ثلاثة أضعاف المسلمين، مع أحاديث الفرار من الزحف، ومفهوم آية الأنفال الناسخة تحمل على ما قبل الشروع، إذ المفهوم يكتفى فيه بمطلق المخالفة، اهـ.
وظاهر كلامه أنه يباح لهم الفرار والحال هذه وإن غلب على ظنهم الظفر، وهو المعروف عن الأصحاب، عملا بإطلاق الآية الكريمة، ولأبي محمد في المغني احتمال بوجوب الثبات والحال هذه، لما فيه من المصلحة، وهو ظاهر كلامه في المقنع، وظاهر كلام الشيرازي، قال: إذا كان العدو أكثر من مثلي المسلمين، ولم يطيقوا قتالهم، لم يعص من انهزم، لأن الله تعالى جعل الرجل منا بإزاء الرجلين منهم، فإذا صاروا ثلاثة جاز للمسلم أن ينهزم منهم إذا خشي قهرهم، اهـ.
ولو غلب على ظنهم والحال هذه الهلاك فالفرار أولى، حذارا من كسر قلوب المسلمين، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الثبات وفي الانصراف فالأولى أن يقاتلوا، ولا يفروا ولا يستأسروا، لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين، ويسلموا من تحكم الكفار عليهم، ولجواز أن(6/558)
يغلبوا، قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ، ويجوز لهم أن يفروا لظاهر الآية، وأن يستأسروا على المشهور المختار من الروايتين فيهما.
3463 - لأن خبيبا الأنصاري وابن الدثنة سلما أنفسهما للأسر عند العجز والغلبة، وامتنع من ذلك عاصم بن ثابت الأنصاري في سبعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - حتى قتلوا، وكان الكل محمودين والقصة في البخاري وغيره.
(والرواية الثانية) : يلزمهم القتال.
3464 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من استأسر للمشركين من غير حاجة» . ذكره ابن حزم لكنه ضعيف، وهو اختيار الخرقي، قال: فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل.(6/559)
قال: ومن آجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة، فمباح له ما أخذ إن كان راجلا أو على دابة يملكها.
ش: يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على حفظ الغنيمة، ويباح له ما أخذ، لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة، فجاز كما لو أجر نفسه. [ليدلهم على الطريق ونحو ذلك، وهذا إذا كان راجلا أو على دابة يملكها، أما لو أجبر نفسه] على حفظ الغنيمة وأطلق، فإنه يجوز له أن يركب دابة من المغنم، حذارا من استعمال ملك الغير بغير إذن شرعي، ولا عرفي. فإن شرط في الإجارة ركوب دابة معينة، فقال الشيخان: يجوز، إذ ذاك بمنزلة الأجرة وإطلاق الخرقي يحتمل المنع. وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه أنه لا يجوز لأحد ركوب دابة من المغنم، ولا ريب في ذلك في غير الغانمين، وكذلك في الغانمين في غير القتال، وأما في القتال فهل يجوز كما في السلاح، أو لا يجوز لتعرض الفرس للعطب غالبا بخلاف السلاح؟ على روايتين.
3465 - وقد روى رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه» . رواه أحمد وأبو(6/560)
داود.
قال: ومن لقي علجا فقال له: قف أو ألق سلاحك. فقد أمنه.
ش: الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما فيه اشتباه، إذ ذلك تنبيه على الواضح كأجرتك وأمنتك، ولا تخف ولا تذهل، ولا خوف عليك، ولا بأس عليك، ونحو ذلك مما يدل على الأمان، وقد ورد الشرع بأجرتك وأمنتك. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» .
3466 - وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وبقية الألفاظ في معناهما، وعند أصحابنا أن حكم: قف أو ألق(6/561)
سلاحك. حكم ذلك، لأن الكافر يعتقده أمانا، أشبه ما لو قال: أمنتك.
3467 - وقد روى مالك في موطئه عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عامل جيش كان بعثه: بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع قال رجل: مترس. يقول لا تخف؛ فإذا أدركه قتله. وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه.
وحكى أبو محمد احتمالا ومال إليه أنه لا يكون أمانا، لأن ذلك يستعمل للإرهاب والتخويف، أشبه ما لو قال: لأقتلنك؛ ويرجع إلى القائل، فإن نوى به الأمان فهو أمان، وإلا فيسأل الكافر فإن قال: اعتقدته أمانا، رد إلى مأمنه، وإلا فليس بأمان.
[حكم السرقة من الغنيمة]
قال: ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع.
ش: من سرق من الغنيمة ممن له فيها حق لم يقطع، لأن له فيها شبهة، وهو حقه المتعلق به، والحد يدرأ بالشبهة، وصار كما لو سرق من مال مشترك بينه وبين(6/562)
غيره، وكذلك إذا سرق من غنيمة لولده فيها حق، لأن له في مال ولده حقا في الجملة، ولهذا لا يقطع بسرقته، وحق ولده متعلق بهذا المال، فصار كالذي قبله، وكذلك إذا سرق العبد من الغنيمة الذي لسيده فيها حق، لأنه لا يقطع بسرقة مال سيده، كما تقدم، فكذلك بما لسيده فيه جزء.
وقوله: ممن له فيها حق. يخرج ما إذا لم يكن له فيها حق، وله حالتان (إحداهما) : سرق قبل أن تخمس، وهو حر مسلم، فلا قطع عليه، لأن له حقا في الفيء. (الثاني) : سرق بعد أن خمست، فإنه يقطع لانتفاء الحقية.
[وطئ جارية السبي قبل قسمة الغنيمة]
قال: وإن وطئ جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني.
ش: يعني ممن له في الغنيمة حق أو لولده، فإنه لا حد عليه، لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة، فيكون للواطئ حق في الجارية أو لولده، فيدرأ عنه الحد لذلك للشبهة، وصار كالجارية المشتركة، وإذا انتفى الحد وجب التعزير بلا ريب، للمعصية المنتفي فيها الحد والكفارة، وقدره قد سبق بيانه فلا حاجة إلى إعادته.
وقوله: لا يبلغ به حد الزاني، يبين أن قوله ثم: لا يبلغ بالتعزير الحد، أن مراده ليس أدنى الحدود بل إما أعلاها، وإما أن كل ذنب لا يبلغ به حد جنسه.(6/563)
قال: وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المغنم.
ش: لأن ذلك بدل منفعتها ومنفعتها لجميع الغانمين، فكذلك بدلها، فعلى هذا يطرح في المغنم ليعم جميع الغانمين، وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته منها، ويجب عليه بقيته كالجارية المشتركة. ورده أبو محمد بأن قدر حصته قد لا يمكن، لكثرة الغانمين وقلة المهر، ثم إذا أخذناه فقد لا يمكن قسمته على بقية الغانمين مفردا، وإن طرح في المغنم وقسم على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق.
قال: إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها.
ش: يعني أنها إذا ولدت منه والحال هذه فإنها تصير أم ولد له، لأنه وطء لحق به النسب لشبهة الملك، أشبه وطء الأب جارية ابنه، وإذا صارت أم ولد له فعليه قيمتها تطرح في المغنم، لأنه أتلفها بفعله، أشبه ما لو قتلها، وسواء كان موسرا أو معسرا. وعن القاضي: إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد، وباقيها رقيق للغانمين كالإعتاق. وفرق بأن الاستيلاد أقوى، لكونه فعلا، ولهذا نفذ من المجنون.
وظاهر كلام الخرقي أنها إذا صارت أم ولد لا مهر لها عليه، لأنه استثنى ذلك من وجوب المهر، وهو إحدى الروايتين، ولعل مبناهما على أن المهر هل يجب بمجرد(6/564)
الإيلاج فيجب المهر أو لا يجب إلا بتمام الوطء، وهو النزع، فلا يجب لأنه إنما تم وهي ملك له، وظاهر كلامه أيضا أنه لا تجب قيمة الولد، وهو إحدى الروايتين، لأن ملكه حصل بالعلوق ولا قيمة للولد إذا.
(والثانية) : يجب عليه قيمة الولد حين وضعه، لأنه فوته عليهم، إذ من حقه أن يصير لهم. وقد علم من كلام الخرقي أن الولد حر لاحق نسبه بالواطئ، وإلا لم تصر أم ولد، وذلك لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك، أشبه واطئ جارية ابنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/565)
[كتاب الجزية]
ش: الجزية قال أبو محمد: الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام. وظاهر هذا التعريف أن الجزية أجرة الدار. قال: مشتقة من جزاه بمعنى قضاه، كقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] .
وقال القاضي في الأحكام السلطانية: اسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم، لأخذها منهم صغارا، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا. قال أبو العباس: وهذا أصح، وهو يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة، والأصل في جوازها الإجماع. وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من نصارى نجران.
3468 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: «أريد منهم كلمة(6/566)
تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» . قال: كلمة واحدة؟ قال: «كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله» . قالوا: إلها واحدا؟ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] . قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] إلى قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] » . رواه أحمد والترمذي وحسنه، في أحاديث أخر.
[من تقبل منه الجزية]
قال: ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني، أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه، ومن سواهم فالإسلام أو القتل.
ش: قد تقدم أن الجزية تقبل من اليهود والنصارى والمجوس، وإن كانوا من العرب، ولا تقبل ممن سواهم على المذهب وإن كانت لهم صحف على الأشهر، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن من أحد أبويه غير كتابي فاختار دين الكتابي أنه تقبل منه الجزية. وكذلك ظاهر كلامه أن من انتقل إلى أحد هذه الأديان الثلاثة بعد مبعث سيدنا ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تقبل منه الجزية، وهو أحد القولين في الصورتين، نظرا لعموم النص.
وشرط الخرقي لكل من تقبل منه الجزية أن يكون مقيما(6/567)
على ما عوهد عليه، من بذل الجزية في كل عام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . أي: يلتزموا أداءها والتزام أحكام الملة، من ضمان الأنفس والأموال وإقامة الحدود، وغير ذلك على ما هو مقرر في بابه، إعمالا لحكم الإسلام لنسخه كل ملة.
[مقدار الجزية]
قال: والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات، فيؤخذ من أدونهم: اثنا عشر درهما، ومن أوسطهم: أربعة وعشرون درهما، ومن أيسرهم: ثمانية وأربعون درهما.
ش: لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكره منكر، وعمل عليه فكان إجماعا.
3469 - ففي البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: فعل ذلك من قبل اليسار.
3470 - وفي الموطأ عن أسلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام، لكن مقتضى هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قابل الدينار بعشرة دراهم، وأبو محمد نقل عنه أنه قابله(6/568)
باثني عشر درهما، وزعم أنه حديث لا شك في صحته، مع أنه لم يذكر من رواه، وليس هو والله أعلم في السنن.
3471 - فإن قيل ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم - يعني: محتلما - دينارا، أو عدله من المعافري» ، ثياب تكون باليمن، فظاهر هذا إجزاء الدينار في حق كل أحد؟
قيل هو محمول على أن الغالب على أهل اليمن كان الفقر، كما أشار إليه مجاهد، أو أن للإمام الزيادة والنقصان في الجزية كما هو إحدى الروايات، واختيار الخلال، قال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه عنه الجماعة، بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص عنه، على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع، فاستقر قوله على(6/569)
ذلك، اهـ.
3472 - وقد «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها للمسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر، على أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلوا الربا» . رواه أبو داود، وهذا مع الذي قبله مع فعل عمر(6/570)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدل على أن المرجع في ذلك إلى رأي الإمام فيما يطيقونه من الزيادة والنقصان.
والرواية الثانية: لا تجوز الزيادة ولا النقص على ما تقدم من أن على الأدون اثنا عشر درهما، والمتوسط أربعة وعشرون درهما، والغني ثمانية وأربعون درهما، وهي اختيار القاضي في روايتيه، وقال: إنها اختيار الخرقي، ولا شك أنها ظاهر كلامه، وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والرواية الثالثة: تجوز الزيادة ولا يجوز النقص، قال في رواية يعقوب بن بختان: لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد، وهذا اختيار أبي بكر، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم ينقص عن الدينار، بل زاد عليه، فيقتصر على ذلك، فظاهر هذه الرواية أن الأدون لا ينقص عن الدينار، والمتوسط لا ينقص عن الدينارين، والغني عن الأربعة، ويجوز أن يزادوا على ذلك.
وقال ابن أبي موسى: لا يجوز النقص عن الدينار بحال، وتجوز الزيادة عليه، وهذا قول رابع.
(تنبيهات) أحدها: الغني هنا من عده أهل العرف غنيا، على المشهور والمقطوع به لأبي البركات، وأبي محمد في المغني وغيرهما، لأن ما لا تقدير فيه من جهة الشرع المرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز. (وقيل عن أحمد) : الغني: من ملك نصابا، (وقيل عنه) بل من ملك عشرة آلاف(6/571)
درهم، (وقيل) بل من ملك مائة ألف درهم فهو غني، ومن ملك دونها إلى عشرة آلاف فمتوسط، ومن ملك عشرة آلاف فما دون ففقير. الثاني: يقوم الدينار مقام الاثني عشر درهما.
الثالث: «عدله من المعافري» ، عدل الشيء: ما يعادله ويماثله، والمعافري: منسوب إلى معافر، بفتح الميم، موضع باليمن، وهي ثياب تكون به.
[من لا تجب عليه الجزية]
قال: ولا جزية على صبي.
ش: هذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له مفهوم حديث معاذ المتقدم: «خذ من كل حالم دينارا» ، مع أن الله تعالى إنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل، فقال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، والصبي لا يقاتل.
3473 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا(6/572)
تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى. رواه سعيد وأبو عبيد.
قال: ولا زائل العقل.
ش: لأنه أسوأ حالا من الصبي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . مع أن هذا أيضا، والله أعلم، اتفاق والحمد لله.
قال: ولا امرأة.
ش: هذا أيضا والله أعلم اتفاق، لما تقدم ولأن الجزية تؤخذ حقنا للدم، كما أشعرت به الآية الكريمة، والمرأة محقون دمها، بدليل ما تقدم.
قال: ولا فقير.
ش: سواء كان معتملا أو غير معتمل، أما غير المعتمل فبالاتفاق مذهبا، لعموم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية، وهذا خبر، فتخصيص غيره من الإنشاءات أولى بلا ريب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من(6/573)
كل حالم دينارا أو نحوه» ، وأما المعتمل ففيه روايتان: (إحداهما) وبه قطع أبو محمد في كتبه، وأبو الخطاب في الهداية: تجب عليه، لعموم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من كل حالم دينارا» ، أخرج منه غير المعتمل، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم.
(والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، وأوردها أبو البركات مذهبا: لا يجب عليه، لأنه مال يجب بحلول الحول، فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.
والرواية الأولى أسعد دليلا، ولأبي الخطاب احتمال بوجوب الجزية على الفقير غير المعتمل، ويطالب بها إذا أيسر، والمراد بالفقير هنا والله أعلم: الفقير الذي هو أحد الأصناف في الزكاة، ويدخل فيه المسكين لأنهما في غير باب الزكاة صنف واحد.
قال: ولا شيخ فان، ولا زمن ولا أعمى.
ش: لما تقدم من أن الجزية وجبت لحقن الدم، وهؤلاء دماؤهم محقونة، ودليل الأصل ما تقدم، وفي معنى هؤلاء الراهب ونحوه ممن لا يقتلون على ما تقدم، لحقن دمائهم، ولأبي محمد احتمال بوجوبها على الراهب، ويحتمله كلام الخرقي لعموم النصوص.
قال: ولا على سيد عبد عن عبده، إذا كان السيد مسلما.(6/574)
ش: هذا والله أعلم اتفاق، حذارا من إيجاب الجزية على مسلم، إذ ما يجب على العبد إنما يؤديه السيد. ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا كان ذميا وجبت عليه الجزية عن عبده، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لعموم: «خذ من كل حالم دينارا» ، ونحوه مع انتفاء المحذور المتقدم.
(والرواية الثانية) : وهي اختيار أبي بكر والقاضي، وأبي محمد: لا يجب عليه أيضا، كما لو كان السيد مسلما، لأن العبد محقون الدم، فأشبه المرأة والصبي، أو لا مال له فأشبه الفقير.
3474 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جزية على العبد» . وقد قال ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
[حكم إسلام من وجبت عليه الجزية]
قال: ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه.
ش: الجزية تجب بحلول الحول، فإذا أسلم الذمي بعد حلول الحول فقد وجبت عليه الجزية، فإن لم تكن أخذت منه سقطت عنه، لعموم قول الله تعالى:(6/575)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
3475 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» . ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر، فسقطت بالإسلام كالقتل، وخرج بذلك الديون، فإن سببها ليس هو الكفر، فلذلك لا تسقط بالإسلام.
3476 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على مسلم جزية» . رواه الترمذي، وأبو داود وهذا لفظه، وقد فسره سفيان الثوري بما قلناه، قال: معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت عليه الجزية بطلت عنه.
3477 - ويروى أن ذميا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا. قال: إن في الإسلام معاذا. فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن في الإسلام معاذا. وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية، رواه أبو(6/576)
عبيد بنحو من هذا المعنى، وقد دل كلام الخرقي من طريق التنبيه أنه لو أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه، وهو واضح.
قال: وإذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل، سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا.
ش: هذا هو الصحيح المشهور من الروايتين أو الروايات، إذ هو حر مكلف موسر، من أهل القتال، فدخل في عمومات النصوص. (ونقل أبو محمد) عن أحمد رواية أخرى أنه يقر بغير جزية مطلقا، لأن الولاء شعبة من الرق، وهو ثابت عليه، فلم تجب عليه الجزية، كما لو لم يعتق. ووهن الخلال هذه الرواية، وقال: هذا قول قديم رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه عنه الجماعة. وحكى أبو البركات الرواية أنه لا جزية عليه، إذا كان المعتق له مسلما، قال: وقال، أي أحمد، لأن ذمته(6/577)
ذمة مولاه، اهـ.
والمسلم لا يجب عليه جزية، فكذلك مولاه، ويجتمع من النقلين على هذا ثلاث روايات.
وقول الخرقي: لزمته الجزية لما يستقبل، أي: لما بقي من الحول الذي عتق فيه بالقسط، ثم لما بعده. وظاهر كلامه أنه لا يحتاج إلى عقد ذمة، بل يتبع أهل الذمة في ذلك، وهذا هو المشهور، وللقاضي في موضع أنه يخير بين التزام العقد، وبين أن يرد إلى مأمنه، فإن اختار الذمة عقدت له، وإلا ألحق بمأمنه.
- وحكم الصبي يبلغ، أو المجنون يفيق، أو الفقير يوسر في أثناء الحول، حكم العبد يعتق على ما مر، إلا أنه لا خلاف فيما أعلمه أنهم لا يقرون بغير جزية.
[حكم من نصارى بني تغلب بالنسبة للجزية والزكاة ونحوها]
قال: ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب.
ش: «تغلب» : علم منقول من تغلب مضارع غلبت، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل، وبنو تغلب هم بنو تغلب بن وائل، من العرب، من ربيعة بن نزار.
3478 - انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أداء الجزية فأبوا وأنفوا، وقالوا: نحن عرب،(6/578)
خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعان، ومن كل عشرين دينارا دينار، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم، وفيما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه، مع أن ذلك مشتهر فكان إجماعا أو بمنزلته.(6/579)
وظاهر كلام الخرقي أن الجزية لا تؤخذ منهم وإن بذلوها راضين بها، وفصل أبو محمد فقال: إن بذلها حربي قبلت منه، لعموم قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية. وغيرها من الأحاديث، وإن بذلها من دخل في عقد صلحهم وذمتهم فهل تقبل منه، وهو احتمال ذكره لما تقدم، أو لا تقبل، وهو الذي أورده مذهبا، وقطع به غيره، حذارا من تغيير ما وقع عليه الصلح؟ فيه قولان.
قال: وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين.
ش: لما تقدم، وظاهر كلام الخرقي أنه يؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم، وكل من يؤخذ منه الزكاة، ولا تؤخذ ممن لا تؤخذ منه الزكاة وإن كان له مال، بأن يكون غير زكوي كالدور ونحوها، وعلى هذا الأصحاب، نظرا إلى أن السؤال وقع منهم على أن يأخذ منهم كما يأخذ بعضنا من بعض، فأجابهم إلى ذلك بعد الامتناع، واستقر رأيه على ذلك، والذي يأخذه بعضنا من بعض زكاة، ولأن صبيانهم ونحوهم دخلوا في حكم الصلح، فدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء، ومال أبو محمد إلى أن هذا المأخوذ جزية باسم الصدقة، فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالصبيان ونحوهم، لأن النعمان بن زرعة قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خذ منهم الجزية باسم الصدقة.(6/580)
3479 - ولهذا يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: هؤلاء حمقى، رضوا بالمعنى وأبوا الاسم، ولأن الزكاة طهرة، ولا طهرة لهم.
فعلى هذا مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية. وعلى المذهب: هل مصرفه مصرف الجزية، وهو اختيار القاضي وأبي محمد، نظرا للمعنى، أو مصرف الزكاة، وهو اختيار أبي الخطاب، ويحتمله كلام الخرقي، نظرا للاسم؟ فيه روايتان.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بنصارى بني تغلب، ولا يشاركهم غيرهم ممن تهود أو تنصر أو تمجس من العرب، وهو الذي أورده أبو محمد في المقنع والمغني مذهبا.
3480 - وقال في المغني: نص عليه أحمد، ورواه عن الزهري، قال: نذهب إلى أن تؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة، وتضعف عليهم. كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لعموم: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، ولأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من أكيدر دومة وغيره من العرب، وقد تقدم ذلك، (وعن القاضي) وأبي الخطاب حكم من(6/581)
تنصر من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة وحمير، أو تمجس من تميم حكم بني تغلب، قياسا لهم عليهم، والمنصوص أن من كان من العرب من أهل الجزية وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة، وله شوكة يخشى الضرر منها، فإنه يجوز مصالحتهم على مثل ما صولح عليه بنو تغلب، لأنهم إذا في معناهم، والقياس حيث فهم المعنى وهذا هو الصواب، وعليه يحمل إطلاق أحمد أولا، وإطلاق القاضي ومن تبعه، ولهذا قطع به أبو البركات، وعليه استقر قول أبي محمد في المغني، لكنه شرط مع ذلك أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو أزيد، وهذا الشرط ليس في كلام(6/582)
أحمد، ولا هو مشترط في بني تغلب، ولا يشترط في غيرهم.
قال: ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين. عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة عند الأصحاب.
3481 - اتباعا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن ذلك يروى عنه. وقال: لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وألحق بعض الأصحاب بهم تنوخ وبهرا، وبعضهم جميع نصارى العرب، بناء على ما تقدم لهم قبل.
والرواية الثانية: اختيار أبي محمد، وقال: إنها آخر الروايتين عن أحمد، وأن إبراهيم الحربي، قال: فكان آخر قوليه أنه لا يرى بذبائحهم بأسا، لعموم:(6/583)
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] .
3482 - ويروى ذلك عن ابن عباس وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
[أخذ العشور من أهل الذمة]
قال: ومن اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة.
ش: من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده يبيع فيه أو يشتري منه أخذ من تجارته نصف العشر في الجملة.
3483 - لما روي «عن حرب بن عبد الله عن جده أبي أمه، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمت، فعلمني الإسلام، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم، ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله كل ما علمتني فقد حفظته إلا الصدقة، أفأعشرهم؟ قال: «إنما العشور على النصارى واليهود» . رواه أبو داود، «وفي رواية: «ليس على المسلم عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى» » .(6/584)
3484 - ولأن هذا يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع.
3485 - وروى الإمام أحمد عن سفيان، عن هشام، عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ قال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر. ومن أهل(6/585)
الذمة نصف العشر.
3486 - وعن لاحق بن حميد، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما. رواه أبو عبيد في الأموال، وظاهر هذا كله أن هذا حكم مقرر في الشرع، لا أنه موقوف على مصالحتهم على ذلك، ولا على أخذهم منا ذلك، اهـ.
3487 - ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد، وقال: كذا روي عن إبراهيم النخعي، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين كتب أن لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة، أن يأخذ من الذمي نصف العشر.
وروى أحمد بإسناده قال: جاء شيخ نصراني إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن عاملك عشرني في السنة مرتين. قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا الشيخ الحنيفي. ثم كتب إلى عامله أن(6/586)
لا تعشروا في السنة إلا مرة.
وقول الخرقي: ومن اتجر، يدخل فيه المرأة، وهو المذهب، لعموم ما تقدم، وقال القاضي: لا يلزم المرأة إلا أن تتجر بالحجاز. وقوله: من أهل الذمة، يحتمل أن يدخل فيه التغلبي، لكونه من أهل الذمة، ويحتمل أن لا يدخل لتقدم حكم التغلبي، وفيه روايتان، فعدم التعشير لأن المشترط عليه ضعف ما على المسلمين في ماله، سواء اتجر أو لم يتجر، والتعشير لعموم: «إنما العشور على اليهود والنصارى» ولأن ما جعل عليه في مقابلة الجزية، فعلى هذا يكمل عليه العشر مضاعفة عليه، نص عليه أحمد.
3488 - وروى بإسناده عن زياد بن حدير أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعثه مصدقا، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر.(6/587)
وقال أبو محمد: إن الأقيس أن يجب عليهم ضعف ما على المسلمين، لا ضعف ما على أهل الذمة، كما في بقية أموالهم. قال: وهو ظاهر كلام الخرقي، لقوله: مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ومقتضى حديث لاحق بن حميد.
قال: وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر.
3489 - ش: لأن في حديثه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث مصدقا، وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما، ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا.
3490 - وعلى ذلك يحمل ما روى السائب بن يزيد قال: كنت عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكنا نأخذ من النبط العشر. رواه مالك في الموطأ.
3491 - وقال: سألت ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من النبط العشر؟ فقال: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية، فألزمهم ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول الخرقي: أخذ منه العشر، ولم يقل في(6/588)
السنة، كما تقدم له في الذمي، فيحتمل أنه اكتفى بما تقدم قبل، وهذا منصوص أحمد، ويحتمل أنه أراد الإطلاق، وأنه يؤخذ منه كلما دخل إلينا، وهو قول ابن حامد.
وإطلاق كلام الخرقي يقتضي الأخذ من كل قليل وكثير من المال، وهو قول ابن حامد، ويستدل له بإطلاقات ما تقدم، والمذهب المشهور أنه إنما يؤخذ من شيء مقدر، لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، وإنما يؤخذ من المسلم إذا كان معه نصاب، فكذلك الذمي.
ثم اختلف في ذلك المقدر، (فعنه) - وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع، وحكاه في الهداية عن القاضي - أنه عشرة دنانير مطلقا، للذمي والحربي، لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم.
(وعنه) اعتبار العشرين مطلقا لهما، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دونها، فكذلك هما.
(وعنه) اعتبار العشرين للذمي، والعشرة للحربي، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دون العشرين، فكذلك الذمي، والعشرة في حق الحربي كالعشرين في حق الذمي.
واعتبر القاضي أبو الحسين للذمي عشرة، وللحربي خمسة، إذ الخمسة في حق الحربي كالعشرة في حق الذمي.
ومقتضى كلام الخرقي أنه إنما يؤخذ من مال التجارة لا من غيره، وهو كذلك، فلو مر الذمي بنا منتقلا، ومعه(6/589)
أمواله لم يؤخذ منه شيء، ثم هو يشمل جميع أموال التجارة، وكذا ظاهر كلام جماعة من الأصحاب، وقال القاضي: إذا دخلوا لنقل ميرة بالناس حاجة إليها أذن لهم في الدخول بغير عشر. ومال إلى هذا أبو محمد، لكنه عمم في الكافي، فجوز للإمام الترك رأسا للمصلحة.
3492 - لما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل بالمدينة، ويأخذ من القطنية العشر؛ وهذا دليل على التخفيف عنهم للمصلحة، وإذا له الترك للمصلحة.
(قلت) : وهذا والله أعلم كان في المستأمنين، إذ غيرهم يؤخذ منهم نصف العشر مطلقا.
واختلف في الخمر والخنزير المتبايع بينهم هل يعشران أو لا يعشران؟ على روايتين منصوصتين.
3493 - وقد اضطرب في النقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - –(6/590)
وخرج أبو البركات قولا بتعشير ثمن الخمر دون الخنزير، بناء والله أعلم على أنها مال لهم دون الخنزير، ولو كان في يد التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك، فهل يقبل قوله، لأن الأصل عدم الملك فيها، أو لا يقبل نظرا لليد؟ فيه روايتان، ولا يقبل مجرد قوله: إن عليه دينا، نظرا للأصل، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه، أو ينقص به نصابه المعتبر، قياسا على الزكاة.
[حكم من نقض عهده من المشركين]
قال: ومن نقض العهد بمخالفته شيئا مما صولحوا عليه حل دمه وماله.
ش: ينبغي للإمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطا، كما روي في السنة ففي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، الذي رواه أبو داود في مصالحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران، فقال: «ما لم تحدثوا حدثا، أو تأكلوا الربا» ، والحدث: الشيء الذي ينكر فعله.
3494 - وفي البخاري وسنن أبي داود: «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصفراء والبيضاء والحلقة، وهي(6/591)
السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النضير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعم حيي واسمه سعية -: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير؟» فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» ، وقد كان حيي قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعية إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا» ، وذكر الحديث إلى آخره.(6/592)
3495 - وروى سفيان الثوري عن مسروق، عن عبد الرحمن، قال: كتبت لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين صالح نصارى الشام، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم، ولا ما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا، ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
ورواه(6/593)
الخلال بنحو من هذا، وزاد عليه، وفيه قال: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما هو مقرر في موضعه، فخالف بعضهم شيئا منها، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك، هو مقتضى ما تقدم، إذ في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا» ، وفي قصة خيبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وسبى، وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا، وفي قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وقال: فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد تقدم.(6/594)
وظاهر كلامه أيضا أن ما لم يصالحوا عليه لا ينتقض به عهدهم وإن لزمهم، لعدم دخولهم على ذلك، ولا يرد عليه بذل الجزية، والتزام أحكام الملة، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين، فمتى زالا أو أحدهما زال عقد الذمة.
وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في موضعه ينقسم أربعة أقسام، (أحدها) : ما ينتقض به العهد بلا خلاف، وهو ما إذا امتنعوا من بذل الجزية، والتزام أحكام الملة لما تقدم، لكن قال أبو محمد في المغني: إذا حكم بها حاكم. ولم أر هذا الشرط لغيره، وكذلك قتال المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال، فإذا فعلوه نقضوا الأمان.
(الثاني) : ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم، كما يقوله الخرقي، وهو قذف المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر، على المنصوص في رواية الجماعة.
3496 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألها عن ذلك فقالت: أردت أن أقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا» . فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد، والأذى بالقذف(6/595)
دون ذلك، وقيل ينتقض، وحكاه أبو محمد في المقنع رواية، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي.
(والثالث) : ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب، وإن لم يشترط عليهم، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة، أو التجسس للكفار، أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء، ذكر هذه الشيخان وغيرهما، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء، وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح، أو الاجتماع على قتال المسلمين، ثم إن أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمدا وهو حسن، وأطلقه غيره، وقد جاء في القتل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وجاء في سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تقدم في قتل سابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3497 - وجاء في قتل من تجسس ما روي «عن فرات بن حيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحليفه(6/596)
من الأنصار، فقال: إني مسلم. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إنه مسلم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان» . رواه أحمد وأبو داود، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي.
3498 - وجاء في الزنا ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم. وأمر به فصلب في بيت المقدس. وبقية الصور في معنى ذلك، وحكى كثير من أصحاب القاضي، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم، على رأي الخرقي، وقال أبو البركات: إنهم خرجوها من نصه في القذف، واختار هو التفرقة، وتقرير النصوص على بابها.(6/597)
(الرابع) : ما عدا ذلك من عدم إظهار المنكر، وعدم رفع صوتهم بكتابهم، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة، فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم، وأما إن شرط عليهم فقولان، اختار الخرقي النقض كما تقدم، واختيار الأكثرين عدمه.
وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر، قال أبو محمد: وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله، وحيث انتقض العهد به فإن كان بسب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعين قتله كما تقدم، وإن أسلم على المذهب، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله، وهو المنصوص، وظاهر قصة فرات بن حيان، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير الحربي، وهو اختيار القاضي.
ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله، على ما قاله الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام، واختيار أبي البركات فيكون فيئا، لأن المال لا حرمة له في نفسه، إنما هو تابع لمالكه حقيقة، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذلك في ماله. (وقال أبو بكر) : لا ينتقض العهد في ماله، كما لا ينتقض في نسائه وذريته، على ما تقدم، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، فإن لم يكن له وارث فهو فيء.(6/598)
قال: ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضا للعهد عاد حربا لنا.
ش: يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي، فيخير الإمام فيه إذا قدر عليه كالأسير الحربي، وينتقض عهد ماله إعمالا لحكم الدار، ولا خلاف فيما أعلمه في التخيير، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد تقدم أنه يعطاه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، ولو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يوقف ماله، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقا ففي كونه فيئا أو لورثته لو كان حرا وجهان، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/599)
[كتاب الصيد والذبائح]
ش: الصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدا فهو صائد، ثم أطلق على المصيد، تسمية للمفعول بالمصدر، قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . والصيد: قال ابن أبي الفتح: ما كان ممتنعا حلالا لا مالك له. والأجود قول بعضهم: ما كان متوحشا طبعا، غير مقدور عليه، مأكولا بنوعه.
والأصل في إباحته في الجملة الإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الآية. وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] ، الآية. وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . ومن السنة فكثير، وسيأتي طرف من ذلك إن شاء الله تعالى.
[شروط الصيد بالحيوان]
قال: ومن سمى فأرسل كلبه أو فهده المعلم، فاصطاد وقتل ولم يأكل منه، جاز أكله.(6/600)
ش: وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، أي: أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح، وقرينة ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، ولو لم يقدر ذلك لزم أن يحل ما علمنا من الجوارح كالكلب ونحوه، ولا قائل بذلك، إذ القائل بحل الكلب لا يخصه بالمعلم.
3499 - وقد «روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي غير معلم، فما يصلح لي؟ فقال: «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» » .
3500 - «وعن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قلت يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي، وأذكر اسم(6/601)
الله؛ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . متفق عليهما.
إذا تقرر هذا فيشترط لإباحة الصيد شروط.
(أحدها) : التسمية عند إرسال الجارح، على المشهور والمختار للأصحاب من الروايات، لما تقدم من الآية الكريمة، ولقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، الآية، أمر سبحانه بالتسمية ونهى عن أكل ما لم يسم عليه، والأمر ظاهر في الوجوب، كما أن النهي ظاهر في التحريم، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حل الأكل على التسمية، فقال: «وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل» . وفي رواية في الصحيح: «واذكر اسم الله» ، بصيغة الأمر.
(والرواية الثانية) : لا تشترط التسمية(6/602)
مطلقا [وإنما تسن، حملا لهذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب، وهو لا يخلو حال المسلم عنه] وفي لفظ في الصحيح أيضا «في حديث عدي: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وهو لا يخلو حال المسلم عنه، إذ معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه، وأصل ذلك أن الذكر هو التنبه بالقلب للمذكور. ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] .
3501 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» . ثم يسمى القول الدال على الذكر ذكرا.
3502 - وقد روى أبو داود في المراسيل، وأسنده الدارقطني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .
3503 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن نسي التسمية،(6/603)
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسم الله على فم كل مسلم» . رواه الدارقطني. وقد قال الزجاج في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، أي: ما لم يخلصوا ذبحه لله ونحوه. قال أحمد: في معنى الميتة.(6/604)
وقيل: إن الآية المراد بها ذبائح المشركين. وعلى هذه الرواية تسن خروجا من الخلاف.
(والرواية الثالثة) : تشترط في العمد، ولا تشترط في السهو.
3504 -[لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . الحديث.
ولا نزاع أن المذهب هو الأول، وحمل التسمية على ذكر الله بالقلب خلاف ظاهر اللفظ، ثم لا تخصيص للصيد بذلك إذ جميع ما يفعله المكلف يجب أن يذكر اسم الله تعالى فيه بأن يفعله على الوجه الذي ذكره سبحانه. ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» ، ظاهر في إبطال هذا التأويل، وحديثا: «ذبيحة المسلم حلال» ، «واسم الله على فم كل مسلم» ، ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث، والعفو في النسيان عن الإثم، ثم قصارى النسيان أن يجعل الموجود كالمعدوم، كالأكل في الصوم، والكلام في الصلاة، ونحو ذلك، لا أنه يجعل المعدوم كالموجود، بدليل أن من نسي الطهارة أو الستارة ونحوهما(6/605)
لا تصح صلاته، وقد خطأ الخلال حنبلا في التفرقة هنا بين العمد والسهو، وقال: إن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل.
إذا تقرر هذا فصفة التسمية المعتبر: (بسم الله) .
3505 - وقد «ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» ، فإن كبر أو هلل، أو سبح بدلا عنها لم يجزئه. نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في التكبير والتحميد، نظر إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك بقوله: «بسم الله» ، فيقتصر عليه، وللشيخين احتمال بالإجزاء، لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله، فيدخل في الآية والحديث.
ولا نزاع أنه لو قال: اللهم اغفر لي، أنه لا يجزئه، إذ ذلك طلب حاجة، ولو سمى بغير العربية وهو يحسنها فقولان، نظرا إلى ما تقدم من أن المقصود المعنى أو اللفظ، وأبو محمد جزم هنا بالجواز، وهو موافق لاحتماله ثم، والقاضي بالمنع، وقال: إنه المنصوص،(6/606)
وأظنه أراد رواية أبي طالب.
ومحل التسمية عند الإرسال، لأنه الفعل الموجود من المرسل، فاعتبرت التسمية عنده، كما تعتبر عند الذبح من الذابح، ولا يضر التقديم اليسير كالنية في العبادات، وكذلك التأخير اليسير على إطلاق أحمد، قال: إذا أرسل ثم سمى فانزجر، أو أرسل فسمى. فالمعنى قريب من السواء، وصرح بذلك أبو بكر في التنبيه، وكذلك في التأخر الكثير، بشرط أن يزجره فينزجر، كما دل عليه كلام أحمد، وقاله أبو محمد والشيرازي، نظرا إلى أن الإرسال بدون تسمية وجوده كعدمه، لفقدان شرطه، فتعلق الحكم بالزجر، ومنع ذلك القاضي، نظرا إلى أن الحكم تعلق بالإرسال الأول.
(تنبيه) : عموم كلام الخرقي يشمل الكتابي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لإطلاق: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . ولعله الحكمة في عدم التصريح بالفاعل، وقياسا على المسلم.
(والرواية الثانية) :(6/607)
لا تشترط التسمية في حق الكتابي، بخلاف المسلم، لإطلاق: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
3506 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أي: ذبائحهم. وهي من آخر ما نزل، ونصوص السنة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، الخطاب فيه للمسلم.
(الشرط الثاني) : أن يرسل الجارح قاصدا للصيد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ، فعلق الحل على ذكر اسم الله مع إرسال كلبه المعلم. (وأفعل) فعل الفاعل، فلا بد أن يوجد منه فعل، وعلى هذا لو استرسل الكلب أو الفهد بنفسه لم يبح، نعم لو استرسل بنفسه فزجره فزاد في طلب الصيد فإنه يباح، لأن زجره لما أثر في عدوه صار بمنزلة إرساله له، إذ فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره أنيط الحكم بالإنسان، بدليل ما لو صال كلب على آدمي فأغراه آخر تعلق الضمان عليه به. (ويحتمل) كلام الخرقي المنع، لأنه إنما علق الحكم بالإرسال.
(الشرط الثالث) : أن يكون الجارح معلما بلا نزاع، للآية الكريمة، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رضي الله(6/608)
عنهما - وتعليم ذي الناب كالكلب والفهد بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، بلا نزاع، وبأنه إذا أمسك لم يأكل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . والإمساك علينا بأنه لا يأكل إذا أمسك، ولهذا «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عدي في الصحيح: «فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه» » ، وفي رواية: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» ، فدل على أن إمساكه علينا علامته ترك الأكل.
3507 - وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه» » ، رواه أحمد.
3508 - ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود وغيره في حديث أبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك - ينظر هل فيه (المعلم) - وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» ، لترجح ما تقدم بكثرة رواته(6/609)
وصحته، ثم هو محمول على كلب معلم أكل بعد تعليمه، ومن ثم اختلف عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أكل منه الصائد بعد تعليمه هل يحرم؟ على روايتين، (إحداهما) - وهو المذهب -: يحرم، تقديما لحديث عدي لصحته، قال أحمد: حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال في حديث أبي ثعلبة: يختلفون عن هشيم فيه؛ ولاعتضاده بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] .
(والثانية) : لا يحرم، لحديث أبي ثعلبة، جمعا بين الدليلين كما تقدم، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع بأن حمل حديث عدي على الكراهة.
3509 - فقال: الرخصة في الكلب يأكل من صيده أربعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما حديث عدي في الكراهة. قلت: ويخرج لنا من هذا أنه لا يعتبر ترك الأكل في التعليم رأسا، إذ العمدة في ذلك حديث عدي، وقد حمله الإمام على الكراهة، وقد يقال: العمدة الآية،(6/610)
ويرجح حمل حديث عدي على الكراهة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه في الصحيح: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» » ، فعلله بالخوف.
ويرشح ذلك بأن عديا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما كان موسعا عليه أفتاه بالكف ورعا، بخلاف أبي ثعلبة.
إذا تقرر هذا فهل يعتبر فيما ذكرناه من التعليم التكرار، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعا؟ وهو قول القاضي، واختيار أبي محمد في المغني وغيرهما، أو لا يعتبر التكرار، بل يكتفى بأول مرة، وبه قطع أبو الخطاب في كتابيه، والشريف وأبو محمد في المقنع، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه تعليم صناعة، فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع؟ على قولين، (وعلى الأول) هل المرجع في ذلك إلى العرف من غير تقدير بمرة أو مرات، لعدم التقدير من الشارع، وهو قول ابن البنا في الخصال، أو يعتبر أن يتكرر ذلك منه مرتين، فيباح صيده في الثالثة، أو ثلاثة مرات فيباح صيده في الرابعة، وهو قول القاضي، ولعل أصل القولين الروايتان في التكرار في الحيض؟ على ثلاثة أقوال.(6/611)
(تنبيه) : الانزجار بالزجر يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال.
(الشرط الرابع) : أن يكون الإرسال على صيد، فإن أرسل وهو لا يرى شيئا فأصاب صيدا لم يبح، إذ الإرسال جعل بمنزلة الذكاة، ولو نصب سكينا لا لقصد الصيد، فانذبحت بها شاة لم تبح، كذلك ها هنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الشرط مزيد تمام عند قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره، ومن ثم يؤخذ هذا.
(الشرط الخامس) أن يكون الصائد من أهل الذكاة، فإن كان وثنيا أو مرتدا، أو من غير المسلمين وأهل الكتاب، أو مجنونا ونحو ذلك لم يبح صيده، إذ الاصطياد أقيم مقام الذكاة، والصائد بمنزلة المذكي، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أخذ الكلب ذكاته» ، وإذا تشترط الأهلية في المذكي، وهذا الشرط يؤخذ من قول الخرقي: ولا يؤكل صيد مرتد. وبقية الشروط أخذها من كلامه واضح.
واختلف في شرطين آخرين:
(أحدهما) : هل يعتبر في الجارح المعلم أن لا يأكل من الصيد؟ وقد تقدم فيه روايتان، وتقدم أن المذهب اعتبار ذلك، وهو الذي ذكره الخرقي، وعليه لو شرب من دمه ولم يأكل فإنه لا يحرم، إذ المنع إنما ورد في أكل ما أكل منه الكلب، فيبقى فيما عداه على مقتضى عموم الآية والخبر.
(والثاني) : هل يعتبر في الجارح أن يجرح الصيد، فلا يباح(6/612)
ما قتله بخنقه أو صدمته، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف، والشيرازي، وأبو محمد في المغني، أو لا يعتبر فيباح ذلك، وهو اختيار ابن حامد، وظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي في المجرد: إنه ظاهر كلام أحمد؟ على روايتين، مناطهما أن خنق الجارح أو صدمه هل هو بمنزلة قتل المعراض بعرضه أم لا؟
3510 - ويرشح الأول مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» . ويرشح الثاني قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . . متفق عليه، وهو يشمل القتل صدما أو خنقا. وأيضا فالجارح حيوان له اختيار ما، وقد أمسك على صاحبه، فيدخل تحت قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، بخلاف المعراض، فإنه لا يقال فيه: أمسك عليك.
قال: فإن أكل الكلب أو الفهد من الصيد لم يؤكل منه، لأن أمسكه على نفسه، فبطل أن يكون معلما.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، وقد نبه الخرقي على علتها، وهو كونه أمسكه على نفسه، ثم قوله: بطل أن يكون(6/613)
معلما. ظاهر أنه يصير كالمبتدئ تعليمه، فيعتبر له شروط التعليم ابتداء، وظاهر كلام أحمد - وهو اختيار أبي محمد - عدم ذلك، لاحتمال أن يكون ذلك لفرط جوع أو نحو ذلك.
قال: وإذا أرسل البازي أو ما أشبهه فاصطاد وقتل أكل، وإن أكل من الصيد، لأن تعليمه بأن يأكل.
ش: مذهب أحمد - رحمه لله - أنه لا يقتصر على الكلب في الصيد، بل يلحق به ما في معناه مما يقبل التعليم ويصطاد به من سباع البهائم كالفهد، كما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنمر كما ذكر بعضهم، أو جوارح الطير كالبازي والصقر ونحوهما، نظرا للمعنى، إذ ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا، فلا فارق في المعنى، وهذا هو القياس في معنى الأصل.
3511 - ولما روي «عن عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» . قلت: وإن قتل. قال: «وإن قتل ولم يأكل منه شيئا، فإنما أمسك عليك» .» رواه الإمام أحمد وأبو داود، ثم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الجوارح يشمل الجميع، إذ الجوارح الكواسب، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] ، أي:(6/614)
كسبتم، وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] ، وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، أي: مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، فالتكليب: التضرية. وقال أبو محمد: التكليب: الإغراء.
إذا تقرر هذا فلا بد في الجميع من التعليم بلا ريب، فتعليم الفهد ونحوه من سباع البهائم كما تقدم في الكلب، وأما جوارح الطير فبأن ينزجر إذا زجر، ويجيب إذا دعي، ولا يعتبر ترك الأكل، فيخالف الكلب من هذه الحيثية. وقد أشار الخرقي إلى الفرق، وهو أن تعليم الجوارح بالأكل، ويتعذر - تعليمها بدونه، بخلاف الكلب ونحوه.
3512 - وهذا يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل الصيد، وإذا أكل الصقر فكل، لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر. رواه الخلال.
فإن قيل: فحديث عدي صريح في التسوية بين الكلب والبازي؟ قيل: هو كذلك، لكنه من رواية مجالد وهو ضعيف عندهم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تصير القصة واحدة، كم من أعجوبة لمجالد! والرواية(6/615)
الصحيحة تخالفه، اهـ، والله أعلم.
[حكم الصيد بالكلب الأسود]
قال: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما، لأنه شيطان.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى دليله وهو أنه شيطان، والشيطان آلة محرمة، وإباحة الصيد المقتول رخصة، والرخصة لا تباح بمحرم.
3513 - ودليل كونه شيطانا ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين، فإنه شيطان» » . رواه أحمد ومسلم.
3514 - وعن عبد الله بن مغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم» . رواه الخمسة وصححه الترمذي، ثم إنه مأمور بقتله، وإذا يحرم(6/616)
اقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده كغير المعلم، وقد قال أحمد: لا أعلم أحدا يرخص فيه. يعني: من السلف.
(تنبيه) : البهيم: الذي لا يخالطه لون آخر، قال ثعلب وإبراهيم الحربي: كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم. قيل لهما: من كل لون؟ قالا: نعم. فإن كان فيه نكتتان فوق عينيه فهل يخرج بذلك عن كونه بهيما؟ فيه روايتان أصحهما - وبه قطع أبو محمد - لا، للخبر.
[حكم أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات]
قال: وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل.
ش: الذي تقدم للخرقي فيما إذا قتل الجارح الصيد، وأما إذا لم يقتله وأدركه الصائد حيا فلا يخلو إما أن يكون فيه حياة مستقرة أم لا، فإن لم يكن بل كانت كحياة المذبوح فإنه يحل بلا ريب، إذ ذلك مذكى، أو بمنزلة المذكى، فالذكاة لا تفيد فيه شيئا. وإن كانت فيه حياة مستقرة فلا يخلو إما أن يتسع الزمان لذكاته أم لا، فإن لم يتسع فهو كالأول، لأنه لم يقدر على ذكاته بوجه، أشبه الذي قبله، وفي حديث أبي ثعلبة: «فأدركت ذكاته فكل» » ، أي: فذكه وكل، وهذا لم يدرك ذكاته، فلم يدخل تحت الأمر بالذكاة، وإن اتسع الزمان لذكاته لم يحل إلا بها، لأنه حيوان مقدور عليه، أشبه ما لو لم يصده، وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/617)
في حديث عدي: «فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . واعلم أن هذا التقسيم تبعت فيه أبا محمد، وقد يقال: إن القسم الأول لا يدخل تحت التقسيم، إذ ما حركته كحركة المذبوح هو بإطلاق المذكى عليه أولى من إطلاق الحي، وعلى هذا لا يدخل هذا القسم تحت كلام الخرقي، نعم كلامه يشمل القسمين الأخيرين، وهذا ظاهر حديث عدي.
قال: فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل.
ش: هذا إحدى الروايات عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، لأنه صيد قتله الجارح، من غير إمكان ذكاته فيباح، كما لو أدركه ميتا يحققه أن قتل الجارح الصيد، إنما جعل ذكاة له رخصة لتعذر تذكيته، وهذا قد تعذرت تذكيته.
ومقتضى هذه الرواية أنه لو مات من غير إشلاء لم يحل وإن كان عن قرب، وهو اختيار أبي محمد وأبي الخطاب، لأنه حيوان مقدور عليه أشبه ما لو وجد آله.
(والرواية الثاني) : عكس هذه الرواية، يحل بالموت من الجرح عن قرب الزمان، دون إشلاء الصائد، اختاره القاضي أظنه في المجرد، إذ ما قارب الشيء بمنزلته، ولو كان الزمان لا يتسع للذكاة(6/618)
أبيح، فكذلك ما قاربه، وأما قتل الجارح فإنما يؤثر في غير المقدور عليه، وهذا مقدور عليه.
(والرواية الثالثة) : يحل بهما بإشلاء الجارح، أو الموت عن قرب الزمان لما تقدم.
(والرواية الرابعة) - وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل في التذكرة -: لا يحل مطلقا، وهو الراجح، لظاهر حديثي عدي وأبي ثعلبة، فإنهما ظاهران في وجوب تذكية ما أدركه حيا، ولأنه مقدور عليه، فأشبه بهيمة الأنعام، وقرب الزمان فسره أبو البركات بأن لا يمضي عليه معظم يوم.
ومحل الخلاف إذا لم يوجد ما يذكيه به، كما ذكره الخرقي، وفي معناه إذا كان يمكنه الذهاب به إلى منزله فيذكيه ونحو ذلك، فإنه لا يحل إلا بالذكاة.
(تنبيه) : «أشلى» ، بمعنى: دعى، يقال: أشليت الكلب: إذا دعوته إليك، والعامة تقول: أشليته: إذا حرضته على الصيد وأغريته به، وإنما يقال في ذلك: أشرته على الصيد، فعلى هذا يحمل كلام الخرقي على أنه دعاه ثم أرسله، لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه، مع أن بعضهم أجاز أشلى بمعنى أغرى.(6/619)
قال: وإذا أرسل كلبه فأصاب معه غيره لم يأكل الصيد إلا أن يدركه في الحياة فيذكيه.
ش: أما إذا أدركه في الحياة وذكاه فواضح، وأما إذا لم يدركه في الحياة، والحال ما تقدم فإنما لم يحل لأن في حديث عدي: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . وفي رواية: «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل» . وفي رواية: «قلت: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر، فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وفي رواية: «فإن وجدت عنده كلب آخر، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتلنه فلا تأكل، فإنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكر على غيره» . روى الجميع مسلم.
وقد علم من تعليل هذه الروايات - وعليه يحمل كلام الخرقي - أن هذا الحكم في كل كلب جهل حاله؛ هل سمي عليه أو لم يسم؟ وهل استرسل بنفسه أو أرسله صاحبه؟ أو جهل حال مرسله؛ هل هو من أهل الذكاة أم لا؟ ولا يعلم أيهما قتله، أو يعلم أنهما قتلاه معا، وكذلك بطريق الأولى إن علم أن المجهول هو القاتل، أما إن علم حال الكلب الذي وجده مع كلبه، وأن الشرائط المعتبرة قد وجدت فيه، فإنه(6/620)
يحل، ثم إن كان الكلبان قد قتلاه معا فهو لصاحبيهما، وإن علم أن أحدهما قتله فهو لصاحبه، وإن جهل الحال فإن كان الكلبان متعلقين به فهو بينهما، كما لو كان الصيد في يد عبديهما، وإن كان أحدهما متعلقا به دون الآخر، فهو لمن كلبه متعلق به، إذ هو بمنزلة يده، وعلى من حكم له به اليمين كصاحب اليد.
وإن كان الكلبان ناحية والصيد قتيل، فقال أبو محمد: يقف الأمر حتى يصطلحا، وحكى احتمالا بالقرعة، فمن قرع حلف وأخذ، وهذا قياس المذهب فيما إذا، تداعيا عينا ليست بيد أحد، وعلى الأول إن خيف فساده بيع واصطلحا على ثمنه، والله أعلم.
قال: وإذا سمى ورمى صيدا فأصاب غيره جاز أكله.
ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، وحديث عدي وغيره، ولأنه أرسل آلة الصيد قاصدا للصيد، فحل ما صاده، كما لو أرسلها على كبار، فتفرقت عن صغار، فأخذها على مالك، أو كما لو أخذ صيدا لا يحل في طريقه على الشافعي.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا أنه لا يحل، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أرسلت كلبك» ، معناه: إلى صيد، وهنا لم يرسل إلى صيد. ولأبي محمد في الكافي احتمال بالحل، كما لو أرسل على صيد فأصاب(6/621)
غيره، وعموم مفهوم كلام الخرقي يشمل ما إذا قصد غير صيدا قصدا محققا، كأن قصد حجرا أو هدفا أو إنسانا فأصاب صيدا، أو مظنونا كأن رأى سوادا أو خشبا فظنه آدميا، فرماه فإذا هو صيد، وما إذا رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا. وقول الخرقي: ورمى صيدا، يحتمل أن يريد ما يظنه صيدا، إذ الأحكام تنبني على غلبة الظن، فيدخل في ذلك ما إذا رأى سوادا فظنه صيدا، فوجده كذلك، وما إذا رمى حجرا يظنه صيدا فأصاب صيدا، وهو أحد الوجهين، ويحتمل أن يريد: رمى صيدا محققا، فيخرج هاتين الصورتين، لكن صورة السواد لم نر فيها خلاقا.
وقد علم من كلام الخرقي جواز الصيد بالسهام، ويلحق بها ما في معناها من المحددات، ولا نزاع في ذلك، وفي الصحيح في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله» ، وفي حديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل» » .
قال: وإذا رماه فغاب عن عينيه، فأصابه ميتا وسهمه فيه، ولا أثر به غيره، جاز أكله.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، واختيار الخرقي(6/622)
والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد وغيرهم.
3515 - لأن في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه مسلم وغيره، وفي رواية: «إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس فيه إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل» . رواه البخاري.
3516 - وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا رميت بسهمك فغاب عنك فكل ما لم ينتن» . وفي رواية، «في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: فكله ما لم ينتن» . رواهما مسلم وغيره.
(والرواية الثانية) : إن غاب نهارا فلا بأس، وإن غاب ليلا لم يأكله، قال في رواية ابن منصور: إذا غاب الصيد فلا تأكله إذا كان ليلا، وإذا كان نهارا ولم ير به أثرا غيره يأكله.
3517 - لما يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا رميت فأقعصت فكل، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من(6/623)
يومك أو ليلتك فكل، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعدك.
(والرواية الثالثة) إن كان جرحه موحيا حل وإن فلا، لأن مع الإيحاء يبعد تأثير المشاركة، بخلاف ما إذا لم يوح.
3518 - وفي بعض روايات «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت: أرضنا أرض صيد، فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين، فيجد فيه سهمه؟ قال: «إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثرا غيره، وعلمت أن سهمك قتله فكله» . رواه أحمد والنسائي، «وفي رواية أخرى قلت: يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكله» . رواه الترمذي وصححه. فوقف(6/624)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحل على العلم بكون سهمه قتله، ولا نعلم ذلك إلا إذا كان الجرح موحيا.
(والرواية الرابعة) : إن غاب مدة طويلة لم يبح، وإن كانت يسيرة أبيح، قيل له: إن غاب يوما؟ قال: يوم كثير. ذكرها أبو محمد، ولم يذكرها عامة الأصحاب، كأنهم حملوها على الرواية الثانية.
وعن أحمد (رواية خامسة) : كراهية ما غاب مطلقا.
3519 - ويروى نحوه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خروجا من الخلاف. والمذهب هو الأول بلا ريب. وأرجح الروايات بعده رواية التفرقة بين الإيحاء وعدمه، بناء على الزيادة المذكورة في حديث عدي، وقد تقدم أن الترمذي صحح ذلك، والزيادة من الثقة مقبولة، ويجاب عن ذلك بأن رواية الصحيحين وغيرهما تخالف ذلك، أو يحمل العلم بالقتل على الظن، وإذا وجد فيه سهمه أو أثره فقد ظن أن سهمه قتله، وإذا تتفق الروايات.
واعلم أن علم المذهب يشترط للحل شرطان: (أحدهما) أن يجد فيه سهمه، ليتحقق وجود السبب المقتضي للحل، إذ الأصل عدم ما سواه، ويقوم مقام وجود سهمه وجود أثره، قاله الشيخان وغيرهما، لما تقدم(6/625)
في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ليس به إلا أثر سهمك فكل» . وفي رواية: «فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» . وظاهر ذلك الاكتفاء بأثر السهم. وكلام الخرقي وطائفة من الأصحاب يوهم اشتراط وجود سهمه فيه، وسؤال أحمد وقع عمن عرف سهمه فيه أيأكله؟ قال: نعم.
ولو لم يجد سهمه فيه ولا أثره، كأن غاب الصيد قبل تحقق الإصابة، ثم وجده عقيرا، والسهم ناحية، فإنه لا يباح، لأن السبب المقتضي للحل لم يعلم، والأصل التحريم.
(الشرط الثاني) : أن لا يجد به أثرا آخر يحتمل أنه أعان في قتله، لما تقدم في الحديث، وذلك لأنه والحال هذه قد تحقق المعارض، والأصل التحريم، فلم يبح بالشك، ولو كان الأثر مما لا يحتمل القتل به كالسنور ونحوه لم يؤثر، إذا المعارض والحال هذه وجوده كعدمه.
وفي الصحيحين في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإن وجدته قد قتل فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذ كان الأثر مما لا يحتمل إعانته في القتل فقد روي أنه ليس بقاتل فلا شك.
(تنبيهان) «أحدهما» : حكم الكلب إذا عقر ثم غاب حكم السهم، على ما تقدم من الخلاف إن لم يجد الصيد(6/626)
في فمه، فأما إن وجده في فم الكلب، أو وهو يعبث به، فإنه يحل بلا خلاف، على ما حكى أبو البركات.
(الثاني) : «ينتن» ، رباعي مضموم الأول، من: أنتن الشيء: إذا تغيرت رائحته، وقال بعض اللغويين: يقال: أنتن اللحم: إذا تغير بعد طبخه. وقيل: وأصله إذا تغير وهو نيئ. وهذا الحديث يرد ما قاله، بل يقال: أنتن اللحم نيئا أو مطبوخا.
[الحكم لو رمى الصيد فوقع في ماء أو تردى من جبل]
قال: وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل.
ش: هذا يشمل ما إذا كانت الجراحة موحية، كما إذا ذبحه، أو أخرجت حشوته ونحو ذلك، وما إذا لم تكن موحية، ولا خلاف في التحريم إذا لم تكن موحية، للشك في السبب المقتضي للحل، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته قد قتله فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . متفق عليه.
وأما إذا كانت موحية (فعنه) - وقال أبو محمد: إنه المشهور عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر، وبه جزم الشيرازي - التحريم أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه(6/627)
مسلم، وفي البخاري: «وإن وقع في الماء فلا تأكل» .
(وعنه) - وهو الصواب، وقال أبو محمد: إنه اختيار أكثر المتأخرين -: لا يحرم، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذا كان الجرح موحيا فقد علم أن سهمه قتله فلا تردد، ومحل الخلاف فيما إذا كان الماء أو التردي يقتله، مثله، فلو لم يكن يقتله مثله، كما إذا كان رأس الحيوان خارجا من الماء، أو كان مما لا يموت بالماء كطير الماء، فإنه لا خلاف في إباحته، قاله أبو محمد، إذ لا شك إذا في أن الماء لم يقتله. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» .
(تنبيه) : لو رمى طائرا في الهواء، أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل، قاله أبو محمد، ولم يذكر خلافا، لعدم إمكان التحرز من ذلك، ومسألة الخرقي فيما إذا رمى الصيد فوقع على جبل، ثم تردى منه، أو على شجرة ثم تردى منها، والله أعلم.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكل ذلك حلال.(6/628)
ش: قد تقدم نحو هذه المسألة في قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره. إلا أن ثم أصاب غير الصيد الذي قصده، وهنا أصابه مع غيره، وهو أولى بالجواز مما ثم، والله أعلم.
[الحكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا]
قال: وإذا رمى صيدا فأبان منه عضوا لم يأكل ما أبان منه، وأكل ما سواه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: يأكله وما أبان منه.
ش: محل هذا الخلاف فيما إذا أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة غير مستقرة، وقد أشار الخرقي إلى ذلك بقوله: وأكل ما سواه. وإنما يأكل ما سواه إذا مات في الحال، وذلك إذا كانت الحياة فيه غير مستقرة، أما لو ضربه فقطع رأسه، أو قطعه نصفين، فإن هذا يحل بلا نزاع، إذ هذا ذكاة، ولو أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة معتبرة فإنه لا يحل ما بان منه بلا نزاع.
3520 - لانطباق قوله: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أبين من حي فهو ميت» ، عليه، اللهم إلا أن يكون مما يحل ميتته(6/629)
كالسمك والجراد، فإنه يحل ما بان منه، إذ غاية المبان أنه ميتة، وميتة هذا حلال.
إذا تقرر هذا (فوجه الرواية الأولى) قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» . وهذا يصدق عليه أنه أبين من حي فيكون ميتا، (ووجه الثانية) - وهي المشهورة، والمختارة لعامة الأصحاب، أبي بكر والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابن عقيل وابن البنا - أن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجمعيه.
والخبر نقول بموجبه، إذ هذا ما أبين من حي، إنما أبين ممن هو في حكم الميت، وقد أشار أحمد إلى ذلك فقال: إنما حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما قطعت من الحي ميتة» ، إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب، أما إذا كانت البينونة والموت جميعا، أو بعده بقليل فلا بأس به، ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة، وربما مشى حتى يموت، اهـ.
وقول الخرقي: أبان منه عضوا، ظاهره أنه لو بقي معلقا بجلده حل بحل الصيد بلا خلاف، وهو كذلك، صرح به أبو الخطاب، وغيره، والله أعلم.
[نصب المناجل للصيد]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك إذا نصب المناجل للصيد.(6/630)
ش: يعني أنه يباح الصيد المقتول بها، وأن ما أبين منه هل يحل أم لا؟ على الخلاف والتفصيل السابق.
3521 - وذلك لدخوله في عموم: «كل ما ردت عليك يدك» ، ولأنه قتل الصيد بحديدة، على الوجه المعتاد، أشبه ما لو رماه بها، وحكم السكاكين حكم المناجل، ولا بد أن يلحظ أن شرائط الصيد موجودة في الناصب، كأن يكون أهلا للذكاة ويسمي.
بقي: هل يشترط أن يرى الصيد كما في السهم والكلب؟ لم أر من صرح بذلك، بل ربما كلامهم يوهم عدم ذلك، والله أعلم.
[حكم الصيد بالمعراض]
قال: وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده، ولم يأكل ما قتل بعرضه.
ش: في الصحيح من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(6/631)
قال: فقلت له: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . وفي لفظ: «إذا أصابه بحده فكل، وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله» » .
(تنبيهان) : أحدهما: المعراض: خشبة ثقيلة، أو عصا غليظة، في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، غير أنها يحدد طرفها. وقال أبو عبيد: هو سهم لا ريش فيه ولا نصل. والتفسير الأول أليق بالحديث، وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد، وإن قتلت بحدها أبيح، إلا أن لا تجرح.
3522 - وفي المسند من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: «يحل لكم ما ذكرتم اسم الله عليه، وخزقتم، فكلوا منه» » .
(الثاني) : «الوقيذ» : فعيل بمعنى مفعول، أي: الموقوذ، وهو: المضروب بالعصا حتى يموت، وبه فسر قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، والله أعلم.(6/632)
قال: وإذا رمى صيدا فعقره، ورماه آخر فأثبته، ورماه آخر فقتله، لم يؤكل.
ش: أما عقر الأول فلم يؤثر في الصيد ملكا لعدم إثباته له، وأما رمي الثاني فإنه ملكه بإثباته، لأنه أزال امتناعه، وإذا تتعين ذكاته للقدرة عليه، فلما رماه الثالث فقتله لم يؤكل، لأن ذكاته بذبحه أو نحره، ولم يوجد واحد منهما.
وكلام الخرقي محمول على أن من أثبته لم يوحه، ولذلك نسب القتل إلى الثالث، وعلى أن الثالث لم يذبحه، ولذلك أتى بلفظ القتل في حقه، أما إن كان المثبت له جرحه موحيا، وجرح الثالث غير موح فإنه يحل بلا ريب، لأنه قد صار بالجرح الأول في حكم المذبوح، فلم يؤثر الثاني شيئا، وكذلك إن كان جرح الثالث موحيا لذلك.
وخرج التحريم من قول الخرقي فيمن ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. وقوله أيضا - فيما إذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل - لم يؤكل، وأما إن كان الثالث أصاب مذبحه فإنه يحل، لمصادفته محل الذبح، نعم إن قيل أن من ذبح ملك الغير لا يحل، فكذلك ها هنا.
قال: وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على من قتله.
ش: قد علم من هذا أن العاقر له لا شيء له، لأنه لم يثبت له فيه حق، لبقائه على امتناعه، ولا عليه، لأنه حين(6/633)
ضربه كان مباحا، أما من أثبته فله القيمة على قاتله، لأنه ملكه بالإثبات لإزالته امتناعه، فالثالث قتل حيوانا مملوكا لغيره، فيكون عليه الضمان.
وقد تقدم أن مسألة الخرقي فيما إذا كان المثبت له لم يوحه، وأن القاتل لم يذبحه. ولنبين ذلك إن شاء الله تعالى بيانا شافيا فنقول: المثبت إن أوحاه فلا شيء على الثالث إلا قيمة ما خرق من جلده، لأنه هو الذي فوته على المثبت، وإن كان المثبت لم يوحه فلا يخلو، إما أن يكون الثالث ذبحه برميته أو لا.
فإن كان قد ذبحه بها فقال الشيخان في مختصريهما: لا شيء عليه أيضا إلا قيمة ما خرق من جلده. وقال في المغني: عليه أرش ذبحه، كما لو ذبح شاة لغيره، وهذا أصوب في النظر، فإن الفرض أن المثبت لم يوحه، فلو ترك لعاش، فالثالث فوت حياته، فيكون عليه أرش ذلك، وهو تفاوت ما بين قيمته مجروحا حيا بالجرح الأول، وبين قيمته مذبوحا.
وإن لم يكن ذبحه برميته فلا يخلو إما أن يوحيه برميته أو لا، فإن أوحاه ضمن جميعه، لأنه حرمه على مالكه، وحال بينه وبينه، وكذلك إن لم يوحه ولم يدرك مالكه ذكاته، أما إن أدرك مالكه ذكاته وذبحه أو تركه فعاش فلا شيء عليه الثالث إلا أرش جرحه.
وإن تركه بلا ذكاة حتى مات بالجرح. (فقيل) : إن الثالث يضمن جميعه أيضا، نظرا إلى أنه مات من جرحين(6/634)
مباح ومحرم، فاختص الضمان بالمحرم. (وقيل) - وهو قول القاضي -: يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرحين، مع أرش ما نقصه بجرحه، لأنه مات من الجرحين، ومالكه لما ترك ذكاته اختار موته، فتعلق الضمان بجرحه، ثم يجب على الثالث مع نصف القيمة أرش ما نقصه بجرحه، لانفراده إذا بالتعدي.
(وقيل) - وهو اختيار أبي البركات - إن الثالث إنما يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول لا غير، ويدخل أرش الجرح في بدل النفس، كما في الجناية على الآدمي، والله أعلم.
قال: ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره، فهي له دون صاحب السفينة.
ش: السمك من المباح، يملكه من سبق إليه، فإذا وقع في حجر إنسان فهو له، لثبوت يد الإنسان على ما في حجره، هذا اختيار الخرقي، وتبعه عليه أبو محمد وغيره. (وقيل) : هو قبل الأخذ على الإباحة، إذ حجره ملكه، فهو كما لو وقع في أرضه صيد. ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة لو وقعت في السفينة كانت لمالكها، وكذلك قال ابن أبي موسى، وقياس القول الآخر أنها تكون قبل الأخذ على الإباحة.
[حكم صيد السمك بالشيء النجس]
قال: ولا يصاد السمك بشيء نجس.
ش: كالميتة والعذرة ونحو ذلك، لما يتضمن من أكل(6/635)
السمك للنجاسة، وكره أحمد أيضا الصيد ببنات وردان معللا بأن مأواها الحشوش، وكذلك الصيد بالضفدع، معللا بالنهي عن قتله، وهذا المنع من الخرقي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، وهو المشهور، وكذلك كلام أحمد يحتمل وجهين، لأنه كره ذلك.
[ذبيحة المرتد وصيده]
قال: ولا تؤكل ذبيحة مرتد ولا صيده، وإن تدين بدين أهل الكتاب.
ش: لأنه كافر لا يقر على كفره، أشبه عبدة الأوثان وقوله: وإن تدين بدين أهل الكتاب، ينبه به على مذهب إسحاق والأوزاعي فإنهما أجازا ذبيحته إذا تدين بدين أهل الكتاب. وقوله: «ولا يؤكل صيد مرتد» ، أي: ما قتله من الصيد. أما ما لم يقتله وذكاه من هو من أهل الذكاة فلا إشكال في حله. والله أعلم.
[ترك التسمية على الصيد أو الذبيحة عمدا أو سهوا]
قال: ومن ترك التسمية على صيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الصيد بالكلب والسهم، وهو المذهب. (وعن(6/636)
أحمد) رواية أخرى يعفى عن تركها سهوا في السهم، إلحاقا له بالذبح، بخلاف الكلب، والله أعلم.
قال: ومن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم تؤكل، وإن تركها ساهيا أكلت.
ش: ملخص ذلك أن الخلاف الذي تقدم في الصيد مثله في الذبيحة، والتوجيه كالتوجيه، إلا أن الأصحاب لا يختلفون فيما علمت في اشتراط التسمية في الصيد مطلقا. ثم منهم من المذهب عنده في الذبيحة كذلك، كأبي الخطاب في خلافه. ومنهم - وهم العامة - من فرق بينهما. ثم منهم من قال بعدم الاشتراط في الذبيحة مطلقا وهو أبو بكر. ومنهم من قال بالاشتراط في العمدية دون حالة السهوية، وهم الأكثرون؛ الخرقي والقاضي في روايتيه، وأبو محمد وغيرهم.
ووجه الفرق أن الله تعالى أمرنا بالتسمية على الصيد بقوله:(6/637)
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] . وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي ثعلبة وعدي وغيرهما، والذبيحة لم يرد فيها ذلك، فالأصل عدم الاشتراط، مع أن عموم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]- والظاهر أنهم لا يسمون - يقتضي ذلك.
3523 - وقد جاء في حديث رواه ابن منصور في سننه، عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم» . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، وقد تقدم أن المراد بها الميتة وذبائح المشركين، وقيل: المراد بها ما تعمد ترك التسمية عليه، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . مع أنها متقدمة على قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، ويعضد هذا من جهة المعنى أن الذبح وقع في محله، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد.
(تنبيهان) : «أحدهما» : الجاهل بوجوب التسمية لا يعذر، بخلاف الناسي، ولذلك أفطر الجاهل بالأكل في الصوم(6/638)
دون الناسي.
«الثاني» : يشترط قصد التسمية على ما يذبحه، فلو سمى على شاة وأخذ غيرها فذبحها بتلك التسمية لم يجزئه، لعدم قصدها بالتسمية، وكذلك لو رأى قطيعا فسمى وأخذ منه شاة فذبحها بالتسمية الأولى لم يجزئه، ولا يشترط أن يقصد بالتسمية صيدا معينا، فلو سمى على صيد فأصاب غيره حل، دفعا للحرج والمشقة، نعم هل يشترط قصد الآلة بالتسمية، فلو سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى بالثاني من غير تسمية لم يجزئه، لأنه لما تعذر غالبا اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على آلته، أو لا يشترط كما في الذبيحة، فإنه لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها أجزأه؟ فيه قولان، والله أعلم.
قال: وإن ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه وقتله أكل.
3524 - ش: الأصل في ذلك ما «روى رافع بن خديج قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فند بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوه به هكذا» . رواه الجماعة، وزاد الحميدي: «وكلوه» .(6/639)
3525 - وعليه يحمل «حديث أبي العشراء، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: «لو طعنت في فخذها لأجزأك» . رواه الخمسة.
وقول الخرقي: ند بعير: تبع فيه واقعة الحديث، ويلحق به ما في معناه، ولهذا عمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحكم فقال: «إن لهذه البهائم» . وقوله: فلم يقدر عليه. هذه صورة المسألة، وإلا لو قدر عليه وجبت ذكاته، وقوله: فرماه بسهم أو نحوه، يحترز به عما لو رماه بما لا يجرحه فقتله فإنه لا يباح، كما إذا قتل بثقل المعراض، والله أعلم.(6/640)
قال: وكذلك إن تردى في بئر أو نحوه فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل.
ش: لأنه ساوى البعير إذا ند معنى، فساواه حكما إذ المعنى فيهما عدم القدرة على الذكاة الأصلية.
3526 - ويروى أن بعيرا تردى في بئر فذكي من قبل شاكلته، فبيع بعشرين درهما، فأخذ ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عشره بدرهمين، والله أعلم.
قال: إلا أن يكون رأسه في الماء فلا يجوز أكله، لأن الماء يعين على قتله.
ش: يعني أن المتردي في بئر أو نحوه إذا كان رأسه في الماء فلا يحل، لما علل به الخرقي من أن الماء قد أعان على قتله، وإذا حصل قتله بسبب مباح ومحرم فغلب جانب التحريم.
وأيضا من شرط الحل وجود الذكاة المعتبرة أو ما يقوم مقامها، وهنا لم يعلم وجود ذلك، وبهذا فارق إذا رمى الصيد فوقع في ماء وكان جرحه موحيا، لأن ثم قد علم وجود السبب، وشك في المانع.(6/641)
وقد علم من كلام الخرقي هنا بطريق التنبيه أن من شرط الماء ثم أن يعين على قتل الصيد.
[صيد الكتابي]
قال: والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء.
ش: يعني في الاصطياد، فيباح ما صادوه، خلافا لمالك في منعه في صيدهم، بخلاف ذبائحهم، والحجة عليه عموم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وفي أنه يشترط لصيدهم ما يشترط لصيد المسلمين، وكذلك يشترط لذبيحتهم التسمية حيث اشترطت في المسلمين، وقد تقدم.
وعن أحمد في هذه المسألة روايتان، ثم ظاهر كلام الخرقي أن حربي أهل الكتاب كذميهم، وقد قال أحمد في ذبائح أهل الحرب: لا بأس بها.
وحديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال: إسحاق أجاد. وحكى ابن المنذر(6/642)
إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وظاهر كلامه أيضا أن عربي أهل الكتاب كغيره، وهو إحدى الروايتين. واختيار أبي محمد، تمسكا بعموم الكتاب.
(والرواية الثانية) - وهي المختارة للقاضي وأصحابه - لا تباح ذبيحة نصارى العرب، ومنهم من يحكي الخلاف في بعض العرب، وقد تقدمت هذه المسألة في النكاح. وظاهر كلامه أيضا أن العبرة بالذابح لا بأبويه، إلا أنه قد نص في النكاح على أن من أحد أبويه غير كتابي لا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح نساؤه، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم.
[حكم أكل ما قتل بالبندق والحجر]
قال: ولا يأكل ما قتل بالبندق ولا الحجر لأنه موقوذة.
ش: وكذلك ما في معنى البندق والحجر مما ليس بمحدد، كالعصا والشبكة والفخ ونحو ذلك، والأصل في ذلك آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]- إلى قوله - {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، مع القياس على المعراض.
3527 - وقد قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في المقتولة بالبندق: تلك الموقوذة.(6/643)
3528 - وعن عبد الله بن المغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الخذف، وقال: «إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» ، متفق عليه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر وإن خرق، حتى لو قطع الحجر رأس الطائر وذهب به فإنه لا يحل، وهو كذلك، لإطلاق ما تقدم.
3529 - وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت فسميت فخزق فكل، وإن لم يخزق فلا تأكل، ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت» . رواه أحمد، وهو مرسل، لأن إبراهيم لم يلق عديا.
واعلم أن كلام الخرقي محمول على حجر لا حد له، أما ما له حد فحكمه حكم سائر المحددات إن أصابت بحدها أبيح وبغيره لم يبح.
[حكم صيد المجوسي]
قال: ولا يؤكل صيد المجوسي إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له.
ش: أما صيد المجوسي - عدا ما لا ذكاة له كما سيأتي(6/644)
إن شاء الله تعالى - فإن عدم إباحته إجماع أو كالإجماع، قال أحمد: لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، وقال أيضا: ها هنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، فقد حكى هذا الإمام أن أبا ثور خرق الإجماع، مع أن خلاف الواحد في الاعتداد به نزاع. وقد دل مفهوم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، على أن طعام غير أهل الكتاب ليس حلا لنا، وقد دللنا على أن المجوس لا كتاب لهم في النكاح بما فيه كفاية فلينظر ثم.
وأما ما لا يشترط له ذكاة كالسمك، وما لا يعيش إلا في الماء، وكذلك الجراد على المذهب فإن صيد المجوس لا يضره، لأن قصاراه أنه ميتة، وميتة ذلك حلال.
3530 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» . رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني لكنه ضعيف، وهذا والله أعلم السبب في ذكر الخرقي الحوت.(6/645)
وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . قال أحمد: هذا خير من مائة حديث.
3531 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كل من صيد البحر صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. ذكره البخاري في صحيحه.
(تنبيه) : حكم من لا كتاب له كعبدة الأوثان ونحوهم حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس لوقوع الخلاف فيهم، وإن كان الخلاف شاذا.
قال: وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء.
ش: هذا معطوف على قوله: إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له. أي فيؤكل، وكذلك كل ما مات من الحيتان(6/646)
في الماء فإنه يؤكل، وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والخرقي نص على الحيتان اتباعا للحديث، فيلحق بذلك كل ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
[حكم أكل السمك الطافي]
قال: وإن طفا.
ش: يعني وإن طاف ما مات من الحيتان، أي: علا على وجه الماء، وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن بعض السلف كرهه، والمذهب عندنا بلا ريب حله. قال أحمد: الطافي يؤكل، وما جزر عنه الماء أجود، والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه، وإنما اختلفوا في الطافي، وليس به بأس، وذلك لعموم ما تقدم.
3532 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الطافي حلال.
3533 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . قال: صيده: ما أصيد، وطعامه:(6/647)
ما رمى به، ذكرهما البخاري في صحيحه، وخرج أبو البركات فيه قولا أنه لا يباح منه ما مات بلا سبب، من رواية ضعيفة في الجراد.
3534 - ووجه ذلك في الجملة ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» . رواه أبو داود. وهذا نص، إلا أن الصحيح وقفه على جابر، قال أبو داود: رواه الثقات فأوقفوه على جابر، وقد أسند من وجه ضعيف.
(تنبيه) على المذهب: هل يكره أكل الطافي؟ ظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال في حديث جابر: إن صح نحمله(6/648)
على نهي الكراهة، لأنه إذا مات رسب، فإذا انتن طفا فكره لنتنه لا لتحريمه.
3535 - قلت: وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحو هذا، فقال في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . طعامه ميتته إلا ما قذرت منها. ذكره البخاري في صحيحه، وكلام أحمد السابق محتمل الكراهة وعدمها، والله أعلم.
[ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام]
قال: وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة.
ش: قد تقدم حكم غير المقدور عليه منهما، أما المقدور عليه منهما فإن ذكاته في الحلق واللبة والذكاة هي الذبح والنحر، فالذبح في الحلق، والنحر في اللبة، وهي الوهدة التي في أصل العنق والصدر، وهذا والله أعلم إجماع.
3536 - وقد شهد له ما روى الدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى(6/649)
أيام أكل وشرب وبعال» .
