشكوك فيه.
وكذلك إذا شك فيما علق عليه، إذا قال: أنا طلقتها إن خرجتْ، أنا أشك هل هي خرجت أو ما خرجت، هي تنفي وتقول: أنا ما خرجت، فالأصل عدم وجود الشرط الذي علق عليه الطلاق، فلا يلتفت إلى ذلك الطلاق الذي علقه على شيء وشك في وقوعه، فلا يلزمه ذلك الطلاق.
وهكذا إذا شك في العدد، قال: أنا طلقت، ولا أدري هل أنا طلقت واحدة أو اثنتين؟ أشك في ذلك! أيقن بوقوع الطلاق وشك في عدده، ما الحكم؟ يبني على اليقين، الواحدة يقين، والثانية مشكوك فيها، فيبني على اليقين وهي طلقة واحدة.(67/15)
حكم من طلق امرأة ظنها زوجته فبانت أجنبية والعكس
إذا قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق، طلقت زوجته، رأى امرأة تمشي في السوق، فظنها زوجته وقال لها: أنت طالق، وإذا هي أجنبية، هو يظنها امرأته، طلقت امرأته؛ لأن نيته تطليق امرأته، أو كذلك رآها تمشي وقال: اشهدوا أن هذه طالق، وهو يظنها امرأته، ويريد تطليقها، فيقع الطلاق.
وكذلك العكس إذا رأى امرأة تمشي في السوق، وظن أنها أجنبية، فقال لها: أنت طالق، فبانت زوجته، في هذه الحالة يقول: ما كنت أظنها زوجتي، كنت أظنها امرأة من سائر النساء، ففوجئ بأنها امرأته، من العلماء من يقول: تطلق امرأته؛ وما ذاك إلا لأنه واجهها بطلاق، وإذا قال: إني ما كنت أظن أنها امرأتي، كنت أظنها أجنبية، فلا يقبل؛ وذلك لأنه يتعلق به حق آدمي، فيلزمه الطلاق الذي أوقعه بها، هكذا ذكروا.
والقول الثاني: أنه لا يقع؛ وذلك لأنه ظنها أجنبية، وطلاقه للأجنبية لا يضر.(67/16)
حكم من شك هل طلق أو ظاهر
من أوقع بزوجته كلمة وشك هل هي طلاق أو ظهار فما الحكم؟ يقول: أنا تكلمت مع امرأتي كلمة، ونسيت هل أنا قلت: أنت طالق، أو أنت محرمة علي، أو أنت كظهر أمي، أو قلت: أنت جريئة، أو أنت بريئة، أو أنت غير محترمة، أو ما أشبه ذلك، تكلمت عليها بكلمة، ونسيت تلك الكلمة هل هي ظهار، أو طلاق، أو إنكار، أو سب، أو عيب، نسيت تلك الكلمة، فماذا يلزمه؟ لا يلزمه شيء؛ لأنه ما تجرأ ولا جزم بشيء يترتب عليه طلاق أو ظهار.
هذا ما تضمنه هذا الفصل، وبمراجعة الشروح يتبين ما يلحق بها من الصور.(67/17)
الأسئلة(67/18)
حكم حضور الحائض الدورات الشرعية في المساجد
السؤال
ما حكم حضور الحائض لمثل هذه الدورة؟ وهل لها دخول المسجد وفقكم الله ورعاكم؟
الجواب
أكثر العلماء على أنه لا يجوز للحائض أن تدخل المسجد؛ وذلك لحرمته، ولكن السبب في ذلك: مخافة أن تلوثه بما يتقاطر منها من الدم، وفي هذه الأزمنة النساء يتحفظن، ولا يخرج منهن شيء، ومع ذلك الأولى أنها لا تدخل إلا في الملحقات، فإذا كان هناك ملحقات في المسجد كمكتبة مثلاً، أو غرف للحراس، أو ما أشبه ذلك، فلها الجلوس فيها.(67/19)
مشروعية رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المفروضة وصفته
السؤال
هل جاء في مسألة رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المفروضة حديث أو أثر أم أنه بدعة، أفتونا مأجورين؟
الجواب
ليس ببدعة، ورد في حديث ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: (كنا نعرف انقضاء الصلاة بالتكبير) يعني: بالذكر، يعني: أنهم بعد السلام يسبح هذا، ويستغفر هذا، ويهلل هذا، ويكبر هذا، ويحمد هذا، فيجتمع من رفع الأصوات أن يسمعها الذي خارج المسجد.(67/20)
حكم الاستثناء في الطلاق بأكثر من النصف
السؤال
إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، هل يصح الاستثناء في هذه الحال، وكم تطلق الزوجة، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا يصح الاستثناء إلا النصف أو أقل، وحيث إن نصف الثلاثة واحدة ونصف، والطلاق لا يتنصف فإنها تطلق اثنتين، حيث استثنى هاتين، ولا يصلح إلا استثناء واحدة.(67/21)
معنى قولهم: بالرفاء والبنين وحكمها
السؤال
ما معنى قولهم: بالرفاء والبنين؟ وما حكم هذه المقولة؟
الجواب
كانت هذه من تبريكات الجاهلية، إذا تزوج أحدهم يقولون: بالرفاء والبنين، يدعون له بالرفاء الذي هو النعمة والسرور، وبالبنين الأولاد الذكور، وجاء الإسلام بالتبريك، وكره هذه الكلمة التي هي كلمة جاهلية، فأمر بالدعاء له بالبركة، قال عليه الصلاة والسلام: (بارك الله لك، أولم ولو بشاة) ونحو ذلك.(67/22)
حكم عرض الرجل موليته على من يتزوجها
السؤال
لي أخت تأخر زواجها، وأنا أرغب أن أعرضها على أحد الشباب الصالحين من طلبة العلم، ولكنني متردد؛ لأنها ليست على مستواه من الصلاح، فهي تسمع الغناء، وتنظر إلى الأفلام، مع أنها محافظة على صلاتها، وبارة بوالديها، فهل أقدم على هذا الموضوع أم لا، وأنا أخاف أن أظلم هذا الشاب إن تزوجها، وأخاف أن يتزوجها غيره من الفساق إن لم تتزوجه، أفتونا مأجورين؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز تزويجها إلا برضاها، ولكن إذا وكلت أخاها -مثلاً- وقالت: لك أن تختار لي من تراه مناسباً، وناسب أنه رأى شاباً صالحاً من الصالحين، فله أن يعرض عليه، ومع ذلك يلتمس رضاها ويقول: إني قد طلبت فلاناً فوافق، فإن رضيتِ وإلا فلا إكراه، وكذلك أيضاً يستأذن أبويه، ويذكر لهم خصال هذا الشاب، فأما حبسها حبساً طويلاً ورد الأكْفاء عنها فلا يجوز.
أما إذا علم بأنها غير صالحة فلا يعرضها على الصالح، وعليه أن يخبره ويقول: إنها نشأت على سماع لهو وغناء، ولكن لعلها أن تتوب، وعليه أيضاً أن ينصحها قبل ذلك.(67/23)
حكم من طلق امرأته ثم استغفر وندم
السؤال
ما حكم قول: أنت طالق، ثم استغفر الله، أفتونا مأجورين؟
الجواب
إذا قال: أنت طالق.
يقع الطلاق، وأما استغفاره أو ندمه وقوله: قد ندمت؛ فلا ينفع.(67/24)
حكم من علق طلاقه على الكلام فسلم عليها وردت
السؤال
إذا قال الرجل لامرأته: إذا كلمتكِ فأنت طالق، ولم يكلمها بعد ذلك، وسافر ورجع بعد شهر، ثم قال لها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردت عليه السلام، فهل تطلق إذا كانت نيته التهديد بسبب خلاف بينهما، أجيبونا مأجورين.
الجواب
إذا كان يعني بقوله: إذا كلمتك، أي: جميع الكلام حتى السلام فإنها تطلق للسلام، وإما إذا ما قصد بذلك إلا كلاماً خاصاً كأن يقول: إن كلمتك في هذا الأمر، إن كلمتك مثلاً في النفقة أو في الكسوة أو في الخروج، يعني: كلاماً خاصاً فلا يقع، إلا إذا كلمها بذلك الشيء.(67/25)
حكم الطلاق بنية الحض أو المنع
السؤال
إذا قال شخص لآخر: علي الطلاق أن تدخل بيتي وتأكل عندي، فلم يدخل، فهل يقع الطلاق؟
الجواب
هذا الطلاق يقع عند الجمهور، ولكن شيخ الإسلام يعتبره يميناً إذا كان قصده الحض أو المنع، وهذا هو الذي عليه الفتوى.(67/26)
حكم من قال: على الحرام ما أجتمع وزوجتي تحت سقف واحد
السؤال
من قال لامرأته -وقد ذهبت إلى أهلها بدون إذنه-: علي الحرام ما يجمعني معها سقف.
فما الحكم؟
الجواب
ينظر في كلمة: علي الحرام، إن أراد تحريمها فهو ظهار، وإن أراد تحريم شيء آخر فهو يمين مكفرة.(67/27)
حكم من طلق زوجته إن خرجت من الدار فخرجت إلى فنائه
السؤال
إذا قال لزوجته: إذا خرجت من هذه الدار فأنت طالق، وكان للبيت فناء وخرجت في هذا الفناء، فهل تطلق؟
الجواب
لا تطلق حتى تخرج من الدار كلها، فإن الأفنية والملحقات من اسم الدار.(67/28)
حكم وقوع الطلاق بالتوعد في المستقبل
السؤال
رجل قال لأم زوجته: إن لم تعقل بنتك، وتصير حرمة، وإلا طلقتها، فما الحكم؟
الجواب
كلمة: إلا طلقتها، مستقبل، فلا تقع حتى يطلقها، فإن قوله: وإلا طلقتها.
يعني: فيما يستقبل.(67/29)
الفرق بين تعليق الطلاق بشيء مستقبل وبين الإذن وعدمه
السؤال
ما هو الفرق بين أن يعلق الطلاق بشيء مستقبل كقدوم شهر رمضان، وبين أن يقول: إن خرجت بغير إذني، ثم غير رأيه وقال: لك الخروج بدون إذني، إذ جاز الرجوع له في الثاني دون الأول، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لأن الأذن له، فهو يأذن إذا شاء ويمنع إذا شاء، وأما دخول رمضان فليس له التصرف فيه، لا يقدر أن يقول: يا رمضان! تأخر، يا رمضان! لا تأت، فإذا دخل رمضان قهراً عليه وقع الطلاق، بخلاف قوله: إن خرجت بغير إذني، فإن الإذن يملكه.(67/30)
حكم من علق طلاقه على إنجاب الأنثى فأتت بأنثيين
السؤال
من قال لزوجته: إن أنجبت أنثى فأنت طالق، فأنجبت أنثيين، فهل يقع الطلاق؟
الجواب
يقع الطلاق، لكن لو أنجبت ذكراً وأنثى في بطن واحد فإنه لا يقع؛ لأنه يريد الذكور وقد حصل ذكر.(67/31)
حكم كثرة الحلف بالطلاق
السؤال
عندنا في السودان يكثر الحلف بالطلاق، وأحياناً يكون معلقاً مثل أن يقول: علي الطلاق ألا أدخل بيتك، أو آكل من طعامك، أو ألا أكلمك، فما حكم هذا العمل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا أيضاً موجود عندنا في المملكة بكثرة، وخاصة في البوادي، لا يدخل أحدهم إلا إذا طلق عليه، ولا ينزل إلا إذا طلق عليه، عليَّ الطلاق أن تنزل، علي الطلاق أن تأكل من ذبيحتي، علي الطلاق أني ما أنزل، علي الطلاق ألا أتكلم مع فلان، وهذا بلا شك من الخطأ؛ وذلك لأن فيه تسرعاً، وفيه تساهلاً، ويعرض نفسه للوقوع في الطلاق إذا لم يحصل له مقصوده، ونحن نقول: على الفتوى المشهورة: إذا لم يحصل ما طلق عليه وكان قصده الحض أو المنع كفاه كفارة يمين.(67/32)
شرح أخصر المختصرات [68]
من محاسن الشريعة أن أباحت الطلاق للحاجة إليه، ومن رحمتها أن منحت الرجعة بعد الطلاق، فقد يندم الزوج بعد الطلاق، أو تصلح المرأة بعده وتعود إلى رشدها، فأجازت الشريعة السمحاء الرجعة بضوابط وشروط حكيمة.(68/1)
مقدمة في أقسام فراق الرجل لامرأته
قسم العلماء فراق الرجل لامرأته إلى ثلاثة أقسام: الخلع، والطلاق، والفسخ.
القسم الأول: الخلع: وهو خاص بما إذا طلبت الزوجة الفراق، وبذلت شيئاً من المال، فإذا كرهت خُلق زوجها، أو خَلقه، أو نقص دينه، أو خافت الإثم بالبقاء معه لعدم أداء حقه، فلها والحال هذه أن تبذل شيئاً من مالها، أو تعطيه صداقه على أن يفارقها.
وهذا الفراق ليس طلاقاً، ولا ينقص به عدد الطلاق، بحيث إنه لو خالعها، ثم بعد ذلك تراجع، ثم خالعها مرة أخرى، ثم تراجع، ثم خالعها ثالثة فلهما أن يتراجعا بعقد جديد؛ لأنه ليس طلاقاً من قِبله.
القسم الثاني: الطلاق الذي يفعله الزوج، فقد يكره زوجته؛ يكره خَلقها أو خُلقها أو، نقص دينها، أو عدم عفتها، أو يكرهها كراهية قلبية، وإن لم يكن هناك سبب ظاهر، ففي هذه الحال له أن يطلقها، وله بعد الطلقة الأولى أن يراجعها، وله بعد ذلك إذا راجعها أن يطلقها مرة ثانية، وله أن يراجعها بعد الطلقة الثانية في العدة، وبعد العدة بعقد جديد، وإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويطؤها الزوج الثاني، ويكون نكاحه نكاح رغبة لا نكاح تحليل، وهذا هو الذي جاء به الإسلام؛ حتى لا يضر الرجال بالنساء.
ذكروا أنهم كانوا قبل الإسلام يطلق أحدهم ما شاء ثم يراجع، يطلقها المرة الأولى، فإذا قاربت انقضاء العدة راجع، ثم يطلق طلقة ثانية، فإذا قربت العدة راجع، ثم يطلق ثالثة فإذا قربت العدة راجع، وهكذا بعد رابعة وبعد خامسة، إلى ما لا نهاية له، ولما كان في ذلك ضرر على المرأة منع الله من ذلك، وحدد له ثلاث طلقات، يراجع بعد اثنتين أو يجدد العقد، ولا يقدر بعد الثالثة؛ حتى لا يضاروا بالنساء؛ لقول الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] ، فإنها إذا كانت كلما شارفت على انقضاء العدة راجعها، لا شك أنها تتضرر، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:128] ثم قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] يعني: العدل التام الذي يكون في القلب محبة وفعلاً، ثم قال: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] يعني: يميل مع إحدى زوجتيه، ويترك الأخرى كالمعلقة، فتكون لا أيماً ولا ذات زوج، أي: ليس معها زوج يواسيها ويعطيها حقها، وليست أيماً أي: غير مزوجة بل زواجها كأنه ليس زواجاً، هذا هو الإمساك ضراراً.
وأباح الله له أن يفارقها، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] إذا لم تناسبه فإن له أن يفارقها، وسوف يغنيه ربه، ويغنيها أيضاً، وييسر لكل منهما ما يناسبه، ييسر له امرأة تناسبه، وييسر لها زوجاً يناسبها: (يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ) هكذا وعد الله، فهذا الطلاق هو الذي يعتاده الذين يرغبون في فراق أزواجهم، ولكن كرهوا للرجل كثرة الطلاق، فلا يكون مذواقاً مطلاقاً، بحيث إنه يتزوجها ثم بعد شهر أو سنة يطلق، ثم يتزوج الثانية ثم يطلق، وما روي عن بعض السلف أنه كان كثير الزواج وكثير الطلاق، فلعل ذلك بسبب عدم صلاحية أو ما أشبه ذلك، كما ذكروا عن الحسن بن علي رضي الله عنه، فإنه تزوج نساء كثيرات، ذكروا في بعض ترجمته: أنه مرة كان يمشي في المدينة، فرأى نساءً كثيرات، ولما رأينه اجتمعن والتف بعضهن ببعض وجلسن حياءً منه، فوقف متعجباً! فكلمته إحداهن -وهي أجرؤهن- وقالت: امض رحمك الله، فما منا واحدة إلا وقد ذقت عسيلتها! يعني: هذا الجمع الكثير ما منهن واحدة إلا وقد تزوجها ودخل بها ثم طلق.
وقرأت في تاريخ ابن كثير، فذكر في آخر ترجمة لبعض المترجمين فيه أنه تزوج بألف امرأة، هكذا ذكر، ويظهر أن فيه مبالغة.
وكذلك في هذه الأزمنة إذا رأوا الرجل مذواقاً مطلاقاً كرهوا أن يزوجوه؛ لأنه إذا طلقها كرهتها النفوس، فإذا طُلقت المرأة فإن الرجال ينفرون منها، ويعتقدون أنها ما طلقت إلا لعيب فيها؛ لأمر من الأمور التي تعاب بها، فيكون ذلك ضرراً عليها، وكان الأولى ألا يتزوج إلا برغبة، وأن يعزم على أنها زوجة له طوال حياته وحياتها، ولا ينوي أن زواجه بها تجربة أو ما أشبه ذلك.
فلعله بذلك يرغب فيها وترغب فيه، أما أن يطلقها بعد أن يدخل بها بيومين أو بشهر أو نحو ذلك، فإنها تتضرر بذلك، حتى ولو كان كثير الأموال ويقول: لا يهمني أن أتزوج كل شهر أو كل سنة، وأدفع كثيراً من الأموال، فالمال عندي متوافر، فهذا لا يسوغ له كثرة الطلاق وكثرة النكاح.
القسم الثالث: الفسخ: وهو فسخ الحاكم للعقد الذي بين الزوجين، ولا يتولى ذلك إلا القاضي أو من يقوم مقامه، وله أسباب؛ منها: غيبة الرجل، فإذا غاب كثيراً، وترك زوجته، وليس عندها نفقة، ففي هذه الحال إذا تضررت فإن للحاكم أن يفسخ نكاحه ولو كان غائباً، فيقول: حكمت بفسخ نكاح فلان بفلانة.
وبعد فسخه تستبرئ بحيضة، ثم تتزوج إذا شاءت، هذا إذا لم تصبر وتتحمل.
ومن أسباب الفسخ: إذا ظهر في أحدهما عيب، إذا ظهر في الرجل عيب وكرهته المرأة، فإن لها أن تطلب من الحاكم أن يفسخ نكاحها.
ومن أسباب الفسخ إذا جاءت الفرقة من قِبَلها، كما لو نشزت وطالت مدة نشوزها، فله أن يفسخها.
وكذا لو ارتدت عن الإسلام فللقاضي أن يفسخ النكاح بينهما، ويكون ذلك الفسخ من قبل الحكام.
وأكثر ما يكون الفسخ إذا كان الزوج غائباً أو ظهر فيه عيب كعمى أو برص أو جذام أو جنون أو مرض مزمن أو ما أشبه ذلك، ففي كل هذا يجوز للحاكم أن يفسخ ما بينهما من النكاح.
وهذا الفسخ لا يحسب من عدد الطلقات، بمعنى: أن زوجها لو رجع ووجده أنه قد فسخ نكاحها، فله أن يخطبها، ولو كانت قد فسخت منه ثلاثاً، فله أن يخطبها ويعيد نكاحها.(68/2)
الرد على شبهات دعاة التحرير حول الزواج في الإسلام
بما تقدم نعرف أن الزوجية التي هي عقدة النكاح بين زوجين أجنبيين ليست مثل الرق، وغير المسلمين قد يعيبون أهل الإسلام بهذا الزواج، ويقولون: إن الرجل الذي يتزوج المرأة يحجزها ويحجرها في منزلها، ويضيق عليها، ولا يترك لها حرية التصرف، ولا يترك لها الخروج متى أرادت، وتكون موقوفة على مصالحه، ولا تتمكن من التصرف لنفسها وما أشبه ذلك، وهؤلاء دعاة التحرر كما يسمون أنفسهم يقولون: ندعو إلى أن نحرر المرأة من هذا الرق الذي جعلها الإسلام فيه.
ولا شك أن هذا تهور وكذب على الإسلام، الإسلام جاء بهذا النكاح، ومع ذلك جعله ينحل بهذه الثلاثة الأمور: بالخلع، وبالطلاق، وبالفسخ، وألزم الزوج أن يحسن العشرة، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أي: عليه أن يحسن عشرة النساء، وكذلك ألزمه أن ينفق عليها بالمعروف، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، وأمره بأن يسكنها، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ، وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] ، وإذا طلقها فعليه أن يمتعها كما قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] ، وقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] فذلك دليل على أن الإسلام أعطى حقها كاملاً.
وكون المرأة إذا تزوجت قامت على منفعة ومصلحة زوجها لا يقال: إن ذلك رق، ولا إن ذلك إذلال لها، بل إن هذا صيانة لها، حيث إن الإسلام أمر بأن تكون المرأة معززة ومكرمة عند زوجها، وأمر الزوج أن يحافظ عليها، وأن يصون كرامتها، وذلك دليل على أنه أعطاها حقها كاملاً، لا كما يقول الكفرة الذين يقولون: إن النساء نصف المجتمع، وإن لهن حقاً على الأزواج، وإنهن يملكن أنفسهن، ولهن التصرف في أنفسهن، بحيث إنهم أباحوا لها أن تبذل نفسها لمن يزني بها إذا رضيت، ويقولون: لا عقوبة عليها في ذلك؛ لأن هذا شيء تملكه، هي تملك نفسها، فإذا بذلت نفسها باختيارها ولو كانت مزوجة، أو كانت عند أبويها، فإن ذلك في نظرهم جائز، ولا يحق لأبيها أو زوجها أو وليها أن يحافظ عليها!! ولكن الإسلام جاء بتولية زوجها عليها، وكذلك غيره من أوليائها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] يعني: قائمون عليهن: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ، فالله تعالى فضل بعضهم على بعض، أي: جعل الرجال أفضل من النساء، وجعل الرجال أولياء للنساء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) ، وروي: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) ، وما أشبه ذلك، فيعرف بذلك بطلان ما يقوله أعداء الإسلام من أن الإسلام ظلم المرأة، وبخسها حقها، وأن لها حقاً في التصرف في نفسها، بل الإسلام جاء بحفظها، وبصيانتها، وبحراستها، حتى لا تكون ممتهنة، ولا تكون مبتذلة، فترخص بذلك، وتقل معنويتها، وتقل الرغبة فيها، وتكون آلة يتبادلها الأعداء، وتتبادلها النفوس الرديئة، يأخذها هذا ثم هذا، وهذا هو الواقع في بلاد الكفر وغيرها من البلاد التي قلدت بلاد الكفر.
هذا ما أردنا أن نبينه في هذه المقدمة.(68/3)
أحكام الرجعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا طلق حر من دخل أو خلا بها أقل من ثلاثٍ، أو عبدٌ واحدةً لا عوض فيهما، فله ولولي مجنونٍ رجعتها في عدتها مطلقاً، وسن لها إشهادٌ، وتحصل بوطئها مطلقاً، والرجعية زوجةٌ في غير قسمٍ.
وتصح بعد طهرٍ من حيضةٍ ثالثةٍ قبل غُسلٍ، وتعود بعد عدةٍ بعقدٍ جديدٍ على ما بقي من طلاقها.
ومن ادعت انقضاء عدتها وأمكن قُبِل لا في شهرٍ بحيضٍ إلا ببينةٍ.
وإن طلق حر ثلاثاً أو عبدٌ اثنتين لم تحل له حتى يطأها زوجٌ غيره في قبلٍ بنكاحٍ صحيحٍ مع انتشارٍ، ويكفي تغييب حشفةٍ، ولو لم ينزل أو يبلغ عشراً، لا في حيضٍ أو نفاسٍ أو إحرامٍ أو صوم فرضٍ أو ردةٍ] .
ذكر في هذا الفصل ما يملكه الزوج من الطلاق، وكيف إذا طلق العدد الذي يملكه، والفرق بين الحر والعبد، ومتى يراجع، ومتى لا يقدر على الرجعة، وحكم الرجعية، وحكم ادعاء المرأة انقضاء عدتها، وإذا طلق الطلاق الذي يملكه فماذا يفعل، ومتى تحل له إذا طلقها ثلاثاً أو عبد اثنتين، وصفة النكاح الذي يحلها للزوج الأول والذي لا يحلها.
هذه المسائل مذكورة في هذا الفصل.(68/4)
الرجعة لا تكون إلا في العدة
قال المصنف رحمه الله: (وإذا طلق حر من دخل أو خلا بها أقل من ثلاثٍ، أو عبدٌ واحدةً لا عوض فيهما، فله ولولي مجنون رجعتها في عدتها مطلقاً) .
يعني: إذا طلق الحر واحدة، وابتدأت في العدة فله أن يراجعها ما دامت في العدة، وسيأتينا أقسام المعتدات، يقول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: طلقوهن في زمن يستقبلن العدة، ويقول تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي الذي يملك رجعتها، ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] أي: الزوج أحق برد الزوجة في هذه المدة التي طلق فيها واحدة أو طلق اثنتين، فإذا طلقها الطلقة الأولى راجعها في العدة، إذا كانت عدتها ثلاث حيض، الحيض الثلاث عادة تكون في ثلاثة أشهر، غالب النساء تحيض في كل شهر مرة، ففي هذه الحال يطلقها قبل الحيضة الأولى، وبعدها قبل الحيضة الثانية، وبعدها قبل الحيضة الثالثة، وله أن يراجعها في هذه المدة، حتى قال بعضهم: لو راجعها بعدما طهرت من الحيضة الثالثة، وقبل أن تغتسل، صحت رجعتها، حتى ذكروا: أن رجلاً طلق امرأته وتركها، ولما طهرت من الحيضة الثالثة وأخذت ماءها وسدرها، وتجردت للاغتسال، فقبل أن تغتسل طرق الباب عليها وقال: يا فلانة! إني راجعتك.
فقالت: إني قد حضت ثلاث حيض، فترافعا إلى بعض الصحابة فأثبت الرجعة.
وهكذا بعد الحيضة الثانية قبل الحيضة الثالثة أو قبل الطهر منها، إذا كان الطلاق رجعياً.
ومتى يكون الطلاق رجعياً؟ إذا طلق حر أو عبد واحدة، أو طلق اثنتين وهو حر، فإن الطلاق رجعي، وتسمى المرأة: رجعية، يعني: تصح رجعتها، هذا سبب تسميتها رجعية: أنه يقدر على مراجعتها، وإذا راجعها فإنها على ما بقي لها من الطلقات، إذا طلقها وهو يملك ثلاثاً، طلق واحدة ثم راجعها بدون عقد، أو تركها إلى أن انتهت عدتها ثم جدد العقد، فإنه يبقى له طلقتان، فإذا طلق الثانية ثم راجعها وهي في العدة بدون عقد أو بعد العدة بعقد جديد، ثم استعادها ورجعت إليه، حتى ولو بعد الزواج من آخر، فإنه لا يبقى له إلا واحدة؛ لأنه قد طلق اثنتين، فيبقى له طلقة واحدة.
كذلك العبد إذا طلق واحدة فإن له أن يراجعها في العدة، وله أيضاً أن يؤخر رجعتها ويجدد العقد بعد انتهاء العدة، إذا كانت زوجته أمة فعدتها طلقتان، وهو ما يملك إلا طلقتين، فإذا طلق طلقتين حرمت عليه.
إذا كانت الزوجة أمة والزوج حر ملك ثلاث طلقات، وإذا كان الزوج عبداً والمرأة حرة لم يملك إلا طلقتين، هكذا الفرق بين الحر والعبد.
فإذا كان الزوج الذي طلق قد دخل بزوجته أو خلا بها، وكان طلاقه واحدة أو اثنتين، أو كان طلاق العبد طلقة واحدة، وكان الطلاق بغير عوض، فله الرجعة.(68/5)
صحة مراجعة الزوجة للحر والعبد
ذكر المصنف بعض المحترزات، فقوله: (من دخل بها) فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فهل له رجعة؟ ليس له رجعة؛ لأن غير المدخول بها لا عدة لها، قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ، فإذا عقد عليها ثم طلقها قبل الدخول ففي هذه الحال بانت منه، فلو امتنعت وقالت: لا أريده، فلها ذلك، فإذا أرادها فلابد من تجديد العقد؛ لأنه لا عدة لها، ولأنه لا يصح رجعتها؛ لأنها قد بانت منه بمجرد قوله: قد طلقتها، هذا إذا لم يكن دخل بها ولا خلا بها.
كذلك قوله: (أقل من ثلاث) نعرف أنه إذا طلقها الثالثة بانت منه، فلا يقدر على نكاحها حتى برضاها وبعقد جديد، فضلاً عن رجعتها، بل تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.
قوله: (لا عوض فيهما) أي: لا عوض في فراق العبد، ولا عوض في فراق الحر، ويدل على أنه إذا كان الطلاق على عوض فلا رجعة، إذا اشترت المرأة نفسها من زوجها وقالت: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بهذا البستان، أو بهذه العمارة، تريد أن تخلص نفسها، وهو ما يسمى: بالخلع، وقَبل ذلك، فهل يقدر على الرجعة؟ لا يقدر، وما ذاك إلا لأنها ما بذلت المال إلا للتخلص، ولو علمت أنه يستعيدها ما بذلت مالها، فهذه لا يقدر على رجعتها؛ ولأنه ليس لها عدة، وإنما عليها الاستبراء.
وقوله: (ولولي مجنون) إذا كان الزوج مجنوناً، أو أصابه الجنون، أو مرض أخل بعقله، بحيث إنه عادم للشعور، ففي هذه الحال نقول: إن وليه يقوم مقامه.
فإذا طلق عليه الحاكم فلوليه الرجوع، إلا إذا كان طلاق الحاكم فسخاً، وإذا طلقها الولي أو طلقها الزوج في حالة عقل، ثم أصيب بالجنون، فلوليها الرجعة إذا رأى ذلك مصلحة.
وقوله: (ولولي مجنون رجعتها في عدتها مطلقاً) أي -كما قال في التعليق-: سواء رضيت أو لم ترض، فلا يشترط رضاها؛ لأن الطلاق حصل باختياره، ولأنها والحال هذه قد بذلت نفسها؛ ولأنها طلقت وهو أملك بها، فليس لها أن تمتنع، لكن شرط الله تعالى شرطاً في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ، أما إذا كان راجعها للضرر بها فيحرم عليه، ولو أن الرجعة صحيحة، فحرام عليه أن يراجعها بقصد الإضرار بها؛ لقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة:231] .(68/6)
حكم الإشهاد وعدمه على الرجعة
الإشهاد على الرجعة مسنون، كما أن الإشهاد على العقد مسنون، وكذلك على الطلاق، ودليل الإشهاد على العقد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، وعلى الطلاق قول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] إلى قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، وروي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: (إني طلقت امرأتي وراجعتها.
قال: هل أشهدت على ذلك؟ قال: لا.
فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة) أي: ما عملت بالسنة في الطلاق، ولا عملت بالسنة في الرجعة، قال: (طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة، لماذا لم تشهد؟ أشهد على رجعتها يقول تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ) .
وهل تحصل الرجعة بغير الإشهاد؟ يقولون: تحصل؛ وذلك لأن الرجعية في حكم الزوجة، إذا طلقها مرة فإنه يبقيها في بيتها، ولا يخرجها، قال تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فلا يجوز له إخراجها، بل يتركها في بيتها، يتركها في مكانها الذي كانت تسكنه حتى تنتهي عدتها، وعليه نفقتها، وعليه كسوتها، وعليه سكناها، وهي في حكم الزوجة؛ لأنها لم تنقطع علاقتها به، ولها أن تكشف له، ولها أن تتجمل أمامه، ولها أن تعرض نفسها عليه لعله أن يراجعها إذا كانت ترغبه، وعليه أيضاً أن يقسم لها في المبيت، فيبيت عندها، ولكن إذا كان عازماً على الطلاق فلا يجامعها، فإذا جامعها حصلت الرجعة، فتحصل الرجعة بوطئها مطلقاً، حتى ولو لم يكن له نية، فإذا وطأها فإن الوطء لا يحل إلا للزوجة، وفيه دليل على أنه قد رضيها، وأنه قد قنع بمراجعتها، فيحصل بذلك تمام المراجعة، سواء نوى الرجعة بالوطء أو لم ينو.(68/7)
حكم القسم والنفقة للرجعية
قال المصنف رحمه الله: (والرجعية زوجة في غير قسم) هكذا استثنوا القسم، بعض العلماء يقول: يقسم لها؛ لأن القسم ليس الغرض منه الوطء، وإنما الغرض منه المؤانسة، ومنهم من يقول: لا قسم لها؛ لأن الأصل في القسم أنه لأجل العدل، وهذه قد انعقد سبب فراقها.
