شرح أخصر المختصرات [1]
لب العلوم هو الفقه في الدين، ومن أراد الله به خيراً فقهه في الدين، ومن هذا المنطلق كان لدراسة الفقه وتعلمه والتأليف فيه أهمية كبيرة، ودراسة الفقه له عدة طرق، منها: دراسة الفقه المقارن، ومنها: دراسة الفقه على منهج مذهب من المذاهب، وكل مذهب له مؤلفاته الخاصة به، وهي أنواع، فمنها المطول، ومنها المختصر، ومن هذه الكتب المختصرة كتاب (أخصر المختصرات) للبلباني رحمه الله في الفقه الحنبلي، وقد عُني به العلماء شرحاً وتعليقاً، وقد ابتدأه المؤلف -كغيره- بكتاب الطهارة، وبيَّن أقسام المياه، وأنواع النجاسات، وآداب دخول الخلاء، وسنن الفطرة.(1/1)
تعريف الفقه والفهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالفقه في الدين من نعم الله تعالى التي يخص بها من شاء من عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
والفقه هو: الفهم للنصوص من الآيات والأحاديث، واستنباط الأحكام منها، وهذا الفهم هو هبة من الله تعالى ممن شاء الله تعالى ولمن هداه وميزه بهذا الفهم، والناس يتفاوتون في هذا الفهم، فمن مقل ومن مستكثر، وسبب الفهم فتح من الله تعالى وتوفيق، وقوة إدراك، وقوة حفظ واستنباط، وذلك مما يتفاوت فيه الناس.
وقد انقسم العلماء رحمهم الله بالنسبة إلى العلم والحديث إلى أربعة أقسام: القسم الأول: وهبهم الله تعالى الحفظ، فهم حفاظ، يحفظون النصوص، ويحفظون الأحاديث، ويحفظون الأسانيد، حفظ الله تعالى بهم هذه الشريعة من أن يُفقد منها شيء، ويُضرب بحفظ كثير منهم المثل، ولم يكونوا يكتبون، كما روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: (ما كتبت سوداء في بيضاء) يعني: أن كل ما روي عنه فإنه من حفظه.
القسم الثاني: وهبهم الله الفهم والإدراك، بحيث يستنبطون الأحكام من الأدلة، فيأتيهم الحديث وهم لا يحفظونه ولكن يُكتب لهم الفهم فيه، فيستخرجون منه عشرات المسائل، وأنه يدل على كذا، ويفهم منه كذا، ويستنبط منه كذا.
القسم الثالث: الذين جمعوا بين ذلك، فرزقهم الله الحفظ، ورزقهم الفهم.
القسم الرابع: الذين نقص حظهم من الاثنين: من الحفظ ومن الفهم.
قال الشاعر: فرب ذي حرص شديد الحب للعلم والفهم بليد القلب معجّز في الحفظ والرواية ليست له عمن روى حكاية وآخر يُعطى بلا اجتهاد حفظاً لما قد جاء في الإسناد والعلم قد يرزقه الصغير في سنه ويحرم الكبير فإنما المرء بأصغريه ليس برجليه ولا يديه لسانه وقلبه المركب في صدره وذاك خلق عجب(1/2)
ترجمة الإمام أحمد وبقية أصحاب المذاهب الأربعة
ذكر العلماء أن الإمام أحمد رحمه الله جمع بين الحفظ والاستنباط، فرزقه الله الحفظ، ورزقه الفهم، فهو كان -كما ذكر أبو حاتم الرازي - يحفظ ألف ألف حديث، وكذلك أيضاً كان يجيب على المسائل المتعلقة بالحديث، وقد مدحه الصرصري في قصيدته اللامية بقوله: حوى ألف ألف من أحاديث أسندت وأثبتها حفظاً بقلب محصّل أجاب على ستين ألف قضية بأخبرنا لا عن صحائف نقّل أي: أنه عرضت عليه ستون ألف مسألة، فأجاب عنها من حفظه بأخبرنا فلان وحدثنا فلان، ولم يرجع إلى الكتب، ولا إلى الصحائف، ولما كان كذلك كان هو إمام أهل السنة، فمذهبه أقرب المذاهب إلى الحق وإلى السنة، والعلماء الآخرون لا نبخسهم حقهم، بل نقول: إنهم على خير.
فـ أبو حنيفة رحمه الله كان قليل الحفظ، لم يذكر بالحفظ ولا بالأحاديث، ولكنه كان قوي الفهم وقوي التعليل، ومعرفته بكيفية الاستدلال أمر يفوق غيره، وقد اهتم تلامذته بتسجيل مسائله التي سئل عنها، فممن سجلها من تلامذته أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ثم اشتهر مذهبه بسبب تلك الكتب التي سجلت فيها مذهبه.
وأما الإمام مالك فهو بلا شك محدث وحافظ، ولكنه لم يتوسع في الحديث، إنما كان حديثه ما رواه عن أهل المدينة وما حفظه عنهم، ومع ذلك فإنه أيضاً قد استنبط مسائل، وألف كتابه (الموطأ) ، وذكر فيه كثيراً من الآراء التي نقلها عن أهل المدينة، وتتلمذ عليه بعض التلامذة، فألفوا مسائله، وعمدتهم في مذهبه النقل، وقد اشتهر مذهبه واشتهر الذين تمذهبوا به في المغرب.
وأما الشافعي رحمه الله فهو أيضاً تتلمذ على مالك، وأخذ عنه (الموطأ) ، وكذلك أيضاً أخذ عن غيره، ولكنه لم يكن من أهل الحفظ ومعرفة الصحاح من الأحاديث؛ ولذلك كان يقول لتلميذه الإمام أحمد: (إذا صح الحديث عندكم فأخبرنا حتى نعمل به) ، ولكن رزقه الله تعالى الفهم، فهو يستنبط كثيراً، كما تدل على ذلك كتبه التي كتبها والتي أملاها، فكتبه كتب فقه.
وأما الإمام أحمد فلم يكن يكتب في الفقه، وإنما كان يكتب في الأحاديث أو يكتب في العقيدة، وكره كتابة الفقه والمسائل الفقهية، وأحال تلامذته إلى أن يأخذوا من حيث أخذ؛ ولعل السبب أنه رأى أن كثيراً من الذين كتبوا اختلفوا.
فمثلاً: كتب أبي حنيفة فيها خلاف لمن بعده، وكتب مالك فيها خلاف لمن قبله ولمن بعده، ومسائل الثوري كذلك وهكذا.
ومع ذلك فإن تلامذته كتبوا مسائله التي نقلوها عنه شفاهاً، والتي حضروها؛ في أكثر من ثلاثين مجلداً، يوجد بعضٌ منها، كمسائل أبي داود، ومسائل ابنه صالح، ومسائل ابنه عبد الله، ومسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ وغيرها، ولكن أكثرها لم توجد، إما فقدت أو أخذت؛ وذلك لأن الإمام أبا بكر الخلال تتبع مسائل الإمام أحمد، وجمعها في جامع كبير، ورتبها، وقال: نقل حنبل كذا ونقل ابن منصور كذا، ونقل البرزاطي كذا، ونقل ابن هانئ كذا، إلى أن بلغت نحواً من عشرين مجلداً.
ثم جاء بعده ابن حامد فجمع ما فات الخلال، واجتمعت له مسائل كثيرة، ثم كاد مذهب أحمد أن ينطمس وينمحي؛ وذلك لأن أهل القرن الرابع تركوا العقيدة السلفية، واعتنقوا مذهب الأشعري، ومذهب الكرامية ومذهب الكلابية، واشتهر أيضاً مذهب الاعتزال، وأصبح كلام أحمد ومذهب أحمد غريباً، وأصبح من تمذهب بمذهبه يُتهم بأنه مشبه، وبأنه ممثل، وبأنه حشوي، وبأنه وبأنه، فقل أصحاب أحمد، وقل الذين اعتنقوا مذهبه، وصاروا لا يخرجون ولا يصرحون بمذهبهم إلا خفية.(1/3)
ترجمة مؤلف (أخصر المختصرات) وكتابه
وفي ذلك الزمان ألف الخرقي مختصره، وهو من أهل العراق، ثم انتشر مذهب الاعتزال ومذهب الرفض هناك، فهرب إلى الشام، وبقي في الشام حتى مات.
وكان مذهب أحمد في الشام أكثر؛ بسبب توارث أهل الشام لمذهب الإمام أحمد، وكان يوجد المذهب أيضاً في العراق وفي مصر ولكنه قليل، وما زال كذلك إلى هذه الأزمنة؛ فإن الحنابلة أكثر ما يوجدون في الشام في حلب، وفي دمشق، وفي بعلبك، ونحوها.
وكان أهل نجد جهلة، وبعضهم يذهبون ليتعلمون، فمن ذهب إلى مصر تعلم مذهب الشافعي، ومن ذهب إلى الشام تعلم مذهب الحنابلة، ومن ذهب إلى تركيا ونحوها تعلم مذهب الأحناف، وكان أئمة الدعوة حنابلة؛ لأنهم كانوا يتعلمون هذا المذهب من علماء الشام، وكان في الشام حنابلة إلى العهد القريب، ومن آخرهم الحنبلي المشهور بـ ابن بدران الذي خدم المذهب الحنبلي، ومنهم أبو عبد الله محمد بن بدر الدين البلباني من علماء الحنابلة في القرن الحادي عشر، ألف كتاباً سماه (كافي المبتدي) ، واشتهر هذا الكتاب، ورأى أن فيه زيادة، وأن فيه ترتيباً أحسن مما قبله كزاد المستقنع ونحوه، ثم اختصره وسماه (أخصر المختصرات) ، وكلاهما للبلباني، و (كافي المبتدي) شرحه أيضاً معاصر المؤلف وهو أحمد بن عبد الله بن أحمد البعلي الحلبي وسمى شرحه (الروض الندي بشرح كافي المبتدي) ، وهو مطبوع في مجلد كبير.
ثم إن أخاه عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد البعلي الحنبلي شرح (أخصر المختصرات) وسماه (كشف المخدرات) ، فهذان أخوان شرحا هذين الكتابين اللذين ألفهما للبلباني، وكلاهما في القرن الحادي عشر، وكانا في دمشق أو في حلب.
ولا شك أن هذا دليل على عناية الحنابلة بمسائل الفقه، وسبب ذلك: أنهم تميزوا بالفقه الحنبلي واختصوا به، فلذلك الحنابلة المتقدمون والمتأخرون ما تجد مؤلفاتهم غالباً إلا فيما يتعلق بالفقه، وقليل منهم من يؤلف في غيره، إلا العلماء الفطاحلة الكبار كالإمام أحمد رحمه الله، وكذلك بعض تلامذته كابنه عبد الله، والخلال وابن بطة ونحوهم ممن كتبوا في المسائل الأخرى.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، فهما من الحنابلة، ولكن لهم اختيارات قد يخالفون فيها المشهور عن الحنابلة في الفقه.
هذا الكتاب يقول فيه مؤلفه: إنه لن يجد ما هو أخصر منه، يعني: في زمانه لم يجد أخصر منه، فهو مؤلف على أبواب الفقه، ومسائله قريبة من مسائل كتب الفقه في (زاد المستقنع) ، والغالب أنه لا يخرج عن مسائل الزاد، وإنما يغير صيغتها، وقد يحذف منها بعض الأشياء، وبعض الجمل التي ليست مشهورة.
ولعلنا نقتصر في شرح هذا الكتاب على تحليل المسألة والتمثيل لها إذا احتاجت إلى ذلك، والإشارة إلى الحكم، والإشارة إلى الخلاف إذا كان قوياً.(1/4)
أقسام المياه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الطهارة.
المياة ثلاثة: الأول: طهور وهو: الباقي على خلقته، ومنه مكروه كمتغير بغير ممازج، ومحرم لا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو: المغصوب، وغير بئر الناقة من ثمود.
الثاني: طاهر لا يرفع الحدث، ولا يزيل الخبث، وهو المتغير بممازج طاهر، ومنه يسير مستعمل في رفع حدث.
الثالث: نجس يحرم استعماله مطلقاً، وهو ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير، أو لاقاها في غيره وهو يسير، والجاري كالراكد، والكثير قلتان، وهما مائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل بالدمشقي، واليسير ما دونهما.
فصل: كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله إلا أن يكون ذهباً أو فضة، أو مضبباً بأحدهما، لكن تباح ضبة يسيرة من فضة لحاجة، وما لم تعلم نجاسته من آنية كفار، وثيابهم طاهرة، ولا يطهر جلد ميتة بدباغ، وكل أجزائها نجسة إلا شعراً ونحوه، والمنفصل من حي كميتته.
فصل: الاستنجاء واجب من كل خارج إلا الريح والطاهر وغير الملوث، وسن عند دخول خلاء قول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) وبعد خروجه منه: (غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) وتغطية رأس وانتعال وتقديم رجله اليسرى دخولاً، واعتماده عليها جالساً، واليمنى خروجاً عكس مسجد ونعل ونحوهما، وبعد في فضاء، وطلب مكان رخو لبول، ومسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثاً، ونثره ثلاثاً.
وكره دخول خلاء بما فيه ذكر الله تعالى، وكلام فيه بلا حاجة، ورفع ثوب قبل دنو من الأرض، وبول في شق ونحوه، ومس فرج بيمين بلا حاجة، واستقبال النيرين.
وحرم استقبال قبلة واستدبارها في غير بنيان، ولبث فوق الحاجة، وبول في طريق مسلوك ونحوه، وتحت شجرة مثمرة ثمراً مقصوداً.
وسن استجمار ثم استنجاء بماء، ويجوز الاقتصار على أحدهما، لكن الماء أفضل حينئذٍ، ولا يصح استجمار إلا بطاهر مباح يابس منقٍ، وحرم بروث وعظم وطعام وذي حرمة ومتصل بحيوان.
وشرط له عدم تعدي خارج موضع العادة، وثلاث مسحات منقية فأكثر.
فصل: يسن السواك بالعود كل وقت إلا لصائم بعد الزوال فيكره، ويتأكد عند صلاة ونحوها، وتغير فم ونحوه، وسن بداءة باليمين فيه، وفي طهر وشأنه كله، وادهان غباً، واكتحالٍ في كل عين ثلاثاً، ونظر في مرآة، وتطيب، واستحداد، وحف شارب، وتقليم ظفر، ونتف إبط.
وكره قزع، ونتف شيب، وثقب أذن صبي.
ويجب ختان ذكر وأنثى بعيد بلوغ مع أمن الضرر، ويسن قبله، ويكره سابع ولادته، ومنها إليه] جعل المؤلف المياه ثلاثة أقسام، وهذا اختيار أكثر الفقهاء، وذهب كثير من المحققين إلى أن الماء قسمان: طهور، ونجس، وأن الحد الفاصل بينهما هو التغير بالنجاسة، والذين قسموها إلى ثلاثة، عرفوا الأول: بأنه الباقي على خلقته، كمياه الآبار والأنهار والأمطار والبحار، هذا هو الباقي على خلقته.
يقولون: ومنه مكروه، كالذي تغير بغير ممازج، الممازج هو: الذي يخالط الشيء؛ لأنه يختلط بالماء، ولا يمكن تصفيته منه، فإذا كان غير ممازج له فإنه مكروه مع كونه طهوراً، فإذا صب عليه لبن فإنه يمازجه، ولا يمكن تخليصه منه، وإذا صب عليه دهن فإنه لا يمازجه، بل يطفو فوقه ويمكن تصفيته، فيريد بغير الممازج مثل الدهن، والزيت، والكافور ونحوها، فيقول: إذا تغير بمثل هذه الأشياء فإنه طهور، ولكنه مكروه؛ لأنها قد تظهر رائحتها.
وقد يكون محرماً يزيل الخبث، أو يزيل الخبث ولا يرفع الحدث، وهو المغصوب.
والمغصوب اختلف فيه، هل يرفع الحدث أم لا؟ والصحيح: أنه يرفع الحدث، ويزيل الخبث؛ وذلك لأنه يستعمل لهذه الأعضاء فينظفها، لكن نقول: إن الغاصب آثم، ومذنب، ولا نقول: بطل وضوءه إذا توضأ بهذا الماء المغصوب، بل وضوءه صحيح، وإذا صلى في أرضٍ مغصوبة فصلاته صحيحة، ولا يؤمر بالإعادة، ولكنه آثم بسبب الغصب، فينبغي التنبه إلى أن المغصوب يرفع الحدث مع كون صاحبه آثماً باستعماله، ونقول له: إن شربته، وإن أرقته، وإن توضأت به، وإن غسلت به إناءً، وإن غسلت به نجاسة؛ فأنت آثم، ولكن لا تبطل طهارتك، والإثم هاهنا متعلق بوصف، إلا إذا كان مضطراً، ومنعه صاحبه بغير حق، فإن له أن يغصبه لينقذ نفسه إذا كان مضطراً إلى شرب ويخشى الموت عطشاً، فله أن يغصبه بقيمته.
قوله: (وغير بئر الناقة من ديار ثمود) وديار ثمود هي التي تعرف الآن بمدائن صالح، ذهب كثير من العلماء إلى أن الآبار كلها لا يتوضأ منها إلا بئر الناقة، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لما وردوها نهاهم أن يشربوا منها، والذين عجنوا من تلك الآبار علفوا نواضحهم وداوبهم بذلك العجين، والذين ارتووا أراقوا ما ارتووا به.
ثم إن بعض العلماء قال: إن هذا من باب الزجر، ولذلك قال: (أن يحل بكم ما حل بهم) والصحيح: أن الحدث يرتفع بها، أصغر أو أكبر، سواء بئر الناقة أو غيرها، وإنما النهي هنا من باب الزجر.
الماء الطاهر الذي هو طاهر غير مطهر لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس، وهو المتغير بممازج، والممازج هو: المخالط، فإذا صب عليه لبن، أو صب عليه مرق، أو صب عليه حبر، فإنه ممازج، فمثل هذا لا يرفع الحدث، لكن إذا قيل: إن المياه قسمان فهذا لا نسميه ماءً؛ لأنه تغير اسمه، فنقول: هذا مرق، أو نقول: هذا لبن إذا رأيناه أبيض، أو نقول: هذا (شاي) أو قهوة، ونقول: هو طاهر في نفسه، ولكن لا يسمى ماءً، والوضوء إنما يكون بالماء، قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] ، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] ، فعلى هذا لا يدخل في مسمى الماء؛ لأنه تغير بما مازجه.
وقد اختلف في المستعمل، فإذا توضأت، وجمعت الماء الذي مر على جسدك في طست، فهل هذا الماء الذي تصاب من أعضائك طهور أو طاهر؟ يقولون: إنه طاهر غير طهور، والصحيح: أنه طهور، ولكن لا يشرع أن يتوضأ به، ولا أن يغتسل به؛ لأنه قد رفع به حدثاً فلا يرفع به حدثاً آخر، ولأنه لو كان يستعمل مرة ثانية ما فرط النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإتلافه، ولما كانوا يتوضئون ويتركون ماء الأعضاء ينصب على الأرض لتشربه، فلو كان ينتفع به مرة ثانية لكانوا تلقوه وتلقفوه.
وبكل حال الماء المستعمل لا يُرفع به حدث آخر ولو كان طهوراً.
الثالث: النجس الذي يحرم استعماله، وتعريفه هو: ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير، أو لاقاها في غيره وهو يسير.
يقول: (إذا تغير بنجاسة) التغير يكون بأحد أوصافه: إما اللون أو الريح أو الطعم، وورد في حديث بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء -وفي رواية ضعيفة- إلا ما تغير طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه) ذكر هذه الرواية في (بلوغ المرام) ، وضعفها كثير من العلماء، وهي من حديث أبي أمامة وغيره، ولكن يقول الإمام أحمد: العمل عليها؛ وذلك لأن الميتة نجسة، فإذا ظهر أثر الميتة في الماء فإنه ينجس، وكذلك الدم نجس والبول نجس فإذا ظهر أثر البول أو الدم في هذا الماء لوناً أو ريحاً أو طعماً فإنه ينجس، ولا يجوز استعماله.
وأما إذا لاقاها في محل التطهير فهو طاهر.
صورة ذلك: نجاسة الكلب تغسل سبعاً، ومحل التطهير آخر غسلة، فإذا كان في آخر غسلة فإن المكان قد طهر، فالماء الذي ينفصل في آخر غسلة يُعتبر طاهراً، وكذلك الثوب إذا كان فيه نجاسة، فالغسلة الأخيرة التي يكون الثوب طاهراً بعدها يعتبر الماء الذي ينفصل عنها طاهراً.
يقول: (والجاري كالراكد) فإذا كان نجساً عليه أثر النجاسة فلا فرق بين كونه يجري أو كونه راكداً.
ثم إن الفقهاء قسموا الماء إلى يسير وكثير، وحددوا اليسير بأنه قلتان فأقل، وأن ما فوق القلتين أو ما بلغ القلتين هو الكثير، وقالوا: القلتان: هي الحد الأعلى لحمل النجاسة، فإذا كان الماء دون القلتين فوقعت فيه نجاسة يسيرة ولم يتغير فإنه يعتبر نجساً، وإذا كان كثيراً فلا ينجس إلا بالتغير، هذا هو كلامهم، فيقولون: إذا كان الماء دون القلتين -يعني: قربتين أو ثلاث قرب- ووقعت فيه ميتة فإنه ينجس، أو وقع فيه قطرات بول أو دم ولكنها لم تظهر ولم يظهر أثرها فإنه يعتبر نجساً، ويستدلون بحديث القلتين: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، أو (لم ينجس) ومفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، ويظهر أثر النجاسة فيه، فلا يتوضأ به، ثم قدروا القلتين بخمس قرب، وقدروهما بمائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل بالدمشقي، والرطل ميزان كان معروفاً عندهم.
والصحيح في هذا هو: أن الماء قليله وكثيره طهور حتى يظهر أثر النجاسة فيه، وأنه لا فرق بين القلتين وما فوق القلتين وما دون القلتين، ولا فرق بين القليل والكثير، وأن الحد الفاصل هو التغير، فإذا ظهر أثر النجاسة طعماً أو لوناً أو ريحاً فإنه ينجس.(1/5)
أحكام الآنية
بعد ذلك تكلم المؤلف على الآنية؛ وذلك لأن الماء يحتاج إلى آنية تمسكه، والآنية الأصل فيها: الطهارة، سواء كانت من الزجاج أو من الخشب أو الحجارة أو الحديد أو النحاس أو الصفر أياً كان، عكس الأواني التي تتخذ من الجلود مثلاً، فالجلود تدبغ ثم تجعل أواني، وكذلك يصنعونها من الحجارة، ومن الخشب، وفي هذه الأزمنة أيضاً تتخذ من الربل أو ما أشبه ذلك من المعادن الجديدة، فكل الأواني طاهرة يباح اتخاذها واستعمالها إلا آنية الذهب أو الفضة، وهكذا المضبب بهما لا يباح اتخاذه إناءً ولا استعماله، وقد وردت في هذا الباب أحاديث مشهورة كما في (بلوغ المرام) ، واختُلف في العلة، ففي بعض الروايات: (إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وعلل بعضهم أن فيها كسر قلوب الفقراء.
والصحيح: أنها تجمع الأمرين: ففيها إسراف، وفيها كسر قلوب الفقراء، وفيها نقص لحظ العبد من الآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من شرب بها في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة) وقال: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) .
ويعم ذلك كل ما يصاغ من الذهب والفضة، يعم الكأس المصنوع من ذهب أو من فضة، والفنجان المصنوع من ذهب أو فضة، ويعم القدح والإناء وما أشبهها، ويعم القدور والصحون ونحوها، فلا يجوز اتخاذها من ذهب ولا من فضة؛ لهذه العلة.
واُختلف فيما إذا توضأ من إناء ذهب أو إناء فضة، هل يرتفع حدثه؟ الصحيح: أنه يرتفع؛ لأنه استعمل الماء على الأعضاء، ولكنه يعتبر آثماً بالاستعمال، وأما الحدث فإنه يرتفع بوجود رافعه.
والمضبب: هو الملحم، فإذا انصدع -مثلاً- طرفه ثم لحم بفضة يسيرة لحاجة فيجوز، وأما إذا لحم بذهب فلا يجوز، وكذلك إذا طعم أو طلي، والمطعم هو: الذي فيه خروق محشوة بذهب أو فضة، والمطلي به كالذي يطلى بماء الذهب أو نحوه، ولا يجوز استعمال المضبب إلا ما كان فيه ضبة يسيرة لحاجة إذا كانت من فضة.
إذاً: تجوز الضبة بهذه الشروط: أن تكون من فضة، وأن تكون يسيرة، وأن تكون لحاجة.
يقول: (آنية الذهب والفضة محرمة مطلقاً) حتى على النساء، ومعلوم أن النساء يجوز لهن التحلي بلباس الذهب ولباس الفضة، كأسورة وقلائد وخواتيم وأقراط؛ ومع ذلك فإن آنية الذهب والفضة شرباً أو استعمالاً أو اقتناءً لا تصح لا للرجال ولا للنساء، وكذلك الأواني ولو كانت صغيرة كسكين أو ملعقة أو قلم أو نحو ذلك، وساعة الذهب للرجال فقط لا تجوز، وإنما تجوز للنساء؛ لأنها حلية.
وتكلم المصنف على آنية الكفار وثيابهم، وذكر أن الأصل فيها أنها طاهرة؛ وذلك لأن الأصل أنهم يتنزهون ويتطهرون، لكن إذا علم أن هذا الثوب صاحبه يتعاطى نجاسة، كالذي يصنع الخمر، ولابد غالباً أن يراق بعضها على ثيابه، فلا تلبس إلا بعد الغسل، وكذلك الطباخون الذين يطبخون في قدورهم لحم الخنازير، أو يشربون في آنيتهم الخمر، فلا تباح هذه الأواني إلا بعد غسلها، فأما إذا لم تعلم نجاستها فإنها طاهرة.(1/6)
حكم استعمال جلد الميتة
تكلم المصنف على جلد الميتة، واختار أنه لا يطهر بالدباغ، واستُدل على ذلك بحديث عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ولكن الحديث فيه مقال، وقد كثر اضطراب المحدثين فيه، فلما كان فيه ضعف واضطرب عدل الإمام أحمد عن العمل به في الآخر، فالصحيح أنه فإذا دبغ الجلد طهر، وقد وردت فيه أحاديث صحيحة كقوله: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) ، وقوله: (يطهره الماء والقرظ) يعني: الدباغ، وقوله: (ذكاته دباغه) أي: يعمل الدباغ كما تعمل الذكاة، وغيرها من الأحاديث، وفي فعل الصحابة رضي الله عنهم كـ ميمونة دليل على أنه يطهر بالدباغ.
وأجزاء الميتة نجسة إلا الشعر ونحوه؛ لأن الشعر يقطع منها في الحياة، ويختار المؤلف أن أجزاءها كالعظام والأظلاف والقرون نجسة، واختار شيخ الإسلام أن العظم إذا جف فهو طاهر، ولو كانت تحل فيه الحياة، وكذلك الظلف والقرن، فيجوز أن يجعل القرن فقبض سكين مثلاً، وكذا الظلف؛ وذلك لأنه لا تحله الحياة؛ ولأنه لا يسري فيه الدم.
قوله: (والمنفصل من حي كميتته) ، ورد في حديث: (ما أُبين من حي فهو ميتة) يعني: ما قُطع منه، فإذا قُطع ذنب الشاة وهي حية فإنه نجس، أو كذلك قطعت رجل الظبي -مثلاً- وهو حي فإنها نجسة ميتة، وما قطع من السمكة وهي حية فإنه طاهر وحلال؛ لأن ميتة السمك طاهرة.(1/7)
أحكام الاستنجاء
ذكر المصنف الاستنجاء الذي هو: إزالة النجاسة بعد التبول والتغوط، فذكر: أولاً: أن الخارج من أحد السبيلين ناقض للوضوء.
ثانياً: أنه نجاسة تخرج من أحد المخرجين من القبل أو الدبر، فلا بد من تطهيرها، ولما كان كذلك كان لها آداب، وتلك الآداب مأخوذة من السنة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم علم أمته كل شيء حتى الخراءة، يعني: حتى آداب التخلي، وإن كانت عادية وطبيعية، ومما يستحيا من ذكرها.
الاستنجاء هو: غسل أثر الخارج، أي: غسل أثر البول أو الغائط، ويسمى استنجاءً لأنه يقطع الأثر، مشتق من النجو الذي هو القطع، فمن حكمة الله تعالى أنه خلق هذا البشر محتاجاً إلى الطعام والشراب، ثم إن هذا الطعام والشراب بعدما يُتغذى به يتغير ويفسد، فيخرج متغيراً نجساً، فإذا خرج نجساً فلابد من إزالة أثره، فالاستنجاء -أي: غسله بالماء- واجب من كل خارج إلا الريح؛ لأن الريح تخرج من الدبر وليس لها جرم، فلا يستنجى منها، وأما البول والغائط وكل خارج -كما لو خرج من دبره دم أو خرج من ذكره دم أو قيح أو ما أشبهه- فإنه يعتبر نجساً، فلابد من إزالة أثره بالماء.
وإذا خرج منه طاهر -كما لو خرج منه حجر أو شعر أو نحو ذلك- فإن كان مبتلاً فإنه يُستنجى منه، وإن كان يابساً بدون بلل وغير ملوث وليس فيه أثر الغائط ونحوه -والتلويث هو: التغير، لوثه يعني: غيره، وانطبع عليه- فإنه لا يُستنجى منه.
ومثلوا أيضاً للطاهر بالولد، فإذا ولدت المرأة ولداً فإنه طاهر وغير ملوث، ولكن معلوم أنه يخرج مع النفاس الدم.(1/8)
بيان ما يقال عند دخول الخلاء
قوله: (سن عند دخول الخلاء قول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) ورد أن أماكن الخلاء تسكنها الشياطين، فأمر صلى الله عليه وسلم بذكر اسم الله عندها، فإن اسم الله يغلب الشياطين، ثم بعد ذلك يأتي بالاستعاذة.
والاستعاذة هي: التحفظ والتحصن، أي: أتحصن وأستعين وأتحرز وأستجير بالله من الخبث والخبائث، وفسر (الخبث) بذكران الشياطين و (الخبائث) بإناث الشياطين، ورويت بإسكان الباء (الخبْث) أي: الشر، و (الخبائث) أهل الشر، وبعد الخروج يقول: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) .
فيسن بعد الخروج أن يقول: غفرانك، ومناسبة طلب المغفرة تقصير الإنسان عن شكر نعمة الله تعالى.
روي أن بعض الصحابة كان إذا خرج من الخلاء مسح بطنه وقال: (يا لها من نعمة! وقال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ منفعته، وأذهب عني أذاه، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى الذي لو بقي لأهلكني، وعافاني بدون أذى) .
وثبت أنه يقال بعد الأكل والشرب: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مخرجاً) ، وقيل في مناسبة طلب المغفرة: إنه دخل وهو مثقل بهذا الأذى، وخرج وقد أحس بالخفة، فتذكر ثقل الذنوب فقال: أسألك غفرانك.(1/9)
آداب دخول الخلاء
يسن تغطية الرأس إذا كان في صحراء مثلاً؛ لأنه جالس على شيء مستقذر، وكذلك يلبس نعالاً مخافة أن ينصب عليه البول أو يتطاير إليه.
قوله: (وتقديم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً) اليمنى تقدم في الأشياء الفاضلة كالمسجد، والبيت، وفي لبس النعل والخف، واليسرى بعكسها، ويقدم الإنسان في دخول الخلاء رجله اليسرى، ويقدم عند الخروج رجله اليمنى، عكس المسجد والنعل، قيل: إن هذا تكريم لليمنى.
وكذلك يعتمد عند جلوسه أكثر ما يعتمد على رجله اليسرى تكريماً لليمنى؛ وقيل: لأنه أسهل للخارج.
ويسن أن يبعد إذا كان في صحراء؛ لأنه على حالة مستقذرة؛ لأنه قد يسمع منه صوت، ولأنه قد يتأذى بما يخرج منه إذا كان قريباً.
ويسن طلب مكان رخو للبول، فإذا كان في أرض صلبة يحرص على أن يجد أرضاً لينة ليأمن رشاش البول، أو يأخذ حجراً فينكت به الأرض إلى أن تلين، حتى إذا انصب البول عليها لم يرتد عليه الرشاش الذي قد يقع على ثوبه أو يقع على قدمه أو على ساقه، فيتنجس وهو لا يدري؛ لأن البول ورشاشه نجس.
أما مسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثاً، وكذلك نثره ثلاثاً، فهذا ليس بصحيح، ولا حاجة إليه، وقد ذكرها الفقهاء وقالوا: إنه من باب الاحتياط؛ حتى يخرج ما بقي في الذكر، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إليه؛ وذلك لأن البول -كما ذكر شيخ الإسلام - في المثانة كاللبن في الضرع، إن حُلب در، وإن تُرك قر، فلا حاجة إلى هذا التمسح والنتر، ثم ذكروا أنه يحدث السلس، وهذا واقع، وقد ذكر لي كثير من الشباب أن معهم هذا السلس، بحيث يخيل إلى أحدهم إذا قام وإذا خرج بقطرتين أو بقطرات، وسبب ذلك أنه يستعمل السلت والنتر، فكان من أثر ذلك أن حدث معه هذه الوسوسة، فصار دائماً يوسوس في الطهارة، والصواب: أنه إذا توقف البول وانقضى تقاطره فإنه يستنجي بعده، ويغسله بالماء، والعادة أن الماء يوقفه؛ ولذلك يسن الغسل بالماء استنجاءً من النجو الذي هو القطع، تقول: نجوت الشجرة، أي: قطعتها، فالأصل أنه إذا تبول فإنه يستنجي بعد ذلك، ولا يلتفت إلى ما يوسوس به الشيطان.
ثم ذكر المصنف الأشياء المكروهة، والمحرمة، والمسنونة، فمن المكروهات أن يدخل الحمام أو بيت الخلاء بما فيه ذكر الله، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم كان مكتوباً على خاتمه (محمد رسول الله) فكان إذا ذهب إلى الخلاء نزع خاتمه، وإذا لم يستطع أو لم يجد قبض عليه بيده اليمنى، يعني: يجعل فصه مما يلي الكف ويقبض عليه، فإذا كان مع الإنسان أوراق فيها ذكر اسم الله فالأولى أن يخرجها، فإن لم يستطع أو نسي فإنه يخفيها في جيبه.
ويعم ذلك كل ما فيه ذكر الله حتى ما فيه البسملة ونحوها.
ويكره تكلمه وهو جالس على حاجته؛ لأنه على حالة مستقذرة إلا لضرورة كإجابة داع، أو إنقاذ هالك أو نحو ذلك.
ويكره رفع ثوبه قبل دنوه من الأرض، فإذا كان في الصحراء فلا يرفع ثوبه حتى يقرب من الجلوس؛ لأنه إذا رفع ثوبه انكشفت عورته للناظرين.
ويكره أن يبول في شق ونحوه، أي: جحر الدابة؛ لأنه قد يخرج عليه من الشق شيء من الدواب أو نحوها، وقد يكون ذلك الشق مسكوناً فيه بعض الجن أو نحوهم، ومما يذكر في هذا الباب أن سعد بن عبادة بال في شق فصرع ميتاً، فسمعوا قائلاً يقول: نحن قتلنا سعد بن عبادة ورميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده والله أعلم بذلك.
قوله: (ويكره مس فرج بيمين بلا حاجة) يعني: اليمين تنزه عن أن يمس بها فرجه في الاستنجاء أو الاستجمار، أو أن يمسك ذكره بيمينه تكريماً لليمين، لكن إذا كان أقطع أو مشلولاً أو نحو ذلك جاز له ذلك للضرورة.
أما استقبال النيرين فجعلوها من المكروهات، ولعل الصواب أنه لا مانع من ذلك، والنيران هما: الشمس والقمر، ولا دليل على الكراهة إلا لما فيهما من نور الله، واستنبط بعض العلماء جواز الاستقبال والاستدبار من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) وقالوا: إنه أمر أهل المدينة إذا جلسوا لقضاء الحاجة أن يشرقوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس طالعة، وأن يغربوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس غاربة، وكذلك القمر، والغالب أنهما يكونان في المشرق والمغرب.(1/10)
المحرمات عند قضاء الحاجة
ثم ذكر المصنف المحرمات فقال: (وحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان) .
وردت أحاديث كثيرة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، واختلف في قضاء الحاجة إذا كان في البنيان، فأكثر الفقهاء استثنوا البنيان، وحملوا عليه حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيحين وهو مذكور في العمدة: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً الشام مستدبراً الكعبة) ، وحملوا عليه بعض الأحاديث الواردة في ذلك.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني في النيل والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) أنه لا يجوز لا في صحراء ولا في بنيان لعموم الأحاديث، وحملوا الأحاديث التي فيها الاستقبال أو الاستدبار أنها من الأفعال، وهي تحتمل أنها للخصوصية، والحكمة في ذلك تنزيه القبلة التي يستقبلها المصلي، سواء في صحراء أو في بنيان، فتنزه عن أن يستقبلها الذي يقضي حاجته بفرجه أو يستدبرها بدبره، فيكون في ذلك استهانة بهذه القبلة.
فالراجح: أنه لا يستقبلها لا في بنيان ولا في صحراء، لكن إذا كان هناك ضرورة عفي عن ذلك، كما في حديث أبي أيوب يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل) .
قوله: (ويحرم لبثه فوق حاجته) ، يعني: إطالة جلوسه وهو على نجاسته بغير حاجة كما هو فعل الموسوسين، بل عليه إذا قضى حاجته واستنجى أن يخرج.
قوله: (ويحرم بوله في طريق مسلوك ونحوه، وتحت شجرة مثمرة ثمراً مقصوداً) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) الطريق المسلوك، والظل الذي يستظل فيه الناس؛ لأنهم ربما وقعوا في النجاسة، وكذلك الثمرة المقصودة، كثمر العنب والنخل ونحو ذلك؛ لأنه قد يتساقط فيتلوث بالنجس.(1/11)
مسنونات قضاء الحاجة
ذكر المصنف بعد ذلك المسنونات فقال: (يسن أن يستجمر ثم يستنجي بالماء) .
يعني: يجمع بينهما، فيبدأ بالاستجمار الذي هو التمسح بأحجار أو نحوها، ثم يستنجي بالماء، ويجوز أن يقتصر على أحدهما، فإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الماء أفضل، وإن جمعهما بدأ بالاستجمار ثم الاستنجاء.
والاستجمار يسن فيه أن يمسح ثلاث مسحات، إما بالمناديل المعروفة، وإما بالأحجار أو نحوها، يمسح ثلاث مسحات منقية للمخرجين: لمخرج البول ومخرج الغائط.
ولا يجوز الاستجمار إلا بطاهر مباح يابس منقٍ، فلا يستجمر بالنجس، يعني: بالأشياء النجسة، سواء كانت مائعة أوسائلة، فلا يستجمر ولا يتمسح بعظام الميتة أو لحمها ولو يابساً، أو دم متجمد، أو روث حمار أو نحوه، وكذلك لا يغتصب شيئاً يستجمر به، ولا يستجمر إلا بالشيء اليابس؛ لأنه إذا استجمر بالرطب لن يحصل به النقاوة، والعادة أن الاستجمار لا يكون إلا بالأحجار اليابسة أو بالمناديل والخرق والأعواد ونحوها، ولابد أن يكون منقياً، والذي لا ينقي مثل الشيء اللزج ونحوه.
ويحرم الاستجمار بالروث والعظم لما جاء في الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالروث والعظم وقال: إنهما لا يطهران) ، وفي حديث آخر علل بأنهما طعام الجن، وأن الروث علف لدوابهم، وإذا كان يحترم طعام الجن من العظام فإن طعام الإنس أولى كالخبز اليابس ونحوه، وكذلك كل محترم، فلا يتمسح بأوراق كتب علم أو بغلاف كتاب أو ما أشبه ذلك.
وكذلك كل متصل بحيوان، فلا يتمسح بذنب بقرة أو برجلها ونحو ذلك.
ويجزئ الاستجمار وحده بشرط: ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، فإذا انتشر الغائط على صفحات الإليتين فلا ينقى إلا الماء، وكذلك البول إذا ترطب به رأس الذكر والحشفة ونحو ذلك فلابد من الماء.
والاستجمار يكون بثلاث مسحات منقية فأكثر، ويسن قطعه على وتر، كما ورد في حديث: (ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) ، فإذا استنجى باثنتين جعل ثالثة حتى تكون وتراً، فإذا لم ينق إلا بأربع زاد خامسة، فإذا لم ينق إلا بست زاد سابعة، هذا معنى فليوتر.(1/12)
فضل السواك ومشروعيته
قوله: (يسن السواك بالعود كل وقت إلا لصائم بعد الزوال فيكره) .
يعني: السواك مسنون في كل وقت، والسواك هو: هذا العود الذي تدلك به الأسنان، يؤخذ من أراك أو من زيتون أو نحوه، ولكن أكثر ما يستعمل من الأراك، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة، وتكلم عليه العلماء قديماً وحديثاً، وألف فيه بعض المعاصرين رسالة ماجستير بعنوان: (السواك خلف المجهر) يعني: أنه حقير عند بعض الناس، ولكن المجهر يكبر الشيء، وكأنه يقول: أكبره.
والسواك له حكم كثيرة، وفي الحديث: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ، فالحكمة في شرعيته تنظيف الفم، وتنظيف الأسنان، والمحافظة عليها من التآكل، والمحافظة على الفم من التغير؛ لأن الفم طريق النفس، وكل ما يتبخر من الجوف يمر من الفم، ولأنه طريق الأكل، فالغالب أنه يبقى بين الأسنان شيء من بقايا الطعام فيحتاج إلى إزالتها.
يقول: (يسن السواك بالعود كل وقت إلا لصائم بعد الزوال فيكره) هذا فيه خلاف، والصحيح: أنه لا يكره، لا قبل الزوال ولا بعده، رجح ذلك كثير من العلماء كـ ابن تيمية وابن القيم، والذين كرهوه قالوا: إنه يزيل الخلوف، والخلوف أطيب عند الله من ريح المسك، وحقق ابن القيم أنه لا يزيله؛ لأن الخلوف هو ما يخرج من المعدة من أثر خلو المعدة من الطعام، والسواك لا يزيل الخلوف، إنما يزيل ما بين الأسنان من النتن وكذلك نتن الفم؛ فلا يكره.
ويتأكد السواك عند الصلاة والوضوء ونحوه، ويتأكد إذا قام إلى الصلاة، حتى ورد حديث ذكره الناظم الذي نظم منظومة في السواك حيث يقول: به الصلاة فضلت سبعين رواه أحمد مسنداً يقيناً يعني: أنه ورد في حديث: (الصلاة التي يُستاك لها تفضل على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفاً) وإن كان في سنده مقال.
وكذلك عند الوضوء ورد فيه حديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) .
وعند تغير رائحة الفم، لاسيما بنوم، كان عليه السلام: (إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك) .
أو بتغير بطول سكوت، أو ببقاء أكل، أو باصفرار أسنان.
ويسن أن يبدأ بجانب طرف فمه الأيمن، ثم ينظف إلى الأيسر، عملاً بأنه عليه السلام كان يعجبه التيمن، وكذلك في الطهور، وفي الوضوء يبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى، وبرجله اليمنى قبل اليسرى، كما كان عليه السلام يحب التيمن في تنعله وترجله، وفي أمره كله.(1/13)
استحباب الادهان غباً
وبعد ذلك ذكر المصنف أنه يسن أن يدهن غباً، وفي بعض البلاد تكون هناك حرارة ويبوسة، فيحتاج إلى أن يبل جسده بالدهن، فيدهن وجهه، ويدهن يديه ورجليه، ولكن إذا لم يكن هناك دافع فلا حاجة للإكثار منه.(1/14)
استحباب الكحل والتطيب
يسن الاكتحال بالإثمد، وهو علاج للعين، وهو من أنفع الأكحال، ويسن أن يكتحل في كل عين ثلاثاً يوماً بعد يوم.
ويسن أن ينظر في المرآة لينظر وجهه، وكان عليه السلام ينظر فيها ويقول: (اللهم كما حسنت خَلقي فحسن خُلقي) .
ويسن التطيب، وكان عليه السلام يحب الطيب، ويحب الرائحة الطيبة، ويقول: (من عرض عليه طيباً فلا يرده، فإنه طيب الرائحة، خفيف المحمل) .(1/15)
سنن الفطرة
بعد ذلك ذكر سنن الفطرة التي قال صلى الله عليه وسلم: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشعر، وتقليم الأظفار ونتف الآباط) .
والاستحداد هو: حلق الشعر الذي حول الفرج في الرجال والنساء، وجعله الله تعالى حول هذا الفرج ليكون مخففاً للشهوة أو ليكون حماية وعلامة على العورة، فيسن حلقه.
الشارب: الشعر الذي ينبت على الشفة العليا سُمي شارباً؛ لأنه إذا طال ينغمس في الشراب، فيسن حفه، والحف هو: القص من غير حلق، ويسن أن يقص بالمطراق، ولا يحلق بالموسى.
وتقليم الأظفار: من اليدين أو من الرجلين؛ وذلك لأنها تشوه إذا طالت، ويجتمع فيها أوساخ، وقد تكون حائلة بينها وبين وصول الماء إلى البشرة.
ونتف الإبط هو: الشعر الذي يكون في الإبط، فمن السنة إزالته ولكونه رقيقاً لا يشق نتفهه فينتفه، وهذه من خصال الفطرة.
وقدر بعضهم المدة بأربعين يوماً وقيل: في وقت الحاجة، فمن الناس من يطول شاربه في كل أسبوع أو كل عشرة أيام فيحتاج إلى حفه، وكذلك أظفاره، وكبير السن قد يكون طولها عنده أقل، وقد لا تطول إلا في مدة طويلة تصل إلى أربعين يوماً.(1/16)
حكم القزع
يكره القزع، وهو: حلق بعض الرأس وترك بعضه، قال صلى الله عليه وسلم: (احلقه كله، أو اتركه كله) وسواء كان المحلوق من جانب أو من جانبين أو من الوسط أو من المقدم أو من المؤخر فهذا هو القزع، وهذه الكراهة كراهة التحريم.(1/17)
حكم نتف الشيب
يكره نتف الشيب؛ وذلك لأن الشيب نور وبهاء في الإنسان، فلا يجوز أن ينتفه هرباً من الشيب؛ وذلك لأن الله تعالى هو الذي قدر أن يكون الإنسان في أول عمره شعره أسود، ثم ينقلب إلى أبيض.(1/18)
حكم ثقب أذن الصبي
وثقب أذن صبي لا يجوز؛ لأن ثقب أذن الأنثى هو لأجل الحلي، فالأنثى تثقب أذنها لأجل ما يسمى بالقرط، أو الخرص، وهو: قطعة من ذهب تعلق في أذن الأنثى، فأما الصبي فلا يجوز؛ لأن ذلك يعتبر مثلة.(1/19)
حكم الختان
قوله: (ويجب الختان للذكر والأنثى) ، أما الذكر فإنه واجب، وأما الأنثى فإنه غير واجب؛ لكنه مكرمة، والصحيح: أنه واجب في الرجل لأجل تكملة الطهارة؛ لأن القُلفة التي تكون في رأس الذكر قد يصعب غسل داخلها؛ فلأجل ذلك إذا قطعت وظهر رأس الذكر كان الغسل سهلاً، فقطعها هو لأجل أن تتم الطهارة؛ ولهذا لو مات قبل أن يختن فلا يشرع ختنه؛ ولأن هذه الجلدة تعود في الآخرة حيث لا يكون في الجنة بول ولا غائط ولا نجاسة.
أما ختان الأنثى فهو: أخذ لحمة صغيرة من الفرج كعرف الديك، ولا تستأصل، بل يقطع منها بعضها، وفي الحديث أنه قال للخافضة: (أشمي ولا تنهكي) أي: لا تبالغي.
ومتى يجب الختان؟ يجب بعد البلوغ، ساعة مايبلغ، أو قبل ذلك مع أمن الضرر، فإذا خاف على نفسه جاز تأخيره.
ويسن في الصغر؛ وذلك لأنه في ذلك الوقت ليس له عورة محترمة، والأفضل أن يكون في سابع ولادته، وإذا خيف عليه الضرر فيؤجل، ولكن الأصل أن يرجع بذلك إلى العادة وما يحدث بعدها، فإذا أمنت المضرة فلا بأس أن يُختن ولو في اليوم الأول، وإلا فالأصل أنه يكون في اليوم السابع أو ما بعده، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/20)
شرح أخصر المختصرات [2]
الطهارة والنظافة شعار المؤمن، وقد حث الشرع على الطهارة، وأوجبها عند القيام ببعض العبادات كالصلاة ونحوها، فعلى المؤمن أن يلازم الطهارة؛ فإنها سيما هذه الأمة يوم القيامة، وعليه أن يستنزه ويبتعد عن النجاسات حتى يحبه الله عز وجل، فإن الله أخبر في كتابه أنه يحب المتطهرين.(2/1)
الوضوء وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكر المؤلف فيما سبق أن المياه ثلاثة أقسام، واختار شيخ الإسلام أن الماء قسمان: طاهر، ونجس، وأن الحد الفاصل بينهما هو التغير.
وذكرنا أن ما سموه طاهراً في نفسه لا يرفع الحدث، هو في الغالب لا يسمى ماءً، حيث إنه يكتسب اسماً آخر كأن يسمى لبناً أو مرقاً أو قهوة أو شاهياً أو نحو ذلك.
وذكرنا في باب الآنية أن الراجح: أن جلد الميتة يطهر بعد الدبغ، لقوة الأدلة في ذلك، وهي واضحة الدلالة، والحديث الذي تمسك به من قال: إنها لا تطهر فيه اضطراب.
وذكرنا في الاستنجاء أن مسح الذكر باليد اليسرى بعد البول ونتره لا دليل عليه، والحديث الذي فيه ضعيف، وأنه يسبب السلس، كما وقع ذلك كثيراً.
وذكرنا في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان أنه رجح شيخ الإسلام عدم جوازه كما لا يجوز في الصحراء، أخذاً بعموم الأحاديث التي فيها النهي.
كذلك ذكرنا أن السواك يصح للصائم قبل الزوال وبعده، والحديث الذي فيه: (إذا صمتم فاستاكوا أول النهار ولا تستاكوا آخره) لا يصح، والتعليل أيضاً غير صحيح.
هذه الأمور التي نبه عليها العلماء في المخالفات، سواء كانت مأمورات أو منهيات، والآن نبدأ فيما يتعلق بالوضوء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: فروض الوضوء ستة: غسل الوجه مع مضمضة واستنشاق، وغسل اليدين، والرجلين، ومسح جميع الرأس مع الأذنين، وترتيب، وموالاة، والنية شرط لكل طهارة شرعية غير إزالة الخبث، وغسل كتابية لحل وطء، ومسلمة ممتنعة.
والتسمية واجبة في وضوء وغسل وتيمم، وغسل يدي قائم من نوم ليل ناقض لوضوء، وتسقط سهواً وجهلاً.
ومن سننه: استقبال قبلة، وسواك، وبداءة بغسل يدي غير قائم من نوم ليل، ويجب له ثلاثاً تعبداً، وبمضمضة فاستنشاق، ومبالغة فيهما لغير صائم، وتخليل شعر كثيف، والأصابع، وغسلة ثانية وثالثة، وكره أكثر، وسن بعد فراغه رفع بصره إلى السماء، وقول ما ورد.
فصل: يجوز المسح على خف ونحوه، وعمامة ذكر محنكة أو ذات ذؤابة، وخُمُر نساء مدارة تحت حلوقهن، وعلى جبيرة لم تجاوز قدر الحاجة إلى حلها، وإن جاوزته أو وضعها على غير طهارة لزم نزعها، فإن خاف الضرر تيمم، مع مسح موضوعة على طهارة.
ويمسح مقيم، وعاصٍ بسفره من حدث بعد لبس يوماً وليلة، ومسافر سفر قصر ثلاثة بلياليها، فإن مسح في سفر ثم أقام أو عكس فكمقيم.
وشرط تقدم كمال طهارة، وستر ممسوح محل فرض، وثبوته بنفسه، وإمكان مشي به عرفاً، وطهارته، وإباحته ويجب مسح أكثر دوائر عمامة، وأكثر ظاهر قدم خف، وجميع جبيرة.
وإن ظهر بعض محل فرض أو تمت المدة استأنف الطهارة.
فصل: نواقض الوضوء ثمانية: خارج من سبيل مطلقاً، وخارج من بقية البدن من بول وغائط وكثير نجس غيرهما، وزوال عقل، إلا يسير نوم من قائم أو قاعد، وغسل ميت، وأكل لحم إبل، والردة، وكل ما أوجب غسلاً غير موت، ومس فرج آدمي متصل، أو حلقة دبره بيد، ولمس ذكر أو أنثى الآخر لشهوة بلا حائل فيهما، لا لشعر وسِن، ولا بها، ولا من دون سبع، ولا ينقض وضوء ملموس مطلقاً.
ومن شك في طهارة أو حدث بنى على يقينه.
وحرم على محدث مس مصحف وصلاة وطواف، وعلى جنب ونحوه ذلك، وقراءة آية قرآن، ولبث في مسجد بغير وضوء.
فصل: موجبات الغسل سبعة: خروج المني من مخرجه بلذة، وانتقاله، وتغييب حشفة في فرج أو دبر، ولو لبهيمة أو ميت بلا حائل، وإسلام كافر، وموت، وحيض ونفاس.
وسُن: لجمعة، وعيد، وكسوف، واستسقاء، وجنون وإغماء لا احتلام فيهما، واستحاضة لكل صلاة، وإحرام، ودخول مكة، وحرمها، ووقوف بعرفة، وطواف زيارة، ووداع، ومبيت بمزدلفة، ورمي جمار.
وتنقض المرأة شعرها لحيض ونفاس لا جنابة إذا روت أصوله.
وسُن توضؤ بمد، واغتسال بصاع، وكره الإسراف، وإن نوى بالغسل رفع الحدثين أو الحدث وأطلق ارتفع.
وسن لجنب غسل فرجه، والوضوء لأكل وشرب ونوم ومعاودة وطء، والغسل لها أفضل، وكره نوم جنب بلا وضوء] .
المؤلف كما رأينا يختصر كثيراً، فإنه اقتصر على فروض الوضوء ولم يذكر صفته؛ وذلك لأنه إذا أتى بهذه الفروض فقد أتى بالوضوء المطلوب، وكذلك إذا حافظ على سننه وشروطه وواجباته، وهذه الأشياء التي هي السنن والواجبات والشروط وما أشبهها، مأخوذة من عمومات الأدلة.(2/2)
تعريف الوضوء
الوضوء: مسمى شرعي، لا تعرف العرب هذا الاسم إلا من حيث العموم، يعني: مشتق من الضوء الذي هو النور، قيل: لأنه ينير للمتوضئ الطريق إلى العبادة، وقيل: لأنه ينور هذه الأعضاء، أي: ينظفها، أو لأنه ينورها في الآخرة تنويراً حسياً، حيث ورد أن هذه الأمة يعرفون بالغرة والتحجيل كما هو مشهور.(2/3)
شروط الوضوء وفروضه
شروط الوضوء تسعة: من شرطه الإسلام، فلا يصح الوضوء من كافر، والعقل فلا يصح من فاقده، والتمييز فلا يصح من الصغير الذي لا يميز إلى آخرها.
وفروضه ستة: يعني: بالتتبع وجد أنها لا تخرج عن ستة، والمراد: اللازمات والواجبات فيه، وكأنهم بهذا فرقوا بين الفرض والواجب، والجمهور على أنه لا فرق بينهما.
فهاهنا جعلوا هذه هي الفروض وجعلوا الواجب هو التسمية، والفرق بينهما: أن الواجبات تسقط سهواً وجهلاً، وأما الفروض فلا تسقط سهواً ولا جهلا.
والذين فرقوا بينهما كالحنفية قالوا: الفرض آكد، وهو: ما ثبت بدليل قطعي، والواجب: ما ثبت بدليل ظني، ولعل هذا اصطلاح خاص بالأحناف، وإلا فالفرض والواجب تعريف كل منهما واحد، فالواجب هو: ما يثاب فاعله احتساباً ويعاقب تاركه تهاوناً، فيدخل في ذلك الفروض، فإنه يثاب من فعلها تقرباً إلى الله تعالى، ويعاقب من تركها عصياناً وتهاوناً بها، فيعم الفروض والواجبات.
قوله: (وفروض الوضوء ستة: غسل الوجه مع مضمضمة واستنشاق) الوجه: ما تحصل به المواجهة، يعني: المقابلة فلا يدخل فيه الرأس الذي هو منبت الشعر؛ لأنه غالباً يستر بالعمامة والقلنسوة، ولا تدخل فيه الأذنان، فالغالب أنها تستر بالعمامة ونحوها، وتدخل فيه اللحية والعارضان؛ لأنها تحصل بهما المقابلة والمواجهة، فعلى هذا يلزم غسل الشعر كما سيأتي.
والمضمضة والاستنشاق ألحقا بالوجه، والجمهور على أنه واجب أن يتمضمض ويستنشق.
والمضمضة: تحريك الماء في الفم، والاستنشاق: اجتذاب الماء إلى الأنف بقوة النفس، والحكمة تنظيف الفم؛ لأنه قد يكون فيه شيء من الوسخ بعد الأكل وطول الصمت ونحو ذلك؛ ولذلك شرع تنظيفه بالسواك، وكذلك تنظيف الأنف -يعني: المنخرين- لأنهما قد يتحلل منهما شيء من الرأس من المخاط ونحوه، فشرع تنظيفه معه، حتى يأتي الإنسان إلى الصلاة نظيفاً بقدر ما يستطيع.
واستدل على الوجوب بقوله في الحديث: (إذا توضأت فمضمض) وفي حديث آخر: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، واستدل بأن الوجه يدخل فيه ما يلحق به كالعينين، فالمنخران تابعان له، ويلزم غسل داخلهما بقدر الاستطاعة، والفم أيضاً داخل، فيجعلونه في حكم الظاهر؛ لأنه إذا وضع في فمه ماءً وهو صائم ثم مجه لم يفطر، فدل على أن حكمه حكم الظاهر، ولو وضع في فمه جرعة خمر ثم مجها ما حُد لذلك، ولو أن الصبي الذي في سن الرضاع صب في فمه لبن المرأة ثم مجه لم يعد ابناً لها، فدل على أنه في حكم الظاهر، فيلزم تنظيفه.
وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: إنه في حكم الباطن؛ لأنه لا تحصل به المواجهة، فداخل الفم وداخل الأنف لا تحصل بهما المواجهة، فالأنف يستره المنخران، والفم تستره الشفتان، وبكل حال ثبت الفعل الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه أنه كان لا يترك المضمضة والاستنشاق، وكان هذا مبيناً للآية الكريمة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] .
وغسل اليدين وغسل الرجلين فرضان بلا خلاف، وحد اليدين إلى المرفقين، والصحيح: دخول المرفقين في اليدين، وتكون إلى في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] أي: مع المرافق، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ يدير الماء إلى أعلى مرفقيه من جوانبه، مما يدل على أنه يدخل المرفق في الغسل، وكذا الكعبين يغسلهما مع القدمين، والكعب هو: العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وفي كل قدم كعبان من الجانبين، وينتهي الكعب بمستدق الساق، فنهاية الكعب وعروقه وما يغسل منه هو مستدق الساق، فيكون الغسل إلى ذلك المكان.
ومن الواجبات مسح الرأس مع الأذنين، والرأس هو: ما ينبت فيه الشعر غالباً، يعني: منابت الشعر المعتاد من نهاية الجبين إلى القفا، ورد مسحه مبتدئاً بالناصية لحديث عبد الله بن زيد: (أنه صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، فأقبل بهما وأدبر) والواو هاهنا ليست للترتيب، ولكنها لمطلق الجمع، ثم فسر ذلك بقوله: (بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) هذه هي صفة المسح.
فيمررهما على الشعر إذا كان الشعر مسدولاً، أو معقوصاً، أو جعداً؛ لأن المرور يعم جميع الرأس.
واختلف في مسح الأذنين، هل يجوز مسحهما ببقية بلل الرأس أو يأخذ لهما ماءً جديداً؟ ورد في الحديث أنه: (أخذ لأذنيه ماءً جديداً) ، والصحيح: أنه أخذ الماء الجديد لرأسه، (فمسح رأسه بماء غير فضل يديه) ، هكذا ذكر في (بلوغ المرام) .
وصفة مسح الأذنين: إدخال السبابتين في صماخ الأذن، يعني: في خرقها، ومسح ظهور الأذنين بالإبهامين، يعني: يمرر الإبهامين عليها، وأما غضاريف الأذن فلا تمسح، لما في ذلك من مشقة.
وقد ورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الأذنان من الرأس) وهو صريح بأنهما يمسحان، وفي ذلك أحاديث مشهورة مروية عن عدة من الصحابة.
والسنة دلت على تعميم جميع رأسه بالمسح من أدناه إلى أقصاه، وخالف في ذلك الشافعية، فقالوا: يجزئ أن يمسح ولو بعض شعره، وهذا خلاف النصوص، فإن الوارد أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمم رأسه بالمسح، ولم ينقل أنه كان يقتصر على بعضه.
وذهبت الحنفية إلى أنه يكفي ربع الرأس، واستدلوا بحديث المغيرة: (أنه صلى الله عليه وسلم مسح ناصيته) وأجاب عن ذلك ابن كثير في التفسير بأنه مسح ناصيته؛ لأنها ظاهرة، وكمل المسح على العمامة، فإن في الحديث: (مسح ناصيته وعلى العمامة والخفين) ولم يقل: إنه اقتصر على مسح بعض الرأس، فمسح جميع الرأس هو فرض، ولا يجزئ بعضه، وهذا هو الأصل.
ومن الفروض أيضاً الترتيب، فالترتيب يكون على ما في الآية، فيبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم بالرأس، ثم يختم بالرجلين، والرجلان مغسولتان، كما أن اليدين مغسولتان، وعليه أن يتأكد من غسل رجليه؛ فقد ورد في الحديث: (ويل للأعقاب من النار) والأعقاب هي: مؤخر الأقدام، وذلك لأن الذي يتوضأ سريعاً قد يكون من سرعته أنه لا يتعهد مؤخر القدم، فيبقى فيه بقعة أو بياض، فأمر بأن يتعهد ذلك ويدلكه.
ومذهب الرافضة مسح الرجلين، وهو خلاف السنة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم مسحهما، بل كان يغسلهما، والسنة مبينة للقرآن.
فالترتيب يبدأه بوجهه، ثم بيده، ثم برأسه، ثم برجليه، فلو غسل يديه قبل وجهه لزمه إعادة غسلهما بعد الوجه، ولو غسل رجليه قبل أن يمسح رأسه لزمه غسلهما آخر وضوئه، ولو مسح رأسه قبل غسل يديه، لزمه أن يمسح رأسه بعد اليدين، حتى يكون وضوءه على ما ورد في الآية: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] فيتوضأ على هذا الترتيب، ويبدأ بما بدأ الله به، كما في الحديث.
والموالاة أيضاً فرض، والموالاة هي: أن يواليها ويسرع فيها، بأن يغسل كل عضو عقب الآخر ولا يتوقف، فإذا انتهى من غسل الوجه بدأ في غسل اليدين، ثم بعد اليدين يبدأ بمسح الرأس، وبعد الرأس يبدأ مباشرة في غسل الرجلين، فلو غسل وجهه ويديه ثم توقف ساعة أو نصف ساعة أو ربع ساعة ثم كمل لم يصح وضوءه؛ لأن الوضوء طهارة وعبادة، ولابد أن تكون متوالية في وقت واحد، ولا يصح أن يفرقها.
وحددوا ذلك: بألا ييبس عضو قبل غسل ما بعده، فلو يبس الوجه قبل غسل يديه أعاد غسل الوجه، إلا إذا كان هناك -مثلاً- ريح شديدة، أو حر وسموم، فإنه قد ييبس الوجه بسرعة، ولكن المراد الوضوء المعتاد.
وهناك بعض الموسوسين يبقى أحدهم في الوضوء ساعة أو ساعتين، ولا شك أن هذا من الشيطان، بحيث إنه يبقى يدلك يديه نصف ساعة، ويخيل إليه أنهما لم يبتلا، ويرجع يغسل رجليه ويدلكهما ساعة أو نصف ساعة على هذه الحال، ويعتبر أنه لم يتوضأ وضوءاً متوالياً، فعليه في هذه الحال إذا كان يشق عليه أن يتوضأ بسرعة في نحو دقيقة أن يعيد الوضوء متوالياً.
ومن فروض الوضوء: النية، وهي شرط لكل طهارة شرعية، والنية هي: عزم القلب على الفعل، بأن ينوي بقلبه أن يعمل فعلاً من العبادات الشرعية، فالطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، تسمى كل هذه طهارات شرعية، فلابد لها من النية، فلو أن إنساناً غسل وجهه لإزالة نعاس أو نحو ذلك، ثم غسل يديه لنظافتهما ولم ينو الوضوء في ذلك ثم قال: سأكمل الوضوء، فمسح برأسه وغسل رجليه فنقول: يلزمه أن يعيد غسل وجهه ويديه؛ لأنه غسلهما بدون نية رفع الحدث، وإنما بنية رفع النعاس أو بنية النظافة أو ما أشبه ذلك.
وكذلك إذا اغتسل للتنظيف ولم يغتسل لرفع الجنابة، فإنه لا يرتفع حدثه.
والحاصل: أن النية شرط للطهارة كالوضوء والغسل والتيمم.
أما إزالة النجاسة فلا يشترط لها النية، فلو كان لك ثوب نجس ثم أصابه المطر وغمره طهر، أو وقع في سيل فغمره طهر، أو كان في نعله نجاسة فخاض بها في سيل أو في نهر بدون نية طهر.
وكذلك مما لا يشترط له النية غسل الكتابية، وكذا المسلمة الممتنعة لحل وطء، فإذا طهرت الحائض لا يحل وطؤها إلا بعد الغسل، فإذا امتنعت المسلمة أجبرها زوجها على الاغتسال، فغسلها مجبرة بدون نية يبيح الوطء، ولكنه لا يرفع حدثها، ولا يباح لها الصلاة بذلك، وكذلك إجبار الكتابية.
قوله: (والتسمية واجبة في وضوء وغسل وتيمم وغسل يدي قائم من نوم بليل) فالتسمية هي: قول: (باسم الله) ، وقد ورد فيها حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وهذا الحديث روي من عدة طرق عن عدة من الصحابة، ولكن طرقه ضعيفة لا تبلغ درجة الصحة، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يصح في هذا الباب شيء، ولكن يقولون: بمجموع تلك الطرق يتقوى، ويكون دليلاً على الوجوب، فيسمى قبل غسل اليدين، فإذا أراد أن يغسل يديه فإنه يقول: باسم الله، ثم يغسل يديه، ثم يتمضمض، ثم يكمل الوضوء.
وكذلك عند الاغتسال إذا أراد أن يغتسل قبل الوضوء يبدأ بالبسملة ثم يكمل.
وكذلك التيمم، فعندما يتيمم بالتراب يقول: باسم الله.
وهكذا من قام من نوم ليل نوماً مستغرقاً ناقضاً لوض(2/4)
سنن الوضوء
من سنن الوضوء: استقبال القبلة، يعني: أن يكون مستقبل القبلة حال الوضوء، ولكن لم يرد دليل في ذلك.
ومن سننه: السواك، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) .
ومن سننه: أن يبدأ بغسل يديه من غير قيام من نوم ليل؛ لأن غسل يدي القائم من نوم الليل واجب، ولكن غيره يغسل كفيه ثلاثاً؛ لأنهما الآلة التي يغترف بهما، فيغترف الماء باليد ويغسل بهما وجهه، ويغترفه باليد ويغسل يديه، وهكذا يغسل رجليه بيده، فلابد أن ينظف اليدين، وتنظيفهما سنة.
أما من نوم الليل فإنه يجب أن يغسلهما قبل الوضوء ثلاثاً، واختلف في العلة في ذلك، واختار المؤلف أنه أمر تعبدي، لا تعرف فيه الحكمة؛ لأنه -مثلاً- لو جعل يديه في كيس حتى أصبح لوجب عليه أن يغسلهما.
ومن السنن: أن يقدم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، فإن أخرهما جاز.
ومن السنن: المبالغة فيهما لغير صائم.
والمبالغة بالمضمضة هو: أن يحرك الماء بقوة في فمه، والمبالغة في الاستنشاق هو: أن يجتذب الماء بقوة النفس إلى أقصى خياشيمه حتى ينظفه، وأما الصائم فلا يبالغ مخافة أن يدخل إلى حلقه.
ومن السنن: تخليل شعر الوجه الكثيف، فإذا كان شعر اللحية كثيفاً فإنه يخلله، بأن يدخل فيها أصابعه حتى يصل إلى أصوله، وإذا اقتصر على غسل ظاهره إذا كان كثيفاً كفى، وضابط الكثيف: أنه الشعر الذي يستر البشرة، والخفيف هو: الذي تُرى البشرة من ورائه، فالخفيف يجب غسل داخله وظاهره.
ومن السنن: تخليل الأصابع، ويتأكد التخليل في أصابع القدمين؛ لأنها غالباً ملتصقة، فيدخل أصابع يديه بين أصابع رجليه حتى يتأكد من وصول الماء، وتخليل أصابع اليدين مستحب لأنها متفرقة يستطيع أن يدخل بعضها في بعض، والعادة والمعروف أن أصابع اليدين متفرقة، وأن الماء يصل إليها.
ومن السنن التثليث، بأن يغسل كل عضو ثلاث مرات: الوجه ثلاث غسلات، وكل يد يغسلها ثلاثاً، وكل رجل ثلاثاً؛ لأن الثلاث هي أكمل، والغسلتان دونهما، ومن اقتصر على غسلة واحدة فقد ارتفع حدثه، ومن غسل كل عضو مرتين فهو أفضل، والثلاث أفضل من الاثنتين، وما زاد على الثلاث لا يجوز، مكروه كراهة التحريم، وقد ورد النهي عن الإسراف، فروي في الحديث: (لا تسرف ولو كنت على نهر جارٍ) .
ومن السن: أن يرفع بصره إلى السماء ويقول ما ورد، فرفع بصره إلى السماء هو لذكر الله تعالى، وكأنه لما أراد أن يدعو الله ويذكره رفع بصره، والذي ورد أنه يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله) وورد أيضاً أنه يقول: (اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين) وإن قال بعد ذلك شيئاً من الأدعية، كأن يقول: (واجعلني من ورثة جنة النعيم) وهو من الدعاء الذي قاله إبراهيم عليه السلام؛ جاز ذلك.(2/5)
أحكام المسح على الخفين
انتقل المؤلف بعد ذلك إلى المسح على الخفين، والمسح على الخفين رخصة لهذه الأمة، وهي من الرخص التي فيها تيسير للعبادة، والخف هو: ما يصنع من جلود الإبل أو البقر ونحوها، ويجعل على قدر القدم، ويجعل له موطئ كالنعل، ويجعل له غطاء تربط فيه وتخرج في أصل النعل، ثم بعد ذلك يجعل له مدخل تدخل معه القدم، ثم يعقد على الساق، ويلبس للتدفئة، وللوقاية من البرد، فالمسح عليه من الرخص، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه.
وأنكر ذلك الرافضة ونحوهم من المبتدعة، ولأجل ذلك يذكر العلماء مسائل الخفين في كتب العقيدة؛ وذلك لأن المخالفين فيه هم مخالفون في العقائد.
قوله: (ونحوه) كما يوجد في هذه الأزمنة ألبسة على الأقدام منها ما يكون تحت الكعبين، ومنها ما يكون فوق الكعبين، فالذي يكون فوق الكعبين كالذي يسمى (البسطار) أو نحوه، وينظم على الساق يلحق بذلك، ويمسح عليه، والذي دون الكعبين لا يُمسح عليه؛ وذلك لأنه لا يستر القدم.
ومما ورد المسح عليه الجورب، وهي: عبارة عن منسوج من صوف أو نحوه يستر القدم، وينظم على الساق، فيمسح عليها إن كانت تكفي عن الأحذية، يعني: تنسج من الصوف أو من الشعر، وتكون غليظة تلبس على القدم، ويجعل تحتها رقعة من الجلد تمكن مواصلة المشي فيها، هذه هي الجوارب التي يجوز المسح عليها، ولابد أن تكون قوية النسج بحيث إنه لا يخرقها الماء.
وجاءت في هذه الأزمنة ما يسمى بالشراب، وسميت جوارب، وترخص الناس بالمسح عليها، وتوسعوا في ذلك، ونحن نقول: إذا كانت قوية بحيث إنه لا يخرقها الماء أو لا يخرقها إلا بعد صب كثير فإنه يمسح عليها، فأما إذا كانت شفافة أو رقيقة فلا يمسح عليها؛ وذلك لأنها لا تحصل بها التدفئة المطلوبة، ولأن الجوارب التي كانت في عهد الصحابة كانوا يجعلون تحتها رقعة من جلد ثم يمشون بها وحدها، وكانت تستر القدم كله، إلى مستدق الساق.(2/6)
جواز المسح على العمامة والجبيرة
يجوز أن يمسح الرجل على العمامة إذا كانت محنكة، وهي التي تشد على الرأس، ثم يجعل طرفها تحت الحنك، ثم تربط، ويشق نزعها.
أو ذات ذؤابة: وهي التي تدار على الرأس كله، وتربط ويجعل لها طرف بين الكتفين يتدلى خلف الظهر يُسمى الذؤابة؛ لأن في رفعها مشقة، فإذا لم يكن في رفعها مشقة كالغترة والقلنسوة التي هي الطاقية فإنه لا حرج ولا مشقة في رفعها، فيلزم رفعها ومسح ما تحتها.
وخمار المرأة إذا كان قد أدارته تحت حلقها يمسح، يعني: أن هناك نوعاً من الخمر تديره المرأة على رأسها، ثم تديره تحت حلقها، ويشق عليها رفعه؛ فيجوز أن تمسح عليه.
والجبيرة هي: ما يجبر به الكسر في اليد أو في الرجل أو نحو ذلك، فإذا جبرت الجبيرة على الكسر فإنه يمسح عليها إذا لم تتجاوز قدر الحاجة، ولا تحديد لها، بل يمسح عليها إلى حلها.
أما إذا جاوزت قدر الحاجة كما يعمل الآن في الجبس، فقد يكون الكسر قدر أربع أصابع، ثم يجعل الجبس على اليد كلها إلى نصف العضد، ففي هذه الحال يلزم نزعها، فإن خاف الضرر تيمم بعد المسح.
وهل يشترط أن توضع على طهارة؟ الصحيح: أنه لا يشترط؛ وذلك لأن الكسر يقع بغتة، فيفزع أهله إلى جبره بسرعة، ويشق عليهم أن يأمروه أن يتوضأ، سيما في ذلك العضو الذي قد انكسر، فيجوز المسح عليها ولو لبسها على غير طهارة، فإذا وضعها على غير طهارة فالصحيح: أنه لا يلزم نزعها، وإذا جاوزت محل الحاجة مسح عليها وتيمم عن الزائد إذا خاف الضرر بنزعها.(2/7)
المدة التي يمسح فيها على الخفين
مدة المسح للمقيم يوم وليلة، تبدأ المدة على الصحيح من أول حدث، هذا الذي عليه جمهور الفقهاء، وقيل: من أول مسح، والجمهور يرون أنه من أول حدث.
مثال ذلك: إذا توضأ لصلاة الفجر وغسل قدميه، ولبس الخفين، وانتقض وضوءه في الضحى في الساعة العاشرة، ولم يمسح إلا في الساعة الثانية عشر عند صلاة الظهر، فيمسح لصلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم توضأ في الساعة الحادية عشراً من اليوم الثاني فلا يمسح؛ لأن المدة قد انتهت، فإن توضأ في الساعة التاسعة مسح؛ لأن المدة لم تنته.
واختلف فيمن سافر سفر معصية، هل يمسح يوماً وليلة أو ثلاثة أيام، الفقهاء قالوا: يمسح يوماً وليلة؛ لأن العاصي لا يرخص له، والأقرب أنه مثل غيره كسائر المسافرين يمسح ثلاثة أيام بلياليها، ونحن نقول: يأثم بعصيانه، وأما الأحكام الشرعية فلا يختلف فيها العاصي وغيره.
والمسافر سفر قصر يمسح ثلاثة أيام بلياليها من باب التسهيل عليه؛ لأن السفر -كما ورد في الحديث-: (قطعة من العذاب) .
قوله: (ومن مسح في سفره ثم أقام أو عكس) مثلاً مسح لصلاة الظهر، ثم سافر بعد صلاة الظهر، فيمسح مسح مقيم يوماً وليلة، أو مسح وهو في السفر لصلاة الظهر ثم وصل البلد بعد الظهر أو قبل العصر فيمسح مسح مقيم، تغليباً لجانب الإقامة، واحتياطاً للعبادة، أما إذا أحدث -مثلاً- في الساعة العاشرة قبل أن يمسح، ثم سافر في الساعة الحادية عشرة ومسح وهو في السفر، فإنه يمسح مسح مسافر.(2/8)
شروط المسح على الخفين وصفته
المسح يشترط له شروط: الشرط الأول: أن يلبس الخفين بعد تمام الطهارة، فلا يلبس الخف الأيمن إلا بعد غسل رجله اليسرى، يعني: بعدما ينتهي من الطهارة، واستدلوا بقوله: (أدخلتهما وهما طاهرتان) يعني: ابتدأت بإدخالهما حال كونهما طاهرتين.
هذا قول.
القول الثاني: أنه يجوز أن يلبس الخف الأيمن قبل أن يغسل الرجل اليسرى إذا غسل الرجل اليمنى وطهرها، وهذا أقرب؛ وذلك لأنه أدخلها وهي طاهرة، ثم يغسل اليسرى ويدخلها وهي طاهرة، واستدل الشوكاني في النيل بحديث: (أدخلتهما وهما طاهرتان) فكلمة (وهما) يعني: وكل منهما.
الشرط الثاني: أن يكون الممسوح ساتراً لمحل الفرض، فإذا كان ساتراً لبعضه فلا يمسح عليها ولو كانت تنظم على القدم؛ لأنها ما سترت القدم كله، فلابد للخف أن يستر محل الفرض كله إلى منتهى الكعبين.
الشرط الثالث: أن يثبت بنفسه، فإذا كان لا يثبت إلا بإمساكه باليد فإنه لا يسمى خفاً، ولابد أن ينظم ويستمسك بنفسه، ولو شده بخيط أو نحوه.
الشرط الرابع: أن يمكن المشي فيه عرفاً، فإذا كان لا يمشي فيه أو إذا مشى فيه سقط، وإنما يثبت إذا جلس أو ركب فلا يمسح عليه؛ لأنه عرضة للسقوط.
الشرط الخامس: طهارته، فإذا كان نجساً نجاسة طارئة، أو نجاسة أصلية كالمنسوج من جلد شاة قبل الدبغ أو جلد حمار أو كلب ونحو ذلك فلا يمسح عليه؛ وذلك لأنه سيصلي حينئذ بنجاسة.
الشرط السادس: الإباحة، فإذا كان مغصوباً فلا يمسح عليه، هذا على القول المشهور عند الفقهاء.
والقول الثاني ولعله الأقرب: أنه يمسح عليه، ونقول له: أنت آثم بلبسه، سواء في الصلاة أو في غيرها.
وأما صفة المسح: فالعمامة يمسح أكثر دوائرها، يعني: أطرافها التي تدور على الرأس، فيمسح دوائرها، ويمسح وسطها؛ وذلك لأن العمامة بدلاً عن الرأس، والرأس يمسح كله، وأما الخف فيمسح ظاهره، من أصابعه إلى ساقه، وأما الجبيرة فيمسحها كلها.
قوله: (متى ظهر بعض محل الفرض استأنف الطهارة) فلو انحسر الخف، وظهر الكعب؛ بطلت الطهارة بعد المسح، فيلزم أن يستأنفها.
وكذلك متى تمت المدة بطلت الطهارة، فلو تمت المدة في الساعة الثانية ظهراً، وجاء وتوضأ للظهر اليوم الثاني، وبقي على طهارته إلى العصر، فنقول: انتقض وضوءك في الساعة الثانية التي هي تمام يوم وليلة، فيلزمه أن يخلع ويجدد الوضوء.(2/9)
نواقض الوضوء
نواقض الوضوء هي: مبطلاته، وذكر المصنف أنها ثمانية، وفي بعضها خلاف: الناقض الأول: ما خرج من السبيلين، فهو ناقض، سواء كان له جرم، أو ليس له جرم كالريح، فإنه يعتبر ناقضاً، وسواء كان طاهراً أو نجساً، فلو خرج من دبره حجر أو خيط يابس أو دود طاهر، فإنه يعتبر ناقضاً؛ وذلك لأنه خارج من مخرج نجاسة، ولا خلاف في هذا.
الناقض الثاني: النجس الخارج من بقية البدن، الخارج من البدن إما أن يكون طاهراً أو نجساً، فإن كان طاهراً فلا ينقض، مثل: العرق والدموع واللعاب والمخاط، فهذه طاهرة لا ينقض خروجها الوضوء، أما النجس فمثل القيح، والصديد، والدم، والبول، والغائط، وقد يقول قائل: كيف يخرج البول والغائط من غير المخرج؟ فنقول: نعم، فلو انسد دبره ففتح له مخرج مع جنبه أو مع ظهره فإن ما خرج منه يعتبر ناقضاً، إلا إذا كان لا يتحكم فيه، فيعتبر كصاحب السلس، وكذلك لو انسد مخرج البول، ففتح له من المثانة فوق العانة أو نحو ذلك فإنه يعتبر ناقضاً، وسواء كان قليلاً أو كثيراً.
أما الخارج النجس من غيرهما فلا ينقض إلا الكثير، فلا تنقض -مثلاً- قطرة دم أو قطرتان، أو قيح أو صديد أو نحو ذلك، واختلف في القيء -وهو ما يسمى بالتطريش- هل ينقض أو لا؟ والصحيح: أنه ينقض إذا كان كثيراً متغيراً برائحة أو بلون، ولا ينقض إذا كان ليس متغيراً، أو كان قليلاً.
الناقض الثالث: زوال العقل، فالمجنون قد لا يشعر بحالته فلا يدري ما يخرج منه، فربما يخرج منه الريح والبول ونحو ذلك ولا يشعر، فإذا كان متوضئاً ثم جن ولو يسيراً انتقض وضوءه، وكذا الإغماء والغشية من نواقض الوضوء أيضاً؛ لأنه لا يشعر بنفسه، أما النوم فإذا كان يسيراً من قاعد أو قائم فلا ينقض، وأما إذا كان مضطجعاً فإنه ينقض ولو كان يسيراً؛ لأنه قد يستغرق، وحد القليل أو اليسير هو ما يبقى معه شعور بنفسه؛ وذلك لأنه إذا استغرق وهو قاعد سقط على جنبه.
الناقض الرابع: تغسيل الميت، وقد ورد فيه أحاديث، وفيها شيء من الخلاف، فورد ما يدل على أن من غسله أنه يغتسل: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) ولكن لعل الأقرب أنه يكفيه الوضوء، وذهب بعضهم إلى أنه لا حاجة إلى الوضوء إذا كان متوضئاً إلا إذا مس عورته أو نحو ذلك.
الناقض الخامس: أكل لحم الإبل، وفيه أيضاً خلاف مع الشافعية، والقول الصحيح: أنه ناقض، والشافعية يرون أنه غير ناقض لأحاديث ترك الوضوء مما مست النار، مع أن الأحاديث الصحيحة تدل على أنه ناقض للوضوء.
واختلف هل كل جميع أجزائها تنقض أو يختص باللحم؟ أكثر الفقهاء على أنه يختص باللحم الأحمر، والقول الثاني -ولعله الأرجح-: أنه ينقض جميع أجزائها، فإذا أكل من الكبد أو من الكرش أو من القلب أو من اللسان فكل ذلك يلحق باللحم.
الناقض السادس: الردة؛ لأن الردة عن الإسلام تبطل الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] والوضوء عمل شرعي، فإذا ارتد بطلت أعماله، ومنها الوضوء.
الناقض السابع: ما أوجب غسلاً، فكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً، ومن موجبات الغسل إذا انتقل المني من الصلب ولم يخرج فإنه يغتسل.
الناقض الثامن: مس فرج آدمي متصل أو حلقه دبره بيده، وهذا أيضاً فيه خلاف، وكذلك الخلاف في قوله: (منفصل) فهل ينقض المنفصل كالذكر المقطوع أم لا؟ والصحيح أنه خاص بالمتصل، والخلاف فيه طويل، وكذلك النقض بمس الدبر فيه خلاف، ولعل الأقرب أنه لا ينقض مس الذكر إلا إذا كان يثير الشهوة.(2/10)
الخلاف في نقض الوضوء من لمس المرأة والعكس
اختلف في مس الرجل المرأة، أو مس المرأة الرجل بشهوة، فالجمهور على أنه يختص بالذكر، فإذا مس المرأة بشهوة بلا حائل فالأقرب أنه لا ينقض إلا إذا كانت الشهوة حادة، وذهبت الشافعية إلى أنه ينقض مطلقاً، واستدلوا بقول الله تعالى: {أَوْ لمَسْتُمْ النِّسَاءَ} [النساء:43] على إحدى القراءات، والصحيح: أنه لا ينقض إلا لشهوة، فإن كان وراء حائل لم ينقض، ولا ينقض مس شعرها، أو مس الظفر، أو السن.
وكذلك لو مسها بظفره أو مسها بشعره.
وكذلك لا ينقض مس طفلة دون سبع سنين؛ لأنها ليست محلاً للشهوة.
ووضوء الملموس لا ينتقض، فإذا مس امرأة بشهوة لا ينتقض وضوءها، وكذلك لو مسته بشهوة منها وهو لم يمسها لا ينتقض وضوءه.
قوله: (من شك في طهارة أو حدث بنى على اليقين) صورة ذلك: إذا شك وقال: هل أنا تطهرت أم لا؟ أو انتقض وضوءه مثلاً في الساعة العاشرة، فقال: لا أدري هل أنا توضأت بعد ذلك الوقت أم لا؟ ففي هذه الحالة نقول: الحدث يقين، والطهارة مشكوك فيها، فعليك تجديد الطهارة، والعكس إذا قال: أنا أتحقق أنني توضأت في الساعة العاشرة ولا أدري هل انتقض وضوئي أم لا؟ ف
الجواب
يبقى على طهارته؛ لأن الأصل الطهارة؛ فلا تزول إلا بيقين.(2/11)
حكم مس المصحف للمحدث
المحدث الذي انتقض وضوءه بواحد من هذه النواقض لا يجوز له مس المصحف، وفيه كلام كثير، ولكن الراجح: أنه لا يمسه، والآية صريحة في هذا: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:79-80] والتنزيل هو هذا القرآن، فلا يمس هذا القرآن المنزل إلا المطهرون، وكذلك أيضاً ورد في السنة، وورد من فعل الصحابة، ورخص فيه بعض العلماء بتأويلات، والصحيح أنه لا يمسه إلا طاهر.(2/12)
يحرم على المحدث الصلاة والطواف
لا تصح الصلاة إلا بطهور، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ، وقال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، وقال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] أي: إذا قمتم وأنتم محدثون فاغسلوا.
ولا يجوز أن يطوف إلا وهو متطهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ، ولقول الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] ، فلابد أن يكون الطائفون متطهرين، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يطوف توضأ.
فيحرم على الجنب الذي عليه جنابة مس المصحف، والصلاة، والطواف، وكذلك المرأة الحائض التي لم تغتسل.
ويحرم عليهم قراءة القرآن ولو من الحفظ، وبالنسبة إلى الحائض فيها خلاف، وأباح كثير من المشايخ أنه يجوز لها قراءة القرآن إذا خافت النسيان، وأنه يجوز للجنب قراءة آية على أنها دعاء، كقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] أو على أنها ذكر كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] .(2/13)
حكم المكث في المسجد للجنب والحائض
قوله: (يحرم على الجنب ونحوه كالحائض اللبث في المسجد بغير وضوء) ، يعني: يحرم عليه أن يمكث في المسجد وهو غير متوضئ، وقد ورد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أرادوا أن يجلسوا في حلقة التعليم وعليهم جنابة توضئوا وجلسوا، ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولا شك أن ذلك دليل على أنهم فهموا أن الوضوء يخفف الجنابة، وأباحوا للجنب أن يدخل المسجد لحاجة كعابر سبيل، كأن يدخل من باب ويخرج من باب، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] فقالوا: (عابري سبيل) يعني: قاطع طريق، أي: جعله طريقاً لحاجة.
فهذه نواقض الوضوء ذكرناها مع الاختصار، وذكرنا ما فيه خلاف قوي، وما هو الأصل فيه، على ما ذكره الفقهاء.(2/14)
موجبات الغسل
ذكر المصنف أن موجبات الغسل سبعة، والغسل يراد به غسل البدن كله، أي: ما يمكن وصول الماء إليه.
وهذه الموجبات هي: الأول: خروج المني من مخرجه بلذة، واشترط بعض العلماء لخروج المني الموجب للغسل شرطان: الأول: الدفق.
والثاني: اللذة.
يعني: أن يخرج في اليقظة ويشعر بلذة عند خروجه، فإذا كان يسيل سيلاناً كالبول فلا يوجب غسلاً، وكذلك إذا خرج دفقاً، يعني: اندفاعاً ولم يصحبه لذة، واستثنوا من ذلك النائم، فإنه إذا وجد المني قد خرج منه فإنه يغتسل؛ لأن النائم لا يشعر به حالة خروجه.
الموجب الثاني: انتقاله، وهو أن ينتقل من الصلب متوجهاً إلى مكان خروجه ولكن لم يخرج، فيغتسل له، فإذا خرج بعد ذلك فلا يعيد الاغتسال، ولكن يتوضأ؛ لأنه خارج من أحد السبيلين.
الموجب الثالث: مسمى الوطء، وحدّه: تغييب حشفة في فرج أصلي قبل أو دبر ولو لبهيمة أو ميت بلا حائل، وفيه أيضاً كلامٌ كثير، والصحيح: أنه يوجب الغسل.
والذين قالوا: لا يوجب، استدلوا بالحديث الذي فيه: (الماء من الماء) يعني: أن الاغتسال لا يكون إلا بعد الإنزال.
والذين قالوا: يوجب، استدلوا بحديث: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ، فإذا غيّب الرجل رأس ذكره إلى محل الختان ولو في بهيمة، أو دبر، أو ميت، أو امرأة حلالاً أو حراماً وجب عليه الغسل، ولا شك أن الحرام يوجب الإثم، كالبهيمة، والدبر، والمرأة الحرام، ولكن مع ذلك يكون عليه جنابة.
واشترط: ألا يكون مع حائل، فإن كان من وراء ثوب فإنه لا يوجب.
الموجب الرابع: الكافر إذا أسلم؛ وذلك لأنه في حالة كفره نجس، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، وقد ورد أيضاً أنه عليه السلام أمر رجلاً أسلم أن يغتسل.
وذهب بعضهم: إلى أنه يستحب إلا أن يكون عليه نجاسة قبل أن يسلم كالجنابة التي لم يغتسل لها.
والأقرب: أنه واجب عليه.
الموجب الخامس: الموت، فإذا مات الإنسان وجب تغسيله، كما هو معروف.
السادس والسابع: الحيض، والنفاس، وهما مما يختص بالمرأة، لقول تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222] .
أما الاغتسالات المسنونة فكثيرة، منها: الأول: غسل الجمعة، وقد ذهب بعضهم: إلى وجوبه، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) .
وذهب بعضهم: إلى أنه ليس بواجب وأنه سنة.
وذهب آخرون إلى أنه واجب على من هو بعيد العهد بالنظافة؛ لأن هذا إذا كان به وسخ أو قذر أو نحو ذلك فإنه يؤذي المصلين، فيجب عليه، وأما إذا كان نظيف البدن فلا.
الثاني: الغسل للعيد، قياساً على الجمعة؛ لأن فيه اجتماعاً عاماً.
الثالث: الاغتسال لصلاة الكسوف، قياساً أيضاً على الجمعة، ولكن ليس هناك دليل.
الرابع: الاغتسال للاستسقاء، ولعل الأقرب: أنه يكتفى بالوضوء لعدم الدليل؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لما وقع الكسوف قام فزعاً إلى الصلاة، ولم ينقل عنه أنه اغتسل.
الخامس: الجنون، فإذا أفاق أحد من جنون فإنه يغتسل؛ وذلك لأنه لا يدري ما حدث فيه.
السادس: الإغماء، والغشية، فإذا غشي عليه ثم أفاق فليغتسل، ثبت أنه عليه السلام في مرض موته أغمي عليه، فلما أفاق قال (ضعوا لي ماء في مركن فاغتسل، ثم ذهب ليقوم فأغمي عليه) فإن وجد احتلام في الجنون أو الإغماء فإنه يكون واجباً، ولا يكون مسنوناً.
السابع: الاغتسال للاستحاضة عند كل صلاة، كما ورد الأمر لها بأن تغتسل لكل صلاة أو تجمع الصلاتين في اغتسال واحد إذا شق عليها.
الثامن: الاغتسال عند الإحرام، وقال بعضهم بوجوبه، والصحيح أنه سنة.
التاسع: عند دخول مكة، وكان في ذلك الوقت بين الإحرام وبين دخول مكة قد يكون عشرة أيام أو أربعة أيام أو ثلاثة، فأما في هذه الأزمنة فالزمن قصير، يدخلها بعد أن يحرم بساعة أو نحوها، فلا حاجة إلى تجديد الغسل.
العاشر: إذا وصل إلى حدود الحرم، كما يقول المؤلف أيضاً: يغتسل لحرم مكة.
الحادي عشر: يغتسل للوقوف بعرفة.
الثاني عشر: الاغتسال لطواف الزيارة (طواف الإفاضة) .
الثالث عشر: الاغتسال لطواف الوداع.
الرابع عشر: الاغتسال للمبيت بمزدلفة.
الخامس عشر: الاغتسال لرمي الجمار.
هكذا عددوا هذه الاغتسالات، وأكثرها استحسان، وقالوا: لأنه عمل صالح فيسن أن يأتيه بنظافة، والصحيح: أنه لا دليل على ذلك، وأنه لا موجب للاستحباب إلا إذا كان الإنسان بعيد العهد بنظافة أو نحوها.(2/15)
حكم نقض الشعر للغسل الواجب
قالوا: تنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض والنفاس؛ وذلك لأن الغسل من الحيض ينبغي التنظيف فيه؛ ولأنه تطول مدتها وهي لم تغتسل، ولأنها في النفاس قد تبقى أربعين يوماً وهي لا تصلي، وكذلك ستة أيام أو عشرة أيام في الحيض، وهذه المدة تتسخ فيها، فيتأكد أن تنقض شعرها عند الاغتسال، أما في الجنابة فيكفي أن تروي أصوله، ولا حاجة أن تنقضه، لحديث أم سلمة قالت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر رأسي -تجعل رأسها ظفائر، يعني: قروناً- أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات) فلابد أنها تغرف عليه وتدلكه حتى يصل الماء إلى أصول الشعر.(2/16)
الاقتصاد بالماء في الوضوء والغسل
السنة أن يتوضأ الشخص بمد، ويغتسل بصاع؛ تلافياً للإسراف، ويكره الإسراف ولو كان الإنسان على البحر أو النهر، ويتوضأ بالمد، يعني: بمقدار المد الذي هو ربع صاع، ويغتسل بالصاع، وإذا كان يغتسل تحت (الرشاش) المعروف فإنه يحاول الاقتصاد وعدم الإسراف.(2/17)
النية في الغسل لرفع حدثين
إذا نوى الشخص بالغسل رفع الحدثين، أو رفع الحدث وأطلق، ارتفع الحدثان، فإذا كان -مثلاً- على المرأة حدثان: طهرت من الحيض، ولم تجد ماء فتيممت، ووطأها زوجها، ثم وجد الماء، فأصبح عليها موجبان: الجنابة والحيض، فإذا اغتسلت غسلاً واحداً، ونوت رفع الحدثين ارتفعا، وكذلك الرجل، مثلاً: لو وطأ امرأته ثم نام فاحتلم، وأصبح عليه موجبان: موجب الاحتلام، وموجب الوطء، فاغتسل بنية رفع الحدثين أو بنية رفع الحدث وأطلق ارتفع الحدثان.
ولو اغتسل لسنة الجمعة وعليه جنابة لم يتذكرها إلا بعد الاغتسال، فالصحيح: أنه يرتفع حدث الجنابة؛ لأنه اغتسل ناوياً الطهارة لصلاة الجمعة فيطهر.(2/18)
الأشياء التي تكره للجنب قبل الغسل وبيان أن الوضوء يخفف الكراهة
يسن للجنب أن يتوضأ ويستنجي إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء، والغسل له أفضل، كما جاء عن عمر أنه قال: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) وفي حديث عن عائشة وغيرها: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة) يعني: استنجى ثم توضأ وضوءه للصلاة؛ وذلك لأجل أن الأكل ولو كان مباحاً كل وقت فإنه نعمة من الله تعالى، فينبغي أن يُتطهر له، فإذا شقت عليه الطهارة خفف ذلك بالوضوء.
وقد تقدم أنه يسن إذا أراد الجنب أن يجلس في المسجد أن يتوضأ، وكذلك أيضاً إذا أراد أن يعود إلى الوطء، وقد ورد فيه حديث: (إذا وطأ أحدكم امرأته ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما) والاغتسال أفضل.
ويكره نوم جنب بلا وضوء، فأشدها كراهة النوم؛ لكثرة الأحاديث التي جاءت في النهي عن أن ينام أحد وهو جنب إلا بعد أن يتوضأ.(2/19)
الأسئلة(2/20)
معنى قول المصنف (وغسل كتابية لحل وطء ومسلمة ممتنعة)
السؤال
أحسن الله إليكم! فضيلة الشيخ! ما معنى قول المصنف: (وغسل كتابية لحل وطء ومسلمة ممتنعة) ؟
الجواب
معلوم أن الرجل يباح له أن يتزوج امرأة كتابية من أهل الكتاب، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] فإذا طهرت من الحيض فلا يحل له أن يطأها حتى تغتسل، فإذا امتنعت أجبرها، ومعلوم أن غسلها بإكراه بدون نية، فيجزئ هذا الغسل، ويحل له الوطء.
وكذلك المرأة المسلمة إذا طهرت من الحيض في الصباح، وأراد زوجها أن يطأها، وامتنعت من الاغتسال، وقالت: لا أغتسل حتى يأتي وقت الصلاة، فأجبرها حتى اغتسلت بدون نية، فغسلها يحل به الوطء.(2/21)
الكفاءة في النكاح
السؤال
فضيلة الشيخ! أحسن الله إليكم! ما حكم من أراد أن يتزوج غير قبيلية وهو قبيلي، وأبوه يصر على عدم زواجه منها ويقول: إن هذا يترتب عليه أمر عظيم؟
الجواب
هذه ترجع إلى العادات، والأصل أنه لا فرق بين العرب وبين الموالي، الموالي: والمولى هو: الذي يعرف بالخضيري والعرب يعرفون بالقبائل، فالأصل أنهم كلهم بنو آدم، وكلهم مسلمون، ولكن في ذلك خلاف قديم مذكور في كتب الفقه، كما في (المغني) و (المستوعب) ونحوها، ولكن الصحيح: أنه لا بأس بذلك، ولكن إذا كان يترتب على ذلك شيء من الخلافات ومن المشاكل ونحو ذلك، ويترتب على ذلك عقوق الوالدين؛ فعليه أن يلتمس رضا والديه، ويطيعهما.(2/22)
حكم مسح الرقبة في الوضوء
السؤال
فضيلة الشيخ! نرى بعض الناس يمسح الرقبة عند الوضوء، فهل لهذا أصل؟
الجواب
ورد فيه آثار، وذهب إليه الزيدية، فهم يرون أنه يسن مسح العنق، ورووا في ذلك حديثاً: (مسح العنق أمان من الغل) ، والصحيح: أنه لا يصح في ذلك شيء، وتجدون الآثار في ذلك مذكورة في (نيل الأوطار) ، وذلك لأن مؤلفه خالط أولئك الزيدية، ورأى عملهم هذا، وقرأ في كتبهم، فجمع ما يستدلون به، ولا يصح منها شيء.(2/23)
صلاة الرواتب للمسافر
السؤال
فضيلة الشيخ! نحن عازمون على إكمال الدورة العلمية، ونحن من خارج الرياض، فهل نصلي السنن الرواتب؟
الجواب
تصلون إلا إذا كان عليكم مشقة؛ وذلك لأن المسافر شرع له الجمع والقصر، وتسقط عنه السنن الرواتب لأجل المشقة، فإن كان عليكم مشقة وصعوبة وكلفة فإنها تسقط، وإذا لم يكن عليكم مشقة فتزودوا من الخير؛ فإن في هذه السنن فضلاً كبيراً، بل وفي جميع النوافل، يقول صلى الله عليه وسلم عن الله في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فالنوافل تصير سبباً في محبة الله تعالى للعبد.(2/24)
غسل الجنابة لمن يجعل على ذكره حائلاً
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا جامع الرجل وهو يلبس على ذكره حائل كالربل فهل عليه غسل؟
الجواب
نعم؛ وذلك لأنه حصل بذلك الإيلاج، ولو كان هذا الحائل مقصوداً، وأيضاً يحصل غالباً معه الإنزال، فلابد من الاغتسال من الرجل والمرأة.(2/25)
مقدار لحم الإبل الذي ينقض الوضوء
السؤال
يقول بعض العوام: إن أكل لحم الإبل بمقدار العصفور فأقل لا ينقض الوضوء، أفتونا مأجورين؟
الجواب
ينقض إذا كان له جرم، يعني: إذا أكل ما يحتاج إلى مضغ فإنه ينقض، أما الشيء الذي يتفتت كالذي يجعل في السنبوسة أو نحو ذلك فلا ينقض، ففي رمضان قد يجعل بعض لحم الإبل في بعض الأطعمة، ولكنه يفرم ويذوب؛ فيعفى عنه.(2/26)
حكم عدم توحيد العدد في الوضوء
السؤال
هل يجوز لي في حالة الوضوء أن أغسل وجهي ثلاثاً ويدي اثنتين ورجلي واحدة في وضوء واحد؟
الجواب
يجوز ذلك، يجوز أن يغسل كل عضو ثلاثاً، ويجوز أن يتوضأ ويغسل بعض الأعضاء ثلاثاً، وبعضها اثنتين، وبعضها واحدة.(2/27)
يجب الغسل بانتقال المني من الصلب
السؤال
من أحس بخروج المني من ذكره ولم يخرج، وصلى ولم يغتسل فهل يعيد الصلاة؟
الجواب
إذا أحس بانتقاله من الصلب فليغتسل، مثلاً: إذا ثارت شهوته أو حصل ما يحرك شهوته، بأن مس امرأة، أو حقق النظر إليها، أو نظر إلى صور أو نحو ذلك، ففي هذه الحال يغتسل إذا أحس بانتقاله، ولو لم يخرج.(2/28)
لبن الإبل لا ينقض الوضوء
السؤال
فضيلة الشيخ! شرب حليب الإبل هل ينقض الوضوء؟
الجواب
النقض خاص باللحم، أما اللبن فلا ينقض.(2/29)
حكم النوم عن صلاة الفجر
السؤال
ما حكم النوم عن صلاة الفجر ويتعذر فاعل ذلك بقوله: رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؟
الجواب
لا يجوز تعمد ذلك، والإنسان معروف أنه ينام، ولكن عليه أن يأتي بالأسباب، فينام مبكراً مثلاً، ويوكل من يوقظه للصلاة، أو يجعل عنده ساعة منبهة أو نحو ذلك.(2/30)
حكم من صلى بالمسح على الجبيرة الزائدة عن الحاجة جهلاً
السؤال
إذا مسح شخص على الجبيرة وهي زائدة عن الحاجة، وصلى بذلك مدة شهر مثلاً، وكان يمسح أعلى الجبيرة فماذا عليه الآن؟
الجواب
لا نلزمه أن يقضي الشهر كله، وإنما نقول: هذا شيء قد يشق عليك، وأنت معذور بالجهل، وفي المستقبل عليك أن تمسح جميع الجبيرة، ثم تتيمم عن الزائد.(2/31)
حكم التيمم عند وجود ماء لا يكفي إلا للشرب
السؤال
كنا في منطقة تبعد عن المدينة ما يقارب خمسة إلى عشرة كيلو مترات، وكان معنا ماء قليل، فتيممنا وصلينا، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
إذا كنتم على سيارة فلا يجوز؛ لأن السيارة تقطع هذه العشرة الكيلو مترات في عشر دقائق أو في خمس دقائق، فيجب عليكم أن ترسلوا سيارة تأتيكم بماء للوضوء، وليس في ذلك صعوبة، وإذا كنتم على أرجلكم وليس معكم سيارة فأنتم معذورون في هذه المدة.(2/32)
حكم مسح الشعر الطويل
السؤال
هل مسح المرأة على رأسها إذا كان الشعر طويلاً يكون عليه كله أم ماذا، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الصحيح: أن مسحه يكون إلى القفا، أما القرون التي تتدلى ذراعاً أو أكثر فلا يلزم أن تتبع، وكذلك الرجل قد يكون عليه شعر يتدلى إلى ظهره -مثلاً- فلا يلزمه أن يتتبع الشعر ويمسحه.(2/33)
غسل التبرد لا يرفع حدث الجنابة
السؤال
إنسان عليه جنابة واغتسل للتبرد فقط، ثم ذكر بعد أيام، فهل يعيد الصلوات التي كانت عليه بعد الجنابة؟
الجواب
الصحيح: أنه إذا اغتسل للتبرد لم يرتفع الحدث، فلابد أن يعيد الصلوات التي صلاها بعد الجنابة، وقبل الاغتسال لها.(2/34)
الوضوء الواحد يكفي لعدة صلوات
السؤال
تعودت الخروج من المنزل على وضوء، ويستمر هذا الوضوء حتى صلاة الظهر فهل أصلي به الظهر؟
الجواب
نعم، إذا كنت على وضوء فإنك تصلي به صلاتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى ينتقض الوضوء.(2/35)
حكم اغتسال الرجل بفضل ماء زوجته والعكس
السؤال
فضيلة الشيخ! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا يجنب) وأنا وزوجتي بعد الجماع نغتسل في المسبح أو المغطس الإفرنجي مع بعضنا جميعاً في وقت واحد، فهل ما نقوم به يرفع الجنابة، أرجو الإفادة؛ فأنا على هذا الحال منذ مدة طويلة؟
الجواب
قوله: (الماء لا يجنب) في حالة خاصة، وهو أنه كان عندهم ماء في قدح كبير، فاغتسلت منه ميمونة من جنابة، ثم جاء ليغتسل منه أو ليتوضأ فقالت: (إني كنت جنباً، فقال: إن الماء لا يجنب) فاغتسل منه، يعني: من بقية الماء، فلا يضر مثل هذا، وثبت أنه كان يغتسل هو وعائشة من إناء واحد يغترفان منه جميعاً، فلا بأس بذلك، وهكذا أيضاً إذا اغتسل الإنسان في المغطس مثلاً، فإذا امتلأ المغطس ماءً واغترفا منه جميعاً يجوز ذلك، وكذلك إذا اغتسلا من الرشاش لا بأس.(2/36)
حكم انغماس الجنب في الماء الراكد
السؤال
ظاهر السؤال يا شيخ! أنهم يجلسون في المغطس؟
الجواب
لا يجزئ الانغماس في الماء حتى ولو كان كثيراً، فإنه عليه السلام: (نهى أن يغتسل الرجل في الماء الراكد، قيل للراوي: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً) ، فإذا كان الماء راكداً فهذا لا يجزئ أن ينغمس فيه، وأما أن يغترف منه فلا بأس.(2/37)
حكم نقض الشعر عند غسل الجنابة
السؤال
أحسن الله إليكم! إذا كان للرجل ضفائر في شعره فهل ينقضها عند غسل الجنابة؟
الجواب
الصحيح أنه لا ينقضها إذا كان الماء يدخلها، وإنما يدلكها حتى يصل الماء إلى أصولها.(2/38)
الغسل بنية الوضوء يجزئ عن الوضوء
السؤال
شخص نوى الوضوء وهو يغتسل فهل يجزئ هذا عن الوضوء؟
الجواب
الصحيح أنه يجزئ، فإذا نوى الاغتسال دخل فيه الوضوء، وإن كان الأولى أن يتوضأ.(2/39)
حكم الاستياك بالأصبع أو الخرقة
السؤال
هل أصاب السنة من استاك بأصبعه أو بخرقة؟
الجواب
قال الفقهاء: إنه لا يصيب السنة، وإن كان يخفف، فإذا لم يجد إلا أصبعه دلك بها أسنانه، أو خرقة خشنة دلك بها أسنانه؛ حتى يخفف ذلك وإن لم يكن مصيباً للسنة.(2/40)
حكم تقديم اليسار على اليمين في الوضوء
السؤال
إذا غسل الشخص اليسار قبل اليمين سواء في اليدين أو في القدمين مستدلاً بعموم الآية فهل هذا صحيح؟
الجواب
ارتفع الحدث عنه، وإن كان ترك السنة، فيجوز ابتداء الغسل باليسرى قبل اليمنى ويرتفع الحدث.(2/41)
وجوب الترتيب في الوضوء
السؤال
ورد عن علي بن أبي طالب أنه توضأ ولم يرتب بين أعضاء الوضوء كما في جاء في أثر صحيح في كتاب تمام المنة؟
الجواب
لعل ذلك كان لعذر، أو أن ذلك كان وضوء تجديد، لا أنه وضوء من حدث، فالمشهور أنهم كانوا جميعاً يرتبون الوضوء، والصحابة كانوا يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم، وصلى الله على محمد.(2/42)
شرح أخصر المختصرات [3]
دين الإسلام دين السهولة واليسر، ولهذا رفع المشقة والحرج عن المكلف، ومن ذلك أن شرع التيمم عند فقد الماء أو تعذر استعماله، وأينما أدركت الإنسان الصلاة فعنده مسجده وطهوره، بل يجوز لمن فقد التراب أن يصلي على حاله، وكل هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة.(3/1)
أحكام التيمم
قرأنا في الدرس الماضي فروض الوضوء: ومنها مسح جميع الرأس، وذكرنا الأدلة على ذلك، وأدلة من اكتفى بمسح بعضه، وبينا أنها لا تصلح دليلاً، وذكرنا كذلك التسمية، ودليل من جعلها واجبة، والأحاديث التي فيها وإن لم تبلغ درجة الصحة بمفردها فإنهم يحتجون بمجموعها.
وقرأنا أيضاً المسح على الخفين، وفيه الخلاف في ابتداء المدة: هل مدة المسح تبدأ من أول حدث أو من أول مسح؟ على قولين، والمختار: أنه من أول حدث؛ وذلك لأنه حينئذٍ يكون أهلاً للمسح، ومن اختار أنه من أول مسح فلهم اختيارهم.
ومر بنا أيضاً: أن العاصي بسفره كالمقيم في مدته، وهذا اختيار كثير من الفقهاء.
والقول الثاني: أنه كالمسافر يمسح ثلاثة أيام ولو كان عاصياً بسفره.
وذكرنا الخلاف فيما إذا تمت مدة المسح وهو على طهارة: هل ينتقض وضوءه أم يبقى؟ والمختار أنه ينتقض إذا تمت المدة التي هي يوم وليلة وهو على طهارة، ورجّح البعض أنه يبقى على طهارته حتى ينتقض الوضوء، والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه ينتقض وضوءه، ويصير كأنه لم يغسل قدميه؛ لأن المسح عليهما قد بطل مفعوله.
ومرّ بنا أيضاً: أن من النواقض الخارج النجس من البدن إذا كان كثيراً غير بول أو غائط كالدم والقيء والصديد، وانعقد الاتفاق على أنها نجسة، فالصحيح أن خروجها ناقض، مع خلاف موجود في ذلك.
وكذلك مر بنا الخلاف في لحم الإبل، هل ينقض أو لا؟ والمختار أنه ينقض خلافاً للشافعية ونحوهم، وقد ورد فيه حديثان: حديث عن البراء وحديث عن جابر بن سمرة، ولا عذر في ترك العمل بهما.
وكذلك ذكرنا الخلاف في مس الفرج، في مس الرجل ذكره أو الأنثى قبلها، وفيه ثلاثة أقوال: قول: أنه ناقضٌ مطلقاً إذا كان بدون حائل.
وقول: أنه لا ينقض مطلقاً.
وقول: أنه ينقض إذا أثار الشهوة.
والاحتياط: أنه يتوضأ، ويعفى عنه إذا كان من غير قصد كما في الاغتسال، أو كان اللمس برءوس الأصابع أو بظهرها أو نحو ذلك.
ومرّ بنا في موجبات الغسل الخلاف في تغييب الحشفة في الفرج هل ينقض أو لا؟ فالجمهور على أنه يوجب الغسل.
وقد قع فيه خلاف بين الصحابة: فذهب بعضهم: إلى أنه لا ينقض إلا بالإنزال، لحديث: (إنما الماء من الماء) ، والآخرون رجحوا أن هذا منسوخ، ذكر ذلك المحققون كما في شرح الزركشي وغيره.
ومر معنا الخلاف في إسلام الكافر: هل يوجب الغسل أو لا؟ والصحيح: أنه يلزمه الغسل؛ وذلك لأنه قبل إسلامه نجس معنوياً.
ومر بنا ذكر الأغسال المستحبة، وهي كثيرة كما ذكرنا.
وكذلك نقض المرأة شعرها للغسل من الحيض أو النفاس، وفيه أيضاً خلاف، والمختار: أنها تنقض؛ وذلك لأنه حدث كبير، ولأنه يحتاج إلى تنظيف زائد، ولا يحصل هذا بمجرد الاغتسال.
ومر بنا ذكر مقدار الغسل، وأنه يتوضأ بمد، ويغتسل بصاع، والمد من البر: ملء كفين متوسطتين مجموعتين، وقدر ذلك من الماء؛ لأن الماء لا يكون له علاوة، بخلاف البر فإنه يكون له علاوة فوق اليدين، وكره الإسراف، يعني: الإكثار من صب الماء؛ لعموم الأدلة في النهي عن الإسراف مطلقاً.
هذه أهم المسائل الخلافية التي مرت في الدرس الماضي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يصح التيمم بتراب طهور مباح له غبار إذا عدم الماء لحبس أو غيره، أو خيف باستعماله ضررٌ ببدنٍ أو مال أو غيرهما، ويفعل عن كل ما يفعل بالماء سوى نجاسة على غير بدنٍ إذا دخل وقت فرض وأبيح غيره، وإن وجد ماءً لا يكفي طهارته استعمله ثم تيمم، ويتيمم للجرح عند غسله إن لم يمكن مسحه بالماء، ويغسل الصحيح، وطلب الماء شرط، فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد.
وفروضه: مسح وجهه، ويديه إلى كوعيه، وفي أصغر ترتيب وموالاة أيضاً.
ونية الاستباحة شرط لما يتيمم له، ولا يصلي به فرضاً إن نوى نفلاً أو أطلق.
ويبطل بخروج الوقت، ومبطلات الوضوء، وبوجود ماء تيمم لفقده.
وسن لراجيه تأخير لآخر وقت مختار، ومن عدم الماء والتراب أو لم يمكنه استعمالهما صلى الفرض فقط على حسب حاله ولا إعادة، ويقتصر على مجزئ، ولا يقرأ في غير صلاة إن كان جنباً.
فصل: تطهر أرض ونحوها بإزالة عين النجاسة وأثرها بالماء، وبول غلام إن لم يأكل طعاماً بشهوة، وقيئه بغمره به، وغيرهما بسبع غسلات، أحدها بتراب ونحوه في نجاسة كلب وخنزير فقط مع زوالها، ولا يضر بقاء لون أو ريح أو هما عجزاً، وتطهر خمرة انقلبت بنفسها خلاً، وكذا دنها، لا دهن ومتشرب نجاسة.
وعفي في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس ونحوه، من حيوان طاهر لا دم سبيل إلا من حيض، وما لا نفس له سائله، وقمل وبراغيث وبعوض ونحوها طاهرة مطلقاً، ومائع مسكر، وما لا يؤكل من طير وبهائم مما فوق الهر خلقة، ولبن ومني من غير آدمي.
وبول وروث ونحوها من غير مأكول اللحم نجسة، ومنه طاهرة، كمما لا دم له سائل.
ويعفى عن يسير طين شارع عرفاً إن علمت نجاسته، وإلا فطاهر.
فصل في الحيض: لا حيض مع حمل، ولا بعد خمسين سنة، ولا قبل تمام تسع سنين، وأقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر، وغالبه ست أو سبع، وأقل طهر بين حيضتين ثلاثة عشر، ولا حد لأكثره، وحرم عليها فعل صلاة وصوم، ويلزمها قضاؤه، ويجب بوطئها في الفرج دينار أو نصفه كفارة، وتباح المباشرة فيما دونه.
والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي، فإن لم يجاوز دمها أكثره اغتسلت أيضاً إذا انقطع، فإن تكرر ثلاثاً فهو حيض تقضي ما وجب فيه، وإن أيست قبله أولم يعد فلا، وإن جاوزه فمستحاضة، تجلس المتميزة إن كان وصلح في الشهر الثاني، وإلا أقل الحيض حتى تتكرر استحاضتها، ثم غالبه، ومستحاضة معتادة تقدم عادتها، ويلزمها ونحوها غسل المحل وعصبه، والوضوء لكل صلاة إن خرج شيء، ونية الاستباحة، وحرم وطؤها إلا مع خوف زنا.
وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً، والنقاء زمنه طهر، يكره الوطء فيه، وهو كحيض في أحكامه، غير عدة وبلوغ] .
هذا شيء من تتمة أحكام الطهارة، والطهارة بالماء هي الأصل، ولكن قد يشق تحصيل الماء أو استعماله، فأبيح أن يتيمم بدل الطهارة بالماء.(3/2)
تعريف التيمم
التيمم في اللغة: القصد، تقول: تيممت الشيء إذا قصدته، وسمي بذلك أخذاً من قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا} [النساء:43] أي: اقصدوا الصعيد الطيب فامسحوا، والأصل أن الماء هو الطهور الذي يرفع الأحداث ويزيل الأخباث؛ لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] ، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] ، ولكن قد يحتاج إلى الماء لقلته مثلاً، وقد يشق استعماله؛ فشرع التيمم.(3/3)
سبب مشروعية التيمم
ذكر في سبب شرعية التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه مسافرين في غزوة، وكانوا يسيرون ليلة مظلمة، فسقط عقد لـ عائشة، فلما سقط قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنيخوا ها هنا حتى الصباح) ولم يكن معهم ماء يتوضئون به، ولم يكونوا على ماء، فقال الناس لـ أبي بكر: ألا ترى إلى عائشة حبست النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟! وفي آخر الليل نزل الأمر بشرعية التيمم، نزلت فيه آيتان: آية في سورة النساء وهي قول الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] .
والثانية في سورة المائدة وهي قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، وفيها زيادة (منه) .(3/4)
التيمم من خصائص هذه الأمة
والتيمم يعتبر رخصة وتوسعة على هذه الأمة، وقد دلت السنة على أنه من الخصائص التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) أي: متى كان سائراً أو مسافراً فأدركته الصلاة وليس معه ماء، فإن عنده مسجده، أي: وجه الأرض يصلي في أي بقعة، وطهوره يعني: تراب الأرض يتطهر منه بالتيمم.
فهذا دليل على أنه من خصائص هذه الأمة.(3/5)
شروط التيمم
ذكر العلماء شروطاً للتيمم: فأولاً: هل يشترط أن يكون التيمم بتراب أو يجوز بغير التراب؟ الجمهور من الفقهاء على أنه لابد أن يكون بتراب، ومعنى هذا أنه لا يتيمم على صخرة، ولا على بلاط، ولا على فراش، ولا على بطحاء خشنة كالحصباء ونحوها.
والصحيح: أنه يجوز أن يتيمم من الجميع عند الحاجة، وذلك لقوله عليه السلام: (أيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) فقوله: (عنده) أي: ولو كانت الأرض رملية أو حصباء أو صخرية، فإن تيسر التراب طلبه، فإن شق عليه لم يلزمه أن يحمله.
وشدد بعض العلماء فقالوا: إذا كان أمامه أرضاً رملية فعليه أن يحمل معه تراباً ليتيمم منه، ذكر ذلك الشافعية في كتبهم، ولكن الصحيح أن عنده مسجده وطهوره، فيتيمم في أي مكان، فإن وجد التراب فهو أفضل، وإلا تيمم من الرمل أو من البطحاء أو غيرهما.
الشرط الثاني: أن يكون طهوراً، يعني: طاهراً، والله جعل هذا التراب طهوراً يقوم مقام الماء، فإذا كانت الأرض فيها نجاسة من أبوال أو رماد نجس أو أي شيء نجس فلا يجوز التيمم بها؛ لأن الله شرط الطيب في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] .
والأرض الوسخة لا تسمى صعيداًً طيباً، فالرمادية أو المزبلة أو التي يلقى فيها القمامات والفضلات أو المجزرة التي فيها الدماء والفرث والدم ونحو ذلك ليست أرضاً طيبة، ولا تدخل في قوله: (صعيداً طيباً) .
الشرط الثالث: أن يكون مباحاً، فعند بعض الفقهاء أنه لو تيمم في أرضٍ مغصوبة فلا يُرفع حدثه؛ لأنها ليست مباحة، وكذا لو دخل أرضاً بغير إذن أهلها، يعني: قد أحاطوها ومنعوها فدخل وتسلق حائطاً، يقولون: لا يباح أن يتيمم بها؛ وذلك لأنها غير مباحة.
والأقرب: أنه يرتفع حدثه، ويأثم بدخوله في أرض غيره، ولكن إذا تيمم فيها وصلى فيها، يرتفع حدثه، وتجزئة صلاته، ولا يؤمر بالإعادة، وإنما يقال: أنت آثم بدخول أرض غيرك قهراً، ولكن عبادتك لا نأمرك بإعادتها.
الشرط الرابع: قولهم: (له غبار) ، هذا شرط عند كثير من الفقهاء؛ لأن الله يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، وقوله: (منه) للتبعيض، أي: من بعضه، فالأرض التي فيها غبار إذا ضربها بكفيه علق الغبار، ثم مسح به وجهه، ومسح بالغبار كفيه، والتي لا غبار فيها إذا ضربها لا يعلق بيديه شيء، فبأي شيء يمسح؟! هذا قول.
والقول الثاني: أنه لا يشترط الغبار، وأن قوله: (منه) أي: بعد أن تضربه ولو لم يعلق {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] يعني بما ضربتم فيه، فالعادة أن اليد إذا ضربت في الأرض قد يلتصق بها بعض حبات التراب كالرمل والبطحاء ونحو ذلك، وكذلك الغبار ولو كان يسيراً، فيصدق عليه أنه مسح منه.
والأرض الرملية ليس لها غبار كما هو مشاهد، ولو ضربتها ما تطاير غبار.
وقد يكون هناك غبار على غير الأرض، مثلاً: إذا كان هناك فراش في مجلس، وبقي على عدم تنقيته عشرة أيام أو شهراً فضربته بيدك فإنه يتطاير منه غبار، بل قد يجتمع الغبار على غيره ولو كان مرتفعاً، فعلى هذا فله أن يضرب وجه الأرض سواء كان فيه غبار أم لا.
الشرط الخامس: عدم الماء، دليله قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) وكيف يعدم الماء؟ إذا حبس -مثلاً- ولم يستطع الوصول إلى الماء، فإنه يصلي بالتيمم، أو إذا سافر ومر بأرض صحراء ليس فيها ماء، فيجوز له أن يتيمم، ولو كان معه ماء يحبسه لشربه أو لطبخ طعامه يتيمم؛ لأن الوضوء له بدل، والشراب ليس له بدل.
وكثير من الناس بعد وجود السيارات يتساهلون، فإذا خرجوا -مثلاً- مسيرة عشرين كيلو متراً أو أربعين كيلو متراً تيمموا ومعهم مياه كثيرة، تكفيهم لو توضئوا، وكذلك توجد حولهم مزارع أو قرى، وقد يكون البلد قريباً، ومع هذا يتيممون، ففي مثل هذا لا يجب التساهل إذا كان معهم ماء، ولا يقولون: إننا لسنا على آبار أو مساكن أو نحوها، فإن الماء الذي معهم كثير، ومعلوم أنه لو قل الماء الذي معهم لأرسلوا وارداً يأتيهم بالماء، بل لو فقدوا حاجة كملح الطعام لأرسلوا من يأتيهم به، مما يدل على أن عندهم القدرة على تحصيل الماء، فلا يجوز التيمم والحال هذه، والتيمم مع وجود الماء أو مع القدرة على إحضاره يعتبر تساهلاً؛ لأن الله قال: (فلم تجدوا ماء) ، وقد تشدد الحنابلة في طلب الماء، فقالوا: إذا دخل الوقت لزمه أن يطلب الماء، ويبحث عنه فيما حوله، فإذا بحث لعله يجد مستنقعاً أو يجد غديراً أو يجد بئراً أو نحو ذلك، فيبحث ولا يتيمم إلا إذا تحقق وتيقن أنه ليس عنده ماء.(3/6)
جواز التيمم مع وجود الماء إذا تعذر استعماله
يباح التيمم إذا خيف باستعمال الماء أو طلبه الضرر، فإذا خاف أنه إذا استعمله تضرر بعطش له أو لرفقته أو لدوابهم فيتيمم، وكذا إذا استعمله وفيه جرح إذا غسله تضرر أو إذا ذهب يطلبه خاف ضرراً، كأن يكون هناك عدوٌ يخافه ويترصد له، فالضرر يكون بالبدن أو بالمال أو بغيرهما، والضرر بالبدن كالجرح، فإذا كان إذا غسله تضرر فله أن يعدل إلى التيمم، والضرر بالمال مثلاً إذا توضأ عطشت دابته أو نحو ذلك، والضرر في غيرهما كالرفقة، فإذا كان معه رفقة وإذا توضأ بالماء تضرروا فإنه يتيمم.(3/7)
يباح بالتيمم كل ما يباح بالطهارة بالماء
إذا تيمم فعل كل ما يفعل بالماء، سوى نجاسة على غير بدن، يعني: إذا تيمم جاز له أن يصلي، وجاز له أن يقرأ في المصحف، وإذا كانت المرأة حائضاً مثلاً وطهرت وتيممت جاز لزوجها وطؤها، وكذلك إذا تيمم جاز له أن يصلي على جنازة، أو نحو ذلك، فيفعل كل ما يفعله إذا توضأ بالماء.
إلا نجاسة على غير بدن، النجاسة التي على غير البدن -يقولون: لا يرفعها التيمم.
واختلف في النجاسة التي على الثوب: إذا لم يجد إلا هذا الثوب، ولم يجد سترة يستر بها بدنه، أو كان يصلي فأصابته نجاسة كبول أو غائط أو دم أو غير ذلك، فهل يتيمم لها؟ الأقرب: أنه يتيمم لها إذا لم يجد ثوباً غير هذا.
وأما النجاسة التي على القدح -مثلاً- أو على الفراش فلا يرفعها التيمم؛ لأن تطهيرها ليس ضرورياً للصلاة.
وأما النجاسة التي على البدن إذا تنجس ولم يجد ماء يغسله فيرفعها التيمم؛ لأنه إذا تيمم رفع الحدث، ورفع النجاسة التي على بدنه.(3/8)
وقت التيمم
متى يجوز التيمم؟ يجوز بعد دخول الوقت، فلا يتيمم قبله، فلا يتيمم لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر، ولا يتيمم لصلاة الظهر قبل الزوال، ولا للمغرب قبل الغروب، ولا للعشاء قبل غروب الشفق، بل لابد أن يكون التيمم بعد دخول الوقت؛ وذلك لأنها استباحة عبادة؛ لهذا فلا يتيمم إلا بعد ما يدخل الوقت، وإذا كان يصلي غير الفرض فلا يتيمم إلا بعد ما يباح الفرض، مثلاً: إذا طلعت الشمس انتقض تيممه لصلاة الفجر، فإذا أراد أن يصلي صلاة الإشراق فيتيمم إذا أبيحت النافلة، وهي تباح إذا خرج وقت النهي بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ويقدر ذلك بربع ساعة أو بنحو عشر دقائق بعد طلوع الشمس، فإذا أبيحت النافلة تيمم لها.(3/9)
الذي لا يجد ماءً كافياً لغسل جميع أعضائه يتيمم للباقي
من وجد ماء لا يكفي لطهارته كلها استعمله وتيمم للباقي، وجد ماء قليلاً ملء الكأس، فغسل به وجهه، وغسل به ذراعيه، وانتهى الماء، فيتيمم عن الباقي، أي: عن مسح الرأس وغسل الرجلين؛ وذلك لأنه وجد ماء فاستعمله فانتهى ذلك الماء قبل تكميل الطهارة فيتيمم للباقي.
وهل يتيمم قبل أن تنشف أعضاؤه؟ الصحيح: أنه يتيمم بعد ما تنشف أعضاؤه؛ لأنه سيتلوث بالتراب إذا تيمم ويده رطبة.(3/10)
تحديد وقت التيمم للجرح
إذا كان فيه جرح فمتى يتيمم للجرح؟ قيل: عند غسله إن لم يمكن مسحه بالماء، وهذا قد يكون فيه مشقة، وصورة كلامهم: أنه إذا كان الجرح مثلاً في يده اليسرى في الذراع، وعليه لصوق أو نحوه، فيبدأ فيغسل وجهه مع المضمضة والاستنشاق، ثم يغسل يده اليمنى، ثم يغسل الكف اليسرى، ويغسل ما يقدر عليه من ذراعه اليسرى كالمرفق ونحو ذلك، ويبقى هذا الجرح الذي لا يقدر على مسحه، وإذا مسحه قد يتضرر، فيتيمم له في هذه الحال قبل مسح الرأس، فإذا تيمم له كمّل الوضوء، فمسح على رأسه وغسل رجليه، هذا معنى تيممه للجرح عند غسله؛ لأن هذا من الترتيب.
لكن قد يشق عليه أن يتيمم وقت وضوئه، وقد يكون التراب الذي حوله غير صالح، وقد يتوضأ في داخل الحمام، والحمام مبلط أو نحوه، فالأقرب أنه إذا انتهى من وضوئه كله تيمم لهذا الجرح، أما إذا قدر على مسحه فإنه يمسحه، فيبل يده ثم يمسح الجرح إذا كان بارداً، فإن كان عليه شاشة أو جبيرة مسح عليها وكفى، وتقدم أنها إذا كانت زائدة عن قدر حاجته فيتيمم عن الزائد، وإذا كان فيه جرح فيغسل أعضاءه الصحيحة، فإذا كان الجرح -مثلاً- في وسط الذراع غسل الكف، وغسل أول الساعد وغسل المرفق، ويبقى الوسط الذي فيه هذا الجرح أو فيه هذه الجبيرة، فهذا هو الذي يتيمم له.(3/11)
اشتراط طلب الماء قبل التيمم
قوله: (طلب الماء شرط) يعني: لازم أن يطلبه، والصحيح: أنه إذا علم أنه ليس حوله الماء، فإنه لا يلزمه الطلب، وهم يقولون: إذا دخل الوقت فإنه يمد نظره من هنا ومن هنا، ويمشي قليلاً ويسأل، فإذا رأى -مثلاً- خضرة تدل على إمكان أن يكون هناك ماء أو ما أشبه ذلك ذهب إليها، هذا طلب الماء.
ولعل الأولى أنه إذا كان متحققاً أن الأرض قاحلة ليس فيها ماء تيمم، وإن لم يطلبه، فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد، مثلاً إنسان تيمم في صحراء وهو يعلم أن فيها ماء، وأن هناك عيناً أو بئراً أو (ماكنة) قريبة منه، فتيمم لأنه فقد علم مكانها، ونسي القدرة على الماء، فإنه يعيد؛ لأنه فرط.(3/12)
فروض التيمم
فروض التيمم اثنان: مسح الوجه، ومسح الكفين، أما فروض الوضوء التي تغسل فأربعة، ومسح اليدين يكون إلى الكوع عند الحنابلة، والكوع هو: المفصل الذي بين الكف والذراع، فمفصل الكف من الذراع يُسمى كوعاً، ومفصل الذراع من العضد يُسمى مرفقاً، والمسح إلى المرفقين مختلف فيه، والشافعية قالوا: يمسح إلى المرفق؛ لأن المسح بدل الغسل، واستدل الحنابلة بحديث عمار بن ياسر: أنه يكفي مسح الكفين فقط، ولكن لابد من مسح بطونها وظهورها وتخليل الأصابع؛ لأن الله قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:43] ولم يذكر حداً، ولم يقل: إلى المرافق، ولا إلى الآباط، فاليد عند الإطلاق تطلق على الكف؛ وذلك لأنها هي التي تعمل، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182] ، والذراع لا يعمل غالباً، فتكون اليد هي الكف، ولقوله: {تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:33] ، والسارق تقطع يده من الكوع، والدليل الذي يستدل به الشافعية على أن المسح إلى المرفق ضعيف لا يصح، وهو مروي في سنن الدارقطني: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ولكنه ضعيف.
وإذا كان التيمم بدلاً عن الوضوء فلابد فيه من الترتيب والموالاة، ويقولون: يجب الترتيب والموالاة إذا كان التيمم عن حدث أصغر، فإذا كان التيمم لرفع حدث أصغر -مثلاً- لأجل خروج الريح، أو لأجل بول أو لأجل أكل لحم إبل، أو نحو ذلك؛ فيكون أركانه وفروضه أربعة: مسح الوجه، ومسح الكفين، والترتيب، والموالاة، أما إذا كان عن حدث أكبر فلا يشترط ترتيب ولا موالاة؛ لأنهما لا يشترطان في أصله، فالغسل لا يشترط فيه الترتيب، ولا يشترط فيه الموالاة، فلو غسل أعلى جسده إلى بطنه في أول الليل، وغسل بقيته من بطنه فما تحت في آخر الليل أجزأ، يعني: لا تشترط فيه الموالاة، وكذلك لو بدأ بالاغتسال برجليه ثم بساقيه ثم بفخذيه ثم بحقويه ثم ببطنه وصدره ثم برأسه أجزأ؛ لأنه لا يشترط فيه ترتيب، فيقولون: إذا كان التيمم بدل الحدث الأصغر فلابد من ترتيب وموالاة، وإذا كان بدل الحدث الأكبر فلا حاجة إلى موالاة ولا ترتيب.
ولعل الأقرب: أنه يلزم الترتيب والموالاة في الأمرين؛ وذلك لأنه ليس فيه كلفة، فهما في مقام واحد، فيضرب الأرض ثم يمسح الوجه ثم يمسح اليدين لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بما بدأ الله به) ، فالله بدأ بالوجه فقال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] ، فهو قدم الوجه فنقدمه كما في الوضوء.
وكون الإنسان يضرب بيديه الأرض ثم يمسح وجهه، ثم بعد ساعة أو نصف ساعة يضرب ويمسح يديه هذا خلاف المعتاد، فالتيمم عبادة واحدة فلا يفرقها، لا في أكبر ولا في أصغر.(3/13)
اشتراط النية في التيمم
النية شرط للغسل لكل حدث، ونية الاستباحة شرط لما يتيمم له، ومعنى ذلك: أنه يجب أن ينوي بتيممه هذا صلاة الظهر مثلاً، وإذا كان في الضحى نوى بالتيمم صلاة الضحى، فينوي الصلاة التي يتيمم لها، ويدخل في هذا التيمم بقية العبادات، وإذا تيمم للظهر جاز له أن يصلي ركعتين قبلها، وركعتين بعدها مثلاً، وأن يمس المصحف، يعني: أن حدثه ارتفع بالتيمم.
ويقولون: إذا تيمم لنفل لم يصل به فرضاً، وصورة ذلك: إذا أصبح إنسان وتيمم لأجل أن يصلي صلاة الضحى، وتذكر بعد ذلك أنه لم يصل الفجر أو العشاء، فهل يصليها بهذا التيمم الذي تيممه لنية الضحى، ولنية التطوع أو يتيمم له تيمماً جديداً؟ عند الفقهاء أنه يتيمم له تيمماً جديداً؛ لأنه تيمم لنافلة فلا يصلي بها الفريضة، وهذا على القول بأن التيمم مبيح، ولعل الأقرب: أنه رافع، فالتيمم قيل: إنه يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً، وقيل: إنه لا يرفع الحدث، والحدث باق، ولكنه يبيح العبادة، وإذا قيل: إنه مبيح فمن تيمم لنافلة لم يصل فرضاً، وإذا قلنا: إنه رافع -ولعله الأقرب- فإنه يصلي فروضاً ونوافل، ولو كانت نيته أن يصلي صلاة نافلة كالضحى؛ وذلك لأنه ارتفع حدثه، فإذا ارتفع فلا يعود إلا بموجب.
قوله: (إذا نوى نفلاً أو أطلق) أي: لم ينو نفلاً ولا فرضاً، بل تيمم بالإطلاق، وقد عرفنا أن الصحيح: أنه إذا تيمم لنافلة صلى بها فرضاً.(3/14)
مبطلات التيمم
يبطل التيمم بخروج الوقت، هذا هو المشهور؛ وذلك لأنه حدد الوقت، فإذا تيممت لصلاة العصر وغربت الشمس وأنت على تيممك، ولم تأت بناقض من نواقض الوضوء؛ فجدد التيمم للمغرب، وإذا تيممت للمغرب وأنت لا تجمع، وجاء وقت العشاء؛ فجدد التيمم للعشاء، وهكذا، فيبطل التيمم بخروج الوقت؛ وذلك لأنه طهارة ضرورية تحدد بقدرها.
وكذلك يبطل بمبطلات الوضوء، يعني: بخروج ريح، أو ببول، أو بغائط، أو بخروج دم، أو بأكل لحم الإبل، أو نحو ذلك مما يبطل الوضوء.
ويبطل أيضاً بوجود الماء؛ لأنه محدد بفقد الماء، فإذا وجد الماء -وكان التيمم لأجل فقده- فإنه يبطل، فإذا حضر الماء بطل التيمم، كما يُضرب ذلك مثلاً.
واختلف فيما إذا وجد الماء وهو في الصلاة، هل يستمر في صلاته أو يقطعها؟ الأكثرون على أنه يقطعها، وبعضهم قال: إنه يستمر فيها؛ لأنه دخلها بطهارة، ولم يوجد ما يبطل هذه الطهارة، وعلى هذا إن استمر فلا بأس، ولكن الأولى أن يقطعها ويتوضأ.(3/15)
استحباب تأخير الصلاة لراجي الماء
قوله: (وسن لراجي الماء تأخير لآخر وقت مختار) يعني: راجي الماء، فله تأخير التيمم إلى آخر الوقت المختار، ووقت الصلاة ينقسم إلى قسمين: وقت اختيار، ووقت ضرورة، فوقت الاختيار في صلاة الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، فإذا كنت -مثلاً- تسير في الطريق، ووقت العصر يدخل في الساعة الثانية والثلث، وأنت تمشي ويمكن أنك تصل إلى الماء بعد ساعة قبل أن يخرج الوقت، وقبل أن يصل ظل الشيء مثليه، فالأولى أن تؤخره -أي: العصر- إلى الساعة الرابعة والثلث مثلاً، والأولى أن تؤخر التيمم؛ لأنك ترجو أن تصل إلى الماء، أو أرسلت من يأتي بالماء وتنتظره، فإن خفت أن يخرج وقت الاختيار فلك أن تتيمم، كذلك مثلاً إذا أرسل جماعة وارداً ثم أملوا أنه يأتيهم بماء قبل خروج وقت الاختيار فإنهم ينتظرونه، حتى يؤدوا الصلاة بماء.(3/16)
صلاة فاقد الطهورين
قوله: (من عدم الماء والتراب أو لم يمكن استعمالهما صلى الفرض فقط على حسب حاله ولا إعادة) يعني: من عدم الماء والتراب مثل المحبوس ونحوه، فقد لا يجد ماءً ولا تراباً في هذه الحال، فهو معذور إذا صلى بدون وضوء ولا تيمم، ولكن إذا تيسر له أن يتيمم على البلاط ونحوه فهو أفضل، وفي هذه الحالة يقولون: يقتصر على الفرض، فلا يصلي نوافل؛ لأن طهارته ناقصة، وكذلك أيضاً يقتصر على المجزئ فيقرأ الفاتحة فقط، ولا يقرأ معها سورة، ويقتصر من التسبيح على (سبحان ربي العظيم) مرة واحدة، و (سبحان ربي الأعلى) مرة واحدة، هكذا قالوا، ولعل الصواب: أنه يصلي صلاة كاملة، وأنه يصلي نوافل؛ وذلك لأنه معذور لفقد التراب، ولا إعادة عليه.
قوله: (ولا يقرأ في غير صلاة إن كان جنباً) إذا كان جنباً ولم يجد ماء ولا تراباً وصلى فإنه يقرأ في الصلاة، ولا يقرأ خارج الصلاة.(3/17)
إزالة النجاسة
النجاسة مثل الدم، والبول، والغائط، والقيء، والخمر، والصديد، والميتة لحمها وما يتعلق بها، ولعاب الكلب، ونحو ذلك، هذه تُسمى (نجاسات) أي: نجاسات عينية، ويشترط للصلاة إزالة النجاسة وتجنبها، ومن صلى وعليه نجاسة لم تصح صلاته إذا كان قادراً على إزالتها.
والنجاسة إما أن تكون على الأرض أو على الثوب أو على الإناء أو على البدن، فإذا كانت على الأرض أو على ما اتصل بالأرض كالبلاط مثلاً، أو الفراش الملتصق بالأرض الذي لا يمكن رفعه، أو على الجدران ونحوها، فلا تطهر إلا بزوال عين النجاسة وغسل أثرها بالماء، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بتطهير نجاسة بول الإعرابي بصب الماء عليها، أمر بدلو من ماء فأمر بصبه عليها، ومن المعلوم أن الدلو يكاثرها كثيراً فترطب، فإذا كان لها جرم كالبول والغائط فلابد من زوال جرمها، وزوال حمرة الدم مثلاً أو صفرته أو صفرة القيح والصديد، فإذا زال جرمها وأثرها طهر المكان، ولا حاجة إلى عدد.(3/18)
حكم بول الغلام
قوله: (وبول غلام لم يأكل الطعام بشهوة) أي: يكتفى بصب الماء عليه دون فرك وتكرار، وأما إذا أكل الطعام بشهوة فإنه يغسل كغيره حتى يزول أثره، بخلاف بول الأنثى ولولم تأكل الطعام، وبخلاف غائط الصغير فإنه يغسل، والرخصة والتخفيف إنما هي في بوله بشرط أنه لم يشته الطعام.
وألحقوا قيئه ببوله، يعني: إذا تقيأ الصغير لبناً فإنه أيضاً يغمر بالماء، يعني: يكاثر بالماء ويصب عليه صباً من دون دلك، أما بقية النجاسات فيشترط لها سبع غسلات، واستدلوا بحديث روي عن ابن عمر: (أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً) ولكن الحديث غير معروف، والصحيح: أن جميع النجاسات لا يشترط لغسلها عدد، بل الحكم واحد، فإذا زالت عين النجاسة بالماء اكتفي بذلك، دون إعادة، وذلك لأنها لو لم تزل بالسبع لزيد حتى تزول، فلو لم يزل أثر الدم أو الغائط بسبع غسلات فيغسل ثمانياً أو تسعاً أو نحو ذلك حتى يزول أثره؛ وذلك لأن القصد إزالة أثرها، وبه تطهر.(3/19)
نجاسة الكلب
نجاسة الكلب ورد في غسلها العدد، كما في الحديث الصحيح: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب) ، وفي حديث آخر: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً وغسلوه الثامنة بالتراب) ، والفقهاء ألحقوا به الخنزير، وذلك لنجاسته وخبثه، ولعل الصواب: أنه لا يلحق به شيء، لا يلحق به الخنزير ولا غيره، ولا الحمار ولا الأُسود ولا السباع، بل يختص الحكم بالكلب، وهذا لحكمة فيه ظهرت أخيراً، وهي أن في لعابه جراثيم خفية صغيرة لا تزول إلا بتكرار الغسل والتراب، هكذا ذكر لنا بعض المشايخ، فالخنزير ليس مثله.
ثم اختلفوا في بقية نجاسات الكلب هل تغسل سبعاً، يعني: بول الكلب وروثه هل يغسل سبعاً أو يكتفى بغسله حتى يزول أثر النجاسة؟ الأقرب: أنه لا يحتاج إلى سبع، ولا إلى تراب، بل يُغسل إلى أن يزول أثر النجاسة وعينها كسائر النجاسات، فالخنزير وبول الكلب ودمه كلها تغسل إلى أن يزول الأثر، ولا حاجة إلى التسبيع بالماء إلا في لعابه يعني: إذا شرب من الإناء.(3/20)
حكم أثر النجاسة
إذا زالت النجاسة بعد الغسل لم يضر اللون أو الريح، وقد يبقى لونها، فيقولون: لا يضر اللون، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: (تحته -يعني: لأن به جرماً حتى يتساقط ما تجمد منه- ثم تقرصه بالماء -وذلك بأن تصب عليه الماء وتدلكه جيداً برءوس الأصابع- ثم تنضحه بالماء) وفي حديث آخر أنه قال: (يكفيك الماء، ولا يضرك أثره) أي: لو بقي أثره، فلو أصاب الثوب الأبيض -مثلاً- دم من جرح أو نحوه ثم إنه غسله بالماء، ولكن بقي سواده فلا يضر، وإذا بقي شيء لا يزيله الماء فلا يشترط فيه صابون ولا مزيل، وكذلك لو بقي ريح عجز عن إزالته فلا يضر.(3/21)
نجاسة الخمر
من النجاسات: الخمر، وقد سماها الله تعالى رجساً، والرجس هو: النجس، فكل شيء وصف بأنه رجس إذا كان من السوائل فإنه نجس العين، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم خبيثة بقوله: (الخمر أم الخبائث) ، فعلى هذا تكون نجسة، ولو كان أصلها طاهراً، فقد تكون مصنوعة من التمر، أو من العنب، أو من العسل، أو من الزبيب، أو من الشعير، ومع ذلك فإنها إذا كانت مسكرة فإنها نجسة، فإذا انقلبت خلاً بنفسها طهرت، فإن الخل يكون مفيداً طاهراً، يصلح إداماً، كما في الحديث (نعم الإدام الخل) كخل التمر أوخل الزبيب أو نحو ذلك، فإذا انقلبت الخمر بنفسها خلاً فإنها تطهر، وأما إذا عالجها حتى تخللت فلا تطهر؛ لأنه مأمور بإراقتها فوراً، فإذا نقلها من الظل إلى الشمس حتى تتخلل أو طبخها أو جعل فيها دواءً حتى يخللها، فإنها تبقى على نجاستها.
وقوله: (كذا دنها) يعني: ظرفها التي هي فيه، سواء كان من الجلود أو من الخشب، فإذا تخللت طهر ذلك الدن.(3/22)
حكم الدهن الممتزج مع النجاسة
هل يطهر الدهن المتنجس المتشرب نجاسة؟
الجواب
لا يطهر؛ وذلك لأنه لا يمكن غسله، لكن الصحيح: أنه إذا وقعت به نجاسة فإنها ترفع وما حولها، ويطهر الباقي، سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة سقطت في سمن وماتت فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) لأنها إذا ماتت فهي نجسة، فتلقى وما حولها.
واختلف هل هناك فرق بين القليل والكثير، وبين المائع والجامد؟ والصحيح: أنه لا فرق، فتلقى وما حولها ولو كان جامداً، والرواية التي فيها أنه كان جامداً غير صحيحة.
والحاصل: أنه إذا كان هناك دهنٌ متنجسٌ كله فإنه لا يطهر، وكذلك بطريق الأولى إذا كان نجس العين كشحم الميتة، فإنه يعتبر نجساً ولا يمكن تطهيره، وكذا إذا تشرب الدهن بالنجاسة وامتزجت به، فلا يمكن تطهيره.(3/23)
الدم الطاهر والدم النجس
قوله: (يعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر) يعفى عن يسير دم نجس، يعني: نطفة أو نطفتين مثلاً في الثوب أو على البدن أو على البقعة، إذا كان دم إنسان أو دم حيوان طاهر، مثل الحيوان المأكول كالإبل والبقر والدجاج ونحو ذلك، بخلاف دم من كلب أو من خنزير أو من حمار فإنه لا يعفى عن يسيره؛ لأنه نجس في الحياة، وكذا فضلاته.
ولا يعفى عن الكثير، ويعفى عن القيء اليسير وما أشبهه، فإذا كان الدم اليسير في المائعات فلا يعفى عنه، وإذا سقطت نطفة دم في الماء فلا يشرب منه ولا يُتوضأ به، بل يزال أو يُصب منه إلى أن يزول صبغها، وكذلك المطعومات لا تؤكل، فإذا وقعت النقطة أو النقطتان -مثلاً- على خبزة، فالتي وقعت عليها النقطة تزال ويزال أثرها.
يقول: (لا دم سبيل) دم السبيل مثل دم الحيض، أو الذي يخرج من الدبر، فإن نجاسته أشد، فلا يُعفى عن يسيره إلا من الحيض؛ لكونه ضرورة فيعفى عنه، والحيوانات التي ليس لها دم إذا ماتت تعتبر طاهرة مطلقاً.(3/24)
حكم ما لا نفس له سائلة
قوله: (وما لا نفس له سائلة) النفس هنا الدم، يعني: الدابة التي ليس فيها دم يتقاطر إذا قتلت، فهي تعتبر طاهرة إذا ماتت في الطعام، أو ماتت في الماء، ويستدل على ذلك بحديث الذباب؛ فإنه أمر بغمسه، والذباب ليس له نفس سائلة، وكذا البعوض، والذر، والنمل، والفراش بأنواعه، والزنابير وأشباهها، والعقرب ونحوها، فهذه الدواب إذا ماتت فهي طاهرة؛ لأنه ليس لها دم، وألحقوا بها القمل والبراغيث، فكلها طاهرة إذا ماتت.(3/25)
نجاسة المسكر المائع
قوله: (المسكر المائع نجس) يعني: المسكر إما أن يكون مائعاً أو غير مائع، فتختص النجاسة بالمسكر المائع، وهو الذي يُشرب، فأما غير المائع كالحبوب التي تخدر أو تسكر فهذه لا يحكم بنجاستها؛ لأنها ليست مائعة.
كذلك ميتة ما لا يؤكل من الطيور فهي نجسة، مثل الرخم، والغراب، والعقاب، والصرد، والهدهد، فهذه لا تؤكل، وإذا ماتت في الماء فلها حكم النجاسة.(3/26)
حكم البهائم وألبانها
البهائم التي هي فوق الهرة خلقة نجسة، يعني: البهائم التي لا تؤكل كالكلب، والذئب، والسباع، والثعالب، وما أشبهها، ويعفى عن الهرة للضرورة؛ لأن سؤرها طاهر، كما ورد ذلك في الحديث، وكذلك ما يبتلى به كثيراً كالفأرة إذا خرجت ووقعت في الماء ولم تمت أو في الدهن فإنها طاهرة.
ولبن ما لا يؤكل لحمه كلبن الحُمر ولبن الكلاب نجس.
ومني كل ما لا يؤكل لحمه نجس إلا مني الآدمي فهو طاهر، ومني الآدمي فيه خلاف هل هو طاهر أم لا؟ والمشهور أنه طاهر، والاحتياط أنه إذا كان يابساً أن يفرك، فإذا وقع على الثوب مني الاحتلام وإن كان رطباً فإنه يغسل؛ لأنه ورد غسله، وورد فركه.(3/27)
حكم بيض ما لا يؤكل لحمه
بيض ما لا يؤكل كبيض النسور وبيض الغراب والحدأة وما أشبهها نجس، وكذلك بولها وروثها، فكل ما ليس بمأكول اللحم يعتبر نجساً، وما لم يكن له دم سائل فإنه طاهر، والذي ليس له دم مثل الفراش والبعوض وما أشبهه.(3/28)
عدم نجاسة طين الشوارع
طين الشوارع يعفى عنه، وكثيراً ما تجدون في الشوارع ماءً ومستنقعات، فالأصل فيها أنها طاهرة، وهذا يشمل كل الشوارع والمستنقعات التي فيها، فإن علمت نجاسته فهو نجس، كما يقع في بعض البلاد أن ماء البيارات يخرج على وجه الأرض، فيحكم بأنه نجس، وإلا فالأصل طهارة ما تسرب من الماء من الخزانات ونحوها ثم جرى في الأسواق والطرق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/29)
شرح أخصر المختصرات [4]
الحيض كتبه الله عز وجل على بنات حواء، فلا محيص لهن عنه، وتتعلق به أحكام كثيرة، ولذا أدخله الفقهاء في كتب الفقه، وتكلموا على مسائله وأحكامه، فعلى المسلمة أن تعلم هذه الأحكام حتى تكون على بصيرة من أمر دينها.(4/1)
أحكام الحيض
كتاب الحيض هو آخر كتاب الطهارة، والحيض يختص بالنساء، ولكن معرفته مهمة؛ لأن طالب العلم لابد أن يعرف أحكام ما جاء في الشرع، والحيض يتعلق به كثير من الأحكام، فيتعلق به تحريم وطء الحائض في الفرج، وكذلك الاعتداد، فإذا طلقها زوجها فتكون عدتها ثلاثة قروء إذا كانت تحيض، وكذلك الرجعة في زمن العدة ويتعلق به مما يختص بالمرأة أنها لا تصوم، ولا تصلي، ولا تطوف، ولا تمس المصحف، ولا تقرأ القرآن إلا لضرورة، ولا تدخل المسجد، ولا تلبث فيه، وأحكامه وأدلته معروفة.
قوله: (لا حيض مع حمل) لا تحيض الحامل؛ لأن الدم ينصرف غذاءً للجنين، فيتغدى به الحمل ما دام في بطن أمه عن طريق سرته، فهذا الدم الذي هو دم الحيض إذا علقت المرأة بالحمل توقف خروجه، وانصرف غذاءً للجنين، فإذا ولدت خرج الدم المتبقي الزائد عن غذاء الجنين، وسُمي دم نفاس، والدم الزائد يحتبس في الرحم، فإذا انقطع دم النفاس توقف الدم، وإذا كانت ترضع ينقلب لبناً؛ ولهذا فإن المرضع لا تحيض إلا قليلاً، فبعض النساء تكون بنيتها قوية، ويكون جسدها وبدنها قوياً، وخلقتها قوية كبيرة، ودمها كثير، فتحيض ولو كانت ترضع، والغالب أنها إذا كانت ترضع من صدرها طفلها أنها لا تحيض، بل ينقلب الحيض الذي هو هذا الدم لبناً يتغذى به الولد، فإذا لم تكن حاملاً ولا مرضعاً فإن هذا الدم يجتمع في الرحم، ولا يكون له مصرف فيخرج في أوقات معينة، فإذا اجتمع في الرحم إلى حد محدد خرج بعد ذلك في أيام متتابعة، وله أحكام لابد من معرفتها.(4/2)
بداية الحيض ونهايته
قال المصنف رحمه الله: (لا حيض بعد خمسين سنة) الغالب أن المرأة لا تحيض إذا تم لها خمسون سنة، ولكن قد يوجد من تحيض وهي بنت خمسين، وربما إلى خمس وخمسين، ويرجع ذلك إلى قوة البنية والجسم والبدن، فالعادية والنحيفة يتوقف حيضها في ثمان وأربعين أو تسع وأربعين أو خمسين، وغيرها قد يستمر إلى خمس وخمسين أو نحو ذلك.
وأول سن تحيض فيه المرأة وهي بنت تسع سنين، وإن كان نادراً، وسبب تبكير الحيض إلى الفتاة هو قوة البنية، فإذا كانت المرأة قوية كبيرة البدن تحيض مبكرة، وعادة أنه في الأزمنة التي تكثر فيها الخيرات، وتكثر فيها النعم، أن تشب الطفلة شباباً سريعاً، وتراها بنت تسع سنين وتعتقدها بنت خمس عشرة أو ثلاث عشرة سنة، فتحيض في سن مبكر.(4/3)
أقل الحيض وأكثره
مدة الحيض: أقلها يوم وليلة -يعني: أقل ما وجد- ثم تطهر، وأكثر ما وجد خمسة عشر يوماً، يعني: أكثر ما وجد أنها تبقى خمسة عشر يوماً ثم تطهر، وأكثر النساء وأغلبهن ستة أيام أو سبعة أيام، هذا هو الأغلب.(4/4)
أقل الطهر وأكثره
أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، روي أن امرأة جاءت إلى علي رضي الله عنه وقالت: إنها قد اعتدت في شهر بعدما طلقها زوجها، فأنكر ذلك زوجها، وقال له قاضيه: إن جاءت بمن يشهد لها من أهل بيتها وإلا فهي كاذبة، فدل على أنها قد تحيض في الشهر الواحد ثلاث حيضات، يعني: تحيض في يوم واحد ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، واليوم الخامس عشر حيض، والسادس عشر وما بعدها إلى ثمانية وعشرين طهر، والتاسع والعشرون حيض، فتحيض في تسعة وعشرين يوماً ثلاث مرات، وإن كان ذلك نادراً، فأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، ولا حد لأكثره، فقد تبقى بعضهن شهرين أو خمسة أشهر ولا ترى الدم.(4/5)
ما يحرم على الحائض والنفساء
الحائض لا تصلي ولا تصوم، بل يحرم عليها ذلك، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، كما ذكرت ذلك عائشة؛ وذلك لأن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها، فقد تحيض نصف الشهر فيشق عليها أن تقضي صلاة نصف شهر، أما الصيام فإنه لا يتكرر، إنما هو في السنة مرة.
ويحرم وطؤها في الفرج؛ وذلك لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والمحيض: يراد به مجرى الدم (الفرج) .
ومن وطأ وأولج في الفرج وهي حائض فعليه كفارة دينار أو نصفه، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح، والحديث المروي في ذلك يصحح العلماء أنه موقوف على ابن عباس، فلأجل ذلك ذهب بعضهم كـ شيخ الإسلام إلى أنه لا يلزمه كفارة؛ وذلك لأنه لم يثبت فيها حديث مرفوع، ولكن كونه صحيحاً ثابتاً موقوفاً عن ابن عباس، فـ ابن عباس لا يقوله برأيه ولا يتخرص، لذلك يُلزمون من وطأها في الحيض أن يكفر، وقالوا: إن كان في أول الحيض فدينار، وإن كان في آخره فنصفه، والدينار قطعة من الذهب يتعامل بها، ويقدر بأنه أربعة أسباع الجنيه السعودي، فإذا وطأ في أول الحيض تصدق بأربعة أسباع الجنيه، وإذا كان صرف الجنيه سبعمائة تصدق بأربع مائة، وإن كان في آخره تصدق بنصفه أي: مائتين.
ويجوز أن يباشرها فيما دون الفرج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حاضت المرأة من نسائه يأمرها أن تلبس إزاراً أو تجعل إزاراً فوق بطنها من السرة إلى الركبة، ويباشرها فوق ذلك، ويجوز أن يباشرها فيما دون الفرج، وإنما الممنوع هو الإيلاج في الفرج؛ لأنه محل النجاسة، قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .(4/6)
حكم المبتدئة في الحيض
تكلم العلماء عن المبتدئة -التي بدأها الحيض- ماذا تفعل أول ما يأتيها الحيض؟ قال بعضهم: تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي، ولو كان الدم جارياً، وأقله يوم وليله؛ مخافة أن الدم الزائد دم عرق.
ثم إذا انقطع قبل خمسة عشرة يوماً اغتسلت مرة ثانية، وتفعل ذلك في ثلاثة أشهر، مثلاً: في الشهر الأول تغتسل بعد يوم، فإذا انقطع بعد خمسة أيام اغتسلت مرة ثانية، وفي الشهر الثاني كذلك تغتسل بعد يوم، ثم إذا انقطع بعد خمسة أيام مع اليوم -يعني: ستة- اغتسلت ثانية، وهكذا في الثالث، ففي الرابع تجلس الستة؛ لأنها تكررت ثلاثة أشهر، فدل على أن هذه كلها حيض.
القول الثاني: أنه لا يشترط أن تتكرر، بل حكمها حكم غيرها، فإذا رأت الدم الذي يصلح أن يكون دم حيض فلا تصلي حتى ينقطع، إلا إذا تعدى خمسة عشر يوماً؛ وذلك لأن الأصل أنه دم الحيض، وأنه لا فرق بين المبتدئة وغيرها.
وذكروا أن المبتدئة إذا أيست قبله أو لم يعد فلا قضاء عليها، مثاله: إذا اغتسلت بعد يوم، وقلنا لها: الخمسة الأيام الأخرى صلي فيها وصومي، فصامت نذراً أو قضاءً، ثم تكرر منها أنها تغتسل بعد يوم وينقطع الدم بعد ستة أيام، فتبينا أن هذا كله حيض -الستة الأيام-، وتبينا أنها صامت النذر أو صامت القضاء وهي حائض، فماذا نفعل؟ نأمرها أن تقضي ما صامته؛ لأننا تحققنا أنها صامته في أيام حيض، إلا إذا أيست، وبلغت سن الإياس، أو انقطع الدم ولم يعد، وهذا لو كانت صغيرة، فلا قضاء عليها؛ لأنها صامته وهي طاهرة، فلا يلزمها أن تصومه مرة ثانية.(4/7)
أحكام المستحاضة
إذا تجاوز الدم خمسة عشر يوماً فهي مستحاضة، والمستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون لها عادة، فإذا استمر الحيض معها عشر سنين، يأتيها من أول الشهر وينقطع في اليوم السابع، ثم استحاضت واختلط عليها الأمر بعد عشر سنين، فنقول: هذه تقدم عادتها، فتجلس من أول الشهر إلى اليوم السابع لكل شهر، حتى تشفى من هذا الاختلاط.
الحالة الثانية: إذا لم يكن لها عادة، تارة يكون حيضها خمسة، وتارة يكون عشرة، وتارة ثمانية، وتارة يكون في أول الشهر، وتارة يكون في آخر الشهر، وتارة في وسطه، فماذا تفعل؟ تعمل بالتمييز، والتمييز هو: أن تفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة، والغالب أن دم الحيض يكون غليظاً، ودم الاستحاضة يكون رقيقاً، ودم الحيض يكون أسود، ودم الاستحاضة يكون أحمر، وقد تميز بغير ذلك، والنساء يعرفن ذلك، فتعمل بالتمييز الصالح.
الحالة الثالثة: إذا لم يكن لها تمييز بأن امتزج الدم وليس لها عادة، وهذه تُسمى (المتحيرة) ، فهذه تجلس عادة نسائها من كل شهر ستة أو سبعة أيام كعادة أمها وأختها وأخواتها ونحوهن.
فمن كانت مستحاضة جلست أقل الشهر الذي هو يوم وليلة حتى تتكرر استحاضتها، فإذا تكررت استحاضتها ولم تميز وأطبق عليها الدم -وقد يطبق عليها سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أكثر- فهذه إذا لم يكن لها تمييز ولم يكن لها عادة تجلس غالبه، وغالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام، والمستحاضة المعتادة تقدم عادتها، وعرفنا أنها تقدم العادة على التمييز، فإن لم يكن لها عادة فالتمييز، فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز فغالب الحيض من كل شهر.
والمستحاضة إذا أرادت أن تصلي تغسل المحل، فتغسل فرجها وتعصبه، وتتوضأ لكل صلاة، إلا إذا لم يخرج بين الصلاتين شيء.
وتنوي بالوضوء استباحة الصلاة.
ويحرم على زوجها وطؤها؛ إلا إذا خاف الزنا، فإذا لم يستطع أن يملك نفسه وخشي على نفسه العنت، ففي هذه الحال يجوز وطؤها، وأكثر العلماء قالوا: يجوز وطؤها للضرورة.(4/8)
أحكام النفاس
النفاس هو: الدم الذي يخرج بعد الولادة، واختلف في أكثره، فقيل: أكثره أربعون يوماً، وقيل: ستون يوماً، وقلَّ أن يوجد من يكون معها دم بعد الأربعين، ولكن ذلك نادر.
وإذا طهرت قبل الأربعين فبعض النساء قد تطهر بعد نصف شهر من الولادة، وبعضهن قد تبقى خمسين يوماً وهي ما طهرت، فمتى كان الدم مستمراً وهو مثل دم النفاس فإنها تجلس ولو زاد على الأربعين، وأما إذا لم يبق معها إلا صفرة بعد الأربعين أو كدرة أو نجاسة مياه أو نحو ذلك فإنها تصلي.
وأما الوطء فالصحيح أنه يكره وطؤها قبل الأربعين ولو طهرت، هكذا ذكروا، ولعل الصواب: أنه يجوز إذا طهرت طهراً شاملاً ورأت النقاء وصلت وصامت، فلا مانع من وطئها.
قوله: (النقاء زمنه طهر) مثلاً: من طهرت بعد عشرين يوماً فهذا الزمان الذي بعد العشرين طهر؛ لأنه يكره الوطء فيه، وإن فعل فلا بأس.
والنفاس مثل الحيض في أحكامه، يعني: أنها لا تصلي، ولا تصوم، ولا تقرأ، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، ولا تطوف بالبيت، ولا يجوز وطؤها إلخ، إلا العدة، فالعدة تكون بالحيض، وأما النفاس فلا يُعد من القروء، وكذلك يعرف بلوغ المرأة بالحيض، ولا يكون النفاس علامة على البلوغ؛ ولذلك تكون قد بلغت فبمجرد الحمل، فمجرد ما حملت حُكم ببلوغها، فهذا ما يتعلق بالحيض على وجه الاختصار، وتطالع له المبسوطات، وقد تكلم العلماء وتوسعوا فيه، والله أعلم.(4/9)
شرح أخصر المختصرات [5]
لقد فرض الله على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ورتب عليها الأجر العظيم، ووعد تاركها بالعذاب الشديد، فهي عمود الإسلام وثاني أركانه، فيجب على المسلم وجوباً عينياً أن يتعلم أحكامها ومسائلها.(5/1)
ملخص أحكام التيمم
قرأنا في أحكام التيمم اشتراط أن يكون المتيمم به تراباً، وأن الصحيح جواز التيمم بالرمل ونحوه، واشتراط الإباحة، وأن الصحيح ارتفاع الحدث بالتيمم بتراب غير مباح كالأرض المغصوبة ونحوها.
وكذلك مر بنا أيضاً في مبطلات التيمم الخلاف في بطلان التيمم بخروج الوقت، والاحتياط أن يتيمم لكل صلاة، كذلك من عدم الماء والتراب ذكروا أنه يصلي على حسب حاله، ويقتصر على المجزئ، يعني: لا يقرأ زيادة على الفاتحة، ولا يسبح أكثر من واحدة، ولا يقرأ في غير الصلاة إذا كان جنباً، وأن الصحيح أنه مثل غيره؛ لأنه يفعل ما يستطيعه.(5/2)
ملخص أحكام إزالة النجاسات
كذلك ذكرنا في إزالة النجاسة اشتراط سبع غسلات في إزالة النجاسات كلها، والصحيح: أن إزالة النجاسة يكون بزوال عين النجاسة دون أن يشترط عدد لا سبع ولا أقل ولا أكثر، إلا في نجاسة الكلب، والمراد بها: ولوغه فقط، وأما بقية نجاساته فهي كسائر النجاسات، وأن الصحيح عدم إلحاق الخنزير بالكلب، بل هو كغيره يغسل حتى يزول أثر النجاسة وجرمها وعينها.
كذلك تكلموا على طين الشوارع، والصحيح أنه إذا تحقق أنه نجس كالمياه التي تتسرب من البيارات ونحوها فإنه نجس، وإلا فالأصل الطهارة.(5/3)
ملخص أحكام الحيض والاستحاضة
كذلك مر بنا في بحث الحيض ذكر أقله وأكثره، وأن الصحيح في المبتدئة أنها كغيرها، إذا رأت الدم فما دام الدم كثيراً فإنها تتوقف عن الصلاة، ولا يلزمها أن تتطهر بعد يوم، بل هي كغيرها، وحددوا أكثره بخمسة عشر يوماً نظراً إلى الواقع، وإلا فلو قدر زيادته فإنه يعتبر حيضاً إذا تحقق بأنه مثل دم الحيض، إلا إذا استمر فإنه يكون استحاضة.
وأن المستحاضة لها ثلاث حالات: الأولى: أن ترجع إلى عادتها، الثانية: فإن لم يكن لها عادة فالتمييز، وهو التفريق بين دم الحيض ودم الاستحاضة، الثالثة: فإن لم يكن لها عادة ولا تمييز فإنها تجلس غالب الحيض من كل شهر، أي: ستاً أو سبعاً.
هذه أهم المسائل الخلافية في هذه الأبواب والله أعلم.
والحمد لله ربه العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/4)
مقدمة كتاب الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة.
تجب الخمس على كل مسلم مكلف، إلا حائضاً ونفساء، ولا تصح من مجنون ولا صغير غير مميز، وعلى وليه أمره بها لسبع، وضربه على تركها لعشر، ويحرم تأخيرها إلى وقت الضرورة إلا ممن له جمع بنيته، ومشتغل بشرط لها يحصل قريباً، وجاحدها كافر.
فصل: الأذان والإقامة فرضا كفاية على الرجال الأحرار المقيمين للخمس المؤداة والجمعة، ولا يصح إلا مرتباً متوالياً منوياً من ذكر مميز عدل ولو ظاهراً، وبعد الوقت لغير فجر، وسن كونه صيتاً أميناً عالماً بالوقت، ومن جمع أو قضى فوائت أذن للأولى وأقام لكل صلاة، وسن لمؤذن وسامعيه متابعة قوله سراً إلا في الحيعلة فيقول الحوقلة، وفي التثويب: صدقت وبررت.
والصلاة على النبي عليه السلام بعد فراغه، وقول ما ورد، والدعاء، وحُرم خروج من مسجد بعده بلا عذر أو نية رجوع.
فصل: شروط صحة الصلاة ستة: طهارة الحدث وتقدمت، ودخول الوقت، ووقت الظهر من الزوال حتى يتساوى منتصب وفيئه سوى ظل الزوال، ويليه المختار للعصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال، والضرورة إلى الغروب، ويليه المغرب حتى يغيب الشفق الأحمر، ويليه المختار للعشاء إلى ثلث الليل الأول، والضرورة إلى طلوع فجر ثانٍ، ويليه الفجر إلى الشروق، وتدرك مكتوبة بإحرام في وقتها، لكن يحرم تأخيرها إلى وقت لا يسعها، ولا يصلي حتى يتيقنه أو يغلب على ظنه دخوله إن عجز عن اليقين، ويعيد إن أخطأ.
ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها بتكبيرة لزمته وما يجمع إليها قبلها، ويجب فوراً قضاء فوائت مرتباً ما لم يتضرر أو ينسى، أو يخشى فوت حاضرة أو اختيارها.
الثالث: ستر العورة، ويجب حتى خارجها وفي خلوة وظلمة بما لا يصف البشرة.