3537 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أنه نادى: إن النحر في الحلق واللبة لمن قدر، وحديث أبي العشراء المتقدم يقتضي أن المعروف عندهم ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير، لظاهر ما تقدم، ولأنه قطع في محل الذكاة ما لا تبقى الحياة معه، أشبه ما لو قطع مع ذلك الودجين.
(والرواية الثانية) : يشترط مع ذلك قطع الودجين، اختارها أبو بكر وابن البنا.
3538 - لما روي عن ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن شريطة الشيطان، زاد ابن(6/650)
عيسى: وهي التي تذبح فيقطع منها الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت» ، رواه أبو داود.
3539 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: ما فرى الأوداج فكله. رواه مالك في الموطأ، واجتزأ في الكافي بقطع أحد الودجين عنهما، وحكى الرواية على ذلك، والمعروف في النقل الأول.(6/651)
(تنبيه) «شريطة الشيطان» : هي الناقة ونحوها التي شرطت أي أثر في حلقها أثر يسير، كشرط الحجام، من غير قطع الأوداج ولا إجراء الدم، وكان هذا من فعل الجاهلية، وأضيفت إلى الشيطان فإنه حملهم على ذلك، والفري القطع، والأوداج جمع ودج، وهو عرق في العنق، وهما ودجان في جانبي العنق.
قال: ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه من الأنعام.
ش: هذا اتفاق والحمد لله وقد قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .
3540 - قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في قوم ماشيتهم الإبل، وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر.(6/652)
3541 - وفي الصحيح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنه، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» .
قال: فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح فجائز.
3542 - ش: هذا هو المذهب المعروف لما في الصحيحين «من حديث أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فأكلناه.» متفق عليه. والظاهر أن مثل هدا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حكايتها ذلك تدل على أن هذا كان أمرا مشتهرا بينهم.
قال: وإذا ذبح فأتت على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل.
ش: هذه المسألة نظير مسألة ما إذا رمى الصيد فوقع في ماء، أو تردى من جبل، والكلام فيها كالكلام ثم نقلا ودليلا، ولا بد أن يلحظ أن الماء والوطء يقتل مثله غالبا، وقد تقدم نحو ذلك.(6/653)
قال: فإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت.
ش: فسر القاضي الخطأ بأن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها، فيسقط اعتبار المحل، المتردية في بئر، أما مع عدم الالتواء فلا تباح، إذ الجرح في القفا سبب للزهوق، وهو في غير محل الذبح، فإذا اجتمع مع الذبح منع الحل، لخروج الروح بجائز وممنوع منه، وإذا يغلب جانب المنع.
وقد روي عن أحمد ما يعضد هذا التفسير، فقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن ذبح القفا، قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا يؤكل، فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس. ففسر غير العمد بالالتواء، وأبدل أبو البركات لفظ الخطأ بالسهو، وهو أعم من كلام القاضي، لدخول غير الالتواء فيه، ويقرب من كلام الخرقي، إلا أن إطلاق الخرقي يدخل فيه حال الجهل، اهـ.
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا فعل ذلك عمدا أنها لا تؤكل، وهو منصوص أحمد المتقدم، لخروج الروح بسبب مباح ومحرم، فغلب جانب التحريم.(6/654)
3543 - وعن ابن عباس وابن عمر وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إذا قطع الرأس مع ابتداء الذبح من الحلق فلا بأس، ولا يتعمد، فإن ذبح من القفا لم تؤكل، سواء قطع الرأس أو لم يقطع. (وحكى القاضي) والشيرازي وغيرهما رواية أخرى بالإباحة بشرطه، وهو اختيار القاضي، والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله، دليله المتردية، وأكيلة السبع، ونحوهما.
وشرط الحل حيث قلنا به أن تأتي السكين على موضع الذبح وفيه حياة مستقرة، ويعلم ذلك بوجود الحركة القوية قاله القاضي، ولم يعتبر أبو البركات القوة، وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أنه لا بد من علم ذلك، وقال أبو محمد: إن لم يعلم ذلك فإن كان الغالب البقاء لحدة الآلة(6/655)
وسرعة القطع، فالأولى الإباحة، وإن كانت الآلة كالة، وأبطأ القطع لم يبح، والله أعلم.
[الحكم لو ذبح الشاة وفي بطنها جنين]
قال: وإذا ذبح الشاة وفي بطنها جنين أكلا، لأن ذكاتها ذكاة جنينها.
3544 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» . رواه أبو داود.
3545 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله رواه الترمذي، ورواه أبو داود، ولفظه قال: «قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين؟ قال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» . وهذا ظاهره جواز الأكل مطلقا، وبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علة ذلك،(6/656)
وهو كون ذكاته ذكاة أمه، وهو يبعد رواية من روى: «ذكاة أمه» ، بالنصب، على تقدير: يذكى تذكية مثل تذكية أمه، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو التقدير كذكاة أمه، فحذف الجار ونصب، وتترجح رواية الرفع من وجه آخر، وهو أنه لا تقدير فيها، ورواية النصب لا بد فيها من تقدير، ثم إن ابن المنذر قد قال: لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذبح غير ما روي عن النعمان، (واعلم) أن شرط كون ذكاته ذكاة أمه أن(6/657)
يخرج ميتا، أو متحركا كحركة المذبوح، أما إن كانت فيه حياة مستقرة فإنه كالمنخنقة، قاله أبو البركات، وقال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته، لأنه نفس أخرى.
(وعنه) رواية (أخرى) : إن مات بالقرب حل.
قال: أشعر أو لم يشعر.
ش: يعني أن ذكاة الأم عين ذكاة جنينها، أشعر الجنين - أي: نبت عليه الشعر - أو لم يشعر، أي: لم ينبت عليه الشعر.
3546 - وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وجماعة من التابعين والأئمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا: إن أشعر فذكاته ذكاة أمه، وإن لم يشعر فلا، فنبه الخرقي على عدم التفرقة، اتباعا لإطلاق الحديث.
قال: ولا يقطع عضوا مما ذكي حتى تزهق نفسه.
ش: لما تقدم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» .(6/658)
3547 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك، ولأن فيه تعذيبا للحيوان وإنه منهي عنه. وظاهر إطلاق الخرقي أن هذا النهي على سبيل التحريم، وإذا قد يقال: لا يحل أكله على قياس قوله: إذا ذبح فأتى على المقاتل، ثم وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء أنها لا تؤكل؛ إذ الزهوق حصل من مباح وممنوع منه. وظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال: كره ذلك أهل العلم، ثم قال في العضو: أن الظاهر إباحته.
[ذبيحة الأعمى والأقلف والأخرس]
قال: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال.
ش: هذا والله أعلم مما لا نزاع فيه، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا، وقد دخل فيه البصير والأعمى، والعدل والفاسق، والمجبوب والأقلف على المذهب.(6/659)
3548 - (وعنه) لا تصح ذكاة الأقلف، اعتمادا في ذلك على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والطاهر والجنب، والناطق والأخرس، وسيأتيان، والرجل والمرأة، والبالغ والصبي، وقد حكاه ابن المنذر فيهما إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
3549 - وفي صحيح البخاري وغيره «عن نافع أنه سمع ابنا لكعب بن مالك يخبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أخبره، أن جارية لهم كانت ترعى غنما بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع، فأبصرت بشاة منها موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله أو أرسل إليه من يسأله، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره بأكلها والحر والعبد سواء في الاعتبار» ، اهـ.(6/660)
ويشترط مع الإطاقة للذبح العقل، فلا تصح ذكاة مجنون ولا طفل ولا سكران، لانتفاء القصد منهم المعتبر في الذكاة شرعا.
قال: إذا سموا أو نسوا التسمية.
ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي اشتراط التسمية في العمد دون السهو، وإنما نص الخرقي على ذلك ليصرح بأن حكم أهل الكتاب حكم المسلمين في اشتراط التسمية، وقد تقدم هذا أيضا والخلاف فيه، وإن كان الأليق ذكره هنا.
(تنبيه) : إذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا؟ فالذبيحة حلال، لعدم الوقوف من ذلك على كل ذابح.
3550 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن قوما قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: «سموا عليه أنتم وكلوه» . قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر» . رواه البخاري، وأبو داود(6/661)
ولفظه قالوا: يا رسول الله إن قوما حديث عهد بكفر، وذكره بمعناه.
قال: فإن كان أخرس أومأ إلى السماء.
ش: قد دل هذا على حل ذبيحة الأخرس. وقد حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم ويشترط له ما يشترط للناطق من التسمية، إلا أنه لما تعذر النطق في حقه أقيمت إشارته مقام نطقه، كما أقيمت مقام ذلك في سائر تصرفاته. وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا بد من الإشارة إلى السماء، لأن ذلك علم على قصد تسمية الباري سبحانه وتعالى.
3551 - وهذا كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للجارية: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال: «من أنا» ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى السماء، أي أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» .»(6/662)
فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتها إلى السماء علما على الوحدانية، وإلى رسالته، وحكم بإيمانها، قال أبو محمد: ولو أشار الأخرس إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا.
قلت: وهذا يقتضي أن التنبيه السابق في حال الغيبة، أما في حال الحضور فلا بد من العلم أو الظن بوجود التسمية.
[ذبيحة الجنب]
قال: وإن كان جنبا جاز أن يسمي ويذبح.
ش: لبقاء أهليته، إذ الجنابة لا تخرجه عن الإسلام، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا منع من ذلك. ويسمي كما يسمي عند اغتساله، لأن الذي منع منه هو قراءة القرآن، وليس المقصود بالتسمية على الذبيحة القراءة.(6/663)
قال: والمحرم من الحيوان ما نص الله - عز وجل - عليه في كتابه.
ش: الذي نص الله - عز وجل - عليه في كتابه هو قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . إلى آخرها. ولا نزاع في تحريم هذه الأشياء في الجملة، (أما لحم الخنزير) فلا ريب في تحريمه، وكذلك بقية أجزائه، اعتمادا على الإجماع، أو أن الشحم ونحوه داخل في مسمى ذكر اللحم لكونه صفة له، بدليل قولهم: لحم سمين، أي: لحم شحيم، أو أن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب، لأنه معظم ما يقصد، مع ما فيه من مراغمة الكفار الذين يتدينون بأكل لحمه.
(وأما الميتة) فيستثني منها ما استثناه المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الحوت والجراد، ويلحق بالحوت ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، أو مما مات فيه - على ما تقدم - نعم بقي النظر في الطافي فإن عموم الآية يقتضي تحريمه.
3552 - وعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . يقتضي إباحته، فلا بد من(6/664)
مرجح، (فقد يقال) بترجيح عموم الكتاب لقوته، ولهذا قيل: إن عموم الكتاب لا يتخصص بالسنة، وبما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وما مات فيه وطفا فلا تقربوه» .
» 3553 - وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكله.
(وقد يقال) بترجيح عموم السنة، لأن عموم الكتاب قد دخله التخصيص ولا بد، بخلاف عموم السنة فإنه قد شك في تخصيصه، والأصل عدم التخصيص، وبما تقدم من قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الطافي حلال.
3554 - وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] ، قال: صيده ما أصيد، وطعامه ما رمى به. وهذا تفسير من عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا يكون مخصصا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وتكون السنة عاضدة لهذا التفسير، وما روي عن علي(6/665)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا يعرف أصله، وحديث جابر الصحيح وقفه عليه، وقد قال بعضهم: إن الآية الكريمة لا تخصيص فيها، بل وردت على ما يتعارفه الناس في العادة، والعرف في السمك أنه لا يطلق عليه ميتة، ولهذا إذا قيل: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، وكذلك إذا قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال.
وقد أدخل بعضهم في الآية الكريمة الأجنة، وقد تقدم الاعتماد على رواية الرفع، وأن ذكاته عين ذكاة أمه، وإذا هي مذكاة لا ميتة على أن رواية النصب تخرج الحديث عن كثير فائدة، إذ الجنين إذا خرج حيا حياة مستقرة فلا يخفى حكم الذكاة في حقه، لأنه نفس أخرى.
ومما قيل بدخوله في الميتة: جلدها، ولبنها، وشعرها، وعظمها، والكلام على تسليم ذلك أولا، وعلى خروجه بالتخصيص ليس هذا محله.
وأما الدم فالمراد به ما عدا الكبد والطحال، إما بالخطاب العرفي، أو ببيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: إن ذلك خرج بقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] إذ الكبد والطحال لا يمكن سفحهما فلا يدخلان في الدم المحرم. (ومما قيل) أنه خرج بقوله سبحانه: {دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145](6/666)
ما على العروق، وما يبقى على اللحم من الدم. (ومما قيل) أيضا بخروجه الذباب ونحوه مما لا دم له سائل، ولذلك قيل بطهارة ميتته على المذهب، وبحله في رواية، وتحريم الخنافس ونحوها للخبث.
وأما {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] ، أي: الذي رفع عليه الصوت بتسمية غير الله، كأن يسمى عليه اسم المسيح - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - أو اسم صنم، ونحو ذلك كما كانوا في الجاهلية يذبحون فيقولون: باسم اللات والعزى؛ وقد اختلف في حل ما ذبح كذلك، على قولين للعلماء هما روايتان عن إمامنا: (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد، وحكاه عن القاضي، وصححها أبو البركات -: التحريم، لذلك.
3555 - ولما في صحيح مسلم وغيره عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لعن الله من ذبح لغير الله» .
و (الثانية) - ويحكى ذلك عن الشافعية -: الحل،(6/667)
لقوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وقد علم أنهم يذكرون اسم المسيح، فيكون المراد بالآية الأولى: من عدا أهل الكتاب.
وأما (المنخنقة) : فهي التي اختنقت بحبل أو غيره. (والمتردية) : التي تردت من جبل أو نحوه. (والنطيحة) : التي تنطح أو تنطح فتموت. (والموقوذة) : التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا. وأوقذتها أوقذها إيقاذا: إذا أثخنتها ضربا. (وما أكل السبع) : التي أكل منها السبع، والعرب تسمي ما قتله السبع، وما أكل منه وبقيت منه بقية: أكيلة السبع، وهي فريسته. والحكم في هذه الأربعة أنها إذا أدرك ذبحها على التمام حلت وإلا فلا، وبيان ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إنما يرجع إلى ما تمكن ذكاته، وهو المنخنقة وما بعدها، أما الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، فلا يتصور فيه ذكاة، والمعنى: إلا الشيء الذي أدركت ذكاته من هذه الأربعة، وأصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، ومنه: الذكاء في السن والفهم تمامهما، فتمام السن: النهاية في الشباب، فقبل ذلك أو بعده لا يسمى ذكاء، وتمام الفهم: سرعة القبول، وذكيت النار: أتممت إشعالها،(6/668)
فقوله سبحانه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي: ما أدركتم ذبحه على التمام.
واختلف في الذبح على التمام ما هو في هذه الآية، (وعن إمامنا) في ذلك ثلاث روايات. (إحداهن) : بأن يكون في ذلك حياة يمكن أن تزيد على حركة المذبوح، أو تتحرك كحركة المذبوح عند الذبح، ولو بيد أو رجل أو طرف عين ونحو ذلك.
(الثانية) : أن ما يمكن أن يبقى معظم اليوم يحل، وما يعلم موته لأقل منه في حكم الميت.
(والثالثة) : ما تيقن أنه يموت من السبب في حكم الميت مطلقا، اختارها ابن أبي موسى.
واختار أبو محمد قولا رابعا أنها إن تيقن موتها بالسبب، كأن تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح، وإن كانت مما لا يتيقن موتها فكالمريضة، متى تحركت وسال دمها حلت وإلا فلا. وتوجيه هذه الأقوال، والاتساع في الآية الكريمة يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الشرح.
وقوله سبحانه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . أي: الحجارة التي كانت لهم يعبدونها، واحدها: نصاب، و (على) ، قيل: بمعنى اللام، أي: وما ذبح لأجل الأصنام، والذابح للأصنام هم عبادها، فالمنع هنا للشرك، وعلى هذا يحل ما ذبحه الكتابي لعيده أو لكنيسته ونحو ذلك، وهو مذهبنا، لعموم:(6/669)
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . نعم يكره ذلك على الصحيح، وعلى هذا تستوي هذه الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] إن قيل: المراد بها ذبائح المشركين، وظاهر هذه، أن المنع إنما كان لأجل الذبح للصنم، وإذا فالذبح للكنيسة ونحوها في معناه.
3556 - ويؤيده حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لعن الله من ذبح لغير الله» . وقد قيل: إن الذبح لهذه الأشياء يدخل أيضا في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وإذا هذا من ذكر الخاص بعد العام.
[ما تستطيبه العرب وما تستخبثه من الدواب]
قال: وما كانت العرب تسميه طيبا فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثا فهو محرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .
ش: يعني أن الله - سبحانه وتعالى - نص على تحريم أشياء وقد تقدمت، وأجمل حل أشياء وتحريم أشياء، وترك بيان ذلك إحالة على عرف من وقع الخطاب لهم وهم العرب، والمراد بهم: أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب، ولا عبرة بأهل البوادي، لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا، ولو وجد شيء لا يعرفه أهل الحجاز، رد إلى أقرب الأشياء شبها به في الحجاز، فإن تعذر شبهه بشيء منها فهو مباح، كذا قاله الشيخان، لدخوله(6/670)
في قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] . الآية.
3557 - وعن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجبن والسمن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه» » . رواه ابن ماجه، والترمذي.
قلت: وقد يستشكل هذا، يعني أن الأصل في الأطعمة الحل، وظاهره مخالف لما هو مقرر في الأصول من أن الأصل في الأعيان (هل هو الحظر) كما هو اختيار ابن حامد والقاضي والحلواني، (أو الإباحة) كما هو اختيار أبي الحسين الخرزي وأبي الخطاب، (أو الوقف) كما هو اختيار ابن عقيل وأبي محمد على ثلاثة أقوال، وبنوا على ذلك أن من حرم(6/671)
شيئا أو أباحه، وقال: طلبت دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم الأصل من حظر أو إباحة، فهل يصح ذلك أم لا؟ وكذلك من كان في برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون في حقه على الإباحة أو الحظر؟ وبسط ذلك يحتاج إلى طول. إذا علم هذا فمن السمتخبثات: الحشرات، كالديدان، وبنات وردان، والخنافس، والفأر، والأوزاغ، والجراذين، والعقارب، والحيات، ونحو ذلك، وكذلك القنفذ.
3558 - لما في السنن من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر القنفذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هو خبيثة من الخبائث» » .
[المحرم من الحيوان]
قال: وبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية.
ش: أي: والمحرم من الحيوان بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء منها الحمر الأهلية.
3559 - وذلك لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:(6/672)
«نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجا ونيئا» .
3560 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية» .
3561 - وعن أبي ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية» ، متفق عليهن.
قال ابن عبد البر: روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحريم الحمر الأهلية: علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بأسانيد صحاح حسان. قال: ولا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها، وقال أحمد: خمسة عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كرهوها. والله أعلم.(6/673)
قال: وكل ذي ناب من السباع.
ش: أي: ومن المحرم بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذي ناب من السباع.
3562 - وذلك لما روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع» . رواه الجماعة.
3563 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذي ناب من السباع حرام» . رواه مسلم وغيره، وهذا نص في أن المراد بالنهي: التحريم، كما هو ظاهره، ولا يعارض هذا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] ، الآية، لأن سورة الأنعام مكية نزلت قبل الهجرة، وكان القصد بالآية الكريمة الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولم(6/674)
يكن في ذلك الوقت محرم إلا ما ذكر في الآية، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة؛ كالحمر والبغال وغير ذلك، والله أعلم.
قال: وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس بها.
ش: هذا تبيين وتوضيح لصاحب الناب من السباع، والأنياب: مما يلي الرباعيات من الأسنان، ويدخل في هذا الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير، والفيل، وابن آوى، وابن عرس، والنمس.
وسئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال: كل شيء ينهش بنابه فهو من السباع. فكأنه لم يتحقق عنده حالهما، كما لم يتحقق عنده كال الدب، فقال: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، وكذلك قال أبو محمد: ينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به حرم وإلا أبيح، وقطع أبو بكر بتحريمه، وقطع أبو محمد في ابن آوى وابن عرس والنمس بأنها من السباع فتحرم.
واختلفت(6/675)
الرواية عن أحمد في الثعلب وسنور البر هل هما محرمان أو مباحان؟ على روايتين، للتردد في كون لهما نابان يفرسان به أم لا. والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - علل التحريم بكونهما من السباع، والإباحة بكونهما يفديان في الحرم والإحرام، ولا يفدى إلا المأكول، وقد يقال: الفداء للتردد فيهما احتياطا.
وكذلك اختلف الأصحاب في السنجاب فرآه القاضي مما له ناب فحرمه، ولم يتحقق ذلك لأبي محمد، فحكى فيه احتمالا بالإباحة، ورجحه اعتمادا على الأصل.
قال: وكل ذي مخلب من الطير.
ش: هذا عطف على ما تقدم.
3564 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه مسلم وغيره.(6/676)
3565 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: يوم خيبر - لحوم الحمر الأهلية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه أحمد والترمذي. قال: وهي التي تعلق بمخاليبها (الشيء) وتصيد بها.
ش: كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة، والبومة، ونحو ذلك.
[حكم أكل المضطر]
قال: ومن اضطر إلى أكل الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن معه الموت.
ش: أي: الميتة التي نص الله تعالى على تحريمها في الآية الكريمة، وإباحتها في حالة الاضطرار في الجملة إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] ، وفي آية المائدة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3](6/677)
ولا نزاع في إباحة ما يؤمن معه الموت، كما أنه لا نزاع في تحريم ما زاد على الشبع، لانتفاء الاضطرار المبيح إذا، وفي الشبع روايتان أنصهما - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار عامة الأصحاب -: ليس له ذلك، لأن الله سبحانه حرم الميتة أولا، ثم أباح ما اضطررنا إليه بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] ، وفي آية أخرى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، ومع أمن الموت لا اضطرار، ويؤيده ذلك قوله سبحانه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ، أي: ولا عاد سد لجوعه.
(والثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه عنه الشيخ وغيره، والذي رأيته في التنبيه ظاهره الرواية الأولى -: له ذلك.
3566 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها. فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها. فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدد حتى شحمها ولحمها ونأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟» قال: لا. قال: «فكلوه» . قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.» رواه أبو داود، فأطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأكل، ولم يقيده بما يسد الرمق.(6/678)
وفرق أبو محمد بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة - كحال الأعرابي - فيجوز له الشبع، اتباعا لإطلاق الحديث، إذ لو اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب، وأفضى إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه، وبين ما إذا لم تكن مستمرة فلا يجوز له الشبع، لانتفاء المحذور المتقدم، وعملا بمقتضى الآية.
إذا تقرر هذا، فمعنى الاضطرار أنه متى ترك الأكل خاف التلف.
قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك. ومقتضى هذا أنه يجوز له الشبع إذا كان سد الرمق يقطعه عن الرفقة، أو يعجزه عن الركوب (فيهلك) ، وهو مقتضى كلام الخرقي، وظاهر الآية الكريمة، لأنه والحال هذه مضطر.
ولم يفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحاضر والمسافر، وهو كذلك، اعتمادا على ظاهر الآية، ولأن الاضطرار قد يكون في الحضر في سنة المجاعة.
(وعن أحمد) أنه قال: أكل الميتة إنما يكون في السفر. قال أبو محمد: يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال. قال: وهذا من أحمد خرج مخرج(6/679)
الغالب، إذ الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر، ودفع الضرورة بالسؤال، قلت: وظاهر هذا التقرير أن الميتة لا تباح لمن يقدر على دفع الضرورة بالمسألة. وقد قال أبو محمد: إنه ظاهر كلام أحمد، اهـ.
وكلام الخرقي في شموله للمسافر يشمل السفر الجائز والمحرم، وهو اختيار صاحب التلخيص، وقال عامة الأصحاب: لا يباح للعاصي بسفره تناول الميتة بحال، وأصل هذا أن قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] ، هل هو غير باغ على المسلمين، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه، أو بمن أكلها تلذذا؟ فيه ثلاثة أقوال للمفسرين. وكذلك في قوله - سبحانه -: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] ، هل التجانف بالسفر أو بالزيادة على سد الرمق؟ فيه أيضا قولان.(6/680)
ويرجح ظاهر إطلاق الخرقي بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فإنه أطلق فيه، وبقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وبأن أكل الميتة عزيمة واجبة، حتى لو امتنع كان عاصيا، كما هو المشهور من الوجهين لهذه الآية، وهو ظاهر كلام أحمد.
3567 - قال في رواية الأثرم - وقد سئل عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل، فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار. وعلى هذا اعتمد صاحب التلخيص، وقد يقال أن أصل هذا الخلاف أن المسكين إذا امتنع من المسألة حتى مات هل يأثم أم لا؟ قال القاضي: كلام أحمد يقتضي روايتين، فإن قلنا: يأثم، وجب الأكل، وإن قلنا: لا يأثم لم يجب الأكل.
(تنبيه) : حكم جميع المحرمات حكم الميتة فيما تقدم في الجملة. (والحرة) : أرض تركبها حجارة سود. (وضلت) ، أي: ضاعت. (ونفقت) ، أي: ماتت.
قال: ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل، فإن كان عليها محوطا فلا يدخل إلا بإذن.
ش: اختلفت الرواية عن إمامنا في هذه المسألة (فروي عنه) إباحة ذلك مطلقا، أعني: سواء كان محتاجا أو لم يكن،(6/681)
وسواء أكل من المعلق أو من المتساقط، وهذه ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي وغيره، قال القاضي في خلافه الصغير: اختاره عامة أصحابنا. وقال أبو الخطاب في هدايته: عامة شيوخنا.
3568 - وذلك لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة» . رواه الترمذي وابن ماجه.
3569 - وعن عبد الله بن عمرو، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يدخل الحائط فقال: «يأكل غير متخذ خبنة» . رواه أحمد، (وعنه) : لا يحل له ذلك مطلقا إلا بإذن المالك. حكاها ابن عقيل في التذكرة.
3570 - لعموم: « «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام» . متفق عليه.(6/682)
3571 - وعن العرباض بن سارية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم» . أخرجه أبو داود. وغاية هذين عموم فنخصه بما تقدم.
(وعنه) جواز ذلك من المتساقط دون غيره.
3572 - لما «روى رافع بن عمرو، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رافع لم ترم نخلهم؟» قلت: يا رسول الله الجوع. قال: «لا ترم، وكل ما وقع، أشبعك الله وأرواك» .» وقد يقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يسقط من نخلهم ما يشبعه، وكيف لا يحصل له الشبع، وقد حصل له دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/683)
ومع حصول ذلك فلا حاجة إلى الرمي، لأنه نوع إفساد.
(وعنه) : يحل له ذلك لحاجة، ولا يحل لغير حاجة.
3573 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن التمر المعلق، فقال: «ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» » . رواه الترمذي وحسنه.
(وعنه) : إن كان مضطرا أكل وإلا لم يأكل. . حكاها القاضي في الجامع وغيره، وهي ظاهر كلامه في رواية أبي طالب، وسئل إذا لم يكن تحت الشجرة شيء يصعد؟ فقال: لم أسمع يصعد، فإن اضطر أرجو أن لا يكون به بأس. (وهذه الرواية) قد تحمل على أن المراد بالضرورة الحاجة، لأن أبا محمد صرح بأنه هنا لا يعتبر حقيقة الاضطرار، والظاهر حملها على ظاهرها، وأن المراد بالضرورة هنا: الضرورة المبيحة للميتة، ولهذا قال القاضي هنا - بعد أن ذكر الرواية -: وعندي أنه يباح له الأكل إذا احتاج إلى ذلك، مثل أن تشتهي نفسه الثمرة وتلتهف عليها، ولا شيء معه لشرائها، ولا يجد من يبيعه إياها نسيئا.
لا يقال: فلا فائدة في هذه المسألة على هذه الرواية، لأن غير الثمرة تباح أيضا عند الضرورة، لأنا نقول: فائدة ذلك أن الثمرة تباح مجانا حيث أبيح تناولها.
(وعنه) : يباح ذلك في السفر دون الحضر، قال في الرواية صالح - وسئل عن ذلك: إنما الرخصة للمسافر، وهذه(6/684)
الرواية قد تحمل على رواية اشتراط الحاجة. واعلم أن هذا الخلاف كله في الأكل بفيه دون الحمل كما صرح به الخرقي، وشهدت به الأحاديث، وهو أن لا يتخذ خبنة، وهي ما تحمله في حضنك؛ وقيل: هو أن يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله. ثم شرط جواز الأكل حيث قيل به أن لا يكون على الثمرة حائط، نص عليه أحمد والأصحاب، قال أحمد: لأنه شبه الحريم.
3574 - وبأنه استند في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس. وسيأتي في الحديث ما يرشد إلى ذلك أيضا. (نعم) إن كان مضطرا جاز له الدخول والأكل، وفي معنى الحائط الناطور، قاله غير واحد من الأصحاب، وقال في المغني: قال بعض أصحابنا: الناطور بمنزلة المحوط.(6/685)
وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بالثمرة، فلا يثبت هذا الحكم لغيرها من مال الغير، ولا نزاع في ذلك إلا في صورتين، فإنه قد اختلف عن إمامنا فيهما، (إحداهما) : الزرع، (فعنه) المنع كغيره من الأموال، وقال: إنما رخص في الثمار، وقال: ما سمعنا في الزرع أن يمس منه، وذلك لأن الثمار النفوس تتشوف إليها رطبة، بخلاف الزرع.
(وعنه) يأكل من الفريك، إذ العادة جارية بأكله رطبا فأشبه الثمرة. قال أبو محمد: وكذلك الحكم في الباقلاء والحمص، وشبههما مما يؤكل رطبا، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه.
قلت: ولهذه المسألة التفات إلى ما تقدم في الزكاة من أنه يوضع لرب المال عند خرص الثمرة الثلث أو الربع، ولا يترك له شيء من الزرع إلا ما العادة أكله فريكا.
(تنبيهان) : «أحدهما» : قد علم أن الخلاف إنما هو في الفريك، وأبو محمد ألحق بذلك ما في معناه كما تقدم، وهو حسن، والشيخان في مختصريهما وغيرهما يحكون الخلاف في الزرع على الإطلاق.
(الثاني) ظاهر كلام أحمد أن الخلاف في الزرع حيث(6/686)
رخص له في الثمرة، وأبو البركات جعل الخلاف على الرواية الأولى، وظاهر كلامه المنع على ما بعدها مطلقا.
(الصورة الثانية) : شرب لبن الماشية، فيه أيضا روايتان، (إحداهما) : له أن يحلب ويشرب ولا يحمل، اختارها أبو بكر.
3575 - لما روى الحسن عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فليصوت ثلاثا، فإن أجابه فليستأذنه، فإن أذن له، فليحتلب وليشرب ولا يحمل» . رواه أبو داود والترمذي وصححه، وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح.
3576 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد: يا صاحب الحائط. ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد(6/687)
أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل، أو يا راعي الإبل. فإن أجابه وإلا فليشرب» . رواه أحمد وابن ماجه.
(والثانية) : ليس له ذلك، نص عليه.
3577 - مفرقا بينه وبين الثمر؛ لأن أكل الثمر فعله غيره واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3578 - ومستدلا على المنع هنا بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: هو أجود إسنادا، وهو ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى(6/688)
مشربته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» » . متفق عليه.
(قلت) : وقد يحمل على ما إذا كان صاحبها فيها، توفيقا بين الحديثين.
(تنبيهان) : «أحدهما» : الخلاف أيضا في الماشية حكاه أبو البركات على الرواية الأولى، وينبغي أن يكون حيث أبيح الأخذ.
(الثاني) : إذا جوزنا الأكل من الثمار وغيرها، فقال أبو محمد: الأولى أن لا يأكل إلا بإذن، للخلاف والأخبار الدالة على التحريم.
(قلت) : وينبغي أن يتقيد جواز الحلب والشرب من الماشية بما إذا صوت بصاحبها ثلاثا فلم يجبه، كما في الحديث، وقد نص أحمد على ذلك فقال: ناد ثلاثا، فإن أجابك وإلا فاشرب.
قال: ومن اضطر فأصاب ميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة.
ش: هذا منصوص أحمد، وبه قطع عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأن الميتة منصوص عليها، ومال الغير مجتهد فيه، والمنصوص عليه أولى، ولأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة، بخلاف حق الآدميين.(6/689)
ولأبي محمد في المقنع احتمال بجواز أكل طعام الغير، بشرط أن لا تقبل نفسه الميتة، وبه جزم في الكافي لأنه والحال هذه عليه ضرر في أكل الميتة، وإنه منفي شرعا.
قال: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه منه قهرا، ليحيي به نفسه، وأعطاه ثمنه، إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته.
ش: إذا لم يجد المضطر إلى طعام الغير فلا يخلو إما أن يكون صاحبه مضطرا إليه أيضا أو لا، فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به، وليس لأحد أخذه منه، لمساواتهما في الضرورة، ويرجح المالك بالملك، وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك حيث قال: «ابدأ بنفسك» . وإن لم يكن مضطرا إليه لزمه أن يبذل للمضطر ما يسد رمقه على المذهب، أو قدر شبعه على رواية بقيمته، لما فيه من إحياء نفس آدمي معصوم، أشبه بذلك منافعه في إنجائه من الغرق ونحو ذلك، فإن امتنع من ذلك فللمضطر أن يأخذ منه ما يسد رمقه أو قدر شبعه ولو قهرا، حتى لو قتل صاحب الطعام فهو هدر، ولو قتل المضطر ضمنه صاحب الطعام، لأنه والحال هذه مستحق له دون مالكه، ويلزمه عوض ما أخذ، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته.(6/690)
وقول الخرقي: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه، إلى آخره، ظاهره أنه لو وجد ميتة وطعاما وامتنع صاحبه من بذله له ببيع أو غيره لم يجز له أخذه منه قهرا، وهو كذلك، لأنه لم يتعين طريقا لإحياء نفسه. (وقوله) : لم يبعه مالكه أخذه قهرا، مقتضاه أنه لو باعه له لم يكن له أخذه منه قهرا وهو واضح، وفي معنى ذلك إذا بذله له مجانا.
وكلام الخرقي يشمل ما إذا باعه له بأكثر من ثمن المثل، وهو مختار أبي محمد في المغني، وجوز القاضي والحال هذه أخذه قهرا وقتاله عليه، وعلى كلا القولين لا يلزمه أكثر من ثمن مثله، لأنه صار مستحقا له بذلك. (ثم قول الخرقي) : لم يبعه. يريد البيع الشرعي، فلو امتنع المالك من البيع إلا بعقد ربا كان للمضطر أخذه قهرا، على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه بعض الأصحاب، معللا بأن عقد الربا محظور لا تبيحه الضرورة، والمقاتلة والحال هذه طريق أباحه الشرع، نعم إن لم يقدر على قهره دخل في العقد ملافظة وعزم على أن لا يتم عقد الربا، بل إن كان نسأ عزم على أن العوض الثابت في الذمة يكون قرضا، وقال بعض المتأخرين: لو قيل: إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يقاتله، بل يكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته لكان أقوى.
وقوله: وأعطاه ثمنه. وبعضهم يقول قيمته؛ والأجود(6/691)
عوضه، وهي عبارة المغني، لشمولها المثلي والمتقوم.
[حكم أكل الضب والضبع والثعلب]
قال: ولا بأس بأكل الضب.
3579 - ش: لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الضب فقال: «لا آكله ولا أحرمه» . وفي رواية لمسلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي» .
3580 - وقال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنا معشر أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة.
قال: والضبع.
3581 - ش: لما روي «عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار قال: قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: آكلها؟ قال: نعم. قلت: أقاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم» .(6/692)
رواه الخمسة وصححه الترمذي والبخاري، واحتج به أحمد، ولفظ أبي داود: «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع فقال: «هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» . وبهذا يتخصص عموم النهي عن كل ذي ناب من السباع إن سلم أن له نابا، وقد قيل: إنه لا ناب له، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والثعلب.
ش: قد تقدمت الروايتان في الثعلب، وأن الخلاف فيه للتردد فيه هل هو من السباع العادية فيدخل في عموم النهي، أم لا فيبقى على أصل الإباحة، والشريف أبو جعفر يختار إباحته كالخرقي، وأبو محمد يقول: إن أكثر الروايات عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التحريم، والله أعلم.
قال: ولا يؤكل الترياق، لأنه يقع فيه لحوم الحيات.
ش: الترياق: دواء مركب يتعالج به من السم وغيره، وقد علل الخرقي المنع منه لما فيه من لحوم الحيات، وقد تقدم أن ذلك من الخبائث الممنوع منها، وفي كلام الخرقي(6/693)
إشارة إلى أنه لا يجوز التداوي بمحرم، ولا ريب في ذلك عندنا.
3582 - لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام» . رواه أبو داود.
3583 - وعن وائل بن حجر، «أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» . رواه مسلم وغيره.
3584 - وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسكر: إن الله(6/694)
لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. رواه البخاري.
[حكم أكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم]
قال: ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله.
ش: لأنه مات من سبب مباح وهو السهم، ومحرم وهو السم، فلم يبح كما لو مات من رمية مسلم ومجوسي، وكما لو رماه فوجده غريقا في الماء. وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» » .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يعلم أن السم أعان على قتله أنه يباح، وله صورتان: تارة يعلم عدم إعانته، وتارة يشك، وهو كذلك، لأن سبب الحل قد وجد، وشك في المحرم، والأصل عدمه، وكأن مراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالعلم هنا الظن، لإناطة الأحكام بغلبة الظن كثيرا، وكذا قال الشيخان في مختصريهما، وإن كان أبو محمد لم ينبه(6/695)
على ذلك في شرح الكتاب، والله أعلم.
[حكم ما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر فمات]
قال: وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر، لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر.
ش: وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك، لأنه حيوان له نفس سائلة، يعيش في البر، فأشبه بهيمة الأنعام، ولمفهوم: «أحل لنا ميتتان» ، وسيأتي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة الأصحاب.
(والرواية الثانية) - وعن بعض الأصحاب أنه صححها - أنه يحل ميتة كل بحري، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وهو حديث صحيح، تقدم الكلام عليه في أول الكتاب، قال أحمد: هذا خير من مائة حديث. وهو شامل لكل ما مات في البحر.
3585 - وعن شريح من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» . رواه الدارقطني، وذكره البخاري عن شريح موقوفا.
3586 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كل ما في(6/696)
البحر قد ذكاه الله تعالى لكم. واستثنى أبو محمد في المغني السرطان، فأباحه من غير ذكاة، معللا بأن مقصود الذبح إخراج الدم، وتطييب اللحم بإزالته عنه، والسرطان لا دم فيه، فلا حاجة إلى ذبحه، وظاهر كلامه في المقنع الصغير وغيره من الأصحاب جريان الخلاف فيه.
وظاهر كلام أبي محمد أيضا استثناء الطير، وأن شرط حله الذكاة بلا خلاف، لأنه جعله أصلا قاس عليه، وقال: لا خلاف فيه فيما علمناه.
ومفهوم كلام الخرقي أن ما لا يعيش إلا في البحر تباح ميتته، ويحل بلا ذكاة، وهو يشمل شيئين (أحدهما) السمك، ولا نزاع في حل ميتته ما عدا الطافي، على ما تقدم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال» . وغير الحوت مما يسمى سمكا في معناه، مع ما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وغير ذلك.
(الثاني) : ما عدا السمك مما لا يعيش إلا في البحر، وفيه روايتان. (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد في كتبه، بل قال في كتابه الكبير: لا نعلم فيه(6/697)
خلافا. وهي ظاهر كلام الخرقي - أنه يحل بلا ذكاة، لحديثي أبي هريرة وشريح.
3587 - وفي الصحيح «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا، فلما قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا»
(والرواية الثانية) - وهي ظاهر اختيار جماعة من الأصحاب -: لا يحل شيء من ذلك إلا بالذكاة، نظرا لتخصيص حديثي أبي هريرة وشريح بمفهوم: «أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد» . فإن التخصيص بالحوت يدل على نفي الحكم عما عداه، وإنما ألحق بالحوت ما يسمى سمكا بقياس أن لا فارق، وقد يمنع صاحب الرواية الأولى هذا المفهوم، لأنه مفهوم لقب وهو غير حجة، ولو قيل بحجيته فلا يقاوم عموم ما تقدم.
ولصاحب الرواية الثانية أن يقول: حديثا أبي هريرة وشريح قد دخلهما التخصيص باتفاقنا بما يعيش في البر، فالتخصيص بمفهوم الحديث في الصورتين، أولى من إخراج إحدى الصورتين بقياس يعارضه العموم مع أنه طردي.(6/698)
(تنبيه) : كلام الخرقي السابق في الحوت إذا مات في البحر أنه يحل، فقد يقال: مفهوم أنه إذا مات في البر أنه لا يحل، وليس كذلك بالاتفاق، والله أعلم.
[وقوع النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه]
قال: وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس.
ش: ما أشبهه من اللبن والخل ونحو ذلك، وعموم هذا يشمل القليل والكثير، وما أصله الماء كالخل ونحوه وغيره، (وهذا إحدى الروايات) ، واختيار عامة الأصحاب.
3588 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: «إن كان جامدا ألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه» » . رواه أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، رواه أحمد وأبو داود، وقد احتج أحمد بهذا الحديث، وثبته محمد بن يحيى الذهلي.
والمائع يشمل القليل والكثير، وهو حكاية حال مع قيام الاحتمال، فينزل منزلة العموم في المقال، لا يقال: هذا خرج على ما يتعارفه أهل المدينة، ولم يكن عند أهل(6/699)
المدينة وعاء في الغالب يبلغ خمسمائة رطل ونحوه، لأنا نقول: الخطاب وإن وقع لأهل الحجاز، فالحكم لا يخصهم بل يعمنا أيضا، فلا احتيج إلى تفصيل لفصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(والرواية الثانية) : أن حكم المائع حكم الماء، اختارها أبو العباس، نظرا إلى أن المعروف في الحديث: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» » . أما التفرقة بين المائع وغيره فضعيف، وبأنه خرج على المعتاد لأهل الحجاز، وهم لا يعتادون السمن إلا في أوان صغار.
(والرواية الثالثة) : ما أصله الماء كالخل ونحوه، حكمه حكم الماء اعتبارا بأصله، وما لا كاللبن ونحوه فلا.
قال: واستصبح به إن أحب.
ش: يجوز الاستصباح بالدهن المتنجس في (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله، وهي أشهرهما عنه، واختيار الخرقي وغيره.(6/700)
3589 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه انتفاع أمكن من غير ضرر، فأشبه الطاهر.(6/701)
3590 - وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العجين الذي عجن بماء من أبيار ثمود، أنه نهاهم عن أكله، وأمرهم أن يعلفوه النواضح.
(والرواية الثانية) : لا يجوز، لأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كدهن الميتة.
3591 - ودليل الأصل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» » . ولا تفريع على هذه، أما على الرواية الأولى فيستصبح به على وجه لا يمسه، ولا تتعدى نجاسته إليه، بأن يجعل الزيت في إبريق له بلبلة، ويصب منه في المصباح ولا يمسه، أو يضع على رأس الوعاء الذي فيه الزيت سراجا مثقوبا، ويطينه على رأس الوعاء، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء، بحيث يرتفع الزيت، حذارا من تلطخه بالنجاسة.(6/702)
3592 - ولهذا منع أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من دهن الجلود به، وعجب من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه تدهن به الجلود.
قال: ولم يحل أكله.
ش: هذا مما لا ريب فيه؛ لأن النجس خبيث، والله سبحانه وتعالى قد حرم الخبائث، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلا تقربوه» ، والله أعلم.
قال: ولا ثمنه.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمجزوم به عند عامة الأصحاب.
3593 - لما في الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها فأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» .
(وعن أحمد) رواية أخرى: أنه يجوز بيعه لكافر يعلم بنجاسته، نظرا لاعتقاد الكافر حله.
3594 - واعتمادا على أن ذلك روي عن أبي موسى الأشعري، وخرج أبو الخطاب في الهداية - ومن تبعه كصاحب التلخيص وأبي محمد وغيرهما - قولا بجواز بيعه مطلقا من رواية الاستصباح به، لأنه إذا منتفع به، وضعف لأن(6/703)
المعروف عن أحمد وغيره جواز الاستصباح وتحريم البيع، فدل على أنهم فرقوا بينهما، وخرج ذلك أبو البركات على القول بتطهيره بالغسل، لأنه إذا كالثوب النجس، وهذا واضح، لأنه بناء ضعيف على ضعيف.
وكلام الخرقي كله في الدهن المتنجس، أما الدهن النجس العين، كدهن الميتة، فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره.
3595 - لما في الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عام الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» . فقيل: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه» . لا يقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى البيع، لأنا نقول: الاستصباح ونحوه أقرب مذكور، فالرجوع إليه أولى، ثم الرجوع إلى البيع تأكيد لما علم حكمه وهو التحريم، بخلاف الرجوع إلى الاستصباح ونحوه، فإنه لم يعلم حكمه، فيكون تأسيسا، ولا ريب أن التأسيس أولى، والله أعلم.(6/704)
[كتاب الأضاحي]
ش: الأضاحي جمع أضحية، وإضحية بضم الهمزة وكسرها، والضحايا جمع ضحية، وقد أتى الخرقي بهذا الجمع بعد، والأضحى جمع أضحاة كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى.
[حكم الأضحية]
قال: والأضحية سنة، لا يستحب تركها لمن يقدر عليها.
ش: لا نزاع في مشروعية الأضحية ومطلوبيتها، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلا وقولا.
3596 - فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» .
3597 - «وعن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا فيها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا:(7/3)
فالصوف، قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» » . رواه أحمد، وابن ماجه.
3598 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه الدارقطني، في أحاديث أخر، وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] المراد الأضحية.
3599 - قال الحسن: صلاة يوم النحر والبدن، وقال عطاء ومجاهد:(7/4)
صل الصبح بجمع، وانحر البدن بمنى، واختلف في هذه المطلوبية هل تنتهي إلى الوجوب؟ والمعروف المشهور المنصوص من مذهبنا أنه لا ينتهي إلى ذلك.
3600 - لما روي عن «جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، وقال: «باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، فمن لم يضح منا فقد كفاه تضحية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وناهيك بها أضحية.
3601 - وعن علي بن حسين، عن أبي رافع، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضحي بكبشين يقول في أحدهما: «اللهم هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» ويقول في الآخر: «هذا عن محمد وآل محمد»(7/5)
قال فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤمنة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والغرم. رواه أحمد.
3602 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي وهي لكم تطوع: الوتر، والنحر، وركعتا الفجر» رواه الدارقطني. وهو نص إن ثبت.
3603 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يضحي فدخل العشر» الحديث وسيأتي، فعلق ذلك على الإرادة، والواجب لا يتعلق على الإرادة، وحكى أبو الخطاب (رواية بالوجوب مع الغنى) وأخذها من نص أحمد على أن للوصي أن يضحي عن اليتيم من ماله، قال: فأجراها مجرى الزكاة وصدقة الفطر، ونازعه أبو محمد في ذلك، وقال: بل هذا على سبيل التوسعة عليه في يوم العيد، كما يشتري(7/6)
له في ذلك اليوم ما جرت عادة أمثاله بلبسه. قلت: وهذا حسن، ويرجحه أنه قال: للوصي أن يضحي. وما قال: عليه أن يضحي له. كما أن عليه أداء الزكاة عنه.
3604 - وبالجملة استدل للوجوب بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وابن ماجه.
3605 - وعن مخنف بن سليم، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة» رواه أحمد، وأبو داود، وقال: العتيرة منسوخة. وقد ضعفا، أما الأول فقال الترمذي والدارقطني وغيرهما: الصحيح وقفه، وأما الثاني فقال عبد الحق: إسناده ضعيف، ثم على تقدير صحتهما يحملان على تأكيد الاستحباب، جمعا بين الأدلة، وقول الخرقي: سنة لا يستحب تركها. إشعار بتأكيدها.(7/7)
[ما يستحب للمضحي إذا دخل عشر ذي الحجة]
قال: ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته (شيئا) .
3606 - ش: لما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي داود وغيره «فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي» .
وظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى والشيرازي وطائفة أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو أحد الوجهين، ونصره أبو محمد، اعتمادا على ظاهر الحديث، (والوجه الثاني) - وهو اختيار القاضي وطائفة - أن ذلك على سبيل الكراهة.
3607 - لقول «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء(7/8)
أحله الله له حتى ينحر الهدي» . متفق عليه. ولا ريب أن دلالة الأول أقوى، لاحتمال خصوصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، واحتمال أن قص الشعر ونحوه مما يقل فعله، إذ لا يفعل في الجمعة إلا مرة واحدة، فلعل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم ترد بقولها ذلك ثم حديث أم سلمة في الأضحية، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الهدي المرسل، فلا تعارض بينهما، وعلى هذا إذا فعل فليس عليه إلا التوبة، ولا فدية إجماعا.
(تنبيه) : ينتهي المنع بذبح الأضحية، صرح به ابن أبي موسى وغيره، لأن المنع لذلك، فيزول بزواله، فإذا نحر استحب له الحلق، قاله ابن أبي موسى والشيرازي.
[تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة في الأضحية]
قال: وتجزئ البدنة عن سبعة وكذلك البقرة.
3608 - ش: لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة» . متفق عليه، وفي لفظ: «قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة» رواه البرقاني على شرط الصحيحين. وفي «رواية أنه قال: اشتركنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن» . رواه مسلم وهو كذلك.(7/9)
(تنبيه) : فلو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة على أنهم سبعة فبانوا ثمانية، ذبحوا معها شاة وأجزأتهم، وصححه الشيرازي على ما قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، قال الشيرازي وقال بعض أصحابنا: لا يجزئ عن الثامن، ويعيد الأضحية.
[ما يجزئ في الأضحية من الضأن]
قال: ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره.
3609 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
3610 - «وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنا جذعة من المعز. قال: «اذبحهما ولا تصلح لغيرك» . متفق عليه.(7/10)
3611 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن» . رواه أحمد والترمذي.
3612 - وعلى هذا يحمل ما روى مجاشع بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية» . رواه أبو داود، أي الجذع من الضأن.
قال: والجذع من الضأن الذي له ستة أشهر وقد دخل في السابع.(7/11)
ش: قد تقدم الكلام على ذلك في الزكاة، وأن لنا وجها آخر أن الجذع من الضأن ما استكمل ثمانية أشهر، وقد قال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن ستة أشهر أو سبعة، وعرفه الخرقي هنا بصفة يعرف بها عند اشتباه سنه، فقال: وسمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية: كيف تعرفون الضأن إذا أجذع؟ قال: لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا، فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع.
قال: وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية.
ش: قد تقدم أيضا الكلام على هذا، وأن هذا الذي قاله الأصحاب، وأن ابن الأثير قال: ما كمل له سنتان.
[ما يجزئ في الأضحية من البقر]
قال: والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة.
ش: لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تذبحوا إلا مسنة» ومسنة البقر التي لها سنتان، ورأيت في نسخة من الجامع الصغير أن الثنية من البقر التي كمل لها ثلاث سنين.(7/12)
[ما يجزئ في الأضحية من الإبل]
قال: والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في السادسة.
ش: قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني. ويرى أنه يسمى ثنيا لأنه ألقى ثنيته، فظاهر هذا أن أهل اللغة يعتبرون في تسميته ثنيا حين كمال خمس سنين وإلقاء ثنيته، والفقهاء جعلوا الضابط استكمال خمس سنين.
[ما يشترط في الأضحية]
قال: ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها. والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها، والعجفاء التي لا تنقي.
ش: لا إشكال في اجتناب هذه الأربعة في الضحايا، وأنها لا تجزئ.
3613 - لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين(7/13)
عرجها - وفي لفظ - ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي» رواه الخمسة وصححه الترمذي، وفي لفظ «والعجفاء التي لا تنقي» بدل الكسيرة، وهذا نص.
وفسر الخرقي العوراء بالبين عورها كما في الحديث، وقال أصحابنا: هي التي انخسفت عينها وذهبت، إذ العين عضو(7/14)
مستطاب، فإن كان بها بياض لا يمنع النظر أجزأت ولو نقصه، وكذلك إن أذهبه على أشهر الوجهين، لأن ذلك لا ينقص لحمها، (وفسر العجفاء) بالتي لا تنقي كما في الحديث، «والكسيرة التي لا تنقي» وفي لفظ كما تقدم «العجفاء التي لا تنقي» وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها، والنقي المخ، وهذه بالمنع أجدر من التي قبلها، لأنها عظام مجتمعة، (وفسر العرجاء) بالبين عرجها كما في الحديث، وفسر ذلك أبو الخطاب وابن البنا، وصاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهم بالتي تعجز عن مصاحبة جنسها في المشي، والمشاركة في العلف، لأن ذلك ينقص لحمها، ويفضي إلى هزالها، فلو كان عرجها يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك، أجزأت، وقال أبو بكر وتبعه القاضي في الجامع الصغير، هي التي لا تطيق أن يبلغ المنسك، فإن كانت تقدر على المشي إلى موضع الذبح أجزأت.
وفسر الخرقي المريضة بالتي لا يرجى برؤها، لأن ذلك ينقص لحمها نقصا كثيرا ويهزلها، والحديث قال فيه: البين مرضها أي التي تبين أثره عليها، واختاره أبو محمد، معللا بأن ذلك ينقص اللحم ويفسده، وقال القاضي، وأبو الخطاب وابن البنا: المريضة هي الجرباء، لأن الجرب يفسد اللحم. وأناط أبو البركات وصاحب التلخيص الحكم بفساد اللحم، وهو أضبط وأشمل، ولعل القاضي ومن تبعه أرادوا ضرب مثال.(7/15)
قال: والعضباء.
ش: أي ومما يجتنب في الضحايا العضباء.
3614 - وذلك لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بأعضب القرن أو الأذن» ، قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: العضب النصف فأكثر من ذلك. رواه الخمسة وصححه الترمذي، وظاهر النهي التحريم والفساد، وبهذا يتخصص مفهوم «أربع لا تجوز في الضحايا» إن سلم المفهوم وأن له عموما.
قال: والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن.
ش: العضب القطع مطلقا، والعضب المانع هنا هو المذهب لأكثر الأذن أو القرن على أشهر الروايتين. واختيار أكثر الأصحاب، لأن الأكثر يعطى حكم الكل، بخلاف اليسير فإنه في حكم العدم، إذ اعتباره يشق، وقد تقدم عن ابن المسيب - وناهيك به - أنه النصف فأكثر، ولهذا - والله أعلم - قال أبو محمد في الهدايا إنه النصف، لكن الأصحاب - وهو أيضا هنا - على حكاية المذهب كما تقدم. (والرواية الثانية) أن المانع ذهاب الثلث فأكثر، اختاره أبو بكر،(7/16)
لتسمية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له كثيرا. ومنهم من حكى الرواية على أنه ذهاب أكثر من الثلث، وملخصه أن للأصحاب في الثلث على هذه الرواية قولين، كما أنه يتلخص في النصف على الأولى كذلك، لكن الخلاف في الثلث أشهر من الخلاف ثم.
(تنبيه) : يفهم من كلام الخرقي أن ما عدا هذه الخمسة لا يجتنب فيجزئ، وهو كذلك، إلا أن منها ما جعل في معنى ما تقدم فيمنع من التضحية به، ويكون قد دخل في كلام الخرقي، إما بطريق التنبيه، وإما بطريق المساواة، ومنها ما اختلف في التضحية به، ونشير إن شاء الله تعالى إلى طرف من ذلك، فمما جعل في معنى الممنوع منه فلا تجوز الأضحية به (العمياء) ، فإنها لا تجزئ بلا ريب، إذ هي أولى بالمنع من العرجاء بلا ريب، لمنعها من المشي مع جنسها، ومشاركتها لهم في الرعي، وما أحسن ما قال أبو البركات: لا تجزئ قائمة العينين. فإنه نبه على أن العلة ما قلناه، لإذهاب عضو كما في العوراء التي انخسفت عينها، ومن ذلك (الجدباء) ، وقال السامري: الجدباء. قال أحمد: هي التي قد يبس(7/17)
ضرعها، لأن ذلك أبلغ من ذهاب شحمة العين، ومنه على ما قال في التلخيص (العصماء) وهي التي انكسر غلاف قرنها، وفيه شيء، ومنه (الهتماء) وهي التي ذهبت ثناياها من أصولها، قاله صاحب التلخيص، زاعما أنه قياس المذهب، قال: لأن أثر ذهاب الأسنان لا سيما إذا ذهبت كلها أكثر من ذهاب بعض القرن، وقال: إنه لم يعثر فيه للأصحاب بشيء.
ومما اختلف في التضحية به (الجماء) وهي التي لم يخلق لها قرن، وقال ابن البنا: ولا أذن. فقال ابن حامد: لا يجوز، لأن ذهاب جميع القرن أبلغ من ذهاب بعضه، وقال القاضي، وابن البنا، وأبو محمد وغيرهم: يجوز، نظرا إلى أن هذا ليس بعيب، بخلاف كسر بعض القرن، ومن ذلك (البتراء) وهي التي لا ذنب لها، قال أبو محمد: سواء كان خلقة أو مقطوعا، واختار هو الإجزاء.(7/18)
3615 - وقد «روي من حديث الحجاج بن أرطأة، عن بعض شيوخه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أيضحى بالبتراء؟ قال: «لا بأس به» إلا أن هذا منقطع، مع أن الحجاج ضعيف، وقطع صاحب التلخيص بالمنع، وقال: وهي المبتورة الذنب، وظاهر هذا أنها المقطوعة الذنب، وقد قال أبو محمد: إن التي قطع منها عضو كالألية لا يجوز التضحية بها، ومنه أيضا (الخصي) قاله جماعة من الأصحاب منهم الشيخان.
3616 - لما روي عن أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين موجوءين خصيين» . وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نحوه. . . رواه أحمد، والوجاء رض(7/19)
الخصيتين، وما قطعت خصيتاه أو شلتا فكالموجوء، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب، يسمن الحيوان ويطيب لحمه، بخلاف ذهاب شحمة العين، وقيد ابن حمدان ذلك تبعا لصاحب التلخيص بغير المجبوب، فظاهره أن المجبوب لا يجزئ عندهما. وقد فسر ابن البنا الخصي بالذي قطع ذكره، وهو صريح لمخالفتهما، ومن ذلك (المقابلة) وهي التي قد انقطع من طرف أذنها قطعة (والمدابرة) وهي التي قد انقطع من خلف الأذن مثل ذلك (والخرقاء) وهي التي شقت أذنها، وقال القاضي: التي انثقبت أذنها. (والشرقاء) وهي التي تشق أذنها لسمة، فقال عامة الأصحاب بإجزاء ذلك مع الكراهة، عملا بمفهوم حديث البراء بن عازب «أربع لا تجوز في الأضاحي» وقال ابن أبي موسى بالمنع في الأربعة، اتباعا للنهي عن ذلك.
3617 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا منطوق فيقدم على عموم ذلك المفهوم.(7/20)
[الحكم لو أوجب الأضحية سليمة فتعيبت عنده]
قال: ولو أوجبها سليمة فعابت عنده ذبحها وكانت أضحية.
ش: نص أحمد على هذا في رواية صالح.
3618 - لما روي «عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اشتريت كبشا لأضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ضح به» » . رواه أحمد، وابن ماجه، ويخرج لنا عدم الإجزاء بناء على القول بوجوب(7/21)
الأضحية، كما لو أوجبها بنذره ثم عينها فعابت، وقول الخرقي: فعابت. أي عيبا يمنع الإجزاء، وإلا ما لا يمنع الإجزاء لا يحتاج إلى التنبيه عليه، وفي قوله: فعابت. إشعار بأنه لو أعانها هو أنها لا تجزيه، وهو كذلك.
قال: وإن ولدت ذبح ولدها معها.
ش: حكم ولد المعينة حكمها، يذبحه كما يذبحها لأنه كجزئها، ولأنه حكم قد ثبت له بطريق السراية من الأم، فيثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد.
3619 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأله فقال: يا أمير المؤمنين، إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها ولدت هذا العجل. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة» . رواه سعيد في سننه، وكذلك قال أبو بكر وغيره من الأصحاب: إذا أوجب سبعة أنفس أضحية ذبحت وولدها عن السبعة، والضمير في: وإن ولدت. راجع(7/22)
للتي أوجبها، فلو لم يوجبها كان ولدها له كبقية نمائها، ثم إن كلامه يشمل الولد الموجود حال التعيين وبعده، وهو كذلك.
(تنبيه) : لو عين أضحية عما ثبت في ذمته فولدت ذبح ولدها معها، فلو تعيبت الأم فبطل التعيين فيها فهل يتبعها الولد كما يتبعها ابتداء فيبطل التعيين فيه، أو لا، لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها؟ فيه وجهان.
[ما تتعين به الأضحية]
قال: وإيجابها أن يقول: هي أضحية.
ش: لا ريب في صيرورة الحيوان واجبا بقوله هذا أضحية، لأن هذا هو اللفظ الموضوع لذلك، أشبه ما لو قال لعبده: هذا حر. ولا يتعين لفظ الأضحية، بل كل لفظ دل على ذلك، كقوله: هذا لله. ونحوه من ألفاظ النذر، كما هو قاعدة المذهب، وصرح به الأصحاب، وقد يتعين بالنية كما في البيع والوقف والهبة ونحوهن، في رواية ضعيفة.
والخرقي والله أعلم إنما أراد بذلك المبالغة في أنه لا يحصل بالنية مع الشراء، كما يقوله المالكي والحنفي، وهو احتمال قاله أبو الخطاب، وذلك لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف.
(تنبيه) : وكذلك حكم الهدي يحصل بقوله: هذا(7/23)
هدي، أو لله، ونحو ذلك، لا بالنية ولو مع سوقه، ولا بإشعاره وتقليده، قاله عامة الأصحاب، وخالفهم أبو محمد فقال بوجوبه بذلك، جازما به كما يحصل الوقف ببناء مسجد والإذن في الصلاة فيه، والله أعلم.
قال: ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها ولم تجزئه.
ش: إذا أوجب التي اشتراها ناقصة - أي نقصا يمنع الإجزاء - وجب عليه ذبحها، لأن إيجابها كالنذر لذبحها، فيلزمه الوفاء به، وصار هذا كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام، فلا يجزئه عن الأضحية الشرعية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي» ويكون شاة لحم منذورة، فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها ونحو ذلك أجزأت عن الأضحية، قاله جماعة من الأصحاب.
[بيع الأضحية في الدين]
قال: ولا تباع أضحية الميت في دينه.
ش: لأن ذبحها قد تعين، أشبه ما لو كان حيا، ولأنه خرج عنها لله تعالى في حياته، أشبه الوقف، ولم يفرق الأصحاب فيما علمته بين أن يوجبها في حال صحته أو في حال مرضه، وقد يقال: إن قولهم: إن التبرعات في المرض تعتبر من الثلث وتنقض للدين المستغرق. يخرج ذلك، وقول الخرقي: أضحية الميت. يشمل ما إذا أوجبها، أو ذبحها ثم مات، فإنها إذا تتعين بالذبح، وخرج منه ما إذا عدم ذلك،(7/24)
كما لو اشتراها بنية الأضحية ثم مات، فإنها تباع في دينه لانتفاء تعيينها بذلك على المذهب.
قال: ويأكلها ورثته.
ش: يعني على الوجه المشروع في الأكل كما سيأتي، لقيامهم مقامه، والله أعلم.
[كيفية تقسيم الأضحية بعد الذبح]
قال: والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويتصدق بثلثها ويهدي ثلثها.
ش: قال الإمام أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله، يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث.
3620 - قال علقمة: «بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آكل ثلثها، وأن أرسل إلى أهل أخيه بالثلث، وأن أتصدق بالثلث» .
3621 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «الهدايا والضحايا ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين» .(7/25)
3622 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في صفة أضحية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث» . رواه الحافظ أبو موسى في «الوظائف» ، وقال: حديث حسن. ولأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] .
وظاهر ذلك القسم على ثلاثة.
وقول الخرقي: والاستحباب. ظاهر في أنه لو أكل أو أهدى أو تصدق بأكثر من الثلث جاز، ولا ريب في ذلك، نعم كلامه أيضا يقتضي أنه لو أكلها كلها، أو أهداها كلها، أو تصدق بها كلها جاز، وليس كذلك، بل الأصحاب على أنه لا يجب الأكل منها، ويجب أن يتصدق منها ولو بأوقية، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] أمر، وظاهر الأمر الوجوب، خرج منه الأكل.
3623 - بدليل ما روى عبد الله بن قرط أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(7/26)
قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» .
3624 - «وقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات أو ست ينحرهن، فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها، فسألت بعض من يليني ما قال؟ قالوا: قال «من شاء اقتطع» » وظاهر هذا أنه لم يأكل من ذلك شيئا، وفيه نظر، لأن هذه واقعة عين، والمعتمد أن الأمر بالأكل يرد كثيرا، والمراد به الإباحة، كما في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] . ونحوه فكذلك ها هنا، بخلاف الأمر بالصدقة، وغاية ما يقال أنه يلزم إذا استعمال الأمر في حقيقته ومجازه، ونلتزمه على أن المندوب مأمور به عندنا حقيقة.
إذا تقرر هذا فالذي يجب عليه الصدقة به هو أقل ما ينطلق عليه الاسم، قاله جمهور الأصحاب، نظرا لإطلاق الآيتين المتقدمتين، وقال أبو بكر في التنبيه: لا يدفع إلى المساكين ما يستحي من توجهه به إلى خليطه، اهـ.
ومن لم يأت(7/27)
بالواجب من الصدقة، بأن أكل الجميع، أو أهدى الجميع، فهل يضمن ما كان يجب أن يتصدق به، أو ما كان يشرع أن يتصدق به وهو الثلث؟ فيه وجهان.
(تنبيهان) :
«أحدهما» : عموم كلام الخرقي في الإطعام يشمل الكافر، وهو كذلك في الصدقة المستحبة منها، كبقية صدقة التطوع، أما الصدقة الواجبة منها فلا تدفع إليه كالزكاة ونحوها، ولهذا قيل: لا بد من دفع الواجب إلى فقير وتمليكه، وهذا بخلاف الإهداء فإنه يجوز إلى غني وإطعامه، " الثاني " هذا الذي قاله الخرقي بناء على قوله باستحباب الأضحية، ففي الأكل وجهان (الجواز) كما في هدي التمتع والقران (وعدمه) كالأضحية المنذورة على قول الأكثرين، وعن أبي بكر - وتبعه أبو محمد - جواز الأكل من الأضحية المنذورة أيضا، لأن أكثر ما في النذر التزام حكم الأضحية، ومن حكمها جواز الأكل، والله أعلم.
قال: ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها.
3625 - ش: «قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئا، وقال: «نحن نعطيه من عندنا» . متفق عليه. وفي قوله: بأجرته. إشعار بأنه(7/28)
يجوز الدفع إليه لا على سبيل الأجرة، كأن يدفع إليه لفقره أو هدية، وهو كذلك، لأنه ساوى غيره في ذلك، وزاد عليه بمباشرته لها، وتشوف نفسه إليها، وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث، ولو قيل بعمومه سدا للذريعة لكان حسنا.
قال: وله أن ينتفع بجلدها.
ش: لا نزاع في ذلك، لأن الجلد جزء من الأضحية، أشبه اللحم.
3626 - وعن أبي سعيد الخدري، أن قتادة بن النعمان أخبره، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فقال: «إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا من الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم، وإني أحله لكم، فكلوا منه ما شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها، وإن أطعتم من لحومها شيئا فكلوا إن شئتم» . رواه أحمد، وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوا إن شئتم» إشعار بوجوب الإطعام منها، وتوقف الأكل عليه.(7/29)
قال: ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لما تقدم من حديثي علي والنعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال أحمد: سبحان الله، كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى! .
وحكى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يعطي في جزارته شيئا منها» (وعن أحمد) رواية أخرى: يجوز بيع الجلد والصدقة بثمنه.
3627 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه إذا كان له منع الفقراء منه رأسا بأن ينتفع به، فلأن يمنعهم من عينه ويدفع ثمنه إليهم أولى، (وعنه ثالثة) يباع بمتاع البيت كالغربال ونحوه، فيكون إبدالا بما يحصل منه مقصودها، كما جاز إبدال الأضحية، (وعنه رابعة) يباع جلد البقرة والبدنة ويتصدق بثمنه، دون الشاة، ولعله اعتمد في ذلك على أثر.
(تنبيه) : حكم جل الأضحية حكم جلدها، قاله أبو(7/30)
البركات، لكنه إنما حكى الروايتين الأولتين.
[استبدال الأضحية]
قال: ويجوز أن يبدل الأضحية - إذا أوجبها - بخير منها.
ش: هذا مبني على أصل، وهو أنه إذا أوجب أضحية فهل يزول ملكه عنها؟ بذلك قال عامة الأصحاب، وزعم أبو محمد في الكافي أن أحمد نص على أنه لا يزول بذلك، إذ النذور محمولة على أصولها في الفروض، وفي الفرض لا يزول ملكه وهو الزكاة، وله إخراج البدل فكذلك في النذر، وخالفهم أبو الخطاب في هدايته وخلافه الصغير، فقال بالزوال، معتمدا على قول أحمد في الهدي إذا عطب في الحرم: قد أجزأ عنه. وقوله في الأضحية إذا هلكت: ليس عليه بدلها. وقوله إذا عين الهدي أو الأضحية فأعورت أو عجفت يذبحها وتجزئه، وكذا لو ذبحت فسرقت، أو ذبحها ذابح بغير إذنه أجزأت، قال: ولو كان ملكه باقيا لوجب عليه بدلها في جميع هذه المواضع، ووجه ذلك أنه جعلها(7/31)
لله تعالى، فأشبهت المعتق والموقوف، فعلى هذا القول لا يجوز البيع ولا الإبدال مطلقا.
أما على المذهب فيجوز إبدالها بخير منها وقد نص عليه أحمد، نظرا لمصلحة الفقراء في ذلك، ولا يجوز بدونها قطعا، لما فيه من تفويت حرمتها وإنه لا يجوز، وهل يجوز بمثلها؟ فيه وجهان: (أحدهما) : وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره أبو محمد لا يجوز، لأنه تفويت للعين من غير فائدة تحصل، أشبه ما لو أبدلها بدونها. (والثاني) : يجوز لأن الواجب لم ينقص.
وحيث جاز الإبدال فهل يجوز البيع؟ فيه روايتان: (إحداهما) : وهي اختيار أبي بكر والقاضي - يجوز، إذ الإبدال بيع في الحقيقة، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجته، وقدم علي من اليمن فأشركه فيها» . رواه مسلم وغيره. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - لا يجوز.
3628 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أهدي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بختيا، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختيا فأعطيت بها ثلثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال:(7/32)
«لا، انحرها إياها» رواه أحمد وأبو داود، والبخاري في تأريخه، وهذا نص، وفيه دليل على المنع من الإبدال، كما يقوله أبو الخطاب، ويجاب عن تشريك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ذلك في الأجر والثواب، أو كان قبل الإيجاب.
وحيث جاز البيع فهل ذلك بشرط أن يبيعها لمن يضحي بها، قاله الشيرازي، وصاحب التلخيص، أو مطلقا، وهو ظاهر كلام القاضي وأبي بكر؟ فيه قولان، ثم على القولين يشتري خيرا منها، قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، وحكاه أبو محمد عن القاضي، وظاهر كلام القاضي في الجامع جواز شراء مثلها، قال: عليه بدنة مكانها. ثم قال صاحب التلخيص: يصرف ثمنها في خير منها، وقال غيره: يشتري خيرا منها، وأطلق.
(تنبيه) : حكم الهدي الواجب حكم الأضحية فيما تقدم.
[وقت ذبح الأضحية]
قال: وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل الذبح.(7/33)
ش: يوم الأضحى يوم لذبح الأضحية في الجملة بالإجماع، واختلف بماذا يدخل وقت الذبح، فعند الخرقي أنه يدخل بمقدار مضي صلاة العيد وخطبته، لأن الصلاة تتقدم وتتأخر، وقد تفعل وقد لا تفعل، وذلك ضابط لا يختلف، فأنيط الحكم به، ولم يعتبر أبو محمد في المقنع تبعا لأبي الخطاب في الهداية غير قدر الصلاة، لأن المذكور في الأحاديث - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - الصلاة، وقال القاضي وعامة أصحابه - الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في المغني، وهو إحدى الروايات عن الإمام -: المعتبر في حق أهل المصر صلاة الإمام فقط.
3629 - لما «روي عن جندب بن سفيان البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أضحى، قال: فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الأضحى تفرق، فعرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ذبحت قبل أن يصلي، فقال: «من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله» .(7/34)
3630 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر: «من كان ذبح قبل الصلاة فليعد» متفق عليهما، وللبخاري من حديث أنس «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب نسك المسلمين» . (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي محمد في الكافي، وزعم في المغني أنها ظاهر كلامه -: المعتبر مع الصلاة الفراغ من الخطبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنكاره كان بعد الفراغ من الخطبة، ولأن الخطبة كالجزء من الصلاة. (والرواية الثالثة) : يعتبر مع ذلك ذبح الإمام.
3631 - لما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نحر، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -» . . . رواه أحمد ومسلم.
وهذه الروايات في حق أهل الأمصار، أما أهل القرى الذين لا صلاة عليهم لقلتهم، ومن كان في حكمهم كأصحاب الطنب والخركاوات، فعامة الأصحاب هنا(7/35)
يوافقون الخرقي، لأنه لما تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة اعتبر قدرها، ثم إن عامة أصحاب القاضي على أن المعتبر قدر الصلاة فقط، بعد دخول وقتها، بناء على اعتبارهم الصلاة ثم، وظاهر كلام القاضي في الجامع وأبي محمد أن المعتبر قدر الصلاة والخطبة، ولنا وجه ثالث أن المعتبر مع ذلك ذبح الإمام من الرواية الثالثة ثم، وحكى صاحب التلخيص وجها آخر أن المعتبر ذلك الوقت، أي وقت صلاة الإمام، وهو ظاهر إطلاق أبي البركات، أو صلاة الإمام وخطبته، أو خطبته وذبحه، ويتلخص أن في أهل الأمصار خمسة أقوال، وفي أهل القرى ستة.
إذا تقرر هذا فلا فرق في أهل الأمصار بين من عليه الصلاة ومن لا صلاة عليه، كالنساء ونحوهن، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكثيرا من الأصحاب أطلقوا قدر الصلاة والخطبة، فيحتمل أن يعتبروا ذلك بمتوسطي الناس، وأبو محمد اعتبر قدر صلاة وخطبة تامتين في أخف ما يكون، وإذا اعتبرنا الصلاة فإذا صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد، فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح، ولو لم يصل الإمام في المصر لعذر أو غيره لم يجز الذبح حتى تزول(7/36)
الشمس، لأن الصلاة تفوت إذا، وأما الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز قبل الصلاة، لأنه مرتب على أداء صلاة العيد، وذلك قد سقط.
قال: إلى آخر يومين من أيام التشريق.
ش: وقت الذبح عندنا ينتهي بمضي يومين من أيام التشريق، فأيام النحر عندنا ثلاثة أيام يوم الأضحى، ويومان بعده.
3632 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه بلا ريب أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ويلزم منه تأقيت الذبح بثلاث، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، لا يقال: فقد ثبت نسخ ذلك، لأنا نقول الحديث دل على(7/37)
حكمين، المنع من الادخار فق ثلاث، وأن وقت الذبح ذلك، ونسخ المنع من الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه نسخ الحكم الآخر.
3633 - ثم إن هذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية(7/38)
قال: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر أنسا.
3634 - ولا مخالف لهم إلا رواية رويت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(7/39)
(تنبيه) : فإن خرج الوقت ولم ينحر ذبح الواجب قضاء، إذ الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم، وخير في التطوع، فإن ذبح فهو شاة لحم، والله أعلم.
قال: نهارا ولا يجوز ليلا.
ش: لما تكلم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أول وقت الأضحية وآخره، شرع يتكلم على محله، فقال إن محله النهار دون الليل، ولا نزاع أن النهار محل للذبح، واختلف في الليل هل هو محل لذلك أم لا؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي - ليس بمحل لذلك، نظرا لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] واليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
3635 - وفي مراسيل أبي داود - فيما أظن - من طريق بقية بن الوليد، عن مبشر بن عبيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذبح بالليل» ، لكن مبشرا، قالوا: متروك. فهو عكس اسمه، (وعنه) - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، وصاحب التلخيص وغيرهم - هو محل للذبح أيضا، لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث، يدخل فيه الليل، واليوم يطلق ويراد مع ليلته، ومحل(7/40)
الخلاف فيما عدا ليلة النحر، وهذا واضح، لأن الوقت في الذبح إنما يدخل بعد مضي جزء من النهار كما تقدم، اهـ.
فعلى الأولى إن ذبح ليلا لم تجزئه أضحيته، لكن في الواجب يلزمه البدل، وفي التطوع يكون ذبحه ذبح لحم، وعلى الثانية تجزئ لكنه يكره حذارا من الخلاف، والله أعلم.
قال: فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه.
ش: إذا ذبح قبل وقت الذبح، بأن ذبح في اليوم الأول قبل مقدار الصلاة والخطبة، أو مقدار الصلاة على ما تقدم من الخلاف، وفي اليوم الثاني، وكذا الثالث قبل طلوع فجرهما على مختاره لم تجزئه لإيقاع ذلك في غير وقته، أشبه ما لو صلى قبل الوقت، وقد شهد لذلك ما تقدم في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه» والله أعلم.
قال: ولزمه البدل.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى» وفي لفظ «فليعد»(7/41)
وكلام الخرقي يشمل الأضحية الواجبة وغيرها، وهو ظاهر الحديث، لكن أبا محمد وغيره حملوا على الواجب بنذر أو بتعيين، أما ما ذبحه تطوعا فلا بدل عليه إلا أن يشاء، لأن غايته أنه قصد تطوعا فأفسده، فصار كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها لغير مستحقها، وحمل أبو محمد الحديث على الندب، أو على التخصيص بمن وجبت عليه. قلت: وأولى المحملين الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم حكما عاما، فدعوى التخصيص لا دليل عليه.
والبدل الواجب مثل المذبوح أو خير منه، قال أبو محمد: وهو بظاهره مشكل، إذ الحيوان عند الأصحاب متقوم بلا ريب، وكأن أبا محمد إنما أراد أن يشتري بقيمته مثله، وترك بيان ذلك إحالة على ما تقدم له، وقد قال هو والأصحاب فيما إذا أوجب أضحية ثم أتلفها: إنه يضمنها بقيمتها تصرف في مثلها، ثم اختلفوا هل يضمنها بقيمتها يوم الإتلاف فقط، وهو قول القاضي، وتبعه أبو الخطاب في خلافه، أو بأعلى القيمتين، وهو قول أكثر أصحاب القاضي؟ على قولين. وعلى القول الثاني: أعلى القيمتين هو من حين الإيجاب إلى حين التلف، عند ابن عقيل، وصاحب التلخيص، ومن حين التلف إلى حين جواز الذبح، عند الشريف وأبي الخطاب في الهداية، والشيرازي والشيخين وغيرهم.
(تنبيه) : الشاة المذبوحة شاة لحم كما في الحديث، يصنع بها ما شاء، هذا المشهور، ولأبي محمد احتمال أن حكمها(7/42)
حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية، ويكون معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شاة لحم» أي في فضلها وثوابها خاصة، دون ما يصنع بها.
[ذبح الكتابي للأضحية]
قال: ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم.
ش: لا نزاع في ذلك، لأنها قربة وطاعة، فلا يليها غير أهل القرب، ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز أن يذبحها غير المسلم، ومراده بذلك الكتابي، بدليل ما تقدم له، وقد اختلف عن أحمد في ذلك، (فعنه) - وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب - يجوز، لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية، فجاز له ذبح الأضحية كالمسلم، ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد ونحو ذلك، (وعنه) المنع.
3636 - لأن في حديث ابن عباس الطويل «ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر» .
3637 - وقال جابر: لا يذبح النسك إلا مسلم. وحملا على الكراهة التنزيهية، اهـ.
ويشترط أن ينوي المسلم ذلك، ويكون توكيل الذمي في(7/43)
مجرد النحر، نعم في المعينة لا يحتاج إلى نية، نظرا للتعيين.
(تنبيه) : عامة الأصحاب على حكاية الروايتين على الإطلاق، وخصهما ابن أبي موسى والشيرازي بالبقر والغنم، وجزما في الإبل بعدم الإجزاء، وقال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: هذا - أي جواز ذبح الكتابي - على الرواية التي تقول: الشحوم المحرمة على اليهود لا تحرم علينا، زاد الشريف: أو على كتابي نصراني، ومقتضى هذا أن محل الروايتين على القول بحل الشحوم، أما إن قلنا بتحريم الشحوم فلا يلي اليهودي بلا نزاع، وقد أشار أبو محمد إلى هذا، فإنه علل المنع بأن الشحم محرم علينا، فيكون ذلك إتلاف جزء منها، وأجاب بمنع تحريم الشحم.
[استحباب أن يذبح المضحي بنفسه]
قال: فإن ذبحها بيده كان أفضل.
ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما، ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا وستين بدنة، ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها، فإن استناب جاز بلا نزاع، وقد استناب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما غبر عليه من بدنه، والمستحب إذا لم يذبح بيده أن يمسك المدية بيده حال الإمرار، فإن لم فليحضر، لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الطويل «واحضروها إذا ذبحتم، فإنه يغفر(7/44)
لكم عند أول قطرة من دمها» والله أعلم.
[النية والتسمية عند الأضحية]
قال: ويقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر.