والرجعية زوجة في أنها تكشف لزوجها، وفي أنه ينفق عليها، وتبقى في بيته، وفي أنها تتجمل له رجاء مراجعته، ولو مات أحدهما لورثه الآخر، وإذا مات وهي في العدة فإنها تترك عدة الطلاق، وتنتقل إلى عدة الوفاة مع الإحداد.(68/8)
وقت التمكن من مراجعة الزوجة فيه
قال المصنف رحمه الله: (تصح رجعتها بعد طهر من حيضة ثالثة قبل غسل) يعني: إذا حاضت المرة الأولى وطهرت ولم يراجع، وحاضت المرة الثانية وطهرت ولم يراجع، وحاضت المرة الثالثة وطهرت ولم يراجع، وقبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة بعد الطهر راجعها، صحت الرجعة، وقد ذكرنا قصة الرجل الذي دخل على زوجته بعدما أخذت ماءها وسدرها وتجردت لأجل أن تغتسل بعد طهرها من الحيضة الثالثة، فطرق عليها الباب وقال: يا فلانة! إني قد راجعتك، فقالت: إني قد طهرت من الحيضة الثالثة، فقال لها: هل اغتسلتِ؟ قالت: لا، قال: قد راجعتك، فتحاكما إلى أحد الصحابة، فأفتاهما بأنها ما دامت لم تغتسل، ولم تحل لها الصلاة، فهي في حكم الحائض، فتصح رجعتها.
وهكذا إذا طلقت مرة ثم راجعها، فيبقى له عليها طلقتان، وكذلك إذا طلقها واحدة وانتهت عدتها، ونكحها نكاحاً جديداً فإنه يبقى له عليها طلقتان.(68/9)
من راجع المطلقة بعقد جديد فهو على ما بقي من طلاقها
قال المصنف رحمه الله: (تعود بعد عدة بعقد جديد على ما بقي من طلاقها) بمعنى: أنه لو طلقها واحدة وانتهت عدتها فهو خاطب من الخطاب، أي: لها أن تقبله ولها أن ترده، فإذا قبلته فلابد من عقد جديد، ورضا وشهود، ومهر.
وتعود على ما بقي، يعني: أنها تعود على أنه ليس له عليها إلا طلقتان، ولا يقول: إني نكحتها نكاحاً جديداً فأنا أملك ثلاثاً، نقول: إنك قد أمضيت طلقة واحدة، فما بقي لك إلا طلقتان.
إذا كان طلقها طلقتين وانتهت عدتها، وخطبها وتزوجها، فكم يبقى له عليها؟ يبقى له عليها طلقة واحدة؛ وذلك لأنه قد أمضى اثنتين، ولو كان العقد جديداً، حتى ولو نكحت قبله، فلو قدر مثلاً أنه طلقها طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، وتزوجت من غيره وطُلقت، فهذا الزوج الثاني لا يهدم الطلقتين من الأول، فالزوج الأول إذا نكحها بعده لا تعود على ثلاث، وإذا نكحها زوجها لم يبق له عليها إلا واحدة؛ وذلك لأن النكاح الثاني ليس شرطاً في حلها له، هي تحل له ولو لم ينكحها غيره، إنما الذي يهدم هو إذا طلقها ثلاثاً، ثم تزوجت وطلقت، ثم تزوجها الزوج الأول، ففي هذه الحال تنهدم الطلقات الثلاث، وصار يملك ثلاث طلقات أخرى، نكاح الزوج الثاني لها إذا كان الأول قد طلقها طلقة واحدة فإنه لا يهدمها، وكذا إذا كان الأول قد طلقها طلقتين لا يهدمها نكاح الثاني، وإنما يهدم الثلاث.
فهذا معنى قوله: (تعود بعد عدة بعقد جديد، على ما بقي من طلاقها) إذا كان بقي طلقة أو بقي طلقتان لا يملك غيرهما.(68/10)
حكم قبول من ادعت انقضاء عدتها
قال المصنف رحمه الله: (ومن ادعت انقضاء عدتها وأمكن قبل، لا في شهر بحيض إلا ببينة) ذُكِر أن رجلاً طلق امرأته، وبعدما أتمت شهراً رجعت إلى علي رضي الله عنه وقالت: إني قد انقضت عدتي في شهر واحد، فسأل شريحاً: هل يمكن؟ فقال: إن جاءت ببينة من صالحي أهلها تشهد بذلك، وإلا فهي كاذبة، فإذا ادعت انقضاء عدتها في شهر واحد فهي كاذبة؛ إلا إذا جاءت ببينة، وأما إذا كان الزمن ممكناً فإنه يقبل بلا بينة؛ وذلك لأنها مؤتمنة على نفسها، والله تعالى يقول: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] فهي مأمونة على ما في رحمها من الحمل أو الحيض.
وأما قصة علي وتلك المرأة فقال العلماء: يمكن وقوعها إذا اعتبرنا أقل الحيض وأقل الطهر، فيمكن أنها بعدما طلقها الزوج حاضت في اليوم الثاني من وقت طلاقها، ولم تبق إلا يوماً، وهو أقل الحيض، ثم طهرت في اليوم الثاني من حيضها، ولما طهرت حسبنا هذه حيضة ثم بقيت ثلاثة عشر يوماً وهي طاهر، ثم حاضت الحيضة الثانية، ولما مضى عليها يوم طهرت في اليوم الثاني، فهنا مضى عليها حيضتان في ستة عشر يوماً، ثم طهرت الطهر الثاني ثلاثة عشر يوماً، ففي اليوم التاسع والعشرين حاضت الحيضة الثالثة، وطهرت في اليوم الثلاثين أو في اليوم الواحد والثلاثين، فهي حاضت في اليوم الأول، وفي اليوم الخامس عشر، وفي اليوم التاسع والعشرين، في شهر واحد حاضت ثلاث حيضات، وبينهما طهران، فتقبل إذا جاءت ببينة، ولكن هذا شيء نادر، يعني: قليل أن توجد امرأة يكون حيضها يوماً واحداً وطهرها ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوماً، غالب النساء تحيض وتطهر في شهر، غالب حيضها ستة أيام أو سبعة أيام، وغالب طهرها ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون يوماً، هذه عادة النساء.
فعلى هذا العادة لا تنقضي عدتها إلا في ثلاثة أشهر، فلو انقضت عدتها في شهرين وأمكن ذلك قبل منها؛ لأن هذا شيء لا يعرف إلا من قبلها، وأما في شهر فلا يقبل إلا ببينة.(68/11)
متى يجوز نكاح المطلقة ثلاثاً؟
قال المصنف رحمه الله: (إذا طلق الحر ثلاثاً أو العبد اثنتين لم تحل له حتى يطأها زوج غيره في قبل بنكاح صحيح، مع انتشار، ويكفي تغييب حشفة ولو لم ينزل، ولو لم يبلغ عشراً، لا في حيض أو نفاس أو إحرام أو صوم فرض أو ردة) ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بدون عدد، يطلقها وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم يطلقها ثانية، وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم الثالثة والرابعة والخامسة وهكذا، ولو إلى عشر أو عشرين، فجاء الإسلام بتحديد الثلاث، وأنها بعد الثالثة تحرم عليه، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي، وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] أي: بعد الطلقتين، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: الثالثة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، فإذا طلقها الحر ثلاثاً حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإذا طلق العبد اثنتين لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولابد في ذلك الزوج أن يطأها، ولا يكفي العقد، فلو عقد عليها ولم يدخل بها وطلقها ما حلت للأول، وفسروا قوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] بأن النكاح هو الوطء.
وفي ذلك قصة امرأة رفاعة، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن رفاعة طلقني وبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وعبر بالعسيلة عن الوطء، أي: لذة الوطء، فلا يكون هناك رجعة إلى الزوج الأول، ولا تحل له؛ حتى يذوق الثاني عسيلتها، بمعنى: يطؤها زوج غيره، فلو وطئها في الدبر ما حلت للأول، لابد أن يكون في القُبُل، ولو وطئها في نكاح فاسد لم يكفِ، كما لو تزوجها بغير شهود، أو زوجته بنفسها، فإن هذا أيضاً لا يكفي، حتى ولو دخل بها، ولو بقي عندها مدة؛ لأنا نحكم بأنه نكاح فاسد، لابد أن يكون النكاح الثاني نكاحاً صحيحاً كامل الشروط.
وقوله: (مع انتشار) الانتشار: هو الإنعاظ، أي: قيام الذكر، فلا يكفي أن يباشرها بدون انتشار، ويقول: إني قد جامعتها وأنزلت؛ لأن مجرد المماسة والمباشرة لا تسمى جماعاً.
قوله: (ويكفي تغييب حشفة) يعني: يكفي في الوطء الذي يوجب الغسل تغييب الحشفة في الفرج، أي: تغييب رأس الذكر، تغييب المدورة ولو لم ينزل، فإذا أولج رأس الذكر ولو لم ينزل، واعترف بذلك، واعترفت هي، فإنها تحل للأول إذا طلقها.
ولو كان الزوج الثاني صغيراً دون عشر، يعني تزوجها وعمره تسع سنوات وعشرة أشهر، ولكن يتصور منه الانتشار، ويتصور منه الشهوة، ودخل بها، وأولج فيها رأس ذكره، وطلقها بعد ذلك أو طلقت عليه؛ حلت للزوج الأول.
واستثنوا إذا وطئها وهي حائض، فإن هذا وطء فاسد وحرام، لا يحللها للأول، وكذلك وهي نفساء ثم، بأن طلقها زوجها الأول ثلاثاً، وكانت حاملاً فولدت وانقضت عدتها، وتزوجت زوجاً آخر وهي في النفاس، ودخل بها ووطئها وهي نفساء، ثم طلقها بعده فهل هذا الوطء يبيحها للأول؟ لا يبيحها.
أو وطئها وهي محرمة، وحرام وطء المحرمة، ويجب عليها أو عليه إذا كانا محرمين فدية، حتى لو وطئها بعد التحلل الأول، فإذا أحرم بحج وتحلل، بأن رمى وحلق وبقي عليه الطواف، ووطئ، فإن هذا الوطء محرم؛ لأنه لم يتحلل، فلا يحلها لزوجها الأول لو طلقها بعده.
أو وطئها وهي صائمة في رمضان أو صوم قضاء، فلا يحل له أن يطأها في صيام الفرض، فهذا الوطء لا يحللها لزوجها الأول.
أو في ردة، فالمرتدة لا يصلح أن تكون زوجة للمسلم؛ لأن الردة تفرق بينهما، قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وهذه قد كفرت، فإذا تزوجت وهي كافرة مرتدة، ودخل بها الزوج، ثم أسلمت وعادت إلى الإسلام، فهل هذا الوطء يبيحها لزوجها الأول المسلم؟ لا يبيحها؛ وذلك لأنه وطء محرم في حالة لا يبيحها الشرع، لا يبيح لها أن تتزوج مرتداً، ولا يبيح للمسلم أن يتزوج مرتدة.(68/12)
حرمة نكاح التحليل
يشترط أن يكون النكاح الثاني نكاح رغبة، وهذا لابد منه، لا نكاح تحليل، سواء اتفق مع الزوج الأول، أو اتفق مع المرأة، فلا يباح أن يتزوجها ليحللها؛ وذلك لأنه ورد لعن المحلل في عدة أحاديث، ذكرها ابن كثير في تفسير هذا الآية: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فالزوج الثاني لابد أن يتزوجها على أنها زوجة، لا على أنه يحللها للأول، والأحاديث التي وردت بلفظ اللعن كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحِلل، والمُحَلل له) فالمحِلل هو الذي يتزوجها إذا طلقت ثلاثاً، ثم يطلقها ويقول: أحللها لزوجها الأول أحسن إليه، فإنه يريدها وهي تريده، وكل منهما يرغب في العودة، وهذا قد طلقها ثلاثاً، فأنا أحسن إليهما، فإذا دخلت عليها وجامعتها طلقتها حتى تحل للأول، هذا هو المحِلل.
والمحلل له: هو الذي يستأجره، كأن يقول: أنا قد حرمت علي زوجتي حيث طلقتها ثلاثاً، وأريدها وتريدني، وهي أم أولادي، ولا تحل لي إلا بعد زوج، فأريد منك أن تتزوجها، وأن تدخل بها، وأن تطلقها بعد ليلة أو بعد ليلتين، وأنا أدفع لك كل ما تخسره من مهر وغيره، أنا أعطيكه، ولكن بشرط: أن تدخل بها ثم إذا أصبحت فإنك تطلقها، ولا تبقها معك، يستأجره ويستعيره؛ ولذلك يسمى المحَلل: التيس المستعار، والتيس ذكر المعز، فالذين ليس عندهم فحل يستعيرون تيساً لينزو على غنمهم.
فيما سبق دليل على تحريم تحليل المرأة إذا طلقت ثلاثاً وحرمت على زوجها، وإنما ينكحها برغبة وإرادة منه ومحبة لأجل أن تكون زوجة، ثم بعد ذلك يقع منه كراهية لها فيطلقها فتحل للأول، أما إذا كان لا رغبة له في البقاء معها، وإنما يريد أن تحل للأول فإنها لا تحل، ويكون الوعيد الشديد عليه وعليها وعلى زوجها الذي استأجره لذلك.
وأما إذا كانت المرأة تريد أن ترجع إلى زوجها، فهذا ليس باختيار أحد الزوجين، فلو أنها ندمت على زوجها، ثم خطبها إنسان وعقد عليها ودخل بها، ولما دخل بها بعد يوم أو بعد يومين نفرت منه ونشزت، وأثارت البغض والكراهية، وقالت: لا أريدك، ولا أرغب في البقاء معك، ولست صالحاً للزوجية، وما قصدها إلا أن يفارقها حتى تحل للأول، ولو دفعت إليه ما دفع إليها، فإن هذا مكروه، ومع ذلك لم يذكروا أنها تحرم على الأول.(68/13)
أحكام الإيلاء
قال المصنف رحمه الله: [فصل: والإيلاء حرامٌ، وهو حلف زوجٍ عاقلٍ يمكنه الوطء، بالله أو صفةٍ من صفاته على ترك وطء زوجته الممكن في قُبلٍ أبداً أو مطلقاً أو فوق أربعة أشهرٍ، فمتى مضى أربعة أشهرٍ من يمينه ولم يجامع فيها بلا عذرٍ أمر به، فإن أبى أمر بالطلاق، فإن امتنع طَلق عليه حاكمٌ.
ويجب بوطئه كفارة يمينٍ، وتارك الوطء ضرراً بلا عذرٍ كمؤلٍ] .
هذا الفصل يتعلق بالإيلاء المذكور في قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226-227] .
الإيلاء: هو الحلف، فإذا حلف رجل على ترك وطء زوجته سمي مولياً، والإيلاء حرام؛ لأن الله أنكره، ولكن إذا فاءوا غفر الله لهم ذلك الحلف، فإذا حلف الزوج العاقل الذي يقدر على الوطء، حلف بالله أو بالرحمن أو بعزة الله أو بصفة من صفاته، حلف وقال: والله! لا أطأ هذه الزوجة، مع أنه يمكنه وطؤها في القبل، فقال: والله! لا أطؤها أبداً، أو والله! لا أطؤها، أو والله! لا أطؤها خمسة أشهر أو نصف سنة أو سنوات؛ فيسمى هذا: إيلاءً، فأما إذا حدد ترك الوطء بشهر، فقال: والله! لا أطؤها شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو ثلاثة وعشرين يوماً، فلا يسمى هذا إيلاءً، إلا إذا زاد على أربعة أشهر.
وكذلك إذا كان الزوج مجبوباً لا يمكنه الوطء، فحلف أنه لا يطؤها، فلا يسمى هذا: إيلاءً؛ لأنه ليس له آلة يطأ بها.
وكذلك إذا كان الحلف بغير الله، إذا حلف بمخلوق، كأن يحلف بالولي أو بالنبي أو بالسيد فلان، فهذا حلف بغير الله، ولا تنعقد يمينه، ولكن عليه الكفارة.
وإذا كانت الزوجة لا يمكن وطؤها بأن كانت مثلاً رتقاء، أو بها ما يمنع الوطء من العفل ونحوه من العيوب التي تقدمت في النكاح، فإذا حلف أنه لا يطؤها يعني: الوطء العادي الذي تعلق منه بولد، فإن هذا لا يسمى إيلاءً؛ لأنه لا يقدر على وطئها لعدم تمكنه.
كذلك لو حلف غير الزوج وقال: والله! لا أطأ فلانة، وهي أجنبية، فلا يسمى هذا إيلاءً.
وهكذا لو حلف المجنون، وكان له زوجة، فالمجنون مرفوع عنه قلم التكليف فلا تنعقد يمينه.
وأما إذا حلف على عدم وطئها في غير القبل فإنه لا يسمى إيلاءً، إذا حلف لها أو لأهلها إذا كان متهماً بالوطء في الدبر، فحلف وقال: والله لا أطؤها في الدبر أبداً.
فإن هذا ليس بإيلاء؛ لأنه التزم ألا يفعل الحرام؛ لأن الوطء في الدبر محرم، ولو وطئها في الدبر وقد حلف، عليه كفارة يمين، وعليه التوبة إلى الله من ذلك.
فإذا حلف ولم يحدد مدة، أو كانت المدة فوق أربعة أشهر، أو قال: والله! لا أطؤها حتى تقوم الساعة، أو والله لا أطؤها حتى تطلع الشمس من مغربها، أو: والله لا أطؤها حتى ينزل عيسى ابن مريم، يعني: مدة يغلب أنها تطول، فهذا أيضاً قد آلى من زوجته.(68/14)
حكم سكوت المرأة عن إيلاء الزوج
إذا حصل الإيلاء وسكتت الزوجة، ولم تطلب الوطء، فالحق لها، وأما إذا طالبت فإن الحاكم يخيره، يقول له: إما أن ترجع، وإما أن تطلق، يلزمك أحد الأمرين، مضت أربعة أشهر، والله تعالى يقول: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة:226] يعني: رجعوا عن ترك الوطء: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] يغفر لك ذنبك، ويغفر لك ما حلفت عليه من ترك الوطء، وعليك الكفارة، {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] إذا قال: أنا لا أريدها، قيل له: إما أن ترجع عن يمينك وتطأ، وإما أن تطلق، فأما بقاؤها معلقة فذلك لا يجوز.
قرأنا قبل قليل قول الله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] أي: لا أيماً ولا ذات زوج، وقول الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة:231] أي: مضارة بها.
لو سخط عليها وقال: لا حاجة لي في وطئها، وصد عنها، وترك وطأها، ففي هذه الحال يعتبر قد أضر بها، وإن لم يكن مولياً، فمتى مضت أربعة أشهر ولم يجامع، ولم يكن له عذر؛ أمره الحاكم بالجماع أو بالطلاق، يقول له: إما أن تجامع وإما أن تطلق، فإذا أبى كلفه أن يطلق، فإذا امتنع طلق عليه الحاكم، ويسمى طلاق الحاكم: فسخاً، فيقول: إما أن تطلقها وإما أن تفيء وتجامعها، وإلا فسخنا نكاحها، لا نقرها ولا نقرك على هذه المضارة.(68/15)
كيفية الفيء في الإيلاء
إذا أراد المؤلي أن يفيء فكيف يفيء؟ الفيئة تكون بكفارة يمين؛ لأنه حلف بالله أو حلف بالرحمن أو حلف بذات الله أو باسمه العزيز أو برب العالمين أو بمالك يوم الدين، حلف أنه لا يطأ امرأته، فإذا أراد ترك اليمين والوطء فاليمين لها كفارة ذكرها الله تعالى في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] إلى آخر الآية، وهذا قد عقد اليمين، فعليه كفارة اليمين، فإذا عزم على ترك ما حلف عليه ألزم بذلك.(68/16)
حكم تارك الوطء إضراراً بالزوجة دون عذر
قال المصنف رحمه الله: (وتارك الوطء ضراراً بلا عذر كمؤلٍ) .
بعض الأزواج قد يغضب على زوجته، فإذا كان له زوجتان مثلاً فغضب على إحداهما، ترك مضاجعتها، وترك وطأها، والاستمتاع بها، ومضى على ذلك شهر وشهران وأشهر، فما حكم هذا الترك؟ لا شك أنه إضرار، والله تعالى يقول: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة:231] ، ويقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] وهذا ما أمسكها بمعروف، بل أضر بها، حيث لم يعطها حقها.
في هذه الحال إذا طلبت حقها فلها أن ترفع أمره إلى الحاكم، والحاكم يقول له: إما أن تطأها وإما أن تطلق، وإما أن نطلق عليك إذا امتنعت، فإذا أراد الرجوع لا كفارة عليه؛ لأنه ما حلف، إنما ترك الوطء بغير يمين، ولكن يحدد لها لمدة، والمدة هي أربعة أشهر؛ لأنها المدة التي يمكن للمرأة أن تتحمل غيبة زوجها فيها.(68/17)
مدة تحمل المرأة غياب زوجها عنها
ذكر ابن كثير عند تفسير آية الوفاة: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] أن هذه المدة هي التي يمكن للمرأة أن تصبر عن زوجها إذا غاب عنها، وذكر أن عمر رضي الله عنه كان مرة يعس في المدينة، فسمع امرأة غاب عنها زوجها، وكان في الجهاد، وهي قد اشتاقت إليه، سمعها وهي تقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه ألاعبه طوراً وطوراً كأنما بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لحركت من هذا السرير جوانبه مخافة الله والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراتبه فعلم أمير المؤمنين أنها قد اشتاقت إلى زوجها، فسأل ابنته: كم تصبر المرأة عن الزوج عادة؟ قالت: أربعة أشهر إلى ستة أشهر، فأمر أمراء الغزو ألا يتركوا الإنسان يغيب عن أهله أكثر من ستة أشهر، فلأجل ذلك حدد الله مدة الإيلاء بأربعة أشهر؛ لأن هذا هو الذي يمكن للمرأة أن تتحمله، لكن إذا صبرت أكثر من ذلك فلها ذلك، وأنتم تشاهدون هؤلاء العمال الذين يأتون ويتركون زوجاتهم، يغيب أحدهم سنتين، وربما أكثر، ففي هذه الحالة نقول: إذا سمحت الزوجة بهذا المقدار الذي هو سنتان فلها ذلك، وإذا لم تسمح فإما أن يذهب إليها وإما أن يطلق، والعادة أنها تصبر؛ لأنه ما ذهب إلا لأجل طلب الرزق.
ويوجد بعض النساء لا يرغبها زوجها، ولكنها ترغب في البقاء معه، فهو يخيرها ويقول لها: أنا لا أريدكِ كزوجة، ولا أرغب مجامعتكِ، فلك الخيار: إما أن تبقي ولا تطالبينني بالقسم، وتبقي مع أولادك في بيتك، كلي واشربي ونامي وامكثي مع أولادك، وإما الطلاق واخرجي وتزوجي إذا شئت.
فإذا آثرت البقاء، وأسقطت حقها؛ فلها ذلك، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] خافت أن ينشز عنها أو يعرض أو يطلق: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] تقول: نصطلح على أني أسقط حقي من القسم، وأسقط حقي من الوطء، وأرغب في البقاء في عصمتك حتى أبقى مع ولدي، فلها ذلك.(68/18)
شرح أخصر المختصرات [69]
الظهار من عادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، ورتب العقوبة على من فعله، وقد أمر الله بالابتعاد عنه، ووصفه بأنه زور ومنكر، وأوجب الكفارة على من ظاهر من زوجته، فعلى المسلم أن يبتعد عنه وعن جميع العادات الجاهلية.
ومن الأمور التي بينت الشريعة أحكامها: اللعان، وهو أن يقذف الزوج زوجته بالزنا وهي منكرة لا تقر، فيتلاعنان، والكاذب منهما معرض لعذاب الله، وقد بين الفقهاء أحكام اللعان وشروطه وما يتعلق بذلك.(69/1)
الظهار
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والظهار محرمٌ، وهو أن يشبه زوجته أو بعضها بمن تحرم عليه أو بعضها، أو برجل مطلقًا، لا بشعر وسن وظفر وريقٍ ونحوها.
وإن قالته لزوجها فليس بظهار، وعليها كفارته بوطئها مطاوعةً.
ويصح ممن يصح طلاقه.
ويحرم عليهما وطءٌ ودواعيه قبل كفارته، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
ويكفر كافرٌ بمالٍ وعبدٌ بالصوم، وشرط في رقبة كفارة ونذر عتق مطلق إسلامٌ، وسلامةٌ من عيب مضر بالعمل ضررًا بينًا.
ولا يجزئ التكفير إلا بما يجزئ فطرةً، ويجزئ من البر مد لكل مسكينٍ ومن غيره مدان.
فصل: ويجوز اللعان بين زوجين بالغين عاقلين لإسقاط الحد، فمن قذف زوجته بالزنا لفظًا وكذبته فله لعانها بأن يقول أربعًا: أشهد بالله إني لصادقٌ فيما رميتها به من الزنا.
وفي الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم تقول هي أربعًا: أشهد بالله إنه لكاذبٌ فيما رماني به من الزنا.
وفي الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
فإذا تم سقط الحد، وثبتت الفرقة المؤبدة، وينتفي الولد بنفيه.
ومن أتت زوجته بولدٍ بعد نصف سنةٍ منذ أمكن اجتماعه بها، أو لدون أربع سنين منذ أبانها ولو ابن عشرٍ، لحقه نسبه، ولا يُحكم ببلوغه مع شك فيه.
ومن أعتق أو باع من أقر بوطئها، فولدت لدون نصف سنةٍ لحقه، والبيع باطلٌ] .(69/2)
معنى الظهار
من عادات أهل الجاهلية ألفاظ يتكلمون بها، يعبرون بها عن تحريم الزوجة أو تحريم الأمة أو ما أشبه ذلك، ولما جاء الإسلام نهى عن تلك الألفاظ وتلك الكلمات الجاهلية، ومن ذلك الظهار، والظهار مشتق من الظهر؛ لأن الأصل فيه تشبيه الزوجة بظهر الأم، وذلك لأن الظهر في الدابة هو الذي يركب، فشبه ركوب الزوجة بركوب الدابة في ظهرها، وشبهها بظهر الأم.
وقد كان أهل الجاهلية يحرمون نكاح المحارم التي جاء الشرع بتحريمهن كنكاح الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، لكنهم كانوا يبيحون نكاح زوجة الأب، فإذا مات الأب ينكحها أحد أبنائه من غيرها، وكذلك كانوا يبيحون الجمع بين الأختين، ويبيحون أكثر من أربع، فقد يجمع الرجل بين خمس وعشر وثمان ونحو ذلك، فلما جاء الإسلام قصرهم بالنكاح على أربع، وحرم المحرمات التي يحرم نكاحهن إما لرضاع أو لقرابة أو لمصاهرة، وأبطل تلك العادات الجاهلية، والتي منها مسألة الظهار.
أنزل الله تعالى في حكم الظهار أول سورة المجادلة.
وسبب نزولها أن صحابياً -اسمه أوس بن الصامت - غضب على امرأة له يقال لها: خولة، ويصغرون اسمها فيقولون خويلة، فلما غضب عليها قال: أنت علي كظهر أمي.
وكان لها أولاد منه، ويشق عليها أن تفارق أولادها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، وتظهر الشكاية إلى الله، وتقول: إني تزوجته ونثرت له ما في بطني، ولي منه صبية صغار، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بينه وبينها: (ما أظنكِ إلا قد حرمتِ عليه) ؛ وذلك لأن الظهار في الجاهلية فراق وتحريم؛ لأنه شبهها بمن هي محرمة عليه إلى الأبد، وهي الأم، فكان في ذلك تحريماً ظاهراً.
فأخذت تردد وتقول: إلى الله المشتكى، أشكوا إلى الله ضعفي، وكأنها تسأل الله تعالى أن ينزل فيها ما يكون سبباً لرجوعها إلى زوجها، ويجعل لها فرجاً ومخرجاً، فبينما هي جالسة عنده نزلت سورة المجادلة، تقول عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله، وإني لفي جانب الحجرة، ويخفى عليَّ بعض كلامها، قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، فهذا خبر من الله تعالى أنه سمع شكواها وسمع تحاورها مع النبي صلى الله عليه وسلم.(69/3)
الدليل على تحريم الظهار
ذكر الله حكم هذا العمل الذي هو تشبيه الزوجة بظهر الأم، وهو أن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي.
ويسمي هذا الفعل ظهاراً.
ثم إن العلماء رحمهم الله أخذوا من هذه الآيات أحكام الظهار، وأنه محرم، والدليل على تحريمه قوله في الآية الثانية: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] فإذا قال: أنتِ علي كأمي، أو أنت علي كظهر أمي، فإنه كاذب، فليست أمه، وليست مثل أمه، ولا يقال: إن لها حكم أمه، فأمه في الحقيقة هي التي ولدته، وأما هذه فإنها لم تلده، وقال تعالى في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4] أي: ليست أزواجكم أمهات إذا ظاهرتم منهن، فلا تكون الزوجة أماً، ولا تكون شبيهة بالأم، وإنما هي امرأة أجنبية، عقد عليها هذا الرجل، وأصبحت زوجة له حلالاً له، بخلاف أمه، فإنها محرمة عليه تحريماً مؤبداً، ولا تحل له بحال، والله تعالى أحل نكاح الزوجات، فعلى هذا بين الله تعالى أنها ليست أماً، ولو شبهها بالأم، ثم أخبر بأنه منكر {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] والزور: هو الكذب، والمنكر: ضد المعروف، يعني: أنهم يتكلمون بهذه الكلمة وهي كلمة منكرة، ولأجل ذلك يعدون الظهار من المنكرات ومن الكذب، ويعده بعضهم من كبائر الذنوب؛ لأن عليه الكفارة، وكل ذنب يحتاج إلى كفارة فإنه من كبائر الذنوب، فدل على أنه من المحرمات، وقد نص العلماء على ذلك.(69/4)
حكم التشبيه بغير ظهر الأم
كان أهل الجاهلية إنما يحرمون بظهر الأم، لكن الحكم أعم من ذلك، فمن شبه ببطن أمه فالبطن كالظهر، فإذا قال لزوجته: أنت علي كبطن أمي، أو كفرج أمي، أو كيد أمي، أو كرأس أمي.
وقصد بذلك تحريمها، فإنه يكون مظاهراً، وأما إذا قال: أنت علي كأمي، أو أنت مني كأمي.
وقصد بذلك المودة، فلا يكون ذلك تحريماً.
وهكذا لو دعاها: يا أمي! ويريد بذلك الشفقة، يعني: أنه يشفق عليها كما يشفق على أمه ويرحمها ويودها كما يود أمه، فإن ذلك مما يكون من أسباب المودة ولا يكون ظهاراً، وهكذا لو ناداها بقوله: يا أمي! لا يكون هذا ظهاراً، إلا إذا عرف من قصده أنه يحرمها عليه، فيشبهها بأمه التي يحرم عليه نكاحها، فيكون بذلك مظاهراً.(69/5)
حكم تشبيه الزوجة بغير الأم من المحارم وبالرجال
وألحق العلماء غير الأم من المحارم بها، أي: كل امرأة تحرم عليه بنسب أو سبب مباشر تحريماً مؤبداً، فإنه إذا شبه زوجته بها صدق عليه أنه مظاهر، وأن عليه كفارة الظهار، وهكذا -أيضاً- لو شبه بعض زوجته بمن تحرم عليه، فلو قال -مثلاً-: وطؤك علي كأمي، أو فرجك علي كفرج أمي، أو بطنك أو ظهرك أو رأسك أو يدك أو رجلك كأمي، أو كبطن أمي، أو كرجل أمي أو كرأس أمي، صدق عليه أنه مظاهر.
وهكذا غير الأم، إذا قال: أنت علي كظهر أختي، أو كبطن أختي، أو كأختي، أو كظهر عمتي أو خالتي أو ابنتي، أياً كان من أقاربه، فإن هذا يكون ظهاراً.