وعورة رجل وحرة مراهقة، وأمة مطلقاً ما بين سرة وركبة، وابن سبع إلى عشر الفرجان، وكل الحرة عورة إلا وجهها في الصلاة، ومن انكشف بعض عورته وفحش أو صلى في نجس أو غصب ثوباً، أو بقعة أعاد، لا من حبس في محل نجس أو غصب لا يمكنه الخروج منه] .(5/5)
طريقة العلماء في البدء والتبويب في كتبهم
الأصل أن العلماء يبدءون بكتاب الصلاة، ولكن بدءوا بالطهارة لأنها شرطها، والعادة أن الشرط يتقدم المشروط، واستطردوا في كل ما يتصل بالطهارة، وفي كل ما له صلة بإزالة النجاسات وما أشبهها، وإن كانت عادة المؤلفين الأولين أن يرتبوا كتبهم على ترتيب أركان الإسلام، فيبدءون بالشهادتين، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، تم بالصيام ثم بالحج.
فعل ذلك مسلم في صحيحه، وكذا البخاري في تقديمه للإيمان الذي هو مضمون الشهادتين، ثم الصلاة، ثم الصوم -إلا أن البخاري أخر الصوم عن الحج- ثم بالحج، وهذا هو الترتيب المعتاد.
ولما كان التوحيد هو العقيدة الأساسية أفرد بعد ذلك بكتب، فجعلت باسم التوحيد أو الإيمان، أو السنة، أو الشريعة، وجعلت كتب التوحيد مفردة لأهميتها، وجعلت بقية الأحكام مجموعة، وقسموا الأحكام أربعة، فبدءوا بالعبادات؛ لأنها حق الله، فإذا انتهوا من العبادات التي هي حق الله بدءوا بالمعاملات التي فيها كسب المال؛ لأن الإنسان بحاجة إلى كسب المال الذي هو قوته، والذي هو مادة حياته، ثم بعد ذلك بالنكاح؛ لأنه أيضاً من تمام الضرورات، ثم ختموا بالحدود والجنايات؛ لأنها تنتج عمن كملت عليه النعمة، واتصلت نفسه بعد ذلك بالعدوان وبالظلم.(5/6)
وجوب الصلاة
والآن نحن في القسم الأول الذي هو العبادات، وفي أهمها وهو الصلاة.(5/7)
الصلوات الواجبة
الصلوات الواجبة خمس كما هو معروف، دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد) ، في حديث طلحة بن عبيد الله، وقوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) ، فدل على أن الصلوات المكتوبة خمس.
وفي حديث الإسراء: (إن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة، ثم إنه طلب التخفيف بإشارة من موسى حتى جعلها الله تعالى خمساً، وقال: لا يبدل القول، هي خمس وهي خمسون) يعني: أن من حافظ عليها فله أجر خمسين، والحسنة بعشر أمثالها.
هذه الصلوات الخمس واجبة على المسلم، والكافر مطالب بشرطها وهو الإسلام، فإذا لم يسلم لم يطالب بها.(5/8)
خطاب الكفار بالصلاة
وهناك خلاف أصولي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ تكلم العلماء على ذلك في أصول الفقه، ورجحوا أنهم مخاطبون بها وإن كانت لا تقبل منهم، ويكون خطابهم بمعنى زيادة العقوبة عليهم، فيقال مثلاً: هذه عقوبتك على الشرك، وهذه عقوبتك على ترك الصلاة، وهذه عقوبتك على ترك الصوم وهكذا، وإلا فلو أنهم صلوا وهم مشركون ما قبلت منهم ولا أجروا عليها.
ثم هو معروف أن كلمة (تجب) بمعنى: تلزم، أي أنها واجبة وجوباً مؤكداً، لا تجب إلا على المسلم المكلف.
والمكلف: هو البالغ العاقل، هذا تعريف التكليف: البالغ العاقل، فيخرج بذلك الصغير، فإنه لا تجب عليه، وأمره بها أمر تعليم وتدريب، ويخرج بذلك أيضاً فاقد العقل، وهو المجنون، فإنه مرفوع عنه القلم حتى يفيق، فإن الله تعالى إنما خاطب بالواجبات من يعقل، ومعلوم أن فاقد العقل لا يفهم، ولا يدري ما يقال له، ولا يميز بين الواجب وغيره، وعلامة ذلك: أنه يفعل الأفعال التي لا يقرها العقل وليس معه ما يميز به بين النافع والضار.
ويستثنى من هذا الوصف الحائض والنفساء، فتسقط عن الحائض والنفساء في زمن الحيض وزمن النفاس، فلا تجب عليها الصلاة، ولا يلزمها قضاؤها كما تقدم في الحيض، وتقدم أن السبب استمرار هذا العذر وهذه النجاسة، ومشقة القضاء عليها، حيث إنه قد يجب قضاء خمسة عشر يوماً وأربعين يوماً في الحيض، فيكون في ذلك صعوبة.
وبعد ذلك صرح بما يحترز به عن مسلم مكلف، وعرفنا أن (مكلف) احترازاً من مجنون وصغير، فلا تصح من المجنون ولا يؤمر بها؛ لأنه لا يحسن ولا يفهم ولا يدري ما يقال له، وكذلك من الصغير غير المميز، وأما إذا كان مميزاً فإنه يؤمر بها، ويكون أمره للتدريب، حتى يألفها لصغره، وحتى تخف عليه عند التكليف، وحددوا الصغر الذي يميز معه بسبع سنين، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) .
الأمر هاهنا للأولياء؛ فهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (مروا أولادكم) هذا الأمر قال بعضهم: إنه للوجوب، ويلزم الولي أن يأمر أولاده ذكوراً وإناثاً بالصلاة لتمام سبع، ولكن القرينة وهي أنه ما أمر بالضرب إلا لتمام عشر تدل على أن الأمر ليس للإلزام، وإنما هو للتعليم والتدريب، فإذا بلغ سبع سنين ودخل في الثامنة فإن والده وولي أمره يأمره، ويستدعيه، ويأخذ بيده إلى المسجد ويعلمه ما يلزم، فيعلمه الطهارة، ويعلمه اجتناب النجاسة، ويعلمه الصلاة بقدر ما يستطيع، فيعلمه ما يقول في القيام، وما يقول في الركوع والسجود، وما يقول في القعود وفي الرفع من الركوع، ويعلمه الطمأنينة والخشوع، ويعلمه الإقبال على الصلاة وعدم الحركة والالتفات، ويدربه على ذلك.
كما أنه في هذه السن يحافظ عليه أيضاً، فيحفظه عن المحرمات، ويبعده عن السفه، ويبعده عما هو محرم أو منكر -مثلاً- كرؤية الصور القبيحة والأفلام الخليعة، وكذلك سماع الأغاني والملاهي وما أشبهها؛ لأنه في هذه السن يألف ما يسمع، وينطبع في ذاكرته ما يقال له، ويتدرب على هذا السماع المحرم، ويكون ذلك سبباً في انخراطه، أو في توغل هذه المنكرات في قلبه، فيصعب بعد ذلك تخليصه.
ويضرب على تركها لعشر؛ ولذلك لأن العشر مظنة البلوغ، والأصل أن أقل ما يبلغ فيه الصبي إذا تم عشر سنين.
فيوجد كثير ممن يحتلم وقد تم له عشر سنين.
ودخل في الحادية عشرة، أو مثلاً يبلغ بالإنبات أو نحوه، فإذا بلغ عشر سنين فهو مظنة البلوغ، فيضرب على تركها.
وهل الضرب ضرب تعليم أو ضرب تأديب؟ الصحيح أنه ضرب تعليم.
يعني: لا يشدد فيه، بل يضربه ضرب تعليم حتى يعلم ذلك؛ لأنه لا يزال في سن الصغر غالباً، فيعلمه تعليماً وفيه شيء من الشدة.
هذا ما يتعلق بمن تلزمه.(5/9)
تحريم تأخير الصلاة إلى وقت الضرورة
بعد ذلك يقول: (ويحرم تأخيرها إلى وقت الضرورة) .
وذلك لأنها لا تؤخر إلا للضرورة، وقت الضرورة يكون في صلاة العصر والعشاء، إلا لمن له الجمع بنيته إذا كان يجوز له الجمع، كإنسان سائر في الطريق ودخل عليه وقت الظهر وهو مستمر في السير، ويحب مواصلة السير، فدخل عليه وقت العصر، وهو مشتغل أيضاً بالسير ويحب مواصلة السير، فخرج وقت الاختيار الذي هو أن يكون ظل كل شيء مثليه، واستمر في سيره حتى دخل وقت الضرورة.
أي: قبل الغروب بنصف ساعة أو بثلث ساعة فوقف، فصلى الثنتين في وقت الضرورة.
أي: في وقت العصر الذي هو وقت الضرورة.
وكذا لو كان سائراً في الليل، وشق عليه النزول، وأراد مواصلة السير، فلم ينزل إلا في آخر الليل، فإنه يجوز له؛ لأن هذا له عذر في التأخير، فأما الإنسان المقيم فلا يجوز أن يؤخر العصر إلى ما قبل الغروب؛ لما ورد في ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) يعني: أنه فرط في الوقت وأخره صلاة العصر إلى أن قرب الغروب، وقد ورد: (أن الشمس تغرب بين قرني شيطان، فحينئذ يسجد لها المشركون) ، كذلك تطلع بين قرني شيطان، ولأجل ذلك نهي عن الصلاة في هذين الوقتين: عند الطلوع وعند الغروب؛ لئلا يكون سجوده للشيطان.
فالحاصل أنه لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت -وقت الضرورة مثلاً- إلا لمن له الجمع بنيته، قال: (ومشتغل بشرط لها يحصل قريباً) : إذا كان أخرها لأجل أن يشتغل بشرطها، فعرف أن شرطها يحصل قريباً، مثاله: تأخر لانتظار الماء، فينتظر أن يأتيه الماء، لأنه الآن ليس عنده ماء، وقد أرسل وارداً، فينتظر ولو خرج وقت الاختيار ودخل وقت الاضطرار.
مثال ثانٍ: السترة.
يعني: الثياب، إذا كان ليس عليه ثياب تستره، ولكن ينتظر أن يأتي فلان بثوب ساتر أو ينتظر خياطة هذا الثوب الذي يستر به عورته، فله أن يؤخرها لانتظار هذا الشرط، وكذا بقية الشروط.(5/10)
كفر جاحد الصلاة
بعد ذلك يقول: (وجاحدها كافر) .
ما تكلم إلا على جاحدها، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن تاركها كافر ولو لم يجحد، ولكن إذا دعي إليها وأصر على أن يمتنع من الصلاة، ففي هذه الحال يقتل، وإذا قتل وهو مصر على تركها فلا يعامل معاملة المسلمين، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ وذلك لأنه استمر على الترك وأصر عليه ولو لم يجحد، واستمر على ذلك إلى أن صبر على القتل.
نقول: وردت أحاديث تدل على كفر تاركها، تجدونها في كتاب الصلاة لـ ابن القيم، وذكر أدلة من يقول بأنه كافر، ومن يقول بأنه غير كافر لا يخرج من الإسلام، وحكم بين القولين، ولكنه ذكر أن العلماء فرضوا مسألة ممتنعة الوقوع، وهي: أنهم يقولون: إنما يعامل معاملة الكافر إذا دعي إلى الصلاة، وقيل له: صلِّ وإلا قتلناك.
فقال: لا أصلي، وأنا معترف بأن الصلاة فريضة، وأنها ركن من أركان الإسلام بل عمود الإسلام، وأنها فريضة الله التي فرضها على عباده، وأنها أول ما يحاسب عنه العبد وآخر ما يخرج من الدين، وأن الله فرضها منه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وأنها شعار الإسلام وشعار المسلمين أنا أعترف بذلك كله، ومع ذلك فإني لا أصلي ولو قتلتموني، ولو قطعتموني إرباً إرباً.
ويقال: هل هذا صحيح؟ هل يكون مؤمناً الإيمان الصحيح بأن تاركها كافر، وبأنها فريضة الله، وبأنها عمود الإسلام، وبأنها أول ما يحاسب عليه العبد، ومع ذلك يصبر على القتل ولا يصليها؟! إذا رأينا مثل هذا قلنا: كذبت، لست معترفاً بفضلها، ولست معترفاً بفرضيتها، ولو كان كذلك ما صعبت عليك، فالصلاة ليس فيها مشقة ولا تعب ولا صعوبة، بل الصلاة تعتبر لذة للمؤمن وراحة وقرة عين له، فأنت على هذا القول وعلى هذا الصبر تقول: (اقتلوني ولا أصلي) ، وتقول مع ذلك: إنك مصدق بأنها فريضة.
نقول: هذا قول يخالف الفعل، وفعلك هذا يخالف كلامك.
ففي هذه الحال إذا صبر على القتل وأصر عليه نحكم بأنه جاحد، وأن إقراره باللسان يخالف ما في قلبه، فيخالفه عمله تركاً وإصراراً وصبراً على القتل، وهو دليل على أنه ليس مقتنعاً بأنها فريضة، فإذا قتل والحال هذه فإنه يعامل معاملة الكفار.
يعني: لا يتولاه المسلمون، فلا يغسلونه ولا يكفنونه ولا يصلون عليه، ولا يدفنونه في مقابر المسلمين، وتطلق منه زوجته في الحياة -مثلاً- وكذلك لا يرثه أقاربه المسلمون، ويعتبر مرتداً، ويعتبر ماله فيئاً، فإذا مات أحد من أقاربه فإنه لا يرثه إذا كان في هذه الحال.
فالحاصل أنه ذكر هنا أن (جاحدها كافر) ولو -مثلاً- عُرِّف وأمر وبين له فإنه يعتبر كافراً.(5/11)
حكم تارك الصلاة تكاسلاً
أما تاركها تكاسلاً وتهاوناً ففي هذه الحال لا يكفر إلا إذا دعي إليها وأصر، فلو قال: أنا معترف بفرضيتها، ولكني متكاسل أرى أنها ثقيلة، وأرى مشقة فيها، فأنا أستثقل أداءها في كل يوم في كل هذه الأوقات، ففي هذه الحال يدعى إلى فعلها، ويشدد ويضيق عليه، فإذا امتنع وأصر حتى قتل، أو حتى تضايق وقت الذي بعدها ففي هذه الحال يحكم بكفره، وذكر العلماء أنه يستتاب ثلاثة أيام، فإن فعلها وأقر بوجوبها وإلا فإنه يقتل، وحينئذ يقتل قتل كافر، وحيث كفر فإنه يقتل بعد الاستتابة ولا يعامل معاملة المسلمين.
فالحاصل أن الصلاة لها أهميتها، ومكانتها في الدين، فلذلك يراها المسلمون لذة وراحة، ويراها المنافقون ونحوهم ثقلاً وعائقاً، ومشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لـ بلال: (أرحنا بالصلاة) يعني: عجل بها حتى نريح أنفسنا إذا دخلنا فيها فنجد لها راحة، ونجد لها لذة: (وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) ، فدل على أنها لذيذة عند أهل الإيمان، وثقيلة عند غيرهم، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أي: فعلها ثقيل إلا على أهل الخشوع، فالخاشعون تكون عندهم خفيفة ولذيذة وراحة وسروراً وسلوة، وغيرهم تكون عندهم كبيرة وثقيلة.(5/12)
الأذان والإقامة
ومما يلحق بالصلاة: الأذان والإقامة، واتفق العلماء على أنها من شعائر الإسلام، وأن الأذان من شعائر الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغار على قوم انتظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم لمعرفته بأنهم مسلمون، وإلا أغار عليهم، ذلك لأنه رفع صوت بذكر الله تعالى، ونداء إلى شعيرة من شعائر الإسلام.(5/13)
فضل الأذان
وورد في فضل المؤذنين أحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) ، وقوله: (يغفر للمؤذن مدى صوته) ، وفي حديث آخر: (لا يسمعه حجر ولا شجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) ، وورد في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] قالوا: نزلت في المؤذنين.(5/14)
حكم الأذان والإقامة
الأذان والإقامة فرضا كفاية، وفروض الكفاية هي التي إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركوها أثموا كلهم، فإثمهم كلهم دليل على أنهم مكلفون بها، وإثمهم جميعاً دليل على تكليفهم، فإذا قام بهما من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
والأفضل أن المؤذن يتولى الأذان بنفسه، ولا يعتمد على جهاز أو آلة أو نحو ذلك، ففي بعض الدوائر أو بعض الشركات يجعلون الأذان من الأشرطة.
فمثلاً: يأخذون شريطاً عند المكبر ثم يشغلونه.
صحيح أنه يحصل به المقصود والإعلان المطلوب، ولكن الأصل أن المؤذن الذي يريد الأجر يلقيه بنفسه كما هو، ويستمع إليه المدعوون.
الأذان: الإعلام بدخول الوقت.
والإقامة: الإعلام بالقيام إليها.
الوجوب والفرضية على الرجال، ولا يجب على النساء، ولو كانت قرية -مثلاً- أو خياماً أو بيوت شعر في بادية كلهم إناث فلا أذان عليهم، ولا تتولى الأذان المرأة؛ لأنها منهية عن رفع الصوت أمام الرجال.
ويشترط أيضاً أن يكون الأذان على الأحرار، أما إذا كانوا مماليك فيقولون: لا يجب عليهم الأذان، ولكن يسن؛ وذلك لأنهم مكلفون بأن يصلوا ولو كانوا مملوكين، ويجب على سادتهم أن يمكنوهم، ويخلوا لهم وقتاً يؤدون فيه الصلاة جماعة، إلا إذا كان المسجد بعيداً يستغرق ساعة مثلاً ذهاباً وساعة إياباً فلهم أن يمنعوهم؛ لأنهم قد يعتذرون بأنها عشر ساعات يفوت عليهم فيها خدمة هذا المملوك، فأما إذا كان المسجد قريباً كنصف ساعة أو ربع فلا يسقط عن المملوك.
- ويشترط أيضاً في الأذان: أن يكون على المقيمين، ويسن للمسافرين من غير وجوب، فالمقيمون يلزم عليهم، سواء كانوا في بيوت مدر أو في بيوت شعر، فيلزمهم ويجب عليهم، والمسافرون يسن لهم، وكان بلال رضي الله عنه يؤذن للصحابة وهم في السفر، ودائماً هو الذي يتولى الأذان عند دخول الوقت، بل يشرع حتى للمنفرد؛ لحديث عن أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني أراك تحب البادية والغنم، فإذا كنت في باديتك أو غنمك فأذنت فارفع الصوت بالأذان؛ فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن وإنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) ، فهو فضيلة حتى ولو كان منفرداً.(5/15)
حكم الأذان لغير الصلوات الخمس والجمعة
السنية تكون للصلوات الخمس المؤداة وللجمعة، ويخرج الكسوف، وينادى لها ولكن لا يؤذن لها بالأذان المعتاد، والاستسقاء، والعيد والتراويح لا يؤذن لها، ولو أنهم فاتتهم صلاة الفجر واستيقظوا بعدما طلعت الشمس، وأرادوا أن يقضوا الصلاة فلا يؤذنون، ولابد أن يكون الأذان للصلاة التي تؤدى في وقتها.(5/16)
الموالاة والترتيب في الآذان
ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، وترتيبه: أن يبدأ بالتكبيرات الأربع، ثم بالشهادتين الأربع، ثم بالحيعلات الأربع، ثم بالتكبيرتين، ثم بالتهليل كما هو معروف، هذا هو الترتيب، فلو قدم الشهادات لم يصح، ولو قدم الحيعلة على الشهادات لم يصح، ولم يسقط به الوجوب، ولابد أن يكون مرتباً.
كذلك لابد أن يكون متوالياً، فلو كبر التكبيرات الأربع ثم سكت، أو خرج -مثلاً- ثم رجع بعد خمس دقائق أو عشر دقائق أو أربع دقائق فاتته الموالاة، فلابد أن يعيده من أوله، ويعيد ما فعله حتى تكون متوالية، والسنة أن يقف بين كل تكبيرتين.
التوالي هو كونه إذا أتى بالتكبيرة أتى بالذي بعدها، والسنة أن يترسل في الأذان، وقد ورد فيه حديث: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر) والترسل: أن يقف بعد كل تكبيرة، وكلما أتى بتكبيرة وقف وتنفس، ثم أتى بالتكبيرة الثانية، ثم توقف وتنفس، ثم بالثالثة ويقف ويتنفس، ثم بالرابعة وهكذا الشهادات، وهكذا الحيعلات، وذلك ليحصل به مد الصوت؛ لأن المؤذن يمد صوته بقدر ما يستطيع، ومعلوم أنه إذا جمع جملتين في نفس لم يحصل مده كما ينبغي، فإذا جمع تكبيرتين في نفس لم يحصل المد المطلوب، ثم هو يخالف الترسل الذي في الحديث: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر) والحدر: هو الإسراع، والترسل: هو التأني في الإلقاء.
وهذا هو الأذان المعتاد.(5/17)
الفصل بين التكبيرات في الآذان
وفي السنين المتأخرة كان المؤذنون في الحرم يجمعون التكبيرتين في نفس واحد، الذي حملهم على ذلك: الإسراع من غير دليل، ثم جاءت الإذاعة فصارت تنقل صوت مؤذني الحرم على هيئته: تكبيرتين بنفس.
فاعتقد الناس أن هذا هو السنة، وقلدهم كثير من المؤذنين، وصاروا يجمعون تكبيرتين في نفس، وهو خلاف الحديث وخلاف الحكمة التي لأجلها شرع الأذان، وهو مده ومد كل جملة مداً بليغاً حتى تطول مدته، وكنا نسمع بعض المؤذنين قديماً أنه يقيم في الأذان -قبل وجود المكبر- نحو خمس دقائق يمد صوته؛ حتى يسمعه الغافل؛ لأن هناك إنساناً منشغلاً وإنساناً غافلاً، فإذا طالت مدته سمع ولو جملة، فالسنة أن يمد كل تكبيرة مداً بليغاً بأقصى نفسه، ثم يقف بعدها ويسترجع النفس، ثم يمد التكبيرة الثانية بقدر أقصى نفسه، ثم يقف بعدها، وهكذا التكبيرات الأربع، وهكذا الشهادات.
المد يكون في حروف المد، في (الله) يمد اللام، وكذلك في الشهادة (أن لا إله إلا الله) يمد هذه الحروف بقدر ما يتسع له نفسه، هذا هو الأذان المعتاد.
فنرى أن جمع التكبيرتين في نفس واحد من الخطأ، ورأيت من تكلم في ذلك من العلماء، نقل عن ذلك عن النووي أنه أجاز جمع التكبيرتين، وكأنه حكى ذلك قولاً في الجواز، وقال: لأنهما من جنس واحد.
ثم تكلم على ذلك المباركفوري -شارح الترمذي تحفة الأخوذي- وكأنه يرى استحباب جمع التكبيرتين في نفس واحد، ولكن سبب ذلك أنه رأى هذا هو أذان أهل الحرم.
والحجاج إذا حجوا ورأوا تكبير الحرم اعتقدوا أن أهل الحرم هم أهل السنة وهم أهل الدليل، وأنهم أقرب إلى الصواب، وما علموا أن هؤلاء مقلدة حدث منهم هذا في عهد أخير.
وقد كنا قبل خمسين سنة في مكة، وكان يؤذن أربعة مؤذنين في زوايا الحرم، هذا مؤذن حنفي، وهذا مالكي، وهذا شافعي، وهذا حنبلي، والمؤذن الحنبلي هو الذي يرتب الأذان، والأخيرون كأنهم مشوا على طريقتهم هذه التي هي طريقة محدثة: جمع التكبيرتين، ثم أمروا بعد ذلك بأن يقتصروا على المؤذن الواحد؛ لأنه يحصل به الإعلام، مع أنهم أيضاً قبل ثمانين سنة أو نحوها -قبل الفتح- كان يصلى أربع جماعات في الحرم، كل أهل مذهب يصلون وحدهم، حتى جمعهم الله تعالى بعد استيلاء هذه الدولة المباركة.
فالحاصل أن المباركفوري كأنه استدل بالحديث الذي في صحيح مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر.
فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر.
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله.
فقال: أشهد أن محمداً رسول الله.
ثم قال: حي على الصلاة.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: حي على الفلاح.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال: الله أكبر الله أكبر) ، فاستدل به على جمع التكبيرتين، ورأيت أيضاً بعض الشباب الذين يؤذنون على هذه الكيفية يستدلون بهذا الحديث، والجواب أن نقول: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم بهذا؟! هل تأكدتم أنه ما سكت بين التكبيرتين؟ قد يكون سكت، قد يكون قال: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر.
فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، وأيضاً فإنه من باب تعليمهم ما يقولون، والدليل: أنه ما ذكر إلا تكبيرتين مع أنها أربع، فكأنه يريد جنس التكبيرات، فلا يكون في هذا الحديث دليل على أنه يجمع التكبيرتين، هذا هو الذي أختاره.(5/18)
من شروط الأذان
يشترط أن يكون منوياً: أن يكون ناوياً الأذان أنه نداء للصلاة.
يشترط أن يكون من ذكر، فلا يجوز أن تؤذن الأنثى ولا يرفع صوتها ولو في أشرطة أو نحوها.
يشترط أن يكون مميزاً، فلا يكون صغيراً دون التمييز، وهذا دليل على أنه إذا ميز كابن سبع صح أذانه؛ لأنه يحصل به المقصود.
يشترط أن يكون عدلاً، وهذا يخرج الفاسق، فالفاسق ليس له أن يتولى أعمال الخير، لكن لو كان ظاهره العدالة اكتفي بذلك، ولا نبحث عن باطنه أو عن أسراره.
ويشترط أن يكون الأذان بعد دخول الوقت، فمن أذن قبل الوقت فإنه يعيد ولو بدقيقة، ولو أذن للمغرب قبل الغروب، أو للظهر قبل الزوال ولو بدقيقة يعيد، واختلفوا في أذان الفجر، وأكثر الفقهاء -إلا الحنابلة- أجازوا الأذان للفجر قبل طلوع الفجر، ومنهم المؤلف هنا، والصحيح أنه لا يجوز ولو اشتهر ذلك في كتب الحنابلة، وذلك لأن الصلاة لا تصح إلا بعد دخول وقتها، ومنها: صلاة الصبح، فلا تصح إلا بعدما يدخل الفجر، والفجر يدخل بطلوع الصبح، فلابد أن يكون بعد طلوع الفجر، وأما ما استدلوا به من أذان بلال؛ فإنه كان لأجل الصوام ينبهم على أن يستعدوا للسحور ونحوه.(5/19)
ما يسن للمؤذن
ما يسن للمؤذن؟ الوصف الأول: كونه صيتاً -أي: رفيع الصوت- لأنه المقصود، نعم يصح الأذان ولو كان صوته خافتاً ويحصل به المقصود، ولكن الحكمة من الأذان بلوغ الصوت إلى آخر القرية أو نحوها.
الوصف الثاني: أن يكون أميناً، وذلك لأنه يؤتمن على هذه العبادة، فيسمعه -مثلاً- المعذور أو النساء فيصلون في بيوتهم، ويسمعه الصائم فيفطر، ويسمعه الصائم فيمسك للصيام، فلابد أن يكون أميناً وموثوقاً يعتمد أذانه.
الوصف الثالث: أن يكون عالماً بالوقت، أي أن عنده معرفة بالمواقيت، بحيث إنه يعرف متى يدخل الوقت ومتى يخرج، ففي هذه الحال لابد أنه يتعلم أول الوقت وآخره.(5/20)
الأذان والإقامة في الجمع والقصر
يقولون: إذا جمع صلاتين في وقت واحد كالمسافر، أو من جمع لمطر أو نحوه كفاه أذان واحد.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما جمع في عرفه الظهرين اكتفى بأذان واحد، وفي مزدلفة العشائين أذن للأولى وأقام لكل صلاة.
كذلك أيضاً إذا قضى فوائت، فقد اشتهر أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام لما كان في غزوة الأحزاب شغله الأحزاب عن الأربع الصلوات: عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاها كلها في وقت العشاء أو بعد العشاء، وأذن مرة فاجتمعوا، ولم يكن هناك حاجة إلى أن يكرر الأذان لاجتماعهم، ثم صلى كل صلاة بإقامة.(5/21)
متابعة المؤذن وترديد قوله
يسن للمؤذن والسامع متابعته سراً، قالوا: المؤذن أيضاً يجيب نفسه، فإذا كبر وقال: (الله أكبر) بصوت مرتفع كبر أيضاً سراً ليحصل على إجابة نفسه، وكذا السامع إذا سمعه يكبر كبر، وبعد كل جملة إلا في الحيعلة فيقول الحوقلة، وذلك بأن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد كل واحدة، وهي أربعة جمل، وبعد التثويب -الذي هو قوله: الصلاة خير من النوم- يقول: صدقت وبررت.
كأنهم قالوا: إن هذا استحسان، وذلك لأن كلمة (حي على الصلاة) ليست ذكراً وليست آية، وإنما هي دعوة نداء.
أي: هلموا إلى الصلاة! فلا فائدة في أن تقولها وأنت تجيبه، ولا فائدة للسامع أن يقول: حي على الصلاة.
وكذلك في الصلاة إذا قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) .
فليست هذه ذكراً، فلا فائدة للمأموم في أن يقول: سمع الله لمن حمده، فلأجل ذلك يقول: ربنا ولك الحمد.
فهكذا في قول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) يأتي بالحوقلة لأنها ذكر، كأنه يقول: أنا أجيبك أيها المنادي معتمداً على حول الله وقوته، فليس لي حول وليس لي طول وليس لي قدرة وليس لي قوة إلا بأن يمدني الله تعالى بحول منه وبقوة منه، فيكون في هذا اعتماد على الله وتوكل عليه.
كذلك التثويب (الصلاة خير من النوم) ليست ذكراً، فلا فائدة في قولها، فإذا قال: صدقت وبررت، فإنه لا بأس بذلك، يكون ذكراً أن يصدقه فيما يقول.
وبعض العلماء يقول: يأتي بها لعموم الحديث الذي فيه: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ولكن الصحيح: أن عموم قوله: (فقولوا مثلما يقول) مستثنى منه الأشياء التي ليست ذكراً، ومثلها كلمة (قد قامت الصلاة) ليست ذكراً، فلا فائدة في أن يقولها، والحديث الذي فيه أن يقول: (أقامها الله وأدامها) ضعيف، ولكن لما كانت كلمة (أقامها الله وأدامها) كلمة دعاء فلا يعترض على من قالها، ولا يقال: إن هذا لم يثبت.
ونحن نقول: إنه لم يثبت مرفوعاً، ولكن الدعاء لا يمنع منه، وكونك تعيدها مع المقيم فتقول: قد قامت الصلاة.
لا فائدة في ذلك.(5/22)
الصلاة على النبي بعد الأذان
وبعد ذلك ذكر الصلاة على النبي، فيصلي السامع على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المؤذن نفسه، وذلك لأنه موطن إجابة للدعاء، ومن أسباب إجابة الدعاء تقديم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يصلى على النبي) .
قال: (وقول ما ورد) : ومنه: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) ، وزيادة (إنك لا تخلف الميعاد) ما وردت في الحديث، ولكن لا بأس بها، وذلك لأنها واردة في القرآن في مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194] ، فلا ينكر على من أتى بها، حيث إنها بعض آية من كلام الله.
يسن بعد ذلك: الدعاء، وقد ورد حديث: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) أي: من أسباب الإجابة.(5/23)
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان
قال المصنف رحمه الله: (يحرم خروج من مسجد بعد الأذان بلا عذر أو نية رجوع) .
ورد حديث عن أبي هريرة أنه رأى رجلاً بعد الأذان خرج من المسجد، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) ، ويحمل على أن أبا هريرة عرف أنه لا يرجع، أما إذا خرج ليتوضأ ثم يرجع سريعاً بأن كان حاقناً أو له عذر شديد فخرج وقضى حاجته ورجع فلا حرج عليه في ذلك، وهكذا إذا كان -مثلاً- إماماً في مسجد آخر فلا حرج أن يذهب إلى مسجده، أو عرف بأنه يدرك الصلاة في مسجد آخر، وكان له شغل في ذلك المسجد، كان له عذر، فالعذر في قوله: (بلا عذر) كونه -مثلاً- إماماً في مسجد، أو مؤذناً في مسجد آخر، أو له حاجة قرب ذلك المسجد، أو يريد أن يقطع بعض الطريق، أو نحو ذلك من الأعذار، فمثل هذا يباح له أن يخرج بعد الأذان إذا أمن ألا تفوته الصلاة جماعة.
والحكمة في ذلك: أنه إذا خرج فاتته الجماعة، فيكون تسبب في فوت صلاة الجماعة التي هي من الواجبات كما سيأتي.(5/24)
من شروط الصلاة: دخول الوقت
والشرط: ما لا يتم المشروط إلا به، وشروط الصلاة تكون قبلها، ولا يدخل فيها إلا بعدما تتكامل الشروط، وشروطها معروفة يحفظها الأطفال في المرحلة الابتدائية، وذكر هنا ستة، وهي تسعة، وذلك لأن الثلاثة الأول: الإسلام والعقل والتمييز شروط لكل عبادة، فكأنهم يتركونها لأنها معروفة متكررة، فيتكلمون على الشروط الخاصة بالصلاة.
الشرط الأول: الطهارة، وقد تقدمت في كتاب الطهارة، ويراد بها الطهارة من الحدث.
والشرط الثاني: دخول الوقت، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، من حكمة الله تعالى أنه ما أوجب الصلوات جميعاً سبع عشرة ركعة في وقت واحد، فإنه قد يشق ويصعب الإتيان بها في وقت واحد، فجعلت متفرقة، ومن الحكمة في ذلك: تجدد الصلة بالله، وذلك لأن العبد إذا غفل وقتاً من الأوقات، وقسا قلبه دخل عليه وقت الصلاة، وهو الوقت الذي يؤدي فيه عبادة فيها ذكر وشكر ودعاء، وفيها قراءة وخشوع وفيها إنابة وتذلل، فيكون هذا الذكر وهذه العبادة مما يصقل القلب، وينشطه على العبادة، ومما يزيل ما به من الغفلة، وما وقع من آثارها من القسوة.(5/25)
الحكمة من تفاوت الأوقات بين الصلوات
إن أطول الأوقات التي لا صلاة فيها: ما بعد العشاء وما بعد الفجر، وذلك لأن ما بعد العشاء محل راحة غالباً ومحل نوم، ومع ذلك شُرع فيه التهجد، وقد وردت الأدلة في تأكيد التهجد وفي تأكيد صلاة الليل وهي مشهورة.
والثاني: بعد الفجر إلى الظهر، ومع ذلك شرعت فيه صلاة الضحى، والحكمة أن يكون هذا الوقت الطويل لا يخلو من صلاة ولو تطوعاً.
أما بقية الأوقات فإنها متقاربة، من الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء، هذه أوقات متقاربة، فلأجل ذلك لا تطول فيها الغفلة.(5/26)
مأخذ المواقيت
هذه المواقيت قد تؤخذ من عموم الآيات أو من ظواهرها، واستنبطت من آية في سورة هود: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] .
(طرفي النهار) : يدخل في الطرف الأول صلاة الفجر وفي الطرف الثاني الظهر والعصر؛ لأنهما في النصف الثاني من النهار.
(وزلفاً من الليل) أي: المغرب والعشاء؛ لأنهما في أول الليل.
والآية الأخرى في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، (فدلوك الشمس) يعني: ميلها، ويدخل فيه الظهر والعصر.
و (غسق الليل) يدخل فيه المغرب والعشاء.
(قرآن الفجر) يعني: صلاة الفجر.
واستنبطت أيضاً من قوله تعالى في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18] .
فـ (حين تمسون) يذكر فيه صلاة المغرب والعشاء.
(وحين تصبحون) يذكر فيه صلاة الفجر.
و (عشياً) صلاة العصر.
و (حين تظهرون) صلاة الظهر هكذا فسّرها المفسرون.(5/27)
وقت صلاة الظهر
بدأ بالظهر؛ لأن الذي قبلها ليس وقتاً لشيءٍ من الفرائض.
أي ما بين طلوع الشمس إلى زوال الشمس لم يوقَّت فيه فريضة، فهو ليس وقتاً لشيءٍ من الصلوات المكتوبة، فلذلك بدءوا بالظهر؛ لأن الأوقات التي بعدها متصل بعضها ببعض، فالظهر يتصل وقتها بالعصر وليس بينهما فاصل، والعصر يمتد وقتها إلى المغرب، والمغرب يمتد وقتها إلى العشاء، والعشاء يمتد وقتها إلى الفجر.
ويبدأ وقت الظهر بالزوال.
والزوال يراد به زوال الشمس من وسط السماء، ومعلوم أن الشمس إذا طلعت لا تزال ترتفع وينتصب للأشياء ظل، وكل شيءٍ شاخص فإنه يكون له ظل، ثم لا يزال ذلك الظل يتقلص وينقص حتى تكون في وسط السماء فيتوقف نقصه، فإذا مالت إلى جهة الغرب ابتدأ يزيد ولا يزال يزيد إلى أن تغرب، فإذا مالت وابتدأ الظل في الزيادة ولو قدر أنملة دخل وقت الظهر.
إذاً: يدخل وقت الظهر بزوال الشمس وذلك إذا مالت وابتدأ الظل بالزيادة.
يقول رحمه الله: [حتى يتساوى منتصب وفيئه سوى ظل الزوال] .
يعني: متى ينتهي وقت الظهر؟ إذا تساوى منتصبٌ وفيئه.
(فيئه) أي: ظله.
ويراد ما كان زائداً على الظل الموجود وقت الزوال.
فمثلاً: إذا نظرنا إلى شيء منتصب عندما زالت الشمس، ومن وقت زوال كانت الشمس مائلة إلى جهة الجنوب، فكان له ظل -مثلاً- ولو قدر أصبعين؛ فهذا الظل الموجود وقت الزوال لا نعتد به، وإنما يبدأ وقت الظهر من زيادة الظل، ولا نحسب الظل الموجود وقت الزوال، ثم لا يزال وقت الظهر ممتداً حتى يصير ظله مثله، ويتساوى وفيئه.
إذا قدرنا مثلاً: أن هذا الشيء ثمانية سنتيمتر مثلاً، فإذا زاد طول الظل بعد الظل الموجود على ثمانية سنتيمتر خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر.
- نفرض مثلاً: أن طول هذا الجدار عشرة أمتار، فمتر موجود قبل الزوال وعشرة بعده، إذا وصل ظله إلى أحد عشر متراً انتهى وقت الظهر ودخل وقت العصر.
- افرض أنك وقفت وقت الزوال وإذا ظلك قدم، فهذا الظل الموجود وقت الزوال لا يعتد به، ويمتد وقت الظهر إلى أن يكون ظلك مثلك.
- افرض مثلاً: أن طولك مائة وخمسون سنتيمتر، فإذا كان الظل مثلك فإنه يخرج وقت الظهر ويدخل وقت العصر، فهذا معنى قوله: (يتساوى منتصب وفيئه سوى ظل الزوال) .(5/28)
وقت صلاة العصر
إذا انتهى وقت الظهر دخل وقت العصر.
والعصر لها وقتان، وقت اختيار ووقت اضطرار، والمختار يبدأ من خروج وقت الظهر حتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه.
أي: إذا كان ظلك مثلك مرتين ولا تعد الظل الموجود وقت الزوال خرج وقت الاختيار ودخل وقت الاضطرار، ووقت الضرورة يمتد إلى أن تغيب الشمس، وقد تقدم أنه لا يجوز تأخيرها إلى وقت الضرورة إلا لعذر.(5/29)
وقت صلاة المغرب
وبعد الغروب يدخل وقت المغرب، ويمتد حتى يغيب الشفق الأحمر، والشفق الأحمر هو الحمرة التي تكون في الجهة الغربية بعد غروب الشمس، فإذا انتهت وغابت تلك الحمرة وأظلم الجو خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء.(5/30)
وقت صلاة العشاء
والعشاء أيضاً لها وقتان: وقت اختيار ووقت اضطرار، فالمختار يبدأ من غروب الشفق إلى ثلث الليل الأول، وقيل إلى نصفه، ووقت الضرورة إلى طلوع الفجر.(5/31)
وقت صلاة الفجر
والفجر فجران، فجر أول وهو بياض في آخر الليل مستطيل دقيق يشبهونه بذنب السرحان، فهذا لا يدخل به وقت الفجر ولا يحرم على الصائم الأكل، وأما الفجر الثاني ويسمى الفجر الصادق: فهو البياض المعترِض في الأفق الشرقي فهذا هو الذي يحرم الطعام على الصائم، ويبيح صلاة الفجر، ووقت الفجر يمتد إلى طلوع الشمس.
يعني: إلى خروجها، فيخرج وقتها ولا يكون وقتاً بعد طلوع الشمس.(5/32)
ما تدرك به المكتوبة
قال المصنف رحمه الله: [تدرك المكتوبة بإحرم في وقتها] إذا أحرم فقال: (الله أكبر) قبل أن يخرج الوقت فقد أدرك الوقت وأصبحت صلاته أداءً لا قضاءً، هذا قول، والقول الثاني أنه لا يُدرك إلا بإدراك ركعة، وهذا هو الصواب الصحيح أنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك ركعة، قال صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، يعني: فيضيف إليها باقي الصلاة.
لكن ورد في رواية: (من أدرك سجدة من الصبح قبل أن تطلع الشمس) ، وحملت السجدة على أن المراد بها الركعة التي هي قيام وقعود وركوع وسجود، فمن أدرك ركعة عُدّت صلاته أداءً وإلا فهي قضاء، ويحرُم تأخيرها إلى وقت لا يسعها، ويحرم أن يؤخرها إلى أن يبقى وقتٌ يضيق عن أدائها، فإذا كانت -مثلاً- صلاة الفجر تستغرق أربع دقائق فأخرها إلى أن لم يبق إلا ثلاث أو دقيقتان حرم عليه، أو صلاة العصر تستغرق أربع دقائق أو خمساً فأخرها حتى لم يبق بينه وبين غروب الشمس إلا دقيقتان، فلا يجوز ذلك.
والصلاة لا بد أن تكون في الوقت، فلا يصلي حتى يتيقن أن الوقت قد دخل؛ لأنه ربما يؤديها قبل دخول الوقت فلا تجزئ، فلا يصلي الظهر حتى يتحقق أن الشمس قد زالت، ويعرف الزوال بزيادة الظل إذا كانت الشمس طالعة، وإذا كان غيماً فبالتحري أو يغلب على ظنه دخوله إن عجز عن اليقين.
إذا غلب على الظن أنه قد زالت الشمس أو قد طلع الفجر إن كان هناك -مثلاً- غيم، يعني: قبل انتشار الساعات الموجودة؛ لأن الساعات تحدد الوقت.
ويعيد إن أخطأ: فلو قدر -مثلاً- أنه صلى الفجر قبل أن يطلع الفجر، ثم تبين أنه أخطأ فيعيد، وكذلك لو تبيّن أنه صلى المغرب قبل غروب الشمس ولو بدقيقة فيعيد.
قال المصنف رحمه الله: [من صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها بتكبيرة لزمته وما يجمع إليها قبلها] من صار أهلاً لوجوبها.
يعني: من وجبت عليه قبل أن يخرج وقتها بتكبيرة لزمته وما يجمع إليها قبلها.
إذا أدرك من آخر وقتها قدر تحريمة وهو أهل لوجوبها لزمته، يدخل في ذلك مثالان: المثال الأول: المجنون، إذا أفاق قبل أن تغرب الشمس بدقيقة أو بتكبيرة لزمته العصر وما يجمع إليها، لأنه أدرك آخر العصر، والذي يجمع إليها قبلها هو الظهر؛ فيقضي الصلاتين، لأنه قبل ذلك كان ساقطاً عن التكليف ولكن الآن أصبح مكلفاً، فنقول له: اقض الصلاتين اللتين أدركت وقتهما ولو لم تدرك إلا جزءاً يسيراً، لأن وقتهما واحد.
وكذلك في العشائين إذا أفاق هذا المجنون قبل أن يطلع الفجر بدقيقة أو بنصف دقيقة أو بقدر تحريمة ألزمناه أن يقضي صلاة المغرب والعشاء لأنه أدرك آخر وقتهما وهما تجمعان.
المثال الثاني: الحائض، وهذا يقع كثيراً إذا طهرت الحائض قبل أن تغرب الشمس بدقيقة لزمها الظهران، وإذا طهرت قبل أن يطلع الفجر لزمها العشاءان، والعمدة في ذلك أنها صارت من أهل التكليف، وأن الصلاتين وقتهما واحد.
ثم العمدة أيضاً على ورود آثار عن الصحابة، فهو مرويٌ عن عبد الرحمن بن عوف وعن سعد بن أبي وقاص وعن ابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة رواها ابن أبي شيبة في مصنفه في المجلد الثاني الطبعة القديمة في صفحة (235) أو نحوها.
وكثير من النساء جادلن في ذلك، فنقول: العمدة في ذلك كلام هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وهم لا يقولون إلا عن توقيف.(5/33)
ترتيب قضاء الفوائت فوراً
قال المصنف رحمه الله: [يجب فوراً قضاء فوائت مرتباً] .
إذا كان عليه فوائت فإنه يجب قضاؤها فوراً، فلا يؤخرها، مثال ذلك: شخص كان مغمى عليه لمدة يومين، أو ثلاثة أيام، فإذا فاق صار عليه قضاء خمسة عشر فرضاً، ففي هذه الحال يقضي هذه الفروض إذا صحا مرتِّباً لها.
إذا كان أولها -مثلاً- الفجر صلى فجر ظهر عصر مغرب عشاء فجر ظهر وهكذا حتى يكملها، ولا يؤخرها بل يأتي بها فوراً.
يعني: ساعة ما يصحو أو ساعة ما ينتهي عذره، كصاحب البنج -مثلاً- إذا زال العذر قضاها فوراً مرتّبة.
فإن تضرر فله أن يؤخرها -مثلاً- إذا سئم وتعب، أو إذا كان مريضاً -مثلاً- ويشق عليه ذلك، وبقي فيه من أثر المرض إرهاق وتعب، ففي هذه الحال يجوز أن يؤخر بعضها حتى يريح نفسه قليلاً، وإذا نسي أولها صلاها حسب اعتقاده.
يعتقد بعض الناس أن قضاءها يكون كل وقت مع وقته، يقول: إذا صليت الظهر صل معها ظهر من الفوائت، وإذا صليت العصر صل معها عصراً من الفوائت، وكذا المغرب والعشاء والفجر، وهذا خطأ لا دليل عليه، بل تقضيها كلها متوالية.
وكذلك إذا خشي فوت الحاضرة أو اختيارها: كما إذا استمر يصلي حتى خرج وقت الظهر، فنقول: يقدِّم الظهر؛ لأنها تؤدى أداءً، أو إذا استمر يقضي هذه الصلوات فخرج وقت الاختيار للعصر وهو صيرورة ظل الشيء مثليه، فيقدِّم العصر.(5/34)
من شروط الصلاة: ستر العورة
قال المصنف رحمه الله: [ستر العورة] :(5/35)
تعريف العورة
الشرط الثالث: ستر العورة: ومسائله يسيرة.
العورة: هي ما يلحق كاشفها عار.
والسوءة: هي ما يلحق الإنسان عار وعيب ويسوءه ذلك، لأجل ذلك تسمى السوءة، في قوله تعالى: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22] .
يجب ستر العورة حتى في خارج الصلاة؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، ولقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] .(5/36)
ما يحصل به ستر العورة
يستر الإنسان عورته بشيء طاهر ولو كان في خلوة وليس عنده أحد، روي أنه عليه الصلاة والسلام قيل له: (يا رسول الله! يغتسل أحدنا في الصحراء عارياً، فقال: الله أحق أن يستحيا منه) ، وكذا إذا كان في ظلمة، ولا يقول: ليس عندي أحد يرى عورتي، بل يستر عورته.
والستر يكون بما لا يصف بشرته.
يعني: بالستر الذي يستر الجسد بحيث لا يكون شفافاً توصف من ورائه البشرة بحيث يُرى شعر البشرة أو لونها بياض أو سواد أو حمرة، ولا بد أن يكون الساتر يستر ظاهر الجسد فلا يرى ما وراءه.(5/37)
بيان حد العورة
عورة الرجل والصغيرة الحرة والصغيرة المراهقة التي دون البلوغ والأمة كبيرة أو صغيرة من السرة إلى الركبة، وابن سبع إلى عشر عورته الفرجان فقط.
الحرة: المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة، فإنها تكشف وجهها في الصلاة، أما بقية بدنها فإنها تستره لحديث أم سلمة قالت: (يا رسول الله! أتصلي المرأة بالدرع الواحد فقال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) ، فاشترط أن يغطي ظهور القدمين، وهكذا يغطي الكفين ويغطي العنق مع تغطيتها بقية الجسد.(5/38)
ستر المنكبين في الصلاة
الصحيح أنه يشترط للرجل إذا صلى فرضاً أن يستر العورة التي من السرة إلى الركبة ويستر المنكبين أو أحدهما، أي: العاتقين، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) ، فلا بد أن يستر العاتق أو العاتقين، وفي بعض الروايات: (عاتقيه) .
ومن العلماء من أجاز أن يقتصر على ستر عورته، واستدل الشافعية بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان واسعاً فالتحف به وإن ضيقاً فاتزر به) ، فأباح أن تجعله إزاراً فتصلي في الإزار ولكن لعل هذا لعذر.
وعن أبي هريرة أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيصلي أحدنا في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان) ، وفي لفظ: (أوكلكم يجد ثوبين) ، يعني: أن كثيراً منهم لا يجدون إلا ثوباً واحداً إزاراً أو رداءً، فأكثر لباسهم كلباس المحرم.
ومن انكشفت بعض عورته وفحُش أعاد، أما إذا كشفت الريح -مثلاً- إزاره أو ثوبه ولكنه غطاه بسرعة فلا يعيد، وذلك لأن هذا ليس فاحشاً، فأما إذا انكشف بعض عورته.
يعني: ما فوق الركبة أو ما تحت السرة وفحش -يعني: طالت المدة- فإنه يعيد، وكذا إذا صلى في نجس أو غصب ثوباً أو بقعة أعاد.(5/39)
الصلاة في الثوب المغصوب
ذكرنا أنه إذا صلى في ثوب أو بقعة مغصوبة فالصحيح أنه لا يعيد، وذلك لأنه أدى الصلاة كما ينبغي، ولكنا نقول له: آثم، وصاحب المغصوب يطالبه بأجرته سواءٌ أجرته للصلاة فيه أو أجرته خارج الصلاة، وصاحب البقعة المغصوبة أيضاً يطالبه بردها، أما الثوب النجس فإنه إذا صلى فيه متعمداً فإنه يعيد، كما سيأتي، ولا بد أن يصلي في ثوب طاهر.
قال: (لا من حُبس في محل نجس لا يمكنه الخروج منه) أي: إذا حبس والمكان نجس كمزبلة مثلاً أو مكان فيه أبوال أو أرواث أو فيه دماء ولا يستطيع التخلص فهو معذور، فيصلي على حسب حاله.(5/40)
شرح أخصر المختصرات [6]
اجتناب النجاسات واستقبال القبلة والنية من شروط الصلاة، وهي شروط تتعلق بها أحكام وتتفرع عليها مسائل ينبغي للمسلم معرفتها.(6/1)
من شروط الصلاة: اجتناب النجاسة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
ابتدأنا في كتاب الصلاة، وذكر المؤلف من تجب عليه الصلاة، ومن تسقط عنه، ومتى يؤمر بها الصغير، ومتى يضرب، وحكم تأخيرها إلى آخر الوقت، وحكم من جحدها، وكذلك ذكر الأذان والإقامة على من يجبا، وما يشترط للأذان من الترتيب والموالاة والنية، ومن يصح منه، وأنه يشترط أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، وذكرنا أن استثناء الفجر بناءً منهم على حديث بلال أنه كان يؤذن في آخر الليل، والظاهر من الأحاديث أنه ما كان يفعل إلا في رمضان أو آخر الليل، ولم يقتصروا على أذانه بل يؤذن بعده ابن أم مكتوم، فيترجح أنه لا يؤذن لصلاة إلا بعد أن يدخل وقتها، ولا فرق بين الفجر وغيره.
وكذلك متابعة المؤذن في كلمات الأذان وما له في ذلك من الأجر، وأنه إذا كان ذلك خالصاً من قلبه دخل الجنة، وأنه لا يتابع في الحيعلة، ولا في التثويب ولا في قد قامت الصلاة؛ لأنها ليست من الأذكار، وما يقول بعد الفراغ من الأذان، وكذلك أيضاً شروط الصلاة والحكمة في تفريق المواقيت، ودخول وقت الظهر ونهاية ذاك الوقت، وأن صلاة العصر لها وقتان اختياري واضطراري، وكذا العشاء، وبأي شيء تدرك الصلاة في وقتها لتكون أداءً لا قضاءً، وترجيح أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، وكذا إدراك الجماعة، ووجوب التأكد من دخول الوقت ولو بغلبة الظن، وأنه إذا صلى قبل الوقت وأخطأ فإنه يعيد.
وحكم من أدرك أول وقتها وهو غير مكلّف ثم كلِّف في آخر وقتها كالمجنون يفيق والحائض تطهر في آخر الوقت، وماذا تقضيه، وحكم قضاء الفوائت وكيفيته، وحكم ستر العورة، ومتى يجب، وهل يختص الستر بداخل الصلاة؟ ومقدار عورة الرجل والحرة والأمة والصغير، وكذلك من انكشف بعض عورته في الصلاة وفحُش، وحكم من صلى في مكان نجس أو مغصوب أو ثوب مغصوب يرجِّحون أنه يعيد، والراجح أنه لا يعيد إذا صلى في ثوب مغصوب أو بقعة مغصوبة، ولكنه يأثم.
هذه خلاصة ما مر بنا.
والآن نأتي إلى بقية الشروط.
قال رحمه الله: [الرابع: اجتناب نجاسة غير معفو عنها في بدن وثوب وبقعة مع القدرة.
ومن جبر عظمه أو خاطه بنجس وتضرر بقلعه لم يجب، ويتيمم إن لم يغطه اللحم، ولا تصح بلا عذر في مقبرة وخلاء وحمام وأعطان إبل، ومجزرة ومزبلة، وقارعة طريق، ولا في أسطحتها.
الخامس: استقبال القبلة، ولا تصح بدونه إلا لعاجز ومتنفل في سفر مباح، وفرض قريب منها إصابة عينها وبعيد جهتها، ويعمل وجوباً بخبر ثقة بيقين وبمحاريب المسلمين، وإن اشتبهت في السفر اجتهد عارف بأدلتها وقلّد غيره، وإن صلى بلا أحدهما مع القدرة قضى مطلقاً.
السادس: النية، فيجب تعيين معيَّنة وسنة مقارنتها لتكبيرة إحرام، ولا يضر تقديمها عليها بيسير، وشُرِط نية إمامة وائتمام ولمؤتم انفراد لعذر، وتبطل صلاته ببطلان صلاة إمامه لا عكسه إن نوى إمام الانفراد] .
من شروط الصلاة: اجتناب النجاسة: النجاسة يراد بها النجاسة العينية كالبول والغائط والقيء النجس والدم وأجزاء الميتة والخمر والدواب النجسة كالخنزير والحُمُر، وأرواث الدواب النجسة كروث الحُمُر ونحوه، فهذه كلها تسمى نجاسات عينية، وهي التي لو غسلت لم تطهر، مثلاً الكلب لو غسل ثم غسل لا يطهر، الميتة لو غسلت لم تطهر بالغسل، وكذلك الخنزير والأعيان النجسة.
فالمصلي يكون متطهراً ويجتنب النجاسات، سواء في ثيابه أو على بدنه أو في البقعة التي يصلي عليها حتى لا يكون حاملاً للنجاسة، لو حمل النجاسة ولو مثلاً قطرات بول في قارورة، أو نقط دم لا يعفى عنها في منديل، فإنه لا تصح صلاته.(6/2)
نجاسة الدم
ويتساهل كثير من الناس في حمل المناديل التي فيها دم، أحدهم مثلاً يرعف، أو يظهر في أسنانه شيءٌ من الدم أو في جرح معه فتراه يمسحه بالمنديل ثم يستمر في صلاته ويجعل المنديل في مخبئه، ويكون ذلك الدم مما لا يعفى عنه، فمثل هذا لا يصح أن يحمله.
وكذلك لو خرج منه الدم في خارج الصلاة ومسحه بمنديل مثلاً ثم حمل المنديل معه فإن هذا خطأ، لا يصلي وهو حامل لنجاسة.
ثم نقول: قد تقدم في بعض الأسئلة التي عرضت أن بعضهم يشك في نجاسة الدم، وكثير من الإخوان يقولون: الدم ليس بنجس، وذكرنا أنه نجس، وإنما يعفى عن قليله، كنطفة أو نقطٍ يسيرة متفرقة، وذكرنا أن الدليل كونه محرَّماً: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، وكل محرم من السوائل فإنه نجس العين، ومن الأدلة أيضاً على نجاسته: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في تطهيره بثلاثة أشياء سُئِل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) ، وذلك دليل على نجاسته.
ولا يقال: إن هذا خاص بدم الحيض فإن الحكم واحد، لأن دم الحيض أصله يخرج من عروق في جوف المرأة خلقها الله تعالى لتغذية الجنين، فهي من جملة بدن المرأة.
وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن دم المستحاضة دم عرق يقال له (العاذل) ، فدل على أن مخرجه واحد ويُلحق به بقية الدماء من الجروح ومن البدن ومن الذبيحة ونحوها، وذكرنا أن صلاة عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً، لأنه معذور، ويُلحق بمن حدثه دائم، لأن الذي حدثه دائم كالجروح السيالة، وصاحب السلس يصلي على حسب حاله، ولأنه لو ترك الصلاة ما توقّف الدم، وكذلك صلاة الصحابي الذي رمي وهو يصلي واستمر في صلاته ودمه ينزف، لأنه لا يستطيع إيقاف الدم فاستمر في صلاته، فهو كمن حدثه دائم، وهناك أدلة أخرى كثيرة.(6/3)
ما يعفى عنه من النجاسات في الصلاة
هناك نجاسة معفو عنها، وهي مثل نقط الدم اليسيرة؛ يعفى عن نقطة أو نقطتين أو ثلاث متفرقة من الدم، وذلك للمشقة.
ويعفى أيضاً: عن أثر الاستجمار بمحله، إذا استجمر الإنسان بعد التغوط ومسح أثر الخارج بالحجارة وبقي شيءٌ لا يزيله إلا الماء فمثل هذا يُعفى عنه كما تقدّم في إزالة النجاسة، وذكر أنه يعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم ونحوه من حيوان طاهر، لا دم سبيل.
وكذلك أيضاً دم ما لا نفس له سائلة كدم البراغيث والقمل ونحو ذلك.(6/4)
النجاسة في الثوب والبدن
ويتجنب النجاسة في ثوبه وفي بدنه وفي البقعة التي يصلي عليها، ويكون ذلك مع القدرة، فإن عجز فهو معذور، فإذا لم يجد إلا الثوب الذي فيه نجاسة، أو سجن في مكان نجس، أو ليس له قدرة كالمريض الذي لا يستطيع أن يتطهر، ولا يستطيع أن يمسك بوله، ولا يستطيع أن يتطهر بعد التخلي، فمثل هذا عاجز عن التطهر، فيصلي على حسب حاله.(6/5)
النجاسة في جبر العظم أو خياطه
قال: (ومن جُبِر عظمه بنجس أو خاط جرحاً بنجس وتضرر بقلعه لم يجب قلعه وصلى على حسب حاله) .
الجبر قد يكون بعظم ميتة -مثلاً- يشدونه عليه، أو بجلد نجس يمسكون به الجرح.
أو يخاط به الجرح أو يُجبر به العظم، ويشق عليه قلعه، فإنه لا يجب ولكن يتيمم.
فإن غطاه اللحم.
أي: نبت اللحم على هذا الشيء، كما لو جرح وأدخلوا في الجرح خيطاً نجساً خيط به ونبت اللحم عليه، فهل يلزمه أن يشق اللحم وأن يخرج ذلك الخيط النجس؟ هذا فيه مشقة، فيعفى عن ذلك.(6/6)
المواضع التي لا تصح الصلاة فيها
وذكر بعد ذلك المواضع التي لا تصح الصلاة فيها، وهي: الأول: المقبرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة في المقبرة والحمام.
واختُلِف في العلة، فأكثر الفقهاء على أن العلة تلوثها بصديد الموتى.
يعني: أن الميت يتحلل ويخرج منه في قبره رائحة منتنة وأن تلك الرائحة تمتصها الأرض وتظهر على وجه الأرض فلا يجوز أن يصلى فيها لهذا السبب.
والصحيح من التعليل أن العلة مظنة الغلو فيها، ولذلك نُهي عن الصلاة عند قبور الأنبياء: (لا تتخذوا القبور مساجد) ، مع أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، فهو دليل على أن العلة خوف الغلو في الأموات ودعائهم مع الله، وهذا هو الذي وقع من القبوريين، فإنهم لما بنوا على القبور زيّن لهم الشيطان أن ذلك من تعظيمها ومن احترام أهلها، فوقع من بعدهم في دعاء الأموات، فصاروا يقصدون تلك القبور الذي يقال: إنها قبور أولياء وسادة، أو شهداء أو صالحين، فأدى الأمر إلى عبادتها مع الله.
فالصحيح ما علل به شيخ الإسلام أنها مظنة الغلو، وقد ذكر ذلك في اقتضاء الصراط المستقيم.
الثاني: الخلاء، يراد به: بيت الخلاء، ويسمى الحش والكنيف والمرحاض، وتسميته بالحمام تسمية جديدة، وهو محل قضاء الحاجة.
وورد أيضاً: النهي عن الصلاة في الحمام، وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام، وليس المراد الحمام الذي في البيوت الذي هو بيت التخلي، بل المراد الحمام الذي يكون في البلاد الباردة كالشام والعراق ومصر وتركيا وغيرها، وهو عبارة عن بيت يحفر له في الأرض دور أو دورين ثم يكون فيه ماء ساخن يدخله الإنسان حتى يستحم بمعنى يتنظف، وكرهوا الصلاة فيه لما فيه من كشف العورات، أي: أنه يكثر فيه كشف العورات، وكان في الزمان القديم مظلِماً، وفي هذه الأزمنة بعد وجود الكهرباء استطاعوا أن ينوروه، فأصبح كأنه الأقبية التي يحفر لها في الأرض.
والحاصل أنه نهي عن الصلاة فيه لهذه العلة.
وأما النهي عن الصلاة في الخلاء، فلأجل أنه مأوى الشياطين، والشياطين تألف الأماكن القذرة، ولذلك ورد في حديث: (إن هذه الحشوش محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين، وأمر بالاستعاذة من الخبث والخبائث: ذكور الشياطين وإناثهم.
فهذه هي العلة.
الثالث: الحمام، ذكرنا أنه غير الخلاء، وأنه الدور التي يحفر لها في الأرض ويُستحم فيها، ويدخلها من يستحم فيها لوجود الماء الساخن.
الرابع: أعطان الإبل، والعلة أنها مأوى الشياطين، وقد ورد في حديث: (إن على ذروة كل بعير شيطان) ، وفي حديث: (إنها جن خلقت من جن) ، وفي حديث آخر: إن الفضاضة وغلظ الطبع في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في الغنم.
هكذا علل كثير من العلماء، وعللوا بذلك أيضاً الوضوء من أكل لحمها، ومنهم من علل بأن مبارك الإبل مظنة النجاسة، وأن كثيراً إذا أراد التغوط أو التبول استتروا بالإبل فتكون تلك المبارك لا تخلو من نجاسة.
الخامس: المجزرة، وهي التي تذبح فيها البهائم لأنها تتسخ بالدم وبالفرث، وذلك دليل على أنها نجسة ومستقذرة.
السادس: المزبلة، التي هي مُلقى الزبالات والقمامات والنفايات؛ لأن الغالب أنها لا تخلو من نجاسة، ولأنها مستقذرة تقذرها النفوس وتنفر من هذه القمامات.
السابع: قارعة الطريق، واختُلف في العلة، فقيل: إن الناس إذا سلكوا هذا الطريق غالباً ما يلقون النجاسة فيها، فإذا حقِن أحدهم تبوّل في الطريق أو قريباً منه، أو أنها لكثرة مرور الناس عليها يلقى فيها قمامات ونفايات ونحوها، وقيل: العلة التشويش، وأنه إذا صلى في قارعة الطريق تشوّش بكثرة المارين الذين يسيرون مع هذه الطريق فلا يقبل على صلاته.
وأما الصلاة بأسطحها فيراد به سطح الحمام مثلاً، والخلاء وأشباهها، وقد ذكروا أنها لا تصح، ولكن لعل القول بالصحة أقرب، وذلك لأن الذي يصلي لا يشاهد نجاسة ولا يشاهد شيئاً مما نهي عنه فلا ضرر عليه، ولا أثر عليه.
ولذلك إذا تنجست الأرض ويبست النجاسة عليها ولم تجد ما تغسلها به، وبسطت عليها بساطاً صحّت الصلاة.
ويحدث كثيراً في المساجد أن البالوعة يُحتاج إلى سطحها، في التوسع فيفرش عليها إذا ضاق المسجد لصلاة جمعة أو نحوها، فيضطرون إلى أن يصلوا في سطحها مع أنها الذي فيها نجاسات محققة، فالصحيح أنه لا مانع من الصلاة في أسطحها.(6/7)
من شروط الصلاة: استقبال القبلة
الشرط الخامس: استقبال القبلة: قال الله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ، المسجد الحرام يراد به الكعبة، ويدخل في ذلك: المسجد الذي حول الكعبة، فالمصلي مأمور بأن يستقبل بيت الله تعالى الذي هو الكعبة المشرفة، ويستقبل المسجد الذي حولها إذا كان خارجه، ولكن الأصل أن القبلة هي الكعبة المشرفة، ولأجل ذلك إذا صليت خارج حيطان المسجد فعليك أن تتحقق أنك مستقبل بناية الكعبة، ولا تكتفي ببناية أو جانب من جوانب المسجد، ومن ثم يعفى في ذلك عن العاجز، مثلا: ً المريض الذي لا يستطيع التوجه؛ لأنه مضطجع على سريره والسرير موجه لغير القبلة، ولا يستطيع الحركة، وليس هناك حيلة في توجيه السرير إلى القبلة، فمثل هذا عاجز، يصلي على حسب حاله، ويدخل في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] .
أي: فثم الجهة التي تتوجهون إليها، وهي مجزئ أن يصلى فيها.
قال: (والمتنفل إذا كان في سفر مباح) ، قوله: (مباح) يخرج سفر المعصية، كالذي يسافر ليقطع الطريق، أو ليسرق، أو ليزني، أو ليقتل مسلماً، فلا تباح له الرخص، هكذا عللوا.
السفر يأتينا أنه ما لا يقطع إلا بكلفة ومشقة، ولما كان السفر مظنة المشقة، وكان المسلم إذا سافر يحب أن لا تفوته أوراده وصلواته رخص له بأن يصلي على ظهر بعيره، ولو كان وجهه لغير القبلة، فقد تكون القبلة خلفه أو عن أحد جانبيه، فيصلي إلى جهته اغتناماً للصلاة، حتى لا تفوته هذه الأوراد والسنن الرواتب.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر يصلي النوافل على راحلته حيثما توجهت به، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فالفريضة لها مكانتها وأهميتها، فينزل ويصلي على الأرض، ويصلي بأصحابه وكذلك يأمرهم.(6/8)
ما بين الجهتين قبلة
قوله: (وفرض قريب منها إصابة عينها وبعيد جهتها) : أي: القريب الذي في مكة وفي حدودها يلزمه أن يحدد جهة الكعبة فيتوجه إلى عينها، وأما البعيد الذي في الجهات البعيدة كهذه البلاد وما حولها، وخارج المملكة فيكفيهم أن يتوجهوا إلى جهتها؛ لأن الجهات مثلاً أربع: جهة المشرق، وجهة المغرب، وجهة الشمال، وجهة الجنوب، فهذه الجهات الأربع يكفي إذا توجه إلى الجهات التي هي فيها، ولو مال عنها يمنة أو يسرة؛ وذلك لأن الجهات التالية ورد فيها حديث في السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) بالنسبة إلى أهل المدينة؛ لأن قبلتهم في جهة الجنوب، ويقول: هذه الجهة التي هي القبلة إذا مال عنها قليلاً، ولم يكن إلى جهة الغرب، أو مال عنها يساراً، ولم يكن إلى جهة الشرق، فما بين الجهتين كله قبلة، يقال في هذه البلدة -أي: في الرياض- ما بين الشمال والجنوب قبلة، أي: أنت على قبلة ما لم تستقبل الشمال وتستقبل الجنوب، ولكن مع ذلك يحرص على تحري الإصابة.
قوله: (ويعمل وجوباً بخبر ثقات بيقين) أي: إذا أخبرك موثوق أن هذه القبلة فاعمل به ولو كان واحداً.
قوله: (وبمحاريب المسلمين) أي: إذا كنت مسافراً ودخل عليك الوقت، ورأيت محراباً موجهاً إلى القبلة في بلاد الإسلام فاعمل به.
قوله: (وإن اشتبهت في السفر اجتهد عارف بأدلتها) : إذا اشتبهت عليه في السفر فإنه يجتهد بعلامتها كمطالع الشمس والقمر، ومنازل النجوم؛ فإن الذي يعرف النجوم يعرف أن نجماً يطلع من جهة الشرق، وآخر يطلع من جهة كذا ويعرف -مثلاً- أن نجم سهيل يطلع من جانب من المشرق، وأن نجماً يقال له الثريا يطلع من وسط المشرق، وكذلك بقية النجوم يعرفها بالمنازل فيجتهد.
قوله: (وقلد غيره) : من كان لا يعرف فإنه يقلد العارف، وإذا صلى بلا اجتهاد وهو قادر على أن يجتهد فأخطأ فعليه القضاء مطلقاً، وذلك لأنه لم يأت بشرطها.(6/9)
من شروط الصلاة: النية
الشرط السادس: النية: ويتوسع كثير من العلماء في النية ويشددون فيها؛ وسبب ذلك أن الشافعية رحمهم الله هم الذي توسعوا في أمر النية؛ لأنه نقل عن الشافعي أنه قال: تفتتح الصلاة بفرضين وسنة، الفرضان هما: النية والتحريم، والسنة رفع اليدين، فلما نقل هذا اعتقد الشافعية أنه يريد التلفظ بها، فصاروا يتلفظون بالنية عند الصلاة، والصحيح أن النية محلها القلب، وأن التلفظ بها بدعة، ولذلك قيل للإمام أحمد: تقول قبل التحريم شيئاً؟ قال: (لا.
إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه) .
أي: لم ينقل عنهم أنهم كانوا يتلفظون بقول: نويت أن أصلي أربع ركعات صلاة العشاء مستقبلاً القبلة متطهراً إماماً أو مأموماً أداءً أو قضاءً.
لم ينقل عنهم ذلك، فلا حاجة إلى ذلك.
ولكن النية محلها القلب، فينوي بقلبه ولو لم يحرك قلبه، وذلك أنه يكفي فيه العزم التصميم على الشيء.
يقول ابن القيم رحمه الله: كل عمل لا يخلو من نية، فإما أن تكون نية صادقة، أو نية كاذبة.
ويقول: من التكليف الذي لا يطاق العمل بلا نية، فلا يعمل الإنسان عملاً إلا وله نية، تارة تكون صالحة، وتارة تكون فاسدة، فمثلاً: إذا تطهرت في بيتك، وتوجهت إلى المسجد، وقلبك يتحدث بأمر من الأمور الدنيوية مثلاً أو نحوها، واعترضك إنسان وقال لك: أين تذهب؟ تقول: إلى المسجد، ثم يقول: لماذا؟ تقول: لأداء الصلاة، نطق لسانك بما في قلبك.
إذاً: النية ضرورية، فإذا كانت نيته أن يراه الناس ويمدحوه فالنية فاسدة، وهو كالمنافق الذين قال تعالى فيه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] .
والحاصل أنه يجب تعيين النية.
يعني: بقلبه، ويسن مقارنتها بتكبيرة الإحرام، والصحيح أنها مستمرة قبل التكبيرة وبعدها، وتستمر إلى أن ينتهي من الصلاة، فلا حاجة إلى أن يحرك نيته عند التحريم، ولا يضر تقديمها عليه بيسير.
نقول: إن النية متقدمة من حين دخل الوقت وأنت عازم وناوٍ أن تصلي.
يقول: (شرط نية إمامة وائتمام) ، معلوم أن الإمام عازم على أنه إمام؛ ولأجل ذلك يأتي بأعمال الإمام، والمأموم كذلك عازم على أنه مأموم، فلا حاجة إلى أن ينوي كل واحد.
يعني: يجدد النية أو يحرك قلبه بذلك.(6/10)
جواز الانفراد للمأموم لعذر
وكذلك ذكروا أنه يجوز للمأموم أن ينفرد عند عذر، ودليله في قصة معاذ أنه صلى مرة بأصحابه فافتتح الصلاة بسورة البقرة، وكان معه رجل مرهق ومتعب، فلما رأى أنه سوف يطيل انفرد وأتم صلاته لنفسه، فهذا دليل على أنه يجوز للمأموم أن ينوي الانفراد لعذر.(6/11)
جواز قلب المنفرد نفسه إماماً
وهل يجوز للمنفرد أن يقلب نفسه إماماً؟ إذا كبر إنسان وحده منفرداً ثم جاء آخر وصف معه فهل له أن يقلب نفسه إماماً مع أنه ما نوى إلا الصلاة وحده؟ الصحيح الجواز، ودليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وحده لصلاة التهجد، فجاء ابن عباس فكبر معه وصار إماماً، والحديث الذي في صحيح مسلم ذكر جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ قبلهم ثم كبر وحده.
يقول جابر: فجئت فصففت عن يساره فأدارني عن يمينه، وقلب نفسه إماماً بعدما كان مأموماً، ثم جاء جبار بن صخر فصف عن يساره، فدفعهما خلفه.
وفي حديث عن عائشة رضي الله عنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وحده، وخلفه ستارة أو جدار فرآه ناس فصفوا خلفه، ولما علم بأنهم يصلون بصلاته رفع التكبير، فقلب نفسه إماماً.
فهذا دليل على الجواز.(6/12)
صلاة المأمومين تبطل ببطلان صلاة إمامهم
قوله: (وتبطل صلاته ببطلان صلاة إمامه) : إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأمومين؛ وذلك لأنهم مرتبطون بإمامهم، وذلك في ما إذا كبر الإمام ثم تذكر أنه محدث، ففي هذه الحال بطلت صلاته، فيأمرهم أن يستأنفوا صلاتهم.
أما إذا خاف أن يسبقه في أثناء الصلاة حدث كريح أو رعاف، وعلم أنه لا يستطيع إتمام الصلاة فله أن يستخلف، ويجتذب واحداً يصلي بهم.
أما إذا سبقه الحدث، أو تذكر أنه محدث، فالمشهور أنه لا يستخلف، وأجازه بعض المشايخ، فالمسألة فيها خلاف مبني على أنه هل تبطل صلاة المأمومين إذا بطلت صلاة إمامهم كما هو القول المشهور، أو لا تبطل إذا كان الزمان يسيراً؟ فالمشهور أنها تبطل.
قوله: (لا عكسه إن نوى إمام الانفراد) : أما إذا بطلت صلاة المأموم فإنها لا تبطل صلاة الإمام، وصورة ذلك: إذا كبر الإمام ومعه واحد، أو معه اثنان، ثم بطلت صلاة أحدهما، في هذه الحالة إذا بطلت صلاة المأموم، فالإمام يتم صلاته سواء وحده أو معه فرد؛ لأنه لا فرق بين صلاة الإمام والمنفرد.
مثاله: إذا كانوا اثنين، هذا إمام وهذا مأموم، وبطلت صلاة الإمام، فتبطل صلاة المأموم ولو لم يبق منها إلا التشهد، فإذا بطلت صلاة الإمام فإن المأموم ينصرف ويلتمس إماماً أو يصلي وحده، لا عكسه، فإذا بطلت صلاة المأموم فإن الإمام يركع على حالة الانفراد، وينوي أنه منفرد ويتم صلاته.(6/13)
شرح أخصر المختصرات [7]
لقد فرض الله علينا الصلاة، وأمرنا بها وحثنا عليها، وحذر من تركها والتهاون بها، وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم على صفة أدائها فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فعلى المرء أن يتعرف على صفة الصلاة حتى يؤديها كاملة بصفتها الصحيحة.(7/1)
باب صفة الصلاة(7/2)
آداب وسنن الخروج إلى الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [باب صفة الصلاة يسن خروجه إليها متطهراً بسكينة ووقار مع قول ما ورد، وقيام إمام فغير مقيم إليها عند قول مقيم: "قد قامت الصلاة" فيقول: (الله أكبر) وهو قائم في فرض رافعاً يديه إلى حذو منكبيه، ثم يقبض بيمناه كوع يسراه ويجعلهما تحت سرّتِه، وينظر مسجده في كل صلاته ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يستعيذ ويبسمل سراً، ثم يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، وفيها إحدى عشرة تشديدة، وإذا فرغ قال: (آمين) يجهر بها إمام ومأموم معاً في جهرية، وغيرهما فيما يُجهر فيه، ويُسن جهر إمام بقراءة صبح وجمعة وعيد وكسوف واستسقاء وأوليي مغرب وعشاء، ويكره لمأموم ويُخيَّر منفرد ونحوه، ثم يقرأ بعدها سورة في الصبح من طوال المفصل والمغرب من قصاره والباقي من أوساطه.
ثم يركع مكبراً رافعاً يديه، ثم يضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع، ويسوِّي ظهره ويقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاثاً، وهو أدنى الكمال، ثم يرفع رأسه ويديه معه قائلاً: (سمع الله لمن حمده) وبعد انتصابه: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد) ومأموم: (ربنا ولك الحمد) فقط، ثم يكبر ويسجد على الأعضاء السبعة، فيضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه، وسُن كونه على أطراف أصابعه ومجافاة عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه وتفرقة ركبتيه ويقول: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثاً، وهو أدنى الكمال، ثم يرفع مكبراً ويجلس مفترشاً ويقول: (رب اغفر لي) ثلاثاً، وهو أكمله، ويسجد الثانية كذلك، ثم ينهض مكبراً معتمداً على ركبتيه بيديه، فإن شق فبالأرض، فيأتي بمثلها غير النية والتحريمة والاستفتاح والتعوُّذ إن كان تعوّذ ثم يجلس مفترشاً، وسُن وضع يديه على فخذيه، وقبض الخنصر والبنصر من يمناه، وتحليق إبهامها مع الوسطى، وإشارته بسبابتها في تشهد ودعاء عند ذكر الله مطلقاً، وبسط اليسرى، ثم يتشهد فيقول: (التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، ثم ينهض من مغرب ورباعية مكبراً ويصلي الباقي كذلك سراً مقتصراً على الفاتحة، ثم يجلس متوركاً فيأتي بالتشهد الأول ثم يقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) .
وسُن أن يتعوذ فيقول: (أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) وتبطل بدعاء بأمر الدنيا، ثم يقول عن يمينه ثم عن يساره: (السلام عليكم ورحمة الله) مرتِّباً معرِّفاً وجوباً.
وامرأة كرجل لكن تجمع نفسها وتجلس متربعة أو مسدلة رجليها عن يمينها وهو أفضل، وكُره فيها التفات ونحوه بلا حاجة، وإقعاء وافتراش ذراعيه ساجداً، وعبث وتخصُّر وفرقعة أصابع وتشبيكها، وكونه حاقناً ونحوه تائقاً لطعام ونحوه، وإذا نابه شيءٌ سبّح رجل وصفّقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى، ويزيل بصاقاً ونحوه بثوبه، ويباح في غير مسجد عن يساره، ويكره أمامه ويمينه.
] نبدأ الآن في باب صفة الصلاة، ويذكرون قبل ذلك آداب الخروج إليها: فيسن أن يخرج إليها متطهراً إذا تيسر له الطهور وإلا فله أن يؤخر الطهور ويتطهر من الأماكن المعدة عند المساجد.
ويسن أن يمشي من بيته إلى المسجد بسكينة ووقار، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) .
السكينة.
يعني: التؤدة في المشي.
والوقار: الهيبة.
ويسن أن يقول ما ورد من الأدعية التي وردت وهي كثيرة ومذكورة في آداب المشي إلى الصلاة، منها: - أن يقول: (بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ويقول: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) ، ويقول: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا) إلى آخر الأدعية.
- إذا دخل إلى المسجد والصلاة لم تقم فإنه يصلي، فإن كان وقت راتبة كالظهر والفجر صلى الراتبة القبلية، وإن لم يكن وقت راتبة صلى تحية المسجد ركعتين قبل المغرب وقبل العشاء وقبل العصر مع أنه ورد أيضاً الأمر بحقه.(7/3)
وقت القيام إلى الصلاة
متى يقوم إلى الصلاة؟ أما المقيم فإنه يقوم إذا أمره الإمام، وأما غيره فيقومون إذا قال المؤذن: (قد قامت الصلاة) صحيح أنه لا حرج في التقدم أو التأخر، لو قام عند أول تكبيرة، أو قام بعد التحليلة حصل المقصود، كلمة (قد قامت الصلاة) كأنها إشارة لهم أي: قد قامت فقوموا، لذلك خصها الفقهاء بأنهم يقومون عند (قد) .(7/4)
افتتاح الصلاة بالتكبير
افتتاح الصلاة بالتكبير (الله أكبر) ركن من أركان الصلاة، ولا يجزئ غيرها، ولا يكفي أن يقول: الله أعظم، أو الله أجل أو ما أشبه ذلك، فالتكبيرة التي هي تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة يأتي بها الإمام وهو قائم في الفريضة.
وفي صفة الصلاة التي ذكر المؤلف رحمه الله: الفرائض والنوافل والسنن والأركان والواجبات على ترتيب حركات الصلاة، فبدأ بالتكبيرة، وهي ركن ثم بالقيام في قوله: (وهو قائم) ، وهو ركن، وخصه في الفرض لأن القيام إنما يجب في الفرض، وأما النفل فيجوز أن يصليها وهو قاعد، وله نصف أجر القائم، وكذلك العاجز إذا عجز عن القيام سقط عنه وصلى وهو جالس، واختلف فيما إذا كان إماماً: هل يصلون خلفه قعوداً أو قياما؟ والأرجح أنه إذا ابتدأ بهم وهو قائم ثم اعتل أتموا خلفه قياماً، وأما إذا ابتدأ بهم وهو جالس، فالأرجح أنهم يتمون خلفه جلوساً جمعاً بين الأدلة.(7/5)
رفع اليدين عند التكبير
قوله: (رافعاً يديه إلى حذو منكبيه) : رفع اليدين إلى محاذاة المنكبين سنة ثابتة بأدلة قوية، متفق عليها عند الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك: الرافضة والإباضية ونحوهم، وعلتها كما ذكرها بعض العلماء: أنه إشارة إلى رفع الحجاب بينه وبين ربه؛ فيرفعهما يحاذي منكبيه، وقيل: حد الرفع أن تكون الكف حذاء المنكب والأصابع حذاء الأذن.(7/6)
وضع اليمنى على اليسرى تحت السرة
قوله: (ثم يقبض بيمناه كوع يسراه ويجعلهما تحت سرته) : من السنن: أن يقبض اليد اليمنى باليسرى، ويكون القبض على الكوع، والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع، فيقبض كوع اليسرى بكفه اليمنى.
أما كونه يجعلهما تحت سرته فهذا نظراً إلى المشهور عند الفقهاء الحنابلة، رووا في ذلك حديثاً عن علي: (من السنة قبض الكف على الكف في الصلاة تحت السرة) ولكنّ الحديث ضعيف، لم يثبت عند بعض العلماء موضع لهذا المكان، والترمذي رحمه الله مع سعة اطلاعه وكثرة ما يذكر من الأحاديث أو يشير إليها، لم يذكر في الباب شيئاً، وكأن الأمر عنده واسع، أن يضعهما على الصدر أو على البطن أو على السرة أو تحتها، ولكن الشارح الذي هو المباركفوري توسع في هذا المكان ورجح أنه يجعلها على الصدر، وروى أو ذكر في ذلك حديثين: - حديث في مسند أحمد وحديث في صحيح ابن خزيمة، ولو كانا غريبين وقال: إنهما أولى وأصح من حديث علي.
وقد صنف في هذه أحد علماء الهند رسالة طبعت قديماً ويمكن أنها جددت بعنوان: (شرح الصدور في وضع الأيدي على النحور) حتى أنه استدل بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أن بعض العلماء أو بعض المفسرين قال: (صل وانحر) يعني: اجعل يديك على نحرك، ولكنه قول شاذ.
وبكل حال فوضعهما تحت السرة جائز لنص كثير من الفقهاء عليه، والأفضل فوق السرة أو على الصدر.(7/7)
النظر إلى موضع السجود
قوله: (وينظر مسجده في كل صلاته) : من السنن أن ينظر إلى موضع سجوده في كل صلاته.
يعني: أن يقصر نظره على موضع مسجده.
أي: موضع جبهته.
لماذا؟ ليجتمع عليه قلبه؛ لأنه إذا نظر يمنة ويسرة تشوش عليه فكره، وقد ورد أيضاً النهي عن الالتفات في الصلاة، وورد الوعيد على رفع البصر إلى السماء: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن، أو لا ترجع إليهم)(7/8)
الاستفتاح
وبعد ذلك يستفتح، واختار الإمام أحمد هذا الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره؛ وذلك لأنه ثناء، والثناء على الله يقدم على الدعاء، ولا شك أن حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلى آخره أصح إسناداً، أما هذا الحديث فمروي في صحيح مسلم عن عائشة ومروي أيضاً عن عمر أنه كان يجهر به، فاختاره الإمام أحمد؛ لأنه ثناء على الله تعالى.
والتسبيح: هو التقديس والتنزيه.
و (بحمدك) يعني: متلبساً بحمدك.
البركة: كثرة الخير، (تعالى جدك) يعني: لك جميع أنواع العلو.
والجد: الحظ والنصيب.
يعني: حظك من التقديس، كلمة التوحيد: (لا إله غيرك) كلمة الإخلاص.
يجوز أن يستفتح مثلاً: بـ (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ، ويستفتح بحديث علي الذي في السنن: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض إلى آخره) ، وهو طويل مذكور في سنن أبي داود وفي غيره، وكذلك أيضاً يجوز أن يستفتح بالحديث الذي فيه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، عالم الغيب والشهادة) إلى آخره، ولـ شيخ الإسلام رسالة مطبوعة في المجلد الثاني والعشرين في أنواع الاستفتاحات، يعني أن أنواع الاستفتاحات كثيرة، وبيّن أسانيدها وتكلم عليها وبيّن أصحها.
وتكلم ابن القيم أيضاً في زاد المعاد عن الاستفتاح وقال: إن الذين يستفتحون بالاستفتاحات الطويلة لا يكملونها وإن هذا أخصرها وأجمعها.(7/9)
الاستعاذة
وبعد ذلك يستعيذ ويبسمل سراً، والاستعاذة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والأفضل أن يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) حتى يجمع بين الأمرين: الأمر الذي في سورة فصلت: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] ، وفي سورة النحل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] فيقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.(7/10)
البسملة
والبسملة اختلف فيها: هل هي من الفاتحة أو ليست من الفاتحة؟ والشافعية يرون أنها من الفاتحة ولذلك يجهرون بها، والمالكية لا يقرءونها لا سراً ولا جهراً، والحنابلة يرون أنها ليست من الفاتحة ولكنها آية من القرآن، ولأجل ذلك يقرءونها سراً، ولا يقولون: إنها من الفاتحة وإنما تكتب أمام كل سورة.
يعني: تكتب للتبرك في أول كل سورة.(7/11)
قراءة الفاتحة
وقراءة الفاتحة ركن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، والمشهور أنها ركن في حق الإمام والمنفرد، وأما المأموم فإنها مستحبة في سكتات الإمام وفيما لا يجهر به، وإذا لم يقرأ بها فإن صلاته تصح ويحملها عنه الإمام، وفيها أيضاً خلاف طويل، وقد ألف فيها البخاري رسالة -يعني: قراءة المأموم- مطبوعة بعنوان: (جزء القراءة خلف الإمام) ، ورجح أنها لازمة للمأموم كما أنها لازمة للإمام والمنفرد، واستدل بعمومات، وناقش من قال: إنها لا تجب على المأموم.
وقراءتها لا بد أن تكون مرتبة، فلا يقدم آية على آية، فلو قال: الحمد لله، الرحمن الرحيم، رب العالمين، أو قال: الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، الرحمن الرحيم، بطلت، ولا بد أن تكون مرتبة آياتها، فلابد أن تكون متوالية، فلا يفرق بينها تفريقاً طويلاً.
ويسن أن يقف عند كل آية انتظاراً لجواب الله تعالى، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] سكت قليلاً ينتظر قول الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] سكت قليلاً ينتظر قوله: مجدني عبدي، إذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] سكت ينتظر قول الله: أثنى عليّ عبدي، إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] سكت ينتظر قول الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، هكذا ورد في الحديث، والحديث مشهور عن أبي هريرة.
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي، واستحب أكثر العلماء أن يقف في قراءته على رأس كل آية؛ وذلك لأنها فصلت عما قبلها، واختلفوا فيما إذا كانت الآية متصلة بما بعدها، ويرجح بعضهم كالشيخ ابن قاسم في حاشيته على الروض: أنه يقف ولو كانت متصلة بما بعدها.
يعني: بعض الآيات لا يصح الوقوف عليها عند القراءة المستمرة، ولكن أحياناً يجب الوقوف عليها للنفس أو نحو ذلك، مثل قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:1-2] يقولون: لا يقف عليها إلا لضيق النفس، ومثل قوله تعالى في سورة التين: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:5-6] منع بعضهم الوقوف على (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) ، ويقول: لا بد من الاستئناف، وأما قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1-3] يرخص في ذلك، وبكل حال: الوقوف على رءوس الآية هو الأفضل.
وذكروا أن في الفاتحة إحدى عشرة شدة غير البسملة، فلا بد أن يأتي بالتشديد؛ لأن الشدة تعتبر حرفاً، فلو قال: مالك يوم الْدِيِنْ، أو قال: إيَاَكَ، أو قال: اهدنا الْصِرَاطَ، فإنها لا تنعقد، ويعتبر أخل بالقراءة وترك منها حرفاً.(7/12)
التأمين بعد الفراغ من الفاتحة
بعد الفاتحة يؤمن: (آمين) ، فإذا كانت الصلاة جهرية جهر بها الإمام والمأمومون، ومعناها: اللهم استجب، وفيها فضل: (إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] قولوا: آمين، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وأما إذا كان في سرية فإنه يسر في التأمين.(7/13)
الجهر في الصلاة الجهرية
يسن الجهر في الصلاة الجهرية، ولو لم يجهر صحة صلاته، والجهر يكون في صلاة الصبح والجمعة والعيد والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، فهذه صلوات جهرية يسن أن يجهر فيها، فلو ترك الجهر صحة صلاته، ولو نسي الجهر لم يلزمه سجود سهو، وكذلك صلاة الخسوف والاستسقاء وصلاة العيد يجهر فيها أيضاً بالقراءة بالفاتحة وبالسورة التي بعدها.
والمأموم يسر ولا يجهر؛ وذلك لأنه مأمور بالإنصات، وإذا قرأ مثلاً في سكتات الإمام فإنه يسر؛ لأنهم لو قرءوا وهم مثلاً مائة أو مئات شوشوا على المصلين، فيسرون بقراءتها.
والمنفرد يخير بين السر والجهر، فإن كان هناك من يستمع له إذا كان يقرأ، فيستفيدون من قراءته جهراً في ليل أو نهار، في تطوع أو فرض، , وإن كان هناك من يتأذى بجهره فإنه يسر كنائمين أو متحدثين ونحوهم.(7/14)
السكتة بعد الفاتحة
وبعدما يفرغ من قراءة الفاتحة فإنه يسكت، وقد اختلف في السكتة التي بعدها، فمن العلماء من ذكر أنه يسكت بعد الفاتحة سكتة ينتظر فيها المأمومين ليقرءوا الفاتحة، ومنهم من لم يذكر هذه السكتة، ومنهم من أنكرها، ورجح أنه لا يسكت كما ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد.
والأشهر أنه يسكت، وورد في ذلك الحديث الذي في سنن الترمذي، وفيه ذكر سكتتين ثم قال: وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] العادة أنه يسكت حتى يرجع إليه نفسه، وحتى يتفكر فيما يقرأ بعد الفاتحة، وحتى لا يصل القراءة بالقراءة.(7/15)
قراءة سورة بعد الفاتحة وصفة القراءة
ولا خلاف أنه يقرأ بعد الفاتحة سورة في الصبح وفي الأوليين من المغرب، وفي الجمعة ونحوها.
وذكروا أنه يقرأ سورة، وهذا هو الذي اشتهر في كثير من المؤلفات، وهو دليل على أن قراءة سورة كاملة أفضل من قراءة بعض سورة، كأول السورة أو وسطها أو آخرها.
وهو الذي حدث من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أحياناً يقرأ سورة في كل ركعة، وأحياناً يقرأ في الركعة سورتين من المفصل، فيقرأ في الركعتين أربع سور في الفجر، والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر من طوال المفصل، والمغرب من قصاره، والعشاء من أوساطه.
وطواله من سورة (ق) إلى سورة (عمّ) ، وأوساطه من (عمّ) إلى سورة (الضحى) ، ومن الضحى إلى آخره قصاره.
ويستحب أن يقرأ في المغرب أيضاً من طواله، فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قرأ فيها بسورة الأعراف، قسمها في الركعتين، وكذا أيضاً في غيرها من الصلوات تجوز الإطالة أحياناً لمناسبة.
والقراءة معلوم أيضاً أنها ترتل كما أمر الله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] وفي حديث عائشة كان صلى الله عليه وسلم يرتل القراءة حتى تكون السورة أطول من أطول منها، ومع ذلك فإنه كان يطيل، فالثابت أنه كان يقرأ في الفجر ما بين ستين آية إلى مائة آية، وإذا كان من السور القصار فإنه يقرأ بقدرها.
يعني: من سورة البقرة نحو ثلثها؛ لأن البقرة مائتان وست وثمانون آية، يعني: إذا قرأ ثلثها صدق عليه أنه قرأ ما فوق الستين ودون المائة.
وكذلك مثلا: ً إذا قرأ سورة الأنبياء وسورة الحج، فهذه السور دون المائة، وسورة الأحزاب آياتها ثلاث وسبعون فهذه دون المائة، ومعناه أن إذا قرأها فلا يستنكر عليه، وكذلك إذا قرأ سورة النمل أو سورة العنكبوت أو سورة الروم أو سبأ، هذه كلها فوق أو قريب من بعضها وهي أقل من الخمسين، وبعضها فوق الستين، وكذلك سُور آل حميم، فلا ينكر على الإمام الذي يقرأ من هذه السور، لا سيما وقد أثر عن الصحابة رضي الله عنهم.
فقد كان عمر رضي الله عنه غالباً يقرأ بالسور الطويلة كسورة النحل وهي فوق المائة وسورة يوسف.
وثبت أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بهم بسورة البقرة كلها، ولما انصرف قالوا: (كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين) .
رواه مالك في الموطأ، وكانوا مع ذلك يتحملون ويألفون الصلاة ويحبونها.(7/16)
الركوع
فإذا انتهى من القراءة وسكت قليلاً حتى يرجع إليه نفسه ركع، ويرفع يديه كرفعه الأول إلى منكبيه، ويكون تكبيره في حالة انحنائه.
أي: حالة ما يتحرك منحنياً يأتي بلفظة: (الله أكبر) .
ثم يضع يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع ويسوي ظهره، أي: يلقم كل ركبة يداً، قالوا: لا يسن تفريج الأصابع في الصلاة إلا في الركوع، أما البقية فإنه يسن ضمها، ويجعل ظهره مستوياً فلا يجعله محصوراً منحنياً، بل يجعله وسطاً مستوياً، حتى قالوا: إنه لو وضع عليه قدح لركد، ويجعل رأسه بحياله فلا يخفض رأسه ولا يرفعه.(7/17)
الدعاء والتسبيح في الركوع
وبعدها الدعاء في التسبيح أن يقول: (سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وهو أدنى الكمال) وإن زاد إلى عشر فله ذلك، فأعلاه في حق الإمام عشر في حديث أنس، أنه لما صلى خلف عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة قال: (ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى) .
يقول ابن حجر: يعني: تسبيحه في الركوع والسجود عشراً عشراً.
بعد ذلك يرفع من الركوع، فيرفع يديه إلى حذو منكبيه، ويقول: (سمع الله لمن حمده) ، ويسرع فيها، حتى لا يسبقه المأمومون، فالمأمومون يبقون راكعين حتى يفرغ من التسميع، ولا يتحركون حتى يفرغ من قوله: (سمع الله لمن حمده) ، ويقولها في حالة حركته مرتفعاً.
وبعدما ينتصب يقول: (ربنا ولك الحمد) أو: (اللهم ربنا لك الحمد -روايتان- ملء السموات وملء الأرض وملئ ما شئت من شيء بعد، وإن زاد بقوله: أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، لا ينفع ذا الجد منك الجد، فإن ذلك وارد، وورد أيضاً: أنه عليه السلام أقر الذي قال: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه) ، وروي أيضاً أنه قال: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله) يقول ذلك أو ما أمكنه، والمأموم لا يسمع، أي: لا يقول: (سمع الله لمن حمده) .
والحديث فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، وإذا رفع وقال: سمع الله لمن حمده، فارفعوا وقولوا: ربنا ولك الحمد) ، روي عن الشافعية أن المأموم يسمّع أيضاً، ولا دليل لهم إلا عموم قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ومعلوم أن هناك فرقاً بين الإمام والمأموم، وأن الحديث إنما هو في الرؤية لا في السماع، وأن المأمومين لا يقرءون والإمام يقرأ، وأنهم لا يجهرون كما يجهر الإمام، فعرف أن هناك فرق بين المأمومين وبين إمامهم.(7/18)
السجود
قوله: (ثم يكبر ويسجد على الأعضاء السبعة، فأول ما يضع على الأرض ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه) ، هذا هو المختار وهو أن يقدم ركبتيه على يديه، وهذا هو الذي تدل عليه السنة النبوية من فعله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الصريحة كحديث وائل بن حجر وأنس وغيرهما: (أنه كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، ودل على ذلك أيضاً: أن هذه هي جلسة النشاط، وأن تقديم اليدين جلسة العاجز؛ لأنه معروف أنه إذا قدّم يديه اعتمد عليهما، فيكون ذلك من جلسة المتثاقل العاجز، ومعلوم أن الإنسان إذا دخل في مجلس، وأراد أن يجلس على الأرض وهم جلوسٌ على الأرض، فإنه عادة لا يقدم يديه إلا إذا كان مريضاً أو كان كبير السن فيعتمد على يديه، أما إذا كان نشيطاً فإنه يجلس جلسته العادية ويحني رجليه ويجلس على الأرض، وهذا هو الصحيح.
وقد نصره ابن القيم رحمه الله في كتبه الثلاثة: في زاد المعاد واستوفى الكلام حوله، وفي كتاب الصلاة وأطال فيه، وفي شرحه أو حاشيته على سنن أبي داود لما أتى على الحديث عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فبين أن هذا الحديث فيه انقلاب، وأن الصواب أن يضع ركبتيه قبل يديه، وبتتبع طرق الحديث وجد أن في الحديث ضعفاً، واضطراباً، وأشار إلى اضطرابه في زاد المعاد، وبيّن الضعف، وكذلك أيضاً في كتاب الصلاة أطال في ذلك ورجح أنه ضعيف.
ثم بيّن أيضاً أن أوله يخالف آخره، فإن البعير يبدأ بيديه قبل رجليه، وأما قولهم: إن ركبة البعير في يده، فهذا غير صحيح، والأصل أن الركبة إنما هي في الرجل في كل شيء، ولو كانت صورة ركبة البعير في يديه صورةً فإنها لا تسمى ركبة بل تسمى كما في اليد مرفقاً.
يعني: يرتفق به، فالبعير مشاهد أنه يقدم يديه قبل رجليه، فإذا قدم إنسان يديه أشبه البعير في بروكه، وهذا هو الصحيح، ثم وردت أيضاً أحاديث تؤيد حديث وائل في أنه يقدم يديه قبل ركبته.
وورد أيضاً حديث أبي هريرة في شرح معاني الآثار للطحاوي، وفي مصنف ابن أبي شيبه، وفيها: (فليضع ركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كما يبرك الفحل) ولو كان في الإسناد راوٍ ضعيف لكنه يتقوى ببقية الروايات، وهذا هو القول الصحيح، ولا عبرة بمن رد على ابن القيم وأنكر ما قاله، حتى المحقق الذي حقق زاد المعاد ضعف رأي ابن القيم ولم يجب عن كل الاعتراضات التي ذكرها.
وألف بعض تلامذة الألباني رسالة في تأييد تقديم اليدين بعنوان: (نهي الصحبة عن تقديم الركبة) ولكنه تكلف في رده، وأتى بأدلة لا تنهض له.
وقد ألف فيها الفريح البهلال، الشيخ المعروف في الزلفى، وأيد ابن القيم وانتصر للحق، وبين أن الحديث الذي عن أبي هريرة خطأ ولا دلالة فيه، وأن الحديث الثاني الذي استدلوا به ضعيف، وأنه إنما صح من فعل ابن عمر، وابن عمر فعل ذلك لما كبر سنه، وكان يقدم يديه قبل ركبتيه لعجزه عن ذلك.
وقد بين ذلك أيضاً الشيخ خليل إبراهيم الذي حقق رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأحاديث، وطبعت مع مجموعة رسائل الشيخ، ورجح ما رجحه ابن القيم، وبين الأدلة الواضحة على ذلك، وذكرنا ذلك أيضاً في تحقيقنا لشرح الزركشي، وبينا الأدلة، هذا هو الذي يترجح لنا، ومن قرأ كلام ابن القيم بإنصاف عرف موافقته، فالحاصل: أنه ذكر أنه يقدم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته ثم أنفه.
ويسن كونه على أطراف أصابعه.
يعني: سجوده على أطراف أصابع رجليه، ويجعل رءوسها إلى القبلة، وبطونها إلى الأرض منبسطة، ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذه، فلا يلصق عضده بالجنب، بل يفرج إذا استطاع ما لم يضايق الذي إلى جانبه، ويرفع بطنه عن فخذيه ويرفع فخذيه عن ساقيه، ولا يلصق بطنه بفخذيه؛ فإن هذا كأنه غير ساجد، ويفرق بين ركبتيه، وكذلك يفرق بين رجليه فلا يلصقهما، وذلك بأن يجعل بينهما مثلاً نحو شبر، وقد استدل البعض على إلصاق القدمين بحديث عائشة: (فوقعت يدي على رجليه أو على قدميه وهما منصوبتان) .
نقول: هذا لا يدل على أنهما ملتصقتان فإنها قد تمس أصابعها قدماً وأسفل الكف قدماً.
وقد تكون مسحتهما مسحاً وبينهما فاصل فوقعت يدها على الرجل ثم على الرجل مع وجود الفرجة التي بينهما.(7/19)
الدعاء في السجود
الدعاء في السجود مندوب، والتسبيح كتسبيح الركوع سبحان ربي الأعلى -ثلاثاً- وهو أدنى الكمال، وأعلاه عشر، ويسن فيه الإطالة: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، فيسن أن يكثر فيه من الدعاء لقوله: (فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) .
وبعد ذلك يرفع مكبراً، ويجلس مفترشاً، والافتراش أن يفرش رجله اليسرى ويضع عليها إليتيه وينصب اليمنى، ويضع بطون أصابعها إلى الأرض، ويقول: رب اغفر لي ثلاثاً، ويزيد أيضاً، ويطيل هذا الركن أيضاً.
كان أنس إذا جلس بين السجدتين أطال حتى يقول القائل: قد نسي.
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى، وبعد ذلك ينهض مكبراً معتمداً على ركبتيه بيديه، وينهض مكبراً معتمداً على ركبتيه بيديه، ولا يجلس بعد الركعة الأولى جلسة الاستراحة؛ وذلك لأن جلسة الاستراحة ما رويت مرفوعة صريحة، إنما رويت من فعل رجل من التابعين وكان شيخاً كبيراً.
في حديث أبي قلابة يقول: جاءنا مالك بن الحويرث، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقيل لـ أبي قلابة: كيف كان يصلي؟ فقال: مثل صلاة شيخنا هذا، قال: وكان ذلك الشيخ إذا رفع من الركعة الأولى لم يقم حتى يستوي جالساً.
ذلك الشيخ يقال له عمرو بن سلمة الجرمي وليس صحابياً على الصحيح، ولو كان أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وهو الذي قدمه قومه يصلي بهم وهو صغير كما في صحيح البخاري ولم تثبت صحبته، فجلسته هذه كانت لعجزه ولكبر سنه، وكان يجلس بعد الأولى وبعد الثالثة.
أما مالك بن الحويرث فلم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم يقم حتى يستوي جالساً، وهذه الرواية ليست في الصحيح، فيدل على أنها رويت بالمعنى، وأنها كانت من فعل عمرو بن سلمة، وهذا الذي يترجح لنا أنها ما رويت إلا من فعل هذا الرجل.
وأما حديث أبي حميد الساعدي الذي بعضه في الصحيح، فلم تذكر أصلاً في صحيح البخاري، وذكرت في سنن الترمذي، ولكن الصحيح أنه غلط من الراوي، وأنها تكرر عليه ذكرها؛ ولأجل ذلك ذكر أن جلسته بين السجدتين وجلسته بعد السجدتين على حد سواء، وهذا ليس بصحيح.
فالحاصل أن ذكرها في حديث أبي حميد غير ثابت.
يعني: أن العبرة بما في حديث أبي حميد عند البخاري، وأما ذكرها في حديث المسيء صلاته فلم تذكر إلا في رواية وقعت خطأ في صحيح البخاري نبه البخاري على أنها خطأ، ووقعت في كتاب الاستئذان.
وذهبت الشافعية إلى استحباب هذه الجلسة وبالغوا في ذلك، وأنكرها الحنفية، ولما كانوا ينكرونها ذكر بعض الاعتراضات عليها الطحاوي في شرح معاني الآثار، وابن حجر لما كان شافعياً تكلف في إجابته على تلك الإيرادات التي أوردها الطحاوي في فتح الباري، ولكلٍ اجتهاده.
وما روي أن الإمام أحمد رجع إليها فلعله رجع إليها بالفعل لما أسن، ولما كبر سنه وتجاوز السبعين، وكان مما يشق عليه أن يقوم بسرعة معتمداً على ركبتيه أو معتمداً على صدور قدميه فكان يجلس ثم يعتمد ويقوم، وقد تكلمنا أيضاً عليها في تعليقنا على شرح الزركشي.
فالحاصل أنه ذكر أنه ينهض مكبراً معتمداً على ركبتيه بيديه، فإن شق عليه القيام لكبر أو مرض فله أن يعتمد بيديه على الأرض.
قوله: (فيأتي بمثلها غير النية والتحريمة) أي: الركعة الثانية يأتي بها كالأولى إلا أنه لا يأتي بالتحريمة، ولا بالاستفتاح ولا بالتعوذ ولا بتجديد النية إلا إذا لم يتعوذ في الركعة الأولى.
قوله: (ثم يجلس مفترشاً) : أي: بعد الركعتين يجلس مفترشاً.
فيفرش رجله اليسرى كجلسته بين السجدتين ويجلس عليها.
قوله: (وسن وضع يديه على فخذيه، وقبض الخنصر والبنصر من يمناه، وتحليق إبهامها مع الوسطى) : أي: يسن أن يضع يديه على فخذيه، ويقبض من اليمنى الخنصر والبنصر، ويحلق بإبهامه والوسطى، أي: يجعلهما كالحلقة.(7/20)
الإشارة بالسبابة وتحريكها
ويشير بالسبابة: أي يشير بها عند التشهد إشارة إلى الوحدانية، وعند الدعاء، وعند ذكر الله مطلقاً.
وقيل: إنه يشير بها كلما أتى بذكر (الله) ، أو عند الدعاء إذا قال: (السلام عليك) ، (السلام علينا) ، أو عند الشهادة: (أشهد) ، أو عند الدعاء مطلقاً إذا دعا في آخر صلاته.
أما تحريكها دائماً فليس بسنة، إنما يشير بها أحياناً، وبعد ذلك يبسط اليسرى على ركبته، وبعد ذلك يتشهد بهذا التشهد، واختار الإمام أحمد هذا التشهد؛ لأنه مروي عن ابن مسعود بأسانيد صحيحة، ولم ينقل عنه اختلاف فيه.(7/21)
التشهد الأوسط
وبعدما يتشهد إذا كان في ثلاثية كالمغرب أو رباعية كالعشاء أو كظهرين نهض مكبراً، بعد قوله: (وأن محمداً عبده ورسوله) ، وصلى ما بقي سراً ويقتصر على الفاتحة ولا يجهر.(7/22)
التورك
وبعدما يأتي بالباقي يجلس متوركاً إذا تيسر كالإمام والمنفرد، وأما المأموم فإذا شق عليه بأن لم يجد متسعاً فله أن يجلس مفترشاً؛ لأنه قد يكلفه إلى إخراج رجله إلى من بجانبه وكذا الثاني والثالث فيحصل مضايقة.(7/23)
التشهد الأخير
يجلس متوركاً ويأتي بالتشهد المذكور، ثم بعد ذلك يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر في هذا إلا الصلاة على إبراهيم، وفي بعض الروايات أنه يجمع بين إبراهيم وآله، وأنكر بعض العلماء وقالوا: لم يرد الجمع، بل إما أن يقول: كما صليت على إبراهيم، أو كما صليت على آل إبراهيم، والأكثر: (كما صليت على آل إبراهيم) ، والإشارة إلى ذكر ذلك في سورة هود في قوله: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] .(7/24)
التعوذ بعد التشهد
وبعد ذلك يسن أن يتعوذ، وقد ورد في حديث أنه يتعوذ من عذاب جهنم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، وروي أيضاً أنه: (كان يستعيذ من المأثم والمغرم، فقيل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) .(7/25)
عدم الدعاء بأمر من أمور الدنيا
ولا يدعو بدعاء يخص الدنيا، بل يكون دعاؤه للآخرة، فلا يدعو بدعاء خاص كربح تجارة مثلاً أو مال كثير أو أواني أو أمتعة أو ما أشبه ذلك، بل يدعو بدعاء عام كأن يقول: (اللهم ارزقني، أو أغنني بحلالك عن حرامك، أو هيئ لي من أمرك رشداً) .(7/26)
التسليم
وبعد ذلك يسلم فيقول: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمنيه وكذلك عن يساره، مرتباً معرفاً السلام، ولا يقول: (سلام) ، وزيادة: وبركاته رويت في سنن أبي داود، والظاهر أنه عليه السلام ما كان يقولها إلا قليلاً.
وذكر ابن القيم في كتاب الصلاة أن الذين رووا (ورحمة الله) خمسة عشر صحابياً.(7/27)
صلاة المرأة
والمرأة صلاتها كالرجل وذكروا أنها تجمع نفسها.
يعني: أنها تضم نفسها ولا تنفرج ولا تجافى العضد عن الجنب، وذكروا أنها تجلس متربعة أو مسدلة رجليها، والأولى أنها تسدل رجليها بجانب يمينها، ويجوز أن تفترش، وهو أيضاً معتاد.(7/28)
مكروهات الصلاة
وهنا: مكروهات الصلاة: الأول: الالتفات وهو أشدها، ولا تبطل الصلاة فيه إلا إذا انحرف عن القبلة انحرافاً كلياً، فإذا كان لحاجة وكان يسيراً فلا بأس.
الثاني: الإقعاء: هو أن ينصب قدميه ويجلس على أليتيه ويضع أليتيه على عقبيه.
الثالث: الافتراش: أن يفرش ذراعه على الأرض، ونهى أن يفترش الرجل ذراعيه كانبساط الكلب.
الرابع: العبث: وهو كثرة الحركة.
الخامس: التخصّر: أن يضع يديه على خاصرته.
السادس: فرقعة الأصابع.
أي: معالجتها حتى تصوّت، كذلك تشبيكها؛ لأنه عبث.
السابع: ولا يصلي وهو حاقن؛ لأن ذلك يشوّش عليه صلاته.
الثامن: ولا بحضرة طعام يشتهيه، وقد ورد في الحديث الذي في العمدة: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين) .(7/29)
التسبيح للرجل والتصفيق للمرأة
قال: (وإذا نابه شيء في صلاته سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى) ، يعني: تضرب ظهر الكف ببطن الكف، ولا يجوز لها أن تسبح؛ لأن ذلك فيه إشهار لها.
وإذا كان نابه بصاق فإنه يبصق في ثوبه أو في منديله ويزيله، وأما في غير المسجد فإنه يبصق عن يساره ويكره بصقه أمامه أو عن يمينه والله أعلم.(7/30)
شرح أخصر المختصرات [8]
الصلاة عمود الدين، وتعظيمها من صفات المؤمنين، وللصلاة أركان وواجبات وشروط يجب على المسلم معرفتها والعمل بها.
والصلاة من خير الأعمال، فمن استطاع أن يستكثر من نوافلها فليفعل؛ فهي نور له في الدنيا وفي قبره وفي آخرته، وقد بين العلماء أحكام صلاة التطوع وأفضلها وأوقات النهي عنها وغير ذلك مما يتعلق بها.(8/1)
أركان الصلاة
قرأنا فيما مضى وجوب اجتناب النجاسة في الثوب والبدن والبقعة مع القدرة، وكذلك حكم من جبر عظمه بنجس، وحكم الصلاة في المقبرة ومن علل بأنها مظنة النجاسة وترجيح أن العلة خوف الغلو في القبور، وحكم الصلاة في أسطحت هذه المنهيات: الحمام والخلاء، ومعاطن الإبل، والمجزرة، والمزبلة، وأن الصحيح أنه لا مانع من الصلاة في أسطحها.
كذلك ذكرنا حكم استقبال القبلة وأنه فرض إلا لعاجز ومتنفل في سفر، وكذلك العلامات التي يعمل بها في معرفة تحديد القبلة، وحكم من اشتبهت عليه في السفر، وحكم من صلى بلا اجتهاد ولا تقليد من يعرف.
كذلك من شروط الصلاة: النية، وسبب اهتمام الفقهاء بها وذكرهم أنها تقارن التحريمة، والصحيح أنها ملازمة للمصلي في جميع صلاته، وكذلك نية الإمامة ونية الائتمام وما أشبه ذلك.
وذكرنا أيضاً صفة الصلاة وما ذكر من أنه يخرج إليها بسكينة ووقار ودليل ذلك، ومتى يقوم إلى الصلاة عند الإقامة، وحكم تكبيرة الإحرام، وأنه لا يصح غيرها بدلها، وحكم رفع اليدين عند استفتاح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه، وأين يضع يديه بعد قبضهما، والترجيح أنه يضعهما على صدره، وحكم الاستفتاحات، وسبب اختيار الإمام أحمد لما اختاره من الاستفتاح، وحكم قراءة الفاتحة ووجوب ترتيبها وتواليها، والتلفظ بشداتها، وكذلك التأمين في الجهرية، وجهر الإمام بالقراءة في الصلوات الجهرية، وحكم الجهر للمأموم والمنفرد، واستحباب أن يقرأ بعد الفاتحة سورة كاملة، وأنه أفضل من قراءة أول سورة أو آخر سورة؛ لأنه الوارد، ولأن السور الكاملة منفصلة لها معنى متكامل.
وكذلك ذكرنا حكم الركوع، وأين يضع يديه ومقدار المجزئ من التسبيح في الركوع والكمال، والرفع من الركوع، وأن التسميع خاص بالإمام والمنفرد، فالمأموم لا يسمّع فلا يقول: سمع الله لمن حمده، والسجود على الأعضاء السبعة، والترجيح لأن يضع ركبتيه ثم يديه، وأن تقديم اليدين على الركبتين إنما يكون في حق العاجز كالكبير والمريض ونحو ذلك، وأن الأدلة صريحة على ذلك، وكذلك كونه يسجد على أطراف أصابعه، وصفة السجود الكامل وما يقول فيه، وصفة الجلسة بين السجدتين وما يقول فيها، ونهوضه إلى الركعة الثانية مكبراً، وأن جلسة الاستراحة لم تثبت مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وإنما رويت عن مالك بن الحويرث خارج الصحيح، وأنها تجوز للعاجز ونحوه.
وذكرنا بعد ذلك الجلوس بين السجدتين مفترشاً، وصفة قبض أصابعه في التشهد الأول، وسبب اختيار تشهد ابن مسعود، والنهوض إلى الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، والفرق بينها وبين الركعة الثانية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها، والتعوذ بالله من أربع واستحباب ختمها بالدعاء والسلام، وأن زيادة: (وبركاته) رواية في السنن وفيها شذوذ، وأن الاقتصار على (ورحمة الله) هو المتبع الكثير، والمرأة كالرجل في صلاتها وحكم الالتفات في الصلاة بلا حاجة، وكذلك الإقعاء وافتراش الذراعين والعبث والتخصر إلى آخرها.
فهذه الأفعال التي وردت في صفة الصلاة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وجملة أركانها أربعة عشر: القيام، والتحريمة، والفاتحة، والركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة، والتشهد الأخير، وجلسته، والصلاة على النبي عليه السلام، والتسليمتان، والترتيب.
وواجباتها ثمانية: التكبير غير التحريمة، والتسميع، والتحميد، وتسبيح ركوع، وسجود، وقول: رب اغفر لي.
مرة مرة، والتشهد الأول، وجلسته، وما عدا ذلك والشروط سنةٌ.
فالركن والشرط لا يسقطان سهواً وجهلاً، ويسقط الواجب بهما.
فصل: ويشرع سجود السهو لزيادة ونقص وشك، لا في عمد، وهو واجب لما تبطل بتعمده، وسنة لإتيان بقول مشروع في غير محله سهواً، ولا تبطل بتعمده، ومباح لترك سنة.
ومحله قبل السلام ندباً إلا إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر فبعده ندباً، وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت، وسهواً فإن ذكر قريباً أتمها وسجد.
وإن أحدث أو قهقه بطلت كفعلهما في صلبها، وإن نفخ أو انتحب لا من خشية الله، أو تنحنح بلا حاجة فبان حرفان؛ بطلت، ومن ترك ركناً غير التحريمة فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت المتروك منها، وصارت التي شرع في قراءتها مكانها، وقبله يعود فيأتي به وبما بعده، وبعد سلام فكترك ركعة.
وإن نهض عن تشهد أول ناسياً لزم رجوعه، وكره إن استتم قائماً، وحرم وبطلت إن شرع في القراءة لا إن نسي أو جهل، ويتبع مأموم، ويجب السجود لذلك مطلقاً.
ويبني على اليقين -وهو الأقل- من شك في ركن أو عدد.
فصل: آكد صلاة تطوع: كسوف، فاستسقاء، فتراويح، فوتر، ووقته من صلاة العشاء إلى الفجر، وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة: مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وأدنى الكمال ثلاث بسلامين، ويقنت بعد الركوع ندباً، فيقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمن مأموم، ويجمع إمام الضمير، ويمسح الداعي وجهه بيديه مطلقاً.
والتراويح عشرون ركعة برمضان تسن، والوتر معها جماعة، ووقتها بين سنة عشاء ووتر.
ثم الراتبة ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وهما آكدها، وتسن صلاة الليل بتأكد، وهي أفضل من صلاة النهار.
وسجود تلاوة لقارئ ومستمع، ويكبر إذا سجد وإذا رفع، ويجلس ويسلم، وكره لإمام قراءتها في سرية وسجوده لها، وعلى مأموم متابعته في غيرها.
وسجود شكر عند تجدد نعم، واندفاع نقم، وتبطل به صلاة غير جاهل وناس، وهو كسجود تلاوة.
وأوقات النهي خمسة: من طلوع فجر ثان إلى طلوع الشمس، ومن صلاة العصر إلى الغروب، وعند طلوعها إلى ارتفاعها قدر رمح، وعند قيامها حتى تزول، وعند غروبها حتى يتم.
فيحرم ابتداء نفل فيها مطلقاً، لا قضاء فرض، وفعل ركعتي طواف، وسنة فجر أداء قبلها، وصلاة جنازة بعد فجر وعصر] .(8/2)
تعريف الركن لغة وشرعاً
تقدم أن للصلاة شروطاً تسعة، ويأتي بها المصلي قبل أن يشرع في الصلاة، وللصلاة أركان وواجبات وسنن، ذكر المؤلف أن عدد أركانها أربعة عشر ركناً.
وركن الشيء: هو جزء ماهيته، يعني: الأجزاء التي إذا تكاملت كملت الماهية، كما يقال مثلاً: رأس الإنسان ركن منه، ويده ركن، ورجله ركن، وظهره ركن، وصدره ركن، والمجموع يتكون منه إنسان، وكما نقول مثلاً: هذا الجدار ركن من هذا المسجد، وهذا العمود ركن، وهذا السقف ركن، فأركان الشيء أجزاؤه التي يتركب ويتكون منها.
وقيل: ركن الشيء جانبه الأقوى، أي: أحد جوانبه التي يعتمد عليها كأركان البيت، وهي جوانبه القوية التي تكون هي عمدته، ويقال مثلاً: حيطان المسجد أركانه؛ لأنها جوانبه القوية، وكذلك أعمدته أركانه، وكذلك سقفه ركنه، فركن الشيء جانبه الأقوى، ولكن يقال: إن أركان الصلاة هي الأجزاء التي إذا تكاملت كملت الصلاة، وإذا لم تتكامل لم تقبل ولم تكمل.(8/3)
بعض الأركان المتفق عليها
وعددها في المشهور أربعة عشر ركناً، ولكن في بعضها خلاف، ولا خلاف أن القيام ركن إلا على الذي يعجز عنه فيصلي قاعداً، والقيام خاص بالفريضة، ولا خلاف عندنا أن التحريمة ركن، وكذلك قراءة الفاتحة في حق الإمام والمنفرد، وكذلك الركوع ركن، والاعتدال منه، يعني: الرفع منه حتى يعتدل ويستتم قائماً، والسجود ركن، ويراد به السجدتان، كل واحدة منهما ركن، فإن السجدتين تسميان ركناً واحداً.
وقوله: (والسجود والاعتدال عنه، والجلوس بين السجدتين) قد يقال: إن هذا تكرار؛ لأنه ذكر الاعتدال عنه والجلوس بين السجدتين، وبعد الركوع ما ذكر إلا الاعتدال عنه وهو القيام، فبعد السجود كان يكفي أن يذكر الاعتدال عنه، أو يذكر الجلوس بين السجدتين، وكأنهم نصوا على الاعتدال من السجود حتى يفصل بين السجدتين، فإن الجلوس بين السجدتين شيء زائد عن الفصل، فلا بد أن يرفع حتى يفصل، ولا بد أن يجلس بين السجدتين، فلذلك عدوهما ركنين، والظاهر أنهما ركن واحد: الاعتدال عن السجود والجلوس بين السجدتين.(8/4)
بعض الأركان المختلف فيها
الطمأنينة: يراد بها الثبات في كل ركن من الأركان، أي: الركود، فإذا ركع فلا يرفع حتى يطمئن ويثبت بقدر قول: سبحان ربي العظيم، كذلك الطمأنينة في الرفع، فلابد أن يستتم قائماًً بقدر ما يقول: ربنا ولك الحمد، قبل أن يهوي للسجود.
وكذلك يطمئن إذا سجد ووضع جبهته على الأرض، فلا بد من الطمأنينة عند الركود على الأرض، بقدر قوله: سبحان ربي الأعلى، ولو مرة، وأدنى الكمال ثلاث كما تقدم.
كذلك لا بد أن يجلس بين السجدتين جلسة مطمئناً فيها بقدر ما يقول: رب اغفر لي.
وهذه الطمأنينة دل عليها حديث المسيء صلاته، فإن فيه: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) فذكَّره بهذا الركن في هذه الأركان؛ وذلك لأنه رآه يخفف في صلاته، فأنكر عليه وقال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، فذكره بأنه لا بد من الطمأنينة في كل ركن.
وخالف في ذلك الأحناف، وتشاهدون الذين يأتون من الباكستان أو من الهند وهم على مذهب أبي حنيفة يخففون الأركان، وبالأخص الرفع، فترى أحدهم عندما يرفع رأسه من الركوع لا يستتم قائماً، بل ينحط للسجود، وساعة ما يرفع رأسه من السجدة الأولى لا يستتم جالساً، بل يسجد السجدة الثانية ولا يطمئن، ويقولون: إن أبا حنيفة لم ير الطمأنينة واجبة، وإنه يرى أنه يحصل مسمى الركن بمجرد الانحناء، وبمجرد الرفع، وبمجرد سجوده ومس جبهته الأرض.
ولكن قال في الحديث: (حتى تطمئن راكعاً) ، وأيضاً ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن نقر كنقر الغراب) ، وهو الذي ساعة ما ينحني يرفع، فالغراب إذا نقر ينقر بسرعة، فنهى عن نقر كنقر الغراب، كما نهى عن أشياء في الصلاة تشبه فعل البهائم، ونظمها الحافظ بقوله: إذا نحن قمنا إلى الصلاة فإننا نهينا عن إتيانها بستة بروك بعير والتفات كثعلب ونقر غراب في سجود الفريضة وإقعاء كلب أو كبسط ذراعه وأذناب خيل عند فعل التحية ومن جملتها النهي عن نقر كنقر الغراب، وهذا لم ينتبه له الحنفية، وأبو حنيفة معذور لأنه ما بلغه النهي، ولا بلغه الدليل، وأتباعه الذين بلغهم الدليل يجب عليهم أن يقولوا به ولا يتركوه.
ومن الأركان التشهد الأخير الذي يعقب بالسلام، وجلسته، أي: لا يتشهد وهو قائم، بل لا بد من الجلوس، وكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها خلاف، بعضهم يراها من الواجبات التي تجبر بسجود السهو، كما مشى على ذلك صاحب الكافي وغيره، والمشهور أنها من الأركان، وتقدم أن لفظها: اللهم صل على محمد إلى آخره.
وهذا يدل على أن الإمام أحمد رحمه الله يؤكد أمر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويشدد في تركها، وكذلك أتباعه، ومنهم أئمة الدعوة، فإنهم يؤكدون أمر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر عند أعداء هذه الدعوة نبزهم وعيبهم بأنهم ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعونها، فرد عليهم أئمة الدعوة فقالوا: كيف نمنعها ونحن نقول: إنها ركن في الصلاة؟! إنما ينهون عنها في بدع لا زالت متجددة في بعض البلاد، مثل إذا كان الخطيب يخطب فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال الجالسون كلهم: اللهم صل على محمد، بصوت واحد، فيرتج المسجد، فنهى العلماء عن ذلك، وقالوا: هذا من البدع، وكذلك كان المؤذنون إذا أذنوا، فعندما يرفع صوته بشهادة أن محمداً رسول الله يرفع صوته بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ورد، إنما ورد الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم سراً.
ومن الأركان التسليمتان، والمشهور أن الركن هو التسليمة الأولى، والتسليمة الثانية تعتبر سنة؛ لأنه يحصل بالأولى الخروج لقوله: (وتحريمها التسليم) .
ومن الأركان الترتيب، ومعناه: أن يرتب الصلاة كما هي، فلا يجعل السجود قبل الركوع، ولا يأتي بالرفع من السجود قبل السجدة الأولى، فلو جلس من القيام وقال: هذه الجلسة التي بين السجدتين أجعلها قبل السجدتين، فإنه يعتبر قد خالف ترتيب الصلاة.(8/5)
واجبات الصلاة
الواجبات ثمانية: الأول: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، فقد تقدم أنها ركن، وهذا في حق الإمام والمنفرد، وأما المأموم فإنها ركن في حقه إلا تكبيرة الركوع، وذلك إذا أدرك الإمام راكعاً فكبر ناوياً التحريمة سقطت عنه تكبيرة الركوع.
الثاني: التسميع واجب وهو قول: سمع الله لمن حمده في حق الإمام والمنفرد دون المأموم.
الثالث: التحميد -وهو قول: ربنا ولك الحمد- واجب في حق المصلين كلهم.
الرابع: قول: سبحان ربي العظيم في الركوع.
الخامس: قول: سبحان ربي الأعلى في السجود.
السادس: قول: رب اغفر لي بين السجدتين.
السابع: التشهد الأول.
الثامن: جلسة التشهد الأول، والدليل على أنه واجب سقوطه سهواً.(8/6)
سنن الصلاة
ما عدا الأركان والواجبات والشروط فإنه سنة، فالسنن بقية الأفعال، فمنها: رفع اليدين، وكذلك وضعهما على الصدر، ورفعهما أيضاً عند الركوع، ووضعهما على الركبتين، وكذلك أيضاً وضعهما حيال المنكبين أو حيال الرأس إذا سجد، وكذلك جمع أصابعه عند الرفع، وتفريقها عند الركوع، واستقبال القبلة بها في السجود، والمجافاة.
ومن السنن: الاستفتاح، والاستعاذة، والبسملة على القول الصحيح خلافاً للشافعية، والتأمين، وهو قول: آمين، وكذلك ما زاد عن واحدة في تسبيح الركوع والسجود وسؤال المغفرة.
كذلك من السنن أيضاً: الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية.
والأركان والشروط لا تسقط سهواً ولا جهلاً، والواجب يسقط سهواً وجهلاً، ولكن يجبر بالسجود.(8/7)
سجود السهو
ذكر المؤلف سجود السهو، فمتى يشرع؟ يشرع في ثلاث حالات: إذا زاد في الصلاة أو نقص أو شك، فإنه يسجد للسهو، فمثال الزيادة لو ركع ركوعين كصلاة الكسوف، يعني: ركع ثم رفع وظن أنه ما ركع، ثم ركع، فيسجد السهو، كذلك لو سجد ثلاث سجدات في ركعة واحدة فيعتبر أنه زاد، وكذلك لو صلى خمساً في الظهر أو أربعاً في المغرب أو ثلاثاً في الفجر فيعتبر أنه زاد فيسجد للسهو.
وكذا إذا زاد حركة من جنس حركات الصلاة إذا كانت من الحركات الواجبة، كأن كرر الرفع أو كرر الجلسة بين السجدتين، أما إذا زاد في الركن سهواً فإنه لا يعد زيادة، فلو جلس بين السجدتين، وظن أنه في التشهد، فأتى بالتشهد إلى قبيل آخره، ثم تذكر أنه في الجلسة بين السجدتين، فقال: رب اغفر لي، ثم سجد، فهل يسجد للسهو في هذه الحال؟ الصحيح أنه لا يسجد؛ لأنه ما أتى بشيء زائد، وإنما أتى بالتشهد في غير محله ثم تلافاه، وكذلك لو رفع من الركوع وقرأ الفاتحة وظن أنه في القيام، ثم تذكر وقال: ربنا ولك الحمد فهل يسجد؟ الصحيح أنه لا يسجد؛ لأن هذه زيادة في غير محلها، ثم تلافاها.
والنقص: إذا لم يسجد إلا سجدة في ركعة من الركعات أو لم يرفع بعد الركوع، بأن ركع فلما قال: سبحان ربي العظيم خر ساجداً، وترك ركناً هو الرفع.
وكذلك إذا نقص من الصلوات بأن صلى الظهر ثلاثاً، أو المغرب اثنتين، أو الفجر واحدة، فإنه يسجد.
كذلك إذا شك في ركن، كما إذا شك في الفاتحة ثم قرأها، فيحتمل أنه قرأها مرتين فيسجد، أو شك مثلاً في السجود هل سجد سجدة أو سجدتين، فعدها سجدة ثم أتى بسجدة، أو شك في واجب كأن يشك هل جلس في التشهد الأول أم لا؟ فعليه سجود السهو، أو شك هل قال: سبحان ربي العظيم أم لا؟ فيسجد للسهو.
أما العمد فإنه يبطل الصلاة، فإذا تعمد مثلاً زيادة ركعة أو نقص ركن أو تعمد القيام في حالة قعود أو تعمد قعوداً في حالة قيام، أو تعمد الإتيان بشيء في غير محله، كأن يتعمد أن يقول: رب اغفر لي وهو رافع، أو تعمد قول: سبحان ربي العظيم في السجود أو سبحان ربي الأعلى في الركوع، أو ربنا ولك الحمد بين السجدتين، أو التحيات لله بين السجدتين، فإن العمد يبطل الصلاة، أما إذا حصل السهو بزيادة أو نقص أو شك وجب عليه السجود.
وسجود السهو واجب لكل شيء يبطل عمده الصلاة، ومعلوم أنه إذا ترك التشهد الأول عمداً بطلت الصلاة، وإذا ترك قول سبحان ربي الأعلى موضع السجود عمداً بطلت صلاته، وإذا ترك قول التحيات لله عمداً بطلت صلاته، فإذا تركها سهواً وجب عليه السجود.
أما إذا أتى بقول مشروع في غير محله سهواً فإنها لا تبطل، ولكن عليه سجود السهو، فإذا قرأ وهو جالس أو تشهد وهو قائم، أو قال: رب اغفر لي وهو قائم، أو قال: ربنا ولك الحمد وهو جالس أو قال: سبحان ربي الأعلى وهو راكع، أو سبحان ربي العظيم وهو ساجد، أي أنه أتى بسنة في غير محلها مع أنها مشروعة، فإنه يسن له السجود ولا يجب؛ لأن هذا من جملة أذكار الصلاة، وهي لا تبطل بتعمده.
واستثنوا من ذلك السلام، فإن تعمده يبطل الصلاة، وتركه سهواً يوجب سجود السهو.
يقول: (ومباح) يعني: سجود السهو مباح لترك سنة.
عرفنا أنه واجب وسنة ومباح، فيكون واجباً إذا كان المتروك يبطل الصلاة عمداً، ويكون سنة إذا قال قولاً مشروعاً في غير محله، ولا يبطل عمده الصلاة، ويكون مباحاً إذا كان ترك سنة من السنن سهواً كأن ترك رفع اليدين سهواً، فيباح له أن يسجد، أو ترك قراءة السورة في الظهر بعد الفاتحة واقتصر على الفاتحة، أو ترك وضع اليدين على صدره فيباح له السجود ولا يجب.(8/8)
محل سجود السهو
متى يسجد للسهو؟ يقول المؤلف: (محله قبل السلام ندباً) أي: الأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأنه جزء من الصلاة، ومتمم لها، ولأنه يحصل به الخروج من الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فلذلك يسجد للسهو قبل أن يسلم.
وذكر العلماء أنه يجوز فيه الحالتان: أن يكون السجود كله قبل السلام أو يكون السجود كله بعد السلام، وأكثره قبل السلام، والمشهور عند الإمام أحمد أنه كله قبل السلام إلا في ثلاث حالات ذكرها صاحب عمدة الفقه: الأولى: إذا سلم عن نقص.
الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه.
الثالثة: إذا ذكره بعد السلام.
واعتمد في ذلك على الأدلة، وهنا ما ذكر إلا واحدة، منها وهي: إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر فبعد السلام ندباً لا وجوباً، يقول: فلو صلى الظهر ثلاثاً ثم سلم، ثم ذكر، فإنه إذا أتى بالركعة الرابعة سلم ثم سجد ثم سلم ندباً، فإن جعل السجود بعد السلام جاز، وإن جعله قبل السلام جاز، والأفضل أن يجعله بعد السلام.
وكذلك إذا بنى الإمام على غالب ظنه، فمثلاً: كان في آخر صلاته وشك هل صلى أربعاً أو ثلاثاً، وغلب على ظنه أنها أربع فإنه يسلم، ثم يسجد للسهو ثم يسلم، وأما بقية الحالات فإنه يسجد لها كلها قبل السلام؛ لأن السجود جزء من الصلاة، والذين قالوا: إنه إذا كان السجود لزيادة فبعد السلام، ليس عندهم دليل، فهم يقولون: إذا زاد في الصلاة ركعة أو زاد فيها جلوساً أو زاد قياماً أو زاد فيها قراءة يكون السجود بعد السلام، لكن لم يوجد دليل يعتمدونه، فالصحيح أن الأدلة تدل على أن السجود بعد السلام في حالتين كما في حديث ذي اليدين وحديث أبي سعيد.
من سلم قبل إتمام الصلاة عمدا ًبطلت صلاته؛ لأنه متلاعب، وإذا سلم قبل إتمامها سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد يعني: سلم بعد ثلاث ركعات وانصرف، ثم تذكر فعاد وأتم الركعة التي بقيت، فيتمها ويسجد للسهو، ويكون السجود بعد السلام.
وأما إذا طالت المدة أو أحدث أو قهقه فإنها تبطل، والقهقهة: هي المبالغة في الضحك.
إذا لم يتذكر أنه صلى الظهر ثلاث ركعات إلا بعد نصف ساعة أو بعد ساعة فإنه يعيد الصلاة كلها، وكذلك إذا لم يتذكر إلا بعد السلام بدقيقة أو نصف دقيقة وقد أحدث أو ضحك ضحكاً مبالغاً فيه، سواء الإمام أو أحد المأمومين، ففي هذه الحال تبطل الصلاة، لأن القهقهة والحدث في صلب الصلاة يبطلها.(8/9)
حكم التنحنح والنفخ في الصلاة
قوله: إذا نفخ في الصلاة فبان حرفان بطلت الصلاة، يعني: كرر النفخ، وكذلك إذا انتحب من غير خشية الله يعني: بكى بكاء لم يحمله عليه خشية الله والرقة والخوف، ولكن بسبب عارض ففي هذه الحال إذا بان منه حرفان بطلت، وكذلك إذا تنحنح من غير حاجة وبان منه حرفان، أما إذا تنحنح لحاجة فلا بأس ولا حرج.(8/10)
إذا ترك ركناً ولم يذكره إلا بعد الشروع في آخر
يقول المؤلف: (ومن ترك ركناً غير التحريمة فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت المتروك منها، وصارت التي شرع في قراءتها مكانها) ، مثاله: إذا قرأ في الركعة الأولى، ثم بعد فراغه من القراءة خر ساجداً وترك ركنين، ترك الركوع والرفع منه، ثم سجد سجدتين، ثم قام للركعة الثانية وشرع في قراءتها فتذكر أنه ما ركع في الركعة الأولى، فماذا يفعل؟ الصحيح والمشهور أنه يلغي الأولى ويجعل هذه الثانية مكانها، وقيل: إنه يركع، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين تكملة للأولى، أي: يأتي بالركن الذي تركه وبما بعده، وسواء فعل هذا أو هذا فإنه يجوز.
أما إذا ترك سجدة واحدة ثم قام فتذكر أنه ما سجد إلا سجدة واحدة بعدما شرع في القراءة فماذا يفعل؟ الصحيح أنه يجلس ثم يقول: رب اغفر لي، ثم يسجد السجدة الثانية ويكون بذلك قد كمل الركعة الأولى، ثم يقوم للثانية، وقيل: إنه يلغي الأولى إذا شرع في قراءة الثانية، والأرجح هنا أنه يكمل الأولى، أما إذا وصل إلى الركن المتروك من الركعة الأولى في الثانية فإنه لا يعيد، ومثاله: إذا نسي الركوع من الركعة الأولى ثم سجد سجدتين بينهما جلسة، وقام للركعة الثانية وقرأ، ثم ركع، وفي الركوع تذكر أنه ما ركع في الأولى، فإن هذا الركوع يكون بدل الركوع في الركعة الأولى، فيلغي الركوع الثاني، ويكون هذا تكميلاً للأولى أو يلغي الركعة الأولى وتكون الركعة الثانية هي الأولى.
قوله: (وقبله يعود فيأتي به وبما بعده) يعني: قبل الشروع في القراءة يرجع فيأتي بالركن المتروك وبما بعده، فمثلاً: إذا قام ثم تذكر أنه ما ركع فإنه يركع، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين، فيكون بهذا مكملاً للركعة الأولى، ولا يقول: أركع وتكون كاملة من غير أن يأتي بما بعده، بل يأتي بالركوع مع الرفع، ثم السجدتان والجلسة بينهما.
أما إذا تذكر بعدما سلم أنه ترك ركوع ركعة فإنه لا يعيده، فقد بطلت الركعة ويأتي بركعة ثانية كاملة.(8/11)
سجود السهو لترك التشهد الأول
إذا ترك التشهد الأول ناسياً فله ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكره قبل أن يستتم قائماً فيلزمه الرجوع، ويأتي به وعليه سجود سهو.
الحالة الثانية: أن يذكره بعد ما استتم قائماً، وقبل أن يشرع في القراءة، فيكره له الرجوع، بل يستمر في ركعته، ويكمل صلاته، ويسجد للسهو، فإن رجع جاز ذلك، ومع ذلك لا يسقط عنه سجود السهو.
الحالة الثالثة: ألا يذكره إلا بعدما يشرع في القراءة، ففي هذه الحالة يحرم عليه الرجوع، بل يستمر في القراءة ويكملها بالسجود؛ لأنه ترك واجبين: التشهد الأول والجلوس الأول.
فإن رجع بعد ما شرع في القراءة بطلت صلاته إلا إذا كان ناسياً أو جاهلاً.
قوله: (ويتبع مأموم) أي: المأموم يتبع إمامه، فيسبح له، ولكن إذا استتم قائماً فلا حاجة إلى التسبيح إلا من باب التذكير، وكذلك إذا شرع في القراءة فلا يسبحون له، ويسجدون معه ويتبعونه في القيام، ولا يجوز أن يخالفوه إذا قام إلى الركعة الثالثة ولم يجلس للتشهد، فلا يجوز أن تجلس أنت للتشهد، بل عليك أن تقوم وتتابع إمامك إذا لم يقبل التسبيح.
الحاصل: أن السجود للسهو يجب في هذه الحالات الثلاث مطلقاً، ويبني المصلي على اليقين وهو الأقل، فمن شك في عدد الركعات، فم يدر هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فاليقين أنها ثلاث، والرابعة مشكوك فيها، فيبني على أنها ثلاث، كذلك: من شك هل سجد سجدتين أم سجدة واحدة، فالواحدة يقين، والثانية مشكوك فيها، فيبني على اليقين ويأتي بها، فهذه أحكام سجود السهو على وجه الاختصار.(8/12)
صلاة التطوع
ثم بدأ في صلاة التطوع.
وآكد التطوع من حيث الإطلاق الجهاد في سبيل الله؛ لأنه قد يكون جنسه فرضاً، ولكن الأصل أنه غالباً تطوع، ثم بعده النفقة في الجهاد، ثم ما يتبعه من التطوعات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(8/13)
آكد النوافل
آكد نوافل الصلوات صلاة الكسوف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) فأمرهم أن يبادروا للصلاة ولا يتأخروا، وذلك دليل على أهميتها.
ثم بعدها صلاة الاستسقاء؛ لأن سببها القحط، والناس مأمورون بأن يدعوا ربهم، فهي سنة مؤكدة.
ثم بعدها صلاة التراويح، والمحافظة عليها سنة مؤكدة، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها، وفعلها بعده الصحابة.(8/14)
صلاة الوتر ودعاء القنوت
ورد في صلاة الوتر ما يدل على تأكدها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتروا يا أهل القرآن) ، وقال: (من لم يوتر فليس منا) ، وقال: (الوتر حق، من شاء أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن شاء أن يوتر بواحدة فليفعل، ومن شاء أن يوتر بخمس فليفعل) فهذا يدل على أنها مؤكدة وليست واجبة، خلافاً للحنفية فإنهم يرون أنها فرض كالصلوات الخمس.
والصحيح أنها نافلة مؤكدة؛ وذلك لقوله عليه الصلاة السلام: (إن الله افترض عليهم خمس صلوات) ولم يذكر غيرهن، فدل على أن ما زاد فهو نفل.
والوتر من آكد السنن، وسببه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى وتر يحب الوتر) ، ختمت صلاة النهار بوتر وهي المغرب، وكذلك صلاة الليل.
ووقت الوتر ما بين العشاء والفجر، تقول عائشة (من كل الليل قد أوتر النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) .
وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، أي: وما زاد عليها يعتبر تهجداً، فإذا أراد أن يتهجد فينوي إحدى عشرة ركعة وتراً كما سيأتي، والزائد الذي قبلها يعتبره تهجداً، فيصليها مثنى مثنى، فإن الوتر يسلم فيه من كل ركعتين على الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى) .
وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، ركعتين بسلام، وركعة بسلام، هذا أدنى الكمال، والواحدة مجزئة.
والقنوت في الوتر مستحب، ولكن لا يستحب المداومة عليه؛ لأنه لم يكن عليه السلام يداوم عليه، ولكنه علم الحسن، وعلم علياً رضي الله عنهما، الدعاء بقوله: (اللهم اهدنا فيمن هديت) هذا من رواية الحسن، والدعاء بقوله: (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك) إلى آخره هذا من رواية علي، فقد علمه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك) .
ثم بعده يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في الزيادة على هذا المقدار، والصحيح أنه يجوز في المناسبات كالليالي التي ترجى كليلة القدر، وكذلك أيضاً الليالي الشهيرة كليلة الجمعة ونحوها، فيستحب أن يكثر من الدعاء؛ لأنه مندوب، والله تعالى يحب من عباده أن يبالغوا في دعائه، وفي الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه) ، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، فيجوز أن يزيد مثل قوله: (اللهم اقسم لنا من خشيتك) إلى آخره، وغير ذلك من الأدعية ولو لم تكن مأثورة إذا كانت مشتملة على فضل وخير.
وبعد ذلك يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ورد في الحديث: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم) .
والمأمومون يؤمنون بعد كل جملة يقف عليها الإمام، يقولون: آمين، والإمام يجمع الضمير فيقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وإذا كان منفرداً يقول: اللهم اهدني إلى آخره.
قوله: ويمسح الداعي وجهه بيديه مطلقاً أي: كل من دعا بدعاء ورفع يديه فإن يمسح بيديه وجهه.
ومن أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفيه أحاديث كثيرة، قيل: إنها بلغت سبعين حديثاً، وفيها تأليف للمنذري، وجمع منها السيوطي اثنين وأربعين حديثاً عن جماعة من الصحابة، ورسالة السيوطي اسمها: فضل الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء، وهي محققة ومطبوعة، وتدل مجموعها على أن رفع اليدين متأكد في الدعاء، وأنه سبب من أسباب الإجابة، ومنها حديث سلمان: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) .
وأما حديث أنس: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلا في الاستسقاء) فيريد المبالغة، فإنه كان إذا استسقى على المنبر رفع يديه حتى تكون على رأسه مبالغة في ذلك، فأما في حال الدعاء مطلقاً فإنه يرفعهما إلى صدره، وقد ورد ذلك في حديث: (أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعها أكثر من الصدر) .
أما مسح الوجه باليدين فورد فيه أحاديث، وذكر الحافظ منها حديثاً له شواهد في آخر بلوغ المرام، وذكر أنه بإسناد حسن، وبالتتبع بلغت سبعة أحاديث عن سبعة من الصحابة، كان يرفع يديه ويمسح وجهه بيديه بعد الدعاء، والذين أنكروه كأنهم لم يتتبعوا طرق الأحاديث.
أيضاً ورد مسح الوجه عن كثير من الصحابة من فعلهم، فقد كانوا يمسحون وجوههم بأيديهم بعد الدعاء، وذكر الحكمة صاحب سبل السلام فقال: إنه إذا رفع يديه فلا بد أن يكون بهما خير ورحمة وغفران، فأولى أعضائه بهذه الرحمة وجهه، فيمسح وجهه حتى يبيض وجهه يوم تبيض وجوه.(8/15)
صلاة التراويح
ذكر المؤلف أن التراويح عشرون ركعة، وتسن الوتر معها جماعة، ووقتها بين سنة العشاء والوتر، هذا هو الصحيح، ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم فيها عدداً، ولكنه كان يأمرهم بقيام رمضان، ويحثهم على القيام ويرغبهم فيه، ثم صلى بهم ثلاث ليال، وخشي أن يفترض عليهم قيام الليل، ثم أمرهم أن يصلوا لأنفسهم، وفي عهد عمر رضي الله عنه رآهم يصلون أوزاعاً، ورأى أن بعضهم لا يحسن القراءة؛ فجمعهم على إمام ورأى أن ذلك أفضل من صلاتهم متفرقين، والصحابة قد صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة صلاة التراويح، فهي سنة نبوية تركها صلى الله عليه وسلم خشية أن تفترض، وأمر عمر بفعلها بعد موته عليه الصلاة والسلام، وبعد الأمن من أن تفترض، فأصبحت سنة مؤكدة.
سميت تراويح؛ لأنهم كانوا يطيلون فيها القراءة، كانوا يقرءون مثلاً سورة البقرة في ثمان ركعات، وإذا قرءوها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أن ذلك تخفيفاً، فكانوا يقرءون مثلاً في الليلة الأولى سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، وفي الليلة الثانية يقرءون من المائدة إلى آخر التوبة، وفي الليلة الثالثة من أول يونس إلى آخر النحل، وفي الرابعة من أول الإسراء إلى آخر الفرقان، وفي الخامسة من الشعراء إلى آخر يس، وفي السادسة من الصافات إلى آخر الحجرات، ويختمون في السابعة، وهذا يسمى تحزيب القرآن، فكانوا يطيلون صلاة التراويح، ويصلونها كل ركعتين بسلام، فإذا صلوا أربع ركعات استغرقت مثلاً ساعة؛ فيستريحون بعدها، ثم يصلون أربعاً تستغرق ساعة فيستريحون بعدها، وهكذا إلى أن يتموا العشرين؛ فسموها تراويح بسبب الاستراحات التي بعد كل أربع ركعات.
يقول: (والوتر معها) فتكون مع الوتر ثلاثاً وعشرين، وفي هذه الأزمنة غلب الكسل على أكثر الناس فصاروا يقتصرون على ثلاث عشرة، ثم غلب الكسل فصاروا يقتصرون على إحدى عشرة إلا في الحرمين فلا يزالون يصلون عشرين ركعة مع الوتر، ولكنهم يخففون ويقتصرون على قراءة جزء واحد نظراً لكثرة المصلين.(8/16)
السنن الرواتب
ذكر المؤلف الرواتب، ويراد بها السنن التي قبل الفرائض أو بعدها، وهي في حديث ابن عمر عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، وورد في بعض الروايات أربع ركعات قبل الظهر؛ فتكون اثنتي عشرة ركعة، كان يواظب عليها لأنها متعلقة بهذه الفرائض، ولأنها شرعت لتكملة الفرائض، وقد ورد في حديث: (أول ما ينظر من عمل العبد صلاته، فإن لم يكملها قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فتكمل به الفريضة) ، وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم ندب إلى أربع قبل الظهر وأربع بعدها، وندب أيضاً إلى أربع قبل العصر، فقال: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) .
وذكر بعض المشايخ أن كثيراً من الصالحين وطلبة العلم يحافظون على عشرين ركعة زائدة على الرواتب، فالرواتب عشر ويزيدون معها عشرين، فيصلون قبل الظهر ستاً، وبعدها ستاً، وقبل العصر أربعاً، فهذه ستة عشر، وبعد المغرب ستاً، وبعد العشاء ستاً، وقبل الفجر اثنتين، فهذه ثلاثون ركعة.
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم عمم الصلاة بقوله: (بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء) لئلا يعتقد أنها واجبة، وفي حديث آخر أنه قال: (صلوا قبل المغرب، وكرر ذلك ثلاثاً، ثم قال: لمن شاء) فإذا كان كذلك فإنه بين كل أذانين صلاة يعني: بين أذان المغرب وإقامتها صلاة، وبين أذان العشاء وإقامتها صلاة، وبين أذان العصر وإقامتها صلاة، فتكون هذه كلها من النوافل التي يرغب فيها.
آكد الرواتب: ركعتا الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها سفراً وحضراً، وفي حديث أنه قال: (صلوها وإن طردتكم الخيل) ، وقال في فضلها: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وهذا دليل على آكديتها، وقد رأيت كتاباً مطبوعاً اسمه (كلام أهل العصر في أحكام ركعتي الفجر) وهو مجلد لطيف، كله في الكلام على أحكام سنة الفجر من حيث آكديتها، ومن حيث قضاؤها، ووقتها، وما أشبه ذلك.(8/17)
صلاة قيام الليل
ذكر المؤلف حكم صلاة الليل زيادة على الوتر، يقول: (تسن صلاة الليل بتأكد، وهي أفضل من صلاة النهار) ، يعني: أنها مؤكدة، وقد كانت مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] ، ولقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] يعني: زائدة في حقك، أو أنها تعتبر نافلة ولكنها مؤكدة، وقد كثرت الأدلة عليها، وصنفت فيها المؤلفات، منها كتاب لبعض المتأخرين طبع في مجلدين عنوانه (رهبان الليل) أطال الكلام في فضل التهجد، والأدلة فيه، وصفته، وما إلى ذلك.
وليس لصلاة الليل حد محدود؛ لأن الله تعالى أطلق في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] ، ولم يحدد لهم عدداً، فيجوز لهم أن يتنقلوا من قيام إلى ركوع إلى سجود إلى قراءة سجداً وقياماً، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] آناء الليل: يعني ساعات الليل، ووصف الله نبيه وأصحابه بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل:20] يعني: قريباً من ثلثي الليل {وَنِصْفَهُ} [المزمل:20] أي: وتقوم نصفه {وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] أخبر أن هذا هو حالهم، ووصف الصحابة رضي الله عنهم بذلك الشاعر في قوله: بالليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال أي: أنهم في الليل يصلون ويتهجدون ويدعون ربهم ويتضرعون إليه، ويكثرون من العبادة.(8/18)
ليس لقيام الليل عدد محدود
ليس لصلاة الليل حد، فلا تقتصر على عدد، وأما ما ذكرت عائشة من أنه صلى الله عليه وسلم ما زاد على إحدى عشرة ركعة فهذا في الغالب، فكان في الغالب لا يزيد، ولكن قد ورد أنه زاد في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس) .
فأثبتت عائشة الزيادة، وكذلك أثبتها ابن عباس في حديث مبيته عند خالته فقال: (فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر) أي: صلى ثلاث عشرة ركعة مع أن صلاته استغرقت نصف الليل؛ لأنه يقول.
فلما كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام، فذكر أنه استمر يصلي الليل كله ثلاث عشرة ركعة، أي: استغرقت تقريباً ست ساعات إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة، أو أربع ساعات ونصف إذا كان الليل تسع ساعات، ولا شك أن هذا دليل على أنه كان يطيل في أركانها.
والأصل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد النوم، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتحدث بعد العشاء، بل ينام بعدها مباشرة، ثم يقوم آخر الليل، وبذلك فسر قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6] وهي: القيام بعد النوم، {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] .
وعلى كلٍ فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، صلاة النهار مثل التطوع في الضحى، وهي مندوبة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) ، وفيه أحاديث تجدونها في زاد المعاد وغيره.
وسبب شرعيتها أن ساعة الضحى ينشغل الناس بحرفهم وبتجاراتهم، فالذي يتطوع في ذلك الوقت يكون متفرغاً لعبادة لا يشركه فيها إلا قليل كالذي يتهجد في آخر الليل وقت نوم الناس، فيصلي بالليل والناس نيام.(8/19)
سجود التلاوة
سجود التلاوة مشروع، ويسن للقارئ والمستمع دون السامع، ومن أتى به يكبر إذا سجد وإذا رفع، ثم يجلس ويسلم، ولم يذكر أنه يتشهد.
وكره للإمام قراءة سجدة في سرية كالظهر وسجوده لها، ولو سجد في الجهرية فإن على المأمومين متابعته إلا إذا سجد في سرية كالظهر، فإذا سجد في الجهرية من المغرب والعشاء والفجر والجمعة والعيد والتراويح وما أشبه يتابع.
سجود التلاوة المشهور عندنا أنه في أربعة عشر موضعاً، وهي: الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والحج فيها سجدتان، والفرقان، والنمل، والسجدة، وفصلت، والنجم، والانشقاق، والعلق، واختلف في سجدة ص، والراجح أنها سجدة شكر، إن سجدها القارئ وإلا فلا بأس لا حرج، ورد في حديث: (سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكراً) ومحل السجود مذكور في المصاحف، يذكر بعد الآية علامة على محل السجود، وإذا كان المحل في آخر السورة فإنه يسجد إذا أتمها كآخر سورة الأعراف وآخر سورة النجم وآخر سورة العلق، فيسجد إذا كمل الآية التي فيها سجود التلاوة.(8/20)
سجود الشكر
قال: (يسن سجود الشكر عند تجدد نعم واندفاع نقم) : إذا تجددت على إنسان نعمة سجد لله شكراً، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يسره خر ساجداً، سواء كان ذلك الأمر اندفاع نقمة كموت عدو أو نحوه، أو إذا حصل فتح ونصر للمسلمين فإنه يسن سجود الشكر، وفيه كلام طويل، وقد أفرده بعضهم بالتأليف.
ولا يجوز أن يسجد في الصلاة سجود الشكر، وإن سجده عالماً بطلت صلاته، أما إذا كان جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل.
سجود الشكر سجدة واحدة مثل سجود التلاوة، وهل تشترط له شروط الصلاة؟ اختلف فيه، واختار كثير من العلماء أنه لا بد أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وأن يكون ساتر العورة إلى آخر شروط الصلاة، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يشترط ذلك، وأنه يجوز أن يسجد وهو محدث، وأن يسجد لغير القبلة، وأن يسجد وإن لم يستر عورته، وإن كان ستر العورة واجباً في كل الحالات خارج الصلاة وداخلها.
يقول شيخ الإسلام: أقل ما روي أن اسمه صلاة فيها تحريم وتسليم ركعة، فأما سجدة واحدة فلا تسمى صلاة، فعلى هذا فسجود التلاوة وسجود الشكر لا يسمى صلاة، ومع ذلك يستحب أن يكبر ويسلم؛ لأن هناك من يجعله صلاة.
اشتهر عند كثير من الفقهاء أن سجود التلاوة صلاة، وقالوا: لا بد أن يكبر، وروي في ذلك حديث أنه عليه السلام لما سجد كبر لما خر ساجداً وكبر لما رفع، ولعل ذلك كان في الصلاة؛ وذلك لأنه يشرع في الصلاة أن يكبر عند كل خفض ورفع.
واختلف فيما إذا سجد للتلاوة في الصلاة ثم قام قبل إتمام القراءة، هل يكبر أو يكتفي بالقراءة، كان مشايخنا الأولون إذا رفع من السجدة ويريد مواصلة القراءة في التراويح أو في صلاة فجر يوم الجمعة يكتفي بقراءة الآية التي بعدها، ويجهر بها، والمأمومون يتبعونه، واستحب آخرون أن يكبر، وأخذوا ذلك من عموم قوله: (كان يكبر في كل خفض ورفع) ، ولكلٍ اجتهاده.(8/21)
أوقات النهي عن الصلاة
أوقات النهي خمسة: اثنان موسعان، وثلاثة مضيقة، الموسع من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى أن تتهيأ الشمس للغروب، والمضيق من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح، ومن تهيئها للغروب إلى أن يتم غروبها، وعند قيامها حتى تزول، فالمضيقة وقتها قصير، فبعد أن ترتفع الشمس ويطلع حاجبها يتوقف عن الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويمكن أن يقدر ذلك بخمس دقائق أو عشر على الأكثر، وإذا تهيأت الشمس للغروب يكون ذلك قبل أن تغرب بعشر دقائق تقريباً، وهو وقت المضيف حتى يتم غروبها، وكذلك عند الزوال إذا وقف الظل عن الزيادة إلى أن تزول الشمس، ويقدر هذا بنحو خمس أو عشر دقائق، هذه هي الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الصلاة فيها، وأن ندفن فيها موتانا: حين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تطلع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وحين تضيف للغروب) .
والأحاديث التي فيها كثيرة، تروى عن أكثر من عشرين صحابياً، وذكر في بلوغ المرام عدة منها، وفي عمدة الأحكام ذكر حديثاً أو حديثين ثم قال: ورواه فلان وفلان وفلان حتى عد أكثر من عشرة، والترمذي لما روى الحديث الذي في الباب قال: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان حتى عد عشرين من الصحابة، كلهم رووا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس، فتكون الأحاديث فيها متواترة، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (حدثني رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع) فهذان الوقتان هما الوقتان الموسعان إلا أنه إذا تهيأت الشمس للغروب دخل الوقت المضيق.
وإذا كانت الأحاديث بهذه الكثرة عرف بذلك تأكد النهي عنها.(8/22)
الصلوات التي تجوز وقت النهي
يحرم ابتداء النفل في أوقات النهي، أما إذا كان يصلي فدخل وقت النهي فلا بأس، مثلاً كان يصلي الضحى وامتدت صلاته حتى استوت الشمس فإنه يكمل، والنوافل كلها لا تجوز في أوقات النهي إلا الفرائض إذا فاتت، فلو طلعت الشمس وهو يصلي الفجر فإنه يتمها، أو طلعت قبل أن يصلي فإنه يصلي ساعة ما يستيقظ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وقت النائم إذا استيقظ، ووقت الناسي إذا ذكر) .
واختلف في ركعتي الطواف فـ عمر رضي الله عنه طاف بعد الفجر، ولم يصل ركعتي الطواف، ركب راحلته وصلاها بذي طوى بعدما طلعت الشمس، فكأنه كان يرى أنها لا تصح في وقت النهي، وكان ابن الزبير يطوف بعد العصر ثم يدخل بيته ولا يصليها عند المقام، وكثير من الصحابة كانوا لا يصلونها، وآخرون رأوا أنها من ذوات الأسباب التي يباح فعلها في هذه الأوقات.
وأما سنة الفجر إذا فاتت فهل يصليها بعد الفجر؟ في حديث قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه يصلي ركعتين بعد الفجر فقال: (ما هذه الصلاة يا قيس؟ فقال: الركعتان قبل الفجر لم أدركهما، فسكت) وسكوته دليل على الإقرار، ولكن كأنه يكره مثل هذا.
واختلف في صلاة الجنازة في هذين الوقتين، والصحيح أنها جائزة؛ لأنه لا ركوع فيها ولا سجود، وبعض العلماء رأى أنه لا يصلى على الجنازة في أوقات النهي، فمثلاً الخرقي الذي شرحه الزركشي وشرحه ابن قدامة في المغني يقول: إذا جيء بالجنازة وقت العصر صلوا عليها قبل صلاة العصر، وكذلك إذا جيء بها وقت الفجر قدموا الصلاة عليها قبل صلاتهم للصبح، حتى لا يؤخرونها بعد الصلاة فتكون في وقت نهي، فكأن الخرقي فهم أنها لا تصلى في أوقات النهي، والأكثرون على أنها من ذوات الأسباب.
واختلف في تحية المسجد، فكثير من العلماء يقولون: لا تدخلوا المسجد في أوقات النهي؛ لأنكم إن صليتم خالفتم حديث أربعة وعشرين صحابياً روايتهم مرفوعة، وإن تركتموها خالفتم حديث أبي قتادة: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فكونكم تخالفون حديثاً أو أحاديث هذا عمل يخالف الشرع والأدلة.
وبعضهم يدخلون المسجد ولا يصلونها ويقولون: كوننا نخالف أربعة وعشرين حديثاً أشد من مخالفتنا حديثاً أو حديثين، فإن صلاة تحية المسجد ورد فيها حديثان أو ثلاثة، وبكل حال لكلٍ اجتهاده، والله أعلم.(8/23)
شرح أخصر المختصرات [9]
لقد جاء الشرع المطهر بكل ما فيه رفق بالعباد وتخفيف عليهم، ومن ذلك أنه راعى حال المصلين، فأمر الأئمة بالتخفيف عليهم، وكذلك حال السفر وما فيه من الرخص، وحال المرض والمطر والخوف وغيرها، وهذا تيسير من الله سبحانه وتعالى وفضل، فهو يعلم حال العباد وضعفهم، فلم يكلفهم إلا بما يستطيعونه ويقدرون عليه.(9/1)
ترتيب النوافل في الأفضلية
ذكرنا أن آكد صلاة التطوع الكسوف ثم الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر، ثم السنن الرواتب، ثم التهجد بالليل، ثم صلاة الضحى، وذكرنا سجود التلاوة، وأوقات النهي، وما يفعل فيها.
هكذا ذكروا ترتيب هذه النوافل بناء على آكدية الأدلة، وإن كانت الوتر لها أهميتها حيث إن بعض العلماء كالأحناف قالوا بوجوبها، ولا يلتفت إلى خلاف من ينكر شيئاً منها كالرافضة الذين يطعنون في عمر أنه ابتدع صلاة التراويح مع أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.
ومر أيضاً استحباب القنوت، وذكرنا أنه لا يستحب أن يقنت دائماً بل يقنت أحياناً؛ لأن لم ينقل أنه عليه السلام كان يقنت في الوتر دائماً، ولكن علمه الحسن وعلمه علياً رضي الله عنهما.
كذلك أيضاً مر بنا مشروعية رفع اليدين في الدعاء في القنوت، ويسن مسح الداعي وجهه بيديه بعد كل دعاء، وذكرنا ما ورد فيه من الأدلة، وذكرنا أيضاً التراويح، وأنها عشرون ركعة على ما كان عليه في عهد عمر بن الخطاب، وكذلك في عهد الخلفاء.
وقد روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، وكذلك روي عن ابن عباس، وهذا يدل على أن صلاة الليل لا تنحصر في عدد معين، واقتصاره عليه الصلاة والسلام على إحدى عشرة ركعة لأنه كان يطيلها، كان يصلي في نصف الليل نحو ست ساعات أو على الأقل أربع ساعات ونصف، أي: نصف الليل أو ثلثه.
ثم ذكرنا أيضاً آكدية سنة الفجر، وآكدية صلاة التهجد، وما ورد فيها من الأثر، وآكدية سجود التلاوة للقارئ والمستمع، والخلاف هل هو صلاة أم ليس بصلاة، وذكرنا أن الأرجح كونه ليس بصلاة، وكذلك أيضاً سجود الشكر وأسبابه، والأوقات التي يحرم فيها النوافل، وجواز قضاء الفرائض وركعتي الطواف فيها، وهذا من باب التذكير، وقد شرحت والحمد لله، وشروحها موسعة في كتب العلماء.(9/2)
صلاة الجماعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تجب الجماعة للخمس المؤداة على الرجال الأحرار القادرين، وحرم أن يؤم قبل راتب إلا بإذنه، أو عذره، أو عدم كراهته.
ومن كبر قبل تسليمة الإمام الأولى أدرك الجماعة، ومن أدركه راكعاً أدرك ركعة، بشرط إدراكه راكعاً، وعدم شكه فيه، وتحريمته قائماً، وتسن ثانية للركوع، وما أدرك معه آخرها، وما يقضيه أولها.
ويتحمل عن مأموم قراءة، وسجود سهو، وتلاوة، وسترة، ودعاء قنوت، وتشهد أول إذا سبق بركعة، لكن يسن أن يقرأ في سكتاته وسرية، وإذا لم يسمعه لبعد لا طرش.
وسن له التخفيف مع الإتمام، وتطويل الأولى على الثانية، وانتظار داخل ما لم يشق.
فصل: الأقرأ العالم فقه صلاته أولى من الأفقه، ولا تصح خلف فاسق إلا في جمعة وعيد تعذرا خلف غيره، ولا إمامة من حدثه دائم، وأمي وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها حرفاً لا يدغم أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله.
وكذا من به سلس بول، وعاجز عن ركوع وسجود، أو قعود ونحوها، أو اجتناب نجاسة أو استقبال، ولا عاجز عن قيام بقادر إلا راتباً رجي زوال علته، ولا مميز لبالغ في فرض، ولا امرأة لرجال وخناث، ولا خلف محدث أو نجس، فإن جهلا حتى انقضت صحت لمأموم، وتكره إمامة لحان وفأفاء ونحوه.
وسن وقوف المأمومين خلف الإمام، والواحد عن يمينه وجوباً، والمرأة خلفه، ومن صلى عن يسار الإمام مع خلو يمينه أو فذاً ركعة لم تصح صلاته، فإذا جمعهما مسجد صحت القدوة مطلقاً، بشرط العلم بانتقالات الإمام، وإلا شرط رؤية الإمام أو من وراءه أيضاً، ولو في بعضها.
وكره علو إمام على مأموم ذراعاً فأكثر، وصلاته في محراب يمنع مشاهدته، وتطوعه موضع المكتوبة، وإطالته الاستقبال بعد السلام، ووقوف مأموم بين سوار تقطع الصفوف عرفاً إلا لحاجة في الكل، وحضور مسجد وجماعة لمن رائحته كريهة من بصل أو غيره.
ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، ومدافع أحد الأخبثين، ومن بحضرة طعام يحتاج إليه، وخائف ضياع ماله أو موت قريبه أو ضرراً من سلطان أو مطر ونحوه، أو ملازمة غريم ولا وفاء له، أو فوت رفقته ونحوهم.
فصل: يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، والأيمن أفضل، وكره مستلقياً مع قدرته على جنب وإلا تعين، ويومئ بركوع وسجود ويجعله أخفض، فإن عجز أومأ بطرفه، ونوى بقلبه كأسير خائف، فإن عجز فبقلبه مستحضر القول والفعل، ولا يسقط فعلها ما دام العقل ثابتاً، فإن طرأ عجز أو قدرة في أثنائها انتقل وبنى.
فصل: ويسن قصر الرباعية في سفر طويل مباح، ويقضي صلاة سفر في حضر وعكسه تامة.
ومن نوى إقامة مطلقة بموضع، أو أكثر من أربعة أيام، أو ائتم بمقيم أتم، وإن حبس ظلماً، أو لم ينو إقامة قصر أبداً، ويباح له الجمع بين الظهرين والعشاءين بوقت إحداهما، ولمريض ونحوه يلحقه بتركه مشقة، وبين العشاءين فقط لمطر ونحوه يبل الثوب، وتوجد معه مشقة، ولوحل وريح شديدة باردة لا باردة فقط، إلا بليلة مظلمة.
والأفضل فعل الأرفق من تقديم أو تأخير، وكره فعله في بيته ونحوه بلا ضرورة، ويبطل جمع تقديم براتبة بينهما، وتفريق بأكثر من وضوء خفيف وإقامة.
وتجوز صلاة الخوف بأي صفة صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت من ستة أوجه، وسن فيها حمل سلاح غير مثقل] .(9/3)
وجوب صلاة الجماعة على الرجال
ذكر المؤلف في الفصل الأول صلاة الجماعة، وأنها تجب، والواجب هو ما يعاقب تاركه تهاوناً، ويثاب فاعله.
والجماعة يراد بها الاجتماع على أدائها، والأصل أن أداءها جماعة يكون في المساجد، ولا يكفي أداؤها جماعة في البيوت، ولو اجتمع في البيت عشرة أو أكثر أو أقل فلا يكفي أن يصلوها جماعة في بيوتهم ويعتذرون بأنه حصل اجتماع؛ لأن هذا فيه تعطيل للمساجد، فإن المساجد بنيت لأجل عمارتها بالمصلين، فلا يجوز تعطيل المساجد لهذا العذر.