ش: قد تقدم هذا، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى وكبر، والأولى أن يكون ذلك عند تحريك يده بالذبح، والله أعلم.
قال: فإن نسي لم يضره.
ش: إذا نسي التسمية فلا يضره، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه، فلا حاجة إلى إعادته.
قال: وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن، لأن النية تجزئ.
ش: لا ريب في الاكتفاء بالنية، إذ الأعمال بها، نعم إن ذكر من ضحى عنه فحسن.
3638 - لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح» .(7/45)
وقول الخرقي: لأن النية تجزئ. إشعار بأنه لا بد من النية، ولا إشكال أنها لا تصير أضحية إلا بالنية، بقي هل تحتاج إلى تجديد النية عند الذبح؟ قال في التلخيص: إذا قال: جعلت هذه أضحية. أغناه عن تجديد النية عند الذبح، وكذا إذا نذرها بعينها، بخلاف ما إذا نذرها في ذمته، ثم قال: جعلتها هذه. فإنه لا بد وأن ينويه وقت الذبح. قلت: وعلى هذا ففي المتطوع به لا بد وأن ينويه عند الذبح.
[الاشتراك في الأضحية]
قال: ويجوز أن يشترك السبعة فيضحوا بالبقرة أو البدنة.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في أول الباب، وقد يقال: إنه إنما أعادها هاهنا لأن كلامه السابق في أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة، فهذا قد يقال فيما إذا ذبحها ذابح عنهم ونحو ذلك، وهذه المسألة فيما إذا اشتركوا فيها، والأجود أن يقال: إن كلامه السابق في الواجب، إذ الإجزاء مشعر بذلك، وهنا في التطوع، ونبه بذلك على مخالفة من فرق بينهما اهـ.(7/46)
(تنبيه) : الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة، فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية شاركناه. فجاء قوم فشاركوهم، لم تجزئ إلا عن الثلاثة، قاله الشيرازي.
[حكم العقيقة]
قال: والعقيقة سنة.
ش: قال الأزهري: قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره: العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت الشاة المذبوحة عند حلق شعره عقيقة، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه، ثم اشتهر ذلك فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة، وقال ابن عبد البر: أنكر أحمد هذا التفسير، وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه، وذلك لأن أصل العق القطع، ومنه: عق والديه.
إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم والمريء.
والعقيقة مشروعة مطلوبة عندنا بلا ريب.
3639 - لما روي «عن أم كرز الكعبية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «نعم عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا» » . رواه أحمد، والترمذي وصححه.(7/47)
3640 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا» . رواه أبو داود والنسائي، وقال: بكبشين كبشين.
3641 - وعن بريدة الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. رواه(7/48)
أبو داود وقال أحمد: العقيقة سنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عق عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه.
واختلف أصحابنا هل تنتهي هذه المطلوبية إلى الوجوب؟ فقال أبو بكر في التنبيه بانتهائها إلى ذلك، قال أبو الخطاب: ويحتمله كلام أحمد.
3642 - لما روى الحسن، عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.(7/49)
3643 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه والعق» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وقال عامة الأصحاب - وهو المعروف عن أحمد - بعدم انتهائها إلى ذلك، ووقفوا عند القول باستحبابها.
3644 - لما روي عن عمرو بن شعيب أيضا، عن أبيه، عن جده، قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «لا أحب العقوق» وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله، إنما نسألك عن(7/50)
أحدنا يولد له. قال: «من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة» » رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وإذا يحمل ما تقدم على تأكيد الاستحباب، جمعا بين الأدلة، ويرجحه الأمر بالتسمية يوم السابع والحلق، وليس ذلك بواجب، وإذا كانا مستحبين فكذلك الذبح، حذارا من استعمال الأمر في حقيقته ومجازه، لا لمجرد دلالة الاقتران.
[على من تكون العقيقة ووقت ذبحها]
قال: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.
ش: لما تقدم من حديثي أم كرز، وعبد الله بن عمرو، وعق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحسن والحسين قد جاء فيه كبش، وجاء كبشان، مع أن رواية الكبش قد تحمل على الجواز، وعلى عدم الوجدان، وكذا نقول بجواز أن يذبح شاة واحدة إذا لم يقدر على غيرها، والأولى كون الشاتين متماثلتين، لما تقدم في الحديث «متكافيتان» قال أحمد: يعني متقاربتين(7/51)
أو متساويتين.
قال: تذبح يوم السابع.
ش: وذلك لما تقدم من حديثي سمرة وعبد الله بن عمرو، وظاهر كلام الخرقي أن جميع العقيقة تذبح يوم السابع، وقال ابن البنا: تذبح إحدى شاتي الغلام يوم ولادته، والأخرى يوم سابعه، والأول هو المعروف في النقل، وهو ظاهر الحديث، فإن فات السابع فقال الأصحاب في أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين.
3645 - لأن ذلك يروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهذا على سبيل الاستحباب وبعد يجزئ لحصول المقصود، وكذلك قبل بعد الولادة، إذ هو أول الوقت، فإن تجاوز إحدى وعشرين ففيه احتمالان: (أحدهما) : يستحب في كل سابع، فيذبح في ثمانية وعشرين، ثم في خمس وثلاثين، وعلى هذا قياسا على ما تقدم. (والثاني) : يفعل في كل وقت، لأن هذا قضاء، فلم يتوقت كقضاء الأضحية وغيرها.(7/52)
[ما يجزئ في العقيقة ومصرفها]
قال: ويجتنب فيها من العيوب ما يجتنب في الأضحية.
ش: يجتنب في العقيقة من العيب ما يجتنب في الأضحية، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، شكرا على نعمته، فأشبهت الأضحية، فعلى هذا لا يعق بعوراء بين عورها، ولا عرجاء بين عرجها، ولا مريضة بين مرضها، ولا عجفاء لا تنقي، وبيان ذلك مفصلا قد تقدم.
قال: وسبيلها في الأكل والصدقة والهدية سبيلها.
ش: لأنها نسيكة مشروعة، أشبهت الأضحية، قال أبو محمد: وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن.
قال: إلا أنها تطبخ أجدالا.
ش: يعني أن الأولى في العقيقة أن تفصل الأعضاء، فتطبخ كذلك، ولا تكسر عظامها، تفاؤلا بسلامة المولود.
3646 - وفي مراسيل أبي داود، عن جعفر، عن أبيه «، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن يبعثوا إلى بيت القابلة برجل، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظما» ولهذا قال أبو بكر في التنبيه: يعطي القابلة منها فخذا.
(تنبيه) : الأجدال واحدها جدل بالدال غير المعجمة وهو العضو، والله سبحانه أعلم.(7/53)
[كتاب السبق والرمي]
ش: الأصل في مشروعية ذلك الإجماع.
3647 - وقد شهد له ما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفيا، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بالخيل التي لم تضمر من الثنية، إلى مسجد بني زريق» ، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فيمن سابق فيها. متفق عليه، واللفظ لمسلم، زاد البخاري قال سفيان: من الحفيا إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل.
3648 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله أن الله تعالى لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» رواه أحمد والبخاري، وقال(7/54)
الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] .
3649 - قال «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» رواه مسلم وغيره.
3650 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا» » . رواه أحمد ومسلم وغيره.
3651 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي(7/55)
به في سبيل الله» ، وقال: «ارموا واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا» ، وقال: «كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثا، رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» رواه الخمسة، والله أعلم.
[ما يكون فيه السبق]
قال: والسبق في الحافر والنصل والخف لا غير.
ش: السبق بفتح الباء الجعل المخرج في المسابقة، وبسكونها مصدر سبقه سبقا ومسابقة، ولا نزاع في جواز المسابقة بغير عوض مطلقا، من غير تقييد بشيء معين، كالمسابقة على الأقدام والسفن والمزاريق، والطيور والفيلة ونحو ذلك، وكذلك المصارعة، ورفع الحجر ليعرف الأشد.
3652 - «وقد سابقت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجليها» . رواه أبو داود.(7/56)
3653 - «وصارع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركانة فصرعه» . رواه الترمذي.
3654 - «ومر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يربعون حجرا، أي يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم» ، وأما المسابقة بعوض فمذهبنا أنه لا يجوز إلا(7/57)
في الثلاثة التي ذكرها الخرقي، (في النصل) ، وهو السهام من النشاب والنبل دون غيرها (والخف) وهو الإبل وحدها (والحافر) وهو الخيل وحدها، وهو تسمية الشيء باسم جزئه، أو على حذف مضاف، أي ذي خف، وذي حافر، وذي نصل، وتبع الخرقي في ذلك لفظ الحديث الذي هو المعتمد عليه في المسألة.
3655 - وهو ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وصححه ابن القطان، أي لا سبق شرعي، أو لا سبق يعتبر في الشرع في غير هذه الثلاثة، وقد صرح بمعنى هذا في رواية النسائي، فقال: «لا يحل سبق إلا على خف، أو حافر، أو نصل» وإنما خصت هذه الثلاثة، والله أعلم، بتجويز العوض فيها، لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وأحكامها، ولأنها المعهودة المعتادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولهذا قلنا: إن المراد بالنصل والخف والحافر ما تقدم، دون المزاريق، والفيلة، والبغال والحمير، نظرا للمعتاد.(7/58)
[أخذ العوض في المسابقة]
قال: وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر.
ش: لا نزاع في جواز جعل العوض في المسابقة من الإمام، لما في ذلك من الحث على تعلم الجهاد، والنفع للمسلمين، وكذلك يجوز عندنا جعله من غير المتسابقين، نظرا لما فيه من المصلحة، فأشبه شراء السلاح والخيل لذلك، ويجوز أيضا عندنا جعله من أحد المتسابقين، كأن يقول مثلا من أراد الإخراج: إن سبقتني فلك عشرة، وإن سبقتك فلا شيء عليك، لما في ذلك من المصلحة، وبهذا خرج عن أن يكون قمارا، إذ المتقامران لا يخلو كل منهما من أن يكون غارما أو غانما، فكل منهما دخل على خطر، وهنا ليس كذلك، إذ أحدهما لا خطر عليه، لأنه إما أن يكون غانما، أو غير غارم، وصاحبه إما غارما أو غير غانم.
(تنبيه) : وشرط العوض كونه معلوما بالمشاهدة، أو بالقدر، والصفة.
قال: فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا، فإن سبق من لم يخرج أحرز سبق صاحبه.
ش: اعتمادا على الشرط السابق.
قال: وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما، أو بعيره بعيريهما، أو رميه رمييهما.
ش: قد تقدم أن الفاصل بين المسابقة الشرعية والقمار، أن المقامر يكون على خطر من أن يغنم أو يغرم، بخلاف المسابق، فعلى هذا إذا كان الجعل منهما، ولم يدخلا محللا لم يجز، لوجود معنى القمار فيه، وهو الخطر في كل واحد منهما.(7/59)
3656 - وقد نبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، حيث قال فيما رواه عنه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «من أدخل فرسا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» . رواه أحمد واللفظ له، وأبو داود وابن ماجه، فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق، لأن كل واحد منهما إذا على خطر من أن يغنم أو يغرم، ولم يجعله قمارا إذا لم يأمن أن يسبق، لأن كل واحد منهما إذا يجوز أن يخلو من ذلك، وإن كان الجعل منهما، وأدخلا محللا جاز للحديث، لكن بشرط أن يكون كما قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكافئ، أي يماثل فرسه فرسيهما إن كانت المسابقة على الخيل، أو بعيره بعيرتهما إن كانت على الإبل. أو رميه رمييهما إن كانت على الرمي لأنه إذا كان كذلك لم يؤمن أن يسبق، فيجوز كما في الحديث، لانتفاء معنى القمار، وإن لم يكن كذلك بأن كان فرساهما(7/60)
جوادين، وفرسه بطيئا، فهو مأمون سبقه، فيكون وجوده كعدمه، وإذا يكون قمارا كما في الحديث.
(تنبيه) : سمي الداخل بينهما محللا لأن العوض صار حلالا به، فهو السبب لحل العوض، والله أعلم.
قال: فإن سبقهما أحرز سبقهما، وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه، وأخذ سبق صاحبه، فكان كسائر ماله، ولم يأخذ من المحلل شيئا.
ش: إذا جاز إخراج السبق وهو الجعل من كل واحد منهما بالشرط السابق، فلا يخلو من خمسة أحوال: (الحال الأولى) : جاءوا جميعا، فإن كل واحد منهما يحرز سبق نفسه، ولا شيء للمحلل، لأنه لا سابق فيهم. (الثانية) : سبق المستبقان المحلل، فكذلك لتساويهما، وانتفاء سبق المحلل. (الثالثة) : سبقهما المحلل، فإنه يحرز سبقيهما لسبقه. (الرابعة) : سبق أحدهما، فإنه يحرز سبق نفسه، لأنه لا سابق له، ويأخذ سبق صاحبه لسبقه، ولا يأخذ من المحلل شيئا، إذ وضع المحلل أنه لا يدفع شيئا. (الخامسة) : سبق أحدهما مع المحلل، فإن السابق يحرز سبقه، ويكون سبق الآخر بينهما.
(واعلم) أنه يشترط في المسابقة (تعيين) المركوبين والراميين، لا الراكبين والقوسين، (واتحاد) نوع القوسين والمركوبين، فلا يجوز بين قوس عربية وفارسية، ولا بين فرس عربي وهجين على المذهب، وخرج الجواز بناء على تساويهما في السهم (وتحديد) المسافة بما جرت به العادة، وقد تقدم شرط العوض.(7/61)
قال: ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرسا يحرضه على العدو، ولا يصيح به في وقت سباقه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جنب ولا جلب» .
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله.
3657 - وهو ما روى عمران بن حصين، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا جلب ولا جنب يوم الرهان» . رواه أبو داود، والنسائي، وزاد «ولا شغار في الإسلام» وكذلك الترمذي، وزاد «ومن انتهب نهبة فليس منا» .
3658 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب، ولا شغار في الإسلام» . رواه أحمد، والمعروف في تفسير الحديث ما قاله الخرقي، وفسر القاضي - وكذلك ابن الأثير في جامع الأصول - الجنب بأن يجنب فرسا آخر معه، فإذا قصر المركوب ركب المجنوب،(7/62)
وهذا التفسير قديم، فإن ابن المنذر قال: كذا قيل، ولا أحسب هذا يصح، لأن الفرس التي يسابق بها لا بد من تعيينها، فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها، وإن كانت التي يتحول إليها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة. ومن شرط السباق ذلك، وعن أبي عبيد أنه فسر الجلب بأن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم، قال: فلا يفعل، ليأتيهم على مياههم فيصدقهم، وهذا يرده ظاهر الحديث، وقد يقال يوم الرهان ظرف للجلب فقط، فلا دلالة في الحديث، والله أعلم.(7/63)
[كتاب الأيمان والنذور] [أولا: كتاب الأيمان]
ش: الأيمان جمع يمين، وهي في أصل اللغة الحلف بمعظم في نفسه أو عند الحالف، على أمر من الأمور، بصيغ مخصوصة، كقوله: والله لأفعلن. وحياتك لأركبن، والأصل في مشروعيتها الإجماع، وقد شهد لذلك أمر الله تعالى نبيه بها، قال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية.
3659 - ومن السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» متفق عليه.
[اليمين المنعقدة]
قال: ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، أو لا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة.
ش: الأصل في هذا في الجملة قول الله تعالى:(7/64)
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية.
3660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره.
3661 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» متفق عليه. في عدة أحاديث سوى هذين.
وقد شمل كلام الخرقي ما كان فعله معصية، فلو حلف أن يفعل معصية فلم يفعلها فعليه الكفارة، وهذا قول العامة لما تقدم، وقيل لا كفارة في ذلك.
3662 - لما روي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها، وليأت الذي هو خير،(7/65)
فإن تركها كفارتها» رواه أبو داود والنسائي، لكن قال فيه أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به. وهذه إشارة إلى ضعفه وشذوذه.
3663 - وقد «روى الأحوص عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت ابن عم لي آتية أسأله فلا يعطيني، ولا يصلني، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله؟ فأمرني أن آتي الذي هو خير، وأكفر(7/66)
عن يميني» . رواه النسائي.
وقول الخرقي: حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، هذا إذا كانت يمينه مؤقتة ففات الوقت، أو كانت مطلقة ففات وقت الإمكان، وبيان ذلك له محل آخر، والله أعلم.
[من شرط الحنث في اليمين التذكر]
قال: فإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق.
ش: لما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من حلف على ترك شيء ففعله فعليه الكفارة، قال: إن هذا مقيد بما إذا فعله ذاكرا ليمينه، أما إذا فعله ناسيا لها - واليمين بغير الطلاق والعتاق فلا شيء عليه، لعموم قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .
3664 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» .(7/67)
وإن كانت اليمين بالطلاق والعتاق فإنهما يلزمانه، لترددهما بين التعليق بالشرط - لأن صورتهما صورته - وبين اليمين، لوجود معنى اليمين فيهما وهو الحث أو المنع، فغلب جانب التعليق احتياطا للفروج، ولفكاك الرقاب، وأيضا فقد تقدم أن أصل اليمين في اللغة الحلف بمعظم، والحلف بالطلاق والعتاق - كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر - ليس كذلك، وإنما هو جزاء أو شرط، والأصل البقاء وعدم النقل، وتسمية ذلك حلفا إنما هو مجاز، لما فيه من الحث أو المنع، والأصل الحقيقة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب.
وفي المذهب (رواية ثانية) لا يحنث في الجميع، اعتمادا على عموم الآية والحديث، إذ الحث والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، وقد استقر أن فاعل المنهي عنه ناسيا أو مخطئا لا يكون آثما ولا مخالفا، فكذلك من فعل المحلوف على تركه ناسيا أو جاهلا، لا يكون حانثا، ولا مخالفا ليمينه، وهذه الراوية اختيار أبي العباس، وقال: قد نظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الأولى، التي هي رواية التفرقة (وعنه رواية ثالثة) يحنث في الجميع، وهي أضعفهن، لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله، فأشبه الذاكر.
(تنبيه) : وحكم جاهل المحلوف عليه - كمن حلف لا يسلم(7/68)
على فلان، فسلم عليه يحسبه غيره، أو أن لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأعطاه قدر حقه، ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا ونحو ذلك حكم الناسي على ما تقدم، (أما المكره) بغير الإلجاء ففيه روايتان، والذي نصره أبو محمد عدم الحنث، نظرا إلى أن الفعل لا ينسب إليه، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما من الرواية ثم وإن كان الإكراه بالإلجاء - كمن حلف لا يدخل دارا، فحمل وأدخلها، ولم يقر على الامتناع - لم يحنث، لعدم نسبة الفعل إليه، وإن قدر على الامتناع فوجهان: (الحنث) لأن قدرته على الامتناع بمنزلة فعله (وعدمه) لانتفاء الفعل منه حقيقة، والفاعل في حال الجنون قيل كالناسي، لأن فعله قد يعتبر، بدليل صحة إيلائه، والأصح عدم حنثه مطلقا كالنائم.
[اليمين الغموس]
قال: من حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه، لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة.
ش: كذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الجماعة: هو أعظم من أن تكون فيه كفارة، وعليه الأصحاب.
3665 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل(7/69)
النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق» .
3666 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اختصم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان، فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء. قال: فنزل جبريل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه كاذب، إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته» . . . رواهما أحمد، وروى الثاني أبو داود بنحوه،(7/70)
فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأول أن هذه اليمين لا كفارة لها، وأخبر جبريل في الثاني أن كفارتها الشهادة، لا الكفارة التي أوجبها الله تعالى في تعقيد الأيمان، وكلامنا فيها، وأيضا فإن هذه اليمين أعظم من أن تكفر، كما قال أحمد، إذ الكفارة لا ترفع إثمها، ولا تمحو ما حصل بها، وبيان ذلك أنها كبيرة، أو من أعظم الكبائر.
3667 - ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب.» 3668 - وعن عبد الله بن أنيس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها جناح بعوضة، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أبو داود،(7/71)
وأيضا فهي يمين غير منعقدة، فلا توجب كفارة كاللغو، وبيان عدم انعقادها أنها لا تقتضي برا، ولا يمكن فيها، واليمين المنعقدة هي التي يمكن فيها البر والحنث.
3669 - وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين حنث أو ندم» » فجعل اليمين مترددة بين شيئين الحنث أو الندم، وهذه حنث فقط بل وندم.
(وعن أحمد) رواية أخرى تجب فيها الكفارة، لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد، فأوجبت الكفارة كالمستقبلة ولأن الكفارة إذا وجبت مع غير الغموس أولى، وجواب هذا قد تقدم، وهو أن هذه لعظمها قصرت الكفارة عن الدخول فيها.
3670 - قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نعد من الأيمان التي لا كفارة فيها اليمين الغموس.(7/72)
(تنبيه) اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، فيمين صبر أي يمين حبس، لأنها تحبس صاحبها.
[اليمين اللغو]
قال: والكفارة إنما تلزم من حلف وهو يريد عقد اليمين.
ش: الكفارة إنما تلزم من حلف وهو قاصد لعقد اليمين، فلو مرت اليمين على لسانه من غير قصد إليها، كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه، فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين.
3671 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] في قول الرجل: لا والله وبلى والله. أخرجه البخاري وأبو داود، وقال بعض المحدثين: وطريقة البخاري في صحيحه تقتضي أن نحو هذا من باب المرفوع، قلت: وكذلك جاء مصرحا به في(7/73)
رواية أخرى لأبي داود، قال: اللغو في اليمين قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو قول الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله» » . وكذلك قال أهل اللغة: اللغو ما اطرح ولم يعقد عليه، وإذا كان من اللغو فلا كفارة فيه بدليل الآية الكريمة، فإن الله سبحانه نفى المؤاخذة فيه، وجعل المؤاخذة والكفارة فيما عقدنا من الأيمان، وكلام الخرقي يشمل الماضي والمستقبل، وهو ظاهر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (وفي المذهب رواية أخرى) في المستقبل أنه ليس من اللغو، فيجب فيه الكفارة.
وقد خرج من كلام الخرقي من لا قصد له أصلا، كالنائم والطفل، والمجنون، ونحوهم، وفي معنى ذلك السكران، لانتفاء القصد منه، وأبو محمد يجري فيه القولين من الروايتين في طلاقه.
ومما يلحق بذلك المكره، لأن قصده كلا قصد، وكذلك الصبي، لأنه وإن كان له قصد إلا أن الشارع رفع القلم عنه، ورفع القلم يقتضي أن لا تلزمه كفارة.(7/74)
ودخل في كلامه الكافر فتصح يمينه، وتلزمه الكفارة، وإن حنث في كفره، لأنه مكلف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر بالوفاء بنذر الاعتكاف الذي نذره في الجاهلية والنذر حلف.
قال: ومن حلف على شيء وهو يرى أنه كما حلف عليه فلم يكن فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين.
ش: اليمين على الماضي إما صادقا فيها فهو بار إجماعا، وإما كاذبا فيها متعمدا فهي اليمين الغموس، وقد تقدمت، وإما مخطئا معتقدا أن الأمر كما حلف عليه، فهذه صورة الخرقي، وهي عنده من لغو اليمين وإذا كانت من لغو اليمين فلا كفارة فيها، وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها، إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة ولا مخالفة، ولهذا لا يأثم الحالف والحال هذه، وقيل عن أحمد (رواية أخرى) : إن هذا ليس من لغو اليمين، وتجب به الكفارة، نظرا لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإن ظاهره حصر اللغو في الأول، ولأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة، فأوجبت الكفارة، كاليمين على مستقبل.
(تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل لغو اليمين شيئين: (أحدهما) : أن لا يقصد عقد اليمين، كقوله: لا والله وبلى والله، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل. (والثاني) : أن يحلف على شيء فيتبين بخلافه، وهذه طريقة ابن أبي موسى(7/75)
وغيره، وهي في الجملة ظاهر المذهب، والقاضي يجعل الماضي لغوا قولا واحدا، وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان، وأبو محمد عكسه يجعل سبق اللسان في المستقبل لغوا قولا واحدا وفي الماضي روايتان، ومن الأصحاب من يحكي روايتين في الصورتين، ويجعل اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا، وفي الأخرى هذا دون هذا، وجمع أبو البركات بين طريقتي القاضي وأبي محمد، فحكى المسألة على ثلاث روايات، فإذا سبق على لسانه في الماضي: لا والله، وبلى والله. في اليمين معتقدا أن الأمر كما حلف عليه فهذا لغو اتفاقا، وإن سبق على لسانه اليمين في المستقبل، أو تعمد اليمين على أمر يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه، فثلاث روايات (كلاهما لغو) وهو المذهب (الحنث) في الماضي دون ما يسبق على لسانه (وعكسه) وقد تلخص لك في المسألة خمس طرق، والمذهب منها في الجملة قول الخرقي.
[اليمين المكفرة]
قال: واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه.
ش: لا نزاع أن الحلف بالله عز وجل يمين مكفرة.
3672 - وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فليحلف بالله أو(7/76)
ليصمت» متفق عليه، وكذلك الحلف باسم من أسمائه في الجملة، وقد أمر الله سبحانه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحلف بربه كما تقدم.
3673 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أكثر ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلف لا ومقلب القلوب» رواه البخاري وغيره.
3674 - وفي النسائي والمسند أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة» . ولا يناقض هذا قول(7/77)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» إذ الحالف بجميع أسماء الله أو صفاته حالف بالله، وأسماء الله بالنسبة إلى هذا المقام تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) : ما لا يسمى به غيره، نحو والله، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، والحي الذي لا يموت، وخالق الخلق، ونحو ذلك، وكذلك والرحمن، على الصحيح، فهذا القسم به يمين مكفرة بكل حال، لاستحالة صرف ذلك إلى غير الله تعالى. (الثاني) : ما قد يسمى به غير الله، لكن إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه، كالخلق، والرازق والرب، والمولى والرحيم، ونحو ذلك، فهذا إن نوى به اسم الله أو أطلق كان يمينا، نظرا لما يفهم منه عند ذلك، وإن نوى غير الله فليس بيمين على المذهب، لصحة إطلاقه عليه، قال الله سبحانه حكاية عن يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] وقال سبحانه: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وقال عن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وإذا نوى(7/78)
بلفظه ما يحتمله فينصرف إليه، وقال طلحة العاقولي: إن أتى بذلك معرفا نحو: والخالق والرازق. كان يمينا مطلقا، لأنه لا يستعمل مع التعريف إلا في اسم الله تعالى. (الثالث) : ما يسمى به الله سبحانه، لكن لا ينصرف إطلاقه إلى الله سبحانه، كالحي والعالم والموجود، والكريم، فهذا إن نوى به غير الله، أو أطلق فليس بيمين، نظرا لما يفهم منه عند الإطلاق، وإن نوى به الله تعالى فهو يمين عند الشيخين وغيرهما، لأنه قصد الحلف بما يسمى به الله سبحانه، أشبه القسم الذي قبله، وقال القاضي وابن البنا: لا يكون يمينا، لأن اليمين انعقادها لحرمة الاسم، ومع الاشتراك لا حرمة، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين، وأجيب بأن الانعقاد بالاسم المحتمل المنوي به أحد محتملاته، فيصير كالمصرح به، والله أعلم.
قال: أو بآية من القرآن.
ش: لما قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن الحالف بالله تعالى أو بأسمائه تكون يمينه مكفرة، أشار إلى أن الحالف بصفاته سبحانه كذلك، كأن يحلف بكلام الله، أو بالمصحف،(7/79)
أو بالقرآن، أو بآية منه، أو بعزة الله، أو بعظمته، أو علمه، ونحو ذلك.
3675 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها. فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها» .
3676 - وفي حديثه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسألك غيرها» متفق عليهما.(7/80)
3677 - وفي حديث اغتسال أيوب «بلى وعزتك» ثم إن الصفات أيضا تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) ما هو صفة لذاته سبحانه، لا يحتمل غيرها، كعزة الله، وعظمته، وكبريائه، وكلامه، ونحو ذلك، فهذا القسم به يمين بكل حال. (الثاني) : ما هو صفة لذاته لكن قد يعبر به عن غيرها مجازا، كعلم الله وقدرته، فإنها قد يراد بها معلوم الله ومقدوره، كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا. أي ما علمته فينا، ويقال: انظر إلى قدرة الله، أي مقدوره، فهذا مع الإطلاق يكون يمينا، اعتمادا على ما يفهم منه عند التخاطب، وكذلك مع قصد صفة الله تعالى بلا ريب، ومع إرادة المعلوم أو المقدور لا يكون يمينا، على قياس ما تقدم فيما إذا نوى بالرب غير الله سبحانه، والمنصوص عن أحمد أن ذلك يكون يمينا بكل حال، ولا يقبل منه فيه غير صفة الله، ولعله يريد في الحكم.
(الثالث) : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بالنية أو بإضافته إليه لفظا، كالعهد والميثاق، ونحو ذلك، فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بالنية. أو بالإضافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال: أو بصدقة ملكه أو بالحج.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بصدقة ملكه(7/81)
أو الحج، كأن يقول: إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، أو نحو ذلك فعلي الحج، أو فلله علي الصدقة بمالي أو عتق عبدي، ونحو ذلك، وضابطه أن يخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا، أو يحث به على شيء، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب، واختلف عن أحمد في حكمه، (فعنه) أن الواجب فيه الكفارة ليس إلا، حتى لو فعل المنذور لم يجزئه.
3678 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» لكنه ضعيف من قبل محمد بن الزبير.(7/82)
3679 - وروى عبد الرزاق، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني حنيفة، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر في غضب، ولا في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» ، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يتقوى بالذي قبله.
3680 - ثم يعضد ذلك ما روى أبو داود في سننه، عن سعيد بن المسيب، أن «رجلين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني فكل مال لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك،(7/83)
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك» » .
3681 - ويروى نحو هذا أيضا عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ومثل ذلك لا يتقاصر عن تخصيص إطلاق الأمر بالوفاء بالنذر، ثم بالنظر إلى المعاني، وقد علم أن قول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج، ونحو ذلك ليس مقصوده الشرط ولا الجزاء، بل منع نفسه من ذلك، فهو كاليمين، فيدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89](7/84)
الآية، وهذا بخلاف قوله: إن شفى الله مريضي فعلي الحج، ونحو ذلك، فهذا المقصود فيه وجود الشرط والجزاء، والمعتبر المقاصد، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، والمذهب بلا ريب - يتخير بين فعل ذلك، عملا بما التزمه، وبين كفارة اليمين لما تقدم، ويحكى عن ابن عقيل في الواضح أنه قال: يفعله.
قال: أو بالعهد.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالعهد، وقد يشمل كلام الخرقي (ما إذا نوى بذلك صفة الله تعالى) ، وما إذا لم ينو، ولا ريب أنه إذا نوى به صفة الله تعالى أنه يكون يمينا، إذ العهد يحتمل أن يراد به كلام الله تعالى الذي أمرنا أو نهانا به، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} [يس: 60] ولا ريب أن كلامه صفة له سبحانه، ويحتمل أن يراد به استحقاقه لما تعبدنا به، فإذا نوى بالعهد الأول فقد نوى به أحد محتمليه، بل هو الظاهر منه، فيصير كما لو صرح به، (أما إذا لم ينو) فهل هو يمين - وهو ظاهر كلام الخرقي، إذ الألف واللام بدل من المضاف، فكأنه قال: وعهد الله. ولو قال ذلك فهو يمين بلا ريب أو ليس بيمين - وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، لتردده بين صفة الله تعالى وغيرها، والأصل براءة الذمة؟ فيه روايتان.
(تنبيه) : حكم الميثاق، والعظمة والجلال، والأمانة، حكم(7/85)
العهد، إن أضاف ذلك إلى الله، أو نوى به صفة الله، فهو يمين، وإن أطلق فروايتان.
قال: أو بالخروج من الإسلام.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالخروج من الإسلام، كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهودي، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو القرآن، أو النبي – عليه أفضل الصلاة والسلام - أو يعبد الصليب، أو يستحل الزنا، أو ترك الصلاة، ونحو ذلك، (وهذا أشهر الروايتين) عن أحمد، واختيار جمهور الأصحاب القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم، لأن التزام ذلك يقتضي الكفر، وذلك أبلغ في انتهاك الحرمة من انتهاك حرمة القسم، فكان بإيجاب الكفارة أولى.
3682 - وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: «عليه كفارة يمين» » . رواه أبو بكر، وهذا نص إن ثبت، لكنه بعيد الثبوت، (والرواية الثانية) لا كفارة في ذلك، وهي اختيار أبي محمد، إذ الوجوب من الشرع، ولم يثبت، ولأن(7/86)
ذلك ليس باسم الله ولا صفته، فلا يدخل في الأيمان المشروع الحلف بها.
3683 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .
3684 - وفي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال» ولم يأمر في ذلك بكفارة، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرواية الأولى على الندب، لأنه قال في رواية حنبل: أحب إلي أن يكفر كفارة يمين.
(قلت) : وهذا الذي أخذ القاضي منه عدم وجوب الكفارة، وقد نقل عنه حرب التوقف.
وقد خرج من كلام الخرقي إذا قال: أنا أسرق، أو أقتل النفس التي حرم الله، أو قال: أخزاه الله، ونحو ذلك أنه لا يكون يمينا، لأنه ليس بخروج من الإسلام، وكذلك إن قال: عصيت الله في كل ما أمرني به إن فعلت كذا، عند الأصحاب، لأن المتبادر إلى الفهم من ذلك المأمور به من(7/87)
الفروع، واختار أبو البركات أنه من الأول، لدخول التوحيد فيه، نظرا للعموم، وكذلك عندهم في: محوت المصحف، ونص عليه أحمد، واختار ابن عقيل أنه يمين، لأن ذلك إهانة للمصحف، وإسقاط لحرمته، وإنه كفر، ولو قال: لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت كذا، فعند القاضي - وقال: إن أحمد نص عليه - وأبي البركات، هو من الأول، وهو واضح، وخالف أبو محمد فلم يوجب في ذلك كفارة، وظاهر كلامه وإن سلم وجوب الكفارة في الأول.
(تنبيه) : حيث وجبت الكفارة فيما تقدم فإنما تجب بالحنث.
3685 - وفي صحيح مسلم «من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله» فجعل كفارة ما حصل منه قول لا إله إلا الله.
قال: أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة إذا حلف بتحريم مملوكه، أو بتحريم شيء من ماله، كأن قال: هذا العبد أو هذا الطعام علي حرام، أو الحل علي حرام. ونحو ذلك - ما عدا الزوجة - إن فعلت كذا، وفعله فعليه الكفارة. نص عليه أحمد، مستدلا بحديث العسل، وهو الذي نزل فيه على الصحيح(7/88)
قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فسمى سبحانه تحريم ما أحله يمينا، وفرض له تحلة وهي الكفارة، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية.
3686 - ففي الصحيحين أنها نزلت في العسل لما شربه، وقال: لن أعود له أو «لا حاجة لي فيه» ثم اختلف في الحديث هل كان ذلك عند حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وسودة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في حديث طويل وصفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تواصوا، وقالوا للنبي: نجد منك ريح مغافير. أو كان ذلك عند زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تواصيا بما تقدم. وقيل نزلت في تحريمه أمة له.
3687 - «فعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له أمة يطؤها،(7/89)
فلم تزل به عائشة وحفصة رض الله عنهما حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] » . رواه النسائي، وقيل: إن هذه الأمة مارية القبطية، وأيا ما كان فهو حجة لما تقدم.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما حرمه هل يحرم أم لا؟ والمذهب أنه لا يحرم، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بالتحريم، لكنه يزول بالكفارة، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أنه تحريم لمباح ألحقه بتحريم الزوجة بالظهار، فحرمه كما تحرم هي، ومن نظر إلى أن هذا داخل بظاهر الآية في الأيمان، فيعطى حكمها، وحكمها أنها لا تحرم شيئا لم يحرمه الله. ونص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريم المملوك والمال، لتخرج الزوجة، لأن عنده أن ذلك ظهار، وقد تقدم ذلك.
قال: أو بنحر ولده.
ش: هذا ساقط في بعض النسخ، وثابت في أكثرها،(7/90)
وبالجملة قد ذكر فيه بعد روايتين، فلنؤخر الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى ثم، والله أعلم.
قال: أو يقول: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو أعزم بالله.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بواحد من هذه الأشياء، هذا قول عامة أهل العلم، إذ لو قال: بالله. ولم يقل: أقسم ولا أشهد. كان يمينا، بتقدير الفعل قبله، لأن الباء تتعلق بمقدر، فإذا نطق بالفعل المقدر كان أولى بثبوت الحكم، لا سيما وقد ثبت لذلك عرف الشرع والاستعمال، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] .
3688 - «وعن عبد الرحمن بن صفوان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فأبى وقال: «إنها لا هجرة» فانطلق إلى العباس، فقام العباس معه، فقال: يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان، وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها لا هجرة» فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه: قال: فبسط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده فقال: «هات أبررت عمي ولا هجرة» .(7/91)
3689 - وعن أبي الزاهرية، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق، فأكلت بعضه وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك ألا أكلت بقيته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبريها فإن الإثم على المحنث» رواهما أحمد، وإذا كان يمينا من غير ذكر اسم الله، فمع اسم الله أولى وأحرى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في هذه الثلاثة بين أن ينوي اليمين أو لا ينوي، وهو قول الجمهور، وخالف أبو بكر في: أعزم بالله. فقال: إن لم ينو اليمين لم يكن يمينا، زاعما بأنه(7/92)
لم يثبت لذلك عرف الشرع ولا الاستعمال، وللأول احتمال اليمين مع الاقتران بما يقوم مقام النية، وهو الجواب بجواب القسم، والخرقي صور المسألة فيما إذا أتى بذلك بلفظ الاستقبال مع ذكر اسم الله، فلو أتى به بلفظ الماضي، كأن قال: شهدت بالله، أو أقسمت بالله. فكذلك، لما تقدم من حديثي عائشة وعبد الرحمن، ولو لم يأت باسم الله، كأن قال: أقسم أو أقسمت، وفي حديث سليمان - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة» ولم يذكر اسم الله، وهو ظاهر في انعقاد اليمين وإن لم يذكر اسم الله في لفظه، أو شهدت أو أشهد، فإن نوى اليمين فهو يمين عندنا بلا خلاف نعلمه، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو اليمين فروايتان: (إحداهما) : - وهي اختيار عامة الأصحاب، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، والشيرازي، والخرقي، وأبي بكر، فيما قاله أبو الخطاب في الهداية - هو يمين، (أيضا) لما تقدم من حديثي عبد الرحمن وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل فيهما هل نويا اليمين أم لا.
3690 - وكذلك في «حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت. فقال(7/93)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقسم يا أبا بكر» . رواه أبو داود، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر - لا تكون يمينا، لاحتماله للقسم بالله وبغيره، وإذا لا بد من النية لتميز المراد وتبينه.
(تنبيهان) :
«أحدهما» : ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات أن حكم: أعزم. حكم أقسم وأشهد، إن نوى به اليمين كان يمينا، وإن أطلق فروايتان، وقال أبو محمد في المغني: إذا قال: أعزم أو عزمت. لم يكن قسما، نوى به القسم أو لم ينو، لأنه لم يثبت له عرف في الشرع، ولا الاستعمال في كونه قسما. قلت: وأكثر الأصحاب لم أرهم ذكروا ذلك، وإنما ذكروا: أشهد وأقسم. وزادوا مع ذلك أحلف.
(الثاني) : لو قال: نويت بأقسمت بالله الخبر عن قسم ماض، أو بأقسم. الخبر عن قسم يأتي دين، وهل يقبل منه في الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يقبل، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان.
قال: أو بأمانة الله.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بالأمانة، وحكم(7/94)
الحلف بذلك حكم الحلف بعهد الله أو ميثاقه، على ما مر إن أضافها إلى الله، أو نوى بها صفة الله تعالى فهو يمين، وإن قال: والأمانة. وأطلق فروايتان. (تنبيهان) :
«أحدهما» : قال أبو محمد: يكره الحلف بالأمانة.
3691 - لأن في السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالأمانة فليس منا» .
3692 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهى عن ذلك أشد النهي. (قلت) وظاهر الحديث والأثر التحريم.
(الثاني) : ظاهر كلام الخرقي أن ما عدا ما تقدم من الأيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وما ذكره لا يكون يمينا مكفرة، وذلك كالحلف بغير الله تعالى، سواء كان معظما أو غير معظم، أضافه إلى الله تعالى أو لم يضفه، كقوله: ومعلوم الله ومقدوره وخلقه، والكعبة، والنبي، ورأس السلطان، وزيد، ونحو ذلك، وهو كذلك، للنهي عن الحلف بذلك.(7/95)
3693 - ففي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .
3694 - وقال: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .
3695 - وقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» وإذا كان منهيا عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة.
واستثنى من ذلك عامة الأصحاب الحلف برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا الحلف به يمينا مكفرة. ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب لأنه أحد شطري الشهادة، فأشبه الحلف بالشطر الآخر وهو اسم الله، وخالفهم أبو محمد نظرا لما تقدم، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق، فأشبه إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأورد أبو البركات المذهب عدم وجوب الكفارة، وظاهر نقله أن المسألة على روايتين، وخرج على رواية وجوب الكفارة بجواز الحلف به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما إن لم يجب بالحلف به كفارة فحكمه في الحلف به حكم غيره، هل يكره ذلك، وهو الذي جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو علي، وابن البنا، وأورده(7/96)
أبو محمد مذهبا، أو يحرم وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وهو ظاهر الحديث؟ على قولين، (وعن أحمد) ما يحتملهما، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل يقول: وبيت الله. فكرهه، وقال: هذا حلف بغير الله، والله أعلم.
قال: ولو حلف بهذه الأيمان على شيء واحد فحنث لزمته كفارة واحدة.
ش: كأن حلف بالله، وبالرب، وبالرحمن، وبعهد الله وميثاقه. ونحو ذلك على شيء واحد، فكفارة واحدة، لأن ذلك يمين واحدة، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف، فهو كما لو قال: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب. إلى غير ذلك من تعداد الصفات، وعكس هذه المسألة في الصورة مع الاتفاق في الحكم إذا حلف يمينا واحدة على أشياء مختلفة، إناطة بأنها يمين واحدة، فلم يجب بها أكثر من كفارة واحدة.
وقول الخرقي: ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد. مفهومه أنه لو حلف بها على أشياء فحنث أنه يجب عليه لكل يمين كفارة، وقد اختلف فيما إذا كرر اليمين على شيء واحد، بأن قال: والله لا أكلت، والله لا أكلت، والله لا أكلت. أو على أشياء بأن قال: والله لا لبست، والله لا شربت، والله لا مشيت، ثم أكل وشرب، ولبس ومشى،(7/97)
(فعنه) - وهو اختيار أبي بكر والقاضي - تجزئه كفارة واحدة، نظرا إلى أن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، والحدود تتداخل، فكذلك الكفارات، (وعنه) يجب عليه كفارات بعدد ما حلف عليه، نظرا إلى أن كل واحدة يمين منعقدة، فأشبهت الأيمان المختلفة الكفارة، (وعنه) - وإليه ميل أبي محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنها إن كانت على فعل واحد - كوالله لا أكلت، ووالله لا أكلت، ووالله لا أكلت - فكفارة واحدة، نظرا إلى أن ذلك غالبا يستعمل للتأكيد، وإن كانت على أفعال - كوالله لا شربت، ووالله لا لبست، ووالله لا مشيت - فكفارات، لانتفاء التأكيد إذا، (ومحل الخلاف) في الأول إذا لم يرد التأكيد، أما إن أراد التأكيد فلا تجب إلا كفارة واحدة بلا ريب، كما قد نص عليه أحمد في رواية حرب، (ومحل الخلاف) في الثاني إذا كان ذلك قبل التكفير، أما إن حنث مثلا في اللبس فكفر عنه، ثم حنث في الشرب فإنه تجب عليه كفارة ثانية بلا ريب، لانتفاء التداخل إذا.
قال: ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفتي الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها.
ش: كأن حلف بالله وبالظهار، لانتفاء التداخل، إذ التداخل إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس،(7/98)
والكفارات هنا جنسان، فأشبهتا حد الزنا والسرقة.
قال: ولو حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين.
ش: نص أحمد على هذا في رواية حرب وغيره.
3696 - وذلك لما ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الإعراب، قال: وروينا من طريق الحجاج بن منهال، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة يمين صبر، إن شاء بر وإن شاء فجر» وذكر أبو محمد بن قدامة أن الأثرم رواه عن مجاهد، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أنه روي من طريقين.
3697 - وهو وإن كان مرسلا، فقد عضده أن ذلك قول ابن مسعود، ولا يعرف عن صحابي غيره خلافه، (وعنه) - وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب - يجزئه كفارة واحدة،(7/99)
بناء على أن الحلف بجميع صفات الله تعالى كما تقدم لا يجب بها أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة واحدة - وهي كلامه سبحانه - أولى، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الأول على الاستحباب، لأنه قال: عليه بكل آية كفارة، فإن لم يمكنه فكفارة واحدة. قلت: وهذا للوجوب أقرب منه للاستحباب، لأن أحمد إنما نقله لكفارة واحدة عند العجز، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهو لا يطيق إلا ذلك، والحكم فيما إذا حلف بالمصحف أو بكلام الله، كالحكم فيما تقدم، لأن ذلك عبارة عن القرآن، والحكم فيما إذا حلف بسورة من القرآن كالحكم في الحلف بكله، هل يجب عليه بكل آية منها كفارة، أو لا تجب إلا كفارة واحدة؟ فيه القولان.
قال: وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن حلف بنحر ولده روايتان: إحداهما كفارة يمين، والأخرى يذبح كبشا.(7/100)
ش: هذا أولا مبني على قاعدة تأتي للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن نذر المعصية ينعقد موجبا لكفارة يمين، إذ ذبح الولد معصية، بل من أعظم المعاصي، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] .
3698 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قيل: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» » وأمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبح ولده أمر مختص به، لا يتعداه إلى غيره، ثم قد نسخ ذلك بالفداء بالكبش.
إذا تقرر هذا فمن أوجب كفارة يمين جرى على القاعدة في نذر المعصية، إذ الواجب فيه كفارة يمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإلى هذا ميل أبي محمد، وقال أبو الخطاب في خلافه: إنه الأقوى. ومن أوجب ذبح كبش، قال: لأنه الذي أوجبه الله تعالى على إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدلا عما أوجبه الله تعالى عليه من ذبح ولده، إذ مقتضى النذر أن يلزم ذبح(7/101)
الولد، لكن لما منعنا الله من ذلك كان بمنزلة منع إبراهيم من ذبح ولده، ثم إبراهيم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أوجب الله عليه ذبح كبش بدلا عن ذبح الولد، فكذلك نحن.
3699 - وقد اختلف عن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على قولين، كالروايتين السابقتين، وأنصهما عنه ذبح كبش، كما هو أنص الروايتين عن أحمد، وهو اختيار القاضي، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيمن حلف بنحر(7/102)
ولده، كأن قال: إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي. أو: ولدي نحير إن فعلت كذا، وكذلك الحكم فيما إذا نذر وأطلق، كأن قال: لله علي نحر ولدي، والحكم في نذر نحر نفسه أو نحر أجنبي كذلك، قاله القاضي وأبو محمد، وقد نص عليه أحمد في ذبح نفسه، في رواية ابن منصور، وأشار إليه في ذبح الأجنبي، في رواية أبي طالب.
وقول الخرقي: فيمن حلف بنحر ولده، هذه العبارة تشمل ما إذا كان له ولد واحد أو أولاد، لكن مراده والله أعلم إذا لم يكن له إلا ولد واحد، لأن أحمد نص في الثانية أن الكبش يتعدد بتعدد الأولاد، وهو جار على قاعدته، ومنصوصه في الطلاق وغيره من أن المفرد المضاف يعم.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا تجب عليه الكفارة إلا إذا حنث، ونص عليه أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه يفدي نفسه إذا حنث، وقوله: يذبح كبشا، كذا قال بعضهم، وبعضهم قال شاة، وأحمد قد أجاب تارة بهذا، وتارة بهذا.
[الحلف بالعتق]
قال: ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده، وإمائه، ومدبريه، وأمهات أولاده، ومكاتبيه وشقص يملكه من مملوك.
ش: صورة هذه المسألة إذا قال: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر، أو كل مملوك لي عتيق إن فعلت كذا، فإذا فعل ذلك فقد وجد الشرط فيعمل بمقتضاه، وهو عتق من تقدم، كما لو قال: إن فعلت كذا، فكل زوجة لي طالق، ونحو ذلك، وما ذاك إلا أن هذا صورته صورة الشرط(7/103)
حقيقة، وكذلك معناه، إذ ليس فيه التزام حتى يشبه اليمين، كما في نذر اللجاج: إن فعلت كذا فلله علي عتق عبيدي، ونحو ذلك، وإنما عتق عليه عبيده وإماؤه لأن ملكه عليهم تام بلا ريب، وإنما عتق مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده لبقاء ملكه عليهم، فيدخلون فيما يملك، وكذلك أيضا عتق الشقص الذي يملكه، لدخوله فيما يملكه، (وقيل عن أحمد) رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه، لأن ذلك لا يخطر ببال الحالف غالبا، فلا يتعلق به اليمين، والله أعلم.
[كفارة اليمين قبل الحنث أم بعده]
قال: ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث أو بعده، وسواء كانت الكفارة صوما أو غيره، إلا في الظهار والحرام، فعليه الكفارة قبل الحنث.
ش: قد تقدم أن مذهب الخرقي أن الحرام ظهار، فحكمه حكمه، وإنما عطفه عليه لتغاير لفظيهما كما في قوله:
فألفيت قولها كذبا ومينا.(7/104)
وقد تقدم أيضا أن كفارة الظهار يجب إخراجها قبل الحنث، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، والكلام الآن في كفارة اليمن، ومذهبنا ومذهب جمهور السلف أن الحالف إذا أراد الحنث في الجملة فهو مخير إن شاء أخرج الكفارة قبل الحنث، وإن شاء بعده.
3700 - لما روي «عن عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك. وائت الذي هو خير» . متفق عليه. وهذا أمر، وأقل أحواله الجواز، وللبخاري «فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ، وفي لفظ «إذا حلفت علي يمن، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود، والنسائي، وهذا أصرح من الذي قبله.
3701 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من(7/105)
حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره.
3702 - وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» ، أو قال: «أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني» هذا لفظ أبي داود، وعند النسائي في رواية «إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» وهو في الصحيحين بنحو ذلك أيضا.
وظاهر كلام الخرقي أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وهو اختيار أبي محمد، لورود الأحاديث بهذا تارة، وبهذا أخرى، فدل على استواء الأمرين، وقال ابن أبي موسى: بعده أفضل عند أحمد، للخروج من الخلاف، وإذا ينبغي براءة الذمة، إذ عند الحنفي لا يجزئ الإخراج إلا بعد الحنث، وكذلك عند الشافعي في الصوم فقط، وهذا المقتضي لتنصيص الخرقي على التسوية بين الصوم وغيره، وعورض الخروج من الخلاف بتعجيل النفع للفقراء.(7/106)
وظاهر كلام الخرقي أن التخيير جار وإن كان الحنث محظورا، وهو أحد الوجهين، إناطة بوجود السبب، (والوجه الثاني) : لا يجزئه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حلف على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» والإتيان هنا ليس بخير، فلا يتناوله الأمر بالتقديم، على أن الملحوظ في التقديم الرخصة، والرخص لا تباح بالمعاصي.
(تنبيه) : الكفارة قبل الحنث محللة لليمين، قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وبعد الحنث مكفرة، قال سبحانه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] قال بعضهم: أي فحنثتم.
[الاستثناء في اليمين]
قال: وإذا حلف بيمين فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك، ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام.
ش: إذا حلف فقال مثلا: والله لأدخلن الدار إن شاء الله. فهو مخير في الجملة بين الفعل والترك، فإن ترك لم يحنث إجماعا.
3703 - وقد شهد له ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول(7/107)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي.
3704 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من(7/108)
حلف فقال: إن شاء الله، لم يحنث» رواه الترمذي والنسائي.
3705 - وفي الصحيحين أيضا من حديثه «قال سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك، قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، وطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان» قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو قال إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته» .
إذا تقرر هذا فشرط صحة الاستثناء الاتصال المعتاد على(7/109)
المذهب المعروف، فلو سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، أو تكلم بكلام أجنبي، ونحو ذلك بطل استثناؤه، ولا يضر السكوت لعارض من تنفس أو عطاس، ونحو ذلك، إذ الاستثناء أحد المخصصات، فاعتبر اتصاله كبقية المخصصات، من الشرط والصفة وغيرهما.
3706 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من رواية أبي داود وغيره «من حلف علي يمين فاستثنى» فظاهره أن الاستثناء يكون عقب الحلف، وقال أحمد: حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن سمرة «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك» ولم يقل: واستثن. قلت: والظاهر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما حكم على اليمين التي يحنث بتركها، ولهذا لم يقل له ولم يستثن، (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يضر الفصل اليسير، بشرط أن لا يخلط كلامه بغيره.
3707 - لما روي عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوما: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا» ثم قال: «إن شاء الله» » ، وفي رواية عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية عن عكرمة يرفعه أنه قال: «والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله» زاد فيه بعض الرواة: ثم لم يغزهم. رواه(7/110)
أبو داود، واحتج به أحمد، فقال: حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا» ثم سكت ثم قال: إنما هو استثناء بالقرب، ولم يخلط كلامه بغيره، اهـ.
3708 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: لا يختلى خلاها الحديث، فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» فأثر الاستثناء وهو منفصل.(7/111)
3709 - وفي حديث سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الملك قال له: قل إن شاء الله، فلم يقل، وظاهره أنه قال له ذلك بعد الفراغ من اليمين. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لو قال: إن شاء الله - يعني وقت قال له الملك - لم يحنث» (وحكى ابن أبي موسى) عن بعض الأصحاب أن المشترط المجلس، لأن حالة المجلس كحالة الكلام، وينبغي أن يقيد هذا أيضا بما قيد به الذي قبله، من أنه لا يخلط كلامه بغيره، وكلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محتمل للقولين الأولين، (واشترط) القاضي، وأبو البركات وغيرهما مع ما تقدم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، لأن المخرج بالاستثناء غير مراد بالحكم عليه، وإلا لزم أن يكون مرادا غير مراد، وهو متناقض، فيلزم منه رفع ما أوقعه، وظاهر بحث أبي محمد أن المشترط قصد الاستثناء فقط، حتى لو نوى عند تمام يمينه صح استثناؤه، وفيه نظر، وظاهر إطلاق الخرقي عدم الاشتراط أصلا، وهو وجه حكاه ابن البنا، وبناه على أن لغو اليمين عندنا صحيح، وهي ما كان على الماضي، وإن لم يقصده، وهو ظاهر حديث الإذخر وحديث سليمان.
وقول الخرقي: وإذا حلف، يشمل كل حلف، وكذلك ظاهر الحديث، وقد استثنى من ذلك الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا يصير ملخص الأمر أن كل يمين تدخلها الكفارة، كاليمين بالله تعالى، والنذر والظهار يدخلها الاستثناء، وقد نص أحمد على ذلك.(7/112)
وقوله: فقال. ظاهره أنه لا ينفعه الاستثناء بقلبه، وهو كذلك لظاهر الحديث، ولأن الاستثناء كالجزء من اليمين، واليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، وعن أحمد في المظلوم يستثنى في نفسه: أرجو أن يجوز إذا خاف على نفسه، وكأنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نظر إلى أن ذلك تأويل، والمظلوم ينفعه تأويله.
[الاستثناء في العتق والطلاق]
قال: وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه توقف عن الجواب، وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء.
ش: وذلك كأن قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله. أو لعبده: أنت حر إن شاء الله. وتوقف أحمد عن الجواب في ذلك، لاختلاف الناس فيه، مع عدم نص قاطع في ذلك، وحظر ذلك، وهو الحكم بحل فرج أو تحريمه، والذي استقر عليه قوله أنه لا ينفعه الاستثناء، معللا ذلك في رواية حنبل بأنهما ليسا من الأيمان، وإذا لم يكونا من الأيمان فلا يدخلان في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في أول الباب، وأن المغلب فيهما التعليق على شرط، وإذا هذا الشرط الذي قد علق عليه الطلاق - وهو مشيئة الله تعالى - أمر لا سبيل إلى علمه، فهو كالتعليق على مستحيل، أو أمر يفضي(7/113)
اعتباره إلى رفع الطلاق بالكلية، أشبه ما لو قال: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ونحو ذلك.
3710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله. هي طالق. رواه أبو حفص بسنده، وعن أبي بردة نحوه.
3711 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالوا: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق. ذكره أبو(7/114)
الخطاب (وحكى أبو محمد رواية أخرى) عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بصحة الاستثناء في الطلاق والعتاق، بناء على أنهما من الأيمان، فيدخلان في عموم من حلف على يمين إذ ذلك نكرة في سياق الشرط، فتشمل كل يمين، ونظرا إلى أن التعليق يحصل على مشيئة لم يعلم وجودها، أشبه ما لو علقه على مشيئة زيد، وأجيب بأن مشيئة الله تعالى قد علمت بمباشرة الآدمي سبب ذلك، وهو النطق بالطلاق، ونقل الشيخ أبو حامد الاسفرائيني ومن تبعه عن إمامنا رواية بالتفرقة بين الطلاق العتاق، وقطع أبو البركات وغيره بأن ذلك غلط على الإمام، وسبب الغلط - والله أعلم - أن أحمد قال فيمن قال: إن ملكت فلانا فهو حر إن شاء الله، فملكه صار حرا، وقال فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله، فتزوجها لم تطلق، ففرق بين التعليقين،(7/115)
وذلك أن من أصله أن العتق يصح أن يعلق بالملك، بخلاف الطلاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ففرق أحمد لأجل هذا، لا لأجل الاستثناء بالمشيئة، وللمسألة فروع أخر ليس هذا موضعها، والله أعلم.
[حكم تعليق العتق والطلاق على شرط]
قال: وإن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حر، فملكه صار حرا.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هاتين المسألتين على ثلاث روايات: (إحداهن) صحة التعليق فيهما، فيقع العتق والطلاق، (والثانية) عدم الصحة فيهما فلا يقعان، وهي اختيار أبي محمد، وأبي الخطاب.
3712 - ومدركهما أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده.
3713 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك»(7/116)
رواه ابن ماجه من رواية المسور بن مخرمة، هل هذا الطلاق والعتاق وقعا قبل ملك، أو لم يقعا إلا في ملك، وأصل هذا فيما قيل إن الشرط هل منع انعقاد السبب، أو إنما منع ترتب حكمه عليه، فمن نظر إلى الأول قال بوقوع الطلاق والعتاق، لوجود سببهما في الملك، ومن نظر إلى الثاني قال بعدم وقوعهما، لوجود السبب قبل الملك، والمشهور عن أحمد - وهو المختار لعامة أصحابه، حتى إن بعضهم لا يثبت ما يخالف ذلك - التفرقة بين الطلاق والعتاق، كما قاله الخرقي، فيقع العتق دون الطلاق، نظرا إلى أن العتق قربة وطاعة، فصح تعليقه على الملك كالنذر، وقد دل على الأصل قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الآية. وهذا بخلاف الطلاق، فإنه ليس بقربة من حيث(7/117)
هو، بل عدمه هو القربة، والأصل أن الإنسان لا ينفذ له تصرف إلا فيما يملك، وأيضا الملك قد يقصد للعتق، كما في شراء من يعتق عليه برحم أو بشرط، والنكاح لا يقصد للطلاق، بل قد تذهب فائدته، اهـ.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيما إذا علق طلاق معينة على تزوجها، وكذلك الحكم في غير المعينة، كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وكلامه في تعليق العتق يشمل ما إذا كان المكلف حرا أو عبدا، والصحيح عندهم أن العبد لا يصح تعليقه، وإن صح تعليق الحر، لعدم ملكه حين التعليق.
[ما تحمل عليه ألفاظ اليمين]
قال: ولو حلف أن لا ينكح فلانة، أو لا اشتريت فلانة، فنكحها نكاحا فاسدا، أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث.
ش: هذا هو المشهور والمختار من الأوجه، حملا لذلك على النكاح الشرعي والشراء الشرعي، ولا ريب أنهما الصحيحان، إذ كلام المكلف محمول على المراد من كلام الشارع، وكلام الشارع المراد به الصحيح، فكذلك كلام المكلف، (وقيل بحنثه) مطلقا، نظرا لإطلاق اللفظ الشامل للشرعي واللغوي، وملخصه أن الأول غلب الحقيقة الشرعية، والثاني غلب الحقيقة اللغوية (وفي المذهب وجه ثالث) اختاره ابن أبي موسى ولا بأس به أنه يحنث بالنكاح(7/118)
أو الشراء المختلف فيه، لعدم الجزم بكونه ليس بشرعي، مع تيقن دخوله في الحقيقة اللغوية، دون النكاح أو الشراء المتفق على بطلانهما، لتيقن كونه ليس بشرعي، مع أن المغلب في الإطلاق هو الشرعي، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يشتري فلانا، أو لا يضربه، فوكل في الشراء أو الضرب حنث ما لم تكن له نية.
ش: لأن فعل الوكيل قائم مقام فعل الموكل، فكأنه هو، والدليل على أن الفعل يضاف إلى الموكل، قال الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وقال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم ارحم المحلقين» ولا ريب في تناول ذلك لمن حلق رأسه بأمره، ولو حلف لا يدخل دارا، فأمر من حمله وأدخله إليها حنث، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الصورتين على سبيل المثال، ولينبه بهما على مذهب المخالف، والحكم منوط بما إذا حلف لا يفعل شيئا، وإنما ذكر هاتين الصورتين على سبيل المثال، إذ الشافعي يخالف فيهما في الجملة، والنعمان يخالف في صورة البيع دون الضرب،(7/119)
ثم محل هذه المسألة إذا لم يكن ثم نية أو ما يقوم مقامها من قرينة حال ونحو ذلك، أما مع النية أو بدلها فإن الحكم يناط بها ويعتمد عليها، والله أعلم.
[حكم فعل المحلوف عليه ناسيا]
قال: وإذا حلف بعتق أو طلاق أو لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق، والخلاف فيها فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.
[حكم التأويل في اليمين]
قال: ومن حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما، فإن كان ظالما لم ينفعه تأويله، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» .
ش: التأويل أن يقصد بلفظه ما يخالف ظاهره مع احتمال اللفظ له، كأن يحلف أنه أخي وينوي بذلك أخوة الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] أو المشابهة استعارة، أو يحلف أنه كان تحت سقف، وينوي به السماء، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] أو يحلف أنه كان على فراش أو بساط، مريدا بذلك الأرض، قال سبحانه: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [الذاريات: 48] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] أو يحلف ما لفلان عندي(7/120)
وديعة، مريدا بـ «ما» الذي، أو ما فلان ها هنا، ويريد موضعا معينا، ونحو ذلك مما هو سائغ في اللغة، مع أن السابق إلى فهم السامع خلافه.
ولا يخلو المتأول من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يكون الحالف مظلوما، كأن يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لناله أو مسلما أو ذميا ضرر، فهذا له تأويله بلا ريب.
3714 - لما «روى سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: خرجنا نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فخلي عنه، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت، المسلم أخو المسلم» رواه أحمد وابن ماجه.
3715 - وفي حديث الإسراء المتفق عليه: «مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح» .(7/121)
3716 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ، (الحال الثانية) : أن يكون ظالما، كالذي يستحلف على حق عنده، فهذا لا ينفعه التأويل، وتنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي يقصده المستحلف بلا ريب أيضا.
3717 - لما استدل به الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» وفي لفظ: يصدقك عليه صاحبك وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» رواهما مسلم وغيره، ولأنه لو ساغ التأويل والحال ما تقدم(7/122)
لاتخذ ذلك وسيلة إلى جحود الحق، وبطل المعنى المقصود باليمين، وهو تخويف الحالف من عاقبة اليمين، ولا ريب أن الشريعة تأبى مثل ذلك، والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتمد في الاستدلال على اللفظ الأول، وكذلك غيره من الأئمة من أصحابنا وغيرهم، وبعض العلماء اعتمد في الاستدلال على الثاني، وقال: إن معنى الأول أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها هي التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطلع عليها صاحبك لعلم أنها حق وصدق، وأن ظاهرها كباطنها، فيصدقك على ما حلفت عليه، وإذا فائدة هذا الحديث أن الحالف يعرض على نفسه اليمين، فإن وجدها كما تقدم حلف إن شاء، وإلا أمسك.
(الحال الثالثة) إذا كان المتأول لا ظالما ولا مظلوما، وهذه الحالة لم يتعرض الخرقي لها بنفي ولا إثبات، وفيها قولان حكاهما أبو العباس، وقال: إن ظاهر كلام أحمد المنع في اليمين، اهـ.
وظاهر كلام الشيخين الجواز، واعتمد أبو محمد على ما روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة،(7/123)
فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه، فوضع مهنا إصبعه في كفه، فقال: ليس المروذي ها هنا، وما يصنع المروذي ها هنا، يريد ليس في كفه، ولم ينكر ذلك الإمام أحمد.
3718 - واستدل بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمزح ولا يقول إلا حقا، والمزح أن يوهم السامع بكلامه غير ما يفهم من ظاهره، كما قال لتلك العجوز: «لا يدخل الجنة عجوز» يعني أن الله ينشئهن أبكارا، عربا أترابا.
3719 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله احملني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا حاملوك على ولد ناقة» فقال: وما أصنع بولد الناقة. قال: «وهل تلد الإبل إلا النوق» رواه أبو داود.
3720 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل احتضنه من ورائه: «من يشتري(7/124)
العبد» فقال: يا رسول الله، تجدني إذا كاسدا. قال: «لكنك عند الله لست بكاسد» ، وهذا كله من التأويل الحق الجائز، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقول إلا حقا، (قلت) : وهذا كله ورد في غير اليمين وهو واضح، أما اليمين فلها حرمة، فقد يقال: لا حاجة إلى ارتكابها والتعريض فيها، لا سيما وقد عضد هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» خرج منه المظلوم لما تقدم، وللاتفاق أيضا فيما أظن، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم، والله أعلم.(7/125)
[كتاب الكفارات]
ش: أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] ومن السنة ما تقدم من قوله: «فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ونحوه، والله أعلم.
[خصال الكفارة في اليمين على التخيير]
قال: وإذا وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم.
ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اليمين الموجبة للكفارة شرع يبين الكفارة، فقال: ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم، وهذا والحمد لله إجماع في أنه إن شاء أطعم، وإن شاء كسى، وإن شاء أعتق، وقد شهد النص المتقدم لذلك، وهو واضح، إذ أصل موضوع، «أو» للتخيير بين شيئين أو أشياء.
3721 - ولهذا قال ترجمان القرآن - كما ذكره عنه الإمام أحمد في(7/126)
التفسير -: كل ما كان في كتاب الله «أو» فهو للتخيير، وما كان (فمن لم يجد) فالأول الأول، والله أعلم.
[الإطعام في كفارة اليمين]
قال: عشرة.
ش: الكلام في الإطعام في ثلاثة أمور: (أحدها) : في عددهم، وهو عشرة بنص الكتاب، نعم هل يقوم تكرار إطعام الواحد مقام تعداد الأشخاص، أم لا، أو يفرق بين العدم والوجود؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: مساكين مسلمين أحرارا، كبارا كانوا أو صغارا، إذا أكلوا الطعام.
ش: هذا (الأمر الثاني) مما يتعلق بالإطعام وهو صفة المطعمين، وقد اشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم أربعة أوصاف: (الأول) : أن يكونوا مساكين، اعتمادا على ما تقدم من الآية، وعلى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية. ويدخل في المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة على قاعدتنا، ولما تقدم من أن الفقير والمسكين في غير الزكاة صنف واحد، لأن(7/127)
جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة، وإنما جعلا صنفين في الزكاة للتفريق بينهما في الاسم والعطف المقتضي للمغايرة، ويخرج ما عدا هذين، وإن كان من أهل الزكاة، نعم يجوز الدفع للغارم لإصلاح نفسه لاحتياجه، فهو كالمسكين، وكلام أبي محمد يوهم المنع. (الثاني) : أن يكونوا مسلمين، وقد تقدم هذا في الظهار فلا حاجة إلى إعادته. (الثالث) : أن يكونوا أحرارا، وهذا أيضا قد تقدم في كفارة الظهار، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، لأنه ليس بحر، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي في المجرد، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لأنه صنف آخر غير المساكين، والله سبحانه إنما جعل الإطعام للمساكين، ولأنه يأخذ ليفك رقبته، لا لتحصيل كفايته كالمسكين. (والثانية) : - وهي اختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم - يجوز، لأنه محتاج للأخذ فأشبه المسكين. (الرابع) : أن يكونوا قد أكلوا الطعام، فلا يجوز دفعها إلى صغير لم يأكل الطعام، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] فظاهره أن الواجب إطعامهم، فإذا لم يعتبر ذلك فلا أقل من اعتبار إمكانه ومظنته، ولا يتحقق المظنة فيمن لم يأكل. (والثانية) - وهي اختيار(7/128)
أبي الخطاب - لا يشترط ذلك، إذ حقيقة الأكل ليس بشرط، والإطعام مصدر أريد به المطعوم، فالواجب مطعوم عشرة مساكين، بأن يملكهم ذلك، وهذا يمكن في حق من لم يأكل الطعام، بأن يقبض له وليه فيحصل له الملك، كما يقبض للصغير الذي قد أكل الطعام.
قال: لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق، أو رطلان بالعراقي خبزا، أو مدان تمرا أو شعيرا.
ش: هذا الأمر الثالث، وهو في قدر ما يدفع للمساكين وهو مد حنطة، أو نصف صاع تمر أو شعير، وقد تقدمت هذه المسألة في الظهار، وتقدم أن غيره قال: يجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وقد نص الخرقي هنا على جواز إخراج الدقيق، ولم يتعرض له في الظهار، ولا ريب في إجزائه في الكفارتين، كما يجزئ في الفطرة، ومراد الخرقي بالدقيق دقيق الحنطة، أما دقيق الشعير فالواجب منه مدان، ثم المعتبر في الدقيق الوزن لتفرق أجزائه في الطحن، ولهذا قال أحمد: يجزئه بالوزن رطل وثلث، ولا يجزئه إخراج مد دقيق بالكيل، اهـ.
نعم لو طحن مد الحنطة وأخرجه أجزأه،(7/129)
وكذلك إن أخرج من الدقيق ما يعلم أنه مد.
ونص هنا أيضا على جواز إخراج الخبز، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار القاضي وعامة الأصحاب، لدخول ذلك في قوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والخبز من أوسط طعام أهلينا، وعلى هذا جرى السلف.
3722 - فروى الإمام أحمد في التفسير، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه، قال: الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن.(7/130)
3723 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم.
3724 - وعن الأسود بن يزيد: الخبز والتمر.
3725 - وعن ابن سيرين كانوا يقولون: إن أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر. وهذا يقرب من حكاية الإجماع، وفارق زكاة الفطر ونحوها، لأن النص هنا تناول الخبز، بخلاف ثم، فإن قول الراوي: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من تمر. لا يتناوله، مع أنه لو قيل بالإجزاء في زكاة الفطر دون غيرها لكان متوجها، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» الملحوظ فيه سد حاجتهم، وحاجتهم تندفع بدفع الخبز، وهذا بخلاف غير زكاة الفطر، فإن الدفع يراد للاقتيات في جميع(7/131)
العام، فيحتاج إلى الادخار ولا بد في المدخر من أن يكون على صفة يمكن ادخاره، (والرواية الثانية) : لا يجوز إخراج الخبز، لخروجه عن حال الكمال والادخار، أشبه الهريسة ونحوها.
فعلى المذهب لا بد أن يدفع رطلي خبز بالعراقي، لأن ذلك لا يكون أقل من مد، نعم لو طحن مدا وخبزه ودفع خبزه أجزأه، نص عليه أحمد.
تنبيهان: (أحدهما) : شرط إجزاء المخرج في الكفارة أن يكون سالما من العيب، بأن لا يكون مسوسا، ولا فيه تراب يحتاج إلى تنقية، لأنه مخرج في حق الله تعالى عما في الذمة، أشبه الشاة المخرجة في الزكاة. (الثاني) : قال أبو محمد: الأفضل البر، خروجا من الخلاف، قلت: وهذا كأنه على مختاره في الفطرة. وعلى المذهب ثم الأفضل التمر، فكذلك هنا، وقد قال أحمد: التمر أعجب إلي، والدقيق ضعيف، والتمر أحب إلي. ولأبي محمد احتمال بأفضلية الخبز على غيره، نظرا لرفع الكلفة عن المسكين وهو واضح والله أعلم.
قال: ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزئه.
ش: لما ذكر صفة الدفع للفقراء في الإطعام أراد أن يبين أنه لا يجزئ إخراج قيمة ذلك، وأرشد إلى ذلك بمثال، وهو(7/132)
أنه لا يجزئ إخراج أضعاف قيمة ذلك من الورق، وذلك لما فيه من العدول عن المنصوص، لأن المطعوم أو الثياب ليسا بورق ولا ذهب، ولأن الشارع خير بين ثلاثة، وجواز إخراج القيمة يفضي إلى التخيير بين أربعة، وهو خلاف النص أيضا، وقد حكى أبو محمد في المقنع وغيره من الأصحاب رواية بالجواز، وقطع في المغني هنا بالمنع، وكأنه بنى ذلك على المذهب. والله أعلم.
قال: ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله.
ش: لأنه حق لله واجب، فجرى مجرى الزكاة، فعلى هذا لا يجوز الدفع للوالدين وإن علوا، أو للولد وإن سفل، وفي بقية الأقارب الواجبة نفقتهم روايتان، ويجوز الدفع إلى من عدا ذلك من الأقارب.
قال: ومن لم يصب إلا مسكينا واحدا ردده عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام.
ش: إذا ردد الكفارة على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين، أو ستين يوما في كفارة الظهار ونحوها، فهل يجزئه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) - وهي اختيار أبي بكر وابن بطة فيما حكاه عنه أبو حفص في تعاليقه -: يجزئه مطلقا، نظرا إلى أن تكرار الإطعام قائم مقام تكرار الأشخاص، ولأنه لو أطعم كل يوم مسكينا حتى كملت(7/133)
العدة جاز بلا ريب، فكذلك إذا كرر إطعام الواحد، لأنه صدق عليه أنه أطعم كل يوم مسكينا. (والثانية) - وهي اختيار ابن شهاب -: لا يجزئه مطلقا، اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فمن لم يطعم عشرة لم يمتثل الأمر. (والرواية الثالثة) - وهي اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، وعامة الأصحاب -: لا يجزئه مع الوجود، لما تقدم في التي قبلها، ويجزئه مع العدم، إناطة بالعذر، إذ معنى الشيء يقوم مقامه عند تعذره، كما أقيم التراب مقام الماء عند تعذره، وكذلك غيره من المبدلات والله أعلم.
[الكسوة في كفارة اليمين]
قال: وإن شاء كسا.
ش: قد تقدم الدليل على التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق.
قال: عشرة مساكين، للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه، وللمرأة درع وخمار.
ش: الكلام في الكسوة على ثلاثة أشياء؛ (أحدها) : في عدد المكسوين وذلك عشرة بنص الكتاب. (والثاني) : في صفتهم بأن يكونوا مساكين، وهو بنص الكتاب أيضا، وقد تقدم إيضاح ذلك في الإطعام، إذ هؤلاء المساكين هم الذين في(7/134)
الإطعام فيشترط لهم ما يشترط لهم. (والثالث) : في صفة ما يدفع إليهم من الكسوة، وهو ما تصح صلاة الفريضة معه، إذ الكفارة عبادة، تعتبر فيها الكسوة، فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأن اللابس لما لا يستر عورته ليس بمكتس شرعا، إذا تقرر هذا فيدفع للرجل ثوب يستر عورته وعاتقه أو بعضه، على الخلاف في الواجب في المنكب، وللمرأة ما يستر عورتها وهي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها على إحدى الروايتين، ولما كان ذلك لا يحصل غالبا إلا بدرع وهو القميص، وخمار، ذكر الخرقي ذلك، وإلا لو أعطاها ثوبا واسعا يستر بدنها ورأسها أجزأه ذلك، إناطة بستر عورتها المعتبرة في الصلاة، وقد وقع لابن البنا أنه يدفع للرجل قميص ومنديل، وفيه نظر، والله أعلم.
[العتق في كفارة اليمين]
قال: وإن شاء أعتق.
ش: قد تقدم الإجماع على التخيير في ذلك.
قال: رقبة مؤمنة قد صلت وصامت، لأن الإيمان قول وعمل، وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل.
ش: الكلام في العتق في شيئين: (أحدهما) في عدد المعتق وهو رقبة واحدة بالإجماع، وشهادة الكتاب والسنة.(7/135)
(والثاني) : في صفة الرقبة، ويعتبر لها أمران (أحدهما) : أن تكون مؤمنة، وهو اتفاق في كفارة القتل، لنص الكتاب عليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أما في غيرها من الكفارات فروايتان تقدمتا في الظهار، والمذهب منهما بلا ريب عند الأصحاب اشتراط ذلك أيضا، وأبو بكر يختار عدم الاشتراط كالرواية الأخرى، ومبنى ذلك على أنه هل يحمل المطلق على المقيد مع الاختلاف في السبب، والاتحاد في الحكم أم لا؟ وفيه ثلاثة أقوال، ثالثها - وهو اختيار أبي الخطاب - يحمل بضرب من القياس، وبيانه هنا أن الإعتاق يتضمن تكميل أحكامه، ومن تكميل أحكامه بل هو رأسها الإسلام، فاشترط فيه ذلك، كالمعتق في كفارة القتل وحيث اشترط الإيمان فهل يشترط له الصوم والصلاة أم لا؟ فيه عن أحمد ما يدل على روايتين (إحداهما) - وهي اختيار الأكثرين - لا يشترط ذلك، فعلى هذا يجوز عتق الطفل الصغير، لأنه محكوم بإيمانه شرعا، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] .(7/136)
3726 - وفي الصحيح من حديث «معاوية بن الحكم أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، فقال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» » ، فحكم لها بالإيمان بهذا القول، وكذلك في حديث أبي هريرة، ولأن أحكام الإسلام جارية على الطفل في إرثه وغسله، ودفنه والصلاة عليه، وغير ذلك، فكذلك في عتقه في الكفارة، وعلى هذه الرواية لا يجزئ الجنين، لعدم ثبوت أحكام الدنيا له. (والثانية) وهي اختيار الخرقي يشترط ذلك، وعللها الخرقي - تبعا لأحمد في رواية الأثرم - بأن الإيمان قول وعمل، وإذا لا بد من وجود العمل،(7/137)
إما حقيقة، وإما تأهلا، وعلى هذا هل يشترط حقيقة العمل أو التأهل لذلك؟ فيه أيضا عن أحمد ما يدل على قولين (أحدهما) : المشترط التأهل، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل: أحب إلي أن يكون كبيرا، وهو الذي اعتمده القاضي، وأبو البركات، فحكيا الرواية على أنه لا يجزئ من له دون سبع سنين، ويجزئ من بلغها لتأهله لعمل ذلك. (والثاني) : المشترط العمل، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأحمد في رواية الأثرم، وقد تقدمت، فعلى هذا من صام وصلى وصح ذلك منه أجزأ وإن كان صغيرا، ومن لا فلا وإن كان كبيرا، اهـ.
وحيث لم يشترط الإيمان فأحمد إنما نص على إجزاء اليهودية والنصرانية، وكذلك قال أبو محمد (وعنه) تجزئ الذمية، وهذا ربما أعطى أنه لا يجزئ غير الذمية بلا خلاف، وبعض الأصحاب يطلق الخلاف في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل وعدمه، اهـ.
(الأمر الثاني) : أن تكون الرقبة سليمة، ومعنى سلامتها أن لا يكون فيها نقص يضر بالعمل، وقد تقدم ذلك في الظهار، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.(7/138)
قال: ولو اشتراها بشرط العتق وأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه، كما لو اشترى قريبه ينوي به عتقه عن الكفارة، أو علق عتقه على شرط، ونواه عند وجوده. (والثانية) : تجزئ لأن عتقه لم يتحتم، أشبه المعلق عتقه بصفة قبل وجودها، ولعل هذا يلتفت إلى أن شرط العتق هل هو حق لله تعالى بحيث يجبر المشتري عليه، وإذا لا يجزئ في الكفارة، أو لآدمي، فلا يجبر المشتري عليه، بل للبائع الفسخ، وإذا يجزئ في الكفارة؟ فيه قولان.
وقد فهم من كلام الخرقي جواز اشتراط هذا الشرط في البيع، وصحة البيع المشروط فيه هذا الشرط، ولنشر إلى المسألتين، (فأما) جواز اشتراط العتق في البيع ففيه روايتان، (المذهب منهما) عند الأصحاب جواز ذلك وصحته.
3727 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. إلا أن البخاري لم يذكر لفظ: أعتقيها.(7/139)
(والثانية) لا يصح ذلك، وهي ظاهر كلام صاحب الوجيز، لأنه شرط مناف لمقتضى البيع، أشبه اشتراط أن لا يبيعه ولا يهبه، ونحو ذلك على المذهب، (فعلى الأولى) هل يجبر المشتري على العتق إن أباه، وهو المشهور، أو يكون للبائع الفسخ؟ فيه قولان مبنيان على ما تقدم، (وعلى الثاني) : هل يبطل البيع، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، لأن فواته يفوت الرضى الذي هو شرط لصحة البيع قطعا، أو لا يبطل، وهو اختيار أبي محمد، لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا الولاء، ولم يبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه روايتان، والله أعلم.