وهكذا -أيضاً- إذا شبهها برجل، إذا قال: أنت علي كأبي، أو كابني، أو كظهر ابني أو ظهر أخي، أو شبهها برجل أجنبي، فقال: أنت علي كزيد أو كسعد، وهو لا يحل له نكاح رجل، فإذا شبهها برجل صدق عليه أنه مظاهر.(69/6)
حكم تشبيه الزوجة بما ينفصل كالشعر والظفر من محارمه
وأما إذا شبهها بشيء منفصل فلا يسمى مظاهراً، إذا قال: أنت علي كشعر أمي.
والشعر نعلم أنه قد ينفصل، وأنه لا يسمى منكوحاً ولا يتلذذ به، وكذلك السن، إذا قال: أنت علي كسن أو كأسنان أمي، والأسنان -أيضاً- تنفصل وتنقلع، فلا يكون ذلك ظهاراً، وكذلك الظفر والريق واللعاب وما أشبهه، وهكذا الثياب، مثل: أنت علي كثياب أمي أو كثياب أختي، أو كريقها، أو كلعابها، أو أظفارها أو نحو ذلك، لا يصير هذا ظهاراً.
وهكذا لو شبه أجزاءً من زوجته تنفصل بمن تحرم عليه، فإذا قال: سنك أو شعرك علي كظهر أمي.
فلا يكون مظاهراً.(69/7)
حكم ظهار المرأة من زوجها
الظهار في الأصل يكون من الرجل، ولكن هل يكون من المرأة إذا قالته؟ في ذلك خلاف، يقول المؤلف هاهنا: وإن قالته لزوجها فليس بظهار، ومع ذلك عليها كفارته إذا وطئها مطاوعة.
لذكر عن امرأة من أولاد الصحابة اسمها عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، قيل لها: إن مصعب بن الزبير يريد أن يتزوجك.
فقالت: هو علي كظهر أبي.
ثم قدر بعد ذلك أن تزوجها، ولما تزوجها وكانت قد ظاهرت أعتقت عبداً، كفارة لتلك الكلمة، وكأنها سألت من أفتاها بأن هذا وإن لم يكن ظهاراً فإن فيه كفارة الظهار؛ وذلك لأنه شبيه بظهار الرجل.
ولا شك أنه محرم، فكما أن ظهار الرجل من امرأته محرم فكذلك المرأة، وإذا حرمت زوجها فلا يجوز لها أن تمنعه من نفسها؛ لأن الحق له بالزوجية، فإذا قالت: أنت علي كأبي أو كأخي أو كابني، أو كظهر ابني أو نحو ذلك، ثم طلبها لنفسه ليستمتع بها، فلا تمنع نفسها.
ومن العلماء من يقول: عليها كفارة يمين كسائر المحرمات، فإن كل من حرم شيئاً من المباحات فإنما عليه كفارة يمين، حتى إذا كان للإنسان أمة ينكحها ثم حرمها لم تحرم، ولكن عليه كفارة يمين، واستدل بآية التحريم وهي قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] قيل في سبب نزولها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زينب وتسقيه عسلاً، فحسدتها بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهما حفصة وعائشة فأرادتا أن يمتنع من شربه، فدخل على إحداهما فقالت: أكلت مغافير! قال: إنما شربت عسلاً عند زينب.
فقالت: جرست نحله العرفط.
يعني: أكلت نحله من شجر العرفط الذي له رائحة، ثم دخل على الأخرى فقالت مثل ذلك، فعند ذلك قال: هو علي حرام، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] .
وقيل: إن سبب نزولها تحريم أمته مارية القبطية، لما وطئها في بيت إحدى زوجاته فأنكرت عليه ذلك، وقالت: في بيتي وعلى فراشي! فقال: (إذاً هي علي حرام) فأنزل الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] تحلة الأيمان: يعني كفارة الأيمان، فجعل في هذا اليمين كفارة، فإذا قال: هذه الأمة علي حرام، فعليه كفارة يمين، هذا هو الصحيح.
وكذلك إذا قال: هذا الطعام أو هذا الشراب علي حرام.
لا يكون حراماً، وإنما يكون فيه كفارة يمين، بخلاف تحريم الزوجة الذي يسمى ظهاراً، إذا حرم زوجته ولم يشبهها بأمه أو بغيرها، بل قال: أنت علي حرام، ففعليه كفارة الظهار؛ لأن هذا شبيه بما إذا قال: نكاحكِ علي محرم كنكاح أمي أو أختي أو ابنتي.
فيكون بذلك مظاهراً، وهكذا إذا قال: أنتِ علي حرام.
عليه كفارة الظهار، هذا هو القول الصحيح.(69/8)
ممن يصح الظهار
ممن يصح الظهار؟ يصح من الزوج العاقل المكلف، الذي يعرف حكمه الذي يترتب عليه، وقد تقدم في كتاب الطلاق أن الطلاق لا يصح إلا من زوج ولو مميزاً، ولابد أن يكون ممن يعقله، فكذلك الظهار يصح ممن يصح طلاقه، وهو الزوج، فلا يظاهر غير زوجته.
ولا يحرم زوجة الرجل عليه غيره، فلو قال الوالد لولده: زوجتك عليك حرام، أو زوجتك عليك كظهر أمك.
فهل يكون هذا ظهاراً؟ لا يكون ظهاراً؛ لأنه ليس من الزوج، ولو قال الأب لابنه أو الابن لأبيه: زوْجتَك عليك حرام كظهر أمك.
لم يكن هذا مظاهراً؛ لأنه لا يملك تطليق زوجة ابنه ولا زوجة أبيه.(69/9)
ما يحرم على المظاهر قبل الكفارة
إذا ظاهر من امرأته فهل يطؤها؟ لا يطؤها حتى يكفر، وكذلك لا يجوز له أن يقبلها، ولا أن يباشرها، ولا يضمها، ولا غير ذلك حتى يكفر، والدليل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] والتماس: هو الوطء ومقدمات الوطء، فلا يقربها حتى يفعل ما أمره الله به، وقد ذكر الله عقب أمره بالعتق، وعقب أمره بالصيام (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، والصيام تطول مدته، فإذا اختار أن يصوم شهرين متتابعين ففي هذه الحال يتجنبها إلى أن ينتهي من الصيام.
وهكذا -أيضاً- إذا اختار الإطعام، فلا يقربها حتى يطعم ستين مسكيناً، ولو لم يذكر المسيس في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] فلم يذكر (من قبل أن يتماسا) ولكنه مراد، فإذا كان الصيام مع طول مدته ذكر فيه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، فكذلك الإطعام لقلة زمنه، ولأنه قد يطعمهم في يوم واحد أو يومين.
هذا معنى قول المصنف: يحرم وطء ودواعيه عليهما قبل الكفارة.(69/10)
كفارة الظهار
الكفارة نص الله تعالى عليها في سورة المجادلة، وهي على الترتيب.
عتق رقبة؛ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، على هذا الترتيب، فمن قدر على الرقبة لم يجزئه الصيام، ولو صام فإنه لا يكفيه؛ لأن الله بدء بذكر الرقبة، فإذا لم يجد ثمن الرقبة، أو لم يجد الرقبة -كما في هذه الأزمنة- انتقل إلى الصيام، وإذا كان يطيق الصيام فلا يجزئه الإطعام؛ لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ} [المجادلة:4] ، ولابد أن يكون الصيام شهرين متتابعين، فاشترط التتابع في كفارة الظهارة، وفي كفارة القتل كما في سورة النساء، وجاء -أيضاً- في كفارة الوطء في نهار رمضان، كما في الحديث الصحيح.
فكفارة الظهار على النحو التالي: أولاً: الكفارة بالعتق، ثم الكفارة بالصيام، ثم الكفارة بالإطعام.(69/11)
كفارة الكافر والمملوك إذا ظاهرا
الكافر لا يكفر بالصيام؛ لأن الصيام عبادة، والعبادة لا تصح من كافر، بل يكفر الكافر الذمي بالعتق، وإذا لم يجد كفر بإطعام ستين مسكيناً، أما الصيام فإنه عبادة بدنية تختص بالمؤمنين، يحتسبون فيها الأجر، ولا أجر للكافر في الصيام.
أما العبد المملوك إذا ظاهر من امرأته فمعلوم أنه لا يملك عتقاً، ولا يملك إطعاماً، فليس أمامه كفارة إلا الصيام، فيكفر العبد بالصيام.(69/12)
شروط الرقبة في كفارة الظهار
ماذا يشترط في رقبة كفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة الوطء في نهار رمضان، وكفارة قتل الخطأ؟ أما نذر العتق فيكون على ما نذر، كأن يقول: لله علي أن أعتق عبداً.
وأطلق، ولم يقل: عبداً كبيراً ولا صغيراً ولا ذكراً ولا أنثى، فهذا نذر عتق مطلق، أما ما عداه فيشترط في ذلك ما يلي.
الشرط الأول: الإيمان، ذكر الله تعالى الإيمان في آية القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فلا يجزئ إعتاق الكافر، فالإيمان ذكر في آية عتق كفارة القتل، وقيس عليه كفارة الظهار وكفارة اليمين وكفارة الوطء في نهار رمضان؛ وذلك لأن العتق قربة وعبادة فيه أجر، ولا يطلب إلا عتق المؤمنين، أما العبد الكافر فإعتاقه تمكين له من الكفر، وإعانة له على بقائه على هذا الكفر، فلا جرم اشترط أن يكون العتيق مؤمناً، قال الله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] .
الشرط الثاني في العتيق: السلامة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً، فلابد أن يكون العبد الذي يعتق في الكفارة سالماً من العيوب، فلا يعتق العبد الأعور، ولا الأعمى، ولا الأعرج؛ لأنه ناقص القيمة، وكذلك الأصم والأبكم والأقطع والمعاق والمقعد وما أشبه ذلك، ممن فيه ضرر، وذكروا من أمثلته: إذا كان مقطوع الإبهام؛ لأنه لا يستطع أن يعمل بأربع أصابع، وهكذا لو قطعت منه السبابة، فعمله يكون ناقصاً، وهكذا لو قطعت الوسطى، أما إذا قطع الخنصر فقد لا يؤثر، فيستطيع أن يكتب وأن يعمل، بخلاف ما إذا قطع الإبهام فكيف يكتب أو يمسك أو نحو ذلك؟ أو قطعت السبابة يصعب عليه أن يمسك القلم مثلاً، أو قطعت الوسطى يصعب عليه أن يمسك القلم أو الشيء بإصبعين.
أما إذا قطع الخنصر والبنصر معاً فيكون هذا نقصاً ظاهراً، وقد يصعب عليه أن يعمل بثلاثة أصابع.
وكذلك العيوب التي تخل بالعمل، فإذا كانت يده مشلولة، أو فيه عيب خَلقي، فمثل هذا لا يجزئ إعتاقه عن الكفارة، فلابد أن يكون سليماً من العيوب التي تضر بالعمل ضرراً بيناً.(69/13)
شروط صيام الكفارة
يشترط في الصيام التوالي والتتابع (شهرين متتابعين) ، فإن صام بالشهر الهلالي اكتفى بشهرين هلاليين ولو كانا ناقصين، أو كان أحدهما ناقصاً -يعني: تسعة وعشرين يوماً-؛ وذلك لأنه يصدق عليه أنه شهر.
وإن ابتدأ من نصف الشهر أو وسطه فإنه يصوم ستين يوماً بالعدد، فإن الشهرين لا يزيدان عن ستين يوماً.(69/14)
شروط الإطعام في الكفارة
وإطعام ستين مسكيناً يكون بأن يعطي كل واحد منهم ما يكفيه وجبة واحدة كغداء أو عشاء، وقد ذكر الله تعالى الإطعام في كفارة اليمين في قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] أي: من الطعام الوسط، فلا يكلف نفسه الطعام الثمين الغالي، ولا يجزئ الرخيص الدنيء، بل ينظر الإنسان إلى أكثر ما يطعم أهله، فأحياناً قد يشتري لأهله في بعض المناسبات أنواعاً من اللحوم، كالسمك، أو لحم حمام أو نحو ذلك، أو لحوم شياه أو لحوم ضأن ونحو ذلك، وأحياناً لا يطعمهم إلا الخبز فقط بدون لحم، وبدون فاكهة لبعض الأسباب، فينظر إلى أكثر ما يطعم أهله، فإذا قال: أكثر ما أطعم أهلي وأوسط ما أطعمهم الأرز ولحم دجاج وشيء من الفاكهة.
نقول: أخرج هذا في كفارة اليمين، وفي كفارة الظهار، وما أشبهها؛ لأن الله قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] .
ومن العلماء من يقول: لابد أن يملكهم، فيعطي كل مسكين ما يكفيه يومه ذلك كغداء أو عشاء، يسلمه له، حتى يتصرف فيه ذلك المسكين.
ومنهم من يقول: يكفي أن يدعوهم ليأكلوا في بيته حتى يشبعوا، فإذا شبعوا صدق عليه أنه أطعمهم.
وقد ذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه في آخر حياته -بعد أن تجاوز عمره المائة- صعب عليه الصيام، فكان إذا دخل رمضان يجمع ثلاثين مسكيناً فيعشيهم أول ليلة حتى يشبعوا، ويكتفي بذلك عن الصيام، وأخذ ذلك من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] فجعل طعام المسكين قائماً مقام الصيام، فكذلك تكون الكفارة، ومعنى هذا: أنه لو جمع ستين مسكيناً، وجعل لهم طعاماً من جنس طعام أهله، من خبز ولحم، أو أرز ولحم معتاد، أو غير ذلك من الأطعمة فإنه يكفي إذا أكلوا حتى شبعوا.
وكذلك إذا ملكهم، وتمليكهم أن يسلم لكل واحد منهم ما يكفيه، والفقهاء يشترطون أن يملكهم، والمصنف يقول: ولا يجزئ التكفير -يعني: بالإطعام- إلا بما يجزئ فطرة، وقد تقدم اختيار الحنابلة أن زكاة الفطر تكون من خمسة: من البر والشعير والتمر والزبيب والأقط؛ لأنها هي المعتاد أكلها في ذلك الزمان، ولكن الصحيح أنها تجزئ من غالب قوت البلد، فكذلك الكفارة تكون من غالب قوت البلد، ففي بلدنا هذا الغالب هو الأرز، وأغلب الناس وأوسطهم يأكلون مع الأرز شيئاً من لحم الدجاج أو من لحم الإبل أو من لحم الغنم كإدام له، وغالباً يأكلون معه شيئاً من الفاكهة التي يتفكه بها كتفاح أو موز أو برتقال أو نحو ذلك من الفواكه، فإذا كان هذا هو غالب قوت أهله فإنه يطعم المساكين من مثل هذا.
والذين اشترطوا أن يملكهم قالوا: يعطيهم طعاماً غير مطبوخ، فيجزئ من البر لكل مسكين مد، ومن غيره لكل مسكين مدان.
وقوله: (ومن غيره) يعم بقية أنواع الطعام، فمعنى ذلك أنه لو أطعم المساكين من الزبيب فلابد من مدين، أو من التمر فلابد من مدين، مع تفاوت القيمة، ومعلوم أن المدين من الزبيب قد تكون قيمتهما عشرين ريالاً، والمدان من التمر السائد المعتاد قد تكون قيمتهما ثلاثة ريالات أو أربعة، ومع ذلك جعلوه سواء، وقد اختار مشايخنا أنه يطعم نصف صاع من الجميع، فيكفيه أن يملكهم نصف صاع من البر، أو نصف صاع من الأرز، أو نصف صاع من التمر أو من الزبيب أو من الذرة أو ما أشبه ذلك، إذا كان هو القوت السائد.(69/15)
باب اللعان
اللعان: شهادات بين الزوجين مختومة بلعن أو غضب، مؤكدة من كل من الزوجين.
وسوف يأتينا إن شاء الله في كتاب الحدود حد القذف، وهو أن يرمي الإنسان غيره بالزنا أو باللواط أو نحو ذلك، فإذا رماه فإن عليه حد القذف، واستثني من ذلك إذا رمى زوجته فإن عليه اللعان، وأما إذا رمت هي زوجها فإن عليها حد القذف، ولا لعان.
نزل في اللعان آيات من سورة النور، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6-9] هكذا جاءت هذه الآيات.(69/16)
سبب نزول آية القذف
وسبب نزولها: أنه لما نزلت آيات القذف وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] سأل بعض الصحابة عنها وقالوا: إذا رأى أحدنا امرأته تزني، فكيف يفعل؟ إذا ذهب يأتي بأربعة شهداء فإن هذا الزاني سوف يهرب، ولن يتمكن من إمساكه، فكيف يفعل؟ فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ثم وقع أن عويمر العجلاني اتهم امرأته، فسأل أحد أقاربه فقال: أرأيت لو أن أحدنا وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فكره المسائل وعابها، ولكن جاء بعد ذلك عويمر وقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به.
أي: إنه تحقق أن امرأته زنت، ولكن لم يكن عنده شهود، ولا يستطيع أن يحضر شهوداً يجمعهم إذا كان ذلك في وسط ليل أو نحو ذلك.
وحدث -أيضاً- أن رجلاً آخر من الصحابة وهو هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في سورة التوبة، قذف امرأته -أيضاً- برجل يقال له: شريك بن سحماء، دخل بيته فرأى وسمع وتحقق، عند ذلك أصبح وقال: إني وجدت مع امرأتي رجلاً قد فعل بها.
فنزلت الآيات المذكورة في بيان هذا الحكم، وبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] يعني: لا يستطيع أن يأتي بشهداء، ليس له شهداء إلا نفسه، يعني: أنه هو الذي رأى وعاين وشاهد، فأمره الله تعالى بهذه الأوامر.
ثم إن عويمراً جاء هو وامرأته، فشهد عليها أربع شهادات، وأتى بالخامسة، ثم إنها شهدت -أيضاً- أربع شهادات أنه كاذب وليس بصادق، وختمت بالغضب، ولما تمت الشهادتان منها ومنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت سنة بين المتلاعنين التفرقة بينهما.
وهكذا -أيضاً- جاء هلال وامرأته، ولما جاء ابتدأ فشهد على نفسه أربعة شهادات أنه صادق، ولما كانت الخامسة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل رجل يده على فمه، وقال: (إنها الموجبة) ولكنه أقدم ولعن نفسه إن كان كاذباً عليها، ثم قربت المرأة، وشهدت أربع شهادات أنه كاذب عليها، وبعد ذلك أمر أن يضع إنسان يده على فمها حتى لا تأتي بالخامسة، وقال: (إنها الموجبة) فتلكأت قليلاً، ثم أقدمت وقالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فشهدت ودعت على نفسها بالغضب، وكانت حاملاً فتبرأ من حملها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنظروها، فإن جاءت به خدلج الساقين فهو لـ هلال، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لـ شريك) ، فجاءت به على الوصف المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) أي: أن الذي منعه من إقامة الحد عليها أنها أتت بهذه الأيمان التي درأت عنها ذلك الحد الذي هو العقوبة عليها.(69/17)
شروط المتلاعنين
سمي اللعان بهذا الاسم لقوله: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [النور:7] .
ولا يكون اللعان إلا بين الزوجين، ولابد أن يكونا بالغين عاقلين، فإذا كان الزوجان أو أحدهما دون البلوغ، أو كان أحدهما مجنوناً أو ناقص العقل، فلا يكون هناك لعان؛ وذلك لأن الصغير لا يبالي، وليس هناك ما يحجزه عن الشهادة كاذباً؛ لأنه غير مكلف، والمجنون ليس معه عقل يحجزه عن الكذب أو عن الشهادة على الكذب، وكذلك ليس هناك ما يحجز المرأة الصغيرة عن أن تمكن من نفسها لعدم تكليفها، فإذا لم يكونا كذلك فلا لعان.(69/18)
من لم يلاعن أقيم عليه الحد
وإذا لم يلاعن فعليه الحد؛ وذلك لأن هلالاً لما جاء وقال: إني وجدت مع امرأتي رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) يعني: قبل نزول الآية، وبعد نزول آية المحصنات، والبينة: هي أربعة شهود، أو حد في ظهرك، أي: تعاقب بالحد الذي هو ثمانون جلدة، فتعجب وقال: يا رسول الله! إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلاً فاجراً قد تفخذها، يذهب فيجمع أربعة شهود! فكرر عليه (البينة أو حد في ظهرك) .
فدل على أنه إذا لم يأت بالبينة فإنه ينتقل إلى الملاعنة، فإذا امتنع من الملاعنة، وطالبت المرأة بحد القذف، فإنه يقام عليه حد القذف، وأما إذا شهد عليها، وكمل الشهادة باللعن، ولم تكمل هي الشهادة، أو لم تدعُ على نفسها بالغضب، فإنه يقام عليها الحد الذي هو الرجم، والدليل قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] وهذا يدل على أنها إذا لم تأت بهذه الشهادات فلا يدرأ عنها العذاب، بل على الإمام إقامة الحد عليها.(69/19)
شروط اللعان
يقول المصنف: القذف لابد أن يكون لفظاً، بأن يقول: إن امرأتي قد زنت.
سواء سمى الزاني فلاناً أو لم يسمه، فلو أشار إشارة ولو كانت إشارة مفهومة فلا يكون لعاناً.
ويشترط أن تكذبه، أما إذا صدقته واعترفت بأنها قد زنت فلا لعان، بل يقام الحد عليها.
ويبدأ الزوج بالشهادة، فيقول الزوج: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنا.
يكرر ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين.
هذه شهادة الزوج.
ثم إذا أنكرت الزوجة، وادعت أنه كذب عليها، فإنها تحضر وتشهد، فتقول: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: وأن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين.
لا يقبل إلا بلفظ الشهادة (أشهد) ، إذا لم يأت بها فلا تكون شهادة؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] وقال: {أَنْ تَشْهَدَ} [النور:8] فلو لم يأتِ بلفظ الشهادة، بل قال: إن هذه امرأتي زنت، إنها زانية، إنها زانية، وكرر ذلك أربعاً، لا يكون بذلك آتياً بما يدرأ عنه الحد، حتى يصرح بقوله: أشهد بالله.
والله تعالى يقول: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] ويقول: {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور:8] والشهادة تكون بالله، وسميت شهادة لأنها تدل على المشاهدة التي هي مشاهدة الشيء الظاهر، ورؤيته بالعين.
ثم الرجل يدعو على نفسه باللعن إن كان من الكاذبين، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا شك أنه والحال هذه يكون وعيداً شديداً، إذا دعا على نفسه وهو كاذب بهذا اللعن فقد عرض نفسه للعقوبة.
المرأة اختير لها الغضب، {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] وغضب الله تعالى هو ما تشدد عقوبته، فإن الله تعالى إذا غضب فقد يعاقب من غضب عليه عاجلاً، وقد يؤخر عقوبته آجلاً -يعني في الدار الآخرة- هذا هو الصحيح في اختيار الغضب، والغضب أشد من اللعن؛ لأنه يسبب دخول النار والعياذ بالله، واللعن والغضب كلاهما يسبب العذاب.
وبدئ بالرجل لأنه أقوى جانباً؛ وذلك لأنه غالباً ليس بمتهم، ولا غرض له في أن يلاعن امرأته؛ لأنه إذا أبغضها فلا حاجة له إلى أن يقذف وبإمكانه أن يطلقها ويخلي سبيلها، فلا حاجة له إلى أن يلاعن وهو كاذب، فالقرائن تدل على صدقه، كما في قصة هلال، حيث إن امرأته ولدت مولوداً شبيهاً بذلك الرجل الذي قذفت به، فدلت القرائن على أنه أقرب إلى الحق وإلى الصدق، وكذلك في قصة امرأة هلال أنها تلكأت عند اليمين الخامسة، أو عند الغضب، وكادت أن تعترف، ومع ذلك أقدمت، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) أي: لولا الأيمان لأقام عليها الحد، فدل ذلك على أن جانب الرجل أقوى من جانبها.(69/20)
الموعظة قبل اللعان
قبل البدء في الملاعنة على القاضي أن يعظهما جميعاً ويذكرهما كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ذكرهما وخوفهما، وقال لهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟) .
وكذلك -أيضاً- خوفهما وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، عذاب الدنيا في حق الزوج هو أن يجلد ثمانين جلدة إذا تبين أنه كذب عليها، وعذاب الزوجة هو الرجم بالحجارة حتى تموت، ومع ذلك فإنه أهون من عذاب الآخرة، سيما إذا تابت وندمت واعترفت وأقيم عليها الحد، فهو أهون من عذاب الآخرة الذي هو النار وبئس القرار، فعليه أن يخوفهما ويذكرهما.
فإذا تمت الملاعنة سقط الحد، فلا يقام عليه الحد الذي هو الجلد؛ لأنه أتى بما يسقطه وهو هذه الشهادات، وكذلك -أيضاً- يسقط الحد عنها؛ لأنها أتت بما يسقطه، وهو هذه الشهادات.
بعد ذلك تتم الفرقة بينهما، وتكون فرقة مؤبدة، بحيث لو أنه بعد ذلك ندم، وقال: إني كذبت عليها، ردوها علي.
لا تعاد إليه إلى آخر الحياة، وتحرم عليه تحريماً مؤبداً، وتكون كإحدى محارمه، ولا تحل له أبداً بعد تمام هذه الملاعنة، وهكذا -أيضاً- لو كذبت نفسها بعد ذلك يقام عليها الحد.
فالحاصل: أن القاضي يفرق بينهما فرقة مؤبدة.(69/21)
من أحكام اللعان
إذا كان في بطنها حمل، وتبرأ منه، وقال: ليس لي، وليس ابناً لي.
فإنه لا يلحقه، بل يُلحق بالزوجة، ويُنسب لأمه، يقال: ابن فلانة.
ولا ينسب لأب لا للزاني ولا للزوج.
أما إذا اعترف به وقال: إنه ابني، وإنها علقت به مني قبل أن تزني.
فإنه يلحق به؛ لأنه اعترف بأنه ابنه فيلحق به وينسب إلى أبيه، والشرع يتشوف إلى صلة الأنساب.
وأما إذا لم يكن القذف صريحاً فلا يكون هناك حد ولا لعان، تذكرون قصة رجل قال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود -وهو يعرض بنفيه-.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألك إبل؟ قال: نعم.
قال: فما ألوانها؟ قال: حمر.
قال: أليس فيها أورق؟ -يعني: أسود- قال: بلى.
قال: فمن أين جاءها؟ قال: لعله نزعه عرق.
فقال: وهذا لعله نزعه عرق) ، فلا لعان والحال هذه.(69/22)
أقل مدة الحمل وأكثرها
يقول المصنف: ومن أتت زوجته بعد نصف سنة منذ أن كان جماعه بها، أو لدون أربع سنين منذ أبانها، ولو ابن عشر، لحقه نسبه.
قدر الفقهاء أن أقل مدة الحمل نصف سنة، فإذا تزوج امرأة ودخل بها، وبعد أن دخل بها ولدت بعد ستة أشهر، ولدت في الشهر السابع بعد دخوله عليها، فهذا الولد يلحق به؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، والغالب أن أكثر النساء تلد لتسعة أشهر، ولكن لما كان أقل مدة الحمل ستة أشهر دُرئ عنها الحد.
فلو أنكره وقال: إنه ليس مني.
فلا يقبل إنكاره، إلا إذا كان هناك قرائن بينة، وفي هذه الأزمنة يمكن أن يعرض على الأطباء الذين يقدرون عمر الجنين، فإذا عرض عليهم وقالوا بعدما دخل عليها بشهر: هذا الحمل له -مثلاً- عشرون أسبوعاً أو خمسة عشر أسبوعاً، تبين أنه ليس منه، فله في هذه الحالة أن ينتفي منه، وإذا لم ينتف منه فإنه يلحق به.
ذكر أن امرأة ولدت بعدما تزوجها رجل بستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها، فقال له بعض الصحابة: إن أقل مدة الحمل ستة أشهر، واستدل بقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] أي: مدة حمله ومدة فصاله ورضاعه، وقال الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فصاله: يعني رضاعه في عامين، فإذا أسقطنا العامين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين فكم يبقى؟ يبقى ستة أشهر، فهي مدة الحمل، فالرضاع والفصال سنتان أربعة وعشرون شهراً، والبقية مدة الحمل، هذا أقل مدة الحمل.
أما إذا طلق رجل امرأة، ولما طلقها ادعت أنها حامل، ولم تتزوج، ومضى عليها سنة وسنتان ولم تلد إلا في السنة الثالثة أو في السنة الرابعة قبل تمام أربع سنين منذ طلقها، وادعت أنه منه، لزم الإقرار به واستلحاقه؛ لأن الحمل قد يبقى في الرحم سنتين أو ثلاث سنين، وأكثر ما وجد أن الحمل يبقى في بطن أمه أربع سنين، ولكن الغالب أنه يكون مريضاً، وأنه في حالة مرضه لا يتغذى ولا ينمو بدنه وجسده؛ فلذلك تزيد مدة الحمل، فإذا ولدته لأقل من أربع سنين منذ أبانها لحقه.
ولو كان الزوج صغيراً كابن عشر فإنه يلحقه نسبه؛ لأن ابن عشر قد يكون منه انتشار، ويكون منه شهوة، ويحصل منه الإنزال، وقد قدر العلماء أن أقل ما يحصل البلوغ لابن عشر، فإذا دخل بزوجة وهو ابن عشر سنين، وعلقت بحمل لحقه ذلك الحمل.
ولكن اختلفوا: هل يحكم ببلوغه مع الشك فيه؟ قالوا: لا يحكم بالبلوغ إلا بعد اليقين، وبلوغ الرجل يكون باحتلامه أو بالإنبات -كما تقدم في باب الحجر- أو بتمام خمس عشرة سنة، لكن إذا دخل بامرأة وحملت وهو ابن عشر تبين بذلك أنه قد بلغ؛ لأن الحمل لا يكون إلا من إنزال، فلابد أنه أنزل في الرحم، وحصل من ذلك الإنزال علوق ذلك المولود، فأما إذا شك في هذا المولود هل هو من هذا الصبي أو من غيره فلا يحكم ببلوغه مع الشك.(69/23)
حكم بيع الأمة إذا ولدت لدون نصف سنة
يقول المصنف: ومن أعتق أو باع من أقر بوطئها فولدت في دون نصف سنة لحقه، والبيع باطل.
صورة ذلك: إذا وطأ أمة مملوكة له، ولما وطئها باعها قبل أن يستبرئها، واعترف بأنه قد وطئها، وأنه باعها ولا يدري هل هي حامل أم لا، ولكن أقر بأنها كانت أمته، وبأنه قد وطئها، وبأنه لما باعها لم يستبرئها بحيضة، ففي هذه الحال إذا ولدت مولوداً يمكن أن يكون منه، فإنه يلزمه أن يلحقه، ويكون البيع باطلاً.
وعليه أن يقر به إذا كانت ولادته لأقل من ستة أشهر منذ باعها؛ لأنه اعترف بأنه قد وطئها قبل البيع، والآن ولدت مولوداً كامل الخلقة في خمسة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، فهذا المولود لابد أنه موجود في رحمها قبل بيعه لها، فعليه أن يقر به، وإذا أقر به لحقه نسبه، وحينئذ ترجع إليه؛ لأنها تصير أم ولد، وأم الولد لا يجوز بيعها، -وأم الولد هي المملوكة التي يطؤها سيدها فتلد له أولاداً- فإذا اعترف بأنه وطئها، وولدت بعد بيعه لها في أقل من ستة أشهر، فالولد منه يقيناً، وهو موجود في الرحم قبل أن يبيعها، فترجع إليه وتبقى أم ولده، ويبطل البيع.
أما إذا ولدت بعد الستة الأشهر من البيع، يعني: باعها وبعدما باعها بنحو ستة أشهر وخمسة أيام جاءت بولد، نقول: إنه للمشتري الذي اشتراها؛ لأنه هو الذي وطئها بعدما تملكها، فإنه يمكن أنه لما اشتراها استبرأها بحيضة، والحيضة قد تكون يوماً أو يومين، ولما استبرأها وطئها، وبعدما وطئها علقت منه، ولما علقت منه مضى على شرائه لها ستة أشهر وخمسة أيام، يومان هما الاستبراء ونحوه، فتكون بذلك قد علقت منه، والولد له، ولا تعود إلى الأول.(69/24)
الأسئلة(69/25)
من ارتكب حداً فهل تكفيه التوبة؟
السؤال
كثير من البلدان لا يحكم فيها بالشرع في الحدود مثل القتل أو قطع يد السارق أو حد اللعان أو غيره، فهل تكفي التوبة؟
الجواب
إذا ارتكب الإنسان ذنباً، واعترف بذنبه فيما بينه وبين الله فإنه يستر نفسه، فإذا زنى فإنه يستر نفسه ويتوب، وتكفي التوبة، وكذلك حقوق الله تعالى يكفي فيها الندم والتوبة وأن يستر نفسه.