والأصل في وجوبها الأدلة، فمن ذلك قول الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: مع المصلين الذين يجتمعون للصلاة، والأحاديث كثيرة صريحة في وجوبها، بل يستدل عليها أيضاً بالوعيد في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] ، فإن هذا الدعاء دعاء لهم إلى فعلها جماعة فامتنعوا فعوقبوا في الآخرة بعجزهم عن السجود.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم، وهو لا يهم إلا بحق، وإنما تركه لما بها من النساء والذرية، ولا شك أن ذلك دليل على أن ما قاموا به من السيئات، وترك العمل الواجب.
وكذلك أيضاً في الحديث المذكور في بلوغ المرام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) ، والأدلة على وجوبها كثيرة، والمفاسد التي تترتب على تركها كثيرة، والمحاسن والحكم التي تترتب على أدائها جماعة لا تحصى.(9/4)
عدم وجوب صلاة الجماعة على النساء
يقول: (لا تلزم إلا الرجال) .
أما النساء فتجوز صلاتهن في المساجد من غير وجوب، ثبت أن النساء كنّ يشهدن صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، قال: (وبيوتهن خير لهن) ، وقال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، ومع ذلك فإن بيتها خير لها؛ لأنها قد يتعرض لها الفساق ونحوهم.(9/5)
الجماعة للصلوات الخمس
لا تلزم الجماعة إلا للصلوات الخمس، أما غيرها من النوافل فتصح في البيت، ولا تلزم أيضاً إلا المؤداة أما المقضية التي قد فات وقتها فيصليها بمفرده متى تيسر له أداؤها، وتسقط عن المملوك إذا كان المسجد بعيداً، فإذا كان قريباً يلزم سيده أن يمكنه من أداء الصلاة جماعة في المساجد، وتسقط عن العاجزين لمرض أو كبر يشق معه الحضور إلى المسجد، وإنما تلزم القادر وهو الصحيح سالم الأعضاء.
كل مسجد له إمام راتب، وهو أولى بمسجده، فيحرم أن يؤم أحد في مسجد قبل إمامه الراتب الذي عين فيه والتزم به، فلا يجوز لأحد ولو كان أفضل منه أن يتقدم ليصلي بالناس إلا بإذنه، فله أن يقدم غيره لحاجة مثل أن يتأخر لعذر، وإذا تأخر ندب أن يرسل إلى من يصلي مكانه، فإذا عرف المأمومون عذره وعدم حضوره قدموا غيره، وكذلك لو عرف المأمومون عدم كراهته أن يتقدم فلان.(9/6)
ما تدرك به الجماعة
بأي شيء تدرك الجماعة؟ فيه قولان: القول الأول: أنها تدرك بإدراك تحريمة قبل السلام، فإذا أتيت وهم في آخر التشهد وقلت: الله أكبر قبل أن يسلموا أدركت فضل الجماعة، وإن كنت قد فاتك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وفاتك فضيلة متابعة الإمام، ولكن تعد مدركاً للجماعة إذا أدركت هذه التحريمة قبل السلام.
هذا قول.
والقول الثاني ولعله الأرجح: أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، فمن أتى وهم قد صلوا أربع ركعات في الرباعية، وما بقي عليهم إلا آخر الركعة فقد فاتته الجماعة.
نتيجة الخلاف: إذا أتيت مثلاً وهم في التشهد الأخير أو أتيت وقد رفع من الركوع الأخير من الركعة الأخيرة، وما بقيت إلا السجدتان والتشهد، فهل تدخل معهم أو تنتظر جماعة أخرى؟ إذا قلنا: إنها تدرك بالتحريمة تدخل معهم؛ لأنك تدرك الجماعة وفضلها، وإذا قلنا: إنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة فإنك تنتظر جماعة أخرى إن كان معتاداً أن يأتي بعض المتخلفين ويقيموا جماعة أخرى، وإن لم يعتد ذلك بل الأصل أنهم يصلون في بيوتهم، ولا يأتي أحد بعد السلام فادخل مع الجماعة، ولو لم تدرك إلا آخر التشهد.(9/7)
ما تدرك به الركعة
بأي شيء تدرك الركعة؟ يعني: متى يكون الإنسان مدركاً الركعة التي يعتد بها من صلاته؟ في ذلك خلاف: القول الأول: أنه يدركها بإدراك الركوع، فإذا أدرك الإمام راكعاً، وأدرك معه قول: سبحان ربي العظيم قبل أن يتحرك للرفع من الركوع؛ أدرك الركعة واعتد بها؛ وذلك لأنه أدرك معظمها، والشيء يدرك بإدراك معظمه، فإذا أدرك الركوع ثم أدرك القيام بعده ثم أدرك السجدتين وأدرك الجلسة بينهما؛ فقد أدرك أكثر الأركان، ولم يفته إلا ركن القيام الأول، وقراءة الفاتحة، فيكون مدركاً للركعة لإدراكه أكثرها.
القول الثاني: أنه لا يدرك الركعة إلا إذا أدرك الإمام قائماً وتمكن من قراءة الفاتحة، ويختار هذا القول البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وينقله أيضاً عن بعض العلماء المتقدمين.
ولكن المشهور أنها تدرك بإدراك الركوع، فإذا أدركه راكعاً ولم يشك في أنه ركع وكبر للتحريمة وهو قائم، فقد أدركها، بأن انحنى وتمكن من قول (سبحان ربي العظيم) قبل حركة الإمام للرفع، وأما إذا شك هل رفع الإمام قبل أن أركع؟ وهل أنا سبحت قبل أن يتحرك؟ ففي هذه الحال يقضيها احتياطاً للعبادة.
يلاحظ أن كثيراً يأتون مسرعين إذا جاءوا والإمام راكع، ويكبر أحدهم وهو منحي للتحريمة، وهذا لا يصح، ولا بد أن يقف ثم يكبر تكبيرة الإحرام ثم ينحني راكعاً، وأما قصة أبي بكرة أنه ركع قبل الصف فلم يذكر أنه كبر وهو منحنِ، جاء وهم ركوع، ولما حاذى الصف كبر وركع ومشى على حالة الركوع حتى اتصل بالصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) أي: لا تعد أن تكبر قبل أن تصل إلى الصف، ولم يأمره بالإعادة؛ لأن الحركة يسيرة خطوة أو خطوتين.
إذا جاء والإمام راكع وكبر ناوياً تكبيرة الإحرام أجزأته وسقطت عنه تكبيرة الركوع، ولكن يسن أن يأتي بتكبيرتين: تكبيرة الإحرام وهو قائم، وتكبيرة للركوع وهو منحنٍ، هذا هو الأفضل.(9/8)
هل ما يدركه المسبوق أول صلاته أو آخرها
هل ما يدركه المسبوق أول صلاته أو آخرها؟ في ذلك خلاف، وأكثر الفقهاء على أن ما يدركه المسبوق هو آخر صلاته، وما يقضيه هو أولها، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) قالوا: والقضاء يحكي الأداء، وهو دليل على أن ما فاته هو أول صلاته، فيقضيها على صفتها، يقضي ما فاته على أنه أول صلاته.
وسبب الخلاف في هذه المسألة اختلاف رواية الحديث، ففي رواية: (وما فاتكم فأتموا) ، وفي رواية: (وما فاتكم فاقضوا) ، أخذ أكثر الفقهاء برواية: (فاقضوا) ، والذين قالوا: إن ما يدركه هو أول صلاته استدلوا برواية: (وما فاتكم فأتموا) ، وهي أرجح من رواية: (فاقضوا) من حيث السند، ويمكن أن تحمل رواية: (فاقضوا) على الإتمام لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] يعني: أكملت وأتمت، فيترجح أن المسبوق إذا أدرك الإمام في ركعة عد هذه الركعة أول صلاته، وإذا قام ليقضي جاء بالركعة التي بقيت عليه.
الذين قالوا: إن ما يدركه المسبوق هو آخر صلاته تناقضوا، فقالوا: إذا أدرك ركعة من الظهر أو من العشاء ثم قام ليأتي بما فاته فإنه يصلي معها ركعة ثم يتشهد، مما يدل على أنه قد كمل ركعتين، وبعد الركعتين يتشهد ثم يأتي بركعتين بدون قعود بينهما، فنقول لهم: هذا تناقض، لو كان ما يقضيه هو أول صلاته، لقلنا له: فاتك ثلاث ركعات، هذه الثلاث اثنتان سرداً وواحدة فرداً، فإذا قمت تقضي الثلاث فائت بثنتين سرداً لا تجلس بينهما، ثم ائت بالثالثة وتشهد بعدها وسلم، فتكون مثل المغرب، فأما إذا ألزمتموه إذا أدرك ركعة أن يتشهد بعد الأخرى، وأن يسرد الركعتين الباقيتين بدون جلوس بينهما، فهذا يدل على أن الركعة التي أدركها هي أول صلاته.
فالراجح أن ما يدركه هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ وذلك لأن الأول حساً لا يمكن أن نجعله الآخر، فأول شيء أدركه هو هذه الركعة التي مع الإمام، وإن لم يتمكن من أن يقرأ فيها بعد الفاتحة فإنها سقطت القراءة بعد الفاتحة كما تسقط قراءة الفاتحة إذا أدركه راكعاً.
وتوسط بعضهم وقال: نأمره إذا قام ليقضي أن يقرأ مع الفاتحة سورة حتى يدرك ما فاته حقاً؛ لأنه إذا فاته الركعتان اللتان فيهما قراءة الفاتحة وسورة، والركعتان اللتان أدركهما ليس فيهما إلا قراءة الفاتحة، فإذا قام ليقضي قلنا له من باب التدارك أن يقرأ في المقضيتين الفاتحة وسورة حتى يتدارك ما فاتك.(9/9)
ما يتحمله الإمام عن المأمومين
ذكر المؤلف ما يتحمله الإمام عن المأمومين، ذكروا أنه يتحمل ثمانية أشياء، ونظمها بعضهم في أبيات مذكورة في حاشية الروض المربع للشيخ العنقري أولها قوله: ويحمل الإمام عن مأموم ثمانيه تعد في المنظوم وذكر هاهنا منها ستة، والشارح ذكرها كاملة، وهي: الأول: القراءة، قراءة الفاتحة وقراءة سورة، إذا كانت الصلاة جهرية فإن المأموم ينصت ويستحب أن يقرأ في السكتات كما سيأتي، وأما إذا كانت سرية فيتأكد عليه أن يقرأ، وبعض العلماء لم يسقطها عن المصلي لا في الجهرية ولا في السرية.
الثاني: سجود التلاوة.
الثالث: سجود السهو.
إذا سجد الإمام للتلاوة أو السهو سجد المأموم، ويتأكد عليه أن يتابع إمامه، ولو سها المأموم ولم يسجد إمامه فلا يسجد المأموم.
وإذا سها الإمام، والمأمومون ما سهوا، كأن ترك التسبيح في الركوع والسجود أو التحميد أو ما أشبه ذلك ثم سجد للسهو، فيلزمهم أن يتابعوا الإمام في هذا السجود، فإن لم يتابعوا الإمام فصلاتهم صحيحة، كذلك لو قرأ الإمام آية فيها سجدة وسجد ولم يكبر فقد يشوش على المأمومين، فإذا سجد ولم يتابعوه فإنه يتحملها الإمام.
الرابع: السترة، وهي التي تكون أمامه، يقولون: سترة المأمومين إمامهم، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، والصفوف بعضهم سترة لبعض، فالصف الأول سترة للثاني، والصف الثاني سترة للثالث، وهكذا ولا يجوز المرور بين الصفوف كما يفعله بعض المتساهلين، ويقولون: سترة الإمام سترة لكم، فإن هذا مرور بين يدي المصلي، وصاحبه متعرض للوعيد.
الخامس: دعاء القنوت، فالمأمومون يؤمنون إذا دعا الإمام للقنوت، فلا يقنتون بأنفسهم، ولا يدعون بمثل دعائه، بل يكفيهم التأمين.
السادس: التشهد الأول إذا سبق المأموم بركعة، إذا أتيت والإمام قد صلى ركعة، وأدركت معه الركعة الثانية، فإنك تتشهد بعدها، وإذا تشهدت بعدها فإنك تكون قد تشهدت وأنت ما صليت إلا ركعة، قمت بعدها لتصلي الثلاث، كأنهم يقولون: يجوز أن تأتي بها كصلاة المغرب، ركعتين فتشهد ثم ركعة، ولكن الصحيح أنك تأتي مع الركعة التي أدركت وتشهدت معهم بركعة أخرى، ثم تتشهد، ويكون تشهدك هذا هو التشهد الأول.
السابع: التسميع، وهو قول: (سمع الله لمن حمده) ، لا يقوله إلا الإمام.
الثامن: قول: (ملء السموات وملء الأرض) ، فالمأموم يقول: ربنا ولك الحمد، وقول: (ملء السموات) يحملها الإمام عنهم.(9/10)
قراءة المأموم في سكتات الإمام وفي السرية
لما ذكر المؤلف القراءة قال: (يسن أن يقرأ في سكتات الإمام وفي السرية) يعني: إذا كانت الصلاة سرية يتأكد أن يقرأ المأموم فيها كالظهر والعصر والأخيرة من المغرب والأخيرتين من العشاء، فهذه كلها سرية، ويتأكد أن يقرأ المأموم فيها؛ لأنه ليس في الصلاة سكوت، فإذا كنت لست منصتاً لقراءة الإمام فكيف تسكت ولا تقرأ؟! وقد ذكرنا أن البخاري وغيره يلزمون أن يقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية.
هل للإمام سكتات في الجهرية؟ قد ورد في حديث سمرة قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين: سكتة إذا استفتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من القراءة كلها) ، وفي رواية: (وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ) هكذا في سنن الترمذي.
وعلى هذا يكون عدها ثلاث سكتات: سكتة قبل الفاتحة، وسكتة بعد {وَلا الضَّالِّينَ} ، وسكتة بعد القراءة كلها وقبل الركوع، لكنه قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين) ، وسئل عن ذلك عمران بن حصين فأقره، وشهد أنه صادق في هذه السكتتين.
والسكتة التي بعد الفاتحة قد استحبها بعضهم وقالوا: يتأكد على الإمام أن يسكت سكتة بعدها يمكن المأمومين من قراءة الفاتحة؛ وذلك لأن هناك من يوجب قراءتها، وقد يستدلون على ذلك بقول أبي هريرة: (اقرأ بها في نفسك يا فارسي) ، فيدل على أنه يقرأ في نفسه ولو جهر الإمام، ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) وفسر الإمام أحمد قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] قال: أجمعوا على أنها في الصلاة، يعني: أن الوجوب إنما يكون في الصلاة، أي: فإذا قرئ القرآن في الصلاة فأنصتوا، ولا يجتمع قراءة مع إنصات، وقد يقال: يستثنى من ذلك قراءة الفاتحة، فيقرأها بسرعة خروجاً من خلاف وجوبها، وقد يقال أيضاً: إذا قرأ نصفها في سكتة الإمام، ثم ابتدأ الإمام السورة كمّلها بسرعة، وهذا هو الأقرب.
من لم يسمع الإمام إما أن يكون بعيداً، وإما أن يكون أطرش وهو الأصم، فإذا كان لا يسمع الإمام لبعد جاز له أن يقرأ، وإذا كان لا يسمعه لطرش فلا يقرأ؛ وذلك لأنه يشوش على من حوله إذا قرأ، فيسمعه من بجنبه من هنا ومن هنا فيشوش عليهم.(9/11)
حقيقة التخفيف المأمور به في الصلاة
يقول: (ويسن له التخفيف مع الإتمام) .
الضمير يعود على إمام الصلاة، فيسن له أن يخفف مع الإتمام، وقد انقسم الناس في الصلاة إلى ثلاثة أقسام: قسم يطيلون كثيراً، وقسم يخففون كثيراً، وقسم يتوسطون.
الذين يطيلون قد يكون فعلهم منفراً عن هذه العبادة، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (أتريد أن تكون فتاناً؟!) ، وقال: (أيها الناس! إن منكم منفرين، أيكم أمّ الناس فليخفف) ، وذكر العلة: (أن فيهم الصغير والكبير وذا الحاجة) .
ولكن يقول ابن القيم رحمه الله: إن حديث معاذ هذا كثيراً ما يستدل به النقارون: (أيكم أمّ الناس فليخفف) ، ثم ينقرون الصلاة نقر الغراب ويقولون: هذا هو التخفيف الذي أمرنا به، فنقول: هذه ليست صلاة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن نقر كنقر الغراب) وهو التخفيف المخل.
والتخفيف المشروع هو اتباع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى النسائي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات) أي: أنه فسر قوله بفعله، فمن قرأ بالصافات في صلاة الصبح فإنه يعتبر مخففاً، الصافات ست أو سبع صفحات، ومع ذلك فإنه إذا رأى من الناس نفرة أو إطالة فإنه يقرأ من طوال المفصل كما تقدم.(9/12)
استحباب إطالة الركعة الأولى على الثانية
قوله: (وتطويل الركعة الأولى على الثانية) : يسن أن تكون الركعة الأولى أطول من الثانية؛ ولعل السبب في ذلك أن يدرك المأمومون هذه الركعة، فقد يكونون متأخرين يسمعون الإقامة فيأتون من أماكن بعيدة فيطيل الأولى حتى يدركوها، فقد روى مسلم عن جابر قال: (كانت تقام صلاة الظهر فيذهب أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته فيتوضأ ثم يأتي إليهم فيدركهم في الركعة الأولى؛ لما يطيل بهم) فذهابه إلى البقيع يقضي حاجته كم يستغرق من الدقائق؟! كذلك رجوعه إلى بيته، كذلك اشتغاله بالوضوء، كذلك ذهابه إلى المسجد، ومع ذلك يدركهم وهم في الركعة الأولى، وهذا دليل على أنه قد يبقى في الركعة الأولى مثلاً خمس دقائق أو ست دقائق على الأقل، ومما يدل أيضاً على أنه كان يطيل بهم.
ولذلك يستحب أن يطيل الركعة الأولى على الثانية.(9/13)
استحباب انتظار الداخل وخاصة في الركوع
قوله: (وانتظار داخل ما لم يشق) : ذكروا أنه يسن للإمام انتظار داخل ما لم يشق، ويروي فيه أحاديث وآثار، ومنها: (أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع من الركوع حتى لا يسمع وقع قدم) ، وفي رواية: (حتى لا يسمع وقع نعل) يعني: إذا ركع الإمام، ودخل أحد من الباب من هنا أو من هنا والإمام راكع انتظره حتى يتصل بالصف ما دام يسمع وقع قدمه، لأجل إدراك الركعة، فإن شق على المأمومين فحق المأمومين أولى من هذا الداخل.
ثم على الداخل أن لا يسرع بل يمشي الهوينا لما تقدم: (إذا سمعتم الإقامة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، ولا تأتوها وأنتم تسعون) .(9/14)
الأولى بالإمامة في الصلاة
قال المصنف: (فصل: الأقرأ العالم فقه صلاته أولى من الأفقه) .
الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته، فهو أولى من الأقرأ وأولى من الأفقه الذي ليس بأقرأ، فإن قلت: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ولم يذكر الفقه؟
الجواب
أنهم كانوا إذا قرءوا شيئاً تفقهوا فيه، فلا يقرءون إلا بعد ما يتفقهون، فالأقرأ في ذلك الوقت جامع بين القراءة وبين الفقه والفهم سيما للصلاة، فإذا قدم إنسان قارئ حافظ للقرآن ولكنه لا يفقه أحكام الصلاة، فإنه إذا عرض له شيء في الصلاة لم يدر ما يفعل، ولا يقدر أن يميز أركانها من واجباتها من سننها، ولا يدري ما سجود السهو، ولا يدري ما يسجد له، ولا يفرق بين تسبيح الركوع والسجود، وبين التكبير والتسميع فهذا لا يتقدم؛ لأنه قد يصلي صلاة غير مجزئة.
أما إذا جمع بين القراءة والفقه ومعرفة أحكام الصلاة؛ فإنه أولى من الأفقه الذي ليس بأقرأ، وأولى من الأقرأ غير الفقيه.(9/15)
حكم إمامة الفاسق في الصلوات والجمع والأعياد
قال: (ولا تصح خلف فاسق إلا في جمعة وعيد تعذرا خلف غيره) : الفاسق الذي عرف بالفسق، كأن عرف بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بأكل الربا، أو بشهادة الزور، أو بالسرقة، أو بالظلم والعدوان، أو بتتبع العورات، أو غير ذلك من موجبات الفسق، لا تصح إمامته سواء كان فسقه بالأفعال كالزاني والسارق، أو بالعقائد كالرافضي والخارجي، فهؤلاء لا تصح الصلاة خلفهم، ولو كان مستوراً فلا بد أن نبحث عنه.
وهل تصح صلاته بمثله؟ في ذلك خلاف، ومعلوم أنهم إذا كانوا كلهم سواء فلا بد أن يتقدمهم أحدهم، فإذا كنت تعلم فسقه فلا تصل خلفه، إذا كان فسقه شيئاً ظاهراً كحليق مثلاً، أو تعلم أنه يشرب الدخان، أو أنه مسبل ثوبه وأنت تراه فلا تصل خلفه، أما إذا كان مستوراً فإنك لا تبحث عنه.
يستثنى من ذلك: صلاة الجمعة والعيد إذا تعذرا خلف غيره؛ وذلك لأنه غالباً ما يتولاها الأمراء، وقد يكون الأمير مشهوراً بشيء من البطش ومن الظلم ومن الاعتداء، والتسرع في الحكم على المتهمين بظلم أو نحو ذلك، فمثل هذا قد يرخص في صلاة الجمعة والعيد خلفه، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف بعض الأمراء في عهد بني أمية، وأولئك الأمراء قد اشتهروا بشيء من الفسق والمعاصي، مثل: تأخير الصلاة عن وقتها كصلاة العصر، ومثل: التسرع في قتل الأبرياء، وكثرة السجون ونحو ذلك، فيصلون خلفهم لتعذر الصلاة خلف من هم عدول.(9/16)
حكم إمامة من حدثه دائم وأمي ومريض
لا تصح إمامة من حدثه دائم كصاحب السلس والقروح السيالة، واختلف هل يصلي بمثله أم لا؟ والأرجح أنه يصلي بمثله؛ وذلك لأن حدثه دائم؛ ولأن طهارته ناقصة.
قال: (ولا تصح الصلاة خلف الأميّ وهو الذي لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها حرفاً لا يدغم، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى) .
الأمي في الأصل الذي لا يقرأ ولا يكتب، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة:2] يعني: أن العرب كانوا أميين غالباً، ثم اصطلح الفقهاء على أن الأمي هو الذي لا يحسن الفاتحة، أو يقرؤها ولكن يغلط فيها، فيدغم فيها حرفاً لا يدغم في أي قراءة من القراءات، هناك قراءة لبعض القراء وهو أبو عمرو يدغم الميم في قوله: (الرحيم ملك) يجعلها ميماً مشدداً، فمثل هذا قراءة سبعية وإن كانت مكروهة.
فأما إذا أدغم حرفاً لا يدغم مثله، فإن ذلك يخل بقراءته، يسأل بعض الإخوان عن بعض الهنود الذي يقلبون الحرف، حرف الحاء هاء، يقول: الهمد لله، نقول: مثل هذا لا تصح إمامته إلا بمثله، لأن هذا قد يكون عاجزاً عن النطق بحرف الحاء، فتصح صلاته بمثله، وإلا فالأصل أنه لا يتقدم الذين لا يحسنون الفاتحة.
وذكر صاحب سلس البول، وقد تقدم أنه داخل في الحدث الدائم.
كذلك العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود ونحوها، هذا أيضاً لا تصح إمامته؛ لأنه إذا كان لا يستطيع الركوع ما تمت صلاته، فيصلي جالساً لنفسه مأموماً فلا يصلي إماماً، وكذلك بقية الأركان.
وحد العاجز هو الذي لا يأتي بالركن كاملاً، فإذا كان عاجزاً عن الانحناء بحيث لا يقدر أن تصل يداه إلى ركبتيه صدق عليه أنه عاجز عن الركوع.
كذلك مثلاً: إذا كان عاجزاً عن القعود بحيث إنه لا يستطيع أن يجلس مفترشاً بين السجدتين أو التشهد؛ لعيبٍ مثلاً في ركبته أو في قدمه، فيصدق عليه أنه عاجز عن القعود، وكذلك إذا كان لا يستطيع السجود لمرض مثلاً في رأسه أو في عينه يمنع من السجود، فيصدق عليه أنه عاجز، وكذا عاجز عن اجتناب نجاسة، فإذا كان مثلاً لا يستطيع أن يزيل النجاسة التي على ثوبه أو على بدنه فهو معذور والحال هذه، وكذلك لو كان عاجزاً عن استقبال القبلة فإنه تصح صلاته وحده ولا يصح أن يكون إماماً.
أما العاجز عن القيام ففيه خلاف قد أشير إليه فيما تقدم، وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين) فرخصوا في إمام الحي الراتب إذا رجي زوال مرضه، وابتدأ الصلاة بهم جالساً فإنهم يصلون خلفه جلوساً.
أما إذا كان لا يرجى زوال مرضه، فالأصل أنهم يستبدلون به غيره؛ لأنه والحال هذه يستمرون في صلاتهم وهم جلوس، وكذلك إذا ابتدأ بهم الصلاة وهو قائم ثم اعتلّ لزمهم أن يتموا وهم قيام.(9/17)
حكم إمامة المميز دون البلوغ والمرأة والمحدث واللحان
صلاة المميز للبالغ في فرض لا تجوز، والمميز هو الذي دون العشر، فلا يصح أن يؤم البالغين في الفريضة، ولو كان أقرأ من غيره.
ولا تصح إمامة المرأة للرجال والخناثى ونحوها؛ وذلك لأن المرأة مأمورة بأن تكون خلف الرجال فلا تتقدمهم، وكذا لو صلت في وسطهم ولو كانوا محارم لها.
ولا تصح خلف محدث يعلم حدثه، فإذا صلى وهو محدث بطلت صلاته وصلاة المأمومين، وكذا إذا كان عليه نجاسة يعلمها بطلت صلاته وصلاة المأمومين، فإذا جهل حتى انقضت صحت صلاة المأموم، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه صلى مرة الفجر، فلما خرج إلى بستان له وجد على فخذه آثار احتلام، فعلم أنه صلى بهم وهو محتلم، فاغتسل وأعاد ولم يأمرهم بالإعادة، فإذا صلى الإمام وهو ناسٍ الحدث ولم يتذكر إلا بعدما انتهت الصلاة أعاد وحده، فإن تذكر وهو في الصلاة لزمهم الإعادة كلهم.
وتكره إمامة اللحان والفأفاء ونحوهم، اللحان قيل: إنه الذي يلحن في قراءته، وقيل: إنه الذي فيه لحن، والكل منهي عنه، سواء كان الذي يلحن في قراءته حتى تكون كأنها غناء، أو الذي يلحن في قراءته ويغلط فيها غلطاً يحيل المعنى.
والفأفاء: هو الذي يكرر الفاء، وكذا التمتام: الذي يكرر التاء عند النطق، إذا أراد أن ينطق مثلاً بكلمة أولها تاء كرر التاء (ت ت ت) وكذلك يكرر الفاء (ف ف ف فأقول) ، هؤلاء في إمامتهم نظر بسبب هذا التكرار.(9/18)
مكان وقوف المأمومين في الصلاة رجالاً ونساءً أفراداً وجماعات
موقف المأمومين: يقف المأمومون خلف الإمام -هذا هو المعتاد- إذا كانوا اثنين فأكثر، والواحد يقف عن يمينه وجوباً، ولا يجوز أن يقف عن يساره إذا كان المأموم وحده، المرأة الواحدة تقف خلف الإمام أو خلف الصف؛ وذلك لحديث أنس: (أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام فلما أكل قال: قوموا فلأصلي لكم، يقول أنس: فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز خلفنا) العجوز جدتهما ومع ذلك ما صفت معهما، بل صفت خلفهما، فدل على أن المرأة تقف وحدها ولو كانت فرداً، وأما الرجل فلا يقف وحده خلف الصف، ولا خلف الإمام.
من صلى عن يسار إمام وليس خلف الإمام ولا عن يمينه أحد بطلت صلاته، أما إذا كان عن يمينه وعن يساره فإنها تصح؛ وذلك لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى بين علقمة والأسود يعني: جعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إما قولاً وإما فعلاً، لكن بعضهم حمل ذلك على رؤية المكان وجعله عذراً، فالأصل أن الواحد يقف عن يمين الإمام، والاثنين يقفان خلفه، لكن إذا وقف أحدهم عن يمينه والآخر عن شماله صحت صلاتهم، لحديث جابر يقول: (إنه وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأداره عن يمينه فجاء جبار بن صخر فوقف عن يساره فدفعهما خلفه) فصار هذا هو السنة أن الاثنين يقفان خلف الإمام، إلا إذا كانوا دون البلوغ فإنهم كلهم يقفون عن يمين الإمام.(9/19)
حكم من صلى خلف الصف منفرداً
من صلى خلف الصف وحده ورد فيه حديث: (لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف) وورد أنه صلى الله عليه وسلم: (رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره بأن يعيد) ؛ وذلك لكونه منفرداً.
يكثر السؤال عما إذا جاء والصف مكتملاً فماذا يفعل؟ الجمهور على أنه يصلي منفرداً أو ينتظر حتى يأتي أحد ويصلي معه، وأجاز شيخ الإسلام ابن تيمية بأن يصلي وحده فرداً مع الإمام؛ حتى لا تفوته صلاة الجماعة وهو ينظر إليهم، فقد يأتي وهم في الركعة الأولى وينتظر ولا يأتيه أحد فهل نقول له: اترك صلاة الجماعة وصل وحدك وهو ينظر للجماعة وقد جاء من مكان بعيد؟ في هذا شيء من الخطأ أو شيء من التفويت، لذلك كثر البحث في هذه المسألة وكثر الكلام حولها.
أولاً: نقول له: التمس فرجة، بأن يقرب بعضهم إلى بعض حتى تكون بينهم فرجة تتسع له.
ثانيا: إذا وجدهم متراصين تراصاً شديداً جاز له أن ينبه أحدهم ليتأخر معه، ورد في ذلك حديث أنه قال: (هلا التمست فرجة أو اجتررت رجلاً) ولو كان الحديث ضعيفاً لكن عمل به كثير من الفقهاء وكرهوا أن يجتذبه بقوة؛ لأن هذا تصرف مؤذ، ولكن ينبهه بكلمة خفيفة أو يسحبه سحباً خفيفاً أو نحو ذلك، وحملوا عليه الحديث الذي فيه: (لينوا في أيدي إخوانكم) أن المراد: إذا طلبك أن تتأخر معه حتى تصح صلاته، فتأخر.
ورد أيضاً: (أنه إذا اجتذبه فإن لهذا المجتذب أجر) ؛ لأنه وصل صفاً ومن وصل صفاً وصله الله، فإذا لم يستطع أن يجتذب أحداً لكونهم امتنعوا، فله أن يخرق الصف ويقوم عن يمين الإمام إذا كان هناك متسع عن يمينه، فإذا لم يستطع وكثرت الصفوف ولا يستطيع أن يخرقها وصلى وحده، عملاً بما اختاره شيخ الإسلام فلعل ذلك يجزئه وهو أولى من تفويت الصلاة وهو ينظر.(9/20)
ضابط صحة اقتداء المأموم بالإمام
متى يقتدي المأموم بالإمام؟ إذا جمعهما مسجد صحت الإمامة، ولو كان بينهما جدار، وإذا كان السور واحد وامتلأ المسجد وصفوا في الرحبة صحت صلاتهم؛ لأن المسجد واحد، وكذلك إذا امتلأت الرحبة وصفوا في الطريق والصفوف متراصة صحت الصلاة، وصح أن يقتدي بهم بشرط أن يعلم بانتقالات الإمام، أي: يعلم برفعه وخفضه وركوعه وسجوده.
أما إذا لم يجمعهما مسجد وصلى خارج المسجد فاشترطوا رؤية الإمام أو رؤية من وراءه ولو بعضهم، فإذا كان يصلي مثلاً في الطريق أو في الشوارع فاشترطوا أن يرى الإمام ولم يكتفوا بسماعه، ولعل الأولى في هذه الأزمنة إذا اتصلت الصفوف الاكتفاء؛ وذلك لوجود المكبر؛ لأن المساجد تمتلئ فهم يصلون في الأرصفة والطرق؛ حيث لا يجدون مكاناً، إلا أنه لا يجوز أن يكونوا أمام الإمام بل عن جانبيه أو خلفه.(9/21)
المكروهات التي ينبغي اجتنابها في صلاة الجماعة
يقول: (يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين قدر ذراع فأكثر) روي أنه صلى الله عليه وسلم لما بني له المنبر ركع عليه وكان مرتفعاً نحو أقل من ذراع وهي الدرجة الأولى، ولما أراد أن يسجد نزل وسجد على الأرض.
صلاته في المحراب إذا كان يمنع من مشاهدته ويستره عن المأمومين الذين يقتدون به مكروهة، فلا يصلي في المكان المرتفع إلا للضرورة إذا امتلأ المسجد ولم يجد مكاناً، وإلا فإنه يتأخر عن المحراب.
صلاة الإمام في التطوع مكان المكتوبة منهي عنه؛ لما ورد في سنن أبي داوود: (أن المغيرة نهى أن يتطوع الإمام مكان المكتوبة) ولكن إذا أراد أن يتطوع فإنه ينتقل إلى مكان آخر.
استقبال الإمام القبلة بعد السلام لا يجوز طويلاً، كان النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ما يسلم يمكث قدر ما يقول: (أستغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام) إلى آخره ثم ينصرف، ولا يبقى مستقبلاً القبلة، كثير من الأئمة في خارج البلاد وربما في داخلها يبقى قدر دقيقة أو دقيقتين وهو مستقبل القبلة لا ينصرف، وهذا خطأ.
وصلاة المأمومين بين السواري إذا قطعت الصفوف منهي عنها، وقد ورد في ذلك حديثان مذكوران في كتاب منتقى الأخبار، ذكر أنس: (أنهم كانوا ينهون عن الصلاة بين السواري إذا كانت تقطع الصفوف) لكن إذا اضطر إلى ذلك بأن امتلأ المسجد ولم يجدوا مكاناً إلا هذه الأماكن فلهم عذر.
قوله: (وحضور المسجد والجماعة لمن رائحته كريهة) قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أكل بصلاً أو ثوماً أو كرّاثاً فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) مثل هذه إذا كان محتاجاً لها فإنه يميتها طبخاً.(9/22)
المعذورون بترك الجمع والجماعات
المريض معذور يصلي في بيته حال مرضه؛ لأن المريض يعذر بترك الجماعة والجمعة وتسقط عنه الجمعة والجماعة؛ لأجل المرض وكذلك مدافع أحد الأخبثين البول أو الغائط معذور أيضاً؛ وذلك لأنه متضرر فهو معذور بتركه الجماعة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) لكن يراد بالطعام هنا الذي يحتاج إليه ويتضرر بفواته، كالصائم الذي اشتدت حاجته إلى الطعام، أما إذا كان لا يضره ويستطيع أن يصبر ويقدم الصلاة فهو الواجب.
وإذا خاف ضياع أعماله فإنه يسقط عنه الجماعة ونحو ذلك، فإذا كان مثلاً عنده دواب ويخشى أنها تنفر وتشرد إذا ذهب، أو كان له قريب في الموت فله أن يحضر عنده ولو فاتته صلاة الجماعة، أو تضرر من سلطان وهو ممن يطلبه بظلم، أو كان هناك مطر يمنع من الوصول إلى الجمعة أو الجماعة، أو هناك غريم يطالبه بدين فلا يجد له وفاء، أو يخشى فوات رفقته إذا كان مسافراً فيبقى منقطعاً، كل هذه أعذار يعذر بها المسلم في ترك الجمعة والجماعة.
والأصل أن الإنسان لا يتأخر إلا لعذر شديد فأما مجرد سبب خفيف فلا يكون عذراً، فليس مجرد خوف الغريم عذراً أن لا يخرج، إلا إذا كان لا يخرج من بيته دائماً فهو عذر، فأما إذا كان يخرج إلى الأسواق وإلى الدوائر ويترك الخروج إلى الصلاة فليس هذا عذراً.(9/23)
صفة صلاة المريض
عندنا صلاة المريض، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) فإذا استطاع أن يقوم وجب عليه قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فإذا كان القيام يشق عليه فإنه يصلي وهو قاعد، فإذا كان قعوده أيضاً يشق عليه صلى على أحد جنبيه الأيمن أو الأيسر، والأيمن أفضل، فإذا لم يقدر فعلى الأيسر، فإذا لم يقدر على أحد جنبيه صلى مستلقياً على ظهره رجلاه إلى القبلة ويرفع رأسه حتى يواجه القبلة.
تكره صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على الصلاة وهو على جنب، وإذا صلى وهو على جنب فإنه يومئ بالركوع والسجود.
وإذا صلى وهو جالس فإنه يجعل السجود أخفض من الركوع، إذا لم يستطع صلى على جنب ويحرك رأسه عند الركوع والسجود، فإذا لم يستطع تحريك رأسه فبعضهم يقول: يحرك طرفه يعني: عينيه مع تحريك يديه، ولو رءوس الأصابع، فتحريك الطرف أن يحرك عينيه وينوي بقلبه، وذلك مثل المأسور الموثق على خشبة أو نحوها لا يستطيع أن يتحرك ينوي بقلبه، ويحرك طرفه، فإذا عجز عن تحريك طرفه نوى بقلبه وصلى على حسب حاله ناوياً بقلبه فكلما انتقل إلى ركن نوى الانتقال، يستحضر القول والفعل، وإذا عجز عن الأقوال أتى بما يستطيع ولو بأدنى حركة، فيحرك شفتيه بالقراءة والذكر وما أشبه ذلك، وما دام عقله معه فلا تسقط الصلاة عنه، بل يصلي على حسب حاله ما دام عاقلاً.
كثير من المرضى لشدة الألم ولشدة الوجع يترك الصلاة مع قدرته على الصلاة، ولو بتحريك رأسه، وهذا خطأ، أيضاً الذين حوله يقولون: إنه متألم ومشغول بالألم عن أن يصلي، فنحن نقول: يجب أن تذكره بالصلاة وأن وقتها قد دخل، فإذا ذكرته وأمرته واعتذر بأنه لا يطيق أو أنه منشغل بالآلام وبالوجع فقد برئت أنت.
وإذا طرأ العجز في أثناء الصلاة انتقل إليه، فلو أن إنساناً كبر وهو قائم، ثم عجز انتقل إلى الجلوس، فإن كبر وهو جالس ثم تعب انتقل إلى الاضطجاع، وهكذا مثلاً: لو كبر وهو جالس ثم أحس بنشاط قام وانتقل إلى القيام، أو كبر وهو على جنبه ثم أحس بنشاط انتقل إلى الجلوس؛ وذلك لأنه قد أصبح قادراً ولو استفتح الصلاة وهو عاجز.(9/24)
حكم صلاة المسافر وصفتها
عندنا صلاة السفر فيها كلام كثير سيما في هذه الأزمنة.
هل القصر سنة أو رخصة؟ فإذا قيل: إنه رخصة، فإن الأفضل الإتمام، وإذا قيل: إنه سنة، فإن الأفضل القصر مع جواز الإتمام.
الأكثرون على أنه عزيمة وأنه سنة؛ لأنه هو الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب كثير من العلماء إلى أنه رخصة كسائر الرخص، والرخصة إنما تفعل عند الحاجة، فإذا كان هناك حاجة فإن فعلها أفضل، وإذا لم يكن هناك مشقة ولا حاجة ولا ضرورة فإن تركها أفضل.
فنقول: أولاً: السفر مظنة المشقة سيما في الأزمنة القديمة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه وراحته، فإذا قضى نهمته فليسرع الفيئة) ، كان المسافرون يبقون في السفر شهراً وأشهراً وسنين، وكانوا أيضاً يلاقون مشقة، حيث إنهم يمشون على أقدامهم عشر ساعات أو أكثر، وإذا ركبوا ركبوا على ظهر البعير والشمس تصهرهم من الأمام أو الخلف، والجلسة غير مريحة، يجلس أحدهم على ظهر القتب، أو على ظهر الرحل جلسة غير مطمئنة، يعني: قد يكون مشيه أسهل عليه من الركوب، يبقى على ذلك مثلاً مدة خمس ساعات وهو راكب أو أكثر أو أقل، فكان السفر مشقة.(9/25)
رخص السفر
فجاءت الرخص فيه أربع: الرخصة الأولى: الفطر؛ لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] ثم ذكر العلة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] .
الرخصة الثانية: قصر الرباعية، يعني: أن الصلاة على المقيمين أربع فتقصر للمسافر وتكون ركعتين تخفيفاً عليه.
الرخصة الثالثة: الجمع أن يجمع بين الظهرين في وقت إحداهما وكذا بين العشاءين؛ لمشقة النزول.
الرخصة الرابعة: الزيادة في مدة المسح على الخفين إذا كان يمسح على خفه.
فهذه الرخص تختص بالسفر، إن قالوا: في سفر طويل، الطويل حددوه بيومين، ويمكن أن يقال: يوم وليلة، أكثرهم حدده بأنه مسيرة يومين، فإذا كان مثلاً أقل من يومين فليس بطويل، ولم يحددوه بالمساحة إلا لأجل أنها تستغرق يومين، فالمساحة التي هي ستة عشر فرسخاً، أربعة برد هي ثمانية وأربعون ميلاً، فهم نظروا فيها وإذا هي مسيرة أربعٍ وعشرين ساعة، كان المسافر يسير اثنتي عشرة ساعة ثم يريح نفسه بالليل اثنتي عشرة ساعة، مسيرة أربع وعشرين ساعة، فهذا هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة مسيرة ستة عشر فرسخاً ولكنها لا تقطع إلا في اثنتي عشرة ساعة؛ لأن الفرسخ ثلاثة أميال، فتكون المساحة ثمانية وأربعين ميلاً، والميل مسيرة نصف ساعة.(9/26)
شروط الترخص برخص السفر
اشترطوا: أن يكون السفر مباحاً، فإذا سافر لقطع طريق فليس له أن يقصر فيه ولا أن يترخص برخص السفر، وذكرنا أنه إذا كان لعذر جاز ذلك.
ثم في هذه الأزمنة يكثر التساهل في الرخص كالذين يسافرون ساعتين أو نصف يوم نرى أن هذا ليس بسفر، إذا كان مثلاً يذهب في أول النهار ثم يرجع في الليل فلا يسمى سفراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر: أن السفر يحدد بالزمان لا بالمساحة، فهو يقول: لو أن إنساناً قطع مسافة طويلة لا تقطع إلا في يومين ورجع في يومه فلا يقصر، ولا يترخص، ولو قطع مسافة قليلة في زمن طويل فإنه يترخص فجعل العلة هي طول الزمان، ولم يكن في زمانه أسرع من الخيل، فضرب بها مثلاً، فقال: لو ركب إنسان فرساً سباقاً وقطع مسافة لا تقطع إلا في يومين ثم رجع في يومه فلا يترخص؛ فهو جعل العبرة بالزمان لا بالمساحة، وتجدون كلامه في المجلد الرابع والعشرين في رسالة طويلة في أحكام السفر، وقد لخص كلامه أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع، فنقل اختياره أن السفر يقدر بالزمان.
فعلى هذا لو أن إنساناً خرج من الرياض مسافة ثلاثين كيلو وطال مقامه وجلس هناك - مثلاً- يومين فله أن يترخص، ولو وصل - مثلاً- إلى القصيم مع طول المسافة ورجع في يومه فلا يترخص؛ نظراً إلى الزمان، وكذلك لو سافر في الطائرة إلى جدة ورجع في يومه فلا يترخص، فهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام؛ لأنه نظر إلى العلة وهي الزمان الذي يغيب فيه عن أهله، لأن الإنسان إذا غاب عن أهله نصف يوم فقط ولو وصل إلى أطراف المملكة، فإن لا يقصده الناس، ولا يأتون ليسلموا عليه، ولا ليهنئوه بسلامته من السفر، ولا يظنون أنه سافر، أما إذا غاب يومين أو ثلاثة أيام، ولو كانت مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو فقط فإنهم يفتقدونه ويأتون إليه ليسلموا عليه ويهنئوه، فهذا هو العذر.
وهذا هو الأقرب وهو أن السفر لا يقدر بالمساحة، بل يقدر بالزمان.(9/27)
قضاء صلاة السفر في الحضر
يقول: (من قضى صلاة سفر في حضر فإنه يقضيها تامة) .
مثلاً: إذا مرت عليه صلاة الظهر وهو في السفر، وجاء إلى بلده وقت العصر وأراد أن يصلي الظهر فإنه يصليها تامة؛ لأن السفر قد انقضى.
يتساهل بعض الناس إذا سافروا إلى الرياض مثلاً ودخل عليهم وقت الظهر في الطريق وبينهم وبين البلد ساعة فيصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ثم يجيئون والعصر لم يدخل وقته فيقولون: قد صلينا، ويكتفون بتلك الصلاة، نقول: إنكم أصبحتم من أهل صلاة العصر وتلزمكم أربعاً، أصبحتم مطالبين بها فلا تسقط عنكم، وكذلك في العشاءين إذا أقبل بعضهم إلى الرياض وبينه وبينها مقدار ثلاثين كيلو أو نحوها وصلى المغرب والعشاء وقصر العشاء، ثم يجيء والناس لم يصلوا العشاء وقد أذن أولم يؤذن، نقول له: عليك صلاة العشاء أربعاً، هذا هو الراجح، ورخص هناك من رخص، لكن الإنسان يحتاط للصلاة.
لو أن إنساناً دخل عليه وقت الظهر وهو في البلد ثم خرج قبل أن يصلي، فأراد أن يصليها بعدما يخرج من البلد، فإنه يصليها أربعاً؛ لأنها لزمته أربعاً، وكذلك لو أخرها وفوتها ثم صلاها في الطريق فإنه يصليها أربعاً.(9/28)
حكم صلاة من نوى إقامة مطلقة أو أكثر من أربعة أيام
من نوى إقامة مطلقة لموضع أو نوى أكثر من أربعة أيام أو ائتم بمقيم لزمه الإتمام، هذا هو المشهور عند الفقهاء: أنه إذا نوى إقامة من غير تحديد فإنه يتم، وإذا نوى أربعة أيام فإنه يتم بعدها، وإذا ائتم وصلى خلف مقيم فإنه يتم؛ وذلك لأنه لا فرق بينه وبين المقيمين، فإذا سافر إلى بلد كالرياض أو مكة أو جدة أو الدمام أو بريدة ونحوها من هذه المدن، واستقر إما في فندق وإما في شقة مثلاً استأجرها أو نحو ذلك وتمتع بما يتمتع به المقيمون، يعني: عنده الكهرباء وعنده الفرش وعنده السرر وعنده الطعام، وعنده السيارات التي تنقله إلى حيث يريد، وليس بينه وبين المقيمين فرق، فكيف تسقط عنه صلاة الجماعة؟! وكيف يقصر؟! هل يقال: إن هذا على سفر؟ ليس على سفر، هو مقيم مع المقيمين، وعليه الإتمام، أما إذا لم ينو إقامة محددة ولم يستقر في البلد، فإن له القصر ولو طالت المدة؛ لأن الفقهاء يعتبرون إقامة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ستة عشر يوماً أنه لم يكن عازماً على الإقامة، بل كان متهيئاً للسفر في أي يوم، فكان ذلك سبباً في استمراره على القصر.
وقيل: إن عذره كونه على أهبة السفر أو كونه كمسافر؛ لأنه ما استقر في البلد، ولا دخل البيوت، ولا استقر الصحابة أيضاً في المساكن ولا في بيوت المدر أو بيوت الطين، إنما منازلهم تحت ظل الشجر، أو تحت القباب الصغيرة أو الخيام أو البيت من الشعر يستظلون به، أو يستظلون في الكهوف، فهم في حكم المسافر بخلاف الذين يستقرون في داخل البلد، سواء استقر وسكن عند أخ له أو قريب له أو استأجر مكاناً في المدن المشهورة ونحوها، يمكن أن يقال: إن القرى ليس فيها فنادق وليس فيها شقق تؤجر، وأن الذي يأتي إليها لا يستقر فيها، إنما ينام في سيارته مثلاً، أو ينزل خارج البلد تحت شجرة أو عريش أو نحو ذلك، فيمكن أن هذا يقصر ولو طالت المدة.
أما إذا عزم على الإقامة الطويلة فإنه يقصر حتى ولو كان يسكن في فنادق أو في خيام أو نحو ذلك، هناك مثلاً بعض الجنود الذين يستقرون في أطراف المملكة ولو كانوا مرابطين، ولكن يعلمون أنهم يبقون هناك أشهر وربما نصف السنة أو أكثر، فمثل هؤلاء لا يقصرون؛ لأنهم ليسوا على سفر، فيلزمهم أن يتموا الصلاة، ومثلهم أيضاً الطالب الذي يأتي ويقيم خمسة أيام، سواء كان سكنه في الجامعة أو في خارجها، نقول: إنك لست مسافراً، ويلزمك الإتمام.
وكذلك الذي يملكون ما يسمى بالاستراحات أو بساتين تبعد عن الرياض مثلاً تسعين كيلو أو مائة كيلو، يذهبون إليها مثلاً يوم الخميس والجمعة، ولهم هناك بيوت، ولهم مساكن، فمثل هؤلاء لا يقال إنهم مسافرون، ولو غابوا عن البلد يوماً وليلة، أو يومين؛ لأنهم في ملكهم وفي بيوتهم وفي بلادهم، ولو كانوا لا يقيمون فيها إلا يومين، فليس لهم رخصة في أن يقصروا، يمكن أن يقال: لهم رخصة في القصر إذا جاءهم الوقت وهم في الطريق، فأما إذا وصلوا فإنهم مقيمون.(9/29)
حكم صلاة المسافر خلف المقيم والعكس
سئل ابن عباس: (ما للمسافر إذا صلى وحده قصر، وإذا صلى مع المقيمين أتم؟ فقال: تلك السنة) ولأنه إذا صلى مع المقيمين فإنه يلزمه متابعة الإمام، فلا يخالف الإمام، وأما إذا صلى المسافر بالمقيمين فإن له القصر، كان صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة قصراً، فإذا صلى ركعتين وسلم أمر الذين يصلون معه من أهل مكة بالإتمام، وقال: (أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر)(9/30)
حكم صلاة المسافر المحبوس ظلماً
أما إذا حبس ظلماً ولم ينو إقامة فإنه يقصر أبداً؛ فهو معذور، لأنه منع من السفر ولم يتمكن، فهو مغلوب وله أن يقصر، وكذلك الذي ما نوى إقامة إنما هو متردد ولكنه لم يستقر.(9/31)
جمع الظهرين والعشاءين للمسافر والمريض
أما الجمع بين الظهرين والعشاءين في وقت أحدهما للمسافر، فالصحيح أنه خاص بالسائر الذي على ظهر الطريق، فأما النازل فإنه ولو قصر لا يجمع، فمثلاً الحجاج في منى يقصرون ولا يجمعون؛ وذلك لأنهم لا مشقة عليهم في الصلاة في كل وقت، وهم يجمعون الظهرين في عرفة والعشاءين في مزدلفة؛ وذلك لأن جمعهم في عرفة لأجل أن يطول الموقف، وجمعهم في مزدلفة لأنهم متأخرون فلا يصلون إليها إلا بعد أن يدخل وقت العشاء.
المسافر يفعل الأرفق به إذا جمع، فإذا توجه مثلاً من هنا إلى مكة أو إلى جيزان، ودخل عليه وقت الظهر وهو قد ركب سيارته وأحب أن يؤخره حتى ينزل وقت العصر فيصليهما جميعاً فهو جائز، أو دخل عليه وقت الظهر وهو نازل ويحب أن يواصل السير إلى المغرب قدم العصر وصلاها مع الظهر فهو جائز أيضاً، يعني: له أن يجمع في وقت إحداهما.
كذلك المريض إذا كان يلحقه مشقة بالتوقيت فله أن يجمع في وقت إحداهما، ويفعل الأرفق به.(9/32)
حكم الجمع للمطر والوحل والريح
أما الجمع للمطر فالصحيح أنه لا يجمع إلا العشاءين؛ لأنها تكون في ظلمة؛ ولأن الأسواق تمتلئ بالطين، والذين يأتون إلى المساجد يتخبطون في الطين، ويخوضونه مثلاً إلى نصف الساق فيشق عليهم، والطرق مظلمة والشوارع مليئة بالطين وبالزلق والمزلة فيجمعون بين العشاءين.
أما في النهار فلا يجمع؛ وذلك لأنه لا مشقة، ولأنهم يبصرون الطريق وليس هناك مشقة برد ولا مشقة زلق أو مزلة، نعم له أن يتخلف إذا كان المطر غزيراً بحيث يبل الثياب وتوجد معه مشقة.
وكذلك الوحل، وهو الطين المتجمع في الأسواق بحيث يخوضونه مثلاً إلى نصف الساق ولا يستطيعون أن يجدوا طريقاً غيره، وكذلك الريح الشديدة الباردة، ولا بد أن تكون شديدة باردة، فيجوز أن يجمع بها بين العشاءين، أما إذا كانت باردة فقط فلا يجمع إلا إذا كانت الليلة مظلمة حالكة الظلام، فجمع التقديم أو التأخير يفعل ما هو الأرفق، أما إذا كان يصلي في بيته فلا حاجة إلى الجمع إلا للضرورة كالمريض ونحوه.
وعند الجمع لا بد أن يجمع بينهما بلا فاصل، فلو صلى بينهما سنة بطل الجمع، وإذا فرق بينهما بعمل كأن صلى الظهر ثم اشتغل ثم أراد أن يصلي العصر بطل الجمع، فلا بد أن يكون الجمع متوالياً، لكن لو انتقض وضوءه مثلاً وتوضأ وضوءاً خفيفاً فلا بأس، وكذلك لو فصل بينهما بإقامة.
ذكر بعد ذلك صلاة الخوف، وأنها صحت من ستة أوجه، وكلها جائزة، وتسن عندما يخاف هجوم العدو على المسلمين، وفي هذه الأزمنة قد تكون متعذرة، وذكروا أنه يسن فيه حمل السلاح الخفيف لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] .
ننتهي إلى هذا والله أعلم، وصلى الله على محمد.(9/33)
شرح أخصر المختصرات [10]
لقد فرض الله صلاة الجمعة على هذه الأمة واختارها وهداها إليها من بين سائر الأمم، وهذا فضل منه سبحانه وتعالى.
والحكمة من مشروعيتها هو اجتماع أهل البلد، وتذكيرهم بما يجب عليهم وما نهوا عنه، وكذلك الاجتماع من أجل التعارف والتآلف والتعاون والتراحم، كما أنه تعالى شرع صلاة العيدين: عيد الفطر بعد الانتهاء من صيام رمضان، وعيد الأضحى بعد الانتهاء من مناسك الحج، وكذلك شرع لنا صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فعلى المسلم أن يتعلم أحكام هذه الصلوات وصفاتها حتى يؤديها على الوجه الصحيح.(10/1)
حكم الطمأنينة في الصلاة والوتر عند الحنفية
لاحظ علينا بعض الإخوة أننا ذكرنا أن الحنفية لا يرون أن الطمأنينة ركن، ونقل من كلام الكاساني ومن كلام ابن عابدين وهما من علماء الحنفية ما يأتي: فصل في بيان الواجبات الأصلية في الصلاة، ثم يقول: ومنها الطمأنينة، والقرار في الركوع والسجود، يعني: أنها من الواجبات وليست من الفروض.
الحنفية يفرقون بين الفرض والواجب، وكذلك أيضاً غيرهم، كالحنابلة فإنهم يفرقون بين الركن والواجب، فالركن عندهم فرض ولا تتم الصلاة إلا به، والواجب يجبر بسجود السهو، فهذا الكاساني عدّ الطمأنينة والقرار في الركوع والسجود من الواجبات، ثم أجاب عن حديث المسيء صلاته لأنه وارد عليهم، يقول: أما حديث الأعرابي فهو من الآحاد فلا يصلح ناسخاً للكتاب، ولكن يصلح مكملاً، فيحمل أمره بالاعتدال على الوجوب، يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً) يحمل على الوجوب ويحمل نفيه الصلاة على نفي الكمال، أي في قوله: (فإنك لم تصل) ، يعني أن الصلاة مجزئة ولكن فيها نقص.
وتمكن النقص الفاحش الذي يوجب عدمها من وجه، وأمره بالإعادة على الوجوب؛ جبراً للنقصان أو على الزجر عن المعاودة إلى مثله.
بكل حال هذا دليل على أنهم ما عملوا بحديث المسيء صلاته وجعلوه من الآحاد، فلا يصلح ناسخاً للكتاب، وجعلوه مكملاً فيحمل الأمر بالاعتدال على الوجوب.
نحن ما قلنا: إن الحنفية يكرهون الطمأنينة، ولا أنهم يحرمونها، ولكنهم لا يرونها ركناً، أما غيرهم فإنهم يقولون إنها ركن، وإن من صلى بلا طمأنينة فإنها لا تصح صلاته؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فارجع فصل فإنك لم تصل) كلمة: (لم تصل) دليل على الإبطال، لا على نفي الكمال كما يقوله الكاساني.
وبكل حال لعل هذا الحديث ما بلغ أبا حنيفة رحمه الله، وإلا فـ أبو حنيفة كان ممن يطمئن في صلاته ويخشع فيها، بل كان يقوم الليل أو أغلب الليل، وليس عليه نقصان ولا عليه طعن.
فالحاصل أنه يقول: الطمأنينة في الركوع واجبة حتى لو تركها ساهياً يلزمه سجود السهو، الآخرون يقولون: إنها ركن والأركان لا تجبر بسجود السهو.
وأما الوتر فيرون أنه واجب، والواجب عندهم أقل رتبة من الفرض، فالواجب ما ثبت بدليل ظني، والركن ما ثبت بدليل قطعي، وأدلتهم مذكورة في كتبهم ولكلٍ اجتهاده.
ذكرنا وجوب صلاة الجماعة، أي: الاجتماع على الصلاة في المساجد على الرجال الأحرار القادرين، وعرفنا بأي شيء تدرك الجماعة، وبأي شيء تدرك الركعة؟ ومتى تجزئ الركعة تكبيرة واحدة، وما يتحمله الإمام عن المأموم وهي ثمانية أشياء، وحكم قراءة من خلف الإمام، وأنه يستحب أن يقرأ في سكتاته وفي السرية، وحكم التخفيف الذي استحبوه وأنه ليس هو النقر.
وكذلك ذكرنا أنه يقدم في الإمامة الأقرأ الأفقه، وحكم الصلاة خلف الفاسق ومتى تصح، وإمامة الأمي أو من يلحن لحناً يحيل المعنى، أو صاحب السلس أو العاجز عن الركوع والسجود أو القعود، أو العاجز عن القيام، ومتى يصلي المأمومون خلف الإمام جلوساً، وحكم إمامة المميز، والمرأة، والمحدث النجس، واللحان، والفأفاء، وأين يقف المأمومون من الإمام، وحكم صلاة المنفرد خلف الصف رجلاً كان أو امرأة، ومن صلى عن يسار الإمام مع خلو يمينه، ومتى يصح اقتداء المأمومين بالإمام، والفرق بين ما إذا كانوا خارج المسجد أو داخل المسجد، ومتى يشترط رؤية الإمام أو سماع صوته، وكذلك انصراف الإمام بعد السلام مباشرة، والصف بين السواري، وحضور المسجد بشيء فيه رائحة كريهة، ومن يعذر بترك الجمعة والجماعة، وصلاة المريض كيف يصلي قائماً ثم قاعداً، ومتى يصلي مستلقياً، وكيف يومئ بالركوع والسجود، وذكر بعض المحققين أنه تسقط عنه الصلاة إذا وصل إلى حالة لا يستطيع فيها الحركة إلا بطرفه؛ وذلك لعجزه، والجمهور على أنها لا تسقط ما دام العقل معه.
وكذلك قصر المسافر للرباعية وأن الصحيح أن السفر يقدر بالزمان لا بالمسافة، وتقدير الفقهاء بالزمان حيث قدروه بمسيرة يومين قاصدين، والذين قدروه بالمساحة؛ لأن تلك المساحة كانت لا تقطع إلا في يومين قاصدين، وحكم من نوى الإقامة إقامة مطلقة، أو عزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ائتم بمقيم أن الجميع يتمون، وأما إذا حبس ظلماً ولم ينو إقامة فإنه يقصر، وحكم الجمع بين الظهرين والعشاءين، وكذلك جمع المسافر والمريض، وحكم الجمع في المطر، وكذلك للريح الشديدة في الليلة الباردة، وهل الأفضل أن يقدم أو يؤخر، وحكم الجمع في البيوت بلا ضرورة، ومتى يبطل الجمع بين الصلاتين بالفاصل بينهما.(10/2)
صلاة الخوف
وصلاة الخوف صحت من ستة أوجه أو من سبعة، استوفى طرقها ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] ، وكذلك غيره من الذين ألفوا في الأحاديث كـ البيهقي وغيره، والإمام أحمد يختار حديث صلاة ذات الرقاع، وهو أنه صفهم عليه الصلاة والسلام، فطائفة صفت خلفه وطائفة تجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما ًوأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة، ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم، وقال: إنها أقرب لموافقة الآية الكريمة، ولكن الكل جائز إذا كان هناك مناسبة.(10/3)
مشروعية صلاة الجمعة وأحكامها وشروطها وأركانها
قال رحمه الله تعالى: [فصل: تلزم الجمعة كل مسلم مكلف ذكر حر مستوطن ببناء، ومن صلى الظهر ممن عليه الجمعة قبل الإمام لم تصح، وإلا صحت، والأفضل بعده، وحرم سفر من تلزمه بعد الزوال، وكره قبله ما لم يأت بها في طريقه أو يخف فوت رفقة، وشرط لصحتها الوقت، وهو أول وقت العيد إلى آخر وقت الظهر، فإن خرج قبل التحريمة صلوا ظهراً وإلا جمعة.
وحضور أربعين بالإمام من أهل وجوبها، فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا جمعة إن أمكن وإلا ظهراً، فمن أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة، وتقديم خطبتين من شرطهما: الوقت، وحمد الله، والصلاة على رسوله عليه السلام، وقراءة آية، وحضور العدد المعتبر، ورفع الصوت بقدر إسماعه، والنية، والوصية بتقوى الله، ولا يتعين لفظها، وأن تكونا ممن يصح أن يؤم فيها لا ممن يتولى الصلاة، وتسن الخطبة على منبر أو موضع عال، وسلام خطيب إذا خرج وإذا أقبل عليهم، وجلوسه إلى فراغ الأذان وبينهما قليلاً، والخطبة قائماً معتمداً على سيف أو عصا، قاصداً تلقاءه، وتقصيرهما والثانية أكثر، والدعاء للمسلمين، وأبيح لمعين كالسلطان.
وهي ركعتان يقرأ في الأولى بعد الفاتحة الجمعة والثانية المنافقين، وحرم إقامتها وعيد في أكثر من موضع ببلد إلا لحاجة، وأقل السنة بعدها ركعتان وأكثرها ست، وسن قبلها أربع غير راتبة، وقراءة الكهف في يومها وليلتها، وكثرة دعاء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وغسل وتنظف وتطيب، ولبس بياض، وتبكير إليها ماشياً، ودنو من الإمام، وكره لغيره تخطي الرقاب إلا لفرجة لا يصل إليها إلا به، وإيثار بمكان أفضل لا قبول، وحرم أن يقيم غير صبي من مكانه فيجلس فيه، والكلام حال الخطبة على غير خطيب، ومن كلمه لحاجة، ومن دخل والإمام يخطب صلى التحية فقط خفيفة.
فصل: وصلاة العيدين فرض كفاية، ووقتها كصلاة الضحى وآخره الزوال، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد قضاء، وشرط لوجوبها شروط جمعة، ولصحتها استيطان وعدد جمعة، لكن يسن لمن فاتته أو بعضها أن يقضيها وعلى صفتها أفضل، وتسن في صحراء، وتأخير صلاة فطر، وأكل قبلها، وتقديم أضحى وترك أكل قبلها لمضحٍ، ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً، وفي الثانية قبل القراءة خمساً، رافعاً يديه مع كل تكبيرة، ويقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً، أو غيره، ثم يقرأ بعد الفاتحة بالأولى سبح، والثانية الغاشية، ثم يخطب كخطبتي الجمعة، لكن يستفتح في الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع، ويبين لهم في الفطر ما يخرجون، وفي الأضحى ما يضحون.
وسن التكبير المطلق ليلتي العيدين، والفطر آكد، ومن أول ذي الحجة إلى فراغ الخطبة، والمقيد عقب كل فريضة في جماعة من فجر عرفة لمحل، ولمحرم من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق.
فصل: وتسن صلاة كسوف ركعتين، كل ركعة بقيامين وركوعين، وتطويل سورة وتسبيح، وكون أول كل أطول، واستسقاء إذا أجدبت الأرض وقحط المطر، وصفتها وأحكامها كعيد، وهي والتي قبلها جماعة أفضل، وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة، والخروج من المظالم، وترك التشاحن، والصيام، والصدقة، ويعدهم يوماً يخرجون فيه، ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً متنظفاً لا مطيباً، ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ ومميزو الصبيان، فيصلي ثم يخطب واحدة، يفتتحها بالتكبير كخطبة عيد، ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، ويرفع يديه وظهورهما نحو السماء، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً) إلى آخره.
وإن كثر المطر حتى خيف سُنَّ قول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] الآية) ] .
في هذا حكم صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، أما الجمعة فمعروف أنها كل أسبوع، أي: في اليوم السابع من الأسبوع وهو يوم الجمعة، وأما العيد فإنه في كل سنة، عيد الفطر مرة في السنة، وعيد الأضحى مرة في السنة.(10/4)
الحكمة من مشروعية صلاة الجمعة
الحكمة في شرعية صلاة الجمعة جمع أهل البلد كل أسبوع وتذكيرهم وتأليفهم، ومعلوم أن مساجد الجماعة يجتمع فيها أهل كل حي، فأهل هذا الحي يجتمعون مثلاً في هذا المسجد، وأهل الحي الثاني يجتمعون في مسجدهم كل يوم خمس مرات، فإذا جاء يوم الجمعة اجتمع أهل البلد في مسجد واحد، يحصل تقابلهم، وتعارفهم، وتآلفهم فيما بينهم، وتباحثهم في الأمور ذات الأهمية، فلأجل ذلك لا يجوز تكرار الجمعة في البلد إلا لحاجة، ولا تقام في البلد إلا في مسجد واحد.
في العهد النبوي ما كان هناك إلا مسجد واحد هو المسجد النبوي، يأتي إليه أهل قباء وأهل العوالي وأهل الأماكن التي هي بعيدة عن المدينة، يأتون كلهم ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعضهم يأتي من الصباح، ويرجع إلى أهله فلا يصل إليهم إلا مساءً؛ ذلك لأن القصد جمع أهل البلد في مسجد واحد، ولذلك روي عن ابن عباس أو غيره من الصحابة قالوا: (الجمعة على من آواه المبيت إلى أهله) ، ومعناه: أن الجمعة واجبة على الإنسان الذي إذا صلى الجمعة ثم رجع إلى أهله أدركهم قبل الليل، ولو سار ثلاث أو أربع ساعات، وهذا دليل على أنهم كانوا يسيرون قبل الصلاة نحو ثلاث ساعات أو أربع متوجهين إلى المسجد، وبعد الصلاة يتوجهون إلى أهليهم فيسيرون نحو ثلاث أو أربع ساعات؛ وذلك لأنه ليس هناك إلا مسجد واحد.
ثم ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما اجتمع عيد وجمعة في يوم رخص لمن صلى العيد أن لا يرجعوا إلى صلاة الجمعة؛ وذلك للمشقة عليهم؛ لأنهم أتوا إلى صلاة العيد مبكرين، يمكن أنهم ساروا من آخر الليل، فقطعوا مسيرة ساعتين أو نحوها حتى وصلوا إلى مصلى العيد، ثم لابد أنهم يرجعوا إلى أهليهم بعد صلاة العيد، فيسيرون أيضاً مسيرة ساعتين حتى يصلوا إلى أهليهم، فلو كلفوا أن يأتوا إلى صلاة الجمعة لأتوا أيضاً مسيرة ساعتين قبل الزوال، ثم يرجعون بعد صلاة الجمعة أيضاً مسيرة ساعتين، فيتكلفون ثمان ساعات مشياً، ولا شك أن في ذلك مشقة، فأسقطت عنهم صلاة الجمعة إذا أدركوا صلاة العيد، حيث إنهم قد حصلوا على خير، فيصلون في أماكنهم ظهراً، والقريبون يصلون جمعة، ولذلك قال في الحديث: (وإنا لمجمعون) فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمن كان قريباً، فأما البعيدون فأسقطها عنهم لأجل المشقة، فهذا هو السبب.
إذا اجتمع عيد وجمعة سقطت الجمعة عمن بينه وبين المسجد مسيرة ساعتين، فأما من كان دون ذلك فلا تسقط على الصحيح.
يتساهل كثير من الناس فيصلون ظهراً ويتركون صلاة الجمعة يوم العيد، وربما يصلون في بيوتهم، وليس بينهم وبين المسجد إلا عشر دقائق أو ربع ساعة على السيارات التي يسرها الله وسخرها، فنقول: إن هذا تفريط وإهمال، ما شرعت الجمعة إلا لمصلحة، شرعت لأجل الاجتماع، ولأجل التذاكر، ولأجل التعارف والتباحث في الأمور المهمة، وشرعت لأجل الفوائد التي يستمعونها من الخطباء، ولأنهم قد يكونون جهلة بالقراءة وجهلة بالأحكام، فيتعلمون القراءة ويتعلمون الأحكام التي يلقيها الخطباء عليهم فيرجعون بفائدة.(10/5)
من تجب عليهم صلاة الجمعة
وتجب صلاة الجمعة على كل مسلم، فلا تجب على الكافر كما لا تجب عليه الصلوات الخمس حتى يسلم.
وتجب على مكلف، فلا تجب على الصغير الذي دون سن التكليف، ولا تجب على فاقد العقل كما لا تجب عليه الصلاة أصلاً.
وتجب على ذكر، فلا تجب على النساء، وإن حضر النساء أجزأتهن.
وتجب على حر، فلا تجب على المملوك؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، ولأن الجمعة غير واجبة عليه بنص الحديث، فإذا كان بينه وبين المسجد ساعتين فوّت على سيده مثلاً خدمة أربع ساعات ذهابا ًوإياباً، أما إذا كان قريباً ليس بينه وبين المسجد إلا ربع ساعة أو نصف ساعة فلا تسقط عن الرقيق.
وتجب على مستوطن، فلا تجب على أهل البوادي، وهم البدو الرحّل الذين يتنقلون من مكان إلى مكان وليسوا مستقرين.
ذكروا أن المستوطن لابد أن يكون مستوطناً ببناء، والصحيح أنه إذا كان ساكناً في مكان لا يذهب عنه فإنها لا تسقط عنه ولو كان في خيمة كالمرابط من العساكر ونحوهم، والذين في الحدود فإنها تجب عليهم، ولو كانوا يسكنون في صنادق أو في خيام أو بيوت شعر أو ما أشبه ذلك.(10/6)
حكم صلاة الظهر ممن تلزمه الجمعة قبل الإمام
قال: (ومن صلى الظهر ممن عليه الجمعة قبل الإمام لم تصح) أي: كيف يصلي الظهر وهو ممن تلزمه الجمعة؟! فيلزمه أن يصلي مع الإمام، فإن لم يفعل أعادها جمعة أو أعادها ظهراً، أما إذا فاتته صلاة الجمعة مع الإمام فإنه يصليها ظهراً، بعد صلاة الإمام، وإذا كان عاجزاً عن الإتيان إلى المسجد لمرض أو بعدٍ أو نحو ذلك فمتى يصلي الظهر؟ يتحرى فراغ الإمام من صلاة الجمعة فيصلي بعده، وإن صلى وقت صلاة الجمعة فلا بأس؛ لأن الخطباء قد يطيلون مثلاً فيفرغ الذي يصلي ظهراً وحده قبلهم.(10/7)
حكم إنشاء السفر يوم الجمعة
حكم السفر يوم الجمعة: السفر بعد الزوال لا يجوز، وذلك لأنه دخل وقتها، فلا يجوز أن يسافر بعد دخول الوقت وهو النداء لها، قال تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] دليل على أنهم مخاطبون بالسعي إليها إلى أن تنقضي، {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] .
أما السفر قبل الزوال فإنه مكروه إذا علم بأنه لا يصليها في الطريق، أما إذا تحقق بأنه سيدركها في الطريق فلا بأس؛ لأن بعض الطرق قد يكون فيها عدة قرى في كل قرية مسجد، فإذا سافر مثلاً إلى الحجاز فإنه يمر بعدة مساجد قبل صلاة الجمعة، لو سافر مثلاً في الضحى أو سافر في الصباح فقد يمر بعشرة جوامع أو أكثر، فعليه إذا مر وقت الصلاة أن يصلي في أحدها.
فالحاصل أنه إذا سافر يوم الجمعة قبل الزوال فسفره مكروه إذا لم يعلم أنه يؤديها في الطريق، وكان بعض المشايخ يقول: وجدنا بالتجربة أن المسافر يوم الجمعة حري أن لا يوفق، ويقول: من سافر يوم الجمعة قبل الصلاة فأصابه بلوى فلا يلومن إلا نفسه.
ويرخص له إذا كان تبعاً لرفقة بحيث إذا لم يسافر معهم بقي منقطعاً فيخشى فوت رفقته، ولو لم يكن في الطريق مساجد، فيسقط عنه إذا كان السفر قبل الزوال.(10/8)
وقت صلاة الجمعة واشتراط العدد لها
يشترط لها الوقت، فلا تصلى قبل الوقت، والمشهور عند الفقهاء أنه يدخل بوقت صلاة العيد، أي: بخروج وقت النهي، والقول الثاني: أنه لا يدخل إلا بالزوال، فيؤذن لها الأذان الأول قبل الزوال، ووقت أدائها بعد الزوال مباشرة، وهذا هو المستحب والذي عليه العمل، وأما آخر وقتها فهو آخر وقت الظهر بالاتفاق، يعني: صيرورة ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال.
قوله: (إذا خرج قبل التحريمة صلوها ظهراً) ، إذا خرج الوقت قبل أن يكبر التحريمة بقوله: الله أكبر، كما لو أطال الخطبة فخرج وقت الظهر ودخل وقت العصر فإنهم يصلونها ظهراً قضاءً، وأما إذا أحرم قبل أن يخرج الوقت فإنهم يصلونها جمعة.
الشرط الثاني: العدد واختلف فيه، فالمشهور عند الفقهاء الحنابلة اشتراط أربعين من أهل وجوبها، أي: من المكلفين الأحرار المسلمين المقيمين، واستدلوا بأن في حديث كعب بن مالك أن أول جمعة أقيمت في المدينة كان عددهم أربعين، وكان جمعهم أسعد بن زرارة صلى بهم بعض الصحابة، ولكن هذا ليس دليلاً على اشتراط هذا العدد، فلذلك ذهب المالكية إلى أنها تجزئ باثني عشر، واستدلوا بأن في حديث جابر في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] ذكر أن أهل المسجد خرجوا لما سمعوا بتلك التجارة ولم يبق إلا اثنا عشر،
و
الجواب
أنهم خرجوا ونظروا ثم رجعوا، لا شك أنهم رجعوا وأكملوا صلاتهم، ولكن خروجهم دليل على الاكتفاء بهذا العدد وهو اثنا عشر، وقد ذكر عن بعض العلماء أنها تصح بثلاثة، إمام ومؤذن ومستمع، وأن الثلاثة أقل العدد، وبكل حال الاحتياط والاجتهاد في إتمام العدد، فإن نقص عددهم وهم مقيمون في بلادهم عن هذا العدد فالصحيح أنها تجزئهم.
هنا يقول: (فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا جمعة إن أمكن وإلا ظهراً) إذا نقصوا قبل إتمامها انتظروا حتى يجيء عدد يكملهم، فإذا علم بأنهم لا يتمون صلوها ظهراً، يعني: على هذا القول.(10/9)
ما تدرك به صلاة الجمعة
قال: (من أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة) ، أي: أما إذا جاء والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فإنها قد فاتت، فعليه أن يصليها ظهراً، هذا هو القول الصحيح، وإن كان هناك من العلماء من يجيزون أن يصليها جمعة ولو لم يدرك إلا التشهد، يقولون: إنه أدرك ما يسمى بجمعة، ولكن الجمهور على أنه إذا فاتته الركعتان فإنه يدخل معهم بنية الظهر إذا كان قد دخل وقت الظهر، فيصلي معهم ويقوم ويأتي بأربع.(10/10)
اشتراط خطبتي الجمعة وذكر شروطهما
الشرط الثالث: تقديم خطبتين، أي: لابد يوم الجمعة من خطبتين، وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل في خطبته، فمن طولها فإنه يفصل بينهما بجلسة، يخطب فإذا تعب جلس ثم استأنف وخطب، فهو دليل على أنه كان يطيل الخطبة، فيمكن أن الخطبة تستغرق ساعة أو على الأقل نصف ساعة لكل واحدة من الخطبتين.
ولو كان لا يطيل وكانت خطبته عشر دقائق أو عشرين دقيقة لما احتاج إلى الجلسة بين الخطبتين، ولما احتاج إلى هذا الفاصل، وهو الجلوس، وكان في إمكانه أن يواصل خطبته نصف ساعة أو ثلثي ساعة ثم ينزل ويصلي، فلما فصل بينهما دل على أنه كان يطيل، فلا ينكر على من أطال الخطبة بقدر نصف ساعة أو نحوها.
وأما الحديث الذي فيه: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) فإن الطول والقصر نسبي، فيقال مثلاً لمن خطبته أربعون دقيقة: هذه خطبة قصيرة، ويقال لمن خطبته ساعتان مثلاً أو ساعة ونصف: هذه طويلة، فقصر خطبته يعني: أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته بحيث يخطب مثلاً نصف ساعة ولا تكون خطبته أكثر من ساعة هذه هي الخطبة القصيرة.
قوله: (مئنة) يعني: علامة من فقهه.
للخطبتين شروط: قيل إنها تشترط في مجموعهما، وقيل: في كل واحدة من الخطبتين.
الشرط الأول: الوقت، فلا يخطب قبل دخول الوقت، سواء قلنا: إن الوقت يدخل بدخول وقت صلاة العيد، أو بدخول وقت صلاة الظهر، لابد أن تكون الخطبتان بعد الوقت.
الشرط الثاني: حمد الله، لابد أن يبدأ الخطبة بالحمد لله؛ لأن هذا هو المعتاد من النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثالث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما أُثر من أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن الدعاء موقوف حتى يصلى عليه، ولعموم الآية وهي قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، ولما ورد من أنهم قالوا: (كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) إلخ.
وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة عليّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله؟ كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ -يقول: بليت- فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ، فهذا يؤكد أن يوم الجمعة أحق أن تكثر فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الخطبة أولى.
الشرط الرابع: قراءة آية من القرآن، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آيات في خطبته، وربما قرأ سورة، فثبت أنه كان يقرأ سورة (ق) كاملة في خطبته، فأقل شيء آية، ولكن لابد أن تكون الآية طويلة، يعني: لها فائدة ولها عمل، فلا يجزئ آية تتكون من كلمة أو من كلمتين، ويستحب أن تكون الآية في الموضوع الذي يتطرق إليه في أثناء الخطبة، فإذا خطب عن التقوى قرأ آية تتعلق بالأمر بالتقوى، وإذا خطب عن الصلاة قرأ آية تتعلق بذكر الصلاة، وهكذا في كل المواضيع.
الشرط الخامس: حضور العدد المعتبر الذي هو الأربعون على قول الفقهاء، فلابد أن يحضر الأربعون فيها من أول الخطبة إلى آخرها.
الشرط السادس: رفع الصوت بقدر إسماعه، فالخطيب لابد أن يكون صيتاً بحيث يسمع المصلين، وبعد وجود المكبر لا يلزمه رفع الصوت؛ لأن المكبر يرفع الصوت ويدفعه.
الشرط السابع: النية، لابد أن ينوي لهذه الخطبة أنها الخطبة المشترطة، التي هي وظيفة هذه الصلاة.
الشرط الثامن: الوصية بتقوى الله، ولا يتعين لفظها، ولا يتعين أن يقول: اتقوا الله، ولكن يوصيهم بشيء يحرك القلوب، فيوصيهم بالخوف من الله، أو تقوى الله، أو عبادته، أو رجائه، أو التوكل عليه، أو دعائه، ويبسط القول في ذلك حتى يكون للخطبة معنى، يتوسع في ذكر الأدلة التي تتعلق بالموضوع الذي اختاره.
الشرط التاسع: (أن تكون ممن يصح أن يؤم فيها) وفي بعض النسخ: (أن يؤم فيما) ، والصواب: (أن يؤم فيها) أي: أن تكون من الخطيب الذي يصح أن يكون إماماً فيها، أي: في هذه الصلاة، وهو الذكر الحر العاقل البالغ، فلا تصح من غيره.
والإقامة ليست شرطاً على الصحيح، فيجوز أن يصلي بهم المسافر إذا كان أفضل منهم.
قوله: (ممن يصح أن يؤم فيها، لا ممن يتولى الصلاة) ، معناه: أنه يصح أن يتولى الخطبة واحد ويتولى الصلاة غيره، فإن الصلاة عبادة والخطبة عبادة أيضاً فلا يلزم أن يتولاهما واحد، ولكن لابد أن يتولى كلاً منهما من هو أهل ممن تنطبق عليه هذه الصلاة.(10/11)
سنن خطبة الجمعة
أما سنن الخطبة: فالسنة الأولى: أن يكون على منبر، أو موضع عال حتى يشرف على المأمومين، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة معروف في قبلة المسجد، ثم صنع له المنبر وجعل ثلاث درجات، فكان يخطب عليه، فيتأكد أن يكون الإمام أعلى من المأمومين في حالة إلقاء الخطبة.
السنة الثانية: سلام الخطيب، إذا خرج فإنه يبدؤهم بالسلام فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يسلم إذا دخل سلاماً عادياً، ويسلم سلاماً عاماً إذا أقبل عليهم.
السنة الثالثة: الجلوس إلى فراغ الأذان؛ يجلس حال الأذان على كرسي أو نحوه، فإذا فرغ الأذان ابتدأ، وكذلك يجلس بين الخطبتين، يفصل بينهما بجلوس ليستريح فيه.
اختلف في خطبة القاعد هل تصح أم لا؟ كثير من العلماء يقولون: القيام سنة، لو خطب وهو جالس لأجزأ ذلك، فيذكرون أن عثمان رضي الله عنه كان يخطب جالساً، وكذا بعض خلفاء بني أمية، ولكن عذر عثمان العجز والكبر، لأنه كان قد تجاوز الثمانين من عمره، فكان يشق عليه إطالة القيام، وإلا فالصحيح القيام في الخطبة لقوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] .
ومن السنن أيضاً: أن يعتمد بيده على سيف أو عصا، يعني: أي شيء يعتمد عليه بجنبه، كانت عادة الخطباء أن يرتجلوا الخطبة، فيمسكون بأيديهم عصاً أو قوساً أو سيفاً أو نحو ذلك، فالأفضل أن يمسك عصاً معتادة، وكونه صلى الله عليه وسلم أمسك مرة سيفاً لعله لم يتيسر له إلا هو.
ومن السنن أيضاً: أن يقبل بوجهه على من أمامه، يقصد بتلقاء وجهه، لكن إذا احتاج إلى أن يلتفت يميناً ويساراً ليسمع من هاهنا ومن هاهنا، بحيث لا يكون هناك مكبر فلا بأس، وأما تقصيرهما فقد عرفنا أنه تقصير نسبي، والثانية أكثر تقصيراً، يعني: يطيل الأولى ويقصر الثانية، وتقصيره الخطبتين تقصيراً نسبياً.
ومن السنن أيضاً: أن يدعو للمسلمين، كان المجاهدون في تلك السنين يتحرون وقت الخطبة فيبدءون في القتال، ويقولون: هذا الوقت الذي يدعو فيه الخطباء للمجاهدين، فيدعو للمسلمين عموماً، ومن جملتهم المجاهدون.
وهل يباح الدعاء لمعين؟ أباحوا ذلك للسلطان؛ لأن صلاحه صلاح للرعية، ولو ذكر باسمه أو بصفته أو بكنيته أو بلقب يتميز به، أو بلفظه الذي يختص به كأن يقول: اللهم وفق سلطاننا أو إمامنا أو نحو ذلك، وذلك لأن صلاح الأئمة أمر مقصود للأمة، وفيه مصلحة عظيمة.(10/12)
صفة صلاة الجمعة وآدابها
صلاة الجمعة ركعتان بالاتفاق، قيل: إنها ظهر مقصورة، وقيل: إنها فرض يوم الجمعة، والصحيح أنها ظهر مقصورة، وأن القصر جاءت بدله الخطبتان، ثم بالاتفاق أنه يجهر بالقراءة فيها، والحكمة في ذلك أنه يحضرها عدد كثير، فيحضرها أناس من الجهلة ومن البوادي ومن أطراف البلاد، فيحتاجون إلى من يسمعهم الفاتحة، ويسمعهم قراءة السورة أو نحو ذلك، حتى يستفيدوا من هذا السماع، بخلاف صلاة الظهر فإنه يسر فيها؛ لأنهم يكتفون بقراءة الجهر في الليل.(10/13)
ما يقرأ في صلاة الجمعة وفي فجرها
يقرأ فيها بسورة الجمعة والمنافقون، لأنه ورد ذلك مرفوعاً: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بالجمعة والمنافقون) ، والأكثر على أنه كان يقرأ بسبح والغاشية.
ويسن أيضاً: أن يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورة السجدة، وهل أتى على الإنسان، والحكمة في ذلك اشتمالهما على المبدأ والمعاد والوعد والوعيد.(10/14)
حكم إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد
ذكر أنه يحرم إقامتها في البلد الواحد في أكثر من موضع إلا لحاجة، كسعة البلاد وكثرة السكان وضيق المسجد، بحيث يصلون في الطرق، فلا بأس بالتعدد للحاجة، وأما إذا كانت المساجد واسعة ومتقاربة فلا يجوز التعدد، وحده بعضهم بمسيرة فرسخ ونصف، وقيل: بفرسخ، والفرسخ مقدار ثلاثة أميال، فإذا كان بين المسجدين ثلاثة أميال فلا يصح إقامة مسجد في هذا المكان، أما إذا كانت المسافة أكثر من ثلاثة أميال فإنه يجوز إقامتها للحاجة إذا كان هناك مسافة طويلة، أو كان الجمع كثيراً.(10/15)
السنن القبلية والبعدية للجمعة
ذكروا أن لصلاة الجمعة سنة قبلها وبعدها، فيسن أن يصلي بعدها، وأقل السنة ركعتان وأكثرها ست؛ وذلك لأن الوقت وقت تستحب فيه العبادة، أما السنة قبلها فهي غير راتبة، ولكنها مستحبة، لا تدخل في الرواتب، دليلها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر يوم الجمعة ثم أتى المسجد وصلى ما كتب له، ثم أنصت للخطبة كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى) .(10/16)
ما يسن في يوم الجمعة وليلتها
يسن قراءة سورة الكهف في يومها أو ليلتها، ورد فيها حديث وأن قراءتها تعصم من فتنة الدجال، أو (أنه يضيء له نور بينه وبين السماء) ، وإن كان الحديث فيه مقال، لكن وروده من طرق كثيرة يبين أن له أصلاً، مع فضل السورة وعظمها.
ويسن في يوم الجمعة كثرة الدعاء، فإن فيها ساعة الإجابة، وقد اختلف فيها على أقوال: ذكر ابن حجر في فتح الباري نحو أربعين قولاً في تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة.
ويسن أيضاً كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا الحديث: (فأكثروا فيه من الصلاة علي، فإن صلاتكم معروضة علي) .
اختلف في حكم الغسل يوم الجمعة، وقد تقدم في باب الغسل أنه سنة مؤكدة، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أنه واجب، وفصل بعضهم فقال: إنما يجب على من كانت رائحة بدنه كريهة، كذلك التنظف والتطيب ولبس أحسن الثياب من البياض، الحكمة في ذلك لئلا يتأذى به المصلون، فيأتي بثياب نظيفة وينظف بدنه ويتطيب؛ حتى لا يؤذي المصلين ولا يؤذي الملائكة.
ومن السنة التبكير إليها ماشياً، حتى تكتب له خطواته؛ لحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) إلخ، والساعة الأولى هي أول ساعة من النهار بعد خروج وقت النهي، والساعة الثالثة هي التي يصلى فيها، أو تقام فيها الصلاة، وذلك بالنسبة إلى التوقيت الغروبي.
ويسن أن يدنو من الإمام؛ لأنه إذا تقدم أو بكر وجد فرجة أو وجد مكاناً قريباً من الإمام، وإذا تأخر فاته القرب.(10/17)
حكم تخطي الرقاب للإمام والمأموم
ويحرم تخطي الرقاب إلا لعذر، فإذا كانت الصفوف متراصة فالذي يتخطاهم يؤذيهم، روي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى فقال: اجلس فقد آذيت وآنيت) يعني: آذيت المصلين وتأخرت، وفي بعض الروايات: (أنه من يتخطى الرقاب فقد اتخذ جسراً إلى النار) أو كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام.
ويجوز للإمام إذا لم يكن هناك مدخل أن يتخطى الرقاب لحاجة، كما يجوز للمصلي إذا رأى فرجة في الصفوف المتقدمة أن يتخطى الرقاب إليها، وذلك لأنهم فرطوا حيث تركوا هذه الفرجة، ولأنه لا يصل إليها إلا بالتخطي.(10/18)
حكم إيثار الشخص لغيره بالمكان الأفضل
يكره الإيثار بالمكان الأفضل، فإذا كنت في الصف الأول فهل تؤثر صديقك مثلاً أو أخاك أو نحو ذلك؟ يكره الإيثار؛ لأنك أحق به، ولأن القربات لا يؤثر بها أحد، أما القبول فيجوز، أي: إذا آثرك أخوك أو ولدك جاز أن تقبل الجلوس في مكانه.(10/19)
حكم إقامة المصلي من مكانه والكلام حال الخطبة
يحرم إقامة المصلي من مكانه الذي قد سبق، إلا أن يكون صبياً صغيراً كان في الصف الأول وكان دون العشر فلا بأس أن يقام؛ ليتحقق أن يلي الإمام أولو الأحلام والنهى، فلا يقام غيره من مكانه ويجلس فيه، وفي ذلك أحاديث.
ويحرم الكلام حال الخطبة إلا للخطيب فيجوز له أن يتكلم، فقد ثبت أنه لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال: (قم يا فلان فاركع ركعتين) وكذلك من يكلمه لحاجة؛ لقصة ذلك الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا) إلخ.
من دخل والإمام يخطب صلى التحية فقط وخففها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل ركعتين وتجوز فيهما) .(10/20)
حكم صلاة العيدين وصفتهما وما يشترط فيهما
صلاة العيدين اختلف فيهما: فقيل إنهما سنة، وقيل: فرض كفاية، وقيل: فرض عين، وذهب بعض المحققين إلى أنها فرض عين تجب على كل مكلف، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا العواتق وذوات الخدور، وأن يخرجوا الحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ولكن هذا دليل على آكديتها لا على أنها فرض عين، فعلى الأقل أنها فرض كفاية يجب على أهل البلد أن يقيموها، فإذا تركوها أثموا.(10/21)
وقت صلاة العيدين
وقتها كصلاة الضحى، يعني: من خروج وقت النهي إلى الزوال، آخره الزوال وأوله ارتفاع الشمس قيد رمح، وإذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد الزوال قضوها من الغد، أما إذا علموا قبل الزوال فإنهم يصلونها، إذا علموا قبل الزوال فإنهم يؤدونها، وإذا جاءهم الخبر بعد الزوال صلوها من الغد قضاءً.(10/22)
شروط صلاة العيدين
يشترط فيها شروط الجمعة التي تقدمت، وهي: أن يكونوا في بلد، وأن يكونوا أحراراً، وأن يكونوا مقيمين، وكذلك أيضاً يشترط لها الخطبة، وأن تشتمل الخطبة على تلك الشروط التي تقدمت، ويشترط لصحتها الاستيطان وعدد الجمعة، فالاستيطان أن يكونوا مستوطنين، فلا تلزم البوادي، وعدد الجمعة أن يكونوا أربعين على القول الذي اختاره الفقهاء.
من فاتته أو فاته بعضها سن له أن يقضيها وعلى صفتها أفضل، فإذا فاتته ركعة قضاها كما هي بتكبيراتها ونحو ذلك، فإذا فاتت جماعة قضوها وجهروا فيها.(10/23)
ما يسن في العيدين
تسن في الصحراء، أي: أن يخرجوا خارج البلد، كان صلى الله عليه وسلم يخرج في الصحراء، يعني: في البقيع.
يسن تأخير صلاة الفطر، أي: يؤخرها إلى ما بعد طلوع الشمس بربع ساعة أو نحوه ليبدءوا في الصلاة.
وأن يأكل قبلها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً حتى يكون قد تحقق الإفطار، أما صلاة عيد الأضحى فيبكر بها بعد طلوع الشمس مثلاً بخمس أو عشر دقائق وأن لا يأكل قبلها حتى يأكل من أضحيته إذا كان عنده أضحية.(10/24)
صفة صلاة العيدين وخطبتيهما
صلاة العيد ركعتان كما أن صلاة الجمعة ركعتان، لكن تزيد على الجمعة بالتكبيرات الزوائد، ففي الركعة الأولى ست تكبيرات زوائد بعد تكبيرة الإحرام، تقول: الله أكبر الله أكبر حتى تتم الست، وفي الثانية قبل القراءة خمس، يرفع يديه مع كل تكبيرة، وهذا دليل على أن رفع اليدين يطرد في كل تكبير ليس فيه انتقال، كتكبيرات الجنائز.
وبين كل تكبيرتين يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً، أو غيره، لو قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أجزأ ذلك.
ثم بعد هذه التكبيرات يقرأ الفاتحة، ويقرأ بعدها سبح في الأولى والغاشية في الثانية، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قراءة هاتين السورتين في الأماكن التي تجمع خلقاً؛ وذلك لأن في سبح التذكير في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:9-11] وفي سورة الغاشية التذكير أيضاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] فكأنه يقول: إنما بعثت لأذكركم فتذكروا.
يقول: (كخطبتي الجمعة) ، أي: يخطب خطبتين، واختلف هل تستفتح بالتكبير؟ أكثر الفقهاء على أنه يفتتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع، والتكبيرات تكون سرداً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وأنكر ذلك كثير من العلماء، وقالوا: إن الحديث الذي ورد في ذلك غير مقبول، وجعلوا عمل بعض الصحابة أو عمل بعض الخلفاء في كونهم يبتدئونها بالتكبير غير مسوغ، وقالوا: المعتاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح خطبه كلها بالحمد، فعلى هذا يستحب أن يبدأها بالحمد، ويكون التكبير بعد الحمد وبعد المقدمة، واستحباب التكبير ليتحقق الأمر به، قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ولذلك يسن التكبير في تلك الأماكن، ويستوي في ذلك المأمومون والمنفردون وغيرهم، فيستفتحها بالحمد ثم يكبر بعد الحمد تسع تكبيرات في الأولى وسبعاً في الثانية.
تشمل خطبة عيد الفطر على زكاة الفطر وبيان ما يخرجون، وعلى فضل ذلك اليوم، وعلى الوصايا والأعمال الصالحة التي يوصيهم بها، وفي خطبة الأضحى على ذكر الأضحية وبيان حكمها وما أشبه ذلك.(10/25)
مشروعية التكبير في العيدين وصفته
يسن في ليلة عيد الفطر التكبير المطلق، ويتأكد في ليلة العيد وفي يوم العيد وفي المصلى، ويستمر إلى أن يبدأ الإمام في الصلاة، ثم يستمر الإمام في التكبير ويكبر في أثناء خطبته، وكذلك في ليلة عيد النحر، ويستحب أيضاً في العشر الأول من ذي الحجة، من حين يدخل الشهر؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] فيتأكد إذا رأى بهيمة الأنعام؛ لقوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] ، فيكون هذا تكبيراً مطلقاً يجهرون به في أسواقهم وفي مساجدهم، وفي بيوتهم، ويجهر به المصلي الذي ينتظر الصلاة مثلاً ويجهر به الماشي والراكب ونحو ذلك؛ إظهاراً لهذا الشعار وهو قوله تعال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] ويستمر إلى فراغ الخطبة، وهذا يسمى: التكبير المطلق.
أما المقيد فيسن عقب كل فريضة تصلى في جماعة وأوله فجر يوم عرفة لأهل القرى، وللمحرم من ظهر يوم النحر، ويستمر إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة تصلى في جماعة، وصفته: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد مرتين أو ثلاثاً.(10/26)
حكم صلاة الكسوف وصفتها
تقدم في التطوع أن آكد صلاة التطوع صلاة الخسوف، ثم بعدها الاستسقاء، واستدلوا بأنها تشرع لها الجماعة؛ ولأن الكسوف ينادى لها، والكسوف هو كسوف أحد النيرين: الشمس والقمر، الذي هو ظهور الانمحاء عليه في نهار أو في ليل، وثبت أنه وقع كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أظلمت كثيراً، ولما رأى ذلك فزع إلى الصلاة، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة وغاير فيها عن بقية الصلاة وبقية التطوعات، حيث كرر فيها الركوع والقيام، فالمشهور أنه صلى في كل ركعة ركوعين، يعني: قام قياماً طويلاً، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً قرأ فيه أيضاً الفاتحة وسورة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رفعاً معتاداً، ثم سجد سجدتين، ثم قام للركعة الثانية وفعل فيها كما فعل في الأولى.
وقد روي أيضاً في صحيح مسلم: (أنه ركع في كل ركعة ثلاثة ركوعات) ، وفي حديث آخر: (أنه ركع في كل ركعة أربعة ركوعات) ، يعني: أنه قرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، أربعة ركوعات في الركعة الواحدة، وروي أيضاً في سنن أبي داود وغيره: (أنه ركع خمس ركوعات) ، وقد أنكر كثير من المحققين هذه الزيادات، وقالوا: إنه لم يقع الكسوف إلا مرة يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام: معلوم أنه لم يمت مرتين، وأنه لم يكن هناك إبراهيمان.
ولكن إذا نظرنا إلى الأحاديث التي فيها تكرار الركوع ثلاثاً أو أربعاً أو خمسا ًوجدناها بأسانيد صحيحة تقبل في الأحكام الأخرى، فكيف نردها؟ لا نردها بهذا الاحتمال، فيترجح أن صلاة الكسوف تكررت، إما كسوف شمس تكرر وإما كسوف قمر، لأن من العادة أنه يقع كسوف الشمس في كل سنة أو في كل سنتين، فلا بد أن يتكرر في العهد النبوي، وكذلك كسوف القمر قد يتكرر في السنة مرتين أو أكثر، فلابد أنه وقع في القصة أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم انتهى وقد تجلت الشمس، وذلك دليل على أنه أطال فيها.
في بعض الروايات قرأ في الركوع الأول قدر سورة البقرة، وأن ركوعه قريب من قيامه، ثم الركوع الثاني يمكن أنه قدر سورة آل عمران، والركوع أقل من الركوع الثاني، فلابد أنها استغرقت صلاته نحو ثلاث ساعات أو أكثر، مما يدل على أنه أطال فيها؛ لأنه انصرف وقد تجلت الشمس، ثم اختلف هل خطبهم كخطبة الجمعة أم علمهم تعليماً، فالمشهور أنه علمهم مجرد تعليم، فأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، وأنها آية يخوف الله بها عباده ولو كانت معلومة السبب.
وكذلك أيضاً حثهم على الفزع إلى الصلاة: (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وكذلك ذكرهم بما رأى في صلاته تلك، فذكر أنه تمثلت له الجنة بينه وبين الحائط فتقدم إليها، يقول: (تناولت منها قطفاً لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، يقول: وعرضت علي النار وتقهقر لما رآها، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر قصبه) ؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم (ورأى فيها سارق الحاج صاحب المحجن الذي يعلق المتاع في محجنه ويجره، فإذا فطنوا له قال: إنما تعلق بالمحجن، وإذا لم يفطنوا له أخذه، ورأى فيها المرأة التي تعذب في هرة حبستها) ، يعني: ذكرهم بنحو هذا، وكأنه يحثهم على أداء الأمانات وعلى عدم الظلم والعدوان، وأن ذلك من أسباب تغير الأحوال.
يسن تطويل قراءة السورة وتطويل التسبيح، وكون الأول أطول من الثاني، فيكون كل ركوع أطول من الذي بعده، وكل قيام أطول من الذي بعده.(10/27)
مشروعية صلاة الاستسقاء وصفتها وحكمها
تشرع صلاة الاستسقاء إذا أجدبت الأرض وقحط المطر؛ وذلك لأن الله تعالى يبتلي عباده بهذا القحط فيؤخره حتى يعرفوا أنهم بحاجة إلى فضله وعطائه، فيضرعوا إليه.
فتأخر المطر قد يكون بسبب المعاصي: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ، وقد يكون ابتلاء وامتحاناً، وقد يكون سببه حثهم على الدعاء والرغبة.
أما صفة صلاة الاستسقاء وأحكامها فكصلاة العيد، يعني: أنه يبدؤها بالتكبيرات في الركعة الأولى ست مرات بعد تكبيرة الإحرام، خمس مرات، وأنه يجهر فيها بالقراءة ونحو ذلك، وصلاة الاستسقاء الأفضل أن تصلى جماعة وتجوز فرادى عند المناسبة والحاجة.(10/28)
ما يفعله الإمام في الاستسقاء
إذا أراد الإمام أن يخرج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة وترك المظالم والتخلي منها، وترك التشاحن، والصيام والصدقة، يعني: يكون هذا التذكير لهم في المساجد أو في الخطب قبل خروجهم، ويعدهم يوماً يخرجون فيه، ويسن أن يكون عاماً للمنطقة أو نحوها، بأن يستسقوا كلهم في يوم واحد، فيبين لهم أن التوبة سبب لإجابة الدعوة، وأن المظالم سبب للعقوبات، وأن التشاحن والتقاطع فيما بينهم سبب لمحق البركات، ويبين لهم أن الصدقة والصيام من أفضل العبادات التي يجيب الله دعوة صاحبها، ويذكرهم ويحثهم على الأعمال الصالحة.
يخرج كل واحد منهم وبالأخص الإمام متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً، يعني: أنه يتصف بصفة المسكنة، يخرج وهو منكسر القلب، في الحديث: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) هذا الانكسار وهذا التواضع وهذا التذلل وهذا التعبد من أسباب إجابة الدعاء، وهكذا يخرج كل واحد من المصلين، ويكون متطهراً نظيف البدن، إلا أنه لا يتطيب؛ لأن استعمال الطيب يحمل صاحبه على الفخر وعلى الخيلاء ونحو ذلك، فلا يناسب صفة المنكسرة قلوبهم.
على الإمام أن يخرج بأهل الدين والصلاح والشيوخ؛ لأنهم أقرب إلى إجابة الدعوة، ولا يخرج الفسقة والعصاة والعتاة وأهل الذنوب وأهل قلة العبادات، بل يختار الذين يخرجون من أهل الدين وأهل التدين وأهل الالتزام، وأهل الصلاح والإصلاح شيوخاً أو شباباً، ويخرج بمميزي الصبيان؛ وذلك لأنهم من أسباب إجابة الدعاء، يذكر في الحديث: (لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صباً) يعني: أن الله تعالى يرفع العذاب بهؤلاء الضعفاء كبار السن، وصغار السن الذين هم أطفال، وأهل الصلاح الذين يديمون العبادة.
وأن يصلي بهم ركعتين كصلاة العيد ثم يخطب، ذكر بعض العلماء أنه يخطب قبل الصلاة، ولكن المشهور أنه يخطب بعدها لكن خطبة واحدة، اختلف هل يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد؟ الأكثرون على أنه يبدؤها بالتكبير، وذهب بعض المحققين إلى أنه يبدؤها بالحمد.
وأن يكثر فيها من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار، مثل قوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10-11] ومثل قوله: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3] ونحو ذلك.
يرفع يديه عند الدعاء يجعل ظهورهما نحو السماء؛ لأن من شدة الرفع تكون ظهورهما إلى السماء، يعني: يبالغ في الرفع، وما كان يبالغ في الرفع إلا في صلاة الاستسقاء، ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء قوله: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً) إلى آخره فيقول: (مجلجلاً سحاً طبقاً دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والشدة والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ادفع عنا الجوع والجهد والبلاء، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا إجابتك، فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدنا) هذه الأدعية ذكرها الشارح وذكرها أيضاً غيره ممن شرحوا هذه الأذكار.
إذا كثر المطر وخيف الهدم والضرر يدعو بقوله: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) الظراب: هي الروابي والمرتفعات الصغيرة، والآكام: هي ما غلظ من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلاً، إذا ارتفع عما حوله كالتلال وغيرها، وبطون الأودية: هي مجاري السيول، ومنابت الشجر: أصولها.
يسن أن يكمل الآية، ويسن لمن أغيث بمطر أن يقول: (مطرنا بفضل الله ورحمته) ويحرم أن يقول: (مطرنا بنوء كذا وكذا) كما كان أهل الجاهلية يقولونه.
من رأى سحاباً أو هبت ريح شديدة فإنه يقول: (اللهم إنا نسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) إذا سمع الرعد يقول: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) ، إذا رأى كوكباً انقض يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) ، إذا سمع نهيق الحمار أو نباح الكلب يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، إذا سمع صياح الديك يقول: (أسأل الله من فضله) .
تكلموا على ما يسمى بقوس قزح، وهو إشارة ممتدة في الأفق لونه أخضر، وقالوا: إنه حماية لأهل الأرض من الغرق، والصحيح أنه من آيات الله تعالى، أما الذين يقولون: إنه دليل الفتنة أو الدماء فإن ذلك ليس له أصل.
الآن انتهينا من كتاب الصلاة وبقي علينا كتاب الجنائز والزكاة والصوم والحج والجهاد لعلنا نكملها، والله أعلم.(10/29)
الأسئلة(10/30)
حكم الأذكار والأدعية الجماعية بعد الصلوات
السؤال
في بلدنا يقوم بعض العامة ببعض الأذكار الجماعية التي يفعلونها بعد كل أربع ركعات من صلاة التراويح، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
الأدعية الجماعية يظهر أنها بدعة إذا كان فيها رفع صوت، أما إذا كان هناك أناس لا يحسنون الدعاء، وأمروا واحداً أن يدعو وهم يؤمنون فلا بأس بذلك كالدعاء للقنوت، ولكن لا يتقيد بدعاء معين، ولا يتقيد بوقت معين كبين التراويح.(10/31)
حكم الصلاة خلف الفاسق والمبتدع
السؤال
ذكرت أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، مع أن شيخ الإسلام نقل الاتفاق على صحة الصلاة خلف المبتدع وهو أشد من الفاسق، فما ردكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هكذا ذكر المؤلف صاحب المتن كما ترون، وكأن المراد إذا كان هناك من هو خير منه، وكأن كلام شيخ الإسلام أن المراد إذا ابتلي أهل بلد وغلب عليهم أهل البدعة، ففي هذه الحالة ليس لهم إلا أن يصلوا خلف هذا المبتدع سيما الجمع والأعياد ونحو ذلك، فليس لهم مفر؛ لأنه متغلب عليهم، فالحاصل أنه إذا وجد رجل صالح لم يعين الفاسق الذي يعلن بفسقه، أما إذا لم يوجد إلا الفاسق والبقية لا يحسنون قراءة الفاتحة ولا يعرفون الأحكام فهم معذورون بهذا.(10/32)
حكم الاستمناء باليد
السؤال
وقد تكرر كثيراً، وأذكره لكثرة ما تكرر، يقول: ما حكم الاستمناء المعروف الآن بالعادة السرية وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز، أجازه بعض الأئمة كالإمام أحمد للضرورة، إذا خشي التشقق والمشقة، أو خاف الوقوع في الزنا فبعض الشر أهون من بعض، والصحيح أيضاً أنه إذا حصل في رمضان فإنه يبطل صوم ذلك اليوم، فلابد من قضائه إذا استمنى وهو صائم، وأنه يوجب الغسل؛ لأنه إخراج مني بدفق ولذة.(10/33)
حكم تصوير العروسين ليلة الزواج للذكرى
السؤال
هذه سائلة تقول: ابتلي الناس في هذا الزمان بتصوير العروسين ليلة الزواج لتذكر ذلك في المستقبل، محتجين بجواز التصوير بكاميرا الفيديو، أولاً: هل يجوز التصوير بهذه الكاميرا، ثانياً: وعلى فرض جوازها هل يجوز التصوير بالفيديو مع كثرة ما سببته من المشاكل التي توقع الطلاق غالباً لانتشار ذلك الشريط وفشوه بين الناس، ثالثاً: وهل أعتبر آثمة لعصيان زوجي الذي يرغب في هذه المسألة مع نصيحته وتوجيه نصحي له، وجزاكم الله خيراً، مع أنها تقول: إنها على باب الزواج؟
الجواب
نقول: إن هذا لا يجوز والحال هذه، يعني: كون الرجل يدخل ويجلس على منصة بين النساء إلى جانب زوجته ثم يخرجون هذه الكاميرا ويصورونه ويقولون: إن هذا للذكرى ونحو ذلك، هذا لا يجوز لهذه الحال، حتى ولو رخص في جنس التصوير بالفيديو ونحوها، فإنه على هذه الحال منكر فننهى عنه، ولا حاجة إلى مثل هذا، ولا ضرورة إلى ذلك، كون الإنسان يقول مثلاً: إن هذا للذكرى، تذكر حالته، ماذا تفيده هذه الذكرى ونحو ذلك؟ فيتوب إلى الله تعالى، ولا يجوز له إلزام زوجته بهذا، ولا يجوز أيضاً لولي الأمر إقرار مثل هذا، ويقتصرون على ما كانوا عليه من إدخال الزوجة إليه، وانضمام كل منهما إلى الآخر بخلوة لا بأس بذلك.(10/34)
حكم خلو الخطيب بالمخطوبة قبل الزواج
السؤال
ما حكم دخول الخطيب قبل الزواج؟
الجواب
قبل العقد لا يجوز له الخلوة بالمرأة، وأما بعد العقد فيجوز له أن يخلو بها؛ لأنه قد حلت له بمجرد العقد.(10/35)
حكم إمامة غير المميز للبالغين في الصلاة
السؤال
ذكرتم أحسن الله إليكم بالأمس: أن غير المميز لا تصح إمامته للبالغين، فما قولكم وفقكم الله لكل خير في حديث عمرو بن سلمة، وأنه كان يؤم قومه وهو صغير؟
الجواب
هذا الحديث مروي في الصحيح، وهم كانوا في برية ولما جاءهم وفد وسمعوا منه أنه يؤمهم أقرؤهم؛ ولم يجدوا أحداً أقرأ من عمرو بن سلمة الجرمي، فقدموه، يقول: قدموه وهو ابن ست أو سبع سنين، يعني: كان صغيراً، ويظهر أن هذا اجتهاد منهم، لم يكن ذلك عن أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنه بلغه ذلك وأقره، فهو اجتهاد منهم، ولم ينقل ذلك إلا في هذه القصة، فالصحيح أن الذي لم يبلغ لا تصح إمامته.(10/36)
حكم شرب الزعفران مع القهوة وغيرها للمحدة
السؤال
التي في الحداد على زوجها الميت هل تشرب ما به زعفران كالقهوة والنعناع وغيرهما؟
الجواب
تنصح بأن لا تقرب شيئاً فيه طيب، الزعفران لا شك أن فيه شيئاً من الطيب، ولو كان يشرب، وقد رخص فيه بعض العلماء، ولكن على الأقل أنه مكروه، إذا كان يكره لها أن تمسح به وجهها وخديها وأن تدهن به ذراعيها، فكذلك شربه في القهوة ونحوها، أما المشروبات الأخرى لعلها جائزة كالشاهي والنعناع وما أشبهه.(10/37)
حكم الجمع بين صلاة الجمعة وصلاة العصر
السؤال
ما رأي فضيلتكم في مسألة الجمع بين صلاة الجمعة والعصر؟
الجواب
صرح مشايخنا بأن ذلك لا يجوز، وأنكر الشيخ ابن باز في سنة ست عشرة وخمس عشرة على الذين جمعوا بين الجمعة والعصر في الرياض، وأمرهم بالإعادة، كذلك غيره من المشايخ، فهذا هو الأصل، لكن المسافر إذا سافر يوم الجمعة، ثم في الطريق مر على بلدة وصلى معهم الجمعة فينويها ظهراً مقصورة، ويجمع معها العصر ويواصل سيره، نرى أن هذا لا بأس به للذي هو في الطريق، ونختار أن الجمع يختص بالمسافر، وأن المقيم لا يجمع.(10/38)
حكم صلاة المرأة للجمعة في بيتها ركعتين بدل الظهر
السؤال
بعض النساء يصلين ركعتين في البيت على أنها صلاة جمعة بدل صلاة الظهر، فهل هذا الفعل صحيح؟
الجواب
غير صحيح، المرأة تصلي صلاة الظهر أربعاً، إن صلت مع الجماعة في المسجد صلت معهم ركعتين، وأما إذا صلت في بيتها فتصلي أربع ركعات.(10/39)
اعتذار الشيخ عن الذهاب إلى شرورة
السؤال
هذا أحد الإخوة من شرورة يقول: ندعو الشيخ لزيارتنا، وإقامة لقاء مفتوح هناك، ويسأل من الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم؟
الجواب
نعتذر في هذه السنة، ويمكن عندنا زيارة في أول شهر أربعة للمنطقة الجنوبية نقيم هناك نحو نصف شهر في أبها وفي الخميس، هناك يمكنهم أن يأتوا ويستفيدوا من هناك.(10/40)
حكم إمامة من يقصر لحيته كثيراً
السؤال
هناك إمام مسجد يقصر لحيته كثيراً، فهل تجوز إمامته؟
الجواب
ذنب كبير مع الإصرار عليه، فإذا كان كذلك فإن عليهم أن ينصحوه ويكرروا النصيحة له، أو يرفعوا بأمره لمن له ولاية، لعله أن يتوب، أو لعله أن يبدل بغيره، أما الصلاة خلفه فلا نقول بإعادتها، الصلاة خلف من أقام الصلاة كاملة صحيحة.(10/41)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر الآل
السؤال
هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصلوا علي الصلاة البتراء، قالوا: يا رسول الله! وما البتراء؟ قال: أن تقولوا: اللهم صل على محمد، ولكن قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد) ؟
الجواب
قد سمعت بهذا ولكنه ضعيف، لم يثبت ثبوتاً يجزم به، الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ولم يذكر آله حيث قال: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، دائماً العلماء يقولون: صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون آله، ذكر الآل في التشهد: (اللهم صل على محمد وآل محمد) ، مع أن الآل فيهم خلاف هل هم الأتباع، أو أنهم أهل البيت، ولكل قول ما يرجحه.(10/42)
حكم الصلاة في المسجد الأبعد خلف إمام سنة
السؤال
إذا كان المسجد قريباً من مسجد آخر بفرسخ أو أقل منه، ولكن المسجد القريب فيه إمام غير معروف بالسنة وبالمنهج الصحيح، والمسجد الأبعد معروف بالعلم والسنة، فأين نصلي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
تصلي مع الإمام المعروف بالسنة، وتحتسب أجر الخطوات، والأبعد أفضل من الأقرب.(10/43)
حكم صيام اليوم الذي لم يعلموا بأنه عيد إلا في الظهر
السؤال
إذا لم يعلموا عن العيد إلا بعد الظهر فإنهم يؤدون العيد من الغد قضاء، فهل يجوز صيام ذلك اليوم الذي صلوا فيه العيد؟
الجواب
لا يجوز، وذلك لأنهم جعلوه يوم عيد، فلا يجوز صيام اليومين: اليوم الذي جاءهم الخبر فيه إذا كانوا صياماً فإنهم يفطرون، واليوم الذي أدوا فيه الصلاة.(10/44)
حكم إمامة الفاسق الأقرأ والأحفظ لكتاب الله
السؤال
هل يقدم الإمام الفاسق إذا كان أقرأ وأحفظ لكتاب الله، أفتونا مأجورين؟
الجواب
يقدم إذا لم يوجد غيره، أما إذا وجد من هو محسن للقراءة وقائم بالصلاة وسالم من الفسوق فإنه الأحق.(10/45)
حكم من يتعمد عدم حضور خطبتي الجمعة ويحضر للصلاة
السؤال
من تعمد عدم حضور صلاة الجمعة إلى بعد الخطبتين وبداية الصلاة، فما حكم عمله هذا؟
الجواب
لا شك أنه مخطئ وأنه فوت على نفسه أجراً كبيراً وعملاً كثيراً، ولكن مع ذلك ما نقول: إنها بطلت صلاته، بل إنه أدرك الصلاة ولو ما أدرك إلا ركعة واحدة، فإنه يعتد بها كجمعة ولكنها ناقصة.(10/46)
حكم تأدية صلاة الظهر جماعة بعد الجمعة بنية القضاء
السؤال
صليت في إحدى الدول، فلما انتهت الصلاة قام الإمام والجماعة بالإقامة وصلوا أربع ركعات بعد ما صلوا الجمعة، يقولون: إن هذا قضاء، فما حكم ذلك؟ وما حكم الصلاة معهم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه بدعة، ولا يجوز، ويظهر أن هذا من فعل بعض الرافضة الذين إذا صلوا الجمعة مع الجماعة قاموا وصلوا ظهراً؛ لاعتقادهم أن صلاتهم مع السنة باطلة، وأنها لا تصح الصلاة إلا خلف معصوم، فلذلك يعيدون الصلاة.(10/47)
وقت ابتداء ليلة الجمعة وانتهاء يومها
السؤال
متى يبدأ يوم الجمعة وليلة الجمعة؟
الجواب
ليلة الجمعة تبدأ من غروب الشمس يوم الخميس، هذه ليلة الجمعة، وينتهي يوم الجمعة بغروب الشمس ليلة السبت.(10/48)
وقت ابتداء الساعة الأولى من يوم الجمعة
السؤال
متى تبدأ الساعة الأولى في يوم الجمعة؟
الجواب
الصحيح أنها تبدأ في الساعة الواحدة بالتوقيت الغروبي، والتوقيت موجود تقرءونه كله.(10/49)
حكم صلاة من تكلم أثناء خطبة الجمعة
السؤال
إذا تكلم رجل أثناء خطبة الإمام فهل عليه إعادة الصلاة ظهراً، أم أنها تحتسب له ظهراً دون أن يعيدها؟
الجواب
الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة ولا نقول ببطلانها، ولكن الأحاديث فيها هذا الوعيد من باب الزجر عنه.(10/50)
حكم قراءة سورة السجدة في ركعتي صلاة الفجر يوم الجمعة
السؤال
بعض الأئمة يقرأ في يوم الجمعة سورة السجدة ويقسمها على الركعتين، فهل عمله هذا صحيح؟
الجواب
خطأ، لابد إذا أراد السنة أن يقرأ السورتين، وليس القصد قراءة السجدة، وليس القصد أن يسجد، بل القصد سورتين كان يحافظ عليهما؛ لما فيهما من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب والمبدأ والمعاد.(10/51)
حكم قراءة سورة الكهف فجر يوم الجمعة وفضلها
السؤال
ما حكم قراءة سورة الكهف في فجر يوم الجمعة؛ وذلك لفضل قراءتها؟
الجواب
ذكرنا أن فيها أحاديث ولو كان فيها ضعف، ولكن مجموعها يدل على فضل قراءة سورة الكهف سواء في ليلة الجمعة أو في صبحها أو في يومها، فيقرؤها الأفراد لما ذكر من ثوابها، وأما كون الإمام يقرأ بها في الصلاة فذلك غير مشروع، فإذا قرأ بها لمناسبة فلا بأس.(10/52)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
ما حكم صلاة التسابيح؟
الجواب
ورد فيها أحاديث ولكنها ضعيفة، لم يروها الإمام أحمد ولم ترو في الصحيحين، وإنما رويت في سنن أبي داود والترمذي، ولكن لفظها غريب وأسانيدها غريبة، فلا نستحبها.(10/53)
حكم اضطرار الخطباء للمأمومين على إجابة السؤال
السؤال
عندنا خطباء يضطرون المستمعين للكلام، كأن يقولوا: وحدوا الله، أو: من الواحد؟! من الواجد؟ لكي يقولوا: الله، بحجة أن بعض العلماء يفعل ذلك، فهل هذا جائز؟
الجواب
غير جائز، وإذا كانوا مثلاً خاطبوا المصلين بمثل هذا الذي يذكرونه على أنه سؤال، فعلى المأمومين أن لا يخاطبوهم وأن ينصتوا، ولا يجيبوهم بجواب، ولهم أن يجيبوا أنفسهم، وللخطيب أن يجيب نفسه.(10/54)
حكم صلاة الخطيب ركعتين قبل صعوده على المنبر
السؤال
صليت الجمعة في إحدى المناطق، وعندما دخل الخطيب صلى ركعتين ثم صعد المنبر فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لا بأس بذلك إذا دخل مبكراً، أما إذا دخل متأخراً قرب وقت الصلاة فالأولى أن يدخل ويجلس على المنبر مباشرة.(10/55)
حكم أداء الخطبة بغير اللغة العربية
السؤال
هل تجوز الخطبة بغير اللغة العربية؟
الجواب
الأصل أنها لا تجوز، لكن إذا كانوا لا يفهمونها فتترجم، يخطب خطبة فيها أركان الخطبة وشروطها باللغة العربية ولو لم تستغرق إلا دقيقة أو ثلاثاً، ثم يكلمهم ويترجم لهم باللغة التي يفهمونها.(10/56)
حكم استخدام مصطلحات وكلمات بلغة غير العربية
السؤال
هل يجوز استخدام كلمات أو مصطلحات باللغات الأجنبية في أثناء الخطبة؟
الجواب
يجوز عند الحاجة إذا كانوا لا يفهمون إلا تلك المصطلحات.(10/57)
حكم من تعمد أكل الثوم والبصل للهروب من صلاة الجماعة
السؤال
من يتعود أكل الثوم والبصل دائماً قبل الصلاة لكي يكون عذراً له لعدم حضور صلاة الجماعة، فهل فعله جائز؟
الجواب
غير جائز، وليس بمعذور، ويستحق التعزير؛ لأنه تعمد ترك الصلاة، ولا تسقط عنه الجماعة والحال هذه.(10/58)
حكم سجود السهو لمن تكرر سهوه
السؤال
سها رجل في الصلاة ثم قبل أن يتمها سها مرة ثانية، ماذا عليه؟ وكيف يكون سجوده؟
الجواب
ليس عليه إلا سجود واحد، ولو تكرر السهو.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/59)
شرح أخصر المختصرات [11]
من عظمة هذا الدين شموليته في أحكامه، فإن الإسلام قد استوعب جميع نواحي الحياة، وقد شملت أحكامه كل صغيرة وكبيرة، فما من مرحلة يمر بها الإنسان إلا وهي عامرة بأحكام الشريعة، ومن ذلك: الموت، فإن كل نفس ذائقة الموت، ولذلك فإن الإسلام قد وضع الأحكام الشاملة لكل جزئيات هذه المرحلة، من بداية مرض الموت، مروراً بالوصية والاحتضار، إلى قسمة التركة وتنفيذ الوصية والتعزية والحداد ونحو ذلك، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وأنه من عند الله، وأن الله كرم هذا الإنسان إذ سن له الشرائع والأحكام في جميع مراحل حياته.(11/1)
كتاب الجنائز
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرأنا في الليلة الماضية ما يتعلق بالجمعة، ومن تلزمه الجمعة، وشروطه، وحكم من صلى ظهراً ممن تلزمه الجمعة، وسفر من تلزمه قبل الزوال أو بعده، وشروط صحة الجمعة، والخلاف في العدد المشترط لحضورها، والراجح أن اشتراط الأربعين ليس بلازم، وأنها تصح باثني عشر، وتدرك الجمعة بإدراك ركعة كاملة، واشتراط الخطبتين، وما يشترط فيهما، وما يسن، وعدد ركعات الجمعة، وما يقرأ فيها، وتعدد الجمعة في البلد، والسنة بعدها وقبلها، وما يستحب في الجمعة من القراءة، وما يكره فيها، وأنه يحرم تخطي الرقاب، وأن يقيم غيره، وأن يتكلم حال الخطبة.
كذلك صلاة العيد: ذكرنا حكمها ووقتها، وحكم ما إذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد خروج الوقت، وشروط وجوبها، وما يشترط لصحتها من العدد والاستيطان، وحكم من فاتته الصلاة أو بعضها، وأين تؤدى؟ وما هي التي تؤخر من صلاة العيدين والتي تقدم؟ وما هي التي يؤكل قبلها والتي لا يؤكل قبلها؟ والتكبيرات الزوائد في الصلاة، وما يكون بين كل تكبيرتين، وما يقرأ في صلاة العيد، وخطبة العيد ومقدارها، والتكبير المطلق والتكبير المقيد.
وذكرنا صلاة الكسوف وسببها وتطويلها، وكون كل ركعة أطول من التي قبلها، وكل ركن كذلك.
وذكرنا صلاة الاستسقاء، وسببها، وصفتها، وأين تؤدى؟ وماذا يتقدمها من المواعظ والأعمال الصالحة؟ وصفة من يخرج إليها، ومن يستحب خروجهم ومن لا يستحب، وما يستحب في الخطبة، وأنه يدعو فيها بما ورد، وذكر بعض الأدعية.
وبهذا نعلم أن الشريعة الإسلامية جاءت بكل المصالح، فشرعية صلاة الاستسقاء لأجل إزالة الضرر عن المسلم، فقد يعم المسلمين ضرر كقحط أو جدب أو نحو ذلك، فإذا كان القحط في جهة من البلاد فإن الجميع يؤدون صلاة الاستسقاء، ولو كان بعضهم ليس عنده قحط؛ وذلك لأن مصيبتهم واحدة؛ ولذلك يشاهد أنها تكثر الأمطار في جهة وتخف في جهة، فيستغيثون ويستسقون ربهم كلهم، وهذا يحقق قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .
قال رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز: ترك الدواء أفضل، وسُن استعداد للموت، وإكثار من ذكره، وعيادة مسلم غير مبتدع، وتذكيره التوبة والوصية، فإذا نزل به سن تعاهد بلِّ حلقه بماء أو شراب، وتندية شفتيه، وتلقينه (لا إله إلا الله) مرة، ولا يزاد على ثلاث، إلا أن يتكلم فيعاد برفق، وقراءة الفاتحة ويس عنده، وتوجيهه إلى القبلة، وإذا مات تغميض عينيه، وشد لحييه، وتليين مفاصله، وخلع ثيابه، وستره بثوب، ووضع حديدة أو نحوها على بطنه، وجعله على سرير، وغسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه، وإسراع في تجهيزه، ويجب في نحو تفريق وصيته وقضاء دينه.
فصل: وإذا أخذ في غسله ستر عورته، وسن ستر كله عن العيون، وكره حضور غير معين، ثم نوى وسمى، وهما كفي غسل حيّ، ثم يرفع رأس غير حامل إلى قرب جلوس، ويعصر بطنه برفق، ويكثر الماء حينئذٍ، ثم يلف على يده خرقة فينجيه بها، وحرم مس عورة من له سبع.
ثم يدخل أصبعيه وعليها خرقة مبلولة في فمه، فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما بلا إدخال ماء، ثم يوضئه، ويغسل رأسه ولحيته برغوة السدر، وبدنه بثُفله، ثم يفيض عليه الماء.
وسن تثليث، وتيامن، وإمرار يده كل مرة على بطنه، فإن لم ينق زاد حتى ينقى.
وكره اقتصار على مرة، وماء حار وخلال وأشنان بلا حاجة، وتسريح شعره.
وسن كافور وسدر في الأخيرة، وخضاب شعر، وقص شارب، وتقليم أظفار إن طالا، وتنشيف.
ويجنب محرم مات ما يجنب في حياته.
وسقط لأربعة أشهر كمولود حياً، وإذا تعذر غسل ميت يمم.
وسن تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض بعد تبخيرها، ويجعل الحنوط فيما بينها، ومنه بقطن بين إلييه، والباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ثم يرد طرف العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم الأيمن على الأيسر، ثم الثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه.
وسن لامرأة خمسة أثواب: إزار وخمار وقميص ولفافتان، ولصغيرة: قميص ولفافتان، والواجب ثوب يستر جميع الميت.
فصل: وتسقط الصلاة عليه بمكلف، وتسن جماعة، وقيام إمام ومنفرد عند صدر رجل ووسط امرأة، ثم يكبر أربعاً، يقرأ بعد الأولى والتعوذ الفاتحة بلا استفتاح، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية كفي تشهد، ويدعو بعد الثالثة، والأفضل بشيء مما ورد، ومنه: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار، وافسح له في قبره، ونور له فيه) .
وإن كان صغيرًا أو مجنونًا قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه، وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم، ويقف بعد الرابعة قليلاً، ويسلم ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
وسن تربيعٌ في حملها، وإسراعٌ، وكون ماشٍ أمامها، وراكبٍ لحاجةٍ خلفها، وقرب منها، وكون قبرٍ لحداً، وقول مدخل: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله) ، ولحده على شقه الأيمن، ويجب استقباله القبلة، وكره بلا حاجة جلوس تابعها قبل وضعها، وتجصيص قبر، وبناءٌ وكتابةٌ، ومشيٌ وجلوسٌ عليه، وإدخاله شيئاً مسته النار، وتبسمٌ وحديثٌ بأمر الدنيا عنده.
وحرم دفن اثنين فأكثر في قبرٍ إلا لضرورةٍ، وأي قربةٍ فعلت وجعل ثوابها لمسلمٍ حي أو ميتٍ نفعه.
وسن لرجال زيارة قبر مسلم، والقراءة عنده، وما يخفف عنه، ولو بجعل جريدة رطبة في القبر، وقول زائر ومار به: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) .
وتعزية المصاب بالميت سنة، ويجوز البكاء عليه، وحرم ندب ونياحة، وشق ثوب ولطم خد ونحوه] .
ألحقوا كتاب الجنائز بالصلاة؛ لأن أهم ما يعمل مع الميت الصلاة عليه، واسمها صلاة ولو لم يكن فيها ركوع وسجود؛ لأن فيها قياماً، وقراءة، وتكبيرات، وتحريماً، وتسليماً، فأشبهت الصلاة، ولأنه يشترط لها الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، ونحو ذلك، فأصبحت من جنس الصلاة.
ولما كان كذلك ذكروا كتاب الجنائز بعد كتاب الصلاة، وذكروا ما يتعلق بالجنائز، وإن لم يكن من جنس الصلاة.(11/2)
أيهما أفضل: التداوي أم تركه؟
هل ترك التداوي أفضل أم فعله؟ يقولون: من كان قوي القلب، وقوي الصبر، ويأمن ألا يضجر ولا يشتكي ولا يتضجر ولا يتأوه، بل يثق في نفسه بأنه يرضى بقضاء الله وبقدره؛ فإن ترك الدواء توكلاً على الله تعالى أفضل في حقه، كما في حديث السبعين ألفاً: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) ومع ذلك فإن الدواء جائز، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله! ولا تتداووا بحرام) ، وقوله: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله) ، وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، وكية نار، وشربة عسل) يعني: أن هذه أقرب لحصول الشفاء، ولا ينفي حصول الشفاء في غيرها، فهذا دليل على إباحة التداوي، وإذا أراد الإنسان التداوي فإنه مع ذلك يتوكل على الله، ويعتقد أن ربه سبحانه هو الذي أنزل الداء، وهو الذي أنزل الدواء، وهو الذي أمر بالعلاج وأباحه، كما أمر بالغذاء والأكل والشرب لدفع ألم الجوع والعطش وما أشبه ذلك، فعلى هذا يكون الدواء مباحاً، ولا ينافي التوكل إذا علم أن الله تعالى مسبب الأسباب.(11/3)
من السنة الاستعداد للموت بالأعمال الصالحة
يقول المؤلف رحمه الله: (يسن الاستعداد للموت) الاستعداد له هو بعمل الصالحات، وكان كثير من السلف يعملون من الأعمال الصالحة ما لا مزيد عليه؛ حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت الليلة أو غداً لم يكن هناك ما يزيد في عمله؛ لأنه عامل بكل ما يستطيعه وما يقدر عليه، فالاستعداد له هو أن يعمل الأعمال الصالحة، ويترك السيئات، ويتوب دائماً، ويجدد التوبة في كل صباح وفي كل مساء حتى إذا جاءه الموت يكون مستعداً، ولا يقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10-11] .
ويسن الإكثار من ذكره، ففي حديث صحيح عند الترمذي وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) هكذا ضبطوه بالذال، يعني: مكدرها، أي: أنه ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله، فإذا أكثر من ذكره فإن ذكره يزهده في الدنيا وما عليها، ويرغبه بالقناعة، ويقنعه بما أعطاه الله ولو كان قليلاً، وكذلك إذا كان ذا ثروة وذا أموال ونحوها، ثم تذكر الموت علم أنه ذاهب وتارك هذه الدنيا كلها، وأنه ليس له إلا ما قدم، فيحرص على أن يقدم الخير.(11/4)
استحباب عيادة المسلم غير المبتدع
تسن عيادة المسلم غير المبتدع، والعيادة: هي زيارة المريض في حال مرضه؛ لأنه محبوس قد حبسه المرض، فهو يحب من إخوانه وأصدقائه أن يعودوه، فإذا عادوه دعوا له، وذكروه، وحثوه على الصبر، وحثوه على التوبة، وحثوه على كتابة وصيته وما عنده، ونفسوا له في أجله، فيقولون له: أبشر بالعافية وبالشفاء، فإن فرج الله قريب، فإن الله تعالى يثيبك على صبرك، وإن المؤمن مبتلى، وإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فزيارته في حال مرضه وحال احتباسه فيها أجر كبير، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الآداب.
ولا يسن زيارة المبتدع وصاحب البدعة، سواء كانت بدعته بدعة اعتقادية كالمعتزلي والرافضي والقبوري والمتصوف الغالي في التصوف ونحوهم، أو بدعة عملية كالذين يبتدعون أعمالاً زائدة على الشرع مثل بدعة المولد، وبدعة الرغائب، وما أشبهها، وأشدها ما يكون من الشرك كبدعة المشركين الذين يغلون في الأموات ويدعونهم من دون الله، فلا يجوز عيادتهم.
وإذا زاره ونفس له في الأجل، فإن ذلك لا يرد قدراً، ولا يغير شيئاً، فيقول له: سوف تشفى إن شاء الله، ومثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد لما زاره: (لعلك أن تشفى حتى ينفع الله بك قوماً ويضر بك آخرين) .
ويستحب تذكيره بالتوبة، فعلى الإنسان أن يجددها في كل صباح ومساء؛ لأن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.(11/5)
ما يستحب فعله عند المحتضر
يجب على الإنسان -إذا كان عنده شيء- أن يبادر بكتابة الوصية، وليست كتابة الوصية مقربة للأجل أو مبعدة له، فيبادر بكتابة وصيته ولو كان صحيحاً قوياً، وفيها أحاديث.
قال رحمه الله: (فإذا نزل به سُن تعهد بلِّ حلقه بماء أو شراب، وتندية شفتيه) وذلك ليسهل عليه الكلام، ويسهل عليه أن ينطق بالشهادة، ويسهل عليه أن يتكلم بما يريد أن يوصي به.
قال رحمه الله: (وتلقينه لا إله إلا الله مرة، ولا يزاد على ثلاث، إلا أن يتكلم فيعاد تلقينه برفق) ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) والمراد: المحتضر الذي حضره الأجل، يلقن برفق حتى لا يضجر، ويكررها؛ لأنه عند النزع في حالة شدة، وفي حالة ألم شديد؛ فلا يشدد عليه، وإنما يلقن برفق، فيقال: قل: لا إله إلا الله، أو يذكر عنده كلمة لا إله إلا الله، ولا يكرر عليه أكثر من ثلاث، فإن تكلم بعدها يعاد تلقينه برفق، ولا يكلف الشيء الذي لا يستطيعه.
قوله: (وقراءة الفاتحة ويس عنده) أما سورة يس فقد ورد فيها حديث مذكور في السنن: (اقرءوا على موتاكم يس) ، واستحب بعضهم قراءة الفاتحة، ذكر ذلك في سبل السلام، واستحب بعضهم قراءة سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، واستحب بعضهم قراءة البقرة، ولكن لعل هذه وقائع دون أن يكون فيها نص، وكأنه وقع أن بعض الصحابة أو بعض العلماء قال: اقرءوا عليه سورة البقرة، وآخر قال: اقرءوا الفاتحة، وآخر قال: اقرءوا الملك، ولكن النص ما ورد إلا في سورة يس، ولعل السر في اختيار يس ما فيها من البشارة مثل قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] ، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] ، فإن في هذا ما يقوي قلبه.(11/6)
ما يستحب فعله بالميت بعد خروج روحه
يستحب توجيه المحتضر إلى القبلة، بأن يجعل على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، فإن شق عليه ذلك فإنه يستلقي على ظهره، ويرفع رأسه حتى يكون وجهه إلى القبلة، وتكون رجله إلى جهة القبلة، لتكون القبلة مقابل وجهه، واختلف في حكم ذلك، فأنكره بعضهم كـ سعيد بن المسيب، واستحبه بعضهم كـ حذيفة حيث قال: وجهوني، واستدلوا بحديث: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) ، فهو مستحب.
قوله: (وإذا مات يسن تغميض عينيه، وشد لحييه، وتليين مفاصله، وخلع ثيابه، وستره بثوب، ووضع حديدة أو نحوها على بطنه، وجعله على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه) تغميض عينيه ورد فيه قوله عليه السلام: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) فيسن إذا رأوا أنه قد نزل به أن يغمضوا عينيه؛ وذلك لأنه إذا مات وهي مفتوحة بقيت مفتوحة دائماً، وفيه شيء من التشويه لمظهره وصورته، فيغمضه الذين يحضرونه.
وأما شد لحييه فلمخافة أن يبقى فمه مفتوحاً حالة غسله، وحالة تجهيزه، فيشد حتى ينطبق فمه مع أسنانه.
وأما تليين مفاصله فالحكمة في ذلك أن تلين عند الغسل، وذلك بأن يمد يده ثم يثنيها، ويمد منكبه ثم يثنيه، وهكذا يفعل بيده الأخرى، وكذلك يفعل برجليه، فيقبض رجله ليثنيها ثم يمدها مرتين أو ثلاثاً حتى تلين عند الغسل.
قوله: (وخلع ثيابه) يعني: الثياب التي مات فيها يسن أن تخلع ساعة موته، ويستر برداء أو نحوه، ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم لما مات ستروه بثوب حبرة.
وأما وضع الحديدة أو شيء ثقيل على بطنه؛ لأنه عادة يربو وينتفخ، فتوضع هذه حتى لا ينتفخ بعد موته، فتضغط عليه هذه الحديدة أو الخشبة أو نحو ذلك، وبعضهم يجعل عليه مصحفاً، ولا أصل لذلك، حتى ولو قالوا: إن فيه البركة ونحو ذلك فالأولى أن يتبع الدليل، ولا دليل على استحباب جعل المصحف على بطنه.
قوله: (ووضعه على سرير غسله) يعني: يبادر إلى وضعه على سرير غسله إذا تيسر ذلك بعد موته مباشرة متوجهاً يعني: موجهاً وجهه إلى القبلة، منحدراً نحو رجليه، يعني: ترفع جهة رأسه، وتخفض جهة رجليه حتى إذا خرج منه شيء ينحدر، ولا يلوث بقية بدنه.(11/7)
استحباب الإسراع في تجهيز الميت وتنفيذ وصيته وقضاء دينه
يسن الإسراع في تجهيز الميت، وقد ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) يعني: أن إبقاءه عندهم بدون تجهيز وهو ميت لا فائدة فيه، فليس له إلا أن يجهز ويدفن قبل أن يتغير وينتن، فإنه عادة يسرع إليه التغير، فيبادرون بتجهيزه، ويستثنى من ذلك إذا مات فجأة؛ مخافة أنها غشية غلبت عليه وأنه سوف يصحو ويفيق، أما إذا تحقق أنه مات وخرجت روحه فالإسراع في تجهيزه أولى.
وكذلك الإسراع في تفريق وصيته وقضاء دينه، وهذا يتعلق بأوليائه، فإذا أوصى فيجب أن تنفذ وصيته، سواء كانت وصية مالية في ماله، أو وصية بإبلاغ شيء أو نحوه، وكذلك الإسراع في إبراء ذمته من الدين، وقد ورد في ذلك حديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) فيسارعون في قضاء دينه حتى يرتاح من ذلك، وقد ورد في حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم أُتي برجل فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فقال: صلوا عليه، فقال أبو قتادة: هما علي، فسأله بعد ذلك: هل قضيتهما؟ قال: نعم، قال: الآن بردت عليه جلدته) فيسارعون بقضاء دينه بقدر الاستطاعة، فإذا كان عليه دين وهم عاجزون فإنهم معذورون.(11/8)
تجهيز الميت من فروض الكفاية
وتجهيز الميت من فروض الكفاية، وتغسيله يلزم من علم بحاله، وهو من فروض الكفاية، وكذلك تكفينه وحمله والصلاة عليه ودفنه، كل هذه من فروض الكفاية، فلو تركوه وهم عالمون بذلك أثموا؛ بسبب أنهم فرطوا في شيء واجب عليهم جميعاً، فيأثم كل من علم أنه دفن بلا غسل، أو نحو ذلك.
والجاهلون عليهم أن يتعلموا، وفي كثير من البوادي يجهلون الحكم، فإذا ما مات الميت حفروا له حفرة كأنه جيفة حيوان ودفنوه فيها، بدون تغسيل، وبدون تكفين، وبدون صلاة عليه، ولا شك أن هذا حرام على من يعلم الحكم، وأن عليهم أن يتعلموا.(11/9)
كيفية غسل الميت
صفة تغسيل الميت أن تنزع ثيابه المعتادة، وأن يستر بثوب، فإذا بدءوا بتغسيله وضعوا على عورته سترة تستر ما بين السرة إلى الركبة، ووضعوه على سرير، وبدءوا بالتغسيل.
وكذلك يستر عن العيون، بأن يستر في داخل غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ، ولا يراه أحد إلا الذين يتولون تغسيله، ولا يجوز أن يغسل أمام الناس، ويتأكد أن يكون تحت سقف، وإذا لم يجدوا مكاناً مسقوفاً غسلوه في مكان مكشوف السقف، ولكن الأولى أن يكون في محل مستور.
ويكره أن يحضره إلا أهل التجهيز: الذي يدلك، والذي يصب عليه الماء، والذي يعلمهم بأن يقول: افعلوا كذا وكذا، يعني: الذين يقومون بتجهيزه هم الذين يحضرونه، ولا يجوز أن يحضره غيرهم لعدم الحاجة إلى ذلك.
ولابد من النية، فينوي تغسله الذي يتولاه.
ثم يسمي فيقول: باسم الله؛ وذلك لأنه ينوي رفع حدث عنه، والنية والتسمية مثل النية والتسمية في غسل الحيض، وقد عرفنا أن التسمية فيها خلاف، والمشهور أنها واجبة، وأن النية شرط، يعني: في غسل الحيض.
وبعد أن ينوي المغسِّل يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، فيعصر بطنه برفق؛ ليخرج ما كان متهيئاً للخروج، فقد يكون في بطنه شيء، فإذا عصر بطنه برفق خرج، ولكن لا يعصره عصراً شديداً مخافة أن تخرج أمعاؤه، بل يعصر برفق، ويكثر من صب الماء حينئذٍ مخافة أن يخرج منه شيء له رائحة، فإذا أكثر من صب الماء فإنه يحمل الخارج بسرعة.
ويستثنى من ذلك الحامل، فلا يرفع رأسها، ولا يعصر بطنها؛ لأن ذلك قد يسبب خروج الحمل أو انشقاق البطن أو نحو ذلك.
وبعد أن يبدأ في تغسيله يلف على يده خرقة أو ليفة ينجيه بها، ويغسل بذلك فرجيه، فيدخل يده من تحت الستارة فيغسل قبله ودبره وما حول ذلك إلى تحت السترة، ويصب الماء على السترة ولا يكشفها، ولا يحل له أن ينظر إلى عورة مكلف، وهو من بلغ عشر سنين أو فوقها، فلا تكشف عورته، وإنما يدخل يده تحت السترة، ويصب الماء ويدلكه وعلى يده هذه اللفافة من خرقة أو نحوها.
قوله: (ويحرم مس عورة من له سبع سنين) يعني: من تمت له سبع سنين يحرم مس عورته وهما الفرجان.
وأيضاً ينظف فمه ومنخريه، ولا يدخلهما الماء، فلا يدخل الماء في فمه ليمضمضه مخافة أن يدخل الماء إلى جوفه فيحرك النجاسة، وكذلك في أنفه، وإنما يلف على إصبعيه خرقة، فيبل الخرقة فينظف بها فمه وأسنانه ومنخريه، ولا يدخلها الماء.
ثم يبدأ بأعضاء الوضوء، وينوي وضوءه، فيغسل وجهه كما يغسل وجه المتوضئ، ثم يغسل ذراعيه، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه، كأنه وضوء حي، هذا أول ما يبدأ به أن يوضئه.
ثم بعد أن يوضئه يبدأ بغسل رأسه فيدلك رأسه، والرأس عادة فيه الشعر، والشعر يحتاج إلى دلك، وغالباً ما يكون فيه وسخ، فلأجل ذلك قالوا: يغسله بورق السدر، فيجعلون السدر في طست أو في إناء كبير، ثم يخضخضونه إلى أن يكون له رغوة، فيأخذون هذه الرغوة فيغسلون بها الشعر، ويدلكون الشعر، ولا يأخذون بثفل السدر؛ لأنه قد يدخل بين الشعر، فيكتفون بغسله بالرغوة، وكذلك اللحية يغسلها برغوة السدر حتى لا تدخل فيها حبات من حثالة ورق السدر.
والسدر معروف، فإذا يبس يسحق جيداً حتى يكون ناعماً كالدقيق، فيقوم مقام الصابون، يعني: تغسل به الأواني، وينظف به الجلد، وينظف به الثياب، فهو يقوم مقام الصابون، وهو من جملة المنظفات، فيستعمل في غسل الميت، كما أنهم كانوا يستعملونه لغسل الحي؛ لحديث أم سلمة لما كانت حادّة على زوجها فكانت تغسل رأسها بشيء من المزيل، فأمرها أن تغسل رأسها بالسدر بدلاً من الأشنان، وذكر أن الأشنان يشب الوجه، فقال: (اغسليه بالسدر) يعني: رأسها عندما تحتاج إلى اغتسال من حيض أو نحوه.
فيغسل رأسه ولحيته برغوة السدر، ويغسل بدنه بثفل السدر، يعني: بحثالته وبقية الماء الذي اختلط به، والعادة أن الماء يكتسب قوة من هذا السدر، فتكون فيه قوة تنظيف، يعني: قد يؤخذ ملئ الكأس من السدر، فيصب في طست يسع عشرين لتراً أو نحوه، ويكفيه هذا المقدار، فيغسل به الرأس والبدن.
قوله: (ويسن التثليث) بأن يغسله ثلاثاً (والتيامن) بأن يبدأ بشقه الأيمن، فيبدأ من رأسه، فيغسل شقه الأيمن الذي هو عنقه ويده اليمنى وجنبه الأيمن الذي أمام والذي خلف وفخذه إلى قدمه، ثم بعد ذلك يقلبه ويغسل جنبه الأيسر، يعني: يصب الماء ويدلكه، ويلف على يده خرقة أو ليفة يدلك بها جسده أو نحوها حتى لا يمس بشرته بيده، بل بواسطة هذه اللفافة ونحوها، فإذا غسله ثلاثاً اكتفي بذلك، وتجزئ واحدة منظفة.
قوله: (ويمر يده في كل مرة على بطنه) يعني: يعصر بطنه عصراً خفيفاً حتى يخرج منه ما هو مستعد للخروج من النجاسات ونحوها، فإذا كان عليه وسخ شديد واحتيج إلى تكرار الغسل فيزاد على الثلاث، ولكن يسن أن تكون وتراً؛ لحديث أم عطية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمسا ً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدرٍ، واجعلن في الغسلة الآخرة كافوراً) فالقطع على وتر أفضل، فإذا احتاجوا إلى الغسلة الرابعة أضافوا إليها خامسة، فإن احتاجوا إلى ست أضافوا إليها سابعة، وفي كل غسلة يبدءون من أعلاه، يصبون عليه الماء ويدلكونه إلى رجليه.
ويكره أن يقتصر على غسلة واحدة مع إجزائها، فالغسلة الواحدة مجزئة، ولكن الأفضل ألا يقصر عن ثلاث.
ويستعمل الماء الحار والأشنان عند الحاجة إليه، والماء الحار قد يكون أقوى في التنظيف، فإذا احتيج إليه استعمل، وإن لم يحتج إليه فلا يستعمل، لماذا؟ لأنه يرخي الأعضاء، فلا يحتاج إليه سيما إذا كان شديداً إلا عند الحاجة إلى التنظيف به.
والخلال هو: تخليل الأسنان بعود أو نحوه إذا احتيج إلى ذلك وإلا فلا، والأشنان هو: ورق من شجر الوادي شبيه بالحمض، يؤخذ زهره ثم يجفف وييبس، ثم يسحق ويقوم مقام الصابون، وله قوة في التنظيف فيستعمل، فإذا لم تكن هناك حاجة فلا يستعمل، ويكتفى بالسدر.
وإذا كان على المرأة شعر طويل فإنه يسرح بمشط أو نحوه، كما ذكرت أم عطية أنهم جعلوا قرون رأسها ثلاثة قرون، والقرن هو الظفيرة، فجعلوه ثلاث ظفائر، وألقوها خلفها، وإذا كان على الرجل شعر طويل فإنه يسرح بالمشط ونحوه حتى ينظف.
وذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أم عطية: (واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً) والكافور معروف، يوجد عن العطارين ونحوهم، وهو شيء أبيض يسحق ثم يخلط بالماء في الغسلة الأخيرة، وفائدته: أنه يصلب الأعضاء، ويصلب البشرة، ومعلوم أنه بعد السدر يحتاج إلى غسلة أخرى حتى ينظف أثره ولزوجته.
وذكر المؤلف خضاب الشعر، والصحيح أنه لا حاجة إليه؛ لأنه يفعل في الدنيا، فالمرأة تخضب شعرها بالحناء أو نحوه للجمال، فأما بعد الموت فلا حاجة إلى تخضيبه.
وإذا كان شارب الرجل طويلاً أو أظفاره فإنه يقص الشارب وتقلم الأظفار؛ لأنه من تمام الجمال.
وأيضاً بعدما يغسل ينشف بثوب أو نحوه، إلا إذا كان محرماً فيجنب المحرم ما يجنب في حياته، بمعنى أنه لا يطيب، ولا يغطى رأسه في حال موته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فيجنب المحرم ما يجتنب في حياته.(11/10)
حكم السقط
السقط الذي عمره دون أربعة أشهر: الصحيح أنه لا يكفن، وإنما يلف ويدفن في مكان طاهر، وليس له حكم الإنسان، فإذا تمت له أربعة أشهر فإنه يعامل كالحي، فيغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدعى لوالديه كما لو ولد حياً، فأما ما دون الأربعة الأشهر فإنه لا حكم له.
وقد ورد في الحديث أنه عليه السلام قال: (سموا أسقاطكم فإنهم شفعاؤكم) يعني: السقط الذي تم أربعة أشهر يسمى، ويعمل معه كما يعمل مع المولود حياً.(11/11)
إذا تعذر غسل الميت يمم
قوله: (وإذا تعذر غسل ميت يمم) وذلك لأجل المشقة، فيضرب أحدهم يديه بالتراب، ويمسح وجهه، ويمسح كفيه، ويقوم مقام الغسل، ويمثلون لذلك بالمحترق الذي إذا غسل تمزق لحمه، فلا يستطيعون أن يغسلوه، وكذلك من كان في بدنه جروح كثيرة، وجلدته بشعة، بحيث إنه إذا صب عليه الماء تمزق جلده، وتمزق لحمه؛ فلا يغسل والحالة هذه، وهكذا أيضاً ما يحصل في حوادث السيارات، فإن كثيراً منهم بعد الحادث يكون قد تمزق أشلاء، وتقطعت أعضاؤه؛ فلا يستطيعون أن يغسلوه، فيغسلون ما يقدرون عليه من ذلك، ويلفون بعضه إلى بعض.(11/12)
كيفية تحنيط الميت وتكفينه
قوله: (يسن تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض) ، ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كفن رسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة) ثلاث لفائف أي: خرق، كل خرقة فيً طول الميت وزيادة فوق رأسه، وخلف رجليه، هذه الثلاث اللفائف يوضع بعضها فوق بعض، توضع كل لفافة فوق الأخرى، وتبخر، يعني: بالطيب، ويجعل بينها حنوط، والحنوط هو عبارة عن أخلاط من الطيب من المسك ومن الريحان ومن أنواع الطيب، تخلط جميعاً، ثم تذر فوق اللفافة الأولى، وفوق الثانية، وفوق الثالثة، ثم يجعل الميت فوقه.
قلنا: إن الحنوط مجموعة من الأطياب من مسك ومن ورد ومن ريحان وأنواع من الطيب، تجمع وتسحق، ثم توضع في قارورة أو نحوها، وعندما يراد تكفين الميت بعد ما يتم تغسيله، يجعل الحنوط على اللفائف، فيذر على اللفافة الأولى، ثم توضع عليها اللفافة الثانية ويذر فوقها، ثم اللفافة الثالثة.
ويؤخذ من هذا الحنوط في قطن، ويجعل بين إليتيه، ثم يمسك على إليتيه وعلى عورته بأن تشد بخرقة على هيئة التبان مشقوقة الطرف، طولها متر، وعرضها نصف متر، تجمع إليتيه ومثانته، فتجعل تحت إليتيه، ثم تخرج بين فخذيه وتمسك عورته، ثم بعد ذلك تشق نصفين، ثم تدخل تحت جنبيه حتى تعقد خلفه وتمسك الحنوط، وتكون كهيئة التبان هكذا ذكروا.
ويوضع الباقي من الحنوط على منافذ وجهه، فيجعل على عينيه، وعلى منخريه، وعلى أذنيه، وعلى حلقه، وإبطيه، وبطون ركبتيه، وبطون ذراعيه، وعلى مواضع سجوده كركبتيه وذراعيه ونحو ذلك من مواضع السجود.
وعندما يوضع على السرير فوق الكفن يؤخذ طرف اللفافة فيرد من جهة ثم الطرف الثاني يرد فوقه، ثم هكذا الثانية والثالثة، ثم بعد ذلك يعقد بخرق من تحتها، فتجعل خمس خرق تمسكه أو سبع خرق، واحدة فوق الرأس، وواحدة خلف الرجلين، وواحدة فوق الرقبة، وواحدة فوق الصدر، وواحدة فوق المثانة، وواحدة على الفخذين، وواحدة على الساقين وإن احتيج إلى أكثر فلا بأس، ويجعل أكثر الفاضل على رأسه، وذلك إذا كان الكفن طويلاً.
والمرأة تكفن في خمسة أثواب: إزار وخمار وقميص ولفافتين، والإزار: هو ما يستر به العورة، يعني: من السرة إلى الركبة خرقة تسترها، وتعقد على العورة، والخمار يلف على الرأس وعلى الوجه، والقميص: عبارة عن ثوب أو خرقة في طول الميت مرتين أو نحوها، فيشق في نصفها مدخل للرأس، فيدخل الرأس مع هذا الشق، فيجعل نصفها فراشاً ونصفها لحافاً، واللفافتان: مثل لفافة الرجل ترد إحداهما من الطرف الأيمن والثانية من الطرف الأيسر، ثم الثانية كذلك.
والميت يوضع على السرير بعد ما توضع عليه هذه اللفائف.
والصغيرة يكفي فيها قميص ولفافاتان.
والمجزئ الواجب ثوب واحد يستر جميع الميت من أعلاه إلى أسلفه، وإنما اختاروا خمسة أثواب للمرأة، وثلاث لفائف للرجل؛ لأنه هو الأفضل، وإلا فالأصل أن الواحدة تكفي.(11/13)
الصلاة على الميت حكمها وكيفيتها
الصلاة على الميت تسقط بواحد مكلف، فإذا صلى عليه رجل واحد بالغ عاقل مكلف فإنها تسقط عنهم، وإذا ترك ولم يصل عليه أحد فإنهم يأثمون، وتسن جماعة، ويسن كثرة الجماعة؛ وذلك لأن كل واحد منهم يدعو له، وقد ورد حديث: (ما من مسلم يصلي عليه مائة رجل لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه) ، وفي حديث آخر: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون رجلاً يسألون الله له المغفرة إلا غفر له) أو نحو ذلك، فكثرتهم أولى، وقد ورد في فضل الصلاة عليه أجر كبير، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) يعني: من الأجر، كأنه حصل له هذا الأجر الكبير بصلاته على أخيه المسلم، ولا شك أن في هذا تأكيد الصلاة على الميت، وقد ورد أيضاً أن من حق المسلم على المسلم تشييعه واتباع جنازته إذا مات.
وكانت الصلاة على الأموات في العهد النبوي في البقيع، فإذا أرادوا أن يصلوا عليه حملوه إلى البقيع، ثم صلوا عليه، ثم حملوه إلى قبره، وما كانوا يصلون على الجنائز في المساجد إلا قليلاً، ذكرت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ابني بيضاء في المسجد، وكذلك أيضاً ذكرت أنه صلي على أبي بكر في المسجد، وكذلك أمرت بالصلاة على عبد الرحمن بن عوف في المسجد؛ فدل على أنه يجوز.
والصلاة في المسجد في هذه الأزمنة أولى؛ وذلك لأن المساجد تجمع جماعات كثيرة، ولو لم يصل عليه إلا الذين يشيعونه لكانوا قليلاً، فلأجل ذلك يتأكد أن ينظر المسجد الذي أهله وجماعته كثير، فيصلى عليه فيه حتى يكون ذلك أقرب إلى شفاعتهم له لكثرتهم.
ولا بأس أيضاً بإعلان الصلاة عليه إذا كان له أحباب يحبون أن يصلوا عليه، فيجوز الإعلان عليه في صحيفة أو في إذاعة أو نحو ذلك، ويحدد وقت الصلاة عليه، وكذلك يجوز إخبار بعضهم بعضاً: إن فلاناً توفي، وسوف يصلى عليه في المسجد الفلاني؛ لأنهم غالباً يودون أن يشتركوا في الصلاة عليه والدعاء له، فلا بأس بالإخبار حتى يكثر المصلون عليه.(11/14)
شرح أخصر المختصرات [12]
من محاسن هذه الشريعة ورحمتها بالمكلفين: أن شرعت الصلاة على الموتى المسلمين، والدعاء لهم، وإكرامهم بالدفن، وتشرع زيارة القبور للرجال خاصة، ويشرع إهداء الأعمال الصالحة للموتى على خلاف بين العلماء في ذلك.(12/1)
كيفية صلاة الجنازة
قال المصنف رحمه الله: [فصل: وتسقط الصلاة عليه بمكلف، وتسن جماعة، وقيام إمام ومنفرد عند صدر رجل ووسط امرأة] .
الصلاة على الميت فرض كفاية، وورد فيها الأمر بقوله: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله) يعني: على كل مسلم، ولكن لا يصلى على المبتدع المعلن بدعته، ولا على من وقع في الشرك كالقبوريين ونحوهم، الذين يجادلون عن شركهم وعبادتهم للأموات ونحوهم، والمبتدعة تترك الصلاة عليهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم هم بترك الصلاة على من عليه دين، فكذلك من يعلن بدعته ويدعو إليها، وإذا علمت الميت تاركاً للصلاة وتحققت من ذلك، فلا تصلي عليه، وإذا علمت أنه مبتدع قبوري أو رافضي أو معتزلي يعني: من غلاة الجهمية ونحوهم فلا تصل عليه، وانصح إخوتك الذين يحبون الخير ألا يصلوا عليه، ولا تدع لمن هو من دعاة الضلال.
وأما من ظاهره الخير، ولو كان عنده شيء من المعاصي، فإنه أولى أن يصلى عليه، وذهب بعض العلماء إلى الصلاة على تارك الصلاة تكاسلاً، وهو غير جاحد، أو كان يصلي أحياناً أو يصلي الجمعة، قالوا: هذا أولى أن يصلى عليه؛ ويترحم عليه؛ وذلك لأنه مات وهو مسلم، لكن نقول: لا يصلى عليه من باب الزجر.
وموقف الإمام من الميت -إذا كان الذي يصلي عليه فرداً واحداً- أن يقف عند صدر الرجل، وقيل: عند رأسه، والرأس والصدر متقاربان، فيكون وقوفه عند الصدر، وقد يستر الرقبة والرأس وذلك ليدعو له فإنه أولى بأن يوقف عند ذلك، أما المرأة فإنه يقف عند وسطها، أي: عند عورتها، هكذا ورد في الحديث.(12/2)
عدد تكبيرات صلاة الجنازة
التكبيرات في صلاة الجنائز أربع تكبيرات، لكن يجوز عند المناسبة الزيادة عليها، فقد روي أن التكبير خمس، وروي ست، وأكثر ما روي سبع، فقد ثبت في صحيح البخاري أن علياً رضي الله عنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: (إنه بدري) أي: أن له ميزة، وله فضيلة، لكونه من أهل بدر يعني: ممن حضر غزوة بدر، ولذلك رأى العلماء أن صاحب الفضل يجوز أن يكبر عليه خمس تكبيرات أو ست تكبيرات أو سبع تكبيرات، ولكن المتقرر والمعتاد والأكثر أربع تكبيرات.(12/3)
القراءة والدعاء في صلاة الجنازة
بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة بلا استفتاح، وإنما يستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، واختلفوا هل يزيد عليها؟ روي في بعض الأحاديث أنه قرأ الفاتحة وسورة، وأنكر بعضهم ذكر السورة، فقد رواه البيهقي وقال: ذكر السورة ليس بمحفوظ، وناقشه بعض المتأخرين، وذكروا أنه محفوظ، وأنه مروي من طرق ثابتة، وبكل حال لم تذكر السورة في الروايات الصحيحة، فإن زادها فلا بأس.
وبعد التكبيرة الثانية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة في التشهد: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم، وإن شاء قال: على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبعد التكبيرة الثالثة الدعاء للميت، ويسن أن يدعو بما ورد، وذكر المؤلف هذا الدعاء؛ لأنه مأثور ووارد، فيدعو بالدعاء العام والدعاء الخاص، أما الدعاء العام فقوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا) إلخ، والدعاء الخاص مثل قوله: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه) إلخ كما في حديث مالك بن عوف، والأدعية المأثورة الصحيحة مشتهرة، ويجوز الدعاء بغير ما ورد، فقد روى أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) يعني: ادعوا له بدعاء كثير خالص؛ ليكون ذلك أقرب إلى الإجابة فإنه قد انقطع عمله فيحب أن يزوده إخوته بهذه الأدعية الواردة وما يلحق بها.
وروي أيضاً الحديث الذي فيه: (اللهم أنت ربه، وأنت خلقته، وأنت قبضت روحه، وأنت أعلم بسره وعلانيته، جئنا شفعاء إليك فاغفر له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، اللهم إنه عبدك وابن عبدك، نزل بجوارك وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيراً، اللهم إنك غني عن عبادته، وهو فقير إلى رحمتك ومغفرتك) أو ما أشبه ذلك، وليس هناك تحديد لعموم هذا الحديث: (أخلصوا له الدعاء) ، فيكثر من الدعاء بما تيسر.
والدعاء للصغير وغير المكلف قد وردت فيه أحاديث منها: (اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً، وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم) الفرط في قوله: (وفرطاً) هو الذي يتقدم الوراد، فالقوم إذا وردوا على الماء أرسلوا واحداً يهيء لهم المورد، ويسمونه: فرطاً، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) وسمي الطفل فرطاً؛ لأنه يتقدم أبويه ليهيئ لهما المدخل، يعني: دخول الجنة؛ ولذلك سمي فرطاً، والذخر: هو الشيء الذي يدخر للآخرة ونحوها، والشفيع: الذي يشفع في أبويه.
وقوله: (ثقفل به موازينهما) ورد في حديث أن رجلاً خف ميزانه، فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه.
والدعاء بكونه في كفالة إبراهيم لحديث سمرة الذي في صحيح البخاري في الرؤيا أنه قال: (ورأيت إبراهيم عليه السلام وإذا عنده خلق كثير من أولاد المسلمين بكفالته) يعني: أطفال المسلمين.
ثم يكبر الرابعة، وهل يدعو بعدها أم لا؟ ذكر بعضهم أنه يدعو بعدها، وورد في بعض الأحاديث أنه وقف وأطال حتى ظنوا أنه يكبر خامسة، ولا شك أن وقوفه لابد أن يكون فيه دعاء، وقد ذكر النووي في رياض الصالحين أنه يستحب أن يقول بعد الرابعة: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله) .
ثم بعد ذلك يسلم، والصحيح أنها تكفي تسليمة واحدة، وإن سلم اثنتين فلا حرج، والمعتاد أن التسليمة الواحدة يحصل بها الخروج.
والتكبيرات في صلاة الجنازة مثل تكبيرات صلاة العيد، فيرفع يديه مع كل تكبيرة، وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة لصلاة الجنائز، ولا شك أن ذلك دليل على أنه من السنة.(12/4)
حمل الجنازة والإسراع بها
بعد ما يصلى على الجنازة يشرع حملها إلى القبر، وكانوا يحملونها على الأكتاف، ويجوز حملها على الدابة، وفي هذه الأزمنة يجوز أن تحمل على السيارة، وقد كانوا يستحبون أن يحملها أربعة، وكل واحد يحمل من الجهات الأربع حتى يكون قد حملها، فيحمل مع الجانب الأيمن المتقدم ويجعله على كتفه الأيسر، ثم يتأخر ويحمل الجانب الأيمن المؤخر فيجعله على كتفه الأيسر، ثم ينتقل فيحمل الجانب المقدم الأيسر ويحمله على كتفه الأيمن، ثم المؤخر الأيسر يحمله على كتفه الأيمن، ويكون كأنه حملها كلها، هذا معنى قوله: يسن التربيع في حملها.
وأما الإسراع فاستدلوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) وقد أخذ بعضهم بظاهر الحديث وقال: الإسراع هو شدة السير في حملها، فيسرعون في حملها جداً، ويسيرون سيراً سريعاً، حتى قالوا: إنه مر بجنازة وكأنها تنفض نفضاً، ولكن إذا كان فيه مشقة أو كان المكان بعيداً فإنهم لا يكلفون على أنفسهم، وإنما يسيرون سيراً هادئاً، ومعلوم أنهم بالسيارات لا يتمكنون من الإسراع إلا بالسير المعتاد؛ لشدة الزحام ولكثرة السيارات، فيسيرون السير الذي يمكنهم بحسب اتساع الطريق أو ضيقه.
القول الثاني: أن المراد به الإسراع في التجهيز، يعني: لا تحبسوها، كما ذكرنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) فيكون المراد أسرعوا بتجهيزها، ويكون قوله: (تضعونه عن رقابكم) أي: تتخلصون منه؛ لأنكم ملزمون به، وليس الكل يحملونها على رقابهم، بل يحملها عادة أربعة أو نحوهم.
ويسن كون الماشي أمامها والراكب خلفها، ويجوز الركوب لحاجة كما لو كان المكان بعيداً، وكانوا يحملونها على الرقاب، والأصل إباحة المشي خلفها وأمامها، والأكثر والمعتاد أنهم يمشون خلفها، وبذلك يفسر التبع في قوله: (ومن تبعها حتى تدفن) ، وهذا يدل على أنهم يتبعونها، وأنهم يكونون خلفها، أما في هذه الأزمنة ولوجود السيارات؛ فلا يتمكن من تحقيق التأخر، ولكن على حسب ما تيسر.
وكذلك القرب منها، يعني: كونه قريباً منها، وهذا يتيسر إذا كانت محمولة على الأعناق، وأما إذا كانت على السيارات ففي ذلك شيء من الصعوبة.(12/5)
اللحد والدفن وكيفيته
اللحد أفضل من الشق، وذلك أنهم إذا حفروا القبر، ووصلوا إلى منتهاه؛ لحدوا في الجانب الذي يلي القبلة، وحفروا في أحد جوانب القبر ما يكفي لإدخال الميت فيه، أما الشق فإنهم إذا وصلوا إلى قعره، شقوا في وسطه شقاً لقبر الميت، ثم صفوا عليه اللبن صفاً، وأما اللحد فإنهم ينصبون عليه اللبن نصباً، بحيث تكون كل لبنة معتمدة على قعر القبر وطرف اللحد، فيصف صفاً، وينصب نصباً لحديث سعد قال: إلحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) وفيه ضعف.
ويقول الذي ينزله: باسم الله، وعلى ملة رسول الله، يقول ذلك عندما يدليه، وكذلك عند الدفن يقولون: باسم الله، وعلى ملة رسول الله، وذلك إشارة إلى أنهم متبعون في ذلك للسنة.
فيوضع على شقه الأيمن في لحده، ووجهه إلى القبلة لحديث: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) يعني: الكعبة، فيجب أن يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن.
قوله: (ويكره جلوس تابعها بلا حاجة) أي: قبل وضعها، وقد كانوا يؤمرون أن يقوموا إذا رأوا الجنازة، فإذا مرت بهم جنازة قاموا وقوفاً، وقد مرت بهم جنازة وهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف، فقالوا: إنها جنازة يهودي، فقال: (أليست نفساً؟!) وفي حديث آخر قال: (إن للموت فزعاً) فكانوا يستحبون أن يقوموا، وهذا من باب الاستحباب، لا أنه من باب الوجوب.
ويكره جلوس تابعها قبل وضعها، وبعد الدفن يشرع أن يحثوا قِبَل رأسه ثلاث حثيات، يحثي على القبر ويقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله (ثلاثاً) ، إذا تيسر له ذلك.(12/6)
حرمة تجصيص القبور والبناء عليها
يكره -وقيل: يحرم- تجصيص القبور، والبناء عليها، والمشي والجلوس عليها، والصحيح أن هذا كله محرم، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها) ، والنهي في الأصل للتحريم، ولعل السبب في ذلك أنه إذا جصص أو بني ورفع كان ذلك سبباً للغلو فيه، فقد يعتقد العامة أنه ذو جاه، وأنه ذو مكانه؛ فيتبركون به ويدعونه فيقع الشرك، هذا هو السبب، وفي حديث علي: (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) يعني: سويته بسائر القبور، وأزلت ارتفاعه حتى يكون مثل سائر القبور، والقبر يرفع قدر شبر أو نحو ذلك؛ ليكون ذلك علامة على أنه قبر، فأما البناء عليه ورفعه فإن ذلك داخل في النهي.