قال: وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه، ينوي بشرائه الكفارة، عتق ولم يجزئه.
3728 - ش: أما العتق فلعموم: «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» » ، وأما عدم الإجزاء في الكفارة فلأن الواجب تحرير الرقبة، كما نص الله عليه سبحانه، والتحرير فعل العتق، ولم يحصل هنا، إنما الذي حصل الشراء، ولأنه لم يخلص العتق(7/140)
لله سبحانه، أشبه ما لو أعتقه رياء وسمعة، والله أعلم.
قال: ولا يجزئ في الكفارة أم ولده.
ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأن عتقها مستحق بسبب آخر، أشبه المعلق عتقه بصفة عند وجودها ونحوه. (والثانية) : يجزئ لدخول ذلك تحت قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والله أعلم.
قال: ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا.
ش: هذا إحدى الروايات، واختيار القاضي وأصحابه وغيرهم، لأنه إذا أدى فقد حصل العوض عن بعض الرقبة في المعين، فلم يجز كما لو أعتق بعضها، وإذا لم يؤد فهي رقبة كاملة لم يؤد عن شيء منها عوض، أشبهت المدبرة. (والثانية) : وهي اختيار أبي بكر يجزئ مطلقا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم، كما ثبت بالنص فأجزأ عتقه كغيره، ولدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . (والثالثة) : لا يجزئه مطلقا، لأن عتقه مستحق بسبب آخر، أشبه أم الولد، ولا نزاع أنه لو أعتق عبدا على مال يأخذه منه لم يجزئه عن الكفارة، والله أعلم.(7/141)
قال: ويجزئ المدبر.
ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأن التدبير إما وصية أو تعليق بصفة، وأيا ما كان فإنه يجزئ كما يجزئ الموصى به، والمعلق عتقه بصفة قبل وجودها.
قال: والخصي.
ش: لأن ذلك لا يضر بالعمل، فأشبه الفحل، ولا فرق بين المقطوع والأشل والموجوء، لتساويهم في المعنى والله أعلم.
قال: وولد الزنا.
ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأنه كغيره في جواز بيعه وعتقه، وقبول شهادته ونحو ذلك، فكذلك في إعتاقه عن الكفارة.
3729 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» فقد قال الطحاوي: المراد به الملازم للزنا، كما يقال: ابن السبيل، للملازم لذلك، وقال غيره: هو شر(7/142)
الثلاثة أصلا ونسبا وعنصرا، لخبثه، وهو نشوءه من ماء الزنا، على أن الكلام في أحكام الدنيا، وليس في الحديث تعرض لذلك، والله أعلم.
[الصيام في كفارة اليمين]
قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا صام ثلاثة أيام.
ش: إذا لم يجد واحدا من الثلاثة السابقة - وهي الإطعام والكسوة والعتق - بأن لا يجد ذلك أصلا أو وجده وتعذر عليه شراؤه لعدم الثمن، أو لكونه محتاجا إلى ما هو أهم منه، كما هو مفصل في موضعه، فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام بالإجماع، وشهادة الكتاب والله أعلم.
قال: متتابعة.
ش: قدر الصيام ثلاثة أيام بنص الكتاب والإجماع، وشرطها التتابع على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين.
3730 - نظرا إلى أن ذلك قد ورد في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكره الإمام أحمد في التفسير(7/143)
وغيره، وناهيك بهما، وهو وإن لم يثبت كونه قرآنا - لعدم تواتره - فلا أقل من أن ينزل منزلة خبر الآحاد، على أنهما سمعاه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل التفسير، فظناه قرآنا، وإذا فهو حجة يجب المصير إليه. (والثانية) : لا يجب التتابع فيها، عملا بإطلاق الآية الكريمة، والصحابي إنما نقل ذلك على كونه قرآنا، وإذا لم يثبت كونه قرآنا سقط اعتباره رأسا، وأصل ذلك أن ما صح من القراءة الشاذة هل يكون حجة، بحيث يخصص العام، ويقيد المطلق، ونحو ذلك أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن إمامنا أشهرهما نعم، وهو مذهب الحنفية، والثانية: لا، وهو مذهب الشافعية، وحيث اشترطنا التتابع فأفطر فيها فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، وبيان ذلك قد تقدم مفصلا في الظهار والله أعلم.
قال: ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم.
ش: قد تقدم الكلام على هذا في الظهار بما فيه كفاية، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه صحة يمين العبد، ولا ريب في(7/144)
ذلك، لدخوله تحت الخطاب، وأن السيد ليس له منعه من الصيام وإن أضر به، وهو كذلك، لأنه حق لله تعالى، فأشبه صوم رمضان أو قضائه، وهذا بخلاف الحج، لأن الضرر كثير، لطول مدته، وفوات خدمته والله أعلم.
قال: ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم ولا يجزئه غيره.
ش: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، في عبد حلف فحنث وهو عبد، ولم يكفر حتى عتق: يكفر كفارة عبد، لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث، ولو افترى وهو عبد ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد؛ وقد ذكر أحمد الحكم ودليله، وملخص القياس أن هذا حق تعلق به وهو رقيق فلم يتغير بحريته كالحد، وأيضا فإن الذي خوطب به وتعلق به هو الصوم، لا سيما على قول الخرقي، فإنه لو أذن له في التكفير بالمال لم يكن له ذلك، فإذا فعل غير ما خوطب به لم يجزئه. [كما لو وجبت عليه صلاة الصبح فصلى بدلها مائة ركعة أو أكثر فإنها لا تجزئه] .
وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن هذا على مختار الخرقي من أنه ليس له التكفير(7/145)
بغير الصوم، أما من قال: يجوز له التكفير بالمال في الجملة في حال رقه فبعد عتقه أولى، ولهذا قال القاضي في قول الخرقي: إن فيه نظرا، قال: لأن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد، أي لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه. (قلت) : ولا نظر في ذلك على قول الخرقي، إنما النظر لو كان الخرقي يجوز له التكفير بالمال في حال رقه، كما يقوله القاضي، ثم قال ذلك، اهـ.
وظاهر كلام الخرقي أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، إذ لو اعتبر أغلظ الأحوال لأوجب على العبد التكفير بالمال إذا قدر عليه قبل أن يأتي بالصوم، وقد اختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة، (فعنه) - كما هو ظاهر كلام الخرقي - الاعتبار بحال الوجوب، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن شهاب وأبي الحسين، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم، لأنه حين الاستقرار في الذمة، لأنه لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك لأجزأه بلا ريب، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة، فاعتبرت بحال الوجوب كالحد (وعنه) : الاعتبار بأغلظ الأحوال، اختارها القاضي في روايتيه، وحكاها الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي، وكأنهما أخذا ذلك من قوله: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء. إذ(7/146)
ظاهره أن من لم يدخل في الصوم كان عليه الانتقال إلى العتق أو الإطعام، وما تقدم أظهر (وبالجملة) وجه هذا القول بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج، والجواب القول بالموجب في الحج، لأنه ليس له حالتان، إنما له حالة واحدة، وهي حالة اليسار، يجب فيها ويستقر، وقبل ذلك لا يخاطب به أصلا، والكفارة يخاطب بها على كل حال، (وعنه) رواية ثالثة حكاها الشيرازي: الاعتبار بحال الأداء، قياسا على الوضوء، فالجامع أنه حق له بدل من جنسه، فكان الاعتبار فيه بحال الأداء كالوضوء.
إذا تقرر هذا (فعلى الرواية الأولى) يعتبر اليسار والإعسار حال الوجوب عليه، فإذا كان موسرا إذ ذاك ففرضه العتق لا يجزئه غيره، وإن كان معسرا ففرضه الصوم، ولا يجب عليه العتق بعد وإن أيسر، (وعلى الثانية) متى وجد رقبة من حين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا العتق، (وعلى الثالثة) الاعتبار بحال الأداء، فإذا كان موسورا إذًا وجب عليه العتق، وإن كان حين الوجوب معسرا، ولو كان حين الأداء معسرا أجزأه الصوم، وإن كان حين الوجوب موسرا، اهـ.
وقول الخرقي: ولو حنث وهو عبد. إلى آخره إشعار بأن حالة الوجوب هي حالة الحنث، وهو كذلك قطعا، فعلى هذا لو حلف العبد ولم يحنث حتى عتق فحكمه حكم الأحرار، وهذا في اليمين، أما في الظهار والقتل فوقت الوجوب العود والزهوق، والله أعلم.
قال: ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به.(7/147)
ش: قد تقدم أن من لم يجد واحدا من الثلاثة المتقدمة - وهي العتق، والإطعام والكسوة - انتقل إلى الصيام، وبيان عدم الوجدان أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته مقدار ما يكفر به، لأنه إذا يدخل تحت قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] بخلاف ما إذا وجد ما يكفر به فاضلا عما تقدم، فإنه واجد، فلا يدخل تحت الآية الكريمة.
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتضي أن من وجد ما يكفر به فاضلا عما تقدم لا يجوز له أن يكفر بالصوم، وإن كان ماله غائبا، وهو كذلك بلا نزاع فعلمه، فيما إذا أمكنه الشراء بنسيئة، وكذلك إن لم يمكنه كما هو مقتضى كلام الخرقي، ومختار عامة الأصحاب، حتى أن أبا محمد، وأبا الخطاب والشيرازي وغيرهم جزموا بذلك، وقيل: يجوز والحال هذه العدول إلى الصوم، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وقيل: إنما يعدل إليه في كفارة الظهار خاصة إذا رجا إتمامه قبل حصول المال، وحكم الدين المرجو الوفاء حكم المال الغائب قاله أبو محمد.
وعموم كلامه أيضا يقتضي أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة، وهو إحدى الروايتين، والرواية الثانية –(7/148)
وصححها أبو محمد - يمنعها، ثم أن أبا محمد في المغني جعل محلهما في الدين غير المطالب به، أما المطالب به فيمنعها بلا خلاف، وغيره يطلق الخلاف.
قال: ومن له دار لا غنى له عن سكناها، أو دابة يحتاج إلى ركوبها، أو خادم يحتاج إلى خدمته، أجزأه الصيام في الكفارة.
ش: لأن ذلك من حوائجه الأصلية، أشبه الطعام المحتاج إليه، وفي معنى ما تقدم ما يلبسه ولو للتجمل، وما يحتاج إليه من كتب علم ونحو ذلك. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه متى استغنى عن سكنى الدار، أو لم يحتج إلى دابة أو عبد، فإن الصيام لا يجزئه، وهو كذلك في الجملة، كما إذا كان له داران أو عبدان أو دابتان ونحو ذلك، يستغني بإحداهما، فإنه يبيع الأخرى، وينتقل إلى التكفير بالمال، وكذلك إذا كان له دار واحدة أو دابة واحدة، ونحو ذلك، وأمكنه بيعها وشراء ما يسكنه مثله أو يركبه مثله، ويفضل ما يشتري به رقبة، فإنه يلزمه ذلك، جمعا بين الحقين، وكذلك إذا كان مثله يخدم نفسه وله خادم، فإنه يلزمه عتقه، قاله أبو محمد، لأنه غير محتاج إليه، وعلى قياسه لو كان له دار يسكنها، ومثله يسكن بالأجرة، ولا ضرر عليه في ذلك، فإنه يلزمه بيعها والتكفير بالمال، ويستثنى من ذلك إذا كان له سرية يمكنه بيعها وشراء(7/149)
سرية ورقبة يعتقها، فإنه لا يلزمه ذلك، وينتقل إلى الصيام، لتعلق الغرض بعينها، وكذلك إذا تعذر عليه بيع ما تقدم، أو أمكن البيع وتعذر الشراء، فإن له الانتقال إلى الصوم، لتعذر الجمع بين الحقين، فأشبه ما لو لم يكن له فضل، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر، والله أعلم.
قال: ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة.
ش: مناط المسألة أن يطعم بعضا ويكسو بعضا، بحيث يستوفي من المجموع عشرة، والخرقي ذكر صورة على سبيل المثال، وإنما أجزأ ذلك لأن كل فقير من العشرة مخير فيه بين إطعامه وكسوته، فإذا أطعم مثلا خمسة وكسا خمسة، فقد قام بالواجب عليه، فوجب أن يجزئه، ولأن كلا من الطعام والكسوة يقوم مقام الآخر في جميع العدد، فكذلك في بعضه، كالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة، قام مقام البعض فيما إذا كان بعض البدن صحيحا وبعضه جريحا.
ويتخرج لنا وجه آخر أنه لا يجزئه، كما لو أعطى في الجبران شاة وعشرة دراهم، لاستلزامه التخيير ثم بين ثلاثة أشياء، وهنا بين أربعة أشياء، والشارع إنما خيره ثم بين شيئين، وهنا بين ثلاثة أشياء.
(تنبيه) : لو أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه بلا ريب، لأنه لم يأت بالواجب من أحدهما، والله أعلم.(7/150)
قال: وكذلك إن أعتق نصفي عبدين، أو نصفي أمتين، أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه.
ش: هذا اختيار القاضي في تعليقه، وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا والشيرازي، لأن نصف الشيئين بمنزلة الشيء الواحد، بدليل ما لو كان له نصف ثمانين شاة مشاعا، وجبت عليه الزكاة كما لو ملك أربعين، واختار ابن حامد فيما حكاه القاضي في روايتيه، وأبو بكر وحكاه نصا عن أحمد أنه لا يجزئه ذلك، لأن إطلاق الرقبة ينصرف إلى الكاملة، ثم إن المراد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من ذلك، وفي المذهب وجه ثالث اختاره الشيخان: إن كان نصفهما حرا أجزأ لتكميل الأحكام، إذ بذلك يحصل تكميل عبدين لا عبد واحد، فهو بالجواز أولى، وإلا لم يجزئ لما تقدم في دليل أبي بكر، والله أعلم.
قال: وإن أعتق نصف عبد، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه.
ش: لأن الأصل عدم التلفيق، لأنه عدول عن(7/151)
المنصوص، وإنما قلنا به في الإطعام والكسوة لتساويهما في المعنى، وهنا لم يتساويا، بل تباينا، إذ القصد من العتق تكميل الأحكام، وتخليص الرقبة من الرق، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة بدفع الحاجة، ودفع ضرر الحر والبرد مع ستر العورة، وهما متباينان، بخلاف الطعام والكسوة، فإنهما لتقاربهما أجريا مجرى الجنس الواحد، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على جواز التلفيق من الطعام والكسوة، وعلى منع ذلك في العتق مع أحدهما، وبقي عليه لو أتى ببعض واحد من الثلاثة ثم عجز عن تمامه، هل له التتميم بالصوم؟ ليس له ذلك قاله أبو محمد، قال: لأنه إذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر وهو الطعام أو الكسوة فتكميله بالمبدل أولى.
(قلت) : وقد يقال بذلك كما في الغسل والوضوء مع التيمم، فإنه لو وجد ماء يكفي لبعض طهارته لزمه استعماله ثم تيمم للباقي، وأبو محمد استشعر هذا، وأجاب عنه بأن التيمم لا يأتي ببعضه عن بعض الطهارة، وإنما يأتي به بكماله، قال: وها هنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه. قلت: وهذا الجواب فيه نظر، فإنه وإن أتى به بكماله، فإنه إنما يأتي به عن بعض الطهارة لا عن كلها، ولهذا لو قدر على الماء لزمه غسل ما بقي من بدنه ولا يلزمه غسل الجميع وإنما كان يأتي به بكماله، لأنه التيمم ليس له إلا صفة واحدة ويرجح هذا أيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .(7/152)
قال: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء.
ش: هذا المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل، فلم يلزمه الخروج إلى المبدل بعد الشروع فيه، كالمتمتع العاجز عن الهدي إذا شرع في صوم السبعة الأيام، فإنه لا يلزمه الخروج اتفاقا، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه، وليس كذلك الصوم، فإنه لا يبطل إذا قدر على العتق وأيضا فإن الصوم يجري كل يوم منه مجرى عبادة منفردة، بدليل افتقاره إلى نية، وعدم تعدي فساده إلى ما قبله، وليس كذلك الصلاة.
ولأبي محمد في المقنع احتمال أنه يلزمه الانتقال، لقدرته على المبدل قبل إتمام البدل، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام الصلاة، وقد تقدم الفرق.
وصريح كلام الخرقي أن له أن ينتقل إلى العتق والإطعام إذا شاء ذلك، لأنه إنما سقط عنه ذلك للرفق به، فإذا أتى به أجزأه، كالمريض الساقط عنه حضور الجمعة إذا حضرها، وقد تقدم للخرقي في العبد أنه إذا أعتق لا يجزئه غير الصوم، والفرق أن العبد ليس له أهلية التكفير بغير(7/153)
الصوم كما تقدم، بخلاف الحر المعسر، وخرج أبو الخطاب في الحر المعسر قولا أنه كالعبد لا يجزئه غير الصوم، نظرا إلى أنهما إنما خوطبا بالصوم، ففعل غيره يكون عدولا عما وقع به الخطاب، ويتلخص أن في العبد والحر المعسر ثلاثة أقوال: (ثالثها) : للحر الانتقال بخلاف العبد، وهو اختيار الخرقي.
(تنبيه) : قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: فائدة هذه المسألة إذا قلنا: الاعتبار بأعلى الحالين، أما إن قلنا بحال الوجوب فلا، لأنه إذا لو قدر على العتق قبل الشروع في الصوم لم يلزمه. (قلت) : ومن هنا قالا: إن مذهب الخرقي أن الاعتبار بأعلى الحالين، والذي يظهر أن الخرقي إنما نص على هذه المسألة للخلاف فيها؛ إذ مذهب الحنفية لزوم الانتقال والحال ما تقدم، ومن هنا يقال: إنه لا مفهوم لقوله: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج منه. والله سبحانه أعلم.(7/154)
[باب جامع الأيمان] [الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف]
ش: الأولى قراءة باب، أي هذا باب جامع الأيمان، لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة، لا الحكم على من جمع أيمانا والله أعلم.
قال: ويرجع في الأيمان إلى النية.
ش: وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3731 - وعن «أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق؛ وإنما يعني سبيل الخير» . رواه أحمد والبخاري.
3732 - وفي «حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة، وقال للنبي: والله ما أردت إلا واحدة: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» : فقال: «والله ما أردت إلا واحدة» ؛ وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال(7/155)
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وأيضا فإن كلام الشارع ورد على لغة العرب، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت بالدليل.
3733 - كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ؛ والمراد نعيم بن مسعود {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد أبو سفيان وأصحابه، وهو كثير لا يكاد يحصى، فكذلك كلام غيره يحمل على مراده، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما إذا نوى باللفظ ما لا يحتمله أصلا، كأن حلف لا يكلم زيدا، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية مجردة، لا ارتباط لها باللفظ، فوجودها كعدمها، ثم النية تارة توافق ظاهر اللفظ، كما إذا نوى بالعموم العموم، وبالخصوص الخصوص، وبالإطلاق الإطلاق، ونحو ذلك، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه، وتارة تخالف ظاهره، كأن يريد بعام خاصا، أو بمطلق مقيدا، أو بخاص عاما، ونحو ذلك مثل أن يحلف لا يأكل لحما ويريد لحم الإبل مثلا لا غيره، أو ليعتقن عبدا، ويريد عبدا بعينه، أو لا يأوي(7/156)
مع امرأته في دارها مثلا، ويريد جفاءها بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك.
(تنبيه) : رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى، بشرط احتمال اللفظ له كما تقدم، وعدم ظلمه كما تقدم أيضا، أما عند الحاكم فإن قرب ما ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه، وإن بعد لم يسمع، وإن توسط فروايتان، والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم.
قال: فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها.
ش: إذا لم ينو شيئا - لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم - رجع إلى سبب اليمين وما هيجها، أي أثارها، فإذا حلف مثلا أن لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار، لضرر لحقه من جيرانها، أو منة حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها، ولا أثر للدار فيه، تعدى ذلك إلى كل دار، المحلوف عليها بالنص، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب، (وكذلك) : إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه، أو لا يكلم زيدا لشربه الخمر مثلا، فزال الظلم، وترك زيد شرب الخمر، جاز له الدخول والكلام، لزوال العلة المقتضية لليمين، وذلك لأن السبب يدل على النية؛ لأنه الداعي للحالف على الحلف، والداعي إلى الشيء تتعلق الإرادة(7/157)
به فيصير مرادا، ولهذا لما قال الحطيئة يهجو بني عجلان:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
كان ذلك هجاء قبيحا، ولو قاله في مقام المدح كان مدحا حسنا، وما ذاك إلا لاختلاف المقام.(7/158)
وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصا والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولا، أو عاما والسبب يقتضي التخصيص كما مثلناه ثانيا، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم لما تقدم، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان، وقيل روايتان، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة: (أحدها) - وهو المعروف عن القاضي في التعليق، وفي غيره، واختيار عامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما - يؤخذ بعموم اللفظ، وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر. وكان سبب يمينه ظلم السلطان فزال السلطان، لم(7/159)
يصطد فيه، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم، فقال: النذر يوفى به، وقال أيضا في رواية المروذي فيمن قالت له زوجته: قد تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن المخاطبة تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها، إذ القصد إرضاؤها، ووجه ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم، والسبب لا ينافيه ولا معارضة بينهما، وصار هذا كألفاظ الشارع العامة، على المعروف عندنا وعند الأصوليين، تحمل على مقتضاها من العموم، ولا تخصص بأسبابها، وبنى أبو الخطاب ذلك على ما إذا اجتمع التعيين والإضافة.
والقول الثاني - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، وحكي عن القاضي في موضع -: يحمل اللفظ العام على السبب، ويكون ذكر السبب مبنيا على أن العام أريد به خاص، لما تقدم، وأيضا فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم، فيزول الحكم بزوالها، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع، فإن العلة في وجودها ليس السبب، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي جميع الصور، بخلاف غيره.
والقول الثالث: لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى، أو حلف لا يخرج عبده أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك، وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق، فقال - بعد ذكر صورة الغداء، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال: إن خرجت فأنت(7/160)
طالق -: لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له، ولا على الغداء عنده، لعموم اللفظ، ولقول أحمد - وذكر مسألة الصيد من النهر - قال: وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده، وعلى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم لهذا اللفظ، إذ قوله: إذا خرجت، يقتضي خروجا واحدا، وكذلك: إن تغديت، يقتضي غداء واحدا، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال.
تنبيهان: (أحدهما) : هذا الذي قاله الخرقي - من تقديم النية على السبب - هو الذي اعتمده عامة الأصحاب، وعكس ذلك الشيرازي، فقدم السبب على النية.
(الثاني) : إذا اختلف السبب والنية، كأن تمن امرأته عليه بغزلها، فحلف: لا لبست ثوبا من غزلها؛ وقصده اجتناب اللبس خاصة، دون الانتفاع بالثمن، قدمت النية على السبب وجها واحدا، لموافقتها مقتضى اللفظ، وإن قصد ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه، وقدم القاضي والحال هذه السبب لموافقته العموم، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية، قلت: وهذا متوجه في الحكم.(7/161)
(الثالث) : بحث شهاب الدين القرافي بحثا ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة، وقال: إن أهل العصر لا يكادون يفرقون بينهما، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوبا ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره، قال: وهو خطأ بالإجماع، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في اللفظ والنية المؤكدة، وإن لم ترد حنث باللفظ، وإن نوى بعض الأفراد غافلا عن البعض الآخر حنث في المنوي باللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر باللفظ، وإن أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج، ثم بين ذلك بقاعدة، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومعارضا له، وقصد البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه، ونظر ذلك بـ (اقتلوا الكفار، اقتلوا اليهود) فاقتلوا اليهود، لا يعارض الأول، بل يؤكد بعض أنواعه، ولو قال: لا تقتلوا أهل الذمة؛ لخصص لحصول المنافاة،(7/162)
ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون العام في الخاص وهو ما تقدم، وأنه لو قال: لا لبست ثوبا كتانا، اختصت يمينه بالكتان، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم، إطلاق اللفظ، وإخراج بعض مسمياته عن الحكم المسند للعموم، لا قصد بعض العموم، وعن الثاني بأن المستقل إذا لحقه غير مستقل صيره غير مستقل، والصفة هنا وهي «كتانا» لا تستقل، فإذا لحقت مستقلا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه، وأورد على هذا لم لا تجعل الصفة مؤكدة للعموم في البعض، ويبقى الباقي على عمومه كما في النية، إذ التأكيد يكون باللفظ إجماعا، وأجاب بأن الصفة لفظ له مفهوم مخالفة، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور، والمفهوم من دلالة الالتزام، والنية لا دلالة لها، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، لأنها من المعاني، والمعاني مدلولات، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي، فبقي الحكم للعموم.
وهذا البحث الذي قاله حسن، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يخالفه، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وقوله: إن معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته؛ منازع فيه، بل هو إطلاق العام مريدا لخاص، كإطلاق الثوب مريدا به الكتان، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم، فإذا قال(7/163)
الحالف: لا لبست ثوبا، يقصد الكتان، فقصده لا يتناول غير الكتان، فلا يحنث إلا به، وقد حكى القاضي عبد الوهاب - وناهيك به - أن العموم هل يقصر على مقصوده، أو يحمل على عموم لفظه؟ على قولين لأصحابه وغيرهم، ونصر قصره، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف عن الخروج حنث.
ش: لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى، فمتى تأخر عن الخروج حنث، لأنه يصدق عليه أنه ساكن، (وظاهر) إطلاق الخرقي يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله، أو لخوف من الخروج، ونحو ذلك أنه يحنث، والمعروف خلاف هذا، إذ الانتقال عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه، فهو غير داخل في اليمين، (وظاهر) إطلاقه أيضا أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث، والمعروف حنثه أيضا في الجملة، اعتمادا على العرف كما تقدم، إذ العرف أن السكنى تكون بالأهل والمال، ألا ترى أنه يقال: فلان ساكن في كذا. وهو غائب عنه، وفرق أبو محمد في المغني، فحنثه(7/164)
بالأهل دون المتاع، واتفق هو والأصحاب فيما علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره، أو أزال ملكه عنه، أو أبت امرأته من الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده.
(تنبيه) : هذا مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما تقدم، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يدخل دارا فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث.
ش: لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من غير حمل فإنه يحنث مطلقا، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها، لوجود المحلوف عليه، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسيا على المذهب، إلا في الطلاق والعتاق، أو مكرها على أشهر الروايتين، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما وخرج أيضا ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، لأن له نوع اختيار، أشبه ما لو كان الدخول بأمره؛ (الوجه الثاني) - وحكي عن القاضي -: لا يحنث، لأن الفعل منسوب إلى غيره، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان، والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث.(7/165)
ش: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه - كما إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فأكل أو شرب بعضهما - ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي والقاضي وغيره وأبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم -: يحنث بفعل البعض، لأنه منع نفسه من فعل المحلوف عليه، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما.
ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، وقد رد هذا بأن النهي عن الشيء ليس نهيا عن أجزائه، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر، نعم النهي عن الشيء نهي عن أجزائه، كالنهي عن الحرير، نهي عن الأسود والأبيض منه، فالقياس على النهي غير صحيح، (والرواية الثانية) - واختارها أبو الخطاب فيما قاله أبو محمد - لا يحنث إلا بفعل الجميع.
3734 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج رأسه إلى عائشة - رضي الله(7/166)
عنها - وهو معتكف فتغسله وهي حائض» والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد.
3735 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بن كعب: «لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن» ، فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض(7/167)
كالإثبات، وبهذا استدل أحمد فقال: الكل لا يكون بعضا، والبعض لا يكون كلا، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن ملازمة المسجد للطاعة، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد، لا أنه مفارق له، على أن هذه واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استثنى هذا القدر، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب إذ هي واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك ذلك ناسيا، ولعله الظاهر، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال.
إذا تقرر هذا (فمن صور) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها أو نسجها أو شرائها فلبس ثوبا شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه، أو لا يبيع أمته أو لا يهبها فباع بعضها ووهب بعضها، وما أشبه ذلك، واختلف الأصحاب فيما إذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، فقال القاضي وأبو الخطاب في الهداية: إنه على الروايتين، لأن المعنى لا ألبس ثوبا من غزلها لأن الغزل لا يلبس بمفرده، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها، (ومن صور) المسألة عند الأكثرين والقاضي(7/168)
وغيره مسألة الخرقي، وهو ما إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، يده أو رجله ونحو ذلك، لأنه منع نفسه من الدخول، وإذا تساويا معنى تساويا حكما، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلا، ولا ريب أن المسألة فيها روايتان منصوصتان وإنما اختلف الأصحاب في المختار منهما، فالقاضي والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة، تسوية بينهما، وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث، بخلاف المسألة السابقة، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة، وكأن الفرق أن الحالف لا يدخل دارا إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل، وإنما أدخل يده أو رجله مثلا، فلا يكون مخالفا ليمينه.
(تنبيهان) : «أحدهما» : محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة، أما إن نوى الجميع أو البعض اعتمدت نيته، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما إذا حلف لا يشرب النهر، أو: لا أكلت الخبز، أو لا كلمت المشركين، أو لا أهنت الفقراء؛ ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجها واحدا، وعكس هذا إذا حلف لا يصوم يوما، أو لا يصلي صلاة، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق بالجميع.
«الثاني» مما مثل به أبو محمد في الكافي، وابن عقيل في التذكرة للمسألة: إذا حلف لا يأكل رغيفا فأكل بعضه، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين على شيء معين أو مبهم، والله أعلم.(7/169)
قال: ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل جميعه.
ش: لا نزاع في هذا فيما نعلمه، إذ اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبر إلا به، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب، ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا هو لابسه، نزعه من وقته، فإن لم يفعل حنث.
ش: أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبسا، ولذلك يقال: لبست هذا الثوب شهرا ويرشح هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه، وحكم: لا يركب دابة هو راكبها كذلك، بخلاف: لا يتزوج، ولا يتطيب، ولا يتطهر، فإنه لا يحنث باستدامة ذلك على المذهب، لأنه لا يقال: تزوج شهرا، إنما يقال: منذ شهر، وكذلك في التطيب والتطهير، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل، والله أعلم.
قال: وإن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر، حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء.(7/170)
ش: أما مع النية فواضح، وأما مع عدمها فاختلف الأصحاب في ذلك، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن الضمير في: اشتراه. يرجع إلى الطعام، والطعام لم ينفرد زيد بشرائه، إنما اشترياه معا. واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين، لأن زيدا مشتر لنصفه، ونصفه طعام، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه، كما لو انفرد زيد بشرائه، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث، مع حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال: لا آكل مما طبخه زيد، أو لا ألبس ثوبا خاطه زيد، أو لا أدخل دارا لزيد، مع حكايتهم الخلاف في الأصل السابق، ووافقهم أبو محمد في الأولى، وخالفهم في اللتين بعدها، فأجرى فيهما الخلاف، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما، فكلم أو زار أحدهما حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما.
ش: أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها، كما إذا قصد أن لا يجتمع فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو كلامهما، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفردا حنث بكلام أو زيارة أحدهما، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن(7/171)
الحالف على كلام شخصين أو زيارتهما إذا كلم أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه، قال أبو محمد: ويمكن أن يقال: إن تقدير يمينه: لا كلمت هذا، ولا كلمت هذا؛ لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه، فيصير كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي وحرمت عليكم بناتكم، وإذا يصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا، كما لو صرح بذلك. قلت: هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل عامل المعطوف عليه، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد - وهو الأول - فلا يمشي ما قاله، وحكم: لا آكل خبزا ولحما ونحو ذلك حكم ما تقدم، أما: لا أدخل هاتين الدارين، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه الروايتان بلا ريب، ولا يجري فيه تردد أبي محمد، إذ لا عاطف ومعطوف، أما إن كان تعليق على شيئين، كأن(7/172)
قال لزوجته: إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق، أو قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقتان. ونحو ذلك، فعن بعض الأصحاب تخريجه على الخلاف، واختار أبو محمد في المغني - وهو احتمال له في الكافي - أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه، وجعل في الكافي مسألة: إن حضتما. مسألة اتفاق، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض منهما. والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا، فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه.
ش: هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين، وأن الحكم قد يتعدى لغير الملفوظ به، نظرا لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية، فإذا امتنت عليه زوجته بثوب، فحلف أن لا يلبسه، والباعث له على ذلك المنة، فإن يمينه تتعدى سبب ذلك إلى غير الثوب، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوبا حنث، وكذلك إن انتفع بثمنه، لوجود المنة بالثوب، إذ بدل الشيء يقوم مقامه، وخرج ما إذا انتفع لها بثوب آخر، لأن المحلوف عليه ثوب بعينه، فتعلقت اليمين به.
وقول الخرقي: إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، يحترز عما إذا لم يمتن عليه به، ولا قصد هو أيضا قطع منتها، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة، اعتمادا على اللفظ المجرد.
قال: ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار، فأوى(7/173)
معها في غيرها، حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه.
ش: هذا من فروع اعتبار النية، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها، يقصد بذلك جفاءها، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه، فأوى معها في غيرها حنث، لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود بالإيواء معها في كل دار، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين، كأن امتن عليه بها ونحو ذلك، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها، لعدم ما يقتضي التعدية إلى غيرها، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف عليه، وهو الإيواء معها في تلك الدار.
(تنبيه) : معنى الإيواء المبيت والله أعلم.
قال: ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه.
ش: لأن اليمين على الغد، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفا، فلم يتعلق به حنث، وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد، لما تقدم من خروجه عن التكليف في وقت اليمين. (قلت) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه، فإنه يحنث، لبقاء التكليف، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع، والمذهب التكليف.
ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث،(7/174)
وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه، وهو المذهب، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت، وإن لم يتمكن من الفعل، وقيل: لا يحنث مطلقا، وقيل: إن تمكن من الضرب في الغد حنث، وإن لم يتمكن فلا، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره، وهذه الأقوال الثلاثة لم أرها مصرحا بها في هذه المسألة بعينها، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي البركات وغيره.
ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو نحو ذلك، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث، وهو كذلك والله أعلم.
قال: فإن مات العبد حنث.
ش: لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف، كما إذا قتله، أما إن كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه، فإن كان قبل الغد ففيه قولان، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضا، كما قاله الخرقي، لعدم المحلوف عليه في وقته، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه، ونحو ذلك. (والثاني) : لا يحنث، لأن عدم ضربه بغير فعل منه، أشبه المكره.
وحيث حنث فهل يحنث في الحال - وهو المذهب المنصوص - لأن يمينه منعقدة وقد تحقق عدم الفعل، فأشبه(7/175)
ما لو لم يوقت بوقت، أو لا يحنث إلا إذا جاء الغد، أو لا يحنث إلا في آخر الغد؟ على ثلاثة أقوال، وإن كان في الغد بعد التمكن من ضربه حنث، وكذلك قبله على المذهب، ثم هل يحنث عقب التلف، أو في آخر اليوم؟ فيه القولان السابقان والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن لا يكلمه حينا، فكلمه قبل ستة أشهر حنث.
ش: الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر، نص عليه أحمد والأصحاب، فإذا حلف لا يكلمه حينا، وكلمه قبل ستة أشهر حنث، لمخالفته لما حلف عليه، وإن كلمه بعدها لم يحنث، لأنه وفى بمقتضى يمينه، وهو عدم كلامه حينا، وإنما قلنا: الحين عند الإطلاق ستة أشهر - وإن كان الحين في أصل الوضع زمنا مبهما، يطلق على القليل والكثير - لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] .
3736 - كذا قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، ويروى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه، وما أطلق والمراد به أكثر من ذلك،(7/176)
كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فإنه عبر به عن عدة سنين، قيل: ثلاث عشرة سنة. فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن، ولا يرد نحو قوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح، ولا نحو: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] أي يوم القيامة، لقيام القرينة أيضا على إرادة الزمن الطويل، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت، فقضاه قبله لم يحنث، إذا كان أراد بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.
ش: كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان، فقضاه في شعبان ونحو ذلك، وهذه المسألة من فروع اعتبار النية، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان، فمعنى يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء، فإذا قضاه في شعبان مثلا لم يحنث، لوجود القضاء(7/177)
في وقته، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك، لقيامه مقام النية، كما تقدم ذلك للخرقي، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف عليه، وهو رمضان على ما مثلنا، اعتمادا على اللفظ، وقال القاضي: يبر مطلقا، نظرا للعرف، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله.
ش: هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله: إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.
قال: ولو قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه لم يحنث.
ش: لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه، فهي على فعل نفسه، فمتى هرب منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل، فلم يحنث، ومنصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية جعفر بن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه(7/178)
اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة، فاليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث، فهو كما لو قال: لا افترقنا، واختار أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته وإمساكه فلم يفعل حنث، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة، فينسب إليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه ذلك، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه.
(تنبيه) : لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه، فهل يحنث نظرا إلى أن المفارقة وإن كان سببها من غيره قد وجدت منه، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا ينسب إليه، لعدم اختياره له؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرها بضرب، وما أجري مجراه والله أعلم.
قال: ولو قال: لا افترقنا. فهرب منه حنث.
ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما، وقد وجدت مع الهرب، فيحنث، نعم لو أكرها معا على الفرقة ففي الحنث خلاف كما تقدم.
(تنبيه) : الفرقة ما يعده الناس فراقا كما في البيع، والله أعلم.
قال: ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة، إلا أن يكون نوى مرة واحدة.
ش: إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه حنث، لوجود المخالفة فيما حلف عليه، وانحلت يمينه بلا نزاع، إذ حرف «أن» لا يقتضي التكرار، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث(7/179)
بلا ريب، لعدم المخالفة، ثم هل يحتاج بعد ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول؟ فيه روايتان، المذهب منهما الأول، وهذا معنى قول الخرقي: فذلك في كل مرة، أي إذا لم يحنث، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله: إن خرجت. معناه خروجا، وخروجا نكرة في سياق الإثبات، لكنها في سياق الشرط، فمن لحظ كونها في سياق الشرط - وهو التحقيق - قال: تعم كل خروج، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على صفة، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق، ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات، مع قطع النظر إلى الشرط، قال: إنما تناولت خروجا واحدا على صفة وهو الإذن، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين، لوجود المحلوف عليه، هذا كله مع الإطلاق، أما مع التقييد باللفظ، كما إذا قال: حتى آذن لك مرة، أو في كل مرة، فلا ريب في اعتماد ذلك، وتقوم مقام اللفظ النية، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله.
(تنبيه) : أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن أبيه: إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة، وتكون يمينه على ما نوى، وإن قال: كلما خرجت فهو بإذني، أجزأه مرة واحدة، وهذا ظاهر في الأخذ، وكذلك تبعه أبو البركات، وأبو محمد(7/180)
في المقنع على حكاية الرواية، إلا أن قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في: كلما خرجت فهو بإذني، أنه يجزئه مرة واحدة، فيه نظر، لأن هذا صريح في العموم، وقد يحمل قوله: أجزأه مرة واحدة. إذا نوى بالمرة الإذن في كل مرة، أو أنه عبر بالعام - وهو كل خروج - عن الخاص، وهو خروج واحد مجازا، اهـ. وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى، وجعل رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه، وكأنه أخذ ذلك من قوله في الرواية: وتكون يمينه على ما نوى. والظاهر خلافه والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب، فأكله تمرا حنث، وكذلك كلما تولد من ذلك الرطب.
ش: أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة، أو التعيين والاسم، فهل يغلب التعيين - كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب، منهم ابن عقيل في تذكرته، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف - أو الصفة والاسم، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات، وأومأ إليه أحمد في رواية مهنا، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث، لأن ذلك بمنزلة العلة، فيزول الحكم بزوالها. على قولين.(7/181)
ويدخل تحت ذلك صور (منها) مسألة الخرقي وهي ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب، فصار تمرا أو دبسا أو خلا، ونحو ذلك؛ (ومنها) : إذا حلف لا آكل هذه الحنطة؛ فصارت دقيقا، أو خبزا، أو هريسة أو نحو ذلك. (ومنها) : لا آكل هذا اللبن، فصار جبنا، أو كشكا ونحو ذلك، أو لا آكل هذا الحمل، فصار كبشا، أو لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء أو حماما، ونحو ذلك، أو لا أكلم هذا الصبي، فصار شيخا، أو لا أكلم زوجة فلان هذه، أو عبده سعيدا ونحو ذلك، فطلق الزوجة، وباع العبد، أو: لا لبست هذا القميص فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت الأجزاء، أو تغير الاسم، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة، فتصير فرخا، أو الحنطة، فتصير زرعا، فهذا لا يحنث بأكله، قال: وعلى قياسه الخمر إذا صارت خلا، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع، ولعله أظهر، إذ لا يظهر بين صيرورة البيضة فرخا وصيرورة الرطب خلا ونحو ذلك فرق طائل، وأبعد من ذلك الخمر إذا صارت خلا، فإن الماهية باقية، وإنما تغيرت الصفة، وقد قال أبو البركات: إذا حلف ليأكلن من هذه البيضة أو التفاحة ثم عمل منها ناطفا أو شرابا، بر على القول بتقديم التعيين، ولا يبر على القول(7/182)
باعتبار الصفة، وليس في الشراب إلا مائية ماء من التفاح.
(تنبيه) : محل الخلاف مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالحكم له كما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث.
ش: هذا واضح، إذ المحلوف عليه التمر، والرطب غيره فلا يحنث به، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يأكل اللحم، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث، إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم.
ش: أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ - وهو الذي في العظام - والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفا، فالحالف لا يأكل لحما لا يحنث بذلك، لعدم تناول يمينه له، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا يسمى لحما، كالكبد والطحال، والرئة والمصران، والكرش والقانصة، والقلب والأكارع والكلية، وكذلك ما كان لحما إلا أنه اختص باسم، إما لغة أو عرفا، كلحم خد الرأس، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي،(7/183)
وكاللسان على أظهر الاحتمالين، وعن أبي الخطاب: يحنث بأكل لحم الخد، وهو مناقض لاختياره في الهداية، فيما إذا حلف لا يأكل رأسا؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفردا، فغلب العرف، مع أنه قد يقال: إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي، وقد ناقض القاضي أيضا قوله هذا فقال - تبعا لابن أبي موسى - فيما إذا أكل هنا مرقا يحنث، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه، وجرى أبو الخطاب على الصواب، وتبعه الشيخان فقالا: لا يحنث؛ لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم ذائبة فذلك لا يسمى لحما، لا حقيقة ولا عرفا، وأحمد قال في رواية صالح لا يعجبني. اهـ.
وأما مع إرادة الدسم، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا بالشحم، لأنه المتبادر من إرادة الدسم، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب: يحنث بجميع ذلك، لوجود الاسم فيه.
(تنبيه) : اختلف في بياض اللحم - كسمين الظهر ونحوه - (هل حكمه حكم اللحم) فيحنث من حلف لا يأكل لحما فأكله، وهو قول ابن حامد والقاضي، وظاهر كلام أبي البركات أن المسألة اتفاقية، لدخوله في مسمى اللحم، ولهذا لو اشتراه من وكل في شراء لحم لزم موكله، (أو حكم الشحم) فيحنث من حلف لا يأكل شحما فأكله، وهو اختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشريف، وأبي الخطاب(7/184)
والشيرازي وابن عقيل، واختيار أبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام الخرقي، وقول طلحة العاقولي، لشبهه للشحم في صفته وذوبه، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] الآية؛ على قولين، وفي كلا الدليلين نظر؛ إذ مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه، ويعطى حكمه، على أن شبه سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم، وأما الاستثناء فقال البغوي وغيره: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما؛ اهـ. فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا، إلا أن الله تعالى أرخص لهم فيه دفعا للحرج عنهم، والله أعلم.
قال: فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث، لأن اللحم لا يخلو من شحم.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله، وهو أن اللحم لا يخلو من شحم، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم، وهذا شحم فيدخل في يمينه، وقال عامة الأصحاب: لا يحنث، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم، فاليمين لا تتناوله عرفا.
(تنبيه) : استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار، قال: وهذا ظاهر قول أبي الخطاب،(7/185)
وقول طلحة، قال: ويشهد له ظاهر الآية والعرف، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية، وقال القاضي وغيره: إن الشحم هو الذي يكون في الجوف، من شحم الكلى أو غيره، فعلى هذا لا يحنث بأكل الألية واللحم الأبيض، ونحو ذلك، وهذا هو الصواب، وقد تقدم أن الآية لا تدل على ما ادعاه، وأن العرف عكس هذا، والله أعلم.
قال: وإن حلف أن لا يأكل لحما ولم يرد أكل لحم بعينه، فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث.
ش: أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه، لدخول المحلوف عليه، وهو اللحم حقيقة وعرفا، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي الحنث به وجهان، المشهور منهما - وهو اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه - الحنث. (والثاني) - وهو اختيار ابن أبي موسى -: عدمه، ولعله الظاهر، لأن لحم السمك وإن كان لحما حقيقة، بدليل قَوْله تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك، كما خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع، وصاروا لا يسمونه لحما، وإنما يسمونه سمكا، ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكا: أكلنا لحما. وإنما يقولون: سمكا، ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية،(7/186)
إذ هي بالنسبة إليه مجاز، ولعل هذا الخلاف مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط، والظاهر وصوله، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول إليه، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك، اهـ.
وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة، كلحم الخنزير ونحوه، وهو أشهر الوجهين، وبه قطع أبو محمد، لدخوله في مسمى اللحم حقيقة وعرفا. (والثاني) : لا يدخل ذلك، لأن قرينة حال المسلم تقتضي أنه لا يريد ذلك، والقرائن تخصص، وينبغي على هذا التعليل أن يدخل ذلك في يمين الكافر وجها واحدا، وقد يدخل في كلام الخرقي أيضا لحم الخد، ولحم اللسان، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أنه لا يأكل سويقا فشربه، أو لا يشربه فأكله حنث، إلا أن يكون له نية.
ش: أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة أقوال. (أحدها) : الحنث كما قاله الخرقي، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك الاجتناب، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه. (والثاني) : عدم الحنث، أخذا من قول أحمد في رواية مهنا - فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكل -: لا يحنث، لأن أنواع الأفعال(7/187)
كالأعيان، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره، فكذلك الأفعال. (والثالث) : إن عين المحلوف عليه: كلا أكلت هذا السويق. حنث بشربه تغليبا للتعيين كما تقدم، بخلاف ما إذا لم يعين: كلا أكلت سويقا. فإنه لا يحنث، وهذا قول القاضي في المجرد، وعنده في الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين، أما مع عدمه فلا يحنث قولا واحدا، وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه، أو لا يشربه فأكله، حتى قال أبو محمد - فيمن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به -: أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي - فيمن حلف لا يشرب شيئا، فمص قصب السكر -: ليس عليه شيء، وكذلك لو حلف لا يأكل شيئا، فمص قصب السكر، لم يكن عليه شيء، على ما يتعارفه الناس أن الرجل لا يقول: أكلت قصب السكر، وتبع النص ابن أبي موسى. والله أعلم.
قال: وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله.
ش: مسألة الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا شك في التمرة التي أكلها هل هي المحلوف عليها أم لا، واختياره والحال هذه اجتناب(7/188)
الزوجة، للشك في تحريمها، أشبه ما لو اشتبهت أخته بأجنبية، وتبعه على ذلك ابن البنا، وقال أبو الخطاب وغيره: إنه لا يجب عليه اجتنابها، بل الأولى له ذلك، إذ الأصل الحل، فلا يزول بالشك، وفارق المقيس عليه، إذ الأصل عدم الحل، إلا بعقد يتحقق صحته، بوجود شروطه، وانتفاء موانعه ولم يوجد، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها، بأن أكل التمر كله، أو الجانب الذي وقعت فيه، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه، وإن علم أن التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضا في عدم حنثه، وحل زوجته.
وقول الخرقي: من حلف بالطلاق؛ يشمل البائن والرجعي، وهو مبني على قاعدته في تحريم الرجعية، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب، إذا كان الطلاق رجعيا لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة، لم يبر في يمينه.
ش: هذا هو المذهب المشهور، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر، فمعنى الكلام: لأضربنه عشر ضربات بسوط، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات، فكذلك هذا، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقا، ولو عاد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط.
3737 - ولا ترد قصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإن قلنا: شرع من قبلنا(7/189)
شرع لنا؛ لأن ذلك رخصة في حقه، رفقا بامرأته، لإحسانها إليه، ولذلك امتن عليه بذلك، ولو كان الحكم عاما له ولغيره لما اختص بالمنة، وكذلك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه، يقام عليه الحد بعثكال من النخل ونحوه، ترخيصا من الشارع، رفعا للحرج والمشقة، ولهذا لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب، (وعن ابن حامد) أنه يبر بذلك، أخذا من قول أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال النخل، يسقط عنه الحد، واستدلالا بقصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
3738 - وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المريض الذي زنا: «خذوا له عثكالا، فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة واحدة» ، وقد تقدم الجواب عن ذلك، ثم كان من حق ابن حامد أن(7/190)
يسوي بين الأصل والفرع، فلا يقول بالبر إلا في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال، وإذا كان يقرب قوله، ولهذا قال أبو محمد: لو قيل بهذا كان له وجه، والله أعلم.(7/191)
قال: ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه.
ش: أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته، لعدم التكليم مشافهة، وإن قصد ترك مواصلته، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا ريب أيضا في حنثه بمكاتبته ومراسلته، لوجود مواصلته المحلوف على تركها، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب ففيه روايتان، حكاهما في الكافي (إحداهما) - وهي التي حكاها في المغني عن الأصحاب -: الحنث أيضا، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه، فتحمل يمينه عليه، اعتمادا على الظاهر؛ (والثانية) - وإليها ميل أبي محمد -: عدم الحنث والحال هذه، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة، ولهذا يصح نفيه فيقال: ما كلمته، وإنما كاتبته، ولأن الله تعالى امتن على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال سبحانه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل، وأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فاستثنى الرسول من التكليم، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل معنى التكليم وهو التأثير، إذ هو مأخوذ من الكلم وهو الجرح، ولا شك أن المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له، ولذلك جعل سبحانه الكلام قسيما للوحي في(7/192)
موضع آخر، لا من أقسامه فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] نظرا إلى أن كلا منهما يختص عند الإطلاق باسم، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة، وميل الأصحاب إلى المعنى، وهو أوجه، والله أعلم.(7/193)
[ثانيا: كتاب النذور]
كتاب النذور ش: النذور جمع نذر، كفلس وفلوس، يقال: نذرت أنذر وأنذر بفتح الذال في الماضي، وكسرها وضمها في المضارع، ونذرت بالقوم أنذر، بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، إذا علمت بهم، واستعددت لهم، ولا نزاع في صحة النذر، ولزوم الوفاء به في الجملة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] .
3739 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وهو عبارة عن قول يلتزم به المكلف المختار لله تعالى حقا، والله أعلم.(7/194)
[أنواع النذر]
قال: ومن نذر أن يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به، ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين، ونذر الطاعة الصلاة والصيام، والحج والعمرة، والعتق والصدقة، والاعتكاف والجهاد، وما كان في هذه المعاني، سواء نذره مطلقا، بأن يقول: لله علي أن أفعل كذا وكذا. أو علقه بصفة، مثل قوله: إن شفاني الله عز وجل من علتي، أو شفى فلانا، أو سلم مالي الغائب، أو ما كان في هذا المعنى، فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك، فعليه الوفاء به، ونذر المعصية أن يقول: لله علي أن أشرب الخمر، أو أقتل النفس المحرمة، وما أشبهه، فلا يفعل ذلك، ويكفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين؛ وإذا قال: لله علي أن أركب دابتي، أو أسكن داري، أو ألبس أحسن ثيابي، وما أشبهه، لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية، فإن لم يفعل كفر كفارة يمين، وإذا نذر أن يطلق زوجته، استحب له أن لا يطلق، ويكفر كفارة يمين.
ش: النذر أولا على ضربين، مطلق ومقيد (فالمطلق) أن يقول: لله علي نذر، ولا ينوي شيئا، فيجب عليه كفارة يمين.
3740 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر إذا لم يسم شيئا كفارة يمين» رواه أبو داود والترمذي وصححه، ومسلم والنسائي ولم يقولا: «إذا لم يسم شيئا» .(7/195)
3741 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» رواه أبو داود، (والمقيد) على ضربين (أحدهما) : ما يقصد به المنع من الشيء، أو الحمل عليه، ويسمى نذر اللجاج والغضب، وقد تقدم الكلام عليه في الأيمان؛ (والثاني) : ما ليس كذلك، وهو على خمسة أقسام (أحدها) : أن ينذر قربة تستحب ولا تجب، من صوم وصلاة ونحوهما، فيجب الوفاء به بلا خلاف نعلمه عندنا، سواء نذره مطلقا، كقوله: لله علي صوم يوم، أو صلاة ركعتين، أو مقيدا كقوله: إن شفاني الله أو شفى ولدي فلله علي الحج، فوجد القيد، وسواء كانت القربة مما لها أصل وجوب في الشرع كما تقدم، أو لم تكن كالاعتكاف، وهو إجماع في المقيد، وفيما له أصل وجوب، وقول الجمهور في(7/196)
الآخرين، ويشهد للجميع عموم حديث ابن عباس، وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية.
3742 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» وفي رواية: «فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
3743 - ويشهد لغير المقيد ولما لا أصل لوجوبه في الشرع ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة، - وفي رواية - يوما في المسجد الحرام. فقال: «أوف بنذرك» متفق عليه.
3744 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله: إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي صلاة في بيت المقدس. فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد عليه، فقال: «فشأنك إذا» . رواه أبو داود، وله في رواية: فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس» » .(7/197)
(الثاني) : أن ينذر معصية، كشرب الخمر، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، وصوم يوم الحيض، والتصدق بمال الغير، ونحو ذلك، فلا يجوز الوفاء به إجماعا، ويشهد له حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم.
3745 - ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى، ولا يمين في قطيعة رحم» .
3746 - وللنسائي عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» ثم فيه روايتان (إحداهما) : أنه لاغ ولا شيء فيه،(7/198)
قال أحمد - فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة -: لا كفارة عليه. وذلك لما تقدم.
3747 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم: «مروه فليتكلم، وليجلس وليستظل، وليتم صومه» رواه البخاري وغيره.
3748 - «وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» رواه مسلم وغيره، وظاهر هذا أنه لا نذر صحيح في معصية الله، أو لا نذر مشروع، وغير المشروع وجوده كعدمه، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر في ذلك بكفارة، ولو وجبت لبينها. (والرواية الثانية) وهي المذهب المعروف عند الأصحاب أنه منعقد.(7/199)
3749 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
3750 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «النذر نذران فما كان نذر طاعة فذلك لله(7/200)
فيه الوفاء، وما كان نذر معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين» . رواه النسائي، وهذا المبين يقضي على ذلك المجمل ويبين أن المراد به: لا وفاء لنذر في معصية الله. وكذلك جاء مصرحا به في مسلم في التي نذرت نحر ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه العبد» .
3751 - وقد استشهد ترجمان القرآن لذلك من الكتاب، فعن يحيى بن سعيد، أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني. فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك. فقال شيخ عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف يكون في هذا كفارة؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت. رواه مالك في الموطأ، فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره من(7/201)
المعصية وجبت عليه كفارة يمين، وإن فعل ذلك أثم ولا شيء عليه على المعروف، كما لو حلف على فعل معصية ففعلها، ولأبي محمد احتمال بوجوب الكفارة مطلقا، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الحديث.
(الثالث والرابع) : نذر مكروها أو مباحا، كطلاق زوجته من غير حاجة ونحوه، أو ركوب دابة، أو لبس ثوب له ونحوها، وفي ذلك أيضا روايتان، (إحداهما) : أنه لاغ لا شيء فيه، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» ، وهذا لم يبتغ به وجه الله تعالى، ولحديث أبي إسرائيل، فإنه نذر أفعالا تكره المداومة عليها وقد تحرم، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفارة.
3752 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» » .
3753 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى شيخا يهادى بين ابنيه، فقال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن يركب» ، متفق عليهما، ولم يأمره في ذلك بكفارة، ولو وجبت(7/202)
لبينها. (والثانية) - وهي المذهب أنه منعقد، لأن في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود، وفي رواية له أيضا وللترمذي: ولتصم ثلاثة أيام؛ وهذه زيادة فيجب قبولها، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره وجبت عليه الكفارة، وإن فعل فلا شيء عليه، إلا أنه في المكروه لا يستحب له الفعل، وفي المباح يتخير بين الفعل وتركه قاله الأصحاب.
3754 - وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن «امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب(7/203)
على رأسك بالدف. قال: «أوفي بنذرك» » .
(القسم الخامس) : نذر الواجب، كقوله: لله علي أن أصوم رمضان، أو أحج حجة الإسلام، ونحو ذلك، فحكى أبو محمد عن الأصحاب عدم انعقاد النذر والحال هذه، لأن النذر التزام، والواجب لازم له، فالتزامه تحصيل الحاصل، وحكى في المغني احتمالا - وجعله في الكافي قياس المذهب - أنه ينعقد موجبا للكفارة إن لم يفعله، كما لو حلف على ذلك.
3755 - وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك يمينا فقال: «النذر حلف» ولا نسلم أن نذر الواجب تحصيل الحاصل، لاختلاف جهة الإيجاب، إذ الواجب بالشرع غير الواجب بإيجاب المكلف، ولهذا لو ترك الناذر صوم رمضان والحال ما تقدم لزمه كفارة يمين، ولو تركه من غير نذر لم يلزمه غير القضاء، وقال في المغني في موضع آخر: إن قياس قول الخرقي الانعقاد،(7/204)
وقول القاضي عدمه، فيما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان، فوافق قدومه يوما من رمضان، وأبو البركات حكى المسألة على روايتين، وأورد المذهب بالانعقاد كنذر المباح.
(تنبيه) : قد علم من كلام الخرقي أن الطلاق مكروه، وهذا مع عدم الحاجة إليه، وهو المذهب، (وعنه يحرم) والحال هذه، كالطلاق في حال الحيض، وطلاق الثلاث في رواية، أما عند الحاجة إليه فيباح، وقد يستحب، كما إذا كان بقاء النكاح ضررا، وقد يجب كالمولي إذا امتنع من الفيئة.
[ما يلزم من نذر التصدق بجميع ماله]
قال: ومن نذر أن يتصدق بكل ماله أجزأه أن يتصدق بثلثه لما روي عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأبي لبابة - حين قال: إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئك الثلث» » .
ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن نذر الطاعة يلزم الوفاء به، والصدقة طاعة وقربة، أراد أن ينبه على هذه المسألة، وإلا لاقتضى كلامه وجوب الصدقة بالجميع، والذي قاله الخرقي هو المذهب المعروف.
3756 - لما ذكره من حديث «أبي لبابة - وهو رفاعة بن عبد المنذر - أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي(7/205)
وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئ عنك الثلث» » رواه أحمد.
3757 - وعن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي.(7/206)
سهمي من خيبر. وقد اعترض على هذا بأنه ليس فيه تصريح بالنذر، فيحتمل أنه أراد أن يتصدق بذلك، فأرشده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ما هو أولى، ويجاب بأن هذا ظاهر في جعله لله تعالى، ويرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يجزئ عنك الثلث إذ لفظة الإجزاء ظاهرة في الوجوب، ثم لو سلم أنه ليس بنذر، فلا نسلم أن الصدقة بما زاد على الثلث قربة لمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، وهو لا يمنع القرب، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به. ويحكى عن أحمد رواية أخرى أن الواجب في ذلك كفارة يمين.
3758 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سئلت عن رجل قال: مالي في رتاج الكعبة، فقالت: يكفره ما يكفر اليمين. رواه مالك في الموطأ. اهـ. (وعنه ثالثة) حكاها ابن أبي موسى:(7/207)
يجب إخراج الجميع نظرا إلى أن الصدقة قربة وطاعة، فدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» .
ومقتضى كلام الخرقي أن من نذر الصدقة ببعض ماله لزمه ذلك البعض، وإن كان أكثر من النصف، (وهو إحدى الروايتين) وزعم أبو محمد في المغني أنه الصحيح من المذهب، عملا بما تقدم من الوفاء بنذر الطاعة، خرج منه إذا نذر الجميع فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل، (والرواية الثانية) : أنه يجزئه إخراج ثلث ذلك البعض المعين أو المقدر، وبها قطع القاضي في الجامع، جعلا للبعض كالكل ولأبي محمد احتمال أن البعض إن كان الثلث فما دون لزمه، وإن كان أكثر أجزأه قدر ثلث المال، لما تقدم من أن الحديث يتضمن أن الصدقة بزيادة على الثلث ليس بقربة، وهذا الاحتمال هو الرواية الثانية التي حكاها أبو البركات وصححها، وعنده أن محل الخلاف فيما إذا زاد المسمى على ثلث الكل، هل يلزمه الكل أو قدر ثلث(7/208)
المال؟ على روايتين، أما إذا كان المسمى قدر الثلث فما دون فإنه يلزمه الوفاء به رواية واحدة، تضمن هذا أن للأصحاب في نقل الخلاف طريقتين، والأولى طريقة أبي الخطاب، وأبي محمد، ومقتضى كلام القاضي، وجمع ابن حمدان في رعايتيه الطريقتين، فحكى المسألة على ثلاث روايات.
(تنبيه) : هل يختص ذلك بالصامت، أو يعم كل مال، إن لم يكن له نية وهو ظاهر إطلاق الأكثرين، ومقتضى حديث كعب بن مالك، لأنه جعل سهمه الذي بخيبر من المال، وأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وقياس مسألة إذا حلف لا مال له وله مال غير زكوي، أو دين على الناس أنه يحنث؟ على روايتين.
[حكم من نذر نذرا فعجز عنه]
قال: ومن نذر أن يصوم وهو شيخ كبير، لا يطيق الصيام، كفر كفارة يمين، وأطعم لكل يوم مسكينا.
ش: هذا هو المذهب المنصوص (أما الكفارة) فلأنه لم يأت بالمنذور بعينه، ولما تقدم في حديث أخت عقبة الذي رواه أبو داود قال فيه: ولتكفر يمينها.
3759 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين» . رواه أبو داود، (وأما الإطعام)(7/209)
فكالصوم الواجب بأصل الشرع؛ وقيل: لا يجب إلا الكفارة لظاهر الحديثين، وقيل: لا يجب إلا الإطعام، كالواجب بأصل الشرع وهو صوم رمضان، وقيل: إن هذا النذر غير منعقد أصلا، لأنه تكليف ما لا يطيق، وهو غير جائز شرعا، وحكم ما إذا نذر الصوم وهو قادر ثم عجز حكم ما تقدم، إلا أنه لا نزاع في انعقاد نذره.
[حكم من نذر صياما أو صلاة ولم يذكر عددا]
قال: وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صوم يوم.
ش: لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم، فيجب ذلك، لأنه اليقين، وهذا مع الإطلاق، أما مع التقييد بلفظه أو بنيته فيعمل على ذلك بلا ريب.
قال: وأقل الصلاة ركعتان.
ش: أي وإذا نذر صلاة فأقلها ركعتان، ما لم ينو أكثر أو يسمه، وهو إحدى الروايتين، وهي التي نصبها أبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وقطع بها القاضي في الجامع، وابن عقيل في التذكرة. (والرواية الثانية) : يجزئه ركعة، ومبناهما على أن أقل ما يصح التطوع به هل هو ركعة أو ركعتان؟ على روايتين تقدمتا ومفهوم كلامه ثم أن أقله ركعتان، وعليه جرى ها هنا.
[ما يلزم من نذر المشي إلى بيت الله الحرام]
قال: وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة.(7/210)
ش: من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره، كما تضمنه كلام الخرقي، لأنه قربة وطاعة فلزمه كنذر الصلاة.
3760 - ودليل الأصل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه، ولا يجزئه الذهاب إلا في حج أو عمرة لأنه المشي المعهود في الشرع إلى البيت، فحمل إطلاق الناذر عليه، ولقد غالى أبو محمد فقال: إذا نذر إتيان البيت غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة، وسقط شرطه، لمناقضته لنذره. وفيه نظر، لجواز التصريح بخلاف الظاهر، والكلام إنما يتم بآخره ويلزمه المشي من دويرة أهله، والإحرام من حيث يحرم للواجب، وحكم من نذر المشي إلى موضع من الحرم كذلك، بخلاف غيره، كعرفة وغيرها، والله أعلم.
قال: فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين.
ش: إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي، لظاهر حديثي أنس وأخت عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وسيأتيان، ولأن المشي(7/211)
والحال هذه قربة، لأنه مشي إلى عبادة، والمشي إلى العبادة أفضل، فإن عجز عن المشي جاز له الركوب.
3761 - لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن يركب» . متفق عليه.
3762 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت، أو قال: أن تحج ماشية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود.(7/212)
وإذا ركب كفر كفارة يمين (على إحدى الروايتين) واختيار القاضي، وأبي محمد، لهذا الحديث، وبه احتج أحمد، ولأبي داود في رواية والترمذي في حديث عقبة بن عامر قال: «ولتصم ثلاثة أيام» ، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» ؛ (وعن أحمد رواية أخرى) : يجب عليه هدي من الميقات لأنه أخل بواجب في الإحرام، فلزمه الهدي كتارك الإحرام من الميقات، والإحرام دونه.
3763 - ولما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن «أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، وإنها لا تطيق ذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة» » ، وفي رواية: أمرها أن تركب وأن تهدي هديا. رواه أبو داود، ويخرج لنا (رواية ثالثة) أنه لا شيء عليه، بناء على تارك المنذور لعذر، وهو ظاهر حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم.
3764 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» متفق عليه، وليس في الصحيح ذكر كفارة.(7/213)
وإن عجز عن مشي البعض وقدر على البعض، فإنه يمشي ما قدر عليه، ويركب ما عجز عنه، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخت عقبة: «لتمش ولتركب» أي لتمشي ما قدرت عليه ولتركب ما عجزت عنه، وحكم الكفارة على ما سبق.
هذا كله إذا ترك المشي لعجزه عنه، أما إذا تركه مع قدرته عليه فلا ريب في وجوب الكفارة عليه، ثم هل هي كفارة يمين أو هدي؟ على الروايتين السابقتين والمذهب على إجزاء حجه، وقال أبو محمد: قياس المذهب أنه يستأنف الحج ماشيا لتركه صفة النذر، كما لو نذر صوما متتابعا ففرقه، وعلى هذا لو مشى بعضا وركب بعضا ففيه احتمالان، (أحدهما) : يحج ثانيا فيمشي ما ركب؛ (والثاني) : لا يجزيه إلا حج يمشي في جميعه، اعتمادا على ظاهر نذره.
تنبيهان: (أحدهما) : عكس مسألة الخرقي إذا نذر الركوب إلى بيت الله الحرام فإنه يلزمه، لأن فيه إنفاقا في الحج، فإن تركه ومشى لزمته الكفارة، ثم هل هي كفارة أو هدي؟ على الروايتين السابقتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو نوى بالمشي أو بالركوب إلى البيت إتيانه، فإنه يلزمه إتيانه في حج أو عمرة، ولا يلزمه مشي ولا ركوب. (الثاني) يلزم المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى التحلل، لانقضاء النسك إذًا، وقال أحمد: يركب في الحج إذا رمى، وفي العمرة إذا سعى، لأنه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة، وظاهر هذا أنه إنما(7/214)
يلزمه ذلك إلى التحلل الأول والله أعلم.
[ما يلزم من نذر عتق رقبة]
قال: وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب، إلا أن يكون نوى رقبة بعينها.
ش: إذا نذر رقبة وأطلق حمل ذلك على ما يجزئ في الواجب، وهي الرقبة المؤمنة على المذهب، السالمة من عيب مضر بالعمل على ما تقدم، حملا للمطلق على المعهود الشرعي، وهو الواجب في الكفارة وإن نوى رقبة معينة أجزأته وإن كانت كافرة أو معيبة، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات العبد قبل أن يعتقه: يلزمه كفارة يمين، ولا يلزمه عتق عبد، لأن هذا شيء فاته، على حديث عقبة بن عامر، وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه، اهـ.
[حكم إضافة النذر لوقت]
قال: وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان، فقدم في أول يوم من شهر رمضان، أجزأه صيامه لشهر رمضان ونذره.
ش: النذر والحال هذه منعقد في الجملة، قال القاضي في روايتيه: من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان انعقد نذره، ذكره أبو بكر في الاعتكاف من كتاب الخلاف، وحكى صحته عن أحمد في مواضع، اهـ، وكذلك جزم غير واحد من الأصحاب(7/215)
بالصحة وذلك لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا، فأشبه غيره من النذور، فإذا قدم فلان في أول شهر رمضان فهل يتبين بذلك عدم انعقاده؟ المشهور - وهو اختيار أبي محمد -: لا، وظاهر كلام الخرقي نعم؛ لقوله: أجزأه صيامه لرمضان ونذره؛ وعن القاضي أن ظاهر كلام الخرقي عدم الانعقاد، وأخذ ذلك من كون الخرقي لم يوجب القضاء والحال هذه.
إذا تقرر هذا فلقدوم زيد حالات: (إحداها) : أن يقدم والناذر صائم صوما واجبا، ففيه روايتان (إحداهما) : وهي اختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة: يجزئه صومه عن الواجب والنذر، لأن الذي نذره صوم يوم يقدم فلان وقد صامه (والثانية) - وهي أنصهما، واختيار أبي بكر والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما -: لا يجزئه عن النذر، لأنه لم يأت بما وجب عليه لأن الواجب عليه صوم يوم قدوم زيد عن النذر، ولم يأت به عن النذر، إنما أتى ببعضه عنه، ولهذا(7/216)
الخلاف التفات إلى نذر صوم الواجب، وإلى أنه هل يلزمه الصوم حين القدوم، أو من أول اليوم؟ وعلى هذا فمذهب الخرقي صحة نذر الواجب كما هو المذهب، وأنه إنما يلزمه من حين القدوم، وهو أحد الوجهين أو الروايتين، ونظير ذلك إذا قال: أنت طالق يوم يقدم زيد، هل تطلق من حين قدومه أو من أول اليوم؟ على قولين، اهـ. فإن قلنا: لا يجزئه لزمه القضاء لتركه المنذور، وهل عليه كفارة؟ فيه روايتان يأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى، ويتخرج أن لا شيء عليه، كنذر الواجب في رواية، وقد تقدم في كلام القاضي ما يدل عليه.
(الحال الثانية) : وهي التي ذكرها الخرقي في قوله: ومن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه، وصام يوما مكانه، وكفر كفارة يمين.
ش: إذا قدم يوم فطر أو أضحى ففيه روايتان (إحداهما) : لا شيء عليه، لأن يوم الفطر والأضحى ليسا بمحل للصوم، لمنع الشارع منه، فأشبه ما لو قدم ليلا، إذ الممنوع منه شرعا كالممنوع منه حسا، وحكى أبو محمد هذه الرواية تخريجا من نذر المعصية، وفيه نظر، لأن العصيان يعتمد المخالفة، ولا مخالفة هنا من الناذر. (والرواية الثانية) - وهي المذهب -: عليه القضاء، لأن النهار محل للصوم في الجملة، بخلاف الليل، والمانع عارض، وإذا يجب القضاء لترك المنذور، ولهاتين الروايتين التفات إلى الصلاة في الدار المغصوبة، من(7/217)
حيث إنه هل ينظر إلى عين الصلاة، أو إلى الصلاة من حيث هي؟ لكن المشهور ثم النظر إلى عين الصلاة، والمشهور هنا النظر إلى ذات اليوم من حيث هو، وقد يفرق بأن ثم المصلي آثم عاص لارتكابه النهي؛ بخلاف هنا فإنه لا مخالفة منه، وإنما وجد أمر بغير اختياره، منعه من الصوم. اهـ؛ وعلى هذه إذا قضى هل عليه كفارة؟ فيه روايتان (أشهرهما) عن الإمام وعند الأصحاب: نعم؛ لتركه المنذور في وقته. (والثانية) : لا؛ لأنه معذور في الترك، أشبه المكره، وخرج أبو محمد (قولا رابعا) بوجوب الكفارة من غير قضاء، مما إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها، وحكم ما لو وافق يوم حيض أو نفاس حكم ما تقدم إلا أن عن أحمد رواية فيما إذا وافق يوم عيد أنه إن صام صح صومه، وهنا لا يصح الصوم بلا خلاف.
(الحال الثالثة) : قدم وهو مفطر، ففيه روايتان إحداهما: لا شيء عليه، والثانية وهي المذهب: عليه القضاء، وقد تقدم توجيههما، وعلى هذه ففي الكفارة روايتان، بناء على تارك المنذور لعذر.
(الحال الرابعة) : إذا قدم وهو ممسك، ففيه روايتان(7/218)
(إحداهما) - وهي ظاهر كلام الشيرازي، واختيار ابن عبدوس - أنه ينوي صيامه عن النذر ولا شيء عليه، لوجود الصوم منه في اليوم، ولا تضر نيته من النهار لأن الواجب إنما تعلق به إذا، وقد شهد لذلك قضية صوم يوم عاشوراء. (والثانية) : عليه القضاء، ويمنع أن الواجب إنما تعلق به إذ ذاك، بل تبين تعلقه به من أول اليوم، وفي الكفارة لكونه معذورا روايتان، هذا نقل الشيخين، وقال القاضي في الجامع: إنه ينوي صوم ذلك اليوم ويقضي ويكفر. وهذا الذي نصبه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وقال الشريف: إنه اختيار أبي بكر وهو مبني على لزوم الإمساك له وإن لم يصح صومه عن النذر كرمضان، والمختار خلافه.
(الحال الخامسة) : قدم وهو صائم تطوعا، ففيه أيضا روايتان كالممسك: (إحداهما) : أنه يعتقده عن النذر ويجزئه. (والثانية) : عليه القضاء، وفي الكفارة الخلاف.
(الحال السادسة) إذا قدم في الليل، أو والناذر مجنون، فلا شيء عليه وإن أفاق في اليوم، على ظاهر إطلاق أبي البركات، وقد يقال فيما إذا أفاق في اليوم إنه كالمفيق في أثناء يوم من رمضان.
(الحال السابعة) قدم في النهار، وكان قد بيت له النية،(7/219)
لخبر سمعه من الليل، فيجزئه بلا ريب.
قال: وإن وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: لا يصومه، ويصوم يوما مكانه، ويكفر كفارة يمين.
ش: هذا مبني على أصل تقدم، وهو أن أيام التشريق هل يصح صومها عن الفرض أم لا؟ فإن قلنا يصح، صام هنا، وصار كما لو كان القدوم في غير يوم تشريق، وإن قلنا لا يصح فهو كما لو قدم في يوم عيد وقد تقدم، وقد علم من هذا أن يوم العيد لا يصح صومه وهو المذهب، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن صام صح صومه، كالصلاة في الدار المغصوبة.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا قلنا بالإجزاء عن رمضان والنذر، فهل ينوي النذر؟ قد يقال: إنه ينويه كما إذا قلنا فيما إذا كان صائما تطوعا أو ممسكا، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وعلى هذا يكون كلامه مشعرا بصورتي التطوع والممسك، اهـ. (الثاني) : إذا كان القدوم في الليل، أو والناذر مجنون فقد يقال: بطل النذر إذا لعدم تصور الفعل، إذ الليل ليس بمحل للصوم أصلا، والمجنون لا يتوجه إليه خطاب تكليفي، وقد يقال: بل قد تبينا عدم انعقاده، فيكون النذر موقوفا. وهذان المدركان يلحظان أيضا فيما إذا كان القدوم في يوم عيد أو وهو مفطر، والله أعلم.
[نذر صيام شهر ولم يسمه فمرض أو حاضت المرأة]
قال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه أفطر فإذا عوفي بنى، وكفر كفارة يمين، وإن أحب أتى بصيام شهر متتابع ولا كفارة عليه.(7/220)
ش: إذا نذر أن يصوم شهرا والحال هذه فصام ثم في أثنائه مرض مرضا مجوزا للفطر فأفطر فإنه إذا عوفي يخير بين الإتيان بشهر متتابع ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه، وبين البناء على ما صامه والتكفير بكفارة يمين، لتركه صفة المنذور، كما «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخت عقبة بالكفارة لتركها المشي» ، ويخرج رواية أخرى بعدم وجوب الكفارة للعذر، لإمكانه الإتيان بالمنذور على وجهه.
وقول الخرقي: مرض. قد قلنا: أي مرضا مجوزا للفطر. وهو شامل للموجب للفطر وهو المخوف، وغير الموجب وهو المبيح، ولا ريب أن حكم الموجب ما تقدم، أما المبيح فهل حكمه كذلك أو حكم من أفطر لغير عذر، فيلزمه الاستئناف بلا كفارة؟ على وجهين، وكذلك هذان الوجهان فيما إذا سافر سفرا يبيح الفطر، ولنا وجه ثالث يفرق بين المرض والسفر، ففي المرض يخير، لأن السبب وجد بغير اختياره، وفي السفر يتعين الاستئناف، لوجود السبب منه باختياره، وقد تقدم نحو ذلك في الظهار، وكلام الخرقي مشعر بأنه لو نذر شهرا وأطلق أنه لا يلزمه التتابع فيه، وهو إحدى الروايتين، لوقوع الشهر على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما، ولهذا لو صام ثلاثين يوما أجزأه بلا ريب والله أعلم.
قال: وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه.(7/221)
ش: يعنى أنها تخير بين الاستئناف فلا شيء عليها وبين البناء مع الكفارة.
قال: ومن نذر أن يصوم شهرا بعينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا وكفر كفارة يمين.
ش: إذا نذر صوم شهر بعينه - كرجب مثلا - فأفطر يوما فيه أو أكثر، فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر ففيه روايتان: (إحداهما) - وهي المشهورة واختيار الخرقي وأبي الخطاب في الهداية وابن البنا - أنه ينقطع صومه ويبتدئ شهرا كاملا، (والثانية) - وقال أبو محمد: إنها الأقيس -: لا ينقطع صومه، فيتم على ما صامه ثلاثين يوما إذا زال عذره؛ وأصل الخلاف أن التتابع في الشهر المعين هل وجب لضرورة الزمن، وإليه ميل أبي محمد، أو لإطلاق النذر، وإليه ميل الخرقي والجماعة، ولهذا لو شرط التتابع بلفظه أو نواه لزمه الاستئناف قولا واحدا، ومما ينبني على ذلك أيضا إذا ترك صوم الشهر كله، فهل يلزمه شهر متتابع، أو يجزئه متفرقا؟ على الروايتين ولهاتين الروايتين أيضا التفات إلى ما إذا نذر صوم شهر وأطلق، هل يلزمه متتابعا أم لا؟ وقد تقدم أن كلام الخرقي يشعر بعدم التتابع، وقضية البناء هنا يقتضي اشتراط التتابع، كما هو المشهور عند الأصحاب ثم. انتهى. وعلى كلتا الروايتين(7/222)
يلزمه كفارة، جبرا للفطر الذي أفطره فيه، وإن كان الفطر لعذر فإنه يبني قولا واحدا، لكن هل يجب وصل القضاء وتتابعه أم لا؟ على الروايتين السابقتين، وهل يلزمه كفارة؟ على الروايتين أيضا في ترك المنذور لعذر.
قال: ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه.
ش: أما جواز صوم النذر عن الميت في الجملة فهو المذهب المعروف.
3765 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ذلك يؤدي عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» متفق عليه؛ وفي رواية: «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «صومي عنها» » رواه أحمد وأبو داود، والنسائي.(7/223)
3766 - وعلى هذا يحمل عموم ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» متفق عليه.
3767 - بدليل ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه. رواه أبو داود، فقد فهم من الحديث الأول اختصاص الحكم بالنذر، وأنه لا يتعدى إلى غيره، وقد جاء نحو هذا صريحا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3768 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا» إلا أن سنده ضعيف، وقال الترمذي: الصحيح أنه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - موقوف.(7/224)
وقيل: لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يفعل ذلك عنه في الحياة، وهو مردود بالنصوص، والذي يصوم عنه ورثته من أقاربه، لأنهم لما خلفوه في أخذ ميراثه كذلك فيما عليه، وهذا على سبيل الاستحباب، فلو لم يصوموا فلا شيء عليهم، إلا أنه وقع للقاضي في تعليقه ما ظاهره أنه لو خلف إذا تركة فالورثة مخيرون، إن شاءوا صاموا، وإن شاءوا أنفقوا على من يصوم، وهو حسن، ولو صام عنه قريبه غير الوارث، أو وارثه غير القريب أو أجنبي أجزأ عنه، كما لو قضى عنه دينه، وقد شبهه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدين، ولتشبيهه بالدين قلنا: لا يجب على الوارث القريب القضاء، بل يستحب له، إذ قضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضى منها، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومي عنها» ونحو ذلك أمر بالصوم على جهة الفتوى فيما سئل عنه، والغرض منه بيان الجواز.
3769 - وقد جاء مصرحا به «من مات وعليه صيام صام عنه وليه لمن شاء» .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب مع القضاء فدية، وهو كذلك، لظاهر الحديث.
[قضاء نذر الطاعة عن الميت]
قال: وكذلك كل ما كان من نذر طاعة.(7/225)
ش: كحج وصدقة، وعتق واعتكاف، ونحو ذلك من القرب.