وأما حقوق الآدميين فلابد فيها من الصلح، فإذا قتل إنساناً فلأوليائه أن يقتصوا ولو لم يكن هناك حاكم، فيقتلوا ذلك القاتل؛ لأن النفس بالنفس، ولهم أن يصطلحوا معه على دية ولو أكثر مما يقدر، وأما حد القذف فلهم أن يصطلحوا معه على أن يرضيهم، ويكفيه أن يندم على ما فعل، ويستر نفسه.(69/26)
النصيحة لمن يتلفظ بالطلاق أو الظهار
السؤال
بماذا تنصحون من يكون على لسانه كلمة الظهار دائماً؟
الجواب
ننصحه بالتوبة وترك هذه الكلمة، فكلمة الطلاق وكلمة الظهار تجري على ألسن الكثير، وكثيراً ما تسمعون من يقول: علي الطلاق أن أفعل كذا، أو امرأتي علي مثل أمي، أو مثل فرج أمي وما أشبه ذلك، فعليه أن يتوب، ويمسك لسانه، والتوبة تمحو الذنب.(69/27)
شرح أخصر المختصرات [70]
من رحمة الله بعباده وحكمته التي قد لا يستوعبها البشر: أن شرع أنظمة وتعاليم يجب على الناس الالتزام بها وتطبيقها على نسائهم، ومن ذلك أن فرض الله العدة على الزوجة إذا طلقت طلاقاً رجعياً أو بائناً، أو توفي عنها زوجها، وأمر من اشترى أمه أن يستبرئها قبل الوطء، وما ذاك إلا لأجل أن لا تختلط الأنساب وتنتهك الحقوق الزوجية وتهدر.(70/1)
العدد والاستبراء والإحداد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب العِدَد: لا عدة في فرقة حي قبل وطء وخلوة.
وشرط لوطء كونها يوطأ مثلها، وكونه يلحق به الولد، ولخلوة مطاوعته وعلمه بها ولو مع مانع، وتلزم لوفاة مطلقًا.
والمعتدات ست: الحامل: وعدتها مطلقًا إلى وضع كل حمل تصير به أمة أم ولد.
وشرط لحوقه للزوج، وأقل مدته ستة أشهر، وغالبها تسعة، وأكثرها أربع سنين، ويباح إلقاء نطفة قبل أربعين يومًا بدواء مباح.
الثانية: المتوفى عنها بلا حمل، فتعتد حرة أربعة أشهر وعشر ليال بعشرة أيام، وأمة نصفها، ومبعضة بالحساب، وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاة أو طلاق إن ورثت، وإلا عدة طلاق.
الثالثة: ذات الحيض المفارقة في الحياة، فتعتد حرة ومبعضة بثلاث حيضات، وأمة بحيضتين.
الرابعة: المفارقة في الحياة، ولم تحض لصغر أو إياس، فتعتد حرة بثلاثة أشهر، وأمة بشهرين، ومبعضة بالحساب.
الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تعلم ما رفعه، فتعتد للحمل غالب مدته ثم تعتد كآيسة، وإن علمت ما رفعه فلا تزال حتى يعود فتعتد به، أو تصير آيسةً فتعتد عدتها.
وعدة بالغة لم تحض ومستحاضة مبتدأة أو ناسية كآيسة.
السادسة: امرأة المفقود تتربص -ولو أمةً- أربع سنين إن انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك، وتسعين منذ ولد إن كان ظاهرها السلامة، ثم تعتد للوفاة، وإن طلق غائب أو مات، فابتداء العدة من الفرقة.
وعدة من وطئت بشبهة أو زنًا كمطلقة إلا أمةً غير مزوجة فتستبرأ بحيضة.
وإن وطئت معتدة بشبهة، أو زنًا، أو نكاح فاسد أتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند ثان، ثم اعتدت لثان.
ويحرم إحداد على ميت غير زوج فوق ثلاث، ويجب على زوجة ميت، ويباح لبائن.
وهو ترك زينة وطيب، وكل ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها.
ويحرم -بلا حاجة- تحولها من مسكن وجبت فيه، ولها الخروج لحاجتها نهارًا.
ومن ملك أمةً يوطء مثلها من أي شخص كان، حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبراء حامل بوضع، ومن تحيض بحيضة، وآيسة وصغيرة بشهر] .(70/2)
حكمة مشروعية العدد ونحوها
يتعلق هذا الفصل بالعدة والإحداد والاستبراء؛ والحكمة في ذلك: عدم اختلاط الأنساب، وذلك أن الرحم إذا كان مشغولاً بحمل لم يجز لغير الزوج أو السيد وطء تلك المرأة التي انشغل رحمها بحمل، فإن ذلك فيه شيء من اختلاط الأنساب، وهكذا لو علقت بحمل ثم طلقت وتزوجت، أو توفي عنها وتزوجت، فإنه لا يدري: هل الولد للأول أو للثاني، وقد يتنازعانه، فكل منهما يدعي أنه منه، وقد يكون ذلك سبباً في أن الولد يتعقد ولا يدري هل هو ولد هذا أو ولد هذا! هذا هو السبب.
ولأجل ذلك حرم وطء الحامل، وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) ، وهذا على وجه الاستعارة، يعني: فلا يطأ امرأة غيره إذا كانت حاملاً، فإنه يسقي ذلك الولد من مائه الذي هو المني، وإذا فعل ووطئ المرأة الحامل فربما ينسب الولد إليه وهو ليس ولداً له، فذكروا أيضاً أن وطء الحامل يزيد في بصر الحمل أو في قوته أو نحو ذلك، فيكون الولد مشتركاً فيه هذا وهذا.
هذه هي الحكمة من هذا الباب الذي هو العدد.
وكان أهل الجاهلية لا يبالون باختلاط الأنساب، وفي الحديث الذي في البخاري عن عائشة: أنها ذكرت أن النكاح في الجاهلية على عدة أقسام، وذكرت منها: قسم الزواني اللاتي ينصبن الأعلام على بيوتهن، وهن العاهرات، وكل من رأى هذا العلم عرف أنه على امرأة بغي.
وقسم آخر هو الاستبضاع، وهو أن الرجل يرسل امرأته إلى رجل شريف، ويقول لها: اذهبي استبضعي منه.
أي: مكنيه من نفسك حتى تعلقي بولد، ليكون ولداً لنا، ويكون فيه صفات ذلك الشريف من شجاعة أو كرم أو بسالة أو قوة، فيكون هذا فيه أيضاً اشتراك في هذا الولد.
وذكرت أيضاً قسم الاشتراك، وهو: أن يتفق خمسة أو عشرة في الدخول على المرأة، وكل منهم يطؤها، وإذا علقت بالحمل ووضعت حملها أرسلت إليهم، وقالت: قد علمتم ما حصل منكم، وقد وجد هذا الولد، ثم إنها تختار واحداً منهم وتعلقه به فتقول: هو لك يا فلان! ولا يستطيع أن يرد ذلك، فيتبناه.
ولما جاء الإسلام حدد الزواج المباح الذي هو وطء الزوجة بنكاح صحيح، أو وطء الأمة بملك يمين، وما عدا ذلك فإنه محرم، ويحرم على المطلقة أو المتوفى عنها أن تتزوج حتى تستبرئ رحمها، وذلك بشرع هذه العدة.
وجعل العدة أكثر من مدة الاستبراء كما سيأتي في هذه الأقسام، وكل ذلك من مصالح العباد، وفيه فوائد عظيمة تدل على أن الإسلام راعى الزوجية، وأنه جاء بالمصالح ودرء المفاسد.(70/3)
الأدلة القرآنية على العدد
في هذا الفصل ذكر العدد، ونعلم أن العدد قد بينها القرآن بياناً مجملاً، فذكر الله عدة الحامل في قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، وعدة المطلقة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، وعدة الآيسة والصغيرة في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق:4] يعني: بلغت سن الإياس {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] يعني: وكذلك اللائي لم يحضن، فذكر عدة هؤلاء.
وكذلك عدة المتوفى عنها ليست حاملاً بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] .
والمطلقة التي لم يدخل بها ذكرت في قول الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] .(70/4)
عدة غير المدخول بها
بدأ بغير المدخول بها، فقال: (لا عدة في فرقة حي قبل وطء وخلوة) .(70/5)
عدة المتوفى عنها قبل الدخول
(فرقة حي) مفهومه: أن الفرقة بالموت لها عدة، ولكنها تسمى إحداداً، وصورة ذلك: إذا تزوج رجل بامرأة، ومات قبل أن يدخل بها، ففي هذه الحال عليها الإحداد؛ لأنها زوجة، وداخلة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] ، ولأنها ترث، ولأنها تعطى المهر، ودليل ذلك حديث عن رجل من أشجع: (أنه سئل ابن مسعود عن امرأة مات زوجها قبل أن يدخل بها، وقبل أن يفرض لها.
فقال أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، لها مهر مثل نسائها، لا وكس ولا شطط -يعني: لا زيادة ولا نقص- وعليها العدة -يعني: مع الإحداد- ولها الميراث.
فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها: بروع بنت واشق بمثل ما قضيت) ففرح ابن مسعود لما وافق حكمه حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا مات إنسان قبل أن يدخل بزوجته فإنها زوجة ترث منه، كما لو ماتت قبل أن يدخل بها فإنه يرث منها، وإذا لم يكن قد أعطاها مهراً فإنه يدفع لها مهر أمثالها لا وكس ولا شطط، يعني: لا تقصير -وهو الوكس- ولا شطط -وهو الزيادة- بل مهر المثل، وعليها العدة التي معها إحداد، هذا حكم من مات عنها زوجها وهي قد عقد عليها ولم يدخل بها.(70/6)
عدة المطلقة قبل الدخول
وأما إذا فارقها قبل الدخول والخلوة فلا عدة، ولكن لها نصف الصداق، ولا يلزمها إحداد ولا عدة إذا طلقها؛ لصراحة الآية: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ، دل ذلك على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها.
ولكن إذا كان قد فرض لها صداقاً فلها نصفه، إلا إذا سمحت أو سمح الزوج وأكمل لها المهر، وإذا لم يفرض لها صداقاً فلها المتعة؛ لقوله تعالى: (فَمَتِّعُوهُنَّ) أي: أعطوهن متاعاً، {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49] .(70/7)
معنى الدخول الموجب للعدة وشرطه
وأما إذا كان بعد الوطء أو بعد الخلوة فإنها تعتد، وماذا يشترط للوطء الذي يوجب العدة؟ كونها يوطأ مثلها، والتي يوطأ مثلها هي بنت تسع، فإذا كانت أقل من تسع سنين فالأصل أنه لا يوطأ مثلها، وأنه ليس لها شهوة، وأنها لا تعلق بحمل، فمثلها إذا طلقت فلا عدة عليها.
شرط ثانٍ: كونه يلحق به الولد، متى يُلحق به الولد؟ إذا كان الزوج ابن عشر، والذي دون العشر عادة أنه لا يطأ، وإن وطئ فلا يحصل منه الإنزال، وإن أنزل فلا يخلق من إنزاله الولد.
أما إذا كان يولد لمثله فإنه يلحق به الولد سواء كان ابن عشر أو أكثر، فإن الوطء يوجب العدة، يعني: إذا كانت بنت تسع، وكان هو ابن عشر ووطئها ثم فارقها، فعليها العدة، وأما إذا كان أقل من عشر أو هي أقل من تسع ووطئها فلا عدة عليها.
ماذا يشترط للخلوة؟ مطاوعته، يعني: أن يكون مطاوعاً في تلك الخلوة، ويكون عالماً أنها عنده وأنها معه ولو مع وجود مانع.
عرفوا الخلوة بتعريفين أو بثلاثة: إسدال الحجاب، وإغلاق الباب، وكشف النقاب.
فإذا خلا بها، ليس معهما أحد، وأغلق الباب، أو كان -مثلاً- في بيت شعر وأسدل الحجاب بينه وبين الناس، وكشفت له وجهها، ولم يكن هناك ما يمنعه من أن يطأها، فإنه إذا طلقها فعليها العدة، وتستحق المهر كاملاً.
ويحدث أن كثيراً من الذين يتزوجون يخلو أحدهم بامرأته ولكن في غير المنزل، فيركبها معه في سيارته، ويدخل بها الأسواق، أو يظهر بها في المنتزهات أو الحدائق أو الاستراحات أو خارج البلد، ويقول: لم أغلق باباً.
نقول: بلى؛ إنك أغلقت باب السيارة، ولو كان باب السيارة غير ساتر، ولكن هذا دليل الخلوة، وإنك خلوت بها في مكان قد لا يراكما أحد، فإذا طلقت فإنها تستحق الصداق كله، فيجب الصداق كله بعد هذه الخلوة.
فإذا قال: إني ما جامعتها! نقول: إن هذه الخلوة تعتبر مالكة بها للصداق، وعليها أن تعتد عدة الطلاق لهذه الخلوة.
فإذا قال: إني خلوت بها في مكان خاص، ولكنها كانت حائضاً، ولم أستمتع بها.
ف
الجواب
الخلوة تسبب ثبوت الصداق كله ولو مع وجود مانع.
وكذا لو خلا بها وهما صائمان، فإنها تلزمها العدة، ويلزمه الصداق، وإذا قال: أنا خلوت بها ولكن كنت صائماً أو كانت صائمة، أو كانت حائضاً، فعليها العدة بعد الطلاق، وعليه كمال الصداق.(70/8)
أنواع المعتدات وأحكامها(70/9)
تجب العدة للوفاة مطلقاً
قوله: (وتلزم لوفاة مطلقاً) العدة تلزم للوفاة مطلقاً، سواء خلا بها أو لم يخلو، لحديث بروع بنت واشق الذي رواه معقل بن سنان الأشجعي، فإنه صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وجعل عليها العدة، وذلك لأنها زوجة، فتدخل في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] ، فإنه يعم الزوج الذي قد دخل والذي لم يدخل، فكل من مات عن زوجة دخل بها أو لم يدخل فإنها تعتد وتحد.(70/10)
عدة الحامل
والمعتدات ستة أنواع، بدأ بالحامل للنص عليها، وعدتها مطلقاً وضع كل الحمل الذي تصير به الأمَة أم ولد، ويشترط لحوقه بالزوج، وأقل مدته ستة أشهر، وغالبها تسعة أشهر، وأكثرها أربع سنين، قال الله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فمتى وضعت الحمل انتهت عدتها، وإن كان في بطنها توأمان فلا تنتهي العدة إلا بوضع الأخير.
فإن أسقطت سقطاً قد تبين فيه خلق الإنسان انتهت عدتها، وأكثر ما تتبين فيه أربعة أشهر، وقد تتبين خلقة الإنسان في ثلاثة أشهر، وهذا هو الذي تصير به الأمة أم ولد، فالأمة إذا وطئها سيدها، ثم حملت منه وأسقطت، وكان ذلك السقط قد تبينت فيه مفاصله، كأن تبين رأسه، وإن لم تتشقق عيناه، ولم ينشق فمه، وتبينت يداه وإن لم تتشقق أصابعه، وإن كانت اليدان ملتصقتين في جنبه، وتبينت القدمان ولو كانتا لا تزالان ملتصقتين، فإذا تبين فيه هذا الخلق فإن الأمة تصير أم ولد، ولا يجوز له أن يبيعها، بل يستمتع بها بقية حياته، وإذا مات عتقت من كل ماله، فإذا أسقطت المتوفى عنها سقطاً قد تبين فيه خلق الإنسان فإنها تنقضي عدتها، وبطريق الأولى إذا وضعت حملاً لمدة كاملة فإنها تكون قد انتهت عدتها، وسواء طالت المدة أو قصرت.
فلو وضعت بعد أن مات بساعة أو نصف ساعة انتهت عدتها، وجاز لها أن تتزوج، ولو قبل أن يدفن زوجها، ولو كان على سرير التغسيل أو سرير حمله إلى القبر، فالله تعالى يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
وهكذا لو طالت مدته: فلو مات زوجها والحمل نطفة فإنها تعتد حتى يوضع، ولو بقي سنة، فتبقى في الإحداد والعدة، حتى تضع جميع الحمل.
روي عن بعض السلف أنه قال: إنها تعتد أبعد الأجلين، وأبعد الأجلين أقصاهما، إما العدة بالأشهر وإما العدة بالحمل، فمعنى ذلك أنه لو مات وهي في الشهر التاسع فعدتها أربعة أشهر وعشر، وإن مات وهي في الشهر الأول فعدتها التسعة الأشهر كلها.
ولكن الصحيح: أنها تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواء طالت مدته أو قصرت.
واشترط لحوقه بذلك الزوج، فإذا تبين أنه لا يلحق به فلا تنقضي عدتها منه، فلو قدر أنه تزوجها وكانت حاملاً من غيره، ومات وهو لا يعلم، ثم إنه توفي وهي حامل، ووضعت حملها بعد ثلاثة أشهر أو شهرين، فهل نلحق ذلك الولد به؟ لا يلحق به؛ لأنه تبين أنه من غيره.
وهكذا لو وضعته دون أقل مدة الحمل، وأقل مدة يوضع فيه الحمل كاملاً ستة أشهر؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، ثم قال في آية أخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] ، أليس العامان أربعة وعشرين شهراً؟ كم بقي من الثلاثين؟ ستة أشهر، فتكون هي مدة الحمل، هكذا استنبط ابن عباس وغيره.
وغالب مدة الحمل تسعة أشهر، فغالب النساء يلدن لتسعة أشهر، وقد يلدن لأكثر من تسعة، وأكثر مدة الحمل أربع سنين، والغالب أن التي يزيد حملها على تسعة يمتد إلى سنة أو سنتين أو ثلاث، وسبب ذلك مرض الجنين، بحيث إنه إذا مرض لا يتغذى، وإذا لم يتغذ فإنه يبقى ولا يموت جسده، إلى أن ترجع إليه صحته، ثم بعد ذلك يواصل التغذي، ولأجل ذلك إذا لم يتغذ الجنين فإن الدم يخرج كأنه حيض، ولكن ذكروا أن أكثر مدة الحمل أربع سنين، وذكر بعض العلماء أنه قد يزيد، وتبقى خمساً أو ستاً أو ربما إلى عشر والدم يخرج منها، ولكنها تعرف أن فيها حملاً، وذلك الحمل لا ينمو.
وبكل حال: الأصل والغالب والمعتاد تسعة أشهر أو قريباً منها.(70/11)
حكم الإجهاض
(ويباح إلقاء نطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح) إذا علمت أنها حملت، أو علم الزوج وكان لا يريد الحمل، جاز لهما الإسقاط قبل تمام الأربعين يوماً بدواء مباح، لا بدواء محرم كعمل السحرة ونحوهم، ويجوز لها أن تذهب إلى طبيبة تعطيها دواءً يسقط ذلك الحمل الذي لا يزال نطفة؛ لأنه في الأربعين اليوم الأولى لا يزال نطفة، لم يبدأ في طور التخليق، فيجوز إسقاطه، ولكن بدواء مباح.
وأما بعد الأربعين فإنه قد بدأ في طور التخليق، أي: بدأ في الأربعين الثانية وكان علقة، الله تعالى ذكر الأطوار في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] فإذا أصبح علقة بدأ في طور التخليق فلا يجوز إلقاؤه إلا لضرورة، إذا عرف -مثلاً- أنه سيضر بأمه، وأنها لا تتحمل وأنه يمكن موتها إلى آخر ذلك من الأذى.(70/12)
عدة المتوفى عنها وليست حاملاً
الثانية من المعتدات: المتوفى عنها وليست حاملاً، فتعتد الحرة أربعة أشهر وعشر ليال لعشرة أيام، وتعتد الأمة نصفها، أي: شهرين وخمسة أيام، وتعتد المبعضة بالحساب، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] (يتربصن) يعني: ينتظرن، ولا يتزوجن هذه المدة كلها.
فهذا حكم الحرة، والأمة معلوم أنها تعتد على النصف من الحرة، فإذا كانت الأمة مزوجة من حر أو من عبد فمات زوجها فإنها تعتد نصف هذه المدة شهرين وخمسة أيام، والمبعضة تعتد بالحساب إذا كان نصفها حراً ونصفها مملوكاً فإنها تعتد شهرين وخمسة أيام، ونصف ذلك أي: شهراً ويومين ونصف، فتكون عدتها بالحساب، تأخذ من الشهرين والخمسة الأيام الباقية نسبة ما فيها من الحرية، فإن كان نصفها حراً أخذت من الشهرين والخمسة الأيام نصفها، وإن كان فيها ربع حراً أخذت ربع الشهرين والخمسة الأيام، وإن كان ثلثها حر أخذت ثلث الشهرين والخمسة الأيام، وإن كان ثلثاها أخذت ثلثي الشهرين والخمسة الأيام، هذا معنى (بالحساب) .
الحكمة في ذلك: أولاً: استبراء الرحم، وذلك لأنه قد يكون فيها حمل ولكن لا يتبين ويتحقق إلا بعد أربعة أشهر.
ثانياً: أن المدة التي يمكن أن تصبر فيها عن الزواج أربعة أشهر، وجعلت العشرة الأيام احتياطاً؛ لأن بعض الأشهر قد يكون ناقصاً.
وإذا تحقق بأنها ليس في رحمها حمل فإن هذه المدة تعبد، وقيل: إن هذا لتعرف حق الزوج؛ ولأجل ذلك تحد عليه خاصة، فدل ذلك على أن من الحكمة معرفتهن لحقوق الأزواج، مما يحملها على الاعتراف بحقه وأدائه، وكذلك حرصها على القيام بخدمته في حياته وما أشبه ذلك.(70/13)
عدة المطلقة في مرض الموت
وإذا أبانها في مرض موته كأن خاف من الموت وطلقها ثلاثاً، أو كانت مطلقة باثنتين وقد بقي لها واحدة، وطلقها الثالثة وهو مريض، أليس ذلك يدل على أنه متهم بقصد حرمانها من الإرث؟ في هذه الحال ترث ولو كانت قد بانت، ولو طالت مدة مرضه بعدما أبانها، وحاضت ثلاث حيض قبل موته، ثم مات بعدما اعتدت وانتهت عدتها بالأشهر، ففي هذه الحال ترث منه، معاملة له بنقيض قصده.
فهي إذاً ترث، وإذا ورثت وجبت عليها العدة، وإذا أبانها بمرض موته فإنها تعتد الأطول من عدة وفاة أو طلاق إن ورثت، وإن لم ترث فعدة طلاق، فلو طلقها ومات بعد طلاقها وقد بانت منه، كأن مات بعد طلاقها بثلاثة أشهر، وقد حاضت ثلاث حيض، ففي هذه الحال ترث منه وتعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر؛ لأنها الأطول.
فأما إذا أبانها وانتهت العدة فإنها ترث منه؛ وذلك لأنه معروف أنه أراد بذلك حرمانها.
أما إذا حكم بأنها لا ترث فليس عليها إلا عدة الطلاق، وإذا عرف أنه لم يكن متهماً بقصد الحرمان فليس عليها إلا عدة الطلاق ولا ميراث لها.(70/14)
عدة ذات الحيض
الثالثة من المعتدات: ذات الحيض المفارقة في الحياة، فعدة الحرة والمبعضة ثلاث حيضات، وعدة الأمة حيضتان، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] .
اختلف العلماء في القروء ما هي، فقيل: إنها الأطهار، أي: تعتد ثلاثة أطهار، إذا طلقها وهي طاهر فهذا الطهر تعتده، ثم إذا حاضت ثم طهرت فهذا الطهر الثاني، ثم إذا حاضت ثم طهرت فهذا الطهر الثالث، فإذا تم الطهر الثالث وجاءتها العادة انتهت عدتها، هذا قول أن الأطهار تسمى قروءاً، واستدلوا بقول الأعشى يمدح أحد الملوك أو أحد الغزاة بكثرة الغزو وإضاعة نسائه، فيقول: وفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة عزاً وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا الذي ضاع من قروء نسائه هي الأطهار؛ لأنه فاته طهر هذه الزوجة ولم يطأها فيه، وفاته طهر الثانية ولم يجامعها فيه؛ لأنه كان في غزو، فسمى الأطهار قروءاً.
القول الثاني: أن القرء هو الحيض، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ذلك في قوله لـ فاطمة بنت قيس: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك.
فعلى هذا إذا طلقت وهي ممن يحيض فعدتها ثلاثة قروء، أي: ثلاث حيض إذا كانت حرة، وهكذا لو كانت مبعضة فعدتها ثلاثة قروء، ولو كان الرقيق منها العشر أو الربع، وأما الأمة التي لم تبعض فعدتها قرءان أي: حيضتان.
قد يقال: لماذا تعتد بثلاثة قروء مع أن القرء الواحد والحيضة الواحدة يعلم بها براءة الرحم، وسلامتها من انعقاد الرحم على حمل، فما الفائدة في حبسها ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض؟ الحكمة في ذلك: تمكين الزوج من مراجعتها؛ لقول الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ، وتقدم ذلك في الرجعة، وأنه لو راجعها وقد طهرت من الحيضة الثالثة ولكن لم تغتسل صحت الرجعة، إذا كان الطلاق واحدة أو اثنتين، هكذا يتمكن الزوج من الرجعة في هذه المدة.
وإذا قلت: فالبائن التي طلقت ثلاثاً أو آخر ثلاث، وليس لزوجها عليها رجعة، لماذا تعتد ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض؟ ف
الجواب
إن ذلك لأجل أن يجري الطلاق على وتيرة واحدة، لا يكون فرق بين من طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، تكون العدة واحدة وهي ثلاثة قروء؛ ولعموم الآية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فالآية عامة لكل مطلقة في الحياة.(70/15)
عدة الآيسة والصغيرة
الرابعة من المعتدات: المفارقة في الحياة ولم تحض لصغر أو إياس، قد تعتد الحرة بثلاثة أشهر، والأمة بشهرين، والمبعضة بالحساب، قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] ، وكثيراً من النساء إذا تمت خمسين سنة توقف الحمل والحيض، فلا تحمل ولا تحيض بعد الخمسين، وبعضهن يتوقف الحيض عنها في عمر خمس وأربعين، وبعضهن قد تحيض ولو في خمس وخمسين أو في ثمانية وخمسين، وقد وجد من تحيض وعمرها ثمان وخمسون، وأما إذا تجاوزت الستون فالعادة أنها لا تحيض، فإنه يتوقف عنها الحيض.
فالحاصل: أن هذا دليل على أن الحيض هو المعتبر في النساء، فإذا أيست من الحيض، وعرفت أنه لا يعود، في هذه الحال إذا طلقت كانت عدتها ثلاثة أشهر.
وهكذا الصغيرة التي طلقت قبل أن تحيض، يعني: قد يتزوجها وعمرها عشر أو اثنتا عشرة أو أربع عشرة سنة ويطؤها، ولم يسبق أن حاضت، قد يتأخر الحيض عن بعض الفتيات إلى الخامسة عشرة، وربما إلى سبع عشرة، فإذا طلقت وهي لم تحض فإن عدتها كعدة الآيسة ثلاثة أشهر، فإن حاضت في الثلاثة الأشهر انتقلت إلى عدة الحيض.
لو طلقها -مثلاً- وعمرها أربع عشرة، ولما طلقها مكثت شهرين ما حاضت فيهما وما جاءها الحيض، ولكن حاضت في الشهر الثالث، ففي هذه الحال عدتها الأقراء، فتمكث ثلاث حيض بعد الشهرين التي ما حاضت فيهما.
والأمة عدتها شهران، والمبعضة بالحساب، والمبعضة: هي التي بعضها حر وبعضها مملوك، فإذا كان نصفها حراً فإنها تعتد شهرين بالرق، ونصف شهر بنصف حريتها، تأخذ من الشهر الثالث مثل النسبة التي فيها من الحرية.(70/16)
عدة من ارتفع حيضها
الخامسة من المعتدات: (من ارتفع حيضها ولم تعلم ما رفعه، فتعتد للحمل غالب مدته، ثم تعتد كآيسة، وإن علمت ما رفعه فلا تزال حتى يعود فتعتد به، أو تصير آيسة فتعتد عدتها وعدة بالغة لم تحض، ومستحاضة مبتدأة أو ناسية كعدة آيسة) .
قد يرتفع حيض بعض النساء، فإن كانت لا تدري ما رفعه، كأن توقف حيضها وهي تحيض بسبب خفي لا تدري ما هو، ففي هذه الحال عدتها سنة: تسعة أشهر مدة أغلب الحمل، وثلاثة أشهر عدة الآيسة.
أما إذا علمت ما الذي رفع هذا الحيض فإنها لا تزال في العدة، ذكر عن بعض الصحابة أنه طلق امرأة له، وكانت ترضع ابنة له، ثم ارتفع حيضها بسبب الرضاع ولم تحض، ومكثت معها ابنتها سنتين أو سنة وستة أشهر، مرض ذلك الزوج، وقال: الآن قد طلقتها من سنة وتسعة أشهر، ولو مت لورثت مني، فذهب وانتزع ابنته منها، ولما أُخذت البنت رجعت إليها الحيضة، ولكنه مات قبل أن تعتد عدة ذات الأقراء، فورثت منه.
ففي هذه الحال إذا علمت أنها لا تحيض ما دامت ترضع، فإنها تبقى في العدة إلى أن يرجع إليها الحيض بعد فطام الولد؛ لأن العادة أنها إذا كانت ترضع ينقلب الدم لبناً وترضعه الطفل، فلا تحيض ما دامت ترضع، هذا أغلب النساء، وبعضهن لقوة شبابها وبنيتها تحيض ولو كانت ترضع، سيما إذا كانت لا ترضع ولدها إلا شيئاً قليلاً، اعتماداً في إرضاعه على اللبن الصناعي، أما النساء قبل خمسين سنة أو نحوها فإن الولد إنما يرتضع لبن أمه مدة سنتين، وفي هاتين السنتين لا تحيض.
فإذا طُلقت وهي في النفاس، ثم طهرت، ثم اشتغلت في إرضاع الطفل وتوقف عنها الحيض لمدة سنتين فإنها تكون في العدة، بحيث إنه لو مات ورثت منه، أو ماتت ورث منها؛ لأنها لا تزال محبوسة لأجله؛ ولأنها علمت أن عدتها في الأقراء، وعلمت ما رفع الحيض عنها، فتبقى في العدة إلى أن يرجع إليها الحيض فتعتد به ولو طالت المدة.
وهكذا لو ارتفع حيضها بمرض، وهكذا لو تعاطت دواءً يوقف الحيض، فإنها علمت أنه يرتفع الدم، وبعض النساء تعرف أنها إذا أخذت هذا الدواء توقف الحيض عنها سنة أو نصف سنة، ثم يعود إليها، فإذا علمت ما رفعه فلا تعتد حتى يرجع الحيض فتعتد به، فقال: (إذا علمت ما رفعه فلا تزال حتى يعود فتعتد به) .
فإن بلغت سن الإياس والحيض ما عاد إليها فعدتها كآيسة، فلو قدر -مثلاً- أن هذا الدواء أو هذا المرض استمر معها ولم يعد إليها الحيض، وبلغت سن الخمسين أو الخمسة والأربعين وأيست، وعلمت أن الحيض لا يعود إليها لكبر سنها، ففي هذه الحال تعتد بالأشهر ثلاثة أشهر.(70/17)
عدة المستحاضة والمبتدأة والناسية والبالغة بغير حيض
يقول: (وعدة بالغةٍ لم تحض ومستحاضةٍ مبتدأةٍ أو ناسيةٍ كآيسةٍ) .
يعني: لو بلغت المرأة بنبات الشعر حول الفرج، أو بخمس عشرة سنة، ولكن ما حاضت، وطلقت، فماذا تكون عدتها؟ بالأشهر كالآيسة، وهكذا عدة المستحاضة المبتدأة، مثالها: امرأة ابتدأها الدم لأول مرة وعمرها خمسة عشر، واستمر عليها شهراً أو شهرين أو سنة أو سنوات ولم يتوقف، ولم تعرف لها عادة، وطلقت، فعدتها كالآيسة ثلاثة أشهر.
وهكذا إذا استحيضت وكانت لها عادة ولكن نسيت عادتها، واختلط عليها الأمر، فاختلط دم الحيض بدم الاستحاضة، إذا طلقت فعدتها ثلاثة أشهر كعدة الآيسة.(70/18)
عدة امرأة المفقود
السادسة والأخيرة من المعتدات: امرأة المفقود، وهو الذي غاب ولم يعلم خبره، ولم تعلم حياته ولا موته، في هذه الحال تتربص ولو كانت أمة أربع سنين، إذا انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك، أي: إذا كان يغلب على الظن الموت.