وكتابة اسمه عليه على الحجر أو نحو ذلك لا يجوز، وإذا وجد فإنه يمحى.
والمشي على القبور، والوطء عليها تعمداً، والجلوس عليها؛ كل ذلك لا يجوز، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر) .
ولا يجوز إدخال القبر شيئاً مسته النار، وقد يتساهل بعضهم فيدخل فيه شيئاً من البلك، وهو مما مسته النار، بل يقتصر على اللبن، أو على الحجارة، أو على أعواد أو نحوها.
ويكره بتأكد أن يخوضوا في حديث الدنيا وهم عند القبر، وكذلك الضحك والتبسم؛ لأنهم في حالة يذكرون فيها الموت، ويجهزون فيها أخاً لهم ميتاً، فكونهم يخوضون في الدنيا ويتبسمون ويضحكون يدل على أنهم لم يستعدوا للموت، وأنه ليس للموت فزع عندهم.
ويحرم دفن اثنين أو أكثر في قبر واحد إلا لضرورة، كما حصل في قتلى أحد؛ لما كان بالمسلمين من الجراح، فكانوا يدفنون الاثنين في قبر، وذلك للضرورة، فإذا لم تكن هناك ضرورة فإن كل واحد يفرد في قبر وحده.(12/7)
إهداء الأعمال الصالحة للموتى وانتفاعهم بها
قوله: (أي قربة فعلت وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت نفعته) هذا هو القول الصحيح، أنه يجوز أن يهدى للميت من الأعمال فتنفعه، فإذا حججت ونويت حجك عنه أو عمرتك أو صدقتك أو دعاءك أو جهادك أو نحو ذلك فإن ذلك ينفعه، واختلفوا في القراءة وفي الصلاة، والأكثرون على أنه يجوز أن تهدي إليه صلاة أو قراءة، وتقول: إذا قرأت سورة أو ختمة: اللهم اجعل ثوابها لفلان سواء كان حياً أو ميتاً، ومنع ذلك كثيرون، واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] ، ولكن الصحيح أن الآية في الملكية، أي: ليس له الملكية إلا لما سعاه، فلا يستطيع أن يملك أعمال غيره، لكن إذا أهديت إليه تملكها.(12/8)
زيارة القبور خاصة بالرجال
زيارة القبور خاصة بالرجال، ولا تجوز للنساء، ويسن للرجل زيارة قبور المسلمين، وتجوز زيارة قبور الكفار للعبرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك في أول الأمر مخافة الغلو، ومخافة الندب والنياحة، ثم بعد ذلك أذن لهم وقال: (إنها تذكركم الآخرة) أي: تزهدكم في الدنيا، وترغبكم في الآخرة، وتذكركم الموت وما بعده، فالزيارة للقبور فيها مصلحتان: الدعاء للأموات والترحم عليهم، وتذكر الآخرة والاعتبار، وقد حفظ عن أبي العتاهية أنه مر على قبور فقال: ألا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى يحثون على الزاد وما زاد سوى التقوى يقولون لكم جدوا فهذا آخر الدنيا فأهل الدنيا يكون مآلهم إلى ما آل إليه أولئك المقبورون الذين قد دفنوا.
وأما زيارة النساء للقبور فلا تجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) ، وثبت أيضاً أنه رأى نسوة ينتظرن جنازة، فقال: (هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، هل تحملن فيمن يحمل؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات) وفي رواية: (فأنكن تفتن الأحياء، وتؤذين الأموات) .
وروي أيضاً أنه رأى فاطمة قد جاءت من قبل البقيع، فسألها فقالت: (أتيت إلى أهل ذلك الميت فعزيتهم، فقال: لعلكم بلغت معهم الكدى -يعني: طرف المقابر- قالت: معاذ الله، وقد سمعتك تقول ما تقول، فقال: لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك) فهذا تشديد عظيم، وهو دليل على أنه لا يجوز للنساء زيارة القبور؛ وذلك لقلة صبرهن وغير ذلك، ولا عبرة بقول بعض المتأخرين الذين أخذوا يشددون ويقولون: إنه يجوز، ويطرحون هذه الأدلة، ويتمسكون بالحديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها) فإن الخطاب للرجال.
أما القراءة عند القبور فلا تجوز؛ وذلك لأنه قد يتخذ وسيلة إلى اعتقاد أن القراءة عند القبر أفضل منها في المسجد، ثم يجر ذلك إلى الصلاة عند القبور، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ثم يجر ذلك إلى الغلو في الأموات واتخاذ قبورهم مساجد، فالصحيح أنه لا يجوز أن يتحرى القراءة عند القبر.(12/9)
وضع الجريد على القبور من خصائصه صلى الله عليه وسلم
قوله: (وما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر) .
الصحيح أن هذا لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما مر على قبرين يعذبان، وغرز فيهما جريدتين، هذا من خصائصه؛ لأن الله تعالى أطلعه على هذين، وأما غيره فليس له هذه الخصيصة، وليس له أن يفعل ذلك، ولو كان ذلك جائزاً لاشتهر عند السلف، ولرأيناهم يغرزون في كل قبر جريدة خضراء، فالصحيح أنه لا يجوز، إنما يدعى له، ويترحم عليه، ويسلم عليه بهذا السلام: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ، وفي رواية: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) أو بما تيسر من السلام.
قوله: (وتعزية المصاب بالميت سنة) ورد فيه حديث: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) وإن كان فيه ضعف، فالمصاب بحاجة إلى تسليته وتعزيته وتخفيف مصيبته، فيأتي إليه المعزون، ويترحمون على ميته، ويدعون له، ويحثونه على الصبر والتسلي.(12/10)
جواز البكاء على الميت وتحريم النياحة
يجوز البكاء على الميت ولا يجوز النحيب، ولا يجوز الزفير الشديد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ، وورد أيضاً أنه بكى مرة عند بعض أصحابه، فقال: (ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بحزن القلب، ولا بدمع العين، ولكن يعذب بهذا أو يرحم) يعني: اللسان، فلذلك يحرم الندب، والنياحة، وشق الثوب، ولطم الخد، وما أشبه ذلك من أمور الجاهلية، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات فيهم الميت يلطم أحدهم خده، أو يضرب صدره، والمرأة تشق ثوبها أو تشق جيبها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) ، والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها أو تنتفه، والشاقة: هي التي تشق ثوبها، وفي الحديث: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ودعوى الجاهلية: أنهم إذا مات فيهم الميت أخذوا يندبونه بنداء كنداء الغائب، إما باسمه كأن يقولوا: وا سعداه، وا راشداه، وا زيداه، وا عمراه، وإما بقرابته كأن يقولوا: وا ولداه، وا أخواه، وا أبواه، وا عماه، وإما بصفة تصل إليهم منه، كأن يقولوا: وا مطعماه، وا كاسياه، وا كافلاه، وا حافظاه، وما أشبه ذلك، فكل هذا من الندب الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تسخط لقدر الله تعالى وقضائه، ولأن ذلك لا يرد فائتاً.
والله أعلم، وصلى الله على محمد.(12/11)
شرح أخصر المختصرات [13]
الزكاة ركن من أركان الإسلام، وقد فرضها الله عز وجل طهرة للأموال وزكاة للنفس، وهي من محاسن هذا الدين وفرائضه؛ إذ بها تسود الألفة بين طبقات المجتمع، وبها ترتفع الشحناء، وتسد الفاقة، وتدفع الحاجة.
وقد حدد الشرع الأموال التي تجب فيها الزكاة، وحدد الأنصبة والمقادير وشروط كلٍّ، وما يتعلق بها من أحكام، وفصل الفقهاء كيفية الإخراج، وما يشترط له الحول وما لا يشترط، وكيفية حساب المقادير المختلفة، وضم بعضها إلى بعض، وذلك حتى يعبد المسلم ربه بإخراجها على بصيرة.(13/1)
كتاب الزكاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الزكاة.
تجب في خمسة أشياء: بهيمة أنعام، ونقد، وعرض تجارة، وخارج من الأرض، وثمار، بشرط: إسلام، وحرية، وملك نصاب، واستقراره، وسلامة من دين ينقص النصاب، ومضي حول إلا في معشر، ونتاج سائمة، وربح تجارة، وإن نقص في بعض الحول ببيع أو غيره لا فراراً انقطع، وإن أبدله بجنسه فلا، وإذا قبض الدين زكّاهُ لما مضى.
وشرط لها في بهيمة أنعام: سوم أيضا.
وأقل نصاب إبل: خمس، وفيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وهي التي لها سنة، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وهي التي لها سنتان، وفي ست وأربعين حقة، وهي التي لها ثلاث، وفي إحدى وستين جذعة وهي التي لها أربع، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
وأقل نصاب البقر ثلاثون، وفيها تبيع، وهو الذي له سنة، أو تبيعة، وفي أربعين مسنة، وهي التي لها سنتان، وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
وأقل نصاب الغنم أربعون، وفيها شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث، إلى أربعمائة، ثم يستقر في كل مائة شاة، والشاة بنت سنة من المعز، ونصفها من الضأن.
والخلطة في بهيمة الأنعام بشرطها تصير المالين كالواحد.
فصل: وتجب في كل مكيل مدخر خرج من الأرض، ونصابه خمسة أوسق، وهي ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل بالدمشقي، وشرط ملكه وقت وجوب، وهو اشتداد حب، وبدو صلاح ثمر، ولا يستقر إلا بجعلها في بيدر ونحوه.
والواجب عشر ما سقي بلا مئونة، ونصفه فيما سقي بها، وثلاثة أرباعه فيما سقي بهما، فإن تفاوتا اعتبر الأكثر، ومع الجهل العشر.
وفي العسل العشر سواء أخذه من موات أو ملكه أو ملك غيره إذا بلغ مائة وستين رطلاً عراقية.
ومن استخرج من معدن نصاباً ففيه ربع العشر في الحال، وفي الركاز الخمس مطلقاً، وهو ما وجد من دفن الجاهلية.
فصل: وأقل نصاب ذهب عشرون مثقالا، وفضة مائتا درهم، ويضمان في تكميل النصاب، والعروض إلى كل منها، والواجب فيهما ربع العشر.
وأبيح لرجل من الفضة خاتم وقبيعة سيف، وحلية منطقة ونحوه، ومن الذهب قبيعة سيف وما دعت إليه ضرورة كأنف، ولنساء منهما ما جرت عادتهن بلبسه، ولا زكاة في حلي مباح أعد لاستعمال أو عارية.
ويجب تقويم عرض التجارة بالأحظ للفقراء منهما، وتخرج من قيمته، وإن اشترى عرضاً بنصاب غير سائمة بنى على حوله] .(13/2)
اقتران الزكاة بالصلاة في كتاب الله
ذكر كتاب الزكاة بعد كتاب الصلاة؛ لأنها قرينتها، فالصلاة تذكر بلفظ الإقامة، والزكاة تذكر بلفظ الإيتاء، كقوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فقد أمر بالزكاة أمراً مطلقاً قبل الهجرة في السور المكية، وأما أنصبتها ومقدارها وشروطها فإنما وجدت في المدينة، وذلك بعد وجود أسبابها؛ لأن أهل مكة كانوا يتصدقون بكل أموالهم أو جلها، كما قال تعالى في شأن أبي بكر رضي الله عنه: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] ، وكذلك يروى أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] نزل في أبي بكر وفي غيره.(13/3)
الزكاة نماء وطهرة
الزكاة في اللغة هي: النماء والتطهير، فقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: تنمي أموالهم وتطهرها؛ وذلك لأن الأموال غالباً قد يكون فيها شيء من الخلل من الغش، أو من الخداع، أو من الشبهة، فتكون هذه الزكاة مطهرة ومصفية لها، ومع ذلك فإنها تنميها وتزيدها، ولذلك جاء في الحديث: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) ، فأخبر بأن المال وإن كثرت الصدقة منه فإن الله تعالى يخلفه، وفي الحديث: (ينزل ملكان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) ، وكذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] .(13/4)
شروط وجوب الزكاة
قوله: (تجب في خمسة أشياء) ذكروا لوجوبها شروطاً وهي: حرية، وإسلام، وملك نصاب، واستقراره، ومضي الحول، فلا تجب على العبيد؛ لأنهم مملوكون، وما بأيديهم ملك لأسيادهم، ولا تجب على الكافر؛ لأنه مطالب بشرطها، ولا تجب على الفقير؛ لأنه يستحق المواساة، ولأن ماله قليل، فأقل شيء ملك النصاب، ولابد أن يستقر الملك عليه، فإذا لم يكن مستقراً كدين الكتابة والمهر قبل الدخول فإنها لا تجب الزكاة فيه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة، بل لابد أن يمضي الحول.(13/5)
الأموال التي تجب فيها الزكاة
وأصول الأموال الزكوية أربعة: بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والنقود، وعروض التجارة، والمؤلف جعلها خمسة ففرق بين الخارج من الأرض وبين الثمار، والثمار خارجة من الأرض.
إذاً: فالأموال الزكوية أربعة: أولها: بهيمة الأنعام، وهي أكثر ما كان موجوداً في العرب في وقت نزول القرآن، ثم يليها التجارة، وكان الكثير من التجار ينمون أموالهم بالتجارة فيحصل لهم ربح كثير، ثم بعد ذلك الخارج من الأرض الذي هو ثمر النخل والزبيب والحبوب وما أشبهها، ثم بعد ذلك النقود، ومعلوم أن النقود لا تتوالد، ولكنها تنمى بالتجارة؛ لأنه تشترى بها عروض ثم تباع بربح، هذه هي الأموال الزكوية.
ثم ذكر الشروط: الإسلام، وعرفنا أنه لابد أن يكون مسلماً، والحرية، وملك النصاب واستقراره، وقد ذكرنا مثاله وهو المهر قبل الدخول؛ لأنها عرضة للطلاق، فلا تزكيه المرأة حتى تملكه ويستقر ملكها عليه؛ لأنه إذا طلقها فسيسقط نصفه، أو يعفى عنه كله، ومن غير المستقر أيضاً: الدين على المملوك ويسمى دين كتابة، فإنه يمكن أن يعجز نفسه فيسقط الدين، فلابد أن يكون الملك مستقراً.(13/6)
الكلام على اشتراط الخلو من الدين للزكاة
وشرط الفقهاء شرطاً خامساً وهو: السلامة من الدين الذي ينقص النصاب، واختلفوا هل الدين يمنع من الزكاة كلاً أو لا يمنعها أصلاً، أو فيه تفصيل؟ فأكثر الفقهاء على أنه يمنع؛ وذلك لأنه إذا كانت عليه ديون تستغرق ماله أصبح المال لغيره، فيصبح كأنه فقير، وعلى هذا فلا فرق بين جميع الأموال إذا كان الدين يستغرق الأموال، أو لا يبقي إلا أقل من النصاب فلا يصير غنياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهناك قول آخر: أن الدين لا يمنع، وأن الزكاة تؤخذ من كل الأموال، سواء على أصحابها دين أم لا؛ لأنهم مفرطون حيث لم يوفوا أهل الدين من هذه الأموال.
والقول الثالث: أنه لا يمنع من الأموال الظاهرة ويمنع من الخفية، والأموال الظاهرة مثل بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يخرص النخل على أهله، ولم يقل: هل عليكم دين؟ بل يخرصون النخل والزرع ونحو ذلك، وكذلك كان يرسل من يأخذ الصدقات من بهيمة الأنعام، ولم يكونوا يسألونهم: هل عليكم دين أم لا؟ وقالوا: لأن الأموال الظاهرة تتعلق بها نفوس الفقراء، حيث يرون هذه الأموال الظاهرة ويعتقدون أن لهم فيها حقاً، فإذا لم يأتهم منها شيء أساءوا الظن بأصحابها، وقالوا: لا يزكون، فيكون في ذلك إساءة ظن بأصحاب الأموال.
فعلى هذا يترجح أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الخفية كالتجارة والنقود؛ لأن صاحبها هو الذي يحاسب نفسه، دون الأموال الظاهرة كالثمار والنخيل والأعناب والزروع وبهيمة الأنعام، والإبل والبقر والغنم، فهذه لا يمنع الدين الزكاة فيها.
وبكل حال فإن الفقهاء عندما اشترطوا ذلك نظروا إلى العلة، وهي: أن الزكاة شرعت للمواساة، فإذا كان المال مستحقاً لأصحاب الديون فكيف يواسي من مال مستحق عليه؟! وله وجه، ويمكن أن يقال لصاحب الحروث: إذا كان زرعك أو نخلك ليس لك بل عليك فيه ديون فإنك تعطي أصحاب الديون حقوقهم، فإن بقي شيء وإلا فلا حق عليك ولا زكاة عليك؛ لأنك ملحق بمن يستحق الزكاة وهم الفقراء.(13/7)
ما يشترط للزكاة فيه مضي الحول وما لا يشترط
وشرط سادس: وهو الحول، الحول هو السنة، أي: اثنا عشر شهراً هلالياً، فلم تجب الزكاة في كل شهر، ولا في كل شهرين، وإنما تجب في كل سنة؛ لأن في السنة تتنامى الأموال فتتوالد البهيمة، وتنمو التجارة، ويمكن تنمية النقود وما أشبهها.
يستثنى من مضي الحول: المعشّر، وما المراد بالمعشّر؟ المعشّر: هو الخارج من الأرض، كالتمر والزبيب والتين إذا كان يدخر، أو الشعير أو البر، أو الذرة، وجميع ما يدخر، وسمى معشراً؛ لأنه يخرج منه العشر، أو يخرج منه نصف العشر؛ وذلك لأنه لا يحتاج أن يحول عليه الحول، والغالب أنه يبقى في الأرض خمسة أشهر ثم يحصد.
فمثلاً: إذا زرع في الصيف دخناً أو ذرة، وبعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حصد فإنه يخرج الزكاة، ثم بعد شهر أو شهرين زرعها براً أو شعيراً وبعد خمسة أشهر حصد فإنه يخرج زكاتها، فأخرج الزكاة مرتين من هذه الأرض: زكاة دخن وزكاة بر، فلذلك قالوا: المعشرات لا يشترط لها الحول.
وكذلك نتاج السائمة لا يشترط لها الحول، وصورة ذلك: إذا كان عنده مائة وعشر من الغنم، ولما تمت أحد عشر شهراً ونصف ولدت مائة من السخال، فأصبحت مائتين وعشراً، فبدل ما كان الواجب عليه شاة صار الواجب عليه ثلاث شياه، مع أن هذه المائة السخال ما لها إلا شهر، فلا يشترط أن يتم لها الحول.
الثالث: ربح التجارة لا يشترط له الحول، مثاله: إذا بدأ التاجر تجارته ورأس ماله ألف، وأخذ يتجر، ففي الشهر الأول ربح ألفاً، وفي الشهر الثاني ربح ألفين، وفي الشهر الثالث ربح أربعة، وما زال يربح كل شهر الضعف، ولما تمت السنة وإذا ماله أربعون ألفاً، فمنها ما لم يكن له إلا شهر، ومنها ما له شهران، ومنها ما له ثلاثة، مع أنه لما بدأ لم يكن معه إلا ألف، فكم يزكي؟ يزكي أربعين ألفاً؛ فربح التجارة يتبعها، ولا يشترط له أن يمضي عليه الحول.
وإذا نقص عن النصاب في بعض الحول لبيع أو غيره انقطع إلا أن يكون فراراً، فمثلاً: إذا ابتدأ التجارة ورأس ماله ألف، ثم ربح في شهر ألفاً وربح في شهرين ألفين، وهكذا وفي الشهر السادس خسر، أو دفع المال الذي معه ولم يبق معه إلا أربعون ريالاً، ثم بعد ذلك هذه الأربعون ربحت، في الشهر السادس فبدأت تزيد، فبلغت ألفاً في الشهر السابع، وفي الشهر الثامن تمت ثلاثة آلاف، وفي الشهر التاسع عشر بلغت عشرين ألفاً، فمتى يزكيها؟ إذا تمت حولاً بعد ابتدائه لها من تمام النصاب، نقول: النصاب انقطع في الشهر الخامس؛ لأنه نقص النصاب ولم يبق معه إلا أربعون، بعد أن كانت معه عشرة آلاف فانقطع النصاب في الشهر الخامس، ولم يتم نصاباً إلا في الشهر السابع، فيبدأ الحول من الشهر السابع، ويستأنف سنة من الشهر السابع، إلا إذا كان الذي دفعه لهذا الفرار من الزكاة، فمثلاً: إذا كان عنده خمسمائة ألف، ولما قارب الحول وإذا الخمسمائة الألف فيها اثنا عشر ألفاً ونصف، فخاف من الزكاة واشترى بها عقاراً، فقال: هذا العقار للسكنى، ثم بعد ذلك باع العقار بستمائة، ففي هذه الحال لا ينقطع الحول؛ لأنا نتهمه بأنه فعل ذلك هرباً وفراراً من الزكاة فلا تسقط الزكاة، بل يبني على حوله الأول.
وإذا أبدله بجنسه لم ينقطع الحول، فمثلاً: إذا كان عنده من الضأن خمسون، وفي نصف السنة أبدلها بستين من المعز، فهل ينقطع الحول؟ ما ينقطع؛ لأن الضأن والمعز نصابها واحد، وكذلك لو كان عنده عشر من الإبل، وبعد نصف سنة أبدلها بجمال أو ببخاتي أو بعراب فإنه لا ينقطع الحول؛ لأن الجنس واحد، فكلها إبل.(13/8)
زكاة الدين عند قبضه
قوله: (وإذا قبض الدين زكاه لما مضى) .
هكذا ذكروا، أن الدين إذا قبضه زكاه لما مضى ولو أتلفته الزكاة، وقد اختلف في زكاة الدين، هل يزكى الدين أو لا زكاة فيه، أو فيه تفصيل؟ والناس في هذه الأزمنة يكثرون من الدين، فقال العلماء: إن كان الغريم الذي عنده دين قادراً على الوفاء موسراً غنياً فإنك تزكيه عن كل سنة، واعتبر دينك كالوديعة، ما دمت تقدر على أخذه متى ما أدرت، وأما إذا كان المدين موسراً ولكنه مماطل، أو معسراً فقيراً، فقيل: إنك تزكيه إذا قبضته عن السنين الماضية كما قاله صاحب المختصر، فلو كان الدين عشرة آلاف ومكث ثلاثين سنة ثم استرجعته فإنك على هذا القول تزكيه للسنة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة وهكذا حتى تتم الثلاثين سنة، فعن السنة الأولى تزكي عشرة آلاف، وعن السنة الثانية تزكي تسعة آلاف وسبعمائة وخمسين؛ لأنه قد نقص، وعن السنة الثالثة تزكي ما بقي، وهكذا، فإن لم يبق إلا أقل من النصاب فإنه لا يزكى.
والقول الثالث: أنه يزكى إذا قبض عن سنة واحدة عند أن يقبضه؛ وذلك لأنه يعتبر كأنه كسبه، وحصل عليه بعد أن أيس منه، فإذا قبضت هذه السنة العشرة الآلاف فأخرج زكاة سنة واحدة: مائتين وخمسين، وهذا هو الأقرب حتى لا يجحف بأصحاب الحقوق؛ لأنا لو قلنا له: زك عن ثلاثين أو أربعين سنة لما بقي له إلا أقل من النصاب، والنبي عليه السلام أخبر بأن الزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء، ولأن هذا يجحف بالأموال، فالقول الوسط: أن الدين إذا بقي على صاحبه زمناً طويلاً اقتصر على إخراج زكاة سنة واحدة.(13/9)
زكاة بهيمة الأنعام
ابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام، وهي التي كانت منتشرة عند العرب، وأفضلها عندهم الإبل، ثم الغنم فهي أكثر ما يقتنون، والبقر موجودة ولكنها قليلة، ويشترط لها السوم، وهو الرعي، والسائمة هي التي ترعى كما قال تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] ، أي: ترعون بهائمكم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] أي: التي ترعى.
أما إذا كانت معلوفة أكثر الحول ولا تخرج بل كانت محجوزة في شباك أو بستان أو داخل السور وتأكل مما ينبت لها صاحبها من الأعلاف ونحوها أكثر الحول، يعني: سبعة أشهر أو ستة أشهر ونصف فلا زكاة فيها، فإن كانت تخرج كل يوم وترعى ولو أنها لا تجد إلا شيئاً يسيراً من فتات الحشيش ومن يابس الشجر ثم تأوي إلى مراحها فإنها تعتبر سائمة.(13/10)
نصاب زكاة الإبل ومقدارها
ثم ذكر النصاب، وأقل نصاب الإبل خمس، والخمس والعشر والخمسة عشر والعشرون: زكاتها من غيرها؛ لأنه لو أخرجت زكاتها منها لأجحف بها، فلو قيل: في الخمس واحدة لكان في ذلك الخُمس، والخُمس كثير، والأصل أنه ليس فيها إلا ربع العشر، ففي الأربعين من الغنم شاة وهو ربع العشر، فلذلك تكون زكاة الإبل من الغنم، والعادة أن أهل الغنم يملكون الإبل، وأهل الإبل يملكون الغنم، فكانوا يخرجون زكاة الإبل من الغنم.
قوله: (ففي الخمس شاة) .
الشاة: اسم لواحدة من الغنم ذكوراً وإناثاً ضأناً ومعزاً، وإذا أرادوا التفصيل قالوا لأنثى الضأن: نعجة، ولذكر الضأن: كبش، ولأنثى المعز: عنز، ولذكر المعز: تيس، والواحد من الجميع: شاة، فالعنز شاة والنعجة شاة، والكبش شاة، والتيس شاة، فإذا أخرج شاة في الخمس تكون قيمتها متوسطة، كما إذا كانت الإبل متوسطة القيمة، ومعروف أن قيمة الإبل تختلف، فأحياناً تكون الإبل هزيلة وضعافاً فيخرج شاة ليست ضعيفة ولكنها ليست السمينة الغالية، وأحياناً تكون متوسطة، وأحياناً تكون ثمينة سمينة غالية فيخرج شاة من خيار الغنم.
وفي العشر شاتان، وما بينهما يسمى وقص، أي: نقول لصاحب الخمس: عليك شاة، ولصاحب التسع: ليس عليك إلا شاة، ولصاحب العشر: عليك شاتان، ولصاحب الأربع عشرة: عليك شاتان، ولصاحب الخمس عشرة: عليك ثلاث، ولصاحب التسع عشرة: عليك ثلاث، ولصاحب العشرين: عليك أربع، ولصاحب الأربع والعشرين: عليك أربع، فيسمى ما بين الخمس إلى العشر وقص، والوقص ليس فيه شيء.
فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، وبنت المخاض: هي البكرة التي قد تم لها سنة، سميت بنت مخاض؛ لأن أمها ماخض، والغالب أن أمها قد حملت وانتهى لبنها، وليس شرطاً أن تكون أمها حاملاً، ولكن ذكروها بهذا علامة لها، فهي ما تم لها سنة، سواء كانت أمها ماخضاً أم لا.
وفوق خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين وقص فإذا وصلت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون ما تم لها سنتان، وسميت بذلك؛ لأن أمها غالباً قد ولدت، فهي ذات لبن، وليس ذلك شرطاً، بل إذا تم لها سنتان فهي تجزئ في هذا المقدار، وما بين ست وثلاثين إلى خمس وأربعين وقص، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة، والحقة ما تم لها ثلاث سنين، ولماذا سميت حقة؟ لأنها استحقت أن تركب، واستحقت أن يطرقها الفحل، فاسمها ووصفها أنها ما تم لها ثلاث سنين، فتجب في ست وأربعين إلى ستين، فإذا زادت عن الستين واحدة ففيها جذعة، وهي ما تم لها أربع سنين، وسميت بذلك؛ لأنها قد جذعت ثناياها، يعني: قد كمل نبات الثنايا وتم لها أربع سنين، وبذلك نعرف أن بنت المخاض لا تجب إلا مرة واحدة، والجذعة لا تجب إلا مرة واحدة، وأما بنت اللبون والحقة فإن وجوبها يستمر كما سيأتي.
وإذا لم يجد بنت لبون ودفع بنت مخاض دفع معها جبراناً، وفي ذلك الوقت كان الجبران شاتان أو عشرون درهماً، وفي هذا الوقت تقدر بنت المخاض بأن قيمتها أربعمائة، وبنت اللبون قيمتها خمسمائة، والحقة قيمتها ستمائة والجذعة قيمتها سبعمائة، فيأخذون الآن القيمة وذلك لتعذر حمل هذه الأنعام معهم حيث إنهم يذهبون على سيارات فلذلك يأخذون القيمة، مع أن القيمة مختلف فيها، ولكن لما ورد أنه يُدفع الفرق عشرون درهماً كان هذا مسوغاً لأخذ القيمة.
فإذا لم يجد بنت لبون ودفع حقة فإن المصدق يرد عليه شاتين أو عشرين درهماً، يعني: الفرق بين بنت اللبون والحقة، وإذا لم يجد بنت المخاض ووجد جذعة وبينها وبين بنت المخاض سِنَّان: ففي هذه الحال يرد عليه المصدق أربع شياه أو قيمتها.
ويجزئ أن يدفع ابن اللبون مكان بنت المخاض؛ وذلك لأنه مقارب لقيمتها، ولا شك أن الذكور أقل قيمة من الإناث عادة.
فإذا تجاوز ذلك وتمت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون، فإذا تمت إحدى وتسعين يعني: مائة إلا تسعاً ففيها حقتان، وما بين ست وسبعين إلى تسعين وقص، فإذا تمت مائة وإحدى وعشرين فثلاث بنات لبون، وما بين إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين وقص ليس فيه شيء، فمن عنده إحدى وتسعون عليه حقتان، ومن عنده مائة وعشرون عليه حقتان، فإذا تمت إحدى وعشرين ومائة فثلاث بنات لبون.
ثم بعد ذلك في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فيكون الوقص عشراً، فإذا تمت مائة وثلاثين فهي عبارة عن: أربعين وأربعين وخمسين، ففي أربعين بنت لبون، وفي أربعين بنت لبون، وفي خمسين حقة، فإذا تمت مائة وأربعين فهي عبارة عن خمسين وخمسين وأربعين، ففي الخمسين حقة وفي الخمسين حقة وفي الأربعين بنت لبون، وإذا تمت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق؛ لأنها عبارة عن خمسين وخمسين وخمسين، وإذا تمت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون؛ لأنها عبارة عن أربعين وأربعين وأربعين وأربعين، وإذا تمت مائة وسبعين فالمائة والعشرون فيها ثلاث بنات لبون، والخمسون فيها حقة، فإذا تمت مائة وثمانين: ففي المائة حقتان، وفي الثمانين بنتا لبون، فإذا تمت مائة وتسعين ففي المائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي الأربعين بنت لبون، فإذا تمت مائتين اتفق الفرضان؛ لأن المائتين أربع خمسينات أو خمس أربعينات، فإن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء أخرج خمس بنات لبون.(13/11)
نصاب زكاة البقر ومقدارها
ونصاب زكاة البقر ثلاثون، وفيها تبيع، وهو الذي له سنة، أو تبيعة، فيخير المالك، وقيل: يخير العامل، وهكذا ورد في الحديث، قال بعضهم: إن (أو) للتخيير، وقال بعضهم: إنها للشك، وأكثرهم على أنها للتخيير، فإذا تمت أربعين ففيها مسنة، وما بين الثلاثين والأربعين وقص، والمسنة ما تم لها سنتان، فإذا تمت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان، وما بين الأربعين إلى الستين وقص، ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، فإذا عرفنا أن في الثلاثين تبيعاً وفي الأربعين مسنة إذاً: ففي السبعين مسنة وتبيع، وفي الثمانين تبيعان أو تبيعتان، وفي التسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة تبيعان ومسنة، وهكذا.(13/12)
نصاب زكاة الغنم ومقدارها
أما نصاب الغنم، فأقل النصاب أربعون وفيها شاة، ثم ما فوق الأربعين وقص إلى مائة وعشرين، فمن عنده أربعون فعليه شاة، ومن عنده مائة وعشرون فليس عليه إلا شاة، ومن عنده مائة وإحدى وعشرون فعليه شاتان، ثم ما بعد المائة والإحدى والعشرين وقص إلى مائتين، أي: ففي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وما بعد مائتين وواحدة وقص إلى أربعمائة، فمن عنده مائتان وواحدة فعليه ثلاث شياه، ومن عنده أربعمائة إلا واحدة فعليه ثلاث شياه.
فإذا تمت أربعمائة ففيها أربع شياه، وفي الخمس خمس شياه، وفي الست ست شياه، وهكذا.
ثم ذكر أن الشاة من المعز ما تم لها سنة، ومن الضأن ما تم لها نصف السنة.(13/13)
تأثير الخلطة في زكاة الأنعام
والخلطة في بهيمة الأنعام تصير المالين كالواحد، ولكن يكون بشرطها، وليس هناك شيء من الأموال تكون فيه الخلطة مؤثرة إلا في بهيمة الأنعام، أما في غيرها فإنها لا تؤثر، فمثلاً: إذا زرع اثنان على بئر ولما حصدا كان نصيب كل واحد منهما أقل من النصاب، ففي هذه الحالة لا زكاة عليهما، ولو كان مجموعهما نصاباً؛ لأن كل واحد منهما يستقل بنصيبه، وكذلك أيضاً لو اشترك ثلاثون فجاءوا بألف وخمسمائة، ومع ذلك ما ربحت تجارتهم ولا زادت ولا نمت، فتم الحول وإذا نصيب كل واحد منهم أقل من النصاب، فلا زكاة على أحد منهم، فأما إذا ربحوا وصار نصيب كل واحد منهم نصاباً أو أكثر فإن فيه الزكاة.
وأما بهيمة الأنعام فإن الخلطة تصير المالين كالواحد، فلو كان هناك ثلاثة، كل واحد له أربعون شاة، ثم اشتركوا واختلطوا طوال السنة، وتمت السنة وليس لهم إلا أربعون، أربعون، أربعون فالمجموع مائة وعشرون، فليس عليهم إلا شاة واحدة يتقاسمون ثمنها، وكذلك إذا وجد رجلان لكل واحد منهما أربع من الإبل واختلطوا في الحول كله فعليهم زكاة، ولو افترقا لم يكن عليهما زكاة، فالأربع ليس فيها زكاة.
وكذلك إذا كان لواحد مائة وخمس من الغنم، ولواحد مائة وخمس واختلطوا، فأصبحت مائتان وعشر فعليهم ثلاث شياه، ولو لم يشتركوا فليس عليهم إلا شاتان، فالخلطة تؤثر.
وذكر الفقهاء للخلطة شروطاً وهي: أن يكون الراعي واحداً، وأن يكون المشرب واحداً، فيسقونها في حوض واحد وبدلو واحد، ويكون المبيت في مكان واحد، بحيث تبيت في حضيرة واحدة، أو في سور واحد، ويكون مكان الحلب واحداً، فهؤلاء يأتون ويحلبون فيه وهؤلاء يأتون ويحلبون فيه، وليس شرطاً أن يخلطوا الحليب في إناء، فكل واحد منهم يعرف أغنامه فيحلبها ويختص بها، فإذا اختلطوا في المرعى والمحلب والمبيت والحوض تمام الحول فإنهما يصيران كواحد.
ثم لا يجوز أن يتفرقوا لأجل الزكاة، فلو كانوا ثلاثة لكل واحد ثلاثين وخلطوا طول الحول، ولما أقبل العامل تفرقوا، وكل واحد منهم عزل غنمه وقال: ما عندي إلا ثلاثين وليس عليّ زكاة، فهذا لا يجوز، فإذا اختلطوا طوال الحول فلا يتفرقون لأجل الفرار من الزكاة.
وكذلك أيضاً لا يجتمعون لتقل الزكاة عليهم، كما لا يجوز جمعهم لتزيد عليهم الزكاة، فإذا كان عند هذا سبعون، وعند هذا ثمانون، السبعون فيها شاة والثمانون فيها شاة، فلا يجوز للعامل أن يجمعهم فيقول: اجتمعوا حتى آخذ منكم ثلاث شياه؛ لأنكم إخوة، فلا يجمعهم العامل لأجل أن تزيد الزكاة، وقد ورد في الحديث: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الزكاة، بل يزكي كل على ما كان عليه) .
ثم إذا كان أحد الخليطين ليس من أهل الزكاة، يعني: إذا كان أحد الخلطاء كافراً ذمياً، أو ليس له مال كالمكاتب فالصحيح أنه لا أثر لخلطته؛ لأن ماله ليس زكوياً.(13/14)
زكاة الخارج من الأرض ونصابها
أما زكاة الخارج من الأرض وهو الثمار والحبوب، فقد اختلف في الخارج من الأرض: هل يزكى كل ما يخرج من الأرض أم لا يزكى إلا بشرطه؟ فالمختار عند الإمام أحمد أنه لا يزكى إلا ما يكال ويدخر من الثمار والحبوب، فالكيل هو المعيار بالصاع ونحوه، والادخار هو الحفظ، أي: يحفظ ولا يفسد ولو طالت المدة، فمثلاً التمر يدخر فيبقى سنة ولا يتغير، وكذلك الزبيب يدخر ويكال أيضاً، وكذلك الشعير والدخن والذرة والأرز وما أشبه ذلك، فهذه تكال وتدخر، فعلى هذا القول لا زكاة فيما لا يدخر ولو جني منه أثمان كثيرة، فلا زكاة في الفواكه كالتفاح والموز والكمثرى، وكذلك البطيخ بأنواعه، ولا زكاة في الخضار كالقرع والكوسة والطماطم والبصل؛ وذلك لأنه لا يتم الانتفاع بها في المآل، لأنها لا تدخر.
ولو أنها في هذه الأزمنة تدخر بواسطة الثلاجات وتبقى مدة، فمثلاً: البطاط والطماطم والخيار والكوسة وما أشبهه قد يبقى أشهراً في الثلاجات ولكن يكلف كثيراً، بما يصرف عليه من الكهرباء ونحوه، فلأجل ذلك تسبب تكلفته هذه أنه لا زكاة في عينه وإنما الزكاة في ثمنه إذا حال عليه الحول، ويعتبر ككسب يستقبل بثمنه حولاً.
وخالف في ذلك الحنفية، واختاروا أن جميع الخارج من الأرض يزكى، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) .
و
الجواب
أن هذا وإن كان عاماً لكن نظرنا في العلة فإن هذه الفواكه لا يتم الانتفاع بها انتفاعاً كاملاً، والغالب أن أهلها يأكلونها، فيأكلون البطيخ أو يبيعون منه شيئاً يسيراً في حينه، ويأكلون التفاح والبرتقال والأترج أو الليمون ولا يدخرونه ولا يكون عندهم منه شيء كثير، وإن كان بعضها قد يجفف مثل التين فإنه يجفف وينتفع به، وكذلك الطماطم يجفف وينتفع به في المآل، فإنه والحال هذه إذا بلغ الذي جفف نصاباً فإنه يزكى.
والنصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، وقدرت بالرطل الدمشقي: ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل بالرطل الدمشقي، أو بما يعادله، والأصل أنها خمسة أوسق، وأن الوسق ثلاثمائة صاع، ثم الصاع على الصحيح خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وذهب أبو حنيفة إلى أنه ثمانية أرطال.
ويشترط في وجوبه: ملكه وقت الوجوب وهو وقت اشتداد الحب وبدو صلاح الثمر، فإذا باعه بعدما اشتد حبه، فهل الزكاة على المشتري أو على البائع؟ على البائع؛ وذلك لأنها وجبت عليه قبل أن يخرجه من ملكه، ولا زكاة على المشتري إلا إذا باعه وحصل من ثمنه على نصاب وتم الحول.
وكذلك النخل إذا بدا صلاحه، يعني: احمر أو اصفر فباعه صاحبه فالزكاة على البائع؛ لأنها وجبت فيه وهو في ملكه.
ثم لا يلزمه إخراجها إلا بعد أن يصفيه ويجعله في البيدر، يقول: (لا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر) كان أهل الزرع يلوطون مكاناً خاصاً يسمونه (البيدر) ويسمى عند العامة (البوع) ، وهو الذي يدوسون فيه الزرع ويصفونه فيه، فيقول: ما دام أنه في سنبله فإنه عرضة للهلاك، وربما يأتيه سيل وربما يأتيه جراد، وربما تأتيه ريح تسفي عليه أو تقلعه فلا يطالب بإخراج الزكاة إلا إذا حصده وجمعه في هذا المكان المهيأ لأن يصفى فيه، فإذا جعل في (البيدر) استقر الوجوب.
ثم قالوا: الواجب نصف العشر فيما سقي بآلة، والعشر فيما سقي بالمطر وثلاثة أرباعه فيما سقي بهما (أي: بالآلة وبالأمطار) وإن تفاوتا اعتبر الأكثر، ومع الجهل العشر، وقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) وذلك لأن الذي يسقى بالمطر أو يسقى بالأنهار النابعة من الأرض تخف المئونة عليه، فإذا كان يسقى بالدلاء أو يسقى بالمكائن والمضخات التي تستخرج الماء من أجواف الآبار فإنه يكلف وقوداً ويكلف قطع غيار، ويكلف عاملاً ولأجل ذلك تخفف فيه الزكاة، فيكفي إخراج نصف العشر، فإن سقي نصف السنة بماء السماء والنصف الثاني بماء الدلاء فثلاثة أرباع، وإذا تفاوتا نظر إلى الأكثر، فإذا كان ثلاثة أرباع السنة يسقيها بالدلاء، والربع الباقي جاءت السيول وصارت تشرب بعروقها فإنه يقدر ثلاثة أرباع العشر، وإذا جهل فلا يدرى أيهما أكثر فالأولى أن لا ينقص عن العشر.(13/15)
زكاة العسل ومقدارها
أما زكاة العسل فقد اختلف فيها العلماء: فالإمام أحمد اختار أنه يزكى، وقد ورد في ذلك حديث، ولكن الحديث فيه مقال، فلأجل ذلك لم يعمل به جمهور العلماء، والإمام أحمد كأنه ثبت عنده فجعل في العسل الزكاة، سواء أخذه من الموات يعني: من أشجار العظة التي في البراري، أو من ملكه، كما لو كان في ملكه سدر وشجر فتأتي النحل وتعمل بيوتها فيها، أو من ملك غيره، إذا وجده في أشجار مملوكة ولكن أصحابها لا يعرفونه ولا يهتمون به، فإذا بلغ مائة وستين رطلاً عراقياً، فإنه يزكى، وإذا نقص عن مائة وستين فإنه لا يزكى.
وتقدر بقربتين، والقربة جلد شاة متوسطة.(13/16)
زكاة المعادن ونصابها
المعدن: هو ما يستخرج من جوف الأرض، فإذا عثر على معدن من المعادن فإن كانت تختلف قيمتها كمعدن نحاس أو رصاص أو حديد، فاستخرج منه نصاباً فإن فيه ربع العشر في الحال؛ وذلك لأنه يعتبر كسباً جديداً، فيخرج منه.
أما إذا كان قليل القيمة كالملح أو الجص أو الأشياء الرخيصة، فمثل هذه تخرج الزكاة من القيمة إذا باعه بما يبلغ النصاب.(13/17)
زكاة الركاز
وفي الركاز الخمس مطلقاً، والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، فإنه يوجد مدفوناً في قعر الأرض، وهو كنوز قديمة قد ترجع مدتها إلى آلاف السنين، فإذا وجدت اعتبرت مثل الغنيمة، فيخرج من قيمتها الخمس، فإذا كانت عليها علامات الإسلام فإنها لقطة فتعرف، فإذا لم تعرف أخرج منه قدر العشر ثم بعد ذلك يملكها، والله أعلم.(13/18)
نصاب الذهب والفضة ومقدار زكاتهما
عندنا زكاة التجارة، وزكاة النقود، ففي حديث أنس الطويل الذي في الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي الرقة ربع العشر) ، وحدد نصابها بمائتي درهم، وقال: فإذا لم يكن عند الرجل إلا مائة وتسعون فليس عليه زكاة إلا أن يشاء، وحدد العلماء نصاب الذهب بعشرين مثقالاً، ونصاب الفضة بمائتي درهم، ثم ذكروا أنها بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً ونصف، وبالريال السعودي الفضي ستة وخمسون ريالاً عربياً سعودياً، وبالريال الفرنسي اثنان وخمسون ريالاً فرنسياً، وكانوا يتعاملون به قبل ستين أو سبعين سنة قبل أن يضرب الريال السعودي.
وقدروا نصاب الذهب الآن فقال بعضهم: إنه واحد وتسعون جراماً، وقال بعضهم: بل خمسة وثمانون، وهو في هذه الحدود، فإذا بلغ النصاب فإنه يزكى، والذهب إما أن يكون تبراً أو مسبوكاً أو مضروباً، فالتبر هو الذي لم يصف، فلا يزال فيه خبثه وفيه ترابه، فلا زكاة فيه حتى يعلم مقدار ما فيه من الذهب بعد التصفية، فإذا بلغ خمسة وثمانين جراماً فإنه نصاب.
وأما المسبوك فهو الذي سبك حلياً، بمعنى أنه صيغ إلى خواتيم أو أسورة أو قلائد أو أقراط، ويسمى مصوغاً ومسبوكاً، فهذا إذا بلغ وزنه خمسة وثمانين جراماً فإنه نصاب، وما نقص فليس فيه نصاب وليس فيه زكاة.
أما المضروب فهو الذي ضرب دنانير أو جنيهات من الذهب كالجنيه السعودي والإفرنجي، فهذا يعتبر أيضاً بوزنه، وعرفنا أنه بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً ونصفاً، وأنه إذا كان بغيره فإذا بلغ خمسة وثمانين جراماً فإنه نصاب.
أما الفضة فالفضة تكون تارة تبراً، يعني: مستخرجة من الأرض غير مصفاة، فإذا بلغ الصافي منها مقدار مائتي درهم أو ستة وخمسين ريالاً سعودياً فإنه نصاب وتخرج منه الزكاة إذا حال عليه الحول، وكذلك لو كان مصوغاً، فقد يصاغ من الفضة الحلي والخواتم، والحلق والأسورة، فإذا كان مقدراه مائتي درهم، أو ستة وخمسين ريالاً فضياً فإنه نصاب.(13/19)
نصاب النقود الورقية ومقدارها
والآن جاءت هذه الأوراق، ووقع فيها خلاف طويل وكثير بين العلماء، فبعض مشايخنا يقول: إن نصابها ستة وخمسون كنصاب الفضة؛ لأن الريال الورقي بدل عن الريال الفضي سواء بسواء، ويقول: إن ريال الفضة لا يؤكل ولا يشرب ولكنه يدفع كقيمة، وكذلك يقال في ريال الورق إنه يؤخذ كقيمة، فلا فرق بينهما.
والأكثرون من المشايخ على أنها ليست كالفضة، وذلك لاختلاف القيمة، فأنت الآن إذا ذهبت للصرافين وطلبت منهم الريالات الفضية بريالات ورقية لا تجدها عندهم إلا بثمن أكثر، فقد يساوي ريال الفضة عشرة ريالات ورقية، وربما عشرين، فدل على أنها ليست مثلها في القيمة، ولعل السبب النفاسة، فإن الفضة يمكن ادخارها وتنفع في كل الدول، بخلاف الأوراق فإنه لا يمكن ادخارها، وهي أيضاً عرضة للتلف.
وكان بعض مشايخنا الأولين الذين ماتوا قديماً لما خرجت لا يدخرها، ويقول بعبارته: الفأر يخرقها، والماء يغرقها، واللص يسرقها، والنار تحرقها، والريح تفرقها، ومعنى هذا أنها ليست كالريالات الفضية، وذكروا أن بعض التجار ادخر ريالات ورقية كثيرة في زاوية من زوايا بيته، وغفل عنها عدة أشهر، فوجد الأرضة قد أكلتها، فذهبت عليه مئات الألوف، وكذلك كثير من الذين يغفلون عن النقود في مخابئهم، ثم يلقون الثوب في الغسالة، ويخرج وقد اضمحلت تلك النقود التي فيه.
وأيضاً معلوم أن ستة وخمسين في ذلك الوقت -قبل خمسين سنة أو أربعين سنة- كانت لها قيمة، والذي يملك ستة وخمسين ممكن أن يشتري له أرضاً، ويمكن أن تقوته سنة أو نصف سنة، وفي هذه الأزمنة لا يقال لمن عنده ستة وخمسون إنه غني، ولو اشترى بها ثوباً أو عمامة قد لا تكفي، ولذلك فالصحيح أنها ليست مثل الريالات الفضية؛ لوجود الفرق في الثمن، فعلى هذا تقدر قيمتها فنسأل ونقول: كم قيمة الريال الفضي عندكم أيها الصيارفة الآن بالريال الورقي؟ فإذا قالوا: عشرة ضربنا ستة وخمسين في عشرة فتكون خمسمائة وستين، فيكون هذا هو النصاب، فإذا حال عليها الحول فإنه يزكى، فهذا هو القول الأقرب.(13/20)
ضم الأموال بعضها إلى بعض وتزكيتها عند بلوغها النصاب
قوله: (ثم يضمان في تكميل النصاب، وتضم العروض إلى بعضها) : يعني: إذا كان عنده نقود فضة ونقود ذهب، ونقود الذهب أقل من النصاب وكذا الفضة، فإذا قدرنا أن الذهب نصف نصاب والفضة نصف نصاب، فإنه يزكي؛ لأن مجموع الذي عنده أصبح نصاباً، وإذا كان عنده ربع نصاب فضة وربع نصاب ذهب ونصف نصاب عروض فإنها تضم.
والعروض هي السلع التي تعرض للبيع.(13/21)
زكاة عروض التجارة ومقدارها وكيفية تقويمها
والعروض تخرج زكاتها فتقدر قيمتها وقت وجوب الزكاة، ولا يعتبر ثمنها الذي اشتريت به، فإذا اشترى الكيس بمائة، ولما تم الحول كان الكيس يساوي مائتين، فإنه يزكي قيمته المائتين، يعني: ببيع الجملة.
وكذلك إذا اشترى قطع القماش الطول بمائة، ثم صار الطول يساوي مائتين في رأس الحول، فإنه يزكي مائتين.
ويجمع الذي عنده بعضه إلى بعض، فإذا كانت تجارته في أطعمة وفي أكسية وفي أحذية وفي كماليات وفي أوانٍ، فلابد أن يخرج زكاة الجميع، فيقدر قيمة الثياب وقيمة الأغذية وقيمة الأحذية وغيرها، ببيع الجملة بسعر يوم إخراج الزكاة، ثم يخرج زكاتها.
حتى إن عمر رضي الله عنه مر عليه رجل يحمل جلوداً، فاستدعاه وقدرها وأمره أن يخرج زكاتها؛ لأنها بلغت نصاباً؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم بعث من يخرص الزكاة على التجار ومنهم عمر رضي الله عنه، فذكروا أنه منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس وكانوا تجاراً، فعذر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً؛ لأن الذي عنده أسلحة قد أوقفها، فكان عنده دروع وسيوف ورماح ولكنه قد أوقفها كلها وجعلها في سبيل الله تعالى فلا زكاة فيها، وتحمل زكاة العباس؛ لأنه عمه، ولم يعذر ابن جميل، فدل على أنه تخرج الزكاة من التجار؛ ولأن أغلب أموال الناس الآن في التجارة، فإذا لم يجب على التجار زكاة سقطت عن أكثر الأموال، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] .
وزكاة النقود وزكاة التجارة والعروض ربع العشر فإذا بلغت مائتي درهم ففيها ربع العشر، وربع العشر في المائة ريالان ونصف، وفي المائتين خمسة، وهكذا.(13/22)
ما يباح للرجل والمرأة من الذهب والفضة
ويباح للرجل من الفضة الخاتم، فيلبس خاتماً في يده اليمنى أو اليسرى، في إصبعه الصغيرة: الخنصر أو البنصر، وكذلك تباح قبيعة السيف، يعني: طرف غلافه الذي يمسك به؛ وذلك لأنه مما يتخذ للزينة، وتسميها العامة الحياصة.
كذلك الجوشن يجوز أن يحلى بشيء من الفضة، وحلية المنطقة: وهي التي تجمع فيها الذخيرة.
أما الذهب فيباح للرجل منه قبيعة السيف، أي: طرفه، وكذلك ما دعت إليه الضرورة كأنف ونحوه، وفي قصة عرفجة أنه قطعت أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب، وذلك للضرورة.
أما النساء فيباح لهن ما جرت العادة بلبسه، وعادتهن في كل زمان لبس ما تيسر، وفي هذه الأزمنة: ما يلبس في الرقبة وتسمى قلائد أو رشارش، وما تلبس في الأصابع وتسمى خواتيم، وما تلبس في الذراع وتسمى أسورة، ويسميه العامة: غوائش، وما تلبس في الأذن ويسمى أقراطاً، وما تلبس في الرأس وتسمى حلقاً، وما يلبس في الوسط ويسمى حزاماً، وما يلبس أيضاً في اليد، وما جرت عادتهن بلبسه.(13/23)
زكاة الحلي وخلاف العلماء فيها
واختلف في زكاة الحلي المباح الذي يعد للاستعمال أو العارية، فكثير من الفقهاء يقولون: لا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال أو العارية، وقاسوه على الأكسية، وأن المرأة لو كانت عندها ثياب ثمينة كثيرة فلا زكاة فيها، وكذلك قاسوها على الأواني، فإذا اتخذ إنسان عدة أوان زائدة عن قدر الحاجة ولو كانت أثمانها كثيرة فلا زكاة فيها، وكذلك كل ما يستعمل، فكل ما يتخذ للاستعمال لا زكاة فيه قياساً على النواضح وهي الإبل التي يستقى عليها أو يحمل عليها، ومثله في هذه الأزمنة السيارة التي يركب عليها أو الماكنة التي يسقي بها، أو ماكنة خياط يخيط بها، قالوا: لا زكاة فيها؛ لأنها ليست للنماء وإنما هي للاستعمال.
وهذا هو الذي كان عليه مشايخنا الأولون كالشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن رشيد ونحوهم، فقد كانوا لا يرون زكاة في الحلي المستعمل، وأما شيخنا الشيخ ابن باز فيختار أنه يزكى.
وقد كثر الخلاف في هذه المسألة وألفت فيها المؤلفات ما بين مؤيد للزكاة وما بين منكر لها، والخلاف طويل، والأدلة من هؤلاء وهؤلاء مختلفة، وكل منهم يجيب عن أدلة الآخر، والإطالة في هذا غير مناسبة.
ولكن نقول: الاحتياط أن ما يلبس دائماً كالخواتيم والأسورة لا زكاة فيه، وأما الذي لا يلبس إلا في المناسبات فإن فيه الزكاة، وذلك لأن كثيراً من النساء أسرفن في ذلك، فربما يكون عليها من الحلي ما قيمته مئات الألوف ولا تلبسه إلا مرة أو مرتين في السنة في أفراح أو في أعياد أو نحو ذلك، ولا شك أن هذا الإسراف يستدعي عدم التساهل، ويستدل أيضاً بالأحاديث التي استدل بها الشيخ في إيجاب الزكاة وهي مذكورة في الكتب الفقهية.(13/24)
كيفية تقويم عروض التجارة وإخراج زكاتها
قال رحمه الله: (ويجب تقويم عروض التجارة بالأحظ للفقراء منهما) ، أي: من الذهب أو من الفضة، فإذا كان الأحظ أن تقوم بالذهب فتبلغ مثلاً أحد عشر جنيهاً قومت بالذهب، وإذا كان الأحظ للفقراء أن تقوم بالفضة قومت بالفضة، فإذا كانت عنده ثياب فإن قومناها بالفضة بلغت ثلاثمائة وإن قومناها بالجنيه ما بلغت إلا ثمانية جنيه أو خمسة جنيه فإننا نقومها بالفضة لأنها الأحظ للفقراء.
قوله: (وتخرج من قيمتها) .
أجاز بعض العلماء أن تخرج زكاتها منها، فمن كان عنده ثياب فيخرج الزكاة ثياباً، ومن كان عنده أحذية فيخرج الزكاة أحذية، ومن كانت عنده كتب فيخرج الزكاة كتباً، ومن كان عنده مواعين أخرجها منها.
ولكن القول الآخر وهو الصحيح أنها تخرج من القيمة، فيقومها ويخرج قيمتها.(13/25)
كيفية حساب الحول إذا استبدل البضاعة بغيرها
قوله: (فإذا اشترى عرضاً بنصاب بنى على حوله، وإذا اشتراه بسائمة لم يبن) .
مثلاً: إذا كانت بضاعته ثياباً، ثم إنه اشترى بالثياب أطعمة فإنه يبني على حوله، فإذا كانت قد مرت ستة أشهر وبضاعته أكسية، والستة الأخرى جعلها أكياس أطعمة من الأرز أو من البر أو ما أشبه ذلك، فإنه يبني على حوله؛ وذلك لأن التجار يغيرون بضاعتهم كل يوم أو كل شهر، فيشتري أحدهم بضاعة جديدة ويصفي ما كان عنده وهكذا.
أما إذا أبدلها بسائمة فإنه ينقطع الحول، فلو كانت عنده تجارة تقوم بمائة ألف، ولما تم لها أحد عشر شهراً اشترى بها خمسين من الإبل سائمة، فحينئذ ينقطع الحول ويستقبل بالإبل حولاً جديداً.(13/26)
شرح أخصر المختصرات [14]
من فضل الله وكرمه أن شرع عبادات في نهاية كل عبادة هامة؛ لتجبر النقص والتقصير الحاصل فيها، ومن ذلك الصيام، فإن النقص في هذه العبادة حاصل وكثير، فشرع الله لجبره وسد خلله زكاة الفطر، فإنها تجبر ما حدث في الصيام من خلل، فهي طهرة للصائم وطعمة للمساكين، ومصرف زكاة الفطر الفقراء والمساكين، مع أن مصارف زكاة الأموال ثمانية تولى الله بيانها وتحديدها بنفسه كما في آية التوبة.(14/1)
وجوب زكاة الفطر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وتجب الفطرة على كل مسلم إذا كانت فاضلة عن نفقة واجبة يوم العيد وليلته وحوائج أصلية، فيخرج عن نفسه ومسلم يمونه، وتسن عن جنين.
وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر، وتجوز قبله بيومين فقط، ويومه قبل الصلاة أفضل، وتكره في باقيه، ويحرم تأخيرها عنه، وتقضى وجوباً، وهي صاع من بر أو شعير أو سويقهما أو دقيقهما، أو تمر، أو زبيب، أو أقط، والأفضل تمر فزبيب فبر فأنفع، فإن عدمت أجزأ كل حب يقتات، ويجوز إعطاء جماعة ما يلزم الواحد وعكسه.
فصل: ويجب إخراج زكاة على الفور مع إمكانه، ويخرج ولي صغير ومجنون عنهما، وشُرِطَ له نية، وحرم نقلها إلى مسافة قصر، إن وجد أهلها، فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلد المال، وفطرته وفطرة لزمته في بلد نفسه، ويجوز تعجيلها لحولين فقط، ولا تدفع إلا إلى الأصناف الثمانية وهم: الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل، ويجوز الاقتصار على واحد من صنف، والأفضل تعميمهم والتسوية بينهم، وتسن إلى من لا تلزمه مئونته من أقاربه، ولا تدفع لبني هاشم ومواليهم، ولا لأصل وفرع وعبد وكافر، فإن دفعها لمن ظنه أهلاً فلم يكن أو بالعكس لم تجزئه إلا لغني ظنه فقيراً.
وصدقة التطوع بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه سنة مؤكدة، وفي رمضان وزمن ومكان فاضل، ووقت حاجة أفضل] .
يسن للمسلم الحرص على اتباع السنة بقدر ما يستطيع، فإذا جاءته الأوامر وفيها ما هو مسنون وواجب حرص على أن يأتي بالمسنون زيادة على الواجب، وكثيراً ما نسمع أن هذا سنة وهذا واجب، ويريدون بالسنة: الفضيلة العمل الذي ليس بواجب ولكنه متأكد، فعندنا مثلاً: زكاة الفطر، فيها واجب وفيها مسنون، فتجب على الإنسان الموجود وعن أولاده ومن يمونه، وتسن عن الجنين في بطن أمه، ولا تجب على الجنين ومن لا تلزمه مئونته ونحوه.
الفطرة: صدقة الفطر، وهذه الصدقة تخرج في آخر رمضان، إما عند رؤية الهلال، وإما في صباح يوم العيد، وإما قبله بيوم أو يومين.(14/2)
سبب مشروعية زكاة الفطر
لماذا شرعت زكاة الفطر؟ شرعت لسببين: السبب الأول: طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ وذلك لأن الصائم قد يعمل بعض الأخطاء التي تقدح في صومه، فكلامه فيما لا يعنيه، وسفهه ولغوه، والغيبة والسباب ونحو ذلك، كل هذه لا شك أنها تنقص الصوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) يعني: أنه إذا عمل بقول الزور فإن صومه يبطل أو ينقص أجره، وفي الحديث لما ذكر الصوم قال: (إذا كان صوم يوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث ولا يجهل، فإن سابه أحد فليقل: إني امرؤ صائم) ، وورد حديث: (أهون الصيام ترك الطعام والشراب) يعني: أن ترك الغيبة وترك النميمة وترك الأعمال السيئة صعب على النفوس، وهو في الحقيقة ثمرة الصيام، وفي حديث آخر: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .
فلما كان الصائم لا يسلم إلا نادراً شرع أن يختم صيامه بهذه الصدقة؛ لتكون مكملة لما نقص، ومرقعة لما تخرق.
ولذلك يقول بعضهم: استغفر الله من صيامي طول زماني ومن صلاتي صوم يرى كله خروق وصلاة أيما صلاة السبب الثاني لشرعيتها: أنها طعمة للمساكين، ففي الحديث: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) فإن يوم العيد يوم فرح وسرور، والناس يظهرون فيه بالفرح ويهنئ بعضهم بعضاً، ولذلك يكون من الذلة أن يذل الإنسان نفسه بتكفف الناس في ذلك اليوم، إذا لم يكن عنده ما يقوت به نفسه ويقوت به عياله، فلذلك شرعت هذه الفطرة: طهرة للصائم وطعمة للمساكين.(14/3)
من تجب عليه زكاة الفطر
تجب زكاة الفطر على كل مسلم، ولا تجب على كافر، ثم لا تجب عليه إلا إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، صاع أو أكثر، فلا بد أن يبدأ بنفسه، فقد ورد في الحديث: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ابدأ بنفسك وتصدق عليها، فيبدأ بنفسه، يترك لنفسه طعامه وطعام عياله يوم العيد وليلة العيد، وكذلك أيضاً ما يسد حوائجهم الأصلية من كسوة وأوانٍ وحاجيات، فيقدم حاجته، (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) ، وفي لفظ: (أن يحبس عن من يملك قوته) ، فإذا عجز عنهم بدأ بنفسه، فإن فضل شيء فلزوجته، فإن فضل بعدها فلأمه، ثم أبيه، ثم أولاده الأكبر فالأكبر، ثم من ينفق عليهم كخادم أو نحوه، وقيل: إن الخادم يقدم على الأولاد؛ وذلك لأنه يقول: أطعمني وإلا فأعتقني.
أما الجنين الذي في بطن أمه فلا تجب عنه ولكن تسن عنه، يعني: سنة مؤكدة، ولو ولدته قبل غروب الشمس بدقيقة وجبت عنه، فإن ولد في ليلة العيد فلا تجب، يعني: بعد غروب الشمس وإنما تسن، ولا تجب عن الكافر، فلو كان عند مسلم خادم كافر مملوك فلا تجب عليه؛ لأنها طهرة، والكافر ليس أهلاً للتطهير، فإن أسلم قبل غروب الشمس بدقيقة وجب أن يخرج عنه، وإن أسلم بعد غروب الشمس لم يجب، وكذلك لو اشترى عبداً قبل غروب الشمس بدقيقة فعليه فطرته، وبعد غروب الشمس لا تلزمه وإنما تلزم الذي باعه.(14/4)
وقت إخراج زكاة الفطر
وقت وجوب زكاة الفطر غروب شمس ليلة الفطر، يعني: بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان، هذا وقت الوجوب، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين، وذلك لأنه قد يشق على الناس تفريقها في ليلة واحدة، فلذلك رخص في أن يقدمها قبل العيد بيوم أو يومين، ولأن العادة أنها إذا جاءت إلى الفقير قبل العيد بيوم أو يومين يبقى بعضها إلى يوم العيد، فيبقى عنده ما يسد حاجته يوم العيد، ويكفيه عن التطوف.
وأفضل إخراجها: يوم العيد قبل الصلاة، أي: صباح العيد قبل الصلاة، ولو لم تصل إلى أهلها إلا بعد الصلاة، فمثلاً: إذا أخرجت إلى الجمعيات في صباح العيد، فجمعت عند الجمعية ولو بلغت عشرين كيساً أو أكثر، فالجمعية تفرقها في ذلك اليوم، أو بعده بيوم أو بعده بأيام، فيكون صاحبها قد أخرجها قبل الصلاة، فإن لم يتيسر له إخراجها قبل صلاة العيد، أخرجها ولو في ذلك اليوم، فإن فات يوم العيد كله فإنها لا تسقط، بل يقضيها ويبادر بقضائها متى انتبه إلى ذلك أو عرفه، فلو وكل من يخرجها ليلة العيد فنسي الوكيل ولم يعلم أنه لم يخرج إلا بعد العيد بيوم أو يومين فإنها لا تسقط، وعليه أن يقضيها لأنا عرفنا أنها فريضة، تجزئ في باقي العيد مع الكراهة، ويحرم تأخيرها بلا عذر عن يوم العيد، فيقضيها وجوباً.(14/5)
مقدار زكاة الفطر
مقدار زكاة الفطر صاع من بر أو صاع من شعير أو سويقهما أو دقيقهما، أو تمر، أو زبيب، أو أقط، هذه هي الأصول الخمسة التي وردت في الأحاديث، وكانت من القوت المعتاد في ذلك الزمان، وهي غالب قوتهم وكان أهل البوادي كثيراً ما يقتاتون الأقط، فجاءت الأحاديث بإخراجها من هذه الخمسة، ففي حديث أبي سعيد: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) فسر الطعام بأنه البر.
وجاء في حديث ابن عمر: (عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين) هكذا في موطأ مالك، فدل على أنها لا تخرج عن العبد الكافر، ولو كان صاحبه ومالكه ينفق عليه؛ لأنها طهرة وهو ليس أهلاً للطهرة.
والدقيق هو الطحين، يعني: إذا طحن البر أو الشعير جاز إخراج صاع منه، ولكن يكون بالوزن لا بالمكيال؛ لأنه إذا طحن انتشرت أجزاؤه، فربما يكون الصاع بصاع ونصف بعد ما يطحن، فيخرج بالوزن، فننظر كم وزنه، ووزن الصاع خمسة أرطال وثلثاً فيخرج خمسة أرطال وثلث من الدقيق أو من السويق، والسويق: هو البر أو الشعير يطبخ في سنبله طبخاً طويلاً نحو ثلاث ساعات أو أربع، ثم بعد ذلك يجفف، ثم يصفى من السنبل، ثم يسحق، ثم يؤكل بدون طبخ، وإذا أرادوا أكله بلوه بماء وأكلوه؛ فإنه قد نضج عندما طبخ وهو في السنبل، ويتخذه المسافر زاداً إذا كان مستعجلاً، ويكون الصاع من هذا بالوزن لا بالكيل، يعني: خمسة أرطال وثلث بالعراقي.(14/6)
أفضل الأنواع التي تخرج منها الفطرة
أكثر الصحابة على أن أفضل الأصناف في زكاة الفطر: التمر لسهولة نقله وعدم احتياجه إلى طبخ أو إصلاح، فكانوا يخرجونها من التمر كـ ابن عمر، ولكن يفضل الأنفع للفقراء، ومعاوية لما قدم من الشام وجد أهل المدينة يخرجونها من الشعير، والشعير رخيص، فأشار عليهم أن يخرجوها من البر ولو أقل، فقال: أرى نصف صاع من سمراء الشام يعدل صاعاً من الشعير؛ وذلك لأنه رأى أن الشعير لا يؤكل، وإنما يدفع علفاً للغنم ونحوها، والناس يخرجون منه، فأشار عليهم أن يخرجوا شيئاً يؤكل ولو قليلاً، وكانت قيمة الصاع من الشعير بقيمة نصف صاع من البر، فجعلوا صاع الشعير بنصف صاع من بر، ولكن أبا سعيد استمر على إخراج صاع كامل، ولو من الشعير.
فنقول: إن كان ولابد من إخراج شعير -والشعير لا يؤكل- فنصف صاع من البر الذي يؤكل أفضل من صاع أو صاعين مما لا يؤكل، أما إذا كانوا يخرجونها صاعاً من بر بطيب نفس فإن ذلك أكمل.
فالأفضل هو التمر كما فعله ابن عمر، ثم بعده الزبيب؛ لأنه شبيه به، ولا يحتاج إلى طبخ، ثم بعده البر؛ لأنه أنفع، ثم ينظر إلى الأنفع، فإذا عدمت هذه الخمس أجزأ كل حب يقتات، وذهب بعض العلماء كـ شيخ الإسلام إلى أن الأفضل إخراجها من القوت المعتاد، وأفتى مشايخنا بإخراجها من الأرز؛ لأنه أكثر استعمالاً في هذه الأزمنة، فإخراجها منه أفضل، وإذا لم يتيسر فالبر أفضل، لأنه قوت، أما التمر فقد لا يقتات به إلا القليلون، ولو كان ينفع الفقراء ونحوهم، لكن الغالب أنهم لا يجعلونه قوتاً، فإذا عدمت هذه الأصناف وكان قوت أهل البلد مثلاً: الدخن أو الذرة أو السلق أو الفول فإنهم يخرجون منه؛ لأنه يصبح قوتاً معتاداً.
واختلف هل تخرج من اللحم؟ إذا كان قوتهم لحم سمك أو لحم طير فنقول: إذا كانوا لا يطعمون إلا اللحم أخرجوا الزكاة مما يأكلون.(14/7)
حكم إخراج زكاة الفطر نقداً
اختلف هل يجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر؟ الحنفية يجيزون إخراج القيمة، والجمهور يقولون: إذا وجدت الأصناف الخمسة أو القوت فلا؛ وذلك لخدمة الفقراء، والحنفية قالوا: نظرنا وإذا الحاجة تندفع بالقيمة، ونظرنا وإذا كثير من الذين يأخذونها يبيعونها برخص، فربما يشتري صاحبها الصاع بخمسة، فيجتمع عند الفقير عشرون صاعاً فيبيع الصاع بثلاثة؛ لأنه يريد الثمن، فلو أعطي قيمتها لكان أربح له، ولكن الأولى إخراجها من الأصناف، وإعطاؤها لمن هو بحاجة إليها ليأكلها، أما هؤلاء الذين يجمعونها ويبيعونها فلا يستحقونها، ولو كان يشملهم اسم الفقر، ولكن ينظر من هم الفقراء الذين يحتاجون إلى القوت، فشراؤها لهم خدمة لهم، وتسهيل عليهم، فبدل ما يذهبون ويشترونها من الأسواق تأتيهم عند أبوابهم.
قوله: (ويجوز إعطاء الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه) يعني: إذا كان الفقراء كثيرين فأخرجت صاعاً وفرقته عليهم حفنة حفنة، وكذلك إذا كان الفقير واحداً والبيوت كثيرة: عشرة بيوت، وكلهم جمعوا فطرتهم وأعطوها هذا الفقير فهذا جائز إذا كان مستحقاً.(14/8)
وجوب إخراج الزكاة على الفور
ذكر المصنف إخراج الزكاة، يعني: زكاة المال وزكاة الفطر، وإخراجها يعني: إيصالها إلى أهلها وإعطاؤها لمستحقيها فوراً بدون تأنٍ وبدون تأخير، فقد يحتاج إلى عمل، ويحتاج إلى أن يحصي قيمة بضائعه ويدققها، ويحسب الديون التي عليه، ويحسب الديون التي له، ويسقط هذه من هذه، ثم ينظر في الباقي، ثم ينظر هل عنده سيولة نقود، ثم بعد ذلك يسأل: أين الفقراء؟ لمن نصرفها؟ فإذا تيسرت وجمع ما يكفي أخرجه وأوصله إلى أهله.(14/9)
وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
الصبي والمجنون في أموالهما زكاة، وعليهما زكاة فطر ولو لم يكونا مكلفين، فيلزم الولي إخراج الفطرة عن الصبي وعن المجنون ولو لم يكونا من الذين يصومون، فإذا كانت لهما أموال فالولي هو المكلف بإخراج الزكاة منها، هذا هو قول الجمهور، وذهب بعض العلماء كالحنفية إلى أنه لا يزكى مال المجنون؛ لأنه غير مكلف، يقولون: تسقط عنه الصلاة ويسقط عنه الصوم، ويسقط عن الحج، فكيف يكلف بالزكاة؟!
و
الجواب
أن الزكاة تجب في المال ولا تجب على البدن، أما الصلاة والصوم فإنها على البدن؛ ولأن المال الموجود تتعلق به نفوس الفقراء، فينظرون إلى هذا المال الذي يديره وكيله، فيتحرون أن يأتيهم حقهم منه، ولا ينظرون إلى مالكه، فلذلك تجب الزكاة في مال الصبي وفي مال المجنون.
ولابد من النية عند إخراج الزكاة، فلو أخرج من جيبه مالاً وأعطاه مسكيناً كتطوع، ثم أراد أن ينويها زكاة لا يصح؛ لأن النية لابد أن تكون مقارنة لإعطائها الفقير، فلا يصح أن يخرجها بلا نية ولا تجزئ.(14/10)
حكم نقل الزكاة إلى بلاد غير بلاد المزكي
هل يجوز نقل الزكاة إلى بلاد أخرى؟ أكثر الفقهاء على أنها لا تنقل إلى مسافة قصر، يعني: إلى مسيرة يومين بسير الإبل، بل تفرق في البلد الذي فيه المال؛ وذلك لأن الفقراء فيه يتشوفون إلى حقهم في هذا المال، فإذا نقلت إلى بلاد أخرى كان في ذلك تفويتاً لحقهم، وإساءة الظن بأهل هذا المال، فيظنون أنهم لا يزكون، ويقولون: كيف زكوا ونحن فقراء ولم يأتنا شيء منها؟! فهذا هو السبب.
واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فإن ظاهره أنها تؤخذ من هذا وتعطى لهذا في الحين وفي الحال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل السعاة فيأمرهم أن يفرقوها على الفقراء في حينها، فإذا لم يجدوا أحداً من الفقراء جاءوا إليه بما بقي.
ولعل الصواب: أنه يصح نقلها للمصلحة، ومعروف أنه عليه السلام كان يرسل الجباة ليأتوا إليه بالزكاة، وأن أولئك الجباة كانوا يأتون فيقولون: هذه هي الزكاة التي جمعناها، فيفرقها على أهل المدينة أو على أهل البوادي وغيرهم.
وفي حديث ابن اللتبية أنه قال: (هذا لكم وهذا أهدي إلي) ، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبول الهدية، مخافة أنه تغاضى لأجلها عن بعض الحقوق، وقال: (أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً) .
فدل على أن الواقع أنهم كانوا يأتون بها إليه، ولا شك أنهم كانوا يفرقون بعضها، ولكن الغالب أنهم يأتون بأكثرها، ولعل السبب في ذلك: أن أهل تلك البوادي أغنياء وعندهم أموال، فإذا جبيت من هؤلاء البوادي وليس فيهم فقراء فإنها تجمع ويؤتى بها إلى الإمام ثم الإمام يتولى توزيعها أو يدخلها في بيت المال، والواقع في هذه الأزمنة أن الجباة والعمال يوجهون ويقال لهم: أعطوا فلاناً، وأعطوا فلاناً، وأعطوا فلاناً؛ فيعطون بحسب تلك الأسماء، وما بقي فإنهم يأتون به ويدخلونه في بيت المال، ولا شك أن من دفعها إلى ولي الأمر برئت ذمته؛ لأن بيت المال مجمع الأموال التي تجبى من كل جهة وتصرف في مصالح المسلمين.(14/11)
تخرج زكاة المال في بلد المال، وزكاة الفطرة في مكان وجوده
إذا كان المزكي في بلد وماله في آخر، أخرج زكاة المال في بلد المال، وأخرج فطرته وفطرة من يمونه وفطرة من لزمته في البلد الذي هو فيه، قالوا: لأن الزكاة تتبع المال، والفطرة تتبع البدن، مثاله: إذا كانت أمواله في الرياض وهو مستقر في مكة أو في جدة، فإنه يفرق زكاة أمواله ببلد المال: الرياض، ويخرج فطرته وفطرة عياله في البلد التي أقاموا فيها، وقيل: إنه يخرج فطرته في البلد الذي تغيب شمس الثلاثين من رمضان وهو فيه، فلو قدر مثلاً أنه وعياله صاموا في الرياض، وقبل العيد ببومين أو بيوم ذهبوا إلى مكة، وجاءتهم ليلة العيد وهم بمكة فيفطرون في مكة، يعني: كأن الفطرة تتبع البدن، فيخرجونها في البلد الذي هم فيه ليلة العيد.(14/12)
جواز تعجيل الزكاة
يحوز تعجيل الزكاة لحولين فقط، يعني: إذا رأيت مستحقاً في هذه السنة وعندك زكاة السنة القادمة وزكاة السنة التي بعدها فقلت: سوف أعجل زكاة سنتين وأعطيها هذا الفقير الذي يكاد أن يسجن في دينه، أو الذي أحدق به الغرماء وشددوا عليه، فأعطيته زكاة سنتين دفعة واحدة جاز ذلك، ولا يجوز أكثر من سنتين، وإنما يجوز هذا إذا كان هناك سبب، وإلا فالأصل إخراج زكاة كل مال بعد حوله.
واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنا كنا احتجنا فأقرضنا العباس صدقة سنتين) لما جاء عمر فقال: إن العباس منع الزكاة، قال: (هي علي ومثلها معها) يعني: كان العباس قد دفع زكاة سنتين، فدل على أنه يجوز إخراج الزكاة عن سنتين ولا يستحب.(14/13)
مصارف الزكاة
أهل الزكاة هم المذكورون في الآية الكريمة من سورة التوبة، ذكروا أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله من الزكاة، فقال: (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) فبين أن الله تعالى هو الذي تولى قسمها في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ، (إنما) أداة حصر، {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] وحد الفقير: هو الذي دخله يكفيه أقل من نصف الشهر، وبقية الشهر يقترض، فإذا كان دخله خمسمائة وينفقها في ثلاثة عشر يوماً، وبقية الشهر ليس عنده شيء فهذا نسميه فقيراً، فإذا كان مثلاً دخله ستمائة وتكفيه سبعة عشر يوماً فنسميه مسكيناً، فالمسكين أقل حاجة من الفقير، والدليل أن الله تعالى ذكر الفقراء وحث على الإنفاق عليهم، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ، وقال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] هكذا وصفهم، وكذلك في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] وصفهم بأنهم فقراء؛ لأنهم تركوا أموالهم وهاجروا، فالفقراء أشد حاجة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر: (أعوذ بك من الفقر إلا إليك) .
وأما المسكنة فالمسكين أخف حاجة، وهو الذي يكفيه دخله أكثر الشهر، والدليل قول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفهم بأنهم مساكين، وأن لهم سفينة يعملون عليها في البحر، فدل على أنهم قد يملكون بعض الأشياء، ومع ذلك يوصفون بأنهم مساكين، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) فكونه استعاذ من الفقر، وسأل ربه أن يجعله مسكيناً دل على أن المسكنة أقل شدة من الفقر.
الثالث: العاملون عليها، يعني: الجباة الذين يجمعونها، يرسلهم الأئمة ليجمعوها، فيكون لهم حق فيها بقدر تعبهم، ويستثنى من ذلك إذا كان لهم رواتب، فالحكومة في هذه الأزمنة تفرض لهم رواتب، فإذا كان كذلك فلا يحق لهم أن يأخذوا منها شيئاً، بل يكتفون بما يفرض لهم من الرواتب، فإن فرضت لهم الحكومة شيئاً ونسبة معينة اقتصروا عليها، ولا يزيدون، هذا هو الصواب.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم رؤساء القبائل ومن كانت لهم شهرة ومكانة في أقوامهم، فيعطون تأليفاً لهم، إذا كان يرجى إسلامه أعطي من الزكاة ولو كان كافراً حتى يسلم، أو ليقوى إيمانه، فهو مسلم، ولكن إيمانه ضعيف، فيعطى حتى يقوى إيمانه، أو إسلام نظيره، فإذا أعطيناه أسلم أولئك الآخرون من القواد والرؤساء، أو يرجى منه جباية زكاة، إذا كان رئيساً وقومه يطيعونه ولا يجبون الزكاة إلا إذا أمرهم، فإذا أعطيناه شيئاً منها سلم قومه وعشيرته ودفعوا الزكاة، فمثل هؤلاء مؤلفة قلوبهم فيعطون منها.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما غنموا غنائم حنين أعطى منها المؤلفة قلوبهم، ومنهم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ومنهم عباس بن مرداس أعطاه أقل من عيينة والأقرع؛ فغضب لذلك فكمل له النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم، لا شك أن مثل هؤلاء كانوا يُتألفون، وفي عهد عمر رضي الله عنه قوي الإسلام وانتشر وتمكن في البلاد، وعاد أولئك الرؤساء كسائر الناس لا يحتاج إلى تأليفهم، فأسقط عمر حقهم، وقال: إن الله قد أعز دينه فلا حاجة إلى أن نتألفهم، وليسوا فقراء ولا مساكين ولا ضعفاء ولا غارمين، ولا نعطيهم لأنهم أكابر ورؤساء وقواد، وهم لا يستحقون من الزكاة، إنما كان ذلك في حالة ضعف الإسلام، فأما بعد ما قوي الإسلام فلا حق لهم، وهذا هو السبب في إسقاطه حقهم.
الخامس: الرقاب، يعني: المماليك الذين اشتروا أنفسهم بمال مؤجل، ويسمون المكاتبين، فالمكاتب الذي اشترى نفسه يعطى من الزكاة حتى يوفي عن نفسه.
السادس: الغارمون، والغارم: هو المدين الذي عليه دين كثير لا يستطيع وفاءه، إما غارم لإصلاح ذات البين، كأن يقترض أموالاً يصلح بها بين فئتين من المسلمين، وإما غارم لنفسه يعني: استدان ولا يستطيع أن يفي، ولو لم يوصف بأنه فقير، ولو كان عنده دخل، ولكن الدين استغرق أمواله.
السابع: في سبيل الله، فسر بأنه في الجهاد، يعني: المجاهدون الذين ليس لهم رواتب، فيعطون من الزكاة ما يشترون به أسلحة وما ينفقون به على أنفسهم ذهاباً وإياباً ولو كانوا أغنياء في بلادهم؛ تقوية للمجاهدين وللجهاد، وتكون النفقة عليهم مضاعفة، فالنفقة في سبيل الله: الحسنة أو الدرهم بسبعمائة، وذهب بعض العلماء إلى أن كلمة في سبيل الله تعم وجوه الخير كلها، فيدخل في ذلك بناء المساجد، وبناء المدارس، وإصلاح القناطر، وإصلاح الطرق، وتهيئتها للسالكين، ويدخل في ذلك نشر العلم، وطبع الكتب، وتيسير وسائل العلم وما أشبه ذلك، وقالوا: إن سبيل الله كل وسيلة توصل إلى رضا الله تعالى.
ونقول: إذا تعطلت هذه المصالح ولم يوجد لها إلا مصرف الزكاة صرف فيها من الزكاة، وإلا فالأصل أن الزكاة لها مصرف خاص، وهو كونها في سبيل الله يعني: في القتال.
الثامن: ابن السبيل، ويعرفونه: بأنه المسافر الذي انقطع به السفر، وإن كان له أموال في بلاده، وفي هذه الأزمنة يمكنه أن يتصل ببلاده، ويطلب إرسال مال بواسطة البنوك، ويأتي بسرعة، لكن إذا لم يتيسر وبقي منقطعاً لا يستطيع حيلة، وليس له وسيلة يصل بها إلى أهله؛ حلت له الزكاة إلى أن يصل إلى أهله، هؤلاء هم أهل الزكاة الثمانية.(14/14)
الاقتصار في صرف الزكاة على صنف واحد من الأصناف الثمانية
هل يجوز الاقتصار في صرف الزكاة على صنف واحد؟ الصحيح أنه يجوز، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فاقتصر على الفقراء، فدل على أنه يجوز إعطاؤهم الزكاة كلها، والأفضل تعميمهم، يعني: الأفضل إذا كان عندك مال كثير أن تقول: هذا نصيب الفقراء، هذا نصيب المساكين، هذا نصيب الغارمين، هذا نصيب المجاهدين، هذا نصيب العاملين، هذا نصيب المنقطعين، وتسوي بينهم، يعني: إذا كانت ثمانية آلاف فكل قسم أو صنف له ألف، ولكن الصواب أنه يقدم أكثرهم حاجة، فالأشد حاجة كالفقراء والغارمين مثلاً يقدمون.
قوله: (وتسن إلى من لا تلزم مئونته من أقاربه) إذا كان له أقارب وفقراء لا تلزمه مئونتهم ففيهم أفضل، يقول صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة) بشرط ألا تلزمه مئونتهم، فإن كانت تلزمه مئونتهم فلا يجوز؛ لأنه يدفعها حماية ووقاية لماله، والذين تلزمه مئونتهم: هم الذين يرثهم أو يرثونه، فإذا كان له إخوة فقراء وليس لهم أولاد لو ماتوا لورثهم، ألزم بإعطائهم النفقة، وألزم بالإنفاق عليهم إذا كان قادراً، فإن كان لهم أولاد فإنه لا يرثهم، ففي هذه الحالة يعطيهم من الزكاة، وكذلك أعمامه إذا لم يكن لهم أولاد ولم يكن لهم إخوة، وكان هو الذي يرثهم لو ماتوا، أو يرثون منه يلزمه الإنفاق عليهم فلا يعطيهم من الزكاة.(14/15)
حكم دفع الزكاة لبني هاشم في حالة الضرورة
لا تدفع الزكاة لبني هاشم، وبنو هاشم: هم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لبني هاشم، إنما هي أوساخ الناس) وقال لهم: (إن لكم بخمس الخمس ما يغنيكم عن الزكاة) هذا هو المشهور.
وفي هذه الأزمنة يوجد كثيرون يسمون أنفسهم سادة، ويدعون أنهم من ذرية علي إما من ذرية الحسن أو الحسين، أو من ذرية جعفر أو نحو ذلك، فيقولون: نحن من بني هاشم ويوجد فيهم فقراء وضعفاء ومساكين وغارمون، ولا يأتيهم من بيت المال ما يكفيهم، فنقول: إذا اضطروا واحتاجوا جاز أن يدفع لهم؛ وذلك لأنه لم يتيسر لهم ما كانوا يعطونه من خمس الخمس، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة قسمها خمسة أخماس: أربعة أخماس للغانمين، وخمس يجتبيه، ثم إن هذا الخمس يوزعه خمسة أخماس على قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] فيوزعه على هؤلاء، وفي هذه الأزمنة لا يوجد جباية أموال، ولا يوجد ما يقوم مقام الزكاة، فلا خمس ولا غنائم، فيحتاجون إلى أن يعطوا من الزكاة ما يسد حاجتهم.
ذكر المصنف أن موالي بني هاشم لا تحل لهم الزكاة، والصحيح أنها تحل لهم في هذه الحالة كما تحل لبني هاشم، واستدل الفقهاء بحديث أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن بعض العمال استدعاه أن يخرج معه في عمالة للزكاة ليصيب منها، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها لا تحل لنا، وإن مولى القوم منهم) فلم يخرج أبو رافع، فإذا قلنا: إنها تحل لبني هاشم للحاجة فمواليهم بالطريق الأولى، فمواليهم ليس لهم شرف السيادة التي لبني هاشم.(14/16)
حكم دفع الزكاة إلى من تلزم مئونته
قوله: (ولا تحل لأصل ولا فرع) وذلك لأنه تلزمه مئونتهم، فالأصل: هم الآباء والأجداد ذكوراً وإناثاً، فلا يعطي منها أباه ولا أمه ولا جده أبا أبيه، ولا جده أبا أمه، ولا جداته من كل جهة، ولا يعطي أحداً من أصوله، وكذلك الفروع وهم من تفرع عنه: أولاده ذكوراً وإناثاً، وأولاد بنيه ذكوراً وإناثاً، وأولاد بناته وأولاد بنات بناته ونحوهم؛ لأنه ينفق عليهم عند الحاجة، وينفقون عليه إذا احتاج.
ولا تحل الزكاة لكافر؛ وذلك لأنها صدقات، والكفار ليسوا أهلاً للصدقات.(14/17)
حكم دفع الزكاة لمن ظُن من أهلها ثم تبين خلاف ذلك
قوله: (فإن دفعها لمن ظنه أهلاً فلم يكن لم تجزئ) يعني: دفعها لهاشمي يظنه غير هاشمي فإنها لا تجزئ إذا علم بعد ذلك أنه من بني هاشم، أما إذا دفعها لمن يظنه غنياً فبان فقيراً فإنها تجزئ، وفيه قصة ذلك الرجل الذي قال: لأتصدقن الليلة، فخرج فوضع صدقته في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقيل له: إنه قد قبلت صدقتك، وكذلك لو تعمد إخراجها لمن يعتقده غنياً، قال: هذا الرجل أعطيه وأنا أجزم أنه غني، فأعطاها إياه، ثم تبين أنه فقير، فهل تجزئ؟ لا تجزئ؛ لأنه عندما دفعها كان جازماً أنها في غير أهلها.(14/18)
الحث على صدقة التطوع وتضاعفها في الأزمنة والأماكن الفاضلة
بعد ذلك ذكر المصنف صدقة التطوع، والصدقة بالفاضل مستحبة، وقد رغب الله تعالى في الصدقات كما في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] يعني: آتى المال على حبه، وكذلك قوله تعالى في قصة عباد الله الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:8-9] كل هذا في صدقة التطوع، وورد فيها فضل كبير ومضاعفة كبيرة.
فلابد أن يتصدق بما فضل عن كفايته وكفاية من يمونه، فهي سنة مؤكدة، ولا يجوز أن ينقص كفاية عياله؛ لحديث: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) وحديث: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) .
وتضاعف أجر الصدقة في رمضان ورد فيه حديث: (إذا دخل رمضان فانبسطوا في النفقة فإن النفقة فيه مضاعف) ، وكذلك في سبيل الله، وكذلك في الأزمنة الفاضلة كعشر ذي الحجة ويوم الجمعة، وكذلك الأماكن الفاضلة كمكة والمدينة، وكذلك أوقات الحاجة، إذا كانت هناك حاجة وشدة وفقر وجوع شديد في بلد، فإن الصدقة عليهم تكون مضاعفة، هذا هو الأصل في إيجاب الصدقات.(14/19)
شرح أخصر المختصرات [15]
من كرم الله عز وجل أن شرع لعباده كثيراً من العبادات التي يكسبون بها الأجور والحسنات، ومن أعظم تلك العبادات فريضة الصيام، وقد حددها الشارع بزمان وعلامات.
فعلى المسلم أن يعرف أحكام الصيام وما يتعلق به؛ ليحقق هذه العبادة العظيمة كما أمره الله تعالى، فينال بذلك الفضل والأجر.(15/1)
كتاب الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الصيام.
يلزم كل مسلم مكلف قادر، برؤية الهلال ولو من عدل، أو بإكمال شعبان، أو وجود مانع من رؤيته ليلة الثلاثين منه كغيم وجبل وغيرهما، وإن رؤي نهاراً فهو للمقبلة.
وإن صار أهلاً لوجوبه في أثنائه، أو قدم مسافر مفطراً، أو طهرت حائض أمسكوا وقضوا.
ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً.
وسن الفطر لمريض يشق عليه ومسافر يقصر، وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتا فقط، أو على ولديهما فمع الإطعام ممن يمون الولد.
ومن أغمي عليه، أو جن جميع النهار لم يصح صومه، ويقضي المغمى عليه.
ولا يصح صوم فرض إلا بنية معينة بجزء من الليل، ويصح نفل ممن لم يفعل مفسداً بنية نهاراً مطلقاً] .
صيام رمضان هو الركن الرابع، وقبله ركن الشهادة وركن الصلاة والزكاة، وقد أجمع المسلمون على أنه فريضة على كل مسلم، ولا يلزم إلا المسلم، فلا يلزم الكافر ولا يصح منه، ولا يلزم إلا المكلف، فلا يلزم المجنون ولا الصغير، لكن الصغير يدرب عليه حتى يألفه إذا كلف، ولا يلزم العاجز كالمريض ونحوه ممن يشق عليه.(15/2)
كيفية ثبوت دخول رمضان وانتهاؤه
يجب صوم رمضان برؤية الهلال، أو بإكمال عدة شعبان، وهذا متفق عليه، وكم يكفي للرؤية؟ الأكثرون على أنه يكفي واحد لرؤية هلال رمضان، وأما هلال شوال فلا يكفي إلا اثنان عدلان، فقد ورد أنه جاء أعرابي فقال: (إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بلالاً أن يؤذن للصوم) .
ثم هناك سبب ثالث ذكره بقوله: أو وجود مانع في الرؤية ليلة الثلاثين منه كغيم وجبل وغيرهما، هذه المسألة مختلف فيها، فإذا كانت ليلة الثلاثين وحال دونه غيم أو قتر أو مانع كجبل فهل يصومون أم لا؟ المشهور عند الإمام أحمد أنهم يصومون، والراجح من حيث الدليل أنه لا يصام؛ واستدل الإمام أحمد بحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: اقدروا له يعني: ضيقوا عليه، واستدلوا على أن القدر بمعنى التضييق بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] ، واستدلوا أيضاً بأن ابن عمر كان إذا كان ليلة الثلاثين أرسل من ينظر إليه، أرسل أربعة أو عشرة وقال: انظروا إلى الهلال، فإن كانت صحواً ولم يروه أصبح مفطراً يوم الثلاثين، فإن رأوا الهلال صام، فإن كان هناك غيم أو قتر حال دون أن يروه أصبح صائماً، فجعلوا فعل ابن عمر تفسيراً لقوله: (فاقدروا له) ولكن إذا نظرنا إلى بقية الأحاديث رأينا أن أكثر الروايات تبين أن القدر بمعنى الإتمام، فقد ورد في رواية: (فاقدروا له ثلاثين) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ، وفي رواية: (فأكملوا العدة) وهذا هو الصحيح.
قوله: (وإن رؤي نهاراً فهو لليلة المقبلة) لكن لا يعتد به إلا إذا رؤي متأخراً عن الشمس، فأما إذا رؤي أمام الشمس فإنه لا يعتبر هلالاً، وإنما يكون هلالاً إذا رؤي بعد غروب الشمس، أو رؤي في النهار وقد سبقته الشمس، وعرف بأنها تغيب قبله.(15/3)
من صار أهلاً للصيام أثناء نهار رمضان
قوله: (ومن صار أهلاً لوجوبه في أثنائه أمسك وقضى) صورة ذلك: إذا قدر أن إنساناً صغيراً، ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة، وفي أثناء نهار رمضان كان مفطراً، فنام في النهار فاحتلم، فنقول له: أمسك بقية يومك، واقضه إذا انتهى رمضان، وصم بقية الشهر، وكذلك الفتاة إذا حاضت في أثناء النهار، نقول: هذا النهار الذي حاضت فيه قد بلغت فيه، فيلزمها قضاؤه، وكذلك مثلاً: إذا طهرت الحائض في أثناء النهار، وكانت قد أصبحت مفطرة بسبب الحيض، ولما كان في نصف النهار طهرت واغتسلت، فإنها تمسك بقية النهار، وتقضي ذلك اليوم الذي طهرت في أثنائه، وكذلك المسافر إذا قدم في وسط النهار وهو مفطر فإنه يمسك بقية نهاره ويلزمه القضاء، وكذا المريض إذا عوفي في وسط النهار وهو مفطر، لزمه الإمساك بقية يومه، ولزمه القضاء.(15/4)
الكبير والمريض الميئوس يطعمان عن كل يوم مسكيناً
الكبير أو المريض الذي لا يرجى برؤه إذا أفطر فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً، لأنه معذور في إفطاره، ولا يستطيع الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، فيلزم أولياؤه أن يطعموا عنه.
واختلف العلماء فيما إذا كان قد ذهب عنه التمييز، يعني: خرف فأصبح لا يعقل ولا يفهم ولا يميز، يقولون له: أمسك وصم فيقول: أمسكت، ثم بعد ذلك يشرب أو يأكل، فصار أقل حالة من الطفل، ففي هذه الحال من العلماء من يقول: يسقط عنه التكليف كالمجنون؛ لأنه فاقد العقل، والأكثرون على أنه يطعم عنه؛ لأنه لم يزل تحت ولايتهم؛ ولأنه قد تجاوز سن التكليف.(15/5)
بيان الأفضل للمريض والمسافر من الصوم والإفطار
المريض الذي يشق عليه الصيام هل الأفضل له أن يفطر أم يصوم مع المشقة؟ الأفضل أن يفطر مع المشقة، وهذه رخصة، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، فإذا كان الصوم يتعبه فالفطر أفضل له، وكذلك المسافر الذي يقصر الصلاة، هل الأفضل له أن يفطر ويقضي أو الأفضل له أن يصوم؟ في ذلك تفصيل: إذا كانت عليه مشقة في الصيام في السفر بحيث إنه يسقط، ويحتاج إلى من يخدمه، ومن يفرش له الفراش، ومن يرشه، ومن يحمله؛ ففي هذه الحال الأفضل له الفطر، ولو صام وصبر على الكلفة أجزأه الصيام عن أيام رمضان، هذا قول الجمهور، يعني: أن الأفضل له الفطر مع المشقة الإفطار، وأنه لو تكلف وتجشم وصام فإن ذلك يجزئه، ويسقط عنه الفرض، واستدلوا بحديث أبي الدرداء قال: سافرنا في حر شديد حتى إن أحدنا ليجعل يده فوق رأسه من حر الشمس، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة، ففي هذا مشقة وصبر على الصوم.
وأما إذا لم تكن عليه مشقة، والصيام لا يكلفه ولا يعوقه عن حاجته، فيخدم نفسه ويصلح شئونه: يصلح طعامه ويفرش فراشه، ويصلح مركبه، ولا يحوجه إلى أحدٍ يخدمه؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل، وإن أفطر جاز، فعن أنس قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فكانوا يرون أن من به قوة وقدرة فإنه يصوم، وفي حديث جابر المشهور: أنهم كانوا في سفر، قال: (فمنا الصائم ومن المفطر، فنزلنا منزلاً، فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر) وذلك لأن الصوام سقطوا تحت الظل، ولم تكن عندهم قدرة على أن يخدموا أنفسهم، ولا أن يخدموا رفقتهم من شدة الجهد، ومن شدة الضمأ، ومن شدة التعب، فإذا كانوا بهذه الحال بحيث إنهم يسقطون إذا نزلوا منزلاً، ولا يستطيعون أن يخدموا أنفسهم، فالفطر والحال هذه أفضل، وعليه يحمل حديث أبي موسى وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر) فهذا محمول على ما إذا كان هذا الصائم محتاجاً إلى من يظلل عليه، وإلى من يخدمه، وإلى من يرشه، وإلى من يبل مكانه الذي ينزل فيه، ففي هذه الحالة: صيامه ليس من البر، فكونه يغني نفسه، ويخدم نفسه، أولى من كونه يصوم ويحتاج إلى من يخدمه، وفي حديث آخر: أن قوماً جاءوا من سفر، فأخذوا يمدحون صاحبهم فلان، وقالوا: ما كنا في نهار إلا وهو صائم، وما كان في ليل إلا وهو قائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ومن يصلح حاله؟ من يحمل رحله؟ ومن ينزل رحله؟ ومن يصلح طعامه؟ ومن يصلح فراشه؟ فقالوا: نحن الذين نخدمه، فقال: أنتم خير منه) وذلك لأنه يحتاج إلى من يخدمه؛ لأن الصيام أقعده وأتعبه، وحال بينه وبين أن يغني نفسه، فإذا كان كذلك فالصوم والحالة هذه ليس بفاضل بل مفضول.
والخلاصة: إذا كنت في سفر، وليس عليك مشقة، والصوم لا يعوقك عن خدمة نفسك، فالصوم أفضل، حتى توقع الصيام في زمانه الذي فرض فيه وهو أيام رمضان، وحتى لا يكلفك القضاء، فإن كثيراً من الذين يفطرون يصعب عليهم القضاء، فلا يقضون ما عليهم إلا قرب رمضان الثاني، ففي هذه الحالة: الصوم مع عدم المشقة أفضل، والفطر مع وجود المشقة أفضل، والصوم مع وجود المشقة جائز، والفطر مع عدم المشقة جائز ولكنه مفضول.(15/6)
حكم إفطار المرضع والحامل
قوله: (إذا أفطرت الحامل أو المرضع خوفاً على أنفسهما فعليهما القضاء فقط) .
إذا أفطرت حامل خوفاً على نفسها، فليس عليها إلا القضاء؛ لأنها كالمريض، خافت على نفسها من الألم، فإن كان خوفها على الجنين أو على الرضيع، فهي خائفة على غيرها فعليها مع القضاء الإطعام، هكذا روي عن ابن عباس وغيره، وحمل على ذلك قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] .
والإطعام على من يلزمه مؤنة الولد؛ لأنها أفطرت لأجل هذا الولد، فلذلك يكون عليه الإطعام، وإن أطعمت هي من مالها أجزأ.
قوله: (ومن أغمي عليه أو جن جميع النهار لم يصح صومه) فإذا أغمي عليه قبل الفجر بساعة وما أفاق إلا بعد غروب الشمس وما أكل ولا شرب فهل يجزئه هذا الصوم؟ لا يجزئه؛ لأنه ما نوى، وكذلك من أصابه جنون قبل طلوع الفجر وأفاق بعد غروب الشمس ولو لم يأكل فلا يكون صياماً، لأن الصيام يحتاج إلى نية.
أما النوم، فلو قدر أنه عازم على الصيام في رمضان ثم غلبه النوم قبل الفجر، واستغرق في النوم ولم يستيقظ إلا في الليل، ففي هذه الحال نقول: يجزئه الصيام؛ وذلك لأن النوم ليس كالجنون، وإذا نبه انتبه، ولأنه ناو.
وإذا أغمي عليه جميع النهار فإن عليه القضاء، وأما المجنون فلا قضاء عليه؛ لأن من شرط التكليف العقل.(15/7)
وجوب النية في الصيام
الصيام لابد له من نية، ولابد أن يعيّنه، وتكون النية بجزء من الليل، ولكن قال بعض العلماء: إنه تكفيه نية واحدة في رمضان، فإذا دخل رمضان وقد عزم على أن يصوم الشهر كله، فلا حاجة إلى أن يجدد النية في كل ليلة، ومعروف أنه إذا استيقظ وأكل آخر الليل فإن أكله يكون بنية السحور، فإذا قيل له: لماذا تأكل؟ يقول: لأني أريد الصوم، فينطق بما في قلبه، فيدل على أن النية موجودة، فلا حاجة إلى أن يحرك قلبه بالنية كل ليلة.(15/8)
من أراد السفر فلا ينوي الإفطار إلا بعد أن يجد به السير
مسألة: المسافر إذا أراد أن يسافر فلا يجوز له الإفطار، بل عليه أن يصبح صائماً، ولا يفطر إلا إذا فارق عامر البلد، إذا كان عازماً على الإفطار، فبعض الناس إذا قال: سوف أسافر غداً أفطر بالنية، وقال: إني قد حجزت، وقد أركب الساعة الثامنة أو التاسعة، فيصبح ولم يعزم على الصوم، فربما يعرض له عارض فلا يتيسر له السفر، فيقول: أنا ما أكلت شيئاً منذ أصبحت، وأريد أن أتم صومي؛ لأن السفر لم يتيسر لي، فهل يجزئه؟ لا يجزئه؛ لأنه أصبح بنية الإفطار، فقد عزم على الإفطار ونواه، ونقول له: إنك أخطأت بهذه النية، كان عليك أن تنوي الصوم، ولا تعزم على الإفطار إلا إذا جدّ بك السير، فأما قولك: نويت الإفطار وأنت ما جدّ بك السير فإنك مخطئ؛ وذلك لأنه قد لا يتيسر لك السفر، فلذلك ينتبه لمثل هذا.(15/9)
حكم النية في صيام النافلة
صوم النفل يجوز أن ينوى له من النهار، ففي حديث عائشة قالت: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم) دخل عليها في الصباح، ولما لم يجد طعاماً عزم على أن يتم صوم ذلك اليوم، مع أنه ما نوى من الليل، ولكن هذا خاص بالنفل، ويشترط له شرطان: الشرط الأول: ألا يكون قد أكل أو شرب في أول النهار، فإن ذلك ينافي الصوم.
الشرط الثاني: أن ينوي قبل الزوال، ليكون صومه أكثر النهار، وليس له أجر إلا على ما نواه، أما نهاره الذي ما نوى فيه فإنه لا أجر له فيه؛ لأنه أصبح بنية الإفطار.(15/10)
شرح أخصر المختصرات [16]
اتفق العلماء على أن من مفطرات الصيام: الأكل والشرب والجماع والحيض والنفاس، واختلفوا في غيرها هل تفطر أم لا؟ مثل الحجامة والقيء وما دخل الجوف من غير الأكل والشرب، فينبغي تحقيق الراجح في هذه المسائل لأهميتها البالغة، وللصيام مستحبات ومكروهات ينبغي معرفتها، كما ينبغي معرفة الأيام التي يستحب صيامها والتي يكره أو يحرم صيامها.(16/1)
مفطرات الصيام
قال رحمه الله تعالى: [ومن أدخل إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغ وحلق شيئاً من أي موضع كان غير إحليله، أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه، أو استقاء فقاء، أو استمنى، أو باشر دون الفرج فأمنى، أو أمذى، أو كرر النظر فأمنى، أو نوى الإفطار، أو حجم، أو احتجم عامداً مختاراً ذاكراً لصومه؛ أفطر، لا إن فكر فأنزل، أو دخل ماء مضمضة أو استنشاق حلقه، ولو بالغ أو زاد على ثلاث.
ومن جامع برمضان نهاراً بلا عذر شبق ونحوه فعليه القضاء والكفارة مطلقاً، ولا كفارة عليها مع العذر: كنوم، وإكراه، ونسيان، وجهل، وعليها القضاء، وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت.
وكره أن يجمع ريقه فيبتلعه، وذوق طعام، ومضغ علك لا يتحلل، وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر، والقبلة ونحوها ممن تحرك شهوته.
ويحرم إن ظن إنزالاً، ومضغ علك يتحلل، وكذب وغيبة ونميمة وشتم ونحوه بتأكد.
وسن تعجيل فطر، وتأخير سحور، وقول ما ورد عند فطر، وتتابع القضاء فوراً.
وحرم تأخيره إلى آخر بلا عذر، فإن فعل وجب مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، وإن مات المفرط ولو قبل آخر أطعم عنه كذلك من رأس ماله، ولا يصام، وإن كان على الميت نذر من حج، أو صوم، أو صلاة ونحوها سن لوليه قضاؤه، ومع تركة يجب، لا مباشرة ولي.
فصل: يسن صوم أيام البيض، والخميس والإثنين، وست من شوال، وشهر الله المحرم، وآكده العاشر ثم التاسع، وتسع ذي الحجة، وآكده يوم عرفة لغير حاج بها.
وأفضل الصيام صوم يوم وفطر يوم.
وكره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك، وكل عيد للكفار، وتقدم رمضان بيوم أو بيومين ما لم يوافق عادة في الكل.
وحرم صوم العيدين مطلقاً، وأيام التشريق إلا عن دم متعة وقران.
ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه بلا عذر، أو نفل غير حج وعمرة كره بلا عذر] .
يتكلم الفقهاء في كتاب الصوم على من يلزمه الصيام، ثم بماذا يلزم؟ ثم يتكلمون عن المفطرات، وعن غير المفطرات مما يظن أنه مفطر أو نحوه، ويتكلمون أيضاً عن المكروهات في حال الصيام، ثم يتكلمون عن صيام التطوع، وما يلزم فيه وآكده ونحو ذلك، ثم بعدما ينتهون من باب الصيام يتبعونه بالاعتكاف؛ لما له من الصلة بالصيام.
ذكر هاهنا ما يفطر به الصائم، الصيام في الأصل يكون: عن الأكل والشرب وعن الجماع، ولذلك قال الله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأباح بالليل المباشرة والأكل والشرب إلى أن يتبين الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء -الأكل والشرب والوطء- إلى الليل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، لكن لما كان الأكل هو إدخال الطعام إلى الجوف تكلم الفقهاء على ما يلحق به مما يدخل إلى الجوف، فقالوا: إن من أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان فإنه يفطر؛ وذلك لأنه شبيه بالتغذي، ولأن الغذاء هو إدخال الطعام إلى الجوف عن طريق الفم عادة أو عن طريق الأنف أو غير ذلك.(16/2)
أمور مختلف في وقوع الإفطار بها
قوله: (ومن أدخل إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغ وحلق) يعني: إذا جرح أو شج في رأسه فداوى الجرح، ودخل الدواء إلى دماغه في رأسه؛ فقد دخل هذا الدواء إلى مجوف فهل يفطر بذلك أم لا؟ هناك أسباب متفق على الفطر بها وأسباب مختلف فيها، وهذا من المختلف فيه، فقيل: يفطر؛ لأنه أدخل شيء إلى مجوف وهو الدماغ فإنه جوف الرأس، وقيل: لا يفطر، ولعل الأقرب أن هذا معالجة جرح، وليس بغذاء، ولا يسمى آكلاً ولا شارباً إذا أدخل إلى دماغه دواء.
قوله: (كدماغ أو حلق) لا شك أن الحلق يوصل إلى الجوف؛ لأن الطعام يدخل عن طريق الحلق إلى المريء الذي هو مدخل الطعام والشراب، فإذا وصل إلى حلقه فإنه يعتبر داخلاً في جوفه، فيفطر ولو بقطرة أو قطرات من ماء أو نحوه.
قوله: (من أي موضع كان غير إحليله) الإحليل: هو مخرج البول، يعني: الثقب الذي في رأس الذكر، فإذا أدخل منه شيئاً فإنه لا يفطر به، لماذا؟ لأنه لا يصل إلى الجوف، والبول الذي يخرج من الإحليل (من هذا الثقب) ليس من الجوف، وإنما هو من المثانة، والمثانة ليس لها منفذ، وإنما يأتي إليها البول عن طريق الرشح، بمعنى أنه يجتمع البول في أسفل البطن، ثم تمتصه هذه المثانة، فيدخل إليها عن طريق الرشح، مثل رشح القربة التي في جوفها ماء وليس فيها خروق، ولكن لابتلالها يرشح الماء من ظاهرها.
فعلى هذا لا يكون الإحليل منفذاً، فإذا أدخل منه شيئاً فليس داخلاً إلى الجوف، بخلاف ما إذا أدخل من دبره.
أما الإدخال من الأذن ففيه أيضاً خلاف، وكذلك الإدخال من العين، ذكر الأطباء أن في العين عرقاً يتصل بالخياشيم، ولذلك إذا اكتحل في عينه فإنه يحس بأثر الكحل في خياشيمه، وكذلك إذا قطر في عينه قطرة حارة أو حامضة أو مالحة أحس بطعمها أو أحس بحرارتها في خياشيمه؛ فتصل إلى الفم، ولكن هل يسمى هذا أكلاً أو شرباً؟ لا يسمى أكلاً ولا شرباً إذا جاء عن طريق العين أو عن طريق الأذن، ومع ذلك فإن أكثر الفقهاء قالوا: إذا أحس بطعم القطرات -التي في عينه أو في أذنه- في خياشيمه فإنه يفطر إذا كان متعمداً، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يفطر؛ لأن العين والأذن ليستا منفذاً محسوساً للأكل والشرب بخلاف الفم والأنف، فإنه منفذ محسوس، ومعلوم أن الماء إذا دخل في الخياشيم (المنخرين) دخل إلى الجوف، وقد ثبت في حديث لقيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) .
قوله: (أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه) النخامة تارة تخرج من الرئة (من الجوف) فتصل إلى حلقه، فإذا أخرجها فوصلت إلى لسانه ثم عاد وابتلعها فقد ابتلع شيئاً له جرم فيفطر، وكذلك لو نزلت من رأسه ثم أخرجها عن طريق الفم فوصلت إلى فمه ثم أعاد ابتلاعها؛ لأنه ابتلع شيئاً له جرم.(16/3)
حكم القيء والاستمناء للصائم
القيء ورد فيه حديث صححه جمع من العلماء، وضعفه بعضهم، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من استقاء فقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه) فإذا استقاء متعمداً بأن أدخل يده في حلقه حتى أخرج الطعام أو الشراب من جوفه فعليه القضاء، فأما إذا غلبه القيء وخرج قهراً فإنه معذور، فلا قضاء عليه.
وكذلك إذا استمنى بيده -وهو ما يسمى بالعادة السرية- فإنه يجب عليه القضاء؛ وذلك لأنه عالج شهوته بيده، فيكون بذلك متسبباً لقضاء شهوة، والصائم يجب أن يتجنب ذلك، قال الله في الحديث القدسي: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) .
وكذلك إذا باشر فأمنى أو أمذى، والمباشرة هي: مباشرة الزوجة ولو من وراء ثوب أو من وراء إزار، فإذا باشرها فحضرت شهوته فأمذى أو أنزل -يعني: خرج منه مذي أو مني- فإنه يعتبر قد فعل الشهوة، فيكون عليه القضاء.
وكذلك إذا كرر النظر إلى امرأة أو إلى صورة في أفلام أو نحو ذلك فحصل منه الإمناء (المني) فإنه عليه القضاء.
وقد اختلف في خروج المذي، ولعل الأقرب أنه لا يقضي إذا وقع منه المذي؛ وذلك لأن الكثير من الشباب الذين معهم قوة شهوة يحصل من أحدهم المذي بمجرد نظرة، أو بمجرد فكرة، أو بمجرد رؤية لما يثير الشهوة؛ فيشق عليهم التحفظ من ذلك، فأما إذا خرج المني فإنه يفطر، وهو الذي يخرج دفقاً بلذة، ويكون لونه أصفر بخلاف المذي، فالمذي رقيق أبيض معروف.
ومما يفطر أيضاً: النية، ولو لم يتناول شيئاً، فإذا نوى الإفطار، ونوى قطع الصيام بالنهار، وعزم على أن يفطر ولو لم يتناول، ثم عزم على أن يتم؛ بطل صومه؛ لأن الصيام نية، فإذا نوى تركه بطل الصوم.(16/4)
حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) وخلاف العلماء في ذلك
قوله: (أو حجم أو احتجم) الحجامة فيها خلاف طويل، فأكثر الأئمة لا يرون الفطر بالحجامة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفطر بها؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت فيها، فقد ذكر بعض العلماء أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحد عشر صحابياً، وبعضهم جمع رواة حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) إلى سبعة عشر صحابياً، وتلك الأحاديث لا تخلو من الضعف، وذكر الإمام أحمد منها عدة أحاديث صحيحة كحديث شداد وحديث ثوبان، وأنها معتبرة وصحيحة، فالإمام أحمد ذهب إلى أنه يفطر بالحجامة: الحاجم والمحجوم عملاً بهذا الحديث، وذهب الأئمة الباقون إلى عدم الإفطار بالحجامة، وقالوا: لأنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم، هكذا في صحيح البخاري، وأكثر الروايات على أن اللفظ: (احتجم وهو محرم صائم) ، ولكن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إن ذكر الصيام خطأ من بعض الرواة، فإن أصحاب ابن عباس الملازمين له لم يذكروا فيه الصيام، وإنما ذكروا فيه الإحرام.
وبكل حال إذا احتجم فالاحتياط أنه يفطر ويقضي، وكان كثير من الصحابة يؤخرون الحجامة إلى الليل، فإذا أراد أحدهم أن يحتجم أخر حجامته إلى الليل، وفي هذا دليل على اعتبارهم أن الحجامة من المفطرات.
والذين قالوا: إنها لا تفطر قالوا: إنما الفطر بما أدخله لا بما أخرجه، والدم إنما هو شيء يخرج من الإنسان،
و
الجواب
أن الفطر قد يكون أيضاً بما يخرج، كفطر الحائض بدم الحيض، مع أنه شيء خارج، ومع ذلك لا يصح صومها، وليس لها عذر إلا هذا الخارج، فكذلك أيضاً إخراج الدم بالحجامة، ويلحق بها أيضاً جميع أنواع إخراج الدم: كالفصد والشرط وما أشبهه.
وفي هذه الأزمنة يقام بإخراج الدم للتبرع، فإذا أخرج دماً كثيراً للتبرع لمريض أو نحوه ألحق بالحجامة، وكذلك إذا أخرج دماً كثيراً للتحليل، أما إذا كان يسيراً فلا يلحق بالحجامة، والذي يخرج بالتحليل عادة يكون شيئاً يسيراً يمكن أن يقدر بأنه أقل من فنجان الشاي، فإذا كان أقل من ذلك فإنه لا يعتبر ملحقاً بالحجامة.
وفطر الحاجم؛ لأنه كان يمص الدم، كانت المحجمة مثل القعب، ولها طرف دقيق، فيلصقها بالبشرة بعدما يجرحها جروحاً، فيخرج منها الدم لامتصاصه الهواء الذي في داخلها، ومع امتصاصه يخرج منه دم يختلط بريقه، فيكون ذلك سبباً في إفطاره، حيث إنه لابد أن يختلط بريقه ولو مجه، وأما فطر المحجوم فلإخراجه لهذا الدم.
وفي هذه الأزمنة توجد حجامة بدون امتصاص، يعني: كالإبر التي يستخرج بها الدم، أو آلات تمسك بدون أن يمصها، فلذلك نقول: إذا احتاج إنسان إلى حجامة لمرض أو نحوه فالحاجم إذا لم يمتص بمحجمه فلا قضاء عليه.
واشترطوا في هذه الأشياء كلها -يعني: في إدخال شيء إلى جوفه أو في ابتلاع النخامة، أو القيء أو الاستمناء أو المباشرة أو تكرير النظر أو الحجامة- أن يكون عامداً، فإذا كان مخطئاً فلا يفطر، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون مختاراً بخلاف ما إذا كان مكرهاً، بأن يدخل إلى جوفه قهراً عليه كالمريض المغمى عليه.
الشرط الثالث: لابد أن يكون ذاكراً لصومه، فإذا كان ناسياً فلا يفطر.(16/5)
الداخل إلى الجسم عن طريق الإبر هل يعد مفطراً؟
الإبر الموجودة في زماننا هذا هل يفطر بها الصائم أم لا؟ كان مشايخنا الأولون يمنعون منها، فكان المرضى إنما يعالجون في الليل، ويضربون الإبر في الليل، وقد عهدنا من سنة أربع وسبعين إلى خمس وتسعين أنهم لا يضربون الإبر لأحد إلا بالليل، ويمنعون منها بالنهار، كالشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبد الله بن حميد، وكذلك الشيخ ابن باز كان يمنع منها، ولما كثرت الشكايات، وذكر الأطباء أن كثيراً من الإبر لا يحصل منها وصول إلى الجوف، وإنما هي إبر موضعية؛ فلذلك رخصوا في الإبر إلا أن تكون مما يصل إلى الجوف، كالإبر التي في الوريد (في العروق) فإنها تنتشر بسرعة، وكذلك إبر التغذية والتقوية، فأما التي في طرف البدن أو في طرف الجلد لتهدئة أو نحوها فرخصوا فيها بعد ذلك.
مما ذكروا أنه لا يفطر: لو تصور المرأة، وفكر فيها، فثارت شهوته؛ فأنزل، فهذا شيء قهري لا يفطر به، وكذلك إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار غير متعمد له فلا يفطر، وكذلك إذا تمضمض أو استنشق ومع ذلك دخل شيء من ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى حلقه وهو غير متعمد فلا يفطر، مع أنه منهي عن المبالغة، ولكن لو قدر أنه بالغ أو قدر أنه زاد على ثلاث في المضمضة أو في الاستنشاق فدخل إلى جوفه أو حس بطعمه فابتلعه فلا يفطر بذلك؛ لأن الممضمضة مأمور بها شرعاً.(16/6)
تحريم الجماع في نهار رمضان وكفارته
من المفطرات الوطء (الجماع) ، فإذا جامع في نهار رمضان بلا عذر فعليه القضاء والكفارة، ولابد أن يكون نهاراً، وأن يكون ذاكراً، وأن يكون بلا عذر، فإذا كان بعذر كأن يغلبه الشبق الذي هو شدة الشهوة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه، ففي هذه الحال ليس عليه إلا القضاء، فأما إذا كان يقدر أن يملك نفسه، ولو مع وجود الشهوة فإن عليه القضاء والكفارة.
والذي تجب فيه الكفارة هو الوطء الحقيقي الذي يوجب الحد في الزنا، ويوجب الغسل في الجماع، ولو لم يحصل به إنزال.
والكفارة مثل كفارة الظهار على الترتيب: أولاً: عتق رقبة، والصحيح أنها لابد أن تكون مؤمنة؛ لأن الله اشترط الإيمان في كفارة القتل، وأطلق في كفارة الظهار، فيحمل المطلق على المقيد.
ثانياً: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] فلابد من التتابع.
ثالثاً: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من شعير أو غيره، وقيل: بل نصف صاع من الجميع: من الأرز أو البر أو نحوه، وهو الأحوط.
قوله: (فإن لم يجد سقطت) استدلوا بقصة ذلك الرجل الذي قال: (هلكت! وقعت على أهلي في رمضان، فقال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق الزنبيل- فيه تمر فقال: أين الهالك؟ خذ هذا وتصدق به، فقال: أعلى أفقر مني؟! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فقال: أطعمه أهلك) ولم يأمره بالقضاء إذا أيسر، فدل على أنها سقطت عنه.
أما المرأة فاختلف في الكفارة عليها، فإن كانت معذورة كأن يطأها وهي نائمة، أو أكرهها وقهرها، أو كانت ناسية أو جاهلة؛ فلا كفارة عليها، وإن كانت مختارة ومطاوعة وعالمة ومتعمدة وعارفة بالحكم فعليها كفارة مثله، ويلزمهما قضاء ذلك اليوم الذي أفسداه.(16/7)
مكروهات الصيام
ذكر المصنف مكروهات الصيام ومنها: أن يجمع ريقه فيبتلعه، مع أنه يجوز ابتلاع الريق، ولكن كونه يجمع ريقه ثم يبتلعه فهذا يشبه امتصاص الشيء الذي فيه رطوبة أو نحوه، فيكره ولكن لا يفطر.
وكذلك ذوق الطعام بلا حاجة مكروه، كأن يجعل الطعام على لسانه؛ لأنه إذا وضعه على لسانه ابتل لسانه، وعرف حلاوته وحرارته وحموضته أو مرارته أو ملوحته، ولا يكره عند الحاجة، فقد تحتاج المرأة إلى معرفة طعم الطعام من ملوحة أو نحوها، فإذا جعلته على لسانها ثم دلكت طرف اللسان حتى لا يبقى له طعم، فلعله يعفى عن ذلك.
ومن المكروهات: مضغ العلك الذي لا يتحلل، ويحرم مضغ العلك الذي يتحلل، والعلك هو ما يمضغ في الفم لتسلية أو نحوها، وأكثره من اللبان الشجري المعروف، وليس له طعم عادة، وإنما يمضغ؛ لأنه يسبب نكهة أو رائحة أو نحو ذلك، فإذا كان لا يتحلل فهو مكروه، وإن كان يتحلل منه أجزاء فتختلط بالريق وتبتلع فهو حرام، فهناك كثير من العلوك تمضغ وتتحلل، وقد يكون فيها شيء من الحلاوة ونحوها، فإذا وجد طعم العلك في حلقه أفطر، أما إذا لم يجد فلا يفطر، ولكنه مكروه.(16/8)
حكم القبلة للصائم
اختلف في القبلة للصائم، فقيل: إن كانت عن شهوة فهي مكروهة وهي داخلة في قوله: (ترك شهوته) ، فإذا قبل فإنه لم يترك شهوته، لكن جاءنا الحديث عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم) فلذلك اختلف في حكم القبلة، فمنعها بعضهم؛ لأنها من جملة الشهوة، وأباحها آخرون؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح التفصيل، وهو أنه إذا كانت القبلة تثير شهوته منعت، وإذا كانت القبلة قبلة شفقة ورحمة ورقة فلا بأس بها، وعلى ذلك يحمل حديث عائشة أنه كان يقبل تقبيل شفقة لا تقبيل شهوة، فالحاصل أنها تكره إذا كانت تحرك شهوته، وقد تحرم إذا غلب على ظنه ثوران الشهوة ثم الإنزال أو نحو ذلك، يعني: إذا غلب على ظنه أنه سوف ينزل منه المني حرم التقبيل، وإلا فهو مكروه، وإباحته لمن لا تحرك شهوته.(16/9)
اشتداد تحريم الغيبة والنميمة والشتم في حق الصائم
أما حكم الغيبة والنميمة والشتم ونحوه فهذا يحرم على كل حال؛ وذلك لأن هذه الأشياء محرمة على الصائم والمفطر، فإذا صام تأكد التحريم، ووجب عليه التحفظ أكثر، وقد ذكرنا بعض الأدلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، وقوله: (إذا كان صوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم) ، وفي حديث آخر: (ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث) ، وفي حديث آخر: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) ، والأحاديث في ذلك مذكورة في كتب فضائل رمضان.(16/10)
مستحبات الصيام
يسن تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد ورد حديث: (أحب عباد الله إليه أعجلهم فطراً) ، وذكر أن اليهود كانوا لا يفطرون حتى تشتبك النجوم، فقال صلى الله عليه وسلم: (خالفوهم) ، وحدد وقت الإفطار بقوله: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا -يعني: أقبل الليل من المشرق، وأدبر النهار من المغرب- وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم) فإذا رأيت سواد الليل مقبلاً من جهة المشرق، وتحققت من غروب الشمس؛ فقد دخل وقت الإفطار.
وبهذا يعرف أنه لا يستحب الوصال، وهو: صلة الليل بالنهار، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل فقد اعتذر بأنه يبيت يطعمه ربه ويسقيه، والصحيح أن معنى ذلك: أن الله تعالى يقويه، فيفتح عليه أنواع الإلهامات وأنواع الواردات التي تغنيه عن الأكل، ولم يرخص للصحابة بالوصال، ولكن لما رأوه يواصل استمروا في الوصال؛ فواصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: (لو تأخر لزدتكم، كالمنكل لهم) فالوصال يفوت هذا الخير المذكور في قوله: (أحب عباد الله إليه أعجلهم فطرا) .
كذلك يسن تأخير السحور، والسحور: هو أكلة السحر في آخر الليل، وفيها أيضاً فضل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) وورد حديث: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) وأحاديث أخرى مذكورة في كتب الفضائل.
ويسن عند الإفطار أن يدعو بما ورد من الأدعية، مثل أن يقول: اللهم إني لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي، ويا واسع الرحمة ارحمني، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، أو يدعو بما تيسر من الأدعية، ويرجى إجابة ذلك، وقد ورد في حديث: (للصائم عند فطره دعوة لا ترد) .(16/11)
قضاء الصوم وما يتعلق به من أحكام
قضاء الصيام دين على الإنسان، فإذا أفطر في رمضان لسفر أو مرض، أو أفطرت المرأة لحيض أو نفاس فيعتبر ديناً، وعلى المسلم أن يبادر بقضائه؛ لأنه لا يأمن العوارض، ولا يأمن الأعذار التي تعوقه وتحول بينه وبين القضاء، فلذلك اختاروا أنه يقضي الأيام التي عليه بعد رمضان مباشرة، مخافة العوارض والعوائق، ومع ذلك فإن له التأخير إذا كان الوقت واسعاً، وأما إذا خاف من العوائق فلا يجوز له التأخير.
وقد يقال: إن عائشة كان يكون عليها الصوم من رمضان فلا تقضيه إلا في شعبان، واعتذرت بأن ذلك لمكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لمكان خدمته، وحاجته، وكثرة سفرها معه، ونحو ذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك كل عام، ويمكن أنه وقع مرة أو مرتين، وإلا فالغالب أنهن يبادرن بالقضاء.
وإذا أخره لعذر إلى رمضان بأن مرض واستمر مرضه أو استمر سفره حتى أدركه رمضان آخر؛ فليس عليه إلا القضاء، فإن كان لغير عذر فإن عليه القضاء والكفارة، وهي إطعام مسكين لكل يوم، واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] والأكثرون استدلوا بأن هذا مروي عن كثير من الصحابة، فإنهم أمروا بالكفارة: إطعام مسكين عن كل يوم، ويجوز في هذا الإطعام تفريقه، ويجوز سرده، أي: يجوز إعطاؤه مسكيناً، ويجوز إعطاؤه مساكين دفعة واحدة.(16/12)
من مات وعليه صوم صام عنه وليه
إذا مات المفرط فإن على ورثته أن يكفروا عنه، فيطعمون عنه من رأس ماله، ولا يصام عنه، ومثال ذلك: إذا أفطر عشرة أيام لمرض، ثم شفاه الله بعد رمضان شهراً أو شهرين أو نصف سنة، ولكن كان يدعي شيئاً من المرض مع أنه قادر على أن يصوم ولكن: تساهل، ثم عاد إليه المرض بعد ثلاثة أشهر، ولما عاد إليه حبسه، وبقي مريضاً حتى أدركه رمضان الثاني أو لم يدركه ولكنه مات في هذا المرض الثاني، فماذا يجب على ورثته؟ الإطعام من رأس ماله، فيطعمون عليه عن كل يوم مسكيناً، ولو تبرع أحدهم أن يصوم عنه هل يصام عنه أم لا؟ أكثر الأئمة يجوزون أن يصام عنه، فيصوم عنه ولده الذكر أو الأنثى أو زوجته أو أخته، وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يصام عنه ما أفطر من أيام رمضان؛ وذلك لأنه ثبت عنده أن الحديث الذي في قضاء الصيام عن الميت إنما هو صيام النذر، فتلك المرأة قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضي عنها؟ قال: نعم) وفي رواية: رجل، ولكن جاءنا حديث صحيح واضح في أنه يقضى عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ولا شك أنه يعم صيام الفرض وغيره، فصيام النذر ورد تشبيهه بالدين مع أنه لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه المرء على نفسه، فصيام الفرض الذي أوجبه الله أولى بأن يقضيه عنه أحد أولاده أو أهله.
فالصحيح أنه يقضى عنه، فإن شاءوا صاموا عنه، وإن شاءوا أطعموا عنه، وأما النذر فالمشهور أنه يلزم القضاء عنه، فيصوم عنه أحد أقاربه.
وإذا قلنا: يجوز الصيام عنه فهل يلزم أن يكون الصائم واحداً أم يجوز أن يكونوا عدداً؟ يجوز أن يكونوا عدداً، فإذا كانت عليه عشرة أيام، وأولاده عشرة: خمسة ذكور وخمسة أناث، فقالوا: نصوم عنه يوماً واحداً كلنا، فأصبحوا صياماً يوماً واحداً، ونووا أن صيامهم عن أبيهم، فالصحيح أن ذلك يجزئ.
قوله: (وإن كان على الميت نذر من حج أو صوم أو صلاة ونحوها سن لوليه قضاؤه) إذا كان عليه نذر كأن يقول: إن شفاني الله تعالى أو رد غائبي، أو عافاني من هذا المرض، أو ربحت في هذه التجارة، أو جاء ولدي من غيبته؛ فعليَّ أن أصوم عشرة أيام، أو أن أحج حجة واحدة، أو أن أصلي عشرين ركعة، أو أن أتصدق بمائة، أو أن أقرأ القرآن في ليلة، أو أن أذكر الله في هذا اليوم ألف مرة، أو نحو ذلك من القربات، فهذا يعتبر نذر طاعة يجب الوفاء به، فإذا مات ولم يقضه قيل: يسن لوليه القضاء، وقيل: يجب، وإذا كانت له تركة وجب أن يخرج من تركته ما يقضي نذره، فيقال لأحد الناس: حج عن فلان فإن عليه نذراً، أو يقال لولده: صم عنه، أو صل عنه، واجعل صلاتك عوضاً عن صلاته التي نواها ولم يقدر، ففي هذه الحال يجب الصوم على الولي، وكذلك الصلاة والحج والقراءة والذكر وما أشبه ذلك.
قوله: (ومع تركة يجب لا مباشرة ولي) أي: إذا كانت للميت تركة فيجب أن يقضى عنه ولو بأجرة، كأن يعطى من يحج عنه ونحو ذلك.(16/13)
صيام التطوع
إن الله تعالى يحب من عباده أن يكثروا من أنواع العبادة، ومن جملة العبادة الصيام، فإن جنسه فرض، وهو صوم رمضان، فإذا كان جنسه واجباً بأصل الشرع فإنه يستحب الإكثار من التقرب إلى الله بالتطوع منه.(16/14)
استحباب صيام الأيام البيض
يستحب صيام أيام البيض، وقد وردت أحاديث كثيرة عن بعض الصحابة: أنه صلى الله عليه وسلم أوصاهم أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر منهم: أبو هريرة وأبو ذر، وورد في حديث أبي بن كعب: (إذا صمت من الشهر ثلاثاً فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) وسميت هذه أيام البيض؛ لأن لياليها بيض بالقمر، ونهارها أبيض بالنهار، وهي مما يسن صيامه.(16/15)
استحباب صيام الإثنين والخميس
يسن صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع لمن قدر على ذلك، وإذا قلنا: أيهما أفضل: صيام الإثنين والخميس أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر التي هي أيام البيض؟ لا شك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، ووردت فيه عدة أحاديث، وجعل ذلك عدلاً لصيام الدهر؛ لأنه إذا صام ثلاثة أيام فكأنه صام الدهر، فيكون كمن صام كل شهر، فالحسنة بعشر أمثالها، ولا شك أن الإثنين والخميس أكثر من الأيام الثلاثة؛ لأنه إذا صام الإثنين والخميس يصوم من كل شهر ثمانية أيام أو أكثر، وسبب تفضيل هذين اليومين ما روي أنه صلى الله عليه والسلام كان يحافظ عليها، ويقول: (إنها ترفع فيها الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) فدل هذا على فضل هذه الأيام.(16/16)
فضل صيام ست من شوال
يسن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان، وجاءت فيها أحاديث كثيرة، أشهرها حديث في صحيح مسلم عن أبي أيوب: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) وفي حديث آخر: (صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ست من شوال بشهرين، وذلك كصيام الدهر) وهذه الست فيها كلام طويل، والأرجح أنه يستحب أن يبدأ بها ويتبعها رمضان، لقوله: (أتبعه) فيصوم الأيام التي بعد العيد ليصدق عليه أنه أتبعها، وحيث إنه جاء في الحديث: (ستاً من شوال) فإنه يصدق عليه أن يصوم من شوال كله: من وسطه أو من أوله أو من آخره، وتجزئ متتابعة، وتجزئ متفرقة؛ لأن الجميع يصدق عليها أنها من شوال.
وتكلم العلماء أيضاً على ما إذا كان عليه قضاء فهل يبدأ بالقضاء أو يبدأ بأيام الست؟ ومن كان عليه قضاء فليبدأ بالقضاء، ولو استغرق القضاء صيام الشهر، فلو أن امرأة نفست في رمضان فأفطرت الثلاثين يوماً، ولم تطهر إلا في عشر من شوال، فصامت عشرين يوماً من شوال قضاء عن رمضان وانتهى شوال، وبقي عليها من رمضان عشرة أيام، وصامتها في ذي القعدة، فهل تفوت عليها هذه الست؟ الصحيح أنها تقضيها وتصومها من ذي القعدة؛ لأن رمضان في حقها صار في شوال، وهكذا: من أفطر لعذر، مثلاً: رجل استمر به المرض، وأفطر رمضان كله للمرض، وشفي في شهر محرم أو في شهر صفر فإنه يقضي في شهر صفر ثلاثين يوماً، ثم يتبعه بصيام الست؛ حتى يحصل له صيام الدهر، فيصومها بعد الانتهاء من قضائه.(16/17)
استحباب صيام محرم لا سيما يوم عاشورا
يستحب صيام شهر محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه: المحرم) وهو الشهر الأول من السنة الهجرية، ويسمى شهر عاشوراء؛ لأن اليوم العاشر منه يسن صيامه، والشهر كله يتقرب إلى الله فيه بالصيام؛ لأنه أحد الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] وأفضله اليوم العاشر ثم التاسع.
اليوم العاشر يسمى يوم عاشوراء، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة مختلفة اختلافاً كثيراً، يمكن أن تنظر في منتقى الأخبار وشرحه نيل الأوطار، ولعل السبب أنه دخل فيها الكذب، وسبب الكذب أن الرافضة لما قتل الحسين في يوم عاشوراء ولدوا فيه الأكاذيب الكثيرة، وأنه يوم شؤم؛ لدرجة أنهم إلى هذا اليوم يحزنون فيه، ويذكرون أنه يوم مشئوم، ويعملون فيه مآتم وأشياء محرمة.
ثم إنه قابلهم من يعرفون بالنواصب، فوضعوا فيه أحاديث أخرى كثيرة، وأنه يوم شريف، وأن يحصل فيه كذا، وأن من اكتحل فيه ومن ادهن فيه، ومن وسع فيه على أهله، ومن تطيب فيه إلخ، يريدون بذلك مراغمة الرافضة، فصار هذا اليوم لعبة بين هؤلاء الضدين: الروافض والنواصب، فأولئك كذبوا، وهؤلاء كذبوا؛ فلأجل ذلك توجد فيه الأحاديث المختلفة.
والذي صح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الصيام، وأنه كان يصومه ويأمر بصيامه، ويخبر أن صيامه يكفر سنة، فأما تلك الأشياء المختلفة فهي من وضع هاتين الطائفتين، ولا يلتفت إلى أقوالهم.
في صحيح مسلم أنه قيل: يا رسول الله! إن اليهود يصومونه، يعني: إنك تصومه الآن موافقاً لهم، فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) ؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن التاسع ناسخ للعاشر، وفهموا ذلك من هذا الحديث، لكن لعله غير ناسخ، وأن الحكم باق في أنه يصوم التاسع والعاشر، ثم ورد أيضاً: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده وخالفوا اليهود) وفي رواية: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) ، هذا هو الذي صح فيه.(16/18)
استحباب صيام تسع ذي الحجة
يسن أيضاً صيام التسعة الأيام الأولى من شهر ذي الحجة؛ لما ورد فيها من الفضل الكثير، كما هو مذكور في كتب الفضائل، ومنها الحديث الذي في البخاري: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام إلخ) .
قوله: (وآكده يوم عرفة) .
يوم عرفة هو آكد أيام التسع، وهو اليوم التاسع، ويسن صيامه إلا للحجاج الذين وقفوا بعرفة، فإن الأفضل للحاج أن يفطر ولا يصوم فيه إلا لسبب كما إذا لم يجد الهدي وصام السابع والثامن والتاسع، أما غيرهم فإن الأفضل لهم أن يفطروا؛ ليتقووا على الدعاء، ولأنهم ضيوف الله تعالى، والكريم لا يجوع ضيوفه، فأما غير الحاج فإن صومه فيه فضل، حتى ورد أنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية.(16/19)
أفضل الصيام صيام داود
وأفضل الصيام صيام داود الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو، وهو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فداود عليه السلام اشتهر هذا عنه، ونقله عنه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أفضل الصيام صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى) فهذا هو أفضل الصيام.(16/20)
ما يكره صيامه
يكره صيام الدهر، وما روي عن بعض السلف أنهم كانوا يصومونه فإن ذلك اجتهاد منهم، ففي حديث: (لا صام من صام الدهر) وفي حديث آخر: (لا صام ولا أفطر) .
ويكره إفراد شهر رجب بالصوم؛ وذلك لأن فيه عادات جاهلية، ومنها إفراده كله بالصيام، فهذا من العادات الجاهلية.
ويكره إفراد يوم الجمعة، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) إلا لسبب، وكذلك يوم السبت، وقد ورد فيه أيضاً: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر فليمضغه) وقوله: (فيما افترض عليكم) يعني: فيما شرع لكم واستحب لكم صيامه، ولا يفهم منه أن المراد الفريضة في رمضان.
ويجوز صوم الجمعة والسبت لأسباب كما إذا كان أحد أيام ذي الحجة الأول، أو كان يوم عرفة يوم جمعة أو يوم سبت، أو وافق اليوم الذي يصومه، فإذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصام يوم الجمعة أفطر السبت، أو صام يوم الخميس وأفطر الجمعة وصام يوم السبت، فمثل هذا لم يتعمد صيامه، وإنما وافق صيامه، وكذلك إذا كان عاشوراء يوم سبت أو يوم جمعة جاز صيامه.
ويوم الشك هو: الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو لا؟ ومثاله: إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان لم ير الهلال فيها، فهل يجوز أن يصومه بالتحري؟ نعم، وقد كان يصومه بعض السلف ويقولون: لأن أصوم يوماً من شعبان أفضل من أن أفطر يوماً من رمضان، ولكن ورد فيه حديث عمار المشهور: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
فليلة الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال فيها فإنه لا يصام، وليلة الثلاثين من رمضان إذا لم ير الهلال يلزم الصوم.
وكذلك يكره صيام عيد الكفار؛ لأن في صيامه شيئاً من التشبه بهم، فكأنه عظّمه موافقة لهم.
وكذلك يكره صوم اليومين الأخيرين من شعبان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا أن يكون صوماً يصومه أحدكم فليصمه) فإذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ووافق اليوم الذي يصومه آخر يوم من شعبان فلا بأس بذلك؛ لأنه ما صامه على أنه تحري، ولا صامه على أنه من رمضان، فإنه كان ينهى عن وصل رمضان بغيره، فلا يوصل رمضان بيوم قبله ولا بيوم بعده، بل يلزم إفطار يوم العيد، وكذلك يتأكد إفطار يوم الثلاثين من شعبان.
ويحرم صيام يومي العيدين؛ وذلك لأنهما عيد المسلمين؛ ولأنه يفصل بها بين الأيام التي تصام والتي لا تصام، ولا يجوز صيامها ولو لنذر، ولا يجوز صيامها ولو لكفارة وغيرها.
أما أيام التشريق -وهي الثلاثة الأيام التي بعد عيد النحر: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر- فلا يجوز صيامها؛ لأنها عيد، وفي الحديث: (يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) >ويجوز صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، فإذا كان عليه دم تمتع أو دم قران في حج المتمتع أو القارن ولم يجد الهدي يصوم ثلاثة أيام في الحج فإذا لم يتمكن من صيام الثلاثة قبل العيد صام الثلاثة بعد العيد.
قوله: (ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه بلا عذر) يعني: إذا دخل في قضاء يوم من رمضان، فيحرم قطعه بلا عذر، أما إذا كان هناك عذر كمرض أو سفر أو نحو ذلك، فإنه لا بأس بأن يفطره، فأما إذا لم يكن هناك عذر فإنه يتم صيامه؛ لأنه دخل في فرض، وأما إذا كان في نفل فإنه يكره بلا عذر، فإذا دخل في صيام نفل كره قطعه بلا عذر، أما نفل الحج ونفل العمرة فإنه لا يجوز تركه، فإذا أحرم بحج أو بعمرة لم يجز تأخيره ولا إبطاله، بل يلزمه الإتمام كما سيأتينا في الحج إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/21)
شرح أخصر المختصرات [17]
الاعتكاف من العبادات العظيمة، وهو سنة مؤكدة، وقد حافظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفاه الله، والقصد من الاعتكاف التفرغ للعبادة والانقطاع لها، وللاعتكاف: شروط وسنن ونواقض ومحظورات بينها العلماء، فمن أراد الاعتكاف فعليه أن يراجع ذلك ليستقيم له اعتكافه ويكون اعتكافه، مقبولاً عند الله تعالى.(17/1)
باب الاعتكاف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: والاعتكاف سنة، ولا يصح ممن تلزمه الجماعة إلا في مسجد تقام فيه إن أتى عليه صلاة، وشرط له طهارة مما يوجب غسلاً.
وإن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة؛ فله فعله في غيره، وفي أحدها فله فعله فيه وفي الأفضل، وأفضله المسجد الحرام،ثم مسجد النبي-عليه السلام- فالأقصى.
ولا يخرج من اعتكف منذوراً متتابعاً إلا لما لا بد منه، ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا بشرط.
ووطء الفرج يفسده، وكذا إنزال بمباشرة، ويلزم لإفساده كفارة يمين.
وسن اشتغاله بالقرب، واجتناب ما لا يعنيه.
] يذكرون الاعتكاف بعد الصيام اقتداء بالكتاب العزيز، فإن الله تعالى لما ذكر الصيام أتبعه بالاعتكاف في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] .
والاعتكاف: لزوم مسجد لطاعة الله، هذا هو الاعتكاف في الشرع، فلابد أن يكون في مسجد؛ حتى لا تفوت المعتكف الجمعة والجماعة؛ لأن التفرد والوحدة التي تفوت صلاة الجماعة لا خير فيها.
والقصد من الاعتكاف: التفرغ للتزود من العبادة، فلأجل ذلك فالمعتكف يكون منفرداً مشتغلاً في زاوية من المسجد بأنواع الطاعة: فيقرأ القرآن، ويكثر من تدبره، ويكثر من ذكر الله تعالى بأنواع الذكر، ويكثر من الأدعية رجاء إجابتها، ويشتغل بالصلوات النوافل، ويكثر من التقرب إلى الله تعالى، ويعتزل مجالسة العامة، والخوض في الدنيا وفي أمورها الخاصة، ويصون لسانه عن الكلام السيئ الذي ينافي العبادة، ولا يهتم بأمور الدنيا، ولا ينشغل بشيء من ملذاتها، ولا يهتم بالسؤال عن شيء من أمور الدنيا من أمواله أو نحوه إلا لضرورة.(17/2)
حكم الاعتكاف
الاعتكاف سنة مؤكدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، وما ترك الاعتكاف إلا سنة من السنين ثم قضاه في شوال.
ودخل مرة معتكفه، وأمر أن يبنى له خباء في جانب المسجد، فبني له خباء يستتر به، واستأذنته عائشة أن تعتكف وتبني لها خباء، فلما رأتها حفصة بنت خباء، ثم رأتهن زينب فبنت خباء، فلما انصرف من صلاة الصبح وإذا بالمسجد قد امتلأ بتلك الأخبية التي ضيقت على المصلين، فعرف أن هذا من باب المنافسة، فأمر بها فنقضت؛ وترك الاعتكاف في تلك السنة، واعتكف في شوال عشرة أيام؛ لأنه أحب أن يداوم على هذه العبادة.
والاعتكاف سنة، ولكنه يجب بالنذر، فإذا نذر أن يعتكف لزمه الوفاء بنذره.(17/3)
شروط الاعتكاف ومن يصح منه الاعتكاف
ممن يصح الاعتكاف؟ يصح ممن تلزمه الجماعة، وهو: المسلم الحر البالغ العاقل، فلا يصح الاعتكاف من الكافر، ولا من الصغير، ولا من المجنون، ولا يصح من العبد إلا بإذن سيده.
ويشترط أن يكون في مسجد، قال تعالى: ((وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)) [البقرة:187] ، ويشترط في هذا المسجد أن تقام فيه صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه الجمعة اختار أن يعتكف في مسجد فيه جمعة حتى لا يخرج؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تصلى فيه الجماعة احتاج أن يخرج كل يوم خمس مرات، وكثرة الخروج تنافي الاعتكاف، فإذا كان في مسجد تقام فيه الجماعة فإنه يصلي فيه، ولا تفوته الجماعة، ولا يخرج من معتكفه.
ويشترط أيضاً: الطهارة مما يوجب غسلاً، فلا يعتكف في المسجد وهو جنب، وإذا قدّر أنه احتلم خرج فوراً واغتسل.(17/4)
حكم نذر الاعتكاف
يجب الاعتكاف بالنذر، فإذا نذر أن يعتكف وجب عليه الوفاء، وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: لا يجب الوفاء بالنذر إلا في أشياء جنسها واجب بأصل الشرع، والاعتكاف ليس جنسه واجباً بأصل الشرع، فيجب عندهم الوفاء بنذر الصلاة؛ لأن منها ما هو واجب، والوفاء بنذر الصوم؛ لأن هناك صوم الفرض، والوفاء بالصدقة؛ لأن هناك زكاة الفرض، والوفاء بالحج إذا نذره، وأما الاعتكاف فلا يجب عندهم، والصحيح أنه يجب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فإذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء، والاعتكاف طاعة فيجب عليه الوفاء، سواء كان النذر مطلقاً أو معلقاً، فإذا قال: إن رزقت ولداً فلله عليّ أن أعتكف عشراً في هذا الشهر، ثم رزق ولداً؛ وجب عليه الوفاء؛ وذلك لأنه ألزم به نفسه وتحقق الشرط، وكذلك إذا لم يعلق بأن قال ابتداء: لله علي أن أعتكف في هذا الشهر يوماً أو عشراً أو نحو ذلك.(17/5)
أقل مدة للاعتكاف
اختلف في أقل الاعتكاف، فقيل: يكفي أن يعتكف ساعة: ستين دقيقة، وقيل: أقله يوم أو ليلة، ولعل هذا هو الأقرب؛ وذلك لأن في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام -وفي رواية: ليلة- فقال: أوف بنذرك) ، فعلى هذا أقل مدة للاعتكاف اثنتا عشرة ساعة: يوم بدون ليلة أو ليلة بدون يوم، فأما اعتكاف ساعة فلا يسمى اعتكافاً؛ لأن الاعتكاف في الأصل هو طول الملازمة، وطول الإقامة في المكان الذي يجلس فيه، وقد كان المشركون يعكفون عند معبوداتهم كما في قولهم: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] يقيمون عندها يوما أو أياماً، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] ، فالحاصل أنه إذا أراد أن يعتكف فلا أقل من يوم أو ليلة.(17/6)
تعيين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة غير ملزم
إذا نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة لم يلزمه فيه، بل يجوز في غيره، ومثال ذلك: إذا نذرت وقلت: لله علي أن أعتكف في هذا المسجد يوماً ولا أخرج منه، جاز لك أن تعتكف في المسجد الثاني الذي يقع جنوب أو يقع شمال، وجاز لك أن تعتكف في كل مسجد يوماً؛ لأن القصد هو العبادة، وهذا المسجد ليس له مزية على غيره، فكلها مساجد تصح فيها العبادة.
أما إذا خص أحد المساجد الثلاثة فإنه يلزمه فيه، والمساجد الثلاثة هي التي تشد إليها الرحال، وأفضل المساجد الثلاثة: المسجد الحرام؛ لأن الصلاة فيه بمائة ألف، ثم يليه المسجد النبوي، والصلاة فيه بألف، ثم المسجد الأقصى والصلاة فيه بخمسمائة.
روي أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في المسجد الأقصى، فقال: صل ها هنا) يعني: في مسجد مكة؛ لأنه أفضل، فقال: (إني نذرت في ذلك المسجد، فكرر عليه ذلك مراراً، فقال: شأنك إذاً) فإذا اخترت ذلك فلك ذلك، فمن نذر أن يصلي أو يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يقضي نذره أو صلاته في المسجد النبوي؛ لأنه أفضل، ومن نذر أن يعتكف أو يصلي في المسجد النبوي جاز له أن يعتكف أو يصلي في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل، ومن نذر أن يعتكف أو يصلي في المسجد الحرام لم يجزئه في غيره؛ لأنه ليس هناك ما هو أفضل منه، فأما المساجد الأخرى فإن بعضها ينوب عن بعض، فإذا نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد قباء جاز أن يصلي أو يعتكف في غيره من مساجد المدينة، أو في المسجد الأموي في دمشق الشام أو في مسجد عمرو بن العاص في مصر، وكذلك في غيره.
والحاصل: أنه إذا نذر في غير المساجد الثلاثة صلاة أو اعتكافاً فإنه يجزئه في غيره، وأما في الثلاثة فلابد أن يجزئ في أحدها، وإن عين الأفضل لم يجزئه في غيره، والأفضل هو مسجد مكة (المسجد الحرام) ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى (مسجد بيت المقدس) .(17/7)
حكم نذر الاعتكاف متتابعاً
قوله: (ولا يخرج من اعتكف منذوراً متتابعاً إلا لما لابد منه) لأنه صار واجباً بنذره، فإذا نذر صياماً متتابعاً فإنه يلزمه التتابع إلا لعذر، وإذا نذر اعتكافاً متتابعاً وجب الوفاء به، والتتابع: كأن يقول: نذرت أن أعتكف هذا الأسبوع، والأسبوع سبعة أيام، فإنه يجب عليه أن يتابع هذا الأسبوع ولا يقل: أعتكف يوماً ثم أخرج ثم أعتكف يوماً ثانياً حتى أتم سبعة؛ لأنها لا تسمى أسبوعاً.
ثم إن المعتكف لا يخرج إلا لما لابد منه، يخرج مثلاً لقضاء حاجته من البول ونحوه، ويخرج للطهارة إذا لم يكن هناك في المسجد ما يتطهر به، ويخرج للأكل إذا لم يجد ما يأكله أو لم يأت ما يأكله، أو يخرج لإحضار الطعام، ولكن يقتصر على قدر الحاجة.(17/8)
الصيام في الاعتكاف مستحب وليس بواجب
اختلف هل يشترط مع الاعتكاف صوم؟ والصحيح أنه لا يلزم، والحديث الذي فيه (لا اعتكاف إلا بصوم) لم يثبت، والدليل على أنه يصح بدون صيام: الحديث الذي ذكرنا عن عمر أنه نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصوم، فدل على أنه يصح بلا صوم، والسبب في ذلك أنه عبادة مستقلة، والاعتكاف هو التفرغ للعبادة، فإن تيسر الصيام معه فهو أفضل، أما إذا كان في رمضان فيلزم؛ لأن رمضان واجب صومه بأصل الشرع، وإن اعتكف في غير رمضان فسنة أن يعتكف صائماً.(17/9)
حكم خروج المعتكف لزيارة ونحوها
هل للمعتكف أن يعود مريضاً ويشهد جنازة؟ الصحيح أنه لا يفعل ذلك إلا إن اشترط فقال مثلاً: لله علي نذر أن أعتكف في هذا المسجد أسبوعاً، فلا يخرج لا لعيادة مريض ولا لشهادة ميت أو تشييعه إلا إذا اشترط، فقال: بشرط أن أعود فلاناً المريض، أو أن أعود المرضى من أقاربي، أو أن أشهد من مات منهم وأشيعه، فله شرطه؛ لأن المسلمين على شروطهم.(17/10)
الأمور التي يفسد بها الاعتكاف
متى يفسد الاعتكاف؟ يفسده الوطء؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] عبر بالمباشرة عن الوطء، وكذلك لو أنزل بالمباشرة، والوطء: الجماع الصريح وإن لم يحصل إنزال، والإنزال الذي سببه التقبيل أو الضم أو المباشرة دون الفرج يفسد الاعتكاف، فإذا كان الاعتكاف منذوراً لزمه قضاؤه، ولزمه مع القضاء كفارة يمين؛ لأنه ما وفى بنذره إذا كان معيناً، والمعين كأن يقول: لله علي أن أعتكف العشر الأول من شهر ربيع الثاني، فحدد العشر الأول ثم أفسد منها يوماً بالإنزال أو بالجماع، فنقول له: كمل اعتكافك، واقض ذلك اليوم، وكفر كفارة يمين؛ وذلك لأنك ما وفيت بالشرط كما ينبغي.(17/11)
وظائف الاعتكاف
ذكرنا أن المعتكف يعتزل الناس، وأنه ينفرد، فلا يأذن لأحد أن يزوره، ولا يفتح الباب للزوار ولكثرة المخالطين بل ينفرد عنهم، وإذا قدر أن زاره أحد فلا بأس أن ينبسط معه، ولكن لا يتمادى معه في شيء من كلام الدنيا.
وعلى المعتكف أن يشتغل بالقربات، ويشتغل بكثرة الذكر تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً واستغفاراً، ويشتغل بالدعاء، فيكثر من دعاء الله تعالى، ويشتغل بالصلوات في غير أوقات النهي، ويشتغل بالقراءة، ويتجنب ما لا يعنيه، يعني: الكلام الذي لا أهمية له فلا يتكلم في شيء من أمور الدنيا، ولا يتكلم في فلان أو فلان، ولا يتكلم في حالات الناس، ولا في أسعارهم، ولا في مبايعاتهم، ولا في الحوادث التي تحدث، يتجنب ذلك كله حتى يكتب له اعتكافه عملاً صالحاً، نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.(17/12)
الأسئلة(17/13)
طول نهار رمضان في بعض البلدان ليس مسوغاً للإفطار
السؤال
طالب كان يدرس في بلد يطول فيه النهار ويقصر فيه الليل، حيث يمسكون في شهر رمضان عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ويفطرون عند الساعة التاسعة ليلاً؛ ولطوله لم يصم هذا الطالب الشهر كله، فماذا عليه جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا أفطر أياماً معلومة، فلابد من قضاء تلك الأيام التي يعرفها، وهذا العذر لا يسوغ له أن يفطر شيئاً من أيام رمضان وهو مكلف.(17/14)
حكم حيض المرأة قبل الصلاة
السؤال
امرأة دخل عليها وقت صلاة العشاء فأخرتها إلى الساعة العاشرة ليلاً، فأتتها العادة فماذا عليها في هذه الحالة، أفتونا مأجورين؟
الجواب
تبقى هذه الصلاة في ذمتها، وإذا طهرت فإنها تقضيها.(17/15)
إذا طهرت الحائض قبل طلوع الشمس ولو بدقيقة فعليها أداء صلاة الفجر
السؤال
إذا طهرت الحائض قبل طلوع الشمس، فما هي الصلوات التي يجب عليها أداؤها؟
الجواب
إذا طهرت قبل أن تطلع الشمس ولو بدقيقة عليها أن تقضي صلاة الفجر.(17/16)
الاحتلام يوجب الغسل ولا يبطل الصيام
السؤال
إذا احتلم وهو صائم فماذا عليه؟ وإذا أفطر وهو يجهل ذلك، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز له الإفطار، عليه أن يغتسل لأجل الصلاة، والاحتلام لا يبطل الصيام.(17/17)
حكم الجماع في نهار رمضان وما يترتب عليه
السؤال
ما حكم الجماع في نهار رمضان وما هي كفارته، علماً بأن بعض الناس يستهينون بهذا الأمر؟
الجواب
لا شك أنه يفسد الصيام، وأنه يوجب كفارة؛ لأن الله تعالى أباح الجماع في ليل رمضان في قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] ، فهذا يدل على أن إباحة الوطء خاص بالليل؛ لقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فمن جامع في نهار رمضان لم يكفه القضاء، بل عليه مع القضاء كفارة مثل كفارة الظهار على الترتيب، ويعتبر ذنباً، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه ذلك الرجل فقال: (هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي في رمضان) فأقره على أن هذا هلاك، فدل على أنه ذنب.
وقد يقع هذا من كثير من الشباب، وبالأخص في الأيام التي هي قرب زواجه، فتقع منه المباشرة والوطء في نهار رمضان، وهذا خطأ، وعليه أن يحفظ صيامه، فإذا أراد أن ينام في نهار رمضان ينام بعيداً عن امرأته حتى لا تغلبه شهوته، والمرأة أيضاً عليها أن تنام في مكان بعيد إذا عرفت أنه لا يملك نفسه إذا قربت منه، ويحفظ كل واحد منهما صيامه عما يفسده.(17/18)
مفاسد الذهاب إلى الملاهي
السؤال
هذه فتاة تقول: إنها فتاة ملتزمة، ولكن أهلها يذهبون إلى مدن الألعاب والملاهي، ولا تحب الذهاب معهم للأسباب الآتية: التبذير، وكثرة النساء المتبرجات، وقيام بعض النساء بالتصوير بالكاميرات، ومضيعة الوقت، فما هو توجيهكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن ما ذكرت صحيح، وأن هذه الملاهي ليس فيها إلا لهو وسهو، فهذه الألعاب التي ينصبها بعض الناس لاكتساب الأموال، ويسمونها ملاهي، هي في الحقيقة لهو، وفيها إضاعة المال، والنبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كثرة السؤال، وإضاعة المال) يعني: صرفه فيما لا أهمية له.
وكذلك يشتد الأمر إذا كان فيها تصوير، فإن هناك من يصور الحاضرات من النساء، وكذلك إذا كان فيهن من تكشف وجهها، وقد يكون هناك رجال كالبوابين والحراس ونحوهم، فيحصل أنها تكشف أمامهم، ولا تبالي بهم ولو كانوا من المتقاعدين ونحوهم، ولا يجوز للمرأة أن تكشف أمام هؤلاء ولا غيرهم.
والوقت ثمين، وعلى المرأة الناصحة لنفسها أن تحفظ وقتها بالشيء الذي ينفعها، وأن تبتعد عن الشيء الذي يضر أو الشيء الذي لا نفع فيه ولا فائدة.(17/19)
دخان الطبخ ونحوه لا يفطر
السؤال
هل دخان النار لمن يطبخ أو يعمل القهوة على النار يفطر؟
الجواب
الصحيح أنه لا يفطر، هذا البخار الذي يتبخر من القهوة أو من الطعام أو دخان النار ونحوه لو حصل أنه يشم رائحته لا يفطر.(17/20)
دعوة الصائم عند الإفطار لا ترد
السؤال
في الحديث: (للصائم دعوة عند فطره لا ترد) متى تكون هذه الدعوة؟
الجواب
عند الإفطار، يعني: عندما يبدأ في الإفطار، وقبل أن يتناول شيئاً، يدعو بما تيسر.(17/21)
جواز المضمضة بالماء البارد في نهار رمضان
السؤال
في أيام رمضان الحارة هل يجوز أن أتمضمض بالماء البارد؟
الجواب
يجوز، على أن تتحفظ حتى لا تبتلع شيئاً، وعلى ألا تبالغ فيه.(17/22)
يجب التأكد من غروب الشمس عند الإفطار
السؤال
كنت على سفر في رمضان، وأفطرت عند غروب الشمس، وعندما ذهبت قليلاً على طريق مرتفع رأيت أن الشمس لم تغرب كاملاً، فما حكم صومي جزاكم الله خيرا؟
الجواب
نرى أن عليك القضاء؛ لأنك تسرعت، حيث لم تتأن حتى يدخل وقت الإفطار وهو غروب الشمس.(17/23)
من سقى أرضاً مجهولة فله ثمرها ولصاحبها أجرتها
السؤال
عندي رشاش في مزرعتي أسقي به الزرع، ويخرج الرشاش في دورانه ويسقي أرضاً مجهولة الصاحب، ولعلها للبلدية، والآن قد أثمرت تلك الأرض، فما حكم الحب المنتج من غير أرضي، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا بأس في ذلك إذا كنت أنت التي تسقيها ولا تعرف لها أهلاً، فإذا جاء أهله وطلبوا منك أجرتها فعليك أن تعطيهم أجرة على ما نبت فيها من الزرع إذا كان نبت فيها الزرع، وإذا لم يطلبوا شيئاً فلك الزرع؛ لأنه أثر سقيتك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/24)
شرح أخصر المختصرات [18]
الحج ركن من أركان الإسلام، وهو من أعظم أبواب الخير التي فتحها الله عز وجل لعباده، فإن من حج حجاً صحيحاً عاد كيوم ولدته أمه لا ذنب عليه، وهو من الجهاد في سبيل الله.
والحج كغيره من العبادات، له أركان، وواجبات، ومستحبات، وشروط، وله مبطلات ومحرمات ومكروهات، وقد فصل العلماء رحمهم الله كل ذلك وبينوه، فعلى من أراد الحج والعمرة أن يطالع ما كتبه العلماء كي يحج حجاً صحيحاً مبروراً.(18/1)
كتاب الحج والعمرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الحج والعمرة.
يجبان على المسلم الحر المكلف المستطيع في العمر مرة على الفور، فإذا زال مانع حج بعرفة وعمرة قبل طوافها وفعلا إذن وقعا فرضا، وإن عجز لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من حيث وجبا، ويجزئانه ما لم يبرأ قبل إحرام نائب، وشُرِطَ لامرأة محرم أيضاً، فإن أيست منه استنابت، وإن مات من لزماه أُخرجا من تركته.
وسن لمريد إحرام غسل أو تيمم لعذر، وتنظف، وتتطيب في بدن، وكره في ثوب، وإحرامٌ بإزار ورداء أبيضين عقب فريضة أو ركعتين في غير وقت نهي، ونيته شرط، والاشتراط فيه سنة.
وأفضل الأنساك التمتع، وهو أن يحرم بعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم به في عامه، ثم الإفراد، وهو أن يحرم بحج ثم بعمرة بعد فراعه منه، والقران: أن يحرم بهما معاً أو بها ثم يدخله عليها قبل الشروع في طوافها، وعلى كل من متمتع وقارن إذا كان أفقياً دم نسك بشرطه، وإن حاضت متمتعة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة، وتسن التلبية، وتتأكد إذا علا نشزاً، أو هبط وادياً، أو صلى مكتوبة، أو أقبل ليل أو نهار، أو التقت الرفاق، أو ركب، أو نزل، أو سمع ملبياً، أو رأى البيت، أو فعل محظورا ناسياً، وكره إحرام قبل ميقات وبحج قبل أشهره.
فصل: ميقات أهل المدينة الحليفة، والشام ومصر والمغرب الجحفة، واليمن يلملم، ونجد قرن، والمشرق ذات عرق، ويحرم من بمكة لحج منها، ولعمرة من الحل، وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
ومحظورات الإحرام تسعة: إزالة شعر، وتقليم أظفار، وتغطية رأس ذكر، ولبس المخيط إلا سراويل لعدم إزار وخفين لعدم نعلين، والطيب، وقتل صيد البر، وعقد نكاح، وجماعٌ، ومباشرة فيما دون فرج.
ففي أقل من ثلاث شعرات وثلاثة أظفار في كل واحد فأقل طعام مسكين، وفي الثلاث فأكثر دم، وفي تغطية الرأس بملاصق ولبس مخيط وتطيب في بدن أو ثوب أو شم أو دهن الفدية.
وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً فعليه جزاؤه، والجماع قبل التحلل الأول في حج وقبل فراغ سعي في عمرة مفسد لنسكهما مطلقاً، وفيه لحج بدنة ولعمرة شاة، ويمضيان في فاسده ويقضيانه مطلقاً إن كانا مكلفين فوراً وإلا بعد التكليف وبعد حجة الإسلام فوراً.
ولا يفسد النسك بمباشرة ويجب بها بدنة إن أنزل وإلا شاة، ولا بوطء في حج بعد التحلل الأول وقبل الثاني، لكن يفسد الإحرام فيحرم من الحل ليطوف للزيارة في إحرام صحيح ويسعى إن لم يكن سعى وعليه شاة.
وإحرام امرأة كرجل إلا في لبس مخيط، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية الوجه، فإن غطته بلا عذر فدت] .(18/2)
حكم الحج والعمرة
الركن الخامس من أركان الإسلام: الحج والعمرة، ولا خلاف في وجوب الحج بشروطه واختلف في فرضية العمرة، فأكثر الفقهاء على أن العمرة فريضة كالحج، واستدلوا بذكرها مع الحج، قال الله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فقرنها مع الحج، وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وورد ذكر فضلها في قوله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: هل على النساء جهاد؟ قال: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) وهو دليل على أن العمرة واجبة عليهن فعلى الرجال أولى، وللذين أوجبوها أدلة أخرى موسعة.
والذين ذهبوا إلى أنها غير واجبة وأنها سنة استدلوا بالحديث الذي فيه أن رجلاً سأل: (هل تجب العمرة عليَّ؟ قال: لا، وأن تعتمر خير لك) ، ولكن الحديث فيه مقال وفيه احتمال، ثم وردت العمرة في حديث جبريل في السنن للدارقطني لما فسر الإسلام: (أن تشهد أن لا إله إلا الله -إلى قوله-: وأن تحج وتعتمر) ، والإسناد صحيح صححه الدارقطني وغيره، وإن كانت الرواية شاذة حيث لم تذكر في أكثر الأحاديث، فالراجح أن العمرة فريضة على القادر، كما أن الحج فريضة على القادر.(18/3)
شروط وجوب الحج والعمرة
يشترط لوجوب الحج والعمرة شروط: الشرط الأول: الإسلام، فلا يجب الحج على الكافر ولا يجوز، بل لا يمكن الكافر من دخول مكة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً في حجة أبي بكر أن ينادي: لا يحج بعد العام مشرك.
الشرط الثاني: الحرية؛ لأن المملوك مملوكة عليه منافعه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف لنفسه، فالسيد يملك عليه منافعه، ففي ذهابه إلى الحج تفويت ما للسيد عليه، فلذلك لا يجب عليه.
وقد ورد في حديث: (أيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام) .
الشرط الرابع: البلوغ.
يخرج بذلك الصغير، فلا يجب عليه الحج لعدم تكليفه، ولكن مع ذلك يصح حجه ولو كان صغيراً، ففي الحديث الصحيح: (أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً لها، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) والمعنى أنه يصح حج الصغير ولو كان ابن خمس سنين أو أربع سنين.
أي: يعقل.
ووليه هو الذي يحرم به فينوي عنه إداخله في النسك، وكذلك يلبسه إذا كان ذكراً لباس الإحرام، ويكمل به مناسك الحج، فيطوف به ويسعى به ويقف به في المواقف التي يجب الوقوف بها ويلبي عنه ويرمي عنه وهكذا، وينوي حجه، أي: أحد أقاربه؛ لقوله: (ولك أجر) .
الشرط الرابع: العقل، فلا يجب الحج على المجنون، وذلك لعدم فهمه وإدراكه، فهو لا يفهم ما يقال ولا يقدر على التصرف، ولا يعرف الأحكام، ولا يقدر أن يمتنع عن المحظورات، والقلم عنه مرفوع.
الشرط الخامس: القدرة، فإن قوله تعالى: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فسر فيه السبيل بأنه الزاد والراحلة، أي: من يملك زاداً وراحلة صالحين لمثله بعد قضاء حوائج أهله، وبعد قضاء ما يحتاجون إليه في غيبته، وكذلك أن يقدر على الحوائج الأصلية التي يحتاج إليها في السفر.
وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ما السبيل؟ قال: (الزاد والراحلة) .
وفي هذه الأزمنة معلوم أنه لا يحتاج إلى أن يملك راحلة -أي: سيارة- لكن إذا كان يملك أجرة ركوبه في السيارة فقد صار مستطيعاً إذا توافرت فيه بقية الشروط، من امتلاك النفقة في ذهابه وإيابه، وامتلاك النفقة التي تكفي لأهله حتى يرجع، فإذا كان محترفاً وغاب توقفت حرفته وتوقفت صنعته وعمله، فلابد من أن يؤمن لأسرته ما يكفيهم مدة غيابه.