3770 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» رواه البخاري والنسائي بمعناه، وفي رواية لأحمد والبخاري قال: جاء رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج. وهو دليل على الإجزاء من الوارث وغيره، حيث لم يستفسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوارث هو أم لا، فقد ورد النص بالقيام في الصوم والحج خصوصا، وورد في غيرهما عموما.
3771 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقض عنها» رواه أبو داود والنسائي.(7/226)
وقد عمل على ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهما راويا الحديث، وكذلك ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3772 - قال البخاري: أمر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال: صلي عنها، قال: وقال ابن عباس نحوه.
3773 - وروى سعيد عن سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف، قال: صم عنها، واعتكف عنها.(7/227)
3774 - وقال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عامر بن مصعب، أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما مات.
ولنا قول آخر ضعيف أنه لا يفعل شيئا من ذلك كما تقدم في الصوم.
وقد شمل كلام الخرقي الصلاة المنذورة، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والقاضي في التعليق وغيرهما، قياسا على ما تقدم (والرواية الثانية) : لا يفعل الصلاة بخلاف الصوم(7/228)
وغيره، لأنها عبادة تختص بالبدن، لا بدل لها بحال.
ومفهوم كلام الخرقي أن الولي لا يفعل ما هو واجب بغير النذر، من قضاء رمضان، وصوم كفارة، وصوم السبعة أيام للمتمتع، وحج، وزكاة مال، وعتق في كفارة، وقد صرح بذلك الأصحاب في قضاء رمضان، لما تقدم من الإشارة في الاستدلال، وكذلك نص عليه أحمد في السبعة الأيام للمتمتع في رواية المروذي، قياسا على قضاء رمضان، لوجوبها بأصل الشرع، وهو فرق صوري، وقد يقال: الأصل عدم الاستنابة إلا ما استثناه الدليل، وكذلك نص أحمد في صوم الكفارة في رواية ابن منصور، إذ الكفارة زاجرة كالحد، فلم ينب فيها الولي؛ بخلاف نذر الصوم فإنه نذر طاعة، أشبه نذر صدقة المال.
وأما الحج الواجب فقد قال الأصحاب إن لوارثه ولغير وارثه أن يفعله عنه بعد مماته وإن لم يوص بذلك، سواء كان له تركة أو لم يكن.
3775 - وقد شهد لذلك ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: «أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟» قال: نعم. قال: «فاحجج عن أبيك» رواه الدارقطني، وأما(7/229)
زكاة المال فلا يحضرني الآن فيه نقل، والقياس أنه كالعتق الواجب، وقد صرح القاضي وأبو البركات وغيرهما بصحته عن الميت مطلقا، وقد علم من مجموع هذا أن مفهومه إنما عمل به في الصوم فقط.
(تنبيه) : قول الخرقي: صام عنه ورثته من أقاربه، ظاهره كما تقدم أن الذين يطلب منهم الصوم هم الورثة من الأقارب، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال - في من مات وعليه اعتكاف -: ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه. وهو شامل للوارث وغير الوارث، وقال ابن عبدوس: إذا صام الولي صام الأقرب من الأولياء. ثم قول الخرقي أيضا: ورثته. يشمل جميع الورثة، وظاهره أنه لو صام عنه الكل صح، كأن يكونوا مثلا عشرة، وعليه عشرة أيام،(7/230)
فيصوموا عنه كل واحد يوما، وقد ذكر لأحمد في رواية أبي طالب من كان عليه صوم شهر، هل يصوم عشرة أنفس شهرا؟ فقال: يصوم واحد؛ وقد قرر القاضي في تعليقه هذا النص على ظاهره، لما أورده على لسان الخصم، وقال فيه: كما لا يصح أن يطوف واحد ويسعى آخر والله أعلم.(7/231)
[كتاب أدب القاضي]
ش: قال الأزهري: القضاء في الأصل إحكام الشيء والفراغ منه، ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] وسمي الحاكم قاضيا لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، ويكون (قضى) بمعنى أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه. انتهى؛ قلت: ويجوز أن يكون سمي من الأول، لأنه ينبغي أن يكون محكما في نفسه، أي كاملا في صفاته وأفعاله.
والأصل في مشروعيته قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] .
3776 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(7/232)
أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران» ، متفق عليه.
3777 - ولأبي داود والنسائي من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» ، وكذا من مسلم، مع أن هذا(7/233)
-ولله الحمد - إجماع والقضاء من فروض الكفايات، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبا كالجهاد والإمامة، ولما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ونحوه.
3778 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود.(7/234)
3779 - وله من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
3780 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد، ونقل إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنه سئل: هل يأثم القاضي بالامتناع إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وظاهر هذا أنه غير واجب، والأول المذهب، قال أبو محمد: ويحتمل أن تحمل هذه الرواية على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان وغيره.(7/235)
[شروط القاضي]
قال: ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا، مسلما حرا عدلا، عالما فقيها ورعا.
3781 - ش: (أما اشتراط البلوغ) فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعوذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصبيان» رواه أحمد، ولأن الصبي مولى عليه فلا يكون مولى على غيره، ولأن الصبي يستحق الحجر عليه، والقاضي يستحق الحجر على غيره فتنافيا، (وأما اشتراط الإسلام) فلأن ذلك شرط في الشهادة، ففي القضاء أولى، ودليل الأصل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقضاء يقتضي احترامه، وبينهما منافاة، وقد قال الله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من أن يلزمه، ويحكم عليه بغير(7/236)
اختياره، (وأما اشتراط الحرية) فقياسا لمنصب القضاء على منصب الإمامة؛ ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصومات، وبين الحالتين منافاة.
3782 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل» رواه مسلم وغيره، فمحمول على من كان عبدا مجازا، أو على غير ولاية الحكم، (وأما اشتراط العدالة) فلقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والقاضي يخبر بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه لذلك، ولأن العدالة شرط في الشاهد، ففي(7/237)
القاضي أولى، ولأن قوله ألزم، وضرره أشمل، ودليل الأصل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (وأما اشتراط كونه عالما) أي عالما بوجوه الكتاب والسنة، واختلاف علماء المسلمين - فقيها - وهو من صار الفقه له سجية، لأن الفقيه اسم فاعل من فقه - بالضم - ككرم فهو كريم، وذلك من صار له أهلية استنباط الأحكام الشرعية.
3783 - فلما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إذ فيه في صحيح مسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد؛ قال العلماء: معناه إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد، وإلا لو حمل على ظاهره لاقتضى أن الاجتهاد مؤخر عن الحكم، وليس كذلك اتفاقا.
3784 - وعن بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة «ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار» رواه أبو داود وابن ماجه.(7/238)
3785 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه» رواه أحمد وابن ماجه.
3786 - وعن عمرو بن الحارث يرفعه إلى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» ؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم(7/239)
تجد في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما يرضي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -» رواه أبو داود والترمذي، وقد شهد لهذا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية.(7/240)
(وأما اشتراط كونه ورعا) فلأن غير الورع لا يؤمن أن يتساهل، فيأخذ الرشا الملعون آخذه عن الله وعن الحق.
3787 - فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» رواه الترمذي.
3788 - وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحوه رواه أبو داود.(7/241)
3789 - وعن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ينبغي للقاضي أن يجتمع فيه سبع خصال، وإن فاتته واحدة كانت فيه وصمة، العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم. رواه سعيد.
وظاهر كلام الخرقي أن الورع شرط لصحة تولية القضاء، وهو ظاهر كلام أحمد على ما حكاه أبو بكر في التنبيه قال: إذا كان فيه ست خصال فقيها، عالما، ورعا، عفيفا، بصيرا بما يأتي بصيرا بما يذر، أي صلح للقضاء، أو صلح أن يستقضى، وعامة المتأخرين كالقاضي ومن بعده لا يشترطون ذلك، بل(7/242)
يجعلونه من المندوبات.
إذا تقرر هذا فقد أهمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شروطا أخر لا بد من التنبيه عليها، ولعله لوضوحها، أو لإشعار كلامه بها تركها، (منها كونه عاقلا) وهذا واضح جدا، لأن المجنون أسوأ حالا من الصبي، (ومنها كونه ذكرا) ويحتمله كلام الخرقي لذكره ما تقدم بصيغة التذكير، وذلك لما تقدم من قوله: القضاة ثلاثة قال: «فرجل» إلى آخره، وظاهره حصر القضاة في الثلاثة الموصوفين بما ذكر.
3790 - وعن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه، ولأن القاضي يحضره الرجال، ويحتاج فيه إلى كمال رأي، وتمام عقل،(7/243)
وفطنة، والمرأة لا تحضر محافل الرجال، وهي ناقصة عقل بدليل النص، قليلة رأي وفطنة، وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فأشار سبحانه إلى كثير نسيانها وغلطها، (ومنها) أن يكون متكلما سميعا بصيرا، لأن الأخرس يتعذر عليه النطق بالحكم، وإشارته إن فهمت لكن لا يفهمها كل أحد، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، والشاهد من المشهود له، (واختلف) هل يشترط كونه كاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، حذارا من أن يخفى عليه ما يكتبه كاتبه، فربما دخل عليه الخلل، أو لا يشترط، وهو ظاهر كلام عامة الأصحاب، الخرقي وأبي بكر، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا وغيرهم، ونصبه أبو محمد للخلاف، نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أميا، وهو سيد الحكام؟ على قولين، (وكذلك اختلف) أيضا في اشتراط كونه زاهدا،(7/244)
والمذهب عدم الاشتراط، وحكى ابن حمدان قولا بالاشتراط، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنه يشترط أن يكون أعلم من غيره، وهو يرجع إلى صحة تولية المفضول مع وجود الفاضل، والمذهب الصحة فيما أظن.
(تنبيهات) : «أحدها» : ما يتصور فقده من هذه الشروط إذا فقد في الدوام أزال الولاية، إلا فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به، فإن ولايته ثابتة فيه، «الثاني» : العاقل من عرف الواجب والممتنع والممكن، وما ينفعه وما يضره غالبا، والعقل ضرب من العلوم الضرورية، مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين ونحوه، قاله القاضي وغيره، وقال التميمي: هو نور كالعلم، وعن إبراهيم الحربي، عن أحمد أنه قال: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف.(7/245)
قال القاضي: معنى قوله أنه غريزة، أنه خلق الله ابتداء وليس باكتساب، وللناس فيه أقوال كثيرة، وهل محله القلب أو الدماغ؟ فيه روايتان، المختار منهما للأصحاب الأول، قال التميمي: الذي نقول به أن العقل في القلب، يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض إلى الحواس، ما جرى في العقل. انتهى، وجعل الماوردي الاختلاف في محله مفرعا على قول من زعم أنه جوهر لطيف، يفصل به بين حقائق المعلومات كلها، وقال: كل من نفى كونه جوهرا أثبت محله في القلب، لأن القلب محل العلوم كلها.
(الثالث) : العدالة المشترطة هنا هل هي العدالة ظاهرا وباطنا كما في الحدود، أو ظاهرا فقط كما في إمامة الصلاة، والحاضن، وولي اليتيم، ونحو ذلك، أو فيها الخلاف كما في العدالة في الأموال؟ ظاهر إطلاقات الأصحاب أنها كالذي في الأموال، وقد يقال إنها كالذي في الحدود.
(الرابع) غير واحد من الأصحاب يقول: من شرط القاضي كونه مجتهدا، وهو الذي أشار إليه الخرقي بقوله: عالما فقيها، والمجتهد من له أهلية يمكنه أن يعرف بها غالب الأحكام الشرعية الفرعية بالدليل إذا يشاء. مع معرفة جملة كثيرة منها(7/246)
بأدلتها، فيحتاج أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام المذكورة جملة، ويعرف حقيقة ذلك ومجازه، وأمره ونهيه، ومبينه ومجمله، ومحكمه ومتشابهه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وناسخه ومنسوخه، والمستثنى والمستثنى منه ويزيد في السنة بأن يعرف مما يتعلق بالأحكام صحيحه وسقيمه، وتواتره وآحاده، ومرسله ومنقطعه ونحو ذلك،(7/247)
ويعرف موضع الوفاق من موضع الخلاف فيما يتعلق بالأحكام، والقياس وما يتعلق به، والعربية، المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق، ومن حولهم من العرب، وزاد ابن عقيل في التذكرة: والاستدلال، واستصحاب الحال، والقدرة على إبطال شبه المخالف، وإقامة الدلالة على مذهبه. والله أعلم.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
ش: هذا - والله أعلم - اتفاق.
3791 - وقد شهد له ما روى «عبد الرحمن بن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاض بسجستان، أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» رواه الجماعة. وفي معنى هذا كل مشغل للفكر،(7/248)
كشدة جوع أو عطش أو ألم، أو هم أو حزن، أو فرح أو نعاس، أو حر مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة بول أو غائط ونحو ذلك.
وظاهر كلام الخرقي وعامة الأصحاب أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وفي الخصال لابن البنا الإتيان بلفظ الكراهة، وفي المغني: لا خلاف نعلمه أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان، وعلى كل حال فإذا خالف وحكم فوافق الحق (فعن القاضي) لا ينفذ حكمه، لارتكاب النهي.
3792 - فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، (وعنه) - في المجرد وهو الذي أورده الشيخان، وأبو الخطاب مذهبا - أنه ينفذ، إذ المنع من ذلك كان حذارا من(7/249)
شغل فكره المؤدي إلى عدم استيفاء النظر في الحكم، فربما وقع الخلل فيه، والفرض أن لا خلل في الحكم.
3793 - وأما ما روي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» ، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» ، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية» متفق عليه. فهذا الذي وجد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان غضبا(7/250)
يسيرا، ومثله لا يمنع الحكم، أو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم حتى زال عنه ذلك. انتهى. وقيل: إن عرض ذلك بعد فهم الحكم نفذ لاستبانة الحق قبل الشاغل، وإلا فلا، هذا نقل أبي البركات، وتبعه ابن حمدان، ولفظ أبي محمد في الكافي: وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة، أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها لقضية الزبير، وهذا ظاهر في جواز الحكم وعدم جوازه، لا في نفوذه وعدم نفوذه.
[مشاورة القاضي لأهل العلم والأمانة]
وقال: وإذا نزل به الأمر المشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة.
ش: إذا نزلت بالقاضي قضية واتضح له حكمها حكم، لما تقدم من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن لم يتضح له الحكم وأشكل عليه شاور فيه، لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وكذلك فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أسارى بدر، وفي لقاء الكفار يوم بدر، وفي غير ذلك.(7/251)
3794 - وروي: «ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3795 - وكذلك شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة في ميراث الجدة.
3796 - وكذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر. قال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما(7/252)
ويشاور أهل العلم والأمانة، إذ الجاهل لا قول له فيعتبر، وغير الأمين قوله هدر.
إذا تقرر هذا فهذه المشاورة لمعرفة الحق بالاجتهاد، فإذا إذا اتضح له الحكم حكم، وإلا أخره حتى يتضح له، لا لتقليد غيره فإنه لا يجوز، وإن كان أعلم أو ضاق الوقت.
(تنبيه) : هذه المشاورة على سبيل الاستحباب، قاله في المغني، وهو ظاهر كلام المجد، لأنه أتى بلفظ الابتغاء، ولا ريب أنه لا يقضي على جهل وتردد.
[قضاء القاضي بعلمه]
قال: ولا يحكم الحاكم بعلمه.
ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار لعامة الأصحاب من الروايات.
3797 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه، وظاهره(7/253)
أنه لا يحكم إلا بما يسمع في حال حكمه، وقد روي: وإنما أحكم وهذا صريح أو كالصريح في أنه لا يحكم إلا بما يسمع.
3798 - وأيضا «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث هلال بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما لاعن زوجته: «أبصروه فإن جاءت به - يعني الولد - على نعت كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك» فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه» فلم يحكم بعلمه، لعدم قيام البينة.(7/254)
3799 - وأصرح من هذين ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا، فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: القود يا رسول الله. فقال: «لكم كذا وكذا» فلم يرضوا، فقال: «لكم كذا وكذا» فرضوا، فقال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم، فخطب فقال: «إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أفرضيتم؟» قالوا: لا، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكفوا عنهم فكفوا، ثم دعاهم فزادهم فقال: «أفرضيتم؟» فقالوا: نعم، قال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم. فخطب فقال: «أرضيتم؟» قالوا: نعم» . رواه الخمسة إلا الترمذي، فلم يحكم عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعلمه لما جحدوا، تعليما لأمته، وسدا لباب التهم والظنون.(7/255)
3800 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله عز وجل ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري، حكاه الإمام أحمد.(7/256)
(والرواية الثانية) : يجوز أن يحكم بعلمه، أخذا من قول أحمد فيما نقله أبو طالب في الأمة إذا زنت يقيم مولاها الحد إذا تبين له الزنا، حملت لو رآها، قال أبو الخطاب: فإذا جاز للسيد ذلك برؤيته في الحدود فالحاكم أولى، ومن قوله في رواية حرب: إذا أقر في مجلسه بحد أو حق لزمه ذلك وأخذ به. وفي كلا المأخذين نظر، إذ السيد لا يتهم في ماله اتهام الحاكم، ولا يعم ضرره كضرر الحاكم، والإقرار في المجلس يخالف الإقرار في غيره كما سيأتي.
3801 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، كذا ترجم عليه البخاري فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهم، وكان أمرا مشهورا؛ ولأنه(7/257)
إذا جاز الحكم بشاهدين مع أنهما إنما يحصلان غلبة الظن، فما يجزم به أولى، وقد أجيب عن قضية أبي سفيان بأنها فتيا لا حكم، وإلا فكيف يحكم على الغائب مع إمكان حضوره؟ لا يقال: يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عالما بتعذر حضوره، لأنا نقول: ويجوز خلاف ذلك، فإذا هي واقعة عين.
(والرواية الثالثة) : يجوز ذلك في غير الحدود لما تقدم، لا في الحدود لدرئها بالشبهة، وذلك شبهة.
إذا تقرر هذا فلا فرق في ذلك بين ما سمعه قبل ولايته أو بعدها، ولا بين ما علمه في مجلس حكمه أو قبله، إلا أنه استثني من ذلك الحكم بالبينة في مجلسه بلا نزاع أعلمه، وكذلك الإقرار على منصوصه في رواية حرب المتقدمة، وهو الذي أورده الشيخان وأبو الخطاب مذهبا، لأن مجلس الحكم التهمة منتفية عنه غالبا، وطرد القاضي القاعدة في الإقرار، فقال: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، حذارا من الحكم بالعلم، واستثنى عامة الأصحاب الجرح والتعديل، فإنه يحكم بعلمه فيه، وإلا يتسلسل، فإن الشاهدين يحتاج إلى معرفة عدالتهما، فإذا لم يحكم بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد منهما إلى مزكيين وتسلسل، وحكى ابن(7/258)
حمدان في رعايتيه قولا بالمنع وهو مردود إن صح ما حكاه القرطبي، فإنه حكى اتفاق الكل على الجواز.
(تنبيه) : الخلاف في جواز حكمه بعلمه ولا نزاع أنه لا يحكم بخلاف علمه و «ألحن» أي أفصح وأفطن، وقد جاء مفسرا في رواية أخرى قال: «فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض» أي أكثر بلاغة وإيضاحا لحجته، والله أعلم.
[نقض القاضي حكم غيره]
قال: ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف كتابا أو سنة، أو إجماعا.
ش: لأن الواجب أن لا يعدل عن هذه الثلاثة مع وجودها، بدليل حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم.
3802 - وعن شريح أنه كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر(7/259)
إلا خيرا لك، رواه النسائي، وإذا من خالف حكمه واحدا من الثلاثة فقد عدل عنها، فيرد قوله، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، ويرجح هذا أيضا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية.
3803 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ردوا الجهالات إلى السنة، وقول الخرقي: خالف كتابا أو سنة. مقيد بنصيهما، بخلاف ما إذا كانت المخالفة لظاهريهما، فإنه لا ينقض إذ الظواهر تختلف آراء المجتهدين فيها، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
3804 - ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سوى بين الناس في العطاء، وأعطى العبيد، وخالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففاضل بين الناس،(7/260)
وخالفهما علي فسوى بين الناس، وحرم العبيد. ولم ينقض واحد ما فعله من قبله، وهذا إجماع أو كالإجماع من الصحابة على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
والحكم في حكم نفسه كذلك، فإذا تبين له خطأ نفسه فإن كان لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه، وإلا لم ينقضه.
وعموم كلام الخرقي وغيره يقتضي النقض لمخالفة نص السنة وإن كانت آحادا، ونص عليه الإمام، وظاهر كلامه وكلام غيره أن حكم الحاكم وحكم غيره لا ينقض لمخالفة ما عدا هذه الثلاثة، وهو كذلك، واختار ابن حمدان النقض لمخالفة قياس جلي قطع فيه بنفي الفارق.
وقول الخرقي: لا ينقض من حكم غيره إلى آخره، يشمل ما إذا كان الغير متوليا أو معزولا، يصلح للقضاء أو لا يصلح، وكذلك أطلق أبو بكر وابن عقيل، والشيرازي وابن البنا، ومنهم من صرح بالقبلية، وقال أبو الخطاب في الهداية: إذا كان من قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها وإن وافقت الصواب. وخالفه أبو محمد في المغني والكافي، واختار أنه لا ينقض الصواب منها لعدم الفائدة في ذلك، وإنما ينقض ما(7/261)
خالف الحق منها، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة. ويتلخص فيمن هذه حاله ثلاثة أقوال.
(النقض) مطلقا، (النقض) إن خالف الصواب، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة (حكمه حكم غيره) إن خالف حكمه واحدا من الثلاثة نقض وإلا فلا، وهو ظاهر كلام المجد، ويشهد له إطلاق الأكثرين.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب عليه تتبع قضايا من كان قبله، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه، وظاهر كلامه في المقنع - تبعا لأبي الخطاب في الهداية - الوجوب، وهو الذي أورده ابن حمدان في الكبرى مذهبا، والله أعلم.
[اشتراط عدالة الشهود]
[شهادة مستور الحال]
قال: وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه، فإن عدله اثنان قبل شهادته.
ش: وضع هذه المسألة أن مستور الحال - وهو من عرف إسلامه وجهل حاله - هل تقبل شهادته؟ فيه روايتان مشهورتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي بكر والخرقي فيما قاله القاضي في روايتيه، اعتمادا على قوله فيما بعد: والعدل من لم تظهر منه ريبة - تقبل شهادته في الجملة (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأكثرين، القاضي وأصحابه، وأبي محمد والخرقي، فيما قاله أبو البركات، اعتمادا على لفظه هنا، وهو ظاهر - لا تقبل،(7/262)
ومنشأ الخلاف أن العدالة هل هي شرط لقبول الشهادة، والشرط لا بد من تحقق وجوده، وإذا لا يقبل مستور الحال لعدم تحقق الشرط فيه، أو الفسق مانع فيقبل، إذ الأصل عدم الفسق، ويشهد للأول قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فوصف الشاهدين بعد كونهما من رجالنا - وهم المسلمون - بأن يكونا من الذين نرضاهم، فدل على اشتراط زيادة على الإسلام وهي العدالة، ويؤيد ذلك ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فأمر باستشهاد العدل، ومستور الحال لا تعلم عدالته، فلا يخرج من عهدة الأمر باستشهاده، ويشهد للثاني قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتثبت أو بالتبين عند مجيء الفاسق، ومقتضاه أنه لا يتبين ولا يتثبت عند عدم الفسق، إذ الفسق هو السبب للتثبت، فإذا انتفى الفسق انتفى التثبت، إذ لا بقاء للمسبب عند انتفاء السبب.
3805 - وأيضا ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمدا رسول(7/263)
الله؟» قال: نعم. قال: «يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا» رواه الخمسة إلا أحمد فاكتفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمجرد إسلامه، وأجيب عن الحديث بأن الصحابة عدول، فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم، وعن الآية الكريمة بأنا نقول بموجبها، وأنه إذا انتفى الفسق انتفى التثبت، لكن إنما ينتفي الفسق بالخبرة به أو بالتزكية، فإن قيل: ينتفي بأن الأصل في المسلمين العدالة.
قيل: لا نسلم هذا، إذ العدالة أمر زائد على الإسلام، ولو سلم هذا فمعارض بأن الغالب - لا سيما في زماننا هذا - الخروج عنها، وقد يلتزم أن الفسق مانع، ويقال: المانع لا بد من تحقق ظن عدمه كالصبي والكفر.
إذا تقرر هذا فإذا عرف الحاكم عدالة الشاهد أو فسقه عمل على ذلك، كما أشار إليه الخرقي بقوله: من لا يعرفه. لما تقدم من أن الحاكم يحكم بعلمه في ذلك، وإن جهلهما فعلى الأولى إن كان مسلما قبل شهادته ما لم يظهر له منه ريبة، من غفلة أو غير ذلك، ولم يقدح فيه خصمه، فإن جهل إسلامه فلا بد من المعرفة به، وذلك إما بخبره عن نفسه بأنه مسلم، أو بإتيانه بما يصير به مسلما، وإما ببينة أو اعتراف من المشهود عليه، ولا(7/264)
يكتفى بظاهر الدار. وإن جهل حريته حيث تعتبر فلا بد من معرفتها، إما ببينة، وإما باعتراف المشهود عليه، وهل يرجع إلى قول الشاهد في ذلك؟ فيه وجهان، الذي جزم به أبو محمد لا، إذ لا يملك أن يصير حرا، فلا يملك الإقرار بذلك، بخلاف الإسلام، وإن ارتاب، أو قدح فيه خصمه سأل عنه، كما يسأل عن عدالته على الرواية الثانية بلا ريب، وذلك بأن يكتب الحاكم ما يعرف به الشاهد في الجملة فيكتب اسمه وكنيته وحليته، ونسبه وصنعته، وسوقه ومسجده ومسكنه، ويكتب اسم المشهود له، [حذارا من أن يكون بينه وبين المشهود له ما يمنع قبول شهادته له، ويكتب المشهود عليه] حذارا من أن يكون بينه وبين الشاهد ما يمنع من قبول شهادته عليه، ويكتب قدر الدين، لأنهم قد يرون قبوله في اليسير دون الكثير، في رقاع، ويرفعها إلى أصحاب مسائله الذين يعرفونه بحال من جهل حاله، ثم إذا أخبره منهم اثنان بجرح أو تعديل اعتمد عليه، وهل يراعى في أصحاب مسائله شروط الشهادة بالجرح والتعديل والعدد، ولفظ الشهادة عند الحاكم أو في المسؤولين؟ على وجهين، والله أعلم.
[شهادة الفاسق]
قال: وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى.(7/265)
ش: لتضمن قول الجارح زيادة خفيت على المعدل، من محل محرم، أو شرب خمر ونحو ذلك، والأخذ بالزائد أولى، لأن المعدل قوله متضمن لنفي ما يقدح في العدالة، والجارح مثبت لذلك، ولا ريب أن المثبت مقدم على النافي، والخرقي إنما نص على ما إذا استوى عدد الجارحين والمعدلين، أما إن زاد عدد أحدهما على الآخر، كما إذا عدله اثنان وجرحه واحد وقبلناه، فالتعديل أولى، لأنها بينة تامة والعكس بالعكس بطريق الأولى، ولو عدله ثلاثة وجرحه اثنان وبينا السبب فالجرح أولى لما تقدم، ولو لم يبينا السبب وقبلنا ذلك فالتعديل أولى.
تنبيهات (أحدها) هل يقبل في الجرح والتعديل قول عدل - وهو اختيار أبي بكر - بناء على أنه خبر، أو قول اثنين - وهو ظاهر قول الخرقي، واختيار القاضي وعامة الأصحاب - بناء على أنه شهادة؟ على روايتين وعليهما تنبني تزكية المرأة وتزكية الأعمى لمن لم يخبره قبل عماه بل بعده، وتزكية الوالد للولد ونحوه، والتزكية بدون لفظ الشهادة، وظاهر كلام أبي محمد اشتراط الذكورية ولفظ الشهادة عليها، (الثاني) لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة ومعرفة بالجرح والتعديل، غير(7/266)
متهم بمعصية ولا غيرها.
3806 - ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بشاهدين فقال: لا أعرفكما، ولا يضركما أن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما؛ فأتيا برجل فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتعرفهما؟ فقال: نعم. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صحبتهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدراهم والدنانير الذي يقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما.
وظاهر قول الأصحاب أن الحاكم لا يقبل تعديل المعدل حتى يعلم أو يظن أن له خبرة بالمعدل، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهذا هو أحد احتمالي أبي محمد (والثاني) أن معنى كلام الأصحاب أن(7/267)
المعدل لا يجوز له التعديل إلا إذا كان ذا خبرة، أما الحاكم فله أن يقبل التعديل وإن لم يعرف حقيقة الحال، وله أن يستكشف كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(الثالث) يقبل التعديل المطلق، وصفته أن يقول: هو عدل رضي، أو عدل مقبول الشهادة؛ ولا يشترط أن يقول: علي ولي. ولا يكفي: لا أعلم منه إلا الخير. وهل يكفي: هو عدل. من غير بيان السبب؟ على وجهين، ظاهر كلام أبي محمد الجواز، وظاهر كلام أبي البركات المنع، وهل يقبل الجرح المطلق؟ فيه روايتان، المذهب منهما عدم القبول، وقيل: إن اتحد مذهب الجارح والحاكم، أو عرف أسباب الجرح قبل المطلق. وهو حسن، والمطلق أن يقول: هو فاسق، أو: ليس بعدل. والمبين أن يذكر قادحا في عدالته برؤية أو سماع منه، أو استفاضة عنه، هذا هو المشهور، وعن القاضي في خلافه، فالمبين أن يقول: هو فاسق ونحوه، والمطلق أن يقول: الله أعلم به. ونحوه. انتهى ولا يكفي قوله: بلغني عنه كذا.
(الرابع) التزكية حق للشرع، يطلبها الحاكم وإن سكت عنها الخصم، وقيل بل حق للخصم، فلو أقر بها حكم عليه بدونها، وعلى الأول لا بد منها. والله أعلم.(7/268)
[اتخاذ القاضي كاتبا عدلا]
قال: ويكون كاتبه عدلا.
ش: لا ريب في كون كاتب القاضي يكون عدلا، لأنها موضع أمانة، وقد لزم من اشتراط عدالته كونه مسلما، وهو كذلك.
3807 - لما يروى أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه كاتب نصراني، فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاستحسنه وقال: قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه. قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: ولم؟ قال: إنه نصراني. فانتهره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله. وفي رواية: أن أبا موسى قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن لي كاتبا نصرانيا، قال: مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] .
ويستحب أن يكون مع عدالته فقيها، ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز اتخاذ الكاتب وهو كذلك، بل يستحب، لأن الحاكم يكثر(7/269)
اشتغاله، فتتعذر عليه الكتابة بنفسه، وإن اشتغل بها ترك ما هو أهم منها.
قال: وكذلك قاسمه.
ش: لأنه أمينه، فاشترطت فيه العدالة كبقية أمنائه، ويشترط مع عدالته كونه حاسبا، لأنه عمله الذي هو مرصد له، فهو كالفقه للحاكم.
[حكم الهدية للقاضي]
قال: ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي له قبل ولايته.
ش: لأن حدوث الهدية إذا دليل على أنها لأجل الولاية، توسلا إلى استمالة قلب الحاكم معه على خصمه، فأشبهت الرشوة.
3808 - ولهذا قال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به إلى الكفر.(7/270)
3809 - والسحت قد فسره الحبر وسعيد بن جبير أنه الرشوة.
3810 - وعن كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قرأت في بعض كتب الله: الهدية تفقؤ عين الحاكم. قال ابن عقيل: معناه أن المحبة الحاصلة للمهدي إليه منعته من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي. انتهى.
3811 - وشاهد هذا الحديث المرفوع «حبك الشيء يعمي ويصم» رواه(7/271)
أحمد في مسنده.
3812 - وقد روي عن أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «هدايا العمال غلول» رواه أحمد.(7/272)
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل التحريم، وصرح به غيره، وعن ابن عقيل الكراهة إذا لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة فلا نزاع في التحريم.
ومفهوم كلام الخرقي أنه يقبل هدية من كان يهدي إليه قبل ولايته، وهو كذلك، صرح به غير واحد، لأن ولايته ليست سببا لها.
3813 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عامل الزكاة «هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا» فدل على أن الهدية متى لم يكن سببها الولاية جاز قبولها، قال القاضي: ويستحب له التنزه عنها، وصرح ابن حمدان بالكراهة، وهذا إن لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة، أو مع توقعها فلا يجوز القبول بلا(7/273)
ريب، مع أن أبا بكر في التنبيه منع من الهدية وأطلق.
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب الاقتصار في الاستثناء على هذه الصورة، وفي الجامع الصغير: ينبغي ألا يقبل هدية إلا من صديق كان يلاطفه قبل ولايته، أو ذي رحم محرم منه، بعد أن لا يكون له خصم، وكأنه أناط المنع بالتهمة، ونفاه عند ظن عدمها.
[عدل القاضي بين الخصمين]
قال: ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه.
ش: أي يدخلهما عليه معا، ولا يقدم أحدهما في الدخول، لئلا ينكسر قلب صاحبه، وربما كان ذلك سببا لعدم قيامه بحجته.
3814 - وقد روى عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من يلي القضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه، وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» » ، والله أعلم.(7/274)
قال: والمجلس.
ش: أي يجلسهما مجلسا واحدا لما تقدم، والأولى أن يكونا بين يديه.
3815 - لما روى «عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» . رواه أحمد وأبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، وهو أحد الوجهين. حذارا من انكسار قلبه المؤدي غالبا أو كثيرا لعدم قيامه بحجته، وإنه ظلم له (والوجه الثاني) يقدم المسلم على الكافر في الدخول، ويرفعه في الجلوس، لقوله سبحانه {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] الآية والذي في المغني أنه يجوز تقديم المسلم على الكافر في الجلوس.
3816 - لما روى إبراهيم التيمي قال: «وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي، فقال: درعي سقطت وقت كذا. فقال اليهودي: درعي وفي يدي، بيني وبينك قاضي المسلمين. فارتفعا إلى شريح، فلما رآه شريح قام من مجلسه، فأجلسه في موضعه،(7/275)
وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي: إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك، ولكن سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ذكره أبو نعيم في الحلية(7/276)
وظاهر كلامه أنه يسوي بينهما في الدخول، وفي الرعاية قول بالعكس يقدمه ولا يرفعه، وإذا الأقوال أربعة.
قال: والخطاب.
ش: أي يسوي بينهما في الخطاب، فلا يرفع صوته على أحدهما دون صاحبه من غير سبب، وكذلك لا يسمع من أحدهما أو ينصت له دون الآخر لما تقدم.
3817 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. والله أعلم.(7/277)
[كتاب القاضي إلى القاضي]
قال: وإذا حكم على رجل في عمل غيره وكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه، وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق.
ش: كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في الجملة بالإجماع، ويرجحه مكاتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ملوك الأطراف كقيصر وكسرى وغيرهما.
3818 - وفي الصحيح «أنه كتب إلى قيصر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرا عظيما، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» ومكاتبة سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بلقيس، قال سبحانه حكاية عنها(7/278)
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31] الآية.
إذا تقرر هذا فاعلم أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في حق الله تعالى كالحدود ونحوها، ويقبل في كل حق لآدمي يثبت بشاهدين أو بشاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين، وهل يثبت فيما عدا ذلك؟ فيه ثلاث روايات (القبول مطلقا) ويحتمله إطلاق الخرقي (وعدمه مطلقا) وهو مختار كثير من أصحاب القاضي (والقبول إلا في الدماء) وحكم حد القذف، حكم الحدود، إن قيل المغلب فيه حق الله تعالى وإلا حكم الدماء.
ثم الكتاب على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به، وهو الذي ذكره الخرقي، وذلك بأن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو تقوم البينة على حاضر بحق فيهرب قبل الحكم عليه ويثبته، ويسأل الحاكم الحكم بذلك فيحكم به، ففي جميع ذلك متى سأل المحكوم له الحاكم أن يحكم بذلك وأن يكتب له كتابا بحكمه، فإنه يلزمه إجابته، ويلزم(7/279)
المكتوب له قبول ذلك والعمل به، وإن قربت المسافة، فيؤخذ المحكوم عليه بذلك الحق، إن اعترف أنه المحكوم عليه، وإن أنكر أنه المسمى في الكتاب، ولم يقم المدعي عليه بينة بذلك فالقول قوله مع يمينه.
(الضرب الثاني) أن يكتب بما ثبت عنده ليحكم به حاكم آخر، مثل أن تقوم عنده بينة بحق لشخص على شخص، فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده، فإنه يكتب له بذلك، قال القاضي: يكتب له: شهد عندي فلان وفلان بكذا. ليحكم به المكتوب إليه، ولا يقول: ثبت عندي. لأن قوله: ثبت عندي. حكم بشهادتهما، ولا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بين الحاكمين مسافة القصر على المذهب، وبه قطع أبو محمد، وقيل: يقبل إذا لم يمكن الذاهب إليه بكرة أن يعود إليه عشية، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر إذا كتب إلى قاض معين، والحكم فيما إذا كتب إلى قاض مبهم كمن يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين - كذلك، والله أعلم.
قال: ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا، فقال: اشهدا على أنه كتابي إلى فلان.
ش: أما اشتراط شاهدين لقبول كتاب القاضي إلى القاضي فلا ريب فيه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن ما ليس بمال،(7/280)
ولا يقصد، منه المال، لا يقبل فيه إلا شاهدان، وأما صفة الشهادة فإنه يقرؤه عليهما، أو يقرؤه غيره بحضرتهما، ثم يقول: اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان. وقال القاضي: يكفي أن يقول: هذا كتابي إلى فلان. من غير أن يقول: اشهدا علي. انتهى. ثم إذا وصلا إلى المكتوب إليه قالا. نشهد أن هذا كتاب فلان إليك، كتبه بقلمه وأشهدنا عليه بما فيه؛ ولو كتب كتابا وأدرجه وختمه، وقال: هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه. لم يصح على المذهب المشهور، وهو مقتضى قول الخرقي، لأن شهادته وقعت على ما فيه وأنه مجهول، وبنى أبو محمد ذلك على قول أحمد فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدا علي بما فيها. أنه لا يصح وخرج رواية أخرى بالصحة من قوله فيمن وجدت وصيته مكتوبة عند رأسه، وعرف خطه وكان مشهورا، أنه ينفذ ما فيها، وقد تقدم في الوصايا أن الأولى تقرير هذين النصين على بابهما، كما هو طريقة ابن حمدان، وأبو البركات قال هنا: وعنه ما يدل على الصحة، ولم يبين المأخذ، انتهى.
فعلى هذه الرواية قال أبو محمد في المقنع: إذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله. وكذا قال(7/281)
ابن حمدان وزاد قيل لا. وظاهر هذا أن على هذه الرواية يشترط لقبول الكتاب أن يعرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه، وفيه نظر، وأشكل منه حكاية ابن حمدان قولا بالمنع، فإنه إذا تذهب فائدة الرواية، والذي ينبغي على هذه الرواية أن لا يشترط شيء من ذلك، وهو ظاهر كلام أبي البركات، وأبي محمد في المغني، نعم إذا قيل بهذه الرواية فهل يكتفي بالخط المجرد من غير شهادة؟ فيه وجهان حكاهما أبو البركات، وعلى هذا يحمل كلام ابن حمدان وغيره، انتهى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط ختم كتاب القاضي إلى القاضي، وهو كذلك.
3819 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب الكتاب إلى قيصر لم يختمه، فقيل له: إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم، فاتخذ الخاتم، وهذا يدل على أن الختم ليس بشرط، وأنه إنما فعله لمصلحة، وهي قراءة الكتاب.
(تنبيهان) (أحدهما) هل يشترط في الشاهدين أن يكونا عدلين عند المكتوب إليه، أو يكتفي بذلك عند الكاتب؟ فيه قولان حكاهما ابن حمدان (الثاني) جعل ابن حمدان من صور الروايتين إذا شهدا أن هذا كتاب فلان إليك من عمله، وجهلا ما فيه، والذي ينبغي قبول مثل هذه الشهادة، لانتفاء الجهالة عنها، وقصاراه أنها لم تفد فائدة، إذ ما في الكتاب لا يثبت بذلك، والله أعلم.(7/282)
قال: ولا يقبل الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار عامة الأصحاب، بناء على إجراء ذلك مجرى الشهادة (والثانية) يقبل في ذلك عدل واحد، بناء على إجرائه مجرى الخبر، وهو اختيار أبي بكر.
3820 - وقد استشهد لذلك بما في حديث «زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره فتعلم كتاب اليهود، قال: حتى كتبت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه» ، رواه البخاري وأحمد.
3821 - وقال البخاري: وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس(7/283)
وبين الناس فعلى هذا يشترط للمترجم ما يشترط للراوي من الإسلام والتكليف، والعدالة والضبط، كما هو معروف في موضعه، ولا تشترط الذكورية ولا الحرية، ولا الإتيان بلفظ الشهادة، وعلى الأولى الترجمة شهادة، يشترط فيها ما يشترط في الشهادة على الإقرار بذلك الحق الذي وقعت الترجمة فيه، ففي الحدود والقصاص تشترط الحرية على المشهور، وعدلان ذكران، وفي الزنا هل يكفي مع الحرية والذكورية اثنان، أو لا بد من أربعة؟ فيه وجهان من الروايتين في الإقرار بذلك، وفي غير ذلك وغير المال لا تشترط الحرية، ويكتفى بذكرين حرين، وفي المال يكفي رجل وامرأتان، ولا بد من لفظ الشهادة في جميع ذلك.
(تنبيه) حكم التعريف والرسالة كذلك، والله أعلم.
قال: وإذا عزل فقال: كنت قد حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق. قبل قوله، وأمضي ذلك الحق.(7/284)
ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم القاضي في جامعه، وأبو الخطاب في خلافه، وابن عقيل في تذكرته وغيرهم، لأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فأشبه ما لو أخبر بذلك حال ولايته، ولأنه لو لم يقبل ذلك منه لأفضى إلى ضياع حقوق كثير من الناس، وذلك ضرر وإنه منفي شرعا، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنه لا يقبل قوله، وعلله بأنه في حال ولايته لا يجوز حكمه بعلمه، فبعد عزله أولى، واستثنى أبو البركات من هذا الاحتمال ما كان على وجه الشهادة عن إقرار، فعلى هذا لو كان حكمه مستندا إلى بينة لم يشهد، لأنه شهادة على شهادة، ولم يتحقق وجود شرطها، واستثنى ابن حمدان منه ما إذا شهد مع غيره أن حاكما حكم به، ولم يذكر نفسه، وحكى قول أبي البركات قولا انتهى. وشرط القبول على المذهب أنه لا يتهم، ذكره أبو الخطاب وغيره.
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو قال ذلك في حال ولايته قبل منه بطريق الأولى وهو كذلك، حتى مع التصريح أنه حكم بالنكول أو بعلمه، ونحو ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لو أخبر في حال ولايته بحكم في غير محل ولايته أنه يقبل منه، لأنه إذا قبل قوله بعد العزل فلأن يقبل(7/285)
قوله مع بقائها في غير موضع ولايته أولى، وقال القاضي: لا يقبل إذا كانا جميعا في غير محل ولايتهما، أما إن اجتمعا في عمل أحدهما - كأن اجتمع قاضي دمشق وقاضي مصر في مصر - فإن قاضي مصر لا يعمل بخبر قاضي دمشق لإخباره في غير محل ولايته، وهل يعمل قاضي دمشق بما أخبره به قاضي مصر إذا رجع إلى دمشق؟ فيه وجهان بناء على حكم الحاكم بعلمه، وكأن الفرق ما يحصل من الضرر بترك قبول قوله ثم بخلاف هنا، ومال أبو محمد إلى الأول، ومن هنا قال إن قول القاضي في فروع المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله فيها، والله أعلم.
[القضاء على الغائب]
قال: ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه.
ش: القضاء على الغائب في الجملة هو المذهب المعروف المشهور، حذارا من دخول الضرر على صاحب الحق بضياع حقه، أو تأخره لا إلى أمد، واستدلالا بحديث هند، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى عليه مع غيبته، وفيه نظر، فإن أبا سفيان يجوز أن يكون حاضرا في البلد، ثم إنها لم تقم بينة على ذلك، والصواب في الحديث أنه ورد على سبيل الفتيا لها لا الحكم، والمعتمد عليه هو الأول، وأيضا فإن تعذر الوصول إلى إقرار الخصم يجعل للمدعى عليه سبيلا إلى إقامة البينة لفصل القضاء، كما لو حضر إلى مجلس(7/286)
الحكم وامتنع من الكلام (وعن أحمد رواية أخرى) - واختارها ابن أبي موسى - لا يجوز القضاء على الغائب مطلقا، لما تقدم من «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه: «إذا جلس إليك خصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أبو داود وغيره. وأجيب بأنا نقول بموجبه، فإن هذا فيما إذا كان الخصمان حاضرين، ولقائل أن يقول: الاستدلال بما أشار إليه في التعليل - وهو أن الحاكم إذا سمع من الخصم تبين له القضاء - ومقتضاه أنه إذا لم يسمع منهما لا يتبين له القضاء، وإذا كان أحدهما غائبا لم يسمع منه، ولا ممن يقوم مقامه وهو وكيله فلم يسمع منهما.
والتفريع على الأول، وعليه فلا يحكم على الغائب إلا إذا صح الحق عنده وعليه، وصحته بأن تقوم به بينة، فلو لم يكن به بينة لم يحكم، بل ولا يسمع الدعوى، لعدم فائدتها، ومع قيام البينة هل يحلفه الحاكم على بقاء حقه على الغائب، وقال ابن حمدان في رعايتيه: إنه الأصح احتياطا للغائب لجواز الاستيفاء أو الإبراء ونحو ذلك، أو لا يحلفه - وهو اختيار أبي الخطاب، والشريف والشيرازي وغيرهم، ومن ثم قال أبو محمد في المغني: إنه المشهور، لإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على(7/287)
المدعي، واليمين على من أنكر» وظاهره أنه لا شيء على المدعي غير البينة، كما أنه لا شيء على المنكر غير اليمين؟ على روايتين.
ثم إذا قدم الغائب فهو على حجته، ويعتبر في الغيبة أن تكون إلى مسافة القصر فأزيد، قاله أبو محمد في الكافي، وابن حمدان في رعايتيه، وحكى في الكبرى قولا أن يكون فوق نصف يوم، والخرقي لم يحد ذلك بحد، وكذلك أبو الخطاب والشريف وأبو البركات وغيرهم، ويعتبر أيضا أن يكون في غير محل ولايته، أما لو كان غائبا بمكان في ولايته ولا حاكم فيه، فإن الحاكم يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما، فإن تعذر فإلى ثقة بالصلح بينهما، فإن تعذر قال للمدعي: حقق دعواك. فإن فعل أحضر خصمه، وإن بعدت المسافة على المذهب، وقيل: يحضر من مسافة القصر فأقل، وقيل: إن جاء وعاد في يوم أحضر ولو قبل تحرير الدعوى، وحيث لم يلزم بالحضور فإنه يقضي عليه كمن في غير عمله، وإذا قضى على الغائب فإن كان في عين سلمت إلى المدعي، وفي دين يوفى من ماله إن وجد له مال.
وفي أخذ كفيل بذلك من المدعي وجهان (أشهرهما) - وهو(7/288)
ظاهر كلام أحمد - لا، ثم قال ابن البنا وأبو محمد وابن حمدان: إنما يقضي على الغائب في حقوق الآدميين، لا في حقوق الله كالزنا والسرقة، نعم في السرقة يقضي بالمال فقط، وفي حد القذف وجهان، بناء والله أعلم على أن المغلب فيه هل هو حق لله تعالى، أو حق لآدمي، ولم يقيد الخرقي وأبو الخطاب وأبو البركات وغيرهم القضاء بذلك انتهى.
وحكم المستتر في البلد والميت، والصبي والمجنون حكم الغائب فيما تقدم - من الحكم على كل واحد منهم إذا ثبت الحق عليه، ومن حلف المدعي إن قيل به، ومن كون المستتر إذا ظهر، والصبي والمجنون إذا حكم برشدهما على حججهم، ومن أخذ كفيل بالمدعي، إنه قيل بذلك - حكم الغائب، إلا أن مقتضى كلام أبي الخطاب والشيخين وغيرهم عدم جريان الخلاف فيهم، وأجراه ابن حمدان في رعايتيه في المستتر.
وقول الخرقي: يحكم على الغائب.
مفهومه أنه لا يحكم على الحاضر، وهو يشمل الحاضر في البلد والحاضر في مجلس الحكم، ولا نزاع في الثاني، أما الأول فقيل - وهو مقتضى كلام أبي محمد في كتبه، وأحد احتمالي أبي الخطاب -: لا يسمع البينة ولا الدعوى عليه حتى يحضر، كالحاضر مجلس الحكم، وقيل يسمعان، وهو الاحتمال الآخر لأبي الخطاب، وقيل(7/289)
يسمعان ولا يحكم عليه حتى يحضر؛ وهو اختيار أبو البركات، وقال: إن أبا طالب نقله عن أحمد، وكأنه أشار إلى رواية أبي طالب في رجل وجد غلامه عند رجل، فأقام البينة أنه غلامه، فقال الذي عنده الغلام: أودعني هذا رجل.
فقال أحمد: أهل المدنية يقضون على الغائب، يقولون: إنه لهذا الذي أقام البينة، وهو مذهب حسن، وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الإعذار، وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة، فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه، فينادي الرسول ثلاثا، فإن جاء وإلا قد أعذر إليه، فهذا يقوي قول أهل المدينة، وهو معنى حسن، فلم ينكر أحمد سماع البينة ولا الدعوى، ثم إنه حكى قول أهل المدينة في القضاء على الغائب وأطلق وحسنه، وهو يشمل الغائب في البلد، وحكى قول أهل العراق في القضاء على غائب مختف، وجعله كالشاهد لقول أهل المدينة، فكأنه عنده محل وفاق.
ومن هنا والله أعلم قال أبو البركات: إن الحاضر في البلد إذا امتنع من الحضور ألجئ إليه بالشرطة والتنفيذ إلى منزله مرارا، وإقعاد من يضيق عليه ببابه في دخوله وخروجه، أو ما يراه الحاكم من ذلك، فإن أصر على التغيب سمعت البينة وحكم بها عليه قولا واحدا، وتبعه ابن حمدان على ذلك فيما أظن [وفي المقنع أنه إذا امتنع من الحضور هل تسمع البينة ويحكم بها؟(7/290)
على روايتين] ، مع أنه قطع بجواز الحكم على الغائب وفيه نظر، وكلام القاضي وكثير من أصحابه محتمل لذلك، فإنهم قالوا واللفظ للقاضي في الجامع: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة بالحق، وكذلك إن كان حاضرا ممتنعا من حضور مجلس الحاكم في إحدى الروايتين، والأخرى لا يجوز، وهذا يحتمل أن يعود إليهما، ويحتمل عوده إلى الامتناع فقط، وعلى كل حال فهو مخالف لقول أبي البركات، والله أعلم.
[حكم القسمة وكيفيتها]
قال: وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمته إياه بينهما كان عن إقرارهما، لا عن بينة شهدت لهما بملكهما.
ش: الأصل في جواز القسمة في الجملة الإجماع، وقد شهد له قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على ثمانية عشر سهما، وقسمه الغنائم، وقوله «الشفعة فيما لم يقسم» ثم الحكمة تقتضي ذلك، إذ بالشركاء حاجة إلى ذلك، ليتمكن كل منهم من التصرف، في حقه بما شاء، ويتخلص من سوء المشاركة.(7/291)
إذا ثبت ذلك فإذا أتى الحاكم اثنان أو أكثر فادعيا أنهما شريكان في ربع - وهو العقار من الدور ونحوها - أو نحوه، وهو ما عداه من الأموال وسألاه أن يقسمه بينهما، فإنه يقسمه بينهما وإن لم يثبت عنده ملكهما، اعتمادا على ظاهر أيديهما، ولهذا جاز شراؤه واتهابه منهما ونحو ذلك، وإذا قسمه أثبت في كتاب القسمة أن قسمته بينهما بسؤالهما، لا ببينة شهدت لهما، حذارا من أن يكون لغيرهما، وذكر الخرقي العقار لينبه على مذهب النعمان، فإن عنده أن الشريكين إذا نسبوا العقار إلى إرث لا بد وأن يثبت الموت والورثة، بخلاف غيره، والشافعي يعمم الثبوت في الجميع، والله أعلم.
قال: ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته فامتنع الآخر أجبره الحاكم على ذلك، إذا ثبت عنده ملكهما، وكان مثله ينقسم، وينتفعان به مقسوما.
ش: الأموال على ضربين (أحدهما) ما لا ضرر في قسمته ولا رد عوض، كأرض واسعة، ودكان كبيرة، وقرية وبستان، ومكيل أو موزون من جنس واحد، وإن مسته النار كدبس ونحوه، ومذروع متساوي الأجزاء والقيمة، فلا تنقص قيمته بقطعه ونحو ذلك، فهذا تجب قسمته إذا طلب أحد الشريكين ذلك، لتضمنه جلب مصلحة من تصرف كل واحد منهما في ماله بحسب اختياره، من غراس وبناء وإجارة وغير ذلك وزوال مفسدة، وهي ضرر الشركة، وإن مبنى الشريعة على ذلك.(7/292)
واشترط الخرقي مع ذلك أن يثبت عند الحاكم ملكهما، وأقره أبو محمد على ذلك مريدا ببينة، ومعللا بأن الإجبار على القسمة حكم على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، وفي هذا نظر، فإنهما إذا أقرا بالملك فينبغي أن يلزما بمقتضى إقرارهما، فيجبر الممتنع منهما على القسمة، كما لو قامت البينة بذلك، وقد أهمل هذا الشرط أبو الخطاب وأبو البركات، وابن حمدان في الصغرى، وألحقه بخطه في الكبرى، ويحتمل أن يكون مراد الخرقي بثبوت الملك ما هو أعم من البينة أو الإقرار، ويحترز عما إذا ادعى أحدهما الشركة وأنكر الآخر، وسكت غيره عن ذلك لوضوحه.
(الضرب الثاني) ما في قسمته ضرر أو رد عوض، كدار صغيرة وحمام، أو طاحون كذلك، وأرض لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبئر، أو بناء أو شجر في بعضها ونحو ذلك، وكعبد وسيف، فهذا ونحوه إذا رضي الشريكان بقسمته قسم، لأن الحق لهما لا يعدوهما، وإن امتنع أحدهما لم يجبر.
3822 - أما مع الضرر فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه، وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن لا ضرر ولا(7/293)
إضرار» .
وأما مع رد العوض فلأنه إذًا بيع، والبيع لا إجبار فيه والحال هذه، قال سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لا يقال: وفي عدم القسمة ضرر.
لأنا نقول: يندفع ذلك بالبيع عليهما إذا طلب أحدهما ذلك، كما نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دابة مشتركة بينهما، وعممه غير واحد من الأصحاب في كل ما في قسمته ضرر، ويرشح ذلك أيضا بأن حق الشريك في نصف القيمة، لا قيمة النصف، انتهى.
واختلف في الضرر المانع من القسمة (فعنه) - وهو ظاهر كلامه في رواية الميموني - هو أن تنقص القيمة بالقسمة، إذ مثل ذلك يعد ضررا، وإنه منفي شرعا (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد في العمدة - هو ما يتعذر معه انتفاع أحدهما بقسمه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة، كدار صغيرة إذا قسمت حصل لكل واحد منهما موضع لا ينتفع به، قال أبو محمد: أو ينتفع به لا على وجه الدارية، بل على وجه المخزنية ونحو ذلك لأن كل واحد منهما دخل على الانتفاع بها(7/294)
على وجه الدارية.
ففي العدول إلى دون ذلك ضرر، وإنه منفي شرعا (فعلى الأول) إذا نقصت القيمة بالقسمة فلا إجبار، وإن انتفع بها فيما كان ينتفع به قبل (وعلى الثاني) الاعتبار بالنفع وإن لم تنقص القيمة، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل اعتبارهما، قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها.
(فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر، كرجلين لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان، يستضر صاحب الثلث بالقسمة، دون صاحب الثلثين (فعنه) - وهو ظاهر رواية حنبل المتقدمة، وبه جزم القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما والشيرازي - لا يجبر واحد منهما، إذ هذه القسمة لا تخلو من ضرر (وعنه) - وإليه ميل الشيخين - إن طلبها صاحب الثلث والحال هذه أجبر الآخر عليه، لأنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، ولا ضرر على شريكه، وإن طلبها صاحب الثلثين لم يجبر الآخر، لما فيه من الضرر عليه، وحكي عن القاضي عكس ذلك في الصورتين وفيه بعد، انتهى.
(تنبيه) حيث توقفت القسمة على التراضي فهي بيع بلا ريب، وحيث لم تتوقف عليه بل يجبر الممتنع عليها فهي إفراز، على المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب لأنها تنفرد عن البيع باسم وحكم، فلم تكن بيعا كسائر العقود، يحقق ذلك دخول الإجبار فيها مطلقا، وليس لنا نوع من البيع كذلك،(7/295)
ووقع في تعاليق أبي حفص العكبري عن شيخه ابن بطة، أنه منع قسمة الثمار التي يجري فيها الربا خرصا وأخذ من هذا أنها عنده بيع، كما أخذ من نص أحمد على جواز الخرص في هذه الصورة أنها إفراز، وذلك لأنه يبذل نصيبه من أحد السهمين، بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة المنع.
وينبني على الخلاف فوائد (منها) جواز قسمة الثمار التي يجري فيها الربا بالخرص (ومنها) جواز قسمة المكيل وزنا والموزون كيلا (ومنها) التفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في المبيع (ومنها) إذا حلف لا يبيع فقسم أنه لا يحنث (ومنها) جواز قسمة العقار الموقوف أو بعضه، وعلى قول ابن بطة ينعكس جميع ذلك، ولو كان بعض العقار وقفا، وبعضه طلقا، واحتيج إلى رد عوض، فإنه يتوقف كما تقدم على التراضي، ثم إن كان العوض من صاحب الطلق لم يجز، لأنه يشتري بعض الوقف، وإنه ممتنع، وإن كان من رب الوقف جاز على الأصح، المقطوع به عند أبي محمد، وعلى كلا القولين لا يوجب شفعة، وينفسخ بالعيب، والله أعلم.
قال: وإذا قسم طرحت السهام، فيصير لكل واحد ما وقع(7/296)
سهمه عليه، إلا أن يتراضيا فيكون لكل واحد منهم ما رضي به.
ش: أي وإذا أريد القسم طرحت السهام، ويصير لكل واحد من الشركاء ما وقع سهمه عليه، إذ القرعة دخلت لقطع التنازع، وبيان المستحق، وقد حصلت فوجب أن يترتب حكمها عليها، فإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد سهما بغير قرعة جاز، لأن الحق لهما لا يتجاوزهما، ويكون اللزوم هنا بالتراضي والتفرق كالبيع.
وظاهر كلام الخرقي يشمل كل قاسم، ونوعي القسمة، وكذلك تبعه على هذا الإطلاق أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في المقنع، وزاد أبو الخطاب ومن تبعه قولا أنها لا تلزم فيما فيه رد؛ بخروج القرعة إلا بالرضا لأنها إذا بيع بعد القرعة، وعلى مقتضى هذا التعليل جميع قسمة التراضي لا تلزم إلا بالرضا، وفصل أبو محمد في المغني والكافي فقال في قاسم الحاكم في قسمة الإجبار: تلزم القسمة بخروج القرعة، إذ قرعة قاسم الحاكم كحكمه،(7/297)
وفي قسمة التراضي وجهان (أحدهما) كالأول لما تقدم (والثاني) لا تلزم إلا بالتراضي، لأنها إذا بيع، وجعل حكم قاسمها حكم قاسم الحاكم إن كان بصفته، وإن كان كافرا، أو غير عارف بالقسمة ونحو ذلك لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما، كما لو قسما بأنفسهما، وتبعه على ذلك ابن حمدان، وعلى هذا التفصيل كلام الخرقي ومن تبعه محمول على قاسم الحاكم.
(تنبيه) كيفما أقرع جاز إلا أن الأولى عند الأصحاب أن يكتب اسم كل شريك في رقعة ثم تدرج في بنادق شمع أو طين متساوية، قدرا ووزنا، وتطرح في حجر رجل لم يحضر ذلك، ويقال له: أخرج بندقة على هذا السهم.
فمن خرج اسمه كان له، ثم الثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة، واستوت سهامهم، ولو كتب اسم كل سهم في رقعة ثم قال: أخرج بندقة لفلان، وبندقة لفلان، وبندقة لفلان جاز، ولو كانت سهام الثلاثة مختلفة كنصف وثلث وسدس، جزئ المقسوم ستة أجزاء، وأخرج الأسماء على السهام لا غير، فيكتب باسم رب النصف ثلاث رقاع، ولرب الثلث رقعتين، ولرب السدس رقعة، ثم يخرج بندقة على أول سهم، فإن خرج عليه اسم رب النصف أخذه مع الثاني والثالث، وإن خرج اسم رب الثلث أخذه مع الثاني، ثم يقرع بين الآخرين كذلك، والباقي للثالث.
والله سبحانه أعلم.(7/298)
[كتاب الشهادات]
ش: الشهادات جمع شهادة وهي الإخبار عما شوهد أو علم، ويلزم من ذلك اعتقاد ذلك، ومن ثم كذب الله المنافقين في قولهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] لأن قلوبهم لم تواطئ ألسنتهم، والشهادة يلزم منها ذلك، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا لم يصدق إطلاق نشهد.
انتهى ومن ذلك قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي من حضر منكم الشهر، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] أي محيط، فالأول من الحضور، والثاني من الإحاطة بالشيء، وهو أعم من الأول، واشتقاقها قيل: من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره يجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه، وتجيء الشهادة بمعنى الخبر.
3823 - ومنه «قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: شهد عندي رجال(7/299)
مرضيون، وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب» ، ولا نزاع في مشروعية الشهادة والإشهاد، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] .
3824 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» رواه مسلم وغيره، في عدة أحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: ولا يقبل في الزنا إلا أربعة.(7/300)
ش: هذا إجماع ولله الحمد، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] الآية، وحكم اللواط حكم الزنا، على أنه قد يدخل في اسم الزنا، وكذلك حكم من أتى البهيمة إن قلنا يحد وإن قلنا يعزر فهل يكتفى بشاهدين كبقية التعزيرات، أو لا بد من الأربعة؟ فيه وجهان.
(تنبيه) حكم الشهادة على الإقرار بالزنا حكم الشهادة على المقر به وهو الزنا، لا يثبت إلا بأربعة في رواية، وفي أخرى حكم بقية الإقرارات، يثبت بشاهدين والله سبحانه أعلم.
[شروط الشاهد]
قال: رجال.(7/301)
ش: فلا مدخل للنساء في ذلك، وهو قول العامة، اعتمادا على ظاهر الآية، فإن الله سبحانه خاطب الحكام بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] أي والله أعلم من جنسكم وصفتكم، وهم الرجال المسلمون، وإلا لاكتفى بقوله: أربعة ثم الآية الكريمة تقتضي الاجتزاء بأربعة، ومن أجاز شهادة النساء فأقل ما يجزئ عنده خمسة، ثلاثة رجال وامرأتان مقام رجل، وإنه خلاف ظاهر الآية الكريمة، والله أعلم.
قال: أحرار.
ش: فلا تقبل شهادة العبيد في ذلك، على المشهور من المذهب، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، والله أعلم.
قال: مسلمين.
ش: لما تقدم من الآية الكريمة، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك إجماعا فقال: أجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين، عدولا ظاهرا وباطنا، وسواء كان المشهود عليه ذميا أو مسلما، ومقتضى هذا اشتراط عدالة الباطن في ذلك بلا خلاف، والله أعلم.
[نصاب الشهادة]
قال: ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين.(7/302)
ش: أي عدا ما تقدم وهو الزنا، وقد شمل هذا أمورا (أحدها) الحدود والقصاص، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يقبل في ذلك إلا شهادة رجلين، فلا مدخل للنساء في ذلك وهو قول العامة، لأن شهادة النساء فيها شبهة، لتطرق الخطأ والنسيان إليها، كما شهد له النص في قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وذلك مما يندرئ بالشبهة، فوجب ألا يقبل فيه ذلك، وقد تقدم الكلام في القصاص في كتاب الجراح، وتقدم فيه رواية أخرى أنه لا يقبل فيه إلا أربعة.
(الثاني) من ادعى الفقر ليأخذ من الزكاة لم يقبل منه إلا بثلاثة، نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد.
لحديث قبيصة الذي رواه مسلم وغيره قال فيه: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» الحديث، والمذهب عند القاضي الاجتزاء في ذلك بشاهدين كغيره، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، اعتمادا على {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ونحوه قال القاضي: وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار (الأمر الثالث) معرفة الموضحة وداء الدابة ونحوهما، يقبل فيه طبيب واحد، وبيطار واحد، إذا لم يوجد غيره، نص عليه أحمد، نظرا للحاجة، ونحو هذا ما نقل عنه في رجل يوصي ولا يحضره(7/303)
إلا النساء، قال: أجيز شهادة النساء، وكذلك نقل عنه أنه أجاز شهادة النساء على الجراح، وفي الحمام، وهو حسن.
3825 - ولعل شهادة خزيمة من هذا الباب، وعليه يحمل قول الإمام أحمد: لا يقبل أنه وصي حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل.
أي والله أعلم إذا لم يوجد غيره.(7/304)
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا يقبل في جميع ذلك إلا رجلان، وقد صرح بذلك القاضي في الوصية، فقال: المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين.
(الرابع) ما عدا ما تقدم وما عدا المال وما يتعلق بالمال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، كالنكاح، والرجعة والولاء، والولاية والنسب، والتوكيل والإيصاء إليه في غير مال، فلا يقبل فيه على المذهب إلا رجلان، كما قال الخرقي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] خرج منه المال ونحوه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] لوروده في سياق المال، ففيما عداه يبقى على مقتضى الأمر، ولا يحسن إلحاق ما تقدم بالمال، إذ المال يسامح فيه، ما لا يسامح في النكاح ونحوه، ويكثر وقوعه بخلاف غيره، ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز، فإن كان معهن رجل فهو أهون.
فأخذ من ذلك أبو البركات رواية أن النكاح(7/305)
يثبت بشاهد وامرأتين، وكذلك الرجعة لأنها في معناه، دون ما تقدم، وأخذ القاضي روايتيه من هذا النص نحوه أن كل ما لا يسقط بالشبهة هل يثبت بشاهدين، أو شاهد ويمين الطالب؟ على روايتين، وحكى عنه أبو محمد أن النكاح وحقوقه من الرجعة، والطلاق والخلع لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة، وما عدا ذلك يخرج على روايتين، وعلى هذا يتلخص في المذهب ثلاث طرائق، واتفقوا على أن المذهب أنه لا يقبل في الجميع إلا رجلان.
قال: ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين أو رجل عدل مع يمين الطالب.
ش: وذلك كالقرض والغصب، والديون كلها، وتسمية المهر، ودعوى رق مجهول النسب ونحو ذلك وذلك أما في الرجل والمرأتين فهو ولله الحمد إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية.
3826 - وأما في الشاهد واليمين فلما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بيمين وشاهد» ، رواه أحمد ومسلم، وأبو(7/306)
داود، وزاد: في الحقوق.
ولأحمد في رواية: إنما كان ذلك في الأموال.
3827 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى باليمين مع الشاهد» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.(7/307)
3828 - ولأحمد من حديث عمارة بن حزم، ومن حديث سعد بن عبادة مثله.(7/308)
3829 - أبي داود والترمذي وغيرهما عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نحوه.
3830 - ولابن ماجه عن سرق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز(7/309)
شهادة الرجل ويمين الطالب» .
وهذه الأحاديث تنتهض لرتبة الاستفاضة، وزيادة أبي داود وأحمد في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تخرج ذلك عن أن تكون واقعة عين، وهو ظاهر بقية الأحاديث، وإذا يخصص عموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» لا سيما وقد دخله التخصيص بدعاوى الأمناء المقبولة، وبالقسامة بالنص، وإذا يضعف على رأيهم، على أن الأصيلي قال: إنه لا يصح رفعه، وإنما هو من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لكن الأجود ثبوت رفعه، لرفع الإمامين البخاري ومسلم له، ولا يعارض ما تقدم الآية الكريمة، إذ ليس فيها تصريح بالحصر، ولذلك يثبت المال بنكول المطلوب منه وبيمين الطالب إجماعا ثم لو سلم ذلك فذلك زيادة(7/310)
والزيادة على النص ليست بنسخ، على أنا نقول بموجب الآية الكريمة، إذ موجبها الأمر بمن يستشهد به في المعاملات، لا ما يقضى به عند الدعاوي والخصومات، وهذا واضح لا خفاء به.
3831 - ويؤيد ذلك ويرشحه أن هذا يروى عن الخلفاء الراشدين.
وعن أبي بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، وأنه كتب به إلى عماله.(7/311)
وهو مذهب الفقهاء السبعة، وغيرهم، وكذلك قال مالك، وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة، وقال أحمد: مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد.(7/312)
وحكم ما يقصد به المال من البيع والأجل والخيار فيه، والوصية لمعين أو الوقف عليه ونحو ذلك حكم المال، لأنه في معناه، وقد تقدم الخلاف في الجراح في الجناية الموجبة للمال فقط، كجناية الخطأ، هل تثبت بذلك أم لا تثبت إلا برجلين، وأن على القول بالثبوت ففيما إذا كان القود في بعضها كالهاشمة والمنقلة روايتان.
(تنبيه) اختلف عن أحمد في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه، ودعوى الأسير إسلاما سابقا لمنع رقه، هل يثبت بالشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، لأن ذلك يؤول إلى طلب دعوى مال أو التصرف فيه، أو لا يثبت إلا برجلين، نظرا للحال الراهنة؟ على روايتين.
انتهى.
وقول الخرقي: ويمين الطالب، يدخل فيه وإن كان كافرا أو امرأة، وهو كذلك نص عليه أحمد، ويشهد له حديث سرق، وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يقول فيها: وأن شاهدي صادق في شهادته، وهو المذهب من القولين، وظاهر الأحاديث، وهل تقوم المرأتان واليمين مقام الرجل واليمين(7/313)
لقيامهما مقامه فيما تقدم، أو لا نظرا لظاهر الأحاديث، ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تَقَوَّتْ بالرجل، وقد عدم ذلك هنا؟ على قولين، المذهب منهما - وبه قطع أبو محمد في المغني - الثاني؛ والله أعلم.
قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع، والولادة، والحيض والعدة، وما أشبهها شهادة امرأة عدل.
ش: ما أشبهها كالحمل، وعيوب النساء تحت الثياب ونحو ذلك.
3832 - وذلك لما روي «عن عقبة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما.
قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما» فنهاه عنها رواه البخاري وغيره، وفي رواية أخرى «دعها عنك» .(7/314)
3833 - وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، رواه أحمد وسعيد.
ونص الخرقي على الاكتفاء بامرأة واحدة، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وأبي بكر وغيرهما، لما تقدم، (والرواية الثانية) لا يكفي إلا امرأتان، لأن الرجال في غير ذلك أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا رجلان، فكذلك النسوة.
انتهى، وحكم الرجل في ذلك حكم المرأة، لأنه أكمل منها، وظاهر كلام الخرقي أن ضبط ذلك بما لا يطلع عليه الرجال، وكذا أبو البركات، وخص القاضي ذلك بخمسة أشياء.
الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والعدة، والله أعلم.
[حكم الشهادة]
قال: ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك.
ش: ظاهر هذا أن أداء الشهادة (فرض عين) في الجملة، وهو منصوص أحمد، قاله أبو البركات، وقال السامري: إنه ظاهر كلامه، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282](7/315)
وقوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ولأنها أمانة، فلزمه أداؤها كبقية الأمانات، ودليل القاعدة قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية وقيل: بل أداؤها (فرض كفاية) ، وهذا ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في الكافي والمغني، وحكاه ابن المنجا رواية، مستندا للفظ المقنع، فعلى هذا إذا كان المتحمل جماعة فالأداء متعلق بالجميع، فإذا قام به من يكفي منهم سقط عن الباقين، وإذا امتنع الكل أثموا، كسائر فروض الكفايات، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه، كما لو لم يوجد في القرية إلا مؤذن واحد ونحو ذلك، ولو كان عبدا لم يكن لسيده منعه، من ذلك، كما لا يمنعه من صلاة الفرض فإن دعي بعضهم للفعل مع وجود غيره فهل يتعين عليه ذلك، بحيث يأثم إذا امتنع، نظرا للدعاء، أو لا يأثم، كما لو لم يدع؟ فيه وجهان، حكاهما في المغني، وفي ذلك بحث، فإن أدى شاهد وأبى الآخر، وقال: احلف أنت بدلي.
فهل يأثم؟(7/316)
فيه وجهان، وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر كما سيأتي بيانه، أما على الأول فيتعين على كل من المتحملين القيام بالشهادة، كما يجب على جميع المكلفين بالصلاة القيام بها، وسواء كان المشهود عليه نسيبا أو غيره، وهو الذي عبر عنه الخرقي بالقريب والبعيد، ولكن تشترط القدرة على أدائها، كما صرح به الخرقي، فلو كان عاجزا عن أدائها لحبس أو مرض ونحو ذلك لم يلزمه، إذ جميع التكاليف ملحوظ فيها القدرة، ولا بد مع ذلك أن لا يلحقه ضرر، فإن كان يلحقه بأدائها ضرر في نفسه أو ماله لم يلزمه، لقول الله سبحانه {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . على أن يكون مبنيا للمفعول.
3834 - كما صرح بذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قراءته حيث قرأ (ولا يضارر) بالفتح، ولكن يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل.
3835 - وقد صرح بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقرأ (ولا يضارر)(7/317)
بالكسر، فيخرج من هذا أن النهي إذا للشاهد عما يطلب منه أو عن التحريف والزيادة والنقصان، انتهى، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن القاعدة أن الإنسان لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره، ومن ثم قلنا: إذا عجز الشاهد عن المشي فأجرة المركوب والنفقة على رب الشهادة، كما قلنا في نفقة المحرم في الحج ونحوه، أنه على المرأة، وقلنا: إنما يلزمه الأداء إذا كان فيما دون مسافة القصر، إذ مسافة القصر فما زاد يلحق الضرر بالسعي إليه قال ابن حمدان وقيل: أو ما يرجع فيه إلى منزله ليومه، قلت: وإبدال أو هنا ببل أظهر.
تنبيهان (أحدهما) الأداء يختص بمجلس الحكم.
(الثاني) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لحكم التحمل، وهو فرض كفاية في الجملة، لأن الحاجة العامة تدعو إليه، فهو كالقضاء ونحوه، ثم هل ذلك مطلقا، وهو ظاهر إطلاق أبي محمد وغيره، ولذلك أورده ابن حمدان مذهبا مطلقا، أو يختص بالمال، وكل حق لآدمي، وبه قطع أبو البركات؟ فيه قولان، وقد تقدم التفريع(7/318)
على القول بفرض الكفاية، والله أعلم.
قال: وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا، وإن لم ير المشهود عليه شهد به.
ش: ملخص هذا أن ما عمله الشاهد شهد به، وما لا فلا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] .
قال علماء التفسير: من شهد بالحق وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان، وجوزوا في الاستثناء الانقطاع، على معنى: لكن من شهد بالحق.
والاتصال، لأن من جملة ما يدعون من دون الله الملائكة، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] أي لا تتبع ما لا علم لك به.
3836 - وقد فسره ابن الحنفية بشهادة الزور.(7/319)
3837 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة قال: «ترى الشمس؟» قال: نعم.
قال: «على مثلها فاشهد أو دع» رواه الخلال.
إذا تقرر هذا فمدرك العلم الذي تحصل به الشهادة الرؤية بالبصر، والسماع بالسمع دون ما عداهما من مدارك العلم، وهو اللمس، والذوق، والشم، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فخص سبحانه الثلاثة بالسؤال، لأن العلم بالفؤاد وهو القلب، ومستنده السمع والبصر، انتهى.
فالرؤية تختص بالأفعال، كالقتل والغصب،(7/320)
والسرقة والزنا، وشرب الخمر، والصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحو ذلك، والسماع ضربان سماع من جهة الاستفاضة وسيأتي وسماع من المشهود عليه، كالإقرار والعقود، والطلاق ونحو ذلك، ولا يعتبر في ذلك عندنا رؤية المشهود عليه، بل المعتبر تيقن صوت المشهود عليه، وقد شهد لذلك جواز رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير محارمهن، وقول الخرقي: شهد به.
ظاهره اللزوم وهو يرشح أن مذهبه أن الأداء فرض عين، ثم كلامه يشمل وإن كان المشهود عليه غائبا، وهو كذلك إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه، فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا بحضرته، نص عليه في رواية مهنا، وسأله عن رجل يشهد لرجل بحق له على رجل، وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا، إلا أنه يشهد له فقال: إذا قال: أشهد أن لهذا على هذا، وهما شاهدان جميعا فلا بأس، وإذا كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه.
انتهى.
وظاهر كلام أحمد الاكتفاء بمعرفة الاسم، وقد يقال إذا حصل به التمييز فلا حاجة إلى معرفة النسب والله أعلم.(7/321)
قال: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة.
ش: هذا أحد ضربي السماع، وهو ما يحصل من جهة الاستفاضة، والشهادة بها إجماع في الجملة، إذ يتعذر العلم غالبا بدونها، فلو وقفت الشهادة على الرؤية، أو السماع من المشهود عليه، لامتنعت الشهادة على كثير من الأشياء، وفي ذلك ضياع لكثير من الحقوق، وإنه لمناف لأصل وضع الشهادة، وفيه ضرر عظيم، وإنه منفي شرعا، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بالسماع إذا ثبت ذلك في الجملة فمحل ذلك اختلف العلماء فيه، بعد أن حصل إجماعهم - على ما قال أبو محمد - ولله الحمد على الصورتين اللتين ذكرهما الخرقي، فخص ذلك القاضي في الجامع وأظن وفي الخلاف الكبير، وأتباعه كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا في سبعة أشياء الملك المطلق، والوقف، والنكاح، والعتق، والولاء، والنسب والموت، وكأنهم أدخلوا الولادة في النسب لما تقدم من الإجماع، قال ابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا: وما عدا ذلك فلا بد من سماعه من المشهود عليه، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم زادوا(7/322)
على ذلك مصرف الوقف، والولاية والعزل، ونحوه في الكافي، ومقتضى كلامه في المقنع عدم حصر ذلك، بل ضبطه بما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك، ومثل له بما في المغني، وزاد الخلع تبعا للهداية، ثم قال: وما أشبه ذلك.
وزاد عليه أبو البركات الطلاق، وقال فيه وفي الخلع: نص عليه.
وكلامه محتمل للحصر وعدمه.
إذا تقرر هذا فمن شرط الشهادة بالاستفاضة على ظاهر كلام الخرقي والإمام أن يستفيض ذلك، بحيث يسمعه من عدد يقع له العلم بخبرهم، لما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على مثلها فاشهد أو دع ونحو ذلك، وقال القاضي في المجرد: يكفي أن يسمع من عدلين فصاعدا، ويسكن قلبه إلى خبرهما، لأن الحقوق تثبت باثنين، قال أبو البركات: والأصح أنه متى وثق بمن أخبره، وسكنت نفسه له فليشهد، وإلا فلا، ومقتضى هذا ولو أنه واحد، والله أعلم.
[اشتراط العقل والإسلام والعدالة والبلوغ في الشاهد]
قال: ومن لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا، لم تجز شهادته.
ش: يشترط للشاهد - سواء كان رجلا أو امرأة - شروط (أحدها) العقل فلا تقبل شهادة منه ليس بعاقل إجماعا قاله ابن(7/323)
المنذر، وسواء كان عدم عقله بجنون أو سكر، أو طفولية أو غير ذلك، إذ هؤلاء لا تحصل الثقة بهم، ولا يحصل لهم علم بما يشهدون به، فمعنى الشهادة منتف فيهم (الثاني) الإسلام، وهو - والله أعلم - إجماع في الجملة، لقول الله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والكافر ليس بذي عدل، ولا هو من رجالنا، ولا هو ممن نرضاه، ثم من العلماء من عمم ذلك في كل شيء، ومنهم من استثنى صورة أو صورتين، ومذهبنا استثناء صورة بلا نزاع، وهي الوصية في السفر كما سيأتي، واختلف عن إمامنا في صورة ثانية وهي شهادة بعضهم على بعض، والمشهور عنه رواية الجماعة - قيل رواه عنه نحو عشرين نفسا - عدم القبول فلا استثناء لما تقدم.(7/324)
3838 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة» رواه أهل السنن وهم أخون الخونة، ونقل عنه حنبل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، كما يلي بعضهم على بعض.(7/325)
3839 - ولما يروى «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض» ، رواه ابن ماجه، وقد رد هذا لضعفه، والأول بأن مناط الولاية القرابة والشفقة، وذلك موجود فيهم، على أنا نمنع ذلك على وجه عندنا، وأجاز ذلك البرمكي في صورة خاصة للحاجة، وهي شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب، إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، ولا نزاع عند الأصحاب أن المذهب الأول، وإنما اختلفوا في إثبات الخلاف، فابن حامد والقاضي وأصحابه على إثباته، والخلال خطأ حنبلا في ذلك ولم يثبته رواية، بناء على قاعدته في أن ما انفرد به حنبل عن الرواة لا يحكى رواية، وكذلك خطأه صاحبه عبد العزيز، وقال: إنه غلط لا شك فيه، ومال أبو محمد إلى قولهما، وقال: الظاهر الغلط.