وذكروا أمثلة -كما تقدم في الفرائض- بمن فُقد في معركة حصلت بين المسلمين والكفار، فما وجد مع الأحياء، ولا وجد مع الأموات، ولا وجد مع الأسرى، ولا يدرى هل هو حي أم ميت، ولكن الغالب أنه قد مات، فيمكن أنه في مكان خفي قتل في هذه المعركة، فلا يقسم ماله إلا بعد أربع سنين من هذه المعركة، ولا تتزوج امرأته ولا تعتد إلا بعد أربع سنين.
وهكذا لو خرج في الليل من أهله ولم يدر أين هو، وانقطع خبره، قد يقال: إنه اختطف، وقد يقال: إنه اغتيل، خرج في الليل على أنه يعود بعد ساعة وانقطع خبره، فتتربص مدة أربع سنين، يمكن أنه يعود، ولكن الغالب أنه مات.
وقد وقعت قصة في عهد عمر رضي الله عنه أن رجلاً خرج من أهله ليلاً ولم يرجع، فانتظرته امرأته، فبعد أربع سنين وقد تزوجت زوجته جاء إلى أهله، فسألوه: أين كنت؟ فقال: استهوتني الجن -أي: اختطفتني- فكنت عندهم كأسير، ثم إنه غزاهم جن مسلمون وتغلبوا عليهم، ووجدوني في الأسرى فقالوا: أنت مسلم، لا يحل لنا إمساكك، فإن شئت أن تبقى معنا، وإن شئت أن نردك إلى أهلك.
فقلت: ردوني، فأصبحت في طرف المدينة.
فخيره عمر بين زوجته وبين ماله، فاختار ماله، والزوجة قد تزوجت.
هذه القصة ذكرها صاحب "منار السبيل في شرح الدليل".
أما إذا كان الغالب عليه السلامة فإن امرأته تتربص تمام تسعين سنة منذ ولد، ينظر كم عمره عندما فقد، فإذا كان عمره خمسين سنة فلا يقسم ماله، ولا تتزوج امرأته إلا بعد أربعين سنة حتى تتم التسعون، فتتزوج امرأته بعد إحداد.
وكذلك لو فُقد وعمره ثمانون تتربص عشر سنوات.
ولو فُقد وعمره عشرون سنة، فعلى كلامهم أنها تنتظر سبعين سنة، ولا شك أن في هذا ضرراً عليها، فلا تتزوج ولا تقسم تركته؛ لأجل ذلك قالوا: إن الحاكم له الاجتهاد، كما لو فقد وعمره تسعون فللحاكم أن يجتهد، والغالب في هذه الأزمنة العثور عليه، وذلك بفضل المواصلات، ولوجود الهواتف والإذاعات ونحوها، وإمكان البحث عنه والتنقيب، ومعرفة أين هو، ولو كان قد يخفي نفسه.(70/19)
متى تبدأ عدة المرأة إذا طلقها أو مات وهو غائب
يقول: إذا طلق الغائب أو مات متى تبدأ العدة؟ من وقت الفرقة، أي من وقت الطلاق أو الموت، فلو مات في بلاد بعيدة، ووصل خبره إلى امرأته بعد أن مضى أربعة أشهر وعشر فلا عدة عليها؛ لأنها انتهت، ما جاءها الخبر إلا بعدما مضى على موته هذه المدة، فإن جاءها الخبر بعد ثلاثة أشهر بقي لها شهر وعشرة أيام، وإن جاءها الخبر بعد عشرة أيام فتعتد أربعة أشهر.
وهكذا المطلقة، كثير من الرجال يطلق امرأته ولا يأتي الخبر إلا بعد العدة، يطلقها وهو في بلاد، ويكتب ورقة الطلاق -مثلاً- في شهر محرم، ولا يصل إليها الخبر إلا في شهر ربيع الثاني، وتكون قد حاضت ثلاث حيض، أو مر بها ثلاثة أشهر إذا كانت آيسة، فهل تعتد بعد ذلك؟ لا عدة عليها.
جاءتها ورقة الطلاق مكتوب فيها أن الطلاق وقع في شهر محرم، حاضت في محرم وفي صفر وفي ربيع الأول وطهرت، ففلا عدة عليها، ولها أن تتزوج، وابتداء العدة يكون من الفرقة.(70/20)
عدة الموطوءة بشبهة أو زنا
من وطئت بشبهة أو الزانية إذا وطئت فإنها إذا أرادت التوبة والزواج فلابد من مضي ثلاثة قروء كالمطلقة، وذلك حرصاً على استبراء الرحم.
وهكذا لو وطئت بشبهة، كرجل عقد على امرأة بعقد فاسد -يعني: بدون ولي- ودخل بها، ثم فرق بينهما أو طلقها، فعدتها ثلاثة قروء إذا كانت تحيض؛ لأن هذا وطء بشبهة، وهكذا لو وجد امرأة على فراشه فاعتقدها أمته أو زوجته ووطئها، وتبين أنها ليست زوجته، فهذا وطء شبهة، فتعتد له ثلاثة قروء.
يستثنى من ذلك الأمة، إذا وطئت بشبهة أو وطئت بزنا، فإن كانت مزوجة فإنه لا يحل لزوجها أن يطأها إلا بعد حيضتين، وإن كانت غير مزوجة فليس عليها إلا حيضة واحدة تسمى الاستبراء، وإن كانت حرة مزوجة ووجدها رجل على فراشه فوطئها، فهي تظنه زوجها، وهو يظنها امرأته، وتبين أنها غير امرأته، ففي هذه الحال لا يحل لزوجها وطؤها إلا بعد أن يمضي عليها ثلاث حيض، حرصاً على استبراء الرحم، ولو كانت الحيضة الواحدة يعلم بها براءة الرحم، ولكن من باب الاحتياط.
وإذا وطئت معتدة لشبهة أو زنا أو نكاح فاسد أتمت عدة الأول، ولا يحتسب مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، ثم جدد لها العقد إن كان زواجاً فاسداً.
صورة ذلك: إذا طلق امرأة عدتها ثلاثة قروء، وبعد ما مر قرءان وبقي لها قرء وطئها رجل بشبهة أو بزنا، أو عقد عليها وهي في العدة، فهذا يعتبر عقداً ونكاحاً باطلاً، ثم دخل بها، ومكثت عنده شهراً أو شهرين أو سنة، ثم تبين الأمر، فماذا نفعل؟ نفرق بينهما، فإذا فرقنا بينهما قلنا لها: أكملي عدة الأول الذي بقي له حيضة.
فإذا قالت: أنا قد حضت عشر مرات عند هذا الثاني.
نقول: لا يحسب مقامك عند الثاني، وعليها أن تكمل الحيضة التي بقيت للأول، ثم بعد ذلك تعتد لهذا الثاني الذي نكاحه فاسد أو باطل ثلاثة قروء، ثم إن شاءت رجعت على الثاني بعقد جديد.
وهكذا لو وطئت بشبهة، وقد بقي من عدتها حيضة، أو وطئت بزنا وقد بقي من عدتها حيضة، فإننا نأمرها بأن تكمل الحيضة التي للأول، ثم تكمل للثاني -الذي هو وطء شبهة أو وطء زنا- ثلاث حيض، ثم تتزوج إن شاءت بعد التوبة إذا كانت زانية.(70/21)
أحكام الإحداد(70/22)
تعريف الإحداد وحكمه
انتهى ما يتعلق بالعدد، وبقي الإحداد، وتعريفه: هو ترك المرأة للزينة، وكل شيء يدعو إلى النظر إليها، ويرغب في نكاحها، وهو مما جاءت به السنة وإن لم يذكر في القرآن، فقد جاءت السنة بإحداد المرأة إذا مات زوجها، فلا تحد على أبيها، ولا على ابنها، ولا أخيها أكثر من ثلاثة أيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) فخص الزوج لأنه هو الذي تحد عليه أربعة أشهر وعشراً.
فيجب أن تحد على الزوج إذا مات وهي في ذمته، وأما إذا طلقت طلاقاً بائناً، وقيل: إن عدتها ثلاثة قروء، فهل تحد لفراق هذا الزوج، مع أنه فراق في حياة؟ يجوز الإحداد، ولكن ليس بواجب، بخلاف الإحداد على الزوج فإنه واجب.
كان أهل الجاهلية إذا مات الزوج فإن زوجته تدخل في حشٍ صغير، ثم تنقطع عن الزينة، ولا تغتسل ولا تمشط شعرها طوال سنة، ولا تغير ثيابها طوال السنة، ويكون مقامها في هذا الحش الصغير الذي هو في غاية شدة الضيق، وفي غاية شدة الحر، وإذا انتهت السنة خرجت وأخذت بعرة ورمت بها، كأنها تقول: إن هذه المدة خفيفة علي كما أن هذه البعرة خفيف عليَّ رميها، ثم بعد ذلك تراجع الزينة.(70/23)
ما يحرم على المرأة في الحداد وما يباح لها
فلما جاء الإسلام جعل لها عدة أربعة أشهر وعشراً تترك فيها الزينة، وأباح لها أن تغير ثيابها، وأن تغسلها، وأن تغتسل، وأن تتنظف، وأن تخرج لحاجتها وما أشبه ذلك، إلا أنه حرم عليها الزينة التي تجلب النظر إليها، وحرم عليها استعمال الطيب، وكل شيء يدعو إلى جماعها، أو يرغب في النظر إليها، فلا تتطيب بطيب له ريح، أو له لون حسن كزعفران أو ورس أو عصفر أو نحو ذلك.
وكذلك أدهان الطيب كماء الورد ودهن العود وما أشبه ذلك، وكذلك لا تلبس لباس الشهرة كاللباس الذي تلبسه في الحفلات، وإنما تلبس ثيابها التي تشتغل بها في بيتها، ولا تقتصر على لباس لون معين، يعتاد بعض النساء الإحداد في الثوب الأسود، وهذا ليس شرطاً، بل تعتد في ثياب عادتها، لا فرق بين أسود وأحمر وأخضر وأزرق، ولا تكتحل الكحل الذي للزينة، وأما إذا احتاجت إلى الكحل للعلاج فلها ذلك، ولكن قالوا: تكتحل بالليل وتمسح بالنهار إذا كان يكسبها زينة في عينيها.
ولا تلبس الحلي؛ لأنه من جملة ما يلفت النظر إليها، فلا تلبس الخواتيم في الأصابع، ولا تلبس الأسورة في الذراع وهي ما تسمى بالروائش، ولا ما في العضد، وهو ما يسمى بالمعاضد، ولا ما في الأذن مما يسمى بالأقراط، والقرط: هو الذي يعلق في الأذن، ولا ما في الرقبة، وهو ما يسمى بالقلائد، وقد يسمى الآن الرشائش وأشباه ذلك مما تتحلى به من ذهب أو من فضة؛ لأن ذلك يلفت الأنظار إليها، ويدعو إلى وطئها، فلا تتجمل بشيء من ذلك.
وهكذا ورد في الحديث أنها لا تلبس ثياب زينة إلا ثوب عصب، والعصب: هي ثياب منسوجة كانت تأتي من اليمن، يكون فيها خطوط مستطيلة ليست للزينة.
وأبيح لها إذا اغتسلت من الحيض أن تتتبع أثر الدم الذي لوث بدنها كالفخذين ونحوه، فتأخذ قطعة من قسط أو أظفار، والقسط: هو نوع من الطيب، وكذا الأظفار، يسحق ويخلط بعضه ببعض، ثم تجعله في قطنة، ثم تتبع أثر الدم حتى يزيل ذلك الأثر والوسخ عنها.
ولها أن تغتسل متى شاءت، ولكن لا تغتسل بما فيه طيب كالصابون الممسك ونحوه، ولها أن تغتسل بغيره مثل الصابون التايت ونحوه.
ولها أن تصعد في بيتها ما شاءت، أو تخرج إلى ملاحق البيت، يعتقد بعض النساء أنه لا تبرح البيت، وأنها لا تنظر إلى القمر، وأنها لا تمشي في مشارف الدار وما أشبه ذلك مما لا أصل له، فليس عليها شيء من ذلك، كل ذلك مما يروجه بعض الناس بدون دليل.
ولها أن تصلي كما يصلي غيرها، يقول بعض الناس: إنها لا تصلي إلا بعد صلاة الإمام.
ولا أصل لذلك، ويقول بعضهم: إنها لا تغتسل إلا في كل أسبوع.
وهذا ليس بصحيح، بل تغتسل متى احتاجت إلى ذلك.
ثم عليها أن تبقى في محلها الذي مات وهي فيه، ولا يجوز لها أن تتحول من مسكن وجبت عليها العدة وهي فيه إلا لضرورة وحاجة، كما إذا كان البيت مستأجراً وانتهت مدة الإيجار، وليس عندها ما تدفعه كأجرة، أو أخرجها أهله، أو كذلك لم يكن عندها من يؤنسها واحتاجت أن تنتقل عند أهلها لتؤنس، أو خافت من الوحشة في هذا البيت، ففي هذه الحال يجوز أن تتحول، وإلا فلا تتحول.
وإذا كانت -مثلاً في هذه الأزمنة- معلمة أو طالبة أو ممرضة -أعني: موظفة- فهل تترك وظيفتها؟ وهل تترك الدراسة؟ لا تتركها، ويجوز لها والحال هذه أن تذهب، ولكن تكون متحجبة متسترة من حال خروجها من بيتها، وتركب في سيارة إن كان مكاناً بعيداً إلى باب المدرسة، ثم تتستر أيضاً إذا خرجت من المدرسة أو من المستشفى أو نحو ذلك.
ويجوز لها وهي في هذه الحال أن تخرج للحاجة، فلو استدعاها القاضي لأجل شهادة مثلاً، أو لحصر إرث، أو لأن توكل على نصيبها من التركة، ولم تقدر على أن توكل فإنها تحضر.
وهكذا لو مرضت، فلها أن تذهب إلى الطبيب أو الطبيبة للعلاج، وكذلك لو احتاجت إلى شراء شيء ولم يكن عندها من يشتري لها من البقالة، فلها أن تخرج لذلك.
ولكن خصوا الخروج نهاراً، ولا تخرج ليلاً؛ لأن الليل مظنة الوحشة ونحوه.
ولها أن تخرج في أول الليل، ولكن ترجع قبل النوم.
ذكر أن نساء الصحابة الذين استشهدوا في غزوة أحد كن يجتمعن عند إحداهن في النهار من باب التأنيس، خمس أو ست يجتمعن في بيت فلانة، من باب أن بعضهن يؤنس بعضاً حتى تزول عنهن الوحشة، فإذا جاء الليل وجاء وقت النوم رجعت كل واحدة إلى منزلها.(70/24)
أحكام الاستبراء
ولندخل في موضوع الاستبراء.
يقول رحمه الله: (ومن ملك أمة يوطأ مثلها من أي شخصٍ كان، حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبراء حامل بوضع، ومن تحيض بحيضة، وآيسة وصغيرة بشهر) .
هذا هو الاستبراء، وهو خاص بالأمة، والأمة معلوم أن سيدها يطؤها، ولكن حرام عليه إذا كان وطئها أن يبيعها قبل أن يستبرئها، لماذا؟ قد تكون حاملاً منه، وإذا حملت منه أصبحت أم ولد، وأم الولد لا يجوز أن يبيعها، ففي هذه الحال عليه أن يتركها إلى أن تحيض حيضة، ويعلم بذلك براءة رحمها، ثم بعد ذلك يبيعها.
والمشتري يستبرئها، ولا يحل له أن يطأها قبل أن يستبرئها مرة أخرى، ولو قال له البائع: قد استبرأتها، وإنها بريئة، ليس في رحمها نطفة، فلابد أن يستبرئها المشتري، فتستبرأ مرتين من باب الاحتياط.
وشرط ذلك: أن تكون كبيرة، يعني: أن يوطأ مثلها، أما إذا كانت صغيرة كبنت ثمان أو ثمان ونصف فمثل هذه لا تحيض عادة، وأيضاً لا يوطأ مثلها، ولا تحبل مثلها، فيجوز للمشتري أن يباشرها، وأن يقبلها، وما أشبه ذلك.
ولو كان البائع امرأة فهل يستبرئها المشتري؟ يقول: هذه اشتريتها من امرأة، وهل المرأة تطأ المرأة؟ وهل يكون بها حمل مع أن الذي ملكها امرأة؟
الجواب
نعم، لابد أن يستبرئها.
وإذا كان الذي باعها ممن تحرم عليه، يعني: لا يحل له وطؤها لسبب، كأن تكون قد أرضعته فلا يحل له وطؤها مع أنه يملكها، ففي هذه الحال لو قال: أنا لا أطؤها؛ لأنها قد أرضعتني أو هي أختي من الرضاعة، ولكني ملكتها بالإرث من أبي، واعلم أنها لم توطأ عندي، فما وطأتها أنا ولا وطأها أحد غيري.
فعلى المشتري أن يستبرئها، فلا يطؤها قبل الاستبراء، ولا يقبلها، ولا يضمها، ولا يباشرها قبل الاستبراء.
وكيفية الاستبراء: ورد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) فإن كانت حاملاً فبوضع جنين الحمل، وإن لم تكن حاملاً فبحيضة واحدة، وإذا كانت آيسة أو صغيرة فتستبرأ بشهر، وإذا كانت صغيرة ولو كانت قد قاربت البلوغ كأن تكون بنت عشر أو بنت ثلاث عشرة، ولكنها ما حاضت، فاستبراؤها يكون بشهر، وكذلك الآيسة التي بلغت الستين أو خمساً وخمسين وأيست من الحيض، فاستبراؤها يكون بشهر.
وبهذا ينتهي ما يتعلق بالعدة والاستبراء والإحداد.
والله أعلم.(70/25)
الأسئلة(70/26)
العدة مسألة تعبدية
السؤال
إذا كانت عدة الموطوءة بشبهة كعدة المطلقة، وذلك لاستبراء الرحم، فإذا قرر الطب الحديث أن المرأة غير حامل فهل تنتفي العدة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
العدة هاهنا تعبدية، ولو تأكدنا أنها بريئة الرحم، حتى ولو كانت مطلقة، ولو كانت بائنة، إذا طلقها ثلاثاً أو آخر ثلاث، وعلم بأنها ليس في رحمها حمل وعمرها مثلاً ستون، فإنها تعتد، وليس ذلك لأجل الاستبراء.(70/27)
خروج المرأة في مدة الحداد بسبب الخوف
السؤال
إذا كانت المعتدة تخاف النوم في البيت وحدها، هل يجوز لها أن تنام في بيت أهلها؟
الجواب
إذا كان هناك عدة طلاق رجعي فتقدم أنها تبقى في بيت زوجها، وتكون عدتها ثلاث حيض، ولكن لها أن تذهب إلى أهلها إذا كانت المعتدة عدة وفاة، وشق عليها أن تبقى وحيدة في البيت.(70/28)
حكمة التنصيف للأمة في العدة
السؤال
إذا علمنا أن الحكمة من العدة استبراء الرحم، فلماذا كانت عدة الأمة على النصف من عدة الحرة؟
الجواب
تنصيف الأمة وتنصيف العبد أجري على العموم، ولو كان لأجل استبراء الرحم، فإن فيه شيئاً من التعبد، قد عرفنا -مثلاً- أن الرحم تعرف براءته بحيضة واحدة، ومع ذلك فالمتوفى عنها تعتد أربعة أشهر وعشراً إذا كانت حرة، وإذا كانت أمة تعتد شهرين وخمسة أيام، فدل ذلك على أنه تعبد.(70/29)
حكم شرب الشاي والقهوة المزعفرة لمن عليها حداد
السؤال
هل يجوز للمرأة التي عليها حداد أن تشرب الشاي والقهوة التي فيها شيء من الزعفران؟
الجواب
لعل ذلك جائز، والمنهي عنه هو التطيب، فأما الشرب فإنه لا يظهر أثره ولا تظهر رائحته.(70/30)
طريقة حساب عدة المبعضة
السؤال
ما هي طريقة حساب عدة المبعضة؟
الجواب
المبعضة تأخذ من الشهر الثالث بقدر نسبتها، فإذا قلنا مثلاً: المطلقة وهي آيسة عدتها ثلاثة أشهر، وإذا كانت أمة اعتدت شهرين، فحيث إن نصفها مملوك رقيق ونصفها الآخر حر فتأخذ نصف الشهر الثالث، فإن كان ربعها مملوكاً زادت ربع الشهر الثالث، وإن كان سدسها حراً اعتدت سدس الشهر الثالث، وهكذا.(70/31)
حكم وطء الأمة المشتركة
السؤال
الأمة إذا اعتق نصفها أو ربعها فهل يحق لمولى النصف أو الربع وطؤها؟
الجواب
لا يجوز وطء الأمة المشتركة، لو كانت الأمة مملوكة بين اثنين لكل منهم نصفها، لم يحل لأحد منهم أن يطأها، وإذا أعتق بعض منها فليس لمالك النصف أن يطأها، لكن لها أن تتزوج، وزوجها يطؤها باسم الزوجية لا بملك اليمين.(70/32)
تبدأ المعتدة عدتها من وقت الطلاق أو الموت
السؤال
متى تبدأ المعتدة عدة وفاة أو عدة طلاق في عدتها؟ أهو منذ بلوغها النبأ أم منذ يوم الطلاق أو الوفاة؟
الجواب
هذا مر بنا في نفس الكتاب، أنها تبدأ من وقت الطلاق ومن وقت الوفاة، بحيث إنه لو لم يبلغها خبر الوفاة إلا بعد أربعة أشهر وعشرة أيام فلا عدة ولا إحداد، وكذلك خبر الطلاق، فلو طلقت وما وصلها الخبر إلا بعد ثلاث حيض فلها أن تتزوج.(70/33)
حكم استبراء المطلقة طلاقاً بائناً بحيضة واحدة
السؤال
ألا تستبرأ المطلقة طلاقاً بائناً بحيضة واحدة؟
الجواب
يُجرى الطلاق مجرىً واحداً، سواء طلقت واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، يكون مجراه واحداً لعموم الآية، وهي قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ولو كان لا رجعة لزوجها عليها كالغائب.(70/34)
حكم من أسر زوجها في الحرب
السؤال
من فُقد أو أسر في حرب الخليج فماذا تفعل زوجته الآن؟
الجواب
إذا كان معروفاً أنه أسير عند العدو، ولكن قبضوا عليه ومنعوه من التفلت، ففي هذه الحال لها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليحكم بفسخها، وإذا فسخت فإنها تعتد عن الفسخ، وتكون بالاستبراء.(70/35)
عدة الوفاة تعبدية
السؤال
هل عدة الوفاة عبادة تحتاج إلى نية؟ فإن كان كذلك فما حكم خادمة في المملكة توفي زوجها في بلادها، ولم تعرف عن ذلك إلا بعد مدة؟
الجواب
صحيح أنها شرعت لأجل أن تعرف قدر الزوج وحقوقه، ولكن إذا مضت المدة التي بعد موته ولم تعلم به سقطت العدة، وسقط ما معها من الإحداد.(70/36)
حكم كتابة (ص) عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
أريد أن أكتب عن المشايخ في الدروس كثيراً من كلامهم، ولكن عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أكتب الرمز (ص) وذلك لتدوين ما يقوله المشايخ، فهل هذا جائز؟
الجواب
وفقك الله، ورزقناً جميعاً الحب فيه والبغض فيه، أنت قيد الكتابة كما تستطيع، وإذا انتهيت من الكتابة فلك أن تعود إلى الرمز وتكتبه صلاة وتسليماً صريحاً؛ ليكتب لك الأجر.(70/37)
حكم من طلق امرأة في السوق ظنها زوجته
السؤال
إذا قال لزوجته: أنت طالق إن خرجتِ.
ثم ذهب هو إلى السوق فرأى امرأة وظن أنها زوجته، فطلقها، فهل يقع الطلاق؟
الجواب
نرى كما ذكر في المتن أنها لا تطلق؛ لأنه ظنها امرأته وليست امرأة، وظن أنها خرجت بدون إذنه، فلم يقع الطلاق؛ لأنها ما خرجت، ولا عرضت عليه.(70/38)
حكم الحلف بالطلاق لأجل الاحتشام والتستر
السؤال
امرأة قال لها زوجها: أنت طالق إذا رآك رجل في أحد الأعراس.
ثم في ذلك العرس فُتح الباب فجأة، وكان هناك أحد الرجال، ولا تدري هل رآها ذلك الرجل أم لا، فهل تطلق؟
الجواب
نرى أن هذا منع لها عن رؤية الرجال والنظر إليهم، فإذا كان يقصد بذلك حضها على التستر والاحتشام، ومنعها عن النظر إلى الرجال، سواء في الأفراح أو في غيرها كفاه كفارة يمين.(70/39)
حكم الزواج بنية الطلاق
السؤال
ما رأيكم في الزواج بنية الطلاق؟
الجواب
يختار أكثر العلماء أنه جائز إذا تمت الشروط، ولم يكن هناك تحديد مدة، بمعنى أنه يقول: أتزوجها زواجاً كاملاً بشهود، وبرضاها، وأعطيها صداق أمثالها، ولا أحدد مدة، ولكن إذا بدا لي طلقتها، أو إذا لم تناسب، أو إذا فارقت المدينة هذه، فلا مانع من ذلك لتمام شروطه.(70/40)
وقوع الطلاق البدعي
السؤال
ذكرتم من قبل أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يوقع الطلاق البدعي، وحديث ابن عمر في مسلم: قد وقع فيه الطلاق، آملاً منكم بسط القول في هذا، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هكذا يرى ابن القيم، ويوافقه أيضاً ابن باز وغيره من المشايخ، أن الطلاق البدعي لا يصح، ولكن الجمهور على أنه يقع، والأدلة كثيرة في ذلك، والأحاديث التي هي روايات حديث ابن عمر تجدونها قد بسطها الألباني رحمه الله في كتابه الذي هو تعليق على منار السبيل، وتخريج أحاديثه، فإنه أتى بالألفاظ كلها التي تدل على أنه طلاق صحيح، وأنه وقع الطلاق في الحين.(70/41)
حكم من قال لزوجته: إن كنت خرجت إلى السوق فأنت طالق.
فكذبت عليه
السؤال
هذا سؤال عبر الإنترنت من أمريكا الشمالية، تقول: خرجت إلى السوق بدون إذن زوجي، فلما رجع قال: إن كنتِ خرجت إلى السوق فأنت طالق.
فقلت: إنما خرجت لأوصل الولد إلى المسجد.
فسكت ولم يطلق، فماذا تفعل هذه الزوجة؟ هل تخبر زوجها، وهل تطلق؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
نرى أن عليها أن تبين له أنها خرجت حتى يكون ذلك صدقاً، وكذلك عليه أن يراجعها إذا كان قد قصد الطلاق وعزم عليه، أو يكفر عن يمينه إذا لم يكن عزم على الطلاق وإنما أراد التهديد.(70/42)
حكم شراء الكتب لمن عليه دين
السؤال
ما حكم شراء الكتب العلمية وأنا علي دين؟ هل أشتري الكتب أم أسدد أهل الدين مع أنهم ليسوا متشددين في طلب دينهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
نرى أنك تسدد الدين، إلا إذا استأذنتهم ورخصوا لك في أن تؤخر الوفاء.(70/43)
حكم من نادى زوجته بلفظ الأم أو الأخت
السؤال
في بلدي عادة وهي: أن الزوج ينادي زوجته بلفظ أمي أو أختي بلغة غير العربية، ولا يقصد بذلك الطلاق، وإنما جرت العادة هكذا، هل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يكون طلاقاً إذا نوى ذلك، ولا يكون ظهاراً، وإنما يريد أنها في المودة وفي الأخوة والصداقة بمنزلة الأم والأخت.(70/44)
حكم من طلق زوجته ثلاثاً في حالة عصبية
السؤال
رجل طلق زوجته في حالة عصبية، ورمى عليها الطلاق بالثلاث، فهل يحصل الطلاق في هذه الظروف؟ وكيف يراجعها؟
الجواب
أرى أنه إذا كان الغضب ليس شديداً، ويمكنه أن يملك نفسه وأعصابه فالطلاق واقع، وأما إذا اشتد الغضب بحيث إنه لا يملك أعصابه، ولا يقدر أن يتصرف في نفسه، ففي هذه الحال يقع الطلاق، وتبين منه زوجته.(70/45)
حكم امرأة أسلمت وتريد الزواج ولا ولي لها مسلم
السؤال
المرأة التي أسلمت وأهلها غير مسلمين، هل لها أن توكل ولياً ليزوجها بحضور الشهود؟ وكذلك لو رغبت غير المسلمة -الكتابية- من الزواج بالمسلم، هل لها أن تزوج نفسها من دون ولي؟ ومن يكون وليها إذا كان أهلها غير مسلمين، خصوصاً في البلاد التي لا يوجد فيها حكم شرعي؟
الجواب
لا تزوج نفسها، فإن كان في الدولة أو البلد رئيس دولة مسلمة، أو مدير دعوة أو ما أشبه ذلك زوجها، ففي الحديث: (السلطان ولي من لا ولي له) ، وإذا تعذر بأن لا يوجد -مثلاً- قاضٍ، ولا أمير مسلم، ولا رئيس دعوة، ولا رئيس مركز دعوة، ولا غير ذلك، فإنها توكل واحداً من المسلمين يتولى العقد عليها.(70/46)
حكم طلاق المسحور
السؤال
تزوجت زوجة صالحة قائمة بحقوقي، إلا أنني أصبت بعد الزواج أو في أيام الخطوبة بمرض، كثير من الرقاة قالوا: إنه سحر.
حيث إنني في مشاكل معها دائماً، وقد نشزت عند أهلها شهرين، ثم ثمانية أشهر، والآن لها سنتين ونصف تقريباً ولها أربعة أطفال مني، وقد صدر مني عدة طلقات في مجالس مختلفة، وهي عند أهلها؛ علماً بأن أهلها لم يطالبونني بالطلاق، لكنهم حرموني زوجتي طوال هذه الفترة، هل طلاقي يقع؛ وخاصة أني مريض، ثم أثبت الطلاق في صك، وأثبت القاضي طلقتين، لكن الصك فيه نظر، حيث إن تاريخ الطلقة الأولى غير صحيح، فما رأيكم؛ علماً بأني أرغب عودة زوجتي وأطفالي؟
الجواب
عليك أن تتعالج بالرقية الشرعية، فإنها إذا كانت من صادق بطل هذا العمل الشيطاني، وعاد إليك فكرك وعقلك، وأما هذا الطلاق فإن كان وقع وأنت مغلوب على أمرك في حالة لا تعقل فيها، ولا تفكر، ولا تدري ما تقول، فإنه لا يقع ولا يحسب، وأنت معذور في ذلك.
وأما إذا وقع وأنت تفكر وتعرف، ولو كان معك شيء من التألم فإنه يحسب.