وكانت الغيبة قديماً -أي: قبل خمسين أو ستين سنة- نحو شهرين ذهاباً وإياباً، فيكون الرجل بناء أو حفاراً يحفر بالأجرة، أو عاملاً في حرث يعمل بالأجرة، وقد تكون له حرفة يدوية كأن يكون خرازاً أو دباغاً أو خياطاً أو غسالاً أو حداداً أو نجاراً، فإذا غاب توقف كسبه، فمن أين يطعم أهله؟ نقول: لا يجب عليه إلا إذا توافر عنده من كسبه ما يكفي أهله في مدة غيبته، وفي هذه الأزمنة قلت أو قصرت المسافة، فبدل أن كانوا يغيبون لشهرين أصبحوا يغيبون لمدة أسبوع أو ثمانية أيام، ففي هذه المدة التي هي ثمانية أيام أو نحوها إذا كان عند أهله ما يكفيهم مدة ذهابه وإيابه، وحصل على النفقة التي تكفيه لذهابه وإيابه، وحصل على أجرة الركوب ذهاباً وإياباً فإنه قادر، فإذا عجز عن ذلك فإنه غير مستطيع، فالمستطيع هو الذي يملك ما يوصله إلى مكة ويرده وما يكفي أهله مدة غيبته.
وأما ما يذكره الفقهاء في هذا الباب عند تفسير قوله: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] أن السبيل هو من يملك زاداً وراحلة صالحين لمثله، وأن يملك العدة التي يحتاج إليها كخطام البعير ورحله وفرشه، ومتاعه الذي يحتاج إليه، وأوانيه التي يطبخ فيها وقربته التي يحمل الماء فيها، وما أشبه ذلك فهذه قد خفت في هذه الأزمنة.
والحاصل أنه لابد من أن يكون مستطيعاً.
إذاً الإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة، فلو حج الكافر لم يصح منه.
وأما الصغير والعبد فإنه يصح الحج منه ولكن لا يجب عليه، ولا يكلف به، فحجه صحيح ولكن لا يكفيه عن حجة الإسلام.
وأما العاجز فإن الاستطاعة شرط للوجوب، فلو أنه تكلف وحج فهل يجب عليه حجة أخرى؟ نقول: صح حجك وأجزأك.
لو تكلف وقال: أنا أحج راكباً.
أو تبرع له أحد وحج به صح حجه، وكذلك أجزأه عن حجة الإسلام.(18/4)
يجب الحج في العمر مرة
ثم الوجوب إنما هو مرة واحدة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع، ولما فرض الله الحج في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله! فقال: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع) .(18/5)
وجوب الحج على الفور
ثم هل الحج على الفور أو على التراخي؟ نختار أنه على الفور، فساعة أن تتم الشروط وساعة أن يتمكن فالزمن الذي تتم فيه الشروط ويتمكن يجب عليه بحيث يعد مفرطاً إذا أخره، وبحيث يعد ملوماً إذا تغيرت حالته بعد ذلك، فمثلاً: لو أنه في عام ثمانية عشر تمت الشروط في حقه واستطاع أن يحج ولكنه أهمل الحج وتركه بغير عذر، ثم في عام تسعة عشر عجز، تلف ماله أو خسر في تجارته وأصبح عاجزاً مالياً، نقول: إنه ملوم حيث تمكن وفرط، إن عليه إثماً بتأخيره وبتفريطه، ونقول: لو مات بعد أن قدر ولم يحج لزم إخراج نفقة الحج من رأس المال كما سيأتي، وذلك لأنه قدر وفرط حتى مات.
وذهبت الشافعية إلى أنه على التراخي، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الحج إلى سنة عشر،
و
الجواب
أنه لم يتمكن إلا تلك السنة؛ فإنه في سنة ثمان لما فتحت مكة كان مشتغلاً بالوفود، ولم تكن مكة قد طهرت من عادات المشركين، ولما كان في سنة تسع أرسل أبا بكر ومن معه من الحجاج ليطهروا مكة فصاروا ينادون بأول سورة براءة: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:1-2] إلى قوله: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3] فكانوا ينادون: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وذلك لأنهم كانوا في عاداتهم الجاهلية يطوفون وهم عراة، ولما طهر البيت في سنة تسع حج سنة عشر، وكمل الله تعالى له الدين، وهو دليل على أن الحج على الفور؛ لأنه ما تمكن إلا في سنة عشر.(18/6)
إذا زال مانع الحج بعرفة صح الحج
قال المصنف رحمه الله: (فإن زال مانع الحج بعرفة أو مانع عمرة قبل طوافها وفعلاً إذن وقعا فرضاً) .
عرفنا أن من موانع الحج الرق والصغر، فإذا أحرم العبد بالحج وأحرم الصغير بالحج، ولما أحرما قدما مكة وطافا طواف القدوم وذهبا إلى منى مع أهليهم ووقفا بعرفة، وفي يوم عرفة عتق الرقيق وبلغ الصغير -وهما بعرفة- وأكملا حجهما أجزأهما عن حجة الإسلام، هذا معنى زوال المانع.
وكذلك لو أسلم الكافر بعرفة ثم أحرم وكمل المناسك صح حجه، أو عقل المجنون بعرفة وأحرم وكمل المناسك صح حجه عن الفريضة.
وقد عرفنا أن العمرة فريضة، فلو قدر أن العبد أحرم بالعمرة وعتق قبل بدئه بالطواف، ثم طاف وسعى بعد العتق صحت عمرته فريضة، وكذلك الصبي إذا احتلم، والمرأة إذا حاضت قبل أن تطوف ثم طافت للعمرة بعدما طهرت وكملت النسك صحت عمرتها وأجزأتها عن الفريضة.(18/7)
حكم من عجز عن أداء الحج أو العمرة لمرض لا يرجى برؤه
قال المصنف رحمه الله: (وإن عجز لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من حيث وجبا) .
العاجز لكبر كالذي لا يستطيع الركوب أو الحركة ونحو ذلك يقيم من يحج عنه، فقد ثبت في الصحيح في قصة المرأة التي من خثعم أنها قالت: (يا رسول الله! إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم) وقاس ذلك بالدين.
أي أنها عرفت أن الفريضة قد وجبت عليه، وذلك لأنه عاقل وفاهم ومكلف، ولكن لكبره لا يستطيع أن يثبت على البعير، ولا يستطيع أن يتماسك، ويحتاج إلى من يمسكه، فأمرها بأن تحج عنه بعد حجتها.
وفي هذه الأزمنة قد يوجد من هذه حالته، ويمكن أن يقال: إن البعير ليس مثل السيارة؛ فالسيارة مركبها مريح وكذلك الطائرة، ولكن يوجد بعض كبار السن إذا ركب السيارة أغمي عليه فلا يستطيع أن يركبها، وكذلك الطائرة ونحوها، يغمى عليه فلا يستطيع أن يفيق ولا يتمكن من الثبات، فهذا معذور وعليه أن يقيم من يحج عنه.
واشترطوا في المرض أنه لا يرجى برؤه، فإذا قرر الأطباء أن هذا المرض يستمر معه إلى الموت وليس هناك أمل في الشفاء فعليه -والحال هذه- أن يقيم من يحج عنه، وكذلك العمرة.
ثم قوله: [من حيث وجبا] ، أي: يقيم من يحج عنه ويكون ذلك من ماله [من حيث وجبا] يعني: من بلاده التي وجب عليه أن يحج منها، ولا يجوز من أقرب منها؛ لأن تكلفة الحج تختلف باختلاف البلاد، فتكلفة الحج من الرياض -مثلاً- ثلاثة آلاف ريال سعودي ذهاباً وإياباً بما في ذلك الفدية ونحوها، وتكلفة الحج من جدة أو من الطائف ألف أو نحوه، فإذا كان الذي عجز عن الحج لمرض أو لكبر من أهل الرياض أقاموا من يحج عنه من الرياض، ولا يجوز أن يكون من يحج عنه من الطائف ولا من المدينة ولا من جدة، وذلك لأن التكلفة أقل، وهو مكلف بأن يحج من هذه البلاد، ونقول كذلك أيضاً فيمن هو من خارج المملكة، فإذا وجب عليه الحج وهو من أهل قطر أو من أهل الكويت، والتكلفة هناك قد تكون أكثر، قد تبلغ مثلاً خمسة آلاف أو ستة، فلا يجوز أن يقيم من يحج عنه من الرياض ولا من المدينة؛ لأنها أقل، إلا إذا لم يخلف إلا تركة قليلة فإنه يحج عنه من حيث بلغت تلك التركة.
وكذلك لو قدر أن إنساناً سافر للحج، فلما وصل -مثلاً- إلى الطائف أو قريباً منها توفي قبل الإحرام، ففي هذه الحال يقام من يحج عنه من أهل الطائف؛ لأنه قد قطع هذه المسافة، هذا إذا كان الحج فرضاً، أما إذا كان تطوعاً فيجوز أن يحج عنه ولو من أهل مكة؛ لأن التطوع تبرع.
فإن برئ هذا المريض قبل إحرام النائب لم يجزئه الحج عنه، ولزمه -والحال هذه- أن يحج بنفسه؛ لأنه زال عذره.
إما إذا لم يبرأ إلا بعد أن أحرم نائبه فإن حجة النائب عنه مجزئه.
فالحاصل أنه إذا وكل من يحج عنه ويعتمر عنه ثم برأ قبل أن يحرم النائب بالحج أو بالعمرة بطلت النيابة ولزمه أن يحج بنفسه، وأما إذا أحرم النائب قبل برئه ثم برأ بعد ذلك فإن حج النائب يكفي.(18/8)
حكم أخذ المال في حج الإنابة وتساهل الناس في ذلك
هنا نتكلم على الإنابة؛ لأنه وقع فيها تساهل، وذلك لأن كثيراً من الناس اتخذوها حرفة وأرادوها للتجارة، ويسمونها حج البدل، فيأتي كثير من الناس إلى الرياض يقولون: أعطونا حج بدل.
فنقول لهم: إن النائب إنما يحج من البلد التي منها المحجوج عنه، فأنتم الآن حججتم إلى الرياض والحج إلى مكة، فكيف تأتون لأجل هذا؟ وبهذا نعرف أنهم ما أرادوا بذلك إلا المال، والدليل على ذلك: أنهم يماكسون، فإذا قيل لهم: نعطيكم ألفين؛ لأن حجكم إلى مكة ولا ترجعون إلى الرياض قالوا: إن فلاناً يعطي ثلاثة، وفلاناً يعطي أربعة.
وهكذا، فهذا يدل على أنهم ما قصدوا إلا المال، فنقول لك: لا تنب إلا من يريد الحج لا من يريد المال.
وصورة ذلك: إنسان فقير يحب أن يحج بنفسه ويشارك الحجاج في تلك المواسم ويكون ممن تنزل عليهم الرحمة، وممن يباهي الله تعالى بهم الملائكة، ولكنه فقير ليس عنده ما يبلغه وما يرده، ويتمنى أن يحج ولكن ليس بقادر مع أنه قد حج فريضة الإسلام، فهذا أخذ المال لأجل الحج، فمثل هذا يعطى نيابة، وعليه أن ينفق منها في حجه نفقة ذهابه وإيابه وفديته وتنقلاته وما بقي منها يرده على أهل الحاج إلا إذا سمحوا، هذا هو الأصل، وقليل الذين يعملون بذلك.
وقبل خمس وعشرين سنة كان الحاج تكفيه مائة ريال أجرة ركوب ذهاباً وإياباً، ويكفيه للنفقة ذهاباً وإياباً خمسون ريالاً أو سبعون ريالاً، ثم ما زالوا يزيدون ويزيدون إلى أن صاروا يطلبون ألوفاً، فعرفنا بذلك أن مثل هؤلاء يتخذون الحج حرفة وتجارة يريدون بها المال، فلا يجوز إعطاؤهم؛ لأن من عمل عملاً لأجل مال بطل أجره؛ لقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] ، ولقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] ، وفي الحديث: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) .(18/9)
يشترط في حج المرأة أن يكون معها محرم
ويشترط في وجوب الحج على المرأة أن يكون معها محرم، وهذا هو قول الجمهور، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث إلا ومعها ذو محرم) ، وفي حديث آخر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسير مسيرة يومين إلا ومعها ذو محرم) وأقل ما ورد في ذلك مسيرة يوم، هذه أدلة الجمهور.
وذهب المالكية إلى أنه يجوز أن تحج مع نسوة ثقات، ذكر مالك ذلك في الموطأ، وقال: إن الحج فريضة، وهذه مستطيعة من حيث المال، والمحرم إنما هو شرط، والفرض يقدم على الشرط، فإذا علم أن سبب المحرم إنما هو الخوف عليها من الوقوع في الفاحشة ونحوها فإذا أمنت بأن كانت مع نسوة ثقات فلا حرج ولا خوف عليها.
هكذا يعلل المالكية، وفي زمانهم كان المالكية يأتون من أقصى المغرب، من بلاد المغرب ومن بلاد أفريقيا ومن الأندلس ونحو ذلك، وهؤلاء كلهم على مذهب مالك، فكانوا يرسلون نساءهم بدون محرم في السفن، ويشترطون أن يكون معها ثقات من النساء، ومع ذلك فإن الخطر موجود.
ويمكن أن يتساهل في هذه الأزمنة إذا أيست ولم تجد محرماً، وسافرت في السيارات الكبار (الحافلات) التي يفصل فيها بين النساء والرجال بحاجز ولا يحصل الاختلاط، وإذا نزلوا تكون النساء جميعاً في خيام والرجال في خيام والمدة قصيرة، مثلاً: ستة أيام أو سبعة أيام، وهذا للتي لا تجد محرماً، مثل الخادمات، وكثيراً ما يشترط أهلها على من استقدمها تمكينها من أداء الحج؛ لأن أهلها في بلادهم لا يقدرون لفقرهم وعجزهم، فإذا شرط على المستقدم فالوسيلة أن يرسلها مع الحملات التي فيها نساء موثوقات ويفصلون النساء عن الرجال، فأما إذا وجدت محرماً فليس لها أن تحج إلا مع محرم.
قوله: [فإن أيست منه استنابت] يعني: إذا أيست من وجود محرم فإنها تنيب من يحج عنها.
وهذا في الأزمنة القديمة التي تكون فيها مدة الحج شهرين كما ذكرنا، أما في هذه الأزمنة فلعل الأمر أخف.(18/10)
حكم من مات ولم يحج مفرطاً وله تركة
قال المصنف رحمه الله: [وإن مات من لزماه أخرجا من تركته] .
الضمير يرجع إلى الحج والعمرة، فإذا مات من كان قادراً وفرط حتى مات قبل أن يحج ويعتمر لزم إخراج نفقتهما من تركته، أو يحج عنه أحد أولاده ذكوراً أو إناثاً، فإذا لم يوجد من يحج عنه أخرج من التركة، وتخرج من رأس المال، وتكون كأنها دين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه ذلك بالدين في قوله: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟) فدل على أنها تخرج من رأس المال لا من الثلث، فتخرج من رأس المال كأنها ديون للآدميين، وإذا كان قد أوصى بالثلث أخرج ذلك الثلث، ثم يقسم الباقي على الورثة.
والفقهاء أيضاً يذكرون ما يلزم من سافر إلى الحج من أحكام السفر، كما ذكر ذلك النووي رحمه الله في رسالته التي في مناسك الحج، ولكن تغيرت الأحوال؛ لأن السفر قديماً كان يستغرق أشهراً وفي هذه الأزمنة لا يستغرق إلا أياماً.(18/11)
استحباب الاغتسال عند الإحرام لأجل النظافة
قال المصنف رحمه الله: [ويسن لمريد إحرام غسل أو تيمم لعذر] .
أي: إذا وصل إلى الميقات، وذلك أنهم كانوا لا يصلون إلى المواقيت إلا بعد مدة، بعد عشرين يوماً أو بعد خمسة وعشرين يوماً، فلا يصلون إلى الميقات إلا وقد اتسخت أبدانهم واتسخت ثيابهم، فهم بحاجة إلى أن يتنظفوا ويغتسلوا، إلا أهل المدينة؛ فإن ميقاتهم بجانب المدينة ما بينهم وبينها إلا ثلاث ساعات بالرواحل أو نحوها، ولكن ميقاتهم بعيد عن مكة؛ لأنهم يبقون محرمين عشرة أيام، فما بين مكة وميقات أهل المدينة عشرة أيام، فهم بحاجة إلى الاغتسال وإلى النظافة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النفساء أن تغتسل للإحرام مع أنها لا تصلي، فدل ذلك على مشروعيته.
نقول: إذا قدر أن الإنسان في بيته تنظف واغتسل وأزال ما في بدنه من الأوساخ ثم ركب سيارته، وبعد خمس ساعات أو ست ساعات أو نحوها وصل إلى الميقات، فهذه الساعات لا يتسخ فيها بدنه عادة، فيكتفي باغتساله في منزله، ويعمل ما يعمله من مقدمات الإحرام ويحرم.
أما شرعية التيمم فالتيمم لعدم الماء، والصحيح أنه ليس بمشروع، إلا إذا أراد أن يصلي ركعتين ولم يجد ماء فإنه يكتفي بالتيمم، فأما إذا كان الماء موجوداً فإنه يتوضأ ويصلي ركعتين، وأما غسل الإحرام فلا حاجة إلى أن يتيمم بدله، وذلك لأننا عرفنا أن الاغتسال شرع لأجل النظافة، ومعلوم أن التيمم لا ينظف ولا تحصل به نظافة البدن ولا نظافة أعضاء الوضوء.(18/12)
استحباب تعاهد خصال الفطرة قبيل الإحرام
ويستحب أن يتنظف عند الإحرام، والمراد بالتنظف هنا تعاهد خصال الفطرة، فيقص من شعره، ويقلم أظفاره، وينتف شعر الإبط، ويحلق عانته مخافة أن يطول الشعر بعد ذلك فيتأذى به وهو ممنوع من أخذه بعد عقد الإحرام؛ لأنهم كانوا إذا أحرموا مفردين بقوا خمسة عشر يوماً، ففي هذه الخمسة عشر يمكن أن تطول الأظافر، ويطول الشارب، ويطول الشعر فيتأذى به، فأمر أن يتعاهده قبيل عقد الإحرام حتى لا تؤذيه بعد ذلك، وهذا هو السبب في تعاهد الشعر.
وفي هذه الأزمنة لا تبقى مدة الإحرام إلا قليلاً، فالإحرام بالعمرة لا يمكث إلا ساعتين أو ثلاث ساعات، والإحرام بالحج لا يمكث إلا يومين أو ثلاثة أيام، فنقول: إذا كانت أظافره أو شعره ليس طويلاً فلا حاجة إلى التعهد، حتى الذين يحرمون من المدينة بدل أن كانوا يبقون محرمين عشرة أيام أصبحوا يبقون ثلاث أو أربع أو خمس ساعات ثم يصلون إلى مكة.
فالتنظف إزالة شعر العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وإزالة الرائحة الكريهة ونحو ذلك، ولا شك أنه إذا كانت فيه رائحة كريهة فإن عليه أن يزيلها ويحرص على إزالتها.(18/13)
استحباب الطيب للمحرم قبيل إحرامه
ويتطيب في بدنه قبل الإحرام؛ لأنه ممنوع من الطيب بعد ذلك، وقد تطول مدة منعه من الطيب فيتأذى بالرائحة؛ لأنه يبقى عشرة أيام أو نصف شهر وهو ممنوع من الطيب، فلذلك سن له أن يتطيب قبيل عقد الإحرام، أما إذا كانت مدة الإحرام لا تطول فلا حاجة إلى أن يتطيب، وإن تطيب فلا بأس ولكن يكون الطيب في البدن، أي: في شعر الرأس أو في الخدين، أو في اليدين، ولا يجوز أن يطيب ثيابه.
ففي قصة ذلك الرجل الذي أحرم في جبة وقد تضمخ بالطيب في ثيابه قال صلى الله عليه وسلم: (انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الطيب) فأمره بأن يغسل أثر الطيب عن ثيابه، فهذا دليل على أنه إذا طيب بدنه فلا بأس، فإن طيب ثيابه أو وقع عليها طيب من غير اختيار سن أن يغسل أثر الطيب عن ثيابه.(18/14)
صفة إحرام الرجل
قال المصنف رحمه الله: [وإحرام بإزار ورداء أبيضين] هذا في حق الرجل، والإزار: ما يشد به عورته من السرة إلى ما تحت الركبة، والرداء يجعله على ظهره يتظلل به من حر الشمس ومن البرد ونحوه، أي: يضع على ظهره رداءً يلتف به.
هذا هو إحرام الرجل.(18/15)
ليس للإحرام صلاة سنة وإنما هي للوضوء
ويسن أن يحرم عقب صلاة، فإن كان وقت فريضة صلاها ثم عقد الإحرام بعدها، وإن لم يكن في وقت صلاة كالضحى مثلاً صلى ركعتين ينويها سنة الوضوء وليست سنة إحرام؛ لأنه لم ترد في الإحرام سنة خاصة، ولكن ينوي أنها سنة وضوء بشرط أن لا يكون في وقت نهي كبعد العصر وبعد الفجر، فإذا كان وقت إحرامه بعد العصر فلا يصلي بل يتوضأ ويحرم ويركب سيارته، وكذلك بعد الفجر إن لم يمكث حتى تطلع الشمس.
وليس مجرد لباس الإحرام هو النية، فلو رأيت رجلاً في الرياض لابساً إزاراً ورداء كلباس المحرم فلا تنكر عليه ولا تقل: هذا خاص بالإحرام.
لأن هذا لباس جائز لكل زمان ولكل مكان.
إذاً: فمتى يكون الإنسان محرماً؟ إذا نوى وعزم على الدخول في النسك، إذا نوى بقلبه، فلو أنه لبس الإحرام -الإزار والرداء- عند الميقات، ومكث وعليه لباس الإحرام ساعة أو نصف يوم قبل أن ينوي وقبل أن يعزم على الإحرام، ففي هذه الساعات يجوز أن يقص من شعره، ويجوز أن يتطيب، بل يجوز أن يطأ امرأته؛ لأنه ما نوى الإحرام، فلا تحرم المحظورات إلا إذا نوى بقلبه الدخول في النسك.
إذاً فالإحرام نية، وليس الإحرام مجرد اللباس.(18/16)
حكم الاشتراط في الحج والعمرة
ما حكم الاشتراط في الحج والعمرة؟ ذكر أنه سنة، وصفته أن يقول: اللهم! إني أريد العمرة فيسرها لي، وتقبلها مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
إذ كانوا يستحبونه لكل محرم بحج أو بعمرة، سواء في أشهر الحج أو في غير أشهر الحج.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يستحب -ومنهم شيخ الإسلام - وقالوا: لا يستحب إلا إذا خاف على نفسه عدم التمكن، بأن خاف على نفسه من أن يصده عدو، أو خاف على نفسه أن يمنعه مرض، أو كان هناك خطر، ففي هذه الحال له أن يشترط: إن حبسني حابس فمحلي -أي: موضع إحلالي- حيث حبستني.
يقول شيخ الإسلام: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به الصحابة، وإنما أمر به امرأة واحدة وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب لما جاءته فقالت: (إني أريد الحج وأجدني شاكية -أي: مريضة.
فخشيت أن مرضها يحول بينها وبين إتمام المناسك- فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني؛ فإن لك على الله ما استثنيت) هذا سبب شرعية الاشتراط، ولما لم يعلمه بقية الصحابة دل على أنه لمن خاف أن لا يتمكن فقط.
وقد يقول قائل: إن الحوادث موجودة في هذه الأزمنة بكثرة، حوادث الاصطدام، وحوادث الانقلاب وما أشبه ذلك، نقول: هي موجودة ولكن المسافة قليلة، والعادة أنها نادرة في هذه المسافات التي هي مسافة ساعة أو ثلاث ساعات، وبالجملة فإن اشترط فلا بأس، وإن لم يشترط فلا بأس، وإن خاف لمرض أو عجز أو نحو ذلك أو عدم تمكن فيستحب له أن يشترط.
ويحدث كثيراً أن المرأة تأتي إلى الميقات وعليها الحيض، وتخاف أن أهلها لا يقيمون حتى تطهر، فهل تحرم معهم وتشترط، أو لا تحرم، أو تحرم ولا تشترط؟ نقول: إن جزمت بأن أهلها سيمكثون إلى أن تطهر فإنها لا تشترط، فتحرم ولا تشترط، فإن خافت أنهم لا ينتظرونها بل قد ينصرفون قبل أن تطهر فلها أن تشترط، فإن علمت وجزمت بأنهم لا ينتظرونها فليس لها أن تحرم، بل تبقى وتدخل معهم مكة بدون إحرام؛ لأنها تحققت أنهم لا يبقون إلا ساعتين أو ثلاث ساعات ثم يرحلون وهي لا تطهر إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أيام، فإذا اشترطت تقول: اللهم! إني نويت بعمرة -مثلاً- فإن حبسني حابس أو منعني مانع فمحلي حيث حبستني.
هذه مقدمات يعملها عند الميقات.(18/17)
الأنساك الثلاثة
ذكروا الأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
واختلف في أفضلها، فالإمام أحمد يختار أن أفضلها التمتع، وأما الأئمة الآخرون فإنهم مختلفون، فالشافعية يختارون الإفراد، والمالكية في رواية يختارون القران، ولكل اختياره.(18/18)
صفة التمتع
صفة التمتع أن يحرم بعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فإذا أحرم بالعمرة في شهر شوال وفرغ منها وتحلل وبقي في مكة إلى أن يحج وحج في ذلك العام، فإنه متمتع وعليه فدية التمتع.
وأما إذا فرغ من العمرة ثم رجع إلى بلاده ثم أحرم بالحج بعد ذلك وحده فإنه يعتبر مفرداً وليس عليه دم، ويسقط عنه دم التمتع برجوعه إلى بلده.(18/19)
أفضلية التمتع
وهل الإفراد أفضل أم التمتع؟ يختار بعض المشايخ أن الإفراد أفضل إذا سافر للحج سفراً مستقلاً وللعمرة سفراً مستقلاً، وذلك لأنه أكثر مئونة وأكثر تعباً، فإذا قال: أعتمر في رمضان.
فسافر في رمضان واعتمر، ثم في شهر ذي الحجة سافر للحج مفرداً فإن هذا أفضل، حيث إنه سافر سفرتين، وأما لو سافر من كانوا من أهل جدة أو أهل الطائف أو منطقة قريبة من مكة للعمرة يوم سبعة، ثم فرغوا من العمرة، ثم رجعوا إلى أهليهم، ثم أحرموا بالحج من بيوتهم يوم ثمانية، ثم رجعوا ودخلوا مكة، فهل هم متمتعون أم مفردون؟ ما بين إحرامهم بالحج والعمرة إلا نصف يوم أو يوم، والصحيح أنه يسقط عنهم دم التمتع، وأنهم والحال هذه يعتبرون مفردين؛ لأن الحج في سفر والعمرة في سفر.(18/20)
صفة الإفراد
قال المصنف رحمه الله: [ثم الإفراد، وهو أن يحرم بحج، ثم بعمرة بعد فراغه منه] يسافر من الرياض ويمر بالميقات، ويحرم بالحج ويفرغ منه، ثم يرجع إلى بلاده، وينشئ للعمرة سفراً مستقلاً، فهذا هو الإفراد، أما ما يفعله العجزة ونحوهم أو من المعذورين الذين يأتون من مكان بعيد، كالذين يأتون من اليمن أو من الشام أو من إفريقيا أو من البلاد الفقيرة، فلقلة نفقتهم وأموالهم يقولون: لا نقدر على الفدية، ولا نقدر على العمرة مرة ثانية.
فيحرمون بالحج ويفرغون من الحج، ثم بعد ذلك يعتمرون من التنعيم في اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر، ويقولون: هذه عمرة الإسلام انتهينا منها.
نقول: إنها وإن كانت مجزئة لكنها ناقصة، والعمرة الكاملة هي التي يحرم بها من بلده، ويفسر بعض العلماء قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال: إتمامه أن تحرم به من دويرة أهلك، يعني: أن تنشئ له سفراً مستقلاً لكل واحد منهما، هذا هو الإتمام.
نقول لهؤلاء: إذا كنتم عاجزين عن الفدية فإنكم تستطيعون الصيام، فأحرموا متمتعين بالعمرة، وانتهوا من العمرة، وبعد ذلك صوموا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، صوموا بين الحج والعمرة ثلاثة أيام أو في أيام التشريق فتحصل لكم عمرة تامة وحجة تامة، فأما عمرة التنعيم فإنها ناقصة؛ لأن أصل العمرة هي الزيارة، وكلمة (عَمَر المكان) تعني (زاره) ، فسميت عمرة لأنهم يزورون البيت من أماكن بعيدة.
والذين يقولون: إن الإفراد أفضل اختاروا ذلك؛ لأنهم يعتمرون في سفر مستقل، فأما الذين يعتمرون من التنعيم ويقولون: سقطت عنا العمرة فنرى أن عمرتهم ناقصة.(18/21)
صفة القران
وأما القران فهو أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يشرع في طوافها، بأن يقول: أحرمت بحج وعمرة.
أو يقول: أحرمت بعمرة.
ثم بعد أن يدخل مكة وقبل أن يطوف يقول: اللهم! إني نويت إحراماً بحج مع عمرتي.
فيدخل الحج على العمرة، ويجوز ذلك، ويسمى إدخال الأكبر على الأصغر، إذ أحرم بالعمرة -والعمرة هي الأصغر- ثم نوى إدخال الحج عليها، وهذا جائز ولكن قبل أن يشرع في طوافها، فيصير قارناً، فأما إدخال الأصغر فلا يجزي، فإذا أحرم بالحج ثم قال: أريد أن أدخل على حجي عمرة حتى أنتهي من العمرة ويكفيني إحرام واحد وسعي واحد نقول: لا يجوز إدخال العمرة على الحج، لكن العكس يجوز.(18/22)
شروط وجوب الهدي على المتمتع والقارن
والقارن والمتمتع عليهما هدي.
ويشترط لوجوب الهدي شروط: أولها: أن يكون آفاقيا، أي: ليس من ساكني المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] أي: يكون آفاقيا، وأقل ذلك مسافة قصر، والصحيح أنه يكون آفاقيا حتى ولو كان من خارج حدود الحرم، فلو كان من أهل جدة اعتبر آفاقيا، وكذلك من أهل بحرة ونحوها، أما القرى المتصلة بمكة فإنها تعتبر من حاضرة المسجد الحرام.
هذا شرط، والمؤلف رحمه الله لم يذكر هنا إلا شرطاً واحداً، وذكر الشارح سبعة شروط لوجوب الهدي على المتمتع وعلى القارن هذا أحدها، أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
الشرط الثاني: أن تكون عمرته في أشهر الحج، فإذا كانت عمرته في رمضان فلا يكون متمتعاً.
الشرط الثالث: أن يحج من ذلك العام، فلو اعتمر في سنة وحج في سنة فلا يجب عليه الدم.
الشرط الرابع: أن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر.
هكذا قال بعض العلماء، ولكن قد اختلف في حد مسافة القصر، ومنهم من قال: لا يسقط عنه الهدي إلا إذا رجع إلى أهله ولو كان مكان أهله قريباً كجدة مثلاً.
ومن قالوا: مسافة القصر اختلفوا: فمنهم من قال: هي خمسة وثمانون كيلو متر.
ومنهم من قال: مسافة القصر أربعة برد.
ومنهم من قال: مسافة القصر مسافة يوم وليلة.
والمختار أنه إذا غاب عن مكة مدة يوم وليلة وقطع فيها ما لا يقطع إلا بمشقة سقط عنه دم التمتع.
الشرط الخامس: أن يتحلل من العمرة، فإن أحرم قبل حله منها صار قارناً، ولكن مع ذلك عليه دم.
الشرط السادس: أن يحرم بالعمرة من الميقات أو من مسافة قصر فأكثر من مكة، وهذا داخل في كونه إذا لم يحرم بها؛ فإنه من حاضري المسجد الحرام.
الشرط السابع: أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو أثنائها.
وأكثر الفقهاء ما ذكروا إلا أربعة شروط: الأول: أن لا يكون من أهل مكة.
ونالثاني: أن تكون عمرته في أشهر الحج.
والثالث: أن يتيسر له الحج في ذلك العام.
والرابع: أن لا يسافر بينهما مسافة قصر.
هذه شروط وجوب الهدي أو شروط وجوب دم التمتع.
يقول: [وإن حاضت متمتعة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة] .
فـ عائشة رضي الله عنها أحرمت متمتعة بالعمرة، ولما جاءت إلى سرف حاضت، وبقيت في عمرتها، ولما كانت بمكة وقرب ذهاب الناس إلى عرفة وهي لم تطهر أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل على عمرتها حجاً، فأدخلت الأكبر على الأصغر وصارت قارنة، ولم تطهر إلا بعرفة فطهرت واغتسلت، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طوافك بالصفا والمروة يكفيانك عن حجك وعمرتك) ولكنها لما رأت صويحباتها قد حصلن على حج مستقل وعمرة مستقلة أحبت أن تكون مثلهن.(18/23)
الأماكن التي تستحب فيها التلبية
بعد ذلك ذكر التلبية، والتلبية شعار المحرم، وهي مسنونة ومؤكدة، وذهب بعضهم إلى أنها ركن من أركان الحج والعمرة، فطالما أحرم ولم يلبِ لم يصح إحرامه، وبعضهم جعلها واجبة فإذا لم يلبِ فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً، ولكن أكثر الفقهاء على أنها سنة ولكنها تتأكد، فهي سنة مؤكدة.
وذكر المصنف لها أحد عشر موضعاً تتأكد فيها: الأول: إذا علا نشزاً.
أي: إذا رقى مكاناً مرتفعاً لبى.
الثاني: إذا هبط وادياً.
أي: منخفضاً.
الثالث: إذا صلى مكتوبة.
أي: فريضة من الفرائض.
الرابع: إذا أقبل الليل.
الخامس: إذا أقبل النهار.
السادس: إذا التقت الرفاق، وكانوا يتلاقون في الطريق وهم يمشون أو ركباناً على الإبل.
السابع: إذا ركب دابته أو مركوبه.
الثامن: إذا نزل.
التاسع: إذا سمع من يلبي، فيجدد التلبية.
العاشر: إذا رأى البيت.
الحادي عشر: إذا فعل محظوراً وهو ناسٍ، كتغطية رأس، ولبس مخيط، ونحو ذلك.(18/24)
حكم الإحرام قبل الميقات
هل يجوز أن يحرم من الطائف قبل أن يصل إلى الميقات الذي هو السيل (قرن المنازل) ؟ يجوز ولكن مع الكراهة، فإن قدر أنه ركب الطائرة فاحتاط وأحرم ولبى قبل أن يصل إلى الميقات بعشر دقائق أو بربع ساعة فإن ذلك جائز مخافة أن يتجاوزه وهو غافل، مع أن الملاحين ينبهون الذين يركبون الطائرة على قرب الوصول إلى الميقات، ولكنهم يغفلون فلا يشعرون إلا وقد تجاوزوا الميقات بعشرة كيلو، فيكون عليهم دم إذا أحرموا بعد ذلك، فنقول لهم: أحرموا قبل الميقات بربع ساعة أو بثلث ساعة أو بعشر دقائق احتياطاً حتى لا يلزمكم دم.(18/25)
حكم الإحرام بالحج قبل أشهر الحج
كذلك هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ولو كان فيه مشقة؟ صفة ذلك أن يقول: سوف أحرم بالحج من نصف رمضان وأبقى بالإحرام إلى يوم العيد -عيد النحر- فيجوز ذلك مع الكراهة، أي أنه أحرم قبل دخول وقت الحج أو قبل أشهر الحج، وهذا مكروه ولكنه جائز، وينعقد حجه ولو كانت عليه مشقة؛ لأنه سوف يبقى قريباً من ثلاثة أشهر على إحرامه.(18/26)
مواقيت الحج
الحج له مواقيت زمانية ومواقيت مكانية، فالزمانية ذكرها الله تعالى إجمالاً بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وكأنها كانت معروفة ومعلومة عند العرب قبل الإسلام، واتفقوا على أنها شوال، وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة، فقيل: وذو الحجة كله.
وقيل: العشر الأول منه، والذين قالوا: ذو الحجة قالوا: إنه يجوز إيقاع أعمال الحج في آخره، ولأن الله ذكرها بالجمع (أشهر) ولم يقل: شهران.
وأكثر الفقهاء على أنها شهران وعشرة أيام، ومعنى كونها (أشهره) أي: لا يصح الإحرام به إلا فيها، وإن كان قد أجاز بعضهم الإحرام قبلها ولكن مع الكراهة كما ذكرنا.
أما المواقيت المكانية فقد روى ابن عمر أو ابن عباس حديثاً فيه توقيت الأماكن، فوُقِّت لأهل المدينة ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن، هذه هي المواقيت التي ذكرت في الأحاديث.
فذو الحليفة قريب من المدينة، وبينه وبين المسجد النبوي ستة أميال، وهو الآن قد دخل في المدينة، فقد وصل إليه البنيان والعمران، ولكنه متميز يعرف بمسجد الإحرام، ويعرف بذي الحليفة، ثم لما كثر الرافضة في المدينة سموه أبيار علي، وادعوا أن علياً قاتل الجن في هذا المكان، وقد أنكر ذلك شيخ الإسلام وقال: تسميته بأبيار علي كذب، ولم يقاتل علي أحداً من الجن، فيسمونه أبيار علي، وبين الحليفة وبين المدينة عشر مراحل، وفي ذلك الوقت كانت عشرة أيام على الإبل، والآن قد قربت فهي أقل من أربعمائة كيلو مترٍ، فكانت مع الطريق القديم الذي يمر ببدر وجدة ورابغ كانت قريباً من أربعمائة كيلو مترٍ ثم قصرت مع الطريق الجديد.
والجحفة وقتها لأهل الشام وأهل مصر والمغرب، والمغرب يعني إفريقيا كلها، يأتون عن طريق البحر أو يأتون عن طريق البر ويمرون بالمدينة فيحرمون من الجحفة، وكانت تسمى قديماً (مهيعة) ، وكانت قرية قديمة ثم صار فيها وباء وحمى، فهجرت وخربت وصار الناس يحرمون قبلها من رابغ، ورابغ أيضاً بلدة قديمة ذكرها الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) وذكر أن الناس يحرمون من رابغ، وفي هذه الأزمنة عمرت الحكومة -أيدها الله- مسجداً في الجحفة، وسهلت له طريقاً معبداً، فمن أراد أن يحرم من الميقات الحقيقي فإنه يجد طريقاً بعدما يتجاوز رابغ ويصل إلى الجحفة وهناك مسجد مهيأ فيه كل ما يحتاجه المحرم، كما أن في ذي الحليفة مسجداً كبيراً مهيأ بالمغاسل ونحوها.
وأهل اليمن ميقاتهم يلملم، وتسمى الآن (السعدية) ، وفيها أيضاً مسجد كبير، وفيها مراحيض وحمامات ومغتسلات، وليس حوله قرى -أي: حول ذلك المكان- إلا قليل سكنوا لأجل المصالح الخاصة.
ولأهل نجد قرن، ويسمى (قرن المنازل) أو (قرن الثعالب) ، وأصله جبال صغيرة مستطيلة ممتدة شمالاً وجنوباً، مرتفعة عن الأرض قليلاً، وهي دون الجبال الكبيرة الشاهقة، وبينها وادٍ ويمرُّ من دونها أو على حدها، وتسمى الآن: (السيل الكبير) ، وقد تسمى أيضاً (قرن المنازل) .
ثم في حدود عام اثنين وثمانين فتح طريق من الطائف إلى مكة مع الجبل الذي يعرف بكراء، وصار أهل الطائف ومن مر معهم يمرون مع ذلك المكان، فأين يحرمون؟ لا يمكن أن يمروا إلى الميقات الذي هو السيل، فسألوا ووجدوا ما يسمى الآن بـ (وادي محرم) وهو أعلى قرن المنازل، فصدرت الفتوى بأنه ميقاتهم، وعمر هناك مسجد كبير، وكان ابن لادن قد عمر مسجداً صغيراً ثم عمرت الحكومة مسجداً كبيراً في وادي محرم، وكذلك أيضاً في وادي السيل وهو أشهرها، فالحاصل أن هذه خمسة مساجد: مسجد في ذي الحليفة، ومسجد في الجحفة، ومسجد في يلملم، ومسجد في وادي محرم، ومسجد في السيل، وهذه هي المواقيت التي يمر بها الناس والتي طرقها معبدة.
أما ذات عرق فلا يمر بها الطريق، وكان أهل العراق وأهل المشرق -أي: المشرق كله الهند والسند وما وراء النهر- كانوا يمرون في طريقهم على إيران وخراسان والعراق وما إلى ذلك، ويأتون من طريق العراق، ويصعب عليهم أن يمروا بميقات أهل نجد الذي هو قرن المنازل، فلما صعب عليهم سألوا عمر وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً وإنه جور عن طريقنا، فقال لهم عمر: (انظروا حذوها من طريقكم) فوقت لهم ذات عرق، فكانوا يحرمون بها طوال هذه القرون، وتسمى (الضريبة) ، ولما لم تكن في تلك الجهات طريق معبدة يمر بها صاروا يأتون مع طريق الحجاز مع طريق نجد أو مع طريق المدينة، ويحرمون من قرن أو يحرمون من ذي الحليفة، ويمكن أن يمر بالضريبة هذه بعض الأهالي الذين حولها والذين لا يتمكنون من الذهاب إلى الطرق المعبدة لبعدها عنهم فيحرمون منها، ولكن ليست محرماً مشهوراً مع أنها ميقات، فطوال هذه القرون يمر بها ويحرم منها أهل المشرق كلهم، وأهل مكة يحرمون منها، وكذلك أهل جدة، وكذلك أهل الشرائع، وأهل بحرة، وأهل الهدا، وأهل الشميسي.
وأهل القرى التي حول مكة يحرمون من بيوتهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ومن كان دون ذلك فمحله من حيث أحرم، حتى أهل مكة من مكة) .
أما أهل مكة فإنهم إن أرادوا العمرة فإنهم يخرجون ويحرمون من الحل؛ لأنه لابد في العمرة من أن يكون فيها حل وحرم، كما أن الحج لابد من أن يكون فيه حل وحرم، فأهل مكة يخرجون من حدود الحرم إلى عرفة وهي من الحل، وكذلك لابد أن يخرجوا إلى التنعيم مثلاً أو إلى عرفة ويحرمون بالعمرة، والدليل على ذلك: (أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عائشة لتحرم من التنعيم للعمرة) .(18/27)
محظورات الإحرام
محظورات الإحرام تسعة: الأول: إزالة الشعر من البدن، من الشارب، أو من اللحية، أو من العانة، أو من شيء من البدن، والأصل تحريم حلق الرأس، قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، ولكن لما كانت إزالة الشعر فيها شيء من الترفع ألحقت جميع أشعار البدن بالرأس؛ لأن إزالته تنعم وترفع، هذا هو السبب.
الثاني: تقليم الأظفار من اليدين أو الرجلين، ألحقت أيضاً بحلق الرأس؛ لأنه أيضاً ترفع وتنعم.
الثالث: تغطية رأس الرجال.
ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في الذي مات وهو محرم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه -أي: لا تغطوا رأسه-؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) .
الرابع: لبس المخيط.
والمراد به ما فصل على جزء من البدن، أي: على مقدار من البدن.
وليس شرطاً أن يكون مخيطاً بإبرة أو ماكينة ونحوها، فلو نسج على هيئة اللباس، حيث إن بعض الماكنات تنسج الفنائل ولا تكون فيها خياطة، أو السراويلات أو ما أشبهها فإذا كان محيطاً بجزء من البدن فإنه لا يجوز لبسه، فيدخل في ذلك القميص الذي له جيب وأكمام، وتدخل فيه الجبة التي لها أكمام، والفانيلة، وكذلك العباءة التي لها أكمام، والفروة، والألبسة الجديدة وما يسمى بالبالطو والكوت وما أشبهها.
ويستثنى من ذلك السراويل لمن لم يجد إزاراً، فإذا لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل، والسراويل واحد جمعه سراويلات، وقيل: إن مفرده سروال.
والأكثر على أن المفرد سراويل، والجمع سراويلات، فيجوز أن يلبس السراويل ليستر به عورته إذا لم يجد إزاراً.
وكذلك يلبس الخفين إذا لم يجد نعلين، واختلف هل يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين كما في حديث ابن عمر أو لا يقطعهما كما في حديث ابن عباس؟ اختار الإمام أحمد أنه لا يقطعهما وأنه لا يفك السراويل، وأكثر الفقهاء على أنه يقطع الخفين حتى يكونا أسفل من الكعبين، وإذا كان كذلك فلا يلبس شبه المقطوع وهو ما يسمى بالكنادر التي تحت الكعبين، والأقرب أنه لا يلبسها مع وجود النعلين؛ لأنهما كالخف المقطوع والخف المقطوع لا يلبس إلا عند عدم النعل.
الخامس: الطيب.
فلا يتطيب في بدنه ولا في ثوبه بأي نوع من أنواع الطيب، من المسك أو من الكافور أو من الورد أو من العود أو من الريحانة أو جميع أنواع الطيب التي فيها رائحة زكية أو لون زكي أو حسن كزعفران أو ورس أو ما أشبه ذلك.
السادس: قتل الصيد.
ويراد به الصيد البري المتوحش طبعاً.
السابع: عقد النكاح، وإذا عقد النكاح فإنه لا ينعقد ولا فدية عليه.
الثامن: الجماع.
التاسع: المباشرة.
مباشرة المرأة ولو بالتقبيل ولو فيما دون الفرج، فهذه محظورات الإحرام، والله أعلم.(18/28)
الأسئلة(18/29)
إذا حاضت المرأة قبل غسل الإحرام
السؤال
إذا حاضت المرأة قبل غسل الإحرام فماذا عليها؟ وهل عليها دم؟ وكيف تفعل في مكة؟
الجواب
ذكرنا أنها إذا جاءت إلى الميقات وهي حائض فإما أن تجزم وتعتقد أن رفقتها لا ينتظرونها، بل ينصرفون قبل أن تطهر، فهذه لا تحرم، بل تدخل معهم مكة ولا تدخل الحرم.
الثاني: أن تعرف وتتيقن أنهم ينتظرونها حتى تطهر، ففي هذه الحال تحرم معهم، وتغتسل وتفعل ما يفعله المحرم إلا أنها لا تصلي، ثم تدخل مكة وتبقى في المنزل إلى أن تطهر ثم تغتسل وتكمل عمرتها.
الثالث: أن لا تدري، أي: تشك هل سوف ينتظرونها أم لا؟ ويمكن أن تطول مدتها، فالأقرب لهذه أنها تشترط فتقول: إذا لم أتمكن فمحلي حيث حبستني.(18/30)
امرأة اغتسلت للحيض ولم تغسل رأسها
السؤال
امرأة حاضت لأول مرة، وعندما اغتسلت بعد الحيض لم تغسل رأسها لجهلها، ثم ذهبت إلى الحج واغتسلت للإحرام ولم تنو الطهارة من الحيض، فماذا عليها الآن وقد حجت العام الماضي ولم تتزوج بعد، هل يلزمها الطواف؟
الجواب
تركها لغسل رأسها خطأ، وإذا صلت شيئاً من الصلوات بهذه الطهارة فتعيد ما صلته، ثم لما اغتسلت غسلاً كاملاً عند الميقات ارتفع الحدث -حدث الحيض- ولو ما نوت الطهارة من الحيض، لوجود الاغتسال الكامل الذي هو مسنون، فيصح حجها وتصح بقية أعمالها.(18/31)
إذا ترك السعي لعلة جبر بالفدية
السؤال
امرأة اعتمرت وطافت وفي السعي أغمي عليها وذلك لصرع ينتابها أحياناً وأدخلت المستشفى وأعيدت إلى بلادها وخلعت إحرامها ولم تكمل السعي، فما عليها؟
الجواب
الأسهل عليها الفدية، فدية ترك واجب، فتذبحها في مكة لمساكين الحرم، على القول بأن السعي من الواجبات التي تجبر بدم، وهو قول مشهور عند العلماء.(18/32)
حكم من زاد على السبعة الأشواط في السعي
السؤال
نحن جماعة ذهبنا لنعتمر، وبعد أن انتهينا من الطواف بالبيت ذهبنا إلى السعي فسعينا أربعة عشر شوطاً جهلاً منا، فماذا علينا؟
الجواب
تكفيكم سبعة والسبعة الأخرى رياضة.(18/33)
الحج عمن خارج المملكة من داخل المملكة
السؤال
والدي كان يسكن خارج المملكة وتوفي، فهل يجوز أن أحج عنه وأنا في المملكة؟
الجواب
إذا كان مات وهو عاجز فإنه جائز أن تحج عنه من المملكة، أما إذا كان قادراً على أن يحج بماله من هناك فلابد أن تكون الحجة من بلاده.(18/34)
حكم المتاجرة في حملات الحج
السؤال
ما حكم المتاجرة في حملات الحج، وأن تأخذ عن الشخص ستة آلاف أو أربعة آلاف أو غيرها؟
الجواب
لا بأس إذا كان يخدم الحجاج خدمة مناسبة، ويقوم بما يجب عليه لهم، فلا مانع من ذلك إن شاء الله.(18/35)
لا يجوز الحج عن أكثر من شخص في حجة واحدة
السؤال
هل يجوز أن يحج الشخص عن أكثر من شخص في حجة واحدة؟
الجواب
لا يجوز ذلك، إنما في كل سنة حجة واحدة عن شخص واحد.(18/36)
حج النافلة عن الغير
السؤال
لي جدة كبيرة في السن ولا تستطيع الحج والعمرة، مع العلم أنه قد سبق لها أن حجت حجة الإسلام والعمرة أيضاً، فهل لي أن أحج عنها؟
الجواب
يجوز ذلك، وتنويها تطوعاً عنها إذا كانت عاجزة، فيجوز أن يحج عنها أحد أولادها أو أولاد أولادها.(18/37)
التحرز من المخالفات والمنكرات في حملات الحج
السؤال
يحصل في الحج سفور الخادمات وتبرجهن وحصول كثير من المنكرات، حيث إن القيم عليهن تظهر عليه علامات الفسق، ويحصل التقاء الخدم الرجال بالخادمات معهن في أثناء الحج، وأنا على علم بهذا لأني صاحب حملة لتنظيم الحج، فما توجيهكم في ذلك؟
الجواب
إذا كنت صاحب حملة فلا بد أن تتعهد من يحج معك من النساء بأن يتسترن غاية التستر، ولا يبرزن أمام الرجال، سواء أكان معهن محارمهن أم ليس معهن كالخادمات ونحوهن.
نقول: ولابد من أن تتأكد أن كل امرأة لا تلتزم بشعائر الإسلام تمنعها وتردها، وتقول لها: ليس لك معنا مكان، اطلبي غيرنا.
حتى يكون الحجاج صفوة خياراً رجالاً ونساءً.(18/38)
سبب الجهر بالنية في الإحرام
السؤال
معلوم أن النية محلها القلب، فلماذا يعلن المحرم نيته بها؟
الجواب
لأجل أن هذا النسك يختلف باختلاف الأعمال، فلأجل ذلك شرع أن يتلفظ بذلك، فيقول: اللهم! إني أحرمت بعمرة، لبيك حجا.
أو: اللهم! لبيك عمرة.
أو نحو ذلك، ثم ورد فيه الحديث أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) .(18/39)
كيفية الإهلال بالحج والعمرة عن الغير
السؤال
كيف يقول من نوى الحج أو العمرة عن غيره؟
الجواب
يقول: اللهم! إني أحرمت بهذه العمرة أو بهذا الحج عن فلان، فيسره لي وتقبله مني.(18/40)
حكم تكرار العمرة في اليوم الواحد
السؤال
هل يجوز لي أن أعتمر عدة مرات في اليوم الواحد عن نفسي وأهلي؟
الجواب
هذا غير مشروع، وما كان الصحابة ولا السلف يخرجون مرتين أو ثلاثاً إلى التنعيم، ونفضل لك أن تبقى في الحرم وتنوي الاعتكاف أو تشتغل بالقربات، فهو أفضل من تكرار العمرة في اليوم أو في الأيام.(18/41)
من كان مقيماً في مكان فميقاته ميقات أهل ذلك المكان
السؤال
يقول: أنا رجل من أهل السودان وأقيم في مدينة الرياض، فأين يكون ميقاتي؟
الجواب
ميقات أهل الرياض ونجد (السيل) الذي هو (قرن المنازل) وفيه مسجد معروف هناك.(18/42)
حكم تجاوز الميقات بغير إحرام
السؤال
رجل رحل إلى جدة بالطائرة وله نية العمرة، لكن نيته أن يصل إلى جدة ويبقى فيها يومين أو ثلاثة ثم يذهب إلى مكة ويأتي بالعمرة، ما حكم عمله ذلك؟ وإن كان لا بأس بذلك فأين يكون الميقات، هل هو من مكانه بجدة أم ينزل إلى السيل ثم يحرم؟
الجواب
إن أحرم من جدة فعليه دم؛ لأنه تجاوز الميقات، والطريقة التي يسلم بها من الدم أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه، فيرجع إلى السيل ويحرم منه حتى يسلم من وجوب الدم عليه.(18/43)
زوج البنت محرم
السؤال
هل لي أن أصافح أم زوجتي وأن تكشف لي وجهها وتجلس معي في الخلوة؟
الجواب
أم الزوجة محرم، وهي محرمة عليه؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] فله أن يصافحها، ولها أن تكشف عنده كسائر محارمها.(18/44)
حكم سفر المدرسات من غير محرم
السؤال
ما حكم فعل المدرسات اللاتي يسافرن مسافة مائة وخمسين ومائتين وخمسين كيلو متر بدون محرم، ويعللن ذلك بأنهن كثيرات ولا توجد خلوة، حيث يخرجن من بعد صلاة الفجر ولا يعدن إلا بعد العصر أو قريباً منه؟
الجواب
يجوز ذلك للحاجة؛ لأنه يشق عليهن أن يذهب مع كل واحدة محرمها، فإذا كن عشراً أو عشرين، وكن ثقات، وكان السائق ثقة ومعه امرأته أو إحدى محارمه، والمسافة ساعة أو ساعتين ذهاباً ومثلها إياباً فلعل ذلك يرتكب بقدر الحاجة.(18/45)
حكم ذهاب المرأة الكبيرة للعمرة من غير محرم
السؤال
طبيبة كندية كبيرة في السن، وقد أيست من الحيض، وتأثرت بالإسلام وأسلمت، وفيها حرص شديد على تعلم الصلاة والفاتحة والسنن والمستحبات، والآن تريد العمرة، وليس لها أحد هنا، وقد تنكر لها زميلاتها الكافرات ولمنها على إسلامها، وأنا امرأة متكفلة بالذهاب بها إلى مكة مع زوجي وأولادي فهل علي إثم؟
الجواب
لا حرج عليكم إن شاء الله، وإن ذهبت مع الحملات فهو أولى، حيث إنها كبيرة شبه آيسة، فإذا ذهبت معكم فلا بأس.(18/46)
شرح أخصر المختصرات [19]
لقد جعل الله لعبادة الحج زماناً ومكاناً لا تصح إلا فيه، وبين النبي عليه الصلاة والسلام صفة هذه العبادة غاية البيان، وشرع لها ثلاثة مناسك، وبين أفضلها، وبين لها المواقيت المكانية التي يجب الإحرام منها، ومتى تلبس الإنسان بالإحرام فإنه يمنع من أمور تسمى محظورات الإحرام، فعلى الحاج أن يعرف تلك الأحكام ليصلح حجه ويتم.(19/1)
أحكام الفدية
في كتاب الحج مسائل تحتاج إلى التوضيح والبيان، قد نتوقف فيها قليلاً بالتوسع.
قرأنا شروط وجوب الحج على الإنسان، وعلمنا المراد بالاستطاعة، والخلاف في كون الحج على الفور أو على التراخي، وحكم من عتق أو بلغ وهو في عرفة أو في العمرة قبل الطواف، وكذلك علمنا متى يجوز الحج عن الغير، وما يشترط للمرأة زيادة على شروط الرجل، والحكم إذا مات المحرم قبل أن يحج أو يعتمر، وما يسن عند الإحرام، والحكمة في ذلك، وما يحرم فيه الرجل والمرأة، وحكم الصلاة قبل الإحرام، وحكم النية والاشتراط في الإحرام، وأفضل الأنساك، وذكرنا أن سبب اختيار الإمام أحمد التمتع هو: أنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، واختار غيره الإفراد أو القران، وفيه وخلاف طويل بين الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وذكرنا صفة الإحرام بالتمتع وبالإفراد وبالقران، وما يلزم المتمتع والقارن، وشروط وجوب الحج، وما يلزم المرأة إذا حاضت قبل أن تكمل العمرة إذا كانت متمتعة، ومواضع التلبية، أي: الأماكن التي تستحب فيها، وحكم من أحرم قبل الميقات أو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، والمواقيت الأربعة التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلاف في الميقات الخامس الذي هو ذات عرق: هل وقته النبي صلى الله عليه وسلم أو وقته عمر؟ والمختار أنه وقته عمر، وإن كان قد وردت فيه أحاديث مرفوعة، وذكرنا ميقات أهل مكة للحج والعمرة، وأشهر الحج، ومحظورات الإحرام التسعة، وبقي أن نذكر أحكام الفدية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففي أقل من ثلاث شعرات وثلاثة أظفار في كل واحد فأقل طعام مسكين، وفي الثلاثة فأكثر دم، وفي تغطية الرأس بملاصق ولبس مخيط وتطيب في بدن أو ثوب أو شم أو دهن الفدية، وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً فعليه جزاؤه.
والجماع قبل التحلل الأول في حج وقبل فراغ سعي في عمرة مفسد لنسكهما مطلقاً، وفيه لحج بدنة، ولعمرة شاة، ويمضيان في فاسده، ويقضيانه مطلقاً إن كانا مكلفين فوراً، وإلا بعد التكليف، وحجة الإسلام فوراً.
ولا يفسد النسك بمباشرة، ويجب بها بدنة إن أنزل وإلا شاة، ولا بوطء في حج بعد التحلل الأول وقبل الثاني، لكن يفسد الإحرام فيحرم من الحل ليطوف للزيارة في إحرام صحيح، ويسعى إن لم يكن سعى وعليه شاة، وإحرام امرأة كرجل إلا في لبس مخيط، وتجتنب البرقع والقفازين، وتغطية الوجه، فإن غطته بلا عذر فدت.
فصل في الفدية: يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو زبيب أو شعير أو ذبح شاة.
وفي جزاء صيد بين بمثل مثلي، أو تقويمه بدراهم ليشتري بها طعاماً يجزئ في فطرة، ويطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وبين إطعام أو صيام في غير مثلي، وإن عدم متمتع أو قارن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل جعل آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع لأهله، والمحصر إذا لم يجده صام عشرة أيام ثم حل.
وتسقط بنسيان في لبس وطيب وتغطية رأس، وكل هدي أو طعام فلمساكين الحرم إلا فدية أذى ولبس ونحوها، فحيث وجد سببها، ويجزئ الصوم في كل مكان، والدم: شاة أو سبع بدنة أو بقرة.
ويرجع في جزاء صيد إلى ما قضت فيه الصحابة، وفيما لم تقض فيه إلى قول عدلين خبيرين، وما لا مثل له تجب قيمته مكانه، وحرم مطلقاً صيد حرم مكة وقطع شجره وحشيشه إلا الإذخر وفيه الجزاء، وصيد حرم المدينة، وقطع شجره وحشيشه لغير حاجة علف وقتب ونحوهما ولا جزاء] .(19/2)
حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً
قد عرفنا محظورات الإحرام، وهذه المحظورات إما أن يفعلها المحرم ناسياً أو متعمداً، فالناسي والجاهل يعذران في بعضها، وقد لا يعذران في البعض، فمثلاً: من المحظورات: قص الشعر، وتقليم الأظفار، والطيب، وجزاء الصيد، والوطء، هذه أكثر الفقهاء على أنه لا يعذر فيها المحرم ولو كان ناسياً أو جاهلاً، ويعللون بأنها إتلاف، والإتلاف يستوي عمده وسهوه.
ومعنى كونها إتلاف: أنه أتلف هذه الأظفار بدل ما كانت موجودة، أو أتلف هذا الشعر بدل ما كان موجوداً، أو أتلف هذا الطيب، أو أتلف هذا الصيد الذي صاده، فيقولون: الإتلاف يستوي عمده وسهوه.
ومثال ما ليس بإتلاف: تغطية الرأس، ولبس المخيط، وعقد النكاح.
والقول الثاني: أن جميع المحظورات ليس فيها فدية على الجاهل والناسي، ولا فرق بين الإتلاف وغيره؛ وذلك لأن الناسي معذور في جميع الأحكام التي يفعلها ويسقط عنه الإثم، قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] ، وفي الحديث الذي في صحيح مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: (قد فعلت) ، وكذلك الحديث المشهور: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فيدخل في ذلك محظورات الإحرام، فإذا أخطأ فيها -ولو كان فيها إتلاف- فالصحيح أنه لا جزاء عليه، ولا فدية عليه في محظورات الإحرام كلها إذا فعلها ناسياً إلا الجماع، فإن الجماع -غالباً- لا يتصور فيه النسيان للمحرم، فهو بين طرفين، وقد تطول مدته؛ ولذلك أفتوا بأن فيه الفدية سواء كان عمداً أو سهواً.
أما الصيد فيقولون: إن الصحابة قضوا فيه، ولم يستفصلوا: هل أنت عامد أم لا؟
و
الجواب
أن الآية صريحة في اشتراط العمد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] فشرط الله العمد، والوصف بالعمد يدل على رفع الإثم أو رفع الجزاء عن الناسي وعن المخطئ، وأن الجزاء إنما يلزم من كان متعمداً.
وهكذا الراجح أنه إذا قص من شعره ناسياً أو خاطئاً أو من أظفاره، أو تطيب ناسياً أو مخطئاً، فإنه معذور، ولا فدية عليه ولا إثم.
وهذه المحظورات يمنع منها المحرم؛ لأنها ترفه، والمحرم يتصف بالشعث والغبرة، ويبتعد عن أسباب الترفه والتنعم، ورد أن الله يباهي بالحجاج ملائكته فيقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين) أي: قد اغبرت أبدانهم من طول البعد عن الترفه والتنعم، وقد شعثت رءوسهم.
وهم ضاحون، يعني: وهم بارزون في الشمس.
فهذا هو السبب في كون المحرم يبتعد عن أسباب الترفه، من الطيب ولبس المخيط وهو اللباس المعتاد، وكذلك عن تغطية الرأس، وكذلك عن أخذ الشعر أو أخذ الأظفار أو ما أشبه ذلك؛ لأجل أن يتصف بهذا الوصف الذي يدل على خشوعه وخضوعه، فإذا فعل من ذلك شيئاً من غير عمد فإنه معذور ولا إثم ولا فدية عليه على الصحيح.(19/3)
حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عامداً
من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام متعمداً فعليه الفدية.
وقد ذكر الفقهاء أنه إذا أخذ شعرتين أو شعرتين ونصف أو ظفرين فليس عليه إلا الإطعام، في كل شعرة طعام مسكين، سواء أخذها نتفاً أو قصاً أو حلقاً، وسواء كانت من شعر رأسه أو من شعر أي شيء من أعضاء بدنه، والنص ما ورد إلا في الرأس، قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، وقال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، ولكن العلماء ألحقوا بالرأس ما سواه من الشعر؛ لأنه يصدق عليه أنه شعر، وإزالته فيها شيء من الترفه.
ويعفى عما سقط من غير قصد، فإذا احتلم المحرم وغسل رأسه في الإحرام وتساقط منه شعر فلا حرج، وكذلك لو غسل وجهه في الوضوء أو خلل لحيته وسقط منه شعر فلا فدية عليه؛ لأنه غير متعمد.
والحاصل أنه إذا كان متعمداً في أخذ ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار ففي كل ثلاث فدية دم.
يعني: شاة.
وإذا أخذ أكثر من ثلاث أو حلق شعر الرأس كله فليس عليه إلا شاة، فإذا حلق ثلاث شعرات فعليه شاة، وإذا نتف ثلاث شعرات في الصباح ثم ثلاثاً في المساء ثم ثلاثاً بعد ذلك فليس عليه إلا شاة.
أما إذا كانت أقل من ثلاث شعرات ففي كل شعرة طعام مسكين، وكذلك الظفر، ففي أقل من ثلاثة أظفار في كل ظفر طعام مسكين.(19/4)
مقدار الفدية في الحج
قوله: (وفي تغطية الرأس بلاصق، ولبس مخيط، وتطيب في بدن أو ثوب أو شم أو دهن الفدية) .
الفدية ذكرت قريباً في قوله: (وفي الثلاثة فأكثر دم) وهذا يريد به تمام الفدية، فإن الله تعالى ذكر الفدية وفيها التخيير: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] والآية فيها إجمال، وجاءت السنة بالتفصيل وبالتبيين، ففي حديث كعب بن عجرة أنه لما آذاه هوام رأسه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احلق واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين) فبين أن المراد بقوله تعالى: (من صيام) أنه ثلاثة أيام، وقوله تعالى: (أو صدقة) أنه إطعام ستة مساكين، وقوله تعالى: (أو نسك) أن النسك أقله شاة، أي: واحدة من الغنم.
فهذه الخمسة يخير فيها، والنص ورد في الحلق، وألحق به الفقهاء هذه الخمس، فإذا حلق رأسه أو بعضه قلنا: أنت مخير بين أن تصوم ثلاثة أيام، أو أن تطعم ستة مساكين، أو أن تذبح شاة، وكذلك لو قلم من أظافره ثلاثة فأكثر قلنا له: أنت مخير، وكذلك لو غطى رأسه، وكذلك لو لبس مخيطاً، وكذلك لو تطيب في بدنه أو تطيب في ثوبه أو شم الطيب أو ادهن به؛ فإنه مخير بين هذه الثلاثة.
والصيام يصلح في كل مكان، وأما الإطعام فلمساكين الحرم، وكذلك النسك -الذبح- لمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] هذه فدية هذه الخمسة.
وكذلك من محظورات الإحرام: الصيد، فالصيد فيه الجزاء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] والصيد: هو اقتناص حيوان بري متوحش طبعاً غير مقدور عليه، واصطياده فيه جزاء، ولابد أن يكون مأكولاً، فلو قتل ذئباً أو ثعلباً أو قطاً فليس عليه فدية؛ لأنه غير مأكول، وكذلك إذا لم يكن برياً، فلو قتل أو ذبح فرساً أو بعيراً -ولو كان ذلك البعير قد نفر من أهله- فلا جزاء فيه، فأما إذا كان صيداً برياً مأكولاً فإن فيه الجزاء، فهذه ستة.(19/5)
عقد النكاح للمحرم باطل وليس فيه فدية
عقد النكاح للمحرم ليس فيه فدية ولكنه لا ينعقد عند جمهور العلماء، ويقع باطلاً، أما الحنفية فيجيزونه ويصححونه، ولكن الأدلة تدل على بطلانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يخطب) ، وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] والرفث يعم كل ما كان حول النساء من الكلام ونحوه، ومنه: عقد النكاح، ولا جزاء فيه ولا فدية، ولكنه يعتبر لاغياً.(19/6)
جماع المحرم وما يتعلق به من أحكام
جماع المحرم قبل التحلل الأول في الحج أو قبل الفراغ من السعي في العمرة يفسد النسك إذا كان جماعاً تاماً يوجب الغسل، ولو لم يحدث إنزال.
والتحلل الأول هو: أن يكون قد طاف ورمى وبقي عليه الحلق، أو حلق ورمى وبقي عليه الطواف، أو حلق وطاف وبقي عليه الرمي، فهذا يسمى التحلل الأول، فإذا جامع بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه كما سيأتي، وأما قبل التحلل فيفسد نسكه، وإذا فسد فإنه يمضي فيه، فإن كانت المرأة محرمة فكذلك أيضاً يفسد نسكها، ويمضيان في هذا النسك.
سئل ابن عباس وغيره عن هذا فقالوا: عليهما أن يمضيا فيه، وعليهما أن يقضياه ثاني عام، وعليهما مع ذلك فدية، والفدية إن كان في الحج فهي بدنة، وإن كان في العمرة فهي شاة.
وإذا كانا مكلفين قضياه في السنة التي بعدها، والمكلف هو: الحر المسلم البالغ العاقل، فإذا كان الجماع قبل البلوغ فإنه يفسد لكن متى يقضي؟ يقضي بعد التكليف، بعد البلوغ وبعد حجة الإسلام يقضيه فوراً، هذا في الجماع قبل التحلل الأول، فإنه يفسد نسكهما ويمضيان فيه ولو كان فاسداً، وقالوا: ليس من الأعمال ما يفعل فاسده إلا الحج؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فأمر بإتمامه مطلقاً.(19/7)
فدية جماع المحرم
فدية الجماع في حج بدنة وهي: الواحدة من الإبل، وتجزئ عنها البقرة، وإن كان في عمرة فشاة، والشاة هي الواحدة من الغنم من الضأن أو من المعز ذكوراً أو إناثاً، فكلها تسمى شاة كما تقدم، وعند التفصيل لكل واحدة اسم، فالأنثى من الضأن تسمى نعجة، والذكر من الضأن يسمى كبشاً أو خروفاً، والأنثى من المعز تسمى عنزة، والذكر من المعز يسمى تيساً، والجميع شاة، التيس يسمى شاة، والكبش يسمى شاة، والعنز تسمى شاة، فالشاة اسم للواحدة من الغنم، فإذا وطئ في عمرة فليس عليه إلا واحدة من الغنم.
ومعنى قوله: (يقضيانه فوراً) أي: في السنة التي بعدها، فإذا كانا مكلفين نقول لهما: اقضياه في العام الثاني، ثم من باب التشديد عليهما قالوا: إذا قضياه في العام الثاني فإنه يفرق بينهما، بأن تكون الزوجة -مثلاً- في فرقة والزوج في فرقة، ولا يجتمعان في فرقة واحدة: في حملة مثلاً أو في قافلة، بل كل واحد يكون في قافلة حتى لا يجتمعان، وهذا من باب الزجر.
وإذا كانا غير مكلفين كالصغير إذا جامع قبل البلوغ وكذلك العبد نقول لهما بعد البلوغ أو بعد العتق: عليك حجة الإسلام الفرض، ثم عليك قضاء تلك الحجة التي تلبست بها ثم أفسدتها.
انتهى ما يتعلق بالخمسة المحظورات التي يخير فيها، والسادس جزاء الصيد، والسابع عقد النكاح، والثامن الجماع، وبقي عندنا التاسع والأخير وهو المباشرة، وهي من محظورات الإحرام، ويدخل في المباشرة إذا ضم زوجته أو قبلها أو لاصقها ببشرته على فراش ولو كان بينه وبينها حائل أو نحو ذلك، فماذا يجب عليه في هذه المباشرة لأنها محظورة من محظورات الإحرام؟ يجب عليه إن أنزل: بدنة، وإن لم ينزل: شاة، والبدنة -كما تقدم- الواحدة من الإبل، أو الواحدة من البقر من ذكور أو إناث، فإذا قبل امرأته ولم يكن منه إنزال فعليه شاة، وكذلك إذا باشر ولم ينزل، ولو من وراء حائل، فأما إذا أنزل فعليه بدنة، هكذا روي عن الصحابة في وقائع وقعت فأفتوا فيها، والنسك صحيح لا يفسد، إلا أنه لابد من هذه الفدية.(19/8)
الوطء بعد التحلل الأول لا يفسد النسك
لا يفسد النسك بوطء في حج بعد التحلل الأول وقبل الثاني، إذا كان قد تحلل بأن طاف ورمى وبقي الحلق ثم وطئ، أو رمى وحلق وبقي الطواف ثم وطئ، أو طاف وحلق وبقي الرمي ثم وطئ، يعني: فعل اثنين من هذه الثلاثة التي هي: الطواف ومعه السعي والرمي والحلق أو التقصير؛ فإذا فعل اثنين منها فقد: تحلل التحلل الأول، فإذا وطئ في هذه الحال فلا يفسد نسكه يعني: بعد التحلل الأول وقبل الثاني، لكن يفسد الإحرام، فنقول: إحرامك فسد، فيحرم من الحل لطواف الزيارة في إحرام صحيح، فإذا كان قد رمى وحلق وبقي عليه الطواف، فيذهب يحرم من الحل ثم يدخل مكة حتى يطوف طواف الزيارة بإحرام صحيح، وكذلك يسعى إن لم يكن سعى.
والفدية في هذا الوطء الذي هو بعد التحلل الأول شاة، أما إذا كان قد طاف وحلق وبقي عليه الرمي، فالصحيح أنه لا حاجة إلى أن يحرم من الميقات أو من خارج الحدود؛ لأن الرمي لا يشترط له أن يرمي وهو محرم، بل يجوز أن يرمي وهو حلال كما في الرمي في أيام التشريق.
انتهى ما يتعلق بفدية المحظورات.(19/9)
إحرام المرأة وصفته
قوله: (وإحرام امرأة كرجل) : إحرام المرأة، وإحرام المرأة كإحرام الرجل إلا في اللباس، فعليها أن تتجنب الطيب، وأن تتجنب قص الشعر، وتقليم الأظفار، وقتل الصيد، والوطء، والمباشرة، وعقد النكاح، وهي كالرجل في هذه المحظورات، ويسن لها التلبية إلا أنها لا ترفع صوتها بالتلبية كالرجل، وقد ورد في حديث ابن عمر المشهور: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البرانس، ولا السراويلات، ولا الخفاف، ولا ثوباً مسه ورس أو زعفران، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين) .
وقوله: (وتجتنب البرقع) : أي النقاب وهو: لباس يفصل على قدر الوجه، ويكون فيه ثقبان كلاهما على قدر حدقة العين، وسمي نقاباً لأن فيه هذين النقبين، ويسمى أيضاً البرقع.
والقفاز هو ما يفصل على قدر الكف، وهو شراب اليدين الذي له أصابع وتدخل فيها قدر الكف، فهذا الذي تتجنبه المرأة المحرمة، أما تغطية الوجه فأكثر الفقهاء يقولون: لا تغطي وجهها بلا عذر، فإن غطته بلا عذر فدت.
ويفسرون العذر بأنه إذا كانت أمام الرجال الأجانب فإنها تغطي؛ وذلك لأن هذا عذر، وقد دل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (كنا إذا حاذينا الرجال سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) ، فهذا دليل على تغطية المحرمة لوجهها أمام الرجال، ويجب عليها أن تستر وجهها ولو مس بشرة الوجه.
واختلف في الفدية إذا غطت وجهها بلا عذر فأكثر الفقهاء على أنها تفدي كما يفدي الرجل إذا غطى رأسه، والقول الثاني -ولعله الصحيح- أنه لا فدية عليها إذا غطت وجهها ولولم يكن هناك رجال؛ لأنه ليس هناك دليل يمنع المرأة من تغطية الوجه، وإنما أمرت ألا تلبس البرقع والقفاز، هكذا ورد: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين) ولم يقل: لا تتخمر، أي: لا تلبس الخمار، ولم يقل: لا تغطي وجهها، فالصحيح أنها تغطي وجهها أو تغطي يديها بأكمام الثوب أو بالعباءة ولا فدية عليها في ذلك، وإنما نهيت عن النقاب والقفاز.(19/10)
التخيير في الفدية
قوله: (يخير بفدية حلق) : الفدية هي فدية ارتكاب بعض المحظورات التي هي محظورات الإحرام، وعندنا خمسة من محظورات الإحرام: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، وتغطية الرجل رأسه، وألحقوا به وجه المرأة، والطيب، ولبس المخيط.
فهذه خمسة أشياء: اثنان من اللباس، وهما: لبس المخيط وتغطية الرأس، وثلاثة من الترفه وهي: التقليم، والحلق، والطيب، فهذه الخمسة يخيّر مرتكبها بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، فله الخيار للآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ، والنبي صلى الله عليه وسلم بينها في حديث كعب بن عجرة فقال: (أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو انسك شاة) والفرق مكيال يساوي ثلاثة آصع، وأراد أن يطعمهم من التمر، والفقهاء فرقوا بين البر وغيره، فقالوا: إذا أطعم من البر فإنه يكفيه لكل مسكين مد، وأما من التمر والزبيب والشعير فإنه لابد لكل مسكين من نصف صاع، ومثله أيضاً أطعمة أخرى كالأرز والدخن والذرة نصف صاع منها، ومن البر مد -أي: ربع الصاع- والاحتياط أن يجعله جميعاً نصف صاع من البر أو من غيره، ولا يخرج القيمة، ولو قال: القيمة أنفع للفقراء! فيقال له: النص ورد بالإطعام، فيخرجها من الطعام، ولا يطعم خارج الحرم، بل الإطعام لمساكين الحرم، فتفرق على مساكين الحرم، ومساكين الحرم هم السكان الذين في مكة.(19/11)
جزاء الصيد
قوله: (وفي جزاء صيد بين مثل مثلي) : أما جزاء الصيد، فيخيّر بين إخراج المثل إذا كان مثلياً، أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً يجزئ في زكاة فطرة، فيطعم عن كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن كل طعام مسكين يوماً، وهذا الإطعام أو الصيام يلزم في غير المثلي، فالله تعالى جعل الخيار في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] فهذا الخيار الأول: {جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، ثم قال: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة:95] ، ثم قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95] فهذه الآية في سورة المائدة ذكر الله تعالى فيها جزاء الصيد، وذكر أنه محرم، ثم ذكر أنه بعد الإحلال يباح صيده، قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] ، وقال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، والصيد إما أن يكون مثلياً أو غير مثلي، فإذا كان له مثل فإنه يقومه بدراهم فيشتري بها طعاماً يجزئ في زكاة الفطرة؛ فيطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن كل مسكين يوماً، أو يخرج المثل ويذبحه ويطعمه المساكين.
مثال ذلك: إذا اصطاد أو ذبح أرنباً، فالأرنب فيها عناق، وهي السخلة التي عمرها ثلاثة أشهر أو أربعة، فنقول له: إما أن تذبح العناق وتطعمها للمساكين أو تقدر ثمنها، فمثلاً: لو قدرنا ثمنها بخمسين ريالاً فتشتري بالخمسين الريال طعاماً من البر أو من الأرز وتعطي كل مسكين مداً من البر أو نصف صاع من غيره، فإذا شق ذلك عليك واخترت الصيام فإننا نقدر فنقول: قيمة العناق خمسون ريالاً، وتساوي من البر أو من الأرز -مثلاً- خمسة آصع، والخمسة الآصع طعام عشرة مساكين، فتصوم عشرة أيام.
وقد يكثر الصيام، فلو قدرنا أن عليه بدنة إذا قتل نعامة، فيذبح بدنة أو نقدر قيمتها مثلاً بثلاثمائة ريال، والثلاثمائة ريال يشتري بها من الأرز ثم يطعمه كل مسكين نصف صاع من الأرز، ونقدر أن قيمة الصاع خمسة، فلكل مسكين نصف صاع، وإذا عجز فإنه يصوم عن كل مسكين يوماً ولو كثرت الأيام.(19/12)
جزاء الصيد غير المثلي
إذا لم يكن الصديق مثلياً، يعني: لم يكن له مثل، فإنه يخير بين الإطعام والصيام، يعني: يخير بين أن تقدر قيمته فيصوم أو يشتري بها طعاماً للمساكين، هذا بالنسبة إلى جزاء الصيد.(19/13)
فدية المتمتع والقارن
قوله: (إن عدم متمتع وقارن الهدي) : المتمتع والقارن عليهما أيضاً فدية، والمتمتع هو الذي أحرم بالعمرة ثم فرغ منها ثم أحرم بالحج، والقارن هو الذي أحرم بالعمرة والحج معاً، فعليهما الهدي لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ، والهدي واحدة من الغنم، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، فإذا لم يجد الهدي قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] الثلاثة التي في الحج يندب أن يصومها وهو محرم أو بقي عليه بقايا الإحرام، فمثلاً: يحرم في اليوم السابع فيصوم السابع والثامن والتاسع حتى يفرغ منها قبل يوم النحر، هذا الأفضل أن يجعل آخرها يوم عرفة، فإن لم يتيسر صام الثلاثة بعد العيد: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وأجاز بعض العلماء أن يصومها بين الحج والعمرة، فلو قدر أنه انتهى من العمرة في اليوم الثالث من ذي الحجة، وهو لن يحرم بالحج إلا في يوم التروية، فصامها في اليوم الرابع والخامس والسادس أجزأته؛ لأنه صامها في زمن الحج، وصامها في مكان الحج.
والسبعة يندب إذا رجع إلى أهله أن يبادر إليها ولا يتأخر، فيصومها مباشرة دون أن يؤخرها، وهذا الصواب.(19/14)
باب الإحصار
وقوله: (والمحصر إذا لم يجده صام عشرة أيام ثم حل) ، قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ، أحصر الصحابة رضي الله عنهم في الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، حين منعهم أهل مكة من إتمام عمرتهم، فنحروا هديهم في الحديبية وتحللوا، وكذلك الحكم إذا أحصر إنسان، والإحصار يكون بعدو يصده عن إكمال نسكه، أو بمرض كما لو سقط أو حصل عليه حادث فتكسر ولم يستطع إكمال حجه أو إكمال عمرته؛ فيذبح عنه هدي كشاة ثم يتحلل، فإن لم يجد بقي محرماً حتى يصوم عشرة أيام؛ لأن الله تعالى جعل صيام العشرة الأيام قائماً مقام الحج، فيصوم في إحرامه عشرة أيام ثم بعد ذلك يتحلل إلا إذا كان قد اشترط: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) ، وكثيراً ما يدخل المريض المستشفى ويمنعه الأطباء من الصيام، وقد لا يجد الهدي ففي هذه الحال يجوز له أن يتحلل وينوي الصيام عندما يستطيع.
وذكر المصنف أن فدية اللبس والطيب وتغطية الرأس تسقط بالنسيان، والصحيح أنها تسقط أيضاً بالنسيان فدية الحلق وفدية التقليم، والفقهاء الذين لم يسقطوها عللوا بأنها إتلاف، والصحيح أنه لا فرق بين الإتلاف وغيره.(19/15)
أنواع الهدي
قوله: (كل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم إلا فدية الأذى واللبس ونحوهما فحيث وجد سببها) .
الهدي أربعة أنواع: الأول: هدي تطوع، كأن يهدي معه شيئاً من ماله، كما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فهذا يجوز أن يأكل منه، ولكن الأصل أنه يطعمه المساكين، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] .
الثاني: هدي التمتع والقران، فهذا أيضاً ملحق بهدي التطوع، فله أن يأكل منه ويطعم رفقته، ويطعم المساكين.
الثالث: جزاء الصيد، وهذا لا يأكل منه بل يطعمه كله للمساكين، وكذلك فدية المحظور، إذا فعل محظوراً واختار أن يطعم أو اختار أن يذبح فإنها لمساكين الحرم ولا يأكل منها.
الرابع: دم الجبران، فإذا ترك واجباً من الواجبات يجبره بدم، وهذا الدم لا يأكل منه بل يطعمه لمساكين الحرم، وكذلك لو اختار الإطعام فلكل مسكين مد بر، ولا يطعم رفقته، وإنما يكون الإطعام لمساكين الحرم.
أما فدية الأذى فحيث وجد؛ وذلك لأن كعب بن عجرة حلق رأسه بالحديبية وأطعم في الحديبية، وكذلك فدية اللبس، مثلاً: إذا أحس بالبرد فلبس عمامة وهو محرم، أو لبس قميصاً واختار أن يطعم أو يذبح، فإنه يذبح حيث وجد سببه، فلو كان في الطريق كأن يكون في جدة مثلاً أو في بحرة أو في الشرائع فإنه يخرج الفدية في ذلك المكان.
إذاً: فدية الأذى وفدية اللبس حيث وجد سببها، أما الصوم فإنه يقع في كل مكان؛ لأن نفعه قاصر، فيجوز أن يؤخره إلى أن يرجع إلى بلده.
قوله: (والدم شاة) ، الشاة هي الواحدة من الغنم، (أو سبع بدنة) يجتمع السبعة في بدنة، (أو سبع بقرة) يجتمع السبعة في البقرة.(19/16)
يرجع في تقدير فدية الصيد إلى ما قضت فيه الصحابة أو حكم عدلين
قوله: (ويرجع في جزاء الصيد إلى ما قضت فيه الصحابة) ، الصحابة قضوا في الصيد بما قضوا به، فقضوا بأن في النعامة -إذا قتلها المحرم- بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي بقر الوحش بقرة، وكذلك في الوعل والتيتل والأروى -وهي أنواع من الوعول- بقرة، أما الظبي والغزال ففيها عنز، وهي واحدة من المعز، والحمامة جعلوا فيها شاة مع أنها بعيدة منها، وقالوا: لأنها تشبهها في الشرب، وإن كان شبهاً بعيداً، وفي الأرنب عناق، والضب جعلوا فيه جفرة، وفي اليربوع -وهو دويبة تشبه الفأر- جفرة، يعني: جعلوها كلها من النعم التي هي الإبل والبقر والغنم.
والضبع عند فقهائنا حلال، فجعلوا فيه كبشاً، والكبش هو الواحد من ذكر الضأن، فيرجع إلى ما قضى به الصحابة، أما ما لم يقضوا به فإنه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين؛ لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] وما لا مثل له تجب قيمته في مكانه، وتقدر قيمته في مكانه الذي ذبحه فيه، ثم يدفع قيمته ويتصدق بها على مساكين الحرم.(19/17)
صيد مكة يحرم مطلقاً
قوله: (وحرم مطلقاً صيد حرم مكة) فمكة تميزت عن غيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، إلا الإذخر) وهذا من آثار تحريمها، وأنها حرم، فكونها حرماً: لا يقتل صيدها، بل ولا ينفر إلا ما يملكه الآدميون، فمثلاً: الحمام البري والدجاج والأوز يجوز ذبحه في مكة، وأما حمام الصيد وغيره مما هو صيد حتى الجراد فإنه لا يجوز صيده ولا ذبحه، ومن ذبحه فعليه فدية، وحكم بعض الصحابة في الجرادة تمرة، وقالوا: (تمرة خير من جرادة) فإذا قتل جرادة فعليه أن يتصدق بتمرة، وبعضهم يقول: قبضة طعام من تمر أو أرز.
وقطع الشجر فيه أيضاً جزاء، إذا كانت الشجرة كبيرة ففيها بدنة، وإذا كانت صغيرة ففيها شاة، وأما الحشيش ففيه قيمته، الحشيش الذي هو أعواد دقيقة منبسطة على الأرض، ففيه قيمته، ورخص في الإذخر، فقد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحتاجون إليه لقينهم ولبيوتهم ولقبورهم.
والحاصل أن الشجر فيه الجزاء مثل جزاء الصيد.
وأما صيد حرم المدينة فحرام، ولكن ليس فيه جزاء، فلم يرد فيه الجزاء، ولا يجوز قطع شجره وحشيشه إلا أنه رخص لهم بقطع الشجر في الأشياء التي يحتاجون إليها في الناعورة والبكرة وما يحتاجون إليه، وكذلك الحشيش علفاً لدوابهم، والقتب وهو الذي يجعل على ظهر السانية التي يسنون عليها.
فالحاصل أنه يحرم ذلك ولا جزاء فيه.(19/18)
شرح أخصر المختصرات [20]
يستحب دخول مكة من أعلاها، والخروج منها من أسفلها، ويستحب دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، ثم بعد الدخول يبدأ الحاج أو المعتمر بالطواف، ثم الصلاة خلف المقام، ثم السعي، كما ورد ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.(20/1)
دخول مكة
قال المصنف رحمه الله: [باب دخول مكة: يسن نهاراً من أعلاها، والمسجد من باب بني شيبة، فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد، ثم طاف مضطبعاً للعمرة المعتمر، وللقدوم غيره، ويستلم الحجر الأسود ويقبله، فإن شق أشار إليه ويقول ما ورد، ويرمل الأفقي في هذا الطواف، فإذا فرغ صلى ركعتين خلف المقام، ثم يستلم الحجر الأسود، ويخرج إلى الصفا من بابه، فيرقاه حتى يرى البيت، فيكبر ثلاثاً ويقول ما ورد، ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول فيسعى شديداً إلى الآخر، ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول، فيسعى شديداً إلى الآخر، ثم يمشي ويرقى المروة، ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا، يفعله سبعاً، ويحسب ذهابه ورجوعه.
ويتحلل متمتع لا هدي معه بتقصير شعره، ومن معه هدي إذا حج، والمتمتع يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف] .
قوله: (باب دخول مكة) .
المحرم في طريقه من الميقات إلى مكة عبادته كعبادة غيره إلا أنه يتميز بالإكثار من التلبية، ويتميز بالتحفظ عن المحظورات.(20/2)
دخول مكة نهاراً
قوله: (يسن دخولها نهاراً من أعلاها) : يستحب أن يدخلها نهاراً؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه دخلها ضحى، ولكن يقول بعض العلماء: إن هذا مجرد اتفاق، يعني: أنه مصادفة، صادف أن الوقت الذي دخل فيه كان نهاراً، ولكن كان بعض العلماء وبعض الصحابة إذا أقبلوا عليها في أول الليل باتوا حتى إذا أصبحوا وأضحوا دخلوها ضحى، وفي هذه الأزمنة قد يشق على الناس الانتظار لكثرتهم، فإذا قيل مثلاً: إذا أقبلتم على الحدود فبيتوا؛ لكثرت السيارات هناك، وحصل الزحام حتى يتوقفون -مثلاً- من المغرب إلى الضحى أو إلى الإشراق، فعلى كل حال يجوز دخولها نهاراً وليلاً، ويجوز آخر النهار، وفي وسط الليل، وفي آخر الليل.(20/3)
دخول مكة من أعلاها والخروج من أسفلها
يسن للمحرم أن يكون دخوله مكة من أعلاها، أعلاها هو شرقها، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من أعلاها وخرج من أسفلها -أي: من جهة الغرب- أعلاها طريق يقال له: كَداء وهو ما يسمى الآن (بالحجون) ، وأسفلها طريق يقال له: كُدى، ويعرف الآن بالريع، وكان كَداء طريقاً صعباً ثم إنه سهل في أزمنة متفرقة إلى أن سهلته الحكومة فأصبح سهلاً صعوده، وكذلك كُدى.
وعلى كل حال يدخل الحاج والمعتمر من أي طريق تيسر له، فلا نلزمه أن يذهب حتى يخرج من أسفلها من كُدى، ويدخل من أعلاها من كَداء، وذلك لأن هذا ليس عبادة.(20/4)
دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة
قوله: (والمسجد من باب بني شيبة) : كان هذا الباب صغيراً في شرق المسجد محاذياً لبئر زمزم من جهة الشمال، والمسجد في ذلك الوقت كانت مساحته ما بين محاذاة بئر زمزم وما أحاط به من حوله، ثم لما وسع المسجد هدم باب بني شيبة، وهدم ما حوله وجعلت عليه التوسعة القديمة التي هي الآن صحن، ثم بنيت البنايات في عهد الترك التي لا تزال موجودة، وجعل الترك في الجانب الشرقي مدخلاً سموه باب بني شيبة، ثم جاءت هذه التوسعة الكبيرة في عهد حكومتنا أيدها الله، وجعلوا باباً محاذياً وراء المسعى سموه باب بني شيبة، ولا شك أن تكليف الناس كلهم أن يدخلوا من ذلك الباب فيه شيء من الصعوبة، ولو كان محاذياً لباب بني شيبة القديم، فدخوله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة كان من باب المصادفة، فإن تيسر لك أن تدخل منه وإلا فلا حرج.(20/5)
رفع اليدين والدعاء عند رؤية البيت الحرام
قوله: (فإذا رأى البيت رفع يديه وقا ما ورد) : رفع اليدين يسن في كل دعاء، قيل: إن رفع اليدين هناك كرفعهما في تكبيرة الإحرام، وقيل: إنه يرفعهما يدعو، وأثر من الدعاء أنه يقول: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريما ومهابة وبراً، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه أو اعتمره تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً) .
ويقول: (الحمد لله حمداً كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله) .
ويقول: (الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلاً، الحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) ، أو ما تيسر من هذا الدعاء، هذا روي بعضه وبعضه قالوه استحساناً، ويرفع بذلك صوته إن كان رجلاً، والمرأة تخفض صوتها.(20/6)
الاضطباع في الطواف
قوله: (ثم طاف مضطبعاً) : بعد ذلك يطوف مضطبعاً للعمرة المعتمر، وللقدوم غير المعتمر يعني: كالقارن والمحرم، والاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن -أي: تحت إبطه- وطرفيه على عاتقه الأيسر، فيبدي ضبعه وكتفه الأيمن، ويستر الأيسر.(20/7)
استلام الحجر الأسود عند بدء الطواف
الطواف أن يبدأ من الحجر الأسود، وإن تيسر له قبّله، والتقبيل: أن يضع شفتيه عليه من غير تصويت، فإن لم يتيسر له استلمه بيده وقبلها، وإن لم يتيسر ذلك استلمه بعصا إن كان معه عصا أو محجن وقبلها، وإن شق ذلك عليه اكتفى بالإشارة ولا يقبل شيئاً، يحاذيه ويكبر ويسير.
وعندما يستلمه أو يقف عنده يدعو بما ورد، ومما ورد أن يقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
يسن أن يقول ذلك كلما استلم الحجر أو حاذاه.(20/8)
استحباب الرمل في طواف القدوم
يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثة أشواط ويمشي أربعاً، والرمل هو: إسراع المشي مع مقاربة الخطا، وأول ما شرع في عمرة القضية، لما اتفق المشركون مع الصحابة على أن يرجعوا في الحديبية سنة ست قبل أن يكملوا عمرتهم، على أن يعتمروا في ذي القعدة سنة سبع، فجاءوا سنة سبع، فلما قدموا كان المشركون من أهل مكة يحقدون عليهم، فقالوا: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب -المدينة- يريدون بذلك أن يقللوا من شأنهم أمام سفهائهم حتى لا يكون لهم قدر، وحتى لا يهابونهم، فبلغت هذه المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أصحابه بالرمل ليظهروا بذلك قوتهم وجلدهم.
فوقف المشركون عند جبل قعيقعان في الجانب الشمالي، فصاروا ينظرون إليهم وهم يرملون، فقالوا: كيف تقولون: إنهم وهنتهم الحمى؟ ما هم إلا كالغزلان يعني: في رملهم ثلاثة أشواط.
ثم في سنة عشر حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولما طاف أول طواف رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، ولعله أراد بذلك إحياء تلك السنة، وتذكر قولة المشركين القدامى، والحرص على غيظ المشركين.
فإذا تيسر للحاج أن يرمل فعل ذلك، فإذا لم يتيسر ذلك للزحام فإنه يسير، وإذا تيسر أن يرمل إذا طاف بعيداً في طرف الطائف فهو أفضل، فإن شق عليه طاف بدون رمل.
يطوف سبعة أشواط ويدعو بما تيسر، وليس لكل شوط دعاء مخصوص، والأدعية المذكورة في بعض المناسك: دعاء الشوط الأول دعاء الشوط الثاني ليست إلزامية، وهي أدعية لا بأس بها، وبعضها مأثورة، ولكن يجوز الدعاء بها ويجوز الدعاء بغيرها.(20/9)
صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام
بعدما ينتهي الطائف من السبعة الأشواط، يسن أن يصلي خلف مقام إبراهيم، ومقام إبراهيم في جهة الشرق، وكانت عليه بناية ومظلة يصلون تحتها في شدة الحر، ولكن لشدة الزحام والمضايقة أزيلت تلك البناية، وبقي المقام عليه هذا الزجاج الذي يحميه، وصار الناس يصلون خلفه وإن لم تكن هناك مظلة، وجعلت الحكومة في الرحبة كلها (الصحن) بلاطاً أبيض لا يكتسب الحرارة، ولا يحس من يطوف عليه بشيء من الحرارة، فيستحب أن يصلي الطائف خلف المقام، فإن لم يتيسر ذلك صلى ولو بعيداً، ولو قرب مدخل زمزم أو نحو ذلك في جهة الشرق.
والصلاة خلف المقام ليست واجبة في الحج أو العمرة ولكنها من السنن المؤكدة، وقد دل عليها قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وفي حديث جابر الطويل لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم تأخر قبل المقام وقرأ بهذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فصلى هناك ركعتين.(20/10)
السعي بين الصفا والمروة وما يستحب فيه
بعد الطوف يبدأ بالسعي، وذكروا أنه بعد أن يصلي ركعتين يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه، وهذه السنة قد هجرت، ولكن يفعلها الإنسان إذا استطاع، أو يحاذي الحجر ثم يشير إليه ثم يخرج إلى الصفا، وكان هناك باب محاذ للحجر في جهة الجنوب الشرقي يسمى باب الصفا، يدخلون منه ثم يتوجهون إلى الصفا، وكان الصفا والمروة خارجاً عن حد المسجد -يعني: لهما حمى خاص- وفي هذه التوسعة الكبيرة أدخلا فيه، وجعل سور المسجد وراء المسعى، فإذا خرج من هذا الباب -أي: من جهة باب الصفا- توجه نحو الصفا ثم بدأ بالسعي، ويبدأ بالصفا فيرقاه حتى يرى البيت، وقد لا يراه بسبب البنايات وبسبب العمد والسواري، فإذا رآه استقبله وكبر ثلاث تكبيرات متوالية، ثم يقول ما ورد، وقد ورد أنه يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) وإن زاد قوله: (ولا شيء قبله ولا بعده) فلا بأس، ويدعو بما أحب، ويستحب عند التوجه إلى الصفا أن يقرأ الآية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] الآية، ثم يقول: (نبدأ بما بدأ الله به) ، فإذا دعا على الصفا وتوجه إلى المروة ماشياً حتى يحاذي العلم الأخضر، كان هناك علمان مثل العمود الأخضر، والآن جعلا في أصل الحائط، وجعل فيها نجفات خضر، وهذان العلمان كانا مهبط وادٍ، أدركناه قبل خمسين سنة، وكانوا إذا نزلوا فيه يسرعون فيه لكونه مجرى واد، والحكومة صرفت الأودية، وجعلت لها مجارياً، وجعلت الطريق مستوياً، ولكن من باب إحياء السنة يستحب أن يسعى بين العلمين ولو لم يكن منهبطاً، ويسعى بين العلمين سعياً شديداً إذا استطاع وإذا وجد سعة، فإن كان هناك زحام أو لا يستطيع مشى بقدر ما يستطيع، فما بين العلمين محل جري.
وبعد ذلك يمشي من العلم الثاني إلى المروة، فيرقى على المروة ويقول ما قاله على الصفا من التهليل والتكبير ونحو ذلك، ثم ينزل متوجهاً إلى الصفا، فإذا جاء إلى ما بين العلمين سعى، ويمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه.
والسعي سبعة أشواط، ذهابه شوط ورجوعه شوط، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، ولو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط.
وبعدما ينتهي يكون قد أنهى عمرته إذا كان متمتعاً أو كان معتمراً.
والأفضل أن المتمتع الذي ليس معه هدي قد قلده يقصر شعره، ويترك الحلق حتى يحلقه للحج، وإن حلق فلا بأس.(20/11)
تحلل من ساق الهدي
إذا كان مع المتمتع هدي فإنه يدخل الحج على العمرة، ويبقى على إحرامه حتى يتحلل منهما معاً؛ لأن الهدي يمنعه من التحلل؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة هو وأصحابه، وكان بعضهم معه هدي مثل أكابر الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وأبي طلحة وغيرهم من أثرياء الصحابة، بعضهم كان معه خمسون بدنة، وبعضهم خمس، وبعضهم عشر، وبعضهم كان معهم غنم قد قلدوها، وأكثرهم ليس معهم هدي، فلما قدم الذين معهم هدي منعهم هديهم من التحلل، والذين ليس معهم هدي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل مع أنهم أحرموا مفردين، فقال لهم: (اجعلوا إحرامكم عمرة) وسمي هذا الفسخ فسخ الحج إلى العمرة، فأمرهم أن يطوفوا ويسعوا ويتحللوا في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، فبقوا متحللين: اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وأول اليوم الثامن أحرموا بالحج، ثم توجهوا إلى منى كما سيأتي.
والذين معهم هدي لم يتحللوا إما لأنهم أحرموا قارنين بالحج والعمرة، أو لأنهم أحرموا بالعمرة ثم منعهم الهدي من التحلل فأدخلوا عليها الحج، أو أنهم أحرموا مفردين وبقوا على إفرادهم، ويكون هذا الهدي هدي تطوع؛ لأن المفرد ليس عليه فدية.
والحاصل أن الذي معه هدي لا يتحلل، بل يبقى على إحرامه، لكن يمكن إذا قدم مبكراً أن ينحر هديه؛ لأنه يجوز سوق الهدي في غير الحج، فلو اعتمر -مثلاً- في رمضان وساق معه هدياً بدنة أو بدنتين أو عشراً أو غنماً أو بقراً، فإنه إذا انتهى من عمرته ذبحها وتصدق بلحمها وأكل منه وأطعم، لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] .
فالحاصل أن الذي لا هدي معه يتحلل بعد سعي العمرة، والذي معه هدي يبقى على إحرامه إلا إذا قدم مبكراً، فلو قدر أن إنساناً جاء إلى مكة في شهر شوال ومعه هدي: خمس من الإبل أو من البقر، أو عشر من الغنم أو عشرون وقد جعل في رقابها قلائد على أنه أهداها إلى الله تعالى، فإذا طاف وسعى للعمرة هل نلزمه بأن يبقى محرماً من شهر شوال إلى شهر ذي الحجة؟ قد يكون في هذا مشقة، فنقول له: انحر هديك، وتحلل تحلل عمرة، فإن هديك قد بلغ محله، فيكون قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] أي: الوقت الذي يحل فيه ذبحه، وهو إن كان في أيام الحج يوم النحر، وإن كان في العمرة فبعد الفراغ منها، والذي يعتمر -مثلاً- في شهر شوال قد ينحر هديه مثلاً، ثم يرجع إلى أهله ثم يأتي للحج في أيام الحج.
والمتمتع يقطع التلبية إذا بدأ بالطواف، والحاج يقطع التلبية إذا أخذ في الرمي؛ وذلك لأنه شرع في أسباب التحلل، والتلبية علامة على الإحرام، فشروعه في أسباب التحلل يكون سبباً في التوقف عنها، والله أعلم.(20/12)
الأسئلة(20/13)
لا يشترط في التوكيل للرمي أن يكون الوكيل حاجاً
السؤال
إذا كان الحاج غير قادر على الرمي بنفسه، فوكل غيره، هل يشترط أن يكون الموكل حاجاً؟
الجواب
لا يشترط، ولابد أن يكون الوكيل الذي يرمي عنك من الذين يرمون عن أنفسهم، فلا يوكل غيره.(20/14)
من مس طيباً ولم يقصد فعليه أن يمسحه
السؤال
هناك من يضع الطيب على الحجر الأسود، فإذا علق الطيب بيدي هل علي شيء؟
الجواب
تطييب الحجر الأسود من الخطأ، والصحيح أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه يسبب أن كثيراً من المحرمين يتلطخون بهذا الطيب، وإذا قدر أنه دهن على الحجر الأسود أو على الركن اليماني طيب ومسه أحد وهو لا يدري فلا فدية عليه، ولكن يمسح يده إذا علم ذلك، ولو أن يمسحه بطرف الكعبة.(20/15)
صوم الحج يجوز فيه التفرقة والتتابع
السؤال
بالنسبة لصيام الثلاثة الأيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، هل هذا الصيام يكون متتابعاً أو متفرقاً؟
الجواب
يجوز متفرقاً ويجوز متتابعاً، والأولى أن يتابعه حتى يبرأ منه بسرعة.(20/16)
من تجاوز الميقات وكان قاصداً غير مكة فميقاته ميقات البلد الذي قصده
السؤال
خرجنا من اليمن قاصدين العمرة في رمضان، وقبل وصولنا إلى الميقات بثلاث ساعات قلنا: نذهب أولاً إلى المدينة، وتجاوزنا الميقات بدون إحرام ثم أحرمنا للعمرة من ذي الحليفة، هل فعلنا هذا صحيح؟
الجواب
صحيح إن شاء الله، إذا قصدتم المدينة فميقاتكم ميقات أهل المدينة.(20/17)
من تجاوز الميقات من غير إحرام عاد إلى أقرب ميقات وأحرم منه
السؤال
إذا نويت العمرة ونويت أيضاً زيارة أقاربي في جدة، فهل يجوز لي تجاوز ميقات أهل نجد بلا إحرام وأبقى في جدة حلالاً ثم أحرم من مكاني؟
الجواب
إذا تجاوزت الميقات ووصلت إلى جدة وأردت الإحرام، فلابد أن ترجع إلى أحد المواقيت، فإن كنت -مثلاً- من اليمن، وشق عليك الرجوع إلى ميقات اليمن لبعده، فترجع إلى ميقات أهل الشام وهو الجحفة أو ميقات أهل نجد.(20/18)
الإحرام في العمرة عن الغير
السؤال
من كان من أهل اليمن، وبعد أن انتهى من عمرته أراد أن يعتمر عن أمه التي لم تعتمر لعدم القدرة، هل يحرم من مكة أم من التنعيم أم من مكانه؟
الجواب
يفضل له أن يحرم من أحد المواقيت، فإذا شق عليه أو منع فإنه يحرم من التنعيم، وقد ذكرنا أن تكرار العمرة غير مشروع، لكن مثل هؤلاء قد يكونون معذورين؛ لأنهم جاءوا من أماكن بعيدة، ولهم أقارب لم يتيسر لهم حج ولا عمرة؛ فيريدون أن يعتمروا عنهم، فله أن يهدي لأمه أو لأبيه أو نحوهما ثواب هذه العمرة وإن كانت قاصرة.(20/19)
حكم الجماع في الحج
السؤال
رجل جامع امرأته قبل التحلل الأول، فهل يعيد الحج من العام المقبل حتى ولو كان ذلك الحج نفلاً؟
الجواب
نعم، حتى ولو كان نفلاً؛ لأن النفل يجب عليه إتمامه؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، وليس هناك شيء من الأعمال يجب إتمامه ولو كان نفلاً إلا الحج والعمرة، فيجب عليه الحج من قابل كما ذكرنا.(20/20)
حكم من لم يتم العمرة جهلاً
السؤال
أنا شاب اعتمرت قبل سنتين وقد كنت بالغاً، وقد طفت ستة أشواط فقط جهلاً مني، فماذا علي؟ وهل تصح عمرتي؟
الجواب
بقي عليك شوط، وهذا الشوط لا تتم العمرة إلا به، فنقول: إنك لم تتم عمرتك، فلابد أن تعيد هذه العمرة، ولو كنت قد فعلت شيئاً من المحظورات فتفدي عن المحظورات بصيام خمسة عشر يوماً مثلاً أو إطعام ثلاثين مسكيناً أو نحوها.(20/21)
صفة السعي
السؤال
هل يشترط في السعي الصعود إلى الصفا والمروة أو يكفي مجرد وصوله إلى الصفا والمروة بدون أن لا يصعد عليهما؟
الجواب
إن صعد فهو أفضل، والواجب أن يصل إلى أدنى الصفا وإلى أدنى المروة.(20/22)
حكم لبس حزام الإحرام وفيه خياطة
السؤال
ما حكم الحزام الذي يستخدمه المحرم لمسك إحرامه من السقوط، مع العلم أن هذا الحزام فيه المخيط، بارك الله فيكم؟
الجواب
لا بأس به للحاجة، وقد رخص العلماء قديماً في لبس ما يسمى بالكمر والمنطقة التي تجعل فيها النفقة، وقالوا: هذه الخياطة ليست خياطة مقصودة، إنما هي شبه الخرازة، فلا بأس بالحزام عند الحاجة.(20/23)
إذا وصل المسافر في نهار رمضان وجامع فيه فعليه كفارة
السؤال
أحسن الله إليك، يقول: إذا قدم المسافر إلى بلدته في نهار رمضان بعد غيبة طويلة، فوقع بأهله، هل عليه كفارة أم لا مع العلم أنه كان مفطراً، أفتونا مأجورين؟
الجواب
عليه كفارة؛ لأنه إذا قدم ووصل إلى بلده وجب عليه الإمساك في بقية ذلك النهار، فإذا وطئ فيه فإنه قد وطئ في نهار يلزمه الإمساك فيه، ولو أنه سوف يقضيه، فعليه كفارة للوقت والله أعلم.(20/24)
تقديم صلاة الجنازة على الفريضة
السؤال
إذا دخل شخص متأخر المسجد ووجد أناساً يصلون على جنازة، ووجد جماعة متأخرون يصلون في آخر المسجد، فمع من يصلي؟
الجواب
ننصحه أن يصلي على الجنازة؛ لأنها سوف تفوت، ثم بعد ذلك يصلي الفرض، وقد يلقى جماعة آخرين يصلي معهم.(20/25)
حكم استخدام حبوب منع الحمل
السؤال
تزوجت مرتين وطلقت، وأنجبت لكل زوج طفلاً، وأنا الآن على وشك الزواج من الثالث، وأخشى أيضاً هذه المرة من عدم التوفيق؛ لذا لا أريد الإنجاب منه، حتى لا يتفرق أبنائي عند كل زوج طفل، فهل يجوز لي أن آخذ حبوب منع الحمل لمدة سنة أو أقل حتى تتضح الأمور دون علم زوجي، أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا يجوز ذلك إلا بإذن من الزوج وبتقرير من الأطباء بعدم ضررها؛ وذلك لأن الولد حق للأبوين، وليس من حقها وحدها، وعليها أن تفعل الأسباب التي تكون سبباً في التأليف بينها وبين الزوج حتى لا يتكرر طلاقها مرة ثالثة، وقد يكون هذا بسببها؛ لأنه غالباً يقع الطلاق بسبب يصدر من النساء.(20/26)
تجب الصلاة على النفساء إذا انقطع الدم
السؤال
هل تجب الصلاة على المرأة النفساء بعد انقطاع الدم أم لابد من انقضاء مدة النفاس، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا انقطع الدم فإنها تصلي ولو بعد الولادة بيوم أو يومين؛ لأن المانع إنما هو الدم، فإذا توقف لزمتها الصلاة، فإذا انقطع الدم وبقيت سوائل، وهذه السوائل فيها شيء من صفرة أو كدرة أو نحو ذلك فإنها لا تصلي حتى تنقطع من مرة، أو لا يبقى إلا شيء طاهر ليس شبيهاً بالدم ولا بالحمرة ولا بالصفرة، فعند ذلك تصلي.(20/27)
حكم من اعتمر ونسي التقصير
السؤال
أنا سوداني أقيم في الرياض منذ سنة، اعتمرت أنا وزوجتي وأولادي، ولكن بعد الانتهاء من العمرة خرجنا من مكة ولم نقصر، ورجعنا إلى الرياض، والآن أنوي أن أعتمر عمرة أخرى، فهل علي شيء أم أعذر بالنسيان، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا تذكرتم وقصرتم في الطريق أو قصرتم في أي مكان فإنه يكفي، فإذا لم تقصر حتى وطئت زوجتك فإن عليك وعلى زوجتك التي لم تقصر عن كل واحد فدية، وهي: ذبيحة تذبح في الحرم، ولا يمنعك ذلك من إعادة العمرة.
والأولاد عليهم فدية أيضاً إذا كانوا ما قصروا، ويمكن التقصير لهم الآن، فالأولاد يجوز التقصير لهم ولو بعد شهر وبعد أشهر؛ لأنهم ما زالوا محرمين، ولا يطرأ عليهم ما يفسد الإحرام وهو الوطء.(20/28)
حكم من صاد الجراد في الحرم أو هو محرم
السؤال
في إحدى السنين حججت مع أبي، وقمنا بصيد كميات من الجراد، فهل هذا من قتل الصيد؟ وماذا يجب علينا، أفتونا مأجورين؟
الجواب
ذكر أكثر العلماء أن الجراد من الصيد، فإذا صيد داخل الحرم، أو صاده قوم محرمون فلابد أن يتصدقوا عن كل جرادة تمرة.(20/29)
من عجز عن الحج أناب من يحج عنه
السؤال
عجوز لا تستطيع الذهاب للحج؛ لأنها إذا ركبت في السيارة أغمي عليها، فهل يجوز أن تكلف من يحج عنها وهي على قيد الحياة؟
الجواب
نعم، ويعتبر هذا عذر، فلها أن توكل من يحج عنها من بلدها.(20/30)
كيفية استقبال الحجر الأسود
السؤال
إذا حاذى الحاج أو المعتمر الحجر الأسود، فهل يستقبله بوجهه أو يكتفي بجعله عن يساره، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
يلتفت إليه بوجهه، ويكبر، ويشير بيده، ولا يستقبله بصدره.(20/31)
حكم المسعى
السؤال
هل المسعى اليوم له حكم المسجد من حيث جواز جلوس الحائض فيه أم لا؟
الجواب
نعم، له حكم المسجد؛ لأن الزيادة لها حكم المزيد، فقد أصبح الآن داخل سور المسجد، فلا يجوز للحائض أن تسكن في داخله، أما التوسعة التي وراءه فلا بأس أن تدخلها.(20/32)
لا تجب صلاة الجماعة في المسجد إذا كان بعيداً
السؤال
نحن شباب نخرج يوماً من أيام الأسبوع إلى الاستراحة، ونقضي فيها ذلك اليوم، وعندما يحين موعد الصلاة نسمع المؤذن، وبيننا وبين المسجد حوالى كيلو، ويقول المسئول عنا: نصلي في الاستراحة وليس في ذلك شيء، فما حكم فعلنا هذا؟ وإذا ذهبت إلى المسجد وتركت أصحابي فهل في ذلك شيء؟
الجواب
الأولى أنكم تصلون في المسجد، ولكن حيث إنه يبعد مسافة كيلو، فهذه المسافة قد يكون فيها مشقة عليكم في ذهابكم جميعاً، فلا بأس أن تصلوا في مكانكم لأجل الوقت.(20/33)
من حرم حلالاً فعليه الكفارة
السؤال
زوجة قالت لزوجها: يحرم علي أخذ شيء منك، فماذا يترتب على ذلك إذا أخذت منه شيئاً؟
الجواب
من حرم شيئاً من الحلال فعليه كفارة اليمين، قال تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] يعني: الكفارة.(20/34)
شرح أخصر المختصرات [21]
لقد أمرنا الله جل وعلا بحج بيته الحرام، وجعله من أركان الإسلام، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حاجاً ليبين للناس مناسك الحج وصفاته، ولذا قال: (خذوا عني مناسككم) ، فعلى من أراد الحج أو العمرة أن يعرف الأحكام التي تخصه في حجه وعمرته، حتى يؤديها كما أمر الله تعالى.(21/1)
صفة الحج والعمرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل في صفة الحج والعمرة.
يسن لمحل بمكة الإحرام بالحج يوم التروية، والمبيت بمنى، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة، وكلها موقف إلا بطن عُرَنَةَ، وجمع فيها بين الظهر والعصر تقديماً، وأكثر الدعاء مما ورد، ووقت الوقوف من فجر عرفة إلى فجر النحر، ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة، ويجمع فيها بين العشاءين تأخيراً، ويبيت بها، فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فرقاه ووقف عنده، وحمد الله وكبر وقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] الآيتين، ويدعو حتى يسفر، ثم يدفع إلى منى، فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر، وأخذ حصى الجمار سبعين أكبر من الحمص ودون البندق، فيرمي جمرة العقبة وحدها بسبع، يرفع يمناه حتى يرى بياض إبطه، ويكبر مع كل حصاة، ثم ينحر ويحلق أو يقصر من جميع شعره، والمرأة قدر أنملة، ثم قد حلّ له كل شيء إلا النساء، ثم يفيض إلى مكة فيطوف طواف الزيارة الذي هو ركن، ثم يسعى إن لم يكن سعى وقد حل له كل شيء.
وسن أن يشرب من زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد، ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال، ويرمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال وقبل الصلاة، ومن تعجل في يومين إن لم يخرج قبل الغروب لزمه المبيت والرمي من الغد.
وطواف الوداع واجب يفعله، ثم يقف في الملتزم داعياً بما ورد، وتدعو الحائض والنفساء على باب المسجد، وسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.
وصفة العمرة أن يحرم بها من بالحرم من أدنى الحل، وغيره من دويرة أهله إن كان دون ميقات وإلا فمنه، ثم يطوف ويسعى ويقصر] .(21/2)
الإحرام من الأبطح أو منى يوم التروية
تذكر صفة الحج مع الاختصار، وذلك لأن الحجاج عادة يأتون ثم ينزلون بالأبطح، والأبطح وما حوله في تلك الأزمنة كان فيه متسع، ولم تمتد إليه المباني، فكان الحجاج ينزلون هناك.
فإذا جاؤوا -مثلاً- في اليوم الرابع أو في اليوم الخامس أنهوا عمرتهم إذا كانوا متمتعين، وبنوا لهم خياماً أو استظلوا تحت شجر وأقاموا هناك إلى اليوم الثامن، ويسمى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية أحرموا بالحج.
لماذا سمي يوم التروية؟ لأنهم يرتوون فيه من المياه -أي: يملئون- ما معهم من القرب والمزادات التي جاؤوا بها من بلادهم، يملئونها من الماء، حيث لم يكن يوجد في تلك الأزمنة الماء في منى، ولا في مزدلفة ولا في عرفة غالباً، فسموه يوم التروية.
ولعله في القرن الثاني أو الثالث عشر وجدت المياه بعمليات كان لها تأثير، واحتيج فيها إلى أتعاب ومشقة، إلى أن أوصل الماء إلى تلك الأماكن ضمن جداول يسير فيها، ويكون فيها فتحات إلى أن يمر بالمشاعر كلها، يمر بمنى وبمزدلفة وبعرفة، هذا في القديم.
ثم في عهد الحكومة اعتنت بالمياه في تلك الأماكن، وأمنتها في أيام المناسك بواسطة الأنابيب التي امتدت وصارت في كل الأماكن، والحمد لله.
وفي يوم التروية الذين كانوا قد تحللوا يحرمون بالحج، والذين بقوا على إحرامهم فما تحللوا -كالمفرد والقارن- إذا كانوا نازلين بالأبطح يتوجهون مع الحجاج إلى منى، وفي تلك الأزمنة كانت منى خالية ليس فيها أحد إلا يوم التروية وما بعده، أما في هذه الأزمنة فالمشاهد أن الأبطح وما حوله لم يبق فيه مساكن للحجاج، بل قد امتدت المباني والعمارات إلى أن وصلت إلى منى أو تجاوزت منى من الجهات الأخرى، إلا أنه منع من البناء في المشاعر، فهذه الأماكن أصبحت مملوكة، وأصبح الحجاج الذين يأتون -حتى ولو في أول الشهر- يستقرون في منى في مخيمات لهم يبنونها من حين يأتون من أول الشهر أو من اليوم الثاني أو الرابع أو الخامس، حتى الذين يأتون في اليوم السابع أو الثامن يأتون إلى منى ويستقرون فيها هذه الأيام كلها.
فعلى هذا لا يكون ليوم التروية ميزة عن الأيام التي قبله لمن كان مفرداً أو قارناً، وأما من كان متمتعاً فإنه يحرم من منى بدل أن يكان يحرم من الأبطح؛ لأنهم في منى مستقرون.
وبعض العلماء قال: يستحب أن يحرم تحت الميزاب -يعني ميزاب الكعبة-.
ولكن الصواب أنه لا حاجة إلى ذلك، وأن هذا لم يرد، وأن فيه مشقة على الناس، والميزاب لا يتسع إلا لواحد أو لاثنين، فكيف يكلف مئات الآلاف أن يذهبوا إلى تحت الميزاب فيحرمون منه، والصحابة أحرموا من رحالهم وأماكنهم التي كانوا فيها.
ثم ذكروا أنه عند هذا الإحرام يفعل مثل ما فعله عند الميقات، أي: إذا تيسر له اغتسل وتنظف وتطيب، وأخذ من شعر شاربه وأظفاره إذا خاف أنها تطول وتؤذيه، وقد ذكرنا أن هذا التنظف يفعل عند الحاجة، فإذا كانت أظافره طويلة، وكذا شعر شاربه أو عانته فإنه يتعاهدها عند الإحرام، وذكرنا أن الإحرام في تلك الأزمنة كانت تطول مدته، فيخشى أن تطول هذه الأشعار والأظفار فتؤذيه، وأما في هذه الأزمنة فإن مدة الإحرام لا تطول بالعمرة، إنما هو نصف يوم أو نحوه، فإذا لم تكن طويلة فلا حاجة إلى تعاهدها، ويقال كذلك عند الإحرام بالحج.
ولا شك أنه يستحب الاغتسال؛ لأنه من باب النظافة، وقد تقدم في الأغسال المستحبة في كتاب الغسل أنه يسن الاغتسال عند الأعمال الصالحة، فقالوا: يسن الاغتسال عند الميقات، والاغتسال عند دخول مكة، والاغتسال عند إرادة الطواف بالبيت، والاغتسال عند الإحرام بالحج، والاغتسال عند الوقوف بعرفة -أي: عند دخول الوقت-، والاغتسال للوقوف بمزدلفة، والاغتسال لدخول منى، والاغتسال لرمي الجمار، والاغتسال لطواف الإفاضة، ونحو ذلك كما تقدم في باب الغسل.
وقد عرفنا أن الحكمة في الاغتسال هي النظافة، فإذا كان البدن نظيفاً والإنسان حديث عهد بنظافة فلا حاجة إلى هذه الاغتسالات، ويمكن أنهم كانوا يستحبونها لأنهم في ذلك الوقت في شدة حر لا توجد معهم مكيفات ولا مراوح كهربائية، فيشق عليهم الوقوف في شدة الشمس، فيحتاجون إلى أن يغتسلوا ليخففوا الحرارة عليهم، فهذا هو السبب، وهو أن تلك الأماكن كانت شديدة الحر، فمنى ومزدلفة وعرفة الحر فيها شديد، والشمس فيها حارة وقت الصيف، وحتى في وقت الشتاء، فلذلك أكثر الأغسال المستحبة للمشاعر.
والحاصل أنهم يحرمون في يوم التروية كإحرامهم عند الميقات، فقبل الإحرام يصلي ركعتين إذا لم يكن في وقت نهي، وينوي بها سنة وضوء أو نحو ذلك، ويسن أن يحرموا في الضحى حتى تأتي عليهم الصلوات الخمس بمنى وهم محرمون.(21/3)
المبيت بمنى
وأما مبيتهم بمنى ليلة عرفة فقد اختلف في حكمه، والصحيح أنه مستحب ومؤكد، وذهب بعض العلماء إلى أنه ركن، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته باتوا بمنى ليلة عرفة، توجهوا إلى منى كلهم من الأبطح، ونزل بمنى كل الحجاج الذين معه، وأقاموا بمنى حتى طلعت الشمس في اليوم التاسع، ثم توجهوا إلى عرفة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (خذوا عني مناسككم) يعلمهم ذلك دائماً.
ولا شك أن هذا دليل على أن أفعاله التي فعلها من مشاعر الحج، فلذلك قال بعض العلماء: إن المبيت بمنى من الأركان، ولا يتم الحج إلا به.
القول الثاني أنه من الواجبات التي تجبر بدم، فمن ترك المبيت بمنى يوم التروية وليلة عرفه فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً.
والقول الثالث أنه من السنن المؤكدة، والذين جعلوه من السنن -كما هو المشهور عند أحمد، حيث لم يذكر في الأركان ولا في الواجبات- كأنهم استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، واستدلوا -أيضاً- بحديث عروة بن مضرس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: بمزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) ، وهو حديث مشهور صحيح، لكن لعله عندما لم يذكر المبيت بمنى أراد أن هذا شيء معهود ومعروف مشهور، ومع آكديته والخلاف فيه نرى كثيراً يتساهلون بهذه الليلة أو بهذا اليوم -يوم الثامن- وبالأخص المطوفون، نشاهد أنهم يأخذون حجاجهم من مساكنهم لمكة في اليوم الثامن، ويتوجهون بهم إلى عرفة، ويستقرون بعرفة اليوم الثامن وليلة التاسع واليوم التاسع إلى أن تغرب الشمس في اليوم التاسع، ثم يذهبون بهم إلى منى، وهذا تساهل، أي: ترك هذا الركن أو هذا الواجب أو هذه السنة المؤكدة التي هي الإقامة بمنى في ذلك اليوم، فننتبه إلى أنه من آكد السنن -إذا قلنا: إنه سنة- أو أنه من الواجبات.
فمنى يقيمون فيها وهم محرمون، والأعمال في ذلك اليوم هي أعمال المحرمين، فيكثرون من التلبية؛ لأنهم محرمون بالحج، وكذلك يصلون فيها الرباعية قصراً ركعتين؛ لأنهم على أهبة السفر، ولا يجمعون، بل يصلون كل صلاة في وقتها، ويأتون بما أمروا به من شعائر الحج، فمن ذلك التلبية بعد كل صلاة، فعندما ينتهون من أية صلاة يرفعون أصواتهم بالتلبية، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الذكر والدعاء؛ لأنهم قد تلبسوا بهذا الإحرام الذي هو عمل من أعمالهم الذي جاؤوا به، فلذلك يكثرون من التلبية والدعاء والذكر.(21/4)
الذهاب إلى عرفة بعد طلوع شمس يوم عرفة للوقوف بها
إذا طلعت الشمس صبح يوم عرفة -اليوم التاسع- توجهوا إلى عرفة، وفي طريقهم يذكرون الله تعالى ويلبون.
ثم يقفون بعرفة، وكل عرفة موقف إلا بطن عُرَنَةَ، وعرفة واسعة جداً، فهي تمتد في جهة الشمال نحو أربعة كيلو متر شمال الجبل الذي هو جبل الرحمة، ومن الجهة الجنوبية نحو اثنين أو ثلاثة كيلو متر، ومن الجهة الغربية نحو ثلاثة كيلو متر، وشرق الجبل -أيضاً- قد يصل إلى الجبال الطويلة.
واختلف في نمرة هل هي من عرفة أم لا؟ فأكثر العلماء يقولون: إنها ليست من عرفة، وذلك لأنها اختصت بهم أن اسمها نمرة.
القول الثاني -ولعله الأرجح- أنها جزء من أجزاء عرفة، وقد ورد ما يدل على ذلك، فمن ذلك قوله في حديث جابر الطويل: (فلما طلعت الشمس سار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد بنيت بنمرة) فقوله: (أتى عرفة) يعني: دخل حدود عرفة.
ولا شك أن هذا دليل على أنه وصل إليها، وتكون القبة فيها وفي جزء من أجزائها يقال له: نمرة.
وهناك حديث -أيضاً- مشهور، يقولون فيه: إنه نزل بنمرة، وهو الموقف الذي يقف فيه أو ينزل فيه الإمام في عرفة.
وهذا في حديث صحيح مروي في السنن وفي المسند وغيرها.
ويدل على أنها من عرفة استثناء بطن عُرَنَةَ في قوله صلى الله عليه وسلم: (عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنَةَ) فعرنة -أيضاً- من عرفة، إلا ما كان من البطن -يعني مجرى الوادي- فإنه ليس من عرفة فلا يوقف فيه، وفي حديث آخر قال: (عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة) يعني: ارتفعوا عنه.
فعرنة ممتدة غرباً، فهي وراء نمرة التي فيها المسجد المشهور مسجد نمرة، فنمرة بين عرفة وعرنة، فقال: (ارفعوا عن بطن عرنة) ولم يقل: وارفعوا عن نمرة.
وإنما استثنى بطن عرنة، فهو دليل على أن عرفة واسعة، ويستثنى فقط البطن -أي: الوادي- الذي هو منخفض الآن، فهذا هو الذي لا يوقف فيه، وأما ما وراءه ولو مسيرة كيلو متر أو نحوه في جهة مكة وكذلك في الجهات الأخرى فإنه موقف.
والناس يتضايقون كثيراً بسبب الحدود التي قد حددت في هذه الأزمنة، ففيها شيء من التضييق، وقد حددت من جهة الجنوب، ومن جهة الغرب، ومن جهة الشمال والشرق، فصار فيها شيء من الضيق، وجعلوها من باب الاحتياط، فيأتي الناس مبكرين -قبل يوم عرفة بخمسة أيام أو بعشرة أيام- ثم يتقاسمون تلك البقعة التي هي داخل الحدود، ويبقى بقية الناس ليس لهم أماكن، فنقول: إن عرفة واسعة، وإذا لم يجد مكاناً داخل الحدود وقف ولو بعد الحدود، كما يفعلون ذلك في منى، فيقفون وراء الحدود ولا حرج عليهم؛ لأن عرفة واسعة، ولأن هذه الحدود جعلت من باب الاحتياط، ولأنهم معذورون حيث لم يجدوا مكاناً، فلذلك يرخص لهم ولا يشددوا على أنفسهم، ولا يكلفوا أنفسهم بالدخول في داخل الحدود مع عدم الحصول على أماكن متسعة لهم.
ولا يسكنون في الوادي المنخفض فقط، فأما ما حوله فلا حرج في ذلك.(21/5)
الإكثار من الدعاء والتكبير والتلبية في عرفة
إذا وصلوا إلى عرفة واستقروا فيها فإنهم يكثرون من الدعاء والذكر والتكبير والتلبية ونحو ذلك، فإذا دخل وقت الظهر بعد زوال الشمس صلوا الظهر والعصر جمعاً وقصراً في وقت الظهر جمع تقديم، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جمع في وقت الظهر ليطول وقت الوقوف، وذلك لأنه قبل أن يصلي خطب خطبة طويلة، علم الناس فيها الأحكام والشرائع، وبين لهم كثيراً من الأحكام، فلأجل ذلك يسن أن يخطب إمامهم وأن يعلمهم الأحكام التي تتعلق بالمناسك، وكذلك الأحكام التي تتعلق بالأوامر والنواهي مما قد يخفى عليهم، فإنه عليه الصلاة والسلام وضع ربا الجاهلية، قال: (كل ربا الجاهلية موضوع) يعني: ساقط.
ووضع دماء الجاهلية في خطبته، وكذلك حثهم على الكثير من الأحكام، وعلمهم الحلال والحرام، فهكذا تكون الخطبة في ذلك.
ثم بعد ذلك وقف على ناقته القصواء، واستمر واقفاً عليها حتى غربت الشمس، وهو رافع يديه يدعو الله تعالى، وكان وقوفه شرق الجبل الذي يقال له: (جبل الرحمة) عند الصخرات الكبار، وقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) ، وأرسل إلى بعض الصحابة الذين كانوا في مكان بعيد، وقال لهم: (الزموا أماكنكم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم) ، فأقرهم على أماكنهم رغم أنهم بعيدون من جبل الرحمة، وذلك من باب التسهيل عليهم حتى لا يزدحموا في أماكن يضايق بعضهم بعضاً.
ويوم عرفة أفضل الأيام، يجتمع فيه الحجاج بعرفة، وكلهم في حالة واحدة، قد ارتدوا هذه الأكسية التي هي أكسية الإحرام، وقد كشف الرجال رءوسهم، ولبسوا هذا اللباس الموحد الذي هو أشبه بلباس الموتى، الذي هو إزار ورداء، وكذلك قد اتحدوا على هذا اللباس، وليس هناك فرق بين الغني والفقير، وبين الصغير والكبير، وبين الشريف والوضيع، وبين الأحمر والأسود والأبيض ونحوهم، بل كلهم على حالة واحدة، وفي موقف واحد، والحكمة في ذلك: أن يشعروا بأنهم سواسية، يجمعهم دين واحد، ويعبدون رباً واحداً، ويقصدون مقصداً واحداً وهو ثواب الله تعالى ورضاه وجنته والسلامة والنجاة من عذابه، فلا جرم أمروا بأن يكثروا من الأدعية التي تتيسر لهم، وليس شرطاً أن تكون مأثورة ومنقولة، بل يدعون بما أحبوا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يدعو رافعاً يديه، واستمر في الدعاء من الساعة الواحدة -أو قريباً منها- إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة وهو يدعو، فست ساعات أو نحوها وهو يدعو.
وهل نقل لنا دعاؤه كله في الست الساعات؟ ما نقل لنا، مما دل على أنه أباح لكل منهم أن يدعو لنفسه، وأن يدعو بما تيسر له في هذه الحالة، فيدعو الله تعالى ويسأله خيري الدنيا والآخرة، وكذلك يكثر من التلبية -أي: يكرر التلبية- حيناً بعد حين، وكذلك يكثر من التكبير، والمأثور: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) إلخ، وهكذا -أيضاً- يتلو الآيات التي فيها تمجيد الله تعالى، والثناء عليه، وذكر صفاته، مثل آخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، وكذلك آية الكرسي، والآيتان من آخر سورة البقرة، ونحو ذلك، ويكثر من الأدعية التي في القرآن، ويرددها، ويكثر -أيضاً- مما يحفظه من الأدعية المأثورة التي في السنة، كذلك -أيضاً- يرفع يديه، وذلك لأن رفع اليدين سبب من أسباب إجابة الدعاء كما في حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين.
وثبت في حديث أنه صلى الله عليه وسلم (كان رافعاً يديه يدعو وخطام الناقة بيده اليمنى، فسقط منه الخطام) ، يقول الراوي: (فرأيته رافعاً يده اليسرى وقد مد يده اليمنى ليتناول الخطام) ، مما يدل على أنه استمر في رفع يديه، أي: طوال ذلك الوقوف كان رافعاً يديه، وقد عرفنا أنه من أسباب إجابة الدعاء.
كذلك -أيضاً- يكثر من التلبية؛ لأنها شعار الحج، ويكثر من التكبير وما أشبه ذلك، وفي هذه الأزمنة قد لا يتيسر لهم ركوب الدواب، وقد فاتنا أن نحج على الرواحل، ولكن حدثنا آباؤنا الذين كانوا يحجون على الإبل أن الإبل يصفونها في ذاك المكان، وأنهم من طول مقامهم يدعون ويبكون في دعائهم، وأن الإبل يسيل من أعينها الدموع -أي: تدمع في ذلك الموقف- ويشاهدون ذلك، فإما أن الله تعالى ألقى عليها الهيبة والخشوع، وإما أن هذا بسبب من الأسباب.(21/6)
استحباب إظهار الحاجة والفقر إلى الله يوم عرفة
وفي هذا الموقف الذي هو يوم عرفة ينبغي للحجاج أن يظهروا حاجتهم وفاقتهم وفقرهم إلى الله تعالى، ويظهروا الخشوع والاستكانة والاستضعاف بين يدي ربهم رجاء أن يقبل منهم، وقد ورد في الحديث: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، ولما روى بعض الصحابة هذا الحديث سأله أحد تلامذته فقال: هذا ليس بدعاء، هذا ثناء على الله، فكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة) ؟ فأجابه بأن الثناء يقوم مقام الدعاء، واستدل بقول الشاعر يمدح ابن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء كأنهم يستحبون أن يأتوا بهذا الدعاء أو بهذا الشعر لأن فيه استضعافاً بين يدي الله تعالى، ولو كان الشاعر وجهه إلى آدمي، فأنت إذا قلت: يا رب! لا حاجة إلى أن أذكر حاجتي، فأنت أعلم بحاجتي، وأنت أعلم بما أحتاجه وبما أطلبه، فأعطني حاجتي من غير سؤال، فأنا أثني عليك وأذكرك وأمدحك بما أنت أهله، فيكفيني أن أمدحك وأثني عليك، ويكفي ذلك لإعطائي حاجاتي وفي قضاء حوائجي التي أنا بحاجة إليها في دنياي وفي أخراي.
ويُسمع كثير منهم ينشدون أبياتاً -أيضاً- فيها شيء من التذلل والاستضعاف، مثل قول بعضهم: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل امنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول فلا شك أن هذا موطن دعاء، وأنه الذي يباهي الله تعالى فيه بهم ملائكته، كما ورد في الحديث أن الله تعالى يقول: (يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً، ضاحين من كل فج عميق، يدعونني، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفوراً لكم) أو كما ورد، فوصفوا أنهم شعث غبر، أي: أنهم من طول بعدهم عن التنعم والترفه صارت رءوسهم منتفشة، وصارت وجوههم مغبرة، فصاروا شعثين، فكان ذلك أقرب إلى انكسار قلوبهم وإلى رغبتهم في فضل ربهم سبحانه وتعالى.
واستطردنا هنا لأنه مما يغلط فيه كثير من الناس، ونشاهد أن الكثير في يوم عرفة كأنهم في بلادهم، يخوضون ويتكلمون فيما بينهم، ويضحكون، وليس لهم إلا أنهم عاكفون، وكأن هذا الموقف كسائر المواقف، ولا شك أن هذا خطأ، وأن الواجب عليهم أن يجعلوه يوم عبادة، لا يوم عادة، ولا يوم ضحك، ولا يوم خوض في الشيء الذي لا أهمية له ولا فائدة فيه، بل من حين يصلون صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس يشتغل كل فرد بنفسه، فيدعو بما تيسر من الأدعية، ويدعو بما يحفظه، وكتب الأدعية متوافرة والحمد لله، أعني الكتب التي فيها أدعية وأذكار، مثل الكلم الطيب لـ ابن تيمية، والوابل الصيب -أيضاً- لـ ابن القيم، والأذكار للنووي، وغيرها من الكتب التي تذكر فيها الأدعية العامة والخاصة، ومثلها -أيضاً- كتب متأخرة، وأفضلها الذكر الذي جمعه واختاره الملك عبد العزيز، ويسمى "الورد المصفى المختار" يبدأ منه بما تيسر.
ووقت الوقوف بعرفة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر، فمن جاء فوقف في أول النهار بعد الفجر صدق عليه أنه وقف بعرفة، ودليل هذا في حديث عروة بن مضرس قوله: (وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار) هكذا ذكر: (ساعة من ليل أو نهار) كلمة (أو نهار) تعم النهار كله، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها.
وكذلك قوله: (من ليل) تعم ليلة النحر كلها، أي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
فمن وقف في هذا كله ولو ساعة فإنه يعتبر قد وقف بعرفة.
وقد بالغ العلماء في ذلك حتى قال بعضهم: لو مر بعرفة وهو محرم ولكنه غافل لم يشعر بأنها عرفة، سار منها حتى قطعها في ليلة النحر، أو في يوم عرفة صح وقوفه بها، حتى ولو كان نائماً أو غافلاً إذا كان قد عقد الإحرام.
وهناك قول آخر: أن وقت الوقوف من الزوال، أي: بعد زوال الشمس يكون الوقوف.
وهذا القول يستدلون عليه بأنه صلى الله عليه وسلم ما وقف إلا بعد الزوال وبعدما صلى الصلاتين، وهذا القول هو الذي نصره كثير من المتأخرين، وقالوا: من وقف بعرفة في أول النهار فلا يعتد بوقوفه إذا خرج منها قبل أن تزول الشمس، ولا يكون كأنه وقف فيها، ولا يكون قد تم حجه.
ولكن لعل القول الأول هو الأولى، أن يوم عرفة كله من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، وأن الجميع كله وقت للوقوف؛ لما ذكرنا من حديث عروة بن مضرس وغيره.(21/7)
الدفع إلى مزدلفة بعد غروب الشمس
ثم بعد ذلك يدفعون بعد الغروب إلى مزدلفة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم والحجاج معه لما غربت الشمس توجهوا إلى مزدلفة، وكان يقول لهم: (أيها الناس! السكينة السكينة!) ، وكانوا يسرعون فيحصل منهم مضايقة في بعض الأماكن الضيقة، وكان صلى الله عليه وسلم يسير على ناقته، وقد أخذ بزمامها يجد السير، فكان إذا أتى حبلاً من الحبال المرتفعة أرخى لها، وكان -كما يقال- يسير العنق -أي: قدر العنق- فإذا وجد متسعاً نصَّ، أي: أسرع.
وكانت المسافة بين عرفة ومزدلفة تستغرق بسير الأقدام أو بسير الإبل ساعتين، ومع السير المتوسط ساعتين ونصف، فكانوا يسيرون سيراً سريعاً أو سيراً متوسطاً، فلما وصلوا كان قد دخل وقت العشاء؛ إذ وصلوا بعد ساعتين من غروب الشمس أو بعد ساعتين ونصف، فجمعوا بين العشاءين جمع تأخير، ولعل السبب أنهم قد طال وقوفهم، وأحبوا المبيت لطول المسافة ومشقة السير؛ لأنهم على رواحلهم من الساعة الواحدة بعد الظهر حتى الساعة التاسعة من الليل تقريباً، ولا شك أن هذا زمن طويل، فهو ثمان ساعات شقوا على أنفسهم فيها، فلما وصلوا إلى مزدلفة أناخوا رواحلهم وحطوا رحالهم، ثم صلوا العشاءين وأراحوا أنفسهم.
وفي هذه الأزمنة يحصل اختلاف عما كانوا عليه في الزمان القديم، والواقع أن بعض الناس يسيرون سيراً سريعاً من عرفة، ففي مدة أربع أو خمس دقائق يصلون إلى مزدلفة، فكيف يصلون؟ نقول: يصلون جمع تقديم، ولا يلزمهم أن يؤخروا إلى وقت العشاء؛ لأنه ورد أنهم يُصلُّون ساعة أن يَصِلُوا.
وآخرون بضد ذلك، فمن شدة الزحام قد لا يصلون إلا نصف الليل أو بعد مضي ثلث الليل أو في آخر الليل، فيصلون -أيضاً- إذا وصلوا، ويمكن أن بعضهم قد يخشون طلوع الفجر وما وصلوا، فهؤلاء يصلون في الطريق، ومن المشايخ من يقول: يصلون في الطريق إذا خشوا أن يفوت وقت الاختيار.
يعني: إذا مضى نصف الليل وهم ما وصلوا فيصلون في الطريق.
وكيف يصلون والسيارات مزدحمة أمامهم وخلفهم وعن الجانبين؟ المشاهد أنهم قد يقفون في الموقف الواحد نصف ساعة أو ثلث ساعة ثم يتحركون، والمشاهد -أيضاً- أنهم في نصف الساعة يقطعون مسافة عشرة أمتار أو نحوها، فإذا وقفوا في هذه الوقفة نزلوا ذكوراً وإناثاً، والأرض واسعة، فيصلون فيها الصلاة جمعاً أو قصراً الصلاة، حتى لا يؤخروها عن وقتها.
والسائق إذا رجعوا نزل وقاد السيارة واحد غيره إلى أن يصلي مع من بقي، هذا هو الذي أفتى به مشايخنا، فالحاصل أنهم إذا أَمَّلوُا أن يصلوا قبل نصف الليل أو بعد نصف الليل بقليل -وقيل: إلى ثلثي الليل- أخروها إلى أن يصلوا، وإلا صلوها في الطريق حتى لا يفوت وقتها.(21/8)
المبيت بمزدلفة
المبيت بمزدلفة واجب من الواجبات كما سيأتي، وذهب بعضهم إلى أنه ركن، واستدلوا بقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] والمشعر الحرام هو مزدلفة، فهذا الأمر يدل على الوجوب: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] (عنده) يعني: فيه.
والأكثرون على أنه من الواجبات التي إذا تركت جبرت بدم.
والآن يحصل أن كثيراً يفوتهم المبيت بمزدلفة لأجل الزحام، فيتوجهون من عرفة، ولشدة الزحام قد لا يصلون إلى مزدلفة إلا بعد الصباح، فهل عليهم دم والحال هذه؟ نرى أنه لا دم عليهم، وذلك لأنهم بذلوا وسعهم وتوجهوا كما توجه غيرهم، ولم يستطيعوا فعل أكثر مما حصل، وإذا كان بعضهم أقوياء يستطيعون مواصلة السير إذا رأوا أن السير يتأخر بهم فاستطاعوا أن يواصلوا السير بأقدامهم مسيرة ساعة أو ساعة ونصف حتى يصلوا إلى مزدلفة فهو أفضل، والعجزة والنساء ونحوهم يسقط عنهم بقدر ما بذلوه من الجهد.
وفي مزدلفة يقع خطأ من كثير من الذين يتعجلون، وهو أن كثيراً منهم يجلسون فيها ساعة أو ساعة ونصفاً، ثم يسيرون إلى منى، وهذا خطأ، وكثير من الناس إذا كان نصفهم أو ثلثهم نساء ادعوا أن لهم عذراً، فيجلسون ساعة أو ساعة ونصفاً ثم يتوجهون إلى منى، ولا شك أنه قد وردت الرخصة للنساء والعجزة كما جاء: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـ أم سلمة ولـ سودة أن تدفعا في آخر الليل) وهذه الرخصة خاصة بمن هذه حالته، أما بقية الصحابة وأمهات المؤمنين فإنهم بقوا.
كذلك رخص لبعض الشباب أن يذهبوا مع بعض النساء، ومنهم ابن عباس رضي الله عنه، يقول: إنه من جملة الذين أذن لهم أن ينفروا آخر الليل، ولكنه جعل يضرب أفخاذه ويقول: (أي بني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) فدل على أنه رخص لهؤلاء، ولا تكون الرخصة عامة للناس كلهم، فيتنبه إلى أن الأصل المبيت بمزدلفة إلى الصباح، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.(21/9)
صلاة الصبح وإتيان المشعر الحرام
وإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام، والمشعر هو الجبل الصغير الذي عنده المسجد، ولكن تسمى مزدلفة كلها بالمشعر الحرام، فيقف عنده ويحمد الله ويكبر، ويذكر ويقرأ قول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] الآية.
ويكثر من الدعاء حتى يسفر، وإذا لم يتيسر لبعد المكان فإن مزدلفة كلها موقف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) و (جمع) هي مزدلفة، يعني أن كلاً منهم وقف في مكانه، فيصلون في أماكنهم، ويدعون الله تعالى حتى يسفروا، وكان المشركون يقفون بمزدلفة إلى أن تشرق الشمس على ثبير -الجبل المرتفع الذي يقع شرق شمال مزدلفة- فيقولون: أشرق ثبير كيما نغير.
فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاض من مزدلفة قبل أن تشرق الشمس، أي: بعدما أسفر جداً.(21/10)
السير إلى منى
ثم بعدها يتوجه من مزدلفة إلى منى، ويسير -أيضاً- كما يسير من عرفة إلى مزدلفة سيراً معتاداً، وإن كان في هذه الأزمنة الناس يسيرون على السيارات، والسير على السيارات يختلف عن السير على الرواحل.
فإذا وصلوا إلى وادي محسر أسرعوا رمية حجر، ووادي محسر حاجز وفاصل بين منى ومزدلفة، وليس هو من المشاعر، وقدر رمية الحجر يمكن أنه -مثلاً- عشرة أمتار، والآن قد حددوه، ولكن زعموا أنه أربعون متراً من باب الاحتياط، وإلا فهو قدر رمية حجر، أي: قدر ما يأخذ الإنسان حجراً ويرمي به.
والعادة أنه إذا رمى به يمتد نحو عشرة أمتار أو خمسة عشر متراً، فهم من باب الاحتياط جعلوا له حدوداً من جهتيه.
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أسرع فيه السير براحلته، وذلك لأنه الوادي الذي تحسر فيه فيل أبرهة، والذي أنزل عليهم فيه الطير الأبابيل تحمل حجارة من سجيل، فهذا واد قد نزل فيه هذا العذاب، ولكن مع ذلك الناس في هذه الأزمنة لشدة زحامهم يسكنون فيه، ويكون مستقراً لكثير منهم لعدم المساكن، فيعذرون بذلك، وأيضاً لا يتيسر الإسراع فيه، وذلك لشدة الزحام، لا إسراع السيارة ولا إسراع الراجلين.
قوله: [وأخذ حصى الجمار سبعين، أكبر من الحمص ودون البندق] .
حصى الجمار تؤخذ من أي مكان، ولكن كثيراً من الفقهاء ينصون على أنه يؤخذ من مزدلفة، فكانوا يأخذون من مزدلفة سبعين حصاة، سبعاً ليوم العيد، والثلاثة الأيام التي بعدها لكل يوم إحدى وعشرون، والصحيح أنه يؤخذ من كل مكان، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخذ من مزدلفة إلا سبعاً، قال للفضل بن عباس: (ناولني سبع حصيات.
يقول: فناولته حصيات مثل حصى الخذف -أو هن حصى الخذف- فقال: بمثل هذا فارموا عباد الله، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) ، وحصى الخذف هي الحصاة التي يجعلها بين إصبعين ثم يخذف بها، أي: يرمي بها صيداً أو نحو ذلك كالعصفور أو نحوه، وهو الذي ورد فيه أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن الخذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تفقأ العين وتكسر السن) .
فحصى الخذف: الحصيات التي هي قدر نواة التمر أو أصغر، أو قدر حبة الفول أو قريباً منها.
والحمص هو المعروف الذي يؤكل، ويسمى القريض، والبندق نبت أكبر منه، وهو نبت شيء من الشجر عليه قشرة.
فيكون هذا مقدار الحصى التي يرمى بها.(21/11)
الوصول إلى منى ورمي الجمار
وإذا وصل إلى منى فإن تحيتها الرمي، هكذا يقول العلماء: تحية منى رمي جمرة العقبة، يرميها بسبع حصيات كما هو معروف، ويقتصر على رمي جمرة العقبة فلا يرمي غيرها.
والرمي قيل: إنه من سنة إبراهيم أو إسماعيل.
وسببه -كما ذكر في مسند أحمد -: أن الشيطان اعترض لإبراهيم عند الجمرة الكبرى لما أراد أن يذبح ولده، فرجمه، ثم اعترض لإسماعيل عند الجمرة الوسطى فرجمه، ثم اعترض هاجر أم إسماعيل عند الجمرة الصغرى فرجمته، هكذا ورد في ذلك الحديث.
ورجمنا لهذه الحجارة المنصوبة ليس هو رجم للشيطان كما يعتقده بعض العامة، وإنما هو لتذكر عداوة الشيطان، إذا عرفنا عداوته لأبينا آدم ثم لأبينا إبراهيم فإننا نأخذ حذرنا من إغوائه لنا ومن طواعيته، ومع ذلك فإن شرعية هذا الرمي لإقامة ذكر الله، هكذا ورد في حديث عن عائشة قالت: (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) ولأجل ذلك يكبر مع كل حصاة حال الرمي في يوم العيد وفي الأيام التي بعده، فكلما رمى حصاة كبر معها بقوله: (الله أكبر) .
وقيل: إنه يسمي.
أي: باسم الله، الله أكبر.
وبعضهم يقول: غضباً للشيطان.
أو: نعوذ بالله من الشيطان.
وما أشبه ذلك، ولكن التكبير هو الذي ورد.
وذكروا أنه يرفع يمناه حتى يرى بياض إبطه؛ لأنه لم يزل محرماً، فيرفع يده من تحت الرداء، فإذا ارتفعت ارتفع الرداء، فيرى بياض إبطه من شدة رفعه.(21/12)
نحر الهدي
بعدما يرمي جمرة العقبة إن كان معه هدي نحر هديه، أو إذا كان عليه فدية نحر فديته أو ذبحها.(21/13)
الحلق أو التقصير
بعد ذلك يحلق أو يقصر، والحلق أو التقصير يعتبر نسكاً وعبادة من العبادات وطاعة وقربة، وليس هو عادة، فلابد أن يحلق رأسه -وهو أفضل- أو يقصر منه، وإذا اقتصر على التقصير فلابد أن يدور على رأسه ويأخذ منه كله، وإن لم يكن من كل شعرة.
والمرأة تقصر من كل ضفيرة قدر أنملة، وقد كان النساء يجعلن رءوسهن ضفائر -أي: قروناً-، فقد يكون رأسها -مثلاً- ثلاثة قرون أو خمسة أو ستة، فتمسك كل قرن وتقص منه قدر أنملة، أي: قدر خصلة من خصال الإصبع، ويكون هذا هو التقصير في حقها.
وليس على النساء حلق، وإنما عليهن التقصير، وأما الرجل فإن الحلق أفضل، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاث مرات، والمقصرين واحدة.
فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر حل له كل شيء إلا النساء، ويسمى هذا التحلل الأول، والتحلل الأول يدخل بفعل اثنين من ثلاثة، وفي يوم العيد يفعل أربعة أشياء: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، ولم يعدوا النحر من أسباب التحلل؛ لأنه ليس عاماً، وكثير من الناس ليس عليهم هدي إذا كانوا مفردين، فيكون عليهم الرمي والحلق والطواف؛ ولأجل ذلك جعلت هذه الثلاثة هي أسباب التحلل، فإذا فعل اثنين منها فقد تحلل التحلل الأول، وإذا رمى وحلق بقي عليه الطواف، فإذا فعل الثلاثة حل التحلل كله، ولو بدأ بالطواف ثم بالحلق وبقي عليه الرمي فقد حل التحلل الأول، كذلك لو رمى وطاف ولم يحلق أحل له كل شيء إلا النساء، فإذا فعل الثلاثة حل له كل شيء حتى النساء.(21/14)
طواف الإفاضة والسعي
وطواف الإفاضة هو طواف الحج، ويسمى: (طواف الإفاضة) ، و (طواف الزيارة) ، و (طواف الحج) ، ويسن أن يكون في يوم العيد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أفاض في ذلك اليوم، ولكن في هذه الأزمنة يحصل مشقة وصعوبة، فلا بأس بتأخيره، فلو أخره إلى اليوم الحادي عشر ليلاً أو نهاراً أجزأ ذلك، وكذلك لو أخره إلى ما بعد أيام التشريق أجزأه ذلك، فوقته واسع، ومن العلماء من حدد وقته إلى آخر الشهر، ومنهم من حدده إلى آخر أيام التشريق، والصحيح أنه يجوز تأخيره.
وطواف الزيارة معروف أنه ركن من أركان الحج كما يأتي، وإذا كان عليه سعي فإنه يسعى، والمتمتع لا شك أن عليه سعيين: سعي مع طواف العمرة، وسعي مع طواف الحج.
وأما القارن والمفرد فليس عليهما إلا سعي واحد، فإن قدمه بعد طواف القدوم سقط عنه بعد طواف الزيارة، وإن لم يسعَ بعد طواف القدوم بقي عليه السعي، فيأتي به بعد طواف الزيارة -أي: طواف الإفاضة-، ولا يصح السعي إلا بعد طواف مشروع، ويجوز الفصل بينهما فصلاً يسيراً كنصف يوم، فلو طاف في أول النهار في الساعة السابعة صباحاً مثلاً، ولم يسع إلا في الساعة الثانية عشرة أو الثالثة عصراً أجزأه ذلك، وأما إذا أخره إلى الليل فالمشهور أنه يعيد الطواف حتى يكونا متواليين.
وهل يجوز تقديم السعي على الطواف؟ أجاز ذلك بعض المشايخ، والجمهور على أنه لا يجوز، وكان مشايخنا الأولون يشددون فيقولون: لا يجوز تقديم السعي على الطواف اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف ثم سعى.(21/15)
الشرب من ماء زمزم
وبعد ذلك يسن أن يشرب من زمزم لما أحب، ويتضلع منه، ويدعو بما ورد.
وبئر زمزم هي البئر القديمة التي نبعت على عهد أم إسماعيل، وورد أن (ماء زمزم لما شرب له) يعني: إذا شربه المسلم ونوى به شفاءً أو علماً أو رزقاً أو نحو ذلك فإن الله يعطيه ما نواه، ومما ورد من الأدعية أن يقول: اللهم! اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك أو ما أشبه ذلك، يدعو بهذا أو يدعو بغيره.(21/16)
المبيت بمنى ثلاث ليال
وبعد ذلك يرجع إلى منى، فيبيت بها ثلاث ليال، أي: ليلة اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، فيبيت مساء يوم العيد، ثم ليلتين بعده، وهذا لمن لم يتعجل، ومن تعجل فإنه يبيت فيها ليلتين ويقيم فيها يومين بعد يوم العيد.
وفي أيام منى ذكر الحديث: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ومنع من صيامها إلا لمن لم يجد الهدي كما تقدم، وفي أيام منى -أيضاً- يكثر الحجاج من الذكر والتكبير، فيكبرون بعد كل صلاة التكبير المقيد، وكان بعض الصحابة ومنهم عمر رضي الله عنه يكبرون فيها تكبيراً مطلقاً، فكان إذا كان في خيمته رفع صوته بالتكبير حتى ترتج منى تكبيراً.(21/17)
رمي الجمار الثلاث أيام منى
ومن الأعمال التي يقوم بها الحجاج في أيام منى الرمي، والرمي هو رمي الجمرات الثلاث بعد الزوال، ويسن قبل صلاة الظهر وبعد الزوال، وإن شق أخره إلى قرب الغروب.
وهذا الرمي واجب -كما سيأتي- من الواجبات، وفي هذه الأيام يرمي كل جمرة بسبع حصيات، يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة.
يقول: الرمي وقته من الزوال إلى غروب الشمس.
هذا هو المجمع عليه، واختلفوا في الرمي ليلاً، وأجاز ذلك بعض العلماء المتأخرين، فأجازوا أن يرمي يوم العيد ليلاً إذا لم يتمكن من الرمي في النهار ولو إلى آخر الليل، وفي اليوم الحادي عشر أن يرمي ولو في آخر الليل، وأما في اليوم الثاني عشر فإن كان سوف يتعجل فإنه يرمي قبل غروب الشمس، ويخرج قبل غروب الشمس حتى لا يلزمه المبيت، وإن كان لا يتعجل فله أن يؤخر الرمي إلى الليل، وله أن يرميه طوال الليل، وأما اليوم الثالث عشر فلا يجوز تأخيره إلى ما بعد الغروب، بل يرميه قبل أن تغرب الشمس؛ لأن أيام التشريق تنتهي بغروب الشمس في اليوم الثالث عشر، وبها ينتهي أعمال الحج.
ومن تعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، فإن غربت عليه الشمس بعدما ركب الطريق فله أن يواصل خروجه.
مثاله: لو حمل رحله وخيمته على سيارته ثم سار، ولشدة الزحام غربت الشمس وهو لم يخرج من منى، نقول له: اخرج.
فأما إذا غربت عليه الشمس ورحله ما يزال في الأرض فإننا نقول له: بت هذه الليلة، وارمِ الجمرة في اليوم الثالث عشر؛ فإنك ما تعجلت، وقد أدركتك ليلة الثالث عشر.(21/18)
طواف الوداع
وآخر ما يعمله الحاج طواف الوداع، وهو من الواجبات، يفعله بعدما ينتهي من رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر، أو متى عزم على الخروج، فقد أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت.
ولو أخر طواف الزيارة وطافه عند الخروج بالنية كفاه عن طواف الوداع، حيث صدق عليه أنه جعل آخر عهده بالبيت.(21/19)
الوقوف بالملتزم بعد طواف الوداع
ثم بعدما ينتهي من طواف الوداع إذا تيسر له وقف بالملتزم داعياً بما تيسر، والملتزم: هو ما بين الحجر الأسود والباب.
روي أنه تستجاب فيه الدعوة، وصفة التزامه أن يضع يديه عليه، وإذا قدر وضع صدره أو خده عليه، ثم يدعو بما ورد، ومما ورد أنه يقول: (اللهم! هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمُنَّ عليّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، وهذا وقت انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك سواك، اللهم! فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قدير) .
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي الحطيم الذي هو تحت الميزاب، فيدعو ثم يشرب من ماء زمزم، ثم يخرج.
وعندما يخرج لا يلزمه أن يمشي القهقرى كما يفعل بعضهم، بل يمشي على حالته.
والحائض لا تدخل البيت ولكن تقف بالباب وتدعو بما تيسر، فالحائض والنفساء ممنوعتان من دخول المسجد.(21/20)
زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
أما زيارة المدينة فأكثر الفقهاء يقولون: الزيارة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.
ولكن الصحيح أن الزيارة للمسجد، فينوي بزيارة المدينة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه الذي تضاعف فيه الصلوات، فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه، فإذا سار إلى المدينة فلا ينوي زيارة القبر، بل ينوي زيارة المسجد.
والأحاديث التي وردت في زيارة القبر ضعيفة أو موضوعة، وما ثبت شيء منها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) يعني: لا تشد إلى بقعة رجاء فضيلتها فإذا جاء إلى المسجد بدأ فصلى فيه تحيته، ثم بعد ذلك يزور القبر، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وكذلك يزور قبور البقيع والشهداء، ويسن -أيضاً- أن يصلي في مسجد قباء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيه، وأما بقية المزارات فلا أصل لها.(21/21)
صفة العمرة
العمرة صفتها أن يحرم بها إما من الميقات كالذي يأتي من الآفاق، وإما من أدنى الحل إذا كان من أهل مكة، فيخرج المكي إلى أدنى الحل ليحرم، ثم يطوف ويسعى ويقصر، وتنتهي عمرته، وأما ما روي أن إتمامها أن يحرم بها من دويرة أهله إن كان دون الميقات فهذا خاص بمن هم دون المواقيت، أما الذين في المواقيت أو ما وراء المواقيت فيحرمون بها من الميقات.
هذه صفة العمرة.(21/22)
الأسئلة(21/23)
حكم من لم يستطع الحج حتى مات
السؤال
أبي لم يستطع الحج في شبابه لقلة المال لديه، فلما كبر سنه ما استطاع، ثم مات ولم يحج، ولم يحج عنه أبناؤه، فهل عليه أو على أبنائه إثم، علماً بأن أمي كذلك؟
الجواب
إذا كان قدر أحد أولاده أو قدرت أنت فحج عن أبيك، وهو معذور أولاً للفقر، ثم للكبر، وكان عليه بعدما قدر أن يوكل من يحج عنه، ولكن حيث إنه لم يتيسر له فلعل أولاده أن يحجوا عنه أو يوكلوا من يحج عنه.(21/24)
حكم من مات ولم تقسم تركته لمدة عشر سنوات
السؤال
رجل يعمل ببلاد بعيدة، فمات، وكان يضع أمواله في أحد البنوك، فوكل أهل الميت أحد أصدقائه بالإشراف على أمواله، فأخذ يرسل لهم ما يطلبون من غير تقسيم للتركة، فيرسل للأم والأبناء الصغار، أما الكبار فهم يعملون ولا يرسل لهم، علماً بأنهم لم يقسموا التركة الباقية، فهم يسكنون ويعيشون مع بعضهم في منزل واحد وطعامهم واحد، فهل عليهم إثم في عدم تقسيم التركة؟ وقد بقي هذا المال عشر سنوات ولم يزك، فهل في ذلك شيء؟
الجواب
لابد أن يؤخذ رضا الإخوة الكبار الذين يعملون، حيث إن لهم حقاً في هذه التركة بعد موت مورثهم، فإذا سمحوا بما أنفقه إخوتهم الصغار وأمهم سقط حقهم، ونشير عليهم بأن يقتسموها من الآن إذا أرادوا أن تعرف جميع الحقوق، حتى يعرف حق القاصرين -مثلاً- وحق الباقين الذين مع أمهم، وحتى ينفق عليهم مما يخصهم.
أما الزكاة فلا تسقط إذا كان المال موفراً، ولكن ينظر في نصيب كل واحد منهم، فإذا بلغ نصيب كل واحد النصاب فعليه الزكاة، فإن كان نصيب كل واحد أقل من النصاب فلا زكاة عليهم ولو كان مجموعه يبلغ النصاب.(21/25)
حكم بقاء المرأة مع زوج لا يصلي
السؤال
أنا امرأة متزوجة منذ ثلاثة عشر عاماً، وعندي أربعة أولاد، وملتزمة ولله الحمد، وزوجي شارب للخمر تارك للصلاة، له سبع سنين لم يشهد صلاة الفجر، ونصحته مراراً وتكراراً إلا أنه أصر على ما يفعله، والآن أنا طالبة منه الطلاق لأني سأحس بالراحة إذا طلقني، فما رأي فضيلتكم في هذا؟
الجواب
لا يجوز البقاء معه إذا كان لا يصلي؛ لأن ترك الصلاة والإصرار على تركها وعدم التقبل للنصيحة يعتبر كفراً كما أفتى بذلك المشايخ، فلابد أن تطلب منه أن يخلي سبيلها، وتحرص على أن يكون الأولاد معها حتى لا يتربون عنده فيأخذون ما أخذه.(21/26)
حكم السفر إلى بلد فيه اختلاط وتبرج للدراسة
السؤال
أنا شاب فلسطيني، انتهيت من دراسة الثانوية ولم أقبل في الجامعات السعودية، فهل يجوز لي السفر إلى أحد البلدان العربية المسلمة مع ما يوجد هناك من الاختلاط داخل الجامعة وغيرها علماً بأن الوالدين مصران على سفري، وأن البقاء بلا جامعة سيضر بي اقتصادياً واجتماعياً؟
الجواب
لا بأس بأن تطيع الأبوين إذا أصرا على أنك تسافر، ولو كان في البلاد الأخرى سفور واختلاط وفتن، وبإمكانك أن تغض بصرك وتحفظ نفسك.(21/27)
حكم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه
السؤال
هل كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حجه واجب لقوله: (خذوا عني مناسككم) ، وكذا الصلاة لقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ؟
الجواب
لا شك أن أفعاله في الحج وفي الصلاة منها ما هو ركن ومنها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، ولا يلزم التقيد بكل فعل فعله ويقال: إنه من الواجبات.
وذلك لأنه أقر على إسقاط كثير منها، كما في حديث عروة بن مضرس وغيره.(21/28)
وجوب طاعة الأم إذا طلبت أن يحج بها ابنها
السؤال
رجل تطلب منه والدته دائماً أن يحج بها، مع أنها قد حجت حجة الإسلام، ولكنها تريد الحج رغبة في الأجر، وهو يرفض لما في الحج في هذه الأزمنة من الزحام الشديد والمشقة، خصوصاً على النساء، فهل له ذلك أم يجب عليه أن يطيعها؟
الجواب
لا يعتذر بعذر الزحام، فالزحام يمكنه أن يتحمله، فيتحين الأوقات التي يجد فيها فراغاً للطواف بأمه، وبقية المشاعر ليس فيها زحام، فيطيع أمه وله أجر إن شاء الله.(21/29)
شرح أخصر المختصرات [22]
للحج والعمرة أركان وواجبات يجب على من أراد أحدهما أن يتعلم أحكامه ومسائله، وقد بين ذلك أهل العلم رحمهم الله، ومما بينوه: أنواع الذبائح التي تتعلق بالحج والعمرة، من الهدي ودم التمتع ودم الجبران وجزاء الصيد، وكذلك بينوا أحكام الأضاحي التي تشرع لمن لم يحجوا؛ ليشاركوا الحجاج في التقرب إلى الله بالذبائح والأكل والتصدق منها.(22/1)
مقدمة في بيان كيفية الترجيح بين المسائل الخلافية في الحج
قرأنا في صفة الحج متى يحرم المحلون بالحج، وحكم المبيت بمنى ليلة عرفة، ومتى يذهبون إلى عرفة، وبيان الموقف في عرفة، وكيف يصلون الظهرين، وبيان وقت الوقوف بعرفة، ومتى يدفعون إلى مزدلفة، وكيف يكون الدفع، وكيف تصلى المغرب والعشاء هناك، وما المراد بالمشعر الحرام، وماذا يفعل عنده، ومتى يدفع إلى منى، وماذا يفعل الحاج إذا بلغ محسراً، ومن أين يأخذ حصى الجمار، ومقدار الحصى، وكيف يرمي، وماذا يدعو به عند الرمي، وأعمال يوم النحر، وكيف يرتبها، ومقدار ما تأخذه المرأة من الشعر تقصيراً، وبيان التحلل الأول، ومتى يفيض الحاج إلى مكة، واستحباب الشرب من ماء زمزم والدعاء، وحكم المبيت بمنى ليالي منى، وكيف يرمي الجمرات، ومتى ينفر من تعجل في يومين، وحكم من غربت عليه الشمس في اليوم الثاني عشر قبل أن ينفر من منى، وحكم طواف الوداع، ومشروعية الوقوف بالملتزم، وما تفعل الحائض والنفساء التي سقط عنها طواف الوداع، وحكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وبينا أن الزيارة تكون للمسجد لا للقبر، وأن السلام يكون بعد أداء صلاة تحية المسجد، وذكرنا صفة العمرة، ومن أين يحرم بها إذا كان من أهل مكة، ومتى يتحلل من العمرة.
وقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من الكتابة حول مناسك الحج، وبينوا ماذا يفعل الحاج في هذه المشاعر، ولا شك أن فيها شيئاً من الاختلاف بين العلماء، ولكن لكل اجتهاده، وأصح الأقوال ما وافق الدليل، والأدلة واضحة، والسنة محفوظة قولاً وفعلاً، والاختلافات التي وقعت بين الصحابة ومن بعدهم فيها مجال للاجتهاد.
فمن الاختلافات: الاختلاف في أي الأنساك أفضل؟ فالإمام أحمد يختار أن أفضل الأنساك التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك يختار القران.
والشافعي يختار الإفراد، وفي رواية عنه القران.
وسبب ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا، فـ ابن عباس يرى التمتع ويلزم الحاج به، حتى إنه يقول: من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فقد حل شاء أم أبى، فهو يوجب التمتع، حتى على من أحرم مفرداً، ويسمى هذا فسخ الحج إلى العمرة، واختلفوا في حكمه: هل يجوز إذا أحرم بحج أن يفسخه ويجعله عمرة؟ في ذلك خلاف كبير، وسبب ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر سبعة عشر صحابياً بالتحلل وقد كانوا مفردين، حيث لم يكن معهم هدي، وامتنع الذين معهم الهدي أن يتحللوا، فلذلك رجح بعض العلماء الفسخ، بل بعضهم يلزم به، ومنهم ابن القيم في زاد المعاد، فإنه لما ساق الأحاديث التي في الأمر بالفسخ قال: ليس لأحد عذر في تركها؛ فإنها صريحة في الأمر بالفسخ، ومع ذلك فالمسألة محتملة للأقوال، وذلك لأن أكابر الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان كانوا يلزمون الناس بالإفراد، وكان عمر ينهى عن التمتع، ويأمرهم بأن يعتمروا في سفر مستقل؛ خوفاً من تعطل الحرم من الطائفين، هكذا اعتذروا عنه؛ فإنه لا يخفى عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يتحللوا، ولكن مع ذلك يقول: إذا أمرناهم بالعمرة في هذا السفر سافروا سفراً واحداً، وقضوا فيه حجاً وعمرة، واكتفوا بهذا السفر عن سفر آخر للعمرة، وتعطل البيت بقية السنة، فإذا منعوا فإنهم يقتصرون على الحج في سفرتهم، ويأتي بعضهم في شهر صفر للعمرة، وبعضهم في شهر ربيع، وبعضهم في جمادى، وبعضهم في رجب، وبعضهم في رمضان، فيبقى البيت الحرام معموراً بالزوار، هذا عذره.