وبالجملة على هذا القول تعتبر عدالته في دينه، مع بقية شروط الشهادة، وهل يعتبر اتحاد الملة؟ فيه وجهان.(7/326)
(تنبيه) الحاكون لهذه الرواية يقولون فيما رأيت: (وعنه) تقبل شهادة بعضهم على بعض.
ومقتضاه أن شهادة بعضهم لبعض لا تقبل بلا نزاع (الشرط الثالث) البلوغ على المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب، متقدميهم ومتأخريهم، لظاهر قوله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال، وقوله سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والصبي لا يرضى لعدم الثقة بقوله، إذ لا وازع له عن الكذب، وأيضا قوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والصبي لا يتعلق به مأثم، ولا ينهى نهي تأثيم، فدل على أنه لا مدخل له في الشهادة، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه لا يقبل قوله على غيره كالمجنون (والرواية الثانية) يقبل ممن هو في حال أهل العدالة، لإمكان الضبط منه، ولهذا صح تحمله فأشبه البالغ، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص، فلم يقبل شهادته فيها احتياطا لذلك، وهل يكتفى بالعقل على هذه الرواية، وهو مقتضى نص أحمد في رواية حنبل، وقول القاضي في روايتيه،(7/327)
وأبي البركات أو لا بد من بلوغ عشر سنين، وهو ظاهر منصوصه، في رواية ابن إبراهيم، وقول أبي محمد في المغني والكافي؟ على قولين (والرواية الثالثة) لا يقبل إلا في الجراح.
3840 - لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، فأشبه شهادة النساء على الولادة، قال الشريف وأبو الخطاب: قال شيخنا: إذا جاءوا قبل أن يتفرقوا.
أي عن الحالة التي تجارحوا عليها، فإن جاءوا بعد أن تفرقوا لم تقبل شهادتهم، لاحتمال أن يلقنوا، وظاهر كلام الشيخين أن هذا القيد من تمام الرواية، وقال القاضي في الجامع: أو يشهد على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وزاد ابن عقيل في التذكرة فيما إذا(7/328)
وجد الجراح في الصحراء (الشرط الرابع) العدالة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتبين أو التثبت عند مجيء الفاسق.
3841 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» رواه أحمد وأبو داود.(7/329)
وكان أبو عبيد لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس، بل جميع ما فرض الله تعالى على العباد القيام به، وهو حسن، ويؤيده قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] الآية ولأن الثقة لا تحصل بقوله، لارتكابه محظور الدين، والكذب من جملته.
3842 - وما أحسن ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يؤسر رجل بغير العدول.
ويتفرع على هذا عدم قبول شهادة(7/330)
الفاسق، ثم هو على قسمين (فاسق من جهة الأفعال) وهو من ارتكب كبيرة كالزنا، أو شرب الخمر، أو قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق، أو الغيبة، أو النميمة، أو ترك الصلاة ونحو ذلك، أو أدمن على صغيرة، كنظرة محرمة، وسب بغير الزنا ونحو ذلك.
(وفاسق من جهة الاعتقاد) وهو الذي يعتقد البدعة، كمن يذهب مذهب الرافضة الذين يسبون الصحابة، ويزعمون في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه الأحق بالخلافة من أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونحو ذلك، أو مذهب الجهمية القائلين بنفي غالب الصفات، ومن جملة ذلك الاستواء اللائق بذاته سبحانه وتعالى، أو مذهب المشبهة(7/331)
المشبهين الله تعالى بخلقه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وخرج أبو الخطاب رواية بقبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد، إذ لم يتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه، كالخطابية الذين يشهد بعضهم لبعض بتصديقه، من رواية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، إذ لهم وازع عن الكذب، قال أبو محمد: وروي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية، فكذلك الشهادة قلت: وهذا لعله لتخريج أبي الخطاب، ومن الفساق من فعل شيئا من الفروع المختلف فيها معتقدا للتحريم، كحنبلي أو شافعي نكح امرأة بغير ولي، أو شرب من النبيذ ما لم يسكره، ونحو ذلك على المذهب المنصوص، ولأبي الخطاب احتمال بقبول شهادته، لوقوع الخلاف في ذلك، أما من فعل من الفروع ما يعتقد إباحته،(7/332)
كحنفي شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو تزوج بلا ولي، وشافعي أخر الحج الواجب مع إمكانه، أو نكح نكاح تحليل ونحو ذلك، فهل يفسق وترد شهادته، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله في الحج، واختيار أبي بكر والشيرازي، أو لا يفسق، ولا ترد شهادته، وهو منصوصه في رواية صالح في شارب النبيذ، واختيار القاضي والشيخين؟ على قولين، ولعل مبناهما على أن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد.
تنبيهات (أحدها) الكبيرة على نص أحمد ما فيها حد في الدنيا، كشرب الخمر، والزنا والسرقة، أو وعيد في الأخرى كاليمين الفاجرة، وأكل الربا، والغيبة، على الأشهر ونحو ذلك.
(الثاني) بقي على الخرقي من شروط من تقبل شهادته شرطان (أحدهما) الحفظ، فلا تقبل شهادة مغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان وسيأتي (الثاني) النطق، فلا تقبل شهادة(7/333)
الأخرس، على المنصوص المجزوم به عند الأكثرين، وإن فهمت إشارته، لأن الشهادة يعتبر فيها التحقيق والتيقن، والإشارة فيها نوع احتمال، وقيل: - وأومأ إليه أحمد -: إنها تقبل من المفهوم إشارته، كما يصح لعانه إذا قلنا إنه شهادة ونحو ذلك، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وتوقف الإمام فيما إذا أداها بخطه، وقال أبو بكر: لا تقبل، وهو (أحد احتمالي) القاضي، مفرقا بينهما وبين الطلاق ونحوه، بأن الطلاق له كناية فضعف، فلهذا وقع فيه بالكناية، والشهادة ليس لها إلا صريح، فقويت فلم تدخلها الكناية، (والاحتمال الثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تقبل، إذ الكناية عندنا بمنزلة الصريح على أصح الروايتين وأشهرهما، ولذلك صح نكاح القادر على النطق بها على المذهب (الثالث) قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي قبول شهادة البدوي على من هو من أهل القرية كالعكس، وهذا اختيار أبي الخطاب في الهداية، وإليه ميل أبي محمد، لدخوله في العمومات، والذي قطع به القاضي في الجامع، وأظن وفي التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم عدم القبول.
3843 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» رواه أبو داود وابن(7/334)
ماجه، وعلل ذلك أبو عبيد بما فيه من الجفاء في حقوق الله تعالى، والله أعلم.
[تعريف العدالة]
قال: والعدل من لم تظهر منه ريبة.
ش: من هنا أخذ القاضي وغيره أن مذهب الخرقي قبول مستور الحال، لعدم ظهور الريبة منه، وليس بالبين، لما تقدم له من أنه إذا شهد عنده من لم يعرف حاله سأل عنه، فدل على أن كلامه هنا فيمن عرف حاله.
إذا تقرر هذا فالعدل هو الذي تعتدل أحواله وأقواله، وأصله في اللغة الاستقامة، والاعتدال ضد الاعوجاج، والريبة التهمة، فمتى ظهرت منه تهمة لم يعتدل، لكن قد يقال: إن ظاهر هذا أن مجرد التهمة ولو بصغيرة تخرجه عن العدالة، والمشهور خلاف هذا، وأن العدالة يعتبر لها شيئان (أحدهما) الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض - كالصلاة، والزكاة ونحو ذلك،(7/335)
وقد نص أحمد على رد شهادة من لم يؤد الزكاة - واجتناب المحارم، وقد ضبط ذلك بأنه لا يرتكب كبيرة - وقد تقدم تفسيرها، لأن الله سبحانه نهى أن تقبل شهادة القاذف، فيقاس على ذلك كل من ارتكب كبيرة، وقد نص أحمد على رد شهادة آكل الربا، والعاق وقاطع الرحم، ومن أخرج أسطوانة أو كنيفا في طريق المسلمين، وكذلك من ورث ذلك حتى يرد ما أخذ من الطريق - ولا يدمن على صغيرة، كإدمان نظرة محرمة ونحو ذلك، وقد اختلف عن أحمد في رد الشهادة بالكذبة الواحدة، ولعل ذلك للتردد في أنها هل هي صغيرة أو كبيرة.
3844 - واستدل أحمد للمنع بأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد شهادة رجل في كذبة» وجعل ابن حمدان الروايتين في الكذب، وأورد ذلك مذهبا، وفيه نظر، ولا يمنع مجرد وجود الصغيرة، لقول الله سبحانه {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] قيل:(7/336)
المراد الصغائر (الشيء الثاني) المروءة، وهي اجتناب الأمور الدنيئة، التي تزري به كالأكل في السوق، كأن ينصب مائدة ويأكل عليها، ولا يضر أكل الشيء اليسير كالكسرة، ونحوها أو كأن يكشف ما جرت العادة بتغطيته من يديه، أو يمد رجليه في مجمع الناس، أو يتمسخر بما يضحك الناس به، أو يخاطب امرأته أو سريته بحضرة الناس بالخطاب الفاحش، أو يحدث الناس بمباضعته لهما، ونحو ذلك من الأفعال الدنيئة التي يجتنبها ذوو المروءات، وإنما اعتبر ذلك في الشهادة وإن لم يكن حراما، لأن مرتكبه لا تحصل الثقة بقوله، لأن من فعل ذلك لا يمتنع غالبا من الكذب ونحوه، ومن ثم قلنا: من داوم على ترك السنن الراتبة ردت شهادته لا لارتكابه محرما، بل لأن من هذه حاله لا يؤمن أن يترك شيئا من الفرائض.
3845 - وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أي من لم يستح(7/337)
صنع ما شاء، واختلف في الصنائع الدنيئة هل مرتكبها مخل بالمروءة كالزبال، والحجام، والحائك، والحارس ونحوهم، على وجهين المشهور منهما لا، لكن لا يقبل مستور الحال منهم وإن قبل من غيرهم، وهذا المكان يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا المختصر، والله أعلم.
[شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر]
قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم.
ش: الأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] الآية وهذا ظاهر في ذلك.
3846 - ثم قد زاده إيضاحا بحيث صيره نصا ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة، مخوصا بذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم(7/338)
الداري، وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما.
وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] » رواه البخاري وأبو داود فقد وافق قضاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية الكريمة، ثم إن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا بذلك، فدل على بقاء الحكم بعد وفاته.
3847 - «فعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين، يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى، فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر(7/339)
لم يكن بعد أن كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا، ولا بد لا ولا كتما، ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، وأمضى شهادتهما» .
رواه أبو داود.
3848 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى بذلك في زمان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ، وقد تبين بمجموع هذا (رد قول من زعم) أن المراد {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي من غير عشيرتكم، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة الحضور، كما في قوله {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويكون المعنى فليحضر اثنان، أي يوصي إليهما في هذه الحالة، تأكيدا أو نحو ذلك، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة اليمين، كما في آية(7/340)
اللعان أيضا، وأبعد من هذه الأقوال (من زعم) نسخ الآية [الكريمة، إذ لا دليل على ذلك، مع أن السلف عملت عليه، ومن ثم أخذ أكثر السلف بظاهر الآية] قال ابن المنذر: به قال أكابر الماضين.
والظاهر أن الأئمة لو بلغتهم الأحاديث لأكدت عندهم ظاهرا الآية، ولم يعدلوا عنها، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى، من أن يعرفونه؟ إذا تقرر هذا (فشرط الخرقي) لشهادة الكفار والحال ما تقدم أن يكونوا من أهل الكتاب، وهو المشهور من الروايتين، لأن الأحاديث التي وردت في ذلك إنما وردت في أهل الكتاب، ولا يحسن إلحاق غيرهم بهم (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، تمسكا بإطلاق الآية الكريمة، ونظرا لحال العذر، وقيل (يشترط) مع كونهم من أهل الكتاب أن يكون لهم ذمة وليس بشيء، (ويشترط) أيضا أن لا يوجد غيرهم، وهو كذلك كما في الأحاديث، وكما أومأت إليه الآية الكريمة (ويشترط) أيضا أن يحضر الموصي الموت، كما في الآية والأحاديث، وعموم كلامه يشمل الوصية من المسلم والكافر وهو كذلك.(7/341)
إذا تقرر هذا فيحلف الحاكم الشاهدين من الكفار، إذا شهدا في الوصية كما تقدم، بعد العصر: ما خانا ولا كذبا ولا حرفا، وإنها لوصية الرجل.
وهل ذلك على سبيل الوجوب - وهو الأشهر - أو الاستحباب؟ على وجهين، ثم إن اطلع على أنهما استوجبا إثما لخيانتهما وأيمانهما الكاذبة، قام رجلان من أولياء الموصي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، ويقضي لهم اقتداء بالآية الكريمة والله أعلم.
قال: ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك.
ش: قد تقدم ذلك عن قرب، والخلاف في شهادة بعضهم على بعض، فلا حاجة إلى إعادته.
[موانع قبول الشهادة]
قال: ولا تقبل شهادة خصم.
ش: لما فرغ الخرقي من شروط الشهادات، شرع يتكلم في موانعها وقوله: خصم.
(يحتمل) : أن يريد به العدو، وهو الظاهر، فلا تقبل شهادة القاذف على من قذفه، أو من قطع عليه الطريق على القاطع، ونحو ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» والقانع الذي ينفق عليه أهل(7/342)
البيت، رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث تهمة شديدة، فمنعت الشهادة كالقرابة القريبة، ولا ترد قبول شهادة الكفار في الوصية، لأن الشارع استثنى ذلك للحاجة الداعية إليه، وأبو محمد أجاب بأن العداوة ثم دينية، والدين يمنع شهادة الزور، ومقتضى تعليله قبول شهادة الكفار مطلقا، ويرد عليه أن البدعي لا تقبل شهادته على السني، بخلاف العكس، وإن كانت العداوة دينية تمنع شهادة الزور.
ويحتمل أن يريد كل خصم فيدخل فيه من خاصم في حق، كالوكيل أو الوصي، لا تقبل شهادته فيما هو وكيل أو وصي فيه، وكالشريك أو المضارب، لا تقبل شهادته فيما هو شريك أو مضارب فيه، وذلك لأنه يشهد لنفسه فأشبه المالك.
واعلم أن إطلاق الخرقي غير مراد، إذ شهادة العدو تقبل لعدوه، لانتفاء التهمة، إنما الممتنع شهادته عليه، وكذلك شهادة الوكيل أو الوصي تقبل في غير ما هو وصي أو وكيل فيه، وكذلك الشريك والمضارب تقبل شهادتهم في غير مال الشركة والمضاربة.(7/343)
تنبيهان (أحدهما) شرط العداوة أن تكون ظاهرة، وأن تكون لغير الله، كذا قيده ابن حمدان (الثاني) لو كان القذف في حال الشهادة، كمن شهد على رجل بحق، وقذفه المشهود عليه، لم ترد شهادته بذلك، لئلا يتخذ ذلك وسيلة في إبطال الشهادات والحقوق، والله أعلم.
قال: ولا جار إلى نفسه نفعا.
ش: أي نفعا بشهادته، كشهادة الغرماء للمفلس المحجور عليه، أو للميت بمال، لأن حقوقهم تتعلق بذلك لو ثبت، وخرج قبل الحجر لأن الحق متعلق بالذمة، لا يقال: تتوجه المطالبة إذا لأنا نقول: المطالبة لليسار، مع أن ابن حمدان اختار في الكبرى الرد والحال هذه، لأن توجه المطالبة تهمة تصلح لرد الشهادة. انتهى.
ومن ذلك شهادة أحد الشريكين بعفو الآخر عن شفعته، وشهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة، أو لمكاتبه، والأجير لمستأجره فيما استأجر فيه نص عليه، والوارث لمورثه بجرح قبل الاندمال، ونحو ذلك، لما في ذلك كله من التهمة المانعة من قبول الشهادة.
3849 - وقد روي عن الزهري قال: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، والظنين المتهم.(7/344)
3850 - «وعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا شهادة لخصم ولا ظنين» .
والاعتبار بالوارث حال الموت، كما في الوصية، وفي شهادة الوارث لمورثه في مرضه بدين وجهان، والقبول قطع به أبو محمد، وفرق بينه وبين ما تقدم، لأن منع الشهادة للجرح كان لاحتمال إفضائه إلى الموت، فتجب الدية للوارث الشاهد ابتداء، فيكون شاهدا لنفسه، وهنا الحق إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل، ويجوز أن لا ينتقل، قلت: وعلى هذا الفرق ينبغي أن يخرج في الشهادة بالجرح خلاف، بناء على أن الشهادة هل تجب للمجروح ابتداء أو للورثة، انتهى.
ثم على القول بالقبول متى حكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده، والله أعلم.(7/345)
قال: ولا دافع عنها.
ش: أي دافع عن نفسه ضررا، كأن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود، أو العاقلة بجرح شهود قتل غير العمد، لأنهم يدفعون بذلك الدية عن أنفسهم، وقيل: إن كان الشاهد منهم فقيرا أو بعيدا قبلت شهادته، لانتفاء التهمة في الحال الراهنة، وكذلك شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق، أو الإبراء منه ونحو ذلك، لما في ذلك من التهمة المخلة بالثقة من الشاهد، والله أعلم.
قال: ولا تجوز شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة.
ش: قد تقدم أن هذا أحد شروط الشهادة، لأن من كان كذلك لا تحصل الثقة بقوله، ولهذا لم تقبل روايته، قال ابن حمدان: إلا في أمر جلي مع بحث الحاكم عنه.
انتهى.
وتقييده بكثرة الغلط يحترز عن قليله، إذ أحد لا يسلم من ذلك، وإنما تتفاوت مراتب الناس فيه، ولا شك أن كثرة غلطه تخل بغلبة ظن صدقه ومقتضى قول الخرقي وغيره أنه لو تساوى حاله أو تقارب قبل قوله، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل خلاف هذا، لأنه قال: ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر، أو غفلة نادرة، والله أعلم.(7/346)
قال: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت.
ش: لعموم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وكما في روايته وفي شهادته بالاستفاضة، مع أنه لا بد أن يسمعها من عدلين، ولا بد من معرفتهما، ليعرف عدالتهما، ودعوى عدم تيقن الصوت ممنوع، إذ قد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى، وكثرت صحبته له، فيعرف صوته يقينا.
3851 - ولهذا قال قتادة: للسمع قيافة كقيافة البصر.
وقد أشعر كلام الخرقي أنه لا تجوز شهادة الأعمى على الأفعال، وهو كذلك، لعدم آلة ذلك منه، نعم لو تحمل الشهادة على ذلك قبل العمى جاز أن يشهد به بعده، إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه، وكذلك إن لم يعرفه بذلك، بل تيقن صوته، قاله في المغني فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فهل تقبل لقيام الصفة مقام المشاهدة، وهو قول القاضي، أو لا تقبل لعدم ضبط ذلك غالبا؟ فيه وجهان، ولعل لهما التفاتا إلى القولين في السلم(7/347)
في الحيوان وقد تقدم، والله أعلم.
قال: ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل.
ش: وسواء في ذلك ولد البنين، وولد البنات، لما في ذلك من التهمة المانعة كما تقدم ولأن بينهما بعضية، فكأنه شهد لنفسه.
3852 - قال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها» ولأنه إذا شهد له في المال ونحوه كأنه شهد لنفسه، لأن ماله كماله، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنت ومالك لأبيك» (وفي المذهب) رواية أخرى بالقبول، قال الجمهور: فيما لا يجر به نفعا غالبا، نحو أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح، أو قذف، قال القاضي وأصحابه، وأبو محمد في المغني: أو مال، وهو مستغن عنه، لانتفاء التهمة غالبا، وأطلق القبول في الكافي، فإن ثبت الإطلاق فمستنده العمومات، ولا ريب أن المذهب على كل حال الأول.(7/348)
قال: ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا.
ش: الخلاف في شهادة الولد لهما كالخلاف في شهادتهما له، والمذهب هنا كالمذهب ثم، إلا أن التهمة في شهادة الولد للوالد أخف من العكس، فلهذا (عن أحمد رواية ثالثة) تقبل شهادة الولد لهما، ولا تقبل شهادتهما له، وعللها بأن مال الابن لأبيه، بخلاف مال الأب، فإنه لا يضاف إلى ابنه، وقول الخرقي: ولا تجوز شهادة الوالدين إلى آخره، مقتضاه أن شهادة أحدهما على صاحبه تقبل، وهو المذهب بلا ريب، حتى إن أبا البركات جزم بذلك، إذ شهادته له إنما ردت للتهمة، ولا تهمة في شهادته عليه، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فأمر سبحانه بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما كان في الشهادة عليهم فائدة، وحكى القاضي في المجرد رواية أخرى - وقال في الروايتين: نقلها مهنا - لا تقبل كما في الشهادة له، جعلا له كالفاسق.
تنبيه: الولد هنا والوالد المراد بهما من النسب، لا من الرضاع والزنا، والله أعلم.
قال: ولا السيد لعبده.
ش: لأن العبد له، فشهادته له شهادة لنفسه في الحقيقة.(7/349)
قال: ولا العبد لسيده.
ش: لأنه متهم، وقد دخل في كلامه المكاتب لا تجوز شهادته لسيده، لأنه عبد له.
قال: ولا الزوج لامرأته، ولا المرأة لزوجها.
ش: هذا هو المذهب المشهور، المجزوم به عند الأكثرين، لتبسط كل منهما في مال الآخر عادة، فأشبه الولد مع الوالد وبالعكس، ولهذا أضيف مال أحدهما إلى الآخر، قال سبحانه وتعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وقال {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] فأضاف البيوت إليهن تارة، وإلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرى، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه، تمسكا بالعمومات، وقد خرج من كلام الخرقي شهادة أحدهما على صاحبه، فتقبل بلا خلاف، وهو أمثل الطريقتين، والطريقة الثانية في ذلك الخلاف أيضا، والله أعلم.
قال: وشهادة الأخ لأخيه جائزة.
ش: للعمومات، ولا يصح إلحاقه بالوالد والولد،(7/350)
لضعف التهمة في حقه أو انتفائها، وقد علم من كلام الخرقي قبول شهادة كل قريب ما عدا الوالدين والمولودين بطريق الأولى، وكذلك الأجنبي، وإن كان صديقا ملاطفا، على الأشهر المقطوع به عند الشيخين وغيرهما.
قال: وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود.
ش: مذهبنا قبول شهادة العبد في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص، لأنه منا ومن رجالنا، وممن نرضاه، ومن ذوي العدل، فدخل في الآيات الكريمات، وكما في روايته وفتياه، وأخباره الدينية.
3853 - وفي الصحيح «عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «كيف وقد زعمت» وفي رواية: فنهاه عنها، وفي رواية «دعها عنك» ودعوى أنه لا مروءة له ممنوع، بل هو كالحر، ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له، وقد كان كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها وصالحيها موالي، ولم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تحدث علما ولا(7/351)
دينا، واختلف في الحدود والقصاص (فعنه) تقبل فيهما أيضا، وهو اختيار القاضي يعقوب، وإليه ميل ابن عقيل في التذكرة، فإنه قال: لي عن أحمد منع في الحدود، وذلك لما تقدم من العمومات (وعنه) لا تقبل، لما في شهادته من الخلاف، إذ كثير من الفقهاء أو أكثرهم لا يقبلها، وذلك شبهة، والحدود والقصاص تندرئ بالشبهة، وقيل: يقبل في القصاص، لأنه حق لآدمي، مبني على الشح والضيق، لا الحدود، لأنها حق لله تعالى، وحقوق الله سبحانه مبنية على المساهلة والمسامحة، وهو ظاهر كلام الخرقي.
قال: وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء.
ش: أي الأحرار، لدخولها في {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية، مع حديث عقبة المتقدم.
(تنبيه) حكم المكاتب والمدبر، وأم الولد حكم القن في ذلك، وكذلك المعتق بعضه، قاله أبو محمد في المغني، ولا معنى لقول ابن حمدان في الكبرى: قلت: وكذا المعتق بعضه.(7/352)
قال: وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره.
ش: لعموم الآيات، ولأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا، فيقبل في الزنا كغيره.
قال: وإذا تاب القاذف قبلت شهادته.
3854 - ش: لعموم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» .
3855 - «التوبة تجب ما قبلها، والإسلام يجب ما قبله» أي يقطع ما(7/353)
قبله، وإذا يصير كمن لم يقذف، ولأنه تائب من ذنبه، فقبلت شهادته كالتائب من الزنا، أو قتل النفس، بل أولى، لأنها أعظم من القذف، وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فمعناه إن لم يتوبوا، بدليل آخر الآية، بناء عندنا على أن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها، ما لم يمنع منه مانع، وبيان ذلك له موضع آخر.
3856 - ويدل عليه هنا ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول لأبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين شهد على المغيرة به شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لست أقبل شهادتك.
ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا.(7/354)
3857 - قال: سعيد بن المسيب: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، ونكل زياد، فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم.
فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما، وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته، وكان قد عاد مثل النصل من العبادة.
3858 - وما رواه ابن ماجه بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام» فقال ابن عبد البر: لم يرفعه من روايته حجة.
ثم يدل على ضعفه قبول شهادة كل محدود تائب في غير القذف، انتهى.
واللام في القاذف للعهد، أي القاذف بالزنا، ويحتمل أنها للجنس، فيدخل فيه القذف(7/355)
بالشتم ونحوه، وهو أمشى على ما قال أبو محمد، فإنه أي القاذف بالشتم ترد شهادته وروايته، وهذا يدل على أن القذف بالشتم ونحوه عنده كبيرة، وإلا كان اعتبر تكرر ذلك، وإطلاق الخرقي يقتضي: وإن لم يجلد، وهو كذلك عندنا، لأن الله سبحانه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء، الجلد، وانتفاء الشهادة، والفسق، فيتبين بمجرد الرمي.
(تنبيه) إذا جاء القاذف مجيء الشاهد كما في قصة الذين شهدوا على المغيرة، فإن شهادته ترد دون روايته، بدليل ما تقدم عن عمر في حق أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، مع أنه مقبول الرواية بلا تردد، بخلاف من قصد الشتم والقذف، فإن شهادته وخبره وفتياه لا يقبلن حتى يتوب.
قال: وتوبته بأن يكذب نفسه.
ش: هذا هو المشهور من المذهب، جزم به القاضي في الجامع الصغير، وأظن وفي التعليق الكبير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة وغيرهم.
3859 - لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5](7/356)
قال: «توبته إكذاب نفسه» » .
وهذا نص إن ثبت، ولأن عرض المقذوف تلوث بالقذف، والإكذاب يزيل ذلك التلوث، فيصير كأن لم يوجد قذف وهو المقصود، وفرق القاضي أظنه في المجرد، وزعم أنه المذهب، فقال إن كان قذفه بالسب والشتم فكما تقدم، وإن كان بالشهادة فتوبته أن يقول: القذف حرام باطل، ولن أعود إلى ما قلت.
حذارا من أن يكون صادقا، فلا يؤمر بالكذب، ونحو هذا قال السامري، ولفظه: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه.
قال: ولا يقول: ولا أعود إلى ما كان مني.
لما فيه من منع الشهادة، واختار أبو محمد في المغني أنه إن لم يعلم صدق نفسه فكالأول، وإن علم صدقه فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله، وتحريمه، وأنه لا يعود إلى مثله، وعلله بأنه قد يكون كاذبا في الشهادة، صادقا في السب، ونحو هذا جزم به في(7/357)
الكافي، وفيه نظر، فإن الكذب مخالفة الواقع، والصادق لم يخالف الواقع، فكيف يقر ببطلان ما قاله، ثم كيف يكون كاذبا في الشهادة، مع أنه صادق فيما لفظ به، نعم الشرع منعه من الشهادة حيث لم يكمل النصاب ونحو ذلك، فإن قيل: إن الله سبحانه جعله عنده - أي في حكمه - كاذبا مطلقا، قلنا: فإذا يتوجه إطلاق الخرقي والأكثرين، ويكون تكذيبه نفسه راجعا لما في حكم الله سبحانه، وحكى في المقنع قولا ظاهره أنه رابع أنه إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول: قد ندمت على ما قلت، ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه.
وهو حسن.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر مع توبة القاذف إصلاح العمل، وجزم به كثير من الأصحاب، وظاهر كلام أبي محمد في المقنع - وتبعه ابن حمدان - أن فيه الخلاف الآتي، ومقتضى ما في المغني نفي الخلاف من القاذف بلفظ الشهادة، أما غير القاذف فهل يكتفى بمجرد توبته، أو لا بد من إصلاح عمله سنة؟ فيه روايتان مشهورتان، المشهور منهما الأول، ولأبي محمد في الكافي احتمال أنه يعتبر مضي مدة نعلم(7/358)
توبته فيها، من غير توقيت، والقاضي يجعل محل الخلاف في غير المبتدع، أما المبتدع فيعتبر له مضي سنة، وهو مقتضى كلام السامري.
(تنبيه) : هل من إصلاحه مجانبة من كان يواليه في ذلك أم لا؟ على روايتين. والله أعلم.
قال: ومن شهد وهو عدل بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته.
ش: هذا هو المذهب المعروف، المجزوم به عند الأكثرين، لأنه يتهم بأدائها، لما لحقه بردها من الغضاضة والمعيرة، فيحتمل أنه أظهر العدالة ليزول عنه ما حصل له من ذلك، ولا يرد ما إذا ردت لكفره أو صغره، أو جنونه أو رقه، أو حرابته ثم أعيدت بعد زوال ذلك، فإنها تقبل على الأصح، لانتفاء التهمة في ذلك غالبا أو قطعا، وأيضا الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد، وكذلك العدالة، وإذا نقول شهادة مردودة بالاجتهاد، فلا تقبل بالاجتهاد، حذارا من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، ومن ثم قيل - وصححه أبو(7/359)
البركات، وقال أبو محمد في الكافي: إنه الأولى - فيما إذا ردت لتهمة رحم، أو زوجية، أو عداوة، أو جلب نفع، أو دفع ضرر، ثم زال ذلك: إنها لا تقبل لذلك، وقيل - وقال في المغني: إنه الأشبه بالصحة - يقبل نظرا للتعليل الأول، إذ لا عار على الشاهد في الرد بذلك، بخلاف الرد بالفسق، والله أعلم.
قال: وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه.
ش: إذ العدالة - وكذلك البلوغ والإسلام والحرية - إنما تعتبر حال الأداء، لأنه حال ترتب الحكم، بخلاف ما قبل ذلك، ولذلك قبلت رواية من كان صبيا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كابن عباس، والنعمان بن بشير، وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من صبيان الصحابة، وقد أجمع الناس على إحضار الصبيان مجالس السماع، وفائدته ذلك، والله أعلم.
قال: ومن شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها.(7/360)
ش: لأن حدوث ذلك يورث تهمة حال الشهادة، لأن كثيرا من الناس يستر الفسق، ويظهر العدالة، وخرج ما إذا شهد ثم خرس أو عمي، أو صم أو جن أو مات، فإن ذلك لا يمنع الحكم، لأن ذلك لا يورث تهمة، لأنه لا يحتمل أنه كان موجودا حال الشهادة.
[حكم الشهادة على الشهادة]
قال: وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود، إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا.
ش: الشهادة على الشهادة جائزة في الجملة بالإجماع، قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، وللحاجة الداعية إلى ذلك، إذ قد يتأخر إثبات الوقوف ونحوها عند الحاكم، ثم يموت شهود ذلك، فلو لم تقبل لأفضى ذلك إلى ضرر كثير، وإنه منفي شرعا، ومحل قبولها الأموال بلا ريب، للإجماع والمعنى المتقدمين، لا الحدود بلا نزاع عندنا، لانتفاء المعنى المتقدم وهو الحاجة، إذ الستر فيه أولى، ولأن الحدود تندرئ بالشبهة، والشهادة على الشهادة فيها نوع شبهة، لتطرق السهو والغفلة والكذب إلى كلا الفريقين، شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، واختلف عن إمامنا فيما عدا ذلك (فعنه) -(7/361)
وهو ظاهر كلام الخرقي -: تقبل، لأنه حق لا يندرئ بالشبهة، فأشبه المال (وعنه) - وهو ظاهر كلام أبي بكر وابن حامد - لا تقبل، لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه حد السرقة (وعنه) تقبل إلا في الدماء والحدود، وإليه ميل أبي محمد (واعلم) بأن بابي الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي عند الشيخين في مختصريهما باب واحد، ما قيل في أحدهما قيل في الآخر، وما لا فلا.
(تنبيه) : وأبو البركات يستثني حقوق الله سبحانه من محل الخلاف، وهو أشمل مما تقدم.
إذا تقرر هذا فيشترط للشهادة على الشهادة شروط (أحدها) تحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، إذ الحكم ينبني على الشهادتين جميعا، فاعتبرت الشروط في كل منهما، كالراوي عن الراوي، وهذا والله أعلم اتفاق، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل، بأن شهدا بعدالتهما، وعلى شهادتهما جاز، وإن لم يشهدا بعدالتهما، بل على شهادتهما جاز وتولى ذلك الحاكم.
(الشرط الثاني) : أن تتعذر شهادة شهود الأصل، لأن المقتضي لجواز الشهادة على الشهادة الحاجة، ولا حاجة مع حضور شهود الأصل، ولا ترد الرواية، لأنها أخف، ولهذا لم يعتبر فيها العدد، ولا الذكورية، ولا الحرية، ولا انتفاء التهمة، ولا اللفظ ونحو ذلك، انتهى.
ولا ريب أن لا تعذر أبلغ من الموت، واختلف عن إمامنا في التعذر بما عداه، كالتعذر(7/362)
بغيبة، أو مرض يمنع الحضور ونحوه، أو لكبر أو حبس، أو خوف من سلطان أو لص، أو فتنة ونحو ذلك (فعنه) - وهو الأشهر، والمختار للأصحاب - الاجتزاء بذلك، كالتعذر بالموت، والجامع التعذر (وعنه) لا يكتفى بذلك، لاحتمال زوال العذر، وتأول القاضي ذلك على الموت، وما في معناه من الغيبة البعيدة، وعلى المذهب اختلف في حد الغيبة، فالمختار للشيخين وأبي الخطاب وغيرهم أنها مسافة القصر، لأنها الغيبة المعتبرة شرعا في كثير من الأحكام، فكذلك هنا إلحاقا للفرد الواحد بالأعم الأغلب، وعن القاضي أنها مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم، لأنها والحال هذه يلحق شاهد الأصل بأداء الشهادة حرج ومشقة، وإنهما منتفيان شرعا.
(الشرط الثالث) أن يعين شاهدا الفرع شاهدي الأصل، ولا يكفي أن يقولا حرين عدلين ذكرين، لاحتمال عدالتهما عندهما، دون غيرهما، فيتمكن المشهود عليه من الجرح.
(الشرط الرابع) الاسترعاء، وهو أن يطلب شاهد الأصل من الشاهد عليه حفظ الشهادة وأداءها، فيقول: اشهد على شهادتي بكذا.
ثم هل يشترط أن يسترعيه بعينه، وهو احتمال ذكره في المغني، أو يكتفي بمجرد الاسترعاء، فلو سمعه يسترعي(7/363)
شاهدا جاز له أن يشهد على شهادته، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان، فإن عدم الاسترعاء لم يشهد، كأن يسمعه يقول: أشهد على فلان بكذا.
لم يشهد، لاحتمال أن يقول ذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري، ويحتمل أن يكون هازلا ونحو ذلك، ولهذا قال أحمد: لا تكون شهادة إلا أن يشهدك، فإذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث. ونحو ذلك.
نعم إن سمعه يشهد بذلك عند الحاكم، أو يعزوه إلى سبب من بيع أو قرض، ونحو ذلك فهل يقوم مقام الاسترعاء - وهو الذي قاله القاضي وابن البناء وغيرهما -، لزوال الاحتمال إذا، أو لا يقوم مقامه لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة، والنيابة يعتبر فيها الإذن؟ فيه روايتان.
(الشرط الخامس) أن يشهد شاهدان على شاهدي الأصل، سواء شهدا على كل واحد منهما، أو شهد على كل واحد واحد، على المذهب المنصوص.
3860 - قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على ذا، شريح فمن دونه، وشرط أبو عبد الله بن بطة شهادة أربعة، على كل أصل فرعان، وقيل يكتفى بشهادة فرعين، بشرط أن يشهدا(7/364)
على كل واحد من الأصلين، واختلف في (شرط سادس) وهو اشتراط ذكورية شهود الأصل وشهود الفرع (فعنه) اشتراط ذلك، لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا، وفي شهادة النساء ضعف، فيجتمع ضعفان، فلا يدخل النساء في ذلك (وعنه) لا يشترط ذلك، أما في الأصول فلعموم ما تقدم {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وأما في الفروع فنظرا للمقصود، إذ هو إثبات الحق المشهود به، وقد ثبت أنه يثبت بالنساء (وعنه) وهو الأشهر لا يشترط ذلك في شهود الأصل لما تقدم، ويشترط في شهود الفرع، نظرا لعين ما شهدوا به، وهو شهادة الأصول، وأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويتفرع على ذلك أنه لو شهد رجلان على رجل وامرأتين، جاز على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على مثلهم، أو على رجلين، لم يجز على الأولى، وكذا على الثالثة، وجاز على الوسطى انتهى.
وقد علم من تعليل ما تقدم - وهو لأبي محمد - أن المرأة لا تكون فرعا إلا فيما يقبل فيه شهادة النساء منفردات أو مع الرجال، وحكى ابن حمدان ذلك قولا، والذي قدمه وهو مقتضى إطلاق أبي البركات وغيره جواز كونها فرعا مطلقا.(7/365)
قال: ويشهد على من سمعه يقر بحق، وإن لم يقل للشاهد: اشهد علي.
ش: هذا يشمل الإقرار بحق في الحال، كقوله: له علي كذا، والإقرار بسابقة الحق، كقوله: أقرضني، أو كان له علي، أو كان له علي وقضيته، إذا جعلناه إقرارا، وهذا إحدى الروايات عن الإمام، نقلها ابن منصور، وهو المذهب عند أبي محمد، لعموم {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وغير ذلك، والشاهد هنا قد حصل له العلم بسماعه، فجاز له أن يشهد به، كما لو حصل له العلم بالرؤية.
(والرواية الثانية) لا يجوز له أن يشهد بذلك مطلقا، نقلها بكر بن محمد، واختارها أبو بكر، لجواز أن يكون قال ذلك على سبيل الممازحة، لا على سبيل الحقيقة، وكما في الشهادة على الشهادة.
(والرواية الثالثة) أنه إن أقر بحق في الحال شهد به،(7/366)
وإن أقر بسابقة الحق لم يشهد به، نقلها أبو طالب، واختارها أبو البركات، لأن المقر بحق في الحال معترف به، فالشاهد يجزم تبعا لإقراره بأنه عليه، والمقر بسابقة الحق لا يلزم منه أنه عليه، لأنه يجوز أن يكون وفاه، فالشاهد لا يجزم بأنه عليه.
(والرواية الرابعة) يخير الشاهد في الشهادة في الشهادة والحال ما تقدم، ولا يجب عليه ذلك، نقلها أحمد بن سعيد لأن وقوع الخلاف شبهة درأت الوجوب، وتورع ابن أبي موسى فقال في القرض ونحوه: لا يشهد به لما تقدم وفي الإقرار بحق في الحال: يقول: حضرت إقرار فلان فكذا، ولا يقول: أشهد على إقراره.
فعلى الأولى لو قال المتحاسبان للشاهدين: لا تشهدا علينا بما يجري بيننا.
فهل يمنع ذلك الشهادة، أو لا يمنع ويلزم إقامتها، وبها قطع أبو محمد في المغني؟ على روايتين.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر إلا الإقرار، وبقي عليه سماع الحكم، وغير ذلك من العقود، والطلاق، ونحو ذلك مما مرجعه القول، أما سماع الحكم ففيه الروايات الثلاث الأول المبدوء بهن في الإقرار، وأما الطلاق والعقود ونحو ذلك فيشهد به، وإذا شهد بذلك فالأولى أن يشهد على الأفعال، وقد حكى القاضي في الأفعال روايتين أيضا.
(إحداهما) لا يشهد(7/367)
بها حتى يقول له المشهود عليه: اشهد.
(والثانية) يشهد، قال أبو محمد: فإن أراد بذلك العموم لم يصح، لأدائه إلى منع الشهادة عليه بالكلية، إذ الغاصب لا يستشهد أحدا على غصبه، وكذا السارق ونحوهما، ثم إن أبا بكرة وأصحابه لما شهدوا على المغيرة لم يقل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل أشهدكم على ذلك؟ قال: وإن أراد الأفعال التي تكون بالتراضي، كالقبض في الرهن، والقبض والتفرق في البيع، ونحو ذلك جاز.
(قلت) : وإذا جرى الخلاف في ذلك فينبغي جريانه في الطلاق والعقود ونحو ذلك، وكلام أبي البركات الجزم بالشهادة بذلك، ويحتمل أن يريد القاضي بالأفعال الشهادة على الإقرار بالأفعال. والله أعلم.
قال: وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا.
ش: هذا أحد نوعي الشهادة على المقر، وإن لم يشهده على ما سمعه، والخلاف فيه كالخلاف فيه ثم، ومختار أبي بكر إنما هو والله أعلم مصرح به هنا، وتبعه ابن أبي موسى على مختاره، وإنما قال الخرقي: إذا كان عدلا.
لئلا يتوهم أن هذا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] فيكون مرتكبا للنهي، فيمنع من الشهادة لذلك، فأشار إلى أن هذا التجسس غير ممنوع منه للحاجة الداعية، وإنما المشترط العدالة، لأنها تمنع من التجسس في غير ذلك، والمستخفي يشمل المستخفي في كل ما سمعه أو حضره، والله أعلم.(7/368)
[كتاب الأقضية]
قال: وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم، فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي، دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه، إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن، ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين.
ش: وضع هذه المسألة إذا أقر بعض الورثة بدين على مورثهم، فإن عندنا يلزمه من الدين بقدر إرثه، ففي مسألة الخرقي إرثه النصف، فيلزمه نصف الدين، ولو كان إرثه الثلث، لزمه ثلث الدين، ولو كان إرثه الثمن كما لو كان المقر والحال ما تقدم زوجة، لزمها ثمن الدين وعلى هذا، لأن إقراره تضمن أن المقر له يستحق من أصل التركة هذا المبلغ، وفي يده مثلا نصفها، فيلزمه نصفه، وأن إقراره تضمن حقا عليه وحقا على غيره، فيسمع على نفسه، ولم يسمع على غيره، فإن كان المقر عدلا فالغريم مخير، إن شاء استشهده على ذلك، فإذا أتى بلفظ الشهادة حلف مع شهادته واستحق الباقي، إذ لا تهمة في حق المقر، لأنه لا يجر إلى نفسه بالشهادة نفعا، ولا(7/369)
يدفع بها ضررا والحال هذه، وإن شاء لم يستشهده، واقتصر على ما حصل له بالإقرار، ولو كان المقر عدلين فأكثر وشهدا بذلك، ثبت الدين بشهادتهما، ولزمه قضاؤه من أصل التركة.
واعلم أن في كلام كثير من الأصحاب في المسألة تساهلا يعرف مما أصلوه، وهو أن قولهم: يلزمه من الدين بقدر إرثه.
يشمل ما لو كان الدين المقر به مثلا ألف درهم، وإرثه النصف، وهو مائة درهم، فإن إطلاقهم يقتضي أنه يلزمه خمسمائة درهم لأنها قدر إرثه، وليس كذلك، وإنما تركوا التنبيه على ذلك لأنه أصلوا أولا أن الدين إنما يلزم قضاؤه من التركة، ولا يلزم الورثة شيء زائد عليها، والله أعلم.
قال: وإذا هلك رجل عن ابنين، وله حق بشاهد، وعليه من الدين ما يستغرق ماله، فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد، لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق.
ش: إنما لم يكن للغريم الذي هو صاحب الدين أن يحلف مع الشاهد ويستحق، لأن الحق ليس له، إنما هو للميت أو للورثة، فأشبه ما لو لم يستغرق حقه الدين، وقد أشعر كلام(7/370)
الخرقي بأنه لا يجب على الورثة أن يحلفوا، وهو كذلك، لأنهم قد يقوم عندهم شبهة تمنعهم من اليمين، والإنسان لا يجب عليه أن يضر نفسه لنفع غيره.
وقوله: فأبى الوارثان أن يحلفا. يعلم منه أن الحق لا يثبت إلا بيمين جميع الورثة، وهو كذلك، نعم إذا حلف بعضهم ثبت له من الحق بقدر إرثه، ولا يشاركه فيه صاحبه، ويتعلق به من الدين بقدر ما ثبت له.
قال فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين ودفع إلى الغريم.
ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الحقوق المالية تثبت بشاهد ويمين الطالب، وإذا إذا حلف الورثة مع الشاهد حكم بالدين، فصار تركة، ودفع إلى الغريم، لوجوب قضاء الدين قبل الإرث والوصية.
واعلم أن في كلام الخرقي ما يشعر بأن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لأنه قال أولا: ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد.
إلى آخر المسألة، فأضاف الحق إلى الميت، والأصل في الإضافة الحقيقية، وقد اختلفت الرواية في هذه المسألة، والمنصوص المشهور المختار للأصحاب أن الدين لا يمنع نقل التركة إلى الورثة (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يمنع في قدره، وعلى هذه يكون نماء التركة حكمه حكمها، وما تحتاج إليه من المؤونة منها، ولا يصح تصرفهم فيها، لعدم ملكهم لها، وعلى(7/371)
المذهب هل يصح تصرفهم فهيا؟ فيه خلاف مبني على أن تعلق حق الغرماء بالتركة هل هو كتعلق حق المرتهن بالرهن، وهو الذي ذكره القاضي في تعليقه في الزكاة في موضعين استطرادا، فعلى هذا لا يصح تصرفهم، أو كتعلق حق المجني عليه بالعبد الجاني؟ وهو الذي أورده أبو محمد في المغني مذهبا، وقال ابن حمدان: إنه الأقيس، وعلى هذا يصح تصرفهم، ثم إن قضوا الدين وإلا نقض، قاله أبو محمد في المغني، وحكى ابن حمدان قولا آخر على هذا القول أن الوارث لا يتصرف قبل الوفاء بدون إذن الغريم، أو التوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، وينبني أيضا على الخلاف في التعلق حكم النماء، فإن قيل كتعلق المرتهن بالرهن، تعلق الدين بالنماء، وإن قيل كتعلق حق المجني عليه بالجاني؛ اختصت الورثة بالنماء، والله أعلم.
قال: ومن ادعى دعوى على رجل، وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه، ثم أحضر المدعي بينته حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق.
ش: لأن البينة تبين الحق وتظهره ولعموم قول: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة لمن ادعى» وهذا قد ادعى وأقام البينة، فيكون له،(7/372)
واليمين لا تزيل الحق، ولا تبطل الحكم بالبينة، لأن أثرها عند عدم البينة، أما مع وجودها فالحكم لها.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة في البعد، ولم يتعرض لحد البعد، وكذا أبو محمد في المغني، وظاهر الإطلاق يقتضي مسافة القصر، ومقتضاه أنها لو كانت قريبة لم يكن الحكم كذلك، فيحتمل أنه لا يملك تحليف المدعى عليه، ويحتمل أنه إذا أحلفه ثم أحضر بينة لم يحكم بها، وأبو الخطاب قال: إذا قال: لي بينة وأريد تحليفه. فهل يحلف له؟ يحتمل وجهين، وقيد في المغني الوجهين بما إذا كانت حاضرة، وفصل في الكافي فقال: إن قال مع الحضور: أحلفوه ثم أقيم بينتي، لم يستحلف، وإن قال: ولا أقيمها. أحلف، ثم هل يمكن من إقامة البينة بعد؟ فيه وجهان، وفصل أبو البركات تفصيلا آخر فقال: إن كانت البينة غائبة عن البلد ملك تحليفه، ثم إقامة البينة، وإن كانت حاضرة في مجلس الحكم لم يملك إلا أحدهما.
(إقامة) البينة من غير تحليف أو (تحليفه) ولا تسمع البينة، وإن كانت غائبة عن المجلس حاضرة في غير مجلس الحكم فوجهان، الذي أورده مذهبا ملكهما، وحكى ابن حمدان فيما إذا كانت حاضرة ثلاثة أوجه، (يملكهما) (يملك) أحدهما فقط، (لا يملك) إلا إقامة البينة.(7/373)
[اليمين التي يبرأ بها المدعى عليه]
قال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله عز وجل.
ش: لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال سبحانه {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] .
3861 - وعن عبد الله بن أنيس الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن من الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعل الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي.
3862 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض(7/374)
فليس من الله» رواه ابن ماجه.
(تنبيه) الحالف بصفات الله حالف بالله، فحكمه حكمه، والله أعلم.
قال: وإن كان الحالف كافرا إلا أنه إن كان يهوديا قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها.
ش: يعني أن حكم الكافر حكم المسلم، في أنه يبرأ إذا حلف بالله سبحانه فقط، لإطلاق ما تقدم، ولقول الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وزاد أنه إن كان يهوديا قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى.
3863 - لما روي «عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له - يعني لابن صوريا: - «أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى، أتجدون في كتابكم الرجم؟» قال: ذكرتني بعظيم،(7/375)
ولا يسعني أن أكذبك» رواه أبو داود.
وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى. قياسا على اليهودي.
وظاهر كلام الخرقي أن التغليظ لا يشرع إلا في حق أهل الكتاب، لقضية النص المتقدم، وإلى هذا ميل أبي محمد، ويحتمل أن ميله إلى عدم مشروعيته مطلقا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، مع تصريحه بالكراهة، لكنه استثنى القسامة واللعان، ولا يستثنيان، لأن صفتهما كذلك، إذ لو لم يكرر الأيمان في القسامة واللعان، ولو يأت باللعنة والغضب لم(7/376)
يجزه.
والخلاف إنما هو في تغليظ زائد على المجزئ، وجوزه أبو الخطاب وأتباعه إن رآه الحاكم، ويتلخص ثلاثة أوجه المشروعية، وعدمها، والمشروعية في حق أهل الذمة فقط، وحيث قيل به فظاهر كلام أبي البركات جوازه مطلقا، وكذا الخرقي، وخصه أبو الخطاب بما له خطر كالجنايات، والطلاق، والحدود، واللعان ونحو ذلك، وكذا في المال لكنه هل من شرطه أن يبلغ نصاب الزكاة، أو يكتفى ببلوغه نصاب السرقة؟ فيه وجهان، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر التغليظ باللفظ والمكان، والنص في اليهود إنما ورد باللفظ فقط.
3864 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل حلفه «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء» » يعني للمدعي، رواه أبو داود وكذا وقع لأحمد في رواية الميموني، قال: يقال للمجوسي: والله الذي خلقني ورزقني، ولم يتعرض للمكان، وزاد أبو الخطاب على المكان الزمان، كبعد العصر، وبين الأذانين.(7/377)
واعلم أنه لا نزاع عندنا فيما علمت في عدم الاستحباب، وإنما النزاع في المشروعية، وإذا لم يستحب لم يجب بلا ريب، وقد حكي الإجماع على ذلك، ولا عبرة بوجه حكاه بعض الشافعية بالوجوب، وأنكره بعضهم، ومن ثم لو بذل الحالف اليمين بالله تعالى، وأبى التعظيم والتغليظ، لم يكن ناكلا، ولو قيل بالاستحباب في اللفظ كان حسنا، لحديثي عكرمة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو ظاهر كلام الخرقي بل والإمام.
قال: ويحلف الرجل فيما عليه على البت.
ش: معنى البت القطع والجزم، والذي عليه يشمل الإثبات كقوله: والله لقد بعتك داري، أو أقرضتك ألفا؛ أو لقد باعك أبي داره، أو أقرضك ألفا.
ونحو ذلك، والنفي كقوله: والله ما اشتريت هذا العبد، ولا له علي هذا الألف.
ونحو ذلك، والمذهب في جميع ذلك أن اليمين على الجزم والقطع، لحديث [ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء» وهو خرج بيانا لمجمل اليمين، وحكي عن أحمد (رواية أخرى) أن اليمين في ذلك كله على نفي العلم.(7/378)
3865 - واستشهد له أحمد بحديث] الشيباني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا ما لا يعلمون» وأبو البركات خص هذه الرواية بما إذا كانت الدعوى في النفي وهو أقرب، (وعن أحمد) رواية أخرى في البائع يحلف لنفي عيب السلعة على نفي العلم بذلك، لأنه فعل الغير، والله أعلم.
قال: ويحلف الوارث على دين الميت على نفي العلم.
ش: هذا مما لا أظن فيه خلافا في المذهب، وهو أن الحالف على فعل الغير يحلف على نفي العلم، وعليه يحمل حديث القاسم بن عبد الرحمن، والمعنى أنه لا يمكنه الإحاطة بفعل الغير، بخلاف فعل نفسه.
3866 - وقد روي «أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن أرضي اغتصبها أبو هذا، وهي في يده، قال: «هل لك بينة؟» قال: لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي، اغتصبها أبوه،(7/379)
فتهيأ الكندي لليمين» ، رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحكم نفي الدعوى على الغير كذلك، كما إذا ادعى عليه أنه ادعى على أبيه ألفا، فأقر له بشيء فأنكر الدعوى، ونحو ذلك، فإن يمينه على نفي العلم على المذهب.
(تنبيه) حيث قيل: إنها على البت لم تجزه على نفي العلم، وحيث قيل: إنها على نفي العلم أجزأ الحلف على البت، وكان التقدير فيه العلم، كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة، وقال ليس له وارث غيره، سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه والله أعلم.
[حكم اختلاف شهود الزنا]
قال: وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنا بهذه في هذا البيت، وشهد الآخران أنه زنا بها في البيت الآخر، فالأربعة قذفة وعليهم الحد.
ش: هذا مبني على أصل أشعر به كلام المصنف، وهو أن شهادتهم لا تكمل على ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لأن أحد(7/380)
الفريقين كاذب ولا بد، إذ لا يمكن أن يكون زنا واحدا في موضعين، ولأنهما لما تعارضا تساقطا، وصارا كالعدم (وعن أحمد) رواية أخرى - واختارها أبو بكر - تكمل شهادتهم، لأنهم جاءوا أربعة على زنا واحد، فدخلوا تحت قوله سبحانه: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ونحو ذلك، وقد استبعد أبو الخطاب هذه الرواية، وجعلها غلطا، وعليها يحد المشهود عليه، ولا حد على الشهود، وأما على المذهب فلا حد على المشهود عليه، أما الشهود فهل هم قذفة فيجب عليهم الحد - وهو الذي قاله الخرقي، وهو المذهب - أم لا فلا حد عليهم؟ على روايتين، ولعل مبناهما على الخلاف في مجيء القاذف مجيء الشاهد، هل يندفع عنه الحد بذلك، أم لا وفيه شيء انتهى.
وحكم الاختلاف في البلد واليوم حكم الاختلاف في الموضع.
(تنبيه) محل الخلاف في أصل المسألة إذا شهدوا بزنا واحد، أما إن شهدوا بزنائين، فلا ريب أن الشهادة لا تكمل، وأن الشهود قذفة، إذ لا يمكن جعل الفعلين فعلا واحدا، كذا حققه أبو البركات.
ومقتضى كلام أبي محمد جريان الخلاف وإن شهدوا بزنائين، وليس بشيء.(7/381)
قال: ولو جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبلت شهادتهم، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في الحدود فلا حاجة إلى إعادتها.
[حكم الرجوع عن الشهادة]
قال: ومن حكم بشهادتهما بجرح أو بقتل ثم رجعا فقالا عمدنا، اقتص منهما، وإن قالا: أخطأنا، غرما الدية أو أرش الجرح.
ش: أما إذا حكم بالشهادة واستوفي فلا شيء على المشهود له، كما تضمنه كلام الخرقي، وأما الشهود فإن رجعوا وقالوا: عمدنا القتل بذلك، اقتص منهما، لأن هذا سبب قوي يفضي إلى القتل غالبا، أشبه المباشرة بالقتل.
3867 - وقد روى سعيد في سننه فيما أظن أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه، ثم عادا وقالا: أخطأنا ليس هذا هو السارق.
فقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما.(7/382)
وإن قالا: أخطأنا وظننا أن هذا هو القاتل، وليس هو القاتل، فعليهما الدية إن كان المشهود به مما تجب به الدية، أو أرش الجرح إن كان دون ذلك، لأن قولهما محتمل، وهو مما لا يعلم إلا من جهتهما، ولا شيء على العاقلة، لأن ذلك ثبت باعترافهما، وإن قالا: عمدنا الشهادة عليه، ولم نعلم أنه يقتل بمثل هذا.
وهما ممن يجهلان ذلك فكما تقدم، لكن تكون دية ذلك دية شبه العمد، لقصدهما الجناية، أما إذا حكم بالشهادة ولم تستوف ثم رجعوا فالمذهب المجزوم به عند أبي محمد في مغنيه - وأورده أبو البركات مذهبا - أنه لا يستوفى، لأن الرجوع والحال هذه شبهة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، وقيل - ويحتمله كلام الخرقي - إن كان الحق لآدمي استوفى، لأن الحق تعلق بالحكم فلا يسقط بالرجوع كما في المال، والحكم في الشهود كما تقدم.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو لم يحكم بالشهادة لم يكن الحكم كذلك وهو صحيح، إذ لا يجوز الحكم، وتلغى الشهادة، لأن الشهادة شرط الحكم، وقد زالت قبله، فأشبه ما لو فسقوا انتهى، وحكم الحد فيما تقدم حكم القود، والله أعلم.(7/383)
قال: وإن كانت شهادتهما بمال غرماه.
ش: لأنهما أقرا أنهما حالا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه ما لو أتلفاه، والله أعلم.
قال: ولا يرجع به على المحكوم له، سواء كان المال قائما أو تالفا.
ش: لأن المحكوم له حقه وجب بالحكم، فلا يسقط بقولهما، إذ ليس قولهما الثاني بأولى من الأول، وفارق إذا بانا كافرين، لتبين زوال شرط الحكم وهو العدالة، وهنا لم يتبين، لجواز كونهما عدلين في شهادتهما، وإنما كذبا في رجوعهما، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قبض المال، وما إذا لم يقبض، وهو كذلك، ومن ثم قلنا إن ظاهر كلام الخرقي أن القود يستوفى إذا كان الرجوع بعد الحكم والله أعلم.
قال: وكذلك إن كان المحكوم به عبدا أو أمة غرما قيمته.
ش: العبد والأمة مال من الأموال، فيجري عليهما حكم المال، ثم تارة يشهدان بعتق ذلك، وتارة يشهدان به لشخص، والحكم فيهما واحد، وكأن الخرقي إنما أفرد ذلك عن بقية الأموال ليبين أن الواجب فيه قيمة لا مثل، ومتى كان الرجوع في جميع ذلك قبل الحكم لغت الشهادة كما تقدم، والله أعلم.
[ظهور كفر الشاهدين أو فسقهما بعد تنفيذ الحكم]
قال: وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين، ثم علم(7/384)
أنهما كافران أو فاسقان، كانت دية اليد في بيت المال.
ش: هذا مبني على أن خطأ الحاكم والإمام في بيت المال، لأنه وكيل عن المسلمين، ونائب منابهم، فكان خطؤه عليهم كالأجير الخاص خطؤه في حق مستأجره عليه، ولأن خطأهما يكثر لكثرة تصرفاتهما، فإيجابه على عاقلتيهما يفضي إلى حرج ومشقة، وإنهما منفيان شرعا، وهذا إحدى الروايتين.
(والرواية الثانية) أن خطأهما على عاقلتيهما كغيرهما.
3868 - ويشهد له ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ذكرت عنده بسوء، فأرسل إليها فأجهضت جنينها، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشاور الصحابة فقال بعضهم: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عليك الدية.
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك.
يعني قريشا لأنهم عاقلته.(7/385)
وقد تضمن كلام الخرقي أنه لا شيء على الشهود وهو كذلك، لأنهما مقيمان على أنهما صادقان، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهم، وبذلك فارقوا الراجعين، لاعترافهم بالكذب، واعلم أن كلام الخرقي (مبني) على أن الحكم ينقض والحال هذه (وعن أحمد) رواية أخرى: لا ينقض إذا بانا فاسقين، وإذًا لا ضمان، (ومبني) أيضا على أنه لا تزكية له، أما إن كان ثم تزكية فهل الضمان على المزكين، لأنهم الذين ألجئوا الحاكم إلى الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو على الحاكم على ما تقدم، وهو قول القاضي، وظاهر إطلاق الخرقي، أو على أيهما شاء المستحق، والقرار على المزكين، أو على الشهود، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير؟ (على أربعة أقوال)(7/386)
والحكم فيما إذا بان الشهود عبيدا حكم ما إذا بانوا كفارا عند أبي محمد في مغنيه، وقال أبو البركات: للحاكم والحال هذه نقضه إذا كان لا يرى قبولهم في ذلك، وعلى هذا إن لم ينقضه فلا ضمان، وإن نقضه كان ما تقدم.
(تنبيه) لو كان المحكوم به قودا ثم بان ما تقدم، فمقتضى كلام أبي محمد في مغنيه أن الحكم كذلك، وقال أبو البركات: يرجع ببدل القود المستوفى على المحكوم له.
قال: وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهدا حلف مع شاهده وصار حرا.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والرواية الثانية لا يثبت إلا بشاهدين، اختارها الشريف أبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهما، واختلف اختيار القاضي، فتارة اختار الأول، وتارة اختار الثاني، كأنه آخر قوليه، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أن العتق إتلاف مال في الحقيقة قال بالأول كبقية الإتلافات، ومن نظر إلى أن العتق نفسه ليس بمال، وإنما المقصود به تكميل الأحكام قال بالثاني: وصار ذلك كالطلاق والقصاص ونحوهما، والله أعلم.
[حكم شهادة الزور]
قال: ومن شهد شهادة زور أدب، وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر بها أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك.(7/387)
3869 - ش: أما أدبه فاتباعا لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، تضر بالناس، فأشبه السب بل أولى، ويؤدب بما يراه الحاكم من جلد أو حبس، أو كشف رأس ونحو ذلك، وأما قيامه للناس في المواضع التي يشتهر فيها فليعرفه الناس فيجتنبوه، فيؤتى به في سوقه أو في قبيلته ونحو ذلك، فيطاف به ويقال: هذا شاهد زور فاجتنبوه.
وهذا كله إذا تحقق تعمده لشهادة الزور، وذلك إما بإقراره أو بما يلزم ذلك منه قطعا، بأن يشهد على رجل بعقد في مصر، ويعلم أنه في ذلك الوقت في الشام، أو يشهد بقتل رجل وهو حي ونحو ذلك، أما إذا لم يتحقق كما في تعارض(7/388)
البينتين، أو ظهور فسق ونحو ذلك فلا، لأن الفاسق قد يكون صادقا، والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها.
وقد علم من كلام الخرقي أن شهادة الزور حرام، ولا ريب في ذلك، بل هي من أعظم الكبائر أو أعظمها، وقد قرنها الله سبحانه بالأوثان فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] .
3870 - وفي الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكبائر، أو ذكر الكبائر فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو قال شهادة الزور» .
3871 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» رواه ابن ماجه.(7/389)
وكيف لا يكون كذلك وهو من الساعين في الأرض بالفساد، بل هو أعظم من المحاربين، لإمكان الاحتراز منهم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، وعلى هذا فينبغي المبالغة في تعزيره بما يردعه ويكف شره، ولكي يرتدع أمثاله، والله أعلم.
قال: وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته.
ش: وذلك بأن يقول فيما إذا شهد بمائة ثم قال: بل هي مائة وعشرة؛ أو بل هي خمسون ونحو ذلك، وذلك لاحتمال دخول السهو والغلط عليه الذي لا يسلم منه إنسان، والفرض أنه عدل غير متهم، فقبلت زيادته أو نقصه، كما لو تم على(7/390)
الأولى، وقوله: ما لم يحكم بشهادته. احترازا مما إذا حكم بها فإنه لا تقبل زيادته ولا نقصه، لثبوت الحق الحكم، والله أعلم.
قال: وإذا شهد شاهد بألف، وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة، وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب.
ش: أما كونه يحكم لمدعي الألف بخمسمائة فلحصول الاتفاق عليها من الشاهدين، وأما كونه يحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب فمبني على الحكم بشاهد ويمين وقد تقدم ذلك، وهذا مع الإطلاق كما صوره الخرقي، أو مع الاتفاق على السبب أو الصفة، أما مع الاختلاف، كأن يشهد أحدهما بألف من قرض، والآخر بخمسمائة من ثمن مبيع، أو أحدهما بألف بيض، والآخر بخمسمائة سود ونحو ذلك، فإن البينة لا تكمل على شيء، ويكون للمدعي بما ادعاه منهما شاهد واحد، فيحلف معه إن أحب، والله أعلم.
قال: ومن ادعى شهادة عدل فأنكر العدل أن تكون عنده، ثم شهد بها بعد ذلك، وقال: كنت قد أنسيتها. قبلت منه. ولم ترد شهادته.(7/391)
ش: لأن الفرض أنه عدل، وما ادعاه من النسيان محتمل، فلا يرد قوله مع احتمال صدقه، وعدم تحقق قادح في عدالته.
قال: ومن شهد شهادة تجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل.
ش: وذلك بأن يشهد على زيد بدار له ولعمرو، ونحو ذلك، لأنها شيء واحد، فإذا بطل بعضه بطل كله، إذ الشيء يفوت بفوات جزئه، وخرج أبو محمد قولا آخر أن البطلان يختص بما هو متهم فيه، قال: من قولنا في عبد بين ثلاثة، اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم، فادعى أنهم قبضوها منه، فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض، فإن شهادتهما تقبل عليه في عتق حصته، وبراءة المكاتب منه على المنصوص، والله أعلم.
قال: وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، فصدقة الابن، وادعى آخر مثل ذلك وصدقة الابن، فإن كان في مجلس واحد كانت الألف بينهما، وإن كانا في مجلسين كانت الألف للأول، ولا شيء للثاني.
ش: وضع هذه المسألة إذا مات رجل وخلف وارثا وتركة، فأقر الوارث لشخص بدين على مورثه يستغرق التركة، ثم أقر(7/392)
لآخر، فإن كان في مجلسين فهي للأول بالإقرار، ولا شيء للثاني، لأنه إقرار على الغير وإنه غير مقبول، ولأن إقراره الأول منع من تصرفه في التركة تصرفا يضر بالأول، فلم يقبل إقراره عليه، كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون، وإن كان في مجلس واحد فهل هي للأول لتعلق حقه بمجرد الإقرار له، أو يتشاركان فيها وهو قول الخرقي، وجزم به أبو محمد، لأن حال المجلس كحالة العقد، فهو كما لو أقر لهما معا، أو إن تواصل الإقراران تشاركا وإلا اختص الأول بها، وهو ظاهر كلام أحمد وهو حسن؟ على ثلاثة أقوال.
(تنبيه) لو كان الإقرار بعين التركة أولا، ثم أقر بها ثانيا، فإنها تكون للأول ثم يغرمها للثاني، لأنه حال بإقراره بينه وبينها.
قال: وإذا ادعى على مريض دعوى فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها عليه حتى يقول بلسانه.
ش: ملخصه أنه لا يصح الإقرار بالإشارة من الناطق، وإن عجز عن الكلام في الحالة الراهنة، لأنه ناطق بالقوة، فأشبه الناطق بالفعل، ويخرج لنا صحة إقرار من اعتقل لسانه، وأيس من نطقه، كما في لعانه في وجه، وتعليل أبي محمد يقتضيه،(7/393)
لأنه علل المسألة بأنه غير ميئوس من نطقه، فأشبه الصحيح، وقوله: على مريض: يخرج الصحيح، وهو على ضربين، من لا يصح إقراره بالإشارة بلا ريب، وهو القادر على النطق، ومن يصح إقراره بالإشارة إن فهمت وهو الأخرس، والله أعلم.
قال: ومن ادعى دعوى وقال: لا بينة لي. ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل، لأنه مكذب لبينته.
ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في مغنيه وكافيه، وغيرهما، لما علل به الخرقي من أنه مكذب لبينته، لإخباره بأنه لا بينة له، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد في المقنع - يقبل سواء أحلفه الحاكم أو لم يحلفه، لاحتمال أن تكون البينة سمعت ذلك من غير أن يعلم، فأشبه ما لو قال: لا أعلم لي بينة. أو لاحتمال أن يكون قال ذلك عن نسيان، والله أعلم.
قال: وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته.
ش: هذا والله أعلم اتفاق، لأنه غير متهم في ذلك، وقد يخرج عدم القبول من رواية عدم قبول شهادة عمودي(7/394)
النسب بعضهم على بعض، والله أعلم.
قال: وإن شهد لهم لم تقبل إذا كانوا في حجره.
ش: لأنه متهم في ذلك، لجواز ذلك عند الحاجة إليه، ولأنه هو الذي يخاصم لهم، فلم تقبل شهادته لهم، كما لو شهد لنفسه، وقوله: إذا كانوا في حجرة. يحترز عما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم، فإن شهادته إذا تقبل لزوال المقتضي للمنع، والحكم في أمين الحاكم يشهد ليتيم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء، ونص الخرقي على هذه المسألة يؤيد أن قوله ثم: ولا تقبل شهادة خصم. أن مراده العدو.
قال: وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في حال إفاقته.
ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا ممن يحفظ عنه من أهل العلم، ويشهد له أن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها، بدليل الصبي إذا كبر، وهذه العبارة تشعر بأن الغالب عليه الإفاقة، وهي عبارة الشيخين، ونحوها عبارة ابن حمدان قال:(7/395)
تقبل ممن يصرع في شهر مرتين. قال: وقيل ممن، يخنق أحيانا في حال إفاقته، وكل هؤلاء لم يشترطوا أن يتحمل حال إفاقته، بل التعليل السابق - وهو لأبي محمد - يقتضي عدم اشتراط ذلك، وفيه نظر.
[شهادة الطبيب العدل في الموضحة]
قال: وتقبل شهادة الطبيب العدل في الموضحة، إذا لم يقدر على طبيبين، وكذلك البيطار في داء الدابة.
ش: هذا منصوص أحمد، للحاجة الداعية إلى ذلك، إذ لا يمكن كل أحد أن يشهد به، بل يختص بنوع خاص، فأشبه العيوب تحت الثياب، وكذلك الحكم في كل ما يختص بمعرفته الأطباء، والله سبحانه أعلم.(7/396)
كتاب الدعوى والبينات
ش: الدعوى - قال ابن عقيل - الطلب، قال الله سبحانه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وزاد ابن أبي الفتح عليه: زاعما ملكه، وكأنهما يريدان لغة، وقال أبو محمد في المغني: الدعوى أي في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفة أو نحو ذلك، قال: وفي الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يده غيره أو في ذمته، والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه، وقيل: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته، والمدعى عليه من ينكر ذلك. وهو قريب من الذي قبله، وقال الشيخان في مختصريهما: المدعي من إذا سكت ترك. قال ابن حمدان وقيل: مع إمكان صدقه. ولا بد من هذا القيد - والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك. وقد يكون كل من الخصمين مدعيا ومدعى عليه، كما في الاختلاف في قدر الثمن.
3872 - والأصل في الدعوى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى(7/397)
عليه» متفق عليه. وشرط المدعي والمدعى عليه التكليف والرشد، وجواز التبرع، قاله ابن حمدان، وهو أخص من قول أبي محمد: ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، والله أعلم.
[حكم من ادعى زوجية امرأة فأنكرته]
قال: ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته، ولم تكن له بينة، فرق الحاكم بينهما ولم تحلف.
ش: إذا ادعى إنسان زوجية امرأة فلا يخلو إما أن تقر له أو تنكر، (فإن أقرت) له فهل يسمع إقرارها؟ وهو ظاهر كلام الخرقي، وصححه أبو البركات، لأنها غير متهمة في ذلك، لتمكنها من إنشاء العقد بشروطه، أو لا يسمع إقرارها؟ لأن ذلك مما لا يستباح بالبذل، وهو مفتقر إلى شرائطه ولم يعلم حصولها، أو إن ادعى زوجيتها واحد قبل، لأنه لا معارض له، وإن ادعاها اثنان لم تقبل للمعارضة، وهي التي قطع بها في المغني، مع أنه حكى الخلاف في مختصره؟ (على ثلاث روايات) (وإن أنكرته) وثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن بينة فرق بينهما، لعدم ثبوت الزوجية، ولم تحلف الزوجة على المذهب المشهور المعروف، حتى قال أبو محمد: إنه رواية(7/398)
واحدة، لأنه مما لا يباح بالبذل، فلم تستحلف فيه كالحد (وعنه) ما يدل على الاستحلاف فيه، وجعله أبو محمد تخريجا، لعموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» فعلى هذه هل يقضى فيه بالنكول؟ على روايتين.
(تنبيه) إطلاق الخرقي يقتضي أن من ادعى الزوجية سمع منه وإن لم يذكر شرائط النكاح، وهو قويل قاله في المقنع تبعا للهداية، لأنه نوع ملك، فأشبه ملك العبد ونحوه على المذهب، والمذهب - وبه جزم في المغني وأبو البركات وغيرهما - أنه لا بد من ذكر الشروط، احتياطا للنكاح، لا سيما وقد وقع الاختلاف في شروط كثيرة، وبهذا فارق غيره من الأملاك، والله أعلم.
[حكم من ادعى دابة في يد رجل فأنكره]
قال: ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكره، وأقام كل منهما بينة، حكم بها للمدعي ببينته، ولم يلتفت إلى بينة المدعى عليه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه، وسواء شهدت بينة المدعي أنها له، أو قالت: ولدت في ملكه.(7/399)
ش: إذا ادعى إنسان دابة أو شيئا في يد إنسان، فإن أقر له فلا كلام، وإن أنكره وأقام كل واحد منهما بينة فالمشهور من الروايات - والمختار للأصحاب - تقديم بينة المدعي مطلقا، لما استدل به الخرقي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه.
3873 - «فعن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «شاهداك أو يمينه» مختصر متفق عليه.
3874 - وعن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، أزرعها، ليس له فيها حق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي «ألك بينة؟» قال: لا. قال: «فلك يمينه» » مختصر رواه مسلم وغيره. وظاهر هذا أنه جعل البينة للمدعي مطلقا.(7/400)
3875 - ويرشحه ما روي أيضا في الحديث «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» وظاهر هذا الحصر، وأيضا فإن شهادة المدعى عليه يجوز أن يكون مستندها اليد والتصرف، فتصير بمنزلة اليد المفردة، وإذا تقدم بينة المدعي (وعنه) رواية ثانية، تقدم بينة المدعى عليه مطلقا، أثبتها أبو الخطاب وأتباعه، ونفاها القاضي، لأن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإذا القول قول المدعى عليه، أو يقال: لما تعارضتا ترجحت بينة المدعى عليه، [لموافقتها الأصل (وعنه) رواية ثالثة: تقدم بينة المدعي إلا أن تختص بينة المدعى عليه] بسبب، كأن تشهد بأنها له، نتجت في ملكه. أو أقطعها له الإمام ونحو ذلك، أو سبق، كأن تشهد بأنها له منذ سنتين، وتقول بينة المدعي: منذ سنة. فتقدم بينة المدعى عليه، لأنه بذلك يزول أن مستند البينة اليد.
3876 - ولما «روي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير، وأقام كل واحد منهما البينة، أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» . إلا أن أحمد قال في رواية محمد بن الحكم: أصحاب أبي(7/401)
حنيفة يروون في النتاج حديثا ضعيفا، لم يجب الأخذ به (وعنه) رواية رابعة عكس الثالثة، تقدم بينة المدعى عليه إلا أن تختص بينة المدعي بسبب أو سبق، وعلى هاتين الروايتين هل يكفي مطلق السبب، كالشراء، أو الهبة ونحو ذلك، أو لا بد من إفادته للسبق كالنتاج والإقطاع؟ على روايتين، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها.
واعلم أن بينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وبينة المدعي تسمى بينة الخارج، لأنه جاء من خارج، ينازع الداخل، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يمين على المدعي مع البينة، وهو كذلك، وكذلك لا يمين على المدعى عليه إن(7/402)
قدمت بينته، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لما إذا اختص أحدهما بالبينة لوضوحه، ولا ريب أن يحكم له بذلك، لأن البينة تبين الحق وتوضحه، ثم إن كانت البينة للمدعي فلا يمين عليه، قال أبو محمد: بغير خلاف في المذهب. ثم قال: قال أصحابنا: ولا فرق بين الحاضر والغائب، والحي والميت، والصغير والكبير والمجنون، والمكلف، وقال الشافعي: إن كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه حلف المشهود له أنه لم يقض، ولم يبر لتزول الشبهة، وهذا حسن. انتهى، وهذا عجيب، فإن في مختصره ومختصر غيره أن الدعوى إذا كانت على غير حاضر أو غير مكلف وثم بينة حكم بها، وهل يحلف المدعي مع بينته أنه لم يقض ولم يبر؟ على روايتين وهذه هي المسألة بعينها، فكيف يقول: بلا خلاف في المذهب. وأن الأصحاب لم يفرقوا بين الحاضر وغيره، ولا بين المكلف وغيره. انتهى. وإن كانت البينة للمدعى عليه فلا يمين عليه على المذهب، وفيه احتمال لأبي محمد، لاحتمال أن يكون مستند البينة اليد والتصرف، فيصير وجودها كالعدم، والله أعلم.
قال: ولو كانت الدابة في أيديهما، فأقام أحدهما البينة أنها له، وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه، أسقطت(7/403)
البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وجعلت بينهما نصفين، وكانت اليمين لكل واحد منهما على الآخر في النصف المحكوم به له.
ش: إذا كانت الدابة أو العين في أيديهما فتداعياها، وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه، فإن البينتين تتعارضان، وإذا هل يتساقطان - وهو قول الخرقي، واختيار كثير من الأصحاب، - أو يستعملان؟ على روايتين، ولعل مبناهما إذا تعارض الدليلان، هل يتوقف المجتهد أو يتخير في العمل بأحدهما؟ فيه خلاف وإذا قلنا: باستعمالهما فهل ذلك بقسمة لتساويهما في البينة، أو بقرعة، [لأنها تبين المستحق؟ على روايتين، فعلى رواية القرعة من خرجت له حلف أنها له، لجواز خطأ(7/404)
القرعة] ، أما على رواية القسمة فلا يمين، لأنا أعملنا البينة، فلو أوجبنا اليمين لجمعنا بين البينة واليمين وإنه ممنوع أما على رواية التساقط التي هي المشهورة فإنهما يصيران كمن لا بينة لهما، وإذًا تقسم العين بينهما، لتساويهما في اليد، ويجب لكل واحد منهما اليمين على صاحبه فيما حكم له به كما قال الخرقي، فاليمين تارة تجب بلا نزاع، وتارة لا تجب بلا نزاع، وفي المغني: واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به - وهو الذي ذكره الخرقي - أو لا يحلف وهي أصح؟ على روايتين، وظاهر هذا أن في اليمين روايتين، سواء قلنا باستعمال البينتين أو بإلغائهما.
وقول الخرقي: أنها نتجت في ملكه، ينبه به على أن ذلك ليس بمرجح لإحدى البينتين على الأخرى وقد تقدم ذلك وأن في الترجيح بذلك، وكذلك في الترجيح بالسبق روايتين، ومختار القاضي وجماعة من أصحابه الترجيح بذلك، عكس ظاهر كلام الخرقي، وإذا قيل بالترجيح بالسبب فهل يكتفى بمطلق السبب، أو لا بد من إفادته للسبق؟ على روايتين.
3877 - واعلم أنه قد ورد في الباب حديث عن أبي موسى، «أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث كل واحد منهما(7/405)
بشاهدين، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . رواه أبو داود، وهذا قد يستدل به على إلغاء البينتين، وقسمة العين بينهما، وعلى إعمالهما بالقسمة وهو أرجح، لعدم ذكر اليمين فيه، ومن ثم رجح أبو محمد عدم وجوب اليمين.
(تنبيه) قد تقدم لنا رواية بالقرعة، فيحتمل أنها بين البينتين، وهو ظاهر ما في روايتي القاضي، ويحتمل أنها بين المتداعيين وهو الذي حكاه عنه الشريف فقال: وعنه يقرع بينهما، إلا أن شيخنا كان يقول: يقرع بين المتداعيين لا بين البينتين، واللفظ(7/406)
محتمل، والله أعلم.
قال: ولو كانت الدابة في يد غيرهما، واعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه.
ش: إذا تداعيا دابة أو عينا في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرف عينه، فإنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه، لتساويهما في الدعوى، وعدم البينة واليد، والقرعة تميز المستحق عند التساوي، بدليل عتق المريض عبيده الذي لا مال له سواهم.
3878 - وعلى هذا يحمل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلين تدارأا في دابة، ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها» ، رواه أحمد وأبو داود.(7/407)
ولم يتعرض الخرقي لوجوب اليمين على المقر، وكذلك أحمد في رواية ابن منصور إذا قال: أودعني أحدهما لا أعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة حلف أنها له وأعطي، وحمل هذا القاضي وغيره على ما إذا صدقاه في عدم العلم، وأما إن كذباه فقال القاضي والشيخان وغيرهم: لهما عليه يمين واحدة أنه لا يعرف العين، ولو أقام كل واحد منهما بينة والحال هذه، فالحكم على ما تقدم في التي قبلها، هل تتساقط البينتان، ويصيران كمن لا بينة لهما كما تقدم - وهو ظاهر إطلاق الخرقي، لأنه لم يفصل، وقياس قوله في التي قبلها، واختيار جماعة من الأصحاب - أو تستعملان؟ على روايتين، ثم في كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها، قاله أبو الخطاب وأبو البركات، وعلى هذه تستوي رواية الاستعمال ورواية التساقط، وقال أبو محمد: من غير يمين (والثانية) تقسم بينهما بغير يمين كما تقدم.(7/408)
وقول الخرقي: واعترف أنه لا يملكها. يخرج ما إذا ادعى ملكها، فإن القول قوله مع يمينه بلا ريب، وقوله وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، يخرج ما إذا أقر بها لأحدهما بعينه، فإنها تكون لمن أقر له مع يمينه، لأن بذلك تصير اليد له، ومن له اليد القول قوله مع يمينه ما لم يكن بينة، ويحلف المقر للآخر على المذهب، وللمسألة تقاسيم أخر ليس هذا محلها، والله أعلم.