ثم إذا طلقتها وانقضت عدتها، ثم طلقتها ثانية بعد انقضاء العدة، فالطلاق الذي بعد انقضاء العدة لا يقع، وحيث ذكرت أنك حررت صكاً فالعمل على ما في الصك، راجع القاضي الذي أصدره، واطلب منه أن يفتيك بما فيه.(70/47)
حكم التفريق بين رجل يبيع مخدرات وبين زوجته
السؤال
رجل متزوج، وقد سجن بسبب ترويجه للمخدرات، وقبل سجنه للمرة الثالثة حذره أهل الزوجة بالتفريق بينهما، فهل يحق لهم ذلك؟ أرجو التفصيل وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يحق لهم ذلك، إذا اشتهر أنه يعمل هذا العمل المحرم، وإذا سجن فإن سجنه يؤذي زوجته، فيقال له: عليك أن تتوب من هذا، أو أن تطلق، إن عدت إلى هذا الترويج طلبنا من الحاكم أن يفرق بينك وبين امرأتك.(70/48)
نصيحة لمن يريد فراق زوجته بعلة أنه لا يحبها
السؤال
أنا متزوج منذ ثلاث سنين تقريباً على فتاة ذات خلق ودين ولله الحمد، ولكن منذ أن تزوجت لم أحس بطعم للحياة الزوجية، وهذه الأيام أفكر في فراقها، إذ إنني أرى أن السبب في ذلك عدم المحبة، فبماذا تنصحونني؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لابد أن هناك أسباباً تمنعك من الالتذاذ بهذه الحياة، إما أن يكون هناك من حسدك، فالحاسد والعائن قد يؤذي من يحسده، وإما أن يكون هناك قلق في الحياة بحيث إن هناك ما يضايقك في أمور حياتك، فعليك أن تعالج نفسك بالرقية، أو بكثرة الدعاء والاستعاذة من الشيطان ووساوسه.(70/49)
حكم لبس بدلة الخطوبة
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يلبس بدلة الخطوبة؟ وهل لها أصل في الشرع؟
الجواب
لا أصل لهذه لا للرجل ولا للمرأة، يلبس الإنسان اللباس المعتاد، سواء لباس الثياب أو الخواتيم أو ما أشبه ذلك، أما أن يكون للخطوبة لباس متميز أو دبلة أو نحو ذلك فلا أصل لذلك.(70/50)
حكم الحلف بالطلاق
السؤال
إذا حلف بالطلاق، فهل تلزمه الكفارة فوراً، أم تسقط الكفارة إذا برت المرأة بحلف زوجها عليها؟
الجواب
إذا حلف بالطلاق ذكرنا أنه إذا كان قصده اليمين، والحض أو المنع فعليه كفارة اليمين، وإذا تبين للمرأة أنه قاصد الطلاق فإن لها أن تمتنع منه وتقول: إنك قد حلفت حلفاً مؤكداً عازماً على الطلاق، فلا أرجع إليك إلا بفتوى، وعليه أن يراجع الإفتاء.(70/51)
حكم من تزوج بنية الطلاق
السؤال
عندي رغبة في الزواج من امرأة زواجاً صحيحاً بجميع شروطه، لكنني لا أرغب بقاءها معي، وإنما لفترة غير محددة، وكذلك لا أرغب الإنجاب منها بعمل حبوب وغيره من موانع الحمل، حيث إنني متزوج ولدي أولاد وبنات، ولكن مجرد إعفاف نفسي زيادة، ما حكم هذا العمل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لابد أن تخبرها بأنك لا تريد بقاءها، وإنما تريد أن تلتذ بها ساعة أو يوماً أو شهراً أو سنة وما أشبه ذلك، وأنك لا تريد الإنجاب منها، فإذا أخبرتها ورغبت فلك ذلك، وإلا فلا يجوز أن تقدم على هذا الزواج الذي فيه مخادعة لها.(70/52)
حكم التوكيل في الزواج بنية الطلاق
السؤال
رجل تزوج من خارج البلاد زواجاً بنية الطلاق، وكان والد البنت غير موجود في وقت العقد، فعقد له ابن خالة البنت، حيث قال: إن والد البنت قد وكله بتزويجها، وأكدت البنت ذلك بنفسها بتوكيل ابن خالتها، فما رأي فضيلتكم في هذا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أولاً: النكاح الذي بنية الطلاق فيه خلاف، أجازه بعض العلماء كالشيخ ابن باز، وذكر أن العلماء الأولين أباحوه، وذكر أنه ليس شبيهاً بنكاح المتعة، ولكن بعض المشايخ نهوا عن ذلك، وألف فيه الشيخ صالح بن منصور رسالة، وقدم له الشيخ صالح آل حيدان، وذكر له مفاسد، فلذلك نرى أنه مكروه، لكن إذا كان في بلاد غريبة، وخاف أن يقع في الزنا فله أن يتزوج، ولكن زواجاً صحيحاً، لا يحدد فيه المدة، ولابد أن تتم فيه الشروط، وأن يدفع الصداق كاملاً صداق المثل، وما أشبه ذلك.
كذلك -أيضاً- نقول: هذا السؤال إذا كانت المرأة صادقة في أن أباها غائب، وأن هذا الوكيل عنده وكالة على تزويجها فالعقد صحيح إن شاء الله.(70/53)
حكم من وطئ بعد طلاق ولم ينو الرجعة
السؤال
رجل اشترط على زوجته إن خرجت من البيت فإنها طالق، وقد خرجت الزوجة من بيتها بأمر من والدها، فهل يقع هذا الطلاق؟ وإن كان يقع هذا الطلاق فما الحكم إذا جامعها زوجها جهلاً منه أن الطلاق قد وقع؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
ذكرنا أن مثل هذا في الغالب يكون يميناً، إذا قال: إن خرجت فأنتِ طالق.
يقصد منعها من الخروج، ولا رغبة له في الفراق، ففي هذه الحال عليه كفارة يمين، ولا يقع الطلاق، وأما إذا كان عازماً على الطلاق، ويدري أن آخر عهد له بها خروجها، فإن الطلاق يقع، ولكن يكون رجعياً، أي: طلقة واحدة.
وبكل حال: إن كان لم يطلقها إلا هذه المرة، ووطئها بعدما خرجت فالوطء كما سمعنا يكون رجعة، ويكون وقع بها طلقة، وإن لم ينوِ الطلاق وإنما نوى اليمين فعليه كفارة يمين، وهذا هو الأغلب.(70/54)
حكم ضرب الزوجة الناشز بسبب تقصير الزوج
السؤال
هل يمنع الزوج من ضرب زوجته الناشز إذا كان النشوز بسبب تقصير الزوج في حقوقها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لا يجوز له أن يضربها إذا كان هو المقصر، فإن المرأة إذا قصر زوجها في نفقة أو عشرة أو في حسن معاملة، أو أساء إليها وسبها، وقصر في حقها، فلا تلام إذا خرجت ولم تستطع التحمل والصبر، وفي هذه الحال لا يجوز له أن يضربها، فإن ذلك ظلم لها.(70/55)
طلاق الحاكم يعتبر فسخاً
السؤال
هل يطلق القاضي الزوجة إذا حلف الزوج ألا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر؟ وهل يكون طلاق القاضي باللفظ؟
الجواب
هذا في حالة الإيلاء، فإذا مضت أربعة أشهر وهو قد حلف ألا يطأها، أو ترك وطأها بدون حلف، ورفعت أمرها إلى القاضي، فالقاضي يحضره ويقول: إما أن تطأها وتكفر عن يمينك، ويكون هذا هو الفيء، {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] ، وإما أن تطلق، فتصرح بلفظ الطلاق، فإذا امتنع وقال: لا أطأ ولا أطلق.
فللحاكم أن يهدده ويقول: إن لم تطلق طلقنا عليك، فيطلق عليه الحاكم، ولا يملك الحاكم إلا التفريق بينهما، وتفريق الحاكم لا يسمى طلاقاً ولكنه يسمى فسخاً، بحيث إذا فسخ الحاكم لا يقدر الزوج على إرجاعها إلا برضاها وبعقد جديد.(70/56)
الفرق بين المتعة والزواج بنية الطلاق
السؤال
ما ذكرتم -يا شيخ حفظكم الله- من إخبارها بالزوج لمدة سنة أو شهر أليس شبيهاً بالمتعة؟
الجواب
المتعة يحدد فيها الزمان، فيشترطه ويقول: زوجتك ابنتي شهراً أو شهرين أو سنة.
فهذه هي المتعة، وأما إذا لم يحدد، وإنما في نفسه وفي قلبه أنه سوف يجربها، أو أنه سوف يعف نفسه بها في هذه السنة أو السنوات الدراسية، وأعطاها مهرها كاملاً، وأثبتها في هويته، وكذلك -أيضاً- اعترف بأولادها ولم يضر بها بمنعها من الإنجاب، وكذلك التزم بالإنفاق عليها، فهذا زواج صحيح.(70/57)
حكم الفسخ إذا كرهت الزوجة زوجها
السؤال
إذا غاب الزوج وترك زوجته في بلاده، فهل يجوز للزوجة فسخ النكاح؛ لأن ذلك كثير في بلادنا يفسخون النكاح في هذه المسألة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الواجب ألا يفسخ إلا بعذر، وليس كل من كرهت زوجها تكون صادقة، ويكون قولها صحيحاً، فيرجع إلى القضاء الشرعي، فإن كان هناك عيب في الزوج، أو إضرار، أو كان -مثلاً- فيه عيب خَلقي أو خُلقي، أو ترك الإنفاق عليها، فللقاضي أن يتدخل ويفسخ النكاح، وإلا فلا.(70/58)
تجديد العقد لمن كان لا يصلي ثم تاب
السؤال
أنا شاب متزوج، وكنت لا أصلي، ومنَّ الله علي بالهداية، هل عقدي الأول باطل؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
إذا كان الزوجان سواء في أنهما لا يصليان ثم هداهما الله فالعقد صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أنكحة الكفار لما أسلموا، وأما إذا كان أحدهما لا يصلي فالراجح أنه لابد إذا تاب من تجديد العقد، ولو تجديداً سفرياً، بأن يأتي إلى والدها ويقول: جدد لي العقد (شفهياً) فيحضر شاهدين ويقول: أشهدا أنني زوجت هذا ابنتي فلانة، وهو يقول: اشهدوا أني قد قبلتها.
وتبقى على زوجيتها.(70/59)
حكم من طالبت زوجها بالطلاق بسبب أنه تزوج عليها
السؤال
هل يجوز للزوجة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا تزوج عليها لعدم وجود الصبر عندها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لا يجوز لها ذلك، وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها، ولتنكح ولها حظها) أو كما قال، فعليها أن تتحمل وتصبر، وفي الحديث: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) فعليها أن تتحمل وتصبر، سيما إذا كان الزوج عادلاً قائماً بما يجب عليه.(70/60)
حكم اتفاق الزوجين على الطلاق بمصطلح آخر غير لفظ الطلاق
السؤال
هل إذا اتفق الرجل وزوجته على أنه إذا قال لها: أنتِ طالق.
أي بلفظ: قومي أو اقعدي، أو غير ذلك، هل يقع الطلاق بهذه النية أو لابد من اللفظ؟
الجواب
الأصل أنه لابد من اللفظ، ولكن إذا اصطلحا على كلمة عبرا بها عن الطلاق وقع، فإذا كان اصطلح على أن يقول: فاخرجي.
وأن هذا عنده طلاق، طلقت بقوله: اخرجي أو اذهبي، أو لستِ لي بامرأة، أو قومي عني، أو فارقيني فهذه كنايات فمع النية يقع بها الطلاق، ومع عدم النية لا يقع.(70/61)
حكم القراءة على أنها رقية شرعية
السؤال
توجد امرأة كلما حملت وأنجبت ذكراً مات بعد الولادة، فقيل لها: إذا حملتِ واصلي القراءة عند شيخ حتى تضعي، ما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
القراءة لا بأس بها والرقية الشرعية، فيمكن أن هناك بعض الشياطين -شياطين الجن أو نحوهم- أو أن هناك من أصابه بعين، فالرقية علاج شرعي.(70/62)
شرح أخصر المختصرات [71]
الرضاع من المسائل الشرعية الشائكة، وقد جاء الشرع ببيانه أتم بيان وأوضحه، فبين ما يحرم من الرضاع وما لا يحرم، وما هو مقدار الرضاع المحرم، وكيفية الرضعة المحتسبة من الرضاع، وغير ذلك من مسائل الرضاع.(71/1)
أحكام الرضاع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب على رضيعٍ وفرعه وإن نزل فقط.
ولا حرمة إلا بخمس رضعاتٍ في الحولين، وتثبت بسعوطٍ، ووجورٍ، ولبن ميتةٍ، وموطوءةٍ بشبهةٍ، ومشوبٍ.
وكل امرأةٍ تحرم عليه بنتها كأمه وجدته وربيبته إذا أرضعت طفلةً حرمتها عليه.
وكل رجلٍ تحرم عليه بنته كأخيه وأبيه وربيبه إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلةً حرمتها عليه.
ومن قال: إن زوجته أخته من الرضاع بطل نكاحه.
ولا مهر قبل دخولٍ إن صدقته، ويجب نصفه إن كذبته، وكله بعد دخولٍ مطلقًا، وإن قالت هي ذلك وكذبها فهي زوجته حكمًا.
ومن شك في رضاعٍ أو عدده بنى على اليقين.
ويثبت بإخبار مرضعةٍ مرضيةٍ وبشهادة عدلٍ مطلقًا] .(71/2)
الأدلة على وجود حرمة الرضاع
الرضاع قد جاء ذكره في القرآن، قال الله تعالى في المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] نص الله على تحريم اثنتين: الأم من الرضاعة، ويدخل فيها الجدة أم الأم، والجدة أم الأب، فكل منهن تكون أماً من الرضاعة، والأخت من الرضاعة يدخل فيها الأخت بنت الأب من الرضاعة، وكذلك بنت الأم، فكلاهما تدخل في اسم الأخت.
ثم جاء الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا شرح هذا الحديث ابن رجب عند شرح الأربعين النووية، وأضاف إليها ثمانية أحاديث من جملتها هذا الحديث؛ لأنه مجمل يدخل تحته صور كثيرة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .(71/3)
الفرق بين قرابة الرضاع وقرابة النسب
قرابة الرجل قسمان: النسب والصهر، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] ، أخبر بأنه خلق الإنسان من الماء، وأخبر بأنه جعله قسمين أو نوعين، أي: جعل القرابة نوعين: قرابة نسب، وقرابة صهر، فالنسب هم الآباء والأجداد والإخوة والأخوات، وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، وكذلك -أيضاً- الأخوال وأبناؤهم والخالات، والأعمام والعمات وأولادهم، وأعمام الآباء يسمون أنساباً، يعني: أقارب ينتسب إليهم، وينتمي إليهم، فيقول: أنا ابن فلان ومن آل فلان.
وأما الصهر: فهو القرابة من النكاح كأبي الزوجة وأبيه -أبوها وجدها- وأجدادها، وكذلك إخوتها وأخواتها وأعمامها، هؤلاء أصهار، والصهر: القريب من النكاح.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إنما خص النسب: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أي: من القرابة بالولادة، جاء في رواية أخرى: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) وهو نص على أن القرابة الحقيقية هي الولادة، ولكن قرابة الرضاعة لها نوع قرابة، فجعلها مثل النسب، ولكن القريب من الرضاعة قرابته قرابة محرمية، ليس مثل قرابة الولادة، فمثلاً: القريب من الولادة تجب نفقته عليه إذا احتاج إلى ذلك، أما القريب من الرضاعة فليس كأخيك من الولادة إذا افتقر أنفقت عليه حتى تسد خلته، وإذا مات الأخ من الولادة وليس له أولاد ولا أب فإنك ترث منه، وليس كذلك الأخ من الرضاعة.
وهكذا -أيضاً- القرابة من الولادة عليهم عقل الدية، فإذا قتل أحدهم إنساناً خطأً ألزمنا قرابته أن يدفعوا الدية، ويسمون بالعاقلة، وليس كذلك القرابة من الرضاعة، فلا يدفعون الدية مع العاقلة، وإنما القرابة من الرضاعة تسبب المحرمية، وتسبب منع النكاح، وتسبب جواز السفر بها، يعني: أختك من الرضاعة حرام عليك نكاحها، وهي محرم لك، فيجوز أن تكشف لك، وتسافر بها كمحارمك ولو مكاناً بعيداً، فلها نوع حق.
ومع ذلك إذا افتقرت لا تجب عليك نفقتها، ولا ترث منها إذا ماتت، ولا تعقل -يعني: تدفع من الدية- إذا قتل أحد إخوتك من الرضاعة، وإنما حق هذه القرابة زيارة واستزارة، واستضافة، وإجابة دعوة، وإكرام، وهدية، وقبول هدية، وما أشبه ذلك؛ لأن لها هذه القرابة.(71/4)
المحرمية المترتبة على الرضاع تكون في حق الرضيع وفروعه فقط
سبب هذه القرابة: الرضاعة، الطفل في حال صغره يتغذى على هذا اللبن، وينبت عليه لحمه وعظمه، فلما نبت على هذه الرضاعة من هذه المرأة كانت هذه المرأة كأنها أنبتت لحمه من لبنها، فصار لبنها سبباً في نباته وتغذيته، فأصبح لها حكم الأمومة، وأصبحت كأنها أم له في هذه المحرمية، فكان لها حق الاحترام، وكان لها حق الأمومة، وحرم عليه نكاحها، وألحقت بمحارمه من النسب، وألحق بها -أيضاً- أقاربها الذين هم إخوتها وأخواتها ونحوهم.
يقول هاهنا: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب على رضيعٍ وفروعه وإن نزل) .
المحرمية تكون على الرضيع لا على أصوله، ولا على حواشيه، فأنت إذا رضعت من امرأة تصير هي أمك، فإخوتك أجانب لها، ولهم أن يتزوجوها، وأن يتزوجوا من بناتها وأخواتها، أما أنت فلا تتزوجها ولا تتزوج من بناتها، وأولادك مثلك؛ لأنهم أولاد ابنها، ويصيرون محارم لها، وبناتها -أيضاً- محارم لأولادك.
كذلك أبوك وأجدادك أجانب منها، فالمحرمية تتعلق بالرضيع، فهو الذي يكون ابناً لها، وكذلك أقاربها، فأختها خالته من الرضاعة؛ لأنها أخت أمه، وأمها وجدتها كجدتك من النسب، كذلك خالتها تصير كخالة أمك، وتصير محرماً لك، ألست محرماً لخالة أمك؟ خالة أمك من الولادة تكشف لك، وعمة أمك من الولادة تكشف لك، فهكذا -أيضاً- خالة أمك من الرضاع، وعمة أمك من الرضاع، وزوجها الذي رضعت منها وهي في ذمته هو الذي تسبب في وجود هذا اللبن، فيكون أباك من الرضاع، وكذلك إخوته أعمامك من الرضاع.
وتذكرون قصة أفلح أخي أبي القعيس عندما استأذن على عائشة فامتنعت من الإذن له، وقالت: إن أبا القعيس ليس هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال لها: أرضعتك امرأة أخي أي: بلبن أخي، اللبن لـ أبي قعيس، فهو الذي تسبب في وجوده.
امرأة أبي القعيس أرضعت عائشة، فأصبحت المرأة أم عائشة، وأصبح أبو القعيس أبا عائشة، وأصبح أخوه الذي اسمه أفلح عمها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسألته قال: (ائذني له؛ فإنه عمك من الرضاعة) .
هذا دليل على أن أقارب المرضعة وأقارب زوجها يكونون محارم للرضيع، وبناتها أخواته، وكذلك بنات بناتها وإن بعدن، كذلك أخواتها خالاته، جداته عماتها، وزوجها أبوه، وأخوات زوجها عماته، وكذلك إخوانه أعمامه، وأعمامه أجداده، وعماته جداته، وخالاته كذلك وهكذا: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .(71/5)
اشتراط خمس رضعات لثبوت حرمة الرضاع
اختلفوا في مقدار الرضاع المحرم، يقول هنا: (ولا حرمة إلا بخمس رضعات) هذا هو المذهب، واستدل على ذلك بحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان) ، وذكرت عائشة وقالت: (كان مما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ ذلك بخمس رضعات، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهي مما يُقرأ) ، لكن هذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه، فيدل على أن الذي يحرم خمس رضعات، هذا هو المذهب.
والمالكية يقولون: يحرم قليله وكثيره، ولو مصة واحدة، وأخذوا ذلك من إطلاق الآية والحديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فجعلوا الحكم عاماً في رضعة واحدة أو أكثر، فإذا حصل الرضاع ولو مصة واحدة حرم.
ويرد عليهم بحديث عائشة الذي ذكرنا: (لا تحرم الرضعة والرضعتان، ولا المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان) وهذا دليل على أن القليل ما يحرم.
وذهب الأحناف إلى أنه لا يحرم إلا عشر رضعات، قالوا: لأنه هو الذي يصدق عليه أنه نبت به الجسم، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم) (أنبت اللحم) يعني: مع التغذية نبت عليه لحم الطفل، (وأنشز العظم) أنشزه: رفعه، والإنشاز: هو الرفع والظهور، ومنه قوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:259] ، فيقولون: أربع رضعات، خمس رضعات، سبع رضعات، هذه قليلة لا يمكن أن اللحم ينبت بها، فلا بد من رضعات ينبت بها اللحم، فجعلوا أقل ذلك عشراً، هذا قول الأحناف.
والمشهور -أيضاً- عن الشافعية كالحنابلة خمس رضعات، وحيث جاء الحديث الذي ذكرت عائشة فإنه يعتبر، وهو الأقرب، وعليه العمل، أي: خمس رضعات.(71/6)
كيفية الرضعة التي تحسب من الخمس الرضعات
واختلفوا في ماهية الرضعة، ما المراد بالرضعة التي جاء فيها هذا الحديث: خمس رضعات؟! من العلماء من يقول: الرضعة هي المصة، يعني: مجرد ما يمص، واستدلوا بقوله: (لا تحرم المصة والمصتان) ، الطفل إذا أمسك الثدي فإنه يمص مصة ثم يبتلع، ثم يمص ثم يبتلع، وهكذا، ولكن نقول: إن هذه المصة قد لا تحصل بها التغذية.
القول الثاني: أن الرضعة هي الإمساك والإطلاق.
يعني: إمساك الثدي، فإذا تركه حسبت رضعة ولو بعد نصف ساعة، أو بعد لحظة، فإذا امتص منه ثم تركه حسبت رضعة سواء طال إمساكه أو قصر، وهذا هو القول الأقرب.
وذهب آخرون إلى أن الرضعة هي الشبع، ويختار هذا القول ابن بسام في تيسير العلام، يقول: قياساً على الأكلة والوجبة، والإنسان إذا قال: أكلت عند فلان أكلة.
فمعناه: أكل حتى شبع، ويقولون: فلان يأكل كل يوم أكلتين، أو كل يوم ثلاث أكلات، فالأكلة هي الأكل حتى الشبع، فقاس عليها أن الرضعة هي الشبع أو الري، سواء كان صغيراً أو كبيراً، فإذا ارتضع حتى روي سواء بإمساكة واحدة أو بخمس إمساكات، ما دام أنه يمتص، ثم يطلقه للتنفس، ثم يمسكه ويمتص، ثم يطلقه للتنفس، ثم يمسك إلى أن يروى، وإذا فرغ ما في الثدي نقلته إلى الثدي الآخر، فإذا روي صدق عليها أنها رضعة.
والعمل والفتوى على القول الوسط: أن الرضعة هي الإمساكة، سواء طال الإمساك أو قصر، وهذا هو الأقرب؛ لكن استثنوا من ذلك إذا نزعت الثدي من فمه، أما إذا تركه هو من نفسه فإنا نحسبها رضعة، فإذا امتص منه فنزعته فإنها هي التي تسببت، فلا بد أن تتركه إلى أن يتركه من نفسه، سواء كان قد روي، أو تركه للتنفس، أو تركه ليرتاح قليلاً ثم يرجع إليه، فإنها تعتبر رضعة إذا تركه اختياراً، فتكون خمس رضعات، قد تكون مجتمعة وقد تكون متفرقة.
ويحدث أن كثيراً من النساء ترضع طفلاً، ولكن تشك في عدد الرضعات، إذا شكت فالعمل على اليقين كما يأتي.(71/7)
لا يحرم الرضاع إلا إذا كان في الحولين
أما قوله: في الحولين.
أي: في مدة الرضاع، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ، فيدل على أن الرضاع هو الذي يكون قبل الفطام، إذا تم الصبي حولين فطم عادة، ولا يجوز إرضاعه بعد الحولين، والعادة أنه يأكل ويتغذى.
لكن أجاز بعض العلماء من الحنفية الزيادة على الحولين، وبعض الأطفال يكون نضو الخلقة، ضعيف البنية، ومع ذلك يتم الحولين وهو لا يتغذى ولا يقبل الطعام، فأباحوا له الزيادة نصف سنة، ولكن لما جاء الحديث بأن الرضاعة قبل الفطام اقتصر على الحولين، فلا يحرم إلا إذا كان الرضاع في الحولين؛ لأنه هو الذي تحصل به التغذية، وفي حديث عن عائشة (دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وعندها رجل، فكأنه أنكره، قالت: أخي من الرضاع.
قال صلى الله عليه وسلم: انظرن من إخوانكن! فإنما الرضاعة من المجاعة) يعني: تأكدي من الأخ، فليس كل من يدعي أنه أخ يكون أخاً من الرضاع، إنما الرضاعة من المجاعة، الرضاعة التي تحرم هي التي ترفع الجوع؛ وذلك لأن الرضيع يكون جائعاً، فإذا ارتضع فذلك الرضاع يشبعه فيكون غذاءً له، ويدفع الجوع عنه.(71/8)
رضاع الكبير لا يحرم
إنما الرضاعة من المجاعة، ومعلوم أن الرضاعة بعد ذلك لا تكون رافعاً للجوع، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل: أن رضاع الكبير لا يحرم، أي: بعد الفطام، وما كان بعد الحولين ولو تغذى به، ولو كثر فلا يحرم.
وجاء حديث عن امرأة أبي حذيفة (اشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إن سالماً إنما نعده ولداً، وإنه قد بلغ مبلغ الرجال، وإني أرى أبا حذيفة يكره أو يسوءه دخوله علي فقال: أرضعيه تحرمي عليه) مع أنه رجل ذو لحية! فأرضعته خمس رضعات، فكان يدخل عليها كأنه أحد أولادها مع أنه كبير.
فمن العلماء من أخذ بهذا الحديث مطلقاً وقال: يحرم رضاع الكبير كما يحرم رضاع الصغير؛ لهذا الحديث.
ومنهم من قال: إنه خاص بـ سهلة امرأة أبي حذيفة، فهو من الخصوصيات للعلة التي ذكرت بأنه كان مولى وخادماً لهم، مع أنه ليس مملوكاً ولكنه مولى، فيحمل على الخصوص، فلا يعارض الأحاديث الأخرى كحديث: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، ورضاع الكبير لا يقطع الجوع، فالرضاع إنما يحرم إذا أنبت اللحم وأنشز العظم، ورضاع الكبير لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم، ولا يحصل به الشبع، فلا يكون محرماً، فيكون من خصائص سهلة امرأة أبي حذيفة.
وعائشة رضي الله عنها عملت بهذا الحديث، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها رجل من التلاميذ الذين يقرءون عليها أو يستفيدون أمرت أختها أو بنت أخيها أن ترضعه حتى يكون ابن أختها أو نحو ذلك، أما بقية أمهات المؤمنين فامتنعن من ذلك، وقلن: إن قصة سالم خصوصية.
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه: إذا وجد امرأة ابتليت بما ابتليت به سهلة، واضطرت إلى أن يدخل عليها بعض الرجال، فإنها إذا أرضعته حرمت عليه، وصار محرماً لها، وأما سائر الناس فلا يحرم، فيكون خاصاً بمن كان مثل سهلة.
وهذا قول جمع بين الأحاديث.(71/9)
الرضاع بالسعوط والوجور ولبن الميتة واللبن المشوب
كيفية الرضاع! الأصل أنها الامتصاص: أن يمسك الثدي بشفتيه، ثم يمص، وإذا ولد الطفل ألهمه الله أن يمص؛ ليكون ذلك المص كغذاء له إلهاماً من الله، فالأصل أن الرضاع: هو الامتصاص بالفم، فإذا انصب اللبن في فمه ابتلعه.
وألحقوا به غيره، فألحقوا به السعوط، فلو جعلت اللبن في إناء، وأدخلت قصبة في أنفه، وصببت مع تلك القصبة إلى أن وصل إلى حلقه وابتلعه فهذا يسمى سعوطاً، وبه يصدق عليها أنها أرضعته؛ لأن هذا اللبن وصل إلى جوفه ولو من غير الفم، يعني: دخل من المنخر أو المنخرين، فيكون غذاءً يتغذى به، فهذا هو السعوط.
والوجور: إذا جعلت اللبن في إناء صغير، وذلك الإناء قد يكون له ثعبة ينصب منها اللبن، فجعلت الثعبة في شقه، وصبت من تلك الثعبة ذلك اللبن، أصغت الإناء الذي فيه الثعبة حتى انصب من الثعبة في جوفه، هذا يسمى الوجور.
ولبن الميتة: لو قدر أن امرأة ميتة وكان فيها لبن، وارتضعه الطفل، فارتضع منها خمس رضعات، صدق عليه أنه ارتضع من لبنها؛ وذلك لأنه يغذي، ولو كانت قد ماتت.
ولبن الموطوءة بشبهة: امرأة وجدها رجل على فراشه وظنها امرأته فوطئها وحملت منه وولدت، فذلك الولد ينسب إلى ذلك الواطئ لأنه يعترف بأنه منه، وإن كان محرماً عليه وطؤها وليست زوجة له، ولكن لم يكن متعمداً؛ ولبنها يحرم؛ لأنه لبن امرأة جاء عن حمل، وتكون أماً لمن أرضعته، وصاحب اللبن الذي وطئها يكون هو أبا ذلك الطفل الذي ترضعه.
ويحرم المشوب المخلوط، الشوب: هو خلط اللبن بماء، تذكرون، يقول بعض الشعراء يفتخر بالعلم: هذا الفخار لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالاً يعني: أن الافتخار والشرف يكون بالعلم لا بهذا اللبن الذي يشاب بالماء.
والقعب: هو ما يصب فيه اللبن يحتقن في السقاء ونحوه، فإذا كان اللبن مشوباً بماء، ثم امتصه هذا الطفل خمس مرات صدق عليه أنه قد رضع من لبن هذه المرأة، فمثلاً إذا حلبته في هذا الكأس، ولما حلبته كان قليلاً فصبت عليه ماءً، ثم شربه ذلك الطفل، أليس قد تغذى بلبنها؟ لا شك أنه تغذى غذاءً كافياً، يعني: شبع أو ارتوى منه.
وكذلك لو صبته في الرضاعة التي يرضع منها الأطفال اليوم، وغالب النساء اليوم لا ترضع ولدها، إنما تأخذ له من اللبن الصناعي، ثم إذا صبته في الإناء صبت عليه ماءً، وحركته، ثم صبته في تلك القارورة التي لها مثل الحلمة، ثم ترضعه للطفل، فلو أن امرأة حلبت من لبنها في تلك القارورة، وارتضع الطفل من الحلمة كما يرتضع من الثدي، صدق عليه أنه ارتضع من لبنها إذا تم خمس رضعات.(71/10)
ما يتفرع على الرضاع من المحارم
يقول: (وكل امرأةٍ تحرم عليه بنتها كأمه وجدته وربيبته إذا أرضعت طفلةً حرمتها عليه) .
لأنها تكون أخته، أو تكون خالته، أو تكون بنت ربيبة، وبنت الربيبة ربيبة.
أمك إذا أرضعت طفلة فتلك الطفلة أختك من الأم، وكذلك زوجة أبيك، إذا أرضعت الطفلة فإنها تكون أختك من الأب، لأنها ارتضعت من زوجة أبيك بلبن أبيك، فبنتها تكون أختك من الرضاعة، يعني: رضعت من زوجة أبيك، فهي أختك من الأب.
جدتك -أم الأم- أليس بناتها من الولادة خالاتك؟ وكذلك بناتها من الرضاعة خالاتك أيضاً أرضعتهن جدتك وجدتك أم الأب أليس بناتها حراماً عليك لأنهن عماتك، وبناتها من الرضاعة كذلك أخوات أبيك من الرضاعة، فهن عماتك.
ربيبتك التي هي بنت زوجتك، أليست حراماً عليك؟ يقول تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] ، وإذا كانت ربيبتك بنت زوجتك محرمة عليك، فكذلك بنتها؛ لأنها تقول: أمي ربيبتك، جدتي زوجتك، فأنا محرم.
هذه بنت الربيبة، وكذلك ولد زوجتك من غيرك أليس ربيباً؟ فكذلك بنته محرم لك، تكشف لك بنت ربيبك؛ لأنها تقول: جدتي أم أبي زوجتك.
فتكون محرماً لك، هذه بنت الربيب.
وبنت أمك من الرضاع تكون أختك، وبنت زوجة أبيك تكون أختك، وبنت جدتك أم الأب تكون عمتك، وجدتك أم الأم بنتها خالتك، وربيبتك بنتها بنت ربيبتك، وبنت ربيبك -أيضاً- محرم لك، هذه من الفروع المحارم.
يقول: (وكل رجل تحرم عليه بنته كأخيه وأبيه وربيبه إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عليه) .
صورنا بنت الربيب، والآن نصور بنت الأخ: أليست بنت أخيك تكشف لك، أنت عمها وهي بنت أخيك من الولادة؟ كذلك بنته من الرضاعة، لو كان لأخيك أربع نسوة، ثم إن واحدة أرضعت طفلة رضعة، والثانية أرضعتها رضعة، والثالثة أرضعتها رضعة، والرابعة أرضعتها رضعتين، فهذه الطفلة ليست بنتاً لواحدة من الزوجات، وكل واحدة منهن لا تقول: إني أمها؛ لأنها ما أرضعتها إلا رضعة أو رضعتين، ولكن الزوج يكون أباها؛ لأنها رضعت من لبنه خمس رضعات، من هذه واحدة، ومن هذه ثنتين، وهكذا، فرضعت من لبنه خمس رضعات فتكون بنته من الرضاع.