ولكن إذا ثبت الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مقدم على قول كل أحد، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن من أتى البيت فطاف به وسعى فقد حل، ولو لم ينوِ التحلل، فاحتجوا عليه بأن أبا بكر وعمر ينهون عن التمتع، وينهون عن العمرة مع الحج، فاشتهر عنه أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!) بمعنى: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على قول كل أحد.
وهناك خلافات أخرى في كثير من المناسك، ولكن إذا اتضح الدليل فالمسلم يتبع الدليل مع من كان، ولا يتعصب لمذهب من المذاهب.(22/2)
أركان الحج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل أركان الحج أربعة: إحرام، ووقوف، وطواف، وسعي.
وواجباته سبعة: إحرام مار على ميقات منه، ووقوف إلى الليل إن وقف نهاراً، ومبيت بمزدلفة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله، وبمنى لياليها، والرمي مرتباً، وحلق أو تقصير، وطواف وداع.
وأركان العمرة ثلاثة: إحرام، وطواف، وسعي.
وواجبها اثنان: الإحرام من الحل، والحلق أو التقصير.
ومن فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة، وهي إن لم يكن اشترط، ومن منع البيت أهدى ثم حل، فإن فقده صام عشرة أيام، ومن صد عن عرفة تحلل بعمرة ولا دم.
فصل: والأضحية سنة يكره تركها لقادر، ووقت الذبح بعد صلاة عيد أو قدرها إلى آخر ثاني التشريق، ولا يعطى جازر أجرته منها، ولا يباع جلدها ولا شيء منها، بل ينتفع به.
وأفضل هدي وأضحية إبل، ثم بقر، ثم غنم، ولا يجزئ إلا جذع ضأن أو ثني غيره، فثني إبل ما له خمس سنين، وبقر سنتان، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، ولا تجزئ هزيلة، وبينة عور أو عرج، ولا ذاهبة الثنايا أو أكثر أذنها أو قرنها.
والسنة نحر إبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح غيرها، ويقول: (باسم الله، اللهم هذا منك ولك) .
وسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً مطلقاً، والحلق بعدها، وإن أكلها إلا أوقية جاز، وحرم على مريدها أخذ شيء من شعره وظفره وبشرته في العشر.
وتسن العقيقة، وهي عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، تذبح يوم السابع، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين، ثم لا تعتبر الأسابيع، وحكمها كأضحية] .
هكذا لخص الفقهاء باب الحج، وقسموه إلى ثلاثة أقسام: أركان، وواجبات، وسنن.
الأركان جمع ركن، وركن الشيء: جانبه الأقوى الذي لا يتم إلا به، أو ركن الشيء جزء ماهيته -أي: البعض منه- وباجتماع الأركان تتم الماهية، وأركان الحج أربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي.(22/3)
الإحرام
الإحرام ركن بلا خلاف؛ وذلك لأنه نية النسك، وليس الإحرام هو اللباس، بل الإحرام هو النية، يعني: أن ينوي بقلبه الدخول في النسك، ثم بعد دخوله فيه يشعر بأنها حرمت عليه المحظورات، وأنه تلبس بهذه العبادة، فهو مثل الإحرام بالصلاة، ومعلوم أنه إذا أحرم بالصلاة حرم عليه الالتفات، وحرمت عليه الحركة والمشي، وحرم عليه الأكل والشرب، وحرم عليه الضحك، وحرم عليه الانصراف عن القبلة وأشباه ذلك، فكذلك نقول: إذا دخل في النسك -أي: في الحج أو العمرة- فإنها تحرم عليه هذه المحظورات، فيحرم عليه تغطية الرأس، ولبس المخيط، والتطيب، وقص الشعر، وتقليم الأظافر إلخ، فالإحرام هو النسك، وهو أن يعزم بقلبه أنه دخل في الإحرام.
وقد تقدم جواز الإحرام قبل أن يأتي الميقات، وذكرنا أنه إذا أحرم بالحج قبل أن تدخل أشهره -كما لو أحرم في آخر رمضان بالحج، وبقي محرماً إلى يوم النحر- فإن ذلك جائز مع الكراهة.
والصحيح أنه ينعقد الإحرام قبل الميقات، وقد روي أن عبد الله بن معمر لما انتصر المسلمون في وقعة نهاوند نذر أن يحرم منها إلى مكة، فعقد الإحرام من خراسان، وجاء محرماً مسيرة أكثر من شهر، إلى أن حل إحرامه بالعمرة بعدما تحلل، وكان ذلك في عهد عثمان، ولكن عثمان لامه لأنه شق على نفسه، وغيره كثير من الذين أحرموا قبل الميقات بمدة، وقد تقدم قول بعضهم: يحرم من دويرة أهله إن كان دون الميقات، لكن قد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال: (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) وظاهره أنه يحرم من حين يخرج من بيته مسافراً، ولكن ابن عباس ومن قال بهذا أرادوا أن تنشئ لهما سفراً، وأن يكون سفرك من بيتك إلى الحرم لأجل الحج أو لأجل العمرة، فهذا هو الذي يكون أجره كاملاً، وأما الذي يسافر لغرض ثم يعتمر في طريقه، فهو وإن كانت عمرته مجزئة لكنها أنقص أجراً ممن لم يسافر إلا للعمرة، فالذين يسافرون لغرض كتجارة أو زيارة أو احتفال، أو لحضور مناسبة في مكة أو في جدة أو في الطائف، ثم يقولون: إذا وصلنا ذلك المكان نأخذ عمرة، نقول: عمرتهم مجزئة؛ ولكن ليست مثل عمرة الذي ما حمله على السفر إلا أداء العمرة، فهذا عمرته أكثر أجراً.(22/4)
الوقوف بعرفة
الوقوف بعرفة ركن، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) وذلك لأن الحجاج يجتمعون في عرفة يوم عرفة، فالذين يفوتهم الوقوف بعرفة يفوتهم الحج، وآخره إذا طلع الفجر يوم النحر، فإذا طلع الفجر فقد فات وقت الوقوف، فمن جاء بعد ذلك فقد فاته الحج.(22/5)
الطواف
الطواف ركن بلا خلاف، ودليله قول الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] والمراد: طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، فهذا ركن.
وأما طواف القدوم فإنه سنة في حق المفرد والقارن، فيسن لهما إذا قدما، وذلك الطواف يعتبر تحية المسجد أو تحية مكة.(22/6)
السعي بين الصفا والمروة
السعي بين الصفا والمروة فيه خلاف: هل هو ركن أو واجب، أو سنة؟ اختار الإمام أحمد في المشهور عنه أنه ركن، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلمِ: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (كتبه) يعني: فرضه، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الذين قالوا: إنه واجب: إن الله تعالى نفى الجناح عمن لم يفعله، ونفي الجناح لا يدل على الركنية، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وقد استشكل هذه الآية عروة رحمه الله، فقال لـ عائشة: ما أرى السعي واجباً؛ لأن الله قال: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه إذا تطوف بينهما، فكأن التقدير: لا حرج عليك إذا تطوفت، فلم يكن فيها أمر بالتطوف، وأجابت عائشة بقولها: لو كان ذلك كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.
وأيضاً استدل على الركنية بأن الله تعالى جعل الصفا والمروة من شعائر الله، والشعائر هي المعالم التي لها أعمال، أي: التي لها أعمال تختص بها، فكل مشعر من المشاعر له عبادة تخصه، فإن المشاعر والشعائر تنقسم إلى أقسام، فنقول -مثلاً-: عرفة مشعر من مشاعر الحج، ولكنه ليس بحرم، ومنى ومزدلفة مشعران وحرمان، ووادي محسر حرم وليس بمشعر، وادي عُرَنَةَ ليس حرماً ولا مشعراً، فهذه المشاعر لكل مشعر منها عبادة، فمشعر عرفة له عبادة، ومشعر مزدلفة له عبادة، ومشعر منى له عبادة، فكذلك مشعر الصفا والمروة لها عبادة، وعبادتها السعي بينهما.
والحكمة في السعي إحياء ما فعلته أم إسماعيل، فإنها لما نفد عليها الماء رقت على الصفا ونظرت، ثم سعت ووصلت إلى المروة، ثم نظرت وهكذا حتى تمت سبعة أشواط، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلأجل ذلك شرع السعي بينهما سبعة أشواط) .
وأما نفي الحرج في الآية فسببه: أن المشركين كانوا قد جعلوا صنمين على الصفا والمروة، صنم على الصفا يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال لها: نائلة، فكانوا يطوفون ويتمسحون بهذين الصنمين، فلما أسلم المسلمون ظنوا أن الطواف بهما كان لأجل هذين الصنمين، فبين الله أنهما مشعران، والمشعر لابد له من عبادة، فعبادتهما هو هذا السعي، وهو عبادة لما فيه من الامتثال، ولما فيه من هذا التعب ونحوه.
هذه أدلة من يرى أن السعي ركن.
ومن يقول: السعي واجب يستدل بأن الله تعالى رفع الحرج بقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ويقول: هذا لا يدل على الركنية، وإنما يدل على الوجوب، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو أنه واجب من الواجبات التي تجبر بدم.
ونحن نفتي من أحرم فنقول: يجب عليك ويلزمك أن تسعى، ثم إذا قدر أنه ترك السعي عجزاً أو ترك بعضه، ثم تحلل وخرج، وصعب عليه الرجوع، وفعل المحظورات؛ تساهلنا معه، وأفتيناه بأن السعي واجب، يجبر بدم؛ لمشقة الرجوع.
كثيراً ما ترد أسئلة، فيها أن أناساً سعى بعضهم أربعة أشواط ثم عجز وتحلل، أو سعى ثلاثة أشواط أو خمسة أشواط ثم عجز وتحلل ورجع إلى أهله، فمثل هذا نقول: إنه قد ألغى إحرامه، وقد فعل المحظورات، ولبس المخيط وتطيب، ووطئ أهله، وفعل كل المحظورات، فكيف نلزمه مع ذلك ونقول: ارجع لأجل أن تكمل عمرتك، وعليك فدية عن اللبس وتغطية الرأس وعن الطيب والتقليم وما أشبه ذلك؟! في ذلك شيء من المشقة، وكثيراً ما يحصل أنه يتزوج بعدما يرجع، أو تتزوج المرأة بعد أن ترجع، وربما ولد لهما أولاد، فلو قلنا: هذا عقد باطل، والأولاد ليسوا على ولادة صحيحة، ففي ذلك شيء من المشقة، فلذلك نتساهل ونقول لمن تساهل وترك السعي: اجعله كأنه من الواجبات التي تجبر بدم، وأما قبل أن يقع فإننا نلزمه بإتمامه.(22/7)
واجبات الحج(22/8)
الإحرام من الميقات
واجبات الحج سبعة: الواجب الأول: الإحرام من الميقات.
إذا مر على الميقات وجب عليه أن يحرم منه، فإذا جاوز الميقات وأحرم بعدما جاوزه فعليه دم؛ لأنه ترك الإحرام من الميقات.
وكثيراً ما يقع السؤال عن الذين يذهبون إلى جدة، ثم يحرمون منها، فهؤلاء عليهم دم؛ حيث إنهم تجاوزوا الميقات، سواء كان سفرهم براً أو جواً، فيلزمهم أن يحرموا من الميقات، فيحرم -مثلاً- في الطائرة من الميقات، ولو تقدمه بخمس أو عشر دقائق جاز، ويحرم من كان في سيارة إذا مر بالميقات، وإذا قدر أنه تجاوز الميقات ووصل إلى جدة، ثم أراد أن يحرم؛ لزمه أن يرجع حتى يحرم من الميقات، فمن لم يرجع وأحرم بعدما جاوز الميقات فعليه دم، ولا يفيده رجوعه بعد الإحرام، فلو وصل -مثلاً- إلى الزيمة، ثم أحرم منها، ورجع بعد ما أحرم إلى السيل ما سقط عنه الدم، أما إذا رجع قبل أن يحرم فإن عليه أن يحرم من الميقات ولا دم عليه، وهكذا إذا وصلوا إلى جدة عن طريق الجو ولم يحرموا، نقول لهم: ارجعوا إلى الميقات، وإن أحرمتم من جدة فعليكم الدم لمجاوزة الميقات.(22/9)
الوقوف بعرفة إلى غروب الشمساً
الواجب الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل إن وقف نهاراً.
قال الفقهاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة نهاراً، ولم يدفع حتى غربت الشمس، فجمع فيها بين نهار وليل، فالذي ينصرف قبل أن تغرب الشمس يكون قد خالف السنة، وترك واجباً، فعليه دم عن تعجله، فإذا وصل إلى عرفة -مثلاً- وقت الضحى، ثم لما وصل إليها قام فيها، ولما صلى العصر خرج منها، نقول: إن رجع في الليل -يعني: بعدما غربت الشمس- إلى عرفة، وهكذا إذا جاء عرفة في النهار من مكة قبل أن تغرب الشمس فلا شيء عليه، وأما إذا استمر في ذهابه ولم يرجع فإن عليه دم جبران، أما من لم يأت عرفة إلا في الليل فلا شيء عليه؛ لحديث عروة بن مضرس.
وهذه مسألة من المسائل الاجتهادية، وينبغي الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.(22/10)
المبيت بمزدلفة
الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة إلى بعد نصفه إن وافاها قبله.
إذا جاء الحاج إلى مزدلفة قبل نصف الليل فليس له أن ينفر منها إلا بعد انتصاف الليل، فمن نفر منها قبل نصف الليل فعليه دم جبران، وأما إذا لم يأتها إلا بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وقد ذكرنا أنه يرخص للظعن والضعفة، ولكن الرخصة إنما كانت في آخر الليل، فكان الظعن والضعفة ينفرون إذا غاب القمر، والقمر في تلك الليلة -التي هي ليلة العاشر- لا يغيب إلا قرب آخر الليل، حين يبقى ربع الليل أو أقل فيغيب، فهذا هو الذي رخص له.
وقد ذكرنا أن الرخصة ليست عامة، وإنما هي للضعفة، والناس قد تساهلوا في المبيت بمزدلفة في هذه الأزمنة.(22/11)
المبيت بمنى ليالي منى
الواجب الرابع: المبيت بمنى ليالي منى، وهي: ليلة إحدى عشرة، وليلة اثنتا عشرة لمن تعجل، وليلة ثلاثة عشر لمن لم يتعجل، والمبيت بمنى هو البقاء بها طوال الليل، وهذا هو الأصل، وبعض العلماء يرخص في الاكتفاء بمبيت نصف الليل، فنرى كثيراً من الحجاج في أول الليل يفرشون لهم سجاداً على الرصيف، ويجلسون يتحدثون، ثم إذا مكثوا خمس ساعات أو أربع ساعات ركبوا سياراتهم ودخلوا مكة، وهم مستقرون هناك، فنقول: هؤلاء ما باتوا، وأصل المبيت هو النوم ليلاً، وقد يتعللون أنهم لا يجدون مكاناً في منى، وأن منى امتلأت، والجواب أن نقول لهم: اضربوا خيامكم في أقرب مكان تجدوه، سواء من جهة مكة أو من جهة مزدلفة، ولكم رخصة في ذلك، حيث إنكم فعلتم ما استطعتم، فأما أن تستأجروا شققاً أو فللاً، وتقيمون فيها نهاركم كله، وتأتون في الليل أربع ساعات أو نحوها، ثم ترجعون فيها بقية نهاركم وبقية ليلكم؛ فما أنصفتم، هذه الأيام اسمها: أيام منى، يجلس الحجاج فيها في منى ليلهم ونهارهم؛ لأنهم في هذا المشعر، فهو مشعر من المشاعر يعمر بالذكر والتلبية قبل التحلل وبعده، كما يعمر برمي الجمار والأذكار ونحوها، فكونهم يرجعون إلى مساكنهم إذا كانوا من أهل مكة، أو إلى أماكن استأجروها وكانوا من الآفاقيين؛ فهذا فيه تساهل، ونحن نفتي هؤلاء بأنهم أخطئوا، ولكن نتسامح معهم، فلا نوجب عليهم فدية.(22/12)
الرمي
الواجب الخامس: رمي الجمار مرتباً وقد ذكرنا أنه من السنن المأثورة عن إبراهيم وإسماعيل وأم إسماعيل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقال: (خذوا عني مناسككم) .
وترتيبه: أن يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، ويجب أن يرمي كل واحدة منها بسبع حصيات، وأن تكون السبع متعاقبات، فلا يرميها دفعة واحدة، فلو رماها دفعة واحدة كانت عن رمية واحدة فقط، ولابد أن تكون متعاقبة.
وقت الرمي في يوم العيد النهار كله، وآخر ليلة العيد للظعن، والرمي في الليل ترخص فيه بعض المشايخ نظراً للزحام، وأما في أيام التشريق فاليوم الحادي عشر من الزوال إلى الغروب، ورخص بعض مشايخنا -أيضاً- في الرمي ليلاً، وفي اليوم الثاني عشر من تعجل يرمي قبل أن تغرب الشمس حتى يخرج إذا كان متعجلاً، وأما إذا لم يكن متعجلاً فرخصوا له أن يرمي في الليل، وأما في اليوم الثالث عشر فلا يمتد الرمي إلى ليلة أربعة عشر، بل ينتهي بغروب الشمس في اليوم الثالث عشر.(22/13)
الحلق أو التقصير
الواجب السادس: الحلق أو التقصير.
وقد ذكرنا أن الحلق أفضل، وأن التقصير مجزئ، ولكن لابد أن يعم الرأس، فيدور عليه كله، وإن لم يأخذ من كل شعرة.(22/14)
طواف الوداع
الواجب السابع والأخير: طواف الوداع، وهو واجب إلا أنه يسقط عن الحائض والنفساء.
هذه الواجبات التي من ترك واجباً منها فعليه دم.(22/15)
أركان وواجبات العمرة
أركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي، وفيه خلاف كما في الحج.
وواجباتها اثنان: الإحرام من الميقات، والحلق أو التقصير.
الإحرام من الميقات للآفاقي كالإحرام من الحج، أو الإحرام من محل إقامته إذا كان خارج حدود الحرم، وأما أهل مكة فإن إحرامهم بالعمرة من خارج حدود الحرم، والدليل أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أن يخرج بـ عائشة إلى التنعيم، وهي خارج حدود الحرم؛ فدل على أنه لا يجوز الإحرام بالعمرة من داخل الحدود، ولو كان يجوز لقال: أحرمي من مكانك في الأبطح.
مع العلم بأن أهل مكة ليس عليهم عمرة؛ وذلك لأن العمرة تسمى عمرة لما فيها من الزيارة، وكأنهم سموها عمرة لأنهم يعمرون بها البيت والمشاعر، وقيل: الاعتمار هو السفر.
فالعمرة زيارة إلى مكة لأداء أعمال مخصوصة، ولذلك تصح في كل السنة، وأما الحج فلا يصح إلا في أشهر الحج كما تقدم، وأهل مكة لا يحتاجون إلى سفر حتى يقال: سافروا للحج؛ لأنهم في مكة.
ويقول ابن عباس: (عمرتكم الطواف) أي: أنكم قريبون من البيت فاعمروه بالطواف.(22/16)
الفوات والإحصار في الحج والعمرة
يعقد الفقهاء باباً في آخر الحج يسمونه (باب الفوات والإحصار) ، وقد اختصره المؤلف هنا، فذكر أن من فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة، وقد روي أن بعض الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه جاءوا إليه محرمين في يوم العيد، فوجدوه ينحر هديه، فقالوا: يا أمير المؤمنين! أخطأنا في الحساب، نحسب أن هذا اليوم هو اليوم التاسع، فأمرهم أن يطوفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا، ويجعلوها عمرة ويتحللوا، وأمر من لم يكن أدى الفرض أن يحج في العام القادم، فهذا ما يفعله من فاته الوقوف.
ومن جاء إلى مكة بعدما طلع الفجر يوم العيد فاته الوقوف، وتحلل بعمرة، وأهدى إن لم يكن اشترط، وأقل الهدي شاة يذبحها لمساكين الحرم، أما إذا كان قد اشترط بقوله: (فمحلي حيث حبستني) .
فإنه يتحلل بعمرة بدون هدي.
ومن منع البيت أهدى ثم حل، كما فعل الصحابة لما منعهم المشركون بالحديبية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] والمحصر: هو الممنوع الذي منع من دخول مكة، فإذا أحرم ثم منع من دخول مكة فماذا يفعل؟ يذبح هدياً، ثم يتحلل، فإن فقده صام عشرة أيام ثم تحلل.(22/17)
من منعوا من العمرة والحج لعدم وجود تصريح
بعض المسلمين الذين في المملكة متعاقدون، ولا يمكنون من دخول مكة وأداء العمرة لسبب من الأسباب، أو يمنعون من العمرة وإن لم يمنعوا من دخول مكة، فيحرمون، وبعدما يسيرون -مثلاً- كيلو متر واحد يمرون على المرور، فيطلبون منهم التصاريح، هل عندكم تصريح من كفلائكم؟ هل عندكم رخصة بأداء هذا النسك؟ فإذا لم يكن عندهم تصريح منعوا وأرجعوا.
فمثل هؤلاء عليهم أن يشترطوا عند الإحرام بأن يقولوا: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ لأن هذا حابس، وهو منعهم من العمرة بدون تصريح وبدون إذن من كفلائهم، فإذا اشترطوا تحللوا، فأما إذا لم يشترطوا فلا يجوز لهم التحلل إلا بعد الذبح، فيذبح أحدهم فدية ويتحلل، فإذا لم يجد بقي محرماً إلى أن يصوم عشرة أيام ثم يتحلل؛ لأن الله جعل صيام عشرة أيام قائماً مقام الهدي، والله جعل على المحصر هدياً: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فالإحصار هو منعهم من دخول مكة.
وبعضهم يأتي بحيلة فيحرم بثيابه، فيجوز الإحرام بالثياب، ولكن عليه فديتان: فدية عن تغطية الرأس، وفدية عن لبس المخيط، فالفدية هي صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين عن تغطية الرأس، وإطعام ستة مساكين عن لبس المخيط، وإذا كشف رأسه ولم يغطه فليس عليه إلا فدية واحدة.
فهذا قد يفعله بعض المحرمين الذين يأتون على سياراتهم محرمين، ويحبون أن يدخلوا بها مكة، فإذا أحرم أحدهم ورآه المرور محرماً أوقفه في مواقف الحج، وقالوا له: استأجر وادخل، فإذا رأوه غير محرم ظنوه من أهل مكة وسمحوا له بالدخول، فإذا أحرم بثيابه العادية سمحوا له بالدخول، والإحرام بالثياب ينعقد؛ لأن الإحرام هو النية.(22/18)
إحرام العساكر بثيابهم
يجوز للجنود وللعساكر أن يحرموا بثيابهم إذا كانوا سوف يقفون في المشاعر، ولا يمنعهم مدراؤهم ورؤساؤهم من التلبية، فيستطيعون أن ينظموا السير وأن يقوموا بأعمالهم وهم يلبون، لكن عليهم فديتان: فدية عن تغطية الرأس، وفدية عن لبس المخيط، صيام ثلاثة أيام وثلاثة أخرى، أو إطعام ستة مساكين وستة.
وكثيراً ما نسمع أن كثيراً من العساكر يقول: إنني دائماً أحضر المشاعر، ولي عشر سنين أو خمس عشرة سنة وأنا أحضر، ولم أقدر على الحج، يمنعني رئيسي أن أحج، فنقول له: هل تقف في المشاعر؟ يقول: نعم، نقف معهم في منى يوم التروية، ونذهب معهم إلى عرفة، ونقف في عرفة إلى أن تغرب الشمس، ونسير مع من يسير من عرفة إلى مزدلفة، وننظم السير، ونبيت -أيضاً- بمزدلفة، ثم ننتقل إلى منى، ونقيم فيها أيام منى ننظم الناس.
فنقول لهم: أنتم قد وقفتم في المشاعر، فما عليكم إلا أن تؤدوا الحج، يبقى عليكم الطواف والرمي ووقته واسع، فيمكنكم أن ترموا في الليل إذا هجعت الطلبات، تأخذ حصى وتذهب ترمي الجمرات، والطواف لو أخرته أسبوعاً أو عشرة أيام فلا بأس، فتستطيع أن تطوف بعد ذلك وتسعى.
إذاً: فلا حرج عليك أن تحج وأنت بثيابك.(22/19)
من صد عن عرفة
يقول: (ومن صد عن عرفة تحلل بعمرة ولا دم عليه) .
إذا أحرم بالحج ولكن صد عن عرفة إما بمرض حصل له، أو بحادث حصل له، تحلل بعمرة ولا دم عليه، يعني: يطوف ويسعى، ثم يتحلل.(22/20)
أنواع الذبائح التي تهدى إلى البيت
ذكر المصنف هنا الأضاحي، وأكثر المؤلفين يؤخرون الأضاحي مع كتاب الأطعمة؛ وذلك لأنها من جملة الذبائح التي تذبح وتؤكل كما في مختصر الخرقي والمغني والكافي وغيرها، وكذلك في مؤلفات المؤلفين الآخرين، ولكن الكثير من الحنابلة ألحقوها بالحج؛ وذلك لأنهم تكلموا على الهدي، والهدي يتبع الحج، فلما تكلموا على الهدي ألحقوا به كل ما له صلة به من الذبائح.(22/21)
الهدي
ما يذبح بمكة أربعة أنواع: النوع الأول: الهدي الذي ذكر في قول الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] ، وفي قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] ، وفي قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة:97] والهدي كان معمولاً به قبل الإسلام، وكان أهل الجاهلية يهدون إلى البيت، فكان أحدهم إذا توجه إلى البيت قطع من ماشيته قطيعاً من الغنم أو من الإبل أو نحوها، وجعل في رقابها قلائد حتى لا يتعرض لها، وساقها ولم يركبها احتراماً لها، فإذا أتى إلى البيت وكمل نسكه نحرها.
والنبي صلى الله عليه وسلم أهدى هدياً في عمرة الحديبية، وأهدى هدياً في عمرة القضاء، وأرسل مع أبي بكر هدياً، وأهدى لما حج حجة الوداع سبعين بدنة من المدينة، وثلاثين جاء بها علي من اليمن، فتمت مائة بدنة، وأهدى معه بعض الصحابة، وذكر الله تعالى الهدي بقوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:36-37] .(22/22)
دم التمتع والقران
النوع الثاني: هو دم التمتع والقران، يذبح بمكة، ولا يجوز ذبحه في غيرها، ومع ذلك يجوز الأكل منه كما يؤكل من الهدي، ويدخل في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا) .(22/23)
جزاء الصيد
النوع الثالث: جزاء الصيد، إذا أتلف المحرم صيداً، فعليه أن يذبح بدله، فإنه ولا يأكل منه، بل يكون لمساكين الحرم.(22/24)
دم الجبران
النوع الرابع: دم الجبران، إذا ترك المحرم واجباً من الواجبات، ألزم بأن يذبح دماً كما إذا ترك الرمي، أو ترك الطواف، أو أحرم بعد الميقات، فإن عليه أن يذبح دماً، ويجعله لمساكين الحرم، ولا يأكل منه.(22/25)
أحكام الأضحية(22/26)
لا تجب الأضحية على الحاج
الأضحية ليست خاصة في مكة، بل هي عامة في كل مكان.
وهل على الحاج أضحية؟ ذكر بعض العلماء أنه ليس عليه أضحية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي كل سنة لما كان في المدينة، وفي الحديث أنه: (ضحى بكبشين) ، ولكن لما حج اكتفى بنحر الهدي عن الأضحية، وأطلقت عائشة على دم التمتع أنه أضحية، فقالت: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، وقالت: دخل علينا بلحم بقر) فقالوا: ضحى عن نسائه بالبقر، ولكن اسم الأضحية خاص بالنسيكة التي تذبح بمناسبة عيد النحر، وتذبح في القرى وفي المدن وفي البوادي وفي سائر الأماكن، يذبحها كل من عنده قدرة ومن تيسرت له.(22/27)
حكم الأضحية
الأضحية سنة مؤكدة، وذهب بعضهم إلى أنها واجبة على أهل اليسار، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من وجد سعة فلم يضحِ فلا يقربن مسجدنا) ولعل هذا من باب الزجر، والدليل على أنها غير واجبة: أنه صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيتين، قال في إحداهما: (عن محمد وآل محمد) وقال في الثانية: (عمن لم يضحِ من أمة محمد) وهذا يدل على أن هناك من لم يضح، ولابد أن يكون عندهم قدرة، ولكن كان لهم مانع أو عذر أو نحو ذلك، وعلى كل فيكره تركها لقادر.(22/28)
وقت ذبح الأضحية
وقت الذبح بعد صلاة العيد أو قدرها، ويتساهل بعض أهل البوادي الذين لا يصلون فيذبحونها ساعة ما تطلع الشمس أو ساعة ما تنتشر قليلاً، وهذا خطأ، لا تذبح إلا بعدما يذهب قدر صلاة العيد والخطبتين، فيقدر بعد طلوع الشمس خمس دقائق ليخرج وقت النهي، وصلاة العيد تستغرق عشر دقائق، والخطبة تستغرق -على الأقل- خمسة عشر دقيقة، فهذه نصف ساعة، فبعد إشراق الشمس بنصف ساعة يدخل وقت الذبح.
أما منتهاه ففيه خلاف، والمشهور عند أكثر فقهاء الحنابلة أنه يومين من أيام التشريق، وأثر عن الإمام أحمد أنه قال: أيام الذبح ثلاثة عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أيام التشريق كلها ذبح، أي: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، فإذا غابت الشمس في اليوم الرابع عشر خرج وقت نحر وذبح الأضاحي.(22/29)
لا يعطى الجزار من الأضحية شيئاً
قال المصنف رحمه الله: (ولا يعطي الجزار أجرته منها) ورد ذلك في حديث علي في الهدي، يقول: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على إبله وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، وألا أعطي الجزار شيئاً منها، وقال: نحن نعطيه من عندنا) الجزار يذبح ويسلخ ويقطع اللحوم ونحو ذلك، ويحتاج إلى أجرة إن لم يوجد متبرع، فلذلك يعطى أجرته من غيرها، وإذا أعطي منها فإن ذلك يعتبر صدقة، ولا يجوز بيع شيء من أجزائها، بل يتصدق بها أو تؤكل، وجلدها يجوز الانتفاع به أو التصدق به ولا يجوز بيعه، وإذا تصدق به على المساكين وباعوه جاز ذلك.(22/30)
ما يجزئ من الأضاحي
الهدي والأضحية لا يكون إلا من بهيمة الأنعام، وأفضل الهدي والأضاحي الإبل، وقد تفضل الغنم لأنها أهنأ وأقرب إلى أن يؤكل لحمها، ولكن قالوا: أفضلها الإبل ثم البقر ثم الغنم، ولعل السبب في ذلك: أن الإبل أكثر لحماً، ثم تليها البقر ثم الغنم، وهذا فيمن أهدى هدياً كاملاً، فإذا أهدى بعيراً كاملاً فهو أفضل مما لو أهدى شاة.
الذي يجزئ من الضأن هو الجذع الذي تم له ستة أشهر، فإذا تم للضأن ستة أشهر أجزأ عن الأضحية، وكذلك عن الفدية ونحوها، وأما غيره فلابد أن يكون ثنياً، والثني من المعز: هو الذي تم له سنة؛ لأنها تنبت ثنيته من الأسفل، والثني من البقر: هو الذي تم له سنتان، إذا فتحت فمها وجدتها قد نبتت لها ثنيتان طويلتان بدل الأسنان الصغيرة، والثني من الإبل ما تم له خمس سنين، ما تنبت الثنايا في الإبل إلا إذا تمت له خمس سنوات.
الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، كانوا من قبل يذبحون شاة عن الرجل وعن أهل بيته، ولو كانوا كثيراً، ولكن الأصل أنه هو الذي ينفق عليهم، ولو كان بعضهم قد بلغ أشده، فلما كان عاقلهم كان هو الذي يدفعها.
وإذا كان صاحب البيت سوف يذبح أضحية، ويجعلها عنه وعن أهل بيته، عن زوجتيه -مثلاً- وبناته وعن أبنائه ولو كان بعضهم ابن أربعين سنة أو خمسين أو عشرين؛ فمن الذي يتوقف عن أخذ الشعر؟ الذي يتوقف هو الرجل المالك الذي يدفع الدراهم.
والبدنة والبقرة تجزئ كل واحدة منهما عن سبعة.
والإنسان إذا ضحى بشاة جاز أن يشرك فيها أبويه أو بعض أقاربه، فيقول: اللهم تقبل عني وعن أبوي.
فهل يجوز أن يجعل سبع البقرة أو سبع البدنة عنه وعن أبويه؟ يجوز على الصحيح؛ لأن البدنة تجوز عن سبع شياه، وقد يكون السبع من الإبل أو البقر أكثر من لحم الشاة.(22/31)
ما لا يجزئ من الأضاحي
ذكر المصنف ما لا يجزئ من الأضاحي: فلا تجزئ الهزيلة التي لا مخ فيها، والهزال: هو الضعف، بحيث إنها لضعفها ليس فيها مخ في عظامها؛ ويكون ذلك عن قلة التغذية ونحوها، ويعرف ذلك بقلة الشحم واللحم في ظهرها وجسمها، وكذلك العوراء البين عورها، التي ذهبت إحدى عينيها إما ببياض يمنع النظر، وإما انفقأت العين ولم يبق لها جرم.
ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحاح، سواء كان في يدها العيب أو في رجلها.
ولا التي ذهبت ثناياها من أصلها، وعادة أن البهيمة إذا كبرت وأسنت تتآكل ثناياها فمن آثار الأكل، فتنثلم وتنمحي قليلاً قليلاً حتى لا يبقى إلا أصولها، وهذا يدل على أنها قد كبرت، فإذا ذهبت ثناياها من أصلها فلا تجزئ.
كذلك إذا ذهب أكثر الأذن أو القرن، وقد ورد في ذلك أحاديث، فقد ورد النهي عن المقابلة والمدابرة والخرقاء والشرقاء ونحوهن، ولكن قد يقال: إن هذا لا يقلل من قيمتها -أعني: قطع الأذن أو قطع القرن- وربما أنه قد يرفع من ثمنها، ولكن إذا عرف أنه ورد فيها هذا النص فتتجنب لأجل أن تكون الأضحية كاملة، أما إذا قطع قليل من الأذن أو شق أعلاها شقاً ولم يذهب منها شيئاً، وكذلك القرن إذا أخذ غلافه وبقي أصله؛ فلعل ذلك لا ينقص من قيمتها.(22/32)
ما يسن في الأضاحي
قال المصنف رحمه الله: (السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى) النحر: هو طعنها في أصل الرقبة مما يلي الجثة، وهو يختص بالإبل لأن عنقها طويل، فتطعن في الوهدة التي في أصل العنق -بين الرقبة والنحر- هذا هو الأصل، واستدل عليه بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] .
والسنة أن تكون الإبل عندما تنحر معقولة يدها اليسرى وهي قائمة، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] كانوا يصفونها صفوفاً، ثم يعقلون من كل واحدة يدها اليسرى، فتكون قائمة على ثلاث، ثم يمسكون رأسها بحبل حتى لا تنفر، ويلوون رأسها إلى جانبها، ويربطون -أيضاً- قوائمها بحبال، فإذا طعنت سقطت وماتت، وهو معنى قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] ، وبعضهم قد ينحرها وهي باركة، لاسيما إذا لم يكن عنده من يمسكها، وقد مر ابن عمر على رجل ينحر بدنته وهي باركة، فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) ، وهذا من السنن، ولكن إذا عجز عن ذلك جاز أن ينحرها وهي باركة.
وهل يجوز ذبحها في أصل الرأس؟
الجواب
الصحيح أنه لو ذبح الإبل في أصل الرقبة مما يلي الرأس أجزأ ذلك؛ لأنه حصل بذلك إماتتها، أما البقر والغنم فإنها تذبح، توضع على جنبها الأيسر ويستقبل بها القبلة، وتذبح البقرة والغنم ضأناً أو معزاً في أصل الرأس، ولو نحرت الشاة في أصل الرقبة أو البقرة أجزأ، ولكنه خلاف الأولى.
ويقول عند الذبح: (اللهم هذا منك ولك) .
يعني: أنت المتفضل به ونحن نذبحه رضاًَ لك، وإن كان الذي يأكله هو الإنسان، ولذلك قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] أي: الله تعالى غني عنها، وعن لحومها ودمائها، ولكن امتحنكم واختبركم بذلك حتى يعلم من يمتثل ومن يطيع.
وسن أن يجزئ الأضحية أثلاثاً، هكذا ورد عن كثير من الصحابة، ثلث لأهله- ثلث الأضحية وكذا الهدي- والثلث الثاني يهديه لأقاربه وجيرانه، ولو كان عندهم من الأضاحي، والثلث الآخر: يتصدق به على المساكين والضعفاء وذوي الحاجات، يلتمسهم ولو كانوا بعيداً.
وفي هذه الأزمنة تكثر الأضاحي والهدايا، ففي مكة يضيع كثير منها، وبالأخص في يوم العيد، حيث يحرق أو يدفن كثير منها، ولكن هناك شركات تتقبل الأضاحي وتذبحها، ثم تسلخها، وترسل بها إلى بلاد بعيدة أو قريبة بها حاجة، وهناك من يأخذها ويثلجها في ثلاجات وينتفع بها، مثل الجمعيات الخيرية، وقد زرنا بعض الجمعيات قبل أسبوعين أو ثلاثة، ووجدنا عندهم أضاحٍ موجودة إلى الآن في الثلاجات، يوزعون منها كل يوم عدداً؛ وذلك لأن كثيراً من أهل القرى ذوو حاجة وفقراء ومساكين، فكانت هذه الثلاجات التي تبرع بها المحسنون سبباً في حفظها عن التعفن والتغير، والانتفاع بها عند الحاجة.
ويسن أن يحلق بعدما يذبح أضحيته تشبهاً بمن يذبح الهدي في مكة، فإنه إذا رمى ذبح ثم حلق، فقالوا: أنت في بلدك إذا ذبحت أضحيتك فإنه يسن أن تحلق رأسك؛ وذلك لأنه منهي عن حلق رأسه في أيام العشر، فإذا انتهت العشر وذبح أضحيته تشبه بالحجاج في الحلق، وإذا كان حديث عهد بالحلق فليس بلازم.
ولو أكل الأضحية كلها إلا قدر أوقية- يعني: قدر قبضة اليد- فتصدق بتلك الأوقية جاز، فإن أكلها كلها ولم يطعم منها شيئاً ضمن بعضاً منها يتصدق به، ولو أن يشتري من جزارين قدر الأوقية ويتصدق به.
وذكرنا أن من أراد الأضحية فإنه لا يأخذ شيئاً من شعره، ولا من ظفره، ولا من بشرته في العشر، ففي حديث أم سلمة مرفوعاً: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئاً حتى يضحي) ، والحكمة في ذلك: التشبه بمن ساق الهدي، فإنه يحرم ويتجنب أخذ شيء من شعره، فكأن المضحي عزم على أن يدفع شيئاً من ماله كالهدي، ولكن إن فعل فلا شيء عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية.
كثير من الذين ابتلوا بحلق اللحى يومياً أو كل يومين يقولون: لا نستطيع أن نصبر عن ذلك، فلذلك بعضهم يترك الأضحية التي تحرمه من حلق لحيته، فيجمع بين معصية وبين ترك طاعة، وبعضهم لا يصبر، فيقدم على حلق لحيته مع كونه يريد أضحية، فنقول له: عود نفسك الصبر، واصبر هذه العشرة الأيام؛ ولعل ذلك يكون سبباً في أن يفتح الله عليك، ويهديك فلا ترجع إلى هذه المعصية.(22/33)
العقيقة وأحكامها(22/34)
حكم العقيقة
العقيقة: هي النسيكة التي تذبح عن المولود، إذا رزق الله الإنسان مولوداً فإنها نعمة من الله، فعليه أن ينسك عنه نسيكة.
واختلف في حكمها، فأكثرهم على أنها سنة لا تصل إلى الوجوب، وذهب بعضهم إلى وجوبها عند القدرة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويسمى) واختلف في معنى (مرتهن) فقيل: إنه مرتهن عن الشفاعة لوالديه إذا لم يعق عنه، وقيل: إنه مرتهن عن برهما أو عن خدمتهما وطواعيتهما، وهذا دليل على آكديتها.(22/35)
ما يجزئ في العقيقة وما لا يجزئ
يذبح عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، فالصبي الذكر يذبح عنه شاتان.
ولابد في العقيقة من السلامة من العيوب التي لا تجزئ معها في الأضحية ولا في الهدي.
والجارية -يعني الأنثى- يذبح عنها شاة.
وورد أنه لا يجزئ في العقيقة شرك في دم، بمعنى: أنه لو كان هناك سبعة ولد لكل واحد منهم مولود، فلا يقولوا: نشترك في هذه البدنة، هذا يأخذ سبعان، وهذا يأخذ سبعاً، فالذي له ذكر يأخذ سبعين، والذي له أنثى يأخذ سبعاً، فأكثر العلماء أنه لا يجزئ، ولابد أن تكون العقيقة تامة، وإذا أراد أن يذبح بدنة فليجعلها تامة عن ولده، وكذلك إذا أراد أن يذبح بقرة فلابد أن تكون تامة، ولابد أن تكون ثنية تجزئ في الأضحية.(22/36)
ما يسن في العقيقة
استحبوا في العقيقة ألا تكسر العظام تفاؤلاً بالسلامة، قالوا: لا يكسر لها عظم.
وهذا من باب التفاؤل، وإلا فعند الحاجة لا مانع من ذلك.
ووقت ذبحها في اليوم السابع، وإن عجلها أجزأ ذلك، كأن يذبح في اليوم الأول أو الثاني، ولكن الأفضل في اليوم السابع، فإذا فات ففي اليوم الرابع عشر -يعني: بعد أسبوعين- فإذا فات ففي إحدى وعشرين -أي: بعد ثلاثة أسابيع- فإذا فات فإنها لا تعتبر بعد ذلك الأسابيع، بل يذبحها متى تيسرت، يذبحها في يوم اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين، ومنهم من اعتبر الأسابيع بعد ذلك فقال: إذا فاته الحادي والعشرون تذبح في اليوم الثامن والعشرين، وإذا فاته الثامن والعشرون تذبح في اليوم الخامس والثلاثين، وهكذا، ولكن الأصل أنها لا تعتبر، وأنه يذبحها في أي يوم تيسر.
يقولون: وحكمها كالأضحية، يتصدق منها ويهدي، وذهب بعضهم إلى أنه يجعلها وليمة، ويدعو إليها أصدقاءه وجيرانه وأقاربه، ويخبرهم بأنها عقيقة المولود فلان أو المولودة، ثم يدعون له ولولده بالصلاح والنبات الحسن ونحو ذلك.
والمؤلف ما تكلم على تسمية المولود، وأكثرهم قالوا: يسمى في اليوم السابع، ولكن الصحيح أنه يجوز التسمية قبل ذلك، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة غلام سميته باسم أبي إبراهيم) فدل على أنه يجوز التسمية قبل اليوم السابع.
والحديث الذي فيه: (تذبح يوم سابعه ويسمى) المراد: أنه يسمى متى تيسر الاسم، وذلك لأنهم قد يتأخرون في اختيار الاسم للاختلاف في ذلك، ثم بعد ذلك يختارونه ولو لم يكن في اليوم السابع بل بعد اليوم العاشر أو نحوه.(22/37)
الأسئلة(22/38)
حكم من تحلل بعدما ذبح ورمى جهلاً
السؤال
ذكرتم أن التحلل الأول يكون بفعل اثنين من ثلاثة: وهي الرمي والحلق والطواف دون النحر، ونحن في إحدى السنوات تحللنا التحلل الأول بعد أن رمينا ونحرنا، فهل فعلنا هذا صحيح؟ وماذا علينا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنتم معذورون بالجهل، وكان عليكم أن تتثبتوا في النحر، فهو ليس من أسباب التحلل؛ وذلك لأنه ليس عاماً لكل الحجاج بخلاف الحلق والرمي.(22/39)
حكم تأخير الطواف والسعي إلى الوداع
السؤال
بعض الناس يؤخرون طواف وسعي الحج إلى الوداع، ويطوفون طواف الحج وينوي به طواف الوداع ويسعى بعد ذلك، ويكون آخر عهده بالبيت السعي، فهل فعلهم صحيح؟
الجواب
صحيح إن شاء الله، والأولى أنهم يعيدون الطواف مرة ثانية بعد السعي، ولكن الفصل بالسعي لا يعتبر عملاً.(22/40)
حكم اللعب في الكمبيوتر للصغار والكبار
السؤال
هل يجوز اللعب في الكمبيوتر للصغار والكبار؟
الجواب
هذه الأجهزة والأدوات فيها منفعة ومصلحة، ولكن كثير من الناس يتخذونها ملهاة، ويعرضون فيها أشياءً فيها شيء من الباطل، فننصح بعدم اتخاذها لهذه الأغراض، وإذا كان ولابد أن الأطفال يتلهون بشيء يشغلهم فيختار لهم في هذه الأجهزة أشياء تناسبهم، دون أن ينشغلوا بما هو محرم، ولو كان فيها شيء من اللهو.(22/41)
حكم الحلق في العشر للمضحي
السؤال
إذا دخلت العشر وأريد أن أضحي، وقد مضت عليَّ مدة الأربعين يوماً ولم آخذ من شعر إبطي وغيره، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لا حرج أن تصبر هذه العشرة الأيام، لكن إذا طال شاربك أو أظفارك لدرجة أنك تستوحش منها فلك أن تقصر منها للعذر.(22/42)
حكم التوكيل في الحج ممن هو مقيم بمكة
السؤال
أنا مقيم في هذه البلاد، ووكلني أحد الإخوة في بلدي بالحج عن أمه المتوفاة؛ وذلك لعدم استطاعته أن يجهز من يحج عنها من خارج هذه البلاد، فهل يجزئ هذا العمل؟
الجواب
يجزئ إذا لم يستطع أن يجهز إنساناً يحج عن أمه من بلدها.(22/43)
حكم قطع الحمل لعذر المرض
السؤال
امرأة متزوجة وعندها خمسة أطفال، وهي مريضة بمرض السكر، والحمل يؤثر على صحتها، فهل يجوز لها إجراء عملية لمنع الحمل؟
الجواب
يجوز لها إذا قرر الأطباء أن الحمل خطر على صحتها، كأن يقولوا: إذا حملت فإنها تتعرض لأمراض قد توهنها وقد تودي بحياتها، فأما إذا لم يكن عليها خطر فليس لها ذلك.(22/44)
ميقات من سافر إلى المدينة
السؤال
رجل من أهل الرياض سافر إلى المدينة المنورة ولم تكن نيته الإقامة، وأراد أن يعتمر، فمن أين يحرم؟
الجواب
إذا نوى العمرة وهو في المدينة أحرم من ميقات المدينة، وإذا لم ينو إلا بعدما خرج من المدينة أحرم من ميقات الجحفة أو نحوه.(22/45)
حكم من منع زوجته من الحج
السؤال
ما حكم الزوج إذا منع زوجته من السفر إلى الحج وأقسم يميناً على هذا؟ وهل للزوجة معصيته؟
الجواب
لا يجوز له منعها إذا لم تكن قد أدت فرض الحج، فلا يمنعها إذا توافرت الأسباب لديها وقدرت، ولها أن تعصيه والحال هذه؛ وذلك لأن هذا فرض الله، ولا يجوز تأخيره، ولا إثم عليها، ولا يلزمه أن ينفق عليها إذا وجدت من ينفق عليها، ووجدت محرماً، فالفرض لا يسقط عنها بمنعه لها.(22/46)
حكم لعن الزوجة
السؤال
إذا قال لي زوجي: لعنك الله، فهل معنى هذا أن أحداً منا قد طرد من رحمة الله لقوله ذلك؟ وكيف أتعامل معه؟ وهل أطلب منه أن يفارقني إذا كرر اللعن أو الدعاء عليّ خشية أن يصيبني بعض ما يقول؟
الجواب
هذا حرام، وهذه الكلمات ورد فيها وعيد شديد، ولكن لا تحرم زوجته عليه إذا أطلق عليها اللعن، وهذا لا يوجب المقاطعة والقطيعة، ولكن ينصح هذا الزوج الذي أطلق هذا اللعن، ويرشد إلى أن عليه أن يتوب ويستغفر ويملك لسانه.(22/47)
حكم رمي الجمار من غير ترتيب
السؤال
إذا رمى الحاج الجمار بغير ترتيب، فهل يصح حجه أم ماذا عليه؟
الجواب
الصحيح عليه دم، لو بدأ من جمرة العقبة، ثم بالوسطى، ثم بالصغرى فلا يعتبر رميه صحيحاً، ولا يصح له إلا الصغرى، وعليه أن يعيد الوسطى ثم الكبرى، فإذا لم يفعل فإنه ترك واجباً يجبر بدم.(22/48)
جواز الإحرام من جدة لمن لم ينو العمرة
السؤال
لو ذهب أحد إلى جدة، ولم يكن عنده نية العمرة أو الحج، ثم لما وصل قرر أن يعتمر من جدة، فهل يحرم من جدة أم ماذا يفعل؟
الجواب
نعم، إذا لم ينو العمرة ولم تخطر بباله حتى وصل إلى جدة جاز أن يحرم من جدة.(22/49)
حكم التوكيل للحج عن العاجز من غير البلد
السؤال
إذا كان شخص عاجزاً عن الحج من أهل الرياض فهل له أن يوكل من يحج عنه من القرى المجاورة للرياض؟
الجواب
إذا كان عجزه بدنياً -يعني: مرض أو كِبَر- فإنه يوكل من يحج عنه من بلده إذا كان فرضاً، وإن كان نفلاً جاز من كل مكان، أما إذا كان عجزه مالياً، بحيث إنه لا يستطيع من حيث المال أن يحج من بلده، عنده مال قليل، والتكلفة من بلده تكلفه -مثلاً- عشرة آلاف، ولو حجج -مثلاً- من الطائف لكلفت عليه ألفين، وهو لا يجد إلا الألفين، فله أن يوكل من يحج عنه من أهل الطائف بالألفين.(22/50)
الإشهاد على الطلاق
السؤال
طلقت زوجتي طلاق السنة طلقة واحدة، ثم راجعتها بعد العدة، وبعد مرور سنة تقريباً أردت طلاقها مرة ثانية فكانت الصيغة التالية: أشهدك يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أني طلقت زوجتي فلانة بنت فلان الطلقة الثانية، فهل يقع الطلاق بهذه الصيغة؛ مع العلم أني نويت الطلاق؟
الجواب
الطلقة الأولى وقعت، لكن إذا كان راجعها وهي في العدة عادت إليه ولأنها رجعية وبقيت معه، ثم طلقها الطلقة الثانية، وأشهد عليها، وأوقع بها طلقة ثانية، فلم يبق له بعد ذلك إلا واحدة، ويصح له أن يراجعها، ومتى طلقها الثالثة لم تحل له إلا بعد زوج، أما إذا راجعها بعد العدة فلا تصح الرجعة.(22/51)
اعتبار إذن الوالدين في طلب العلم
السؤال
أنا في بلد ليس فيه علماء، ويوجد طلبة علم قليلون وليسوا بالمستوى المطلوب، فهل يجوز لي أن أخرج في طلب العلم دون إذن والدي؟
الجواب
نرى أنك لا تخرج إلا بإذن والديك، وبإمكانك أن تقرأ على طلبة العلم الموجودين، وليس شرطاً أن يكونوا ربانيين، وبإمكانك أن تأخذ من المعلومات التي عند هذا والتي عند هذا وعند هذا، وكذلك تستفيد من المؤلفات المنتشرة بكثرة، وتستفيد من الإذاعات ونحوها.(22/52)
حكم هجر من أراد الاعتداء على العرض
السؤال
حصل بيني وبين شخص خصومة بسبب محاولته التعدي على عرضي، فهل يجوز لي أن أقطعه؟ وإذا مت وأنا على هذه الحال فكيف يكون الأمر؟
الجواب
لا شك أنه إذا هم بهذه المعصية وبهذا الاعتداء على الأعراض فلك أن تهجره إلى أن يتوب ويندم ويعتذر.(22/53)
حكم تجميع جلود الأضاحي وبيعها
السؤال
هل يجوز تجميع جلود الأضاحي وبيعها وإعطاء نقودها للفقراء؟
الجواب
نعم، لكن لا يبيعها أهلها، أما إذا تصدقوا بها على الجمعيات، وجمعت ثم دبغت وبيعت، وتصدق بثمنها، أو بيعت قبل أن تدبغ فلا بأس.(22/54)
حكم اعتزال الناس لمعاصيهم
السؤال
بعض الناس إذا رزقوا بمولود فإنهم يأخذون العقيقة إلى البر، ويعزمون بعض الأصحاب، فهل في ذلك شيء أو لا؟
الجواب
لا بأس بذلك، القصد هو ذبحها، والفرح بهذا المولود يقتضي أنهم يجتمعون على طعام ويأكلون منه، لكن عليهم أن يتصدقوا ولو ببعض منها.(22/55)
حكم الانعزال عن الناس لأجل ما يمارسونه من المعاصي
السؤال
أنا أواجه بعض المشاكل، فإنني انقطعت عن الناس الذين من حولي؛ وذلك لأنني أراهم يتساهلون في سماع الغناء والنظر إلى الدش، فكيف أوفق بين تقواي لله عز وجل وبين العيش مع الذين من حولي من أهلي وأقاربي؟
الجواب
تحرص على أن تبذل لهم النصح والتوجيه، وإذا رأيت أن مجالستهم تقسي قلبك، أو تجرك إلى أن تصير معهم فابتعد عنهم، وإذا كان في المجالسة شيء من تخفيف الشرور والمنكرات فلا تقاطعهم.(22/56)
شرح أخصر المختصرات [23]
لقد خصص العلماء للجهاد باباً مستقلاً ذكروا فيه أحكام الجهاد ومسائله؛ كحكمه، وصفته، وأحواله، وفيئه وغنائمه، وعلى من يصرفان، ومن يقتل ومن لا يقتل، ومن تجب طاعته، ونحو ذلك، وهذا يدل على أهمية الجهاد في ديننا الإسلامي، وأنه لا يستقيم أمر الدين وعزه إلا به.(23/1)
أحكام الجهاد في سبيل الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد وهو فرض كفاية إلا إذا حضره أو حصره أو بلده عدو، أو كان النفير عاماً ففرض عين، ولا يتطوع به مَنْ أحد أبويه حر مسلم إلا بإذنه، وسن رباط، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يوماً، وعلى الإمام منع مخذل ومرجف، وعلى الجيش طاعته والصبر معه، وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار حرب، فيجعل خمسها خمسة أسهم: سهم لله ولرسوله، وسهم لذوي القربى، وهم: بنو هاشم والمطلب، وسهم لليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وشُرط فيمن يسهم له إسلام، ثم يقسم الباقي بين من شهد الوقعة: للراجل سهم، وللفارس على فرس عربي ثلاثة، وعلى غيره اثنان، ويقسم لحر مسلم مكلف، ويرضخ لغيرهم.
وإذا فتحوا أرضاً بالسيف خُيِّر الإمام بين قسمها، ووقفها على المسلمين، ضارباً عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي في يده، وما أخذ من مال مشرك بلا قتال -كجزية وخراج وعشر- فيءٌ لمصالح المسلمين، وكذا خمس خمس الغنيمة.
فصل: ويجوز عقد الذمة لمن له كتاب أو شبهته، ويقاتل هؤلاء حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وغيرهم حتى يسلموا أو يقتلوا، وتؤخذ منهم ممتهنين مصغرين، ولا تؤخذ من صبي وعبد وامرأة وفقير عاجز عنها ونحوهم، ويلزم أخذهم بحكم الإسلام فيما يعتقدون تحريمه من نفس وعرض ومال وغيرها، ويلزمهم التميز عن المسلمين، ولهم ركوب غير خيل بغير سرج، وحرم تعظيمهم وبداءتهم بالسلام، وإن تعدى الذمي على مسلم أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء انتقض عهده، فيخير الإمام فيه كأسير حربي] .(23/2)
تعريف الجهاد وحكمه
الجهاد: هو قتال الكفار، ومن العلماء من يجعله مع الحدود كما فعل صاحب المغني وغيره كثير، ومنهم من يجعله مع العبادات كما في المقنع وشروحه؛ وذلك لأنه عبادة، وبعض العلماء جعلوه ركناً من أركان الإسلام؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد، والتي وردت في كيفيته، وفي العمل فيه، وهي كثيرة، ويدل على ذلك -أيضاً- جهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يستقر في المدينة بعدما هاجر إلا وقتاً يسيراً ثم بدأ يغزو ويهادن، ووقعت في كل سنة عدة غزوات إلى أن فتحت البلاد، ودان العباد بالإسلام.
وقد كان أولاً منهياً عن القتال، ومأموراً بالاقتصار على البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وكذلك كان منهياً عن بداءة أحد أو قتال أحد إلا بعد أن يبدأ، فنزل عليه في أول الأمر: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] ، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] ، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وأشباه ذلك.
ولما قويت معنوية المسلمين أذن لهم في الجهاد، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] فأول الأمر كانوا ممنوعين، ثم بعد ذلك أذن لهم أن يقاتلوا من بدأهم، ويكون القتال للدفاع: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] .
ثم الحالة الثالثة: قتال كل الكفار في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] واستقر الأمر على قتال جميع المشركين حتى يسلموا.
والجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ومعناه: أنهم مأمورون بأن يقاتلوا في سبيل الله، فإذا قامت به فرقة تكفي فإنه يسقط الإثم عن الباقين.(23/3)
الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين
متى يكون الجهاد فرض عين؟ في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا حضر المسلم الصف.
الحالة الثانية: إذا استنفره الإمام.
الحالة الثالثة: إذا دهمهم العدو.
الدليل على الأول: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15] فهذا دليل على أن من حضر الصف وجب عليه الصبر، ووجب عليه القتال، وصار فرض عين.
أما النفير فدليله قوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] فإذا دعاهم الإمام أن ينفروا وجب عليهم النفير.
وإذا دهم البلاد عدو، وليس لهم به قدرة فإنه يتعين الجهاد عليهم جميعاً حتى على النساء وعلى الكبار والصغار، كل بقدر ما يستطيعه.(23/4)
وجوب استئذان الوالدين في جهاد التطوع
ذكر المصنف رحمه الله أنه: لا يجاهد الحر المسلم تطوعاً إلا بإذن أبويه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يستأذنه في الجهاد: (أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) فإذا أذنا له جاز، وأما إذا كان فرض عين فإنه لا يستأذن أحداً، بل ينفر.
وهذا يدل على عظم حق الوالدين؛ لأن رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين.(23/5)
سنية الرباط في سبيل الله
يسن الرباط، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] الرباط: هو ملازمة الثغور التي يأتي منها العدو، إذا كان العدو يأتي من هذا الطريق، سواء على أرجلهم أو على خيل أو سيارات أو نحوها، فالذين يرابطون فيها لهم أجر كبير؛ لأنهم يحرسون المسلمين لئلا يأتيهم أحد من هذا الفج وهم على حين غفلة، فإذا أحس المرابط بالعدو جاء وأنذر المسلمين وقال: جاءكم العدو فاستعدوا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) .
وأقله ساعة، وأكثره أربعون يوماً، فإذا رابط أربعين يوماً في هذا الثغر فإن على الإمام أن يبدله بغيره.(23/6)
منع الإمام للمخذلين والمرجفين
إذا غزا المسلمون أو أرادوا الغزو فلا يجوز أن يكون فيهم المخذل والمرجف، فيمنع الإمام المخذل والمرجف، قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب:60] فالمخذل: هو الذي يخذل المجاهدين، فيقول: لا تخرجوا، لا حاجة لأحد منكم، وليست هناك ضرورة إليكم، والجهاد ليس بضروري، ولا حاجة إلى الجهاد في هذا الوقت؛ يخذلهم ويمنع كثيراً منهم عن مقابلة العدو.
والمرجف: هو الذي يهول الأمر، فيقول: إن عدوكم سوف يستولي عليكم، أنتم ضعفاء لا تقدرون على أن تقاوموا، العدو أكثر منكم عدداً وقوة، ليس عندكم ما تقاومون به عدوكم، سوف يستولون عليكم، فماذا تفعلون؟! فيسبب أن ترتجف القلوب، فمثل هؤلاء لا يجوز أن يكونوا في الغزو، ويمنعهم الإمام من الخروج معه.(23/7)
وجوب طاعة الأمير
قوله: (وعلى الجيش طاعته والصبر معه) .
يجب على كل الجيش الذي ينفر أن يطيعوا أميرهم ويصبروا معه، ولكن إنما الطاعة في المعروف، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر على سرية عبد الله بن جحش، وأمرهم أن يطيعوه، ثم إنه غضب عليهم، فأمرهم مرة أن يوقدوا ناراً وقال: ادخلوها، فقد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني.
فأراد بعضهم أن يدخلها، ثم قالوا: ما فررنا إلا من النار، كيف ندخلها؟! ولم يزل بعضهم يحفز بعضاً حتى خمدت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) فطاعته تكون فيما فيه مصلحة.
ولهم أن يشيروا عليه بما يرون فيه مصلحة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا في غزوة الأحزاب، فاستشار سعداً فقال: إن كان أمراً تأمرنا به فسمعاً وطاعة، وإن كان رأياً فلا والله ولا تمرة واحدة، فعند ذلك قبل كلام سعد، وكذلك في كثير من الأمور كان يستشيرهم عملاً بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] فعليهم أن يشيروا عليه بما يرونه صالحاً، وأن يصبروا معه، وألا ينصرفوا ولا يرجعوا حتى يرجع الجيش.(23/8)
صفة الغزو وترتيب الجيش
صفة الغزو والقتال موسعة في كتب الفقه، ووقت اختيار البداءة في القتال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر حتى إذا زالت الشمس، وهبت الرياح، ونزل النصر ابتدأ في القتال، وكان يدعو عندما يبدأ في القتال فيقول: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وزلزلهم، وانصرنا عليهم) ، فكان يعبئ الجيش فيجعله مقدمة وجناحين، ويجعل لكل جناح وجانب من يحثهم، وكان يجعل في مؤخرته من يحث الذين يكادون أن ينهزموا، فيحثهم على الصبر والثبات، ثم يشجعهم على الإقدام والمبارزة.(23/9)
كيفية تقسيم الغنائم
والقتال هو مقابلة الصفين، وقتل كل منهم للآخر إلى أن يحصل النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين، ثم إذا انهزموا فإنهم يدفعونهم ويقتلون، ولا يجوز الأسر إلا بعد الإثخان؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد:4] يعني: أكثرتم فيهم القتل {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] أي: الأسر، أي: أوثقوهم واربطوهم.
ثم بعد ذلك إذا انهزموا ملك المسلمون ما كان عندهم، ويسمى غنيمة، وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها بدار الحرب، فمتى استولى عليها المسلمون يملكونها، وسميت غنيمة؛ لأنهم غنموا وربحوا، فإذا غنمها المسلمون قسموها خمسة أسهم: خمس يقسم، وأربعة أخماس للغانمين، والخمس الذي يحرز يجعل خمسة أسهم، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] السهم الذي لله ولرسوله مصرفه كمصرف الفيء، يجعل في مصالح المسلمين، ويكون لبيت المال في المصالح التي يحتاج إليها من بناء مساجد، وإصلاح الطرق، وبناء القناطر والجسور التي فوق البحار مثلاً وكذلك أيضاً رزق وإعاشة القضاة ونحوهم، كل هذا يدخل في بيت المال.
أما سهم ذوي القربى فاختلف في أهله، فأكثر العلماء على أنهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم من سهم ذوي القربى، وفي هذه الأزمنة قد يقال: إنهم تفرقوا وكثروا، فلا يمكن حصرهم، فلذلك يعطى من هو محقق النسب، وكذلك أيضاً يعطى أقارب الرؤساء والسلاطين، ويكون لهم حق في خمس الخمس.
وسهم لليتامى الذين هم من الفقراء؛ وذلك لأنهم غير قادرين على الكسب.
وسهم للمساكين عموماً، ويدخل فيهم الفقراء أيضاً.
وسهم لأبناء السبيل، وقد تقدم تعريف الفقراء والمساكين وأبناء السبيل في الزكاة، وأنهم ممن تحل لهم الزكاة، وكذلك يعطون من خمس الغنيمة.
ثم بعد ذلك يقسم على الغانمين، ويشترط فيمن يسهم له الإسلام، فإذا قاتل مع المسلمين كافر فلا يجوز أن يعطوه، فلا يعطى الكافر من غنائم المسلمين، بل تقسم الغنائم على المسلمين الذين قاتلوا.
تقسم أربعة أخماس الغنيمة على من شهد الوقعة، للراجل سهم -والراجل: هو الذي يقاتل على رجليه- وللفارس على فرس عربي ثلاثة، وللفارس على فرس غير عربي سهمان؛ وذلك لأن الخيل العربية أقوى في الصبر، وأقوى في الجلد، وأقوى في السباق؛ لذلك يفضل الفرس العربي على غيره، ويقال في غير العربي: الهجين، وهو من كان أبوه عربياً، والثاني: المقرئ، وهو ما كانت أمه عربية، والبرذون وهو ما ليس أحد من أبويه عربياً، ولما فتحت بلاد فارس اختلطت خيول المسلمين بخيول الفرس، والفرس غير العربي أقل نكاية من العربي، فلذلك كان يعطى هذا الفرس سهماً، ويعطى الرجل سهماً، فأما إذا كان أبواه عربيين فإن الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، هذا هو القول المشهور، وذهب الحنفية إلى أنه لا يزاد الفارس على سهمين، فيعطى الفرس سهماً، ولا يفرقون بين العربي وغيره.
والذي يقسم له من الغنيمة هو الحر المسلم المكلف، فلا يقسم للنساء، ولا يقسم للعبيد، ولا يقسم لغير مكلف كالصغير والمجنون، ولا يقسم للكافر، وإنما يرضخ لهم، والرضخ: هو إعطاؤهم من الغنيمة دون تسويتهم بغيرهم، ويعطون شيئاً يكون مناسباً لهم.(23/10)
تخيير الإمام في الأرض المفتوحة بالسيف
إذا فتح المجاهدون أرضاً بالسيف خُير الإمام بين قسمها أو وقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي بيده، فمكة لما فتحت عنوة بالسيف وقفها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحت وقفاً، أما خيبر فلما فتحها قسمها، وأعطى كلاً من الغانمين جزءاً من أرضها، أما أرض الشام ومصر والعراق فإنهم قسموا المساكن والدور، وأما المزارع فلم تقسم على الغانمين، بل جعلها عمر وقفاً يدر على بيت المال، وقال: إنا لا نأمن أن تنقطع هذه الغنائم وتتوقف، فإذا جعلنا هذه الأراضي كلها وقفاً كانت غلتها لبيت المال، فوقفها كلها، وضرب عليها خراجاً، فإذا زرعها المسلم دفع أجرة عليها ودفع الزكاة، وإذا زرعها غير المسلم دفع الأجرة، وأجرتها العشر، والزكاة نصف العشر إذا كانت تسقى بمئونة، أو العشر بغير مئونة، فإذا زرعها مسلم وسقاها بلا مئونة فإنه يدفع الخمس، عشر أجرتها، وعشر زكاة، وأما إذا سقاها بمئونة فإنه يدفع ثلاثة أرباع الخمس، يعني: عشر ونصف عشر، وأما إذا زرعها غير مسلم فليس عليه إلا الخراج مستمراً كل سنة، حتى ولو لم يزرعها، فإذا كانت في يده وتحت تصرفه ضربت عليها أجرة سنوية.(23/11)
الأموال التي تؤخذ من المشركين دون قتال
الأموال التي تؤخذ من المشركين بلا قتال تسمى فيئاً، قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] إلخ، وقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] ، والجزية تلحق بالفيء، وكذلك عشر خراج الأرض الخراجية، والعشر الذي يؤخذ من أموال الكفار إذا اتجروا إلينا، فإذا كان الكفار يجلبون أموالاً إلى بلاد المسلمين للتجارة فإنه يؤخذ منهم العشر من التجارة كل سنة.
فعشر تجارة الحربي مثلاً، وخراج الأرض الخراجية، والجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب؛ كلها نسميها فيئاً، والفيء قد ذكر الله تعالى مصرفه فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7] أي: تصرف في هذه الأشياء كما يصرف في ذلك خمس الغنيمة.(23/12)
عقد الذمة
يجوز عقد الذمة لمن له كتاب أو شبهته، ومعنى (عقد الذمة) : أن الكفار من اليهود أو النصارى ونحوهم تعقد لهم الذمة، والذين يشبهونهم هم المجوس، فاليهود لهم كتاب التوراة، والنصارى لهم كتاب الإنجيل، أما المجوس فقيل: لهم شبهة كتاب، والله تعالى ما أمرنا أن نعقد الذمة إلا لأهل الكتاب، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فقيدهم بالذين أوتوا الكتاب، أما الوثنيون فلا يعقد لهم ذمة، وهذا هو القول المشهور.
وذهب بعض العلماء إلى أنها تؤخذ الجزية من جميع الكفار: من الوثنيين والمشركين والدهريين والهندوس والبوذيين ونحوهم؛ وذلك لأن القصد من أخذها هو إقرارهم حتى يعرفوا الإسلام، ثم يدخلون فيه، وهذا هو الواقع؛ فإن كثيراً من المجوس الذين في المدائن وخراسان لما رأوا معاملة المسلمين لهم كان ذلك مما حملهم على الإسلام، فأسلموا وصاروا من جنود الإسلام، وصار أولياؤهم وأولادهم من علماء المسلمين، فـ أبو حنيفة كان أصله مجوسياً، وكذلك البخاري من أصل مجوسي وكثير غيرهما، فدخل أجدادهم في الإسلام بسبب حسن التعامل الذي كانوا يشاهدونه من المسلمين، فرأوا أن هذه المعاملة حرية أن أهلها أهل دين صحيح، فلذلك دخلوا في الإسلام.
فعلى هذا لا فرق بين الكتابي وغيره في أخذ الجزية، ولكن الآية صريحة في تقييد أخذ الجزية بأهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فهذا قيد، فلذلك اقتصر بعض العلماء في أخذ الجزية من أهل الكتاب فقط.
وإذا نظرنا في الأدلة الأخرى وجدنا فيها ما يجيز أخذها من غيرهم، ففي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا لقيت عدوك من المشركين -ولم يقل: عدوك من أهل الكتاب- فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك لها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، ثم ادعهم إلى الجزية، ثم إن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) فجعل ثلاث خصال: الخصلة الأولى: الإسلام، والخصلة الثانية: الجزية، والخصلة الثالثة: المقاتلة، فاستدل بهذا الحديث على أنها تؤخذ من جميع الكفار.
وعلل الذين قالوا: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب بأن أهل الكتاب لهم دين يعتقدون صحته، ويظنون أنهم على حق، وأنه دين سماوي، ولكن دينهم منسوخ، ولا يعتبر صحيحاً.
فالحاصل أن الفقهاء قالوا: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتابين، ومن المجوس وأتباعهم، وهم الذين دانوا بدينهم، مثل كفار بني تغلب، مع كونهم كانوا عرباً، ولم يدخلوا في الإسلام، ثم لما كان في عهد عمر ضرب عليهم الجزية فامتنعوا، وقالوا: نحن عرب، كيف تضرب علينا الجزية؟! فعند ذلك ضعّف عليهم الزكاة، وقال: الزكاة التي نأخذها من العرب المسلمين نجعلها عليكم مضاعفة، فرضوا بذلك، ونفروا من كلمة (جزية) ولكنهم بذلوها باسم الزكاة مضاعفة، فهؤلاء من كفار العرب، ولكنهم تبعوا النصارى، ولكن يقول علي وغيره: ما تبعوهم إلا في شرب الخمر؛ لأنهم يقولون: إنا نصارى بالاسم.
يقاتل أهل الكتاب ومن تبعهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، أما غيرهم من الكفار العرب أو من العجم الذين لا كتاب لهم فإنهم يقاتلون حتى يسلموا أو يقتلوا، فليس لهم إلا الإسلام أو السيف.(23/13)
تعريف الجزية وكيفية أخذها
الجزية: هي ضريبة تؤخذ من أهل الذمة سنوياً، وكانت تؤخذ منهم على قدر اليسار، فكانت تؤخذ من النصارى الذين في اليمن في نجران وفي الحبشة اثنا عشر ديناراً سنوياً، وأما من أهل الشام ومصر والعراق فإنها كانت أربعة وعشرين ديناراً؛ لأنهم أيسر، ومن أجل كثرة المال والقدرة على الدفع، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من يقبضها من البحرين، فأرسل أبا عبيدة وأبا هريرة، وجبيت منهم أموال كثيرة، وقسمها النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وأعطى منها المستحقين، ولم يدخر لنفسه منها شيئاً، وكذلك جُبيت بعده ممن التزم بالجزية من المجوس ونحوهم.
وتؤخذ منهم ممتهنين صاغرين، يقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فلابد أن يعطيها عن يد، فلا يرسل بها خادمه ولا ولده، بل يأتي بها وهو صاغر، ثم يقف، ويطال وقوفه حتى يشعر بالصغار والذل والهوان، وقوله: (عن يد) أي: لا عن يد غيره، فلا يوكل من يدفعها، (وهم صاغرون) الصغار: هو الذل والهوان، فلابد أن يشعروا أنهم أذلاء، وأنهم مهانون، ولا تؤخذ الجزية إلا ممن عنده قدرة على دفعها، فالصبي لا تضرب عليه؛ وذلك لأنه لا يملك، وكذلك العبد المملوك ليس له ملك حتى يدفع منه، وكذلك المرأة فهي تابعة لزوجها أو لأبيها، وهكذا الفقير العاجز، وهكذا الراهب الذي ينفرد في صومعته للتعبد، فإنه غالباً لا يملك شيئاً، فمثل هؤلاء تسقط عنهم، وكذلك من يشبههم مثل الأعمى والزمن والشيخ الكبير.
وأما الرهبان الذين يخالطون الناس، ويتخذون مساجد ومزارع فحكمهم كسائر النصارى، تؤخذ منهم الجزية، فتؤخذ من الرهبان، وتؤخذ من الأحبار الذين هم علماؤهم، وتؤخذ من التجار وما أشبههم، هذا حكمهم في الجزية.(23/14)
وجوب معاملة أهل الذمة بأحكام الإسلام
يُلزم الإمام أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام فيما يعتقدون تحريمه من نفس ومال وعرض وغيرها، فيعاملهم بأحكام الإسلام، ويلزمهم بها؛ لأنهم دخلوا تحت حكم الإسلام، فإذا حصل بينهم قتال فإننا نحكم عليهم بالقصاص كما نحكم به على المسلمين، وإذا سرق أحد منهم -ولو كانت سرقة من نصراني مثله- حكمنا بقطع يده، والزنا هم يعتقدون تحريمه؛ فيرجم من زنى منهم إذا ثبت الزنا منه، إما بالإقرار وإما بالشهود، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم اليهوديين اللذين زنيا، وكان اليهود -لما كثر فيهم الزنا- اصطلحوا على إسقاط الحد الذي هو الرجم، وتعويضه بالجلد والتحميم، وقالوا: إنه كثر في أشرافنا، فاصطلحنا على أن نجعل حداً يقام على الشريف والوضيع، وهو: أن يركب الزاني والزانية على برذون منكسين، ويحممون وجوههم، ويطوفون بهم في العشائر، فلما حصل الزنا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: احكم فيهم، وقالوا: إن حكم فيهم بحد الزنا الذي هو الرجم لم نقبله، وإن حكم بالتحميم قبلناه وجعلناه حجة لنا عند الله؛ فأنزل الله تعالى فيهم قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] ، وقوله قبل ذلك: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة، فوجدوا فيها آية الرجم، فأمر أن يرجما.
وقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] ثم قال بعد ذلك: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] قيل: إن الآية الأخيرة منسوخة بالأولى، وأن الحاكم فيهم مخير بين الحكم وتركه، وهذا قول أكثر العلماء، أننا مخيرون أن نحكم بينهم أو أن نتركهم، وقيل: العكس: أن الأولى هي المنسوخة، والأخيرة هي المحكمة: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) .
والحاصل أننا إذا حكمنا بينهم حكمنا بينهم بشرعنا، ولم نحكم بينهم بقوانينهم الوضعية، بل نختار الحكم الذي هو حكم الله تعالى في النفس كالقصاص، والعرض كالزنا، والمال كالسرقة، أي: إذا قتلوا اقتص منهم أو دفعت الدية كما في الحكم الإسلامي، وإذا زنى أحد منهم جلد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، وكذلك نحكم بينهم في القذف كحكمنا فيما بيننا، وكذلك يحكم فيهم في المال بحكم السرقة والنهب والاختلاس وقطع الطريق وما أشبه ذلك.(23/15)
إلزام أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في العادة والهيئة والمعاملة
أهل الذمة يقيمون فيما بين المسلمين، ولكن يؤخذ عليهم العهد أن يكونوا متميزين عن المسلمين، وقد كتب عليهم عمر رضي الله عنه كتاباً طويلاً لما تعهدوا له ببذل الجزية، وقد أورده ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] في سورة التوبة، ورواه البيهقي في سننه الكبرى، وفيه التزامهم على أنفسهم بما يلي: أننا نلتزم على أنفسنا بألا نركب خيول المسلمين، وألا نلبس لباسهم، ولا نتشبه بهم، وبأن نتميز عنهم معاملاتنا وأعمالنا، وبأن نكون على حال لا يكون عليها المسلمون، وكذلك نتميز بشد أوساطنا بالزنار، وجز مقدم رءوسنا، أي: قص الناصية علامة عليهم.
فكانوا يجعلون لهم علامة يتميزون بها على المسلمين، حتى إذا رآهم المسلمون عرفوا أنهم ليسوا مسلمين، فيعاملونهم المعاملة التي أمروا بها، فمن ذلك ألا يبدءون بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) وأمرنا إذا سلموا علينا أن نقول: وعليكم، ولا نقول: وعليكم السلام؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم.
فأمرنا بأن نقول: وعليكم.
ولو تحققنا أن النصراني يقول: السلام عليكم -ولا يقول: السام- فإننا نرد عليه فنقول: وعليكم السلام، أو نقول: وعليكم.
ومعنى اضطرارهم إلى أضيق الطريق أنهم إذا دخلوا في الطريق وكان ضيقاً كان لهم حافة الطريق، وللمسلمين وسط الطريق؛ ليشعروا بأنهم أذلة، وهذا من جملة إذلالهم وإهانتهم.
ومما يتميزون به أنهم لا يركبون الخيل، بل يركبون البراذين، والبرذون هو الخيل الذي ليس من أبوين عربيين، ويركبون البغال، والبغل: هو الذي أحد أبويه من الحمر، فيركبون الحمر، وهذا في الوقت الذي كانت الخيول تركب، وركوبها يعتبر زينة؛ لأن الخيل كانت تركب لأجل الزينة، فقد جعلها الله تعالى زينة قال سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] ، ولكن إذا تعطلت كما في هذه الأزمنة، واستبدلت بمراكب جديدة فإنهم يتميزون في مراكبهم، كما أنهم يتميزون في عملهم.
وقد ذكرنا أنهم كانوا يلزمون أن يقصوا مقدم الناصية حتى يعرف المسلم أن هذا ذمي، وكانوا يتميزون بأن يشدوا على أوساطهم الزنار الذي يعرفون به أنهم ليسوا من المسلمين، فكذلك في ركوب الخيل ونحوها، وهكذا يقال: إذا كانوا من أهل الذمة فلا يركبون السيارات الفارهة، بل يركبون سيارات دنيئة أو رخيصة أو نحو ذلك حتى يعرفوا بذلك، وقد كانوا يمنعون من استعمال السرج، وهو الذي يكون على الخيل ويركب عليه، فكانوا يركبون على الإكاف، وهي: البرذعة التي تبسط على ظهر البرذون أو نحوه لتقي الراكب، فيركبون ببرذعة بدون سرج.
فيتميزون بهذه السمات حتى يكونوا مهانين أذلة، وهذا سبب تميزهم، فلأجل ذلك يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، بل تميزوا تميزاً ظاهراً.
ولكن الواقع في هذه الأزمنة أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم، فصاروا يتميزون غالباً بحلق اللحى، وحلق اللحى كان ميزة لهم، وبالأخص للمجوس والفرنجة ونحوهم، أما دعاتهم وعبادهم فإنهم يرون أن اللحى من شعار المسلمين ولا يحلقونها، فجاء هؤلاء المتأخرون فحلقوها، وصار حلقها شعاراً لهم، وقلدهم الكثير من المسلمين، واعتقدوا أن هذا التشبه والتقليد رفعة ورقي وشرف! فهذا من المصائب، يعني: كونهم يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، ثم نرى أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم في هذا اللباس أو في هذه الأخلاق! وذكر العلماء أنه لا يجوز أن يحترم هؤلاء الذميون، بل يهانون، فلا يجوز أن يجلسوا في صدور المجلس، بل إذا دخلوا مجلساً فإن لهم أطرافه، ولا يكونون في وسط المجالس أو في صدورها؛ ليشعروا بالإهانة، ولا يجوز القيام لهم، وإذا قدم واحد منهم -ولو كان عالماً كما يسمونه أو مفكراً أو مخترعاً أو له مكانة- لا يجوز القيام له، ولا يجوز أن يبدءوا بالسلام لما ذكر من الأحاديث، ويمنعون من بناية معابدهم في بلاد الإسلام، فلا يبنون الكنائس ولا البيع ولا الصوامع التي يتعبد فيها رهبانهم، ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ونحوها، وإذا انهدمت فلا يجددونها، وإذا كانت موجودة في وقت عقد الذمة فلا نهدمها، ولكن متى انهدمت فيما بعد ذلك فلا يجوز أن تجدد؛ وذلك لأنهم أصبحوا في بلاد قد استولى عليها المسلمون.
ولا يرفعون مساكنهم فوق مساكن المسلمين، بل تكون مساكنهم منخفضة، إما مساوية لمباني المسلمين أو دونها.(23/16)
انتقاض عهد الذمي
إذا تعدى الذمي على مسلم بضرب أو بقتل أو زنى بمسلمة أو نحو ذلك انتقض عهده، وقد وقع في عهد عمر رضي الله عنه أن ذمياً كان يسوق امرأة راكبة على حمار، ثم إنه تحين غفلة الناس فحاول أن يسقطها، فسقطت من الحمار، وحاول أن يفجر بها، حتى جاء من أنقذها، فقال عمر رضي الله عنه: ما على هذا عاهدناكم، فأمر بقتله؛ لأن هذا يعتبر نقضاً للعهد.
وكذلك إذا قتل الذمي مسلماً أو مسلمة كما في حديث اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فرض رأسه بين حجرين.
كذلك إذا ذكر الله تعالى بسوء، كأن سب القرآن، أو سب الله تعالى، أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو سب الإسلام، أو تنقص الإسلام تنقصاً ظاهراً، فلا شك أن هذا كله يعتبر اعتداءً ونقضاً للعهد، فينتقض عهده، فيخير الإمام فيه كما يخير في الأسير الحربي، فإما أن يجعله رقيقاً يسترقه، وإما أن يأسره ويكون أسيراً، وإما أن يقتله، والأسرى يخير فيهم الإمام، قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] فإذا أُسر من الحربيين أسارى، أو من الذين انتقض عهدهم بمثل هذه الأعمال فماذا يفعل بهم؟ يخير الإمام فيهم: فإما أن يقتلهم؛ وذلك لأنهم يعتبرون قد استحقوا القتل لنقضهم العهد أو بالاستيلاء عليهم لما غنم المسلمون أموالهم وأسروهم، سيما إذا كان لهم مكانة في قومهم، فله أن يقتلهم أو يفادي بهم أسرى المسلمين، فيرسل إلى الكفار فيقول: أطلقوا أسرانا ونطلق أسراكم، أو نعطيكم من الأسرى على أن تخلوا أسرانا، حتى ولو كان الأسرى من غيرهم، فقد يكون الأسرى الذي عند المسلمين من اليهود، وأسرى المسلمين عند النصارى، فيكون الفداء بمعنى: أن نعطيهم أسارى على أن يخلوا سبيل الأسارى الذين عندهم، أو تؤخذ الفدية التي هي فدية مال يبذلونه لفك أساراهم كما حصل من الفداء الذي دفعه كفار مكة في فداء أسراهم، يعني: أنه يخير فيهم بين أربعة أشياء: إما أن يفادي بهم أسارى المسلمين.
وإما أن يسترقهم.
وإما أن يمن عليهم.
وإما أن يأخذ بدلهم مالاً.
وقد ذكر الله بعض ذلك في قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
والذميون يبقون في بلاد المسلمين مراقبين، فإذا تشبهوا بالمسلمين فقد نقضوا العهد، وكذلك لو تركوا التميز عن المسلمين انتقض عهدهم، فإذا انتقض عهدهم حلت دماؤهم، وهل تحل دماء أولادهم ونسائهم؟ الصحيح أنها لا تحل، روي أن رجلاً أسلم ثم ارتد، وبقيت زوجته لم ترتد، فلم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرها، وحكم بقتل المرتد دون غيره.
هذا آخر ما يتعلق بالجهاد، والبحث فيه طويل، ولكننا اقتصرنا على الذي ذكر في هذا المتن، وبه يتضح المقام إن شاء الله.(23/17)
الأسئلة(23/18)
حديث (رباط يوم في سبيل الله) لا ينطبق على طلب العلم
السؤال
هل هذا الحديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ينطبق على طالب العلم الذي ترك أهله وماله وحضر عند العلماء لطلب العلم؟
الجواب
الرباط إنما فضل لكونه في مكان مخوف، يتعرض فيه المرابط لقتل المشركين إذا جاءوا على حين غرة وغفلة، أو لأنه في حالة مرابطته قد ابتعد عن أهله، وكان في غاية من الشدة والضيق، وطلب العلم لا شك أنه عمل بر، وعمل صالح، ولكن ليس مثل الرباط، وطالب العلم له أجره حيث إنه رابط على هذا العمل، وهناك أدلة على ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وغير ذلك من الأدلة.(23/19)
الحالة التي يجوز فيها الهروب من العدو
السؤال
ما حكم هروب كثير من المسلمين إذا دهمهم العدو في بلادهم؟
الجواب
ذكر العلماء أنه لا يجوز الهروب من العدو إلا إذا كانوا أكثر من مثليهم، كان المسلمون مأمورين أن يقاتلوا عشرة أمثالهم كما في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] يعني: مثلهم عشر مرات، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65] ، ثم خفف الله ذلك فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] .
فنقول: يجوز الهروب إذا كانوا أكثر من مثليهم، فإذا جاءهم العدو الذين عددهم عشرون ألفاً، والمسلمون مثلاً ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، وهم لا يقدرون على مقاومتهم، أو كان عند العدو من الأسلحة الفتاكة ما ليس عند المسلمين؛ فإنهم يهربون طلباً للنجاة منهم، فأما إذا كانوا مثليهم، كأن كانوا -مثلاً- عشرين ألفاً والمسلمون عشرة آلاف، أو المسلمون أكثر من العشرة، فليس لهم حق في الهرب، بل يقاتلونهم ويستعينون بالله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] .(23/20)
فرضية الجهاد على من يختص بمعرفة نوع السلاح
السؤال
بعض العلماء يلحق حالة رابعة في فرض العين في الجهاد، وهو أنه إذا كان يوجد سلاح أو آلة لا يعرف استعماله إلا هو فيجب عليه الجهاد، هل هذا صحيح؟
الجواب
إذا كان هذا السلاح الفتاك لا يعرفه إلا فلان، والمسلمون محتاجون إلى استعماله لحرب العدو، فإما أن يعلم غيره وإما أن يلزمه الخروج حتى يستعمله لأجل النكاية به في العدو.(23/21)
نصيحة لطالب العلم المبتدئ ببعض كتب الحديث
السؤال
ما هي الكتب التي توصي بها طالب العلم المبتدئ في أبواب الحديث؟
الجواب
كتب الحديث كثيرة، فنوصيه بمختصر الصحيحين الذي هو: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، وكذلك جامع الأصول الذي جمع ستة كتب: الصحيحين، وسنن أبي داود والترمذي، والنسائي، وموطأ مالك، ففيه الأحاديث التي في هذه الكتب، وإن كان ترتيبه فيه شيء من الغموض، لكن فيه فهارس تبينه، وكذلك منتقى الأخبار إذا كان يريد الحفظ وكذا بلوغ المرام، وكذلك الأدب المفرد للبخاري وما أشبهها من الكتب المفيدة.(23/22)
حكم تحديد الرباط بأربعين يوماً
السؤال
قال المصنف: (الخروج أربعين يوماً وهو أكثره) هل هذا سنة أم يجوز الزيادة عن أربعين يوماً؟
الجواب
المراد المرابطة، بمعنى أنه يقيم في هذا الثغر أربعين يوماً، هذه نهاية الرباط، وإن زاد فله ذلك، ولو أقام سنة أو سنوات؛ لأنه في جهاد؛ ولأنه يحمي المسلمين ويحرسهم وأجره عظيم، إذا كان: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) فكيف برباط أربعين يوماً أو مائة يوم أو أكثر أو أقل؟!(23/23)
شرح أخصر المختصرات [24](24/1)
حكم زيادة (ولك الشكر) عند الرفع من الركوع
السؤال
نريد بعض المصلين عند قوله: (ربنا ولك الحمد) كلمة: (ولك الشكر) فهل ورد ذلك؟
الجواب
لم يرد ذلك، الذي ورد أن يقول: (ربنا ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، وورد أيضاً: (أن رجلاً لما رفع رأسه من الركوع قال: ربنا ولك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه) ، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه بهذا، فمثل هذا يجوز.(24/2)
حكم الوضوء بماء البحر
السؤال
إذا كان هناك شخص قرب البحر، وحان وقت الصلاة، ولم يكن لديه ماء، فهل يتيمم أم يتوضأ من ماء البحر؛ مع العلم أنه من الصعب المضمضة به لملوحته وكذلك استنشاقه؟
الجواب
يتوضأ به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) وفي الحديث أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا نركب البحر وليس معنا إلا قليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، يتوضأ ولو كانت فيه ملوحة، ويصبر على الملوحة، وكذلك الاستنشاق فإنه لا يضره.(24/3)
حكم العطورات التي فيها مادة الكحول
السؤال
ما حكم العطورات التي تحتوي على مادة الكحول، وهل نقول: إن كل من صلى صلاة وهو متعطر بهذه المادة يعيد صلاته؟
الجواب
الصحيح أنه لا يعيد؛ وذلك لأن الكحول الموجود فيها شيء يسير، وإن كان الأولى اجتنابها إذا كان فيها كحول كثير، أما إذا كان الكحول يسيراً لحفظ المادة من التعفن فيعفى عنه.(24/4)
حكم الزواج برافضية
السؤال
هل يجوز أن أزور أبي في منزل زوجته وهي من الروافض؟
الجواب
انصح أباك أن يطلقها إذا كانت رافضية، ولا يمسكها وهي على هذه الحال؛ وذلك لأن الروافض على الصحيح ليسوا مسلمين حقاً، وذلك لأنهم يطعنون في القرآن كما تدل عليه كتبهم، ويردون السنة، ولا يعترفون بالأحاديث التي في الصحيحين، ويغلون في أئمتهم ويدعونهم من دون الله، فهذه العقائد الثلاث كافية.
على كل حال لأبيك حق أن تزوره، ولكن زوجته التي هي على هذه العقيدة لا يجوز لك أن تجعلها محرماً لك، أو تجعلها قريبة أو تجعل لها صلة أخرى.(24/5)
حكم زيارة الأب الذي لا يصلي ولا يصوم
السؤال
ما حكم زيارة الأب الذي لا يصلي ولا يصوم، ويشرب المسكر، وإذا قلت له: لا تشرب المسكر قال: إن الله وعد به في الجنة، وأنا أريده في الدنيا؟
الجواب
هذا لا يستحق أن تزوره، إذا نصحته فلم يتقبل، فلم يصل، ولم يصم، ويتعاطى المسكرات، ثم يستحلها مع أن الذي وعد الله تعالى به في الجنة ليس فيها شيء من ذلك؛ لقوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47] .(24/6)
لا يجوز منع العمال من أداء الصلاة وقت الدوام
السؤال
سائل يقول: إن مسئوله في العمل يرفض أن يصلي العامل في وقت العمل، ويقول له: العمل عبادة، صل في المنزل؟
الجواب
هذا لا يجوز، وإذا كان في بلاد تحكم بالشرع فإن عليك أن ترفع بأمره حتى يمكن العمال من أداء الصلاة في وقتها.(24/7)
حكم أخذ الأجرة على الأذان
السؤال
هل يجوز أخذ الأجرة على الأذان؟
الجواب
لا يجوز، ولكن إذا أخذ شيئاً من بيت المال على أنه رزق ومكافأة فلا بأس، أما الذي يقول: لا أؤذن لكم إلا إذا أعطيتموني كذا وكذا، فيكلف أهل المسجد أن يجمعوا له، فهذا لا يجوز.(24/8)
حكم الصلاة في مكان فيه مسكر
السؤال
هل يجوز أن أصلي في مكان فيه مسكر؟
الجواب
إذا كان المكان طاهراً فلا يضرك، وإن استطعت أن تتلفه وتريقه فافعل ذلك، وإلا فافعل ما تستطيعه.(24/9)
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان
السؤال
هل يحرم الخروج بعد الأذان إلى ملحقات المسجد من غرف ونحوها؟
الجواب
إذا كان لا يرجع وتفوته الصلاة فيحرم، وأما إذا كان سيرجع ويلحق مسجداً ثانياً فلا حرج.(24/10)
الحكمة من النهي عن سفر الإنسان وحده
السؤال
ما الحكمة من قول النبي صلى الله عليه وسلم في المسافر: الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب؟
الجواب
كان المسافر في تلك الأزمنة يتعرض لقطاع الطريق، وللضياع، والسباع والهوام ونحو ذلك، فلذلك نهى أن يسافر الرجل وحده فقال: (لو تعلمون ما أعلم في الوحدة ما سار أحد وحده) ، أما في هذه الأزمنة فالأمر قد خف؛ وذلك لقرب المسافات، ولأن الطرق آهلة بالمسافرين ذهاباً وإياباً، فلا حرج في ذلك.(24/11)
سنية رفع الأيدي في كل دعاء
السؤال
هل يسن رفع الأيدي للدعاء بعد الأذان وبعد الصلاة؟
الجواب
نعم، يسن رفع الأيدي في كل دعاء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان المذكور في بلوغ المرام: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين، فهو يعم كل دعاء، إذا قلنا: إنه يسن الدعاء بين الأذان والإقامة، ويسن دبر كل صلاة أو ما أشبه ذلك فمن أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين.(24/12)
ليس كل من صحت صلاته صحت إمامته
السؤال
ما صحة قول: (من صحت صلاته صحت إمامته) ؟
الجواب
ليس صحيحاً على الإطلاق؛ لأنه -مثلاً- قد لا يحسن الفاتحة، وفي هذه الحالة لا يصح أن يكون إماماً لمن يحسنها، فالإنسان الذي عجز عن تعلم الفاتحة تصح صلاته، ولا يصح أن يكون إماماً لمن يحسنها، وهكذا غيره من المعذورين.(24/13)
حكم إمامة من يقرأ (إياك نعبده)
السؤال
يوجد إمام في بلادنا يقول في الفاتحة: (إياك نعبده) فهل تصح الصلاة خلفه؟
الجواب
لا يجوز تعيين مثل هؤلاء الذين يزيدون في الحروف أو ينقصون منها، وينبه على ذلك، وهذه الزيادة قد يقال: إنها لا تفسد الصلاة؛ لأنها لا تغير المعنى، ولكن فيها زيادة حرف في القرآن، وهو لا يجوز تعمداً، ويرشد، فإذا لم يستطع أخروه وولوا غيره.(24/14)
حكم شفع الإقامة كالأذان
السؤال
في بعض الدول المجاورة ينادى بالإقامة مثل الأذان تماماً، أي: نفس جمل الأذان، فهل لهذا أصل؟ وهل ينكر على من فعل ذلك؟
الجواب
هذا في مذهب أبي حنيفة أن الأذان تسع عشرة جملة، فيكرر الشهادتين حتى يكون الأذان تسعة عشر، ولكنهم يخفون بعض جمل الشهادتين، والإقامة سبع عشرة جملة، يعني: مثل أذاننا ويزيدون فيها: قد قامت الصلاة (مرتين) فتكون سبع عشرة جملة، ومثل هؤلاء ينبهون إلى أن هذا خلاف الحديث، ولو كان موافقاً لمذهبهم، ومذهبهم مشهور معمول به في تركيا وباكستان، وفي الأفغان والهند.(24/15)
ضابط الإقامة والسفر
السؤال
سائل يقول: إنه مدرس في حفر الباطن، وفي أثناء العطلة يبقى عند أهله في الرياض لمدة شهرين، فهل أصبح في هذين الشهرين مقيماً أم مسافراً؟
الجواب
مقيماً إذا كان يقيم أربعة أيام، ثم -أيضاً- إذا كان عند أبويه أو نحوهم فإنه يعتبر مقيماً، ثم إذا كان في منزل يتمتع فيه بما يتمتع المقيمون، فليس فيه صفة من صفات المسافر.(24/16)
كيفية تربية أبناء المدارس على الصلاة
السؤال
أعمل مدرساً، ونصلي الظهر جماعة بالمدرسة، وكثير من الطلاب يصلي بغير وضوء، وكثير منهم يتظاهر بأنه يصلي وفي الحقيقة أنه لا يصلي، بل يتحدث مع زملائه أثناء سجوده وركوعه، وحاولنا مراراً إصلاحهم والتنبيه عليهم دون جدوى، فما العمل، هل نحكم عليه بالكفر حينئذ، أم هل من سبيل لعلاج ذلك؛ علماً بأنهم في المرحلتين المتوسطة والثانوية؟
الجواب
لا شك أن هذا يقع كثيراً من هؤلاء الطلاب الشباب الذين اعتادوا ترك الصلاة منذ الصغر، ولم يربهم آباؤهم على الصلاة في صغرهم، فثقلت عليهم، فهم لا يصلون، يعني: عصراً ومغرباً وعشاءً وفجراً، ولا يأتون إلى المساجد، بل يشاهد أنهم في الملاعب والأسواق يتسكعون، وعليكم أن تعلموهم وتخوفوهم في أثناء التدريس، وقبل الإقامة إذا اجتمعوا في المصلى يتكلم أحد المدرسين وينبههم، ويبين لهم شروط الصلاة ومنها الطهارة، ومنها النية، ويبين لهم فرضها وحكمها، لعلهم أن يتدربوا.
وعليكم أن تؤدبوا من عرفتم أنه يتكلم في الصلاة، فأدبوه واردعوه، وكذلك من تحققتم أنه صلى بلا طهارة.(24/17)
حكم الوضوء مع وجود الصبغة على الأظفار
السؤال
هل يصح الوضوء مع وجود الصبغة التي على الأظفار -المناكير- وهل تأخذ حكم الجورب؟
الجواب
الصحيح أنه لا يجوز المسح عليها، ولا الوضوء عليها إذا كان بالإمكان قلعها؛ ولأنها ليست ضرورية، وليست مثل الجوارب التي ينتفع بلبسها ويكون فيها التحصن من البرد ونحوه.(24/18)
جواز التيمم للمريض إذا صعب عليه استعمال الماء
السؤال
كنت في المستشفى أكثر من خمسين يوماً، وبسبب المرض يصعب عليَّ استعمال الماء، فكنت أضرب السرير وأتيمم، فهل فعلي هذا صحيح؟
الجواب
عفا الله عما سلف، الواجب على من قدر أن يتوضأ أن يستعمل الوضوء، ولا يكتفي بالتيمم، وإذا كان عاجزاً يشق عليه فما جعل الله في الدين من حرج.(24/19)
استحباب الغسل يوم عرفة
السؤال
ورد عن ثلاثة من الصحابة منهم ابن عمر أنهم اغتسلوا يوم عرفة، فهل في ذلك دليل على استحباب الغسل يوم عرفة؟
الجواب
فيه دليل، ولعلهم قصدوا بذلك تخفيف شدة الحر؛ لأنهم يقفون على رواحلهم راكبين، بعدما يصلون الظهرين في وقت الظهر، فيبقى أحدهم راكباً على بعيره إلى غروب الشمس، وهم في هذه الحال تصهرهم الشمس، فلعل الوضوء والاغتسال يخفف عنهم حرارتها.(24/20)
حكم التلطف للكافر لدعوته إلى الإسلام
السؤال
الكافر إذا أردت دعوته إلى الإسلام، فهل يجوز لي أن أسلم عليه أو أصافحه تأليفاً لقلبه؟
الجواب
حيه بتحية تناسبه، فحيه -مثلاً- بالتحية التي يتعامل بها، ولا بأس بالمصافحة، والكلام اللطيف، فإذا أصر فعليك أن تقاطعه، وأن تظهر له البغض والمقت والتحقير.(24/21)
حكم من سمع الأذان وهو خارج المدينة
السؤال
في بعض الأحيان نخرج في ضواحي المدينة في أماكن برية ونحن جماعة، ما حكم صلاتنا جماعة إذا كنا نسمع الأذان بالمكبر فقط، فهل يلزمنا الصلاة في المسجد؟
الجواب
إذا كنتم بعيدين عن المسجد نحو كيلو متر أو أبعد فلا يلزمكم، ولو سمعتم الأذان بواسطة المكبر؛ لأن فيه شيئاً من المشقة، وأما إذا كان يمكنكم الذهاب إلى المسجد ولو على سيارة بلا مشقة ويقدر بنحو الكيلو متر فلابد أن تصلوا في المسجد.(24/22)
الاكتفاء بأذان المساجد التي تسمع
السؤال
عندما نكون المدرسة ونسمع تأذين المساجد، هل يجب علينا الأذان ونحن نصلي جماعة في المدرسة، أم نكتفي بأذان مؤذن المسجد؟
الجواب
لا بأس أن يكتفى بأذان المسجد، إذا كان المسجد قريباً تسمعونه، وإن أذنتم فحسن.(24/23)
الاكتفاء بأذان المساجد لمن تأخر عن الأذان في مسجده
السؤال
إذا دخلت المسجد متأخراً عن الأذان بعشر دقائق أو بربع ساعة، وقد أذنت المساجد المجاورة، فهل يشرع لي الأذان؟
الجواب
إذا كان أذان المساجد مرتفعاً صوته، بحيث يسمعه أهل الحي كلهم فالتأخير فيه شيء من التشويش، فإذا أذنت بعد عشر دقائق من أذان الناس أو ربع ساعة؛ لاستنكر الناس ذلك، وربما يكون سبباً في تأخر جماعة هذا المسجد، فيكتفى بأذان المساجد الأخرى.(24/24)
حكم صلاة المغرب خلف إمام يصلي العشاء
السؤال
دخلت مع الإمام في صلاة العشاء وأنا لم أصلِ المغرب، فدخلت بنية المغرب، ولكن قد فاتتني ركعة واحدة من العشاء، فكيف يكون ترتيب التشهد الأول بالنسبة لي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
في ذلك خلاف، المشايخ الأولون وأهل المذاهب غالباً يقولون: لا تدخل معهم، إذا عرفت أنهم يصلون العشاء فصل المغرب وحدك، وبعض المشايخ المعاصرين أباحوا أن تدخل معهم وهم في العشاء وتنويها مغرباً لك ولو اختلف تتابع الركعات، وفي هذه الحالة إذا فاتتك ركعة صل معهم الثلاث الركعات، وتكتفي بالتشهد الأول.(24/25)
الحلف بالحرام وحكمه
السؤال
خطبت أختي من قبل ابن عمي، فجاء ابن خالي وخطبها على خطبته، فأصر أخي وأمي على تزويج أختي من ابن خالها، وكان أن حلفت بالحرام من أهلي عدة مرات ما تتزوج أختي، ولكن زوجوها بغير رضاي، فماذا علي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يجوز للثاني أن يخطبها على خطبة الأول؛ لقوله: (ولا يخطب على خطبة أخيه) لكن يمكن أنه ما علم بأنها مخطوبة، ثم يمكن أنهم لما جاءهم الخطيب الثاني رأوا أنه أحسن من الأول وأفضل وأصلح، وعلى كل حال: كان الأولى ألا تخالف أبويك، وألا تقحم هذه الأقسام وألا تحلف هذه الأيمان فتكلف على نفسك.
والجواب في مثل هذا التحريم إذا قلت: حرام من أهلي وتقصد من ذلك تحريم زوجتك، فالتحريم ظهار على الصحيح، فعليك كفارة الظهار المذكورة في أول سورة المجادلة على الترتيب: تحرير رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] ، فلا تمس زوجتك حتى تكفر.(24/26)
حكم تقديم النافلة على الفريضة لمن فاتته صلاة الصبح
السؤال
إذا فاتتني صلاة الصبح ولم أصلها في وقتها وصليتها بعد طلوع الشمس، فهل أقدم الفريضة أم أقدم النافلة؟
الجواب
تقدم النافلة؛ لأن الوقت قد فات، أما إذا استيقظت وقد بقي لطلوع الشمس قدر ركعتين فإنك تقدم الفريضة حتى تقع في الوقت.(24/27)
حكم أكل الضفادع والتماسيح
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) هل يدخل في الحديث التماسيح والضفادع إذا ماتت في البر؟
الجواب
من العلماء من يقول: كل ما يموت في البحر من دواب البحر التي لا تعيش إلا فيه حلال، ومنهم من يقول: ما كان جنسه محرماً في البر فيحرم جنسه في البحر.
والضفادع تشاهد أنها برية، تخرج في البر ثم تنغمس في البحر، فهي برية بحرية، فليست حلالاً، وأما التماسيح ففيها هذا الخلاف، والأكثر على أنها لا تدخل في الإباحة.(24/28)
حكم الالتفات ووضع الأصبع في الأذن حال الأذان
السؤال
هناك مسألتان في الأذان؛ الأولى: الالتفات مع وجود المكبرات، الثانية وضع السبابة في الأذان، فما قولكم في هذا حفظكم الله؟
الجواب
الالتفات كان سنة عندما كان المؤذن يؤذن في غير مكبر؛ حتى يذهب صوته يميناً ويساراً، وأما إذا كان يؤذن في المكبر فأرى أنه لا يلتفت؛ لأن الالتفات يضعف صوته، حيث إنه يلتفت عن اللاقط الذي يلتقط الصوت، فشرعية الالتفات إنما هو إذا أذن في غير مكبر.
أما وضع الإصبع في الأذن فإنه من السنة، وفعله بلال، وسببه أنه أندى للصوت؛ ولأنه يخاف إذا رفع الصوت كثيراً أن يخرج من أذنيه، ففيه هذه الفائدة.(24/29)
حكم الأذان في السيارة إذا دخل الوقت
السؤال
هل يؤذن في السيارة إذا دخل الوقت ونحن فيها، سواء كنا في سفر أو حضر؟ وشكر الله لكم.
الجواب
لا بأس بذلك، فلو رفع صوته في السيارة وهي تمشي عرف -مثلاً- أن المصلين هم أهل هذه السيارة.(24/30)
كيفية الصلاة الجهرية منفرداً
السؤال
كيف تقضى صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، أعني هل يجهر فيها بالقراءة؟
الجواب
إذا كنت منفرداً فإنك تسر، وإذا كنت إماماً فإنك تجهر.(24/31)
حكم تأخير العشاء إلى نصف الليل
السؤال
امرأة تؤخر العشاء غالب الأيام إلى قرب الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق، بحجة أن ذلك من السنة، فهل فعلها هذا صحيح؟
الجواب
الليل كله وقت لصلاة العشاء، ولكن الأولى ألا تؤخر عن نصف الليل، وإن أخرت لعذر فلا بأس.(24/32)
كيفية وضوء وصلاة المشلول
السؤال
شاب أصيب في حادث سيارة بشلل كامل، لا يستطيع معه الحركة، وأهله لا يستطيعون أن يوضئوه لكل صلاة، ولا يستطيع أن يستقبل القبلة، وأيضاً لا يدري إذا خرج منه شيء أو لا، فكيف يصلي مع هذه الحال؟
الجواب
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، إذا دخل الوقت فإنهم يوضئون أعضاءه الظاهرة، وإذا كان في ذلك مشقة اقتصر على التيمم.(24/33)
حكم احتجاب النساء عمن بلغ سن العاشرة
السؤال
ذكرتم في أحد دروسكم أن سن العاشرة مظنة البلوغ، ولذا أمر بضرب الطفل للصلاة، فهل تؤمر النساء بالاحتجاب عنهم في هذه السن؟
الجواب
الغالب أنه يبلغ في العاشرة، ولكن إذا تحقق أنه لم يبلغ فلا يلزمه؛ لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] .(24/34)
حكم صرف الزكاة في الصناديق الخيرية
السؤال
هل تدخل الزكاة في الصناديق الخيرية التعاونية لبعض العوائل، وأهدافه هي أولاً: مساعدة الضعفاء والمتزوجين، ثانياً: تسديد الديون والتسليف، ثالثاً: استثمار هذه الأموال، رابعاً: الاجتماعات السنوية والشهرية.
أفيدونا مأجورين؟
الجواب
لا بأس إذا كانت تصرف لمساعدة الفقراء والمتزوجين والمدينين ونحوهم، واستثمارها فيه خلاف، ولكن إذا توفر من الزكاة مال كثير فلا بأس باستثماره حتى تصرف غلته في هذه الوجوه.(24/35)
حديث (خلقت الإبل من الجن)
السؤال
قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] وقلتم حفظكم الله: إن الإبل خلقت من الجن، ومن المعروف أن الجن خلقت من النار، فكيف نوفق؟
الجواب
هكذا ورد في الحديث أنها خلقت من الجن، فلعل المراد التشبيه لا أنها مادتها الأصلية، والله أعلم.(24/36)
حكم الوقوف في المسجد إذا لم يكف الوقت لتحية المسجد
السؤال
إذا دخلت المسجد وليس هناك وقت كاف لتحية المسجد، فهل أجلس أو أنتظر الإقامة واقفاً؟
الجواب
انتظر واقفاً، ولا تجلس إذا كانت الإقامة قريبة، وإذا أمكنك أن تصلي ولو ركعة وتتم الركعة الثانية بعد الإقامة فلا بأس.(24/37)
الصلاة على الدابة خاص بالسفر
السؤال
صلاة النافلة على الدابة هل هو خاص بالسفر أم يجوز في الحضر؟
الجواب
ما ذكروه إلا في السفر؛ لأن الذي في الحضر يمكن أن يصل إلى مقصده ويصلي الراتبة.(24/38)
كيفية الصلاة على الطائرة ومعرفة الوقت
السؤال
إذا كان المسافر في الطائرة، وخاصة في أقصى الشرق أو أقصى الغرب، ولا يعرف وقت دخول الصلاة- وخاصة صلاة الفجر، فقد يكون في ليل، ويدخل في النهار بسرعة، وإن كان يعرف الاتجاه، ولكن الكراسي في الاتجاه المعاكس، ولم يستطع أن يصلي واقفاً، فماذا يفعل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا كان يمكن وصوله قبل طلوع الشمس انتظر، وأما إذا خشي أن تطلع الشمس فإنه يصلي على حسب حاله، ويجتهد ويتحرى، ويسأل الطيار أو الملاحين ونحوهم عن الوقت، وهم عندهم معرفة بذلك.(24/39)
حكم من يطوف ويحمل ولده الصغير معه بدون طهارة
السؤال
بعض الناس يطوفون وهم يحملون أولادهم الصغار على أكتافهم، وهؤلاء الأطفال يلبسون الحفائظ، وقد تكون فيها نجاسة، فما حكم طوافهم؟
الجواب
عليهم أن يتحققوا من نظافتها قبل دخول المسجد، وإذا أرادوا أن يطوفوا بالطفل فعليهم أن ينظفوه ويطهروه ثم يلبسوه حفيظة طاهرة، ثم يبدءوا في الطواف، والعادة أنه لا يخرج منه شيء في الوقت القريب، وإذا خرج شيء ولم يشعروا به فلا حرج.(24/40)
حكم من أحس بخروج المني من الصلب ولم يخرج
السؤال
من أحس بخروج المني من الصلب ولم يخرج، ثم صلى ولم يغتسل لجهله، فهل يعيد الصلاة، مع العلم أنها حصلت كثيراً؟
الجواب
في الغالب أنه إذا انفصل من الصلب أنه يخرج، وإذا بقي -مثلاً- ساعة أو نصف يوم فلابد أن يخرج بعد ذلك، ولو سيلاناً مع البول، فهذا الذي يحس -مثلاً- بشهوة الغالب أنه لا ينتقل؛ لأن الذي ينتقل لابد أن يخرج، وإذا جاوز محله فلابد أن يخرج إما في الحال وإما بعد ساعة أو بعد ساعات يسيرة.
ننصحك بألا تكثر الوهم، وإلا فكلما حصلت لك شهوة اعتقدت أنه انتقل، فهذا ليس بصحيح، ولا تكلف نفسك.(24/41)
حكم من ظهر منه دم في الصلاة ثم مسحه بالمنديل
السؤال
ماذا يفعل من ظهر منه دم في صلاته ومسحه بمنديل، ووضع المنديل في جيبه، هل صلاته صحيحة؟ وما حد الدم الكثير واليسير؟
الجواب
إذا كان يسيراً فإنه يعفى عنه، كأن يكون نقطتين أو ثلاث نقط، أما إذا كان كثيراً فإنه يقطع الصلاة، ويجدد الوضوء، وينظف بدنه أو منديله.(24/42)
حكم من يقوم بتجديد بعض الإقامات للعمال النصارى
السؤال
معقب لدى إحدى المؤسسات، ويقوم بتجديد بعض الإقامات للعمال النصارى، فهل عمله هذا يدخل في التعاون على الإثم والعدوان؟
الجواب
إذا كانوا يدفعون له أجرة ويعاونهم بالأجرة، فلا بأس أن يأخذ منهم الأجرة، فهو أولى من أن يأخذها غيره من الفسقة أو الكفرة، ومعلوم أنه لابد لهم من هذه الإقامات، وهذه الجوازات، وهذه الرخص وما أشبهها، فكونهم يبذلونها لمسلم أولى من كونه يأخذها كافر.(24/43)
حكم المداومة على الإطالة في الصلوات الجهرية
السؤال
ما حكم المداومة على الإطالة في كل الصلوات الجهرية، نرجو التوضيح؟
الجواب
الإطالة لا بأس بها، ولكن المداومة على ذلك بحيث يشق على المأمومين مشقة كثيرة لا يجوز.(24/44)
حكم قراءة الإمام بسورة الأعراف في المغرب
السؤال
هل يصح للإمام في وقتنا هذا أن يقرأ بسورة الأعراف في صلاة المغرب اتباعاً للسنة، وهل له أن يخبر الجماعة بأنه سيقرأ بهم سورة الأعراف؟
الجواب
فعل ذلك بعض مشايخنا، وبعض زملائنا، وبعض تلامذتنا -أيضاً- اقتداءً بالسنة، واتباعاً للأحاديث، ولكن لا يداوم على ذلك، وإذا فعله مرة كفى، وينبه المأمومين.(24/45)
حكم تعمد الإمام الإسرار في الصلوات الجهرية
السؤال
ما حكم تعمد الإمام القراءة سراً في الصلوات الجهرية؟
الجواب
لا يجوز، وإن كان ذلك لا يبطل الصلاة، هم ذكروا أن الجهر في الظهر لا يبطلها، والإسرار في المغرب لا يبطلها، ولكنه خلاف السنة، ولا يجوز تعمد ذلك.(24/46)
حكم ترك قراءة السورة بعد الفاتحة
السؤال
ما حكم ترك قراءة السورة بعد الفاتحة سواء كان ناسياً أو متعمداً؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز تعمده، وإذا كان ناسياً فالصلاة صحيحة، وإن تعمد ذلك لبيان الجواز فلا بأس، فالأصل أن السورة بعد الفاتحة ليست واجبة.(24/47)
حكم إمامة من يخرج منه قيح ودم من الدبر
السؤال
أنا إمام مسجد، وقد قدر الله علي بخروج ورم قرب فتحة الشرج، ينفتح هذا الورم ويخرج منه دم من خارجه، وإذا قمت بضغطه فإنه يخرج منه قيح يسيل مع فتحة الشرج، وأرى بعض أثر الدماء والقيح -وهي قليلة غالباً- في السراويل، فالسؤال: هل ترون أن أستمر في إمامة المسجد والحالة هذه، أم أترك الإمامة؟ والله يرعاكم.
الجواب
لك أن تستمر إذا كان يسيراً، ولك أن تتعاهد نفسك قبل الدخول في الصلاة، وتنظف هذا الجرح، ولا حرج عليك إن شاء الله.(24/48)
الجهر بالتأمين في الجهرية والإسرار بها في السرية
السؤال
ما معنى قول المؤلف: (يجهر بها -أي: بـ (آمين) - إمام ومأموم معاً في جهرية وغيرهما مما يجهر فيه) ؟
الجواب
في كل صلاة يجهر بها إمام ومأموم، والمنفرد يخير، والذي يجهر هو الصلوات الجهرية، كالأولتين من المغرب والعشاء، وصلاة الصبح، والجمعة، والعيد، والكسوف، والاستسقاء ونحوه.(24/49)
حكم ضرب النساء بالدف وإعطائهن الأجرة على ذلك
السؤال
هل يجوز إعطاء الأجرة للنساء اللائي يضربن الدف الإسلامي في الحفلات؟
الجواب
الدف لا بأس بالضرب به، فهو من السنة؛ لحديث (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) ، فإذا لم يجد من يحسن الضرب عليه إلا امرأة وطلبت أجرة فلها ذلك.(24/50)
شرح أخصر المختصرات [25]
اهتم العلماء بالعلوم الشرعية، وبينوا أن الإسلام شامل لكل ما يحتاج إليه العباد في أمور دينهم ودنياهم، وليس خاصاً بالعبادات؛ بل يدخل فيه المعاملات والمعاقدات والجنايات، ومن أهم المعاملات التي اهتم العلماء ببيانها البيوع؛ لحاجة الناس إليها، ولكثرة الأخطاء الواقعة فيها، وللبيع شروط لا يصح إلا إذا توافرت جميعها فيه.(25/1)
اهتمام العلماء بالتصانيف وترتيبهم لها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب البيع وسائر المعاملات: ينعقد بمعاطاة وبإيجاب وقبول بسبعة شروط: الرضا منهما، وكون عاقد جائز التصرف، وكون مبيع مالاً وهو ما فيه منفعة مباحة، وكونه مملوكاً لبائعه أو مأذوناً له فيه، وكونه مقدوراً على تسليمه، وكونه معلوماً لهما برؤية أو صفة تكفي في السلم، وكون ثمن معلوماً، فلا يصح بما ينقطع به السعر، وإن باع مشاعاً بينه وبين غيره أو عبده وعبد غيره بغير إذن، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً صفقة واحدة صح في نصيبه وعبده والخل بقسطه، ولمشتر الخيار.
ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، وتصح سائر العقود، ولا بيع عصير عنب لمتخذه خمراً، ولا سلاح في فتنة، ولا عبد مسلم لكافر لا يعتق عليه، وحرم ولم يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه] .
علماء هذه الأمة اعتنوا بالعلوم الشرعية وأولوها اهتمامهم، وبينوا أن الشرع الشريف شامل لكل ما يحتاج إليه من أمور الدين ومن أمور الدنيا، وأنه ليس خاصاً بالعبادات، بل يدخل في ذلك المعاملات، ويدخل في ذلك العقود، ويدخل في ذلك الجنايات وما أشبهها، فليس هناك شيء يحتاج إليه إلا والشرع الشريف قد بينه ووضحه.
ثم إن الأولين كانوا يجمعون علم العقائد مع علم الأحكام؛ وذلك لأن العقائد تعتبر هي أساس علم العبادات، ولا تصح العبادات إلا إذا صحت العقائد التي هي التوحيد القولي والتوحيد العلمي، كما فعل البخاري حيث قدم كتاب العلم وكتاب الإيمان قبل كتاب الأحكام من الطهارة وما بعدها، وكذلك فعل مسلم حيث قدم كتاب الإيمان، وكذلك ابن ماجة حيث قدم -أيضاً- كتاب الاعتقاد أو الإيمان.
ثم إن كثيراً من العلماء أفردوا كتاب العقائد والتوحيد، وجعلوه في كتب خاصة؛ وذلك لأهميته؛ ولأن الخلاف فيه قد يخرج من الملة، فألفوا فيه مؤلفات خاصة مثل كتاب السنة للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والتوحيد لـ ابن خزيمة، والتوحيد لـ ابن مندة، والسنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للخلال، والإيمان لـ ابن أبي شيبة، والإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام، والإيمان لـ ابن مندة، والشريعة للآجري وأشباهها.
ولما أفردوا كتب العقائد بقي من الشريعة نوعان: نوع سموه الأحكام، ونوع سموه الآداب، فأما الآداب فإنها آداب المسلم فيما يتعامل به مع إخوانه، وفيما يتعامل به مع جيرانه، وما أشبه ذلك، وهذا النوع مستحسن عقلاً، ووارد شرعاً، ومع ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يحبذون العمل به، ويمتدحون أهله؛ فلذلك أفرد هذا النوع في مؤلفات خاصة، مثل الأدب المفرد للإمام البخاري، والآداب للبيهقي، وأدب الدنيا والدين للماوردي، والآداب الشرعية لـ ابن مفلح وما أشبهها، يتكلمون فيها عن الفضائل: كالصدق وحسن الخلق وما يتصل به، وأضداد ذلك كذم الكذب، وذم سوء الخلق، وكذلك مدح الكرم، وذم البخل، ومدح الأمانة وذم الخيانة، وما أشبه ذلك.
فمنهم من يكون معتمده الأحاديث كما فعل النووي في رياض الصالحين، وكذلك المنذري في الترغيب والترهيب، ومنهم من يتعدى للآثار والأشعار وما أشبهها كما فعل ابن حبان في روضة العقلاء، وكل هذا لا شك أنه علم مفيد، وأن التأدب به يفيد من تعلمه وتخلق به، ولكنه لا يضلل بتركه، ولا يخرج من الملة، وإن كان يمدح به في التزكية، ويقدح ضده في العدالة، وترد به الشهادة وما أشبه ذلك، فجعلوا هذا العلم خاصاً في مؤلفات خاصة، وأدرجه بعضهم في المؤلفات العامة، فـ البخاري جعل في صحيحه كتاب الأدب، وكذلك مسلم، وكذلك أبو داود والترمذي ونحوهم، وأفرد هذا النوع بكتب خاصة، وما ذاك إلا لأهميته ولاختلاف الآراء فيه، وما بقي إلا الأحكام التي يتعلق بها الحكم من صحة أو فساد، وسموا هذا القسم بعلم الأحكام، أو بعلم الفقه، وهو ما ألف فيه في المذاهب الأربعة وغيرها، وأكثر العلماء من التأليف فيه في كل مذهب، وفي المذهب الحنبلي أول من ألف في الأبواب الخرقي صاحب المختصر، والمؤلفون قبله كانوا يعتمدون على أشياء خاصة، كالذين كتبوا مسائل الإمام أحمد، حيث قسموها أو بوبوها، ولكنهم أضافوا إلى الأحكام غيرها.(25/2)
ترتيب كتب الفقه
ولما كتبوا في هذا النوع -الذي هو علم الأحكام الفقهية- قسموه إلى أربعة أقسام: قسم العبادات، وقسم المعاملات، وقسم المعاقدات، وقسم الجنايات، وبدءوا بقسم العبادات؛ لأنها حق الله على العبيد؛ ولأن منها ما هو فرض عين؛ ولأنها حق الله تعالى، فلابد من معرفته.
ثم إنهم قسموها إلى أربعة أقسام على ترتيب أركان الإسلام، فبدءوا بالصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، هذا هو ترتيب أكثرهم، وأضاف كثير منهم الجهاد، وجعلوه ركناً سادساً، كما فعل ابن قدامة في المقنع ومن تبعه من بعده، فرتبوها على ترتيب أركان الإسلام، وبدءوا بالصلاة، إلا أنهم قدموا شرطها عليها وهو الطهارة؛ لأن الشرط يتقدم على المشروط، وانتهوا من الصلاة وما يتعلق بها، وألحقوا بها -أيضاً- الجنائز؛ لأن أهم ما يعمل في الجنائز الصلاة على الميت، فألحقوها بالصلاة، وبعد ذلك ذكروا الزكاة لأنها قرينة الصلاة في كتاب الله، وبعد ذلك ذكروا الصيام؛ فإنه جاء في حديث الأركان بعد الصلاة والزكاة؛ ولأنه فرض عين على كل مكلف، وبعد الانتهاء منه ذكروا كتاب الحج؛ وذلك لأنه من أركان الإسلام، وأخروه لأنه لا يجب في العمر إلا مرة، ولا يجب إلا على المستطيع، وبعد ذلك ذكروا الجهاد؛ لأن الصحيح أنه من فروض الكفاية، وإن كان قد يصل إلى فرض العين في بعض الأحوال.
ولما انتهوا من قسم العبادات بدءوا بالمعاملات؛ وذلك لأن أهم شيء يحتاجه الإنسان في حياته هو تحصيل القوت والغذاء الذي به قوام حياته، ومعلوم أن الإنسان لابد له من غذاء يتقوت به، وهو الأكل والشراب والكسوة ونحوها، وذلك يتوقف على تحصيل المال والكسب، وقد عرف أن أنواع المكاسب التي يكتسب منها المال كثيرة، فمنها الحرف اليدوية كالصناعات من حدادة ونجارة ونساجة وحياكة، ومثلها -أيضاً- الصناعات الجديدة، والصناعات الحديثة، كصناعة الأدوات والمكائن وما أشبهها، وما تحتاج إليه من هندسة ونحو ذلك، فهذه من أنواع المكاسب التي ينشغل بها خلق كثير، ومنها -أيضاً- الحرف اليدوية، مثل البناء والحفر والغرس والتكسب بمثل ذلك كخياطة وغسيل وما أشبه ذلك، هذه -أيضاً- من المكاسب التي يتكسب بها، وكذلك -أيضاً- تربية المواشي، والتكسب من ورائها، وكذلك غرس الأشجار واستثمارها، والتكسب من ثمارها أكلاً وتجارة وما أشبه ذلك، وكل هذه تعرف بالتجربة، ويحتاج في معرفتها إلى تعلم مبادئها، وليس لها أحكام من الأحكام التي يعرف بها حلها أو حرمتها، إلا الأشياء العامة من تحريم الغش فيها والخيانة والمخادعة وخلف الوعد وما أشبه ذلك.(25/3)
أهمية البيوع والتجارة واهتمام العلماء بها
أهم شيء في المعاملات هو البيع والتجارة، فلذلك اعتنوا بهذا النوع الذي هو قسم التجارة، فـ ابن ماجة في سننه قال: كتاب التجارات، والبخاري قال: كتاب البيوع.
وكذلك مالك وأبو داود ومسلم وغيرهم قالوا: كتاب البيوع.
وبعضهم قال: كتاب البيع، وسبب تخصيصهم واعتنائهم بالبيع أن فيه مخالفات، وفيه شروط، وفيه أخطاء كثيرة، ويدخل الشرع في أموره، فأحل أشياء وحرم أشياءً، وفيه أنواع الربا، وفيه النهي عن الغرر، وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا من أهم الأمور المهمة في هذه الحياة التي يحتاج إليها.
ولا شك أن الكسب الحلال له تأثير في الغذاء، وتأثير في حسن الحياة وطيبها، وأن الكسب الحرام له -أيضاً- تأثير في العبادات والمعاملات؛ ولذلك ورد في الحديث: (لا يدخل الجنة لحم نبت على سحت) وفي رواية: (كل جسد نبت على سحت فالنار أولى به) ، والسحت: هو الحرام الذي ذم الله اليهود به، قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] أي: للحرام، وقال تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62] ، وفسر أكلهم هذا بقوله في آية أخرى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161] فإن هذا من السحت.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أكل الحرام سبب لرد الدعاء في قوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) يعني: أنه لما تغذى بالحرام رد دعاؤه مع وجود الأسباب الكثيرة التي تكون سبباً في إجابة الدعاء؛ فلذلك يتأكد على المسلم أن يبتعد عن أكل الحرام، وأن يحرص على أكل الحلال، ولا شك أن له تأثيراً عجيباً في إجابة الدعاء.
ذكروا أنه قبل نحو سبعين أو ثمانين سنة كان رجل في بعض القرى القريبة مستجاب الدعوة، يأتي إليه المريض فينفث عليه، فيشفى بإذن الله، ويدعو له ويستجاب دعاؤه، ثم إنه استحضر إلى هذه البلاد، وخيف أنه يتعاطى سحراً أو نحو ذلك، فلما أحضر أخبر بأنه لا يأكل إلا حلالاً، وأن والده خلف له بستاناً من كسب يده، وأوصاه بأن لا يأكل إلا منه، وأنه توقف عليه، فهو ينفق عليه بجزء منه، ويتغذى بجزء منه، ويبيع بيعاً صحيحاً بعضه، ويشتري بما يبيعه منه حاجاته الأخرى الضرورية.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً رأى سحابة وسمع صوتاً فيها يقول: اسق حديقة فلان، ثم إن تلك السحابة تقدمت قليلاً وأمطرت في شعب، فتابع سيره حتى وصل إلى حديقة وفيها رجل يصلح الماء، فسأله فإذا هو ذلك الرجل الذي سمع اسمه من السحابة، فأخبره بأنه يقسم إنتاجها ثلاثة أقسام: قسم يتصدق به، وقسم يأكله، وقسم يرده فيها ينفق به عليها) ، فرحمه ربه بهذا العمل الحسن، وأرسل هذه السحابة لسقي حديقته.
وذكر لنا بعض مشايخنا أنه في بعض القرى تأخر المطر عن زمانه، وخيف على بعض الأشجار والثمار من الكساد والموت واليبس، ولم يقدروا على الاستسقاء إلا بأمر عام من الحكومة، ثم إن أحدهم استسقى وحده ومعه أولاده وأخوه، صلى ركعتين في صحراء قريبة من بستانه، ولما صلى ركعتين رفع يديه ودعا، وقلب رداءه أو كساءه، وقلب أهله أرديتهم، ولم يمكث إلا يوماً واحداً حتى جاءت سحابة وسقت بستانه حتى روي، ووصل الماء إلى جاره ولم يسق منها إلا خمس نخلات ثم وقف! فإجابة الدعوة من آثار الكسب الحلال.
ولا شك أنه كلما فشا الحرام وكثر تداوله كان ذلك من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة، وهكذا -أيضاً- إذا فشت المعاصي وكثرت المخالفات.
والحاصل أن العلماء اهتموا في هذه الكتب بالكسب الحلال، فذكروا شروط البيع، والخيار، والربا والتحذير منه وأنواعه، وكذلك بقية المعاملات، إلى أن ذكروا أنواع المكاسب التي يحصل منها كسب المال، ومنها الفرائض والوصايا والعتق، وبنهاية العتق يكون قد انتهى قسم المعاملات التي فيها كسب المال بأي طريق من الطرق، وبعدما انتهوا من هذا القسم عرفوا أن المسلم إذا حصل على قوته، وعرف كيف يكسب المال، وعرف وجوه المكاسب المباحة، فلابد له بعد ذلك من أمر آخر، ألا وهو النكاح، فإنه -أيضاً- من الضروريات في هذه الحياة، وإن لم تكن الضرورة إليه مثل الضرورة إلى الغذاء الذي هو القوت، فهو ضروري في كل يوم مرة أو مرات، فلما انتهوا من المعاملات بدءوا بالقسم الثالث، وهو قسم النكاح، ويسمى: العقود والمعاقدات، وأدخلوا فيه الخلع والطلاق والإيلاء والظهار واللعان والعدد والنفقات؛ لأنها من تمامه، وإن كان لها تعلق بالقسم الثاني الذي هو المعاملات.
وبعدما انتهوا من هذا القسم فالعادة أن الإنسان إذا تمت عليه نعمة المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمنكح؛ فلابد أن يكون عنده شيء من التعدي، فطبع الإنسان الأشر والبطر والاعتداء على الغير، فجعلوا بعد ذلك قسماً رابعاً هو خاتمة أقسام الفقه وهو قسم الجنايات، الذي هو الشجاج والقصاص والديات وما يتصل بها، وكذلك الحدود التي حددها الشرع عقوبة على المحرمات كحد الزنا، وحد السرقة إلخ، وألحقوا بذلك -أيضاً- القضاء؛ لأنه لا يحتاج إليه إلا عند كثرة الجنايات وكثرة الخصومات، وختموا بالإقرار الذي يكون سبباً للحكم بما أقر به.
هذه هي أقسام الفقه، وهكذا قسم كتب الفقه فقهاء الحنابلة، لكن هناك كثير من المتقدمين والمتأخرين قدموا وأخروا في هذه الأقسام، ولكل اجتهاده.(25/4)
تعريف البيع وصيغته
البيع أكثر ما يستعمل في المكاسب، وقد ذكروا أن اشتقاقه من الباع، والباع: هو ما بين اليدين إذا مدتا، سمي بذلك لأن المتبايعين يمد كل منهما باعه -أي: يده- للأخذ والإعطاء، فالبائع يمد يده بالسلعة، والمشتري يمد يده بالثمن.
وتعريفه: عقد أو معاملة لأخذ شيء من السلع بثمن معلوم، والعقد: هو المعاقدة بين المشتري والبائع، ولابد فيه من الصيغة التي يصح بها، وله صيغتان: صيغة قولية، وصيغة فعلية، فالقولية: هي الإيجاب والقبول، والفعلية: هي المعاطاة من البائع أو المشتري، والصيغة القولية أن يقول البائع: بعتك، ويقول المشتري: قبلت.
مثلاً: يقول: بعتك الثوب بعشرة، فيقول المشتري: قبلته أو رضيت به.
وهذه هي العادة، فلابد من إيجاب وقبول، ثم لابد أن يكون الإيجاب هو المتقدم، وقيل: يصح تقدم القبول، فإذا قال -مثلاً-: اشتريت الكتاب منك بعشرة، فقال: قد بعتك؛ صح ذلك ولو كان القبول متقدماً، وكذلك إذا قال: بعني هذا الكتاب بعشرة.
فقال: خذه بها؛ صح ذلك.
واختلفوا في تأخير الإيجاب أو تأخير القبول، كأن يقول: بعتك الكتاب بعشرة.
فسكت المشتري ساعة أو ساعتين، ثم قال: قبلت.
والصحيح أنه يجوز ذلك وينعقد، وكذلك لو اشتغل بكلام أجنبي، كأن يقول: بعني هذا الكتاب بعشرة.
فسكت البائع، ثم انتقل إلى كتاب آخر فقال: بعني هذا المصحف -مثلاً- بعشرين.
ثم بعد ذلك قال: قد بعتك الأول بعشرة.
فلا حاجة إلى أن يقول: قبلت؛ وذلك لأنه قد بدأ بسومه من قبل.
وصيغة المعاطاة فعلية، وهي: أن يمد إليه بالسلعة، ويمد الثمن إذا كان قد عرف ثمنها كما، لو كان مكتوباً على الكتاب ثمنه أو على الكيس ثمنه فمد الدراهم ولم يتكلم، وأخذها البائع ومد إليه بالسلعة ولم يتكلم واحد منهما؛ صح، وتسمى هذه صيغة فعلية، وتستعمل في الأشياء التي عرف ثمنها، فإذا أتيت إلى الخباز فإنك تدفع إليه ريالاً ويمد إليك بأربعة أرغفة عادة دون أن يتكلم واحد منكما، وهكذا -أيضاً- بقية المعاملات التي لا يحتاج فيها إلى مماكسة، وأثمانها معروفة، ومثلها الأجرة إذا كانت محددة، أجرة السيارة إلى مكان معين، فتسمى هذه معاطاة.(25/5)
شروط البيع
يشترط للبيع سبعة شروط لابد منها، وقد أشار إليها المؤلف:(25/6)
التراضي
الشرط الأول: التراضي منهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) أي: لا يكون إلا عن تراضي، ويخرج بهذا المغصوب، فلو أخذت منه سلعة بدون اختيار منه فإن البيع باطل؛ وذلك لأنه لم يسمح بها، ولم يرضَ بذلك الثمن، إما لأنه بحاجة إلى سلعته كسيارته مثلاً أو بيته أو ثوبه، وإما أن الثمن الذي بذل له قليل، فلذلك اشترط التراضي، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] أي: عن رضاً من الطرفين.
وكذلك -أيضاً- لو أكره المشتري على الشراء، فإن البيع باطل.(25/7)
أهلية العاقد
الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، سواء كان هو البائع أو المشتري، فإذا كان سفيهاً أو صغيراً أو محجوراً عليه أو مملوكاً فلا ينفذ تصرفه، وأجازوا للصغير البيع والشراء في المحقرات، الصغير الذي دون العاشرة أو نحوها، فإذا جاءك -مثلاً- بريال أو بخمسة ريالات وطلب حاجة معروفة، وأعطيته، فإن هذا عادة ينفذ؛ لأنه في الغالب يتسامح فيه، وأما إذا جاء بمال كثير كخمسين أو مائة فالأصل أن أهله لا يولونه مثل هذا، فلابد أنه أخذها من غير رضا، فلا يجوز أن ينفذ بيعه وشراؤه، وهكذا -مثلاً- لو أخذ كيساً أو ثوباً له قيمة أو كتاباً له قيمة وجاء به ليبيعه، فالعادة أن أهله لا يوافقون على توكيله في هذا، فلابد أن يكون العاقد جائز التصرف، وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحجر متى يجوز تصرفه.(25/8)
كون المبيع مالاً
الشرط الثالث: كون المبيع مالاً، وهو ما فيه منفعة مباحة، فلا يجوز بيع ما ليس فيه منفعة، أو فيه منفعة ولكنها محرمة مثل الخمر، كما ذكر الله في قوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، وكذلك إذا كانت المنفعة ليست مباحة مطلقاً كالكلب، فإنه وإن كان فيه منفعة الحراسة والصيد، لكنها منفعة خاصة لمن يحتاج إلى ذلك.
وكذلك الحشرات ليس فيها منفعة، فإذا كان فيها منفعة خاصة فإنه يجوز بيعها، مثل بيع النحل؛ لأنه يستخرج منه العسل، فيجوز بيعه ولو كان من الحشرات التي هي شبيهة بالذباب، ومثل بيع دود القز، فإن نسيجه ينتج منه الحرير، ونسجه مثل نسج العنكبوت إلا أنه أرق وألين، فيؤخذ هذا النسج وينسج منه ثياب لينة رفيعة الثمن، فيجوز بيع غزله، ويجوز بيع الدود نفسه، وأما بقية الحشرات فلا يجوز بيعها، وكذلك كل ما لا منفعة فيه.
ويجوز بيع ما فيه منفعة مباحة ولو كان حرام الأكل، مثل الحمار الأهلي، فمنفعته مباحة، والناس يحتاجون إليه للحمل عليه وركوبه عادة، وإن كان غير مأكول، فبيعه متعارف عليه.(25/9)
كون المبيع مملوكاً للبائع أو مأذوناً له فيه
الشرط الرابع: كون المبيع مملوكاً للبائع أو مأذوناً له فيه، ويخرج بذلك أن يبيع ما ليس في ملكه، فلا يبيع شاة غيره، ولا بيت غيره، ولو كان خاصاً بأبيه وأمه، إلا إذا كان موكلاً مأذوناً له في البيع فإنه يقوم مقام صاحب المال، وكذلك لا يشتري بمال غيره، فلو أعطاك إنسان ألفاً أو عشرة آلاف أمانة، فلا تقل: سوف أشتري له بها أرضاً أو داراً، ولو كانت رخيصة، بل احفظها له حتى تسلمها، ولا تقل: إن هذا أنفع.
ولا يجوز لك أن تبيع شاة غيرك، حتى لو جاء إنسان محتاج وسوف يدفع فيها ثمناً كبيراً فتقول: أبيعها لأجل المصلحة، لأجل هذه المصلحة التي ليس لها نظير، فلا يجوز ذلك، وما ذاك إلا لأنه في هذه الحال قد لا يرضى، وقد تكون حاجته إلى تلك الشاة أو ذلك الثوب أو ذلك الكيس أو ما أشبهه أشد، فالحفظ لهم أولى.
ولو اشتريت شاة ونويتها لزيد بدراهم عندك له، ثم قبلها زيد، أو كان عندك له دراهم، وعرفت بأنه بحاجة إلى شاة، ورأيت شاة مناسبة واشتريت تلك الشاة بدراهمه، فإن رضي فهي له، وإن سخط لزمتك أنت، ولا ترجع لصاحبها البائع، إلا إذا أخبرته وقلت: إني أشتريها لزيد، وقد لا يكون موافقاً؛ لأنه غائب وعندي له دراهم، فإذا لم يرضها في هذه الحالة فإن صاحبها يقبلها؛ لأنك أخبرته بأنك لا تشتريها لنفسك، وإنما هي لإنسان عندك له مال، وهو لم يرضَ.
أما إذا كان حاضراً، واشتريت له بماله، وأقرك، وانتهى العقد، وهو ساكت ويرى تصرفك، فالصحيح أنه يلزمه ذلك، وإذا تم البيع فليس له الرجوع، وليس لصاحبها أن يلزم.
وهذا يعتبر من الشروط المشهورة، وهو كون البائع مالكاً للعين أو وكيلاً في تلك العين مأذوناً له فيها.(25/10)
القدرة على التسليم
الشرط الخامس: القدرة على التسليم، ويخرج به إذا كان لا يقدر على تسليمه فإنه لا يصح العقد، ومثلوا لذلك ببيع الجمل وهو شارد، فإنه عادة إذا شرد لا يستطيعون اللحوق به، توجد عندهم الخيل، ولكن قد لا تدركه، وقد تدركه ولكن يغلب الفرس بقوته، فربما صدمها وسقطت؛ فلذلك قالوا: لا يباع الجمل وهو شارد.
ويمكن في هذه الأزمنة أن يدرك بالسيارات، وإن كان قد يسلك طريقاً صعباً لا تسلكها السيارات، إذا كانت الطريق فيها شعاب وأشجار وحجارة ومرتفعات ومنخفضات، فالجمل قد يصعد الجبال، وقد يسرع السير في تلك المرتفعات ولا يهمه، فلذلك لا يصح بيعه حتى يقدر على تسليمه.
وكذلك العبد الآبق -الهارب- لا يجوز بيعه؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
وهكذا بيع الطير في الهواء ولو ألِف الرجوع كالصقر والبازي والباشق التي تعلم لأجل الصيد بها، إن كان طائراً في الهواء فالعادة أنه لا يفهم، وإذا قيل له: ارجع، فلا يدري ولا يرجع، وإن كان أهله يشيرون إليه إشارات فينزل بها لهم، ولكن ليس ذلك مطرداً؛ لذلك لا يجوز بيع الطير في الهواء، وهكذا الطيور المأكولة، لو مر بك قطيع من الحمام في السماء فلا يجوز أن تقول: أبيعك يا فلان خمساً من هذه الحمام، سأرميها وأسقطها؛ لأن هذا ليس في إمكانك، وليست في ملكيتك، ولو كنت معتاداً أن تصيب إذا رميت، فلا يجوز بيعه وهو في الهواء.
وكذلك السمك في البحر، فالعادة أنه يكون بعيداً، وقد يهرب إذا نزل إليه أحد ليصيده، فلا يجوز بيعه وهو في هذه الحال، وهذه أمثلة.(25/11)
العلم بالمبيع رؤية أو صفة
الشرط السادس: أن يكون معلوماً لهم برؤية أو صفة تكفي للسلم.
المبيع لابد أن يكون مرئياً أو موصوفاً صفة توضحه، فالمرئي مثل الجمل تشاهده وتنظر إليه، ومثل الثوب تقلبه، ومثل القدر ترفعه وتنظر فيه، ومثل الكتاب تقلب ورقاته وتعرفه؛ فهذا بيعه صحيح بعد رؤيته وتقليبه، والغائب لابد من وصفه وصفاً دقيقاً لا يكون معه اختلاط.
وسيأتينا في باب السلم أنه لا يجوز السلم في الأشياء التي لا تنضبط بالوصف، كالتي تدخلها الصناعات اليدوية، فعلى هذا لابد أن يكون منضبط الصفة، مثل ثوب من صفته كذا وكذا، نوع القماش كذا وكذا، طوله كذا، عرضه كذا، شاة صفتها كذا، ولونها كذا، سمينة أو متوسطة أو هزيلة، وسنها كذا وكذا، وكذلك -مثلاً- فيما ينضبط بالصفة من الأحذية أو الكتب والرماح والسيوف والأقواس بأنواعها، والحبوب والثمار التي توصف وتنضبط بالصفات، كعشرين صاعاً من بر من نوع كذا وكذا، أو من تمر، ولا شك أن هذه تنضبط بالصفات.(25/12)
العلم بالثمن
الشرط السابع والأخير: كون الثمن معلوماً؛ وذلك لأنه أحد العوضين، والعوض لابد أن يكون معلوماً للمتعاقدين، فالثمن عوض يبذله المشتري، فلابد أن يكون معلوماً بالعدد أو بالنوع، فإذا كان في البلد عملات مختلفة، فيها -مثلاً- جنيه سعودي، وجنيه مصري، وجنيه سوداني، فلابد أن تقول: بمائة جنيه.
وتعينها، وإذا كان في البلد ريال سعودي ويمني وقطري، فلابد أن تحدد الريال الذي تبيع به من أي العملات هو، وإذا كان فيها -مثلاً- دينار كويتي ودينار بحريني ودينار أردني فلابد أن تحدد بأي الدنانير هو، وهكذا إذا كان فيها عملتان مختلفتان، فإذا كان فيها دينار ودولار فلابد أن يحدد البيع بأيهما، فلا يقول -مثلاً-: بمائة.
ويسكت، لابد أن يبين النوع، مائة دينار، مائة دولار، مائة ريال وهكذا، فيجب أن يكون الثمن معلوماً.
وكذلك -أيضاً- العدد، بأن يقول: بعشرين، بثلاثين، بمائة وما أشبه ذلك، فلا يصح بما ينقطع به السعر، أي: بما تقف عليه السلع، كأن يقول: أنا جلبت هذه الأكياس، خذ منها عشرة بالسعر الذي أبيع به في السوق، وما ينقطع به السعر، وهذا فيه خلاف، ولعل الأقرب أنه جائز إذا كان السعر عادة معيناً، ومن منع من ذلك فهو مخافة أن يكون البيع مجهولاً، وأن يكون السعر في السوق متفاوتاً، فقد يبيع كيساً بمائة، وقد يبيع كيساً بتسعين، وقد يبيع آخر بمائة وعشرة، فلذلك لابد أن يحدد السعر.(25/13)
تفريق الصفقة
يقول المصنف: [وإذا باع مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، أو باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة، أو باع عبداً وحراً صفقة واحدة، أو خلاً وخمراً صفقة واحدة؛ صح في نصيبه من المشاع، وفي عبده وفي الخل لقسطه، ولمشتر الخيار إذا لم يبع صاحبه أو صاحب القسم الثاني] .
تسمى هذه: مسائل تفريق الصفقة، وهي التي تصح الصفقة في بعض البيع دون بعض، فلو كان لك أرض مساحتها ثمانمائة متراً، مشتركة بينك وبين زيد، ثم جاءك إنسان وقال: بعني هذه الأرض بمائة ألف.
فبعتها بمائة ألف، وشريكك ما وكلك، بل هو غائب لم يحضر ولم يدر، ففي هذه الحال إذا جاء شريكك وقال: لا أوافق.
فإن المشتري يأخذ نصيبك فقط، وهو نصف الأرض أربعمائة، أو يردها ويقول: لا أريد إلا الجميع، فله الخيار في ذلك، وحيث إنك بعت نصيبك من هذه الأرض فإن لشريكك أن يشفع فيأخذ نصيبك، ويعطيك الثمن الذي بعت به.
وكذلك إذا بعت عبدك وعبد زيد، وهو عبد واحد مشترك بينكما فبعته، وشريكك لم يقبل، أو كانا عبدين، إنسان يريد أن يشتري عبدين فبعت عبدك وعبد زيد صفقة واحدة بعشرة آلاف مثلاً، ثم امتنع صاحب العبد الآخر من بيعه؛ فإن المشتري له الخيار أن يأخذ عبدك أو أن يرد الجميع ويقول: لا أريد إلا الاثنين.
وكذا لو أخذ شاتين، شاة لك وشاة لزيد، وقال: لا أريد إلا اثنتين.
فبعت شاتك وشاة زيد ولم يرض زيد، فإن البيع يصح في شاتك، ولا يصح في شاة زيد إلا برضاه، وإذا لم يرض فللمشتري الخيار.
وكذلك لو باع ما لا يحل مع ما يحل، فلو باع عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً، فالحر لا يجوز بيعه، والخمر لا يجوز بيعه، فإذا باع بألف خلاً وخمراً صح في الخل؛ لأنه ينتفع به، وهو مباح، ولم يصح في الخمر، وللمشتري الخيار لو كان المشتري يعتقد أن كليهما خل، ولم يظن أن أحدهما خمر.(25/14)
حرمة البيع بعد النداء الثاني للجمعة إلا لحاجة
يقول: [ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة قبل ندائها الثاني؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] النداء الثاني هو الذي عند جلوس الإمام، فإذا نودي للصلاة بالنداء الثاني حرم البيع والشراء، ومن باع أو اشترى فالبيع باطل، قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع، والنهي يقتضي الفساد، واستثني صاحب الحاجة، إذا كان هناك حاجة ملحة شديدة، كأن يكون -مثلاً- بحاجة إلى ثوب ليستتر به في الصلاة، ووجد امرأة أو نحوها تبيع، فإنه يشتري ذلك، ويصح البيع، وكذلك لو اشترى -مثلاً- طعاماً وكان في شدة الجوع، جاز شراؤه لأنه مضطر، أما من لا تلزمه الجمعة كالمرأة والصغير فإنه لا حرج في بيعه وشرائه إلا من الرجال، أما سائر العقود فتصح بعد نداء الجمعة، كعقد النكاح وعقد الوقف وعقد الخلع؛ لأنها ليست من جنس البيع، ولا تدخل في مسماه.(25/15)
بيوع لا تصح
لا يصح بيع ما يستعان به على معصية، فإذا عرفت -مثلاً- أن إنساناً يشتري منك العنب ليعمله خمراً حرم عليك بيعه، أو يشتري منك عنباً ليعصره ويعمله خمراً حرم عليك أن تبيعه؛ وذلك لأن فيه مساعدة له على المنكر، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، وكذلك السلاح في فتنة بين المسلمين، فإذا عرفت أنه يشتري منك هذا السيف ليقتل به مسلماً، أو هذا الرصاص أو البارود ليقاتل به المسلمين، حرم عليك أن تبيعه؛ وما ذاك إلا لأنه يقتل به بريئاً، فإذا بعته أعنته على منكر.
وكذلك لا يجوز بيع عبد مسلم على كافر إذا لم يعتق عليه، أما إذا عتق عليه كأبيه أو أخيه أو ابنه فيصح، فإذا أسلم عبد، وكان سيده مسلماً، فإنه لا يجوز أن يباع على كافر، إلا إذا كان الكافر ممن يعتقه إذا اشتراه؛ لأن العبد إذا اشتراه أبوه عتق، أو اشتراه ابنه عتق، أو اشتراه أخوه أو عمه أو خاله يعتق عليهم، فأما إذا كان لا يعتق عليه كابن عمه أو ابن خاله ونحوهم فلا يجوز بيعه عليه؛ وذلك لأن فيه إهانة للمسلم، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] ، وإذا تولى عليه وهو مسلم فلابد أنه يؤذيه، ولابد أنه يهينه ويمتحنه ويشق عليه.(25/16)
حرمة بيع الرجل على بيع أخيه
يقول: [وحرم ولم يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه] .
ورد النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) ، وقال: (لا يبيع المسلم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وصورة ذلك: إذا رأيت جارك باع ثوباً بعشرة، وأشرت إلى المشتري وقلت: رده وأنا أبيعك مثله بتسعة.
فيرده لأجل رخص الثمن، وكذلك لو رأيت جارك اشترى شاة أو ذهباً وباعه له البائع بمائة -مثلاً-، ثم إنك رغبت فيه، فأشرت إلى البائع وقلت له: استرجع شاتك أو ذهبك وأنا أشتريها منك بأكثر، أنا أدفع لك في الشاة مائتين أو مائة وخمسين، فحمله على ذلك استعادة تلك السلعة طمعاً في هذا الثمن الزائد الذي زدته عليه، ولا شك أن هذا فيه ضرر بالمسلم.
والعلة في تحريم ذلك أنه يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنك إذا أفسدت عليه صفقة حقد عليك، فإنه قد باع هذا الثوب بعشرة بيعاً جازماً، ولما باعه أشرت إلى المشتري وقلت: أنا أعطيك مثله بتسعة.
فقال: خذ ثوبك ورد علي دراهمي.
ولا يدري ما السبب، فإذا عرف أن السبب كونك أنت جاره، ومع ذلك أفسدت عليه هذا المشتري أو هؤلاء المشترين حقد عليك.
وكذلك -أيضاً- الشراء على شرائه، كما لو جلب عليه سمن فاشتراه بمائة، وقبل أن يتفرقا قلت لصاحب السمن: استرجعه وأنا أعطيك مائة وعشرة.
فاستعاده، فلا شك أن هذا يعتبر ضرراً؛ لأنه قد جزم على الشراء، وقد اشترى هذا السمن بمائة، فأنت أفسدت عليه العقد، وطلبته بمائة وزيادة، فتكون بذلك قد أبطلت عليه تجارته أو أغررت به.
فالحاصل: أن هذا ونحوه من جملة ما جاء الشرع بالمنع منه، وهذا من الأشياء التي فيها ضرر على الطرفين، والعلة في تحريم ذلك ما يسببه من العداوة والبغضاء والحقد بين المسلمين، وإثارة الشحناء، فيقول: فلان كلما اشتريت شيئاً لمز صاحبه، وزاد علي، أو اشتراه من صاحبه بعد أن اشتريته، وكلما بعت على أحد الزبائن أشار إليه واجتذبه إليه، فهو مضار بي، ويحرص على أن يفعل بي ما يضرني.
ولا شك أن هذا مما جاءت الشريعة بالنهي عنه؛ حتى يكون المسلمون إخوة متحابين في الله.(25/17)
شرح أخصر المختصرات [26]
الشروط في البيع منها ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد، فالشروط الصحيحة هي التي تكون من مقتضى العقد ولا تخالفه، والشروط الباطلة هي التي تنافي مقتضى العقد وتخالفه، فهذه تفسد عقد البيع وتبطله.(26/1)
الشروط في البيع
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والشروط في البيع ضربان: صحيح: كشرط رهن وضامن وتأجيل ثمن، وشرط بائع نفعاً معلوماً في مبيع كسكنى الدار شهراً، ومشتر نفع بائع كحمل حطب أو تكسيره، وإن جمع بين شرطين بطل البيع.
وفاسد يبطله: كشرط عقد آخر من قرض وغيره، أو ما يعلق البيع كبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد.
وفاسد لا يبطله: كشرط أن لا خسارة، أو متى نفق وإلا رده، ونحو ذلك.
وإن شرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ] .
بدأ المؤلف بالشروط، وهي جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: علامات الساعة.
وفي اصطلاح الفقهاء: الشرط إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة.
ويتضح بالأمثلة التي تأتي إن شاء الله، وذكر أن الشروط في البيع نوعان: نوع صحيح، ونوع باطل، والباطل ينقسم إلى نوعين: نوع يبطل العقد، ونوع يبطل الشرط وحده.(26/2)
الشروط الصحيحة في البيع
ذكروا أن الصحيح ثلاثة أنواع: الأول: شرط مقتضى العقد.
الثاني: شرط البائع.
الثالث: شرط المشتري.
والشروط الأصل أنها صحيحة، ودليل ذلك الحديث المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) فدل على أن الشروط كلها معتبرة إلا إذا خالفت الشرع.
فمثال شرط مقتضى العقد -وهو لم يذكر هنا-: لو اشترط شرطاً لا أهمية له، كأن يقول: اشتريت منك الثوب بشرط أن ألبسه، أو أهديه، أو لولدي، واشتريت منك الدابة بشرط أن أتمكن من حلبها، أو من ركوبها إذا كانت مركوبة، أو من ذبحها إذا كانت مما يؤكل، واشتريت منك الدار بشرط أن أسكنه أو أؤجره، أو أسكن فيه أولادي كل هذا لا حاجة إليه؛ لأنك إذا ملكته فلك التصرف فيه، إذا ملكت الكتاب فلك أن تنسخه، ولك أن تقرأ فيه، ولك أن تعيره من يقرأ فيه، ولك أن تبيعه، ولك أن تورثه من بعدك، فقد ملكته، وإذا اشتريت الثوب فقد ملكته، فلك أن تلبسه، ولك أن تكسوه أحد أولادك أو من تريد، ولك أن تبيعه، فقد دخل في تصرفك، فهذا النوع الأول يسمونه: شرط مقتضى العقد؛ لأن العقد يقتضي ملكية المشتري للسلعة، ويقتضي ملكية البائع للعوض، وهو الثمن الذي بذلته للبائع قد دخل في ملكه، فهذه الدراهم ثمن هذا الثوب أو الكيس قد ملكها، فله أن يتصرف فيها كيف يشاء.
أما شروط البائع فالبائع قد يكون محتاجاً للسلعة، فيقول: بعتك البيت بشرط أن أسكنه شهراً، يعني: أنه بحاجة إلى سكناه هذه المدة، أو سنة -مثلاً-؛ فله ذلك، أو يقول: بعتك السيارة بشرط أن تبقى معي خمسة أيام أنقل عليها رحلي أو نحو ذلك، فهذا شرط له فيه مصلحة، أو قال: بعتك الكتاب بشرط أن أستعيره منك لمدة خمسة أيام أقرأ فيه أو نحو ذلك، فيشترط البائع منفعة في المبيع، وتكون تلك المنفعة مباحة، أما إذا كانت لا تباح فلا يجوز، فلو قال: بعتك الأمة بشرط أن تمكنني من وطئها شهراً أو يوماً، فلا يجوز؛ وذلك لأنها لما انتقلت من ملكه حرم عليه وطؤها، وكذلك الشروط التي فيها شيء يدخل في الحرام، ومنه إذا قال: بعتك الشاة بشرط أن تقرضني مائة.
فإن هذا قرض جر نفعاً فيكون ربا؛ لما ورد في بعض الأحاديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) فمثل هذه شروط باطلة.
والشروط التي من قبل المشتري: إما صفة في المبيع، وإما خدمة من البائع، فالصفة مثالها أن يقول: اشتريت منك العبد بشرط أن يكون كاتباً.
فإن هذه الصفة تزيد في قيمته، أو الأمة بشرط أن تكون بكراً، أو الدابة بشرط أن تكون هملاجة أو ذات لبن، فهذا ونحوه يصح لأن فيه منفعة للمشتري؛ لأنها إذا فقدت ثبت له الخيار، فإذا اشترى الدابة ولم يجد فيها اللبن جاز له ردها، أو وجدها شروقاً شروداً وقد اشترط أن تكون هملاجة -يعني: مذللة- معسوفة، فإن هذا يفوت عليه منفعة، وكذلك إذا شرط صفة في المبيع له فيها منفعة.
ومن الشروط التي للمشتري إذا اشترط على البائع: خياطة الثوب أو تفصيله، كأن يقول: اشتريت منك هذه القطعة القماش بشرط أن تفصلها، أو بشرط أن تخيطها، فإن هذا فيه مصلحة للمشتري، أو يقول: اشتريت منك هذه الحزمة الحطب بشرط أن توصلها إلى المنزل، أو بشرط أن تكسر أعواد هذا الحطب، فإن هذا -أيضاً- فيه مصلحة للمشتري، وهكذا إذا اشترط عليه حمل الكيس فقال: اشتريت منك هذا الكيس بشرط أن تحمله إلى سيارتي أو إلى بيتي، ولا شك أنه يزيد في الثمن مقابل أجرة إيصاله؛ وذلك لأن العادة أن هناك قيمتان: قيمة للكيس، وأجرة لإيصاله إلى المنزل، فمعلوم أنك إذا اشتريت كيسين: كيس ستحمله أنت، والكيس الثاني سيحمله البائع معك إلى منزلك الذي يبعد -مثلاً- عن المستودع هذا حوالى نصف كيلو؛ فلا شك أنه سيزيد عليك في قيمة الكيس الذي يحمله، ولكن يعتبر هذا شرطاً إذا اشترطت أن يوصله.
فالحاصل: أن هذه شروط صحيحة.(26/3)
حكم الجمع بين شرطين في البيع
قال: [إن جمع بين شرطين بطل البيع] ؛ لأنه ورد في الحديث (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن شرطين في بيع) ، وقال: (لا شرطان في بيع) وهذا الحديث أشكل على كثير من العلماء، وتوقف كثير منهم وتورعوا عن هذه الشروط، وورد -أيضاً- حديث بلفظ: (نهى عن بيع وشرط) ، ومع ذلك فالصحيح أنها تجوز الشروط التي من مصلحة العقد، وقد ثبت في الصحيح أن جابراً باع جمله على النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط حملانه إلى المدينة، وهذا شرط من مصلحة البائع، أي: لمصلحة جابر، فهو دليل على جواز جنس الشروط إذا كان فيها مصلحة، والشرع لا ينهى عن شيء فيه مصلحة وليس فيه مضرة.
وحديث: (ولا شرطان في بيع) نلتمس له صورة تنطبق عليه، فيحمل على شرطين باطلين؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) ، ويراد بـ (كتاب الله) شرع الله، أي: كل شرط مخالف لشرع الله فهو باطل، فعلى هذا إذا قال: اشتريت منك الدابة بشرط أن تكون هملاجة ولبوناً.
فهل هذان شرطان؟ الصحيح أنه جائز، والهملاجة: المذللة، واللبون: ذات اللبن، والمعنى: أنه اشترط فيها صفة فيها منفعة، فهي صفة ينتفع بها هذا المشتري، فلا محذور في ذلك، وكذلك يجوز على الصحيح أن يقال: اشتريت منك هذا القماش بشرطين: أن تفصله وأن تخيطه.
فهذا من مصلحة المشتري، ولا محذور في ذلك، خلافاً لما فهمه كثير من الفقهاء، وكذلك لو قال: اشتريت منك الحطب بشرط أن تحمله ثم تكسره.
فهذان -أيضاً- من مصلحة المشتري؛ وذلك لأنه قد يشق عليه حمله وتكسيره، فله في ذلك مصلحة، ولا محذور في ذلك.
وعلى هذا كيف يحمل حديث: (لا شرطان في بيع) ؟ يحمل على أن المراد الشرطان الفاسدان اللذان ينافيان مقتضى العقد، كأن يشترط -مثلاً- أن لا خسارة عليه، أو يشترط أن الولاء له، أو ما أشبه ذلك من شروط تنافي مقتضى العقد، ويمكن أن يدخل في ذلك -أيضاً- الشروط الربوية التي توقع في المحظور من الربا ونحوه.
والحاصل: أن هذه الأنواع شروط صحيحة، سواء كانت شروطاً من مقتضى العقد، أو شروطاً من البائع كسكنى الدار شهراً، أو حملان البعير إلى موضع معين، أو من المشتري كحمل الحطب وتكسيره، وخياطة الثوب وتفصيله، وكذلك صفات المبيع ككون العبد كاتباً أو خصياً أو مسلماً، والأمة بكراً، والدابة هملاجة أو لبوناً، وهكذا الصفات في المبيع.(26/4)
الشروط الباطلة في البيع
الشروط الفاسدة في البيع منها: شروط تنافي مقتضى العقد، وهذه تفسد العقد، فإذا قال -مثلاً-: بعتك الكتاب بشرط ألا تقرأ فيه، ولا تبعه، ولا تعره، ولا تمكن أحداً يقرأ فيه.
فماذا أنتفع به وما حاجتي به؟ أو يقول: بعتك البيت بشرط ألا تسكنه، وألا تؤجره، ولا تستبدله، ولا تبعه فهذه شروط تفسد العقد، وهكذا بقية أنواع الانتفاع؛ لأنك -مثلاً- ما اشتريت الثوب -مثلاً- إلا لتلبسه أو لتهبه أو لتبيعه، فكيف يمنعك من ذلك؟! وما اشتريت هذا الطعام إلا لتأكله، أو لتتصدق به، أو لتطعمه ضيفك أو أهلك، فكيف يشترط عليك منعك من ذلك؟! فهذا ينافي مقتضى العقد.
ومن الشروط ما يبطل الشرط ويصح العقد، ومثلوا لذلك بما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق) ورد هذا في قصة بريرة لما شرط أهلها أن الولاء لهم لما أعتقوها، وإنما الولاء لمن أعتق.
فإذا قال: بعتك العبد بشرط ألا تعتقه، ولا تستخدمه، ولا تبيعه، أو بشرط أنك إذا أعتقته فلي الولاء.
فمثل هذا شرط باطل، والعقد صحيح.
وهكذا في الرهن، لو قال: اشتريت منك -مثلاً- هذه الأكياس، ورهنتك هذا السلاح، بشرط أنك لا تبعه إذا حل الدين.
أو قال -مثلاً-: إذا حل الدين ولم أوفك فالسلاح لك.
فهذا كله شرط باطل، والبيع صحيح، وماذا يفعل؟ يبيعه إذا حل الدين، ويستوفي دينه من ثمنه، وبقية الثمن يرده لصاحبه، وقد ورد في الحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) .
هذه أمثلة لهذه الشروط ما يصح منها وما لا يصح.(26/5)
شرح أخصر المختصرات [27]
قد يحصل البيع والشراء على عجلة وعدم تروٍ وتمهل في الأمر، وفي هذه الحالة قد يندم أحد المتعاقدين، وإذا ندم كان بإمكانه أن يرد السلعة أو يرد الثمن، ولكن في مدة معلومة، فإذا مضت تلك المدة لم يكن له أن يرد، وهذا هو ما يسمى في الشريعة (الخيار) ، وهو دليل على يسر الشريعة وسماحتها وكمالها وشمولها لجميع جوانب الحياة.(27/1)
الخيار في البيع وأقسامه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والخيار سبعة أقسام: خيار مجلس: فالمتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما عرفاً.
وخيار شرط: وهو أن يشترطاه أو أحدهما مدة معلومة.
وحرم حيلة ولم يصح البيع، وينتقل الملك فيهما لمشتر، لكن يحرم، ولا يصح تصرف في مبيع وعوضه مدتهما إلا عتق مشتر مطلقاً، وإلا تصرفه في مبيع، والخيار له.
وخيار غبن يخرج عن العادة لنجش أو غيره، لا لاستعجال.
وخيار تدليس بما يزيد به الثمن، كتصرية وتسويد شعر جارية.
وخيار غبن وعيب وتدليس على التراخي ما لم يوجد دليل الرضا إلا في تصرية فثلاثة أيام.
وخيار عيب ينقص قيمة المبيع، كمرض وفقد عضو وزيادته، فإذا علم العيب خيّر بين إمساك مع أرش أو رد وأخذ ثمن.
وإن تلف مبيع، أو أعتق ونحوه تعين أرش، وإن تعيب عنده أيضاً خير فيه بين أخذ أرش ورد مع دفع أرش ويأخذ ثمنه، وإن اختلفا عند من حدث فقول مشتر بيمينه] .
الخيار في اللغة: هو التخيير بين شيئين، كقولك مثلاً: اختر هذا أو هذا.
وعند الفقهاء: الخيار: طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد؛ وذلك لأن البيع قد يقع في حال عجلة، وفي هذه الحال قد يندم أحد المتعاقدين، فإذا ندم كان في إمكانه الرد، وإذا مضت المدة لم يتمكن من الرد، فلذلك شرع الخيار، وذكر أنه سبعة أقسام، ولكنه ذكر ثمانية.(27/2)
خيار المجلس
القسم الأول: خيار المجلس، أي: مكان موضع العقد، سواء كانا جالسين أو واقفين أو راكبين أو ماشيين، ما داما مجتمعين فإن الخيار ثابت لكل منهما، ودليله: قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا فقد وجب البيع) فسبب ذلك: أنك -مثلاً- قد تشتري السلعة، ثم يتبين لك أنها عندك، فتقول: لم يحصل تفرق، خذ سلعتك ورد دراهمي.
أو -مثلاً- تبيع السلعة، ثم يتبين أنك بحاجة إليها، فتقول: رد علي سلعتي وخذ دراهمك؛ فإني لا أستغني عنها؛ فهذا سبب شرعية خيار المجلس، وهذا مما جاء به الشرع، ولم يكن معروفاً قبل الإسلام، إلا أنهم كانوا إذا تبايعوا وتعاقدوا فإنه قد يندم أحدهما ويطلب الإقالة، فالحاصل أن في هذا دليلاً على شرعية هذا النوع.
وكذلك في كل عقد من العقود التي بمعنى البيع، مثاله: إذا جئت بجنيه، وطلبت من الصيرفي تحويله إلى دراهم، فقال: أشتريه منك بخمسمائة وخمسين، ثم سلم لك القيمة واستلم الجنيه، ثم تذكرت أنه لابد أن يشتريه بستمائة، فندمت وقلت: رد علي جنيهاتي وخذ دراهمك، نحن لا نزال في المجلس.
فيلزم بأن يرده عليك.
وكذلك الإجارة: لو استأجرت من المكتب داراً بعشرة آلاف لمدة سنة أو نصفها، وبعدما سلم لك المفاتيح، وقبل أن تتفرقا، وقد أعطيته الأجرة أو نصفها تذكرت أنك مغلوب، وأنه يوجد عند فلان أرخص منها، وأنها لا تساوي إلا ثمانية، فندمت وقلت: رد علي دراهمي وخذ مفاتيح دارك، لا حاجة لي فيها، فهذا يصح.
وهكذا -أيضاً- العكس: لو أن صاحب الجنيه ندم، وقال: أنا اشتريت منك الجنيه بخمسمائة وخمسين، وأنا أعرف أنه غالٍ، لا أريده، رد علي دراهمي، أو أنا بحاجة إلى دراهمي ولا حاجة لي في هذا الجنيه، وكذا صاحب البيت إذا أجرك بعشرة، ثم بعد ذلك تذكر أنه يساوي اثني عشر، فقال: ندمت، لا أؤجره بهذا، رد علي مفاتيحي وخذ دراهمك، فمن ندم بعدما تم العقد، ورد في المجلس؛ فإنه يجوز ذلك.
وهكذا في الرهن، وفي السلم، وفي الشركات، وفي الصلح الذي هو بمعنى البيع وما أشبهها.
هذا النوع يسمى: خيار المجلس، ومتى يحصل لزوم البيع؟ بالتفرق بالأبدان، بأن يتفرقا، فإذا اشترى -مثلاً- الكيس، وحمله على سيارته، ثم ركب سيارته ومشى -مثلاً- عشرة أمتار، ثم ندم ورجع وقال: خذ كيسك.
لزم البيع، ولا يتمكن من إرجاعه؛ وذلك لأنه قد حصل التفرق، وكذلك لو ندم البائع بعدما ركب المشتري سيارته ومشى عشرة أمتار أو نحوها فأدركه أو اتصل به هاتفياً وقال: ندمت، رد لي أكياسي.