[حكم من كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره]
قال: وإذا كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره، فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها، وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم له بها ببينته، كان الغائب على خصومته متى حضر.
ش: إذا كانت في يده دار أو عين فادعاها إنسان، فأقر بها من هي في يده لغيره، نظر في المقر له، فإن كان حاضرا مكلفا جعل كأنه الخصم فيها، لأن اليد بصدد أن تصير له، وإذا يسأل فإن صدق المقر ثبتت اليد له، وصار الخصم فيها حقيقة، فإن لم يكن بينة حكم بها له مع يمينه لليد، وللمدعي اليمين على المقر أيضا على المذهب، وإن كان للمقر له أو للمدعي بينة عمل على ذلك، وإن كان لكل منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج كما تقدم، وإن لم يصدق المقر في(7/409)
إقراره وقال: ليست لي، ولا أعلم لمن هي، فهل تسلم للمدعي بلا يمين، لأنه يدعيها ولا منازع له، وهو اختيار أبي محمد في المغني وقال: إنه الأقوى، أو مع اليمين بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه، أو يحفظها أمين الحاكم، لأنه مال لم يثبت مستحقه أشبه المال الضال، وهو الذي ذكره القاضي، أو تقر في يد رب اليد لأن اليد كانت له، ولم يعلم ما يزيلها، وهو المذهب قاله أبو البركات، مع أن أبا محمد لم يذكره في المغني؟ على أربعة أوجه، فعلى الوجه الأخير لو عاد المقر فادعاها لنفسه سمع، لأنه إقرار على ما في يده، بخلاف ما قبله لزوال يده.
وإن كان المقر له غائبا ومثله الصبي والمجنون ولا بينة أقرت في يد المقر لعدم ثبوت المزيل لها، وللمدعي أن يحلف المقر أنه لا يستحق تسليمها إليه، إلا أن يقيم المقر بينة أنها لمن سماه فلا يحلف، وإن كان للمدعي بينة حكم بها له، بناء على ما تقدم من القضاء على الغائب، ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، فهم على حججهم من القدح في بينة المدعي، أو إقامة بينة تشهد بانتقال الملك إليهم من المدعي، فإن أقاموا بينة بالملك فقط انبنى على بينة الداخل(7/410)
والخارج، أما مع عدم الحضور والتكليف فإذا كان مع المقر بينة تشهد لمن سماه فإن الحاكم يسمعها، لزوال التهمة عن المقر، وسقوط اليمين عنه كما تقدم، ولا يحكم بها لعدم الدعوى من الغائب، أو وكيله، وخرج القضاء بها على صفة ما تقدم، بناء على أن للمودع وغيره المخاصمة فيما في يده، وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول - وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي - قيل له: عرفه وإلا فأنت ناكل عن الجواب، فإن عاد فادعاها لنفسه فهل تسمع دعواه كما لو عين المقر له، إذ قد يعني بالمجهول نفسه، أو لا تسمع - وجزم به في المغني - كما لو أقر بها لغائب ونحوه؟ على وجهين. والله أعلم.
[حكم من مات وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل منهما أنه على دينه]
قال: ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا، فادعى المسلم أن أباه مات مسلما، وادعى الكافر أن أباه مات كافرا، فالقول قول الكافر مع يمينه، لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر مقر بأن أباه كان كافرا مدع لإسلامه، وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر، ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين، لتساوي أيديهما.(7/411)
ش: إذا مات إنسان وخلف ابنين أحدهما مسلم، والآخر كافر، فادعى كل واحد من الابنين أن أباه مات على دينه فلا يخلو إما أن يعترف المسلم بأخوة الكافر أو لا، فإن اعترف بأخوته فالميراث للكافر في إحدى الروايتين، واختاره الخرقي، لما علل به من أن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف ظاهرا بأن أباه كان كافرا، وأنه أسلم، وإذا دعوى أخيه على وفق الأصل، وهو يدعي زوال ذلك، والأصل البقاء، وإنما قلنا: إنه معترف بأن أباه كان كافرا، لأنه إن لم يعترف بذلك بل ادعى أنه مسلم الأصل، فإذا أولاده تبع له، فيلزم أن أخاه ارتد، والأصل عدم ذلك، والظاهر أيضا يكذبه، إذ الظاهر أن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام (والرواية الثانية) المال بينهما، لأنهما تنازعا عينا في أيديهما فتقسم بينهما، وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وقال القاضي أظنه في المجرد: قياس المذهب أن التركة إن كانت في أيديهما قسمت بينهما، وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما، فمن قرع حلف واستحقها، كما إن تداعيا عينا في يد غيرهما، وقال أبو محمد: ومقتضى كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما أنها له مع يمينه، قال: ولا يصح، لاعترافهما بأن التركة للميت، وأن استحقاقهما بالإرث، فلا حكم لليد. انتهى.
ولأبي الخطاب احتمال أن الأمر يقف حتى يظهر أصل دينه أو(7/412)
يصطلحان، ولأبي محمد احتمال وهو اختياره في العمدة، أن القول قول المسلم، لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله، والصلاة عليه، ودفنه، فكذلك في إرثه.
وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر فالمشهور أنه بينهما، لتساويهما في الدعوى، وقيد ذلك الشيرازي بما إذا كانت أيديهما على التركة، وفيه ما تقدم من الخلاف، إلا رواية أن القول قول الكافر، هذا كله إذا لم يعرف أصل دينه، أما إن عرف أصل دينه فالذي جزم به القاضي في الجامع الشريف وأبو الخطاب وأبو البركات - وقال: رواية واحدة - أن القول قول من يدعيه، لأن دعواه ترجحت بموافقة الأصل، وأجرى ابن عقيل في التذكرة كلام الخرقي على إطلاقه، فحكى عنه أن الميراث للكافر والحال هذه، ويقدم كما تقوله الجماعة، وشذ الشيرازي فحكى فيه الروايتين اللتين قدمناهما فيما إذا اعترف المسلم بالأخوة، ولم يعرف أصل الدين.
قال: وإن أقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، وأقام المسلم بينة أن أباه مات مسلما، أسقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة(7/413)
لهما، وإن قال شاهدان: نعرفه كان كافرا، وقال شاهدان: نعرفه كان مسلما. حكم بالميراث للمسلم، لأن الإسلام يطرأ على الكفر، إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم.
ش: إذا أقام المسلم والحال ما تقدم بينة أن أباه مات مسلما، وأقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، أو قالت بينة: نعرفه مسلما، وبينة: نعرفه كافرا، ولم يؤرخا (فعن أحمد) ما يدل على تقديم بينة الإسلام بكل حال في الصورتين، وهو اختيار أبي محمد في العمدة، وظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية لترجحها بالدار، ولذلك حكم للميت بأحكام المسلمين، من الغسل والدفن، ونحو ذلك، ولما أشار إليه الخرقي من أن الإسلام يطرأ على الكفر، فيدل على تأخره، والكفر لا يطرأ على الإسلام، لعدم الإقرار عليه في دار الإسلام، وفرق الخرقي - وتبعه الشيرازي - بين الصورتين فاختار في الصورة الثانية تقديم بينة الإسلام لما تقدم، واختار في الأولى التعارض، لأن قول البينة: مات مسلما، ومات كافرا، ظاهره أنه مات ناطقا بذلك، وإذا يتعارضان، لأن النطق بالإسلام يعارضه النطق بالكفر، وسوى القاضي وجماعة بين الصورتين، وقالوا فيهما: إن(7/414)
عرف أصل دينه قدمت البينة الناقلة عنه، لأنها تشهد بزيادة، فهو كبينة الجرح مع بينة التعديل، وإن لم يعرف تعارضتا، وأبو محمد في المغني يوافق الخرقي في الصورة الثانية، ويوافق القاضي ومن دان بقوله في الأولى، ولو أرخ البينتان معرفتهما، فإن كان بتأريخين مختلفين عمل بالآخر منهما، لأنه ثبت بالبينة أنه انتقل عما كان عليه أولا، وإن اتحد التأريخ فقال أبو محمد: إن لم يعرف أصل دينه تعارضتا، وإن عرف قدم الناقلة عنه.
(تنبيه) لو قالت بينة: مات ناطقا بكلمة الإسلام، وبينة: مات ناطقا بكلمة الكفر. فقال الشيخان وغيرهما: تتعارضان سواء علم أصل دينه أو لم يعلم، ولم يذكروا خلافا، وشذ ابن عقيل في التذكرة فقال: إن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعي نفيه، لأنه يدعي أمرا طارئا، وحيث قيل بالتعارض هنا وفيما تقدم فهل يتساقطان، ويصيران كمن لا بينة لهما على ما تقدم - وهو الذي قاله الخرقي، جريا على قاعدته - أو يستعملان بقسمة أو قرعة كما تقدم، على الروايتين المتقدمتين، وفيه نظر إن عرف أن أصل دينه الإسلام، لأن بينة الكفر يلزم منها أن يكون قد ارتد، فيكون المنازع في النصف أو الكل أهل الفيء، وقد يقال: إن البينة ألغت اعتبار الأصل، والله أعلم.(7/415)
قال: ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت قبل ابني فورثناها، ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها. ولا بينة لأحدهما، حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين.
ش: إنما حلف كل واحد منهما والحال هذه على إبطال دعوى صاحبه، لأن كل واحد منهما ينكر ما ادعى عليه به، والمنكر عليه اليمين، وإنما كان ميراث الابن لأبيه، لأنه وارثه الحي المتيقن، وغيره مشكوك فيه، وإنما كان ميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين لأنهما اللذان يرثانها يقينا، وغيرهما مشكوك فيه، وهذا منصوص أحمد، واختيار أبي البركات، وقال ابن أبي موسى: يعين السابق بالقرعة، كما لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت ولدين، وأشكل السابق منهما عين بالقرعة، كذلك هنا: وقال أبو الخطاب ومن تبعه: يرث كل واحد منهما من صاحبه من تلاد ماله دون ما ورثه عن الميت معه، كما لو جهل الورثة موتهما، فيقدر أن المرأة ماتت أولا فورثها زوجها وابنها أرباعا، ثم يؤخذ ما ورثه الابن فيدفع لورثته الأحياء وهم الأب، فيجتمع له جميع مالها، ثم يقدر أن الابن(7/416)
مات أولا، فورثه أبواه أثلاثا، ثم يؤخذ ثلث الأم، ويقسم بين ورثتها الأحياء، وهم أخوها وزوجها نصفين، فلا يحصل للأخ إلا سدس مال الابن. انتهى.
وقال أبو بكر: يحتمل أن المال بينهما نصفان، قال: وهذا اختياري. قال: لأن كل رجلين ادعيا مالا، يمكن صدقهما فيه فهو بينهما، وظاهر هذا الذي قاله أن ماله ومالها بينهما نصفين، وأبطله أبو محمد، بأنه يفضي إلى أن يعطى الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقينا، لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه، وذكر احتمالات أخر لقوله كلها تخالف ظاهره، والله أعلم.
قال: ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا، وشهد شاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا، كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف، إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف التي شهدت بها الأخرى، فيأخذ الولي الألفين.
ش: المسألة الأولى شهدت البينة على ألف بعينها، يدل عليه ما ذكره في الثانية، وإنما كان على الولي المطالبة بذلك، لأنه(7/417)
المطالب باستيفاء حقوق الصبي والقيام بأمره، وقد ثبت له بالبينة حق، فيجب على الولي استيفاؤه، وإنما كان له أن يطالب أيهما شاء إذا شهدت البينة بألف معينة فلأنه قد ثبت بالبينة أن كل واحد أخذ الألف فإن كان باقيا في يده فواضح، وإن كان دفعه إلى الصبي لم يبرأ بذلك، لأنه ليس له قبض صحيح فقد فرط، وإن دفعه إلى أجنبي فكذلك، لأنه ليس له الدفع إليه، وإنما كان له أن يطالب بالألفين إذا شهدت البينة بألف غير معين، لأن كل واحد من الرجلين ثبت أنه أخذ ألفا، فيلزمه أداؤه، والله أعلم.
قال: ولو أن رجلين حربيين جاءانا من أرض الحرب مسلمين، فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين.
ش: لأن ذلك إقرار، ولا ضرر على أحد فيه فقبل، كالمسلمين إذا أقر كل واحد منهما بأخوة صاحبه بشرطه، وكالإقرار بالحقوق المالية، والله أعلم.
قال: ولو كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما، إلا أن تقوم بما ادعياه من الأخوة بينة من المسلمين، فيثبت بها النسب، فيورث كل(7/418)
واحد منهما من أخيه.
ش: يعني إذا كان الأخوان سبيا فادعيا ذلك قبل عتقهما فقد تقدم، وإن ادعياه بعد أن أعتقا وصدقهما المولى، ثبت نسبهما وإرثهما، لأن الحق للمولى، ومن له حق يقبل إقراره عليه، وإن لم يصدقهما وأقاما بذلك بينة من المسلمين ثبت النسب وتوارثا، لأن البينة تبين الحق وتظهره، وإن لم تكن لهما بينة معتبرة لم تقبل إقرارهما، حذارا من إضرار المولى بتفويت حقه من الولاء، وإذا يكون إرث كل منهما لمعتقه، وخرج أبو البركات قبول إقرارهما، ولعله مما إذا أقرا بمعتق لهما، فإنه يقبل وإن أسقطا به وارثا معروفا.
وقول الخرقي: بينة من المسلمين. يحترز به عن البينة من الكفار، فإنها لا تقبل في ذلك، وقد تقدم عن أبي حفص قبول قولهما والحال هذه، وحكاه أبو محمد هنا رواية، والله أعلم.
[الحكم لو افترق الزوجان وادعى كل منهما أن ما في البيت له]
قال: وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا، فادعى كل واحد منهما ما في البيت أنه له أو ورثته، حكم بما كان يصلح للرجال للرجل، وبما كان يصلح للنساء للمرأة، وبما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين.(7/419)
ش: ما يصلح للرجال كالعمائم، والأقبية، والطيالسة ونحو ذلك، وما يصلح للنساء كحليهن، ومغازلهن، ومقانعهن، وقمصهن ونحو ذلك، وما يصلح لهما كالمفارش والأواني ونحو ذلك، والذي قاله الخرقي هو المنصوص في رواية الجماعة، وسواء كانا حرين أو رقيقين، أو أحدهما، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو المشاهدة، اختلفا في حال الزوجية أو بعدها، أو اختلف ورثتهما لأن اليد لكل منهما على البيت، بدليل لو نازعهما غيرهما فإن القول قولهما، ثم إن لم تقم قرينة لأحدهما تساويا، وإن قامت قرينة لأحدهما ترجحت دعواه بها، وصار كما لو تنازعا دابة، أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها، ونحو ذلك، وقال القاضي: إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك، وإن كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة قسم بينهما نصفين، وإن كانت اليد المشاهدة عليه لأحدهما فهو له مع يمينه، وإن لم يصلح له، لأن اليد المشاهدة أقوى من القرينة.
وقوله: إذا كان الزوجان في البيت، يريد بذلك أن لهما يدا حكمية أو حسية، ويخرج بذلك ما لو لم تكن لهما يد حكمية، وتنازعا في عين، فإنه لا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له، بل(7/420)
إن كانت في أيديهما فهي بينهما، وإن كانت في يد أحدهما فهي له، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها، فمن قرع حلف واستحق كما تقدم، والله أعلم.
[حكم من كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال]
قال: ومن كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال، لم يأخذ منه مقدار حقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
ش: من كان له على أحد حق فمنعه، ولم يقدر على أخذه منه بالحاكم، وقدر له على مال، لم يكن له في الباطن أن يأخذ قدر حقه على المذهب المنصوص المشهور.
3879 - لما استدل به الخرقي، وهو ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وإذا لم يخن من خانه فمن لم يخنه أولى.(7/421)
3880 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وخرج أبو الخطاب قولا بالأخذ من قول أحمد في المرتهن: يركب ويحلب بقدر ما ينفق، والمرأة تأخذ مؤونتها، والبائع للسلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه، وخرجه أبو البركات من تنفيذ الوصي الوصية مما في يده إذا كتم الورثة بعض التركة، وهو أظهر في التخريج، وحكى ابن عقيل هذا القول عن المحدثين من الأصحاب.
3881 - وذلك لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن هند قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فجوز لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأخذ في مقابلة حقها بغير علمه.
3882 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا(7/422)
كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري وغيره، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرتهن ينفق ويأخذ عوض حقه وهو نفقة المركوب، ويجاب عن هذا بأن المرتهن لم يكن له حق قبل الراهن، وإنما الشارع جوز له المعاوضة عملا بالأصلح، لئلا يفوت الركوب على الراهن مجانا، وأما حديث هند فإن أحمد أجاب عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت، يعني أن جواز الأخذ لها كان دفعا للحرج والمشقة عنها، لأن حقها يتجدد كل يوم، فلو لم يجز ذلك لأفضى إلى المحاكمة في كل وقت والمخاصمة، وفي ذلك حرج عظيم، وأجاب أبو بكر بجواب ثان، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة، فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه، وفيه شيء، لأن المسألة وإن علم ثبوت الحق، ولأبي محمد (جواب ثالث) وهو أن للمرأة من التبسط في مال الزوج ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف، بخلاف الأجنبي (وجواب الرابع) وهو أن النفقة تراد لإحياء النفس، ولا سبيل إلى تركها، فلذلك جاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة، بخلاف الدين، ومن ثم قلنا: لو صارت(7/423)
النفقة ماضية لم يكن لها أخذها، وكذلك لو كان لها دين آخر، قلت: وهذا الفرع يرد جوابه الثالث، ويندفع هو أيضا بأنها لو وجدت ما تندفع به حاجتها من مالها جاز لها الأخذ، انتهى.
فعلى المذهب إن أخذ لزمه الرد مع البقاء، ووجب المثل أو القيمة مع التلف، ثم إن كان من جنس حقه تقاصا وتساقطا، وإلا لزمه غرمه (وعلى القول الآخر) إن وجد جنس حقه أخذ منه قدر حقه، ولا يأخذ من غيره مع قدرته عليه، وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه أخذ منه قيمة حقه، متحريا للعدل في ذلك، جزم به أبو البركات، وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما، وهو أحد احتمالي أبي محمد كما في الرهن (والاحتمال الثاني) ليس له ذلك، لإفضائه إلى بيع مال غيره من نفسه بغير إذن له في ذلك، وهذه المسألة تلقب بمسألة الظفر، وقول الخرقي: فمنعه منه، يخرج ما لم يمنعه، فإنه ليس له الأخذ اتفاقا، فإن أخذ لزمه الرد، وإن كان قدر الحق ومن جنسه، لأنه قد يكون للإنسان غرض في عين من أعيان ماله، فلا يجوز(7/424)
تملكها عليه بغير رضاه إلا لضرورة، وإن تلف ذلك صار دينا في ذمته، فإن كان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا، وكذلك لو لم يمنعه وقدر على الأخذ بالحاكم، فإنه لا يجوز له الأخذ، ولا بد أن يلحظ أن المنع ممنوع، إذ لو كان مباحا كما لو كان الدين مؤجلا، أو المدين معسرا فإنه لا يجوز الأخذ أيضا بلا خلاف، فإن أخذ رده مع البقاء، وعوضه مع التلف، ولا تقاصص هنا، لأن الدين لم يستحق أخذه في الحال، بخلاف التي قبلها، والله أعلم.(7/425)
[كتاب العتق]
ش: العتق الحرية، قال أهل اللغة: يقال منه عتق يعتق عتقا وعتقا. بفتح العين وكسرها، فهو عتيق وعاتق، قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عتق الفرس. إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ إذا طار واستقل، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء؛ قال: وإنما قيل لمن أعتق نسمة: أعتق رقبة - فخصت الرقبة بالعتق وإن تناول العتق الجميع - لأن ملك السيد عليه كحبل في رقبته، فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك.
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] .
3883 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق رقبة مسلمة - وفي رواية، مؤمنة - أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه» متفق عليه وأجمع المسلمون على مشروعية ذلك، وأنه قربة في الجملة، والله أعلم.(7/426)
[أحكام متفرقة في العتق] [الحكم لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه]
قال: وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معا، أو وكل نفسان للثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل، أو أعتق كل واحد منهم حقه وكان معسرا، فقد صار العبد كله حرا، وولاؤه بينهم أثلاثا.
ش: إذا كان العبد بين ثلاثة أو أكثر فأعتقوه معا، إما بأن حصل تلفظهم بعتقه في آن واحد، أو وكلوا غيرهم أو أحدهم في عتقه، أو علقوا عتقه على صفة فوجدت، فإنه يصير حرا، لأنه عتق من مالك.
3884 - فدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» الحديث، مفهومه نفوذ العتق فيما يملكه، وهذا - والله أعلم - اتفاق في الجملة، وإذا كان حرا كان الولاء بينهم أثلاثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وفي رواية: «إنما الولاء لمن أعتق»(7/427)
متفق عليه وكل منهم أعتق جزءا فثبت له عليه الولاء، وكذلك إذا أعتق الشركاء حقوقهم واحدا بعد واحد وهم معسرون، فإنه يعتق على كل واحد منهم حقه على المذهب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويكون له ولاء ما عتق عليه، إذ الولاء تابع للعتق كما تقدم.
واعلم أن من شرط صحة عتق المالك أن يكون مختارا، فلا يصح عتق المكره، كما لا يصح طلاقه.
[نعم إن أكره بحق - كما إذا وجب عليه ذلك بشرط في بيع، أو كفارة ونحو ذلك، فأجبره الحاكم عليه صح من جائز التبرع، فلا يصح من مجنون ولا طفل بلا ريب] ، ولا مميز على إحدى الروايتين، والرواية الثانية يصح، كما يصح طلاقه ووصيته على المذهب فيهما، وهو المجزوم به عند أبي محمد، ولا من محجور عليه لسفه أو فلس على أصح الروايتين، والله أعلم.
قال: ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله عليه.(7/428)
ش: أما عتق نصيبه فلما تقدم.
3885 - وأما عتق نصيب شريكه فلما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه، حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق» رواه الجماعة، وفي رواية «من أعتق شركا له في عبد عتق ما بقي في ماله، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد» رواه مسلم وغيره وهذا كالنص.
3886 - «وعن أبي المليح عن أبيه، أن رجلا من قومنا أعتق شقصا له من مملوك، فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: «ليس لله شريك» » رواه أحمد، وفي لفظ «هو حر كله، ليس لله شريك» رواه أحمد ولأبي داود معناه، وكلام(7/429)
الخرقي يشمل الشريك المسلم والكافر وهو اختيار أبي محمد، وذكره القاضي، لعموم من أعتق شركا له في عبد ولما علل به في حديث أبي المليح.
3887 - وقد روى النسائي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء، فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته، كما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء» فعلل بسوء المشاركة، وهذا موجود في الشريك الكافر، وفيه وجه آخر أنه لا يسري على الكافر، إذا أعتق نصيبه من مسلم، حذارا من أن يملك كافر مسلما، ورد بأن هذا ليس بضمان تمليك، وإنما هو ضمان إتلاف، وليس بجيد، إذ لو صح لم يكن له الولاء، والفرض أن له الولاء على ما عتق عليه، فدل على أنه يدخل في ملكه، ثم يعتق، لكن المحذور في ملك الكافر للمسلم غير وجود هنا، ولو قدر وجود محذور ما فهو مغمور بما حصل من مصلحة العتق.(7/430)
(تنبيه) حد اليسار أن يكون حين الإعتاق واجدا لقيمة الشقص فقط، على ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه وكلام غيره، قال: إذا كان يملك مبلغ ثمن حصة شريكه، وأورده ابن حمدان مذهبا، وحكى قولا آخر أن يكون ذلك فاضلا عن قوت يومه وليلته، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول، وهو الذي جزم به في المغني، إلا أنه اعتبر مع ذلك ما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية، من الكسوة والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، وقال: ذكره أبو بكر في التنبيه، ولم أر ذلك فيه، بل لفظه ما تقدم، ونظير ذلك صدقة الفطر، فإن أبا محمد في المغني اعتبر لوجوبها ذلك، ولم يعتبر القاضي وكثير من أصحابه وأبو البركات، وأبو محمد في كتابيه إلا قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، ثم ذكر ما في المغني انتهى، فإن أيسر ببعض القيمة عتق عليه بقدر ذلك، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وقيل: لا.
قال: وصار لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه.
ش: هذا فرع على أن العتق يسري عليه، وإذا يصير لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -(7/431)
وأعطي شركاؤه حصصهم أي قيمة حصصهم، ولأنه إما إتلاف معنوي فهو بمنزلة الحي، وإما تمليك بالقيمة، وإنما كان تجب القيمة وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت انتقال الملك، أو وقت الإتلاف على المعروف المشهور، المجزوم به لأبي محمد وغيره، وحكى الشيرازي قولا أنه وقت التقويم، وهو قياس القول الذي لنا في الغصب بأن الاعتبار بيوم المحاكمة، فإن اختلفا في القيمة رجع إلى قول أهل الخبرة، فإن تعذر بموت العبد أو غيبته ونحو ذلك فالقول قول المعتق، لأنه المنكر للزيادة، والأصل براءته منها، وكذلك القول قوله إن اختلفا في صناعة فيه، نعم إن كان العبد يحسنها في الحال، ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه، فالقول قول الشريك، لعلمنا بصدقه، وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه، فهل القول قول المعتق، لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، أو قول الشريك، لأن الأصل بقاء ما كان؟ على وجهين، وإن اختلفا في عيب كالسرقة والإباق، فالقول قول الشريك، إذ الأصل السلامة، فإن كان العيب موجودا واختلفا في حدوثه فهل القول قول الشريك أيضا، لأن الأصل البراءة منه حين العتق، أو قول المعتق، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان.(7/432)
(تنبيه) هل يقوم كاملا لا عتق فيه، أو وقد عتق بعضه؟ فيه قولان للعلماء، أصحهما الأول، وهو الذي قاله أبو العباس فيما أظن، لظاهر الحديث، ولأن حق الشريك إنما هو في نصف القيمة، لا قيمة النصف، بدليل ما لو أراد البيع، فإن الشريك يجبر على البيع معه، والله أعلم.
قال: فإن أعتقا بعد عتق الأول له، وقبل أخذ القيمة، لم يثبت لهما فيه عتق، لأنه قد صار حرا بعتق الأول.
ش: يعني أن العتق مع اليسار يسري بمجرد اللفظ، ولا يفتقر إلى أداء القيمة، وهذا هو المشهور من المذهب، لما تقدم من حديث ابن عمر وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الذي رواه النسائي، ولرواية مسلم المتقدمة في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وللبخاري في رواية فيه «من أعتق نصيبا له في مملوك، أو شركا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق» .
3888 - وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه من ماله»(7/433)
(وفي المذهب وجه آخر) قواه أبو العباس أنه لا يعتق إلا بعد أداء القيمة، لظاهر رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتفق عليها، فإنه قال فيها «فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد» وفي رواية متفق عليها أيضا «من أعتق عبدا بينه وبين آخر، قوم عليه في ماله قيمة عدل، ولا وكس ولا شطط، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا» وهذا أصح من رواية النسائي وغيره، وأصرح من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مع أن قوله: «فهو حر؛ أو فهو عتيق» يحمل على ما بعد القيمة، جمعا بين الأحاديث، إذ المقصود من جميعها واحد، وحمل مطلق ذلك على مقيده معتبر بلا ريب.
فعلى المذهب إذا أعتق الشريك بعد عتق الأول لم ينفذ عتقه، لأن عتق المعتق محال (وعلى الثاني) قال ابن حمدان: يحتمل وجهين، وظاهر هذا أنه لا يصح التصرف فيه بغير العتق.(7/434)
قال: وإذا أعتقه الأول وهو معسر، وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه، ونصيب شريكه، وكان له عليه ثلث قيمته، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول، وثلثاه للمعتق الثاني.
ش: قد تضمن كلام الخرقي أن عتق المعسر لا يسري لا عليه ولا على غيره، وإنما يعتق ما أعتقه فقط، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمجزوم به عند أكثر الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو أصح وأشهر من غيره.
3889 - وقد روى الدارقطني فيه ورق ما بقي وهذا نص إن ثبت.
3890 - «وعن إسماعيل بن أمية، عن أبيه عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان، فأعتق جده(7/435)
نصفه، فجاء العبد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعتق في عتقك، وترق في رقك» قال: فكان يخدم سيده حتى مات» . رواه أحمد. (وعن أحمد رواية أخرى) اختارها أبو الخطاب في الانتصار أن العبد يعتق كله، ويستسعى في قيمة باقية غير مشقوق عليه.
3891 - – لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق، غير مشقوق عليه» رواه الجماعة إلا النسائي، وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أيوب فقال فيه مرة: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، ومرة قال: فلا أدري أشيء قاله نافع أم هو من الحديث، وإذا لم يثبت أنه من لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا حجة(7/436)
فيه، وقد أجيب عن هذا بأن مالكا جزم به كما تقدم، وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ، كجرير بن حازم، وعبيد الله وغيرهما، والجازم مع زيادة علم، فيقدم على الشاك، وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد طعن فيه الحفاظ، قال الأثرم: ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه، وقال ابن المنذر: لا يصح. وقال أبو عبد الله: ليس في الاستسعاء شيء يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما همام وشعبة وهشام الدستوائي - فلم يذكروه، وحدث به معمر فلم يذكر فيه السعاية، قال أبو داود:(7/437)
وهمام أيضا لا يقوله. قلت: وهذا يدل على أن لفظ الاستسعاء شاذ، لمخالفته الجمهور، وقد ذكر همام أنه من قول قتادة وفتياه، ثم على تقدير صحته فالأول يترجح بعمل أهل المدينة، والجمهور عليه، وبأنه مخالف للظواهر والأصول، لإفضائه إلى منع المالك من التصرف في ملكه، وإحالته على سعاية قد لا يحصل منها شيء، وإدخال العبد في شيء قد لا يريده، وفي ذلك ضرر، ومعاوضة بغير رضا، وإنه منفي شرعا، ثم ذلك حصل بسبب جناية غيرهما، ومن الأنسب الأحرى أن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .(7/438)
إذا تقرر هذا فعلى المذهب إذا أعتق المعسر استقر العتق في نصيبه، ثم إذا أعتقه الثاني وهو موسر عتق نصيبه، وسرى إلى نصيب شريكه الثالث كما تقدم، وكان ثلث الولاء للمعتق الأول، لأن الذي أعتقه هو الثلث، وثلثاه للمعتق الثاني، لأن الذي حصل له بالعتق مباشرة وسراية الثلثان.
وعلى القول بالسعاية هل يعتق في الحال، وهو ظاهر كلام الأكثرين، وأورده ابن حمدان مذهبا، أو لا يعتق حتى يؤدي السعاية، وهو اختيار أبي الخطاب في الانتصار؟ فيه وجهان، (فعلى الأول) يصير حكمه حكم الأحرار، وتبقى قيمته في ذمته، يستسعى فيها قدر طاقته، ولا يرجع على أحد، ولا يصح العتق فيه بعد، فإن مات مات حرا، فإن كان في يده مال كان لسيده بقية السعاية، وما بقي لورثته، (وعلى الثاني) حكمه حكم المكاتب، يملك اكتسابه ومنافعه، ويصح للشريك عتقه، وإن مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل الذي له، لكن تكون كتابته لازمة، والله أعلم.
قال: ولو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه، وكان ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق، وثلثاه للمعتق الأول، والمعتق الثاني بالولاء، إذا لم يكن له وارث أحق منهما.(7/439)
ش: هذا أيضا فرع على المذهب المتقدم، فإن المعتق الثاني إذا كان أيضا معسرا عتق نصيبه فقط، وبقي ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإذا مات العبد وترك مالا كان ثلثه للذي لم يعتق بملكه لثلثه، وثلثاه ميراث - لأنه ملكهما بجزئيه الحرين - للمعتقين بالولاء، إن لم يكن له وارث بفرض أو تعصيب يقدم عليهما، فإن كان له وارث يرث البعض - كأم مثلا أو زوجة - فإنها تأخذ فرضها، والباقي بين المعتقين إن لم يكن عصبة مناسب، وهذا كله إن لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته أو هايأه فإذا لا حق له في تركته، لأنها حصلت بجزئه الحر.
[الحكم لو كان العبد بين اثنين فادعى كلاهما العتق]
قال: وإذا كان العبد بين نفسين، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه، فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه.
ش: لأنها دعوى مجردة، لا تتضمن حقا، لما تقدم من أن عتق المعسر لا يسري، وهذا بخلاف ما لو كانا موسرين، فإن دعوى كل واحد مهما تضمنت أنه يستحق على شريكه نصف القيمة، وإذا لم يقبل قول كل واحد منهما على الآخر، لم يعتق من العبد شيء، والله أعلم.
قال: فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا.
ش: إذا كان الشريكان عدلين، فللعبد أن يحلف مع كل(7/440)
واحد منهما إن ادعى ذلك، ويصير كله حرا، لأن كل واحد منهما يشهد بعتق نصفه، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا لذلك أيضا، وهذا من الخرقي بناء على أن العتق يقبل فيه شاهد ويمين المدعي، وقد تقدم ذلك، وإن لم يكونا عدلين فله أن يحلف كل واحد منهما أنه ما أعتق نصفه، والله أعلم.
قال: وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما بحريته، وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن لم تكن له بينة فيمين كل واحد منهما لشريكه.
ش: إذا كان الشريكان موسرين وادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه، فقد صار العبد حرا، لتضمن دعواهما ذلك، إذ عتق الموسر يسري، فكل منهما حقيقة دعواه حرية العبد، وأنه يستحق على شريكه نصف قيمته، لأنه يدعي أن شريكه أعتق نصيبه، فسرى إلى حقه، فيؤاخذ كل منهما بإقراره، ويحكم بحرية العبد، ويصير كل منهما مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن كان ثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن فيمين كل واحد منهما مستحقة لشريكه، عليه أن يحلف له، لأنه منكر لما ادعى عليه، واليمين على المنكر لما تقدم.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحكم الولاء في هاتين الصورتين،(7/441)
وهما ما إذا كانا موسرين أو معسرين عدلين، فحلف العبد معهما أو مع أحدهما، والحكم أنه لا ولاء عليه، لأن أحدا لا يدعيه، بل دعوى كل واحد منهما تضمنت إنكاره، ولا يثبت لأحد حق ينكره، وكذلك إذا ادعى العبد العتق، وأنكره السيد، وقامت عليه البينة، فإن عاد من نسبت إليه عتاقته فاعترف بذلك ثبت له الولاء، لأنه لا مستحق له سواه قاله أبو محمد.
وقد بقي من تقسيم دعوى الشريكين إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا، والحكم أن نصيب المعسر يعتق وحده مجانا، لتضمن دعواه أن نصيبه عتق بإعتاق شريكه الموسر، ولا يعتق نصيب الموسر، لأن دعواه أن المعسر أعتق، والحكم أن عتقه لا يسري على ما تقرر، ولا تقبل شهادة المعسر عليه، لأنه يجر بها نفعا، لكونها توجب عليه نصف القيمة، نعم له عليه اليمين لضمان السراية، فإن نكل قضي عليه، وإن رد اليمين وقلنا بذلك فحلف المعسر أخذ قيمة حقه، ولم يعتق حق الموسر باليمين المردودة، لأنه لم يوجد منه إقرار ولا ما يقوم مقامه وهو النكول، ولا ولاء للمعسر في نصيبه، لأنه لا يدعيه، فإن عاد المعسر فأعتق نصيبه وادعاه ثبت له، قاله أبو محمد، وفيه(7/442)
شيء، لأن دعواه أولا تبطل دعواه ثانيا، وكذلك إن عاد الموسر فأقر بإعتاق نصيبه ثبت له الولاء، وغرم نصيب المعسر، والله أعلم.
قال: وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما، وهما متساويان في القيمة، فقال أحد الابنين: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، إن لم يجز الابنان عتقه كاملا، وكان الآخر عبدا، وإن وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه، وكان لمن أقرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا.
ش: هذه المسألة محمولة على حالة يكون التبرع فيها من الثلث، كالعتق في مرض الموت ونحو ذلك، إذ لو لم يكن كذلك لنفذ العتق في الكل، ولم يقف على إجازة الورثة، وقرينة هذا ذكر الإجازة في الورثة.
إذا تقرر أن ذلك في حالة العتق فيها من الثلث فلا يخلو ذلك من أربعة أحوال (أحدها) أن يعينا العتق في أحدهما،(7/443)
فيعتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كاملا، لأن ذلك ثلث جميع ماله، وهذا واضح (الثاني) عين كل واحد منهما العتق في غير الذي عينه أخوه، فيعتق من كل واحد ثلثه، لأن مجرد قول الشخص إنما يقبل في حق نفسه دون حق غيره، وحق كل واحد منهما نصف العبدين، فيقبل قوله في حقه من الذي عينه وهو ثلثاه، وذلك هو الثلث، ويبقى له نصف ثلثه وهو السدس، ونصف العبد الآخر (الثالث) قال أحدهما: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. وهي صورة الكتاب، فإنه يقرع بينهما لتبيين ما حصل فيه الإبهام، فإن وقعت على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، لأن بخروج القرعة عليه كأنه قد حصل اتفاق الابنين على عتقه، وإذا يعتق ثلثاه، إلا أن يجيزا عتقه كاملا فيعتق جميعه، لأن ذلك محض حقهما، ويبقى العبد الآخر على الرق، لأنه قد تبين أنه لم يقع في عتق، وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل منهما عبدا كما تقدم، يعتق من الذي خرجت عليه القرعة ثلثه، لأنه حق الذي قال: لا أدري. وله - وهو الذي أقرعنا بسبب قوله - سدسه، ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصف الذي خرجت عليه القرعة، لأنه ينكر العتق فيه رأسا وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، لأن ثلثه عتق بإقراره كما تقدم، وإذا آل(7/444)
الأمر إلى أن صار ثلث كل واحد منهما حرا (الحال الرابع) أن يقولا: أعتق أحدهما ولا ندري من منهما. فإنه يقرع بين العبدين، فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كله، وبقي الآخر على الرق، والفطن لا يخفى عليه جميع الأحوال من مسألة الكتاب، والله أعلم.
قال: وإذا كان لرجل نصف عبد، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتقه صاحب النصف وصاحب السدس معا، وكانا موسرين، عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه نصفين، وكان ولاؤه بينهما أثلاثا، لصاحب النصف ثلثاه، ولصاحب السدس ثلثه.
ش: ملخصه أن العتق إذا سرى على اثنين من الشركاء فأكثر بعتقهما معا هل يكون على عدد رؤوسهم - وهو المذهب المجزوم به بلا ريب - لأن العتق بمنزلة الإتلاف، وقد وجد منهما فيتساويان في ضمانه، كما لو جرحه أحدهما جرحا، والآخر أكثر منه، أو على قدر الملكين - وهو احتمال لأبي الخطاب - لأن ذلك حصل بسبب الملك، فقدر بقدره كالنفقة؟ على قولين، (فعلى المذهب) إذا أعتق صاحب النصف وصاحب السدس والحال ما تقدم، عتق عليهما نصيب(7/445)
صاحب الثلث نصفين، فيحصل لصاحب النصف الثلثان، النصف بالمباشرة، والسدس بالسراية، ولصاحب السدس الثلث، نصفه مباشرة، ونصفه سراية، (وعلى الاحتمال) الآخر يكون الثلث بينهما أرباعا، لصاحب النصف نصفه، ونصف نصفه، وذلك سدس ونصف سدس، وذلك ربع، فيستقر عليه عتق ثلاثة أرباع العبد، ولصاحب السدس ربع الثلث، وهو نصف السدس، فيستقر عليه عتق ربعه، ولو كان المعتق صاحب النصف وصاحب الثلث، لكان (على المذهب) المعتق الربع، لصاحب النصف الثلث والربع، ولصاحب الثلث الربع والسدس، (وعلى الاحتمال) السدس بينهما أخماسا، لصاحب النصف ثلاثة أخماسه، ولصاحب الثلث خمساه، فالعبد على ثلاثين سهما، لصاحب النصف ثمانية عشر، وذلك نصفه ونصف خمسه، ولصاحب الثلث اثنا عشر، وذلك خمساه، ولو كان المعتق صاحب السدس والثلث لكان (على المذهب) لصاحب السدس ربع وسدس، ولصاحب الثلث ثلث وربع، (وعلى الاحتمال) النصف مقسوم بينهما على ثلاثة، فيستقر لصاحب السدس الثلث ولصاحب الثلث الثلثان والضمان والولاء تابعان للسراية.
وقول الخرقي: معا. قد تقدم ثم تصوير ذلك بأن يتفق تلفظهما بالعتق في آن واحد، أو يعلقاه على صفة واحدة، أو يوكلا شخصا يعتق عنهما، فلو سبق أحدهما بالعتق لعتق(7/446)
عليه كله بشرطه كما تقدم، وقوله: وهما موسران، لأنهما لو كانا معسرين لم يسر كما تقدم، وإن كان أحدهما موسرا فقط اختص بالسراية.
[وطء الجارية المشتركة]
قال: وإذا كانت الأمة نفسين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ به الحد.
ش: قد تضمن هذا الكلام تحريم وطء الجارية المشتركة وهذا والله أعلم اتفاق، وقد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] إلى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] والوطء والحال هذه قد صادف ملك الغير بلا نكاح، فإذا وطئ الشريك أثم بلا ريب، (ولا حد عليه) كما تضمنه أيضا كلام الخرقي، وهو قول العامة، لأنه وطء صادف ملكا له، أشبه ما لو وطئ زوجته الحائض، وكما لو سرق عينا له بعضها، ويعزر اتفاقا، لإتيانه، المعصية، ولا يبلغ به الحد، لأنه لو بلغ به الحد لصار حدا.
وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يزاد على عشر جلدات وقد تقدم ذلك مستوفى في التعزيرات على ما يسره الله سبحانه، فلينظر ثم، ولا فرق في هذا كله بين أن يحبلها أو لا يحبلها، وإنما ذكر الإحبال قيدا فيما يأتي بعده والله أعلم.
قال: وضمن نصف قيمته لشريكه، وصارت أم ولد له.(7/447)
ش: يعني الشريك المحبل تصير الأمة المشتركة أم ولد له، لأنه وطء صادف ملكا له، فأشبه ما لو كانت خالصة له، ولأن العتق يسري إلى ملك الغير، فلأن يسري الاستيلاد أولى لقوته، بدليل صحته من المجنون، ونفوذه في مرض الموت، بخلاف العتق، فإنه إنما ينفذ في المرض من الثلث، ولا يصح من مجنون، وإذا صارت أم ولد له ضمن نصف قيمتها لشريكه، لأنه أتلف ذلك عليه معنى، أشبه ما لو أتلفه عليه حسا.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه والحال هذه شيء من المهر، ولا من قيمة الولد، وهذا إحدى الروايات، وظاهر كلام أبي الخطاب، وأبي محمد في المقنع، وعلله القاضي في تعليقه في كتاب الغصب بأن زوال ملك الشريك حصل بفعل الله، وهو انعقاد الولد، وهذا يقتضي أن لا يجب نصف قيمة الأمة، وليس بشيء، وقد يعلل بأن المهر إنما يستقر بالنزع، وعند النزع كانت مملوكة، لأنها انتقلت إليه بالعلوق، والولد لا قيمة له إذا (والرواية الثانية) لا يلزمه للولد شيء لما تقدم، ويلزمه نصف مهرها، لمصادفة الوطء لملك الغير، والانتقال حصل بعد ذلك، وقد يؤخذ من هاتين خلاف المهر هل (يستقر) بالإيلاج أو (لا يستقر) إلا بالنزع (والرواية(7/448)
الثالثة) يلزمه نصف مهرها لما تقدم، ونصف قيمة الولد، لأنه بفعله منع انخلاقه على ملك الشريك، أشبه ولد المغرور، وقال القاضي إن وضعته بعد التقويم فلا شيء فيه، لأنها وضعته في ملكه، وإن وضعته قبل ذلك فالروايتان، واختار اللزوم، واعلم أن الإحبال ليس بكاف في ما تقدم، بل لا بد من وضع ما تصير به أم ولد كما سيأتي، وقد أشعر بذلك قوله صارت أم ولد له وولده حر، والله أعلم.
قال: وولده حر.
ش: لأنه وطء في محل له فيه ملك، أشبه ما لو وطئ زوجته في الحيض، أو في الإحرام ونحو ذلك، والله أعلم.
قال: فإن كان معسرا كان في ذمته نصف قيمتها.
ش: لا فرق في سراية الاستيلاد بين الموسر والمعسر على منصوص أحمد، واختيار الخرقي والشيخين وغيرهما، لما تقدم قبل، وعلى هذا يبقى في ذمته نصف قيمة الجارية، لأن الله سبحانه أوجب إنظار المعسر بقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال القاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية: لا يسري الاستيلاد مع الإعسار كالمباشرة،(7/449)
وحذارا من إضرار الشريك بتأخير حقه، وعلى هذا هل يكون الولد كله حرا، تغليبا للحرية - وهو ظاهر كلام الأكثرين - أو نصفه حرا ونصفه رقيقا كأمه؟ فيه احتمالان، ذكرهما في المغني.
قال: وإن لم تحبل منه فعليه نصف مهر مثلها، وهي على ملكهما.
ش: أما وجوب نصف مهر المثل والحال هذه فلأن منفعة البضع مشتركة بينه وبين شريكه، وقد استوفاها، فوجب عليه ما يقابل نصيب شريكه، كما لو فعل ذلك أجنبي، وأما كونها والحال هذه على ملكهما لأن المقتضي والحال هذه لتزلزل ملكهما الاستيلاد، ولم يوجد، والله أعلم.
[حكم ملك من يعتق عليه]
قال: وإذا ملك سهما من بعض من يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله، وكان لشريكه عليه قيمة حقه منه، وإن كان معسرا لم يعتق عليه منه إلا مقدار ما ملك، وإذا ملك بعضه بالميراث لم يعتق عليه إلا مقدار ما ملك منه، موسرا كان أو معسرا.(7/450)
ش: إذا ملك سهما ممن يعتق عليه - وهو ذو الرحم المحرم - فلا يخلو إما أن يكون بغير اختياره كالميراث، أو باختياره كالبيع والهبة والاغتنام ونحو ذلك، وفي كليهما يعتق السهم الذي ملكه، لأن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به، إذا وجد في البعض عتق به، كالإعتاق بالقول، ثم ينظر فإن كان معسرا استقر العتق في ذلك السهم، ولم يسر على المذهب، كما تقدم في المباشرة، وإن كان موسرا والتملك باختياره سرى عليه في نصيب شريكه، لأنه تسبب في العتق اختيارا منه، فسرى عليه كما لو وكل في عتق بعض عبد يملكه، وإن كان التملك بغير اختياره لم يسر عليه، على المشهور عند الأصحاب، والمجزوم به للقاضي في الجامع، وأبي محمد في الكافي وغيرهما، لأنه لم يتسبب في الإعتاق، إنما حصل بغير اختياره، ومنصوص أحمد في رواية المروذي أنه يسري عليه والحال هذه، لأنه عبد عتق عليه بعضه وهو موسر، فسرى إلى باقيه، كما لو أوصي له به فقبله، ولم يذكر القاضي في الروايتين بالأول نصا، وحيث سرى ضمن لشريكه قيمة حقه منه، لإتلاف ذلك عليه.
وقول الخرقي: من بعض. إشعار لكون السهم قليلا، ونبه بذلك على الكثير، وهو كذلك.
(تنبيه) : حكم إرث الصبي والمجنون حكم إرث غيرهما أما لو وهب لهما أو وصى لهما بسهم ممن يعتق عليهما، فهل يسري(7/451)
عليهما مع يسارهما إن قبله الولي، لكونه قائما مقامهما، أو لا يسري لدخوله في ملكهما بغير اختيارهما؟ فيه وجهان، وعليهما يتفرع جواز قبول الولي وعدمه، وحيث جاز له القبول فشرطه أن يكونا ممن لا تلزمه النفقة، وحيث منع من القبول فقبل فهل يصح ويلزمه الغرامة، أو لا يصح رأسا؟ فيه احتمالان.
[الإعتاق في مرض الموت]
قال: وإذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته، أو دبرهم، أو دبر أحدهم. وأوصى بعتق الآخرين، ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم، لتساوي قيمتهم، أقرع بينهم بسهم حرية، وسهمي رق، فمن وقع له سهم حرية عتق دون صاحبيه.
ش: أما كونه يقرع بينهم والحال هذه:
3892 - فلما «روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا» ، رواه الجماعة إلا البخاري.(7/452)
3893 - «وعن أبي زيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتق اثنين وأرق أربعة» ، رواه أحمد وأبو داود بمعناه، وقال فيه: «لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين» ولأنه حق في تفريقه ضرر، فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار مع الطلب إجماعا، وبذلك يبطل قول الخصم: إنه مخالف للقياس، ثم لو سلم ذلك فالحجة في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(7/453)
مطلقا، ويدل على دخول القرعة في المشتبهات في الجملة قوله سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] وقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ولا يعترض على هذا بأنه منسوخ، لعدم جوازه في شريعتنا، لأنا نقول: دل ذلك على شيئين، مشروعية القرعة مطلقا في الكفالة، وإلقاء واحد من الجماعة في اليم، وامتناع القرعة في دين لا يدل على عدم مشروعية القرعة مطلقا، كيف وقد حصل تواتر معنوي على مشروعيتها، قال أحمد: في القرعة خمس سنن:
3894 - «أقرع بين نسائه، وأقرع بين ستة مملوكين» .
3895 - وقال لرجلين: «استهما.
3896 - وقال: «مثل القائم بحدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة» .
3897 - وقال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا(7/454)
عليه» . انتهى.
3898 - ولما تشاح الناس في الأذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد، وهذا إجماع من الصحابة على مشروعية القرعة، وصفة القرعة أن يقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن خرج له سهم الحرية عتق دون الآخرين، فيكتب ثلاث رقاع، في واحدة حرية، وفي اثنتين رق، وتترك في ثلاث بنادق شمع أو طين، وتغطى بثوب، ويقال لمن لم يحضر: أخرج بندقة لهذا، فإن خرج له رقعة حرية عتق، ورق الآخران، وإن خرجت رقعة رق رق، وأخرجت أخرى على آخر، فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الثالث، وإن خرجت رقعة رق رق، وتعين عتق الثالث، لانحصار العتق في الثلاثة، ولا تتعين هذه الصفة، بل كيف ما أقرع جاز، وهذا في الصورة التي ذكرها الخرقي، وهي إذا استوت قيمتهم، أما إن اختلفت فلذلك صور ليس هذا موضع(7/455)
بيانها. واعلم أنه يستفاد من كلام الخرقي مسائل غير ما استفيد منه بالنص وهو ما تقدم (إحداها) أن قوله: إذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته. يشمل ما إذا أعتقهم دفعة واحدة أو دفعات، بل لو حمل على أن مراده أعتقهم في دفعات لكان أولى، لأنه قال بعد: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر، أو كلكم حر. ومات فكذلك؛ فصرح بما إذا أعتقهم، فلو لم يحمل هذا على أنه أعتقهم في دفعات أو على العموم لكان تكرارا وهو خلاف الظاهر، لا سيما في هذا المحل، فإنه يبعد جدا، لعدم الفصل بين المسألتين، ويعلم من هذا أن مذهب الخرقي أنه يسوي في العطايا بين متقدمها ومتأخرها، وهذا إحدى الروايات، لما تقدم من حديثي جابر وأبي زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل هل أعتقهم بكلمة أو بكلمات (والرواية الثانية) أن يقدم الأول فالأول، إلى أن يستوفي الثلث، وهي المذهب عند الأصحاب، حتى إن أبا محمد جزم بها، وحمل كلام الخرقي على العتق دفعة واحدة، ويلزم منه المحذور السابق (والرواية الثالثة) إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي بين متقدمها ومتأخرها. انتهى. (الثانية) أن قوله: في مرض(7/456)
موته. يخرج ما إذا أعتقهم في صحته، فإن عتقهم ينفذ وإن كان عليه دين يستغرق قيمتهم، على المذهب المعروف، ما لم يكن محجورا عليه بفلس أو سفه، فإن في نفوذ عتقه خلافا مشهورا (الثالثة) دل كلامه على أن العتق في مرض الموت من الثلث، ولا خلاف في ذلك فيما نعلمه، وقد شهد له حديث جابر وأبي زيد، وأن الوصية أيضا بالعتق من الثلث، وهذا واضح أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم» الحديث. وكذلك التدبير أيضا، وهو المذهب بلا ريب، لأن التدبير عتق معلق بالموت فهو كالوصية، (وعن أحمد) رواية أخرى أن التدبير في الصحة معتبر من رأس المال، نظرا لحالته الراهنة. (الرابعة) إطلاقه هنا يقتضي أن الوصايا إذا وقعت دفعات سوي بين متقدمها ومتأخرها، وهذا هو المذهب هنا بلا ريب، عكس المذهب في العطايا، وفيه رواية أخرى إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي كرواية ثم، ولا نعلم هنا رواية بتقديم الأسبق فالأسبق.(7/457)
(الخامسة) صريح كلامه التسوية بين التدبير والوصية بالعتق، وذلك لأنهما اجتمعا في كونهما عتقا بعد الموت، ولأبي محمد احتمال بتقديم التدبير، لأن الحرية تقع فيه بالموت، والوصية تقف فيه على الإعتاق بعده. انتهى. ويقوى هذا الاحتمال أو يتعين إن قيل: إن كان التدبير في الصحة وقلنا: إنه من رأس المال.
(السادسة) قوله: ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم لتساوي قيمتهم. يخرج به ما إذا خرج الجميع من الثلث فإنا نعتقهم، ولو لم يخرج منهم شيء لدين على الميت ونحو ذلك فإنا لا نعتق منهم شيئا.
قال: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر. أو كلكم حر. ومات فكذلك.
ش: يعني حكم ذلك حكم ما تقدم، وقد تقدم التنبيه على صورة: كلكم حر. أما أحدكم حر إذا لم ينو معينا فإنه يقرع بينهم، إذ لم يكن عليه دين يستغرقهم، فمن خرجت عليه القرعة عتق إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه قدر الثلث، وإن نوى معينا تعين العتق فيه، وليس للمعتق التعيين إذا لم ينوه على المذهب، والله أعلم.(7/458)
قال: وإذا ملك نصف عبد فدبره، أو أعتقه في مرض موته، فعتق بموته، وكان ثلث ماله يفي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حرا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى لا يعتق إلا حصته وإن حمل ثلث ماله حصة شريكه.
ش: الرواية الأولى اختيار أبي الخطاب في خلافه، إلا أنه إنما صرح بذلك في العتق، وذلك لأن تصرف المريض في ثلث ماله كتصرف الصحيح في الجميع، ولو أعتق الصحيح الموسر سرى في كل ماله، فكذلك يسري في ثلثه (والثانية) اختيار الشيرازي، والشريف، وحكاه عن شيخه، لأن حق الورثة تعلق بماله إلا ما استثنيناه من الثلث بتصرفه فيه، وفي المذهب (رواية ثالثة) يسري في العتق لما تقدم، إذ العتق يقع في حال الحياة، ولا يسري في التدبير، لأن ملكه يزول بموته، فلم يبق له شيء يوفي منه، وهذه اختيار القاضي في الروايتين، إلا أنه لم يصرح برواية إنما قال: يجب أن يكون الصحيح من الروايتين أنه إذا أعتق في مرضه قوم، وإذا أوصى لم يقوم، واعلم أن حكم الوصية يعتق بذلك حكم تدبيره، صرح به القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب وغيرهما.
وقول الخرقي: فعتق بموته. أي بسبب موته، إشعار منه بأن العتق في المرض والتدبير والوصية جميع ذلك معتبر بالموت، إن(7/459)
كان له مال يخرج له من ثلثه نفذ، وإلا نفذ منه قدر الثلث، وإن لم يكن له مال، أو كان له لكن عليه دين يستغرقه، لم ينفذ منه شيء، وقوله: وكان ثلث ماله يفي بقيمة نصف الشريك، يحترز عما إذا لم يف بقيمة نصيب الشريك، وتحته صورتان (إحداهما) لا يفي بشيء منه، فهذا لا يعتق إلا نصيبه، قال أبو محمد: بلا خلاف نعلمه، إلا قول من يقول بالسعاية (الثانية) وفى ببعضه، فينبغي أن يتخرج على العتق والحال هذه في حال الصحة، إن قلنا: يسري في ذلك القدر على المنصوص. خرج هنا الخلاف السابق، وإن قلنا: لا يسري ثم فهاهنا أولى.
ومقتضى كلام الخرقي أنه بمجرد التدبير لا يسري عليه، وهذا هو المذهب المشهور المجزوم به للقاضي وغيره، إذ التدبير إما تعليق للعتق بصفة أو وصية، وكلاهما لا يسري، وحكى أبو الخطاب والشيخان وجها، وابن حمدان في رعايتيه رواية بالسراية، فيصير كله مدبرا، ويغرم لشريكه قيمة حقه منه، لأنه سبب يوجب العتق بالموت، فسرى كالاستيلاد، وهذا التعليل يوجب السراية ولو مع الإعسار، كالاستيلاد على(7/460)
المنصوص، وهو مقتضى إطلاق أبي الخطاب وأبي محمد في المقنع، وابن حمدان، وهو مشكل على أبي الخطاب، لأن الأصل عنده إنما يسري مع اليسار، فكذلك الفرع، وقيد ذلك أبو محمد في المغني وأبو البركات باليسار، والله أعلم.
قال: وكذلك إذا دبر بعضه وهو مالك لكله.
ش: يعني فيه الروايتان، هل يسري في بقيته إن وفى ثلثه به، لما تقدم من أنه غير محجور عليه في الثلث، أو لا يسري، لما تقدم من أن ملكه يزول بالموت؟ ولم يتعرض الخرقي لما إذا أعتق بعضه في مرض موته وهو مالك لكله، وفيه أيضا الخلاف السابق.
قال: ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بعناهم في دينه.
ش: وهذا راجع لما تقدم من قوله: وإذا كان له ثلاثة أعبد، فأعتقهم في مرض موته. وهذا الذي قاله الخرقي هو المذهب بلا ريب، قطع به غير واحد من الأصحاب، لأنه تبرع في المرض بما يعتبر من الثلث، فقدم الدين عليه كالهبة، ولأن العتق والحال هذه بمنزلة الوصية، والدين مقدم على الوصية.
3899 - «وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الدين قبل الوصية» . ذكره البخاري تعليقا، وهو بعض حديث رواه أحمد(7/461)
والترمذي وابن ماجه وحكى أبو الخطاب في كتابيه رواية يعتق ثلثهم والحال هذه، فعلى الأولى إن اختار الورثة إمضاء العتق وقضاء الدين فهل لهم ذلك؟ فيه وجهان في المغني، واحتمالان في الكافي.
وقيل: مبناهما إذا تصرف الورثة في التركة، وعلى الميت دين، وقضي الدين هل ينفذ؟ فيه وجهان، والخرقي صور المسألة فيما إذا ظهر عليه دين، فلو كان الدين ظاهرا فكلام أبي الخطاب يقتضي جريان الخلاف فيه أيضا.
قال: ولو أعتقهم وهم ثلاثة فأعتقنا منهم واحدا لعجز ثلثه عن أكثر منه، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم.
ش: يعني أن الاعتبار بما في نفس الأمر، لا بما يظهر لنا، كما في المسألة التي قبلها، إذ خفاء صحة التصرف علينا لا يمنع صحته إذا وجد شرطه، وقد وجد، إذ الإنسان له أن(7/462)
يتصرف في ثلث ماله عند موته بما شاء، وقوله: عتق من أرق منهم، أي تبينا عتقه حين خروجه من الثلث، وحكم التدبير والوصية كذلك.
[حكم إضافة العتق لوقت]
قال: ومن قال لعبده: أنت حر في وقت سماه، لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت.
ش: يصح تعليق العتق على شرط، كقدوم زيد، وأول رجب، ونحو ذلك.
3900 - لأنه يروى عن أبي ذر أنه قال لعبده: أنت عتيق إلى رأس الحول. ولا يعرف له مخالف، ولأنه عتق بصفة فصح كالتدبير، أو إزالة فصح على ذلك كالطلاق، إذا تقرر هذا فلا يعتق حتى يجيء الشرط، لأن المعلق على شرط عدم عند عدمه، ويعتق عند وجوده، لوجود السبب، مع انتفاء المانع، نعم شرط عتقه أن يوجد الشرط وهو في ملكه، فلو كان قد خرج من ملكه لم يعتق، إذ «لا عتق لابن آدم فيما لا يملك» كما شهد به النص.
قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ(7/463)
بها، وكان نفقتها عليه، فإذا مات عتقت.
ش: هذه المسألة قد ذكرها هنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكرها أيضا في أحكام أمهات الأولاد، فلنؤخر ذكرها إلى ثم، فإنه أليق بها، والله أعلم.
قال: وإذا قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت اثنين أقرع بينهما، فمن أصابته القرعة عتق إذا أشكل أولهما خروجا.
ش: وذلك لأن أحدهما استحق العتق في نفس الأمر، ولم يعلم عينه، فوجب إخراجه بالقرعة، كما لو قال لعبديه: أحدكما حر. ولو علم أولهما خروجا حكم بعتقه وحده من غير قرعة، لوجود الشرط، إذ هو أول ولد ولدته، وهذا بشرط أن تلدهما حيين، أما إن ولدت الأول ميتا، والثاني حيا ففيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي محمد، قطع به في المقنع، وصححه في المغني مع أنه لم يذكر ذلك رواية، إنما ذكره عن الشافعي وغيره - لا يعتق منهما شيء، إذ شرط العتق وجد في الميت، إذ هو أول ولد ولدته، وليس بمحل للعتق، فانحلت اليمين به (والرواية الثانية) - وبها جزم القاضي في الجامع(7/464)
الصغير، وكثير من أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - يعتق الحي منهما لأن القصد من اليمين التعليق على ولد يصح العتق فيه، وذلك بأن يكون حيا، فالحياة مشروطة فيه، فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر. والله أعلم.
قال: وإذا قال العبد لرجل: اشترني من سيدي بهذا المال، وأعتقني. ففعل فقد صار العبد حرا، وعلى المشتري أن يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به، وولاؤه للذي اشتراه، إلا أن يكون قال له. بعني بهذا المال، فيكون الشراء والعتق باطلا، ويكون السيد قد أخذ ماله أخذه.
ش: ملخصه أن شراء الأجنبي للعبد والحال هذه لا يخلو إما أن يكون في الذمة أو بعين المال الذي دفعه له العبد، فإن كان في الذمة فالشراء صحيح، لأن تصرف وجد من أهله في محله، من غير مانع، فصح كما لو اشترى غيره، فإذا أعتقه إذا نفذ عتقه، لأن عتق من مالك، ثم على المشتري أن يؤدي إلى البائع ما اشتراه به، للزوم ذلك له بالبيع، فإن كان قد نقد له المال الذي دفعه العبد وجب رده، لأنه ملك لسيده، والولاء للمشتري، لأنه المعتق، وإن كان الشراء قد وقع بعين المال(7/465)
الذي دفعه العبد فالشراء باطل على المذهب، بناء على أن العقد والحال هذه لا يقف على الإجازة، وأن النقود تتعين بالتعيين، ولبيان هذين الأصلين موضع آخر، أما إن قيل يوقف نحو هذا على الإجازة، فقد يقال: إن إجازة السيد إذا تضمنت تمليك العبد هذا المال وإذنه في شراء نفسه منه به، وفي صحة هذا شيء، فإن قيل بصحته فالولاء للسيد لأنه المعتق، ولو قيل إن النقود لا تتعين بالتعيين فهو كما لو اشترى في ذمته على ما تقدم، وهذا البناء الثاني [بناه أبو محمد وابن حمدان، ولم يتعرض للأول، والله سبحانه أعلم] .(7/466)
كتاب التدبير
ش: التدبير مصدر دبر تدبيرا إذا علق العتق بالموت، سمي بذلك لأنه يعتق بعدما يدبر سيده، والممات دبر الحياة، قال ابن عقيل: هو مشتق من إدباره من الدنيا، انتهى.
وهو لفظ خص به العتق، فلا يستعمل في كل شيء بعد الموت من وصية ونحوها.
3901 - والأصل في جوازه ما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا أعتق غلاما له من دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من يشتريه مني؟» ، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه» ، متفق عليه مع أن ذلك والحمد لله إجماع في الجملة حكاه ابن المنذر، والله أعلم.
[حكم التدبير]
قال: وإذا قال السيد لعبده أو لأمته: أنت مدبر، أو قد(7/467)
دبرتك، أو أنت حر بعد موتي. فقد صار مدبرا.
ش: أما صيرورته مدبرا بلفظ التدبير نحو: أنت مدبر أو دبرتك، فلأنه أتى بلفظه الموضوع له فصح به، كلفظ العتق فيه، وأما صيرورته مدبرا إذا أتى بصريح العتق معلقا له بالموت - نحو أنت حر أو محرر، أو حررتك بعد موتي، أو معتق أو عتيق بعد موتي - فلأنه أتى بحقيقة التدبير، إذ حقيقته تعليق العتق بالموت، وإذا أتي بحقيقة الشيء حصل ذلك الشيء.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يفتقر في ذلك إلى نية، وهو كذلك، والخرقي لم يتعرض إلا للتدبير المطلق، ويصح أيضا مؤقتا نحو: أنت مدبر اليوم. نص عليه أحمد، ومعلقا على شرط نحو إذا قدم زيد. أو إذا جاء رأس الشهر فأنت مدبر. ونحو ذلك. والله أعلم.
وقال وله بيعه في الدين.
ش: أي العبد المدبر، بدليل ما يأتي بعد، وهذا هو المعروف في المذهب، حتى إن عامة الأصحاب لا يحكون فيه خلافا، لما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأطلق أحمد المنع في رواية حرب، وسأله في رجل دبر عبده ثم كاتبه يجوز، لأنه يملكه بعد، وأما بيعه من غيره [فلم يجوزه، وفرق بين بيعه من غيره وكتابته، لأنه إذا كاتبه فهو بعد في ملكه، وإذا باعه(7/468)
من غيره] فقد خرج عن ملكه، قلت: ولو كاتب عبده ثم دبره؟ قال: هو جائز.
3902 - وروى أحمد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كره بيعه، وهذا الأثر - والله أعلم - مستند أحمد في المنع، (ومفهوم كلام الخرقي) أنه لا يجوز بيعه في غير الدين، وهو إحدى الروايتين.
3903 - لأن في لفظ في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه النسائي قال: «أعتق رجل من الأنصار غلاما له عن دبر، وكان محتاجا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثمانمائة درهم فأعطاه، فقال: «اقض دينك، وأنفق على عيالك» » فالنص ورد في ذلك،(7/469)
والأصل عدم غيره، قياسا على أم الولد، بجامع أن كلا منهما عتقه معلق بالموت.
(والرواية الثانية) يجوز بيعه مطلقا، وهي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي، والشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وأبو محمد وغيرهم، لأن التدبير إما وصية أو تعليق للعتق على صفة، وأيما كان لا يمنع البيع، وقد أشار إلى هذا التعليل وبيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدبر في صورة الحاجة لا يمنع من بيعه مطلقا، لا سيما من قاعدتنا أن الأصل في العقود والشروط الصحة، ما لم يدل دليل على المنع، كما هو مقرر في موضعه.
(تنبيه) ظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بالدين فقط، وعدم ما سواه، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات على هذه الرواية وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حنبل وعبد الله: أرى بيع المدبر في الدين إذا كان فقيرا لا يملك شيئا غيره، وظاهر كلام القاضي في جامعه وروايتيه وأبي محمد في الكافي إناطة ذلك على هذا القول بالحاجة، ولا يخفى أنه أعم من الأول، والله أعلم.(7/470)
قال: ولا تباع المدبرة في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى الأمة كالعبد.
ش: توجيه الفرق بين المدبرة والمدبر على الأولى أن في جواز بيعها إباحة لفرجها، وهو مختلف فيه، والفروج يحتاط لها، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال: لا أجترئ على بيع المدبرة، لأنه فرج يوطأ. (وتوجيه التسوية) وأن حكم الأمة حكم العبد، تباع في الدين على رأيه ومطلقا على رأي غيره.
3904 - أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - باعت مدبرة لها سحرتها، وما(7/471)
تقدم لا يصلح دليلا للمنع، نعم يصلح دليلا للكراهة، ولهذا حمل أبو محمد الرواية الأولى على الورع، انتهى، وحكم نقل الملك فيها بهبة أو وقف حكم بيعها، والله أعلم.
قال: فإن اشتراه بعد ذلك رجع في التدبير.
ش: إذا اشترى السيد عبده المدبر بعد أن باعه رجع العبد في التدبير، لأن عتقه معلق بصفة، فإذا خرج عن ملكه ثم عاد إليه عادت الصفة، كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار. ثم باعه ثم اشتراه كذا بناه القاضي، قال فإن قلنا: إن التدبير وصية بطل بالبيع، ولم يعد بالشراء، كما إذا أوصى بشيء ثم باعه، والصحيح عند أبي محمد رجوعه في التدبير مطلقا، جعل التدبير راجعا للمعنيين، التعليق بصفة والوصية، فيثبت حكمهما فيه، وإذا إذا كانت الوصية تقتضي عدم العود فالتعليق يقتضي العود، فيعمل بمقتضاه إذا وجد، والله أعلم.
قال: ولو دبره وقال: قد رجعت في تدبيري. أو قال: قد أبطلته لم يبطل. لأنه علق العتق بصفة في إحدى الروايتين،(7/472)
والرواية الأخرى: يبطل التدبير.
ش: الرواية الأولى هي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي قال في روايتيه: إنها أجودهما، وصححها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد وغيرهما لما علل به الخرقي، من أن التدبير عتق معلق بصفة وهو الموت، فلم يبطل بالرجوع فيه، كما لو كان معلقا على صفة في الحياة (والثانية) أومأ إليها أحمد في رواية ابن منصور، لأن نفوذه يعتبر من الثلث، ويتوقف على الموت، فأشبه الوصية، وأبو محمد يقول: لا يمتنع اجتماع الأمرين فيه كما تقدم، فيثبت حكم التعليق، ويحصل عتقه بالموت بالشيئين، وقد توقف أحمد في رواية حرب.
(تنبيه) على الرواية الثانية إذا رجع وهي حامل هل يكون رجوعا في حملها؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فولدها بمنزلتها.
3905 - ش: لأنه يروى عن عمر وابنه وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ولدها بمنزلتها. ولم يعرف لهم مخالف من(7/473)
الصحابة، فكان ذلك حجة أو إجماعا، ولأن الأم تعتق بموت سيدها، فتبعها ولدها كأم الولد، ونقل حنبل عن أحمد فيما نقله القاضي في روايتيه، أنه قال: ولد المدبرة إذا لم يشترط يكون للمولى عبدا، وظاهر هذا أنه لا يصير مدبرا معها، وهذا قد يخرج على أن التدبير وصية، ولا شك أن ولد الموصى بها لا يتبعها، ولم يعرج أبو البركات إلى هذه الرواية، وإنما ذكر تخريجا تبعا لأبي الخطاب بعدم التبعية من المعلق عتقها بصفة، فإن تبعية ولدها الحادث بعد الوصية والتدبير لها على قولين.
وقول الخرقي: بعد تدبيرها. يخرج ما ولدته قبل ذلك فإنه لا يكون مدبرا بكونه مدبرا معها، وكأنه أخذها وهذا المذهب بلا ريب، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ولا في الاستيلاد،(7/474)
ففي التدبير أولى، وحكى أبو الخطاب رواية من رواية حنبل قال: سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد قال: ولدها يكون مدبرا معها. وأبو محمد حمل هذا على الولد بعد التدبير، توفيقا بين جميع كلامه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على ولد المدبرة، أما ولد المدبر فلا يتبع أباه مطلقا على المذهب، لأن الولد إنما يتبع أمه في الحرية والرق لا أباه، (وعن أحمد رواية أخرى) وظاهر كلامه في المغني الجزم بها في ولده من أمته المأذون له في التسري بها يكون مدبرا، لأنه ولده من أمته، فتبعه كالحر، وحيث قيل: إن الولد بمنزلة والده فإنه يصير مدبرا، حكمه حكم ما لو دبر عبدا آخر، بحيث لو لم يخرج من الثلث إلا أحدهما أقرع بينهما، والله أعلم.
قال: وله إصابة مدبرته.
ش: لأنها مملوكته، فتدخل في عموم قوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] .
3906 - وقد قال الإمام أحمد: لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري، والله أعلم.(7/475)
قال: ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه به إلا بشاهدين عدلين، أو شاهد ويمين العبد.
ش: أما كون السيد إذا أنكر التدبير لا يحكم عليه إلا بشاهدين فيهما شروط الشهادة فلعموم {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وأما كونه يحكم عليه بشاهد ويمين فلما تقدم للخرقي من أن العتق فيه ذلك، وقد تقدمت المسألة فلا حاجة إلى إعادتها، وقد تضمن كلام الخرقي والأصحاب صحة دعوى العبد التدبير، ولأبي محمد احتمال بعدم صحة دعوى ذلك، بناء على أن التدبير وصية، وأن إنكار الوصية رجوع عنها في وجه، وأن الرجوع في التدبير يبطله، والصحيح عنده صحة الدعوى وفاقا للجماعة، وهو الصواب، لأنه بعد تسليم أن الرجوع في التدبير يبطله، وأن الإنكار رجوع، قد يجيب بالإقرار، فلم يتعين الإنكار جوابا، وهذا كله إذا كانت الدعوى بين السيد والعبد، أما بينه وبين ورثته فالدعوى صحيحة بلا نزاع لعدم ملكهم الرجوع، والله أعلم.(7/476)
قال: وإذا دبر عبده ومات وله مال غائب، أو دين في ذمة موسر أو معسر، عتق من المدبر ثلثه، وكلما اقتضي من دينه شيء، أو حضر من ماله الغائب شيء، عتق من العبد بقدر ثلث ذلك، حتى يعتق كله من الثلث.
ش: إذا دبر عبده ومات ولا مال له سواه عتق ثلثه فقط كما تقدم وإن كان له مال حاصل بحيث يتمكن الورثة منه عتق جميعه إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه بقدر الثلث، وإن كان له مال لكن الورثة غير متمكنين منه لكونه غائبا أو دينا، لم يعتق جميعه في الحال، لجواز أن لا يحصل للورثة من المال شيء، فيكون العبد كل التركة، وإذا كان هو كل التركة لم يجز أن يحصل على جميعها، ولكنه يتنجز عتق ثلثه، إذ أسوأ الأحوال أن لا يحصل من المال شيء، فيكون له ثلث التركة، وللورثة ثلثاها، ثم كلما اقتضي من الدين شيء، أو حضر من المال الغائب شيء، عتق منه بقدر ثلثه، فإذا كانت قيمته مائة، وحصل من المال مائة، عتق ثلثه الثاني، ثم إذا حصلت مائة أخرى عتق باقيه، لوجود المقتضي للعتق، وانتفاء المانع، ولا يضر ما بقي بعد ذلك من المال، لخروج المدبر من ثلث الموجود، وإذا عتق تبينا أنه كان حرا حين الموت، فيكون كسبه له، لأن عتقه بالموت، وإنما أوقفناه للشك في خروجه من الثلث، وقد زال(7/477)
الشك، ومن ثم لو لم يحصل شيء من المال تبينا رق ثلثيه، وإن كان الحاصل لا يخرج المدبر من ثلثه عتق منه بقدر ثلثه، والله أعلم.
قال: وإذا دبر قبل البلوغ كان تدبيره جائزا إذا كان له عشر سنين فصاعدا، وكان يعرف التدبير.
ش: التدبير بالنسبة إلى التصرف في المال وصية بلا إشكال، فيعطى حكمها، فيصح ممن تصح منه، ويبطل ممن تبطل في حقه، وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته.
قال: وما قلته في الرجل فالمرأة مثله، إذا صار لها تسع سنين فصاعدا.
ش: هذا منصوص أحمد، وهو بناء على صحة وصية من لم يبلغ، وعلى تقييد ذلك بسن، وإنما جعل السن تسعا لأنه الذي يتعلق به كثير من أحكامها، كحيضها وصحة إذنها على المذهب وغير ذلك، فكذلك في وصيتها.
(تنبيه) حيث صحت وصية من لم يبلغ صح رجوعه كالبالغ، والله أعلم.
قال: وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره.
ش: لأنه استعجل ما أجل له، فعوقب بنقيض قصده، كقاتل مورثه، ولأن التدبير وصية، فبطل بالقتل كالوصية(7/478)
بالمال، ولأن ذلك قد يتخذ وسيلة إلى القتل المحرم لأجل العتق، فمنع العتق سدا للذريعة ولا ترد أم الولد، لأن إبطال الاستيلاد فيها يفضي إلى جواز نقل الملك فيها، وإنه متعذر، بخلاف المدبر، ولأن سبب حرية أم الولد الفعل، والبعضية التي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها، وهذا آكد من القول، ولهذا نفذ إيلاد المجنون، دون إعتاقه وتدبيره، ونفذ إيلاد المعسر وكان من رأس المال، والعتق بخلاف ذلك، واعلم أن البطلان هنا مفرع على المذهب. في أن الوصية تبطل بالقتل نظرا للعتق، أما إن قلنا لا تبطل بالقتل فالتدبير أولى، نظرا للعتق، والله أعلم.(7/479)
كتاب المكاتب ش: المكاتب مأخوذ من المكاتبة، والمكاتبة في الاصطلاح عتق على مال منجم نجمين فصاعدا، إلى أوقات معلومة، وأصلها من الكتب وهو الجمع، لأنها تجمع نجوما، ومنه سمي الخراز كاتبا، لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه، والرمل المجتمع كتيبة، لانضمام بعضه إلى بعض، وقيل لأن السيد يكتب بينه وبينه كتابا.
وهي مشروعة بالإجماع، وقد شهد لذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الآية وقصة بريرة، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.
[أحكام المكاتب]
قال: وإذا كاتب عبده أو أمته على أنجم فأديت الكتابة فقد صار حرا.
ش: عملا بمقتضى [موضوع] الكتابة، إذ مقتضاها وموضوعها الحرية عند تمام العقد، فعمل على ذلك، كسائر مقتضيات العقود، ولأن رقبته بالأداء تمحضت له، فوجب أن(7/480)
يعتق، لاستحالة أن يملك الإنسان نفسه (ومقتضى: كلام الخرقي أنه لا يشترط مع ذلك أن يقول: فإذا أديت إلي فأنت حر. ولا نيته، وهو المذهب المجزوم به لعامة الأصحاب، لأنه أتى بصريح لفظ العقد، أشبه ما إذا قال: دبرتك، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يشترط قول ذلك أو نيته، لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة، فاحتاج إلى مميز ككنايات الوقف ونحو ذلك، (ومقتضى) كلامه أيضا أن من شرط صحة الكتابة التأجيل، لقوله: على أنجم، فلا تصح الكتابة الحالة، وهذا هو المذهب أيضا بلا ريب، لأنه عقد معاوضة يلحقه الفسخ، من شرطه ذكر العوض، فإذا وقع على صفة يتحقق فيها العجز عن العوض غالبا ما يصح، كما لو أسلم في شيء لا يوجد في المحل إلا نادرا، ويؤيد ذلك أن جماعة من الصحابة عقدوا الكتابة ولم ينقل عنهم أنهم(7/481)
عقدوها حالة، وقيل: يصح أن تكون حالة كالقول في السلم، والبابان باب واحد، ومن ثم اشترطنا في الأجل أن يكون له وقع في الثمن، حذارا من أن يتخذ ذكره حيلة، والعلم به كما تقدم، وكأن الأقيس عند أبي محمد واختيار ابن أبي موسى أنها تصح على نجم واحد كالسلم، والمذهب عند القاضي وأصحابه والأكثرين أنه لا بد من نجمين فصاعدا، محافظة على معناها، إذ قد تقدم أنها مشتقة من الضم، ولا يحصل الضم إلا بنجمين فصاعدا، ونظرا للأثر.
3907 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني، (وكلام الخرقي) ربما أوهم اشتراط ثلاثة أنجم فصاعدا، ولا أعرف ذك قولا في المذهب، (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة، لا أنه يعتق منه بقدر ما أدى، ولا بأداء بعض مال الكتابة، ولا بملك الوفاء، (أما الحكم الأول) وهو أنه لا يعتق منه بقدر ما أدى فلا أعلم فيه في المذهب خلافا.