فكذلك تكون بنتاً لإخوته، إذا أرضعت امرأتك طفلة فإن إخوتك محارم لتلك الطفلة، وإذا كان الرضاع محرماً، فكل واحدة تقول لأخيك: أنت عمي، أنا رضعت من لبن أخيك؛ لقصة عائشة مع أفلح، ذكرنا أن أفلح أخا أبي القعيس قال لـ عائشة: (أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي) ، فهذا مثال الأخ، وكذلك الأب والجد.
بنات أبي أبيك عماتك من النسب، وبناته من الرضاع كذلك عماتك من الرضاع، إذا أرضعت امرأة أبيك طفلاً أو طفلة فهو أخوك أو أختك، وامرأة جدك، أليس بناتها عماتك؟ فكذلك بنات امرأة جدك أخوات أبيك وعماتك، فبناتها من الرضاع كذلك عماتك من الرضاع.
ربيبك الذي هو ابن زوجتك ابنته -أيضاً- محرم لك؛ لأنها تقول: جدتي زوجتك.(71/11)
إذا ادعى الزوج أن زوجته أخته من الرضاع
يقول: (ومن قال: إن زوجته أخته من الرضاع بطل نكاحه) إذا اعترف بامرأة وقال: هذه أختي من الرضاع.
فلا يحل له نكاحها، وكذلك إذا كان قد تزوجها بطل النكاح؛ وذلك لأنه أقر على نفسه بأنها لا تحل له، واعترف بأنها أخته من الرضاع، أما لو قال: أنتِ أختي.
ويريد بذلك أخوة الصداقة والمودة والمحبة فلا يبطل النكاح، وكثيراً ما يقول الإنسان لزوجته: يا أمي يا أختي يا بنتي.
يريد بذلك في المودة، فلا يبطل نكاحه، وأما إذا قال: هذه أختي من الرضاع بطل نكاحه.
فإذا كان ذلك قبل الدخول، وقالت: صدق، أنا أخته من الرضاع بطل النكاح، هل لها مهر؟ ليس لها مهر؛ لأنه يقر بأنها محرمة عليه، وهي كذلك تقر بذلك، والعقد قد بطل، فلا تستحق عليه صداقاً.
أما إذا قالت: ليس كذلك، ولا قرابة بيننا، وأنت كاذب، ولست أختك.
في هذه الحال يفرق بينهما؛ لأنه اعترف بأنها لا تحل له، ولكن تطالبه بنصف الصداق قبل الدخول؛ لأنها تعترف بأنها حلال له، والعقد قد حصل، فتكون فرقته كأنها طلاق، والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] ، فلها نصفه.
أما إذا كان قد دخل بها، وسواء خلا بها ووطئها أم لا، ففي هذه الحال تستحق الصداق كله، وإذا كانت قد كذبته أنه أخوها، وقالت: لست أختك، ولا قرابة بيننا.
وإذا قالت: أنا لا أحل لك، أنا أختك من الرضاعة.
وكذبها، فهل نفرق بينهما؟ لا يفرق بينهما؛ وما ذاك إلا لأننا لا نقبل قولها عليه، فيمكن أنها أخطأت، وقولها هذا كأنها تريد فراقه، والفرقة من قبل الرجل لا من قبل المرأة، فتبقى الزوجية بينهما، لكن إن أتت ببينة تشهد بأنه رضع من أمها أو رضعت من أمه، فإنه يفرق بينهما بموجب البينة.(71/12)
الشك في الرضاع
قال: (ومن شك في رضاع أو شك في عدده بنى على اليقين) : لأن الأصل الإباحة، والأصل عدم الرضاعة، وصورة ذلك: إذا قالت المرأة: أنا في شك هل أرضعت هذا الطفل أو ما أرضعته.
وتوقفت عن الجزم، ففي هذه الحال لا محرمية، فلا يقال بشيء مشكوك فيه.
وإذا ادعت فقالت: نعم، أنا أرضعته، ولكني نسيت مع طول الزمان، فلا أدري أرضعته رضعة أو رضعتين أو ثلاث رضعات أو عشر رضعات، أتذكر أنني أرضعته، ولكني أشك في عدد الرضعات.
ولم يكن هناك علامات ولا قرائن يعرف بها عدد الرضعات، ففي هذه الحال لا محرمية.
ثم يفرقون بين رضاع الصغير والكبير، والعادة أن الصغير الذي في الأربعين أو في الشهرين الأولين رضاعه قليل، ونفسه قصير، ففي المجلس الواحد يمكن أن ترضعه خمس مرات أو أكثر، فإذا قالت: نعم، أنا أرضعته جلسة أو جلستين، استغرق ساعة أو ساعتين وهو في الشهر الأول، كلما بكى أرضعته؛ ففي هذه الحال يغلب على الظن أنه محرم، فنحتاط ونقول: محرم؛ لأن الطفل يرضع عدة رضعات في الجلسة الواحدة إذا كان في الشهر الأول أو نحوه.
وأما إذا كان في السنة الأولى كأن يكون ابن خمسة أشهر أو أكبر منها فالعادة أنه يطيل الامتصاص، وإذا أمسك الثدي فإنه لا يتركه حتى يشبع أو حتى يفرغ ما في الثدي من اللبن، فإذا قالت: أنا أرضعته جلستين وعمره ستة أشهر.
فالأصل أنها رضعتان لا أكثر، ويمكن أنها أربع رضعات، كل جلسة ترضعه من هذا الثدي، وإذا انتهى ما فيه نقلته إلى الثاني، فتكون أربع رضعات في الجلستين، والأربع أيضاً لا تحرم.
وكذلك كثير من النساء تقول: إني أرضعه ولكن لمناسبات، ويحصل هذا عند أهل البوادي، تقول: إن أمه تذهب لرعي الغنم أو لحلب غنمها ونحو ذلك، وتتركه يبكي وأرق عليه، فألقمه ثديي، وإذا ألقمته ارتضع منه إلى أن يسكت أو إلى أن ينام، أو حتى ترجع أمه عدة مرات، ففي هذه الحال يغلب على الظن أنه محرم؛ وذلك لأن عادة الطفل أنه إذا بكى إنما يسكت إذا التقم الثدي، فيحكم بالرضاع إذا كانت ترضعه كلما ذهبت أمه أو نحو ذلك، فيحمل قولها على أنها قد أرضعته، ويحكم بأنها أمه من الرضاع.
وإذا لم يكن فيها لبن، إنما يمسك الثدي لأجل أن يسكت وهي كبيرة في عمر ستين أو سبعين سنة، فمعلوم أنه لا يؤثر إمساكه، فهو كما يمسك المصاصة، وإنما تمسكه حتى يمتص لأجل أن يسكت، فيمتص منه فلا يؤثر، لكن وجد أن كثيراً من كبار السن درت وهي بنت ثمانين على طفل، وهذا وقع كثيراً؛ فمثلاً: ماتت أم هذا الطفل وهو في الشهر الأول، ولم يكن هناك من يرضعه، لا عمة ولا خالة ولا غير ذلك، وكان هناك جدة أبيه أو نحو ذلك، فمن رقتها به وشفقتها عليه تدر عليه بإذن الله من آثار الرقة، ففي هذه الحال يحرم لبنها؛ لأنه اعتبر زاده.
وأما إذا كانت بكراً فإنه لا يحرم، يعني: لو أن شابة ما تزوجت، وعمرها في العشرين أو نحوه فدرت على طفل، فهل يحرم؟ لا يحرم؛ لأن هذا اللبن لم يتولد من حمل، وليس لها زوج، فالغالب أنه ليس لبناً صريحاً، وأنه لا يحصل به التغذية، فلا يكون محرماً.(71/13)
ما يثبت به حكم الرضاع
وإذا ارتضع اثنان من امرأة أجنبية ليست أماً لواحد منهما فإنهما يكونان أخوين من الرضاعة، ودليل ذلك: قصة عقبة بن عامر، يقول: إني تزوجت أم يحيى بن أبي إهاب، فجاءتنا أمة سوداء، وقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج.
فتوقف في ذلك عقبة وقال: لا أعرف أنك أرضعتني.
فأصرت وقالت: بلى، قد أرضعتك وأرضعتها.
بمعنى أنها لا تحل له لأنها أخته، وإن لم يكن رضعت من أمه ولا رضع من أمها، ولكن رضعا جميعاً من امرأة أخرى.
وتذكرون في القصة أن عقبة كان بمكة، ثم إنه رحل إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، يقول: فسألته فأعرض عني، فسألته وقلت: إنها كاذبة.
فقال: (كيف وقد ادعت أنها أرضعتكما! دعها عنك) فطلقها وفارقها عقبة، وتزوجت غيره.
فيقولون: يثبت بإخبار مرضعة مرضية، وبشهادة عدل مطلقاً رجل أو امرأة؛ لقصة عقبة هذه، فإن امرأة واحدة تقبل شهادتها، سواء كانت هي المرضعة أو غيرها، وإذا جاءت امرأة وقالت: أشهد أن هذا الطفل أو هذا الشاب قد رضع من لبن فلانة امرأة سمتها.
أو جاء رجل وقال: أشهد أن هذا الطفل أو هذا الشاب قد رضع من لبن فلانة، فإنه يقبل قوله، أي: يثبت الرضاع بشهادة امرأة واحدة، أو بشهادة رجل واحد، أو بشهادة المرضعة نفسها؛ وذلك لأنه لا يعلم إلا من قبلها، فيترتب على ردها عدم ثبوت الرضاع.
والأصل أن الرضاع غالباً يكون خفياً، وليس هناك شهود، ولا يوجد رجال يقولون: نشهد أنا رأينا هذه المرأة ترضع هذا الولد، والغالب أنه شيء يختص بالنساء، وذكروا في الشهادات أن النساء تقبل شهادتهن في الأشياء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً، فإذا جاءت المرضعة وأخبرت بأنها قد أرضعت هذا الطفل قبل قولها، أو جاءت امرأة وقالت: إنها قد أرضعت هذا أو هذه قبل قولها، أو شهد بذلك شاهد واحد.
ومسائل الرضاع مسائل كثيرة توسع فيها العلماء، ولكن المؤلف اقتصر على أهمها.(71/14)
شرح أخصر المختصرات [72]
يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، والنفقة تشمل الطعام والشراب والكسوة والسكن، وهي تختلف باختلاف حال الزوج، فيجب على الموسر ما لا يجب على المعسر، وكذلك باختلاف حال الزوجة فيجب للموسرة ما لا يجب للمعسرة.
ومن أحكام النفقات: ثبوتها في الذمة وسقوطها، وجواز الفسخ عند تقصير الزوج وإعساره من عدمه، وقد بين الفقهاء كل هذه الأحكام.(72/1)
نفقة الزوجة
وعلى زوجٍ نفقة زوجته من مأكولٍ ومشروبٍ وكسوةٍ وسكنى بالمعروف، فيفرض لموسرةٍ مع موسرٍ عند تنازعٍ من أرفع خبز البلد وأدمه عادة الموسرين، وما يلبس مثلها وينام عليه.
ولفقيرةٍ مع فقيرٍ كفايتها من أدنى خبز البلد وأدمه وما يلبس مثلها وينام ويجلس عليه.
ولمتوسطةٍ مع متوسطٍ، وموسرةٍ مع فقيرٍ وعكسها ما بين ذلك، لا القيمة إلا برضاهما، وعليه مؤنة نظافتها لا دواء وأجرة طبيبٍ، وثمن طيبٍ.
وتجب لرجعيةٍ وبائنٍ حاملٍ، لا متوفى عنها.
ومن حبست أو نشزت أو صامت نفلًا، أو لكفارةٍ، أو قضاء رمضان ووقته متسعٌ، أو حجت نفلًا بلا إذنه أو سافرت لحاجتها بإذنه، سقطت.
ولها الكسوة كل عامٍ مرةً في أوله.
ومتى لم ينفق تبق في ذمته.
وإن أنفقت من ماله في غيبته فبان ميتًا رجع عليها وارثٌ.
ومن تسلم من يلزمه تسلمها، أو بذلته هي أو وليها، وجبت نفقتها ولو مع صغره ومرضه وعنته وجبه.
ولها منع نفسها قبل دخولٍ لقبض مهرٍ حال ولها النفقة.
وإن أعسر بنفقة معسرٍ أو بعضها لا بما في ذمته، أو غاب وتعذرت باستدانةٍ أو غيرها فلها الفسخ بحاكمٍ، وترجع بما استدانته لها أو لولدها الصغير مطلقًا] .
النفقات: هي الإنفاق على الزوجات، والإنفاق على الأقارب، ولكن الأصل الذي يكون فيه الخلاف وهو من الواجبات: نفقة الزوجة، بمعنى إعطائها من النفقة ما يكفيها.
دليل ذلك قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] الضمير يرجع إلى الوالدات في قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233] ثم قال بعد ذلك: ((وعلى المولود له)) المولود له هو الزوج، عليه رزقهن، أي: رزق الزوجات حتى ولو لم تكن مرضعة، وأما إذا طلقت فإن عليه أجرة إرضاعها لطفلها؛ لأن الله ذكر في سورة الطلاق أجرتهن، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ، فإذا كانت مطلقة وأرضعت الولد، فعلى الزوج نفقة زوجته من مأكول ومشروب، وكسوة وسكنى بالمعروف؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] المعروف: هو الشيء المعتاد الذي هو متعارف عليه بين الناس، أو الذي هو مناسب لحالة الزوج، أو مناسب لحالة الزوجة.(72/2)
ضابط نفقة الموسر والمعسر
ثم يقول: (فيفرض لموسرةٍ مع موسرٍ عند تنازع من أعلى خبز البلد وأدمه -كعادة الموسرين- وما يلبس مثلها، وينام ويجلس عليه) .
يعني: إذا كان موسراً وعنده ثروة، وهي -أيضاً- من الموسرين، وأهلها نشئوا في ثروة، وهي نشأت في ثروة، فنفقتها في هذه الحال من أرفع ما ينفقه أهل اليسار، ومن أفضل الأطعمة سواء الخبز أو الأرز، وكذا أعلى أنواع الأطعمة وأنفسها؛ وذلك لأنها نشأت على ذلك، وهو أيضاً نشأ على ذلك، فيعطيها ما اعتادته، ولا يضره ذلك، ولا يخل باقتصاده، فعادة الموسرين التوسع في النفقة، وإن كان بعضهم يكون توسعه إسرافاً، وفي هذه الأزمنة الموسرون غالباً يكون أكلهم ثلاث أكلات: أكلة في الصباح في أوله، وأكلة بعد الظهر، وأكلة في الليل، هذه عادتهم، وإن كانت عادة المتوسطين أكلتين صباحاً ومساءً، لكن إذا كان أهل اليسار على هذا فإنه كذلك.
ثم الأكلات أيضاً تختلف، فأكلات الموسرين تختلف عن أكلات الفقراء، فأهل اليسار يأكلون أفضل الأطعمة من الأرز ومن أعلى أنواعه، ومن أحسن أنواع اللحوم، وكذلك الأُدم والفواكه والخضار وما أشبه ذلك من الأنواع التي يتفكه بها، هذه عادة الموسرين، فيوفر لزوجته ما كانت اعتادته، حسب نفقة الموسرين.
وكذلك المشروبات، إذا كان هناك مشروبات مباحة فإنه يوفرها، من المياه والعصائر والألبان وما أشبهها.
وكذلك الكسوة: أعلى أنواع الكسوة وأنفسها كعادة الموسرين.
وكذلك فرش الدار التي يجلس عليها، أحسن أنواع الفرش.
وكذلك فراش النوم، أحسن أنواع فرش النوم، وهكذا هذه عادة الموسرات تحت الموسر.
الفقيرة مع الفقير كفايتها من أدنى خبز البلد وأدمه، وما يلبس مثلها وينام ويجلس عليه، وذلك لأنها نشأت في فقر، وهو نشأ في فقر، فلا يكلف أن ينفق عليها مثل نفقة الموسرين، فيشتري من أرخص أنواع الطعام بقدر الكفاية وبقدر القوت، وبقدر سد الجوع، ولا يتوسع في المأكولات الأخرى، فلا يتوسع في الخضار ولا في الفواكه ولا في اللحوم، وإذا كان عادة فقراء أهل بلده أنهم يأكلون من اللحوم فله أن يطعمها كل أسبوع من أرخص أنواع اللحم كلحم إبل أو نحوه، فإذا شق ذلك عليه اقتصر على ما يسد الجوع، ويقتصر على أكلتين غداء وعشاء.
كفايتها من أدنى -يعني: أرخص- خبز البلد وأدمه، وإذا كان الفقراء يأتدمون بالزيت ائتدم به، أو بالخل، أو بالشحم المذاب، أو بالسمن المذاب، أو باللحم ولو لحماً يسيراً رخيصاً، فهو أدم من أرخص الأدم.
واللباس كذلك -أيضاً- يشتري لها من الرخيص، إذا كانت الغنية ثوبها مثلاً يكلف خمسمائة، والفقيرة تجد كسوة بخمسين ريالاً أو أقل أو نحو ذلك، فيعطيها ما يلبس مثلها.
الفرش يشتري فراشاً متواضعاً ولو خلقاً؛ لأنه لا يقدر على رفيع الثمن.
كذلك فراش النوم، ولو مستعملاً.
وهكذا أدوات المنزل من الأدوات المستعملة: كالقدور والصحون والأباريق وما أشبهها، يشتري ولو مستعملاً؛ لأنه لا يقدر على ما هو رفيع.(72/3)
ضابط نفقة المتوسط مع المتوسطة والموسرة مع الفقير والعكس
يقول: (ولمتوسطةٍ مع متوسطٍ، وموسرةٍ مع فقيرٍ وعكسها) أي: فقيرة مع موسر (ما بين ذلك) .
يمكن أن تنحصر الحالات في تسع؛ الأولى: موسرة تحت موسر، الثانية: موسرة تحت متوسط، الثالثة: موسرة تحت فقير، الرابعة: فقيرة تحت موسر، الخامسة: فقيرة تحت متوسط، السادسة: فقيرة تحت فقير، السابعة: متوسطة تحت موسر، الثامنة: متوسطة تحت متوسط، التاسعة: متوسطة تحت فقير.
فتكون الحالات ثلاث: الموسرة تحت الموسر من أرفع الأطعمة، والفقيرة تحت الفقير من أدناها، والبقية من الوسط.
لكن الفقيرة تحت الموسر يندب له أن يكون مثل الموسرين، وأن يتوسع كما يتوسعون؛ وذلك لأنه يجد ويقدر على أن يوسع؛ لأنه ذو مال؛ فيوسع وسعته على أولاده، ولو كانت الزوجة نشأت في بيت فقر وفي فاقة، قد يقول: كيف أوسع عليها؟ أنقلها من عيشة ضيقة إلى عيشة رفيعة؟! نقول: إنك قد ضممتها إليك وأنت ذو مال، ولا ينقصك ولا يضرك أن تتوسع في هذه النفقة، فعليك أن تنفق نفقة الموسرين على زوجتك وعلى نفسك وأولادك.
وأما الموسرة تحت الفقير، فهي تقول: أريد أن أتوسع، أنا نشأت في سعة، وأهلي عندهم سعة وفضل وأموال، تغذينا على أحسن الأغذية وأرفعها، فكيف أنتقل من حالة السعة إلى حالة الضيق؟
الجواب
إنك رضيتِ بهذا الزوج الفقير، ونفقته على قدر حالته، فلا يكلف نفقة الأغنياء ولا نفقة المتوسطين؛ لأن ذلك يعجزه؛ والله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، ويقول تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] ، فإذا رضيت المرأة التي نشأت في بيت سعة أن تختار هذا الفقير؛ لكونه ابن عم أو ابن خال، أو -مثلاً- أخو زوج أختها؛ أو بينهما قرابة، ورضيت وقالت: أرضى به ولو كان فقيراً.
فهل تكلفه نفقة الأغنياء؟ لا تكلفه؛ لأن النفقة معتبرة بحالة الزوج.
لكن الفقهاء كأنهم يقولون: إنه يصعب على المرأة الغنية أن تصبر على نفقة الفقراء، فلذلك قالوا: المتوسطة مع المتوسط، والموسرة مع فقير، والفقيرة مع موسر عليهم نفقة المتوسطين.
وبكل حال فالراجح اعتبار النفقة بحالة الزوج، سواء كان معسراً أو موسراً.(72/4)
إذا طلبت المرأة نفقتها نقوداً
هل يعطيها القيمة؟ إذا قالت: لا تشتر لي طعاماً ولا كسوة، أعطنيها دراهم أو نقوداً.
فهل عليه ذلك؟ ليس عليه ذلك إلا بتراضيهما، فإذا تراضيا على دفع القيمة فلا بأس، قد تقول: أنا ينفق علي أهلي، يعطوني دائماً طعاماً، ويعطوني لحوماً ونحو ذلك؛ لأنهم أهل سعة، آخذ منهم الأرز واللحوم وما أشبهها، فلا تشتري شيئاً، ولكن أعطني نفقتي دراهم.
لا يلزمه ذلك إلا إذا تراضيا على ذلك.(72/5)
النفقة والصرفيات التي تجب على الزوج من غير الطعام والشراب والكسوة
هل عليه شيء غير الطعام والشراب والكسوة؟ عليه نظافتها؛ لأنها بحاجة إلى أن تتجمل له، فلا بد أن يشتري لها ما تتجمل به له، فتدهن رأسها -مثلاً- أو تمشطه، فلا بد أن يأتي لها بما تدهن به رأسها حتى لا يكون شعثاً، وكذلك -أيضاً- نظافة بدنها، إذا كانت تحتاج إلى المنظفات القديمة أو الموجودة الآن مثل الصابون والشامبو وما أشبه ذلك، هذه لو لم تتنظف لكانت قذرة ونفر منها، فلذلك لا بد أن يأتي لها بالأشياء التي تتنظف بها، فتنظف ثيابها، وبدنها، وشعرها وما أشبه ذلك.
ولها أن تطلب منه الطيب الذي تتجمل به، وطيب النساء: ما ظهر لونه وخفي ريحه، وكذلك ما يحتاجه بيتها كما هو معتاد من أدوات الدار فهي عليه.
هل عليه علاجها إذا مرضت؟(72/6)
علاج الزوجة وطيبها
ذكروا أنه إذا مرضت فلا يلزمه ثمن الدواء، ولا يلزمه أجرة الطبيب، ولكن الصحيح أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، فالناس في هذه الأزمنة العرف عندهم أن الرجل يعالج زوجته، ولا يترك علاجها على أهلها؛ لأنها زوجته تخدمه، وهي فراشه وأم أولاده، وهي المربية لأولاده، فكيف يتركها مريضة تعاني من هذه الأمراض؟ لا يهنأ ولا ترتاح نفسه بتركها على الفراش، فالعرف على أنه يعالجها، ويدفع أجرة الطبيب، ويشتري الأدوية من ماله.
وأما ثمن الطيب إذا طلبت طيباً فالصحيح أنه يرجع إلى العرف، وما ذاك إلا أن عرف الناس وعادتهم أنه يشتري لها من الطيب ما يناسبها، وطيب النساء مثل الكركم والعصفر والزعفران والورس التي تصفر به خديها أو ذراعيها وما أشبه ذلك، وكذلك الدهان لرأسها، فهذا العرف على أنه عليه.(72/7)
نفقة المرأة المطلقة
المرأة المطلقة هل لها نفقة؟ إذا كانت رجعية فلها نفقة؛ لأن الرجعية ما زالت زوجاً، إذا طلقها واحدة واحتبست ثلاثة قروء عليه نفقتها، وعليه سكناها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، فإذا كانت عنده في بيته فمن أين تأكل؟ ينفق عليها، فإذا انتهت عدتها ولم يراجعها فعند ذلك بانت منه، فله أن يخرجها ويقول: انتهت عدتك، اذهبي إلى أهلك.
أما قبل أن تنتهي العدة فإنها في عصمته، وعليه نفقتها؛ لأنها في حكم الزوجة، بحيث إنه لو مات ورثت منه، أو ماتت ورث منها.(72/8)
نفقة الحامل المطلقة
كذلك البائن إذا كانت حاملاً، وهي التي طلقها ثلاثاً، لا تحل له إلا بعد زوج، لكن إذا كانت حاملاً، ففي هذه الحال ينفق عليها، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فالنفقة عليها للحمل، أما هي فليس لها، فلو أنه ترك النفقة عليها شهراً أو شهرين فهل لها مطالبته، وتقول: إنك تركت النفقة علي شهرين، فأعطني بدلها؟ نقول: ليس لك نفقة، النفقة للحمل، ونفقة الحمل نفقة الأقارب، والأقارب لا تضمن نفقتهم إذا فات الزمان، وأما المرأة فإن نفقتها لا تفوت بفوات الوقت.
لو أن إنساناً ترك النفقة على زوجته خمسة أشهر وهي في بيته، ثم إنها أنفق عليها أبوها، أو تصدق عليها جيرانها وهي في هذه الحال ثم جاء زوجها، فتطالبه بنفقة خمسة أشهر، وعليه أن يعوضها؛ لأن نفقة الزوجة معاوضة، وأما نفقة الأقارب فإنها إحسان.(72/9)
نفقة المتوفى عنها
المتوفى عنها هل لها نفقة؟ ليس لها نفقة، ولو كانت حاملاً، فينفق عليها من نصيبها من الإرث، أو ينفق عليها من قسم الحمل الذي في بطنها؛ لأنه يرث.(72/10)
ما تسقط به نفقة الزوجة
لما ذكر نفقة الزوجة، وأنها بقدر العسر أو اليسر؛ لقول الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] ذكر متى تسقط نفقة الزوجة على زوجها؟ وقد عرفنا أن نفقة الزوجة معاوضة؛ لأنها مقابل بذلها لنفسها، فهي لما بذلت نفسها له للاستمتاع استحقت على ذلك النفقة التي هي القوت والغذاء، فإذا فعلت شيئاً من الأسباب يحول بينه وبين الاستمتاع به سقطت نفقتها في تلك المدة.(72/11)
إذا حبست المرأة لسبب من الأسباب
فأولاً: إذا حبست لسبب من الأسباب في السجن، وهو لا يقدر على أن يدخل عليها، ولا على أن يجامعها؛ لأنها في داخل سجن، ففي هذه الحال تسقط نفقتها؛ لعدم تمكنه منها.(72/12)
إذا نشزت المرأة
ثانياً: إذا نشزت، والنشوز هو العصيان، فإذا نشزت ومنعت نفسها، سواء بقيت في بيته ولكن امتنعت من فراشه ومن تمكينه من نفسها، أو خرجت إلى أهلها أو إلى بيت استقلت فيه، فامتناعها حال بينه وبين الاستمتاع بها، والنفقة إنما هي معاوضة لأجل تمكينه من الاستمتاع بها، وهاهنا قد نشزت، ففي هذه الحال لا نفقة لها.(72/13)
إذا صامت نفلاً أو نذراً أو كفارة
ثالثاً: إذا صامت نفلاً، فلا يلزمه نفقتها نهاراً؛ لأنها منعت نفسها في النهار، أما في الليل فإنها إذا أفطرت بذلت له نفسها، فكأنهم يقولون: يعطيها نفقة الليل دون نفقة النهار، هذا إذا صامت بدون إذنه تطوعاً.
لكن نرى أن هذا مما يتسامح فيه، وأنه شيء يسير، وأنها في النهار لا تحتاج إلى نفقة؛ لأنها قد صامت، فلا تحتاج إلى أكل وغيره، وهي قد بذلت نفسها له طوال الليل، وأعطاها فطوراً وعشاءً وسحوراً، فلا ينبغي أن يحسب صيامها إلا إذا خرجت من منزله، فأما ما دامت في منزله وتطوعت فصامت يوم إثنين أو يوم خميس، أو أيام بيض، أو تطوعاً، فلا حاجة إلى أن يحرمها من النفقة، هي تقول: أنا لا أريد نفقة لأني صائمة، إنما النفقة والأكل في الليل، وهي في الليل قد تحللت من الصيام.
وكذلك ذكروا أمراً رابعاً: إذا صامت عن كفارة يمين أو نذر نذرته، والتزمت أنها تصوم ذلك النذر الذي كفرته.(72/14)
إذا صامت قضاء رمضان ووقته متسع
خامساً: ألحقوا به إذا صامت قضاء رمضان ووقته متسع، يعني: إذا كان عليها أيام من رمضان ووقته متسع فصامته مثلاً في شوال أو ذي القعدة، أما إذا ضاق الوقت بأن دخل عليها شعبان، ففي هذه الحال تصوم ولو لم يأذن لها، وتلزمه النفقة.
ورد الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه) ، وذكروا أنه إذا صامت بدون إذنه تطوعاً فإن له أن يفطرها، وله أن يطلب منها التمكين، وعليها أن تمكنه من وطئها؛ لأنه حق له عليها.
وإن كان هذا مما يتسامح فيه، وأن الأصل أن الصيام يكون في النهار، والرجل يكون منشغلاً بعمله، وكذلك المرأة منشغلة بتربية أولادها وإصلاحهم وما أشبه ذلك، فيكون هذا مما يتسامح فيه.(72/15)
إذا حجت نفلاً بدون إذن الزوج
سادساً: الحج، إذا حجت نفلاً بلا إذنه.
الحج كان قديماً يستغرق وقتاً، من هذه البلاد كان يستغرق شهرين أو قريباً من الشهرين، ففي هذا أنها منعت نفسها من زوجها شهرين، وهذا ليس بلازم لها؛ لأنه حج تطوع، فيرون في هذه الحال أنه يسقط الإنفاق عنه، إلا إذا كان قد رخص لها في أن تحج مع أبويها، أو تحج مع أحد إخوتها وأخواتها لتريهم المناسك، أو لتخدمهم لأنهم بحاجة إليها، فرخص لها زوجها فحجت، ففي هذه الحال إن لم ينفق عليها رفقتها فعلى زوجها الإنفاق؛ لأنه أذن لها بالغيبة، أما إذا التزم الذين حجوا معها أن ينفقوا عليها فليس على الزوج نفقة، وكذلك إذا كان قد رخص لها أن تحج معهم، وطلبت منه نفقة، فإنها تلزمه نفقتها؛ لأنه أذن لها.(72/16)
إذا سافرت المرأة لحاجتها
سابعاً: إذا سافرت لحاجتها بإذنه فلا نفقة لها؛ لأن الحاجة لها، فتسقط نفقتها بالسفر؛ لأنها حالت بينه وبين نفسها، حتى لو كان السفر بإذنه، كأن سافرت خمسة أيام أو شهراً لأجل أن تزور أقاربها، أو تخدم أبويها، أو تمرض أحد أبويها أو إخوتها، أو سافرت لحاجة تخصها، ففي هذه الحال حالت بين زوجها وبين نفسها، وسقطت نفقتها.
الناس في هذه الأزمنة في سعة من العيش، فهم يتغاضون عن مثل ذلك.(72/17)
نفقة الزوجة على عادة أهل البلد
وكل ما تقدم يتعلق بالنفقة التي هي الأكل والشرب؛ لأنه ضروري، والناس فيه على ما اعتادوا، فبعضهم يكتفون بالأكل مرة واحدة في اليوم والليلة، وهذا في بعض البلاد سيما الفقراء والضعفاء ونحوهم، وفي بعضها يأكلون كل يوم أكلتين: أكلة في النهار، وأكلة في الليل، وكأن هذا هو المعتاد غداء وعشاء، هذا هو الذي كان معروفاً في القرون الماضية بين المسلمين وغيرهم: أكلتان كل يوم.
جاءت هذه الأزمنة المتأخرة فصاروا يأكلون ثلاث أكلات: أكلة في الصباح، وأكلة في وسط النهار قريباً من بعد الظهر، وأكلة في الليل.
فالنفقة تكون على عرف أهل كل بلد، فإذا كانوا يأكلون أكلتين وفر لها الأكلتين، وإذا كانوا يأكلون ثلاثاً وفر لها الثلاث، والأصل والعادة أنه يوليها مفاتح خزائنه التي فيها الطعام والشراب، وهي في هذه الحال تأخذ لنفسها ما تريد، ولكن الشيء الذي لا يكون متوفراً عليها أن تطلبه مثل اللحم، وقديماً كانوا يشترونه يومياً قبل وجود آلات الثلاجات، وكذلك الفواكه والخضار يشترونها يومياً، فإذا كان في بلاد ليس فيها ثلاجات ونحوها فإنه يلزمه أن يؤمن ذلك لها كل يوم، وإلا فكل أسبوع كما في هذه البلاد ونحوها.