لا يصح، وقد وجب البيع، فالتفرق هو التفرق بالأبدان، هذا هو الصحيح، وخالف في ذلك المالكية والأحناف، وتكلفوا في رد هذا الحديث، فالإمام مالك رده لأنه مخالف لعمل أهل المدينة، وقال: لا أعرف أحداً يعمل به في المدينة من مشايخنا.
وقد خالفه كثير من العلماء في زمانه وبعده، وذكر ابن عزيز أنه حديث مشهور، وأنه معروف معمول به في البلد، وابن عزيز من علماء قريش من أهل المدينة، فعرف بذلك أن القول بكونه مخالفاً لعمل أهل المدينة غير صحيح، وأتباع مالك الذين قلدوه تمسكوا بأنه ليس هناك خيار مجلس، وتكلفوا في صرف الحديث عن ظاهره، فقالوا: المراد بالتفرق التفرق بالأقوال.
ولا شك أن هذا خلاف الواقع، وذلك لأنهما قبل الأقوال لا يسميان متبايعين، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان) فقبل أن يقول: بعني، وقبل أن يقول: بعتك، هل يسميان بيعان؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، وكذلك الأحناف أعذارهم لرد هذا الحديث غير سديدة، ولا عذر عن العمل بهذا الحديث.(27/3)
خيار الشرط
القسم الثاني من أقسام الخيار: خيار الشرط.
إذا اشترطا لهما أو لأحدهما مدة معلومة ولو طويلة فإنه لازم، ولابد من تحديد المدة، فيقول -مثلاً-: اشتريت السيارة بعشرين ألفاً، ولي الخيار أستشير مدة يوم أو يومين أو أسبوع.
اشتريت منك البيت، ولي الخيار مدة شهر أبحث عن جيرانه -مثلاً-، وأبحث عن صفاته الخفية، عن أسسه، وعما فيه من العيوب، فلي الخيار في هذه المدة شهراً مثلاً أو نحوه.
فإنه يصح ذلك، ولابد أن يحدد فيقول: شهراً هلالياً، أو أسبوعاً.
وكذلك -أيضاً- قد يكون البائع هو الذي يشترط، فيقول: بعتك الدار ولي الخيار شهراً أبحث هل أجد سكناً بثمنها أم لا.
فيكون له الخيار مدة شهر أو أسبوع على حسب ما يتفقان عليه، ويسمى هذا خيار الشرط، ويصح لكل واحد منهما، فيقول -مثلاً-: بعتك السيارة بعشرين ألفاً، ولي الخيار مدة أسبوع.
أو يقول: اشتريتها، ولي الخيار مدة عشرة أيام.
وفي هذه الحال لو ندم البائع والمشتري يريدها فإنها ترد، ولو ندم المشتري والبائع يريد التنفيذ فإنها ترد، فمن ندم منهما وطلب فسخ البيع فإنه يستحق ذلك.
والخيار يصح في البيع، ويصح في الصلح -الذي هو بمعنى البيع-، وفي السلم، وفي الإجارة، إذا قلت -مثلاً-: استأجرت منك هذه الدار ولي الخيار يوماً أو أسبوعاً.
جاز ذلك، فإن ندمت في هذه المدة، وإلا لزم عقد الإجارة.
وفي هذه المدة -مدة الأسبوع أو نحوها- الملك للمشتري، ومع ذلك لا يتصرفان في هذا المبيع، لا يتصرف المشتري ولا يتصرف البائع، يجوز للبائع إذا شرط الخيار في الدار مثلاً أن يسكنها، فله ذلك، مع أن له الخيار، ويمكن للمشتري أن يتصرف، فيركب السيارة -مثلاً- للتأكد من سلامتها، أو لمعرفة سرعتها، أو لمعرفة ما تحمله، أو يجرب الدابة إذا كانت مركوبة، يجربها ماذا تحمل، ويجرب لبنها هل فيها لبن كثير أم لا، يصح ذلك، وله أن يلبس الثوب ليقيسه أو ما أشبه ذلك، وفي هذه المدة لو انهدمت الدار فإنها من ضمان المشتري؛ لأنه هو الذي اشتراها في هذه المدة، وإذا كانت تؤجر يومياً فأجرتها للمشتري، والبائع قبض الثمن، فلو جعله في سلع وربح في هذين اليومين أو في هذا الأسبوع فالربح للبائع في هذا الثمن؛ لأنه قبضه على أنه ملك له، فالملك في العين للمشتري وله أجرتها، ولو -مثلاً- ولدت الشاة التي فيها خيار، فإن الولد يكون للمشتري، فيتبعها في البيع، وله أن يحلبها -مثلاً- في هذه المدة؛ لأن عليه علفها، والخراج بالضمان.(27/4)
خيار الغبن
النوع الثالث من أنواع الخيار هو: خيار الغبن، والغبن له ثلاثة أسباب: الأول: تلقي الركبان، فيشتري منهم ويغلبهم، فلهم الخيار إذا نزلوا إلى الأسواق فرءوا أنه غبنهم.
الثاني: الجهل بالسلع، كأن يأتي إلى صاحب الدكان فيقول: بكم هذا الثوب؟ بكم تبيعه؟ فيقول: كم تبذل؟ فيقول: عشرة.
فيقول: لا أبيعك.
فيقول: أحد عشر.
فيقول: لا.
فيقول: اثني عشر.
فيقول: لا.
ولا يزال يزيد ويعتقد أنه صادق، وهذا يسمى المسترسل، الذي لا يحسن أن يماكس.
ومثله -أيضاً-: لو زاد عليه البائع، فإن بعض الباعة يعتقد أن كل أحد يماكس، فإذا جاءه الجاهل قال له -مثلاً-: الثوب بعشرين.
ويشتري منه مباشرة، ولا يماكس ولا يراجع، ثم يتبين أنه باع الذي قبله بأحد عشر أو باثني عشر أو بخمسة عشر، فيقول: زاد علي الربع أو الثلث، فلي الخيار.
الثالث: زيادة الناجش، فإذا عرضت -مثلاً- السيارة للبيع بالمزاد العلني، وهناك إنسان يرغب فيها، فجاء إنسان لا يريد شراءها، ولكنه يريد نفع البائع، فجعل يزيد عليك، فإذا قلت -مثلاً-: بعشرة آلاف.
قال: بأحد عشر ألفاً.
فإذا قلت: باثني عشر.
قال: بثلاثة عشر.
فإذا قلت: بأربعة عشر.
قال: أنا أشتريها بخمسة عشر.
وهو لا يريدها، وإنما يريد زيادة الثمن لنفع البائع، فإذا تبين للمشتري أنه غبن، وأن سبب الغبن زيادة هذا الناجش، فإن له الخيار، فهو يقول: عرفت أنها لا تساوي هذه، وإنما ظننت أن هذا الذي يزيد صادق، وأنه عازم على شرائها، وتبين لي أنه ما أراد إلا إغراري أو نفع البائع.
هذه ثلاث صور للغبن: تلقي الركبان، وزيادة المسترسل، وزيادة الناجش.
ويمكن أن يكون هناك غبن يسير، فإذا كان الغبن -مثلاً- خمسة في المائة أو أربعة في المائة وما أشبه ذلك، فإنه يتسامح في مثل هذا، أما إذا كان الغبن الثلث أو الربع أو شيئاً كثيراً فلا يتسامح فيه، مثلاً: سيارة لا تساوي إلا أربعة آلاف، فزاد فيها ألفاً، أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا كله مما ينافي المصلحة، ومما ينافي النصيحة، والواجب أن البائع ينصح للمشترين، ويبين لهم الحقائق ولا يغلبهم، وكثير من الباعة يأخذون أموالاً لا تحل لهم بهذا، والواجب عليه أن يبيع على هذا وهذا بقيمة واحدة، يأتي العارف بالسلع فيقول: بكم هذه العمامة؟ فيعرف أنه عارف، فيقول: بعشرين.
ولا يزيد عليه، ثم يأتيه الجاهل فيقول: بكم هذه العمامة؟ فيقول: بأربعين.
فيقول: أسقط عني.
قال: أسقط عنك خمسة.
وإذا رحمه قال: أسقط عنك عشرة.
فيشتريها بثلاثين، فيبيع لهذا العارف بعشرين، ولهذا الآخر بثلاثين، فيكون قد أضر بهذا الجاهل، والواجب أن يسوي بينهما، وأن ينصح لهذا الجاهل، وهكذا في جميع السلع.(27/5)
خيار التدليس
النوع الرابع: خيار التدليس.
والتدليس: هو إظهار السلعة بمظهر غير ما هي عليه، كتسويد شعر الجارية وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، والمصراة التي جمع لبنها في ضرعها، كل هذا يسمى تدليساً، وهذا يعتبر غشاً، حيث أظهر السلعة بمظهر حسن وباطنها غير حسن، وهذا يحدث كثيراً، وهو داخل في الغش، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بائع بر، فأدخل يده فيه فأصابت بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال: أصابته السماء -يعني: المطر-.
قال: هلا جعلته أعلاه كي يراه الناس، من غش فليس مني) فاعتبر هذا غشاً، وكان عليه أن يجعل العيب ظاهراً، لكنه جعل المتندي والرطب باطناً، فإذا جاء يكيل أدخل الصاع حتى يأخذ من ذلك الرطب ويجعله في المكيال، ولا يتفطن المشتري، وهذا يعتبر غشاً وتدليساً.
وكذلك -مثلاً- إذا جعل أعلى الزنبيل شيئاً جيداً من القهوة أو من الهيل، وأسفله رديئاً، فيعتبر هذا غشاً؛ لأنه إذا جاءه الجاهل أخذ له من الأسفل ليخلطه ويلتبس عليه، وكذلك بائع اللحم الذي يبيع بالوزن، إذا أظهر اللحم الأحمر أمام المشتري، وأخفى عنه العظم أو العصب، وإذا جاء ليزن أخذه وجعله في الأسفل، ولا شك أن هذا يعتبر -أيضاً- تدليساً، وكل هذا واقع كثيراً.
مررت مرة ببعض الذين يبيعون الأعلاف، وإذا عنده أعلاف قد بقيت خمسة أيام، وقد يبس أعلاها، أما وسطها فإنه لا يزال ندياً، فإذا هو يحل الخيط عنها، ثم يأخذ اليابس والذابل ويجعله في الوسط، ثم يجعل الشيء الندي الذي لا يزال رطباً ندياً في الأعلى، فنصحته وقلت: هذا غش.
فقال: ما هذا غش، هذا أمام البائع وأمام المشتري.
فقلت: إن المشتري لا ينظر إلا إلى هذا الظاهر، ويعتقد أنه جميعاً سواء.
فقال: هذا كله أمامه، ثم قال: إن هذا المشلح الذي عليك إذا تحسست أسفله، فإنك تفك خياطته التي في الوسط وتجعل الأسفل في الوسط، أليس هذا غشاً؟ فقلت: ليس كذلك، ذلك لأنه ظاهر، والذي يشتري لابد أن يقلبه ويعرف أنه قد رد أسفله إلى أعلاه، بخلاف هذا.
فينبغي التنبه لمثل هؤلاء، ومنهم الذين يبيعون الفواكه والخضروات كالطماطم، فيجعلون الأعلى صالحاً، وكذلك الذين يبيعون التفاح أو نحوه، يجعلون أعلاه صالحاً، وأسفله رديئاً إذا كان في صناديق أو في كراتين، وهكذا باعة الرطب وما أشبهها، ولا شك أن هذا داخل في الغش، فإذا تبين أنه قد دلس عليه فإن له الخيار.
والفقهاء مثلوا للتدليس بتسويد شعر الجارية، فإذا كان يبيع جارية -يعني: أمة- قد ابيض شعرها من الكبر، فيسوده حتى يتوهم الذي يشتريها أنها شابة، وهذا غش، أو يجعده، والتجعيد: هو أن تعالج كل شعرة إلى أن تنعقد على أصلها، والشعر الجعد هو المتعقد، وهذا يوهم أنها شابة أو نحو ذلك.
كذلك جمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، والرحى حجر يركب على حجر، ويجعل القمح في وسطه حتى تدور وتطحنه، والذي يدور بها هو الماء، ويجعلون في هذه الرحى خروقاً، خرق في خشبة مثل اللوح، وخرق أمامها في خشبة كاللوح وهكذا، وهذه الألواح أطرافها في وسط الماء الذي يمر، فالماء يمر ويدفع هذا اللوح، فإذا دفع شيئاً استدارت الرحى قدر شبر، ثم جاء اللوح الذي بعده فدفعه الماء، فاستدارت قدر شبر، إلى أن تستدير، فإذا كان جري الماء جيداً فإن استدارتها تكون بسرعة، فتدور الرحى بسرعة، فيجمعون الماء -مثلاً- في خزان، ثم إذا عرضوها للبيع أطلقوا الماء بقوة، فإذا رآها المشتري تدور بسرعة يزيد في الثمن، ويعتقد أن هذه عادتها، هكذا مثلوا بهذه الأمثلة.
وعلى كل حال: لا شك أن هذا كله غش، والغش كثير، وأنواعه متكاثرة.(27/6)
خيار العيب
النوع الخامس: خيار العيب، وتعريفه: هو ما ينقص قيمة المبيع كمرضه وفقد سن أو عضو وزيادتهما، وزنا الرقيق وسرقته وإباقه وبوله في الفراش، هكذا يمثلون، والأمر أعم من ذلك، فالعيب: هو ما ينقص قيمة المبيع، فإذا اشترى الثوب، وبعدما اشتراه وجد فيه خرقاً أو خروقاً، استحق الرد؛ لأن هذا عيب، وكذلك إذا اشترى كيساً من القمح ثم وجد فيه دابة قد أفسدته، أو وجد فيه أخلاطاً من شعير أو نحوه، فهذا يعتبر عيباً، فله رده، أو اشترى بعيراً ووجده أعور أو وجده مريضاً، وكذلك إذا اشترى شاة ووجدها مصراة، أي: قد حبس لبنها في ضرعها يومين أو ثلاثة أيام، إلا أن المصراة ورد أن الخيار فيها ثلاثة أيام، وأنه إذا ردها يرد معها صاعاً من طعام من تمر أو نحوه عوضاً عن اللبن الذي كان فيها وقت شرائه لها.
أما إذا كانت مريضة فإن له الخيار، أو عوراء أو عرجاء فإن له الخيار، وهاهنا الخيار للمشتري، وإذا وجد البيت قد تصدعت منه الحيطان اعتبر هذا عيباً، وإذا وجد الأرض رديئة، وهو يعتقد أنها طينة، فإذا هي لا تصلح للغرس ولا للزرع، اعتبر هذا عيباً، فله أن يردها، وهكذا جميع العيوب، إذا وجد -مثلاً- في الإناء طروقاً، أو وجده متكسراً فإن هذا عيب، فله أن يرده.
فالحاصل: أن العيب كل ما ينقص قيمة المبيع.
وذهب بعضهم إلى أن الخيار على التراخي، ولعل الأقرب أنه على الفور، فإذا علم المشتري بالعيب فله الخيار بين أمرين: أن يطلب الأرش أو يرد المبيع.
والأرش: هو قيمة ما بين الصحيح والمعيب، فيقول -مثلاً-: أنا اشتريت الشاة بمائة، وذبحتها وتبين فيها عيب -مريضة أو نحو ذلك- والآن فاتته، فيقال: كم تساوي وفيها ذلك المرض؟ قالوا: تساوي ثمانين ريالاً، وأنا اشتريتها بمائة، فالفرق الخمس، فيرد عليه الخمس، وهكذا لو ماتت عند المشتري، وتبين أن موتها بسبب المرض، فيقال: كم قيمتها مريضة؟ وكم قيمتها سليمة؟ فينظر الفرق، فيدفعه البائع للمشتري، وهكذا لو قال -مثلاً-: إني لبست الثوب، وقد استعملته، ووجدت فيه خروقاً أو تمزقاً، فيقال: كم قيمته صحيحاً؟ قيمته عشرون، كم قيمته بهذه العيوب؟ خمسة عشر، فالفرق الربع، ويسمى هذا: الأرش، وهو فرق ما بين قيمة الصحة والعيب، ولا يجوز والحال هذه أن يستعمله وقد عزم على رده، فإذا عزم على رده فإنه يوقف استعماله، فيخلعه إن كان ملبوساً، ويوقفه إن كان مركوباً، أو كان مشروباً وما أشبه ذلك، وإذا كان قد أكل من الكيس فإنه يتوقف، ويقدر ما أكله، فيقول: أكلت منه ربعه أو ثلثه -أو ما أشبه ذلك- ولا أريد الباقي، خذه -أيها البائع- لأنك خدعتني.
فله أن يرده ويأخذ الثمن، أو يمسكه ويأخذ الأرش.
وهنا قد يحصل الاختلاف: فإذا قال البائع: هذا العيب حصل عندك، أنت الذي أحرقت الثوب، أو أنت الذي كسرت الزجاج -مثلاً- أو قد تصدع عندك، أو هذه الدابة ما عرجت إلا عندك، أو ما فقئت عينها إلا عندك، والمشتري يقول: بل هذا عيب قديم قبل أن أشتريها، ففي هذه الحال يكون الحكم بأن يحلف المشتري أنه اشتراها وفيها هذا العيب، وأنه عيب قديم، فيحلف المشتري أني اشتريتها وفيها هذا المرض، أو وفيها هذا التكسر، أو وفي الجدار هذا التصدع، وبعد حلفه له أن يرده، وله أن يأخذ الأرش.
وإذا تلفت العين المعيبة فإنها من ضمان المشتري، ويرد البائع عليه القسط الذي بين الصحة والعيب، يعني: أرش العيب.
وإذا وجدت قرينة تدل على أن العيب حصل عند أحدهما عمل بها، فإذا كان الجرح يسيل عرف بأنه حدث عند المشتري، وإذا كان -مثلاً- بياض في العين عرف أنه عند البائع، فإذا وجدت بينة لأحدهما عمل بها، سواء بينة تشهد بأنه قديم أو أنه حادث، فيعمل بالبينة، ولا تستعمل اليمين إلا عند عدم البينة، والملك في هذه الحال للمشتري، إلا أنه إذا عزم على الرد فإنه يتوقف عن استعمالها كما ذكرنا.
بقي عندنا: خيار التخبير، وخيار الاختلاف، وكذلك ما يحتاج إلى حق توفية، نؤجلها ونستمع إلى بعض الأسئلة.(27/7)
الأسئلة(27/8)
حكم جعل البضاعة عند التاجر فما باعه فله الربح وما لم يبعه يرده
السؤال
ما حكم ما يتعامل به بعض شركات الألبان وغيرها، حيث يجعلون البضاعة عند صاحب التموينات، فما باعه فله الربح، وما انتهى مدة صلاحيته تسترجع الشركة ما فسد من البضاعة؟
الجواب
لا بأس بذلك، إذا جعلوه عنده كأنهم يقولون: إنه وديعة عندك، الذي تبيعه هو لك ونأخذ ثمنه، والذي لا تبيعه يبقى عندك وتمضي مدته يعتبر كأنه وديعة.(27/9)
حكم التأجير الذي ينتهي بالتمليك
السؤال
ما حكم تأجير السيارة الذي ينتهي بالتمليك؟ وكيف ينطبق ذلك على حديث: (لا شرطان في بيع) ؟
الجواب
ذكرنا أن حديث (لا شرطان في بيع) له عدة محامل، ومع ذلك فإنه قد عمل بظاهره كثير من العلماء، حتى إن بعضهم توقف فيما إذا شرط البائع شرطاً وشرط المشتري شرطاً، فقالوا: ظاهر الحديث يدخل فيه هذا، وهذه المسألة قد كثر السؤال عنها، والشركات الآن وقعوا في هذا النوع، وهو أنهم يقولون: نبيعك السيارة -مثلاً- بسبعين ألفاً، تؤدي إلينا كل شهر ثلاثة آلاف، وإذا أديت السبعين ألفاً سلمنا لك وثائق السيارة، وقبل ذلك تكون كأنها ملك لنا، وإذا عجزت عن التسليم أو تركت شيئاً من الأقساط فإننا ننتزع منك السيارة، وتكون الأقساط الذي وصلت إلينا كأجرة عن استعمالك لها، ويعبرون عن ذلك بأنه تأجير ينتهي بالتمليك، وسبب ذلك: أنهم جربوا أن كثيراً من الذين يشترون لا يسددون الأقساط في حينها، بل تتراكم عليهم الأقساط وتتأخر، فاضطروا إلى أن يأخذوا السيارة ويقولون: ما وصل إلينا فإنه أجرة عما مضى.
وتوقفت إلى الآن لجنة الإفتاء، ما أصدروا في هذا فتوى صارمة، ولكنهم يفتون فتاوى شفوية أن هذا لا يجوز، ويعللون ذلك بأنه لا يصدق عليه أنه أجرة ولا أنه بيع.
ونحن نقول: إذا كنت محتاجاً إلى شراء هذه السيارة فإنك تشتريها شراءً صحيحاً، وتقول لهم: هي رهنكم.
فإنه يجوز رهن المبيع على ثمنه وغيره، وإذا كانت رهناً لهم، وحلت أقساطهم ولم توف الدين، فإنهم يبيعونها ويأخذون بقية أقساطهم، ويردون عليك الباقي، فإن الرهن باق على ملك الراهن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) هذا هو الذي يتمشى عليه الأمر: أنه يشتريها ويجعلها رهناً لهم.(27/10)
معنى قول المؤلف: (وإذا تعيب أيضاً خير فيه)
السؤال
ما معنى قول المؤلف: (وإذ تعيب أيضاً خير فيه بين أخذ أرش ورد مع دفع أرش، ويأخذ ثمنه) ؟
الجواب
هو يقول في خيار العيب: إذا تلف العبد فإنه من ضمان المشتري، وإن زاد فيه عيب، يعني: كان فيه عيب واحد، ثم أضيف إليه عيب آخر، فتحققنا أنه كان فيه عيب عند البائع، وحصل عيب جديد عند المشتري، ففي هذه الحال ليس له إلا أرش العيب القديم، وأما العيب الذي حدث عنده فإنه من فعله، لكن لو اختار المشتري أن يرده، ويدفع أرش العيب الذي حدث عنده، وقبل ذلك البائع فله ذلك.(27/11)
من اشترى خروفاً فذبحه ووجده مريضاً لا يؤكل فله أن يرجع بالثمن
السؤال
اشتريت خروفاً من بائع أغنام، ولما ذهبت به إلى المسلخ وذبحته وجدت به مرضاً، وصادرته إدارة المسلخ، وأعطيت ورقة تفيد بمرضه إلى البائع، فلما ذهبت إلى البائع وأخبرته وأعطيته الورقة قال: تكون قيمتها بيني وبينك، نصفها علي، ونصفها عليك، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كانت لا تصلح للأكل فله الثمن كله، لكن يمكن أنها تصلح لغير الأكل، والحاصل أنه في هذه الحال لما ذبحها وجد أنها لا تصلح للأكل، وأنها مريضة، وأن من أكل منها تسمم أو مرض، وصادرتها البلديات، فالصحيح أنه يرجع بالثمن.(27/12)
من اشترى كتاباً ووجد فيه أوراقاً بيضاء فله الخيار
السؤال
في بعض الأحيان نشتري الكتب، وبعد ذلك نجد فيها بعض الورقات بيضاء، ويمتنع البائع من استبدال الكتاب، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا شك أن هذا عيب، وأن عليه أن يقبلها ويبدلها بغيرها من النوع السليم، أو عليه أن يدفع الأرش عن تلك الأوراق البيضاء.(27/13)
هل يقوم الشيك مقام النقد
السؤال
هل يقوم الشيك مقام النقد في القبض والصرف؟
الجواب
هذا فيه خلاف، ورجح بعض هيئة كبار العلماء أن ذلك جائز، ووافقه عليه أكثر المشايخ؛ وذلك لأن الدراهم تعتبر أوراقاً، والشيك -أيضاً- يعتبر ورقاً، وإن كان الشيك لا يصلح إلا عند البنك، والأوراق تصلح عند جميع البقالات والناس، ولكن لما كان يعتبر وثيقة مأمونة حصل بها القبض.(27/14)
حكم ثبوت خيار المجلس للمتعاقدين بالهاتف
السؤال
إذا تمت المبايعة عن طريق الهاتف، ثم وضع كل من البائع والمشتري السماعة، وندم أحدهما، فهل يجوز له الرد؟
الجواب
لا شك أن هذا شيء جديد لم يتكلم عليه العلماء قديماً -أعني: البيع بالهاتف- والقواعد تقتضي أنه يحصل لزوم البيع بانتهاء المكالمات، بأن يضع كل منهما السماعة من يده بحيث يحصل التفرق، بحيث أنه لو تكلم بعد ذلك بدون هاتف ما سمعه، فينقضي الخيار.(27/15)
حكم بيع السيارة المعيبة مع إخفاء العيب
السؤال
إذا أردت بيع سيارة بها عيب، ولم أرد إخبار المشتري بذلك من باب إتمام البيع، فما الحكم؛ مع العلم أني طلبت منه فحص السيارة؟
الجواب
هذا يعتبر غشاً، وقد مرت بنا جملة في المتن نسينا أن نتكلم عليها في آخر الشروط، وهي قوله في الضمان المجهول أنه لا يصح: (إن شرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ) .
وصورة ذلك: أن يقول: اشتر السيارة، وإذا كان فيها عيب أو عيوب فلا تلحقني بشيء، أنا بريء من هذه السيارة بالعيوب التي فيها، هي أمامك، افحصها، ولا تطالبني بشيء مما فيها، هذا معنى (إن شرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ) ، فلابد أن يوقفه على العيوب التي يعرفها فيها، فيقول: أعرف فيها هذا العيب في العجلات، وهذا العيب في الماكينة، وهذا العيب في كذا، هذا هو الذي أعرفه، وإذا كان فيها شيء لا أعرفه فلا علي، ولا تسألني إلا عما أعرفه، فأما إذا علم -مثلاً- أن في الماكينة عيباً، فقال: تشتريها على أنها معيبة في الماكينة، ومعيبة في كراسيها، ومعيبة في بوديها، ومعيبة في عجلاتها، ومعيبة في كذا وكذا وأخذ يعدد، والمشتري يعرف أنه ليس كذلك؛ لأن الظاهر أنها سليمة، فيعتقد أنها سليمة، فيزيد في الثمن، فهذا -أيضاً- خيانة، كالذي يعرض شاة ويقول: اشتر هذه الشاة على أنها عوراء وعرجاء ومريضة بمرض كذا، ومريضة بجرب، ومريضة بكذا وكذا ويعدد عشرين عيباً، والمشتري يعلم أن هذه الصفات ليست كلها فيها، والبائع يعرف أن فيها واحداً من هذه العيوب، فأخفاه عن المشتري، فهذا يعتبر غشاً، فيستحق أن يردها بذلك العيب.
والواجب على البائع أن يخبر بالعيوب التي يعرفها، وأما العيوب التي لا يعرفها فيتنصل منها ويقول: إن كان فيها شيء فلا أعرفه.
فإذا أقدم على ذلك العيب فليس له الرد به، وإذا وجدت عيوب أخرى فله الرد بها، وإذا كنت تعرف فيها عيوباً فلابد أن توقفه عليها ولو لم يسألك.(27/16)
حكم انتفاع المشتري بالسلعة في زمن الخيار
السؤال
بالنسبة لخيار الشرط إذا رجع المشتري في بيعه تبعاً للشرط، فهل يقدم للبائع مقابل ما استفاد به من السلعة، كما لو استخدم السيارة شهراً؟
الجواب
ذكروا أنه لا يجوز في حالة الشرط أن ينتفع بها أحد منهما، مثلاً: لا يجوز لك أن تلبس الثوب وقد اشترطت الخيار، ولا أن تركب السيارة وقد اشترطت الخيار، بل لا تستعملها إلا بعد أن تجزم بالشراء، فإذا تصرف المشتري بالسلعة فإن ذلك دليل على الرضا، فتصرف المشتري فسخ لخياره، فإذا تصرف فيها ثم ردها فللبائع أن يطالبه بذلك، فيقول: أنت دنست الثوب بلبسك له -مثلاً-، أو تمزق الكتاب بقراءتك فيه -مثلاً- ثم رددته، فأعطني أجرته أو أعطني عوض ما حصل فيه.(27/17)
حكم قول البائع: البضاعة بعد البيع لا ترد
السؤال
توجد بعض العبارات عند بعض الباعة مثل قولهم: البضاعة التي تباع لا ترد؟
الجواب
على المشتري أن يقلبها وأن يتفقدها تفقداً تاماً قبل أن يجزم بالشراء، وإذا فحصها ووجدها سليمة أقدم على ذلك، وليس له بعد ذلك أن يردها وقد اشترط عليه؛ لأنه أقدم على الشراء مع علمه بأنها معيبة، لكن قد يقال: إن له خيار الغبن، فإذا غبن غبناً يخرج عن العادة فإن له أن يرد السلعة إذا كان ذلك مما لا يتسامح فيه.(27/18)
حكم البيع والشراء بالإنترنت
السؤال
هل يجوز أن أشتري سلعاً من أسواق أمريكا -مثلاً- بواسطة الإنترنت، وأن أبيعها في أسواق اليابان -مثلاً- بواسطة هذه الشبكة وأنا في بيتي لم أسافر ولم أذهب؟ وإذا كانت الإجابة بعدم الجواز فما هي المحاذير في مثل هذا البيع؟ وما نصيحتكم لمن قد فعل مثل هذا الفعل؟
الجواب
لا شك أن هذا يحدث كثيراً، وقد ورد فيه نهي، وهو (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) ، وسيأتينا في الفصل الذي بعد الخيار ما يحصل به القبض، فيحصل قبض ما بيع بالكيل كيلاً، وما بيع بالوزن وزناً إلخ.
ونقول: إذا اشريت السيارة -مثلاً- بواسطة الهاتف أو نحوه من دولة، فلابد أن توكل من يستلم هذه السيارة ويحوزها لك، ولا يجوز لك أن تبيعها لا على قريب أو بعيد حتى تحجز لك وتحاز على جانب، وكذلك -أيضاً- لو اشتريتها بالهاتف من معرض من المعارض في الرياض، فلا تبعها حتى ترسل من يستلمها ويستلم مفاتيحها، ثم ينقلها من مكان إلى مكان، فهذا هو الذي جاء به الشرع، وسبب ذلك: أن تدخل في الملكية؛ لأنها قبل ذلك ليست في ملكيتك، بحيث أنها لو تلفت تلفت على البائع بخلاف ما إذا قبضت، فجعل الفاصل بين انتقالها من البائع إلى المشتري حيازتها، فقبل الحيازة إذا تلفت فعلى البائع، أو رخصت فعلى البائع، أو غليت فعلى البائع، وبعد الحيازة تدخل في ملك المشتري، فله غنمها وعليه غرمها.(27/19)
نصيحة لمن يفتر عن طلب العلم
السؤال
أحس برغبة شديدة في طلب العلم، والحضور لدروس هذه الدورة، ثم أحس بالفتور شيئاً فشيئاً حتى أنقطع في نهاية الدورة عن الحضور، فما نصيحتكم لي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن الرغبات تتفاوت، وننصحك بأن تواصل في هذه الحلقات، وأن تستمر فيها، فإنك تحصل على خير كثير، وتحصل على فوائد، وتحصل على علوم، وكذلك -أيضاً- تحصل على أجر، وتذكر الحديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) ، وتذكر الحديث: (إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فننصحك بالمواصلة، وإذا أحسست من نفسك بشيء من الكسل أو التثاقل فعليك أن تعزم وأن تجزم على المواصلة، وتبتعد عما يعوقك عن ذلك، وتستعين بالله تعالى، والله المعين.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(27/20)
شرح أخصر المختصرات [28]
قد يتبايع المتبايعان فيبيع البائع ويشتري المشتري، ويتم البيع، ولكن قد يندم أحدهما على البيع أو على الشراء، فيريد إرجاع السلعة أو إرجاع قيمتها، ولذلك شرع الخيار لكلا المتبايعين، وهذا من تيسير الشريعة وسماحتها، وهو أنواع متعددة بحسب ما يتفق عليه، أو بحسب نوع المبايعة التي وقعت بين البائع والمشتري.(28/1)
من أحكام الخيار
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخيار تخبير ثمن، فمتى بان أكثر، أو أنه اشتراه مؤجلاً، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعضه بقسطه ولم يبين ذلك؛ فلمشتر الخيار.
وخيار لاختلاف المتبايعين، فإذا اختلفا في قدر ثمن أو أجرة ولا بينة لهما حلف بائع: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم مشتر: ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ولكل الفسخ إن لم يرض بقول الآخر، وبعد تلف يتحالفان، ويغرم مشتر قيمته.
وإن اختلفا في أجل أو شرط ونحوه فقول ناف، أو عين مبيع أو قدره فقول بائع، ويثبت للخلف في الصفة وتغيّر ما تقدمت رؤيته.
فصل: ومن اشترى مكيلاً ونحوه لزم بالعقد، ولم يصح تصرفه فيه قبل قبضه.
ويحصل قبض ما بيع بكيل ونحوه بذلك مع حضور مشتر أو نائبه، ووعاؤه كيده وصبرة ومنقول بنقل، وما يتناول بتناوله، وغيره بتخلية.
والإقالة فسخ تسن للنادم] .
عرفنا في باب الخيار أن الخيار طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد؛ وذلك لأن البيع قد يقع صدفة أو بغتة بدون تروٍ، فيندم أحدهما، فيكون له الخيار في رد السلعة أو استرجاع السلعة، تارة يندم البائع فيتأسف على البيع، وتارة يندم المشتري ويتأسف على الشراء؛ فلذلك جعل هذا الخيار لرد البيع أو لتمكنه.
وذكرنا أن من أنواع الخيار: خيار المجلس، وأنه يثبت ما لم يتفرقا، فإن ندم البائع استرد السلعة، وإن ندم المشتري استرد الثمن، وإذا تفرقا أو أسقطاه فإنه يسقط، فلو قال البائع: بعتك ولا خيار لي؛ فالبيع يلزم ولو قبل التفرق، وينعقد البيع، ولو قال المشتري: اشتريت السيارة بعشرين ألفاً ولا خيار لي من الآن، ولو ندمت فلا ترد علي؛ لزم البيع.
وذكرنا خيار الشرط، وهو أن يشترطا في صلب العقد مدة معلومة ولو طويلة، تارة يشترطها كل منهما فيقول البائع: بعتك البيت بمائة ألف، ولي الخيار شهراً، فيقول المشتري: اشتريته بمائة ألف ولي الخيار شهرين.
فإذا ندم البائع في هذا الشهر استرد البيت ورد الثمن، وإن ندم المشتري والبائع ما ندم رد البيت، وقال: أعطني القيمة.
وقد يكون الخيار لواحد، فيقول البائع -مثلاً-: بعتك بمائة ألف ولا خيار لي.
أو يقول المشتري: ولي الخيار شهراً.
وتارة يقول المشتري: لا خيار لي.
فيقول البائع: لي الخيار شهراً.(28/2)
الخيار من باب الحيلة
وقوله: (وحرم حيلة ولم يصح البيع) .
صورة ذلك: أن يشتري البيت -مثلاً- بمائة ألف، وقصده أن يسكنه شهراً، فيقول: لي الخيار شهراً.
فيسكنه في هذا الشهر، فإذا مضى الشهر وهو قد سكنه، رد البيت وقال: ندمت، فهذه حيلة من المشتري.
وكذلك تحرم الحيلة من البائع، فلو قال البائع: بعتك البيت بمائة ألف، ولي الخيار شهراً.
فاستلم المائة الألف، وقصده أن ينتفع بها في هذا الشهر، أن يتجر بها ويربح فيها -مثلاً-، ولما مضى الشهر قال: رد علي بيتي وخذ دراهمك، وما قصد بهذا العقد إلا الحيلة، فهذا البيع إذا كان بهذه الحيلة لا يصح.(28/3)
الملك مدة الخيار للمشتري
لمن الملك مدة الخيار؟ ينتقل الملك مدة الخيارين للمشتري، ولو كان -مثلاً- حيلة فالملك فيهما للمشتري، ولهذا تكون له أجرة الدار إذا كان المبيع داراً مؤجرة، وله ثمر النخل إذا كان المبيع له ثمر، وله لبن الشاة إذا كانت هي المبيعة، وعليه نفقة الشاة أو نفقة الجمل، وذلك لأن الملك له، وله نماؤه المنفصل، فلو ولدت الشاة في مدة خيار الشرط فولدها للمشتري، وإذا ماتت ذهبت على المشتري، وإذا انهدم الجدار فإصلاحه على المشتري، فالملك مدة الخيارين للمشتري، والدراهم في يد البائع، ولو سرقت منه ثم ندم المشتري فإنه يردها، ولا يقول: الدراهم سرقت؛ لأنه أخذها لمصلحته، فربحها له، وخسارتها عليه، فالثمن دخل في ملك البائع، والسلعة دخلت في ملك المشتري، فهذا دليل على انتقال كل منهما إلى الآخر، فإذا حصل الندم وفُسخ البيع ففي هذه الحال يرجع كل منهما إلى ماله، فلو انهدم البيت فندم المشتري، فإن كان في البيت عيب ولم يخبره فإنه يستحق الرد، وإن لم يكن فيه عيب، بل جاءه -مثلاً- مطر أو سيل، ففي هذه الحال المطالب به المشتري، يصلحه إذا أراد رده؛ وذلك لأنه استلمه سليماً، فلابد أن يرده سليماً.(28/4)
حكم التصرف في المبيع مدة الخيار
قوله: (ولا يصح تصرف في مبيع وعوضه مدتهما) ، أي: مدة الخيارين، خيار الشرط وخيار المجلس، لا يصح التصرف في مبيع وعوضه، مثال تصرف البائع: إذا قال: الخيار لي في هذه الدار، فلي أن أهدم هذا الجدار، ولي أن أغير هذه الزاوية.
فليس له التصرف، وكذلك المشتري، لو قال: لي الخيار، وأريد أن أزيد فيها كذا، وأريد أن أصلح فيها كذا، ليس له ذلك، إلا إذا كان الخيار للمشتري وحده، فتصرفه دليل على قبوله، وإسقاط الشرط، فلو أنه سبل البيت، والخيار له؛ لزم العقد، وأصبح البيت موقوفاً، فليس له الرد بعد ذلك؛ لأنه تصرف فيه، وأخرجه من ملكه حيث جعله وقفاً، ولو كتب على الكتاب: وقف لله تعالى؛ لزم البيع، ولم يتمكن من الرد.
وإذا كان الخيار للبائع فلا يجوز للمشتري التصرف، ولا يصح، فلو كتب على الكتاب: وقف، وندم البائع، استرده وأبطل الوقفية، وكذلك لو كان المبيع بيتاً أوقفه، وكذلك لو كان المبيع شاة فباعها المشتري، لم يصح البيع؛ لأن علاقة البائع لم تنقطع، فلابد أن يستردها إذا ندم، فلا يصح أن يتصرف فيها المشتري حتى تنقضي مدة الخيار.
وكذلك لا يتصرف البائع في العوض إذا كان معيناً، كأن يقول -مثلاً-: بعتك الشاة بهذا الكيس.
فالمبيع هو الشاة، والثمن هو الكيس، فأنت أيها البائع لا تتصرف في الكيس، وأنت أيها المشتري لا تتصرف في الشاة حتى تنقضي مدة خيار شرط، فلا يتصرف كل منهما فيما صار إليه.
أما إذا كان العوض دراهم، فالدراهم يقوم بعضها مقام بعض، فله أن يتصرف فيها، فإذا قال -مثلاً-: اشتريت الشاة بهذه المائة ورقة واحدة.
ثم ندم بعد ذلك المشتري وقال: رد علي دراهمي، أعطيتك ورقة فئة مائة.
فقال: الورقة صرفتها، أو تصرفت فيها، ولكن خذ عشر ورقات فئة عشرة.
فإنه يقبلها، أو خذ ورقتين فئة خمسين.
فإنه يقبلها؛ وذلك لأنه لا فرق بين هذه وهذه.
واستثنوا تصرف المشتري في العبد إذا أعتقه المشتري فإنه يعتق على الصحيح؛ وذلك لأن الشرع يتشوف إلى العتق، والقول الثاني: أنه لا ينفذ ولا يعتق؛ لأنه تصرف في شيء ليس مختصاً به، فربما يندم البائع ويقول: رد علي عبدي، فإذا قال: أعتقته، فسيقول: تعتقه وأنا قد اشترطت أن لي الخيار؟ وأنا الآن ندمت ولا أستغني عن عبدي.
فيكون العتق في هذه الحال لاغياً.
أما إذا كان الخيار للمشتري، كأن قال: اشتريت العبد بألف، ولي الخيار شهراً، ثم أعتقه، والبائع ليس له خيار، فإنه يعتق.
وكذلك تصرف المشتري إذا كان الخيار له وحده، فإنه يصح، فلو ذبح الشاة سقط خياره، ولا يصح له أن يذبحها والبائع قد اشترط الخيار، أما إذا كان البائع ليس له خيار والخيار للمشتري، كما لو اشترى الشاة بمائة، ثم إنه شرط الخيار خمسة أيام، وذبح الشاة في اليوم الثاني، بطل خياره ولزم البيع.(28/5)
من أنواع الخيار
ذكرنا خيار الغبن، وأنه لزيادة الناجش، وكذلك المسترسل، وكذلك تلقي الركبان، واستثنوا المستعجل، فلا خيار له، فلو أن إنساناً دخل السوق مستعجلاً، ولما دخل السوق اشترى شاة على عجل، وزاد عليه صاحبها، أو اشترى كيساً على عجل، والناس يبيعون الكيس بمائة وهو اشتراه بمائتين أو بمائة وخمسين، فلماذا تستعجل؟ لماذا لا تسأل واحداً واثنين وتسأل الناس؟ هذا رآك مستعجلاً وزاد عليك، فأنت باستعجالك أخطأت، فلا خيار لك.
وذكرنا خيار التدليس، وهو الذي يزيد به الثمن كالتصرية، وهي ألا يحلب الشاة يومين أو ثلاثة، فإذا رآها المشتري ظن أنها ذات لبن كثير فزاد في ثمنها، ثم يتبين له أنها مصراة، وأن هذا اللبن لبن يومين، فيردها وصاعاً من تمر بعد اليوم الثالث.
وخيار الغبن والعيب والتدليس على التراخي، ما لم يوجد دليل الرضا، إلا في التصرية فثلاثة أيام، فإذا وجد التمر مفرقاً، ثم إنه طواه، وقال: هذا لا يصلح، ورده بعد يومين، فيلزم البائع قبوله، فإذا قال: لماذا لم ترده في اليوم الأول؟ فيقول: ما تمكنت، وأشهد أنه فيه عيب.
وكذلك خيار الغبن، إذا اشترى السيارة ثم وجد أنه مغبون بزيادة الناجش أو المسترسل، لما اشتراها ورجع علم أنه غبن نصف الثمن أو ثلث الثمن، أوقفها، وقال: لا حاجة لي فيها.
فإذا لم يردها إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام، يلزم البائع قبولها، فالخيار على التراخي لا على الفور.
وذكرنا خيار التدليس، والتدليس: هو إظهار السلعة بمظهر لائق، ففي هذه الحال إذا عرف المشتري أنها مدلسة لا يلزمه أن يردها في الحال، لكن إن وجد دليل الرضا بأن استعملها، كأن لبس الثوب، أو طبخ في القدر -مثلاً-، أو استمر في حلب الشاة أكثر من ثلاثة أيام وهي مصراة -مثلاً-، أو ركب السيارة فاستعملها، أو سكن في الدار مع كونه مغبوناً أو ما أشبه ذلك، فإن هذا دليل على الرضا، فيسقط خياره، أما المصراة فلا يمسكها أكثر من ثلاثة أيام، وإن أمسكها أكثر فهو دليل الرضا.
وذكرنا خيار العيب، وهو ما تنقص به قيمة المبيع؛ كمرض وفقد عضو وزيادته، وكل عيب ينقص الثمن، مثل الخروق في الثوب أو في القدر، والخراب في السيارة، أو التصدع في الحيطان أو في السقف، ونقص أوراق من المصحف أو من الكتاب، وهكذا كل خلل في السلع، فإذا اشترى شاة ووجدها عوراء أو مريضة أو عرجاء فهذا عيب، فله الخيار، فإذا علم بالعيب فله الخيار بين أمرين: إما أن يردها ويأخذ الثمن، وإما أن يطالب بالأرش، وما هو الأرش؟ هو ما بين قيمة الصحة والعيب، فإذا قال: كم يساوي هذا الكتاب وهو سليم؟ يساوي -مثلاً- عشرة، والآن فيه نقص أو فيه بياض كم يساوي؟ يساوي ثمانية، فيرد عليه الخمس، كم تساوي هذه الشاة وهي سليمة؟ تساوي مائة، وكم تساوي وهي عوراء؟ تساوي ثمانين، فيرد عليه الخمس وهكذا، وهذه الزيادة تسمى: الأرش.
وإذا تلف المبيع تعين الأرش، فإذا ذبح الشاة أو ماتت أو احترق الثوب تعين الأرش؛ وذلك لأنه لا يمكن رده.
ولو كانت الشاة فيها عور، ثم عند المشتري أصيبت عينها الثانية فأصبحت عمياء، عيب من عند البائع، وعيب من عند المشتري، ففي هذه الحال يخير بين أخذ أرش وبين رد مع دفع أرش، له الخيار: إما أن يأخذ أرش العين التي كانت عند البائع، وإما أن يرد الشاة ويرد معها أرش العين التي صارت عنده أو أرش الكسر الذي حصل عنده، وإن اختلفا عند من حدث العيب، فقال البائع: هذا انكسر عندك.
وقال المشتري: بل انكسر قبل أن أشتريها.
فإن القول قول المشتري، فيحلف أني اشتريتها وفيها هذا العيب، وهذا إذا لم يكن هناك بينة.(28/6)
خيار التخبير بالثمن
النوع السادس: خيار التخبير بالثمن، أي: الإخبار، كثير من المشترين يبنون في الشراء على ثمن البائع، فيقول: بكم اشتريت هذه الكتب؟ فيقول: اشريت الكتاب بثمانية.
فيقول: أنا أفيدك ريالاً وأشتريها بتسعة، ثم تبين أن البائع اشترى الكتاب بستة، وأنه كذب، وقال: اشتريته بثمانية، فيثبت لك الخيار؛ لأنك اشتريت الكتاب بتسعة على أنك فوت في كل كتاب ريالاً، ولا شك أن هذا هو الفائدة من السؤال لك عن الثمن، فإذا كذب عليك وقال: اشتريتها بثمانية، والحقيقة أنه اشترى بستة، فإن لك الخيار إذا بان أنه زاد عليك، ويحدث هذا كثيراً، فإذا اشترى إنسان غنماً، فجاء إليه آخر وقال: أنا أفيدك في كل شاة عشرة.
أو قال -مثلاً-: أشركني، أنا أدخل معك بالشراكة في هذه الغنم أو هذه الأكياس، فكذب عليه وقال: الشاة بمائة أو الكيس بمائة.
فأعطاه في كل شاة عشرة ريال فائدة أو في كل كيس، أو اشترك معه وأخذ نصف الغنم أو نصف الأكياس، ثم تبين أن البائع كذب عليه، وأنه اشترى كل شاة بثمانين، أو كل كيس بثمانين، ففي هذه الحال للمشتري الخيار؛ لأنه تبين أن الثمن أكثر مما اشتراه، وأنه أخبره بأكثر مما اشترى به، وكيف تشتري بثمانين وتقول أنك اشتريته بمائة؟! أخطأت، وأنا عاملتك على أنك اشتريت بالمائة، وأعطيتك في كل شاة أو في كل كيس عشرة، فأنا اشتريت منك الكيس بمائة وعشرة، وتبين عندما بحثنا أنك اشتريت الكيس بثمانين، فالخيار لي، رد علي دراهمي.
ويمكن أن يصطلحا فيقول: أسقط عنك العشرين التي زدتها، فأنا اشتريته بثمانين فيصير الثمن بتسعين، بدلاً مما كان بمائة وعشرة، فإذا تراضيا على ذلك جاز.
وكذلك إذا لم يخبره بأن الثمن مؤجل، فإذا قال -مثلاً-: بكم اشتريت الغنم؟ قال: اشتريت كل شاة بمائة -أو الأكياس- وهو صادق، ولكنه اشتراها بثمن مؤجل يحل بعد سنة، فأنت اعتقدت أنه اشتراها بثمن النقد، فأعطيته فائدة في كل كيس عشرة، ولما علمت بأن الثمن مؤجل، والمؤجل عادة يزاد فيه، ولو كان نقداً لكان الكيس بثمانين، ولكنه اشتراه بمائة لأجل الأجل، فاشتراها بمائة لمدة سنة، ففي هذه الحال ماذا نفعل؟ الصحيح أن للمشتري الخيار، فيردها ويأخذ دراهمه، وبعض العلماء يقول: إذا كان الثمن مؤجلاً فيؤجل على المشتري.
لكن قد يقول: أنا لا أعرفك يا مشتري، فكيف أؤجله عليك؟ أو يقول المشتري: أنا لا حاجة لي في التأجيل، دراهمي موجودة، ولا أحب الدين.
ففي هذه الحال له الخيار: إما أن يسقط عنه ويقول: ثمنها حالة ثمانون، وأنت اشتريتها بمائة لأجل الأجل، فأشتريها بالثمانين وأعطيك فائدة، هذا هو خيار التخبير.
وكذلك إذا تبين أنه اشتراها ممن لا تقبل شهادته له، فله الخيار؛ وذلك لأن العادة أنه يزيد في الثمن؛ لأجل مصلحة ولده، إذا قال: بكم اشتريت الغنم أو الأكياس؟ فقال: كل كيس بمائة، فأعطيته في كل كيس أو في كل شاة فائدة عشرة، ثم اتضح أنه اشتراها من ولده أو اشتراها من أبيه، وزاد في الثمن لمصلحة والده أو لمصلحة ولده، وهي لا تساوي إلا ثمانين، ولكن قال: الزيادة عند والدي أو عند ولدي لا تهم.
فأخبرك وقال: نعم، اشتريتها بمائة.
وهو صادق، ولكنه ما اشتراها من ولده، وزاد فيها لمصلحة الولد أو لمصلحة الوالد أو الأخ أو نحوهم ممن لا تقبل شهادتهم له، أو اشتراها من زوجته وزاد في الثمن، ولم يخبر المشتري، فلك الخيار، فإذا قال: أنا اشتريتها بمائة.
وهو صادق، ولكنها لا تساوي إلا ثمانين؛ لأنه زاد في الثمن لأجل مصلحة ولده أو والده أو نحوهما، فيثبت الخيار للمشتري والحال هذه.
وكذلك إذا اشتراها بأكثر من ثمنها حيلة، ويقع هذا حيلة، فمثلاً: إذا قال: إن فلاناً التاجر بحاجة إلى بيتك هذا، فأنا سوف أشتريه منك بخمسمائة ألف، وهو لا يساوي إلا أربعمائة، حتى آتي إلى هذا التاجر وأقول: أبيعك البيت برأس مالي، أو أبيعك البيت بفائدة خمسين ألفاً أو مائة ألف، وأحلف له أني اشتريتها بخمسمائة وأنا صادق، والبيت لا يساوي إلا أربعمائة، ولكن نحتال حتى نربح على هذا التاجر الذي لا يهمه الثمن لكثرة أمواله، فهذه حيلة، فإذا اتضح للمشتري أنها حيلة فإنه يسترد الثمن ويرد المبيع، أو يشتريه بما يساويه، وبذلك يعلم أن كل حيلة لا تنفذ، والحيل مهنة يلجأ إليها كثير من المحتالين، يقول بعضهم: واحتل على حل العقود وفسخها من أصلها وذاك ذو الإشكال إلا على المحتال فهو طبيبها يا محنة الأديان بالمحتال فحل العقد الذي بين اثنين -مثلاً- أو فسخه يصعب، لكن يأتون بحيل من هنا وهناك.
وكذلك لو باع بعضه بقسطه من الثمن، ولم يبين ذلك، فللمشتري الخيار، أحياناً يشتري غنماً، كل شاة -مثلاً- بمائة، وهي تختلف، بعضها يساوي خمسين، وبعضها مائتين، فيبيع بمائتين ومائة وخمسين وبمائة وثمانين، وإذا بقي رديئها، وجئت إليه، حلف لك أنه اشتراها كل شاة بمائة، وهو صادق، ولكن باع خيارها ولم يبق إلا رديئها، ففي هذه الحال لابد أن يخبر، ويقول: أنا اشتريتها كل شاة بمائة، ولكن بعت بعضها بقسطه، وبعتها بما تيسر.
وهكذا يفعل كثير من الذين يبيعون الفواكه أو الخضار ونحوها، يشتري -مثلاً- البطيخ كل حبة بثلاثة، ثم يبيع بعضها بعشرة، وبعضها بثمانية، وبعضها بسبعة، وبعضها بخمسة، فيبيع خيارها، فيأتي إليه آخر وقد بقي عنده رديئها، فيحلف أنه اشترى كل واحدة بثلاثة، وهو صادق، ولكنه ما أخبر بالحقيقة، فيقلده ويصدقه هذا، ويقول: اشتريت منك برأس مالك، أو أعطيك ريالاً فائدة في كل حبة.
ففي هذه الحال له الخيار إذا تبين له أنه لم يبين له، ولم يقل: هذا رديء، بعت بعشرة، وبعت بعشرين، وهذا الباقي قد لا تساوي الواحدة إلا ريالاً أو ريالين أو نصف ريال، فالحاصل أن في هذه الأشياء الخيار.(28/7)
خيار الاختلاف للمتبايعين
النوع السابع: خيار الاختلاف للمتبايعين، فإذا اختلفا في قدر الثمن، أو أجرة الدار، أو عين المبيع ولا بينة، أو لكل واحد منهما بينة، فلهما بينتان، عند هذا بينة، وعند هذا بينة، وتعارضت البينتان وتساقطتا، فلابد من الحلف، فيقول البائع: بعتك بستمائة.
ويقول المشتري: بل بخمسمائة.
وليس هناك بينة، وليس هناك وثيقة، وكذلك الأجرة، إذا قال -مثلاً-: استأجرت الدار بعشرة آلاف، فقال: بل بخمسة عشر ألفاً، وليس هناك وثائق، وليس هناك بينة، ففي هذه الحال لابد من التحالف، فيتحالفان، ويبدأ البائع بالحلف؛ وذلك لأنه العارف بالأصل، فصاحب السلعة هو العارف بالقيمة، وهو عادة ما يبيع الشاة إلا بمائتين، وهذا يقول: اشتريتها منك بمائة، أو عادته أنه ما يبيع مثلاً الكيس إلا بمائة، وهذا يقول: اشتريت منك بخمسين، ففي هذه الحال يحلف البائع، ويشتمل حلفه على نفي وإثبات، فيقول: والله ما بعتك الكيس بمائة، وإنما بعتك بمائتين.
يشتمل على نفي وإثبات، ويبدأ بالنفي: ما بعتك بمائة، وإنما بعتك بمائتين -مثلاً-؛ أو ما بعتك البيت بأربعمائة، وإنما بعتك بخمسمائة.
وكذلك في الإجارة، يقول: ما أجرتك بعشرة، وإنما أجرتك بخمسة عشر، وكذلك لو كان الخلاف في عين المبيع، إذا اختلفا فقال المشتري: بعتني نعجة.
فقال البائع: بل بعتك الكبش.
فيحلف ويقول: ما بعتك النعجة الأنثى وإنما بعتك الذكر -الكبش-.
فيشتمل حلفه على نفي وإثبات، فإذا لم يرض المشتري بيمينه حلف المشتري، فيحلف بعد ذلك ويقول: والله ما اشتريته بمائتين، وإنما اشتريته بمائة، والله ما استأجرته بخمسة عشر، وإنما استأجرته بعشرة.
فتشتمل يمينه -أيضاً- على نفي وإثبات، ويبدأ بالنفي، أو يقول: والله ما اشتريت الكبش، وإنما اشتريت النعجة، فيشتمل على نفي وإثبات، ويحلف البائع: ما بعتك بكذا، وإنما بعتك بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا.
ولكل الفسخ إن لم يرض بقول الآخر، فإذا لم يوافق البائع على البيع بمائة فله أن يقول: رد علي الكيس، رد علي نعجتي، رد علي بيتي.
فإن رضي المشتري، وقال: قبلته بمائة وخمسين، قبلت الكبش بدل النعجة، قبلت الإيجار بخمسة عشر ألفاً.
فله ذلك.
فالحاصل أنهما إذا تحالفا -أي: حلف البائع ثم حلف المشتري- فإنهما يفسخان العقد.
وإذا كانت السلعة تالفة، فيتحالفان ويغرم المشتري القيمة، فقد تتلف السلعة عند المشتري، فإذا ذبح الشاة -مثلاً- واختلفا في قيمتها، فالبائع يقول: بمائتين.
والمشتري يقول: بمائة.
وهذا قد ذبحها وأكلها، ففي هذه الحال تقدر كم قيمة شاة صفتها كذا وكذا؟ يسأل أهل النظر: بكم تقدرونها؟ فيغرمها المشتري بما تساوي، وإذا اختلفا في صفتها فقال البائع: إنها شاة سمينة أو لبون، وقال المشتري: بل هزيلة، وليست حاملاً، وليست لبوناً.
فالقول قول الغارم وهو المشتري، وكذلك في سائر ما يختلفان فيه، فإذا قال المشتري: الثوب احترق، وفيه عيوب، وفيه خروق، وثمنه بعشرة، فقال البائع: بل ثمنه بخمسة عشر، وهو سليم، وليس فيه خروق، وليس فيه عيوب.
ففي هذه الحال المشتري يقول: بعشرة، والبائع يقول: بخمسة عشر، والثوب قد احترق أو قد تمزق، واختلفا في العيوب التي فيه، واختلفا في صفته، فمن يقدم قوله؟ القول قول المشتري؛ لأنه غارم؛ فيقدر بقيمته التي يقدره بها ويصفه بها المشتري.
وإن اختلفا في أجل أو شرط ونحوه فالقول قول من ينفيه، مثال الأجل: إذا قال: إني اشتريت البيت مؤجلاً أو لمدة سنة.
فقال البائع في الحال: ليس هناك أجل، تنقدني الثمن حالاً.
فالقول قول البائع؛ لأنه نافٍ، وكذلك لو قال البائع: بعتك البيت بشرط أن أسكنه شهراً.
وأنكر ذلك المشتري، وقال: بل البيع ناجز، وليس هناك شرط، ففي هذه الحال القول قول من ينفي الشرط.
وكذلك لو اختلفا في تحديد الأجل، فالبائع يقول: أجل الدين ستة أشهر، والمشتري يقول: اثنا عشر شهراً.
فالقول قول البائع أنه ستة أشهر؛ لأنه نافٍ للزيادة، ولأن الأصل حل المبيعات، وعدم تأجيلها.
فالحاصل أنه إذا اختلفا في أجل أو شرط فالقول قول من ينفيه.
وكذلك إذا اختلفا في عين المبيع أو قدره فالقول قول البائع، مثال اختلافهما في عين المبيع: أن يقول البائع: بعتك الذكر.
ويقول المشتري: اشتريت الأنثى.
أو يقول: بعتك هذا البيت الذي هو دور.
فيقول: لا، بل بعتني هذا البيت الذي هو من دورين.
ففي هذه الحال القول قول البائع؛ لأنه هو المالك، فيحلف أني ما بعته هذا البيت، وإنما بعته هذا البيت، ما بعته الأنثى، وإنما بعته الذكر.
هذا مثال اختلافهما في عين المبيع.
وكذلك إذا اختلفا في قدره، فإذا قال -مثلاً-: بعتني كيسين بمائة.
فقال: بل كيساً.
ففي هذه الحال القول قول البائع: أو ما بعته كيسين، وإنما بعته كيساً.
وتقدم مثال اختلافهما في قدر الثمن.(28/8)
خيار الخلف في الصفة
النوع الثامن: الخيار للخلف في الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته، مثلاً: باعك شاة بالوصف، فقال: أبيعك شاتي التي صفتها سمينة، وكبيرة، ولبون.
ثم وجدها مختلفة، ليست سمينة، أو ليست كبيرة، أو ليست لبوناً، أو قال -مثلاً-: أبيعك ذلك الكيس الذي فيه بر جيد، ليس فيه رداءة، ولما رآه وجده مختلفاً، وجده رديئاً، فيه شعير أو فيه تراب أو ما أشبه ذلك، فيثبت الخيار للخلف في الصفة.
وهناك أشياء كان لا يجوز بيعها بالوصف، لكن في هذه الأزمنة يجوز ذلك، مثل المنازل، فقد تشتري البيت وما رأيته، ولكن يضعون له مخططاً، فيقولون: هذا الدور الأرضي فيه كذا وكذا غرفة، وأساسه من كذا، ونوع البلاط كذا، وارتفاع السقف كذا، وسعة كل غرفة كذا وكذا متراً أو كذا وكذا سنتيمتراً، ومرافقه كذا وكذا، وأبوابه من كذا، ومكيفاته من كذا، فيرسمونه، فتتصوره كأنك تراه، لكن إذا دخلته وتغيرت صفاته عما وصف لك، ففي هذه الحال يثبت لك الخيار.
وكذلك لو رأيته رؤية سابقة ثم تغير، كما لو رأيته قبل شهر، رأيت الجمل وهو سمين، ولكن ظننت أنه باق على سمنه، وإذا هو قد هزل، فإن ذلك يثبت لك الخيار.
أو مثلاً: دخلت البيت قبل شهر أو قبل شهرين وهو مهيأ ومحسن، ولما اشتريته بالوصف رأيته بعد شهر وإذا هو قد تكسر بلاطه، أو تكسرت غسالاته -مثلاً-، أو انقلعت أصباغه أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يثبت الخيار.(28/9)
قبض المبيع والتصرف فيه
انتهينا من أقسام الخيار، والفصل الذي بعده عنوانه: (قبض المبيع وتصرفه فيه) بأي شيء يحصل القبض؟ ومتى يصلح التصرف؟ قال رحمه الله: [فصل: ومن اشترى مكيلاً ونحوه لزم بالعقد، ولم يصح تصرفه فيه قبل قبضه] .
كلمة (نحوه) يدخل فيها ما يباع بالوزن وبالعد وبالذرع، فالمكيلات مثل الحبوب، وعادة أنها تباع بالكيل، فإذا اشتريت كومة طعام تمر أو بر أو أرز، وقلت: اشتريت جميع هذه الصبرة كل صاع بخمسة.
وتفرقتما، والبر لا يزال في مكانه، وأعطيته الثمن أو بعض الثمن، فمتى يصح لك أن تتصرف فيه؟ إذا قبضته، وبأي شيء يحصل القبض؟ بالكيل، وهكذا لا يصح لك أن تبيع منه قبل أن تستوفيه، وقد ورد في الحديث: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) وبأي شيء يحصل الاستيفاء؟ بالكيل، بأن تكتاله، وفي الحديث: (نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري) فمثلاً: إن قلت: اشتريت منك هذه الصبرة، كم هي؟ قال: أنا قد كلتها مائة صاع.
فتقول: أنا لا أقبلها إلا بكيل.
فتكيلها بنفسك، فإذا كلتها دخلت في ملكك، فإذا جاءك إنسان آخر يشتري، فلا يشتريها بكيلك، بل لابد من كيل آخر، فيحصل قبض ما بيع بالكيل بالكيل.
ولا بأس إذا كان المشتري الثاني يشاهدك وأنت تكتالها من البائع الأول، فأراد أن يعطيك فائدة، ويشتريها منك، ولكن لابد من حيازتها إلى رحلك، وقد ورد في حديث ابن عمر أنه قال: اشتريت زيتاً في السوق، فأتاني رجل وأعطاني فيه فائدة أعجبتني، فأردت أن أضرب على يده، وإذا رجل خلفي يقول: لا يجوز.
فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) ؛ فلذلك لابد أن تقبض مرتين، أن يقبضها البائع ثم يقبضها المشتري.
وهكذا -أيضاً- ما يوزن، كما لو اشتريت زبرة حديد أو نحاس أو رصاص أو نحو ذلك مما يباع بالوزن، وكومة الحديد تسمى زبرة، قال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96] (زبر) جمع زبرة، وكومة البر أو الشعير أو الذرة أو الدخن أو الأرز تسمى صبرة، فالحديد يباع بالوزن، ومثله الصوف والقطن واللحوم تباع بالوزن، فإذا رأيت -مثلاً- كومة لحم وقلت: أنا أشتري منك الكيلو منها بخمسة، فمتى يدخل في ملكك؟ لا يدخل إلا بالوزن، تأتي بالميزان وتزنه، فإذا وزنته دخل في ملكك، وصح لك التصرف فيه.
وكذلك ما يباع بالعدد، إذا أتيت إنساناً وعنده كومة من قرع -مثلاً- فقلت: اشتريت منك هذا القرع، كل واحدة بريال.
ففي هذه الحال لابد من عده، ولا يدخل في ملكك ولو سلمت الثمن إلا بعد العد.
وهكذا -مثلاً- ما يذرع، إذا اشتريت بزاً مطوياً على عود أو نحوه من القماش، كل متر بعشرة، متى يصح لك أن تتصرف فيها؟ إذا ذرعتها، فلابد أن تقبضها بالذرع.
يقول: [يحصل قبض ما بيع بكيل كيلاً، وما بيع بالوزن وزناً، وما بيع بالعد عدداً، وما بيع بالذرع ذرعاً، ولابد من حضور المشتري أو نائبه -يعني: وكيله- ووعاؤه كيده، ولو أرسل لك الأكياس وقال: خذها، واجعلها في هذه الأكياس، كل هذه الصبرة.
فوعاؤه كيده، يعني: كأنه قبض ذلك، حيث إنه أرسل الكيس فكلتها -مثلاً-، وأشهدت عليها.
يقول: (وصبرة ومنقول بنقل) الصبرة: كومة الطعام إذا بيعت جزافاً، فلا تباع حتى تنقل من مكانها، يعني: قد يباع الشيء جزافاً كومة، مثلاً: من خضار أو من طماطم أو من بصل، ففي هذه الحال قد يقول: اشترها جملة جزافاً.
كيف يتم النقل؟ وكيف يتم القبض؟ بتحويلها من مكانها، وكذلك كل ما ينقل، فقبض الأكياس بنقلها من زاوية إلى زاوية، وكذلك ما يتناول بتناوله، فقبض الكتاب بأن يمده إلى المشتري ويتناوله، فيدخل في ملكه.
وما لا ينقل -كالبستان أو البيت- قبضه بتخليته.(28/10)
الإقالة
يقول رحمه الله: [والإقالة فسخ تسن للنادم] .
(تسن) يعني: تستحب، وقد ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته) ؛ وذلك لأن الإنسان قد يشتري الشيء أو يبيع الشيء ثم يندم، فيأتي إلى الطرف الثاني ويقول: أقلني، فإني قد ندمت.
فيسن أن يقبل ذلك، وأن يقيله البيع، فإذا بعت -مثلاً- دارك، ثم تبين أنك لا تستغني عنها، وقد استلمت الثمن، وندمت على ذلك، فجئت إلى المشتري وقلت: إني قد ندمت، وتبين أني خاطئ في هذا البيع، أقلني أقال الله عثرتك.
فيستحب أن يقيلك، فيرد عليك بيتك.
وهكذا العكس: لو أن المشتري ندم، اشترى البيت -مثلاً- بخمسمائة ألف، ثم ندم وتبين أنه لا حاجة له إليه، أو أنه مستغن عنه، أو أنه كثير الثمن، فجاء إلى البائع وقال: قد ندمت، فأقلني، خذ بيتك، ورد علي دراهمي.
فهل يلزم البائع؟ لا يلزمه، ولكن يستحب له؛ وذلك لأن البيت قد دخل في ملك المشتري، والثمن قد دخل في ملك البائع، وكل منهما صح له تصرفه فيما صار إليه، فقبوله الإقالة يعتبر تسامح منه، وليس بلازم.
واختلف: هل الإقالة بيع أو فسخ؟ والراجح: أنها فسخ؛ لأنها رد للبيع الأول، وليست بيعاً مستأنفاً، وهناك من يقول: إنها تعتبر بيعاً، وكأنه اشترى منك البيت، فهو -مثلاً- باعك البيت بخمسمائة، ثم لما ندمت قبله منك وأعطاك الخمسمائة، فكأنه اشتراه منك بخمسمائة، ويترتب على ذلك مسائل ما ذكرت هنا، والله أعلم.(28/11)
الأسئلة(28/12)
حكم بيع السلعة قبل قبضها
السؤال
إذا اشريت سيارة بخمسين ألف ريال، وجاءني رجل وقال: لك ألف ريال واخرج منها، والسيارة في نفس المعرض لم أحركها ولم آخذها إلى رحالي، مع العلم أنه سوف يعطي الخمسين ألف إلى البائع الأول، فهل هذا العمل صحيح؟
الجواب
لابد أن تبيعه بعد أن تقبضها، وحيث أنها مما ينقل فقبض المنقول بنقله، فتحركها من موضعها، وتنقلها من مظلة إلى مظلة، ثم بعد ذلك تبيعه بربح أو بخسران.(28/13)
حكم بيع العقار بالتقسيط
السؤال
انتشر أخيراً مشروع تقسيط العقار عن طريق شركة الراجحي، فهل عملهم هذا صحيح؟
الجواب
لا بأس بذلك، التقسيط في العقار مثل التقسيط في غيره، كالتقسيط في السيارات، والتقسيط في الثلاجات، وفي الأمتعة وما أشبهها، فالإنسان قد لا يجد الثمن دفعة واحدة، فيأتي إلى الشركة أو يأتي إلى التاجر ويقول: أريد أن تبيعني قطعة أرض أو عمارة، وثمنها أقساط، أعطيك كل شهر قسطاً كألف أو خمسة آلاف، أو كل سنة عشرة آلاف أو مائة ألف، ويسمى هذا البيع بالأجل، والأجل يصح أن يكون آجالاً، فلا مانع، كما لو احتجت -مثلاً- إلى غسالة، واشتريتها بألف، وقلت: أسلم لك كل شهر مائة.
فهذا أقساط وهو يجوز.(28/14)
هل يلزم وزن المبيع المعروف وزنه وعدد ما فيه
السؤال
إذا كانت العين معلومة الوزن أو المكيل، مثل أن يكون هذا الكيس فيه خمسة وأربعون كيلو جرام -مثلاً-، أو تكون هذه البضاعة معروفة العدد، ولها عدد محدد متعارف عليه عند التجار، فهل يجب علي أن أعده أو أوزنه، أم يكتفى بالتعارف عليه؟
الجواب
الأكياس تباع بالعدد، وإذا كانت موزونة ومكتوباً عليها وزنها فلا حاجة إلى أن يفتح كل كيس ثم يكال أو يوزن، فأوزانها معروفة، فبيعها ينتقل من كونها مكيلة إلى كونها معدودة، وهكذا أطوال الأقمشة، إذا كان مكتوباً على كل واحد عدد الأمتار، فتباع والحال هذه بالعدد.
ولكن حيث إنها من جملة ما ينقل فقبضها بنقلها، أي: بتحويلها من زاوية إلى زاوية، فإذا اشتريت -مثلاً- عشرة أكياس، كل كيس بمائة، وأنت تريد أن تبيعها على مجتزئ كل كيس بمائة وعشرين، فلا تبعها عليه حتى تحوزها، حتى تنقلها من زاوية إلى زاوية، أو من الدكان إلى الطريق، ثم بعد ذلك تبيعها، ويكون هذا هو القبض.(28/15)
حكم طاعة الزوج في المعصية
السؤال
هذان سؤالان من النساء؛ الأول يقول: زوجي يجبرني على مشاهدة التلفزيون، ونحن معاشر النساء نفتن بالمذيعين والممثلين كما أنكم تفتنون بالنساء، فهل أعتبر عاصية وآثمة إذا لم أطع زوجي؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فإذا كانت هذه الرؤية تسبب فتنة، والمرأة إذا نظرت إلى هؤلاء الرجال المذيعين الذين قد يكونون من الشباب، وقد يكونون في غاية الجمال، فلا شك أن هذا يثير الشهوة، وأنه يدفع إلى الفتنة وإلى الفاحشة ونحو ذلك، والشباب إذا نظروا إلى المرأة ولو بواسطة الشاشات فإنه يكون في ذلك فتنة، ويفتتن بذلك كثير من الشباب، وكذلك تفتتن المرأة إذا نظرت إلى صورة هذا الإنسان، حتى ذكر لنا كثيراً أن بعض النساء إذا رأت رجلاً في الشاشة تقوم وتقبل الشاشة! ولا شك أن هذا من أسباب الفتن، فعليها ألا تطيع زوجها في ذلك.(28/16)
الأفضل في الصفوف في صلاة الجماعة
السؤال
وهذه سائلة أخرى تقول: هل يبدأ الصف من المنتصف من خلف الإمام، والأفضلية لليمين؟ وهل اليمين أفضل من الشمال بالنسبة للصفوف؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الأفضل من الصفوف تبدأ من الصف، ويمنة الصف أفضل من يسرته، ولكن القرب من الإمام أفضل، إذا كان -مثلاً- عن يمين الإمام عشرون، وعن يساره عشرة، فالأفضل عن يساره للقرب من الإمام.(28/17)
حكم رد العربون إذا لم يمضِ البيع
السؤال
ما حكم العربون المدفوع مقدماً إذا فشلت الصفقة؟ فهل هو من حق البائع إذا رجع المشتري عن الشراء أم يسترده المشتري؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا كان لهما الخيار أو لواحد منهما فإنه يرد ما قبضه مما يسمى عربوناً أو مقدمة ثمن، وأما إذا كان البيع لازماً ليس فيه خيار، فإنهما يصطلحان على أن يقول: أقيلك البيع، ولكن الثمن الذي أتاني لي، أو أجرة العقار.
فيتفقان، وذلك لأن البيع قد لزم، أما إذا لم يكن لازماً بل فيه خيار فإنه يرد الثمن كله بما فيه العربون.(28/18)
حكم تحديد قيمة السلعة والقول للبائع: ما زاد فهو لك
السؤال
لدي منزل للبيع، وقلت لصاحب العقار: أريد في هذا المنزل مائة ألف ريال صافي والباقي لك، وصاحب العقار باع المنزل بمائة وعشرين ألف ريال، ولم يخبر صاحب البيت، فهل هذا العمل جائز؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يمكن أن يجوز حيث إنه رضي بالمائة الألف، ولكن الأولى أن يخبره ويقول: المنزل يساوي أكثر من مائة، أنا بعته بمائة وعشرين، وأجرتي إنما هي خمسة آلاف أو ستة آلاف التي هي المعتاد، أو ألفان ونصف، فعند بعضهم ربع العشر أو نصف العشر، والحاصل أنه إذا باعه بأكثر فالأولى أن يخبر المالك ويقول: بعته بمائة وعشرين، فإن سمحت لي بالعشرين وإلا أخذت أجرتي التي هي ربع العشر أو نصف العشر، والبقية لك؛ لأنك أنت صاحب المال.(28/19)
تلف السلعة في زمن الخيار
السؤال
لو تلف المال أو السلعة مدة خيار المجلس أو الشرط في يد البائع أو المشتري بغير تفريط ولا تعد، فما الحكم؟ هل يضمن؟
الجواب
الصحيح أنه يذهب على المشتري إذا كان في مدة خيار الشرط، وأما خيار المجلس فإن العادة أنه لم يتم قبضه، ولم يتفرقا فيذهب على البائع، فإذا كان أحدهما تسبب في إتلافه فإنه يغرمه، وكذلك لو أتلفه أجنبي فإنه يغرمه ذلك المتلف.(28/20)
حكم سرقة آلات اللهو وكسرها
السؤال
أريد السفر -قريباً إن شاء الله- لأحد المدن المجاورة، ويوجد لدي أقارب يملكون بعض المنكرات مثل أشرطة الغناء والدش وغيره، فهل يجوز لي سرقة هذه المنكرات ثم كسرها؟
الجواب
عليك أن تنصحهم، وأن تحذرهم، وأن تبين لهم شرها، وأما كونك تسرقها فأنا أرى أن في ذلك مفاسد؛ لأنه لابد أن يحصل منهم شيء من الفتنة ومن القتال والشكايات والمرافعات وما أشبه ذلك، وإذا لم يقبلوا النصيحة فنرى أن تعتزل تلك المساكن التي فيها هذه المنكرات.(28/21)
قول البائع للمشتري: اسأل عن ثمن السلعة وأبيعك بأرخص من ذلك
السؤال
ما رأيكم فيما يفعله بعض الباعة عند الشراء، فيقول للمشتري: اذهب فانظر في السوق، وأي محل تجد السلعة فيه فسأنزل لك خمسة ريالات عن آخر سلعة أو عن آخر سوم؟
الجواب
يصح ذلك، ولكن ينبغي ألا يحمله على ذلك، بل يقول: هذا الذي أنا أبيع، والذي يبيع غيري لست بمسئول عنه.
هذا يفعله كثير، يقول -مثلاً-: أنت تريد أن تشتري عشرين كيساً، وأنا أبيع بمائة، ولكن اذهب وانظر في الأسواق ثمن هذا وهذا وهذا، فإذا وجدت أن أحداً يبيع بخمسة وتسعين، بعتك أنا بالتسعين وهكذا، لعل ذلك جائز.(28/22)
الخيار للمشتري في السلعة المعيبة
السؤال
من وجد في السلعة عيباً فردها إلى البائع، فقال البائع: أرد عليك الأرش.
فرفض المشتري إلا أن يرد القيمة كاملةً، ورد السلعة إلى البائع، فهل هو مخير بين رد السلعة أو الأرش؟
الجواب
نص على ذلك صاحب الكتاب، يقول: إن البائع يلزمه ما يطلبه المشتري، فإن طلب المشتري الأرش أعطاه الأرش، وإن طلب الرد والفسخ فله ذلك، فالخيار للمشتري، يقول -مثلاً-: وجدت الكتاب ناقصاً فلا أريده ناقصاً، أعطني الثمن.
وتارة يقول: سأقبله ولكن أعطني قيمة الخلل.
هذا الخلل نقص صفحات -مثلاً- أو بياضها ينقصه الربع، أعطني الربع أو الخمس الذي ينقصه، فالخيار للمشتري.(28/23)
حكم كتابة سعر غير حقيقي على السلعة
السؤال
اشتريت بخوراً بمائة وثلاثين ريالاً، ولكنني كتبت عليه مائتين وثلاثين ريالاً، ثم قمت بالحراج عليه حتى وصل إلى مائتين ريال، فبعته بهذه القيمة، فهل علي شيء؟
الجواب
لا شك أن عليك إثماً؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الكتابة اعتبروا أنك صادق، وزادوا فيها، فهذا يعتبر تدليساً، فعليك أن تكتب الثمن الحقيقي، وإذا كان هناك تكلفة، كما لو اشتريت الكيس بثمانين، ثم إنك استأجرت من يحمله بخمسة، ثم استأجرت له مخزناً بخمسة، فأصبح عليك بتسعين، فمن العلماء من يقول: عليك أن تخبره، وتقول: ثمنه ثمانون، وأجرته كذا، تخبر بذلك على الحقيقة، ومنهم من يقول: يجوز أن تجمل وتقول: قيمتها تسعون.
يعني: مع الذي تكلف به، وهذا هو الذي عليه أكثر الناس.
أحسن الله إليكم، ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/24)
شرح أخصر المختصرات [29]
الربا من أعظم المحرمات، ومن كبائر الموبقات، وقد وردت أدلة كثيرة في تحريمه والزجر عنه، وهو أنواع وأبواب، فعلى المسلم أن يعلم أحكام هذا الباب ليسلم منه.(29/1)
الربا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الربا نوعان: ربا فضل، وربا نسيئة، فربا الفضل: يحرم في كل مكيل وموزون بيع بجنسه متفاضلاً ولو يسيراً لا يتأتى، ويصح به متساوياً، وبغيره مطلقاً، بشرط قبض قبل تفرق، لا مكيل بجنسه وزناً، ولا عكسه، إلا إذا علم تساويهما في المعيار الشرعي.
وربا النسيئة يحرم فيما اتفقا في علة ربا فضل؛ كمكيل بمكيل، وموزون بموزون نساء، إلا أن يكون الثمن أحد النقدين فيصح، ويجوز بيع مكيل بموزون وعكسه مطلقاً، وصرف ذهب بفضة وعكسه، وإذا افترق متصارفان فصل العقد فيما لم يقبض] .(29/2)
تعريفه
الربا في اللغة: الزيادة، يقال: ربا هذا الشيء؛ يعني: زاد، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5] يعني: ربت وزادت بالنبات، وارتفعت عن مستواها، وكذلك قال تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] والربوة هي: المكان المرتفع الزائد عن مستوى الأرض، هذا تعريفه في اللغة.
وفي الشرع: هو زيادة في أشياء مخصوصة.(29/3)
أدلة تحريمه
الربا حرمه الله تعالى، وورد الوعيد الشديد في تحريمه، فمن ذلك قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275] فتوعد الله المرابين بأنهم في الآخرة يقوم أحدهم ثم يسقط مثل المجنون الذي يمشي قليلاً ثم يصرع، شبههم بالذي قد لامسه مس من الجن، والعادة أنه يمشي ثم يصرع ثم يقوم فيمشي ثم يسقط، فهكذا المرابون يقومون إذا بعثوا، وفي بعض الآثار أنهم يعرفون بانتفاخ بطونهم، وورد في حديث سمرة الذي في البخاري في ذكر الرؤيا: (أنه مر برجلين أحدهما يسبح في دم، والآخر على طرف الشط عنده حجارة، كلما أتى إليه فتح فمه وألقى فيه حجراً) وفسره بأنه آكل الربا.
وقد اتفق العلماء على أن الربا من كبائر الذنوب، واستدلوا على ذلك بالوعيد الشديد في القرآن؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] أي: من عاد إلى تعاطيه، ولم يتب منه، واستعمله وأكله، فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد.
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة:278] أي: اتركوا ما بقي من الربا {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] .
ذكر بعض السلف أنه يقال لآكل الربا يوم القيامة: قم حارب الله ورسوله! أي: كأنه قد استعد أن يحارب الله ورسوله! وماذا يفعل؟ وماذا تنتهي به قوته في هذه المحاربة؟! ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ولاشك أن النهي يدل على التحريم، وقد ورد الوعيد عليه في الحديث الذي في الصحيح عن جابر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء) فاللعن دليل على التحريم، ويحرم التعاون عليه، فالشاهدان لما شهدا على هذا الحرام وأكداه بشهادتهما دخلا في الوعيد، والكاتب لما علم أنه ربا وكتبه دخل في الوعيد، والآكل: هو الذي يربحه، والموكل: هو الذي يدخله على الآكل، فكلهم عليهم الوعيد.
كذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم عده من السبع الموبقات كما في الحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات.
قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات) فجعله من جملة هذه المحرمات، وسماها موبقات، يعني: مهلكات.
ووردت أحاديث أخرى فيها وعيد شديد، ولكن يظهر أنها من القُصاص، ولو كانت أسانيدها مقاربة؛ مثل الحديث الذي فيه: (درهم ربا أشد إثماً من ست وثلاثين زنية) فهذا الحديث إسناده مقارب، لكن يظهر أنه من أحاديث القصاص الذين يتساهلون في الرواية، وكذلك حديث آخر بلفظ: (الربا سبعون باباً، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه) فهذا أيضاً من أحاديث القصاص، ويظهر أنها ليست صحيحة، فقد كان هناك قصاص يأخذون ما وجدوا، فربما يسمعون الحديث من أحد العامة فيروونه ويجعلونه حديثاً، فيسمعهم من يرويه ويصدق به.
وبكل حال: الوعيد شديد، وقد صحح بعضهم بعض هذه الأحاديث كما في منظومة ابن عبد القوي: وإياك إياك الربا فلدرهم أشد عقاباً من زناك بنهّد ولكن يكفي أنه من السبع الموبقات، إلى آخر ما ورد فيه.(29/4)
أنواع الربا
الربا نوعان: ربا فضل، وربا نسيئة، وربا الفضل أخف؛ وذلك لأن فيه خلافاً عن بعض السلف، فقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم أباحوا ربا الفضل، ولكن ذكروا أن ابن عباس رجع عنه، وإن كان قد تبعه على ذلك بعض تلامذته وقالوا بقوله، وذكر بعضهم أنه لم يرجع عن إباحته، واستدل له بحديث أسامة في الصحيح: (لا ربا إلا في النسيئة) أو: (إنما الربا في النسيئة) فأخذوا من هذا أنه لا يحرم ربا الفضل، ولكن فسره بعضهم بقوله: لا ربا أشد ولا ربا أعظم من ربا النسيئة.
بدأ المؤلف بربا الفضل، واختار هنا أنه في كل مكيل وموزون بيع بجنسه متفاضلاً، فيحرم ربا الفضل في كل مكيل وموزون بيع بجنسه متفاضلاً ولو يسيراً لا يتأتى، وفي الحاشية قال: كتمرة بتمرتين، وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد أن علة الربا: الكيل والوزن، فكل ما يكال أو يوزن فإنه يعتبر ربوياً، فكل مكيل بيع بجنسه، فلابد أن يكون متساوياً ولا يصح متفاضلاً، والمكيلات هي: ما كان أهل المدينة يبيعونه بالكيل؛ كالتمر، والزبيب، والبر، والشعير، والذرة، والدخن، والأرز، وكذلك ما كان مكيلاً ولو لم يكن قوتاً، مثل: القهوة، والهيل، والقرنفل، والزنجبيل، وكذلك ما ليس بمأكول ولا مطعوم؛ كزهر الورد، والصابون -مثل: التايت الآن-، يقولون: كل ما يباع بالكيل لا يجوز صاع بصاعين من نفس الجنس، مثل صاع بر بصاعين، هذا ربا، ولا صاع شعير بصاعين، ولا صاع بر بصاع وحفنة، ولا صاع تمر بصاعين، لا يجوز هذا، ودليله أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فسأله: (أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول الله، والله إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: أوه أوه! عين الربا، لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً) أي: إذا أردت أن تشتري تمراً جيداً وعندك تمر رديء، فالتمر الرديء بعه بدراهم، ثم اشتر بالدراهم تمراً جيداً من الذي تريد، فأما أن تقول: يا صاحب الجيد! أعطني صاعاً بصاعين، أو صاعين بثلاثة، أو صاعين بأربعة، فهذا لا يجوز، وهو عين الربا كما ورد في هذا الحديث.(29/5)
الأصناف الربوية المنصوص عليها
عن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) ، فنص هذا الحديث على ستة أصناف ربوية، فلا يباع تمر بتمر إلا مثلاً بمثل، ولا يباع بر ببر إلا مثلاً بمثل ولو اختلفت القيمة، ومعلوم أن القيمة تختلف؛ وذلك لأن هناك نوعاً من التمر جيد غال رفيع الثمن، كالذي يسمى بالسكري أو البرني، فثمنه رفيع، وهناك تمر رخيص كالذي يسمى بالخضري، أو بالصفري، قد يكون الكيلو من السكري بعشرين، والكيلو من هذا بريال أو بريالين، ولو تفاوتت قيمته فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل.
وإذا أراد إنسان عنده تمر دقلي أو روحاني أو عجوة أو نحو ذلك أن يشتري تمراً آخر، فإنه يبيع التمر الذي عنده بدراهم، ثم يشتري بالدراهم من التمر الذي يريد جيداً أو رديئاً، فأما أن يقول: أعطني صاعاً بصاعين فهذا ربا، أو صاع بصاع ونصف فهذا ربا، كما في حديث بلال الذي ذكرنا.
وهكذا البر يختلف أيضاً؛ فهناك بر اسمه صمع، وبر اسمه الشارعي، وبر اسمه الحباب، وبر اسمه اللقيمي، وهذه تختلف قيمتها، فبعضها صاعه بأربعة، وبعضه صاعه بستة، وبعضها صاعه بثلاثة، فإذا كان الإنسان عنده بر رديء، ويريد أن يشتري جيداً، باع الرديء بالدراهم، واشترى بالدراهم جيداً، وكذلك بالعكس، ولا يكون الصاع بصاعين، أو الصاعين بثلاثة، بل هذا من الربا.
وقوله: (مثلاً بمثل) ولو اختلفت القيمة إذا كان الاسم واحداً، هذا تمر وهذا تمر، هذا نوع وهذا نوع، فالاسم يعم؛ ولكن الكلمة تحتها أنواع، فالتمر تحته أنواع: الثلج نوع، والروحاني نوع، والنيفي نوع، والصفري نوع، والجميع تمر، فالجنس تمر، وتحته أنواع.
والبر جنس، يسمى براً، ويسمى قمحاً، ويسمى: حنطة، كل هذه مسميات لاسم واحد، ولكن تحته أنواع فالصمعي نوع، والشارعي نوع، وأشباه ذلك، فإذا أراد أن يشتري نوعاً بنوع فلا يجوز إلا مثلاً بمثل.(29/6)
خلاف العلماء في إلحاق غير الأصناف الستة بها
الحديث فيه ستة أصناف، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، فاختلف العلماء: هل يلحق بها غيرها أو لا يلحق بها غيرها؟ ذهب ابن حزم والظاهرية أنه لا يلحق بها غيرها، بل يقتصر على هذه الستة، ولا يجوز أن يلحق بها غيرها، والجمهور قالوا: يلحق بها غيرها، ويقاس عليها، فإنه ما ذكر هذه الستة إلا ليلحق بها غيرها.
واختلفوا ما العلة التي نلحق بها ما كان مثلها؟(29/7)
مذهب أحمد في الربويات
عند الإمام أحمد وأبي حنيفة أن كل ما يكال أو يوزن فإنه يلحق بالستة، وجعلوا علة الربا: الكيل والوزن، هكذا اختار الإمام أحمد.
يقول المؤلف: (في كل مكيل وموزون) فكل مكيل لا يباع إلا بجنسه مثلاً بمثل، وكل موزون لا يباع بجنسه إلا مثلاً بمثل، فالمكيلات في العهد النبوي هي الحبوب، والثمار، والسوائل، هذه كلها مكيلة، فمثلاً: التمر مكيل، والدهن مكيل يباع بالكيل، واللبن مكيل، والأرز مكيل، والقهوة مكيل، وكذا القرنفل والزنجبيل، وكذا ما ليس بمطعوم أو ما ليس بقوت مثل حب الرشاد، وما يسمى: بالحب الحار وأشباهها، هذه كلها تباع كيلاً، فعلى هذا تكون ربوية، فلا يجوز أن يباع حب الرشاد مثلاً بصاع ونصف؛ يعني: رشاد برشاد، أو الحب صاع بصاع وربع، ما يجوز إلا مثلاً بمثل، وكذلك القهوة، فلو كانت عندك قهوة رديئة وأردت أن تشتري جيدة فلا تبعها إلا مثلاً بمثل، صاعاً بصاع، وإذا أردت الجيد فإنك تبيع الرديء بالدراهم، ثم تشتري بالدراهم جيداً مما تريد، وهكذا الهيل مثلاً يتفاوت، منه ما هو جيد ومنه ما هو رديء، فإذا أراد شخص أن يشتري جيداً وعنده رديء، باع الرديء بالدراهم واشترى بالدراهم جيداً، أما أن يقول: أعطني صاعاً بصاعين من هذا الرديء فلا يجوز، وهذا يدخل في الربا.
يدخل في الربا كل المكيلات قديماً، فالدهن مثلاً كان يباع بالكيل، ولكن يرجع فيه إلى أصله، فدهن الغنم يسمى جنس، فلا يباع منه صاع بصاعين، أو صاع بصاع ونصف من دهن الغنم، والغنم سواء كان ضأناً أو معزاً يعتبر جنساً واحداً، وأما دهن غنم ودهن إبل فإنه يختلف، فيجوز أن يباع صاع من دهن الغنم بصاعين من دهن الإبل؛ وذلك لأنه ليس مثله، هذا له أصل، وهذا له أصل، ولكن لابد أن يكون يداً بيد، لابد من التقابض.
وكذلك الألبان، لبن الإبل أرخص من لبن الغنم، فيجوز أن يباع صاع من لبن الغنم بصاعين من لبن الإبل، ولكن يداً بيد، وأما لبن غنم بلبن غنم فلابد فيه من شرطين: لابد من التماثل، ولابد من التقابض، صاعاً بصاع، وكذا الأقط، يباع أيضاً كيلاً، فلا يجوز أن يباع أقط الغنم بجنسه إلا صاعاً بصاع أو صاعين بصاعين مثلاً بمثل، ويجوز صاع من أقط الغنم بصاعين من أقط الإبل؛ وذلك لاختلاف الأصل.
وكذلك في كل المكيلات، ولو كان كيلها غير معتاد، فالبصل يباع بالكيل في الأصل، فعلى هذا لا يباع إلا صاعاً بصاع ولو اختلف المسمى، ولو كان هذا طويلاً وهذا عريضاً، فيباع صاع بصاع، ومن كان عنده رديء باعه بدراهم، واشترى جيداً بدراهم.
هذه أمثلة للمكيل.
أما الموزون فهو الذي لا يتأتى كيله؛ مثل: اللحوم، فإنها تباع بالوزن، ولكنها أجناس، فلحم الغنم جنس، ولحم البقر جنس، ولحم الإبل جنس، ولحم السمك جنس، ولحم الطيور جنس، ومن العلماء من قال: الطيور عدة أجناس، فلحم الدجاج جنس، ولحم الحمام جنس، ولحم العصافير جنس، ولحم الحبارة جنس، ومنهم من قال: إنها كلها جنس.
فاللحوم تباع بالوزن، فلا يجوز أن يباع مثلاً كيلو لحم بقر باثنين كيلو لحم بقر، ولو كان هذا سميناً وهذا هزيلاً؛ لأن الاسم واحد (لحم بقر) ، وكذلك لحم الغنم، ولا فرق على الصحيح بين الضأن والمعز، بل كلاهما جنس، فعلى هذا: لا يجوز أن يباع كيلو لحم باثنين كيلو لحم من الغنم، ولو كان هذا سميناً دسماً وهذا هزيلاً، ومن كان عنده لحم هزيل وأراد سميناً باع الهزيل بالدراهم، واشترى بالدراهم سميناً، فأما أن يقول: أعطني كيلو باثنين كيلو، فهذا عين الربا.
ويجوز أن يشتري مثلاً كيلو لحم غنم باثنين كيلو لحم إبل لأنه أرخص؛ وذلك لأنهما جنسان، هذا جنس وهذا جنس، واللحم الأحمر كله جنس؛ وإن كان منه لحم الظهر ولحم الفخذ ولحم العضد، وأما البواطن فإنها أجناس، فالكبد جنس، والطحال جنس، والرئة جنس، والكلية جنس، والقلب جنس، والأمعاء جنس، والكرش جنس، هذه أجناس لا تتفق، فعلى هذا يجوز أن يباع مثلاً اللسان بالقلب ولو اختلف الوزن؛ وذلك لأنها متفاوتة.
فاللحوم من الموزونات، وبعض العلماء جعلها أربعة، فقال: السمك جنس، وبهيمة الأنعام جنس، والصيد جنس، والطيور جنس، وبعضهم اعتبرها أجناساً، وهذا هو الأقرب، فالإبل جنس، والبقر جنس، والغنم جنس، والظباء جنس، وكذلك الطيور تتفاوت، فلحم الدجاج جنس، ولحم الحبار جنس إلى آخره، إلا أن اللحوم إذا تقاربت فإنها تكون جنساً، فالضأن والمعز جنس، والبقر والجواميس جنس، والإبل والبخاتي جنس.
هذا نوع من الموزونات وهي كثيرة، ومن الموزونات: القطن، والحديد، والنحاس، والرصاص، والصوف، والشعر وأشباه هذه، فهذه لا تباع بالكيل إنما تباع بالوزن، فلابد فيها من التماثل، فإذا باع قطناً بقطن فلابد أن يكون كيلو بكيلو ولو اختلفت القيمة، وإذا باع صوفاً بصوف فلابد أن يكون مثلاً بمثل، وإذا باع حديداً بحديد فيكون مثلاً بمثل، وإذا باع رصاصاً برصاص فيكون مثلاً بمثل، فهذه هي الأصناف الربوية عند الإمام أحمد.
قوله: (في كل مكيل وموزون) يخرج الذي لا يكال ولا يوزن، مثل المعدود أو المذروع، فمثل هذا ليس بربوي، فيجوز أن تبيع شاة بشاتين، وبعيراً ببعيرين، فقد روي أن علياً رضي الله عنه باع جملاً له يسمى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل؛ وذلك لارتفاع قيمته، فيجوز فيه النساء، ويجوز فيه التفاضل، فيجوز أن يبيع عبداً بعبدين، وفرساً بفرسين، وشاة بشاتين؛ لأنها لا تكال ولا توزن ما دامت حية.
وكذلك ما يذرع، يجوز أن تبيع جلداً بجلدين أو بعشرة جلود، ويجوز ثوباً بثوبين أو بخمسة ثياب، ويجوز فيه أيضاً النساء، فيجوز أن تقول مثلاً: أبيعك هذا الثوب بثوبين جديدين تعطينيهما بعد شهر أو بعد عام، لا بأس بالمفاضلة، ولا بأس بالنساء.
ومثله أيضاً: ما يباع بالعدد، إن كانوا يبيعون الخضار بالعدد لا بالوزن، فالتفاح والبيض يباعا بالعدد، لا يوزنا ولا يكالا، فعلى هذا يجوز أن تبيع بيضتين بأربع، وأن تبيع تفاحتين بأربع، أو بطيختين بثلاث، وكذلك القرع، والباذنجان، والكوسة، والخيار، والقثاء.
وكذلك أيضاً ما يباع بالصرة كالخس والفجل وأشباهها، فهذه ليست مكيلة ولا موزونة، فيجوز التفاضل فيها، وهو واقع من الناس، يجوز أن تبيع حبة بحبتين من القرع، أو من الباذنجان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا يباع بالعدد، وإذا قلت: إن التفاح الآن يباع بوزن، وكذلك البرتقال، وغيرهما من الفواكه! نقول: إن العبرة بالأصل.
وبعض الفواكه كان قديماً يباع بالكيل، وهو ما يكون صغيراً مثل المشمش، والخوخ، والتين، فهذه تلحق بالمكيلات فتكون ربويةً، فالناس كانوا يكيلون المشمش بالصاع، وكذلك الخوخ والتين، كما أنهم يكيلون الزبيب.
فالحاصل: أن الثياب مثلاً يجوز بيعها ثوباً بثوبين، أو ذراعاً بذراعين، ولو من قماش واحد، ويجوز فيه النساء، أي: أن تبيع ثوبين بخمسة ثياب مؤجلة، لا بأس بالنساء فيه، ولا بأس بالتفاضل.
إذاً: اختيار الإمام أحمد أن الربا يختص بما يكال ويوزن.(29/8)
مذهب مالك في الربويات
الإمام مالك يرى أن العلة في الربا هي القوت، فكل شيء يصلح قوتاً فإنه ربوي، وإلا فليس بربوي، ويلحق بذلك ما ليس قوتاً لكنه يصلح القوت، فيقول: ورد الشرع بأربعة من القوت: البر، والشعير، والتمر، والرابع الملح الذي يصلح به القوت، فعنده الرز ربوي؛ لأنه قوت، وكذلك الدخن والذرة؛ لأنهما قوت، ويلحق بذلك ما يصلح به القوت أو ما يتبع القوت، مثل الخضار التي يصلح بها القوت، فعنده أن الطماطم ربوي، وكذلك القرع؛ لأنه يصلح به القوت أو يخلط به، وكذلك جميع ما يحتاج إلى طبخ مثل الجزر والبيض فيكونان قوتاً، وكذلك بعض الفواكه مثل العنب الذي يكون زبيباً؛ لأن الزبيب قوت، فعلى مذهب مالك لا يجوز بيع الدباء إلا مثلاً بمثل، وهكذا الأترج والتفاح؛ لأنه يمكن أن يكون قوتاً، والموز عنده قوت؛ لأنه يصلح أن يقتات، فيكون ما يقتات أو يصلح القوت ربوياً.
وأما ما ليس بقوت كالقهوة والهيل والقرنفل، والحلب، وحب الرشاد، وما أشبه ذلك، فهذه عند مالك ليست ربوية، فيجوز أن تبيع صاعاً من القهوة بصاعين، أو صاعاً من الهيل بصاعين، إذا كان يداً بيد؛ لأنها ليست قوتاً، ولأنها ليست مما يصلح به القوت، ويقول: اللحوم قوت، فجميع اللحوم عنده ربوية، وأما الحديد فليس بربوي.(29/9)
اختلاف العلماء في علة الذهب والفضة
اختلفوا في علة الذهب والفضة، فالإمام أحمد وأبو حنيفة يقولان: العلة فيهما كونهما يوزنان، فالذهب يباع بالوزن، والفضة تباع بالوزن، فألحقنا بهما الرصاص؛ لأنه يباع بالوزن، وكذا الحديد يباع بالوزن، والصفر يباع بالوزن، وكذلك أيضاً الصوف والقطن وما أشبه ذلك، فهذه تباع بالوزن، فألحقناها بالذهب والفضة.
وأما الإمام مالك فيقول: العلة في الذهب والفضة أنهما أثمان؛ فلذلك نلحق بهما ما كان ثمناً، فنلحق بهما ما يسمى الآن: بالهلل، وكذا الأوراق النقدية؛ لأنها أثمان بجميع أنواعها، فلا يباع جنسها بجنسها إلا مثلاً بمثل، لا يباع ريال بريالات سعودية إلا مثلاً بمثل، فلا يباع ريال بريال، أو خمسة بخمسة، إلا إذا اتفق الاسم واختلفت القيمة مثلاً، فيجعل العلة في الذهب والفضة كونهما أثماناً للسلع؛ فأنت مثلاً إذا قلت: بكم هذا الكتاب؟ سيقولون مثلاً: بعشرة ريالات، وهذا يدل على أنها أثمان، أي: قيم للسلع، فيجعل العلة هي الأثمان، فعند الإمام مالك يجوز في الحديد أن يباع كيلو باثنين كيلو، وكذا القطن؛ لأنهما ليسا قوتاً وليسا أثماناً، فالعلة عنده القوت.(29/10)
مذهب الشافعي في الربويات
الإمام الشافعي يقول: العلة هي الطعم، وقال: العلة في الذهب والفضة: الثمنية كما قال مالك، فعند الإمام الشافعي أن كل شيء يطعم ولو لم يكن قوتاً فإنه ربوي، وما ليس بمطعوم فإنه ليس بربوي، نأتي بأمثلة: عندنا مثلاً الحناء، هذا ربوي عند الإمام أحمد؛ لأنه مكيل، وليس ربوياً عند الشافعي؛ لأنه ليس بمطعوم، ولا عند الإمام مالك؛ لأنه ليس بقوت، وكذلك مثلاً زهر الورد ليس ربوياً إلا عند الإمام أحمد؛ لأنه يكال، وكذلك الصابون الذي يغسل به ليس ربوياً عند الإمام الشافعي؛ لأنه ليس بمطعوم، وليس بربوي عند مالك؛ لأنه ليس بقوت، ولكنه مما يكال، فهو ربوي عند الإمام أحمد، كذلك الأشنان الذي كانوا يغسلون به، هو ربوي عندنا دون مذهب الإمام مالك والشافعي، وكذلك النورة التي يطلى بها وما أشبهها، فهذه ربوية عندنا، وليست ربوية عند الشافعي؛ لأنها ليست مطعومة، ولا عند الإمام مالك؛ لأنها ليست بقوت.
أما القهوة فهي عندنا ربوية؛ لأنها مكيلة، وربوية عند الشافعي؛ لأنها مطعومة، وليست ربوية عند مالك؛ لأنها ليست قوتاً، وكذلك الزنجبيل، وحب الرشاد، والقرنفل، والحب الحار وما أشبهها، فهذه ربوية عند الشافعي؛ لأنها مطعومة، وربوية عندنا؛ لأنها مكيلة، وليست ربوية عند مالك؛ لأنها ليست قوتاً، فهذه تعليلات الأئمة فيما هو ربوي من ربا الفضل.
نعود فنقول: إذا بيع مكيل بمكيل، أو موزون بموزون فلابد من شرطين: 1- التماثل؛ صاع بصاع، أو كيلو بكيلو.
2- التقابض؛ يداً بيد، ولا تجوز الزيادة فيه ولو يسيراً، كتمرة بتمرتين، أو حفنة بحفنتين، لا نَساء ولا حالاً، فلا يصح إلا متساوياً، صاع بصاع، أو كيلو بكيلو، أو حفنة بحفنة.
أما إذا بيع بغيره فإنه يصح بشرط: قبض قبل تفرق، وصورة ذلك: بر بشعير، ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض دون التساوي، فيجوز صاع بر بصاعين شعير، ولكن لابد من التقابض، يداً بيد؛ لأنه قال في الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) مثلاً صاع زبيب بصاعين تمر ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض دون التساوي، صاع بصاعين يجوز؛ لأنه قد يكون الزبيب أغلى، فيقال: صاع زبيب بصاعين تمر.
هذا معنى قوله: (وبغيره مطلقاً) يعني: ويجوز في غيره أن يباع مكيل بموزون، أو أن يباع جنس بغير جنسه؛ لأنه قال هناك: (بيع لجنسه) ، وتفطن لكلمة (جنسه) ، تمر بتمر جنس بجنس، وأما تمر بزبيب فجنس بجنس آخر ليس بجنسه، فيشترط فيما بيع بغير جنسه التقابض قبل التفرق، ويجوز التفاوت كصاع بصاعين.(29/11)
قوله: (لا يجوز أن يباع المكيل بجنسه وزناً ولا عكسه)
ذكروا أنه لا يجوز أن يباع الشيء بجنسه وزناً ولا عكسه، فيقولون مثلاً: التمور مكيلة، فلا يباع تمر وزناً بتمر كيلاً، وذلك لعدم تحقق التساوي، فلا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً، ولا موزون بجنسه إلا وزناً، فلا يباع صاع تمر باثنين كيلو تمر؛ لعدم معرفة التماثل، أو صاع زبيب بثلاثة كيلو زبيب، ما يجوز، فلا يباع إلا كيلاً، والصحيح: أنه يجوز وزناً؛ لأن الوزن أضبط بالمثلية، كما هو اليوم واقع الناس، فالتمر أصبح موزوناً، والزبيب أصبح موزوناً، والدهن أصبح موزوناً، فيجوز أن يباع مثلاً تمر بتمر كيلو بكيلو، ولو اختلف النوع؛ ولذلك قال: (ولا عكسه إلا إذا علم تساويهما في المعيار الشرعي) والمعيار الشرعي في المكيلات هو: الصاع، وفي الموزونات: هو ما يعرف بالرطل قديماً، وما يعرف الآن بالكيلو، وهو المعيار الذي تقدر به المقدرات، وقد توسعوا في ذكر الأمثلة؛ لذلك قالوا: لابد من التحقق في التماثل، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل يباع الرطب بالتمر؟ فقال: (هل ينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم) وهو يعرف أنه ينقص؛ لأنه إذا كان رطباً يزيد بهذه الرطوبة، فإذا يبس وجف خف وزنه، وخف كيله، فقال: (لا يباع إلا مثلاً بمثل) يعني: لا يباع الرطب باليابس لعدم تحقق التساوي، أما الدقيق مثلاً فيباع وزناً ولا يباع كيلاً؛ لأن العادة أنه إذا طحن انتشرت أجزاؤه، فأنت مثلاً تأتي بالصاع من البر تطحنه، وإذا كلته وجدته قد زاد، وأصبح الصاع صاعاً وربع أو صاعاً وثلث.
ففي هذه الحال: لا يباع صاع دقيق بصاع بر؛ لعدم تحقق التساوي، لكن بالوزن يتحقق التساوي، فإذا بيع كيلو دقيق بكيلو بر فلا بأس بذلك.
وكذلك العصيرات تلحق بأصولها، فعصير العنب يعتبر مثل العنب، فلا يباع إلا بجنسه مثلاً بمثل، ودبس التمر يلحق بالتمر، فلا يباع دبس بدبس إلا متساوياً متماثلاً، أما إذا خرج عن جنسه فالصحيح أنه يجوز التفاضل فيه، مثاله: الخبز، فالخبز أصبح غير مكيل ولا موزون، أصبح يباع بالعدد، مع أن هناك من يزنه، ففي هذه الحال يجوز أن تشتري رغيفاً برغيفين ولو كان أصلهما براً، ويجوز فيه النساء أيضاً، يجوز أن تقول: بعني رغيفاً وأعطيك رغيفين غداً، والرغيف هو الواحدة من الخبز، وكذلك أيضاً إذا كانت هناك خبزة كبيرة، فتقول: بعني هذه الخبزة بأربع صغيرات، أو بثلاث، فيجوز ذلك؛ لأنه خرج عن أصله، وأصبح غير مكيل ولا موزون، أصبح يباع بالعدد كما هو مشاهد، وأما إذا كان باقياً على أصله أو ملحقاً بأصله كالدبس ونحوه، فإنه باق على ما هو عليه.(29/12)
ربا النسيئة
ربا النسيئة: هو ربا الجاهلية الذي ورد فيه الوعيد الشديد، كان أهل الجاهلية إذا كان عند أحد لإنسان دين، مثلاً عشرة آلاف، جاء إليك وقال: أعطني ديني وإلا زدت عليك فيه، وأخرتك، ويعبرون بقولهم: إما أن تعطي وإما أن تربي، إما أن تعطيني ديني الذي في ذمتك، وإما أن تربي، ما معنى تربي؟ أي: نزيد في الدين، ونزيد في الأجل، الدين عشرة آلاف، نجعلها خمسة عشر ألفاً ونؤخرك سنة، فإذا تمت السنة جاء إليك وقال: عندك لي خمسة عشر ألفاً، إما أن تعطيني إياها وإما أن أزيد وأؤخرها، فيؤخرك سنة ويجعلها مثلاً عشرين ألفاً، فإذا حلت العشرون جاء وقال: أعطني العشرين وإلا زدت فيها وأجلتك سنة، فيجعلها مثلاً ثلاثين، ويقول: أؤخرها سنة، فإذا حلت الثلاثون جاء وقال: أعطني الثلاثين وإلا زد فيها وأؤخرك، فيجعلها أربعين، وهكذا تتضاعف، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ولما جاء الإسلام كان أناس عندهم عشرات الألوف وهي ربا، فجاء الإسلام بإبطالها فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: (كل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا العباس) ، فوضع الربا الذي كان العباس يتعاطاه عند كثير من المرابين، وأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ، إذا كان رأس مالك عشرة آلاف ثمن السلع التي بعتها، فتقتصر عليها، والزيادات التي ضاعفتها إلى أن وصلت إلى أربعين ألفاً أو مائة ألف كل هذه أسقطها، وليس لك إلا رأس مالك.
والنساء: هو التأخير، نسأه يعني: أخره، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] ونسيء الجاهلية هو تأخير بعض الشهور المحرمة، وقرأ بعض القراء قول الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسئها) أي: نؤخرها.
فالنساء هو التأخير، ومعنى ذلك أنهم كانوا يقولون: نؤخرك بالمطالبة ونزيد في الدين، الدين الذي هو عشرة، ننسئه أي: نؤخره ثم نجعله زائداً عما كان عليه؛ لذلك يحرم ربا النسيئة فيما اتفق عليه في علة ربا الفضل، كمكيل بمكيل، وموزون بموزون نساءً.
وذكرنا في ربا الفضل أنه لا يجوز النساء فيما كان جنساً بجنس، إذا اتفقا في علة واحدة، فمثلاً: شعير ببر صاع بصاعين ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض، ولا يجوز فيه النساء، ومثلاً: كيلو لحم غنم باثنين كيلو لحم إبل يجوز، ولكن لابد فيه من التقابض، ولا يجوز فيه النساء؛ وذلك لأن العلة فيه واحدة، وهو أن هذا موزون وهذا موزون، وكذلك مثلاً إذا بيع حديد أو رصاص باللحم، ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض، ولا يجوز فيه النساء، ولا يجوز التفرق قبل التقابض، فيحرم ربا النسيئة إذا ما اتفق في علة ربا فضل كمكيل بمكيل، مثل: بر بشعير، ولا يجوز النساء يعني: التأخير، ويجوز صاع بصاعين في موزون بموزون، كحديد بقطن، أو حديد بلحم، أو لحم بقطن أو بصوف، لكن لا يجوز إلا يداً بيد، ولا يجوز النساء.
واستثنوا إذا كان الثمن أحد النقدين، فعندنا أن العلة في النقد الوزن، فالريالات قديماً كانت من فضة، والجنيهات كانت من الذهب، وكانوا يتعاملون بالدراهم الفضة المضروبة، أو بالذهب الذي هو الدنانير المضروبة، ففي هذه الحال: يجوز النساء إذا كان الثمن أحد النقدين، يعني: من النقود، فيجوز مثلاً أن تشتري لحماً بدراهم غائبة، أو تشتري قطناً بدراهم غائبة، أو تشتري قطناً غائباً أو لحماً غائباً بدراهم حاضرة، وهو ما يسمى بالسلم، فلو منع ذلك لانسد السلم في الموزونات، فيجوز بيع مكيل بموزون وعكسه موزون بمكيل مطلقاً.(29/13)
الأسئلة(29/14)
حكم الصرف مع التأخير
السؤال
أحسن الله إليكم! هذا سائل يقول: إذا ذهب أحد إلى من يصرف له خمسمائة ريال فلم يجد عنده إلا ثلاثمائة ريال، فقال: خذ الثلاثمائة وارجع بعد مدة وخذ المائتين، فهل يعتبر هذا صحيحاً؟
الجواب
يجوز ذلك؛ وذلك لأنها اسم واحد ولا فرق بينها، خمسة واحدة أو خمس ورقات أو عشر ورقات، القيمة واحدة، ولا تفاوت بينها، فلا حرج في كونه مثلاً يعطيك الآن ثلاثمائة، وترجع إليه بعد يوم أو يومين فيعطيك الباقي.(29/15)
وجوب نقل البضائع الكبيرة قبل بيعها ولو كانت في ثلاجات
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: البضائع الكبيرة التي تكون في الثلاجات يصعب نقلها من مكانها لوجود مشقة، فهل يكفي قبض الدراهم وأخذ المستند على بيعها؟
الجواب
لاشك أنها ثقيلة، فإذا باع ما في هذه الثلاجة الكبيرة فإنها تبقى في ملك البائع، ولو تلفت لذهبت على البائع، وفسدت كلها على البائع، ولكن يكون قد انعقد سبب البيع، فلا يجوز له أن يرجع لكون البيع قد انعقد، ثم لا يجوز للمشتري أن يبيع وهي في الثلاجة، اشترى مثلاً مائة كرتون تفاح أو بطاط، أو مائة كيس من البصل، ولكنها لا تزال في الثلاجة، فلا يجوز أن يتصرف فيها لكون البيع قد انعقد، وقد وجب لوجود التفرق، ولكن ليس لك أيها المشتري أن تتصرف فيها قبل أن تقبضها، وإذا تلفت فإن ذهابها على البائع؛ لأنها لا تزال في مستودعه، أو لا تزال في ثلاجته.(29/16)
حكم بيع الأسهم بالتأجيل مع رفع السعر
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: لدي أسهم في شركة، وأريد أن أبيعها على شخص مؤجلاً بسعر أكثر من سعرها الحالي، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا يجوز إذا كانت دراهم، أما إذا كانت سلعاً فلا بأس، مثلاً: شركة صناعية تنتج مصنوعات، ولك فيها سهم واحد في الألف، فلك أن تبيع حالاً بثمن النقد، ولك أن تبيعه بمؤجل؛ وذلك لأنك تملك هذا الجنس الذي هو واحد في الألف من هذه الشركة، وكذلك أيضاً إذا كانت الشركة زراعية، عندها مثلاً أراضي زراعية، وعندها رشاشات، ومكينات، وحصادات وما أشبه ذلك، ولك فيها شراكة، فتقول: لي في هذه الشراكة سهم واحد في الألف، أو عشرة في الألف، أو واحد في المائة، فتبيع نصيبك منها بحال أو بمؤجل؛ لأن هذا ليس بربوي.(29/17)
مسألة مد عجوة ودرهم
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: عندي تمر رديء، وأريد أن أشتري بوزنه تمراً جيداً على أن أدفع الفرق بين النوعين، فهل هذا جائز؟
الجواب
غير جائز، وتسمى هذه: مسألة مد عجوة ودرهم، أو مد عجوة بدرهم ومدي عجوة، وفي الحديث: أن فضالة بن عبيد اشترى قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباع حتى تفصل) يعني: حتى يباع الذهب بوزنه، ويباع الخرز بقيمته.(29/18)
بيع الذهب بالذهب مع التفاضل ربا
السؤال
أحسن الله إليكم! هذه تقول: ما حكم ما تفعله بعض النساء من بيع ذهب بذهب لنفس المحل مع التفاضل في البيع، نرجو التنبيه؛ لأن هذه مسألة منتشرة؟
الجواب
صحيح منتشرة، ولعلنا نأتي إليها إن شاء الله في باب الصرف، ونبين حكمها، وكيفية الواجب؛ لأن فيها تفصيل.(29/19)
حكم بيع ريالات معدنية بورقية مع التفاضل
السؤال
أحسن إليكم! ما حكم بيع تسعة ريالات معدنية بعشر ريالات ورقية؟
الجواب
وقع فيها خلاف بين المشايخ، ولعل الجواز أقرب؛ وذلك لوجود الاختلاف، فإذا كان يداً بيد فلا بأس؛ لأن هناك فروقاً بين الريالات الورقية والريالات المعدنية والريالات الفضية، ولو كان الجنس واحداً.(29/20)
بيع بطاقة الهاتف بأكثر من سعرها المحدد عليها
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: انتشر في هذه الآونة الأخيرة بطاقة الهاتف بدلاً من العملة النقدية، وبعضهم يبيع فئة خمسين بخمس وخمسين، أو فئة عشرين بخمسة وعشرين، فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا جائز؛ لأن هذه الورقة ليست مثل الريالات، لو أتيت إلى البقال وقلت: أعطني بهذه الورقة التي هي بطاقة الهاتف ما يعطيك ولا يعتبرها دراهم، وإنما تصلح للهاتف فقط، فلا جرم أنه يجوز أن يذهب إلى أصحاب الهاتف، ويأخذ منهم بطاقتين مثلاً بمائتين أو بطاقتين بمائة ثم يبيعهما بفائدة، لا بأس.(29/21)
علة ربا الفضل
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: ما الراجح-حفظكم الله- في علة ربا الفضل؟
الجواب
لا أستطيع أن أجزم بشيء، ولكن الإمام أحمد استدل بقوله في حديث عبادة لما ذكر الأربعة: (وكذلك الميزان) أو: (وقال في الميزان مثل ذلك) فأخذ منه أن العلة هي: الكيل والوزن.
والشافعي أخذ بحديث ربيعة الذي فيه: (نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل) ، فقال: كل شيء مطعوم فإنه ربوي، ولكل اجتهاده، والفتوى على أن العلة عندنا هي الكيل والوزن.(29/22)
هل يرجع في الكيل والوزن إلى العرف؟
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: إن الكيل والوزن أحياناً لا ينضبط، فما يكون مكيلاً في بلد قد يكون معدوداً في بلد آخر، فهل يرجع في ذلك إلى العرف؟
الجواب
المرجع في الكيل إلى المدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوزن إلى مكة، وقد ورد في ذلك حديث في سنن أبي داود: (المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة) ، والأشياء التي ما كانت موجودة في ذلك الزمان في المدينة أو مكة تلحق بما يقاربها في البلاد الأخرى، وقد أحصوها، وتجدون ذلك في حاشية الشيخ ابن قاسم على الروض، وكذلك في حاشية العنقري، فيذكرون ما هو مكيل، وما هو موزون.(29/23)
حكم الصلاة في البنك من أجل الاستعجال في استلام الراتب منه
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: ابتلينا باستلام رواتبنا من البنوك، وفي حال الزحام يدخل علينا وقت صلاة المغرب، فتغلق الأبواب للحفاظ على الأموال، فهل تجوز الصلاة في البنك؟
الجواب
ليس هناك زحام، وبالإمكان أن تؤخر حتى تصلي، فالصلاة أولى، فلا يجوز لك أن تقول: إذا ذهبت أصلي فاتني الترتيب، بل اذهب وصلي ولو مسكت ترتيباً آخر، فالصلاة أولى.(29/24)
الفرق بين المكيل والموزون والمعدود
السؤال
أحسن الله إليك! كثر التساؤل حول الفرق بين المكيل والموزون والمعدود أحسن الله إليك؟
الجواب
قلنا: إن المكيلات مثل الحبوب والثمار، وكذلك المائعات، وأما الموزونات فهي التي لا يتأتى فيها الكيل؛ مثل اللحوم والحديد والقطن وما أشبه ذلك، والمعدودات هي التي تباع بالعدد غالباً مثل: البطيخ بأنواعه، والقرع، والباذنجان، وما أشبه ذلك، وكانوا أيضاً يبيعون التفاح والأترج والليمون والبرتقال والموز وما أشبه ذلك بالعدد، وهذه يرجع فيها إلى كتب الفقهاء، فهم يذكرون أن هذا مكيل، وهذا معدود، وهذا موزون.(29/25)
التفاضل في أنواع اللبن مع اختلاف الأصل
السؤال
أحسن الله إليكم! يقول: التمر أنواع كثيرة، ومع ذلك لا يجوز التفاضل فيها؛ لأنه يدخل تحت مسمى واحد وهو تمر، فلماذا جاز في اللبن والدهن؟
الجواب
ذلك لأنها ترجع إلى أصولها، فالتمر اسمه تمر، وكله من نخل، وأما الألبان فهذا أصله ناقة، وهذا أصله بقرة، وهذا أصله شاة، والشاة تطلق على الغنم، يعني: على الضأن والمعز، فلذلك صارت اللحوم أجناساً، والألبان أجناساً، والأدهان أجناساً.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/26)
شرح أخصر المختصرات [30]
كثير من الناس يقع في الربا عند بيع وشراء الذهب، فعلى المسلم والمسلمة التنبه لهذا، وسؤال أهل العلم قبل الإقدام على ذلك؛ لأن كثيراً منهم يقع في المحظور وهو لا يعلم.(30/1)
من أحكام ربا النسيئة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وربا النسيئة يحرم فيما اتفقا في علة ربا فضل كمكيل بمكيل، وموزون بموزون نساءً إلا أن يكون الثمن أحد النقدين فيصح، ويجوز بيع مكيل بموزون، وعكسه مطلقاً، وصرف ذهب بفضة وعكسه، وإذا افترق متصارفان بطل العقد فيما لم يقبض.
فصل: وإذا باع داراً شمل البيع أرضها وبناءها وسقفها وباباً منصوباً وسلماً ورفاً مسمورين، وخابية مدفونة؛ لا قفل ومفتاح ودلو وبكرة ونحوها.
أو أرضاً شمل غرسها وبناءها، لا زرعاً وبذره إلا بشرط، ويصح مع جهل ذلك، وما يجز أو يلقط مراراً فأصوله لمشتر، وجزة ولقطة ظاهرتان لبائع ما لم يشرط مشتر] ذكر المؤلف أن الربا نوعان، وتقدم ربا الفضل، وأشرنا أيضاً إلى ربا النسيئة، وأنه كان ربا الجاهلية، يقول: (يحرم ربا النسيئة فيما اتفقا في علة ربا الفضل) أي: في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، ولو لم يكونا من جنس واحد، فيحرم فيهما النسأ، صورة ذلك: لا تبع صاع تمر بصاعين زبيب نساء، ويجوز يداً بيد، أو صاع زبيب بصاعين تمر، ويجوز يداً بيد، وذلك لاختلاف الجنس، ولكن لا يجوز نساء؛ لأن في حديث عبادة: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد) فيعم بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، أي: إذا كانا مكيلين، البر مكيل والشعير مكيل، اتفقا في العلة وهي الكيل، فلا يباع أحدهما بالآخر إلا يداً بيد، وإذا بيع بر بشعير يشترط شرط واحد، وهو: التقابض، ولا يشترط التماثل، فيجوز أن تبيع خمسة آصع بر بعشرة آصع شعير، ولكن يداً بيد، ولا يجوز النسأ، لا يجوز أن تقول: أعطيك الآن خمسة آصع بر، وتعطيني بعد عشرة أيام عشرة آصع شعير، لا يجوز ذلك؛ لأن العلة واحدة، وهو أن هذا مكيل وهذا مكيل، وكذلك بقية المكيلات، مثل صاع من الهيل بخمسة آصع من القهوة، يجوز، ولكن يداً بيد، ولا يجوز أن تقول: أعطيك الآن صاعين وتعطيني بعد عشرة أيام أو عشرين يوماً خمسة آصع من القهوة، لا، لابد أن يكون يداً بيد، وهكذا بقية المكيلات، حتى ولو لم تكن من القوت، فمثلاً: الفل أو الشونيز -الذي هو الحبة السوداء- مكيل عندنا، ومطعوم عند الشافعي، فهو ربوي، فإذا قلت -مثلاً-: أعطيك الآن صاعاً من الحبة السوداء، وتعطيني بعد خمسة أيام صاعين من الحلف -الذي هو الرشاد- أو مما يسمى بالحب الحار أو ما أشبه ذلك، فلا يجوز؛ لأن العلة واحدة، وهي: أنه مكيل بمكيل.
وكذلك أيضاً إذا اتفقا في الوزن، إذا كان هذا موزوناً وهذا موزوناً، وكان هذا جنساً وهذا جنساً، فمثلاً اللحوم موزونة، فإذا قال: أعطيك الآن كيلو لحم غنم، وتعطيني غداً أو بعد غد كيلوين لحم إبل لا يجوز، أما إذا كان يداً بيد كيلو بكيلوين فيجوز، إذا كان يداً بيد ولو تفاوت؛ لأن هذا جنس وهذا جنس، وهكذا -مثلاً- إذا قال: أعطيك كيلو لحم سمك بكيلوين لحم دجاج غداً أو بعد غد لا يجوز إلا يداً بيد، يجوز فيه التفاضل، ولا يجوز فيه النسأ، وكذلك إذا قال: عشرين جراماً ذهباً بمائة جرام فضة يجوز يداً بيد، ولا يجوز فيه النسأ، وكذلك حديد بنحاس يجوز فيه التفاضل ولا يجوز فيه النسأ، إذا بعت -مثلاً- كيلو حديد بكيلوين نحاس يجوز يداً بيد، ولا يجوز أن يكون نساءً؛ لأن العلة واحدة، وكذلك القطن بالصوف، فإذا بيع كيلو قطن بكيلوين صوف أو بالعكس، يجوز يداً بيد، ولا يجوز نساءً ولو بعد المجلس بنصف ساعة.
فهذا معنى قوله: ربا النسيئة يحرم فيما اتفقا في علة ربا الفضل.
عندنا -مثلاً- اللحم والقطن، ما العلة فيهما؟ الوزن، فلا يباع قطن بحديد إلا يداً بيد، ولا يشترط التماثل، وكذلك -مثلاً- الرصاص بالنحاس العلة فيهما ما هي؟ الوزن، فلا يباع رصاص بنحاس إلا يداً بيد، يجوز التفاضل ولا يجوز النسأ يعني: التأخير.
وإذا عرفنا أن الفلفل والزنجبيل العلة فيهما واحدة وهي الكيل، فيباع أحدهما بالآخر متفاضلاً، ولا يجوز التأخير والنسأ، لا بد أن يكون يداً بيد، مكيلاً بمكيل، فهيل مع قهوة لا يجوز إلا يداً بيد؛ لأنهما موزون بموزون، وحديد برصاص لا يجوز نَساءً، إلا إذا كان الثمن أحد النقدين فإنه يجوز، وذلك للضرورة.(30/2)
الربا في النقود
النقود: هي الدراهم التي تصنع من الفضة أو الدنانير التي تصنع من الذهب، فالدرهم قطعة صغيرة من الفضة كانوا يتعاملون بها، والنصاب منها مائتا درهم كما هو معروف، وتساوي بالريال الفضي السعودي ستة وخمسين ريالاً، وتساوي بالريال الفرنسي اثنين وعشرين ريالاً فرنسياً، والريالات الفرنسي والسعودية موجودة عند الصيارفة، فهذا مقدار الدرهم العربي، وأما الدينار فهو قطعة من الذهب صغيرة أيضاً، وتساوي أربعة أسباع الجنيه السعودي المصنوع من الذهب، فالجنيه السعودي الموجود الآن عند الصيارفة أربعة أسباعه دينار؛ ولذلك قالوا: نصاب الذهب بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أخماس الجنيه، مع أنها بالدينار عشرين ديناراً، فيعرف بذلك الفرق بين الجنيه السعودي وبين الدينار العربي.
ومن النقود الفلوس، وهي: قطع صغيرة من النحاس تسمى فلوساً، وهي أيضاً نقود يشترى بها الأشياء الرخيصة، وتشبه ما يسمى عندنا بالهلل، والهلل: قطع صغيرة من النحاس توجد في البنوك وعند الصيارفة، وهي أيضاً من النقود، وكانوا يتعاملون أيضاً بقطع صغيرة من النحاس اسمها دوانيق، واحدها دانق، والدرهم ستة دوانق، هذه هي النقود المضروبة.
واعلم أن الذهب أول ما يستخرج من الأرض يكون فيه أخلاط من نحاس ومن حديد ومن تراب، ويسمى قبل أن يصفى تبراً، وفي هذه الحال يجوز بيعه بفضة، ولا يجوز بيعه بذهب، وذلك لعدم تحقق المساواة؛ لأنه إذا كان ربع كيلو جرام من التبر لا ندري كم خلطه من النحاس، وكم خلطه من التراب، فلابد أن يصفى، وتسمى تصفيته سبكاً، والسباك هو الصائغ، الذي يصوغ أو يصفي، يقول الشاعر: سبكناه ونحسبه لجيناً فألقى الكير عن خبث الحديد السبك: هو التصفية، وتصفية التبر بأن يدخل في الكير، ثم يحمى عليه فيذوب الحديد في جانب ويتجمد، ويذوب الذهب ويتجمد، ويبقى التراب والحجارة لا تذوب، فيعرف بذلك مقدار ما فيه من النحاس، ومقدار ما فيه من التراب، وما فيه من الذهب، واللجين: اسم للذهب، والعرب تسميه (لجيناً) كما في قول الشاعر: عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك فإذا صفي الذهب من هذا الخلط يسمى مسبوكاً، وقوله: (سبكناه ونحسبه لجيناً) يعني: أدخلناه الكير حتى نسبكه، فإذا صار قطعاً من ذهب سمي سبائك، يقولون: سبائك الذهب، يعني: قطع الذهب الخالصة من الخلط، ففي هذه الحال إذا كان مسبوكاً صافياً من الأخلاط، فإذا بيع بذهب فلابد أن يكون مثلاً بمثل، وإذا بيع بفضة فلابد أن يكون يداً بيد، وكذلك إذا بيع وهو سبائك بحديد أو بقطن أو بنحاس فلابد أن يكون يداً بيد، وذلك لأن العلة واحدة، وهي كون هذا موزوناً وهذا موزوناً، فالصائغ يأخذ هذه السبائك ثم يصوغها، يجعلها صوغاً، والصوغ: هو ما يلبس، يصوغها خواتيم في الأصابع، أو يصوغها أسورة في الأيدي، أو يصوغها قلائد في الرقاب، أو يصوغها أقراطاً في الأذن، ففي هذه الحال إذا كان مصوغاً فإنه أيضاً -على المشهور- لا يباع إلا مثلاً بمثل، يعني: وزن ذهب بوزن ذهب، يعني هذا مصوغ وهذا مسبوك، لا يباع إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن، يداً بيد، وإذا بيع وهو مصوغ بدراهم فلابد من التقابض قبل التفرق، ولا يجوز فيه النسأ؛ وذلك لأن العلة واحدة، وهي أن هذا موزون وهذا موزون.
وقد يضرب بعد ذلك دنانير أو يضرب جنيهات، وفي هذه الحال يسمى مضروباً، وتجدون مكتوباً على الريال: ضرب في مكة المكرمة أو ضرب في كذا وكذا، يعني: جعل على هذه الحالة التي هي كونه نقداً، فإذا كان مضروباً سمي نقداً، وأما إذا كان مصوغاً أو مسبوكاً أو تبراً فلا يسمى نقداً، فالنقد هو الذي ضرب دراهم إذا كان من فضة أو دنانير إذا كان من ذهب مثل الجنيهات الذهبية والريالات الفضية، فبهذا يعرف الفرق بينهما.
فالحاصل أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، فإذا بيع ذهب بفضة فلابد أن يكون يداً بيد، ولا يجوز فيه النسأ، والأدلة عليه كثيرة، منها ما في حديث عبادة أنه قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) ، وفي حديث: أن طلحة جاءه رجل ومعه دنانير، فعرضها عليه ليشتريها بدراهم، فتفاوضا واتفقا على أن يعطيه البعض وقال: الباقي آخر النهار إذا جاءتني جاريتي أو خادمي، وسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: والله! لا تفارقه حتى تستلم، إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالفضة إلا يداً بيد.
ومن الأدلة عليه أيضاً حديث عبد الله بن عمر قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع، فنبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا بأس، ما لم تفترقا وبينكما شيء) فإذا كان رأس المال من النقدين المضروبين جاز النسأ، والناس بحاجة إلى ذلك، فأنت -مثلاً- تشتري عشرة كيلو جرام من اللحم، وليس معك ثمن، ومعلوم أن اللحم موزون، وأن الدراهم موزونة، فذلك موزون بموزون، ولابد أن يكون يداً بيد لأن العلة واحدة، ولكن لما كان أحد النقدين هو الثمن تسومح في ذلك، فجاز أن يكون الثمن غائباً، فجاز بمائة درهم تشتري بها عشرة كيلو جرام لحم، أو عشرة كيلو حديد أو قطن أو ما أشبه ذلك، مع التأخير.
ويأتينا أيضاً في السَلَم أنه يجوز ذلك في الموزنات، والسَلَم: هو كون الثمن حاضراً والمثمن غائباً، فيجوز في الموزنات مع أن العلة واحدة، فتقول لإنسان -مثلاً-: أشتري منك في ذمتك مائة رطل حديد، كل رطل بخمسة، وأعطيك الثمن الآن، وتعطيني الأرطال بعد سنة أو نصف سنة، يسمى هذا سلماً، ومع ذلك الدراهم علتها الوزن، والحديد علته الوزن، وكذا القطن واللحم وما أشبه ذلك، فيجوز إذا كان أحد العوضين من النقدين.(30/3)
متى يجوز التأجيل
يقول: إذا بيع مكيل بموزون جاز مطلقاً، وذلك لعدم الاتفاق في العلة، فيجوز أن تقول -مثلاً-: أشتري منك عشرة آصع براً بخمسة كيلو جرام لحماً، ولكن لابد أن يكون أحد العوضين حاضراً؛ لئلا يكون بيع دين بدين، فإنه لا يجوز بيع الدَين بالدِين، فإذا قلت -مثلاً-: أعطني عشرة آصع بر ثمنها خمسة كيلو جرام من لحم، فقال: خمسة كيلو جرام لحماً ليست لدي الآن، آتيك بها غداً أو بعد خمسة أيام أو بعد شهر، يجوز ذلك؛ لأن هذا مكيل وهذا موزون، اللحم موزون والبر مكيل، فلما اختلفت العلة جاز النسأ، لكن لا يجوز أن يكون العوضان غائبين؛ لأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) أي: الغائب بالغائب، فلابد أن يكون أحد العوضين حاضراً، فإذا كان -مثلاً- البر حاضراً واللحم غائباً، أو بالعكس جاز.
وكذلك صرف ذهب بفضة، فالذهب جنس، والفضة جنس، ولكن العلة فيهما ما هي؟ العلة عندنا كونهما موزوني جنس، فصرف الدراهم بالدنانير أو بيع الذهب بالفضة اتفقا في علة واحدة وهي الوزن، فلا يجوز أن يباع أحدهما بالآخر إلا يداً بيد، ومعلوم أن الذهب أغلى من الفضة، فإذا صرفت -مثلاً- جنيه بمائة ريال فضة، فلابد من التقابض قبل التفرق؛ لأن العلة فيهما واحدة؛ وهي: أن هذا موزون وهذا موزون، وعند الأئمة الآخرين أن هذا ثمن وهذا ثمن، أي: نقد، فهما من النقود التي تستعمل قيماً للسلع، وتقدر بهما السلع.(30/4)
حيلة شرعية للسلامة من ربا النساء عند الصرف
قد يحتاج الإنسان إلى صرف، ولا يجد الصيرفي الثمن كاملاً، والحيلة في ذلك إذا قال -مثلاً-: أشتري منك هذا الجنيه بخمسمائة، ولكن ما وجد الآن إلا مائتين وخمسين، ففي هذه الحال لا يجوز التفرق إلا بعد التقابض، لكن إذا كنت محتاجاً إلى هذه المائتين والخمسين حاجة ضرورية، فتترك الجنيه عنده وتقول: الجنيه عندك أمانة، وهذه المائتين والخمسين اعتبرها قرضاً منك، واعتبر الجنيه رهناً عندك، وإذا أتيتك بعد غد وقد وجدت الدراهم أحاسبك على ما في ذمتي من المائتين والخمسين، وتعطيني بقية قيمة الجنيه، فصار تصارفاً جديداً، فإذا جئت غداً وإذا الجنيه قد رخص، لا يساوي إلا أربعمائة وخمسين، فيقول: الآن يساوي أربعمائة وخمسين، وعندك لي مائتان وخمسون، فالباقي لك مائتان، فخذ هذه المائتين بقيتها، فنتصارف من الآن، وتصارفنا بالأمس لا يعتبر؛ وذلك لأنه لم يحصل التقابض من الطرفين، حصل من طرف واحد، يمكن أن يعتبر هذا، ويمكن أن يعتبر شيء آخر وهو أن تقول: الآن صارفتني على نصف الجنيه، والنصف الثاني أمانة عندك، ولا تتصرف فيه، فإذا جئت بعد غد وإذا السعر قد انخفض فإنه يعطيك قيمة نصف الجنيه الذي قد أعطاك نصفه بالغة ما بلغت، إذا كان النصف أصبح لا يساوي إلا مائتين وخمسة وعشرين، والجنيه كان بالأمس ما يساوي إلا أربعمائة وخمسين، وعندي لك نصف جنيه، والنصف الأول قد قبضت قيمته، فأعطيك قيمة النصف الباقي الذي هو مائتان وخمسة وعشرون، وهكذا لو ارتفع السعر وأصبح يساوي ستمائة، فإنك تقول: عندك لي ستمائة، وقد وصلني منك مائتان وخمسون، قيمة النصف، والنصف الباقي كم قيمته؟ ثلاثمائة، فيحاسبك على ثلاثمائة، ولا يحاسبك على النصف الأول، فأنت قبضت نصف الجنيه مائتين وخمسين، والنصف الباقي زاد قيمته فأصبح يساوي ثلاثمائة، يعني صرف الجنيه بستمائة، فيعطيك قيمة النصف الذي عنده؛ فيصح ذلك.(30/5)
ربا النساء في بيع الذهب واستبداله
يدخل الربا في بيع الذهب، ومعروف أن الذهب علته الوزن، وأن الفضة علتها الوزن، فاتفقا في العلة، فلذلك لا يباع ذهب بفضة إلا يداً بيد، فعلى هذا إذا احتجت -مثلاً- إلى شراء ذهب، وطلبت من أصحاب الذهب ما قيمته -مثلاً- مائتا جرام من الذهب مصوغة -قلائد أو ما أشبهها- فحسب الجرام -مثلاً- بمائة، والمائتا جرام بعشرين ألفاً، وما وجدت إلا عشرة آلاف، والعشرة الآلاف قيمة خمسين جراماً، والخمسون الباقية يكتبها في ذمتك ذهباً، فيقول: في ذمة فلان خمسون جراماً ذهباً مصوغة من عيار كذا وكذا، ولا يقول: عشرة آلاف، بل يقول: خمسون جراماً، فإذا أتيته بعد غد أو بعد خمسة أيام وإذا السعر قد انخفض فإنك تحاسبه خمسين جراماً على سعرها وقت القضاء، ولو ارتفع تحاسبه على سعرها وقت تسليم الثمن، لا على سعرها بالأمس أو قبل الأمس، ويسمى هذا صرفاً بعين وذمة، بمعنى أن في ذمتك أو عندك له خمسين جراماً معروفة، وتريد الآن أن تقضيه ثمنها، وكأنك تشتريها منه الآن، تقول: أشتري منك خمسين جراماً الآن بقيمتها بعين وذمة، ولا تحسبها على ثمنها بالأمس؛ وذلك لأنه يصير بيع ذهب بفضة وأحدهما غائب؛ ولهذا يقول: وإذا افترق المتصارفان بطل العقد فيما لم يقبض، فإذا افترق المتصارفان، بطل العقد فيما لم يقبض، كما مثلنا أنك قبضت مائتين وخمسين نصف الجنيه، وبقي النصف الذي هو مائتان وخمسون، لا تكتب في ذمتك مائتان وخمسون، بل اكتب: في ذمتك نصف جنيه، أو عندي لفلان نصف جنيه.
فإذا كنت بحاجة إلى أن تشتري عشرين جراماً أو مائة جرام، وكل جرام بمائة، ولم تجد إلا نصف القيمة، فالباقي تكتبه عندك جرامات، فتقول: عندي لفلان عشرة جرامات من الذهب، فالذي لم يقبض ثمنه تعده أمانة عندك، فإذا أتيته غداً تحاسبه على سعر الغد، أي: على سعر وقت إحضار الثمن لا على سعرها بالأمس، هذا معنى قوله: بطل العقد فيما لم يقبض.
أما الذين يستبدلون الذهب القديم بذهب جديد فلابد في هذه الحال أن يبيعوا الذهب القديم بدراهم، ثم يشترون بالدراهم ذهباً جديداً، والعادة أن أهل الذهب يفرقون بينهما، فيشترون -مثلاً- الجرام من الذهب القديم بخمسة وأربعين، ويبيعون الجرام من الذهب الجديد بخمسين أو بخمسة وخمسين، وفي هذه الحال صاحب الذهب يشتري منك الذهب القديم، فيقول: هذا الذهب القديم اشتريته الجرام بخمسة وأربعين، قيمته أربعة آلاف، وأنت تريد ذهباً جديداً، عندي لك الآن أربعة آلاف، تشتري مني الجديد؟ فإذا قلت: نعم، أشتري منك هذا الذهب الجديد، فوزنه، وإذا قيمته خمسة آلاف، فحاسبك على الأربعة الآلاف التي في ذمته ثمن الذهب القديم، وتزيده الألف الذي هو ثمن الذهب الجديد، فتكون قد حاسبته على ما في ذمته من ثمن قديم وعلى ثمن جديد.
وأما أن يكون ذهب بذهب ومعه زيادة فلا يجوز، فإذا قال -مثلاً-: أنا أشتري منك هذا الذهب بهذا الذهب، مع ألف ريال زيادة، هذا -مثلاً- وزنه مائة جرام ولكنه مستعمل، وهذا وزنه مائة جرام ولكنه جديد، فيأخذ القديم ويعطيك الجديد، ويقول: أعطني زيادة مع الذهب ألفاً أو خمسة آلاف.
هل يجوز هذا؟ لا يجوز، ذهب بذهب وزيادة لا يجوز، بل يشتري الذهب القديم بدراهم، إما أن يدفعها لك وتشتري منه أو من غيره، وإما أن يبيعك وتحاسبه على ما في ذمته لك من ثمن الذهب القديم، ويقع الناس في أخطاء في مثل هذا، والفضة لا يتعامل بها الناس الآن، وإنما يتعاملون بالأوراق النقدية.(30/6)
هل الأوراق النقدية تنزل منزلة الذهب؟
اختلف العلماء كثيراً في هذه الأوراق، هل ننزلها منزلة الذهب أو ننزلها منزلة الوثائق والأسناد؟ أكثرهم على أنها أسناد وليست ذهباً، وإنما هي مثل الوثائق، ولذلك لا تخرجها الحكومات والدول إلا إذا كان عندهم لها رصيد، فإذا لم يكن لها رصيد فلا قيمة لها، فعرف بذلك أنها مثل الوثائق والأسناد التي تقوم مقام ما جعلت بدلاً عنه، وكان بعض المشايخ يجعلها نقوداً حتى في الزكاة، فيقول: إنها قائمة مقام الفضة، فإذا كان نصاب الفضة ستة وخمسين فنصاب الزكاة من الأوراق ستة وخمسون أيضاً، ومن كان عنده ستة وخمسون فإنه غني، لا تحل له الزكاة، ويعتبر النصاب ستة وخمسون ريالاً ورقاً، ومن ملكها عليه زكاة، كان يرى ذلك الشيخ عبد الرزاق العفيفي رحمه الله، ولكن الأكثرون على الفرق بين الأوراق النقدية، وبين الدراهم الفضية، وبين الدراهم المعدنية.(30/7)
حكم صرف الريالات الورقية بالريالات المعدنية مع الزيادة
جرت أسئلة عن صرف الريالات الورقية بالريالات المعدنية بزيادة، هل يجوز ذلك أم لا؟ فبعض المشايخ تشددوا وقالوا: لا يجوز، ومنهم الشيخ عبد الرزاق رحمه الله، فيقول: هذه الريالات الورقية اسمها ريال ولو كانت أوراقاً، وهذه الريالات المعدنية اسمها ريالات ولو كانت معادن، وهذه اسمها ريالات ولو كانت من فضة، فمكتوب على كل واحد منها أنه ريال، هذه فضة، وهذه معدن، وهذه ورق، فلا يجوز أن يباع بعضها ببعض إلا متماثلاً مثلاً بمثل، عشرة بعشرة.
والذين قالوا: إن الريالات الورقية تعتبر أسناداً أجازوا المفاضلة بينها وبين الريالات المعدنية والريالات الفضية؛ وذلك لأنها أغلى عند العامة، فالعامة يفضلون الريالات الفضية على المعدنية، ويفضلون المعدنية على الورقية، وهذا معروف عند العامة، وسبب ذلك أن الريالات المعدنية تبقى أكثر من بقاء الريالات الورقية، فالورقية عرضة للتلف، كما يقول بعضهم في الحث على حفظ المتون وعدم الاعتماد على الكتب: الماء يغرقها والنار تحرقها والفأر يخرقها واللص يتلفها يعني: أن هذه الأوراق عرضة للتلف، وكثيراً ما يذكر عن بعض الذين خزنوا أوراقاً نقدية في زوايا ونسوها، فأكلتها الأرضة وتلفت، فتلف عليهم مئات الألوف لما تركوها في الزوايا، ولو كانت من الفضة أو من المعدن ما أتى عليها التلف، وما أكلتها الأرضة، ويشاهد أنه إذا بطل التعامل بالريالات الفضية صيغت حلياً خواتيم من فضة وأسورة من فضة، وكذلك أيضاً الريالات المعدنية إذا بطل التعامل بها أمكن أن تصاغ إما أواني وإما عملة أخرى، فينتفع بها، وأما الريالات الورقية فإذا بطل التعامل بها لا ينتفع بها بل تحرق، فمن هذه الوجوه فالراجح أنه يجوز المفاضلة في الصرف بينهما، يعني: إذا كان الإنسان يريد ريالات معدنية كعملات الهواتف ونحوها فيجوز أن يدفع زيادة للذي يصرفها، فيشتري تسعة بعشرة، وأيضاً فإن الريالات المعدنية لا توجد عند كل أحد، وإنما الذي يريدها يذهب إلى المؤسسة أو إلى بعض البنوك، وربما أنه يستأجر سيارة بعشرين ذهاباً وإياباً، أو بأربعين، ثم إذا كان معه -مثلاً- أربعة آلاف من الأوراق من فئة خمسمائة -مثلاً- قبضها بيده، فإذا حولها إلى معادن أصبحت في كيس، وربما لا يحمله إلا واحد قوي أو اثنان، فيكون لحملها مئونة، فتكون هذه المئونة وهذا التعب مبرراً في أن يبيع التسعة بعشرة، وأيضاً هناك حاجة، ليس كل واحد يستطيع أن يذهب لصرفها مثلاً.(30/8)
صرف عملة بعملة أخرى
صرف عملة بعملة يحصل فيه تساهل، فمثلاً عندنا الريال السعودي، وهناك ريال قطري، وفي اليمن ريال يمني، وكلها اسمها ريال، ولكن تختلف القيمة، فيجوز المفاضلة بينها، ولا يجوز النساء، فإذا صرفت ريالات سعودية بريالات قطرية جاز التفاضل، ولم يجز النساء، بل لابد أن يكون يداً بيد، تسلم وتستلم، وهكذا أيضاً غير الريالات، مثلاً: الدولار الأمريكي مستعمل في جميع الدول غالباً، فإذا أردت أن تحول ريالات سعودية إلى دولارات أمريكية فلابد من التقابض، ومعروف أن الدولار أغلى من الريال، ففي هذه الحال يجوز التفاضل بينهما، ولكن لا يجوز النساء، بل لابد أن يكون يداً بيد، سواءً اتفق الاسم كريال سعودي وريال قطري أو لم يتفق، فالريالات السعودية بدولارات أمريكية أو بجنيهات مصرية أو بدنانير كويتية كلها لابد فيها من التقابض إذا صرف هذا بهذا، فإذا أردت أن تحول هذا الدينار الكويتي إلى ريالات سعودية، فإنك تستلم وتسلم في مجلس العقد، ولو اختلفت القيمة بعد يومين فإنه يرجع إلى اختلاف القيمة، ولو أنك قلت: عندي هذا الدينار الكويتي، أريد أن تعطيني به ريالات سعودية، فقال -مثلاً-: بعشرة، ولكن لم يجد إلا خمسة، أعطاك خمسة، ماذا يكتب في ذمته؟ يكتب: في ذمتي نصف دينار كويتي لفلان، فإذا جئته من الغد وإذا الريال قد نقصت قيمته، فأصبح -مثلاً- الدينار يساوي اثني عشر ريالاً، أو ارتفعت قيمته فأصبح الدينار يساوي ثمانية، ففي هذه الحال يعطيك صرف النصف بسعر اليوم، إن انخفضت قيمته أصبحت تطالبه بستة، وإن ارتفع تطالبه -مثلاً- بنفس الثمانية، فلابد إذا صرف إحداهما بالآخر أن يكون يداً بيد.
وأما إذا أردت نقله إلى بلاد أخرى، أردت -مثلاً- أن ترسل عشرة آلاف ريال إلى باكستان أو إلى مصر، فباكستان عندهم الروبية، ومصر عندهم الجنيه، ففي هذه الحالة تجعلها عندهم وديعة، ويعطونك سنداً، وتأتي إلى فرعهم الذي في مصر، وتقول: إن عندكم لي عشرة آلاف ريال سعودي، أعطوني صرفها بسعر اليوم لا بسعرها في الرياض، فتتفق معهم على سعرها في ذلك المكان، ولهم أن يزيدوا عليك، وذلك لأنهم نقلوها لك من الرياض إلى مصر، أو إلى باكستان -مثلاً-، ويجوز أن تصرفها -مثلاً- فتقول: هذه الريالات أريد تحويلها إلى جنيهات مصرية، أو إلى روبيات باكستانية، فيعطونك الصرف يداً بيد، يعطونك الجنيهات المصرية فتستلمها، أو الروبيات أو الدنانير فتستلمها، وإذا استلمتها تحولها عندهم أو عند غيرهم إلى مصر أو إلى الباكستان أو إلى الشام أو إلى اليمن، وتحويلها جائز ولو أخذوا عليك أجرة عن نقلها.(30/9)
بيع الأصول والثمار
انتهينا من الصرف، ونبدأ في بيع الأصول والثمار، وهو سهل، وتصوره يكفي لفهمه، ويسمى بيع العقار، والعقار هو الذي لا ينقل، مثل الدار والبستان والأرض، فإذا بعته هذه الدار ماذا يدخل في البيع؟ تدخل الأرض، ويدخل البناء، من الحيطان والسقف -الذي هو ظلها-، وتدخل الأبواب المنصوبة، ويدخل السلم، وعادة أن السلم يكون مسمراً، قد يكون من خشب وقد يكون من حديد، ولكن يسمرونه في الأرض، يحفرون لأصله، ويحفرون لأعلاه في الجدار، ويجعلونه قائماً مقام الدرج، فيكون داخلاً في البيع، أما إذا لم يكن مسمراً بل ينقل من مكان إلى مكان فلا يدخل في البيع، وكذلك الرف المسمر، عادة أنهم يسمرون في الزاوية خشبتين أو ثلاث، ثم يجعلونها مكاناً لرفع بعض الأقمشة أو بعض الأواني، فهذا الرف والأخشاب التي هي مسمرة مربوط عليها في الباب أو في الجدار تدخل في البيع.
وكذا الخابية المدفونة، وهي عبارة عن شبه خزان أو شيء يحفر له في الأرض، ثم يجعل فيه شيء يخزن، يغلق بابه ثم يجعل فيه ماء لحفظه -مثلاً- أو نحو ذلك، قد تكون من طين أو من جلود وتجعل في جوف الأرض وتدفن، والضابط: أن كل شيء مسمر فإنه يدخل في البيع، ولو كان يمكن قلعه كما في هذه الأزمنة، ففي هذه الأزمنة يمكن أن يقلع الباب ويركب، ويمكن أن تقلع زجاج النوافذ وتركب، لكن الأصل أنها مسمرة، فيدخل في البيع الشيء الثابت والشيء المسمر، فمثلاً الأنوار الكهربائية تدخل في البيع؛ وذلك لأنها مسمرة ومثبتة، وكذلك المكيفات المسمرة أيضاً، أما إذا كانت تنقل من مكان إلى مكان فلا تدخل في البيع، ولا يدخل كل شيء يمكن نقله، فمثلاً الفرش والكنب تدخل في البيع؛ لأنه يمكن نقلها، وكذلك الثلاجة والغسالة وأدوات المطبخ والأواني وما أشبهها، هذه لا تدخل.
قالوا: القفل لا يدخل؛ وذلك لأنه يمكن نقله، وكان يستخدم قبل أن توجد المغالق هذه التي تعتبر مسمرة في الباب، وأما قديماً فالقفل يعلق كقفل الحقائب ونحوها، فيقولون: هذا لا يدخل؛ وذلك لأنه يمكن نقله، وأما المفتاح فإنه تابع للقفل، فإن كان القفل ينقل فالمفتاح تابع له، وإن كان القفل لا ينقل مثل هذه المغالق فإنه تابع للدار، ويدخل في البيع.
وكذلك قديماً كانت الأبواب فيها ما يسمى بالمجرى، والمجرى له مفتاح، والصحيح أن المفتاح تابع للمجرى.
وإذا كان هناك بئر وعليها دلو فالدلو ما يدخل؛ وكذلك البكرة، وهي شبيهة بالدراجة، توضع على أعلى البئر، وتسمى عند العامة (المحالة) ، وعند أهل البوادي (الجارَّة) ، وفي اللغة تسمى (البكرة) ، يكون لها أسنان، ويوضع عليها الحبل، وتجر عليها الدلاء، فهذه أيضاً تنقل لأنها معقودة بحبال.
وإذا كان المبيع أرضاً فإنه يدخل في البيع قرار الأرض، وكذلك ما فيها من الغرس إذا كان فيها غرس، والغرس مثل الشجر الذي له ساق كالنخل والتوت والرمان والتين والأترج والتفاح والموز، ويدخل في ذلك أيضاً المباني إذا كان فيها حجرة مبنية مثلاً، أما إذا كان فيها زرع فلا يدخل في البيع إلا إذا اشترطه، وكذلك إذا كان فيها بذر، فهذا البذر للذي بذره وهو البائع، إلا إذا اشترط ذلك المشتري.
ولو كان البذر مدفوناً في الأرض فإنه يعفى عن جهالته، فإذا اشترطه المشتري دخل في البيع، أما إذا كان فيها شيء يجز مراراً مثل البرسيم فأصوله للمشتري، والجزة الظاهرة للبائع.
وكذلك إذا كان يلقط مراراً كالباذنجان والطماطم، فهذه اللقطة الموجودة التي قد نضجت للبائع يأخذها، والباقي للمشتري، فالجزة مثل جزة البرسيم، واللقطة مثل لقطة الطماطم أو لقطة الباذنجان أو الكوسة أو البامية، وغيرها من الأشياء التي تلقط إذا ظهرت، فإذا كانت ظاهرة فهي للبائع، إلا إذا اشترط ذلك المشتري؛ لحديث (المسلمون على شروطهم) فتدخل في البيع.(30/10)
الأسئلة(30/11)
حكم قرض الزوجة لزوجها لشراء أثاث لهما
السؤال
هذه سائلة تقول: إنها معلمة، وراتبها -ولله الحمد- أكثر من راتب زوجها، تقول: ولذا فإن زوجي لا يقدر على توفير ما نحتاجه، فأنا -مثلاً- عندما أريد السفر إلى مكة المكرمة فإن زوجي لا يقدر براتبه أن يسافر معي، فأنا أساعده وأقول له: سوف أقرضك على أن تسافر أو تشتري أثاثاً للبيت، وإذا قدرت عليه في الشهر المقبل ترده علي، فهل هذا يدخل في حديث (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) ؟
الجواب
لا يدخل في ذلك، والأصل أن الزوجين كبيت واحد يتسامح فيما بينهما، ولا شك أنها تساعد زوجها وتعطيه وتقرضه ونحو ذلك، ولا حرج إذا قالت: أقرضك على أن تصحبني كمحرم لي، أو أدفع الأجرة عنك، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان لها دخل أكثر من دخل زوجها وقد تراضيا على ذلك، فلها أن تعطيه ولها أن تقرضه.(30/12)
وجود بحوث عن العملات الحديثة
السؤال
في هذا العصر قد انقرضت تلك الدنانير والجنيهات، وقد لا يعرف الكثير التعامل معها في هذا العصر، وقياسها على الريالات السعودية، وغيرها من العملات الحديثة، لماذا لا يكون هناك مؤلفات في بيان العملات الحديثة والقديمة، والفرق بينهما؟
الجواب
كتب العلماء كثيراً فيما يتعلق بهذه العملات، ويوجد نشرات نشرت في مجلة البحوث وكذلك في غيرها، فقد أكثروا في ذلك، وذكروا ما فيها من الاختلاف، وهل هي أسناد أو هي نقود قائمةً مقام النقود، ومن تتبعها وجدها.(30/13)
التزوير في أي شهادة لا يجوز
السؤال
ما حكم استخراج شهادات الصوامع لا من أجل الزراعة وإدخال الحبوب بواسطتها، ولكن من أجل بيعها على المزارعين، أو شراء القمح من المزارعين بقيمة أقل وإدخالها إلى الصوامع؟
الجواب
كل شيء فيه كذب أو تزوير ننهى عنه، فكونه يستخرج هذه الشهادة وهو لا يريد أن يزرع، أو يراجع فيقول: أعطوني فإن عندي أرضاً أريد أن أزرعها، وهو لا يريد ذلك، فهذا يعتبر كذباً، فلا يجوز ذلك إلا لمن عزم على الزراعة، أو عنده ما يقدر به عليها {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] .(30/14)
كيفية زكاة مال التجارة مع الأموال الأخرى
السؤال
هذا سائل كتب أربعة أسئلة، ويقول: الرجاء عرضها لأهميتها بالنسبة له ولغيره، يقول: لدي بعض المحلات التجارية أبيع فيها الملابس، ولدي بعض التساؤلات حول زكاة هذه المحلات: أولاً: هل أحصي البضاعة وما تحصل من أموال أم البضاعة فقط لإخراج الزكاة؟
الجواب
لا شك إن كان له أموال أنه يزكيها إذا حال عليها الحول، وإذا كان تاجراً -مثلاً- فإن ربح التجارة داخل في رأس المال ولو لم يتم حول للأرباح، فمثلاً إذا كان متجره عند ابتدائه فيه عشرة آلاف، وعنده أموال أخرى ودائع في البنك أو في بيته مقدارها عشرة آلاف، والعشرة التي اتجر بها لما تمت سنة وإذا هو قد ربح في أشهر السنة عشرة آلاف أخرى -مثلاً-، فيزكي عن ثلاثين ألفاً، العشرة التي هي عنده من قبل كرأس مال، والعشرة التي قد أودعها، والعشرة التي هي ربح، يجمع هذا إلى هذا.(30/15)
كيفية زكاة عروض التجارة
وسؤاله الآخر يقول: هل أحصي المال وقيمة البضاعة من أول السنة أم عند تمام الحول؟
الجواب
عند تمام الحول يقدر السلع بقيمتها الإجمالية، فإذا تم الحول يقدر قيمة ما عنده من الأكياس، وقيمة ما عنده من الثياب، أو قيمة ما عنده من الأحذية -مثلاً- بسعرها الحالي، ثم يخرج زكاتها.(30/16)
المعتبر في حساب زكاة عروض التجارة سعر البيع وقت الإخراج
وسؤاله الثالث يقول: هل أحصي قيمة البضاعة بحسب ما اشتريته أم بحسب ما أبيعه؟
الجواب
بحسب ما تساويه الآن، سواء كان أقل من قيمته الشرائية أو أكثر، ما تساويه الآن، البيع المجمل.(30/17)
هل يزكي الدين في عروض التجارة؟
وسؤاله الأخير يقول: يكون على دين نظراً لشراء بعض البضائع بالدين، فهل يدخل الدين في الزكاة أم استثنيه من الزكاة؟
الجواب
أهل الدين يزكون دينهم، وأنت تزكي ما عندك من المال، وتسقط قدر الدين من المال الذي عندك، وإذا كان أهله يعرفون أن عندك رأس مال فإنهم يزكون دينهم.(30/18)
عدم جواز بيع السيارة المشتراة إلا بعد قبضها بنقلها
السؤال
اشتريت سيارة بطاقة جمركية وذلك بالمؤجل، وكتبت العقد وذهب البائع، وذهبت أنا وبعت السيارة من معرض آخر بعد أن أخذت المفتاح من البائع وشغلت السيارة في مكانها، ولكن لم أحرك السيارة من مكانها، فهل هذا العقد صحيح، علماً أنه لا يمكن رد السيارة في حالة بطلان هذا العقد؟
الجواب
لا شك أنك أخطأت حيث إنك لم تحول السيارة من مكانها، فقبضها يكون بنقلها، فقد نهي أن تباع السلع حيث تبتاع، فلابد أن تنقلها وتحوزها من مكان إلى مكان، ومن معبر إلى معبر، وحيث إنه لا يمكن ردها لا تعد لمثل ذلك.(30/19)
هل يقوم قبض الشيك مقام النقد
السؤال
يعمل بعض الناس في هذه الأيام بتجارة العملات، أي: أنه يذهب هذا اليوم للبنك، ويشتري -مثلاً- الدولار الأمريكي بمبلغ معين، ولا يستلم المبلغ بل يستلم سنداً بذلك أو قسيمة إيداع في حسابه، وفي اليوم الآخر يبيعه بمبلغ أعلى قليلاً عن طريق نفس البنك وبنفس السند وهو لا يستلم شيئاً، فهل هذا العمل جائز؟
الجواب
لا يجوز، وقصد البنوك من هذا تشجيع هؤلاء الذين يودعون عندهم أموالاً طائلة، فيقولون: أودع عندنا مائة ألف، أو ألف ألف، ونحن نتصرف لك في هذا الشيء الذي هو بيع العملات، مع أنه ليس هناك قبض، فيريدون بذلك إبقاء هذه الودائع عندهم حتى يستفيدوا منها، ويخشون منه أن يأخذها ويعطيها بنكاً آخر أو نحو ذلك، فيشجعونه -في نظرهم- على إبقائها حتى تستمر عندهم، ويأخذون أرباحها، ونقول في هذه الحال: لابد من القبض إذا صرفتها، لو قلت: عندي مائة ألف ريال، اصرفوها لي بدولارات، فلابد أن يكون يداً بيد، فيسلمون لك دولارات، وتسلم لهم الريالات، ثم إذا أردت أن تبيعها غداً بربح أو بخسران فلك ذلك، ويكون البيع يداً بيد.
وهناك بعض المشايخ رخصوا في قبض ما يسمى بالشيكات، وجعلوا قبض الشيك قائماً مقام النقد، وكأنهم يقولون: إن هذا فيه تسهيل على الناس فيما إذا كان بحاجة إلى شيء كثير، ويكتفي أو يعجز عن حمل هذا المال معه، فيكفي أن يكتب شيك، مثال ذلك: إذا اشترى إنسان ذهباً بمائة ألف، فيقول: ليس من العادة أن أحمل مائة ألف معي وأسلمها لصاحب الذهب، فأعطيه شيكاً على رصيدي الذي في البنك، فيكون ذهباً بنقد أو ما يقوم مقام النقد.
وكذلك أيضاً في هذه المصارفة إذا أعطاهم الريالات التي هي مائة ألف، وأعطوه شيكاً فيه ثلاثون ألفاً من الدولارات أو نحو ذلك بقيمتها، فلعل هذا يكون قائماً مقام التقابض.(30/20)
قوة الخلاف في بيان علة الربا
السؤال
ألا ترون أهمية ترجيح أحد المذاهب في علة الربا لشدة الحاجة إلى ذلك في كل وقت؟ وما مدى صحة من رأى أن العلة هي مطلق الثمنية؟
الجواب
ذكرنا أن قول الجمهور: إن الذهب والفضة العلة فيهما الثمنية، وعلى هذا فإن الموزونات التي ليست مطعومة ولا قوتاً لا تكون ربوية، فيجوز بيع الحديد بعضه ببعض متفاضلاً، وكذلك النحاس والقطن والغزل والصوف وما أشبه ذلك؛ لأنها ليست قوتاً وليست مطعومة، وإنما هي موزونة، وهذا على القول بأن العلة هي الثمنية، ولكل اجتهاده، ونحن نتورع أن نقول: إن هذه هي العلة؛ وذلك لكثرة الخلاف، وقوة الخلاف بين العلماء.
أحسن الله إليكم وأثابكم، ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/21)
شرح أخصر المختصرات [31]
جاءت الشريعة بتنظيم معاملات الناس بما يكفل جلب المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، ومن ذلك أحكام بيع الثمار، فلا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولا بيع الزرع قبل اشتداد حبه، إلا في حالات استثنائية رخصت فيها الشريعة لسلامتها من المفسدة، وقد بين أهل العلم أحكام ذلك، والحكمة من هذا سد كل طريق يفضي إلى العداوة والشحناء.(31/1)
أحكام بيع الأصول
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن باع نخلاً تشقق طلعه فالثمر له مبطناً إلى جذاذ ما لم يشرطه مشتر، وكذا حكم شجر فيه ثمر باد، أو ظهر من نوره كمشمش، أو خرج من أكمامه كورد وقطن، وما قبل ذلك والورق مطلقاً لمشتر، ولا يصح بيع ثمر قبل بدو صلاحه، ولا زرع قبل اشتداد حبه لغير مالك أصلٍ أو أرضٍ إلا بشرط قطع إن كان منتفعاً به، وليس مشاعاً، وكذا بقل ورطبة، ولا قثاء ونحوه إلا لقطة لقطة أو مع أصله، وإن ترك ما شرط قطعه بطل البيع بزيادة غير يسيرة إلا الخشب فلا، ويشتركان فيها، وحصاد ولقاط وجذاذ على مشتر، وعلى بائع سقي، ولو تضرر أصل، وما تلف سوى يسير بآفة سماوية فعلى بائع ما لم يبع مع أصل أو يؤخر أخذ عن عادته، وصلاح بعض ثمرة شجرة صلاح لجميع نوعها الذي في البستان، فصلاح ثمر نخل أن يحمر أو يصفر، وعنب أن يتموه بالماء الحلو، وبقية ثمر بدو نضج وطيب أكل، ويشمل بيع دابة عذراها ومقودها ونعلها، وقنٍ لباسه لغير جمال] .
هذا الفصل في بيع الأصول وفي بيع الثمار، والأصول يدخل فيها بيع الأرض وما يلحق بها، وبيع الدار وما يلحق بها، وبيع البستان وما يلحق به، فإذا باع البستان وفيه نخل أو شجر، وذلك الشجر قد أخرج ثمرته، فالثمرة للبائع، وحده في النخل أن يتشقق الطلع، فمعروف أن النخل أول ما يخرج يكون ثمره في أكمام، وتسمى جماراً، فهذه الأكمام بعد خروجها بأسبوع أو بعشرة أيام تتشقق، وإذا تشققت تدلت الشماريخ، فإذا رآها أهل النخل قد تشققت بادروا إليها ولقحوها، والتلقيح هو التأبير، وورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) والتأبير: هو التلقيح، وعادتهم إذا تشققت الكوافير هذه، بادروا وقطعوا الكافور، ولقحوه التلقيح المعروف.
لماذا لم يدخل في البيع؟ لأن العادة أن صاحبه قد سقاه وتعب عليه سنة، فإذا رأى ثمرته فإن نفسه تتعلق به، فإذا باع الأرض والنخل لم يدخل الثمر، بل يبقى للبائع إلى أن يجذه، هذا إذا لم يشترطه المشتري، فإذا قال المشتري: لا أشتري إلا والثمر يتبع الشجر؛ صح ذلك، وكذا حكم كل شجر فيه ثمر بادٍ، يعني: كل شجر قد بدا ثمره إذا بيعت الأرض وفيها ذلك الشجر فالثمر للبائع، فالعنب إذا تدلت العناقيد؛ لأن العنب ثمره ليس في كوافير وليس في أغلفة، بل تتدلى هذه العناقيد، وتكون صغيرة جداً كحب الدخن، ثم بعد ذلك تكبر شيئاً فشيئاً إلى أن تبلغ النضج، فتكون للبائع إذا تدلت العناقيد، وكذلك شجر التفاح إذا كان فيه ثمر قد بدا ولو صغيراً، أو البرتقال أو الأترج أو الخوخ أو المشمش، وكذلك شجر الطماطم والباذنجان والقرع والدباء -وهو نوع من القرع- والبطيخ بأنواعه، كل هذه إذا كانت الثمرة قد بدت ولو صغيرة فبيع الأصل؛ فإنها لا تتبعه، بل تكون للبائع إلا بشرط.
قال: (وما ظهر من نوره كمشمش) النور: هو الزهر، فبعض الأشجار تزهر أزهاراً ثم يتساقط الزهر، ثم تبدو الثمرة، فالأترج تبدو أزهاره ثم تتساقط، والمشمش يبدو زهره ثم تتساقط أوراق الزهر، ثم تبدو الحبة في مكانها، وغيره كثير من الذي يبدو نوره، فنوره يعني: زهره.
(أو خرج من أكمامه) فبعضه يكون في أكمام كالورد، فإذا كان في أكمامه فإنه للمشتري، وإذا تشققت الأكمام فإنه للبائع.
والقطن يخرج في أكمام صغيرة مثل الرمان، ثم تتشقق تلك الأكمام، وإذا تشققت فإنها حينئذ للبائع، وقبل أن تتشقق تكون للمشتري إلا بشرط، أما ما لا يتشقق كالرمان، فالرمان له لون، فيبدو حمل الرمان صغيراً، ثم بعد ذلك يكبر، ولكن يبقى في غلافه محفوظاً، فبمجرد ما تتدلى حبات الرمان تكون للبائع، وإذا لم تظهر إلا بعد البيع فهي للمشتري.