3908 - لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من الكتابة درهم» رواه أبو(7/482)
داود وعنه أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد كاتب على مائة أوقية، فأداها إلا عشر أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» رواه الخمسة وصححه الحاكم (وأما الحكم الثاني) وهو أنه لا يعتق بأداء بعض مال الكتابة فهو المذهب المنصوص لما تقدم، وذكر الدرهم والعشرة على سبيل التقليل، لا على سبيل التحقيق، وقيل: إذا أدى ثلاثة أرباع المال فأزيد، وعجز عن الباقي عتق، لأنه عجز عن حق له فلم تتوقف حريته على أدائه، كأرش جناية سيده عليه، وهذا القول حكاه أبو محمد في الكافي عن الأصحاب، وفي المقنع عن القاضي وأصحابه، وفي المغني عن أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب، وفي هذه الحكاية نظر، فإن لفظ الهداية: لم يجز للسيد الفسخ، ذكره أبو بكر، ولا يلزم من امتناع الفسخ حصول العتق، بل ظاهر هذا أنه لا يعتق،(7/483)
ولهذا لم يحك أبو البركات هذا القول عن أحد من هؤلاء، وحكى قول أبي الخطاب على ظاهره فقال: وظاهر كلام أبي الخطاب عدم العتق، ومنع السيد من الفسخ، وهذا ظاهر كلام ابن البنا أيضا، وحكى ابن أبي موسى رواية بما يقرب من هذا، وهو أنه إذا أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، واتبع بما بقي (وأما الحكم الثالث) وهو أنه لا يعتق بملك الوفاء فهو المشهور من الروايتين، والمختار للقاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديثي عمرو بن شعيب (والرواية الثانية) أنه يعتق بملك الوفاء.
3909 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» » رواه الخمسة، وصححه الترمذي إلا أن بعض الحفاظ قال: إنه قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وعلى تقدير صحته فيحمل الأمر بالاحتجاب على الندبية، توفيقا بين الأحاديث، والله أعلم.(7/484)
قال: وولاؤه لمكاتبه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في الولاء، وإنما ذكرها هنا على سبيل التكميل لحكم المسألة استطرادا، والله أعلم.
قال: ويعطى مما كوتب عليه الربع، لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] .
ش: قد ذكر الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم ودليله، وهو الأمر، وظاهر الوجوب.
3910 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في تفسير الآية الكريمة:(7/485)
ضعوا عنه الربع. وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام الشيخ يشمل وإن كان العبد المكاتب ذميا، وهو كذلك، صرح به القاضي، ووقت وجوب الدفع إذا أدى، ويجوز من أول الكتابة، بأن يضع عنه بقدر ذلك، لأنه السبب، وقد شهد لذلك ما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الغرض التخفيف عنه وهو حاصل، والله أعلم.
[تعجيل نجوم الكتابة]
قال: وإن عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الأخذ، وعتق من وقته في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ش: إذا عجل المكاتب مال الكتابة قبل وقت الحلول، لزم السيد الأخذ وعتق العبد إذا.
3911 - لما روي عن أبي سعيد المقبري قال: اشترتني امرأة من بني ليث، بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم، فأديت إليها عامة المال، ثم حملت ما(7/486)
بقي إليها فقلت: هذا مالك فاقبضيه، قالت: لا والله حتى آخده منك شهرا بشهر، وسنة بسنة. فخرجت به إلى عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ارفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها فقال: هذا مالك في بيت المال، وقد عتق أبو سعيد، فإن شئت فخذي شهرا بشهر، وسنة بسنة. قال: فأرسلت فأخذته، رواه الدارقطني.
3912 - وروى سعيد في سننه عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك،(7/487)
وقد احتج به أحمد، وقد أطلق الخرقي ذلك تبعا للإمام، وتبعهما أبو الخطاب في الهداية على ذلك، والشيرازي، وأبو محمد في المقنع، وحكى أبو بكر عن أحمد (رواية أخرى) مطلقة أيضا أنه لا يلزمه القبول إلا حين الحلول، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة حق له، ولم يرض بزواله فلم يزل، كما لو علق عتقه بمضي المدة، وحمل القاضي - على ما حكى عنه أبو محمد - الروايتين على اختلاف حالين (فالموضع) الذي يلزمه القبول إذا لم يكن في القبض ضرر، لتمحض المصلحة إذا فهو كما لو دفع إليه في السلم أجود من الجنس، (والموضع) الذي لا يلزمه القبول إذا كان في القبض ضرر، مثل أن يكون مال الكتابة مما يفسد، كالعنب والبطيخ، أو يخاف تلفه كالحيوان، أو حديثه خيرا من قديمه، أو يحتاج إلى خزن كالقطن، أو سلمه في بلد مخوف، أو طريق مخوف ونحو ذلك، لأن فيه التزام ضرر لم يقتضه العقد، وإنه منفي شرعا، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا(7/488)
ضرار» وبذلك قطع أبو البركات، واختاره أبو محمد في المغني، وابن حمدان، واختار القاضي في روايتيه طريقة ثالثة: إن كان في القبض ضرر وإلا فروايتان، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي، وحيث قيل: يلزمه القبول فامتنع جعله الإمام في بيت المال، وحكم بعتق العبد كما نقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم.
قال: والرواية الأخرى إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا.
ش: هذه الرواية لا ترجع إلى ما سبق الكلام له، وهو لزوم قبض ما عجل، وإنما ترجع إلى ما تضمنه اللفظ، وفهم من سياقه، وهو أنه إذا أدى عتق، ومقتضاه أنه لا يعتق قبل ذلك، فحكى رواية أخرى أنه يعتق بمجرد ملك الوفاء، وقد تقدم ذلك والإشارة إلى دليله، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.
قال: وإذا أدى بعض كتابته، ومات وفي يده وفاء وفضل، فهو لسيده في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى لسيده بقية كتابته، والباقي لورثته.
ش: (قد تضمنت الرواية الأولى) أن الكتابة تنفسخ بموت العبد، سواء خلف وفاء أم لا، وهذا هو المشهور من الروايتين،(7/489)
والمختار للقاضي وعامة أصحابه، وأبي محمد، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» والأصل بقاء ذلك بعد الموت، ولأنه عتق معلق بشرط مطلق، فانقطع بالموت، كما لو قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر. وعلى هذا ما في يده لسيده، (وتضمنت الثانية) أن الكتابة لا تنفسخ إذا خلف وفاء، وهي اختيار أبي بكر، لأنه عقد معاوضة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين وهو السيد، فلا ينفسخ بموت الآخر كالبيع، وفرق بأن كل واحد من المتبايعين غير معقود عليه، والمكاتب معقود عليه، فهو كتلف المبيع قبل قبضه، فعلى هذا يؤدي عنه بعد وفاته، وما فضل فلوارثه المناسب، وإن لم يكن فلسيده بالولاء، قال القاضي: ويعتق في آخر جزء من حياته، وهذا ظاهر الرواية، فالمسألة غير مبنية على التي قبلها، وقال أبو محمد: يحتمل أن تبنى على التي قبلها، فإن قيل ثم إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقا، فانفسخت(7/490)
الكتابة بموته، وما في يده لسيده، وإن قيل ثم: إنه يعتق بملك ما يؤدي فقد مات حرا، فلسيده بقية كتابته، لأنه دين له عليه، وما بقي فلوارثه انتهى.
ولا تختلف الرواية أنه إذا لم يخلف وفاء أن الكتابة تبطل بموته، قال أبو محمد: إلا أن يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة، فإن مقتضى قول القاضي وأبي بكر ومن وافقهما أنه يموت حرا، انتهى. وقد تقدم الطعن في هذا النقل، ثم إن هذه المسألة غير تلك كما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا مات السيد كان العبد على كتابته، وما أدى فبين ورثة سيده مقسوما كالميراث.
ش: ملخص هذا أن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد، وهذا والله أعلم اتفاق، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا. وذلك لأنه عقد لازم من جهته، فلم ينفسخ بموته كالبيع والإجارة، فعلى هذا الكتابة باقية فيؤدي الذي عليه لورثة السيد، فيقتسمونه على حسب إرثهم كما يقتسمون ديونه والله أعلم.
[ولاء المكاتب]
قال: وولاؤه لسيده.
ش: يعني أنه إذا أدى ما عليه للورثة وعتق، فإن ولاءه لسيده، لأنه المنعم عليه بالعتق، لتسببه فيه، فأشبه ما لو(7/491)
أدى إليه، وهذا هو المذهب المشهور (وعن أحمد رواية أخرى) إن أدى جميع ما كوتب عليه للورثة فولاؤه لهم، وإن أدى إليهم وإلى السيد فالولاء بينهما، لأنه انتقل إلى الورثة بالموت، فأشبه انتقاله إليهم بالشراء، وفرق بأن السيد في الشراء رضي بنقل حقه، وهنا الوارث يخلف الموروث، ولا ينتقل إليه شيء أمكن بقاؤه لمورثه، والولاء يمكن بقاؤه لمورثه، فلم ينتقل إليه، انتهى.
وحكم براءة الذمة له مما عليه حكم قبضه على ما تقدم، ولأبي محمد احتمال أنهم والحال هذه يختصون بالولاء، لإنعامهم عليه بما عتق به أشبه ما لو باشروا عتقه، ولو باشروا كلهم عتقه كان الولاء لهم، لأن المباشرة أقوى من التسبب، وقال القاضي: يكون الولاء أيضا للسيد إن كان عتقهم له قبل عجزه، (فعلى قوله) إن أعتق بعضهم لم يسر عتقهم، ثم إن أدى إلى الباقين عتق كله والولاء للسيد، وإن عجز فرد إلى الرق فولاء نصيب المعتق له، (وعلى الذي قبله) - وهو الذي أورده أبو محمد مذهبا - إن أعتق بعضهم فسرى إلى نصيب شركائه كان ولاؤه له، وإن لم يسر لإعساره أو غير ذلك فله ولاء ما أعتق.
قال: فإن عجز فهو عبد لسائر الورثة.(7/492)
ش: كما لو عجز في يد السيد، واستعمل (سائر) بمعنى الجميع، كما هو الغالب عليه في استعماله.
قال: ولا يمنع المكاتب من السفر.
ش: إذ السفر من أسباب الكسب، وإنه يملكه بمقتضى عقد الكتابة، وعموم كلام الخرقي يشمل السفر الطويل والقصير وهو كذلك، كالحر المدين، وكذلك قال أبو محمد: لم يفرق أصحابنا بين السفر الطويل وغيره، قال: ولكن المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم كتابته قبله. قلت: وهذا مراد الأصحاب من الإطلاق بلا ريب، والله أعلم، وإنما لم يقيدوا ذلك اكتفاء بما تقدم لهم في المدين بطريق الأولى، ومن ثم يخرج لنا (قول آخر) أنه له منعه مطلقا، كما يمنع الحر المدين على رواية، وإن لم يحل الدين إلا بعد قدومه، وترك الأصحاب ذلك تفريعا على المذهب، وقد نص أحمد في رواية المروذي على أن له أن يحج ما لم يحل عليه نجم في غيبته، لكن يرد على هذا الإطلاق سفر الجهاد، فإنه ينبغي أن يمنع منه مطلقا كالحر المدين، وقوله: ولا يمنع المكاتب من السفر، قد يقال: ظاهر إطلاقه: وإن شرط عليه تركه. وهو قول القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، بناء على عدم صحة الشرط، لأنه ينافي مقتضى العقد لما تقدم من أنه من أسباب الكسب، فلم(7/493)
يصح اشتراط تركه، كما لو شرط عليه أن لا يبيع ولا يشتري، والذي قطع به القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي واختاره أبو محمد، وابن حمدان - أنه يمنع والحال هذه، بناء على صحة الشرط، لأن للسيد فيه فائدة، وهي الأمن من إباقه، ولدخوله تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» الحديث.
(تنبيه) هذا الخلاف روايتان، وفاقا لأبي الخطاب والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، وحكاه في المغني والمقنع وجهين، والله أعلم.
قال: وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده.
ش: لأنه عبد، بدليل ما تقدم.
3913 - فيدخل في عموم «أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر» ولأن في ذلك ضررا لاحتياجه إلى أداء النفقة والمهر من كسبه، ولربما عجز فيرق، ويرجع ناقص القيمة، وفي ذلك ضرر على(7/494)
السيد، والضرر منفي شرعا، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، وقد قطع به عامتهم (وعن أحمد رواية أخرى) للمكاتب التزويج بخلاف المكاتبة، قال في رواية إبراهيم الحربي: لا بأس أن يتزوج، قد اشترى نفسه بل المكاتبة لا تتزوج، لا يؤمن أن ترجع إلى الرق وهي مشغولة الفرج، انتهى.
ومفهوم كلام الخرقي أن له ذلك بإذن السيد، وهو واضح، إذ المنع لحق السيد وقد زال، ويؤيد ذلك مفهوم الحديث، وحكم التسري حكم التزويج، إن أذن له السيد جاز، وإن لم يأذن لم يجز، والله أعلم.
قال: ولا يبيعه سيده درهما بدرهمين.
ش: ملخصه أن الربا يجري بين المكاتب وسيده، لأن(7/495)
المكاتب صار بما التزمه من العوض بمنزلة الأجنبي بدليل أن لكل منهما الشفعة على صاحبه، ولا يملك واحد منهما التصرف فيما بيد صاحبه، وهذا هو المذهب عند الشيخين وغيرهما، وقال أبو بكر وابن أبي موسى: لا ربا بينهما. قال أبو بكر: قد أخبر أحمد عن نفسه أنه ليس بين المكاتب وسيده ربا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. انتهى. ويستثنى من ذلك إذا عجل له ليضع عنه بعض كتابته، فإنه يجوز كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وليس للرجل أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط.
ش: أما منع وطئها بدون الشرط فهو المذهب المصرح به، لأن الكتابة أزالت ملك استخدامها، وملك عوض بضعها، إذا وطئت بشبهة، فتزيل حل وطئها كالبيع، قال في المغني: وقيل: له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطء عما هي فيه، وهذا القول يحتمل أنه في المذهب، ويحتمل أنه لبعض(7/496)
العلماء، وأما جوازه مع الشرط فهو المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» ولأنه استثنى بعض ما كان له، فصح كاستثناء الخدمة، يحققه أن ملكه باق عليها، وإنما منع منه لحقها، ومع الشرط الحق عليها، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنه يمنع من ذلك مطلقا، قال: لا يطأ مكاتبته، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وهذا اختيار ابن عقيل، لأن الملك والحال هذه غير تام، أشبه الواطئ في مدة الخيار.
قال: فإن وطئ ولم يشترط أدب.
ش: لفعله المحرم، فيؤدب زجرا له عما ارتكبه، وفي بعض نسخه: ولم يبلغ به حد الزاني. وقد تقدم ذلك في التعزيرات وافيا، فلا حاجة إلى إعادته، وقد علم من كلام الخرقي أنه لا حد عليه، وهو كذلك، لوجود الملك، وعموم كلام الخرقي(7/497)
يشمل العالم بالتحريم والجاهل به، وقيد أبو محمد ذلك بالعالم، وهو حسن، والله أعلم.
قال: وكان لها عليه. مهر مثلها.
ش: لأن ذلك عوض منفعتها، فكان لها كبقية منافعها، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت مطاوعة، وهو أحد الوجهين، وبه قطع أبو محمد، بناء على أن للسيد في ذلك حقا فلا يسقط برضاها، كالأمة القن (الوجه الثاني) لا شيء لها إذا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن المغلب في ذلك حقها، فسقط بمطاوعتها كالحرة.
(تنبيه) الواجب مهر واحد، وإن وطئ مرارا كوطء الشبهة، نعم إن أدى مهر وطء، ثم وطئ ثانيا وجب مهر ثان، لأن الأداء قطع حكم الوطء الأول، وقوله: فإن وطئ ولم يشترط أدب، وكان لها عليه مهر مثلها، مقتضاه أنه مع الشرط لا أدب ولا مهر عليه، وهو كذلك، لجواز ذلك على رواية والله أعلم.
قال: فإن علقت منه فهي مخيرة بين العجز وأن تكون له أم(7/498)
ولد، وبين المضي على الكتابة، فإن أدت الكتابة عتقت، وإن عجزت عتقت بموته، وإن مات قبل عجزها انعتقت، لأنها صارت من أمهات الأولاد، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، وما في يدها لورثة سيدها.
ش: إذا علقت منه مكاتبته - سواء شرط وطأها أو لم يشترط - ووضعت ما تصير به الأمة أم ولد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فقد اجتمع فيها سببان، الكتابة وصيرورتها أم ولد، فيعمل على ذلك، إذ لا منافاة بينهما، فعلى هذا إن أدت عتقت بحكم الكتابة، وما في يدها لها بلا ريب، لأن ما في يد المكاتب بعد أدائه له، وإن عجزت وعادت قنا بطل حكم الكتابة، وعتقت بموته، وما في يدها لورثة سيدها، عملا بحكم الإيلاد، وإن مات سيدها قبل عجزها عتقت بموته، عملا بحكم الإيلاد أيضا، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، لحصول الحرية التي بذل العوض في تحصيلها، واختلف فيما في يدها هل يكون لها، وهو اختيار القاضي في المجرد، وفي الظهار من التعليق، وابن عقيل وأبي محمد، إذ العتق إذا وقع في(7/499)
الكتابة لم يبطل حكمها، كالإبراء من نجوم الكتابة، ولأن ملكها كان ثابتا، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، أو لورثة سيدها وهو الذي قاله الخرقي، وأبو الخطاب في الهداية، وأورده ابن حمدان مذهبا، لأنها عتقت بحكم الإيلاد، فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة؟ على قولين، هذا شرح المسألة في الجملة، وفاقا للشيخين وغيرهما، وقد يقال: إن في كلام الخرقي ما يخالف ذلك، أو يزيد عليه من جهة قوله: إنها مخيرة بين العجز وكونها له أم ولد، وبين المضي على الكتابة. ومقتضى هذا أن لها أن تختار العجز وإبطال حكم الكتابة، فتصير أم ولد فقط، وأن تمضي على الكتابة فيجتمع فيها سببان كما تقدم، ولذلك حكى ذلك الشيرازي رواية، وحكى رواية أخرى أنه إذا مات سيدها يلزمها أداء بقية مال الكتابة إلى الورثة.
(تنبيه) الخرقي ذكر حكم الإيلاد إذا طرأ على الكتابة، ولو طرأت الكتابة على التدبير فالحكم كذلك، والله أعلم.
قال: وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده، صار نصفه حرا بالكتابة، إن كان الذي كاتبه معسرا،(7/500)
وإن كان موسرا عتق كله، وكان نصف قيمته على الذي كاتبه لشريكه.
ش: للإنسان أن يكاتب شقصا له من عبد، وإن لم يأذن شريكه، في ذلك، كما هو ظاهر إطلاق الخرقي، إذ الكتابة عقد معاوضة، فجازت بغير إذن الشريك كالبيع، واختار ابن حمدان اشتراط إذنه إن كان معسرا، انتهى، وإذا كاتبه لم يسر إلى نصيب شريكه كما تضمنه كلام الخرقي أيضا، لم تقدم من أنها عقد معاوضة فهي كالبيع، وإذا لم تسر الكتابة كان كسبه والحال هذه مشتركا بينه وبين سيده، كما قبل الكتابة، فإذا أدى ما كوتب عليه، ومثله لسيده الآخر، عتق نصفه بالكتابة، لوجود الشرط وهو أداء ما كوتب عليه، وانتفاء المانع، وهو دفع ما يستحقه الغير، لو لم يؤد ما كوتب عليه لم يعتق، وهو واضح، ولو أداه من جميع كسبه، ولم يؤد لسيده الآخر شيئا لم يعتق، لأن الكتابة الصحيحة إنما يعتق فيها بالبراءة من العوض، ولا يحصل ذلك بدفع ما ليس له، هذا إذا كان الأداء من جميع كسبه، أما إن هايأه سيده فكسب شيئا في يومه، أو(7/501)
أعطي صدقة فلا حق لسيده فيه، لأنه تمحض استحقاقه له بما فيه الكتابة، لا بمجموعه، وحكى ابن حمدان رواية أخرى أنهما يتهايآن في كسبه، فيكون له يوما ولسيده يوما، وقد نص على ذلك أحمد في رواية حرب، وحيث عتق النصف المكاتب فإنه ينظر في الذي كاتبه، فإن كان موسرا سرى إلى باقيه، وغرم قيمة حصة شريكه، لأنه تسبب في إعتاقه، أشبه ما لو باشره في العتق، وإن كان معسرا لم يسر كما لو واجهه بالعتق، نعم إن قيل بالاستسعاء استسعي العبد كما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا عتق المكاتب استقبل بما في يده من المال حولا، وزكاه إن كان منصبا.
ش: قد تقدمت هذه المسألة للخرقي في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.
قال: وإذا لم يؤد نجما حتى حل الآخر عجزه السيد إن أحب، وعاد عبدا غير مكاتب.
ش: منطوق كلام الخرقي أن للسيد أن يعجزه، بمعنى أن يفسخ الكتابة، ويرد المكاتب في الرق إذا حل عليه نجمان ولم يؤدهما، وله الصبر عليه، ومفهومه أنه ليس له تعجيزه إذا(7/502)
حل عليه نجم واحد، وهذا إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، ونصبه في المغني للخلاف، وقال القاضي: إنه ظاهر كلام الأصحاب.
3914 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يرد العبد في الرق حتى يتوالى عليه نجمان، (والرواية الثانية) أن له تعجيزه إذا حل عليه نجم واحد، لأن ذلك حق له، فكان له الفسخ بالعجز عنه، كما لو أعسر المشتري ببعض ثمن المبيع قبل قبضه (والرواية الثالثة) لا يعجز حتى يقول: قد عجزت؛ حكاها ابن أبي موسى وغيره، لأن فوات العوض لا يتحقق إلا بذلك (والرواية الرابعة) وقد تقدمت إن أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، ويتبع بما بقي، وظاهرها وإن حل عليه نجوم، (وقد تضمن) كلام الخرقي أن الكتابة عقد لازم، وهو كذلك،(7/503)
لأنها بيع، والبيع من العقود اللازمة، وإذا لا يملك السيد فسخها بغير ما تقدم، ولا العبد مطلقا، صرح بذلك غير واحد من الأصحاب، حتى قال في المغني: بغير خلاف نعلمه، وحكى ابن المنذر ما يقتضي الإجماع، ووقع في المقنع والكافي حكاية رواية بأن للعبد فسخها، وعلل ذلك ابن المنجا بأن معظم المقصود له، فإذا رضي بإسقاط حقه سقط، والظاهر أن هذا وهم، بدليل ما تقدم، والذي ينبغي حمل ذلك على أن له الفسخ، أي التسبب فيه، بمعنى أنه يمتنع من الأداء، فيملك السيد الفسخ، وهذا كما أن ابن عقيل والشيرازي وابن البنا قالوا: إنها لازمة من جهة السيد، جائزة من جهة العبد، وفسروا ذلك بأن له الامتناع من الأداء فيملك السيد الفسخ، انتهى. وظاهر كلام الخرقي أن الفسخ من السيد - والحال ما تقدم - لا يفتقر إلى حاكم، وهو كذلك.
(تنبيه) لو اتفق السيد والعبد على الفسخ جاز، قاله في الكافي كالبيع، والله أعلم.
قال: وما قبض من نجوم كتابة استقبل بزكاته حولا.(7/504)
ش: ما قبض السيد من نجوم الكتابة فإنه يستقبل به حولا ويزكيه لأنه كمال استفاده بإرث أو غيره، ومقتضى هذا أن الحول لا ينعقد على دين الكتابة، وهو كذلك لعدم استقرار الملك فيه، والله أعلم.
[جناية المكاتب]
قال: وإذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته.
ش: إذا جنى المكاتب جناية ووجب المال بها، بدئ بجنايته قبل كتابته فقدمت على المذهب المشهور المنصوص، حتى إن أبا محمد في المغني قال: اتفق أصحابنا على ذلك، إذ أرش الجناية مستقر، ومال الكتابة غير مستقر، [ولا إشكال أن المستقر يقدم على غير المستقر] ، ولأن أرش الجناية مقدم على ملك السيد في عبده، فكذلك على عوضه بطريق الأولى، (وفي المذهب قويل آخر) أنهما يتحاصان، حكاه أبو بكر لأنهما دينان فتحاصا كبقية الديون، وعلى هذا يقسم الحاكم المال بينهما على قدر حقيهما.
أما على الأول فإن بدأ المكاتب بأرش الجناية فأداه قبل أداء مال الكتابة فلا كلام، وإن أدى مال الكتابة قبل أداء الأرش(7/505)
ولما يحجر عليه صح الأداء وعتق، واستقر الأرش عليه، وإن كان ذلك بعد أن حجر الحاكم عليه بأن سأله ولي الجناية ذلك لم يصح أداؤه، ووجب أن يرتجعه الحاكم فيدفعه إلي ولي الجناية، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها، وعموم كلام الخرقي يشمل جنايته على سيده وهو كذلك، ومقتضى كلامه أن الأرش لازم للمكاتب، وهو كذلك.
3915 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» والذي يلزم على المذهب أن يفدي نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته، وقيل وحكي رواية: أنه بالأرش كله كالحر.
(تنبيه) قال أبو محمد: إن جناية المكاتب تتعلق برقبته، وتؤدى من المال الذي في يده، وقد قال هو وغيره: إنه إذا بادر فأدى الكتابة أنه يعتق ويستقر الفداء عليه، ومقتضى هذا تعلق جنايته برقبته وبذمته، وقال الشيرازي: جناية المكاتب مقدمة على كتابته، وروي عن أحمد أنها في رقبته، وظاهر هذا أنها تتعلق ابتداء بالمال الذي في يده والله أعلم.
[حكم عجز المكاتب]
قال: فإن عجز كان السيد مخيرا بين أن يفديه بقيمته إن كانت أقل من جنايته أو يسلمه.(7/506)
ش: إذا عجز المكاتب ورد في الرق فإن سيده مخير بين فدائه بقيمته إن كنت أقل من جنايته، لانحصار الحق إذًا في الرقبة، فلا يجب على السيد أكثر من بدلها، وإن كانت جنايته أقل من ذلك لم يجب عليه أكثر منها، إذ المجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وبين أن يسلمه لأنه إذا سلمه فقد سلم المحل الذي تعلق به الحق، فخرج عن العهدة (وفي المذهب قول آخر) أو رواية أنه إذا فداه فداه بالأرش كله، وقول الخرقي: أو يسلمه. ظاهره ليباع، وإذًا فلم يخير البائع إلا بين شيئين فقط، الفداء أو التسليم للبيع، وهو إحدى الروايات (والرواية الثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية (والرواية الثالثة) يخير بين الثلاثة، وإذا أراد تسليمه للبيع فهل يكتفي بمجرد ذلك، فيبيعه الحاكم، وهذا ظاهر كلام الخرقي، أو يلزمه أن يتولى ذلك إن طلبه ولي الجناية؟ على روايتين، والله أعلم.
قال: وإذا كاتبه ثم دبره فإن أدى صار حرا، وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي عليه من(7/507)
كتابته، وإلا عتق منه بمقدار الثلث، وسقط من الكتابة بمقدار ما عتق، وكان على الكتابة فيما بقي.
ش: إذا كاتب عبده ثم دبره جاز، كما تضمنه كلام الخرقي، إذ لا منافاة بينهما، ولأن التدبير إما وصية بالإعتاق أو تعليق للعتق على صفة، وكلاهما جائز في المكاتب، مع أن أبا محمد قد قال: لا نعلم في ذلك خلافا. ولو عكس فدبره أولا ثم كاتبه جاز على المذهب المنصوص أيضا، لما تقدم أولا.
3916 - وقد روى ذلك البخاري في تأريخه عن ابن مسعود، ورواه الأثرم عنه وعن أبي هريرة أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن كتابة المدبر رجوع في تدبيره إن قيل بصحة الرجوع فيه، إذا ثبت هذا فإذا اجتمعت الكتابة والتدبير فقد(7/508)
اجتمع سببان للعتق، فيعمل بمقتضاهما، فعلى هذا إن أدى عتق بالكتابة، لوجود شرطها وهو الأداء، وبطل التدبير للغنى عنه، وما في يده له، وإن عجز ورق صار مدبرا فقط، لبطلان الكتابة، فيعتق بموت السيد بشرطه، وإن مات السيد قبل العجز وأداء جميع الكتابة عتق بالتدبير، لوجود سببه وهو الموت، وهل ما في يده له إبقاء لما كان على ما كان عليه، وكما لو أبرئ من مال الكتابة، وهو اختيار أبي محمد وابن حمدان، أو لورثة سيده، حكاه أبو محمد عن الأصحاب، بناء على أن الكتابة تبطل إذا ويبقى الحكم للتدبير؟ على قولين.
وحيث عتق بالتدبير فشرطه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن التدبير معتبر من الثلث على المذهب، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، وسقط من عوض الكتابة بقدر ما عتق منه، لأن مال الكتابة عوض عن جميعه، فإذا عتق نصفه مثلا بالتدبير سقط ما قابل ذلك، وهو نصف العوض، وهل ما قابل ذلك من الكسب له أو لورثة السيد؟ على القولين السابقين، ويبقى باقيه مكاتبا بقسطه، ومقتضى كلام الخرقي أن المعتبر في خروجه من الثلث ما بقي عليه من الكتابة، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، ومقتضى كلامه في(7/509)
المغني وكلام أبي البركات اعتبار قيمته مكاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، والله أعلم.
[الحكم لو ادعى المكاتب وفاء كتابته]
قال: وإذا ادعى المكاتب وفاء كتابته، وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا.
ش: هذا بناء على ما تقدم من أن المال أو ما يقصد به المال يقبل فيه شاهد ويمين الطالب، وهذا من ذلك، لأن النزاع والحال هذه وقع في أداء المال، والعتق يثبت تبعا لثبوت الأداء، وليس هو المتنازع فيه، ولا المشهود به، على أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقبل الشاهد واليمين في العتق أيضا (وفي المذهب قويل آخر) أنه لا يقبل في النجم الأخير إلا رجلان، لترتب العتق على شهادتهما إذا، وبناء على أن العتق لا يقبل فيه إلا ذلك، والله أعلم.
قال: ولا يكفر المكاتب بغير الصوم.
ش: وقد تضمن قول الخرقي أن كفارة المكاتب الصوم، وهو كذلك، لأنه في حكم المعسر، وكفارة المعسر ذلك، ودليل الوصف أنه لا يلزمه زكاة، ولا نفقة قريبه، ويأخذ الزكاة لحاجته، وتضمن كلامه أنه لا يكفر بغير ذلك، وظاهره وإن أذن له السيد، وكأنه بنى ذلك على مذهبه، من أن العبد لا يملك بالتمليك، وهذه طريقة القاضي، فإنه بناه على الروايتين(7/510)
في ملك العبد بالتمليك، فإن قيل لا يملك لم يصح تكفيره بغير الصوم، وإن أذن له السيد، وإن قيل يملك صح بإذن السيد، لأن الحق له وقد أذن فيه، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع، وابن حمدان، وامتنع أبو محمد في الكافي والمغني من البناء، وجوز له التكفير بإذن السيد بلا خلاف، وتبعه على ذلك أبو البركات، بناء على أنه يملك المال هنا بلا خلاف. بخلاف العبد، نعم هو يملك ملكا ناقصا، لتعلق حق السيد به، فلذلك اعتبر إذنه، وقد يبنى كلام الخرقي على أنه يمنع من التبرع، ولو أذن فيه السيد، والتكفير بالمال بمنزلة التبرع، لعدم الحاجة إليه، لكن هذا قويل ضعيف والمذهب خلافه، وهذه المسألة لها التفات إلى تكفير العبد بالمال وقد تقدم ذلك، وحيث جوز له التكفير بالمال فإنه لا يلزمه ذلك، حذارا مما يلحقه من الضرر، وهو احتمال تفويت حريته، والله أعلم.
[حكم ولد المكاتبة]
قال: وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها.
ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة مكاتبة الأمة، كما تصح(7/511)
مكاتبة العبد، وهو اتفاق ولله الحمد، وقد شهد له حديث بريرة وغيره، وإذا صحت مكاتبتها فأتت بولد من نكاح أو غيره بعد كتابتها فإنه يتبعها يعتق بأدائها أو إبرائها، ويرق بعجزها وبموتها قبل الأداء على المذهب، إذ الكتابة سبب لازم للعتق، لا يجوز إبطاله، فسرى إلى الولد كالاستيلاد، ولا يرد التعليق بالصفة، لجواز إبطاله بالبيع ونحوه.
وقوله: الذين ولدتهم في الكتابة، يشمل ما كان حملا حال الكتابة، وما علقت به بعدها، ويخرج منه ما ولدته قبل الكتابة، وقد تتخرج التبعية فيه، لرواية ضعيفة في ولد المدبرة، (وقوله) : يعتقون بعتقها، أي بسبب عتقها، بما ثبت لها، وهو العتق بأداء مال الكتابة أو الإبراء منه، وهذا معنى قول الأصحاب: يتبعها ولدها. وهذا بخلاف أم الولد والمدبرة، فإن ولدها يصير بمنزلتها.
(تنبيه) فلو أعتق المكاتبة سيدها، أو عتقت باستيلاد أو تدبير فإنه يبنى على أن كتابتها هل تبطل أم لا؟ فمن قال ببطلانها قال يتبين رق ولدها، ومن قال لا تبطل كتابتها قال يعتق بعتقها، كما لو أبرئت من كتابتها، ولأبي محمد احتمال بعتقه على الأول أيضا انتهى، وحكم ولد ابنتها التي تتبعها(7/512)
حكم ابنتها، أما ولد ابنها فحكمه حكم أمه، واعلم أن كلام الخرقي في ولد المكاتبة من غير سيدها، أما من سيدها فقد تقدم له حكمه، فلهذا لم يحترز عنه.
(تنبيه) لم يتعرض الخرقي لولد المكاتب، والحكم أنه لا يخلو إما أن يكون من أمة أو حرة، (فإن كان) من حرة فهو حر كأمه (وإن كان) من أمة فلا تخلو الأمة إما أن تكون له أو لغيره (فإن كانت) له تبعه الولد، وهل تتبعه الأمة في صيرورتها أم ولد، فيتحقق الاستيلاد فيها بعتقه، أو يتحقق رقها برقه وهو المذهب، أو لا تتبع أصلا فله بيعها مطلقا؟ على وجهين، (وإن كانت) الأمة لغيره فلا يخلو إما أن يكون السيد أو غيره، فغيره الولد رقيق كأمه، والسيد كذلك إلا أن يشترط المكاتب تبعية ولده له، فإنه يتبعه عملا بالشرط، والله أعلم.
[بيع المكاتب]
قال: ويجوز بيع المكاتب.
ش: هذا هو المذهب المشهور المنصوص، نقله الجماعة عن أحمد، واختاره الأصحاب.
3917 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس فقالت: إني قد(7/513)
عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» » متفق عليه واللفظ للبخاري. وهذا ظاهر في أنها بيعت في كتابتها قبل أن تعجز وترق بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل وأمره لقولها: فأعينيني، وإخبار عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «خذيها» وعند مسلم: «اشتريها» وفي لفظ: «ابتاعي» ولهذا قال ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي مكاتبة، فلم ينكر ذلك، ولا أعلم خبرا يعارض ذلك، ولا دليلا من خبر على عجزها.
(وعن أحمد) رواية أخرى: لا يجوز بيع المكاتب، أومأ إليها في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته؟ قال: لا(7/514)
يطؤها، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وذلك لأن سبب العتق قد ثبت له على وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع كالاستيلاد، وأجيب بمنع القياس مع النص، ثم إن لنا في أم الولد منعا على رواية، وعلى المذهب الفرق أن سبب حريتها مستقر، لا سبيل إلى فسخه بحال، والمكاتب ليس كذلك، لجواز عوده رقيقا، (وعن أحمد) رواية ثالثة حكاها ابن أبي موسى: يجوز بيع المكاتب بقدر مال الكتابة، لصورة النص، ولا يجوز بأكثر منها اعتمادا على القياس السابق.
(تنبيه) الحكم في هبته والوصية به كالحكم في بيعه (وعنه) أنه منع من الهبة، قصرا على المورد أيضا كما تقدم، أما وقفه فلا يجوز، لانتفاء شرطه وهو الاستقرار، والله أعلم.
قال: ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب.
ش: مشتري المكاتب يقوم في أمره مقام المكاتب، لأنه بدل عنه، فأعطي حكمه، فعلى هذا إن أدى إليه عتق، وإن عجز أو اختار تعجيزه رد في الرق، ومقتضى كلام الشيخ أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع وهو كذلك، إذ الكتابة عقد لازم، فلم تنفسخ بذلك كالإجارة، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، ولا يرد عليه(7/515)
مخالفة ابن حزم، لأنه ليس هو من حفظ عنه العلم، والله أعلم.
قال: فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه.
ش: قد تقدم أن مشتريه يقوم مقام البائع، فإذا أدى إليه صار حرا وعتق، وكان ولاؤه له، وقد شهد لذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق» وإنكار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهلها لما اشترطوا ولاءها، والله أعلم.
قال: فإن لم يبين البائع للمشتري أنه مكاتب كان مخيرا بين أن يرجع بالثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا.
ش: الكتابة عيب، لمنع المشتري من التصرف في العبد، وانتفاء اكتسابه ومنافعه، فعلى هذا إن بين البائع للمشتري فلا كلام، لأنه دخل على بصيرة، وإن لم يبين له ذلك كان مخيرا بين فسخ البيع والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء وأخذ الأرش، وهو قسط ما بين قيمته سليما ومكاتبا، منسوبا إلى الثمن، فإذا قيل إن قيمته مكاتبا أربعون، وغير مكاتب ستون، والثمن تسعون، فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته، فيرجع بثلث ثمنه، والله أعلم.(7/516)
[الحكم لو ملك المكاتب أباه أو ذا رحم]
قال: وإذا ملك المكاتب أباه أو ذا رحم من المحرم عليه نكاحه، لم يعتقوا عليه حتى يؤدي وهم في ملكه، فإن عجز فهم عبيد للسيد.
ش: إذا ملك المكاتب من يعتق عليه ولو ملكه وهو حر لم يعتق بمجرد ذلك، لأنه لا يملك العتق بالقول، فبالملك القائم مقامه أولى، لكنه يمتنع عليه بيعه، لأنه بمنزلة جزئه، ثم إن أدى أو أبرئ من مال الكتابة وهو في ملكه لم يفت عتق لتمام ملكه إذا بزوال حق السيد، فيعمل المقتضى.
3918 - وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» عمله، وإن عجز ورد في الرق تحقق رقهم للسيد، كعبيده الأجانب.
وكلام الخرقي يشمل الملك بالبيع الهبة والوصية وغير ذلك، ثم إنه لم يشترط لذلك شرطا، فيدخل في كلامه الشراء بدون إذن السيد، وهو قول القاضي، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل وأبو محمد في المغني، وصححه ابن حمدان في رعايتيه، نظرا إلى أنه يصح أن يشتريه غيره، فصح شراؤه له كالأجنبي، وأورد أبو محمد في المقنع المذهب تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لا يجوز بدون إذن السيد، حذارا من أن يخرج من ماله ما يمتنع عليه التصرف فيه، والأول أشهر، وقد ذكر القاضي أنه نص أحمد والخرقي، واعترضه أبو الخطاب(7/517)
بأن كلامهما من ملك ذا رحم محرم، ويجوز حصول الملك بغير الشراء، أو بالشراء بإذن. قلت: وقد اختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: وإذا اشترى. وعليها شرح أبو محمد، والظاهر والقاضي، وهذا وإن لم يكن نصا فقريب منه، وفي بعضها: وإذا ملك. وهي التي اعتمدها أبو الخطاب في الاعتراض، وهو لفظي، إذ يكفي الظهور في التمسك، وهذا هو الجواب عن كلام أحمد، إن لم يكن عنه نص بذلك. انتهى.
ويدخل في كلامه على النسخة المشروحة الهبة والوصية، وإن أضر ذلك بماله، كما إذا لم يكن لذي الرحم المحرم كسب فيلزمه نفقته، وكذلك أطلق أبو الخطاب وأبو البركات، وأبو محمد في الكافي والمغني، وقيد ذلك في المقنع بما إذا لم يضر ذلك بماله، وتبعه على ذلك ابن حمدان، والله أعلم.
قال: وإذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال: بيعوني نفسي بها، فأجابوه، فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، وشهد الرجلان إذا كانا عدلين، ويشاركهما فيما أخذا من المال، وليس على العبد شيء.
ش: ملخص هذا أن الشريكين اللذين فيهما شروط(7/518)
الشهادة إذا شهدا على شريكهما الثالث بأخذ ما يستحقه والحال ما تقدم، فقد صار العبد حرا، لأن بشهادتهما كمل أداؤه لجميع ما اشترى به نفسه من مالكيه، وإذا يعتق لوجود الشرط وهو الأداء، ولا شيء عليه لذلك، ويشاركهما المشهود عليه فيما أخذا من المال، لاعترافهما بأخذه من ثمن العبد المشترك بينهم، ولأن ما في يد العبد كان لهم، وما أخذاه كان في يده، ولا تقبل شهادتهما المتقدمة في أنه لا يستحق عليهما ذلك، لأنهما يدفعان بها ضررا عن أنفسهما وهو المشاركة، وإنه غير مقبول، وإنما قبلت شهادتهما للعبد لأنها شهادة للغير وصار هذا بمنزلة الإقرار بشيء له وشيء عليه، يقبل في الذي عليه دون الذي له، هذا منصوص أحمد، وقال الشيخان: قياس المذهب رد شهادتهما، نظرا إلى أن الشهادة إذا بطل بعضها بطلت كلها، ويفارق الإقرار من حيث إن الشهادة والحال هذه فيها تهمة، والتهمة مانعة للشهادة، بخلاف الإقرار فإن التهمة لا تمنعه.
وقول الخرقي: إذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم، فقال: بيعوني نفسي بها فأجابوه، وقد استشكل عليه من حيث إن ظاهره إجازة شراء نفسه بعين ما في يده، وقد تقدم له في العتق أن العبد إذا قال لرجل: اشترني بهذا المال وأعتقني.(7/519)
فاشتراه بعين المال أن البيع والعتق باطلان، وقد أجاب القاضي عن ذلك بوجوه (أحدها) أن هذا مكاتب عجل لهم الثلاثمائة ليضعوا عنه شيئا، وقرينة هذا ذكره في الكتابة، ويحتمل هذا كلام أبي البركات، لأنه ذكر المسألة فيما إذا كاتب ثلاثة عبدا، فادعى الأداء إليهم، وحكى المنصوص في ذلك (الوجه الثاني) أن يكون المال في يد العبد الأجنبي، أذن له أن يشتري نفسه به ولم يملكه له، قلت: وهذا جيد أيضا (الثالث) أن يكون عتقا بصفة، تقديره: إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر. قلت: وفيه بعد (الرابع) أن رضى سادته ببيعه نفسه بما في يده، وفعلهم ذلك معه إعتاق منهم، مشروط بتأدية ذلك إليهم، وصورته صورة البيع، ومعناه العتق بشرط الأداء، ويصير هذا كما لو قال: بعتك نفسك بخدمتي سنة. فإن منافعه مملوكة للسيد ويصح ذلك، وهذا أظهر الوجوه عند أبي محمد، لعدم احتياجه إلى تأويل، بخلاف غيره، قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف، والصورة المشبهة بها لا تشبه ذلك، لأن السيد لا يملك المنافع المستقبلة، وإنما تحدث والحال هذه على ملك العبد، وغايته أن السيد في هذه الصورة(7/520)
رضي بإعتاقه بشيء يثبت له في ذمته، انتهى. وقوله: ليكتبوا له كتابا، فيه دليل على مشروعية كتابة الوثائق خوف التجاحد، وهو كذلك، والله أعلم.
قال: وإذا قال السيد: كاتبتك على ألفين، وقال العبد: على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه.
ش: إذا اختلف السيد ومكاتبه في قدر مال الكتابة، فقال السيد مثلا، كاتبتك على ألفين، وقال المكاتب: بل على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه، في إحدى الروايات، اختارها أبو محمد، في المغني، وقال القاضي: إنها المذهب. لأنه اختلاف في الكتابة، فكان القول قول السيد، كما لو اختلفا في أصلها (والرواية الثانية) القول قول المكاتب، نصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وصححها ابن عقيل في التذكرة، لأنه منكر، والقول قول المنكر، ومدعى عليه، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وأجاب أبو محمد بأن المنكر إنما قدم قوله لأن الأصل معه، والأصل هنا مع السيد، إذ الأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، وفيه نظر، إذ الاختلاف لم يقع في المكاتب ولا في كسبه، إنما وقع فيما حصل العقد عليه (والرواية الثالثة) يتحالفان ويتفاسخان الكتابة، اختارها أبو بكر، لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما، فوجب التحالف إذا لم تكن بينة(7/521)
كالمتبايعين، وفرق أبو محمد بأن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه، والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، فلذلك قبل قوله فيه، وقد تقدم الاعتراض على ذلك، قال: ولأن التحالف في البيع مقيد، بخلاف الكتابة، إذ الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة، ورد العبد إلى الرق، وهذا يحصل من جعل القول قول [السيد مع يمينه، قلت: وهذا بعينه في البيع لو جعل القول قول] البائع، وعلى هذه الرواية إن تحالفا قبل العتق فسخ العقد، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه، وإن تحالفا بعد العتق رجع السيد بقيمته، ورجع العبد بما أداه، والله أعلم.
قال: وإذا أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها له دونها، أو أعتق ما في بطنها دونها فله شرطه.
ش: إذا أعتق أمته أو كاتبها، وشرط ما في بطنها له دونها، فإنه يصح شرطه، ولا يعتق الحمل، ولا يتبع أمه في الكتابة، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» .
3919 - وروى الأثرم بسنده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أعتق أمة(7/522)
واستثنى ما في بطنها. وقد احتج به أحمد فقال: أذهب إلى حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العتق، ولا أذهب إليه في البيع.
3920 - ويروى ذلك أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا يعرف لهما مخالف، ويفارق البيع، إذ البيع عقد معاوضة، فاعتبر فيه صفات المعوض، ليعلم هل هو قائم مقام العوض أم لا، والعتق تبرع، لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولهذا لم تنافه الجهالة، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه خرج صحة استثناء ذلك في العتق، على الروايتين في صحة الاستثناء(7/523)
في البيع، والمشهور المنصوص - وهي طريقة القاضي في الجامع والروايتين وجماعة - عدم التخريج، والقطع بالصحة هنا، وأما إذا أعتق ما في بطنها دونها فيعتق، لأنه أعتق نسمة، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أعتق نسمة ولا تعتق الأم، لأنها ليست تابعة له، فلم تعتق بعتقه، كما بعد الولادة، وهذا هو المذهب (وعن أحمد رواية أخرى) لا يعتق حتى يولد في ملكه حيا، ولعل مدركها أن الحمل لا حكم له، والأول أن الحمل له حكم، فعلى هذه الرواية يكون كمن علق عتقه بشرط، فيجوز بيعه قبل وضعه تبعا لأمه، والله أعلم.
قال: ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته.
ش: وذلك كأن يصالحه على مائة مؤجلة بخمسين حالة، ونحو ذلك، لأن دين الكتابة غير مستقر، ولذلك لا يصح ضمانه، وليس بدين في الحقيقة، فكأن السيد أخذ بعضا وأسقط بعضا، وعكس هذا صورة لو اتفقا على الزيادة في الدين ليزيده في الأجل، كأن يحل عليه نجم، فيقول: أخرني به إلى كذا وأزيدك، فهل يصح ذلك؟ فيه احتمالان، ذكرهما في(7/524)
المغني، فالصحة لما تقدم، وعدمها لشبهه بربا الجاهلية المحرم، وهو الزيادة في الدين للزيادة في الأجل. وقول الخرقي: ولا بأس. يشعر بأن الأولى ترك ذلك، وقد سئل أحمد عن ذلك في رواية حرب فقال: فيه خلاف، وأرجو. وقد ذكر أبو البركات في باب حكم الدين أن في جواز بيع دين الكتابة من الغريم وجهين، ثم جزم هنا في الصلح بالصحة، وذكر ذلك بلفظ المصالحة، فيحتمل أن يقال: لما كان بلفظ المصالحة كان بمعنى الإبراء من البعض، وسومح في ذلك للمكاتب، لتشوف الشارع إلى العتق.
قال: وإذا كان العبد بين اثنين، فكاتب أحدهما فلم يؤد كل كتابته حتى أعتق الآخر نصيبه وهو موسر، فقد صار العبد كله حرا، ويرجع الشريك على المعتق بنصف قيمته.
ش: قد تقدم أن للشريك مكاتبة حصته من العبد المشترك بدون إذن شريكه، فإذا فعل فأعتق الذي لم يكاتبه حصته قبل أن يؤدي كتابته وهو موسر، فهل يسري إلى نصيب شريكه المكاتب فيصير حرا؟ على وجهين (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد، وحكاه(7/525)
القاضي في روايتيه عن أبي بكر، وأورده الشيخان وابن حمدان مذهبا - يسري والحال ما تقدم، لأن المكاتب عبد كما تقدم، فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أعتق شركا له في عبد» الحديث (والثاني) - وهو قول القاضي، وحكاه أبو محمد عن أبي بكر - لا يسري، حذارا من إضرار الشريك بإبطال سبيل الولاء المنعقد له بالكتابة، والضرر منفي شرعا، نعم، إن عجز المكاتب ورد في الرق سرى إذا، لانتفاء المانع وأجيب عن هذا بأن العتق إذا أثر في الملك الثابت الذي الولاء من بعض آثاره، ففي الولاء أولى. انتهى. (فعلى الأول) يرجع الشريك على المعتق بنصف قيمة المكاتب، لإتلافه له بالعتق. وظاهر كلام الخرقي أنه يرجع بنصف قيمته مكاتبا، وهو إحدى الروايتين، وبه قطع أبو محمد، لأن الذي أتلفه هو مكاتب (والرواية الثانية) يضمنه بما بقي عليه، لأنه لم يفوت على السيد أكثر من ذلك، وعلى هذه قال السامري يكون الولاء بينهما، لكل واحد منهما بقدر ما عتق منه، قال ابن أبي موسى. انتهى. وقال أحمد في رواية بكر بن محمد - في عبد بين شريكين، كاتباه على ألف درهم، فأدى إليهما تسعمائة درهم،(7/526)
لهذا أربعمائة وخمسين، ولهذا أربعمائة وخمسين، ثم إن أحدهما أعتق نصيبه، قال - إن كان للمعتق مال أدى إلى شريكه نصف قيمة العبد، لا يحاسبه بما أخذ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. وهذا يحتمل - أو هو الظاهر منه - أنه يضمنه بقيمته عبدا، ويجري هذا على ما تقدم من أن العتق إذا وقع في الكتابة أبطلها، لكن ثم العتق من المكاتب، وهنا من غيره والله أعلم.
قال: وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده.
ش: كلام الخرقي يشمل جميع الصدقات، وهو كذلك في صدقة التطوع والوصية ككسبه، أما الزكاة ففيها روايات (إحداها) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - الحكم كذلك، لأنه يأخذ لحاجته، فأشبه الفقير والمسكين (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر والقاضي - يرد إلى أربابه، لأنه أخذه ليصرفه في العتق، فإذا لم يصرف فيه رد، كالغازي إذا لم يغز (والرواية الثالثة) يؤخذ ما في يده فيجعل(7/527)
في المكاتبين، نقلها حنبل، لأنه جعل ذلك لله، فلا يرجع له، بل يجعل في تلك الجهة، والحكم في موت المكاتب وعتقه كالحكم في عجزه، أما ما أداه إلى السيد قبل العجز فلا يرجع بحال، لصرفه للجهة التي أخذه لها، ولا فرق فيما تقدم بين أن يكون عين ما تصدق عليه به باقيا، أو قد اشترى به عوضا ثم عجز وهو في يده، لأنه بدله، فأعطي حكمه، وأما غير الزكاة من الصدقات المفروضات، فكلام أبي محمد في المغني يقتضي جريان الخلاف فيها، وأبو البركات خص الخلاف في الزكاة، والله أعلم.
قال: وإذا اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول، وبطل شراء الثاني.
ش: أما صحة شراء الأول فلأن تصرفه صحيح، وبيع السيد مكاتبه جائز، فالمقتضي موجود، والمانع منتف، وأما بطلان شراء الثاني فلقيام المانع، وهو أنه قد صار عبدا للذي اشتراه أولا، فلو صححنا شراءه لكان سيدا له، فيكون مملوكا سيدا وإنه ممنوع، حذارا من تناقض الأحكام، ولو لم يعلم الأول منهما فقال أبو بكر وأبو الخطاب وأبو محمد وغيرهم: يبطل البيعان، إذ كل منهما مشكوك في صحته، فرجع إلى الأصل فيهما، وأجراه القاضي مجرى الوليين، فعلى هذا يفسخ الحاكم(7/528)
البيعين في رواية، وفي أخرى يقرع بينهما، وعلى الأول لا فسخ ولا قرعة، والله أعلم.
قال: وإن شرط في كتابته أن يوالي من شاء فالولاء لمن أعتق، والشرط باطل.
ش: أما كون الولاء لمن أعتق والحال هذه فلحديث بريرة المتقدم «الولاء لمن أعتق» «إنما الولاء لمن أعتق» وأما بطلان الشرط فلحديث بريرة أيضا «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» ولأن ذلك نقل للولاء عن محله، وقد ورد النهي عن نقل الولاء.
3921 - فصح «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع الولاء وهبته» ، ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يبطل بذلك، وأن البطلان يختص بالشرط، وهو منصوص أحمد، لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا لهم الولاء، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صحح البيع، وخرج الفساد من الشرط الفاسد في البيع، والله أعلم.
قال: وإذا أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل، فأخرجه إلى سيده، وأحب أخذه أخذه بما اشتري به وهو على كتابته، وإن لم يحب أخذه فهو على ملك مشتريه، مبقى على ما بقي من(7/529)
كتابته، ويعتق بالأداء، وولاؤه لمن يؤدي إليه.
ش: هذا مبني على قواعد ثلاث (إحداها) أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر، وهو المذهب (الثانية) أن المكاتب يصح نقل الملك فيه، وهو المذهب أيضا (الثالثة) أن من وجد ماله من مسلم أو معاهد بيد من اشتراه منهم فهو أحق بثمنه، وهو المشهور. إذا عرف هذا فإذا أسر الكفار المكاتب، فاشتراه رجل فوجده سيده، فهو مخير إن شاء أخذه بما اشتري به، وإن شاء تركه، لما تقدم في الجهاد، فإن أخذه فهو على كتابته، إذ الكتابة عقد لازم، لا تبطل بالبيع فبالأسر أولى، وإن لم يأخذه فقد استقر الملك فيه لمشتريه، فيكون مبقى على ما بقي من كتابته، لما تقدم من بقاء الكتابة مع ذلك، وإذا يعتق بالأداء كغيره من المكاتبين، وولاؤه لمن أدى إليه، من مكاتبه الأول أو مشتريه، لأنه المعتق له، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» .
(تنبيه) قد تقدم أن الكتابة لا تبطل بالأسر، لكن هل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها مع الكفار؟ على وجهين، فإن قيل لا يحتسب لغت مدة الأسر، وبنى على ما مضى، وإن قيل بالاحتساب فحل عليه ما يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده(7/530)
تعجيزه، وهل له ذلك بنفسه أو بحكم الحاكم؟ فيه وجهان، وعلى كليهما متى خلص فأقام بينة بوجود مال له وقت الفسخ يفي بما عليه، فهل يبطل الفسخ أو لا بد مع ذلك من ثبوت أنه كان يمكنه أداؤه؟ فيه قولان، والله أعلم.(7/531)
[كتاب عتق أمهات الأولاد]
ش: (أمهات) واحدتها، أم، وأصلها أمهة، فلذلك جمعت على أمهات باعتبار الأصل، وأمات باعتبار الواحدة، وقيل: الأمهات: للناس، والأمات للبهائم، وقد أشعر كلام المصنف في الباب بجواز التسري ووطء الإماء، وهو إجماع لا ريب فيه، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] واستفاض أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استولد مارية القبطية أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعملت الصحابة على ذلك، فاتخذ عمر وعلي وكثير من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أمهات الأولاد والله أعلم.
[أحكام أمهات الأولاد]
قال: وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، إلا أنهن لا يبعن.(7/532)
ش: أما كون أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، عدا ما استثناه فلأنها مملوكة، فأشبهت القن.
3922 - ودليل الوصف ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه، أو قال من بعده» . رواه أحمد وابن ماجه، وفي لفظ: «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه، أو قال: من بعده» رواه أحمد فدل على أنها قبل ذلك باقية على الرق، فعلى هذا لسيدها كسبها وإجارتها، وتزويجها وعتقها، ووطؤها ونحو ذلك من أحكام الإماء، ولا يرد عليه كونها لا تورث، بل تعتق بموت سيدها، ويحد قاذفها، وتستتر سترة الحرة على رواية فيهما، لذكر المصنف عقب هذا، نعم يرد عليه تدبيرها فإنه لا يصح، لانتفاء فائدته، ولهذا لو طرأ الاستيلاد على التدبير أبطله، قاله ابن حمدان.(7/533)
قلت: يصح إن جاز بيعها، وقلنا: التدبير عتق بصفة، وقد يرد عليه ما أشعر به كلام أحمد في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته قال: لا يطؤها لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، فجعل العلة في امتناع الوطء منع [البيع، والبيع هنا ممنوع كما سيأتي، لكن المعروف في المذهب خلاف هذا، وأنه يجوز الوطء، وقد يرد عليه أيضا ما ينقل الملك غير] البيع كالهبة ونحوها، أو يراد للنقل كالرهن، فإنه لا يجوز، مع أنه لم يستثن إلا البيع، وقد يقال: إنه استثنى البيع وهذه في معناه.
3923 - وأما كون أمهات الأولاد لا يبعن فلما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: «لا يبعن ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع منها السيد ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة» رواه الدارقطني وهو نص، ورواه مالك في الموطأ، والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من قوله، قال أبو البركات: وهو أصح.(7/534)
3924 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أعتقها ولدها» رواه ابن ماجه والدارقطني.(7/535)
3925 - ويؤيد هذا ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنكم لتفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنها ليست نسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي خارجة» رواه أحمد والبخاري.
3926 - وروى البخاري عن عمرو بن الحارث، أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة» .(7/536)
3927 - وروى سعيد في سننه: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة عن الشعبي، عن عبيدة قال: خطب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الناس فقال: شاورني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الجماعة، أحب إلينا من رأي علي وحده. وهذا دليل الإجماع. وحكى جماعة عن أحمد رواية أخرى: يجوز بيعهن مع الكراهة، أخذا من قول أحمد في رواية ابنه صالح وسأله: إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال: أكرهه، وقد باع علي بن أبي طالب. وفي رواية ابن منصور وقال: لا يعجبني(7/537)
بيعهن.
3928 - لما «روى أبو الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمعه يقول: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا حي، لا يرى بذلك بأسا» . رواه أحمد وابن ماجه.
3929 - وعن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، فلما كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(7/538)
نهانا فانتهينا، رواه أبو داود، وإنما كره ذلك أحمد للاختلاف فيه، كما أشعر به كلامه، ولا ريب أن المذهب هو الأول، وقد امتنع أبو محمد من حكاية ما تقدم رواية، وقال: إن السلف يطلقون الكراهة على التحريم. وقال: إن قول جابر ليس بصريح في أن ذلك كان بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بعلم أبي بكر، بل وقع ذلك من فعلهم على انفرادهم، توفيقا بين الأدلة، وإذا لا حجة فيه، وأجاب غيره بأنه كان مباحا ثم نهي عنه، ولم يظهر النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمن باع لقصر مدته، واشتغاله بأهم أمور الدين، ثم ظهر ذلك زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأظهر النهي والمنع اعتمادا على النهي، لامتناع النسخ بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. وتقدم الإشعار بأن حكم الهبة والرهن ونحو ذلك حكم البيع، والله أعلم.
قال: وإذا أصاب الأمة وهي في ملك غيره بنكاح فحملت منه ثم ملكها حاملا عتق الجنين، وكان له أن يبيعها.(7/539)
ش: (أما عتق الجنين) فلأنه من ذي رحمه المحرم، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» الحديث، والخرقي صور المسألة في النكاح، وكذلك حكم وطء الشبهة، نظرا للحوق النسب، بخلاف الزنا فإن النسب لا يلحق به، فلا يعتق الولد على المذهب المنصوص، (وأما كون له بيعها) فمبني على أن من شروط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه، وهذا إحدى الروايات، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم، واختاره أبو محمد، لما تقدم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من وطئ أمته فولدت له وهذا لم يطأ أمته، فلم يدخل في الحديث، ولأن الأصل الرق، خولف فيما إذا حملت منه في ملكه، فيبقى فيما عداه على الأصل (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، بل متى وطئها ثم ملكها ولو بعد وضعها صارت أم ولد حكاها ابن أبي موسى، لأنه يصدق عليها إذا أنها أم ولد له، وهو مالك لها، فأشبهت التي حملت في ملكه، قال أبو محمد: ولم أجد ذلك عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها، إنما نقل عنه مهنا التوقف، فقال: لا أقول فيها شيئا (والرواية(7/540)
الثالثة) إن ملكها حاملا [صارت أم ولد، وإلا فلا، اعتبارا بأن الإيلاد في الملك (والرواية الرابعة) إن ملكها حاملا ووطئها، وكان الوطء يزيد في الولد] صارت أم ولد، وإلا فلا، نقلها صالح.
3930 - لأنه مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أبعد ما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن بعتموهن.
فعلل بالمخالطة، والمخالطة هنا حاصلة، إذ الماء يزيد في الولد، وهذه اختيار القاضي على ما حكاه عنه أبو محمد، وابن حامد، إلا أن ابن حامد جعل الزيادة بأن يطأها في ابتداء الحمل أو توسطه، والقاضي قيد ذلك بأن يطأها قبل تمام خمسة أشهر.
(تنبيه) قد تقدم أنه هل من شرط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه أم لا؟ وهذا يدخل فيه ولو وطئها بزنا، وصرح به أبو الخطاب في الهداية، وابن حمدان، وأبو محمد في الكافي،(7/541)
وكلامه في المغني يقتضي نفي الخلاف من هذه الصورة، لأنه جعل ذلك أصلا، وقاس عليه المنع، وكذلك قاس عليه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والله أعلم.
قال: وإذا علقت منه في ملكه، ثم وضعت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان كانت له بذلك أم ولد.
ش: أي وإذا علقت الأمة منه، وهذا يعطي أنه يشترط في صيرورة الأمة أم ولد شروط ثلاثة أحدها أن تعلق بحر، لأنه الذي حكم له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحريتها به، «وقال في أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، ويخرج من ذلك ما إذا علقت أمته بمملوك [وذلك في موضعين (أحدهما) العبد إذا ملكه السيد أمة، وقلنا يملك، فإن ولده مملوك] ولا يثبت لأمه حكم المستولدات (الثاني) المكاتب إذا استولد أمته فإن الولد يتبعه، فيصير حكمه حكمه كما تقدم، وهل تتبعه الأمة، فتصير أم ولد إن أدى أم لا؟ فيه وجهان تقدما. (الشرط الثاني) أن يكون العلوق وهي في ملكه، فيخرج منه ما إذا علقت منه وليست في ملكه، وقد تقدم هذا الشرط قبل، فلا حاجة إلى إعادته، وقد يورد عليه الأمة المشتركة إذا أولدها الشريك، إذ(7/542)
مقتضى كلامه هنا كون جميعها في ملكه، لكن قد تقدم هذا له فلا يرد عليه، وقد يورد عليه أيضا الوالد إذا وطئ أمة ولده فحملت منه، فإن الملك ينتقل له إذا وتصير أم ولد، فحال العلوق لم تكن مملوكة له، وقد يقال: إن بالعلوق تبينا الملك سابقا قبله، ويدخل في عموم كلام الشيخ كل مملوكة له، وإن حرم وطؤها، كالمكاتبة غير المشترط وطؤها، وقد تقدم له ذلك، وكالمجوسية والوثنية، والمحرمة لرضاع، أو حيض، أو ظهار، ونحو ذلك، وكالمزوجة، صرح بذلك أبو محمد هنا، لكن اختلف كلامه في أنه هل يلحقه نسب الولد؟ فقطع في النكاح بعدم لحوق النسب له، وهو منصوص أحمد في رواية حرب ومحمد بن حرب، ومقتضى كلام أبي محمد هنا لحوق النسب له، لأنه حكم بحرية الولد، وهو الذي قاله القاضي في المجرد، معتمدا على ما إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، وإذا يمنع صيرورتها أم ولد، لانتفاء لحوق النسب، كما تقدم في المزني بها إذا ملكها بعد. (الشرط الثالث) أن تضع ما يبين فيه بعض خلق الإنسان، كأن تضع رأسا أو رجلا أو أصبعا أو تخطيطا له، أو بطريق الأولى إذا وضعت إنسانا، لأن بذلك يعلم أنه ولد، فيتحقق صيرورتها أم ولد.
3931 - وقد روى أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد، عن سفيان،(7/543)
عن أبيه عن عكرمة، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: أم الولد أعتقها ولدها، وإن كان سقطا، فيه إرسال، وروي عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وروي عن ابن عباس مرفوعا.
3932 - وكذلك روى الأثرم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أعتقها ولدها وإن كان سقطا. وكلام الخرقي يشمل وإن كان ميتا، وهو كذلك لما تقدم، ويشمل ما إذا وضعت جسما لا تخطيط فيه، فشهدت القوابل أن فيه صورة حقيقة، وهو كذلك، لأنه قد تبين فيه خلق الإنسان بشهادتهن، ويخرج منه ما إذا(7/544)
وضعت مضغة لا تخطيط فيها لا ظاهرا ولا بالبينة، وله حالتان (إحداهما) لم يعلم كونه مبتدأ خلق آدمي، فلا تصير به أم ولد، اعتمادا على الأصل (الثانية) علم أنه مبتدأ خلق آدمي، بشهادة القوابل أو غير ذلك، ففيه روايتان (إحداهما) وهي ظاهر كلام الخرقي وجماعة لا تصير بذلك أم ولد؛ قال في رواية جماعة: تعتق الأمة إذا تبين وجهه أو يده، أو شيء من خلق الإنسان، لأن ذلك يسمى ولدا، وعتقها مشروط بصيرورتها أم ولد (والثانية) تصير بذلك أم ولد، لأنه مبدأ خلق آدمي، أشبه ما لو تبين، ونقل حنبل عن أحمد: إذا أسقطت أم الولد فإن كان خلقه بائنا عتقت، وانقضت به العدة، إذا دخل في الخلق الرابع، بنفخ الروح، فظاهر هذا أنه يشترط مع التبيين تمام أربعة أشهر، ولا نزاع أنها إذا ألقت نطفة لا تصير بها أم ولد، وكذلك عند جماعة إذا ألقت علقة؛ حتى إن أبا البركات وأبا محمد في الكافي قطعا بذلك، ونص أحمد في رواية مهنا، ويوسف بن موسى أنها تصير بها أم ولد، قال: إذا ألقت مضغة(7/545)
أو علقة تعتق، وإن لم تتم أربعة أشهر، بعد أن يرى خلقه، ويعلم أنه ولد.
(تنبيه) قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تعتق الأمة إذا تبين وجهه. مجاز باعتبار ما يئول إليه، وهو «كقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» أي أنه كان السبب في عتقها، إذ لا نعلم أحدا قال يتنجز العتق فيها في الحمل، والله أعلم.
قال: فإذا مات فقد صارت حرة وإن لم يملك غيرها.
ش: أما صيرورتها حرة بموت سيدها فلما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه» «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، وأما عتقها من رأس المال فلظاهر ما تقدم، وهذا كله إن لم يجز بيعها على المذهب، أما إن جاز بيعها فقطع أبو محمد بأنها لا تعتق بموته، وظاهر إطلاق غيره يقتضي العتق، ولهذا قدمه ابن حمدان، قال: وقيل إن جاز له بيعها لم تعتق عليه بموته، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت كافرة فاجرة، أو كان السيد كذلك، وهو كذلك، نظرا للعموم السابق، والله أعلم.(7/546)
قال: وإذا صارت الأمة أم ولد بما ذكرنا، ثم ولدت من غيره، كان له حكمها في العتق بموت سيدها.
ش: نص أحمد على ذلك، اقتداء بالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3933 - فقال: قال ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيرهما: ولدها بمنزلتها. وكلام الخرقي يشمل وإن ماتت الأم، وهو كذلك، لأن سبب الحرية قد انعقد، وهو سبب بنفس العتق، فكما لا يرتفع العتق بعد وقوعه، كذلك سببه وأورد على هذا المكاتبة يتبعها ولدها في الكتابة، فإذا بطلت الكتابة في الأم بطلت في الولد، وأجيب بأن سبب العتق فيها إما الأداء في(7/547)
العقد، أو وجود الصفة، وببطلان الكتابة يتعذر كل واحد منهما، والسبب في أم الولد موت سيدها، ولا يتعذر ذلك بموتها، ويورد على هذا الفرق المعلق عتقها بصفة، فإن موت الأم ونحوه لا يتعذر معه وجود الصفة، ومع هذا لا يعتق الولد. وقول الخرقي: ثم ولدت، يخرج منه ما ولدته قبل الاستيلاد، وهو كذلك، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ففيما هو سبب له أولى، ويتخرج رواية بالتبعية من الرواية الضعيفة في ولد المدبرة.
قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من وطئها والتلذذ بها.
ش: حذارا من أن يطأ مشرك مسلمة، وإنه ممنوع بلا ريب، قال سبحانه: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . ومقتضى كلام الخرقي أن ملكه يقر عليها والحال هذه، وهو المذهب المختار لأبي بكر، والقاضي، وأبي الخطاب والشريف، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، لأن عتقها مجانا فيه إضرار بالسيد، وبالسعاية فيه إضرار بها، لإلزامها الكسب بغير(7/548)
رضاها، والضرر منفي شرعا، ونقل الملك فيها ممتنع لما تقدم (وعن أحمد) رواية أخرى - قال القاضي: نقلها مهنا - تستسعى في قيمتها ثم تعتق، لأن بيعها وعتقها مجانا منتفيان لما تقدم، وكذلك إقرار الملك عليها، لما فيه من إقرار ملك الكافر على المسلم، فسلك بها طريقة وسطى، وهي الاستسعاء، وحكى في الكافي (رواية ثالثة) أنها تعتق بإسلامها من غير استسعاء، وقال: نقلها مهنا. ولا أعلم له سلفا في ذلك، على أن أبا بكر لم يثبت الثانية، فقال: أظن أن أبا عبد الله أطلق ذلك لمهنا على سبيل المناظرة للوقت. ومقتضى كلامه أيضا أنه يصح إيلاد الذمي، وهو كذلك، بل والحربي، كما يصح عتقهم، ومن ثم قال المجد: إذا أسلمت أم ولد الكافر.
(تنبيه) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - منع من الوطء ونحوه، وظاهره أنه إن أمكن ذلك من غير إحالة بينهما لا يحال بينهما، وقال الشيخان وغيرهما: يحال بينه وبينها، والله أعلم.(7/549)
قال: وأجبر على نفقتها.
ش: لأنه مالك لها، ونفقة المملوك على سيده، وهذا هو المذهب المعروف، والمنصوص من الروايتين (والثانية) لا تجب عليه نفقتها، قال في رواية الميموني - وسئل: من أين تنفق؟ قال: من أين كانت تنفق لو مات عنها. وبنى أبو البركات هذه الرواية على القول بوجوب الاستسعاء وهو حسن، وتبعه على ذلك ابن حمدان، ثم إن القاضي جعل وجوب النفقة على السيد منوطا بما إذا لم يكن لها كسب، أما إن كان لها كسب فإن النفقة تجب فيه، حذارا من أن يبقى له عليها ولاية بأخذ كسبها، وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب، وعلى هذا إن فضل منه شيء فهو للسيد، واختار أبو محمد في مغنيه أن نفقتها على سيدها، وكسبها له، يصنع به ما شاء، وهو ظاهر كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية ابن منصور، قال: يمنع من غشيانها، ونفقتها عليه، والله أعلم.
قال: فإن أسلم حلت له.
ش: لزوال المانع من الحل وهو الكفر والله أعلم.
قال: وإن مات قبل ذلك عتقت.(7/550)
ش: إذا مات قبل الإسلام عتقت، لأنها أم ولد، وشأن أم الولد العتق بموت سيدها لما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا عتقت أم الولد بموت سيدها فما كان في يدها من شيء فهو لورثة سيدها.
ش: لأن أم الولد كما تقدم حكمها حكم الإماء، إلا ما استثني، فما في يدها من كسب أو غيره فهو لسيدها، فإذا مات وعتقت انتقل ما في يدها لورثة سيدها، كما في يد المدبرة، والله أعلم.
قال: وإذا أوصى لها بما في يدها كان لها إذا احتمله الثلث.
3934 - ش: لما روى الإمام أحمد وسعيد، عن هشيم: حدثنا حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى لأمهات أولاده بأربعة ألاف درهم، ولأنها في حال نفوذ(7/551)
الوصية لها حرة، وهو المعتبر مع أن أبا محمد قال: لا نعلم فيه خلافا، وقوله: إذا احتمله الثلث، مبني على ما تقدم، من أن الوصايا كلها تعتبر من الثلث، فإن لم يحتمله وقف الزائد على إجازة الورثة كما تقدم.
قال: وإذا مات عن أم ولده فعدتها حيضة.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في العدد، فلا حاجة إلى إعادتها، والخرقي سمى ذلك عدة، وغيره يقول استبراء، ولا نزاع في المعنى، إذ هما يشتركان في منع النكاح بدونهما، ومعرفة براءة الرحم بهما.
[جناية أم الولد]
قال: وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو بدونها.
ش: إذا جنت أم الولد وجب على سيدها فداؤها، لأنها مملوكة له، يملك كسبها لم يسلمها، فلزمه أرش جنايتها كالقن، وفي ما يفديها به روايتان (إحداهما) وهي المذهب هو الأقل من قيمتها أو دونها، إن كان ذلك قدر أرش جنايتها، لأن الأقل إن كان القيمة فالمجني عليه لا يستحق أكثر منها، لأن حقه متعلق بالرقبة، والقيمة بدل عنها، وإن كان الأرش فهو لا يستحق أكثر منه، لأن الإنسان لا يستحق أكثر مما جني عليه (والثانية) يفديها بأرش الجناية بالغة ما بلغت، لمنعه من(7/552)
تسليمها بسبب من جهته، وقول الخرقي: فداها. [فيه] إشعار بأن جنايتها تتعلق برقبتها، وهو كذلك، كالأمة القن، ومن ثم لو ماتت قبل فدائها سقط الفداء، لتلف متعلقه، واعتبرت قيمتها يوم الفداء، وتجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد.
قال: فإن عادت وجنت فداها وليها كما وصفت.
ش: إذا عادت أم الولد فجنت لزم سيدها فداؤها أيضا، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي وأصحابه، وأبي محمد وأبي بكر، حتى قال: ولو ألف مرة. وذلك لأنها أم ولد جانية، فلزمه فداؤها كالأول، وإذا يفديها كما فداها أولا، وهو الأقل من قيمتها أو دونها على المذهب، وعلى الرواية الضعيفة بالأرش كله (والرواية الثانية) لا يلزمه فداؤها بعد أن فداها أولا، ويتعلق ذلك بذمتها، تتبع به إذا عتقت، حذارا من إضرار السيد بتكرار الفداء عليه، مع منعه من بيعها، ولأنها جانية، فلم يلزم السيد أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها، وعلى هذه قال ابن حمدان قلت: يرجع الثاني على الأول بما يخصه، مما أخذه، وهذا مذهب الشافعي ثم إن أبا(7/553)
الخطاب في هدايته، وأبا محمد في مقنعه وكافيه، وأبا البركات أطلقوا هذه الرواية، وقيدها القاضي في روايتيه، وأبو محمد في مغنيه، حاكيا له عن أبي الخطاب، وابن حمدان في رعايتيه، بما إذا فداها أولا بقيمتها، ومقتضى هذا أنه لو فداها أولا بأقل من قيمتها، لزمه فداؤها بما بقي من القيمة بلا خلاف.
(تنبيه) لو لم يفدها أولا حتى جنت ثانيا تعلق الجميع برقبتها، ولم يكن على السيد في الكل إلا الأقل من قيمتها أو أرشها، يشترك المجني عليهم فيه، والله أعلم.
[وصية الرجل لأم ولده]
قال: ووصية الرجل لأم ولده جائزة، وله تزويجها وإن كرهت.
ش: هذا أفاد مسألتين (إحداهما) أن لسيد أم الولد تزويجها (والثانية) أن له إجبارها، وذلك لأنها أمة كما تقدم، يملك(7/554)
الاستمتاع بها واستخدامها، فملك ذلك، كالأمة القن.
3935 - مع أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، وهذه المسألة داخلة في عموم قوله: أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء، وإنما نص على ذلك لخلاف العلماء في ذلك، إذ منهم من منع مطلقا، ومنهم من أجازه ومنع الإجبار، وكلا القولين للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والله أعلم.
[قذف أم الولد]
قال: ولا حد على من قذفها.
3936 - ش: هذا منصوص أحمد قال: ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: عليه الحد، وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هي أمة،(7/555)
أحكامه أحكام الإماء، وقد أشار أحمد في النص إلى التعليل، وهو أن حكمها حكم الإماء، فكذلك في القذف، بل أولى، لأن الحد يحتاط لإسقاطه، ويدرأ بالشبهة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب (وعن أحمد) رواية أخرى: عليه الحد، نقلها أبو طالب، فقال: إذا كان لها ابن يحد، إنما أراد ابنها، واحتج بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهذه الرواية أيضا معللة من أحمد، ثم إن كثيرا من الأصحاب يطلق هذه الرواية، وظاهرها أنها مقيدة بما إذا كان لها ولد، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، قال بعد أن حكاها: فأوجب الحد لا لأجلها، لكن لأجل ما يقدح في نسب ولدها، وعلى هذا ينتفي الخلاف إذا لم يكن لها ولد، فيكون المذهب رواية واحدة أنه لا يحد قاذفها، ويكون محل الخلاف فيما إذا كان لها ابن حر، واشترط حرية الابن، وإن لم يكن في نص أحمد، لكنه معلوم قطعا، إذ صيرورتها أم ولد مشروط بذلك كما تقدم. وينبغي إجراء الروايتين فيما إذا كان لها زوج حر، وكذلك ينبغي إجراؤها(7/556)
في الأمة القن، والحال ما تقدم، ونظير ذلك لو قذف أمة أو ذمية لها ابن أو زوج مسلمان، فهل يحد؟ على روايتين، ذكرهما أبو البركات، وغيره، وينبغي أن يقيد الابن والزوج بأن يكونا حرين والله أعلم.
قال: وإن صلت أم الولد مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها.
ش: قد تقدم ذلك في الصلاة، فلا حاجة إلى إعادته، إلا أنه ثم قال: يستحب أن تغطي رأسها. ونص هنا على أن تركها المستحب يكون مكروها، فقد يؤخذ من كلامه أنه حيث نص على الاستحباب يكون تاركه فاعلا لمكروه، وإن لم يكن في كلامه ما يخالف ذلك، والله أعلم.
قال: وإن قتلت أم الولد لسيدها فعليها قيمة نفسها والله أعلم.
ش: لأن الجناية وجدت منها وهي مملوكة، وجناية المملوك لا يجب فيها أكثر من قيمته، ولم تستقر وهي حرة، وإنما وجد الاستقرار والحرية في حال واحدة، فلم يتقدم شرط وجوب دية حر وهو حريتها، وقد أطلق الخرقي والقاضي وجماعة من(7/557)
أصحابه، وأبو محمد في كتبه، أن عليها قيمة نفسها، وقال أبو الخطاب في كتابيه، وأبو البركات، وابن حمدان: عليها الأقل من قيمتها أو أرش جنايتها، ولعل إطلاق الأولين محمول على الغالب، إذ الغالب أن قيمة الأمة لا تزيد على دية الحر، وقد حكى ابن المنجا عن أبي محمد في المغني أنه قال فيه: يجب أن يقال الواجب الأقل. ولم أر ذلك في المغني الذي بأيدينا، وهذا كله فيما إذا اختار الولي المال، أو كانت الجناية خطأ، أما إن كانت عمدا واختار الولي القصاص فله ذلك، لأن سيدها أكفى منها بلا ريب، نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان ولدها موجودا، فإنه إن كان الوارث وحده فلا قصاص، لانتفاء وجوب القصاص للابن على والده، وكذلك إن كان معه غيره، لأنه يرث بعض الدم، وإذا يسقط القصاص لعدم تبعيضه، هذا هو المذهب، وقد توقف أحمد عن هذه المسألة في رواية مهنا، ونقل عنه في موضع آخر أنه يقتلها أولاده من غيرها.(7/558)
ومقتضى كلام الخرقي أنها تعتق والحال ما تقدم، وهو كذلك، لأن المقتضي لعتقها زوال ملك سيدها بالموت، وقد زال، فإن قيل: ينبغي أن لا تعتق، كما منع القاتل الميراث، لاستعجالها ما أجل لها؟ قيل: إذا لم تعتق يلزم نقل الملك فيها، وإنه ممتنع، وفيه نظر، لأن الاستيلاد كما هو سبب للعتق بعد الموت، كذلك النسب سبب للإرث، فكما جاز تخلف الإرث مع قيام السبب بالنص، فكذلك ينبغي أن يتخلف العتق مع قيام سببه، لأنه مثله، وقد قيل في وجه الفرق أن الحق وهو الحرية لغيرها، فلا تسقط بفعلها، بخلاف الإرث فإنه تمحض حقها، وأورد عليه المدبرة، يبطل تدبيرها إذا قتلت سيدها، وإن كان الحق لغيرها، وأجيب بضعف السبب في المدبرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور، وله الحمد والمنة على ما أنعم به من خزائن فضله التي لا نفاذ لها ولا يطلب لها أجور، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي شريعته باقية على مر الدهور، وعلى آله وصحابته نجوم الهدى ولهم النصيب الأعلى من الأجور، كلما ذكره الذاكرون، وسها عنه الغافلون ورضي الله عن كل الصحابة أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.(7/559)