وإذا اعتادت على أكل لحم من نوع خاص كسمك أو طير كدجاج أو حمام أو نحو ذلك، فإن عليه أن يوفره إذا كان قادراً؛ لأن هذا مما اعتاده أهل البلد.(72/18)
الكسوة الواجبة هي مرة أو كل سنة
ذكر بعد ذلك الكسوة، يقول: (ولها الكسوة كل عام مرة في أوله) .
هكذا كان في الأزمنة المتقدمة، إذا دخلت السنة اشترى لها كسوة، يشتري لها مثلاً قميصاً وسراويل، وخماراً وعباءةً، ورداءً وجلباباً، فيشتري مرة واحدة، ويكفيها سنة، هذه كانت عادتهم، وكذلك أيضاً كانت عادة الرجال، نحن قبل خمسين أو ستين سنة يبقى الثوب والقميص علينا سنة أو عشرة أشهر، ولا نغسله إلا بالماء في كل أسبوع أو كل أسبوعين، وإذا غسله أحدنا يبقى ليس عليه إلا إزار إلى أن يجف الثوب ثم يلبسه، وهكذا أيضاً كانت النساء ليس عندها إلا ثوب واحد، إذا انتهت السنة وإذا هو قد بلي، وإذا تشقق في أثناء السنة تخيطه، وترقع وسطه إذا احتاج إلى رقعة، ترقعه من ثياب السنة الماضية.
وتلك الثياب أيضاً ثياب تنسج في البلاد العربية، لا يستوردونها من البلاد البعيدة، وهي أيضاً رخيصة، كانوا يبيعونه بالذراع الذي هو أربعة وخمسون سنتيمتراً، الذراع بنصف الريال، أو الذراعان بريال ونصف، وبعض الأقمشة يقدر أن المتر بريال، وقد يكون بأقل في بعض الأقمشة، فتكون كسوتها تكلفها عشرة ريالات، وربما خمسة ريالات في بعض الأقمشة، وتكفيها سنة، وإذا كانت مترفهة اشترت كسوتين، كل كسوة بعشرة ريالات، هذه كانت عادة النساء قبل خمسين أو ستين سنة، قبل وجود هذا التوسع.
ولما فتح الله على الناس هذه الأموال، وكذلك انفتح باب الواردات توسعوا، حتى من قبل سنين في بعض البلاد التي فيها توسع، ونحن نحكي حال القرى الذين هم في قلة من العيش، وأما المدن الكبيرة كمكة والرياض ونحوها فإن عند كثير منهم توسعاً.
حتى قبل أربعين أو خمس وأربعين سنة يذكر لنا أحد المشايخ أن كثيراً من النساء عندها ثياب كان لها منذ سنة وسنتين وثلاث سنوات، وكل سنة تشتري زيادة، حتى إن الثوب يكلف في ذلك الوقت خمسمائة ريال، بينما الفقراء يكفيهم عشرة ريالات للثوب، فهؤلاء الذين يتوسعون يصل الثوب إلى خمسمائة، وفي هذه الأزمنة -كما تسمعون- كثير من النساء كسوتها تكلفها ألفاً، وربما ألفين، وربما ثلاثة آلاف، المتر الذي كانوا يشترونه بعشرة أصبح الآن يباع بخمسمائة أو بأربعمائة، لا شك أن هذا التوسع لأجل أن الناس توسعوا في الأموال، وصاروا يحرصون على أن يقتنوا أرفع الأقمشة وأعلاها وأغلاها.
والنساء يتفاخرن في ذلك، الآن المرأة إذا دخلت لتشتري قماشاً رأت القماش الغالي ولو كان رديئاً، والباعة يزيدون عليها، تأتي إلى أحدهم فيقول: هذا المتر بمائة، وهذا المتر بمائتين، وهذا بثلاثمائة، مع أنها كلها سواء، فتقول: أريد من الذي قيمته ثلاثمائة، ولو حدها بخمسمائة أو بستمائة لاشترت مما هو رفيع، ولا شك أن هذا من العبث، وأنه من إضاعة الأموال.
وهذه الإضاعة -أيضاً- وقع بها من قديم كثيرون، ذكر ابن القيم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" يتكلم عن الحب الذي يُبتلى به كثير من الناس أو من النساء، يذكر أن رجلاً عشق امرأة لما رأى عليها ثوباً أعجبه نوع القماش، فصار كلما رأى في السوق ثوباً مفصلاً من ذلك النوع الذي رآه على معشوقته اشتراه، حتى لما توفي وإذا عنده أكثر من مائتي ثوب! يدل على أن الناس يشترون ما يناسبهم وما يهوونه.
فإذا كان في هذه الأزمنة فالكسوة على قدر المناسبة، والناس في هذه الأزمنة توسعوا في بعض الكسوة، فالمرأة تفرض على زوجها كسوة في كل مناسبة، ففي كل عيد تطلب كسوة جديدة، كذلك أيضاً في أيام المناسبات كحفلات زواج إخوتها أو أخواتها، تطلب أيضاً كسوة جديدة في كل مناسبة، وإذا قيل لها: عندك كسوة تم شراؤها قريباً.
تقول: إن هذه قد استعملت، أو رئيت يوماً أو نصف يوم.
فتفرض عليه أن يجدد لها كسوة في كل مناسبة، والرجال يتسامحون معهن في ذلك، وكان الأولى المنع والامتناع؛ لأن هذا من الإسراف؛ ولأنه من إيتاء السفهاء، والله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: لا تسلطوهم على أموالكم فيفسدونها، فإذا كانت المرأة تشتري الكسوة بألف أو بألفين أو بثلاثة آلاف اعتبر ذلك من السفه والإفساد.
ويقال كذلك أيضاً فيما تحتاجه من الحلي والزينة ونحوها، مثاله: إذا طلبت شراء ساعة يدوية فإنه قد يتنازل معها، وتوجد ساعة -مثلاً- بمائتين، وساعة بألفين، وساعة بعشرة آلاف، فكثير من النساء تشتري أعلى ما تجد، ولو كانت المكانة واحدة، ولو كان الاستعمال واحداً، يخيل إليها أن زيادة الثمن يدل على الحسن والجمال، ويدل على القوة والمناعة وما أشبه ذلك.
وقد أخبرني الكثير من الذين يستوردون الساعات أنها كلها سواء، يعني: أدواتها، وآلاتها الداخلية، لا فرق بين التي قيمتها مائتان والتي قيمتها عشرة آلاف إلا في الاسم والمورد، تؤخذ من الذي يصنعها سواء في اليابان أو في الصين أو في أمريكا، الأدوات واحدة لا تختلف، ومع ذلك الذي يوردها يكتب عليها اسم أنها ساعة كذا وكذا، فإذا خيل إليهم أنها من نوع كذا وكذا ظنوا أن لها مكانة.
الذين يشترون الساعة التي بمائتين، والذين يشترون الساعة التي بألفين أو بخمسة آلاف أو بعشرة، يجدون أن الاستعمال واحد، وأنه لا فرق بين هذه وهذه، قد تكون هذه أسرع خراباً من هذه، فلذلك نقول: الواجب الأخذ على أيدي السفهاء.(72/19)
بقاء نفقة الزوجة في ذمة الزوج إذا لم ينفق عليها
كذلك عاد إلى النفقة فقال: (ومتى لم ينفق تبق في ذمته) .
وذلك لأن النفقة -كما قلنا- معاوضة، فإذا امتنع من النفقة عليها فلها أن تطالبه بنفقة ما مضى، ولا تسقط نفقة الزوجة بمضي زمان، سواء كان تركه النفقة لغيبة أو لتساهل، تركها مثلاً في بيته ولم ينفق عليها، فأخذت تتكفف الناس وتسأل من آل فلان أو فلان، أو عرف حالتها بعض جيرانها أو بعض أهلها فأعطاها ما يسد خلتها مدة شهر أو أشهر، فلها أن تطالب زوجها فتقول: أنت تركت الإنفاق علي هذا الشهر أو هذه السنة، إما لكونك غائباً، وإما لكونك حاضراً ولكنك متساهل، وأنا أنفقت على نفسي من مالي، أو أنفق علي أبي، أو تصدق علي جيراني أو أقاربي، فالآن أطالبك بنفقة هذا الشهر ولو كان قد مضى، ولو عدة أشهر، ولو عدة سنوات.
فللزوجة مطالبته بنفقة ما مضى، وإذا لم ينفق بقيت النفقة ديناً في ذمته، فإن أسقطت ذلك عنه وإلا ألزم بغرامته؛ لأن النفقة على الزوجة معاوضة كما ذكرنا.(72/20)
إذا غاب الزوج وأنفقت من ماله حال غيبته ثم تبين أنه قد مات
إذا غاب وأنفقت من ماله في غيبته فبان ميتاً رجع عليها وارث، وذلك لأنها تستحق النفقة في حياته مقابل ما بذلت له نفسها، فغاب مثلاً شهراً أو سنة وهي في بيته تنفق على نفسها من ماله، ثم تبين أنه مات قبل سنة أو قبل ثمانية أشهر، إذا لم يتسامح معها الورثة طالبوها بنفقة ما مضى، ولا يطالبونها بالنفقة على أولاده؛ لأن لهم حقاً، ويمكن أيضاً أن يسقطوا ما أنفقته على نفسها أو على أولادها من إرثهم.
وقد يقولون: أنتِ لك حق في التركة، وهو الثمن، وأولادك لهم حق في التركة، ونحن الأولاد الكبار لنا حق، فعلينا أن نطالبك بما أخذت، ثم نقتسمها، فيطالبونها مثلاً وترد عليهم خمسة آلاف أو عشرة آلاف مثلاً يجعلونها في التركة ويقسمونها، ثم يعطونها نصيبها من التركة، فيعطون كل واحد من أطفالها نصيبه أو يعطونه لوليهم؛ وذلك لأنه بعد موته ينتقل المال إلى الورثة.(72/21)
إذا سلمت المرأة نفسها لزوجها وجبت نفقتها
يقول: (ومن تسلم من يلزمه تسلمها، أو بذلته هي أو وليها، وجبت نفقتها ولو مع صغره ومرضه وعنته وجبه) .
إذا عقد الرجل على امرأة، ولما تم العقد قالت له: خذني إليك، أنا بذلت لك نفسي، وليس عنده مانع لكنه لم يتسلمها، بل تركها شهراً أو سنة وهي تبذل نفسها، ففي هذه الحال إذا طالبته بنفقة السنة لزمه أن يدفعها، وكذلك لو لم يستلمها لزمه أن ينفق عليها.
هي تقول: خذني إليك، أنا قد أعددت نفسي، ليس هناك مانع.
وهو يقول: لم أتأهب ولم أستعد.
في هذه الحال يلزمه نفقتها ولو كانت عند أهلها؛ لأنها استعدت لبذل نفسها ولتسليم نفسها له.
وكذلك إذا تسلم من يلزمه تسلمها ابتدأت النفقة، بذلت نفسها وقالت: خذني.
فيلزمه النفقة ولو لم يأخذها، أو بذلها له أبوها أو أخوها الذي هو الولي، يقولون له: خذ امرأتك، لا عذر لك، قد عقدت عليها وأصبحت في ذمتك، فخذ زوجتك.
لكنه يعتذر بأنه غير مستعد أو لم يتأهب، فيطالبونه فيقولون: زوجتك قد بذلت نفسها، فخذها وأعطنا نفقتها، أنفق عليها ولو كانت عندنا؛ لأنها بذلت لك نفسها؛ فتجب عليه نفقتها ولو كانت عند أهلها.
لو كان صغيراً وعُقد له على امرأة، وطلب أهل المرأة أن يأخذها وهي ممن يوطأ مثلها كابنة تسع، وهو يمكن أن يطأ كابن عشر، ففي هذه الحال أيضاً تلزمه نفقتها، أو يلزم وليه أن يعطيها.
لو كان الزوج مريضاً وبذلت نفسها أو بذلها وليها وجبت نفقتها، وكذا لو كان عنيناً أو مجبوباً، العنين: هو الذي لا ينتشر ذكره، ولا يكون له شهوة، ولكنه عقد على امرأة، ومع ذلك بذلت له نفسها، وكذلك المجبوب -الذي هو مقطوع الذكر- إذا عُقد له على امرأة يلزمه أن ينفق عليها إذا بذلت له نفسها.(72/22)
إذا منعت المرأة نفسها قبل الدخول لأجل المهر وجبت نفقتها
يقول: (ولها منع نفسها قبل دخولٍ لقبض مهرٍ حال ومع ذلك لها النفقة) .
فإذا جاءها وقال: اذهبي معي.
فقالت: أنا مستعدة أن أذهب، ولكن أعطني بقية المهر، بقي عندك ألف أو عشرون ألفاً، فلا أذهب معك إلا بعد أن تعطيني بقية الصداق الذي هو حال غير مؤجل، فهل يحق لها هذا الامتناع؟ يحق لها؛ لأنها منعت نفسها بحق؛ ولأن هذا شيء يفوت؛ ولأن الاستمتاع بها لا يمكن تعويضه، ففي هذه الحال يلزمه أن يعطيها صداقها، وإذا لم يعطها فلها أن تمتنع.
فإذا امتنعت وبقيت عند أهلها، امتناع بحق، وفي هذه الحال هل لها نفقة؟ نعم، لها نفقة؛ لأن امتناعها بحق.
لو قال: كيف أنفق عليها ولم أتسلمها؟ كيف أنفق عليها ولم أتمكن من الاستمتاع بها؟ فنقول: إنك أنت الذي أخللت بالشرط، وهو إعطاؤها حقها، أعطها صداقها كاملاً؛ لأن هذا هو الذي عقد لك عليها بموجبه، فنحن نطالبك بالنفقة، ونطالبك بالصداق، فإذا دفعت الصداق سلمنا لك المرأة.(72/23)
الحالات التي يجوز للمرأة فيها طلب الفسخ
متى يجوز لها طلب الفسخ؟ في حالات: الحالة الأولى: إذا كان معسراً لا يقدر على نفقة المعسرين، وقد تقدم أن المعسر إنما عليه من أرخص الأطعمة، وتعرفون أن الفقراء يشترون أرخص الخبز؛ لأن قصدهم بذلك سد الجوع، ولا يشترون اللحوم ولا الفواكه وما أشبه ذلك، ولا يشترون الأشربة التي يتفكهون بها، إنما يشترون شيئاً يسدون به جوعهم، فإذا قدر أن هذا الرجل لا يقدر حتى على شراء القوت الضروري الذي هو من يابس الخبز، فهل تصبر على هذا الجوع؟ في هذه الحال أعسر بنفقة المعسرين، فلها أن تطلب الفسخ، فتذهب إلى الحاكم وتقول: لا أصبر عليه، ليس عنده ما يقوتني، أموت جوعاً! ثانياً: كذلك لو كان لا يجد القوت إلا يوماً وراء يوم، في هذه الحال أيضاً لها طلب الفسخ، يشتغل وشغله إنما يحصل به قوت يوم، والثاني لا يحصله، أو يحصل قوت نفس اليوم، ففي هذه الحال إذا أعسر ببعضها فلها طلب الفسخ.
لكن إذا أعسر بشيء في ذمته لها بعد أن سلمت نفسها ففي هذه الحال لا تطلب الفسخ، وذلك إذا قالت: خذني، ولو كان الصداق لم تسلمه لي، فسلمت نفسها وذهبت معه، والصداق دين في ذمته مع أنه دين حال، وبعدما مضى عليها شهر أو سنة طالبته بالصداق، فقالت: أعطني الصداق وإلا ذهبت إلى أهلي، هل لها ذلك؟ ليس لها ذلك؛ لأنها طاوعت بتسليم نفسها، فيبقى صداقها في ذمته إلى أن يجده: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] .
ثالثاً: إذا غاب، وتعذرت عليها النفقة بالاستدانة ونحوها، كأن غاب غيبة طويلة ولم يرسل لها نفقة، عجز عن إرسال النفقة، ولم تقدر على أن تستدين في ذمته، ولم يكن له أقارب ينفقون عليها، فهل تصبر على الجوع؟ ليس عليها ذلك، ولها أن تطلب الفسخ، وكذلك إذا أعسر بالكسوة، أو غاب وتعذرت الكسوة وقتها، ولم تجد من يكسوها، ولم يكن عندها أهل له ولا أقارب يكسونها.(72/24)
كيفية الفسخ
كيفية الفسخ: أن ترفع إلى الحاكم، والحاكم -قاضي البلد- ينظر في المسألة، فإذا اتضح له أنه ليس لها أحد ينفق عليها، وأن زوجها لم يترك لها نفقة، وأنه عاجز عن النفقة، أو أن زوجها غائب ولا يدرى متى يقدم، ولم يرسل لها، ولم يكن له أقارب ينفقون عليها وعلى أولاده، فالحاكم يخول في أن يفسخ، فيقول: بناءً على غيبة فلان، وتعذر إنفاق زوجته من ماله، وبناءً على الضرر الذي يلحقها حكمت بفسخ نكاحه منها، وأن لها بعد العدة أن تتزوج من شاءت.
ففي هذه الحال له ذلك.
وإذا فسخ فهل عليها عدة؟ عليها الاستبراء، إذا حاضت حيضة ولو كان معلوماً أنه قد طال غيبته، فبعد حيضة واحدة لها أن تتزوج.
إذا غاب زوجها واستدانت في ذمتها للنفقة عليها وعلى أولادها الأطفال، ثم رجع الزوج، ففي هذه الحال تطالبه بوفاء هذا الدين، وتقول: علي لفلان مائة أنفقتها علي وعلى أولادي، وعلي لفلان مائتان، وعلي لفلان ألف؛ بسبب أنك ما تركت لنا نفقة، فنحن اضطررنا إلى الاستدانة، لها ذلك، ولها أن تطالبه بالتعويض، فيوفي الديون التي عليها.
انتهى ما يتعلق بالنفقة على الزوجة.(72/25)
شرح أخصر المختصرات [73]
شرع الله التوارث بين الأقارب، فيرث الأخ أخاه ويرث أباه وابنه وهكذا، وكما يرث القريب قريبه فيغنم تركته، فكذلك عليه أن يشارك في الإنفاق عليه إذا افتقر، وذلك بشروط وأحكام فصلها الفقهاء وبينوها، وكل ذلك مما ينبغي على كل مسلم معرفته.(73/1)
الأقارب الذين تجب النفقة عليهم
قال المصنف رحمه الله: [فصل: وتجب عليه بمعروف لكل من أبويه وإن علوا، وولده وإن سفل، ولو حجبه معسر.
ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم، سوى عمودي نسبه، مع فقر من تجب عليه وعجزه عن كسب، إذا كانت فاضلة عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته كفطرة، لا من رأس مال وثمن ملك وآلة صنعة] .(73/2)
الأصول الذين تجب عليهم النفقة
هذا الفصل يتعلق بالنفقة على الأقارب.
والأقارب هم الأصول والفروع والحواشي وذوو الأرحام، ولا يدخل فيهم الأقارب من الرضاع.
فأما الذين تلزمه نفقتهم فأصوله وفروعه، سواء كانوا وارثين أو غير وارثين، وذلك إذا افتقروا واستغنى، ومنهم الأبوان، فحق على ولدهما أن ينفق عليهما، وإذا كان لهم عدة أولاد وزعت النفقة على الأولاد، إلا إذا كانوا فقراء استقل بها من كان غنياً.
إذا كان أبواه بحاجة إلى النفقة الضرورية -النفقة بالمعروف- فينفق عليهما، ولا يقول: إن أولادكم كثير؛ لأنهم قد يقولون: أولادنا فقراء مثلنا، فنحن بحاجة، أنفق علينا.
لا شك أن هذا من حق الوالدين، والله تعالى أمر بالإحسان إليهما: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] فهل من الإحسان أن يتركهما جائعين؟! لا شك أن إنفاقه عليهما يعتبر من الإحسان.
كذلك الأجداد والجدات لهم حق الولادة، فإذا كان جدك موجوداً وأبوك موجوداً، ولكن أبوك فقير وأنت غني، فعليك أن تنفق على جدك كما تنفق على أبيك، وكذلك الجدات سواء من قبل الأب أو من قبل الأم وكذا الجد أبو الأم، ولو كان من ذوي الأرحام، والجدة أم الأم ولو كانت من ذوي الأرحام، فتجب عليك نفقتهم إذا كنت قادراً وكانوا محتاجين.
وإذا كان أولادهم موجودين فالنفقة على الأولاد لا على أولاد الأولاد، إذا كان مثلاً جدك فقيراً، وأبوك غنياً، وكنت أنت غنياً، من الذي ينفق على جدك؟ ينفق عليه ولده لأنه أقرب؛ ولأنه هو الذي يرثه، فينفق عليه ولده، ولا يقول: أنفق علي يا ولد الولد.
أنت تقول: هناك من هو مثلي في الغنى، وأقرب لك مني.
فينفق عليه ولده، فإن كان ولده فقيراً وأولاده كلهم فقراء طالب ولد الولد.
فالحاصل: أنه تجب عليه النفقة بالمعروف -يعني: بالمعتاد- لا إسراف ولا تقتير، وينفق على أبويه نفقة كفاف، فليس لهما أن يطالباه بالتوسع، فلا يقولان له: أنت في سعة، وأنت في ثروة، وعندك أموال طائلة، فنريد أن توسع علينا، نريد أن تسكننا في مساكن عالية، ونريد أن تفرش المساكن بفرش عالية، ونريد أن ترفهنا بالأمتعة الحسنة، ونريد أن تشتري لنا الكسوة الغالية، وأن تعطينا من أنواع اللحوم والفواكه والخضار وما أشبه ذلك، ليس لهما مطالبتك إلا بالنفقة بالمعروف، أي: النفقة المعتادة ليست الزائدة، هذه نفقة أبويه، جده أبو أبيه، وجده أبو أمه، وكذلك أجداده وإن بعدوا، أمه، وجدته أم الأم، أو أم الأب، وجدتها، وجدة أبيه، وإن علت الجدات، كل هؤلاء يسمون أصولاً، يلزمه أن ينفق عليهم إذا لم يكن هناك أقرب منه.(73/3)
الفروع الذين تجب عليهم النفقة
ثانياً: الفروع.
الفروع: هم الأولاد ذكوراً وإناثاً، وأولاد الأولاد، وأولاد أولاد الأولاد ذكوراً وإناثاً، ولو كانوا أجانب، إذا افتقروا ولم يكن لهم من ينفق عليهم فإنه ينفق عليهم، فمثلاً: بنت بنتك قد تكون أجنبية، أبوها الذي هو زوج بنتك فقير، وأمها التي هي بنتك فقيرة، وأنت غني، فعليك أن تعطيها نفقة الفقراء، أي: تعطيها كفافاً تنفق عليها بالمعروف.
كذلك ابن بنتك أجنبي، إذا افتقر وكان أبوه وأمه وأقاربه الذين يرثونه فقراء فعليك نفقته، وبطريق الأولى ابن ابنك وبنت ابنك الذين ينتسبون إليك، ولو كانوا بعيداً، ولو كان ابن ابن ابن ابن، أو كذلك بنت ابن ابن ابن، أو بنت بنت بنت ابن، أو بنت بنت بنت بنت، يعني: الفروع كلهم وإن كثروا يسمون فروعاً لك، بمنزلة فروع الشجرة، فأنت تعرف مثلاً أن ساق الشجرة له فروع، فهؤلاء الفروع هم أولادك ذكوراً وإناثاً، وأولادهم، وأولاد أولادهم، وساق الشجرة لها عروق ممتدة في الأرض، هؤلاء هم أصولك الذين هم آباؤك وأجدادك ذكوراً وإناثاً، فمثل هؤلاء تلزم نفقتهم على من كان غنياً.
قد تقول مثلاً: أنا لا أرث من ابن ابني، إذا مات فإنه يرثه ابني الذي هو أبوه المباشر، وأنا جده، فكيف أنفق عليه وأنا لا أرث منه، وأنا محجوب بمن هو أقرب مني؟
الجواب
إن الذي حجبك فقير، صحيح أنه أقرب إليه، وأنت جده، وأبوه موجود، ولكن أباه فقير وهو فقير.
وكذلك أيضاً الأصول: إذا كان جدُك فقيراً وأبوك أيضاً فقيراً، لو مات جدك لم ترث منه، وميراثه لأبيك، يحجبك أبوك، وإنما أنت الغني، وأبوك فقير وجدك فقير، وابنك فقير، وابن ابنك فقير، فتنفق على جدك مع أنك محجوب، وتنفق على ابن ابنك مع أنك محجوب، حجبك معسر.
هذا بالنسبة إلى الأبوين والفروع، يعني: الأصول والفروع.(73/4)
الحواشي الذين لهم الحق في النفقة
أما الحواشي فهم: الإخوة وبنوهم، والأخوات، والأعمام وبنوهم، هؤلاء الحواشي: أعمام الأب، أعمام الجد، أبناء العم وما أشبههم، هؤلاء -أيضاً- يعتبرون من الأقارب، لهم حق عليك، الدليل قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] وقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة:83] فلهم حق عليك: حق الصلة، وحق القرابة، وحق الهدية، والزيارة والاستزارة والإكرام والاحترام والبر ونحو ذلك.
لكن بالنسبة إلى النفقة: متى تجب عليك نفقة أقاربك كإخوتك وأخواتك وأعمامك وبنوهم؟ تجب على من ترثه بفرض أو بتعصيب، إذا كنت ترث هذا الإنسان الفقير لو مات، فإنه عليك نفقته إذا افتقر، فإذا كنت لا ترثه فليس عليك نفقته ولو كان فقيراً، ولو كان الذي حجبه فقيراً، وإذا كان لك أخوان من الأب، وهما شقيقان، وهما فقيران، فأنت لا ترث واحداً منهما، إذا مات هذا ورثه أخوه الشقيق، وأنت لا ترث منه، فلا تجب عليك نفقة واحد منهما؛ وذلك لأنه لا يحصل التوارث، فلو مات واحد منهما فإنك ترث الآخر، فعليك نفقته؛ لأنك أصبحت وارثاً، والذي حجبك قد توفي.(73/5)
شروط وجوب النفقة على الأقارب
فالحاصل أن النفقة على ذوي القرابة إنما تجب إذا كان وارثاً، استدلوا بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233] ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] (على الوارث مثل ذلك) أي: مثل ما على المولود له، الذي عليه النفقة.
الذي ترثه مثلاً بالفرض كالأخ من الأم، إذا افتقر وأنت من جملة الذين يرثونه، فإنك تنفق عليه، فإنه إذا مات لا ترث منه إلا السدس، ولكن أنت من جملة الورثة، فإن كان له أولاد ذكور أو إناث حجبوك، فلا يلزمك أن تنفق عليه؛ لأنك لست بوارث.
وكذلك مثلاً: الأم ترث ولدها، ولا ترث منه إلا السدس إذا كان له أولاد، أو له جمع من الإخوة، فإذا افتقر ولدها أنفقت عليه؛ وذلك لأنها ترثه لأنه من الفروع؛ ولأنها أحد الأبوين.
أما بالنسبة إلى الذين يرثون بفرض فكالأخت، فإنها إذا مات أخوها ترث منه النصف فرضاً، فإذا افتقر أخوها وهي غنية فعليها أن تنفق عليه؛ لأنها من جملة ورثته.
وإذا كانت لا ترث منه إلا شيئاً يسيراً، كأن كان له بنتان ترثان الثلثين، وله زوجة، وله أم، وله أخت شقيقة غنية، هو فقير، وبنتاه كذلك، وأمه فقيرة، وزوجته فقيرة، وأخته غنية، أخته ترث منه بالتعصيب، ولكن إنما ترث واحداً من أربعة وعشرين سهماً، في هذه الحال عليها أن تنفق عليه إذا افتقر، ولو كانت لا ترث منه إلا شيئاً يسيراً.
فالحاصل: أن كل من ترث منه بفرض أو تعصيب إذا افتقر من أقاربك كإخوة وأخوات وعم وأعمام وبني عم وبني أخ وبنات أخ ونحو ذلك، فإنك تنفق عليهم؛ لأنك من جملة الورثة.
أما إذا كنت ترثه بالرحم فالميراث بالرحم فيه خلاف، فلذلك لا يلزمك الإنفاق عليه، كالخال وابن الأخت، فإذا افتقر ابن أختك وأنت خاله لم تلزمك النفقة عليه؛ لأن الميراث ليس متفقاً عليه، وكذلك إذا افتقر خالك أو خالتك أو ابن خالك لا يلزمك النفقة عليهم؛ لأنك لا ترثهم.
أما عمودي النسب الأصول والفروع فإنهم بلا شك يتوارثون، والنفقة تجب عليك ولو كنت غير وارث، كأن كنت محجوباً بمن هو أقرب منك، فيستثنى عمودا النسب.
الشرط: أن يكون ذلك الذي تنفق عليه فقيراً، أي: ليس عنده القوت الضروري.
وشرط آخر: عجزه عن التكسب، فإذا كان ابن عمك الذي ترثه قوياً، وصحيح البدن، وعاقلاً، وفارغاً، تأمره وتقول: تكسب، اشتغل يا ابن عمي، لا تكن عالة علي وعلى الناس، أنت تقدر على أن تشتغل وتتكسب وتحترف، فالحرف كثيرة، فهذا لا تجب النفقة عليه، أما إذا كان عاجزاً لمرض أو عاهة أو إعاقة أو كبر سن، ففي هذه الحال تجب نفقته على أقاربه الذين هم أغنياء وبينهم توارث.
متى تجب عليك نفقتهم؟ إذا فضل عن قوتك ما يقوتهم، أي: إذا كانت نفقتهم فاضلة عن قوت نفسك، وعن قوت زوجتك ورقيقك المملوك يومك وليلتك، قياساً على زكاة الفطر، وقد تقدم في زكاة الفطر أنك تبدأ بنفسك، ثم بعد ذلك بزوجتك، ثم برقيقك، ثم بعد ذلك بأبويك وأولادك، ثم بعد ذلك بأقاربك الذين هم فقراء كإخوة وأخوات وأعمام وعمات ونحوهم، فيكون ترتيبهم في هذا على ترتيب الميراث.
إذا قلت مثلاً: أنا ما عندي إلا قوت إنسان زائد على قوتي وقوت عيالي، فمن أعطيه؟ ف
الجواب
تعطيه الوالدة، فإن كان عندك قوت اثنين زائداً على قوت نفسك، وعلى قوت من تحت يدك من أولادك ونحوهم أعطيته الأبوين، إذا كان عندك قوت ثلاثة فأعطه أخاك الشقيق أو أختك، وهكذا كالفطرة.
إذا لم يكن عندك شيء زائد إلا رأس مالك الذي تتجر به، كأن تقول: رأس مالي ألف، أشتري به كل يوم بضاعة وأبيعها وأربح فيها ثلاثين ريالاً، أقوت بها نفسي وأولادي، فهل نلزمك أن تعطيه من الألف الذي هو رأس مالك الذي تتجر به؟ لا يلزمك؛ لأنه إذا نزعنا منه كل يوم ثلاثين، بقيت بدون رأس مال، فحينئذ تتضرر، ويتضرر من تحت يدك؛ لأنك تتجر في هذا المقدار من المال، فلا يؤخذ من رأس المال.
إذا لم يكن عندك إلا بيتك فهل يلزمك نفقة أقاربك؛ فيقولون: بع البيت وأنفق علينا، فإننا بحاجة؟ أو عندك سيارتك التي تتنقل عليها، فهل يلزمك الشرع أن تبيع سيارتك وتنفق على أعمامك، وعلى أولاد أعمامك، وعلى أجدادك، وعلى أولاد بناتك؟ لا يلزمونك بذلك؛ لأن في هذا ضرراً عليك.
فإذا لم يكن عندك إلا آلة الصنعة فلا يلزمك أن تبيعها لأنك تعمل بها، فمثلاً: الحداد عنده آلة الحدادة، لا يلزمه أن يبيعها، النجار عنده آلة النجارة، والحلاق عنده آلة الحلاقة، والحجام عنده آلة الحجامة، والبناء عنده آلة البناء وأشباه ذلك، فلا يلزمه القاضي أن يبيع آلة صنعته لأجل الإنفاق على أقاربه، بل يكون فقيراً كما أن أولئك الذين معه يعتبرون فقراء.(73/6)