ما تشقق من أكمامه كالورد والقطن والتفاح وما أشبهه فالأصل أنه يكون للبائع إذا ظهرت الثمرة وعرفت، وما دامت لم تظهر فالأصل أنها للمشتري.
وما قبل خروج الثمر يتبع الشجر في البيع، وكذلك أوراقه، مثل ورق العنب وورق البرتقال وورق التين وورق الأترج، فهذه الأوراق تابعة للبيع، وتكون للمشتري.(31/2)
أحكام بيع الثمار
الثمار قد تباع وحدها، ثمرة هذه النخلة، ثمرة هذه العنبة، ثمرة هذه التفاحة، ثمرة هذه الأترجة، فمتى يجوز بيعها ومتى لا يجوز بيعها؟ يشترط في بيعها بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح لا يصح البيع، كانوا يبيعون النخل وهو لا يزال بسراً صغيراً، فيأتي المشتري ويقول: اشتريت ثمرة هذه النخلة وهي لا تزال حبات صغيرة، ربما أنها قد أبرت وخرجت بعد التأبير، فإذا اشتراها وجاء الحصاد أو الجذاذ أو الصرام وجد بها عاهات، أصابه رذاذ، أو قتام، أو غبار، فيحصل الترافع، وتحصل الشكايات، ويحصل الاختلاف، فالبائع يلزم المشتري ويقول: أنت اشتريته، والمشتري يقول: كيف أقبله وقد أصابه هذا القتام أو هذا الغبار؟ وهي عاهات تصيب ثمار النخل، فلما كثر ترافعهم نهي عن البيع إلا بعد بدو الصلاح، حتى لا يقع هذا الاختلاف، فلا يباع ثمر النخل إلا بعد بدو صلاحه، وكذلك بقية الثمار: ثمر العنب، ثمر التوت، ثمر الزيتون، ثمر الخوخ أو الموز، كل هذه الثمار لا تباع إلا إذا بدا صلاحها وأمنت من العاهة، وأما قبل ذلك فلا يجوز؛ مخافة أن تصيبها عاهة ثم يندم المشتري، أو مخافة أن يبيعها البائع رخيصة، فيندم البائع، فيحصل اختلاف بينهما، يقول: بعتها وأنا أعتقد أنها رخيصة؛ لأني رأيت حباتها صغيرة، والآن قد أصبحت مرتفعة الثمن، وقد أصبحت غالية، فلا أريد البيع، أو يقول: اشتريتها أعتقد أنها سليمة، وأنها تنفع، والآن أصابتها هذه العاهات فلا أريدها.
فإذا بدا صلاحها فالأصل غالباً أنها تكون مأمونة أن تصيبها عاهة.(31/3)
لا يباع الزرع قبل اشتداد حبه
قال: (ولا زرع قبل اشتداد حبه) لماذا؟ لأنه قبل ذلك عرضة للآفات، فقد يصيبه برد فيجف إذا كان لا يزال في سنبله أخضر، أو لم يخرج السنبل، فلا يجوز أن يقول: بعتك هذا الزرع وهو لا يزال أخضر إلا بشرط القطع في الحال، فإذا قال: بعتك هذا الزرع الذي لم يخرج سنبله بشرط أن تقطعه كعلف؛ يجوز ذلك إذا كان ينتفع به كعلف للدواب، فيقطعه في الحال، أما بيع البر الذي فيه لا يصح حتى يشتد حبه؛ وذلك لأنه إذا اشتد حبه أمن من العاهات، وقبل الاشتداد يمكن أن يصيبه بَرَد أو يصيبه بَرْد أو يصيبه سيل أو ينقطع الماء عنه، فيكون ظمؤه سبباً ليبسه فلا يثمر، أو لا يثمر إلا قليلاً، أما بعد اشتداد الحب فيصح البيع فقد أمنت العاهات.
ويجوز بيع الزرع الأخضر لمالك الأصل أو لمالك الأرض، فإذا كان أصل الزرع أو الأرض التي فيها الزرع لإنسان، والثمر لآخر؛ جاز بيع الزرع قبل اشتداد حبه لمالك الأصل أو لمالك الأرض، مثلاً: إنسان استأجرك لتسقي هذا النخل وهذا التين وهذا العنب، ثم ظهر الثمر، وأنت لك نصف الثمر؛ جاز أن تبيعه على مالك الأصل، فتقول: بعتك نصيبي من هذا النخل ولو كان بسراً، ولو كان حبات صغيرة كحبات العنب أو الرمان أو نحوه، فيجوز بيعه لمالك الأصل.
وكذلك لو استأجرت أرضاً، وبعدما زرعت فيها وظهر الزرع بعتها على مالك الأرض، ولا يزال الزرع أخضر، أو فيه سنبل لكنه لم يشتد، فيجوز بيعه على مالك الأرض.
وكذلك يجوز بيع الزرع لأجنبي بشرط القطع إذا كان منتفعاً به كعلف للدواب، فيجوز بيعه إذا كان منتفعاً به، بشرط ألا يكون مشاعاً، والمشاع هو المشترك بين اثنين، وليس ورث أحد منهما متميزاً، بل كل واحد منهما له نصف هذا الزرع، فلا يجوز أن يبيع أحدهما نصيبه قبل أن يشتد حبه، ولو بشرط القطع؛ وذلك لأنه قد يمنع صاحب النصف الثاني، فيقعون في خلاف.
يقول: (وكذا بقل ورطبة) .
البقل: هو الأوراق التي تؤكل، مثل ورق ما يسمى بالخس وأوراق الفجل وأوراق الجرجير، هذه تسمى بقولاً، يجوز بيعها إذا كانت تقطع في الحال، وأما لمن يبقيها فلا يجوز.
والرطبة: اسم من أسماء (القت) الذي هو البرسيم، وله عدة أسماء، يسمى الخصة أو القصة ويسمى القضب، وهو مذكور في القرآن {وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} [عبس:28-29] وهو علف للدواب، فالرطبة يجوز بيعها لمن يجزها في الحال، وأما القثاء -وهو البطروح، يشبه الخيار يؤكل ولا يحتاج إلى طبخ- فإنه يؤخذ من شجره، فيجوز بيعه لقطة لقطة، فمثلاً: كلما ظهر هذا القثاء أو هذه البامياء أو ما يسمى بالكوسة تقول: بعتك هذه اللقطة الموجودة بمائة، فيأخذها في الحال، ولا يتركها تكبر، مخافة أن تختلط بغيرها مما يكون للبائع، فتكون لقطة لقطة، كلما بدت هذه اللقطة باعها لمن يقطعها في الحال، أو يبيعها مع أصل هذا الشجر للذي يلقط ثمره لقطة لقطة، فالجف أو القرع أوالباذنجان أو الطماطم وغيرها مما يؤخذ لقطة لقطة، كلما احمر ونضج باعه على من يقطعه في الحال.(31/4)
حكم ترك ما شرط قطعه
قال: (وإن ترك ما شرط قطعه بطل البيع بزيادة غير يسيرة) لو باع هذا القرع وهو متوسط، فتركه حتى كبر، أو باعه طماطم وهو صغير بشرط القطع، ولكن تركه حتى كبر؛ بطل البيع، وهكذا لو باع الجف وهو صغير وتركه المشتري حتى كبر بطل البيع؛ وذلك لأنه اشتبه بشيء لا يستحقه؛ لأن هذه الزيادة التي ليست يسيرة من ملك البائع، فالمشتري تعمد تركه حتى اختلط بما ليس له، أما إذا كانت الزيادة يسيرة كأن تركه يوماً أو يومين فالعادة أن الزيادة تكون يسيرة.
يقول: (يشتركان فيها) أي: يشترك البائع والمشتري في هذه الزيادة، الزيادة تكون للبائع، والموجود وقت البيع يكون؟ للمشتري، فيشتركان فيها، واستثنوا من ذلك الخشب، كخشب الأثل أو السدر وما أشبهه، والأصل أن الزيادة تكون يسيرة؛ لأنها قد تبقى سنة ولا تزيد إلا شبراً أو نصف شبر، سيما بعدما تكبر.
وإذا اشترى الزرع بعدما يشتد حبه فالحصاد على المشتري؛ لأنه ملكه، وحصاده يعني قطعه بالمجن، وفي هذه الأزمنة بالحصادة -الماكينة التي تحصده- فالحصاد يكون على المشتري؛ لأنه عين ملكه، وكذلك لقط الثمر، فأجرة اللقاطين تكون على المشتري، فإذا كانت الثمرة تحتاج إلى لقط كالطماطم أو الباذنجان فاللقط على المشتري، وكذلك الجذاذ الذي هو الصرام على المشتري أيضاً.
قال: (على البائع سقي ولو تضرر الأصل) أي: ولو تضرر الثمر، فإذا باع هذه النخلة وقد بدا صلاح ثمرها، فالبائع يقول: ما بعتك إلا الثمرة، فالشجر لي، فأنا أسقي شجري، فإذا قال المشتري: لا تسقه، فإنه قد يفسد الثمر، فالمشتري ليس له إلا الثمر، فلا يمنعه من سقي أصل شجره أياً كان الشجر، وذكر بعضهم أن سقي شجر النخل قد يضر بالثمر، فليس للمشتري أن يمنع البائع من سقي شجره؛ لأنه ملكه.(31/5)
وضع الجوائح
يقول: (وما تلف بآفة سماوية فعلى البائع، إلا الشيء اليسير) أي: إذا كان التلف شيئاً يسيراً فعلى المشتري، وأما إذا كان تلفاً كبيراً بآفة سماوية فعلى البائع، ما لم يبع مع أصل، أما إذا باع شجر الثمر ثم تلف بآفة سماوية فإنه يذهب على المشتري، وهكذا لو أن المشتري أخر الجذاذ عن عادته فتلف فإنه على المشتري.
ماذا تسمى هذه المسألة؟ تسمى مسألة وضع الجوائح، الجائحة هي: المصيبة التي تصيب الثمر، وقد اختلف فيها العلماء، فالإمام أحمد ذهب إلى وضع الجوائح، ولم يعمل بذلك أكثر الأئمة، فإذا باع الثمرة في هذه النخلة أو النخلات بعدما بدا صلاحها، ثم قدر أن جاءها جراد وأكل الثمرة، أو جاءها بَرَد وأسقط الثمرة، فعلى من تذهب؟ فيه قولان: ذهب أحمد إلى أنه يتحملها البائع، وذهب الأئمة الآخرون إلى أنها على المشتري؛ لأن البائع يقول: بعتك الثمرة، وخليت بينك وبينها، واستلمت الثمن كاملاً، ولم أمنعك، وأصبحت الثمرة ملكاً لك، وهذا الأمر ليس بيدي، هي آفة سماوية، وليس باستطاعتي أن أرد أمر الله تعالى، فكيف أتحملها وقد بعتها، وقد أقدم عليها ذلك المشتري؟! وذهب الإمام أحمد إلى أنها على البائع، واستدل بحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لو بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) وهو حديث صحيح.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الحديث ورد قبل النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها، ولعل هذا هو الأقرب، فهو خاص بما كانوا يتعاملون به قبل أن ينهوا، فكان أحدهم يبيعه وهو أخضر، ويبيعه وهو بلح صغير، ثم تأتي عاهة، فيقول: إذا أصابته عاهة فأنت أيها البائع تتحمل، لا تأخذ من المشتري شيئاً؛ لأنك أنت صاحب الشجر، وهذه الشجرة من جملة شجرك، وأنت عادة متعرض لهذه الآفات؛ لقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:65] ، وقد أخبر الله تعالى بما أصاب ثمار أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم في قوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19-20] يعني: تلك الثمار أصبحت كأنها مصرومة.(31/6)
ضابط صلاح الثمر
قال رحمه الله: (وصلاح بعض ثمرة شجرة صلاح لجميع نوعها الذي في البستان) .
قد ذكرنا في باب الربا أن التمر جنس تحته أنواع، فنوع يسمى الصُفري، ونوع يسمى الخضري، ونوع يسمى السكري، ونوع يسمى الإبراهيمي أو المنيفي وما أشبهها، فإذا بدا صلاح شجرة من الصفري جاز بيعها وبيع بقية الصفري الذي في هذا البستان؛ لأن العادة أنه يتقارب نضجه، هذا معنى قوله: لجميع نوعها الذي في البستان، لا لجميع النخل، فإن بعضها قد يتأخر مثل ما يسمى بالخصار، وما يسمى بالحلأ، فقد يتأخر نضجه؛ فلذلك لا يكون صلاحاً إلا لذلك النوع لا لجميع الجنس.
والعنب أنواع، منه ما يكون أسود، ومنه ما يكون أخضر، فصلاح بعض الأخضر صلاح لجميع نوعه.
ما علامة صلاح ثمر النخل؟ أن يحمر أو يصفر؛ وذلك لأنه أول ما يخرج يكون أخضر كلون الأوراق، فأوراق الشجر غالباً يكون أخضر، ولا يزال أخضر إلى أن يقرب من النضج ثم ينقلب، فبعضه يكون أصفر، وبعضه يكون أحمر كما هو مشاهد، فإذا احمر أو اصفر جاز بيعه، وصار ذلك علامة على بدو صلاحه.
وأما العنب فبعضه يبقى على لونه، وبعضه يكون أخضر ثم ينقلب أسود عند نضجه، فإذا انقلب أسود فإنه قد نضج، وجاز بيعه، والذي يبقى على خضرته بدو صلاحه أن يتموه بالماء الحلو، فماؤه يكون أولاً شديد الملوحة، ثم إذا بدا نضجه صار ماؤه حالياً.
وأما بقية الثمار فعلامة بدو الصلاح فيها النضج وطيب الأكل، فإذا بدا في الثمرة النضج وطاب أكلها، فقد بدت فيها علامة النضج، فالأترج ينقلب أصفر، وكذلك أيضاً البرتقال ينقلب أصفر، فهذا علامة على أنه قد بدا صلاحه، وكذلك الزيتون وما أشبهه إذا طاب أكله وبدا فيه النضج جاز بيعه.
وألحق بهذا بعض الأشياء وليست ثماراً وليست عقاراً، مثل بيع الدابة، فإذا باع ناقة، فيدخل في البيع عذارها ومقودها ونعلها؛ وذلك لأنه عادة يحتاج إليه، فكانوا يجعلون في فم البعير -جملاً أو ناقة- لجاماً، ثم يقودونها به، ويسمونه العذار، فيدخل في البيع، وكذلك يجعلون حبلاً يقودونها به ويسمونه الخطام، فهذا الخطام واللجام يتبعها في البيع، وكذلك أيضاً النعل، فالخيل يجعلون لها حذاءً، وبعض الدواب كالبقر والحمر تحتاج إلى حذاء يقي حوافرها من الحفا والحصى، فنعلها يتبعها.
أما إذا باع عبداً، والعبد عادة يكون له ثياب، فإذا كانت ثياباً للجمال، يلبسها في المناسبات، فهذه لا تتبعه في البيع، وأما الثياب العادية التي يلبسها عادة في الاشتغال وما أشبهه فإنها تدخل في البيع.(31/7)
شرح أخصر المختصرات [32]
السلم أو السلف من العقود التي كانت في الجاهلية، وأقرها الإسلام بعد أن هذبها ونظمها بحسب المصلحة العادلة المشتركة بين الطرفين، وقد بين العلماء شروطه وضوابطه وأحكامه.(32/1)
تعريف السلم
قال المصنف رحمه الله: [فصل: ويصح السلم بسبعة شروط: أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته كمكيل ونحوه، وذكر جنس ونوع وكل وصف يختلف به الثمن غالباً، وحداثة وقدم، وذكر قدره، ولا يصح في مكيل وزناً وعكسه، وذكر أجل معلوم كشهر، وأن يوجد غالباً في محله، فإن تعذر أو بعضه صبر أو أخذ رأس ماله، وقبض الثمن قبل التفرق، وأن يسلم في الذمة فلا يصح في عين ولا ثمرة شجرة معينة] السلم هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد هكذا عرّفه صاحب (زاد المستقنع) ، ويُعرِّفه بعضهم بأنه ما عُجل ثمنه وأُخر مثمنه، وفي حديث ابن عباس: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلمون في الثمار السنة والسنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) ، وأكثر ما كانوا يُسلفون أو يسلمون في الثمار والزروع ونحوها، يحتاج صاحب النخل أو صاحب العنب إلى نقود، فيأتي إلى التاجر -مثلاً- ويقول: أبيعك في ذمتي مائة صاع من التمر أعطيكها بعد خمسة أشهر أو بعد سنة، وكل صاع بريال لتسلم لي الثمن الآن، ولو كان التمر موجوداً الآن لكان كل صاع بريالين، ولكن أنا أبيعه رخيصاً لأني محتاج إلى الثمن.
فينتفع صاحب النخل حيث يأخذ الدراهم مقدمة ليشتري بها -مثلاً- علفاً لدوابه، أو يُعطي منها أجرة العمال، ويُنفق منها على عياله، فإذا صرم النخل أعطى ذلك التاجر مائة صاع، وصاحب التجارة يبيع الصاع بريالين فيحصل له ربح.
وكذلك مثلاً صاحب الزرع، كإنسان يريد أن يزرع وليس عنده مال فعنده البئر وعنده الأرض، وعنده -كما في هذه الأزمنة- الماكنة أو الآلة التي يسقي بها، لكن عنده بعض الأدوات دون بعض، وهو في حاجة -مثلاً- إلى بذور، وبحاجة إلى أجرة عمال، وبحاجة إلى نفقة على عياله، فيأتي إلى التاجر ويقول: أبيعك مائة صاع بر في ذمتي مؤجلة إلى وقت الحصاد بعد خمسة أشهر أو بعد سنة كل صاع بريالين، ولو كان البر موجوداً لكان سعر الصاع بأربعة، ولكن للحاجة أبيعه برخص فيربح المشتري حيث إنه بعد الحصاد إذا قبضها يبيع الصاع بأربعة وقد اشتراه بريالين، وينتفع البائع بتعجيل الثمن، فكل منهما له فائدة، هذا هو حقيقة السلم.(32/2)
شروط صحته(32/3)
أن يمكن ضبط صفاته
يصح السلم بسبعة شروط: الشرط الأول: أن يكون مما يمكن ضبط صفاته، كمكيل وموزون ومعدود ومزروع يمكن ضبط صفاته، وأخرجوا ما لا ينضبط بالصفات، وعرفوه بأنه الذي تدخله الصناعات اليدوية، وذلك لأنه يختلف، فقد كانت الصناعات اليدوية قديماً تختلف، فالذي يصنع السكاكين لا يجعلها متساوية، بل هذه أكبر من هذه، وهذه أقطع وأمضى من هذه، وهذه فيها حديد قوي وهذه حديد ضعيف، وكذلك الذي يصنع القدور تختلف، فيكون بعضها أكبر من بعض وبعضها أقوى، وهكذا الذي يخيط الثياب، فعادة أنها لا تتساوى، ويكون هذا أطول أو هذا أوسع وما أشبه ذلك، فيقولون: لا يصح السلف فيما تدخله الصناعة اليدوية.
أما في هذه الأزمنة فقد أصبحت الصناعة بالماكنة، وأصبح الاختلاف يسيراً أو ليس هناك اختلاف، فالمصنوعات الآن تصنع بالماكنات، والتجار الآن يسلمون فيها، فيتفقون مع الشركات المنتجة، ويقدمون لها الثمن أو نصف الثمن، ويحدد لهم مدة يسلمون البضاعة فيها، وأصبحت هذه الأدوات كلها يصح السلم فيها؛ لأنها لا تختلف، فيسلمون -مثلاً- في القدور، ويعرفون أرقامها مثلاً، فرقم كذا سعره كذا، ويقول التجار: نشتري منكم -أيها الصناع في المصانع- القدر رقم كذا -مثلاً- بعشرين ونقدم لكم الثمن، ويأتينا بعد نصف سنة.
وتكون القدور معروفة، فالذي بثلاثين يعرف برقم كذا، ورقم كذا بعشرين، ورقم كذا بعشرة، ورقم كذا بخمسة، وكذلك أيضاً الأباريق أصبحت معروفة منوعة تنضبط بالصفة، ويصح السلم فيها، وكذلك الصحون أصبحت أيضاً معروفة، وكذلك كل شيء تدخله الصناعة أصبحت الصناعة تضبطه، وهم يسلمون فيها الآن، فيسلمون -مثلاً- في الملاعق مائة ألف كلها بريالين، وكذلك يسلمون في السكاكين الصغيرة أو الكبيرة، حتى في الأمواس والإبر وما أشبهها، يسلمون في الصغير والكبير، فجاز ذلك لأنها أصبحت تنضبط بالصفات، وكذلك أيضاً سائر المصنوعات، فيسلمون الآن في الأحذية، ومن قبل كان الخراز يشقق أحذيته ثم يخرزها بيده بمخراز فيقع فيها اختلاف، فتكون هذه أثقل، وهذه أكبر، وهذه أصغر، ولا يجوز السلم فيها لأنها تختلف، وأما الآن فأصبحت أرقاماً محددة، وليس بينها اختلاف أصلاً، وكذلك أيضاً الثياب أصبحت تصنع بالماكنات بمقاسات معينة، أما التي يفصلها المفصلون ويخيطونها فإنها من الصناعات اليدوية، فأما التي تخاط بالماكنة تفصيلها وعملها فهذه يصح السلم فيها لعدم الاختلاف فيما بينها، فأصبحوا الآن يسلمون حتى في الماكنات الكبيرة مثل مضخات الماء والسيارات مع كبرها إذا كانت تنضبط بالصفة، فمثل هذا جائز لعدم المحذور، وقديماً منعوا من ذلك لكونه يختلف، والآن أصبح الاختلاف فيه يسيراً، وهذا الشرط الأول.(32/4)
ذكر الجنس والنوع
الشرط الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن غالباً وحداثة وقدم، وما الفرق بين الجنس والنوع؟ الجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً، والنوع ما له اسم خاص يشمل أشخاصاً، ويتضح هذا بالمثال.
فكلمة (التمر) جنس، والبرني والخضلي والسكري نوع من جنس، فإذا أسلم في تمر فلا يقل: في تمر بل يذكر الجنس بأنه تمر، ويذكر النوع بأنه خضلي أو نيفي أو عجوة، فيذكر النوع حتى لا يختلف النوع، وكذلك الحنطة جنس تحته أنواع، فنوع يسمى الصمع، ونوع يسمى الشارعي، ونوع يسمى الحباب، وأنواع أخرى، فإذا أسلم في الحنطة فلابد أن يذكر الجنس بأنه بر، ويذكر النوع بأنه شارعي -مثلاً- أو أنه صمع أو ما شابهه.
إذاً يجب ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن، فإذا كان هناك أوصاف فلابد أن يذكرها، فمثلاً الأرز جنس، وتحته أنواع، فنوع مصري، وآخر هندي، وآخر باكستاني، وقد يسمى باسم بلده مثل (بشاور) أو نحوها، ولا شك أنه لابد من ضبط كل وصف يختلف به الثمن، وكذلك الحداثة والقدم لابد أن يذكرهما، فالتمر مثلاً يختلف سعره بالحداثة وبالقدم، فيفضل الجديد من التمر، والأرز مثلاً قد يفضل القديم منه، فلابد أن يذكر هل هو جديد أم قديم، فتذكر الحداثة والقدم حتى لا يكون هناك اختلاف.(32/5)
ذكر القدر
الشرط الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو عد أو ذرع.
فيقول مثلاً: مائة صاع أو مائة كيلو.
وإذا كان مكيلاً فلا يقدر موزوناً، فلا يصح بيع مكيل موزوناً، ولا بيع موزون كيلاً، ولكن لعل الصواب أنه يجوز وزن ما هو مكيل، والناس الآن يسلمون في المكيل موزوناً، فالزرع -مثلاً- أصبح موزوناً بالكيلو، فيجوز أن تقول: اشتريت منك في ذمتك ألف كيلو من البر كل كيلو -مثلاً- بريال، تعطيني إياها في وقت كذا وكذا.(32/6)
أن يكون الأجل معلوماً
الشرط الرابع: أن يكون مؤجلاً بأجل له وقع في الثمن، فلا يصح حالاً؛ لأن الأصل أنه مؤجل، ولو كان حالاً حاضراً لما احتيج إلى أن يسمى سلماً، فإذا كان البر عنده فإنه يبيعه ويدفعه للمشتري في حينه، وكذلك التمر ونحوه، فلابد أن يكون مؤجلاً، ولا يسمى سلماً إلا إذا كان مؤجلاً بأجل له وقع في الثمن، بحيث يرخص فيه لأجل الأجل، فمثلاً: بدل أن يكون الصاع بريالين يشتري الصاع بريال؛ لأنه غائب ينتظره إلى أن يأتيه أجله، وقدره بعضهم بشهر، وقدره بعضهم بأكثر، والصحيح أنه لا حد له، بل إذا كان الأجل له وقع في الثمن يرخص في الثمن لأجله صح، ولا يصح حالاً، وإذا كان يأخذ منه شيئاً كل يوم يصح، مثاله: أن تتفق مع الخباز الذي يبيع الأربع من الخبز بريال، فتقول: أنا أشتري منك الخمس بريال لمدة ستين يوماً أو تسعين يوماً وأعطيك الثمن الآن، أعطيك تسعين ريالاً نقداً على أن تعطيني كل يوم خمس، وأنا بحاجة إليهن كل يوم ففي هذه الحال يصح، وذلك لأنه مؤجل، وإن كان الأجل متعدداً، ففي كل يوم تأتيه ويعطيك خمسة أرغفة إلى أن تتم تسعون يوماً، وقد أعطيته الثمن مقدماً.
وهكذا لو اتفقت مع القصاب الذي يبيع اللحم، يبيع الكيلو من لحم الغنم بعشرة ريال، فتقول: أنا أشتري منك مائة كيلو، وأنقدك الثمن الآن كل كيلو بثمانية ريال أسلم لك المال حالاً، وآخذ منك كل يوم كيلو إلى أن أتم مائة يوم فمثل هذا يجوز، ويسمى سلماً مؤجلاً، ولكن الأجل متعدد.(32/7)
أن يوجد غالباً في محله وقت حلوله
الشرط الخامس: أن يوجد غالباً في محله وقت حلوله.
وذلك يعرف بالعادة، فمثلاً: الرطب لا يوجد في الشتاء وكذلك العنب ونحوه، فإذا أسلم في الرطب في الشتاء لم يصح؛ لأنه غير موجود، وكذلك العنب ونحوه، وهكذا أيضاً إذا أسلم في شيء يتعذر وجوده في وقت الحلول، ولو قدر أنه أسلم في شيء ولكن تعذر وقت حلوله، إما أصابته آفة سماوية أو لم يجد شيئاً أو تعذر لضعفه؛ ففي هذه الحال للمشتري الخيار أن يصبر إلى السنة القادمة -مثلاً- أو يطالب برأس ماله، وليس له إلا ذلك، ولا يقول: أعطني بدله، أو يقول: الذي عندك الآن -مثلاً- مائة صاع، أبيعكها على أن تعطيني ثمنها كل صاع بريالين، ولو كنت اشتريته نقداً فبريال، فهذا لا يجوز، بل يصبر إلى أن يعطيه السنة القادمة أو يأخذ رأس ماله.(32/8)
قبض الثمن في مجلس العقد
الشرط السادس: قبض الثمن في مجلس العقد.
أي: أن يقبض الثمن في المجلس قبل أن يتفرقا؛ حتى لا يكون بيع دين بدين، وقد ورد في الحديث: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) ، والكالئ هو الغائب، فلا يجوز أن يؤخر الثمن، بل يستلم الثمن في المجلس ويكتب في ذمته المثمن.(32/9)
أن يكون السلم في الذمة
الشرط السابع: أن يكون السلم في الذمة، فلا يصح في عين ولا ثمرة شجرة معينة، بل يكون في ذمته، دليل ذلك ما ذكره جابر أو غيره من الصحابة: كان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة لشهرين أو لأربعة أشهر.
يقول الراوي: فقلت: هل كان لهم زروع؟ فقال: ما كنا نسألهم.
يأتون يجلبون البر، فيقال لأحد التجار: أشتري منك في ذمتك مائة صاع تأتيني بها بعد شهرين أو ثلاثة أشهر ويستلم التاجر الثمن ثم يذهب، فهذا النبطي -وهو من الزارعين- يشتري منه الصاع بريال، وهو هناك يشتري الصاع بنصف ريال، ثم يأتي إليك بها في بلدك، وتبيع الصاع بريالين، فأنت اشتريت بريال، وهو اشتراه بنصف ريال، وأنت بعت بريالين، فكل منهما منتفع، ولو قال -مثلاً-: لا أشتري منك إلا من ثمرة هذه النخلة فلا يجوز؛ لأنها قد يفسد ثمرها، وقد لا تنبت، وكذلك لو قال: لا أقبل إلا من ثمر هذا البستان أو من زرع هذه الأرض، لا يجوز، بل يقول: في ذمتك لي مائة صاع من البر سواء زرعت أو لم تزرع، وإذا حل الأجل فإنك تحضر لي مائة صاع تشتريها أو تحصدها أو ما أشبه ذلك، هذا معنى قولهم: إنه لا يصح في عين ولا في ثمرة شجرة معينة، مخافة أنها لا يصلح منها ثمر.(32/10)
الأسئلة(32/11)
صرف الشيك بأقل مما فيه مقابل تعجيل الدفع
السؤال
نستلم رواتبنا من البنك، ويتم استلام الشيكات في يوم ثلاثة وعشرين من الشهر، ولكن لا يتم الصرف إلا في يوم خمسة وعشرين، فيقوم بعضهم بصرف الشيك في مؤسسات صرف قبل مدة استحقاقه مقابل مبلغ قدره خمسون ريالاً يُخصم من المبلغ الموجود في الشيك، فهل هذا العمل صحيح؟
الجواب
غير صحيح، وذلك لأنه بيع مال بمال متفاوتاً، دراهم حاضرة بدراهم غائبة أقل منها، فيقول -مثلاً-: أعطوني ثلاثة آلاف وخمسمائة وأعطيكم بعد يومين ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين فيربحون خمسين ريالاً في يومين، ولا شك أن هذا ربا، وهذه زيادة دراهم بدراهم أكثر منها، فيكون هذا ربا، فيصبر الإنسان ويتحمل يومين أو يقترض بقدر حاجته حتى يسلم من الربا، ويأتيه راتبه كاملاً.(32/12)
معنى قول المؤلف: (إلا الخشب فلا، ويشتركان فيها)
السؤال
يقول: ما معنى قول المؤلف: إلا الخشب فلا، ويشتركان فيها؟
الجواب
كلمة (إلا الخشب فلا) جملة معترضة، وأما قوله: (يشتركان فيها) ، فيريد به: يشتركان في الزيادة، فإذا باع -مثلاً- البطيخ وهو صغير ثم تركه المشتري ولما تركه زاد فإنهما يشتركان في هذه الزيادة، وأما الخشب فإن زيادته يسيرة.(32/13)
معنى قول المؤلف: (وعلى بائع سقي ولو تضرر أصل)
السؤال
قول المؤلف رحمه الله: وعلى بائع سقي ولو تضرر أصل، ألا يخالف هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) ؟
الجواب
لا يخالفه، وما ذلك إلا لأنه ملزم بسقي شجره، فيقول: الشجر لي وسوف أسقيه، وأنت اشتريت مني الثمرة، فإن شئت فاستلمها في الحال، وإن شئت فاتركها حتى يتم نضجها، فكوني أتضرر لمصلحتك فهذا عليّ فيه ضرر فالشجر إذا لم يسق تضرر وضمر.(32/14)
الخلاف في ضمان الثمر الذي أصابته جائحة
السؤال
اختلفوا إذا تلف الزرع بآفة سماوية، فالإمام أحمد يقول: الضمان على البائع.
فما هو دليل القول الآخر؟
الجواب
أدلتهم عموم المبايعات، فإن النبي عليه السلام رخص في بيعه، ونهى أن يباع الثمر حتى يبدو صلاحه، فهذا دليل على أنه دخل في ملك المشتري، وفي الحديث: (نهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع) ، فدخلت في ملك المشتري، فإذا أصابتها هذه الجائحة ذهبت على المشتري، والمشتري قد قبضها بالتخلية، والبائع قد استلم الثمن وانقطعت علاقته بها، هذا دليل كل منهم.(32/15)
حكم تفريط المشتري بالسلعة أثناء خيار الشرط
السؤال
يقول: اشتريت سيارة، واشترطت أن أجربها لمدة أسبوع، فبعد يومين تعطلت السيارة بتفريط من المشتري، فمن الذي يتحمل تلف السيارة البائع أو المشتري؟
الجواب
إذا كان لك الخيار في تلك الأيام بتجربتها، ثم كان تعطلها بسبب آفة داخلية فيها، فإنك تردها على البائع، وأما إذا كان التعطل بسبب منك أنك -مثلاً- خاطرت بها أو أسرعت، أو انقلبت بك، أو حدث منك تهور أو تفحيط أو ما شابه ذلك حتى حصل هذا الخلل فأنت الذي تضمنه ولو رددت السيارة.(32/16)
حرمة السفر إلى بلاد الغرب للسياحة مع عدم أمن الفتنة
السؤال
زوجي يسافر بنا سنوياً للسياحة في إحدى البلاد التي تباع فيها الخمور ويكثر فيها التبرج والسفور، ولاحظت على أبنائي وبناتي انحرافاً أخلاقياً ونبذاً للحجاب وقتلاً للغيرة ودفناً للحياء، لذلك فقد عصيته في هذا العام في مسألة السفر، ومنعت أبنائي وبناتي من السفر، آمل توجيه نصيحة، وهل أنا آثمة؟
الجواب
أحسنت هذه المرأة بما فعلت من الامتناع، ولاشك أن السفر إلى تلك البلاد التي يكثر فيها التبرج وتباع فيها الخمور وتكثر فيها المنكرات وسيلة من وسائل الانحراف، فأولاده إذا رأوا هذه المنكرات تخلقوا بها، وهان أمرها عندهم ذكوراً وإناثاً، ففي هذه الحالة نرى أنها على خير إذا عصته؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعليها نصحه، وعلى من يعرفه أن ينصحه وأن يحذره من هذه الأسباب، وفي بلاده من المنتزهات ما يغنيه عن السفر الذي يكلفه أموالاً ويسبب الضرر له ولأولاده.(32/17)
استلاف مال من شخص للتجارة به
السؤال
يقول: استلفت من شخص مبلغاً من المال لمدة سنة، ثم أعطيته بعضه، وبعضه الآخر أنفقته في التجارة، مع أن الشخص الذي استلفت منه قال: متى ما توفر المبلغ لديك فائتني به فهل يجوز الانتفاع بهذا المبلغ أو يجب رده على صاحبه؟
الجواب
إذا لم يطالبك به وقال: مباح لك أن تتصرف فيه إلى أن يتوفر لديك فلك أن تتجر به، وربحه وخسرانه عليك، واعتبره كدين في ذمتك، فأما إذا اتفقت معه على أن يكون مضاربة ويكون له جزء من الربح فاعتبره كمضاربة، واعتبر أن خسرانه عليكما وربحه بينكما.(32/18)
إغراء الشركات للزبائن بجوائز في بعض بضائعها مع الزيادة في السعر
السؤال
يقول: يوجد في السوق أنواع من المناديل، يوضع في داخل المنديل نقودٌ، فيباع هذا في السوق بخمسة وستين ريالاً، وهناك مناديل من نفس النوع ليس فيها نقود تباع بستين ريالاً، علماً بأن الكرتون الذي بداخله نقود لا نعرف هل في داخله نقود أو لا، فيشتريه الإنسان وهو لا يعلم، فهل هذا جائز؟
الجواب
ما أرادوا بذلك إلا اجتلاب أموال الناس، فجعلوا في واحد -مثلاً- خمسة ريالات، وأرادوا بذلك أن يشتري هذه الكراتين حتى يحظى بواحد منها، وربما لا تكون النقود إلا في واحد أو اثنين، فنقول: إن هذا خطأ من هذه الشركة التي جعلت نقوداً في داخل هذه المناديل، وعليها ألا تتسبب في اجتلاب أموال الناس بمثل هذه الحيل، والإنسان الذي بحاجة إلى شراء هذه المناديل يشتريها على حالتها.(32/19)
إظهار المحل بشكل جاذب للزبائن
السؤال
قلتم بأن الهدايا التي تقدمها المحلات التجارية لا تجوز؛ لأنها تغري الناس بالتعامل مع هذه المحلات، فكيف هذا وشكل المحل ونظافته والدعاية الموجودة فيه كلها تغري الناس بالتعامل مع هذا المحل، فكيف نقيس هذا على ذاك؟
الجواب
معلوم أنهم ما قصدوا إلا مصالحهم الخاصة، ولم يقصدوا نفع الشعوب، ولا نفع الأفراد، ولو أرادوا ذلك لتصدقوا بهذه الهدايا ونحوها ولأنفقوها في أوجه الخير، ولكن أرادوا بذلك أولاً أن يشتهر متجرهم، وأن يتحدث الناس به، ويكون ذلك كالدعايات التي يُعلن عنها، وأرادوا ثانياً أن الناس إذا تسامعوا بهذه الهدايا ونحوها تهافتوا من كل مكان وتكلفوا وتجشموا المشقة، وبذلوا أموالاً حتى يحصلوا عليها، فيحصلون من الناس أموالاً كثيرة يربحون بها عشرات أمثال تلك الهدايا، فنحن نقول: لا تشجعهم على هذه الدعايات، وعليك أن تشتري ممن تيسر لك، ولا تتكلف الشراء بتشجيعهم، فربما كانت هذه الهدايا لا تحصل لك، وتكون قد تكلفت تكلفاً زائداً بمجيئك من بعيد، فاقنع بما ترزق، واقتصر على ما تيسر.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/20)
شرح أخصر المختصرات [33]
الإسلام يدعو إلى التعاون على البر والتقوى، وهذا من أسباب المودة والمحبة، ومن ذلك القرض، فقد رغب الإسلام فيه، وأوجب على المقترض أن يرد مثل ما أخذ بلا زيادة مشترطة، وفي القرض أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.(33/1)
وجوب الوفاء بالسلم في موضع العقد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجب الوفاء موضع العقد إن لم يشرط في غيره، ولا يصح بيع مسلم فيه قبل قبضه، ولا الحوالة به ولا عليه، ولا أخذ رهن وكفيل به، ولا أخذ غيره عنه.
فصل: وكل ما صح بيعه صح قرضه إلا بني آدم، ويجب رد مثل فلوس ومكيل وموزون، فإن فُقد فقيمته يوم فقده، وقيمة غيرها يوم قبضه، ويحرم كل شرط يجر نفعاً، وإن وفاه أجود أو أهدى إليه هدية بعد وفاء بلا شرط فلا بأس] .
شروط السلم السبعة زائدة على شروط البيع، فالشروط السبعة التي في أول باب البيع لابد منها هنا، فلابد من التراضي بينهما، ولابد أن يكون العاقدان جائزي التصرف، وأن يكون المبيع مالاً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وأن يكون الثمن معلوماً، وأن يكون المبيع معلوماً إلى آخر ما تقدم.
وذكر هنا أنه يجب الوفاء موضع العقد إن لم يشترط في غيره، وذلك لأنهما عندما تعاقدا كان الأصل أنه يسلم المبيع في الموضع الذي تعاقدا عليه، صورة ذلك: إذا تعاقدا -مثلاً- في الرياض، والمزارع في القصيم أو في الأفلاج أو في الأحساء، وجاء صاحب الزرع أو صاحب الثمر واشتريت منه في ذمته مائة صاع أو مائة كيلو تحل بعد نصف سنة، ودفعت إليه الثمن، فإذا حل الوفاء فعليه أن يأتي به على بعيره أو على سيارته ليحضره لك في موضع العقد، أي في البلد الذي تعاقدا فيه؛ لأن العادة أن المبيع يسلم في مكان التبايع، هكذا ذكروا أنه يسلم في مكان التعاقد، ويجوز شرطه في غيره، فلو قال البائع: بشرط أن ترسل إليّ في الأحساء من يستلم التمر جاز ذلك، أو قال صاحب الأفلاج أو الخرج: أنا لا أنقله، فأرسل من يستلمه في البلد الذي أنا فيه؛ فنقله صعب عليّ فإن المشتري يرسل من يستلمه، أما لو تعاقدا مثلاً في صحراء برية أو تعاقدا في لجة بحر فلابد أن يحددا موضع التسليم؛ لأن مكان العقد ليس محلاً للوفاء مثل لجة البحر، فيحددان أين يكون التسليم في البلاد الفلانية، سواءٌ أكانت بلد المشتري أم بلد البائع.(33/2)
حكم التصرف في المسلم فيه قبل قبضه
مسألة: ما حكم التصرف في المسلم فيه قبل قبضه؟
الجواب
لا يجوز، وذلك لأنه لا يدخل في ملك المُسْلِم المشتري إلا بالقبض، وقد ذكرنا أن القبض في جميع المبيعات شرط لصحة التصرف، فمن اشترى شيئاً بالكيل فلا يتصرف به إلا بعد كيله، ومن اشترى شيئاً بالوزن فلا يتصرف فيه إلا بعد وزنه، وهكذا ما في الذمة، فإذا اشتريت في ذمة هذا المزارع مائة صاع تحل -مثلاً- في رجب وسلمته ثمنها في المحرم كل صاع بريالين، ثم بعد شهر أو نصف شهر جاءك إنسان وقال: بعني دينك الذي في ذمة فلان الذي هو مائة صاع والذي يحل في رجب فهل يجوز أن تبيعه؟ لا تبعه قبل قبضه، وذلك لأنه ما يزال من ضمان البائع الذي هو المزارع إلى أن تقبضه، فلا يزال في ذمة البائع إلى أن يستوفيه المشتري، فيدخل حينئذ في ملكيته.
ومن التصرف أيضاً الحوالة به أو الحوالة عليه، فإذا فرضنا أن صاحب الدراهم اسمه سعد، وصاحب الزرع أو النخل اسمه سعيد، والتمر أو الزرع يحل في رجب، فصاحب الدراهم إن جاءه إنسان يطالبه بدينه فقال: عندك لي مائة صاع أوفها لي الآن.
فهل يقول: أحيلك على سعيد؛ فإن عنده لي مائة صاع تحل في رجب؟ لا يصح؛ لأنها لم تدخل في ملك سعد إلا بالقبض، فلا يحيل عليها.
وإذا جاء رجب وحلّت في ذمة سعيد، وجاءه سعد وقال: أوفني مائة صاع فقد حلت.
فقال سعيد: أُحيلك على خالد فإن عنده لي مائة صاع هل يصح؟ لا يصح، وذلك لأن الذي في ذمة خالد لم يدخل في ذمة سعيد، فلا تدخل في ذمته إلا بالقبض، فلا يحيل عليها قبل قبضها، وقبضها يكون بالكيل، وأجاز بعض العلماء الحوالة إذا حُددت، وقال: إنّ قبض كل شيء بحسبه، وإن المحال يكون كالوكيل.
أي: إذا جاءك يستوفيك فقال: أعطني مائة صاع التي في ذمتك فقد حلّت فكأنك توكله عندما تقول: في ذمة خالد لي مائة صاع أو مائة كيلو، وكلتُك أن تستلمها.
فلعل هذا لا مانع منه، وذلك لقيام الوكيل مكان الموكل.(33/3)
حكم أخذ الرهن والكفيل في السلم
يقول: [ولا يصح أخذ رهن وكفيل به] قالوا: لأن دين الرهن عرضة للفسخ.
وذلك أنه قد لا يتيسر.
وذكر المؤلف في الشرط السادس أنه إن تعذر أو بعضه صبر أو أخذ رأس ماله، فأخذ رأس ماله دليل على أن دين السلم عرضة للفسخ، وإذا كان عرضة للفسخ فليس هو ديناً ثابتاً، فليس مثل قيمة الوديع ما دام أنه ليس له إذا تعذر إلا رأس ماله، فهو دليل على أنه عرضة للفسخ، فإذا كان كذلك فليس له أن يطلب رهناً ولا أن يطلب كفيلاً؛ لأن الرهن والكفيل إنما يصح التزامه في الشيء الذي لا يتأتى عليه الفسخ، ويمكن أن نقول: يصح الرهن والكفيل على رأس المال، فأنت دفعت إليه -مثلاً- مائتين من الدراهم على أن يعطيك مائة صاع في رجب، ثم تخشى أن يماطل إما أن لا يعطيك مائة صاع وإما أن لا يقدر على ذلك، فتقول: أعطني رهناً وأنا أسلمك مائتين أو أعطني كفيلاً، فإذا لم تعطني مائة صاع فعلى الأقل رأس المال، فإذا جاء رجب ولم تزرع ولم تغرس -مثلاً- فعلى الأقل أعطني رأس المال الذي هو مائتان.
فالصحيح أنه يجوز أخذ رهن أو كفيل حتى يوفيه إذا حل إما نفس الدين الذي هو مائة الصاع وإما رأس المال الذي هو مائة ريال، فالوثيقة منه أن ترهن هذا البعير أو هذا السيف، ويقول: إذا حل الدين في رجب أبيع البعير إذا لم توفني، وآخذ دراهمي، أو الكفيل يحضر لي الدين الذي هو مائة صاع.(33/4)
عدم صحة أخذ غير المسلم فيه عنه
قوله: [ولا أخذ غيره عنه] صورة ذلك إذا قال: حلت المائة الصاع، وأنا لم أزرع، والبر غال، وليس عندي مائة صاع، ولا أستطيع أن أشتريها لك، ولكن أعطيك تمراً أو شعيراً أو ثياباً بدل المائة الصاع.
فهل هذا يصح؟ لا يصح ذلك؛ لأنه تصرف فيه قبل قبضه، إذاً ليس لك إلا رأس المال أو تصبر.(33/5)
أحكام القرض(33/6)
تعريفه وفضله
القرض: هو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
ويكون القصد منه الإرفاق والتوسعة على المستقرض، والعادة أنه لا يقترض إلا من حاجة، والمقترض هو الذي يأتي فيقول: أقرضني.
والعامة يعبرون عنه بالسلف، فيقول: سلفني ألف ريال.
أو: سلفني عشرة آصع من البر.
أو: سلفني عشرة أذرع من القماش الفلاني.
هذا هو القرض، ورد فيه حديث ذكره صاحب بلوغ المرام وغيره: (ما من مسلم يقرض مسلماً مرتين إلا كان كصدقة عليه مرة) أي: له أجر الصدقة.
فإذا أقرضته مائتين فكأنك تصدقت عليه بمائة، مع أنه سوف يرد عليك المائتين؛ لأنها قرض سيردها عليك، ولكن لك أجر؛ لأنك وسعت عليه، حتى قال بعض العلماء: إن أجر القرض أعظم من أجر الصدقة.
وذلك لأن المستقرض محتاج، فلا يأتي إليك ويقول: أقرضني.
إلا وقد اشتدت حاجته، فهو في حاجة شديدة حيث لا يستطيع أن يشتري حاجته هذه، ولا يجد لها ثمناً، فكان إقراضه توسعة عليه، وهذا يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، فالمقرض محسن على المستقرض، والاستقراض لا يعد من المسألة المنهي عنها، التي ورد فيها الحديث: (لا تزال المسألة بالرجل حتى يقوم يوم القيامة وليس على وجهه بضعة لحم) ، فله أن يستقرض ولا يلحقه عيب؛ لأنه قد تشتد به الحاجة، ويمكن أن يكون له دين وتأخر وفاؤه فيستقرض حتى يحل الدين، أو نزل به ضيف واحتاج إلى إكرامه، فلابد أن يستقرض إلى أن يأتيه ماله أو نحو ذلك، فعرف بذلك أن الاستقراض ليس من السؤال المنهي عنه.(33/7)
كل ما صح بيعه صح قرضه إلا الرقيق
ما الذي يصح قرضه وما هو الذي لا يصح؟ كل ما صح بيعه صح قرضه إلا بني آدم، فيصح القرض في كل شيء يصح بيعه، مثلاً: تقرضه شاة أو كبشاً ويرد عليك مثله، وتقرضه بعيراً ويرد عليك مثله، وتقرضه ثوباً، وتقرضه صاعاً من بر فيرد مثله، أو من شعير أو من تمر، وهكذا لو أقرضته نقوداً فيرد مثلها ريالات أو دولارات أو دنانير أو جنيهات أو ما أشبهها، فعليه أن يرد مثلها، وهكذا كل الأشياء التي ينتفع بها وتملك، أما الأشياء التي لا تملك فلا يصح قرضها.
ولا يصح بيعها، وقد تقدم في أول البيع أنه لا يصح بيع الكلب فلا يصح قرضه، وكذلك الحشرات لا يصح قرضها، واستثنوا من الحشرات دودة القز والنحل، وذلك لأنه ينتفع بنسيج دودة القز، وينتفع بما يخرج من بطون النحل، فهذا يصح قرضه.
وأما النجاسات فلا يصح بيعها ولا يصح قرضها، ولو كان فيها منفعة، والأسمدة التي يحكم بأنها طاهرة يجوز قرضها وبيعها، فصاحب المزرعة قد يحتاج من جاره -مثلاً- إلى عشرة أكياس من الأسمدة التي تسمد بها الأرض، وإذا اقترضها رد مثلها، وذلك لأنها مما يصح بيعه، وأما إذا كانت نجسة كروث الحمر وما أشبه ذلك من النجاسات فلا يصح بيعها، ولا يصح قرضها.
واستثنوا بني آدم، أي: المماليك، فلا يصح أن يقرض عبداً، ولا أن يقرض أمة، وذلك لأنه قد يقترض أمة ليطأها ثم يردها، ومعلوم أنه لا يحل الوطء إلا بعقد نكاح أو بملك يمين، فلو أنه استقرض الأمة ليردها فيمكن أن تدخل في ملكه فيرد بدلها، وقد لا يتأتى مماثلاً لها من كل وجه، فلذلك لا يصح قرض العبيد.(33/8)
تأجيل القرض
هل القرض يتأجل؟ معلوم أن الذي أقرضك أحسن إليك، فما ربح في بيعك ولا ربح في القبض، ولا استفاد من ذلك، وإنما وسع على المقترض، فهذا القرض يعتبر حالاً غير مؤجل، فلو أنه أقرضك ألف ريال ثم قال: أعطني الألف بعد يوم فحق عليك الوفاء؛ لأنه ما ربح، لكن لو أجل القرض فينبغي له أن يفي بوعده، فلو قال: أقرضك الألف وأُمهلك مدة شهر فطلبه قبل الشهر فنقول له: لك حق؛ لأنك ما ربحت، ولكن ننصحك أن تفي بوعدك، فأنت قد أمهلته شهراً، فليس لك أن تضايقه، بل تصبر إلى أن يمضي هذا الشهر الذي أمهلته وأخرته فيه.
فهذا هو الصحيح، وهو أنه ينبغي له أن يفي بالوعد، فإذا وعده لا يضايقه قبل ذلك.
وذكرنا في تعريف القرض أنه: دفع مال إلى من ينتفع به ويرد بدله، وهذا دليل على أن المال الذي اقترضه يخرج من ملك المقرض ويدخل في ملك المقترض، فيصبح له حق التصرف فيه، فإذا اقترض شاة خرجت من ملك المالك الأول ودخلت في ملك المقترض، فله أن يحجزها، وله أن يجزها، وله أن يذبحها، ويثبت بدلها شاة مثلها في ذمته مماثلة للتي دخلت في ملكه.(33/9)
رد القرض بمثله
إذا قبض المقترض العين المقرضة فتلفت في يده فإنها تذهب عليه، وليست كالأمانة، بل يرد بدلها إذا تلفت، فلو أقرضك إنساناً ألفاً، ولما خرجت بها سرقت منك فالدين ثبت في ذمتك، وأنت الذي تغرم هذا الألف الذي ذهب عليك؛ لأن صاحبه أثبته في ذمتك، وعند الرد يرد المثل بالمثليات، وترد القيمة بغير المثليات، فالفلوس التي تسمى (الهلل) يرد مثلها، وإن بقيت عند الذي اقترضها ردها بعينها، والمكيل كذلك، فإذا اقترض صاع بر أو صاع ملح فإنه يرد مثله، وكذلك المعدود، ويحدث كثيراً بين الجيران أنهم يقترضون أشياءً ثم يتسامح فيها ولو كانت متقاربة، وقد لا تكون متماثلة، فيقترضون لطعامهم شيئاً من الطماطم أو الباذنجان أو القرع ما يُصلحون به طعامهم، وكذلك قد يقترضون بعض الأشياء من الصابون أو المناديل التي هم بحاجة إليها، يقترضونها ويردون بدلها، والتفاوت بينها يسير، فيرد المثلي بمثله.
والموزون كذلك، فإذا اقترض منه -مثلاً- قدر كيلو من لحم الإبل رد مثله، أو من لحم السمك رد مثله، أو دجاجة رد مثلها، فإن عدم المثل رجع إلى القيمة، ومتى يقومها؟ يوم الرد، فمثلاً: أقرضك مائة كيلو من التمر السكري، ولما طلبها لم يوجد هذا النوع من التمر، وفي هذه الحال له قيمته، فمتى يقوّم هذا القرض؟ نفرض أنه أقرضك في محرم، وقيمة السكري يومها -مثلاً- الكيلو بعشرة، وطلبه منك في شهر رمضان وعُدم، ولو وجد لكانت قيمته الكيلو بعشرين، فترد عليه الكيلو بعشرين، وذلك لأنه وقت الطلب ووقت وجوب الدفع ووقت وجوب الوفاء.
ويحدث كثيراً أن بعض الناس من خارج البلاد يقترض منك -مثلاً- ألف ريال، وهو سوداني مثلاً، وفي ذلك الوقت كان الريال السعودي يساوي جنيهين سودانيين، وبعد خمس سنين قال: أعطني ألف ريال.
فقال: في هذا الوقت ليس عندي إلا جنيهات سودانية، والجنيه الآن قيمته عُشر ما كان عليه في ذلك الزمان، وصار الريال يساوي عشرين جنيهاً، وأنت الآن تطلب قيمته، فهل قيمته يوم فقده أو يوم طلبه؟ في هذه الحال نقول: هو أقرضك ألف ريال فرد عليه ألف ريال أو قيمة الألف عند الطلب، ولو كانت قيمته في ذلك الوقت -مثلاً- ألفي جنيه والآن قيمته عشرة آلاف أو أكثر أو أقل، فرد عليه قيمة ما أقرضك؛ لأنه موجود.
وهكذا لو اتفقا في الاسم، فلو أن بعض الإخوان اليمنيين أقرض أحد أصدقائه ألف ريال سعودي، وذلك المقترض حولها إلى ثلاثة آلاف ريال يمني، ثم بعد خمس سنين طالبه من اليمن فقال: أعطني ألف ريال سعودي، فقال: في ذلك الوقت كانت تساوي ثلاثة آلاف، فأعطيك الآن ثلاثة آلاف ريال يمني.
وفي هذا الوقت تساوي -مثلاً- مائة ألف ريال يمني أو قريباً منها، فنقول: لا، بل أعطه ألف ريال سعودي أو قيمتها بالريال اليمني؛ وذلك لأن على المقترض أن يرد مثلما أقرض، أو قيمته وقت الطلب.
أما ما ليس له مثل فيرد بقيمته يوم قبضه، فبعض الأشياء لا يوجد لها مثل، مثل بعض الفواكه، فلو اقترض -مثلاً- بعض البطيخ أو بعض الفواكه والخضار وما أشبه ذلك مما لا يوجد لها مثل فإنه يرد قيمتها يوم القبض، فعندما قبضته كم كانت قيمته؟ قيمته ألف أو نصف الألف.
أما إذا طالبك بها في بلد آخر، كأن أقرضك في الرياض ألفاً وطلبه في مكة فعليك أن تقضيه؛ لأنه ليس في حمله مئونة عليك، أما إذا أقرضك -مثلاً- عشرة كيلو تمر في الرياض، وطلبه منك في الأحساء فهل ترده؟
الجواب
ترده؛ لأنه خفف عليك قيمته وحمله إليه، وقد تكون قيمته أنقص، ولو كان الأمر بالعكس، فلو أقرضك في الأحساء عشرة كيلو وطلبها منك في الرياض.
فإنك تعطيه قيمتها في الأحساء؛ لأنه إذا أعطيته هناك فكأنك نقلتها له وأسقطت عنه أجرتها، وقد تكون قيمتها هناك أكثر، فلذلك قالوا: إذا كانت في بلد القرض أرخص فإنه يعطيه قيمتها.(33/10)
كل قرض جر نفعاً فهو ربا
يقول: [ويحرم كل قرض يجر نفعاً] .
كل قرض جر نفعاً فهو ربا، كأن يشترط المقترض على المقرض فيقول: أقرضك مثلاً عشرة آصع في الرياض، بشرط أن تقضيني إياها في القصيم أو في الحجاز، وأراد بذلك أن تسقط عنه أجرة نقلها، فهذا شرط جر نفعاً، فلا يجوز، وكل قرض جر منفعة فهو ربا، ويدخل في ذلك جميع المنافع، فلو قال -مثلاً-: أقرضك خمسة آلاف بشرط أن تعطيني سيارتك خمسة أيام استعملها، فهذا القرض جر نفعاً، ويحدث في بعض البلاد أن إنساناً يقرض إنساناً -مثلاً- مائة ألف، ثم يقول له: أعطني مزرعتك أستغلها حتى ترد عليّ قرضي، فيأخذ مزرعته أو بئره وماكنته ثم يستغلها ويزرعها ويغرس فيها ويأخذ غلتها، وقد تبقى معه خمس سنين أو عشراً وهو يستغلها ويقول: لا أسلمها لك إلا إذا رددت عليّ المائة ألف التي هي قرض، ومن أين يردها؟ فليرد عليه أرضه حتى يستغلها ويعطيه من غلتها، فهذا قرض جر نفعاً، وقد لا يسمونه قرضاً وإنما يسمونه ديناً، كما لو قال: أقرضك مائة بشرط أن تبيعني هذه الشاة بمائة، وهي شاة تساوي مائة وعشرين، فقد يكون محتاجاً إلى المائتين، وشاته تساوي مائة وعشرين، فيقول: نعم، أبيعك الشاة بمائة لأجل إقراضك لي مائة أخرى؛ لأني محتاج، فنقول: هذا قرض جر منفعة فهو ربا.(33/11)
حكم الجمعية التعاونية بين الموظفين
يسأل كثيراً عن الجمعية التي يفعلها الموظفون الذين يكونون في دائرة واحدة كمدرسة أو إدارة خاصة، فإذا دخلت السنة اجتمعوا على أن كل واحد منهم يقتطع من راتبه -مثلاً- ألفاً أو ألفين، فيجمعونه في كل شهر فيكون عشرين أو ثلاثين ألفاً، ويعطونها في الشهر الأول واحداً منهم، ثم يجمعونها في الشهر الثاني ويعطونها آخر، ثم يعطون ثالثاً في الشهر الثالث، إلى أن يدور الدور عليهم كلهم في السنة أو في السنتين، ويسمونها (جمعية الموظفين) ، فهل هذه الجمعية جائزة أم لا؟ منعها بعض المشايخ مثل صالح بن فوزان وغيره، وعرضت على هيئة كبار العلماء فأصدروا فيها فتوى بالجواز، والأكثر من أعضاء الهيئة وافقوا على ذلك، وبعض الذين خالفوا لم يوقعوا، وكتبوا: أنا مخالف أو أنا متوقف ولم يعتبروا خلافهم، وعللوا قولهم بالمنع بأن فيها منفعة، ولكن ليس فيها منفعة للمقرض، وإنما المنفعة للمقترض، ففيها مصلحة، وكأنهم يقولون: أنت -يا هذا- بحاجة إلى أن نعطيك في هذا الشهر ثلاثين ألفاً تؤثث منزلك -مثلاً- أو توفي ديناً حل عليك، ولو لم نعطك لاقترضت أو لاستدنت فتضررت بالدين، وفي الشهر الثاني يكون الآخر أشد حاجة فنعطيها له، وهكذا، فكل واحد يقرضك شهراً، ثم إذا جاءت النوبة رد عليه ما اقترضه، فكأنه أقرضه ثم رد عليه، فلا يكون فيها زيادة، ولا يكون فيها منفعة للمقرض، وإنما المنفعة للمقترضين كلهم، فلا تدخل في قرض جر منفعة.(33/12)
جواز الزيادة في قضاء الدين بلا شرط
يقول: [وإن وفاه أجود أو أهدى إليه هدية بعد وفاء بلا شرط فلا بأس] ورد أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فجاءه يستوفيه فلم يجد إلا خياراً رباعياً فأعطاه وقال: (إن خيركم أحسنكم وفاءً) ، والبكر هو ولد الناقة الذي قد تم له سنة، والأنثى بكرة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم مرة إلى هذا البكر، فأقرضه هذا الرجل بكراً، فرده رباعياً، والرباعي أكبر من البكر، فالبكر ابن سنة، والرباعي لعله ابن ثلاث سنين، فهذا دليل على أنه يجوز الوفاء بأحسن، فإذا أقرضك أحد شاة متوسطة وأعطيته شاة أحسن منها فلا بأس، وهكذا لو أقرضك ثوباً متوسطاً وأعطيته ثوباً جديداً أجود من غير شرط فلا حرج في ذلك.
وكذلك إذا أهدى لك بعد الوفاء فإنك تقبل الهدية إذا لم يكن هناك شرط، أقرضته مثلاً ألفاً أو عشرة آلاف، وبعدما أوفاك أهدى إليك ثوباً أو فاكهة أو عسلاً أو سمناً أو شيئاً مما يهدى عادة، وأنت لم تشترط عليه، واعتبر ذلك مكافأة لك على كونك أحسنت إليه، فلا بأس بقبول ذلك إذا لم يكن هناك شرط.(33/13)
شرح أخصر المختصرات [34]
جاءت الشريعة بجلب المصالح ودفع المضار عن العباد، سواء في العبادات أو المعاملات أو غيرها، ومن المعاملات التي يتبين فيها ذلك الأمر: الرهن، وهو توثقة عين بدين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها، وله أحكام كثيرة بينها أهل العلم.(34/1)
الرهن(34/2)
تعريفه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وكل ما جاز بيعه جاز رهنه، وكذا ثمر وزرع لم يبد صلاحهما، وقن دون ولده ونحوه، ويلزم في حق راهن بقبض، وتصرف كل منهما فيه بغير إذن الآخر باطل إلا عتق راهن، وتؤخذ قيمته منه رهناً، وهو أمانة في يد مرتهن، وإن رهن عند اثنين فوفى أحدهما أو رهناه فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه] .
الرهن في اللغة: الثبوت.
يقال: ماء راهن: أي: راكد.
ولزوم الشيء مكانه يسمى رهناً، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] ، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ، وفي الحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته) ، وعرفوا الرهن اصطلاحاً بأنه: توثقة عين بدين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها.
فهو من الوثائق، ومعروف أن الدين هو ما يكون في الذمة، مثلاً في ذمتك مائة ريال أو ألف ريال لفلان نسميها ديناً؛ لأنها ليست عيناً معينة، فإذا أعطيته من فئة خمسمائة أو أعطيته من فئة العشرة فإنه يقبل ذلك، ولا يقول: إنه يلزم أن يعطيني كذا وكذا، فكل ذلك جائز.
فقولهم: (توثقة عين بدين) العين هي الرهن، فإذا رهنته -مثلاً- هذا الكيس فهو عين، أو رهنته هذا البعير، أو هذه الأرض، أو هذا البستان، أو هذه الدار، أو هذه الشاة فهذه عين معينة.
وقولهم: (بدين يمكن استيفاء الدين منها) .
لو قدر أن رجلاً قال: أقرضني خمسة آصع من الأرز وأرهنك هذا الكيس من الأرز، وهذا الكيس ما أحب أنني آخذ منه شيئاً؛ لأني أريد أن أبيعه عند الحلول أو نحو ذلك، ولا أحب أن آخذ منه.
فأقرضته أو بعته خمسة آصع بمائة ريال، فإذا حلّ الدين فإما أن تبيع هذا الكيس فتستوفي دراهمك، وإما أن تأخذ دينك منه فتأخذ من الكيس الخمسة الآصع.(34/3)
كل ما جاز بيعه جاز رهنه
يقول: [كل ما جاز بيعه جاز رهنه] .
كل ما جاز بيعه جاز رهنه، حتى المماليك، فيجوز رهن العبد، ويجوز رهن الأمة، وذلك لأنه يجوز بيعها، وهناك ما يجوز رهنه دون بيعه، فقد تقدم أنه لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل إلا إذا بدا صلاحه، ولكن رهنه يجوز، فيجوز أن تقول: رهنتك ثمرة هذه النخلة.
وهي لا تزال بسراً، وذلك لأنه قد يكون الدين لا يحل إلا بعد خمسة أشهر، فإذا حل الدين كان البسر قد صار رطباً أو تمراً فيجوز بيعه، وكذلك لو قال: رهنتك هذا الزرع.
وهو ما يزال نابتاً صغيراً، ومعلوم أنه لا يجوز بيع الزرع نابتاً صغيراً إلا بشرط القطع في الحال، ولا يجوز بيع الحب في سنبله إلا بعد أن يشتد، ومع ذلك يجوز رهنه، وذلك لأنه عادة يمكن تأخيره إلى أن يشتد الحب، فعند ذلك يجوز البيع.
قوله: [وكذلك ثمر] يعني: كالنخل والعنب [وزرع لم يبد صلاحهما] أي: يجوز رهنهما ولا يجوز بيعهما، ولا يجوز بيع القن دون ولده، فإذا كان عند الإنسان أمة مملوكة ولها ولد مملوك صغير فهل يجوز بيع الأمة دون ولدها، أو بيع الولد دون أمه؟ لا يجوز، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته) ، ومع ذلك يجوز رهن الأمة دون ولدها، ويجوز رهن الولد دون أمه، وإذا حل الدين فإننا نقول له: بعهما جميعاً وأوف الدين ولا تبع أحدهما، وإذا بيعا فثمن الأمة يأخذه الغريم، وثمن الولد يأخذه السيد الذي هو الراهن.(34/4)
هل الرهن عقد لازم أم جائز؟
هل الرهن عقد لازم، أو عقد جائز، أو فيه تفصيل؟ يقولون: لازم في حق الراهن وجائز في حق المرتهن، فالمرتهن لو قال: ارهني الكيس ثم رهنته الكيس فلا تقدر أن ترجع، ولا تقول: ارجع لي كيسي حتى توفيه الدين، أما هو فلو رده عليك وقال: وثقت بذمتك ولا حاجة لي إلى وثيقة فأنا راض بذمتك فخذ كيسك ومتى حلّ ديني أوفني ففي هذه الحال يجوز، فيصير لازماً في حق الراهن، وغير لازم في حق المرتهن.(34/5)
قبض الرهن
هل يشترط القبض؟ كثير من العلماء قالوا: يشترط القبض، فلا يلزم إلا بالقبض، فإذا قلت -مثلاً-: أرهنك العشرة الأكياس التي عندي في بيتي فلم يقبضها المرتهن فإنك تقدر على بيعها، أما إذا استلمها وأودعها في بيته أو في مخزنه فإنك لا تقدر على بيعها حتى توفي الدين، أو تباع ويوفى الدين منها، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، فدل على أنه لا بد من قبضها.
أو أخرجه المرتهن إلى الراهن بطل اللزوم، فلو قال الراهن: أنا رهنتك الكتاب الفلاني وأنا محتاج إليه، فأعطنيه لأطالع فيه وأقرأ فيه فدفعته إليه بطل الرهن، وجاز له أن يبيعه، أو قال -مثلاً-: أعطني السيف لأقاتل به فأعطاه بطل رهنه وجاز له أن يبيعه، وآخرون قالوا: لا يشترط القبض.
وفي هذه الأزمنة يكتفون بقبض الوثائق ونحوها، فإذا رهنه السيارة قال: أعطني رقمها الذي يسمى الاستمارة، فيقبض وثيقتها هذه حتى لا يتمكن من بيعها؛ لأنه يقول: الرهن يبقى -مثلاً- نصف سنة، فهل من المصلحة أن نعطل السيارة واقفة نصف سنة أو سنة؟ ليس هذا من المصلحة، بل نستغلها، فإن إيقافها ينقص قيمتها، وهكذا لو رهنك داراً، فهل من المصلحة أن تغلق الدار سنة أو سنتين حتى يوفيك الدين؟ ليس من المصلحة إضاعة منفعتها، بل عليه أن يؤجرها أو نحو ذلك، فعرف بذلك أنه لا يشترط القبض بل يكفي قبض الوثيقة، قبض ما يسمى بحجة الاستحكام أو ما يسمى بالاستمارة.(34/6)
عدم الانتفاع بالرهن إلا ما استثني
يقول: [وتصرف كل منهما فيه بغير إذن الآخر باطل إلا عتق راهن] ، فلا يجوز للراهن أن يبيع العين المرهونة؛ لأنه يبطل حق المرتهن، ولا يصح للمرتهن أيضاً أن ينتفع بها، فلا يلبس الثوب المرهون ولا يستعمل الأشياء المرهونة استعمالاً يضر بها.
ويقولون: إذا كان الرهن مما يخشى فساده فإنه يباع، فلو رهنه شيئاً يفسد كالفواكه ونحوها فله أن يبيعها ويحتفظ بثمنها أو يقتضيه من دينه.
وكذلك التصرفات مثل البيع والهبة والوقف، فلو قال الراهن: قد وقفت هذه الدار بطل الوقف، وكذلك لو قال: قد وقفت هذا الكتاب المرهون أو هذه الأسلحة المرهونة بطل الوقف؛ لأنه قد تعلق بها حق للغير، وكذلك الهبة، فلو قال: وهبتك الكيس الذي هو عند فلان رهن لم تصح الهبة، وأشباه ذلك، واستثنوا من ذلك العتق فإنه يصح، فإذا كان الرهن عبداً وأعتقه الراهن هل يصح العتق أم لا؟ المؤلف يرى أن عتق الراهن يصح، وتؤخذ قيمته منه رهناً، والقول الثاني أنه لا يصح، وذلك لأنه تعلق به حق للمرتهن، فكيف يبطل حق غيره؟! فلو كان عنده قيمة لأوفى بها الدين، فإذا أعتقه فمن أين تؤخذ القيمة؟! فقد يقول: ما عندي شيء أرهنه أو أدفعه قيمة ولكنهم قالوا: تؤخذ قيمته ولو أمتعة، أو كان عنده عبد آخر جعل بدله، ولو كان عنده -مثلاً- سيارة أو دواب من الأنعام أخذها رهناً مكانه.
وقوله: [وهو أمانة في يد مرتهن] أي: الرهن فإذا كان المرتهن قد قبضه فإنه أمانة عند المرتهن، فلو تلف عنده ذهب على الراهن، فيكون من ضمان الراهن كما أن منفعته للراهن، فلو أجر البيت فأجرته للراهن، ولو احتاج الرهن إلى أجرة فهي على الراهن، فإذا كان الرهن بعيراً فعلفه على الراهن، وكذلك أجرة الراعي على الراهن، وإذا كان الرهن أكياساً تحتاج إلى مخزن فاستأجر له مخزناً فالأجرة على الراهن، وإذا زاد فزيادته للراهن، فإذا ولدت الشاة فولدها رهن معها، وثمرة الشجرة رهن معها، وأجرة الدار رهن معها، وإذا نقص فنقصه على الراهن، وهكذا.
وإن رهن عند اثنين فوفى أحدهما انفك نصيبه، فإذا رهن شاة عند اثنين، اشترى من هذا ثياباً واشترى من هذا طعاماً وقال: الشاة رهن عندكما.
ثم إنه أوفى واحداً منهما جاز أن يبيع الآخر نصف الشاة، وذلك لأنه قد أوفى نصفها فانفك في نصيبه، وكذلك العكس، فإذا كانت مثلاً شاة لاثنين، وجاءا إليك وقالا: هذه شاتنا ونحن بحاجة.
فاشترى أحدهما طعاماً بمائة واشترى الآخر ثياباً بمائة وقالا: نرهنك هذه الشاة التي هي بيننا نصفان.
فأوفى أحدهما نصيبه جاز أن يتصرف بنصف الشاة.
وكذلك لو كان مما ينقسم، فلو اشترى أحدهما فواكه والثاني اشترى لحماً ورهناك هذا الكيس وهو بينهما نصفان فأوفى أحدهما دينه وقال: أعطني نصفي فإنك تقسمه وتعطيه نصفه، والنصف الثاني يبقى للآخر.(34/7)
الأسئلة(34/8)
إعارة الخادم للخدمة
السؤال
بعض الناس يقرض خادمة أو يقترض خادمة من صديق له لمدة ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر نظراً لحاجته إليها واستغناء كفيلها عنها، فهل هذا جائز؟
الجواب
الخادمة هذه ليست مملوكة، وإنما هي كالأجير، فأنت تستأجر إنساناً ويسمى الأجير الخاص مدة شهر يخدمك بألف ريال، ثم قد تستغني عنه لسفرك أسبوعاً فتأجره وتقول: يا فلان! أجرتك خادمي هذا ليخدم عندك وإن لم يكن بمثل خدمته عندي.
فيجوز ذلك، أو تعيره وتقول لصديقك: يخدم عندك هذا الأجير وقت حاجتك ثم ترده إلي.
ويكون عمله عنده في العمل الذي يحسنه ويعمله عندك بشرط الأمانة، وبشرط أن لا يكون هناك خطر.(34/9)
رهن الرهن
السؤال
هل يجوز رهن العين المرهونة؟
الجواب
يقول العلماء في تعليل منع ذلك: المشغول لا يشغل.
فإذا كانت مرهونة فلا ترهن مرة ثانية حتى للمرتهن، فلو أن خالداً ارتهن هذا الكيس من مدينه بمائة، والكيس قد يساوي خمسمائة، ثم إن صاحبه استدان من آخر مائة أخرى وقال: رهنتك الكيس الذي عند خالد ففي هذه الحال الكيس قد انشغل بالمائة الأولى التي لخالد، فيقولون: المشغول لا يشغل.
فلا يرهنه آخر وقد تعلقت به الديون الأولى، ولو كان يقاوم ذلك.(34/10)
إعارة كلب الصيد
السؤال
هل يجوز إعارة كلب صيد؟
الجواب
تجوز إعارته، وذكروا في باب الغصب أنه إذا غصب كلب صيد فإنه يرده، ويكون استحقاقه له، فكلب الصيد الذي بيده هو أملك به؛ لأنه صاحبه، وله أن يعيره، وأما الإجارة والبيع فلا.(34/11)
مسألة ضع وتعجل
السؤال
علي دين عشرة الآلف ريال مؤجلة، وقلت لصاحب الدين: أعطيك تسعة آلاف نقداً وتسامحني في ألف، فهل هذا جائز؟
الجواب
هذه مسألة (ضع وتعجل) ، فإذا وجدت الدين قبل أن يحل أجله فهل يجوز لك أن تقضيه قبل حلول أجله ويسقط عنك بعضه؟ في ذلك خلاف، والأقرب أنه جائز، ولا يسمى بيع أجل كما يقول ذلك من منعه، وإنما يكون هذا من باب الإسقاط، كأنه أسقط شيئاً من الدين، وكأنه أحسن إليك بهذا الإسقاط.(34/12)
حكم قرض من يريد المال لحرام
السؤال
هل يصح أن أمتنع عن إقراض من جاءني ليقترض مني ليستخدمه في حرام؟
الجواب
نعم.
لك أن تمتنع من إقراضه ومن الصدقة عليه إذا عرفت أنه يدفع المال في حرام، كأن يشتري به آلات لهوٍ كأفلام مثلاً، أو أجهزة يغلب عليها الحرام، أو يشتري خمراً أو دخاناً، فلا تقرضه.(34/13)
رد القرض بنفس العملة ولو رخصت
السؤال
اقترضت من شخص ألف جنيه سوداني قبل خمس سنوات، وكانت مبلغاً كبيراً آنذاك، والآن لا تساوي شيئاً، فهل أردها له ألف جنيه سوداني أم أقارنها بالعملات الأجنبية التي لم تتغير قيمتها؟
الجواب
تردها كما اقترضت، فإذا اقترضت ألف جنيه سوداني فترد ألف جنيه سوداني؛ لأنه ما يزال الاستعمال بها جارياً، ولو نقصت قيمتها بالنسبة إلى الريال السعودي.(34/14)
إيجار البيت للوالد
السؤال
أنا شاب متزوج، ولدي أولاد، وقد اشتريت منزلاً في خارج الرياض بعد ديون وبيع سيارة وغيرها، ثم انتقلت إلى الرياض لطبيعة عملي، واستأجرت منزلاً بأحد عشر ألف ريال، ولما أردت أن أؤجر المنزل الذي اشتريته في بلدي قال والدي: سوف أستأجر منك البيت.
قلت: لا بأس.
وخصمت نصف قيمته، ومضى إلى الآن ما يقارب السنتين ولم يعطني ريالاً واحداً، مع أن المال متوفر عنده، ولكنه يصرفه في أمور كمالية كفرش وغيره في أقل من سنة، وقد يصرفه في أمور محرمة كشراء دش وغيره، وكل هذا ليس في المنزل الذي فيه والدتي؛ لأنه متزوج بأخرى، مع النظر إلى قلة مرتبي وحاجتي إلى المال، وراتبي ضعيف، فهو ألفا ريال فلا يكفيني للمعيشة، فكيف وعلي ديون أخرى، والإيجار حال علي، فبم تنصحونني؟
الجواب
أنت ومالك لأبيك، وننصحك بأن تطلب منه برفق وتقول: يا والدي! إنني بحاجة، وأريد أن أبيع هذا البيت لأوفي منه ديني وأدفع منه حاجاتي، أو أؤجره وأطلب من المؤجر أن يدفع لي الأجرة لأستأجر بها في الرياض أو غير ذلك، تطلب منه برفق؛ لأن الوالد له أن يتملك من مال ولده الأشياء التي لا تتعلق بها حاجة الولد ما لم يضره أو كان يحتاجه.(34/15)
العلة في عدم جواز إقراض العبد
السؤال
ما هي العلة في عدم إقراض العبد؟
الجواب
يقال: لأنه قد لا يوجد مثله؛ لأن الآدميين يختلفون، فيختلفون في السن، ويختلفون في الأخلاق، ويختلفون في الديانة، ويختلفون في الأمانة، وما أشبه ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/16)
شرح أخصر المختصرات [35]
الاستيثاق في الحقوق أمر تدعو إليه حاجة الناس، خصوصاً عند خراب الذمم، ولهذا الاستيثاق صور شرعية معينة؛ كالرهن، والضمان، والكفالة، وكل واحد منها له خصوصيته وأحكامه في الشرع.(35/1)
بيع الرهن إذا حل الدين ولم يحصل الوفاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان إذن لمرتهن في بيعه باعه، وإلا أجبر على الوفاء أو بيع الرهن، فإن أبى حبس أو عزر، فإن أصر باعه حاكم ووفى دينه، وغائب كممتنع، وإن شرط أن لا يباع إذا حل الدين، أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له بالدين لم يصح الشرط، ولمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن، وإن أنفق عليه بلا إذن راهن مع إمكانه لم يرجع، وإلا رجع بالأقل مما أنفقه، ونفقة كفله إن نواه، ومعار ومؤجر ومودع كرهن، ولو خرب فعمره رجع بآلته فقط.
فصل: ويصح ضمان جائز التصرف ما وجب أو سيجب على غيره لا الأمانات بل التعدي فيها، ولا جزية، وشرط رضاء ضامن فقط، ولرد حق المطالبة من شاء منهما، وتصح الكفالة ببدن من عليه حق مالي، وبكل عين يصح ضمانها، وشرط رضاء كفيل فقط، فإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى قبل طلب برئ، وتجوز الحوالة على دين مستقر إن اتفق الدينان جنساً ووقتاً ووصفاً وقدراً، وتصح بخمسة على خمسة من عشرة وعكسه، ويعتبر رضا محيل ومحتال على غير مليء] .
الحكمة من شرعية الرهن التوثق لصاحب الدين، حتى إذا حل دينه ولم يوفه الراهن تمكن من بيع الرهن وأخذ دينه من ثمنه، وورد في الحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) يعني أن الرهن لا يخرج من ملك الراهن، بل هو باق في ملكه فله غنمه وعليه غرمه، وغنمه فائدته، فإذا أجر الرهن وكان سيارة أو بيتاً فإن الأجرة للراهن، وكذلك لو كان له ثمرة كحمل شجر مرهون أو ولد بهيمة مرهونة فإنه للراهن؛ لأنه لم يخرج من ملكه، وكذلك عليه غرمه، فعليه أجرة مخزنه إذا احتاج إلى خزانة، وعليه نفقته وأجرة الرعاة ونحوهم (له غنمه وعليه غرمه) .
فإذا حل الدين فإن المرتهن يطالبه ويقول: أوف الدين فإذا امتنع من الوفاء وأصر ولم يوف، أو عجز عن الوفاء، فلا يخلو إما أن يكون الراهن قال للمرتهن: إذا حل الدين ولم أوفك فلك أن تبيع الرهن وتستوفي دينك فيبيعه ويأخذ دينه ويرد باقي ثمنه على الراهن.
وكذلك إذا كان قد وكل وكيلاً أن يبيعه عند حلول الدين ويعطي المرتهن دينه ويعطي بقيته للراهن؛ لأنه عين ماله، وكل يستحق ما يستحقه، فيبيعه ذلك الوكيل.
فإن امتنع من بيعه ولم يأذن للمرتهن ولم يوكل ففي هذه الحال يتدخل الحاكم فيجبره على الوفاء أو بيع الرهن، فيقول: إما أن توفي دينك وتأخذ عين مالك الذي هو الرهن، وإما أن تبيع عين المرهون وتوفي الدين من قيمة الرهن.
فإذا امتنع من البيع وامتنع من الوفاء وامتنع من التوكيل تدخل الحاكم حينئذ فحبسه أو عزره بتعذيب أو نحوه إلى أن يوفي دينه أو يبيع الرهن، فإن أصر ولم يتأثر بالحبس تدخل الحاكم وباعه ووفى الدين، والحاكم في هذا الموضع هو القاضي، ومعلوم أن القاضي في هذه الأزمنة ليس هو الذي يتولى ذلك بنفسه غالباً، ولكنه يحكم فيقول: بصفة أن فلاناً امتنع عن الوفاء، وامتنع من بيع عين الرهن، وامتنع من التوكيل على بيعه فقد حكمت ببيعه واستيفاء الدين للمرتهن.
والذي إليه التنفيذ هو أمير البلد، فيقوم بتنفيذه، فيبيعه ويوفي الدين، ويحفظ بقية ثمنه لصاحبه الراهن.(35/2)
الغائب كالممتنع
قال: [وغائب كممتنع] .
إذا كان الراهن غائباً بعيداً بحيث لا يدرى أين هو، فهل هو متغيب أو مستخف، أو بعيد لا تصله المكالمات والخطابات، وحل الدين ويوجد رهن فالشرع نهى عن الضرر، ولا شك أن المرتهن سيتضرر بتأخير وفائه حقه، فللحاكم أن يتدخل ويحكم ببيع العين المرهونة لحلول الدين ولغيبة المالك، فإذا حكم بذلك فالذي ينفذه أمير البلد الذي يكون منفذاً للأحكام.(35/3)
الشروط الباطلة في الرهن
هناك شروط باطلة في الرهن، فإذا شرط أن لا يباع إذا حل الدين فالشرط باطل؛ لأنه ما الرهن إلا وثيقة، وإذا كان وثيقة فإنه عند حلول الدين يباع، وكونه بشرط أن لا يباع فيقول: رهنتك هذه الأكياس في مائة ريال بشرط أنك ما تبيعها، أو هذا الثمر مثلاً، أو هذا الكتاب، أو هذا الثوب بشرط أنك ما تبيعه إذا حل الدين فما الفائدة؟ هذا شرط باطل، وإذا حل الدين فإنه يباع إذا امتنع من الوفاء.
وكذلك لو شرط: إن جئتك بحقك في وقت كذا وإلا فالرهن لك مقابل الدين.
فالشرط أيضاً باطل، وذلك لأن الرهن داخل في ملكية الراهن، فكونه يقول: الرهن لك بدينك يخالف النص الذي ذكرنا، وهو قوله في الحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) فلا يملكه المرتهن، ولو كان الرهن ثوباً والدين عشرين، ولما حل الدين ولم يوفه عرض للبيع بالمزاد العلني، فاشتراه المرتهن وقال: أشتريه.
وما زاد أحد عليه، فاشتراه بدينه الذي هو عشرون أو أكثر أو أقل جاز ذلك؛ لأنه ما عرض للبيع إلا للمزيد، فالمرتهن رأى أنه أحق به أو أنه يساوي هذه القيمة.(35/4)
للمرتهن ركوب ما يركب، وحلب ما يحلب بقدر نفقته
قال: [وللمرتهن أن يركب ما يركب وأن يحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن] .
هذه مسألة خلافية، ذهب الإمام أحمد إلى أنه يركب البعير المركوب، وتحلب الشاة المرهونة التي فيها لبن مقابل نفقته على البعير وعلى الشاة، واستدل بحديث صحيح مروي عند البخاري والإمام أحمد، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الظهر يركب إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) ، فالإمام أحمد قال: لا عذر لنا في ترك هذا الحديث، فإنه حديث ثابت -والحديث صحيح في صحيح البخاري- فكيف لا نعمل به؟! وأما الأئمة الثلاثة فخالفوا في ذلك وقالوا: لا يركبه إلا بأجرة مثله، ولا يحلب الشاة المرهونة أو البقرة إلا بأجرة مثلها.
فيقولون: في هذه الحال إذا أنفق على البعير حسب النفقة عليه وزادها في الدين وقال: إني دفعت أجرة الراعي -مثلاً- كل شهر ثلاثين، وإني اشتريت له علفاً كل شهر بثلاثين فهي ستون يضيفها إلى دينه، وإذا باعه فإنه يأخذها من الراهن أو يطلبها من الراهن، فإذا احتاج وركب البعير -مثلاً- حسب أجرته، فإن ركب من كذا إلى كذا وأجرة مثله خمسون أو مائة يسقطها من دينه أو يسقطها من النفقة، هكذا ذكروا.
فإذا كان الرهن بعيراً، فقديماً كانوا يركبونه لا يجدون ما يركبون غيره قبل وجود المراكب الجديدة، وكذلك الحصان والحمر الأهلية، فالإبل والخيل والحمر والبغال تركب، وكذلك السفن والزوارق تركب، فإذا ركبها فإنه يحسب لها أجرة، ويسقطها من دينه، هذا عند الأئمة الثلاثة، وأما عند الإمام أحمد فإذا كان ينفق على الفرس أو على الحمار أو البغل أو البعير فركبه فإن ركوبه يكون مقابل النفقة، وإذا كان ينفق على الشاة أو البقرة أو الناقة وفيها لبن فيقول الإمام أحمد: يشرب لبنها، ويكون مقابل النفقة والأئمة الثلاثة يعملون بالحديث الذي ذكرنا: (لا يغلق الرهن من صاحبه، له غنمه وعليه غرمه) فغرمه النفقة عليه، وغنمه لبنه أو أجرة ركوبه، والإمام أحمد جعل هذا مستثنى، وقد برر بعضهم مذهب أحمد فقال: إذا كان الرهن يشترط قبضه ولابد أن يكون في يد المرتهن كما إذا كان من الإبل فهذه الإبل فيها منفعة، فالناقة فيها لبن مثلاً، والبعير يركب، فلا تضيع هذه المنفعة، بل يحرص على استغلالها، وقد يشق عليه أن يستأذن المالك كلما أراد أن يشتري لها علفاً، ولا يجوز تركها بلا علف، وذلك لأنها محترمة، وإذا لم تعلف فإنها تموت، وكذلك أيضاً إذا كان فيها منفعة الركوب فلا تضيع منفعتها، فيكون إنفاقه بقدر ركوبه، وركوبه وإنفاقه متقاربان، فيركب البعير وينفق عليه، وكذلك ينفق على البقرة أو الناقة ويشرب لبنها، والأمران متقاربان، وكذلك الشاة ينفق عليها ويشرب لبنها ويكون اللبن مقارباً لعلفها ونحو ذلك، ولكل اختياره، وكل منهما عمل بحديث، فالإمام أحمد عمل بحديث خاص، وقال: هذا يخصص الأحاديث العامة، وهو حديث: (الظهر يركب إذا كان مركوباً، ولبن الدر يشرب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يشرب ويركب النفقة) فلا عذر عن العمل بهذا الحديث.(35/5)
الإنفاق على الرهن بغير إذن الراهن
قال: [وإن أنفق على الرهن بلا إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع] .
إذا كان الرهن يحتاج إلى نفقة، وكان -مثلاً- ليس فيه منفعة، مثل الثور فإنه لا يركب ولا يحلب ولكن يحتاج إلى نفقة العلف، فأنفق عليه بلا إذن مع إمكان أن يستأذنه فإنه لا يرجع، فإذا أذن له الراهن وقال: أنفق عليه واحسب علي نفقته وصار ينفق عليه كل يوم بريال علفاً فإنه يرجع به على الراهن، وأما إذا لم يستأذن مع قدرته على الاستئذان فلا يرجع، بل يذهب عليه ما أنفقه، وذلك لأنه أنفق عليه حماية لماله، يقول: لو لم أنفق عليه فإنه سيموت، وإذا مات ضاع مالي، فأنا ما حفظته إلا كوثيقة لعله إذا حل ديني أبيعه وأستوفي من ثمنه ديني.
وهكذا إذا أنفق على الرهن وهو ليس حيواناً، مثل شجر يحتاج إلى سقي، فأنفق عليه مع إمكان استئذان الراهن فلا يرجع، وكذلك لو كان الرهن شيئاً يسرع فساده كالخضار مثلاً، ففي هذه الحال يبيعه إذا خشي أن يفسد ويحتفظ بثمنه، فيبيع الفواكه ويبيع الخضار إذا خشي أنها تتلف، وكذلك لو كان الرهن مثلاً أكياساً وكانت في مستودع بأجرة، فإن الأجرة على الراهن، فلو خشي أن هذا المستودع يسقط فأتى بعمال ونقلوه من هذا المكان إلى مكان آخر مأمون ففي هذه الحال عليه قبل ذلك أن يستأذن الراهن ويقول: ائذن لي أن آتي بعمال وآتي بحمالين ينقلونه حتى لا يذهب؛ فإني أخشى عليه من سيل -مثلاً-، أو من غرق، أو من هدم.
فإذا نقله ولم يستأذن المالك فلا أجرة له، ولا يرجع بهذه النفقة، أما إذا لم يقدر على الاستئذان، كما لو كان الراهن بعيداً ولا يمكن استئذانه، أو جاء أمر باغت كسيل -مثلاً- وكان لا بد أن ينقل هذا المستودع إلى مكان آخر قبل أن يدخل عليه السيل، أو وقع حريق مثلاً وخشي أن يناله فنقله إلى مكان آخر واستأجر عمالاً، ففي هذه الحال يرجع، وبأي شيء يرجع؟ يرجع بالأقل مما أنفق، أو من أجرة المثل أو نفقة المثل، فإذا قال: إني استأجرت عمالاً خوف الحرق والغرق بمائتين حتى لا يتلف المال فنظرنا وإذا أجرة النقل العادية لا تزيد عن مائة فنقول: إنك تسرعت، ولو طلبت من ينقله بمائة لوجدت، فأنت تسرعت فلك مائة وإن وجدنا أنه لا ينقل مثله إلا بثلاثمائة وقد نقله بمائتين فليس له إلا المائتان، ولا يقول: إني أستحق ثلاثمائة؛ لأنك ما دفعت إلا مائتين وفي هذه الحال أيضاً لا يرجع إلا إذا أنفقه وفي نيته أن يرجع إلى الراهن، وأما إذا لم ينو فلا حق له في الرجوع.(35/6)
المعار والمؤجر والمودع كالرهن
قال: [ومعار ومؤجر ومودع كرهن] .
يعني: مع النية.
فالعارية ليس لها أجرة، وصاحبها محسن إليك، فإذا أعارك -مثلاً- كتاباً وهو أوراق متفرقة، ولكنك أنفقت عليه وأتيت بمن رتبه ومن أصلح ما فيه من الأخطاء ومن خاطه ومن غلفه بغلاف جيد حتى لا يبلى فهذه النفقة على هذا الكتاب لا ترجع فيها إلا إذا لم يمكنك أن تستأذن، كأن يكون صاحبها الراهن غائباً، وخشيت على الأوراق أن تأكلها الأرضة مثلاً، أو أن يتمزق الكتاب أو يتلف، فأردت أن تنفق عليه حتى يبقى، ولم تقدر على استئذان المالك، وهو عارية عندك، فأعطيته الكتاب فجلده لك فلك أن ترجع إذا كنت ناوياً الرجوع، وبأي شيء ترجع؟ بالأقل مما أنفقته أو من أجرة المثل، فإذا كان الناس يجلدون الكتاب بعشرين وأنت جلدته بثلاثين فليس لك إلا العشرون، وإذا كانوا يجلدون العشرين وأنت وجدت من يجلده بعشرة فليس لك إلا العشرة؛ لأنها التي أنفقتها.
وهكذا العارية إذا احتاجت إلى نفقة، أعارك إنسان مثلاً شاة لتحلبها، ثم انتهى اللبن الذي فيها ولم تجد صاحبها لتردها إليه، وأنفقت عليها أجرة الراعي وقيمة العلف، فإن نويت أن ترجع فلك الرجوع، وإن لم تنو وتبرعت بالنفقة فليس لك الرجوع، وإذا نويت الرجوع فلا ترجع إلا بالأقل من نفقة المثل أو ما أنفقته، فإذا كانت نفقة المثل في الشهر عشرة وأنت أنفقت عشرين فليس لك إلا عشرة، وإذا كانت نفقة المثل عشرة، وأنت أنفقت خمسة فليس لك إلا الخمسة، وكذلك المؤجر، فلو استأجرت سيارة لمدة يومين، وبعد ما استأجرتها احتاجت إلى تغيير زيت مثلاً أو احتاجت إلى تشحيم مثلاً، أو احتاجت إلى أدوات ففي هذه الحال لا تنفق عليها إلا بإذن الراهن، فإن لم تستأذنه وأنفقت عليها وأنت تقدر على الاستئذان فلا أجرة لك، وإن لم تقدر على استئذانه فإنك تستحق ما أنفقته أو أجرة المثل على الأقل منهما.
وهكذا الوديعة التي يودعها عندك إنسان لتحفظها، فإذا أنفقت على الشاة الوديعة، أو أنفقت على الكتاب، أو أنفقت على البر كأن خشيت عليه الآكلة فطحنته -مثلاً- أو اشتريت له أكياساً لتحفظه، أو نقلته إلى الشمس حتى تموت الدابة التي فيه وخسرت عليه -مثلاً- عشرة، فإن كنت نويت الرجوع عليه فإنك ترجع، وإن كنت لم تنو فلا ترجع، ويكون الرجوع كما ذكرنا بالأقل مما أنفقته من أجرة المثل.(35/7)
حكم الرهن إذا خرب فعمره المرتهن
قال: [ولو خرب الرهن فعمره رجع بآلته فقط] .
إذا كان الرهن داراً فعمره وركب عليه أبواباً ونوافذ -مثلاً- وعمره ببلاط أو بلبن بلك أو لبن الطين المعروف قديماً ففي هذه الحال يرجع بآلته فقط، يرجع باللبن البلك أو الطين، ويرجع بالبلاط إذا أمكن قلعه مع عدم تأثره، ويرجع بالأبواب وبالنوافذ -مثلاً- وبالأنوار والمكيفات وما أشبهها، وبالفرش وما أشبهها، يرجع بعين ماله، فإذا قال: أنا أعطيت العمال أجرة على هذا قلنا: ليس لك ذلك، لا تعمره إلا بإذن المالك.(35/8)
الضمان
الفصل الذي بعد الرهن فيه ثلاثة أبواب: باب الضمان، وباب الشهادة، وباب الحوالة، وجمعها المؤلف في فصل واحد لتقاربها.
والضمان: مشتق من الضمن، وكون شيء في ضمن شيء أي: في جملته.
ويعرفونه اصطلاحاً بأنه: التزام جائز التصرف ما وجب على غيره وما قد يجب.
فقولهم: (التزام جائز التصرف) يعني الحر المكلف الرشيد، (ما وجب على غيره) من الأموال ونحوها، (وما قد يجب) كأن يقول لصاحب البقالة: دين فلان الذي لك أنا أضمنه، أنا ضامن له، فإذا لم يوفك فاطلبني.
أو قال لصاحب البقالة -مثلاً- ما أخذ منك فلان أو استدان فأنا ضمين به.
ففي هذه الحال يصح الضمان، ويكون ضامناً.(35/9)
خطورة الضمان
لابد أن يكون الضمان من جائز التصرف، وهو الحر المكلف الرشيد، فلا يضمن الصغير، ولا يضمن السفيه، ولا يضمن المملوك، ولا شك أن الضامن يكلف نفسه، وأنه قد يتضرر؛ لأن الضامن إذا لم يوف المضمون عنه فإنه يطالبه صاحب المال فيقول له: إما أن يوفيني المضمون عنه وإما أن توفيني، فديني أنت الذي ضمنته.
وقد يعجز المضمون عنه، فيكلف الضامن ويقال: إما أن تضمن وإلا حبست.
وهذا يدل على أن الضمان فيه مخاطرة، وقد يؤدي إلى حبس الضامن، ولذلك ذكر العنقري في حاشيته على الروض بيتاً يقول فيه: ضاد الضمان بصاد الصك ملتصق فإن ضمنت فحاء الحبس في الوسط فكم من ضامن تعرض للحبس مع أنه محسن، يقول: أحسنت إلى رفيقي وصديقي لما قال: اضمني في دين علي فاستحييت منه فضمنته، وكان الدين كثيراً وكنت أعهده صاحب وفاء وأعهده من أهل الأمانة، ولكن أخلف ظني فهرب بالدين الذي في ذمته، أو عجز وأصبح مفلساً لا يستطيع.
وفي هذه الحال يرجعون إلى الضامن ويقال: أنت الذي التزمت بوفاء الدين.(35/10)
اشتراط الأهلية في الضامن
قال رحمه الله تعالى: [يصح ضمان جائز التصرف] .
أي: الحر المكلف الرشيد.
فلا يضمن العبد؛ لأنه ليس له مال، ولا يضمن المجنون؛ لأنه لا يتصرف، ولا الصغير؛ لأنه غير مكلف، ولا المحجور عليه الذي ماله محجور عليه، ولا السفيه الذي ماله محجور عليه لسفهه.
قوله: (ما وجب) أي: ما قد ثبت من الدين.
[وما سيجب] أي: ما سوف يأخذه.
كأن تقول -مثلاً- لصاحب الدكان: دينك الذي لك على فلان أنا أضمنه، والذي سوف يأخذه فلان أنا أضمنه.(35/11)
حكم ضمان الأمانات
قال رحمه الله: [ولا يصح ولا يشترط ضمان الأمانات بل التعدي فيها] .
ضمان الأمانات لا حاجة إليه، والأمانة: هي الوديعة التي يودعها صاحبها عند من يحفظها.
سواءٌ أكانت من النقود أم من غيرها، فإذا أودعت عند إنسان ألفاً فلا تحتاج إلى ضمان، ولا تقول: أودعك بشرط أن تأتيني بضمين.
فإنه سيقول: أنا متبرع بحفظها.
فكيف أضمنها؟ وكيف آتي بضمين؟ لو تلفت عندي وأنا ما فرطت فيها فإني لا أضمنها، فلا مصلحة لي في حفظها، أنا أحفظها لك تبرعاً، فإن أردت ذلك وإلا فأودعها عند غيري.
وكذلك لو أودعت عند إنسان أكياساً أو طعاماً أو ثياباً أو قدوراً أو أواني فهو متبرع بحفظها ليحفظها لك مجاناً وديعة أو أمانة، فكيف تقول: ائتني بضمين يضمنها لي إذا تلفت عندك؟ فإنه يقول: خذها ولا تودع عندي شيئاً إذا كنت تطلب مني ضميناً.
فالأمانات إذا تلفت لا تضمن إلا في حالتين: إذا فرط، أو تعدى، والتفريط هو الإهمال، والتعدي هو الاستعمال، فهذا المودع حفظ الوديعة في حرز مثلها ثم سرقت أو احترقت، فلا ضمان عليه، لكن إن فرط: فترك الأبواب مفتوحة، وجاء لص واختطفها فهذا التفريط يضمن به، مثلاً: أودعته شاة فأهملها حتى افترسها السبع، فإنه يضمن؛ لأنه في هذه الحال فرط، وفي هذه الحال لك أن تطلب ضميناً، فتقول: ائتني بضمين عن التفريط.
والتعدي هو الاستعمال، فإذا أعطى مفاتيح السيارة لأحد الأولاد وهي مودعة، ثم حصل حادث وتكسرت فإنه يضمنها المودع، وفي هذه الحال لصاحبها أن يطلب ضميناً فيقول: ائتني بضمين، فإذا استعملتها أنت أو أحد أولادك فإنك تغرم قيمتها أو تغرم إصلاحها وهكذا لو لبس الثوب، أو حل وثاق الدهن فانسكب، أو فتح باب المخزن فدخلت البقر أو نحوها فأكلت من البر أو من التمر مثلاً، أو طبخ في القدر فاحترق ففي هذه الحال يضمن، وفي هذه الحال لصاحبها أن يطلب ضميناً فيقول: أريد ضميناً عن التعدي فيها.
ولا تضمن الجزية التي هي ضريبة تؤخذ على الذمي من اليهود أو النصارى أو المجوس، فتؤخذ منهم الجزية، ولكن هل يقال لصاحبها: ائتنا بضمين؟! لا يلزم؛ لأن الجزية تسقط عن الفقير كما ذكر في كتاب الجهاد.(35/12)
اشتراط رضا الضامن
يشترط رضا الضامن فقط، فالضامن متبرع فيشترط رضاه، فلا يجوز إجباره على الضمان، بل لا يضمن إلا برضاه وبموافقته، أما المضمون عنه فلا يشترط رضاه، فلو قال -مثلاً-: لا أرضى أن فلاناً يضمني.
وقال الضامن: أنا أضمنه ولو لم يرض فقد يقول: ما أحب أن يكون له منة علي، فلا أحب أن يضمني ولكن صاحب المال قال: لا أطلقك إلا بضمين.
فجاء هذا الضامن وقال: أنا أضمنه ولو لم يرض.
ورضي الضامن ورضي المضمون له فيصح الضمان وإن لم يرض المضمون عنه.
قال: [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما] .
صاحب الدين له أن يطالب المضمون عنه، وله أن يطالب الضامن، وذلك لأن الحق استهلكه المضمون عنه وتحمله الضامن، فإذا حل الدين جاء إلى المضمون عنه وقال: حل الدين الذي في ذمتك، فأعطني ديني.
فإذا ماطل وأخر الوفاء أو كان معسراً رجع إلى الضامن وقال: أنت ضمنت ديني، وفلان ما أوفاني، فأنا أطالبك لأنك التزمت بالوفاء وقلت: إذا لم يوفك فإني أوفي عنه.
فله مطالبة من شاء منهما، وإذا مات المضمون عنه فإن أوفى ورثته فله مطالبتهم وله مطالبة الضامن، ولو مات الضامن فله أن يطالب ورثته ويقول: إن مورثكم ضمن ديني عند فلان.
وإذا قال للضامن: أعفيتك من الضمان فهل يسقط الدين؟
الجواب
لا يسقط؛ لأن الدين في ذمة المضمون عنه، أما إذا قال للمضمون عنه: أعفيتك من الدين فإنه لا يطالب الضامن، فإذا سقط الدين الذي في ذمة المضمون عنه فلا حاجة إلى الضمان، وإذا برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن، وأما إذا أبرأ الضامن فإن المضمون عنه يبقى مطالباً.(35/13)
الكفالة
الكفالة: هي التزام إحضار من عليه حق مالي من جائز التصرف.
فالكفالة تتعلق بالأبدان، وأما الضمان فإنه يتعلق بالذمة، والحقوق التي تلزم الإنسان إما أن تكون حقوقاً مالية وإما أن تكون حقوقاً بدنية، فالحق المالي مثل الديون والأمانات والعواري ونحو ذلك، فإذا قال -مثلاً-: أعرني الثوب، أو القدر أطبخ فيه، أو السيارة أركبها، أو البعير أركبه، أو الشاة أحلبها فقال: لا بد من كفيل فيصح، وذلك لأن هذا حق مالي، فلو أن الكفيل عجز عن إحضار المكفول فإنه يطالب، فيقال: إما أن تحضر لنا السيارة التي ضمنت صاحبها، وإما أن تغرم قيمتها، وكذلك الثوب أو ما أشبه ذلك، فيطالبونه إما بإحضار المال وإما بالغرامة، وإما بإحضار المستعير أو المستدين، يقولون: أحضر غريمنا حتى تبرأ وإلا طالبناك بما عليه، أما إذا كان عليه حق بدني فلا تصح الكفالة، والحق البدني كأن يكون عليه مثلاً حد قذف الآدمي، أو حد جلد في زنا، أو حد سرقة بقطع اليد، أو حد قصاص بقتل النفس بالنفس.
فقال: من يكفلني؟ أمهلوني أذهب يوماً أو يومين حتى أوصي أو أعهد، فمن يكفلني؟ فهل يصح أن يكفله أحد؟ لا يصح؛ لأنه لو لم يحضره الكفيل فهل نقتل الكفيل ونقول: النفس بالنفس؟! الكفيل ليس هو الجاني، وهل نقطع يده.
ونقول: أحضره وإلا قطعنا يدك؟ الكفيل ليس هو السارق، فلا تجوز الكفالة في الحقوق البدنية مثل حد الزنا وحد القصاص وحد السرقة وحد القذف وحد الخمر، فهذه حدود تتعلق بالبدن، فليس لأحد أن يكفل صاحبها؛ لأنها لا تؤخذ إلا من ذلك الجاني.
وأما الديون والأمانات والعارية فإنها أموال فتصح الكفالة فيها، فيقول: أنا أكفلك في دينك، أنا أكفلك في عاريتك، أنا أكفلك في العين التي استأجرها فلان، إما أن أحضر ذلك المكفول أو أحضر دينك أو أحضر أداتك التي استعارها أو استأجرها، أو أن أغرمها.
فتصح الكفالة لمن عليه حق مالي، وكلمة (حق مالي) .
تخرج الحق البدني كما ذكرنا.
قال رحمه الله: [وبكل عين يصح ضمانها] .
مثاله: العارية فإنها مضمونة، فلو استعار منك قدراً يطبخ فيه وأتلفه ضمن، فإذا قلت: لا أعيرك إلا إذا أتيتني بكفيل فإن الكفيل إما أن يأتي بالعين المرهونة كالقدر مثلاً وإما أن يغرمها.
وكذلك المغصوب، فلو اغتصب الإنسان منك شاة أو جملاً فجاء إنسان وقال: أنا كفيل بأن أحضر ذلك الغاصب، أو أحضر الجمل أو الشاة جازت كفالته، فإذا لم يحضر ذلك فإنه يضمن قيمة البعير، أو قيمة الشاة، أو الثوب، أو القدر.(35/14)
اشتراط رضا الكفيل
قال: [وشرط رضا كفيل] .
الكفيل متبرع فيشترط رضاه، وأما المكفول الذي في ذمته الحق فلا يشترط رضاه، وهكذا المكفول له صاحب الحق لا يشترط رضاه إذا كان الكفيل مليئاً قادراً، فإن مات برئ الكفيل؛ لأنه يقول: أنا أحضر لك زيداً لتأخذ دينك من ذمته، فإذا مات برئ الكفيل؛ لأنه ما التزم إلا بإحضاره حياً، وإذا تلفت العين بإذن الله تعالى قبل الطلب برئ، والعين مثل الشاة، فإذا ماتت وهو ما فرط فيها، أو غرقت، أو احترقت، وكذلك الثوب إذا احترق في حريق عام برئ الكفيل في هذه الحالة.(35/15)
الحوالة
قال رحمه الله تعالى: [تجوز الحوالة على دين مستقر] .
الحوالة: مأخوذة من التحول.
وهو أن يتحول فلان من كذا إلى كذا، وتعريفها: نقل الدين من ذمة إلى ذمة وقد دل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته، ومن أتبع على مليء فليتبع) ، وفي حديث آخر: (مطل الغني ظلم، ومن أحيل على مليء فليحتل) .
صورة ذلك: إذا كان لك دين عند عمرو وعليك دين لزيد، فجاء زيد يطالبك بدينه فقلت: لي دين عند عمرو، أحلتك عليه لتقبضه في الدين الذي علي لك.
فلا مانع، ويسمى هذا حوالة، فعمرو سيقضي دينك إما لك وإما لوكيلك، فكأنك وكلت زيداً على أن يقبضه وقلت: اقبضه وخذ دينك الذي علي هذه هي الحوالة.(35/16)
شروط الحوالة
للحوالة شروط: الشرط الأول: أن يكون دين المحال عليه مستقراً، أما إذا لم يكن مستقراً فلا تصح الحوالة عليه، مثاله: صداق المرأة قبل الدخول، فهو عرضة للفسخ، ويمكن أن يسقط نصفه بالطلاق أو كله بالفسخ أو بالعيب أو نحو ذلك، فليس لها أن تحيل عليه، فلو جاءها غريم فقالت: أحلتك على زوجي قبل أن يدخل بي فاطلب منه صداقي فالدين هاهنا غير مستقر، وهو الصداق.
مثال ثان: دين الكتابة، فالعبد الذي يشتري نفسه من سيده بثمن مؤجل يثبت هذا الدين في ذمته، ولكنَّه غير مستقر، فلو كان عند سيده دين لك، فجئت تطالبه فقال: أحلتك على دين الكتابة الذي عند عبدي سعيد فلا يصح؛ لأن سعيداً يمكن أن يعجز ويعود قناً، ومثلوا أيضاً بدينك له، فإنه عرضة للفسخ، فلا تصح الحوالة إلا على دين مستقر.
الشرط الثاني: أن يتفق الدينان جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً، فإذا كان أحد الدينين دراهم والآخر دنانير ففي هذه الحال يمكن أن يقال: إنه يصح أن يكون صرفاً.
ولكن أكثرهم يقولون: لا يصح؛ لأن الدينين مختلفان، وكذلك لو كان الدين الذي عليك تمراً وعند زيد لك بر، فلا تحيل بالبر على التمر لعدم اتفاق الدينين.
وكذلك الوقت، مثلاً: دينك الذي في ذمتك قد حل، والدين الذي لك ما حل، فلا تقل: أحلتك بدينك عندي بديني على زيد.
فإن دينك على زيد لن يحل إلا بعد سنة أو نصف سنة، ففي هذه الحال لا تصح الحوالة، فلا بد بأن يكونا حالين.
وكذلك يتفقان وصفاً، فإذا كان أحد الدينين من جنس والآخر من جنس، كأن يكون أحدهما تمر برني، والآخر تمر عجوة لم يتفقا في الوصف، أو الدين الذي في ذمتك ذهب والذي لك فضة، فلا بد أن يتفقا وصفاً.
وكذلك قدراً، فلا تحيله مثلاً بعشرة على خمسة؛ لأنك ما أعطيته حقه، ففي هذا يقول: [تصح بخمسة على خمسة من عشرة] أي: إذا كان في ذمتك له خمسة ودينك عشرة فتقول: أحلتك بخمستك على خمسة من الذي لي وتبقى الخمسة باقية عند الآخر، فيأتي إليه ويقول: أحالني فلان بخمسة عليك وأنت عندك له عشرة فيدفع له خمسة، وكذلك عكسه، فإذا جاءك وقال: عندك لي عشرة فقلت: نعم.
أحلتك بخمسة منها على زيد يجوز ذلك، والخمسة الباقية تبقى في ذمتك.
الشرط الثالث: رضا المحيل، وذلك لأنه هو صاحب الحق، فلا بد أن يرضى، فلا تأت إلى غريمه وتقول: أعطني المال الذي عندك وفاءً عن فلان، فهو يقول: هل أحالك علي؟ فإذا ما أحالك فلا أعطيك؛ لأنه لا يرضى.
الشرط الرابع: رضا المحتال على غير مليء، فلا بد أن يكون المحال عليه مليئاً، فمن أحيل على مليء فليحتل، والمليء: هو القادر على الوفاء.
قالوا: مليء بماله ومليء ببدنه.
فإذا كان ممن لا يمكن أخذ الحق منه كأن يكون رئيساً أو وزيراً، أو أميراً كبيراً لا تمكن شكايته ولا تمكن مخاصمته ولا يمكن لأحد أن يطلب منه ففي هذه الحال لا يقال: إن الحوالة عليه جائزة.(35/17)
الأسئلة(35/18)
حكم زراعة الشعر في الرأس طبياً
السؤال
انتشرت في الآونة الأخيرة طرق عدة لزراعة الشعر، ومن هذه الطرق طريقة تعتمد على وضع شعر طبيعي مكان الشعر المتساقط، حيث يكون هذا الشعر مماثلاً للشعر المتساقط من حيث اللون وطبيعة الشعر، ويتم الحصول على هذا الشعر مما يسمى ببنك الشعر، وهو شبيه بما يعرف اليوم ببنك الدم، علماً بأن الشعر المزروع يتم تثبيته باستخدام شبكة، وهي عبارة عن طبقة شفافة مماثلة للون بشرة الرأس، وينفذ من خلالها الماء والهواء، فما الحكم في هذا؟
الجواب
نرى أنه لا يجوز، وذلك لكثرة الأحاديث التي فيها لعن الواصلة والمستوصلة، والواصلة هي التي تصل شعر الناس.
والمستوصلة التي تطلب وتقول: يا فلانة! أوصلي شعري بشعر.
ويدخل الجميع في اللعن، والعياذ بالله، واللعن لا يكون إلا على كبيرة، ولو كان مماثلاً للشعر الأصلي، ولو كان يمكن تثبيته وزرعه وترسيخه في جلدة الرأس، فإن هذا يعتبر كله غشاً وتدليساً.(35/19)
حكم شراء العجلات الجديدة بقديمة مع دفع الفارق
السؤال
ما حكم شراء عجلات السيارات الجديدة من صاحب محل يبيع عجلات جديدة ويستبدل قديمة بجديدة، ثم يخصم قيمة العجلات القديمة ويدفع له الفرق، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
لا بأس بذلك، لأنها ليست ربوية، فيجوز أن تباع بالعدد، فلا حرج أن يشتري القديمة مثلاً بعشرين ويبيع الجديدة بمائة أو بمائتين، ويخصم منها ثمن القديمة.(35/20)
حكم الرهن إذا رخص سعره وصار أقل من الدين
السؤال
لو رهن رجل سيارة بعشرين ألفاً لدين بخمسة عشرة ألفاً، ولما حلّ الدين امتنع الراهن من الوفاء، وأراد بيع الرهن، فصار سعره قد نقص فصار بثلاثة عشر ألفاً، فما العمل في هذه الحالة؟
الجواب
ليس له إلا ما تباع به، تباع السيارة بثلاثة عشر ألفاً فيأخذها المرتهن ويطالبه ببقية الدين.(35/21)
حكم تأخير القسمة ومستغلات التركة
السؤال
توفي رجل وله ولدان وبنت، وخلف بيتاً، ولم يرث الابن الأكبر والبنت شيئاً لمدة عشر سنين، وذلك لأن الابن الأصغر يسكن في هذا البيت، وهم غير راضين بذلك، فهل عندما يباع البيت يعطى الابن الأكبر والبنت دون الابن الأصغر؛ لأنه عاش في البيت لمدة عشر سنين؟
الجواب
لا شك أنهم لهم حق في أجرة هذه المدة، فالذين لم يسكنوا يطالبون الذي سكنه بأجرته؛ لأن لهم حقاً فيه حيث إنهم من الورثة.(35/22)
أرباح الأسهم المرهونة
السؤال
لمن تكون أرباح الأسهم المرهونة في دين؟ وكذلك لمن تكون الزيادة في رأس مال الشركة، أي: الأسهم الإضافية هل هي للراهن أو للمرتهن؟
الجواب
قد ذكرنا حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه) فأرباح الأسهم تكون للراهن، فإن قبضها استوفى منها دينه، وزيادتها ونقصها كل ذلك على الراهن، فنقصها أو غلاؤها كل ذلك من نصيب الراهن.(35/23)
حكم رهن الأرض بشرط تملكها عند العجز
السؤال
رجل رهن أرضه، وقال للمرتهن: إذا لم أستطع الوفاء بالدين فالأرض لك.
وهذا الرجل توفي ولم يستطع الوفاء بالدين، بالإضافة إلى أن الأرض قيمتها أقل من الدين، فأخذ المرتهن الأرض ولم يتصرف فيها، ولكنه توفي بعد فترة أيضاً، وقسمت الأرض على ورثة المرتهن، وبعد سنوات تقارب العشرين سنة أتى أبناء الراهن يطالبون بالأرض، والأرض قد قسمت بين الورثة، والنظام الموجود في هذه البلدة نظام قبلي لا يطبقون فيه الشريعة، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
نرى أنها تقدر في ذلك الزمان الذي أخذها المرتهن قبل وفاته، يقدرونها وينظرون كم قدرها، ثم يخصم الدين الذي في ذمة الراهن، فإذا كانت أقل من الدين فإنه يأخذها كلها ويطالب الورثة ببقية الدين، فإن كانت قيمتها أكثر من الدين فإن البقية يردونه على الورثة، فهي كما ذكرنا لم تخرج من ملك الراهن.(35/24)
حكم ركوب الثور
السؤال
يذكر أن الثور لا يركب ولا يحلب، فهل عدم الركوب لنهي شرعي، أم لعدم وجوده في هذه الديار؛ لأننا في بلادنا نركب الثور ونحمل عليه، وهو أفضل من الحمار في وقت الأمطار الكثيرة؟
الجواب
جاء في حديث: (أن رجلاً كان قد ركب بقرة، وأن الله أنطقها وقالت: إنا ما خلقنا الركوب، إنما خلقنا للحرث) ، والعادة أن البقرة والثور لا يركبان، وإذا كان في بعض البلاد يركبونهما فلعله لأنهم لم يجدوا غيرهما.(35/25)
حكم أخذ مبلغ مقابل فاتورة الماء ثم رد الباقي بحسب الفاتورة
السؤال
صاحب المكتب العقاري يأخذ أحياناً مائتي ريال ويقول: هذه للماء، فإن كان في الحساب في الفاتورة أقل أخذناها، وإن كانت أكثر دفعناها عنك، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
يعتبرها كحرز مثلاً، فيقول: إن الماء قد يسرف فيه ويصرف منه شيء كثير، فنأخذ عليك المائتين ونمسكها، فإذا خرجت الفاتورة وفيها مائتان أو أقل حسبناها مما عندنا وأعطيناك الباقي، وإن كان فيها أكثر طالبناك بالزيادة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(35/26)
شرح أخصر المختصرات [36]
من مقاصد الشريعة: تقوية أواصر المحبة والإخاء بين المسلمين، ولذا رغبت في الإصلاح بينهم، وأخبر الله في كتابه أن الصلح خير، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) ، وقد بين أهل العلم أنواع الصلح وأحكامه.(36/1)
الصلح(36/2)
تعريفه وفضله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والصلح في الأموال قسمان: أحدهما على الإقرار، وهو نوعان: الصلح على جنس الحق مثل أن يقر له بدين أو عين، فيضع أو يهب له البعض ويأخذ الباقي، فيصح ممن يصح تبرعه بغير لفظ صلح بلا شرط.
الثاني: على غير جنسه، فإن كان بأثمان عن أثمان فصرف، وبعرض عن نقد وعكسه فبيع.
القسم الثاني: على الإنكار.
بأن يدعي عليه فينكر أو يسكت ثم يصالحه، فيصح ويكون إبراءً في حقه وبيعاً في حق مدع، ومن علم كذب نفسه فالصلح باطل في حقه.
فصل: وإذا حصل في أرضه أو جداره أو هوائه غصن شجرة غيره أو غرفته لزم إزالته وضمن ما تلف به بعد طلب، فإن أبى لم يجبر في الغصن ولواه، فإن لم يمكنه فله قطعه بلا حكم، ويجوز فتح باب لاستطراق في درب نافذ، لا إخراج جناح وساباط وميزاب إلا بإذن إمام مع أمن الضرر، وفعل ذلك في ملك جار ودرب مشترك حرام بلا إذن مستحق، وكذا وضع خشب إلا ألا يمكن تسقيف إلا به، ولا ضرر فيجبر، ومسجد كدار، وإن طلب شريك في حائط أو سقف انهدم شريكه للبناء معه أجبر كنقض خوف سقوط، وإن بناه بنية الرجوع رجع، وكذا نهر ونحوه] .
ذكر المؤلف في الفصل الأول: الصلح، وفي الفصل الثاني ما يلحق بالصلح من اصطلاح على الطرق وما أشبهها.
والصلح: معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين المتخاصمين.
وقد حث الله تعالى على الصلح في آيات عامة في أماكن عامة وأماكن خاصة، فمن العموم قول الله تعالى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] أي: احرصوا على أن تصلحوا ما يحدث بينكم.
أي: بين إخوانكم.
وقال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فجعل من الخير الإصلاح بين الناس، وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بين المتقاتلين، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، فإذا أدى الخصام بين المتخاصمين إلى القتال أو إلى النزاع فعلى المسلمين أن يسعوا إلى الإصلاح بينهما، وذكرهم الله بالأخوة فقال: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) أي: جميعهم.
ولو تقاتلوا فإنهم لا يخرجون بذلك عن الأخوة الإيمانية، فاحرصوا على الإصلاح بينهما، وذكروا كلاً بالإخوة الإسلامية، وبالأخوة الدينية، فإنهم متى تذكروا هذه الأخوة رجعوا عما هم عليه، وحرصوا على أن يصطلحوا فيما بينهم، سيما إذا كان الشقاق والنزاع على أمور دنيوية لا أهمية لها.
وكذلك أيضاً ذكر الله الصلح بين الزوجين في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] يعني: إذا حصل شقاق ونزاع فأراد المسلمون الإصلاح بين الزوجين بعثوا حكمين، فإن حرص الحكمان على أن يصلحا بينهما يوفق الله بينهما.
فهذا من حرص الشريعة على الإصلاح العام والإصلاح الخاص، وكذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء:128] وفي قراءة: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، فيصطلحان على إسقاط بعض الحقوق حتى تأتلف القلوب، فتسقط الزوجة بعض حقها إذا خشيت أنه يميل عنها أو يطلقها، وكذلك هو أيضاً يسقط بعض حقه إذا رأى منها نفرة وخشي أن تنشز عنه، ويتدخل بينهما أولياؤهما حتى يصطلحا.(36/3)
أهميته
من أهمية الصلح أن الله تعالى أباح فيه الكذب للمصلحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها) فأباح الكذب إذا أراد الإنسان أن يصلح بين اثنين، فيأتي إلى هذا ويقول له: إن صاحبك يريد الخير ويريد الصلح، وإنه قد ندم على ما فعل، وإنه محب لأن تأتلف القلوب وأن تتبدل البغضاء بالمودة والمحبة، وإنه قد تنازل عن بعض حقه.
ثم يأتي إلى الثاني ويرغبه أيضاً في الصلح، ويقول له مثل ذلك حتى يتقاربا ويصطلحا وتزول بينهما العداوة، وكل هذا من حيث العموم.
والباب هذا معقود للصلح في الأموال، والغالب أنه يحصل بسببها نزاع وشقاق، ويحصل بسببها بغضاء وشنآن وتهاجر، وقد يدوم الهجران مدة طويلة، فقد يتهاجر الإخوان أو الأقارب ويبقون متهاجرين أشهراً أو سنين، مع أن الأصل في ذلك أمور دنيوية لا تساوي هذا التهاجر، فالواجب أن يصلحا بينهما، وأن يسعى ذوو الوجاهة للصلح بينهما، ولو تحملوا أموالاً لهؤلاء أو لهؤلاء، كما في حديث قبيصة بن مخارق لما تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه فقال: (يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة) يعني أن قبيصة وجد قبيلتين بينهما عداوة وبينهما قتال أو ما يقرب من القتال، فجاء إلى هؤلاء فقال: ماذا تنقمون؟ فقالوا: إنهم أخذوا مالنا، وإنهم قتلوا منا كذا وكذا.
فقال: أنا أتحمل ما أخذوه من المال، وأنا أتحمل الديات التي تدعونها عليهم.
ثم جاء إلى الآخرين فقال لهم: ماذا تنقمون؟ فقالوا: إنهم نهبوا منا، وإنهم جرحوا، وإنهم قتلوا.
فيقول: أنا أتحمل ما تدعون به.
فهذا الذي تحمل لهؤلاء ولهؤلاء يحل له أن يأخذ من الزكاة ويدخل في الغارمين، وما ذاك إلا أنه مصلح ومحسن: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ، ولو كلف أن يدفع من ماله لأجحف ذلك به، فلذلك جعل له حق في الزكاة، وهو أحق الغارمين؛ لأن الغارمين قسمان: غارم لإصلاح ذات البين، وغارم لنفسه، أي: مدين لحاجات نفسه الضرورية.
فقدم الغارم لإصلاح ذات البين، وجعل له حقاً في الزكاة المفروضة.
والباب الذي عندنا هنا في الصلح في الأموال، وأما الصلح في الدماء فذكروه في كتاب القصاص، فالصلح في الأموال قسمان: صلح على إقرار، وصلح إلى إنكار.(36/4)
الصلح على الإقرار وقسماه
الصلح على الإقرار هو: أن يعترف بحقك، يقول: نعم أنا معترف أن له عندي مالاً: إما دين وإما قرض، وإما قيمة متلف، أنا الذي هدمت جداره، أو قطعت شجره، أو أنا استقرضته وعندي له مال.(36/5)
الصلح على جنس الحق
الصلح على الإقرار هو أن يعترف بحقك، فيقول: أنا معترف أن له عندي مالاً إما دين، وإما قرض، وإما قيمة متلف، فأنا الذي هدمت جداره، أو قطعت شجره، أو أنا استقرضته وعندي له مال.
والصلح على الإقرار نوعان: صلح على جنس الحق، وصلح على غير جنسه.
فقد يقول: أنا أعترف أن عندي له غنماً، أو أن عندي له إبلاً، ولكن لي فيها حق، فأنا أنقذتها -مثلاً- من الضياع، أو أنا علفتها، أو حفظتها مدة طويلة فلي فيها حق وصاحب الغنم أو الإبل يقول: ما وكلتك لتحفظها، ولا وكلتك لتنقذها، فأعطني دوابي وأولادها.
فيتنازعان، ففي هذه الحال يسعى أهل الخير للصلح بينهما، فإذا قالوا: لك نصفها -أيها المحسن- لأنك حفظتها.
أو: لك ربعها.
أو: لك واحدة منها مقابل تعبك ومقابل علفك وحفظك فلك جزء منها فهذا صلح على جنس الحق.
ومثل أن يقر له بدراهم دين أو يقر له بعين مثل الأغنام، فهذا عين مال، أو يقر له بأكياس، ويقول: هذه الأكياس له، ولكني وجدتها في البرية، وخفت عليها أن تسرق فنقلتها على سيارتي وأتيت بها من مكان بعيد، فلي حق فيها وصاحبها يقول: ما وكلتك لتنقلها، وأنا أعرف مكانها، وأعرف أنها كانت في مكان مأمون، فلماذا تنقلها؟ فيتنازعان هذا يقول: لا حق لك فيها لأنك تجرأت ونقلتها.
وهذا يقول: لي حق فيها لأني نقلتها وأنقذتها من الطيور -مثلاً-، أو أنقذتها من اللصوص، أو أنقذتها من الدواب.
فيدعي فيها حقاً.
فالصلح صفته أن يضع له من الدين، أو يهب له بعضه ويأخذ الباقي، يقول: عندي له -مثلاً- عشرون ألفاً، ولكنه غلبني وزاد علي في الثمن أو: إن فيها شبهة في المبايعة بالربا أو بيع الغرر أو ما أشبه ذلك.
فيدعي شبهة فيها، فيصطلحان ويقول: أضع عنك ألفين وأعطني الباقي ثمانية عشر ألفاً.
ويسمى هذا صلحاً عن دين مع الإقرار، فهو مقر بالدين ولكن يدعي أن له حقاً.
أو أن له شبهة، فيقول: إنك ظلمتني حيث بعتني غالياً.
أو: خدعتني حيث أوقعتني في شيء لا فائدة فيه ومدحت السلعة وهي ليست جيدة.
أو: بعتني بيعاً فيه شيء من الشبهة، وهو أن هذا البيع إما بيع مجهول وإما بيع قبل القبض أو ما أشبه ذلك فالحاصل أنه يدعي شبهة، ففي هذه الحال يصطلحان على إسقاط شيء من ذلك الدين.
وكذلك العين، كأن يدعي غنماً أو إبلاً، ويعترف الآخر بأنها له، أو أكياساً -مثلاً- أو ثياباً، فقال: أقر أن له عندي هذه العشرة من الثياب، ولكني وجدتها ساقطة وأخذتها.
فيقول: أنا تركتها في ذلك المكان وسأعود إليها.
فيدعي شبهة.
فالحاصل أن الإقرار بالدين هو الإقرار بأموال نقود، والإقرار بالعين هو أن يقر له بهذه الأغنام، أو بهذه الإبل، أو بهذه الأكياس، أو بهذه الثياب، أو بهذه القدور، أو ما أشبه ذلك، فالصلح في هذه الحال أن يضع عنه شيئاً من الدين، فيقول: أعطني ألفين وأسقط عنك ألفاً.
أعطني ثمانية وأسقط عنك ألفين.
أو يهب له فيقول: وهبتك هذه الشاة وأعطني الباقي.
وهبت لك هذا البعير وأعطني الباقي.
وهبت لك نصف كيل، وهبت لك ثوباً، ويأخذ الباقي، فهذا يصح.(36/6)
شروط الصلح على جنس الحق
يشترط لهذا الصلح شروط: الشرط الأول: أن يكون المصالح ممن يصح تبرعه.
فإذا كان المالك سفيهاً أو مجنوناً فلا يصح صلحه، وذلك لأنه محجور عليه لا يصح أن يتصرف ولا أن يتبرع، وهذا قد تبرع -مثلاً- بألف أو بألفين أو بشاة أو ناقة، فلا بد أن يكون ممن يصح تبرعه، وهو الحر المكلف الرشيد، فالمملوك لا يصح تصرفه فلا يصح تبرعه، والصغير لا يصح تبرعه، والمجنون لا يصح تبرعه، والسفيه لا يصح تبرعه.
الشرط الثاني: أن لا يكون بلفظ الصلح بل بلفظ الإسقاط أو بلفظ الإبراء، فيقول -مثلاً- أبرأتك من نصف الدين أو ثلثه أو: أسقط عنك كذا وكذا.
فلا يكون بلفظ الصلح؛ لأنه إذا كان بلفظ الصلح يكون فيه شيء من الإجبار، فيقولون: يشترط ألا يكون بلفظ الصلح، بل بلفظ الإبراء أو الهبة أو الوضع، أي: أن يضع عنه كذا.
الشرط الثالث: أن لا يكون هناك شرط، كأن يقول: لا أقر لك بدينك إلا إذا أسقطت عني نصفه أو ربعه.
فيقول: أنا أعترف أن لك عندي عشرة آلاف، ولكن ليس لك بينة، وليس عندك وثيقة، وأنا سوف أجحدك وأنكر هذا الدين إذا أتينا عند القاضي ولا أقر بذلك، ولا أعترف عند الشهود، ولا أكتب لك وثيقة إلا إذا أسقطت عني نصفه أو ثلثه أو ربعه أو عشره.
فيقول: سوف آتي بشهود، واعترف أمام الشهود بالدين الذي هو عشرة آلاف وأنا أسقط عنك منه ألفين -مثلاً- أو ألفاً، ولكن أنت الآن تلتزم بالاعتراف، فأنا ما عندي بينة ولا كتبت عليك، بل وثقت بذمتك ووثقت بأمانتك وأعطيتك مالي، ولم أشعر بأنك ستجحدني.
فيقول: أنا أجحدك، ولا أعترف أمام الشهود إلا إذا أسقطت عني النصف أو الثلث أو ما أشبه ذلك فيقول: سوف آتي بالشهود واعترف أمامهم أن عندك لي عشرة، أو أن عندك لي هذه الأمانة مثلاً، أو هذه الأغنام أو ما أشبهها، فاعترف أمام الشهود، وفيما بيني وبينك أعطيك منها ألفاً أو شاة أو ما أشبه ذلك.
فجاء بالشهود واعترف وكتبوا شهادتهم: إن فلاناً مدين لهذا بعشرة ألاف.
أو: إن هذه الأغنام له أو هذه الأكياس أو هذه الأعيان، ثم قال: ولكنه التزم بأن يعطيني منها كذا وكذا مقابل الاعتراف! فالمالك يقول: أنت لا تستحق، وذلك لأنك خائن لم تعترف إلا بعد أن التزمت لك بذلك، فأنت لا تستحق شيئاً الآن، وثقت ديني أمام هذين الشاهدين باعتراف منك، فلا حق لك فيما وعدتك، ما وعدتك إلا لأجل أن تعترف.
فيقول: كيف تعدني وتخلف ما وعدتني؟ فيقول: ما وعدتك إلا لأجل أن تقر أمام الشاهدين مخافة أن تجحد.
هذه شروط هذا الصلح: الشرط الأول: أن يكون ممن يصح تبرعه.
الشرط الثاني: أن لا يكون بلفظ الصلح.
الشرط الثالث: أن لا يمنعه حقه بدونه.
فلا يقول: لا أعترف لك إلا بشرط أن تعطيني منه كذا.
فهذا صلح على جنس الحق يعني: على إسقاط شيء من الدراهم أو شيء من الأغنام أو ما أشبه ذلك.(36/7)
صلح على غير جنس الحق
النوع الثاني: صلح على غير جنس الحق، بل على جنس آخر، فإذا كان الدين دراهم قال: أنا لا أجد الدراهم، ولكن أصطلح معك على دنانير.
لا أجد الريالات ولكن نصطلح على جنيهات.
يقول المؤلف: إن كان بأثمانها فصرف، وذلك لأن الريالات أثمان والجنيهات أثمان، فيكون صرفاً.
وإذا قلت: أليس الصرف يكون يداً بيد؟ قلنا: بلى.
ولكن يصح الصرف عن نقد بذمة، أي أن الصرف يصير عيناً بذمة، ودليله حديث ابن عمر، يقول: (كنا نبيع الإبل بالبقيع، نبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسموا هذا صرفاً بعين وذمة، فهو يقول: نعم عندي لك مائة ألف، ولكن نصطلح على أن أعطيكها جنيهات ذهباً.
ففي هذه الحال يصير صرفاً، فلا بد أن يكون بسعر يومه، ولا بد أن يتقابضا قبل التفرق، فإذا قالوا: نقدر المائة الألف بعشرين جنيهاً، فسلم الجنيهات الآن في المجلس قبل التفرق يكون هذا صرفاً بعين وذمة.
وكذلك أيضاً لو اصطلحا على نقد آخر غير النقد السعودي، فإذا قال: عندي لك -مثلاً- عشرة آلاف ريال، ولكن نصطلح على أن أعطيك -مثلاً- ستة آلاف دولار.
فيصير هذا صرفاً، فلا يتفرقا إلا بعد التقابض كما هو شرط الصرف.
أما إذا كان الصلح بعرض عن نقد فإننا نسميه بيعاً، أو بنقد عن عرض فإننا نسميه بيعاً، وهذا أيضاً صلح، وصورة ذلك إذا اعترف وقال: نعم عندي لك -مثلاً- ألف ريال، ولكن لا أجده، فنصطلح على أن أعطيك هذه الأكياس من الأرز أو من البر، فتأخذ مني عشرة أكياس أو ثمانية أكياس عن الألف.
فنسمي هذا بيعاً، وكذلك مثلاً عكسه، فإذا قال: صحيح أن عندي لك مائة صاع من البر، ولا أجدها الآن، فنصطلح على أن أعطيك ثمنها من الريالات، قيمة كل صاع -مثلاً- ريالان، فأعطيك مائتي ريال.
فنسمي هذا أيضاً بيعاً، كأنه قال: المائة الصاع التي في ذمتي بعنيها بمائتي ريال.
أو يقول بالعكس: أبيعك مائة صاع عن المائتين التي في ذمتي، في ذمتي لك مائتي ريال ولا أجدها، ولكن أبيعك مائة صاع من البر.
فيسمى هذا صلحاً، ولكنه في الحقيقة بيع.
ولو قال -مثلاً-: عندي لك خمسون ألفاً ولا أجدها، ولكن أبيعك أو أعطيك بدلها نصف هذه الأرض التي هي بيني وبين زيد نصفان، فخذ نصفي بالخمسين ألفاً التي لك، فأخذها، وعلم زيد فله أن يشفع فيقول: شريكي أعطاكها عن خمسين ألفاً، وأنا أشفع عليه لأني شريكه، فخذ الخمسين التي اشتريتها بها وتكون الأرض كلها لي.
فيجوز ذلك.(36/8)
الصلح على الإنكار
القسم الثاني: الصلح على الإنكار، وصلح الإنكار أن يأتيك إنسان ويدعي عليك ديناً فيقول: عندك لي خمسة آلاف وأنت لا تتذكر، إما أنك تنكر وتقول: أبداً ما عندي لك شيء.
وإما أنك تقول: لا أتذكر، نسيت أن عندي لك شيئاً.
فالصلح في هذه الحال من المدعى عليه، كأنه يشتري سمعته فيقول: أنت الآن تدعي علي بخمسة آلاف وأنا لا أتذكرها، فأشتري سمعتي حتى لا يقال: إن فلاناً جحد ديناً عليه.
أو حتى لا أتعرض للمرافعات ولا للشكاوي ولا للمحاكم، فأشتري سمعتي، فأنت الآن تدعي علي بخمسة، فأنا أعطيك أربعة واسمح لي في الباقي.
فيسمى هذا الصلح على إنكار، بمعنى أنه كان منكراً ولكن يشتري سمعته، ففي هذه الحال يصح أن يدعى عليه فينكر أو يسكت ثم يصالحه، والمدعى عليه إما أنه نسي وإما أنه أنكر وهو يعلم أنه لاشيء عليه، فعند ذلك اصطلحا لأجل قطع المنازعات.(36/9)
الفرق بين المدعى عليه والمدعي في الصلح على الإنكار
يقول: [يكون في حق المدعى عليه ابراءً، وفي حق المدعي بيعاً] .
قوله: [في حق المدعي بيعاً] فلو ادعى عليك بألف وقلت: لا أذكر شيئاً، ولكن خذ هذا البعير عن دعواك فأخذ البعير وكأنه اشتراه منك بالألف؛ لأنَ أقصى ما يدعي عليك ألف، ولما ذهب بالبعير وجده أعور أو مريضاً فله أن يرده، فيقول: أنا أخذته عن الألف وحسبته سليماً، ثم تبين أنه مريض، فلا أقبله.
فينفسخ الصلح والحال هذه، وكذلك لو ادعى عليك رجل بعشرة آلاف وأنت منكر، ولكن تشتري سمعتك فتقول: أعطيك نصف الأرض التي بيني وبين زيد بعشرة آلاف، فلما قبض الأرض شفع عليه شريكك الذي هو زيد وقال: أنت تدعي أنك اشتريتها بدينك الذي هو عشرة آلاف، وأنا شريكه، فأنا سوف أنتزعها وأعطيك العشرة الآلاف التي أنت تدعيها، ولا تدعي أكثر من عشرة آلاف، فكأنك اشتريت نصف هذه الأرض بدينك الذي هو عشرة آلاف، فخذها وأعطني الأرض حتى تكون الأرض كلها لي؛ لأني لا أرغب في الشريك، وأحب أن تكون هذا الأرض كلها سالمة لي.
فله أن يشفع، وذلك لأن المدعي يدعي أنه اشتراها عن دينه الذي هو عشرة آلاف، وإذا كان يدعي أنه اشتراها ثبتت الشفعة، وأما المدعى عليه فإنها تكون إبراءً لذمته، فلا رد ولا شفعة، فلو ادعى عليك نصف البعير، أو نصف الأرض، ولما ادعاه قلت: سوف أعطيك خمسمائة عن دعواك بهذا البعير.
فأعطيته خمسمائة وذهب، فوجدت البعير بعد ذلك أعور وهو ملكك، فهل لك أن تسترد الخمسمائة ليس لك ذلك؛ لأنك ما اشتريت البعير، أنت تدعي أنه ملكك، وإنما تخلصت من دعواه، وأردت بذلك أن ينقطع النزاع، ففي هذه الحال ليس لك أن تسترد الخمسمائة، بل إنما دفعتها ابراءً لذمتك، وتخلصاً من المرافعة، وكذلك لو ادعى عليك نصف الأرض، فقال: نصف أرضك هذه أو ثلثها لي.
فلما ادعى عليك أعطيته عن دعواه -مثلاً- عشرة آلاف وقلت: أشتري سمعتي، فخذ عشرة آلاف واسمح لي.
فعلم شريكك، فهل له أن يشفع فيقول: قد اشتريت هذه الأرض؟ ما له شفعة، وذلك لأنك تقول: ما اشتريت هذه الأرض، الأرض أرضي، لكن هذا ادعى علي وضايقني فأعطيته هذه العشرة لتنقطع الدعوى ولتنقطع الخصومة، والأرض لي ليس له فيها شيء فلا تثبت الشفعة والحال هذه.(36/10)
من علم كذب نفسه فالصلح باطل في حقه
يقول: [ومن علم كذب نفسه فالصلح باطل في حقه] .
سواءً المدعي أو المدعى عليه، إذا كذب أحدهما فما أخذه حرام، فهذا المدعي إذا كان كاذباً، فجاء إليك وهو يعلم كذب نفسه وأنه مبطل، وإنما أراد أن تعفيه، وقال: عندك لي دين عشرة آلاف.
أو: أنا أدعي عليك نصف هذا البعير أو نصف هذه الدار.
فاشتريت سمعتك وأعطيته خمسة آلاف، أو أعطيته شاة أو نحو ذلك لقطع نزاعه لا شك أنه أكل حراماً؛ لأنه يعرف كذب نفسه، فما أخذه حرام.
وكذلك العكس، فلو أن المدعى عليه أنكر وكان عالماً بصدق المدعي، ولكنه قال: هذا إنسان ليس عنده بينة، وسوف أجحده، وإذا جحدته أعطيته نصف ماله الذي يدعيه أو ربعه حتى يترك لي الباقي، فأنا أعرف أن عندي له عشرة آلاف، ولكن سوف أجحدها حتى يقنع بخمسة آلاف أو بثلاثة آلاف.
فهذا حرام، فأنت تعترف في باطن الأمر، فأعطيته نصفها والباقي حرام عليك؛ لأنك جحدته وأنت تعرف أنه محق في دعواه.
فهذا ما يتعلق بالصلح، والفصل الذي بعده تابع للصلح، ويسمى أحكام الجوار، وأحكام المتجاورين والمشتركين في بعض الأعيان.(36/11)
أحكام المتجاورين(36/12)
الضرر يزال
قال رحمه الله تعالى: [إذا حصل في أرضه أو داره أو هوائه غصن شجرة غيره أو على غرفته لزم إزالته] .
الجاران قد يكون بينهما شجر، وهذه الشجرة قد يمتد غصنها إذا كانت تمتد -مثلاً- على الأرض مثل نبات القرع والبطيخ، فإن امتد الغصن حتى صار في أرض جارك فعليك أن تزيله؛ لأنه شغل أرض جارك، وكذلك الشجر الذي يكون على ساق، فإذا تدلى غصن النخلة أو غصن السدر أو الرمان أو الأترج على جارك، وشغل هواء جارك وهو يملك أرضه ويملك هواءها، فيلزمك أن تزيله، وكذلك لو امتد على سقف الغرفة، أو دخل من نافذة من النوافذ إلى الغرفة، ففي هذه الحال على صاحب الشجرة أن يزيل ذلك الغصن.
وإذا أتلف شيئاً فإنه يضمنه، فلو أن عروق الشجرة امتدت تحت الجدار وسقط من أجلها فعلى الجار صاحب الشجرة بناء ذلك الجدار، وكذلك لو أن غصن الشجرة خرق الجدار، أو أتلف شيئاً منه أو هدم بعضاً منه فإنه يغرم ما أتلفه.
ولا بد قبل ذلك أن صاحب الأرض يطالبه، أما إذا سكت عنه فإنه يعتبر قد أذن له، فيطالبه قبل ذلك ويقول: أزل هذا الغصن.
أو: اقطع هذا العرق الذي امتد في أرضيّ فإذا امتنع فإنه يزيله فيلويه، فإذا لم يلتو ولم يزل باقياً فله أن يقطعه.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أبى لم يجبره في الغصن ولواه، فإن لم يمكنه فله قطعه بلا حكم] .
ولا يحتاج إلى حكم حاكم؛ لأن هذا ضرر، والضرر يزال، وهذا كله يتعلق بالغصن، ويلحق به العرق.
قال رحمه الله تعالى: [ويجوز فتح باب لاستطراق في درب نافذ] .
قوله: [لاستطراق] يعني: للدخول معه والخروج معه.
ويكون هذا في الدرب النافذ، والدرب النافذ هو الذي له مدخل من كل جهة، يدخل الناس من الشرق ومن الغرب، يعني أنه نافذ، وأما غير النافذ فهو الذي له نهاية وليس بنافذ، بل نهايته مسدودة، وهذا الدرب إذا كان جدارك عليه وهو طريق مسلوك يجوز لك أن تفتح باباً آخر، فأنت قد فتحت عليه الباب الأول، فيجوز لك أن تفتح باباً ثانياً، وذلك لأنك تملك المرور معه، والناس يمرون معه، وفتحك لهذا الباب لا يضايق الناس؛ لأنك فتحته على جدار من جدرانك وعلى طريق مسلوك ليس خاصاً بأحد، وليس لأحد أن يمنعك منه، فهذا فتح الباب للاستطراق.(36/13)
حكم إخراج جناح وساباط وميزاب من البيت
قال رحمه الله تعالى: [لا إخراج جناح وساباط وميزاب إلا بإذن إمام مع أمن الضرر] .
الجناح: هو أن يمد على جداره شبه مظلة ويسقفها، وينتفع بهواء الطريق، فيقول: هذا الطريق لا أضيقه، ولكن أنا بحاجة إلى أن أمد أخشابي -مثلاً- أو أمد الصبة وآخذ من الهواء متراً أو متراً ونصف أسقفه وأنتفع به، وأتوسع به في داري.
ويسمى هذا جناحاً ويسمى روشناً، فلا يجوز ذلك إلا بإذن الإمام أو بإذن المسئول، وفي هذه الأزمنة المسئولون هم البلدية، والعادة أنهم يأخذون مقابلاً من أصحاب العمارات على ذلك، فأصحاب العمارات يجعلون الدور الأرضي على حد المأذون لهم، ثم في الدور الثاني يمدون الصبات فتأخذ من الطريق متراً أو نحوه، فهذا المتر يسمى جناحاً ويسمى روشناً، فيؤخذ عليهم مال مقابل ذلك، بشرط ألا يضيقوا الطريق، أما إذا كان ذلك يضيق الطريق بأن كان نازلاً بحيث لو مرت سيارة لاصطدمت به فإنه لا يحق لهم.
وأما الساباط فهو تسقيف الطريق كله، إذا كان الطريق -مثلاً- خمسة أمتار وهو طريق نافذ، فيتفق صاحب هذا الجدار مع جاره المقابل له على أن يسقفا الطريق، فيقول: أنا أبني على الطريق غرفة، وأنت تبني عليه غرفة.
وأجعل صبتي على جدارك وأنت كذلك.
فهل لهما ذلك؟ قديماً كان هذا موجوداً في القرى، وإلى الآن موجود في المباني القديمة داخل البلد، تجد الطريق مسقوفاً كله، والناس يمرون على الطريق وهو مسقوف، وفوقه غرفة أو غرفتين، ويسمى هذا ساباطاً، فلا يجوز هذا؛ لأنه تملك لشيء مشترك وهو هواء هذا الطريق الذي هو للمارة، لكن يجوز بإذن الإمام.
فأما الميزاب الذي يصب معه السيل ويسمى ثعباناً أو مثعباً.
فهذا ضروري للناس، إذا جاء السيل وصب من الدار يصب على الطريق، وهل يجوز جعل هذه الميازيب تصب في الطريق؟ يجوز بإذن الإمام إذا لم يكن فيها ضرر، وأما إذا كان فيها ضرر أو لم يأذن فيها الإمام فلا يجوز في هذه الحال، والناس في هذه الأزمان يجعلون على بيوتهم الأنابيب التي تمتد من السطح إلى الأرض، ولا يكون فيها ضرر، وأما الميازيب التي تصب في وسط الطريق فإنه قد يكون فيها ضرر، فقد تصب مياهاً أو سيلاً أو نحو ذلك فيتضرر المشاة، فإذا أذن فيها الإمام ولم يكن فيها ضرر من سعة الطريق جاز، وأما إذا تضرروا ففي إمكانهم أن يحفروا طرف السطح إلى إن يصل إلى الأرض لينصب الماء من السطح مع ذلك المكان المحفور في وسط الجدار إلى الأرض، فلا يكون في ذلك ضرر.
وهذا كله إذا كان الدرب نافذاً، وذلك لأنه مشترك بين المسلمين.
ومما يلحق بذلك منع أخذ شيء من الطريق، وذلك لأن الطريق مشترك، ونجد أن بعض الناس يأخذون من الطريق -مثلاً- متراً عتبة أو ثلاث عتبات من الطريق، وهذا خطأ، فالطريق مشترك بين الناس ولو كان واسعاً، وقد تضايق الناس هذه العتبات التي تأخذ متراً، وربما يصطدم فيها إنسان، وربما تصطدم فيها سيارة، فلذلك تزال، لكن إن كان الطريق واسعاً كبيراً فلا بأس بذلك، سيما إذا كان هناك أرصفة في أطراف الطريق، فلا تحصل مضايقة على أهل السيارات ونحوها.
وكانوا قديماً يأخذون من الطريق نحو ذراع اليد، ويجعلونه كالكرسي ويسمونه حبساً، ويجلسون عليه كما يجلسون على الكراسي، وهذا يجوز إذا كان الطريق واسعاً، وإلا فالأصل أنه إذا كان ضيقاً فلا يجوز.
يقول: [وفعل ذلك في ملك جار ودرب مشترك حرام بلا إذن مستحق] .
لا يجوز للجار أن يخرج جناحاً أو ميزاباً أو ساباطاً، وذلك لأنه تملك لملك الغير إذا كانت هذه الأرض التي فتحت عليه في ملك جاره، وكذلك الدرب المشترك الذي تقدم في الدرب النافذ، وأما الدرب المشترك المسدود آخره.
فلا يجوز أن يفتح به باباً أو ساباطاً أو جناحاً إلا بإذن المستحق، فيشترط أن يأذن له الأهل كلهم، أو الذين يطرقونه، أما الذين لا يأتي إليهم فإنهم لا ضرر عليهم، فإذا كان الدرب المشترك فيه خمسة أبواب من هنا وخمسة أبواب من هنا، وهو مسدود في نهايته، فصاحب الباب الثالث أراد أن يجعل دكة أو يجعل ساباطاً أو يجعل جناحاً أو ميزاباً فمن الذي يمنعه؟ يمنعه الذين وراءه، وأما الذين قبله فليس لهم أن يمنعوه، فإذا أذن له أهل البيتين اللذين في أقصى الطريق فإنه يجوز له.(36/14)
لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره
قال رحمه الله تعالى: [وكذا وضع خشب إلا أن لا يمكن التسقيف إلا به.
ولا ضرر فيجبر] .
ورد في هذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ، ثم يقول أبو هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم.
يعني: بهذه السنة.
فإذا لم يقدر أن يضع السقف إلا على جدار جاره فليس للجار أن يمنعه بموجب هذا الحديث إذا لم يتضرر الجدار ونحوه.
قال: [ومسجد كدار] .
لو كان بيته ملاصقاً للمسجد، واضطر إلى أن يضع خشباً على جدار المسجد فإنه لا يمنع من ذلك.
قال: [وإن طلب شريك في حائط أو سقف انهدم طلب شريكه للبناء معه أجبر] .
إذا كان الجدار بين اثنين وانهدم، فطلب أحدهما من الآخر أن يشاركه في عمارته أجبر عليه؛ لأنه يتضرر فيصير لا فاصل بينهما، فيجبر على أن يساعده، وكذلك إذا كان السقف بين اثنين وانهدم السقف، فطلب أحدهما من الآخر أن يساعده فإنه يجبر على عمارة هذا السقف.
قال رحمه الله تعالى: [وكنقض خوف السقوط] .
لو كان هذا الجدار أو السقف بينهما فتصدع وخيف أنه ينهدم، وإذا انهدم تضرر أو أتلف أحداً، ففي هذه الحال إذا قال أحدهما: هلم ننقض هذا الجدار ونبنيه من جديد فإنه يجبر عليه، وذلك لأنهم لو تركوه انتقض وأتلف نفساً أو ما دون النفس، ولو حصل ذلك فإنهما يضمنان، وذلك لأنهما يعلمان بأنه خطر ولم يتلافيا ذلك الخطر، وإذا بناه أحدهما بنية الرجوع على شريكه رجع؛ لأن نفعه وملكه لهما جميعاً.
قال: [وهكذا نهر ونحوه] .
إذا كان بينهما ساقي ماء يمشي فتعطل، وكلاهما يسقي منه، فعمره أحدهما وأصلحه رجع على الآخر بقسطه، والله أعلم.(36/15)
الأسئلة(36/16)
إحياء الأرض من غير إذن الحاكم
السؤل: إذا كنت قد أحييت أرضاً وأنا في طور الإحياء فجاءني من يطلب مالاً حتى يسكت عني، وإلا يخبر عني ويكيد لي، فهل أعطيه من المال؟
الجواب
لا يجوز في هذه الحال تملك شيء إلا من جهة رسمية، فإذا كان مالكاً لهذه الأرض أو سابقاً إليها وعنده إذن فيها فله أن يتملكها، فكونه يقول: لا تفضحوني، ولكن اتركوني وأعطيكم مالاً فلا يجوز لهم أن يأخذوا هذا المال، ولا يجوز له أن يدفع، ولا يجوز له أن يحيي هذه الأرض إلا بإذن رسمي.(36/17)
حضور الحائض للدروس في المسجد
السؤال
بعض النساء يحضرن المسجد لحضور دروس العلم، وقد تصاب المرأة بالحيض، وتقول: إن في مؤخرة المسجد في مصلى النساء مكاناً من ضمن سور المسجد، ولكن لا يصلى فيه؛ لأنه مكان لمرور الناس ولوضع الأحذية، فهل يجوز لها أن تجلس في هذا المكان وهي حائض لتستفيد من الدروس؟
الجواب
ورد نهي الحائض أن تدخل المسجد، وعلل ذلك للخوف من تلويثها، ولذلك فإذا أمنت من التلويث فإنه جائز لها الدخول، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أن تناوله خمرة من المسجد -أي: سجادة كان يصلي عليها- فقالت: إني حائض قال: (إن حيضتك ليست في يدك) وإذا كان كذلك فلا بأس أن تجلس في هذا المكان الذي ليس هو محل صلاة، إنما هو محل وضع أحذية أو ما أشبهه.(36/18)
الهدية للموظف مكافأة له
السؤال
أعمل في إحدى الوظائف، وجاءني أحدهم فقضيت له حاجة في مؤسستي التي أعمل فيها، ثم بعد ما التقيت به أهدى إلي هدية، فهل تلك الهدية من الرشوة؟
الجواب
لا بأس بذلك إذا لم تكن قاصداً لهذه الهدية، ولم تقض حاجته لأجل أن يهدي إليك، وهو أيضاً ما أهدى إليك لتقدمه على غيره، وإنما أراد مكافأتك على فعل فعلته، فلا بأس بذلك.(36/19)
وضع مظلة للسيارة على أرض بدون إذن صاحبها
السؤال
بجوار منزلي أرض خالية، ووضعت فيها مظلة للسيارة بدون استئذان صاحب الأرض، فهل علي إثم في ذلك؟
الجواب
لا بأس بذلك حتى يأتيك صاحبها ويأمرك بإزالة هذه المظلة؛ لأنك لا تملك بها.(36/20)
إذن الإمام بشيء فيه ضرر
السؤال
لو وضع شيء بإذن الإمام ولكنه يضر بالمارة، فهل للمتضررين المطالبة بإزالة الضرر مع العلم بأن هذا يحصل كثيراً؟
الجواب
نعم.
ولو كان بإذن الإمام؛ لأن الإمام قد يستأذن لأشياء ظاهرها أنه صالح، ولكن إذا كان فيها ضرر فلا يجوز، فيطالبون بإزالة ذلك الشيء الذي فيه ضرر من الطريق مثلاً أو من الأرض أو نحوها.(36/21)
لا تنزع العين الاصطناعية عند الاغتسال
السؤال
هل يلزم من يغتسل للجنابة أن ينزع العين الاصطناعية عند اغتساله أم لا؟
الجواب
لا يلزم إذا مر الماء عليها؛ فإنها قد تكون ضرورية.(36/22)
حكم ركوب السيارة المرهونة بنفقتها
السؤال
هل تدخل السيارات المرهونة في حكم ما يركب بنفقته الذي ورد في الحديث؟
الجواب
لا تدخل؛ لأن النفقة ليست ضرورية لها، بخلاف بهيمة الأنعام، فإنها إذا تركت النفقة عليها هلكت.(36/23)
حكم الكفالة الحضورية
السؤال
ما حكم الكفالة الحضورية المعمول بها حالياً؟
الجواب
جائزة؛ لأن الكفالة -كما تقدم- هي التزام إحضار هذا الإنسان عند حلول الدين أو أي حق مالي، فإذا أحضره برئ الكفيل.(36/24)
زكاة الأرض الموروثة إذا عرضت للبيع
السؤال
هل الأرض الموهوبة أو الموروثة لا تجب فيها الزكاة حتى ولو نويت للبيع؟
الجواب
هكذا ذكر الفقهاء أنه إذا وهبت له أرض ثم نواها للزكاة لم يزك عنها حتى يبيعها، ثم يجعلها في تجارة أو نحوه، ولا يبدأ حولها حتى يبيعها، ومن العلماء من يقول: إذا باعها أخرج زكاة سنة واحدة.(36/25)
بيع الحبحب بشرط القطع
السؤال
في هذه الأيام يكثر بيع الحبحب بشرط أن يكون صالحاً، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ لأنه شيء خفي لا يعرف نضجه إلا بعد شقه، فإذا شقه ووجده غير ناضج فله أن يرده.(36/26)
جعل ولي المرأة شيئاً من مهرها مقابل قضاء دينه
السؤال
شخص مدين طالبه صاحب الدين، ولا يوجد لديه مال، فقال له: أزوج إحدى بناتي بقيمة هذا الدين فهل هذا جائز؟
الجواب
لا شك أن المهر من حق الزوجة، ولكن والدها له حق أن يتملك من مهرها ما لا يضرها، فعلى هذا إذا كان سوف يعطيها شيئاً من حقها والبقية يسقطه من دينه فلا بأس بذلك.(36/27)
نصيحة لمن زوج أخته برجل قليل الدين
السؤال
لي أخت زوجتها قبل أربعة أعوام من رجل ضعيف الدين، فكنت دائماً أنصحه وأوجهه إلى الخير، وقد فوجئت بأنه قد أدخل الدش في بيته، وأختي لديها الآن ثلاثة أطفال منه، وأختي عندما كانت عندنا لم تر التلفاز؛ لأنه لم يكن موجوداً لدينا أصلاً، فما النصح والتوجيه في ذلك؟
الجواب
عليكم نصيحته وتحذيره، وتهددونه بأنكم سوف تأخذون أولاده أو تحاولون فسخ النكاح تهديداً له وإن كنتم لا تقدرون على ذلك عادة، لكن لعل الله أن يهديه.(36/28)
حكم من أخرج جناحاً من داره بدون إذن الحاكم
السؤال
رجل بنى عمارة، وجعل في الدور الأول جناحاً بدون استئذان من ولاة الأمر، فماذا عليه أن يفعل الآن؟
الجواب
إذا كان في داخل سوره فلا حرج عليه، وأما إذا كان هذا الجناح على الطريق فلا بد أن يأخذ عليه إذناً، وإذا كان في مدينة من المدن المشهورة فإنه لا يسمح له إلا بعد إذن وبعد إخراج مخطط لذلك المبنى وموافقة من البلدية عليه، وبعد ما يسمى بالفسخ وما أشبه ذلك.(36/29)
صلاة النساء جماعة في البيت
السؤال
هل تجوز صلاة النساء في البيت جماعة؟
الجواب
لا بأس بذلك، فإذا اجتمعن وصلت بهن إحداهن فلا مانع.(36/30)
صلاة النافلة جماعة
السؤال
هل تجوز صلاة النافلة في البيت جماعة؟
الجواب
لا حرج في ذلك، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ ابن عباس في ليلة من الليالي نافلة.(36/31)
نصائح لطلاب العلم الشرعي في الدورات الشرعية
السؤال
يا شيخ نبغي بعض نصائح لشبابنا حتى يسيروا للعلا فلقد أتوا للدرس ملء قلوبهم حباً لعلم الشرع فالقلب تلا لكن نخاف عليهمو أن يفتروا فالدرب صعب كالمسير على الفلا
الجواب
نتناصح فيما بيننا جميعاً على أن نجد ونجتهد في تلك الدورات، وأن نواظب عليها، وأن نحرص على التزود منها، وذلك لأمور: أولاً: فيها علوم شرعية دينية نافعة.
ثانياً: مدة الدورة قصيرة، فهي عشرون يوماً أو نحوها.
ثالثاً: عندنا فراغ ووقت متسع، فلا نضيعه في لهو ونفرط في مثل هذه الأيام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.(36/32)
شرح أخصر المختصرات [37]
جاءت الشريعة بجلب المصالح للخلق، ودفع المفاسد عنهم، ومن أحكامها التي فيها مصالح للعباد: الحجر على المفلس، والحجر على الصغير والمجنون والسفيه، صيانة للحقوق والأموال من الضياع والتلف، وقد بين أهل العلم تفاصيل ذلك.(37/1)
الحجر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً وجب الحجر عليه بطلب بعض غرمائه، وسُنَّ إظهاره، ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه، بل في ذمته، فيطالب بعد فك حجر.
ومن سلمه عين مال جاهل الحجر أخذها إن كانت بحالها، وعوضها كله باق ولم يتعلق بها حق للغير.
ويبيع حاكم ماله ويقسمه على غرمائه، ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه، أو هو مؤجل تحرم مطالبته وحبسه، وكذا ملازمته.
ولا يحل مؤجل بفَلَس، ولا بموتٍ إن وثَّق الورثة برهن محرز أو كفيل مليء، وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه.
فصل: ويحجر على الصغير والمجنون والسفيه لحظهم، ومن دفع إليهم ماله بعقد أو لا رجع بما بقي لا ما تلف، ويضمنون جناية وإتلاف ما لم يدفع إليهم، ومن بلغ رشيداً أو مجنوناً ثم عقل ورشد انفك الحجر عنه بلا حكم، وأعطي ماله، لا قبل ذلك بحال.
وبلوغ ذكر بإمناء، أو بتمام خمس عشرة سنة، أو بنبات شعر خشن حول قبله، وأنثى بذلك وبحيض، وحملها دليل إمناء.
ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر بما يليق به ويؤنس رشده، ومحله قبل بلوغ، والرشد هنا إصلاح المال، بأن يبيع ويشتري فلا يغبن غالباً، ولا يبذل ماله في حرام وغير فائدة.
ووليهم حال الحجر الأب، ثم وصيه، ثم الحاكم، ولا يتصرف لهم إلا بالأحظ، ويقبل قوله بعد فك حجرٍ في منفعة، وضرورة، وتلفٍ، لا في دفع مالٍ بعد رشدٍ إلا من متبرع، ويتعلق دين مأذون له بذمة سيد، ودين غيره وأرش جناية قنٍ وقيم متلفاته برقبته] .
الفصل الأول: يتعلق بمن يحجر عليه لأجل الدين.
والفصل الثاني: يتعلق بمن يحجر عليه لأجل قصر النظر، فالحجر على الأول لمصلحة الغرماء، والحجر على الثاني لمصلحته هو، لئلا يفسد ماله، والحجر على الأول إذا كان مديناً، والدين يعم قيم السلع وعوض المتلفات، ويعم أيضاً الدين بالصداق الحال أو ما أشبهه.(37/2)
التحذير من التهاون في قضاء الديون
ورد التحذير من التهاون بديون الناس التي تتعلق بالذمة، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) يعني: من أخذها ديناً أو قرضاً أو أخذها ليتاجر فيها، وهو يريد إتلافها أتلفه الله، وإن كان ناصحاً وفقه الله لأدائها.
ولا شك أن الدين غرم يتعلق بذمة الإنسان، ولذلك قال الله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:65-67] ، والمغرمون هم المدينون، يقول الله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65] يعني: زرعكم، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:65] يعني: تتكلمون وتقولون: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْن مَحْرُومُونَ} [الواقعة:66-67] فدل على أن الغرم من جملة ما يتألم لأجله.
وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في آخر صلاته فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف) ، وهذا حق، فالإنسان إذا كان عليه دين، وجاءه صاحبه اضطر إلى أن يكذب ويقول: سأعطيك بعد قليل، أو سأعطيك، فيكذب بذلك، أو يعده شهراً أو نصف شهر ثم لا يستطيع، فيخلف الوعد.
وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم خلف الوعد والكذب من خصال المنافقين، فعلى هذا يستعاذ بالله من المغرم، أي: من تحمل ديون الناس وحقوقهم، ولذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أحداً قال: (ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً، يأتي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا ديناراً أرصده لدين) يعني: لوفاء دين، وثبت أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله هل يغفر لي؟ فقال: إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، غفر الله لك، ثم قال: إلا الدين فإن جبريل أخبرني به) أي: لا تغفره الشهادة في سبيل الله؛ وذلك لأنه حق لآدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة، فلا بد من قضائها، فتؤخذ من حسناته إذا مات وهو لم يوفها مفرطاً، فحقوق الآدميين لا بد من وفائها، وهي من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، ففي الحديث الذي في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم الإنسان نفسه، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد فيما بينهم) فهذه لابد فيها من القصاص لا محالة.
إذا عرف هذا فإذا كان على الإنسان دين وعنده مال فإنه يؤمر بوفائه، ويكلف أن يعطي الناس حقوقهم، ولا يجوز له أن يؤخر الوفاء، ويعتبر ذلك ظلماً، وورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) ، والمطل هو التأخير، يعني: تأخيره للوفاء ظلم منه لأصحاب الأموال، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) والواجد: هو القادر على الوفاء، وليُّه: يعني تلويته لأصحاب الحقوق، وعدم إيفائها، وعدم إعطاء الناس حقوقهم، (يحل عرضه وعقوبته) ، عرضه، أي: شكواه، وعقوبته: حبسه؛ وذلك لأنه أخر الحق عن أصحابه، فلهم أن يرفعوا بأمره، ولهم أن يشتكوه إلى من يأخذ حقهم منه، فإذا كان ماله بقدر دينه أو أكثر، حرم عليه التأخير، ولم يجز حبسه بل يكلف ويؤمر أن يعطي الناس ما في ذمته لهم حتى تبرأ ذمته، وحتى يعطي كل ذي حقٍ حقه، فإن أخر ذلك فلهم شكواه، ولهم عقوبته.(37/3)
الحجر على المدين
إذا كان عنده مال، ولكن ماله أقل من دينه، عنده مثلاً ما يساوي عشرة آلاف: أمتعة وعروض ونقود وسلع، والديون التي في ذمته تساوي عشرين ألفاً، ففي هذه الحال يحجر عليه، أي: يمنع من التصرف في هذا المال الذي في يده، ويمنع أن يبيعه أحداً أو يشتري منه، فتوقف أمواله التي في يده فلا يبيع شيئاً منها، لا شاةً ولا بعيراً، لا كيساً ولا ثوباً ولا قدراً، ولا شيئاً مما في يده، فيقال: لا أحد يشتري منه، ولا أحد يبيعه بدين، وتحصر ديونه التي في ذمته، وإذا حصرت وكانت -مثلاً- عشرين ألفاً كلها حالة، وأهلها يطالبون بها، ففي هذه الحال يحجر عليه إذا طلبوا وقالوا: احجر عليه يا حاكم، وامنعه من أن يتصرف في ماله.
ويسن إعلان الحجر، أي: إظهاره وإشهاره وإعلانه؛ حتى يتوقف الناس عن البيع له، أو عن الشراء منه، ولا يمكن تصرفه في ماله بعد الحجر، ولو باع كيساً أو شاةً ما نفذ البيع، بل يرد البيع، ويقال: لا يجوز لك أن تبيع، ولا يجوز لكم أن تشتروا منه، وكذلك لا يقبل إقراره عليه، فلو قال مثلاً: هذه الشاة لزوجتي، وهذا البعير لأبي، وهذه الأكياس لأخي، وليس لي منها شيء، فلا يقبل منه ذلك، إذ الأصل أن ما في يده فإنه ملكه، أما إذا اعترف في ذمته، فقال: في ذمتي لزيد مائة، وفي ذمتي لخالد مائتان، فاعترافه بعد الحجر يثبت، ولكن هؤلاء الذين اعترف لهم لا يعطون من هذه الأموال الموجودة، مخافة أنه ما أراد بالاعتراف إلا إضرار الغرماء حيث اشتكوه، وحيث كلفوا الحاكم أن يحجر عليه، فهذا بلا شك ضرر عليه، وضرر على غرمائه، فيحجر عليه ثم تصفى أمواله.
ثبت أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان جواداً سخياً كريماً، فكان ينفق ما عنده من الأموال، فكثر دينه، وقلت أمواله، فعند ذلك طلب النبي صلى الله عليه وسلم من غرمائه أن يضعوا عنه أو يسمحوا عنه، فلو كانوا تاركين لأحدٍ شيئاً لتركوا لـ معاذ لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم امتنعوا؛ لأنهم ذوو حاجة؛ ولأن أموالهم عواري أو بضائع لغيرهم، أو شركات، أو لأموات، أو لأيتام، فلم يضعوا شيئاً، ولم يتسامحوا عنه بشيء، فعند ذلك حجر النبي صلى الله عليه وسلم أمواله التي في يده كلها وباعها، ووزعها على الغرماء بالنسبة، ثم بعد ذلك أراد أن يجبره فبعثه على الزكاة والجزية إلى اليمن؛ ليصيب من سهم العاملين عليها، فبعثه لجبرانه لما حصل عليه.
فهذا دليل على أن من كثر دينه فإن لأهل الدين أن يمنعوه من التصرف بواسطة الحاكم، وأن للحاكم أن يمنعه من أن يتصرف في أمواله التي في يده، ثم يجمعها ويعرضها للبيع، ويبيعها.(37/4)